تعريف الطلاب بأصول الفقه
في سؤال وجواب
( القسم الثالث )
إعداد الفقير إلى عفو ربه
الشيخ / وليد بن راشد السعيدان
س 76 / عرف الشرط لغة وشرعاً ؟ مع بيان ذلك التعريف بالأمثلة ؟
ج: أقول: الشرط لغة يطلق على العلامة لأنه علامة على المشروط ومنه قوله تعالى { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا } أي علاماتها ، وأما شرعاً: فهو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته ، أي أنه إذا انعدم الشرط انعدم المشروط ، ولكن إذا وجد الشرط فإنه لا يلزم مع وجوده وجود المشروط ولا يلزم من وجوده عدم المشروط وذلك كالطهارة للصلاة فإنه يلزم من عدم الطهارة عدم الصلاة ، أي عدم صحتها ولا يلزم من وجود الطهارة وجود الصلاة ولا عدم الصلاة لأن الإنسان قد يتطهر لقراءة القرآن مثلاً أو للطواف أو لغير ذلك، وكاستقبال القبلة للصلاة فإنه إذا انعدم الاستقبال انعدمت صحة الصلاة فلا تصح الصلاة إلا بالاستقبال ولكن لا يلزم من وجود الاستقبال وجود الصلاة ولا عدم الصلاة فإن العبد قد يستقبل القبلة لقراءة القرآن أو للدعاء أو للتدريس ولتعليم العلم مثلاً ونحو ذلك ، وكستر العورة للصلاة فإنه إذا انعدم ستر العورة انعدمت صحة الصلاة فلا تصح الصلاة إلا بستر العورة لكن لا يلزم من ستر العورة وجود الصلاة ولا عدمها ، وكالإسلام لصحة العبادات فإنه لا تصح العبادات إلا بالإسلام فإذا انعدم الإسلام انعدمت الصحة ، وكالنية لصحة الصلاة والطهارة والصوم والحج فإنه إذا انعدمت النية انعدمت الصحة ، وكملك المبيع لصحة بيعه فإنه إذا انعدمت ملكية المبيع انعدمت صحة البيع فلا يصح البيع إلا من مالك للعين أو من يقوم مقامه وككون المحال عليه مليئاً لصحة الحوالة ، فإنه إذا انعدم ذلك لم تصح الحوالة ، وكإباحة المنفعة لصحة الإجارة فإنه إذا انعدمت الإباحة انعدمت صحة الإجارة وكالولي لصحة النكاح فإنه لا(1/1)
نكاح إلا بولي فإن انعدم الولي انعدمت صحة النكاح ، وكعدم الولادة لوجوب القصاص فإنه لا يستوفي القصاص إلا إذا كان القاتل ليس من أصول المقتول ، وكانتهاء الجرح إلى عظم لثبوت القصاص في الجراح فإنه إذا كان الجرح لا ينتهي إلى عظم لم يجز القصاص في الجراح ، وكالعدالة الظاهرية لقبول الشهادة فإنه إذا كان الشاهد كافراً أو فاسقاً لم تقبل شهادته ، وكالعقل لصحة الإقرار فإنه إذا كان المقر مجنوناً فإنه لا يقبل إقراره والأمثلة على الشروط الشرعية كثيرة لا تكاد تحصر والخلاصة أن الشرط هو الذي يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته والله أعلم .
س77 / ما الأصل في الاشتراط الشرعي مع بيان ما يتفرع على ذلك ؟(1/2)
ج/ أولاً : الأصل في الاشتراط الشرعي التوقيف على الدليل الشرعي الصحيح الصريح ، فلا يجوز لأحد أن يربط عبادة بشرط إلا وعلى ذلك دليل لأن الأصل في العبادات الإطلاق عن الشروط والأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل ، فإذا ادعى أحد أن هذا الشيء شرط في هذه العبادة فإنه مطالب بالدليل المثبت لذلك الإدعاء فإن جاء به صريحاً صحيحاً فعلى العين والرأس وإن لم يأت به فإن قول مردود عليه لأنه مخالف للأصل ، والدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (( من أحدث في أمرنا هذه ما ليس منه فهو رد )) "متفق على صحته" وهذا الإحداث شامل لإحداث الصفات أو الأسباب أو الشروط فمن جاء بشرط وربط العبادة به فإنه مطالب بالدليل لأنه ناقل عن الأصل ، واعلم أن الشروط وقف على صحة النص فلا يستدل عليها بالمنقولات الضعيفة ولا بالمرويات الكاذبة ولا بوجودها في المذاهب إذا لم يكن عليها أدلة فوجود هذا الشرط في المذهب الذي تنتمي إليه لا يكسبه صفة الشرعية إذا لم يكن عليه برهان من الكتاب أو السنة الصحيحة أو الإجماع الثابت أو القياس المستوفي لشروطه وأركانه وأني أقسم بالله تعالى أن الطلاب لو تربوا على هذه القاعدة العظيمة لتحررت عقولهم من الاشتراط الذي لا دليل عليه، والقاعدة التي نقصدها تقول ( الأصل في الشروط الشرعية التوقيف ) وهي فرع من القاعدة العظيمة ( الإحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ) ذلك لأن اعتقاد كون الشيء شرطاً هو إثبات لحكم شرعي ، لأن الوجوب والندب والتحريم والكراهة والسبب والمانع والشرط والصحة والفساد كل ذلك من الأحكام الشرعية التي لا تثبت إلا بالأدلة فلابد يا أخي الطالب أن تحرص على هذه القاعدة المهمة وقد أفردناها بالشرح في مؤلف مستقل وحتى يتبين لك كيفية تخريج القاعدة المسئول عنها على الفروع أذكر لك بعض الفروع على ذلك فأقول :(1/3)
منها: اشترط بعض الفقهاء لصحة المسح على الخفين أن يكون صفيقاً وأن يكون ثابتاً بنفسه وأن لا يكون مخرقاً ولو خرقاً يسيراً ، وكل ذلك اشتراط في عبادة والأصل في الاشتراط الشرعي الدليل فأين الدليل الدال على هذه الشروط ؟ فإننا لا نعلم على ذلك شيئاً من الأدلة المرفوعة الصحيحة وإنما هي قياسات وتعليلات معلولة وحيث كان لا دليل عليها فالأصل عدمها لأن الشرط حكم شرعي والأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ، فالحق في هذه المسألة أنه يجوز المسح على الخف المخرق إذا كان يمكن متابعة المشي فيه واختاره شيخ الإسلام ،والصحيح أيضاً أنه يجوز المسح على الخف الشفاف واختاره شيخ الإسلام والصحيح أيضاً جواز المسح على الخف ولو لم يثبت بنفسه واختاره شيخ الإسلام ، ولا شأن لنا بوجود هذه الشروط في مذهب الأصحاب فإن الاشتراط وقف على ثبوت الدليل ، وقد أخذنا العهد على أنفسنا من أول ما بدأنا في الطلب أن لا نتعصب لمذهب ولا لرأي ولا لغيره وإنما نتعصب للدليل ، فالدليل هو ضالتنا فحيث ذهب الدليل ذهبنا معه وحيث وقف وقفنا معه ولا ندعي الكمال في ذلك ، بل لو تتبعت ما كتبناه فإنك ستجد فيه ولابد أشياء كثيرة مخالفة للدليل ولكن حسبنا أننا بشر نصيب ونخطئ وهذا جهدنا والله يغفر لنا زللنا وتقصيرنا وهو أعلى وأعلم .(1/4)
ومنها: اشترط بعض الفقهاء رحمهم الله تعالى لجواز المسح على الجبيرة أن تكون قد لبست على طهارة وقاسوها على الخف ، ولكن هذا اشتراط لا يقبل وتعليلهم هذا عليل والأصل في الاشتراط الشرعي التوقيف على الدليل ولا أعلم من القرآن ولا من السنة الصحيحة ولا من الإجماع ما يفيد اشتراطها ذلك ، وأقوال العلماء يستدل لها لا يستدل بها ، وأما قياسهم هذا فهو قياس فاسد لأن المسح على الخف رخصة وتوسعة, وأما المسح على الجبيرة فطهارة ضرورة ولأنه قد يضطر لها الإنسان ولا يستطيع تقديم الطهارة ، وبالجملة فقياسهم هذا مع الفارق وقد تقرر في الأصول أن القياس مع الفارق غير مقبول ، فحيث لم يرد دليل في تصحيح هذا الشرط فالأصل عدمه لأن الاشتراط الشرعي مبناه على الدليل ، فالراجح في هذه المسألة بناء على ذلك هو أنه يجوز المسح على الجبيرة ولو بلا سبق طهارة . وهو اختيار شيخ الإسلام وغيره من المحققين ، والله أعلم .
ومنها: اشترط بعض الفقهاء رحمهم الله تعالى لجواز المسح على العمامة أن تكون محنكة أو ذات ذؤابة ، وهذا الاشتراط لم نجد له دليلاً بخصوصه في شيء من الأدلة إلا قولهم ، لأن هذا هو شأن عمائم العرب ، وهذا لا يفيد الوجوب فضلاً عن كونه شرطاً ، والاشتراط حكم شرعي أي أنه موقوف على الدليل الشرعي الصحيح الصريح فحيث لا دليل يفيد هذا الاشتراط فالصحيح جواز المسح عليها ولو لم تكن محنكة أو ذات ذؤابة والله أعلم .(1/5)
ومنها: اشترط بعض الفقهاء لصحة بعض المعاملات كالبيع والسلم ونحوها ألفاظاً معينة وكذلك النكاح أيضاً اشترطوا لصحته ألفاظاً معينة ، وأوقفوا صحة هذه العقود على وجود هذه الألفاظ المشروطة ولكن هذا الاشتراط غير مقبول لأنه لا دليل عليه والمتقرر أن الأصل في الاشتراط الشرعي التوقيف على الدليل الصحيح الصريح ولا نعلم دليلاً يفيد هذه الشرطية وحيث لا دليل يفيدها فالحق الحقيق بالقبول أن هذه العقود ونحوها تنعقد بما يدل على مقصودها من الأقوال والأفعال وذلك يختلف باختلاف الأعراف وقد ذكرنا في كتابنا قواعد البيوع في ذلك ضابطاً مفيداً وذكرنا الأدلة هناك وهذا الضابط نصه يقول ( تنعقد المعاملات والعقود بما يدل على مقصودها من قول أو فعل ) وهو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله تعالى وأظنه من أوائل من نصر هذا القول ومن أوائل من أطال في الاستدلال عليه ، وخرجه على قواعد الشريعة فجزاه الله خير الجزاء وغفر له ورفع نزله في الدنيا والآخرة والله ربنا أعلى وأعلم .(1/6)
ومنها: اشترط بعض الفقهاء رحمهم الله تعالى لصحة الجمعة أربعين رجلاً وبعضهم نصر ذلك القول نصراً لا مزيد عليه ، وجاء من المرويات بما لا خطام له ولا زمام ، فالله يعفو عنه ويغفر له والحق أن جميع ما يروى في اشتراط الأربعين فإنه ما لا تقوم به الحجة ، وقد استوفى هذه المسألة الشيخ العلامة سليمان بن عبدالله حفيد الشيخ محمد رحم الله أصل هذه السلالة الطيبة وسائر فروعها الرحمة الواسعة وغفر لهم وجزاهم الله خير ما يجزي عالماً عن أمته ورفع نزلهم في الفردوس الأعلى ، فإنه قد جاء في هذه الرسالة بما لا نعلمه لغيره من التحقيق ونقد المرويات فجزاه الله خيراً والمقصود أن هذا الاشتراط لا دليل عليه ، بل وكذلك غيرها من الأقوال فإن الدليل عليها إما صحيح غير صريح وإما صريح غير صحيح ، والحق إن شاء الله تعالى في هذه المسألة صحة الجمعة برجلين أحدهما يخطب والثاني يستمع ثم يصليان معاً ، وكما هو معلوم أن أقل الجماعة اثنان والخلاصة أن اشتراط الأربعين اشتراط في عبادة ، والاشتراط في العبادة مبناه على الدليل وحيث لم يصح دليل في هذه المسألة فلا نقبل أي قول فيها ونبقى على الأصل وهو أن المشترط في إقامتها تحقق مسمى الجماعة وهي تتحقق باثنين والله أعلى وأعلم .
ومنها: اشترط بعض الفقهاء رحمهم الله تعالى لصحة البيع أن يقع منجزاً فلا يصح تعليقه بالشرط إلا بالمشيئة ، وهذا اشتراط لا دليل عليه في الحقيقة والاشتراط الشرعي مبناه على التوقيف وحيث لم يصح في ذلك دليل فالقول الصحيح في هذه المسألة هو صحة تعليق البيع بالشرط ، واختاره شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى والله أعلم .(1/7)
ومنها: اشترط كثير من الفقهاء لصحة الطواف أن يكون على طهارة من الحدث الأصغر واستدلوا على ذلك بما في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثم طاف وبقوله (( افعلي ما يفعله الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري )) وبحديث (( الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح الكلام فيه )) وفي الحقيقة أن هذه الأحاديث لا تفيد الشرطية فأما حديث وضوئه قبل الطواف فإنه حكاية فعل والمتقرر في القواعد أن حكاية الأفعال لا تفيد الوجوب ولا يقال أنه مقرون بقوله (( خذوا عني مناسككم )) لأن الوضوء في ذاته ليس من المناسك الخاصة بأحد النسكين ومن المعلوم أن من عادته - صلى الله عليه وسلم - استحباب بقائه دائماً على طهارة ، ألا ترى أن الفقهاء قالوا بسنية التلبية مع أنه - صلى الله عليه وسلم - لبَّى وقال (( خذوا عني مناسككم )) وقالوا: بسنية جمع الظهرين تقديماً بعرفة وبسنية جمع العشائين تأخيراً في المزدلفة مع أنه فعلها وقال (( خذوا عني مناسككم )) وقالوا: بسنية ذكر الله تعالى عند المشعر الحرام مع أن الله تعالى قال { فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } وفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال ((خذوا عني مناسككم)) فإذا قال الفقهاء بسنية ذلك مع أنها من جملة المناسك فكيف يقال في وضوئه قبل الطواف مع أن الوضوء في ذاته ليس من المناسك فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحب دائماً أن يكون على طهارة ولذلك فإنه لما أفاض من عرفات وقف في الطريق وبال ثم توضأ مباشرة وقال ((الصلاة أمامك)) ولم يؤخر الوضوء إلى الوصول للمزدلفة ذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - دائم الذكر وهو يكره أن يذكر الله إلا على طهر كامل تعظيماً لربه جلا وعلا وفي الحديث (( إني كرهت أن أذكر الله إلا وأنا على طهارة )) وقد اعتمر قبل ذلك ثلاث مرات ولم يثبت عنه أنه أمر الناس بالوضوء قبل الطواف فلو كان من الشروط المتحتمة التي يتعلق بها صحة الطواف لأمر به(1/8)
النبي - صلى الله عليه وسلم - والجمع بين الأدلة واجب ما أمكن ، ولا يتأتى ذلك إلا إذا قلنا بأنه وضوؤه قبل الطواف من المندوبات لا من الواجبات المتحتمات ، وأما حديث (( افعلي ما يفعل الحاج )) فإنه يفيد اشتراط الطهارة من الحدث الأكبر ونحن نبحث في الحدث الأصغر ، فالطهارة مما يوجب الغسل والحيض والنفاس والجنابة شرط في الطواف وأما ما يوجب الحدث الأصغر فلا دليل عليه ، فحديث عائشة (( افعلي ما يفعل الحاج )) وحديث (( أحابستنا هي )) إنما يفيد اشتراط الطهارة من الحدث الأكبر فالاستدلال بها على اشتراط الطهارة الصغرى استدلال في خير محله ، ألا ترى أن الصوم يمنعه الحيض والنفاس ولا يمنعه الحدث الأصغر ، بل ولا تمنعه الجنابة وهي من الحدث الأكبر ، ألا ترى أن قراءة القرآن تمنعها الجنابة والحيض والنفاس عند الأكثر ولا يمنعها الحدث الأصغر ألا ترى أن دخول المسجد يمنعه الحيض والنفاس والجنابة ولا يمنعه الحدث الأصغر ألا ترى أن دخول الملائكة في البيت تمنعه الجنابة ولا يمنعه الحدث الأصغر وأنا أريد بذلك أن تعرف أنه ليس كل عبادة تشترط فيها الطهارة الكبرى تكون الطهارة الصغرى فيها مشترطة ، ومن ذلك الطواف فهو عبادة تشترط فيها الطهارة من الحدث الأكبر ولكن لا يشترط لها الطهارة من الحدث الأصغر فالعبادات باعتبار اشتراط الطهارة من الحدثين ثلاثة أقسام :(1/9)
الأول : ما يشترط له الطهارتان كالصلاة ومس المصحف, الثاني : ما لا تشترط له الطهارتان كالسعي والمبيت بمزدلفة ومنى ورمي الجمار والوقوف بعرفة وعقد الإحرام ونحوها, الثالث : ما يشترط له الطهارة الكبرى فقط دون الطهارة الصغرى كالطواف وقراءة القرآن بلا مس وغير ذلك والخلاصة أن الأحاديث في منع الحائض من الطواف إنما يستدل بها على وجوب الطهارة الكبرى ولا شأن لها بالطهارة الصغرى, وأما حديث (( الطواف بالبيت صلاة )) فيجاب عنه بأنه ضعيف ، ومع تسليم صحته فإن التشبيه هنا إنما هو في المنزلة والمكانة ولا شأن له في الاشتراط الشرعي ، أي أن مكانة الطواف بالبيت في الشريعة كمكانة الصلاة ، ألا ترى أن الحديث إنما استثنى الكلام فقط وأنت تعلم أن الطواف يجوز فيه الضحك وهو لا يجوز في الصلاة ، والطواف يجوز فيه الالتفات ولا يجوز ذلك في الصلاة والطواف يجوز فيه الكلام الأجنبي ولا يجوز ذلك في الصلاة والطواف يجوز فيه كشف العاتقين ولا يجوز ذلك في الصلاة ، والطواف لا يشترط فيه استقبال الكعبة بكل البدن واستقبالها شرط في الصلاة ، ولو تحرك الطائف عشرة آلاف حركة ما بطل طوافه وأما الصلاة فإنه تبطلها الحركة الأجنبية إذا كثرت وتوالت بالاتفاق وهذا يفيدك أن الحديث إنما يقصد به المماثلة في المنزلة والرتبة فقط فهو خارج عن محل النزاع أصلاً وبالجملة فالاشتراط موقوف على الدليل الصحيح الصريح وحيث لم يثبت في شرطيته أي الوضوء للطواف دليل صحيح صريح فإننا لا نقول بشرطيته وإنما نقول بما وقف عنده الدليل وهو الاستحباب فقط واعتذر لك عن الإطالة في هذا الفرع والله أعلم فهذه سبعة فروع تطلعك على ما وراءها إن شاء الله تعالى .
س 78 / ما أقسام الشرط الشرعي باعتبار أثره في العبادة المشترط فيها ؟ مع بيان ذلك بالتمثيل ؟(1/10)
ج / أقول : ينقسم الشرط الشرعي بهذا الاعتبار إلى قسمين : شرط صحة وشرط وجوب ونعني بشرط الصحة أي الشرط الذي تتخلف الصحة بتخلفه أي إذا انعدم هذا الشرط فإن العبادة لا تصح ، ولذلك فإنهم أضافوه إلى أثره فقالوا : شرط صحة وذلك كالإسلام باعتبار العبادات كلها فإنه شرط صحته فإذا تخلف الإسلام عن العبادات فإنها باطلة ، وكالطهارة للصلاة فإنها شرط صحة فإذا تخلفت الطهارة بطلت الصلاة وكاستقبال القبلة وستر العورة والنية في الصلاة هي من شروط الصحة بمعنى أنها إذا تخلفت عن الصلاة فإن الصلاة أصلا لا تصح أو كستر العورة للطواف فإن من شروط الصحة ، وكعدم الموانع الشرعية للصيام فإن عدمها شرط صحة فلا يصح صيام الحائض والنفساء بالاتفاق ، وكالتمييز في كل العبادات إلا النسكين أي الحج والعمرة ، فإذا انعدم التمييز بطلت كل العبادات إلا الحج والعمرة فإنهما يصحان من غير المميز لحديث: فرفعت امرأة صبياً فقالت: ألهذا حج؟ قال (( نعم ولك أجر )) "رواه مسلم" وكالتراضي وامتلاك السلعة والقدرة على تسليمها ومعرفتها برؤية أو وصف ومعرفة الثمن وكون المبيع مباح النفع وكون العقد جائز التصرف لصحة البيع كل هذه الشروط السبعة من شروط صحة البيع أي لا يصح البيع إلا بوجودها ، وكمعرفة الكيل أو الوزن والأجل لصحة عقد السلم لحديث (( ممن أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم )) "متفق عليه" فلا يصح السلم إلا بذلك ، وكالعقل لصحة العبادات من غير استثناء فإنه من شروط الصحة وكالإخلاص والمتابعة لصحة العبادات كلها فإنها من شروط الصحة في سائر العبادات فلا تصح العبادات إلا إذا توفر فيها شرط الإخلاص والمتابعة ، وبالجملة فشروط الصحة هي التي تتوقف عليها صحة العبادة بحيث إذا انعدمت انعدمت الصحة ، وأما شروط الوجوب فهي الشروط التي لا شأن لها بالصحة وإنما لها تعلق بوجوب العبادة في الذمة فإذا وجدت هذه الشروط وجد الوجوب في الذمة وإذا انعدمت(1/11)
هذه الشروط انعدم الوجوب في الذمة كالبلوغ فإنه شرط وجوب بالنسبة للعبادات أي لا تجب العبادة إلا على البالغ فقط لقوله عليه الصلاة السلام (( رفع القلم عن ثلاثة عن الصغير حتى يحتلم )) "حديث حسن" لكن لا شأن للبلوغ في صحة العبادة فلو حج الصغير صح حجه ولو صلى لصحة صلاته ولو صام لصح صيامه ، ولكن هي في ذاتها لا تجب عليه ، فلو صلى الذي لم يبلغ لصحة صلاته مع تخلف شرط البلوغ لكنه شرط وجوب لا شرط صحة ، وكالمحرم بالنسبة للمرأة في الحج فإنه شرط وجوب لا شرط صحة فلو حجت المرأة بلا محرم لصح حجها ولكن مع الإثم لأنها منهية عن أي سفر بلا محرم وكالاستطاعة لوجوب الحج لقوله تعالى { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } فالاستطاعة شرط وجوب بحيث لا يترتب وجوب الحج في الذمة إلا بالاستطاعة التي هي الزاد والراحلة لكن لو حج العاجز لصح حجه لأن شرط الاستطاعة لا تعلق له بالصحة وكالإقامة والاستطاعة لوجوب الصيام فإنهما من شروط الوجوب فلو صام العاجز والمسافر لصح صومهما مع تخلف هذين الشرطين لكنهما ليسا بشرط صحة ، ولو تركا الصيام لما أثما لأنه ليس بواجب عليهما في هذه الحالة وإنما يجب عليهما قضاؤه إذا أقام المسافر وبرأ المريض ، وباستقراء شروط الشريعة وجدنا أن شروط الصحة أكثر من شروط الوجوب ، وقد يجتمع الأمران في شرط من الشروط فيكون شرط وجوب وشرط صحة كالعقل فإنه شرط وجوب أي لا تجب العبادات إلا بالعقل وشرط صحة أي لا تصح العبادات إلا بالعقل وكالتمييز في غير النسكين فإنه شرط وجوب فلا تجب العبادات على غير المميز وكذلك هو شرط صحة فلا تصح العبادات غير النسكين إلا من المميز ، والخلاصة : أن شرط الصحة هو الذي لا تصح العبادة إلا به ، وشرط الوجوب هو الذي لا تجب العبادة في الذمة أصلا إلا به والله ربنا أعلى أعلم .
س79/ ما أقسام الشروط باعتبار الجاعل مع بيان ذلك بالأمثلة ؟(1/12)
ج: أقول : لقد سبق أن ذكرنا أن الشروط الشرعية وقف على الشارع ، وهي الاشتراط في العبادات فلا يجوز لأحد أن يربط عبادة بشرط إلا وعلى ذلك دليل من الكتاب أو السنة الصحيحة أو الإجماع أو قياس الصحيح المستوفي لأركانه ، وبناءً عليه فالجاعل لهذا النوع من الشروط هو الشارع وهي التي نسميها بالشروط الوضعية والنوع الثاني : الشروط الجعلية وهي التي لا تعلق لها بالعبادات الخمس وإنما هي فيما بين الخلق وبعضهم البعض كالشروط في المعاملات والشروط في النكاح والشروط في الوقف والشروط في الهبة والوصايا والشروط في باب الجعالة وعقود الإجارة ، وهذه الشروط فيها خلاف بين أهل العلم في تقرير الأصل فيها ولكن القول الصحيح والرأي الراجح المليح هو أن الأصل فيها الحل والإباحة إلا فيما خالف الدليل ، وهذه قاعدة نافعة جداً وأحب أن أعيد لك لفظها بنصه لتحفظه فأقول : الأصل في الشروط الجعلية الحل والإباحة إلا فيما خالف الدليل وبه تعلم أن عندنا هنا قاعدتين ، قاعدة في الشروط الشرعية وقاعدة في الشروط الجعلية ، فأما القاعدة في الشروط الشرعية فتقول : ( الأصل في الاشتراط الشرعي ، التوقيف على الدليل الشرعي الصحيح الصريح ) وأما القاعدة في الشروط الجعلية فهو ما ذكرناه لك سابقاً ، واعلم رحمك الله تعالى أني أحب لك الخير كله ، وبناء على هذه المحبة فأرجو منك أن لا تمل من طول الكتابة في الضوابط المتفرعة على قاعدة الشروط الجعلية فإنه قد تفرع عنها ضوابط فقهية مهمة جداً وقد استفدنا منها كثيراً في سيرنا العلمي ورأينا بركة تعلمها علينا وإني أحب لك ما أحبه لنفسي وهذه المحبة تقتضي مني أن أفضل لك الكلام في هذه الضوابط واحداً واحداً فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل وحسن التحقيق : الضابط الأول:- الأصل في الشروط في البيوع الحل والإباحة إلا فيما خالف الدليل ، وبيانه أن يقال : إنه يجوز لكل من المتعاقدين أن يشترط ما شاء على الآخر ولا حق لأحد(1/13)
أن يمنع شرطاً تفوه به أحد المتعاقدين على الآخر إلا إذا كان هذا الشرط يتنافى مع شيء من الأدلة فإنه يمنع حينئذٍ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وجمع من المحققين وهو الذي يتوافق مع دلالة الكتاب والسنة والاعتبار الصحيح وبيان ذلك أن يقال : فأما الكتاب فقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } وهذه الشروط التي يشترطها أحد المتعاقدين على الآخر هي من جملة العقود وقد أمر الله تعالى بالوفاء بها وحث عليها فهي دليل على أن الشروط التي لم تخالف الشرع صحيحة في جميع عقود المبايعات ، وكذلك قوله تعالى : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } وهذه الشروط نوع من العهد الذي يقطعه الإنسان على نفسه فالواجب أن يوفي به وإلا لعرض نفسه للسؤال يوم القيامة ، وكذلك قوله تعالى : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } وقوله تعالى { وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } وأما السنة فقد روى الشيخان من حديث جابر - رضي الله عنه - أنه كان يسير على جمل له أعيا فأراد أن يسبه قال: فلحقت النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا لي بالبركة وضربه وسار سيراً لم يسر مثله قط ثم قال (( بعينه بأوقية )) فقلت لا فقال (( بعنيه )) فبعته بأوقية واشترط حملانه إلى أهلي... الحديث.(1/14)
فهذا جابر - رضي الله عنه - ابتدأ هذا الشرط من عند نفسه من غير سؤال هل هو مما تقرر جوازه في الشرع أم لا ؟ وأقره على ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يدل على جواز مثل هذا الاشتراط وهذا اشتراط في البيع وأفاد ذلك أن الأصل المتقرر في الشروط الحل والإباحة ، وقد تقرر في القواعد أن إقراره - صلى الله عليه وسلم - دليل الجواز, ومن الأدلة أيضاً ما في الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( إن أحق ما أوفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج )) فدل ذلك على أن الشروط كلها حقها الوفاء ويدخل في ذلك الشروط في المعاملات وغيرها إلا أن الشروط في النكاح أحق الشروط وفاءً, ومن الأدلة أيضاً : ما رواه الترمذي والبزار من حديث كثير من عبدالله بن عمرو ابن عوف المزني عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً ، والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً )) قال الترمذي حديث حسن صحيح ومثله حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند البزار قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( الناس على شروطهم ما وافقت الحق )) قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى (وهذه الأسانيد وإن كان الواحد منها ضعيفاً فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضاً)ا.هـ.(1/15)
وهي صريحة في المراد وأن المسلمين على شروطهم التي اشترطوها فيما بينهم إلا ما خالف الدليل منها بأن يكون هذا الشرط يتضمن تحليل الحرام أو تحريم الحلال فإنه حينئذ لا يجوز ومن الأدلة أيضاً ما في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع إلا يشترط المبتاع )) "متفق عليه" وفي لفظ (( من ابتاع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع )) فدل ذلك على جواز مثل هذه الشروط ، والله أعلم, ومن الأدلة أيضاً : ما رواه الترمذي في سننه قال : حدثنا محمد بن بشار ، قال أخبرنا عباد بن ليث صاحب الكرابيسي البصري قال أخبرنا عبدالمجيد بن وهب قال قال لي العداء بن خالد بن هوذة : ألا أقرئك كتاباً كتبه لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : قلت بلى ، فأخرج لي كتاباً (( هذا ما اشترى العداء ابن خالد بن هوذة من محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، اشترى منه عبداً أو قال : أمة لا داء ولا عائلة ولا خبثة ، بيع المسلم المسلم )) حديث حسن ، قال الترمذي : ( هذا حديث حسن قريب لا نعرفه من حديث عباد بن ليث وقد روى عنه هذا الحديث غيره وأحد من أهل الحديث ) أ هـ كلامه فهذه الاشتراطات من العداء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفيد أن مثل هذه الشروط الأصل فيها الجواز ومن الأدلة أيضاً ما في الصحيحين من حديث بريرة رضي الله عنها وأن عائشة رضي الله عنها اشترتها من أهلها على أن الولاء لها فأبى أهلها إلا أن يكون الولاء لهم فلما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : (( أما بعد ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط )) والمراد بكتاب الله أي دينه وشريعته لأن هناك شروط صدرت من بعض الصحابة وليست مذكورة بأعيانها في كتاب الله تعالى وأجازها(1/16)
النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل لهم : إنها ليست في كتاب الله ، فدل ذلك على أن المراد بكتاب الله دينه وشريعته ، فاشتراط الولاء بعد بيع الرقيق شرط مخالف لدين الله جل وعلا لأن المتقرر شرعاً بالنص (( أن الولاء لمن أعتق )) كما قاله المعصوم - صلى الله عليه وسلم - في آخر هذا الحديث والله أعلم, فهذه الأدلة تفيدك إن شاء الله تعالى صحة ما قررناه في هذا الضابط من أن الأصل في الشروط في المعاملات الحل والإباحة إلا فيما خالف الدليل فهو ممنوع بعينه والله ربنا أعلى وأعلم وعلى هذا القول كثير من المحققين كابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم وغيرهم رحم الله الجميع رحمة واسعة, وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث (( ولا شرطان في بيع )) فإنه ليس المراد به الشروط الجائزة التي لا يؤدي اجتماعها إلى مفسدة وإنما يقصد بذلك الشروط التي إذا اجتمعت أفضى اجتماعها إلى مفسدة ، كالعينة ، فالشرطان في البيع هو بعينه البيعتان في بيعه ، قال ابن سعدي رحمه الله تعالى : ( وإن جمع بين شرطين من غير النوعين الأولين كحمل الحطب وتكسيره وخياطة الثوب وتفصيله بطل البيع لحديث (( ولا شرطان في بيع )) والصحيح أن الحديث لا يتناول هذا وإنما يدخل فيه الشرطان اللذان باجتماعهما تترتب مفسدة شرعية كمسائل العينة وعكسها ويؤيد هذا أن الشارع لا ينهى عن المعاملات إلا ما فيه مفسدة ربا أو غرر أو ظلم وهذه الشروط لا محذور فيها بوجه فكيف ينهى عنها الشارع وهي لا مفسدة فيها ولا يتذرع بها إلى مفسدة ) أهـ وبالجملة فإذا اشترط أحد المتعاقدين على الآخر شرطاً أو شرطين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك فانظر فإن كانت هذه الشروط أو أحدها يخالف شيئاً من الشرع فإنه لاغٍ ولا تعتبره شيئاً وأما إن كانت لا تصادم شيئاً من النصوص فإنها صحيحة مقبولة يجب الوفاء بها إذا قبلها الطرف الآخر واعتمدها ، ويتفرع على ذلك فروع كثيرة اذكر لك طرفاً منها فأقول :(1/17)
منها : لو باعه جارية عزيزة عليه واشترط البائع على المشتري أنه إذا أراد أن يبيعها لآخر فإنه أحق بها بالثمن المتقرر لمثلها في السوق ، فهذا الشرط فيه خلاف والأظهر أنه شرط صحيح لأنه لا يخالف شيئاً من أدلة الشرع والأصل في الشروط الجعلية في المعاملات الإباحة إلا بدليل واختار الجواز فحل العلماء أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى .
ومنها : لو باعه بيعاً معلقاً على مجيء زيد أو رضا والده مثلاً أو نحو ذلك فهذا الشرط صحيح إذ لا شيء يخالفه من أدلة الشريعة والأصل فيه الحل واختاره أبو العباس ابن تيمية والضابط عندنا يقول ( يجوز تعليق البيوع بالشروط المستقبلية ) .
ومنها : ما يجري بين صاحب الدار والعامل الذي يريد بناء داره فإنهم عند العقد يكتبون شروطاً على بعض فصاحب الدار يكتب المواصفات التي يريدها في داره فيقول : اشترط أن يكون هذا نوعيته كذا وهذا نوعيته كذا وهذا نوعيته كذا ، وقد تصل هذه الشروط إلى ثلاثين أو أربعين أو ستين شرطاً ، وكذلك العامل يشرط على رب الدار شروطاً في تحديد دفعات المال ونحو ذلك وكل ذلك اشتراط في معاملة فهو جار على أصل الحل والإباحة ما لم يخالف شيء منها شيئاً من أدلة الشرع .
ومنها : الشرط الجزائي فهذا الشرط جائز وماضٍ ويجب الوفاء به إذا رضي به الطرف الآخر .
ومنها : لو باعه شيئاً واشترط عليه كفيلاً أو رهناً أو ضماناً كل ذلك صحيح لازم ويجب الوفاء به.
ومنها : لو ابتاع حطباً واشترط على البائع حمله وتكسيره ووضعه في مكان معين ، كل ذلك صحيح لازم يجب الوفاء به .
ومنها : باعه دابة واشترط أن تحمله إلى مسافة معلومة صح الشرط . وعليه حديث جابر .
ومنها : باعه داراً واشترط سكناها مدة معلومة صح الشرط ولزم الوفاء وعلى ذلك حديث (( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثنيا إلا أن تعلم )) .(1/18)
ومنها : باعه عبداً واشترط عليه عتقه في الحال ورضي بذلك المشتري صح الشرط ولزم الوفاء به وإلا فللبائع حق انتزاع العبد ورد الثمن كاملاً وهو مذهب الجمهور .
ومنها : لو اشترط عليه أن يكون العبد كاتباً و الأمة بكراً والدابة حلوباً فكل ذلك شروط صحيحة لا غبار عليها لأن الأصل في الشروط في المعاملات الحل والإباحة .
ومنها : لو باعه عبداً واشترط عليه الولاء ، فالشرط باطل لورود ما يمنعه في الشرع كما قدمناه في حديث بريرة .
ومنها : لو باعه سيارة بثمن مؤجل واشترط عليه أن يشتريها منه بثمن حال ناقص ، بطل الشرط لأنه مفض إلى العينة وقد ورد في شأنها ما علمت أعني حديث (( إذا تبايعتم بالعينة ... الحديث )).
ومنها : باعه شيئاً واشترط البائع على المشتري أن يقرضه شيئاً وإلا لما تم البيع فالشرط باطل لأنه سلف بيع وقد قال عليه الصلاة والسلام (( لا يحل سلف وبيع )) .
ومنها : اقترض منه شيئاً واشترط المقرض على المقترض أن يسكن داره شهراً أو يستعمل دابته سنة مثلاً فهذا الشرط باطل لأنه ربا ، والمتقرر عند أهل العلم أن كل قرض جر نفعاً فهو ربا ، والله أعلم .(1/19)
فهذه بعض الفروع على قاعدة ( الأصل في الشروط في المعاملات الإباحة إلا فيما خالف الدليل ) وهو الضابط الأول المتفرع من قاعدة الشروط الجعلية ، ونذهب الآن إلى الضابط الثاني من هذه الضوابط التي تدخل تحت قاعدة الشروط الجعلية وهو الذي يقول ( الأصل في شروط الواقف الحل إلا فيما خالف الدليل ) أي يجوز للإنسان إذا أوقف شيئاً أن يشترط هذا الوقف ما شاء من الشروط المباحة فالأصل في شروط الواقف التوسعة ، إلا فيما خالف الدليل أي أنه إذا شرط شرطاً مخالفاً للشرع فإنه شرط باطل بعينه لأن العبد لا يجوز له مخالفة الشرع لا بشرط ولا بغيره فيجوز له أي للواقف أن يشترط ناظراً معيناً على الوقف وأن يشترط مصرفاً معيناً للوقف ونحو ذلك والأصل في ذلك كله الحل والإباحة إلا فيما خالف الدليل الشرعي والدليل على ذلك ما روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أصاب عمر بن الخطاب أرضا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأمره قال : يا رسول الله إني أصبت مالاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه ، فما تأمرني به ؟ فقال إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها قال : ففعل بها عمر ، على أن لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث ، تصدق بها للفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضعيف ، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقاً غير متمول وهذا الحديث في الصحيح وهو أصل في أن شروط الواقف مبناها على الحل إلا فيما خالف الدليل ، إلا أنه لابد أن يكون مصرفه في جهة بر ، وفي رواية للحديث السابق أن عمر قال (( تليه حفصة ما عاشت ثم يليه ذو الرأي من أهلها )) وجعل الزبير بن العوام رضي الله عنه دوره وقفا على بنيه لا تباع ولا توهب وأن للمردودة من بناته أن تسكن وإن استغنت بزوج فلا حق لها في الوقف وأخرج النسائي والترمذي والبخاري تعليقاً بصيغة الجزم من حديث عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء(1/20)
يستعذب غير بئر رومة فقال : (( من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة فاشتريتها من صلب مالي )) حديث حسن وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أما خالد فإنكم تظلمون خالداً )) فقد احتبس أدراعه واعتاده في سبيل الله )) والحاصل : أن شروط الواقف لابد أن تكون موافقة للشرع فلو تضمنت ظلماً أو غبناً أو معصية فإنها لا تحل كمن أوقف على ذكور أولاده دون إناثهم أو أوقف على القبور وسدنتها أو أوقف على أماكن اللهو والفجور والطرب أو أوقف على طباعة كتب الزندقة والبدعة أو أوقف على زخرفة القبور وتزيينها أو أوقف على الصوفية كالربط والمدارس الموقوفة عليهم وذلك كله حرام وشرط باطل لأنه مخالف للشرع وكذلك الوقوف على الكنائس أو الوقوف على بناء الملاعب الرياضية أو أماكن التنزه كل ذلك لا يجوز لأن من شرط صحة الوقف أن يكون على جهة بر وقربة وهذا الضابط مفيد جداً في معرفة ما يقبل من شروط الواقف ومما لا يقبل ودونك بعض فروعه ليتضح لك فأقول :
منها : لو شرط الواقف ناظراً معيناً للوقف وجب ذلك الشرط ولزم ولا يجوز تعديه لكن لا بد أن يكون هذا الناظر مسلماً عدلاً ولو في الظاهر .
ومنها : لو شرط الواقف أن غلة الوقف أو منفعته تكون لأناس معينين من الفقراء والمساكين أو على جهة بر معينة كوزارة الأوقاف مثلاً أو على المساجد أو على ترميم ما إنهدم من بيوت الفقراء أو على حفر آبار المياه للبلاد والقرى المحتاجة أو على شراء المتاع والحاجات الضرورية لبعض الفقراء ونحو ذلك فإنه يجب الوفاء به ولا يجوز تعديه .
ومنها : لو شرط الواقف أن هذه الدار موقوفة على المطلقة من بناته ما لم تتزوج لصح ذلك الشرط لأن الأصل في شروط الواقف الصحة إلا بدليل .
ومنها : لو شرط الواقف للدار أنه يصرف من غلتها ما يحج به عنه لصح ذلك الشرط وهو المعمول به عندنا .(1/21)
ومنها : لو شرط الواقف للناظر أن يأكل من الوقف أو يطعم ضيفاً أو صديقاً بالمعروف لصح ذلك لأن هذا الشرط لا يخالف نصاً .
ومنها : لو شرط أن يباع وقفه متى احتيج لبيعه لكان ذلك الشرط باطلاً لأن الشرع ورد بمنع بيع الوقف، لكن إذا تعطلت منافعه فإنه يباع ويصرف في مثله على القول الصحيح ، بل اختار أبو العباس جواز نقل الوقف إلى مكان آخر إذا اقتضت المصلحة ذلك والله أعلم .
ومنها : لو اشترط الواقف إدخال نفسه في الوقف فيكون فيه كسائر الموقوف عليهم لصح ذلك لأنه لا يخالف نصاً ، واختاره أبو العباس وتلميذه وجمع من المحققين فهذه بعض الفروع على هذا الضابط وخلاصته أن يقال الأصل في شروط الواقف الصحة ما لم تخالف النص والله أعلم .(1/22)
الضابط الثالث:- من فروع قاعدة الشروط الجعلية يقول ( الأصل والاشتراط وعقد النكاح الصحة إلا بدليل يمنع منه ) أي أنه يجوز للزوج أن يشترط على الزوجة حال العقد ما شاء من الشروط إلى فيما خالف المنصوص عليه ويجوز للزوجة أن تشترط على زوجها ما شاءت من الشروط إلا فيما خالف المنصوص عليه ، فكل شرط يصدر من أحدهما فالأصل فيه الصحة إلا الشرط الذي يخالف دليلاً فإنه يمنع بعينه وشروط النكاح التي تستحل بها الفروج من أعظم الشروط وأهمها وأحقها بالوفاء لما في الصحيح من حديث عقبة مرفوعاً : (( أن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج )) وهذا الحديث نص في أن الأصل في مثل هذه الشروط الحل إلا بدليل وبناء عليه فيصح لها أن تشترط مسكناً معيناً وأن تشترط خادمة إذا كان سيأتي بها على الوجه الشرعي وأن تشترط أن لا يتزوج عليها ، وهذا في بعضه خلاف ولكن الأصل الصحة لأنه لا يخالف نصاً ، نعم ورد الشرع بالتعدد ولكن إذا اشترطت هي قبل نكاحه بالثانية أن لا يتزوج عليها فلا حق له في ذلك وإن فعل فهي بالخيار إن شاءت بقيت وإن شاءت فسخ العقد فلها ذلك مجاناً لأن المسلمين على شروطهم وأما إذا اشترطت أن يطلق أحد نسائه فهذا شرط لاغ لأنه يخالف الشرع لأن الطلاق مع استقامة الحال وعدم الحاجة لا يجوز ، ولما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح فإنما لها ما قدر لها )) وهذا دليل على بطلان هذا الشرط فحيث ورد الشرع ببطلانه فإنه لا يصح اشتراطه ، وأما حديث (( أبغض الحلال إلى الله الطلاق )) فإنه ضعيف والضعيف لا يستدل به ويكفي في الاستدلال على بطلان ذلك الشرط النص السابق وقاعدة : ما أفضى إلى الحرام فهو حرام وكذلك لا يصح اشتراط إسقاط المهر ، أي أن يشترط الزوج على من يريد نكاحها أن لا مهر عليه ، فهذا شرط باطل(1/23)
لقوله تعال { وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } وقد تقرر عند العلماء أن النكاح بلا مهر من خصائصه صلى الله عليه وسلم ولأنه صلى الله عليه وسلم كلف الرجل الذي قال : (( يا رسول الله إن لم يكن لك فيها حاجة فزوجنيها )) كلفه أن يأتي ولو بخاتم من حديد حتى زوجه على أن يعلمها ما معه من القرآن وهذا دليل على أنه لا بد من الصداق ، وبناءً عليه فاشتراط إسقاط المهر شرط باطل ، لكن لو سماه واشترط تصنيفه مثلاً أو اشترط تقسيطه على دفعات لصح ذلك, المهم أنه لا بد من مهر ، حتى إن الفتوى تنص على أنه لو تزوجها ومات ولم يسم صداقاً لوجب لها صداق أمثالها من النساء لا وكس ولا شطط لما رواه أو داود في سننه قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن عبدالله أي ابن مسعود رضي الله عنه في رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها الصداق فقال : لها الصداق كاملاً وعليها العدة ولها الميراث ، فقال معقل بن سنان سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به في بروع بنت واشق ، وفي رواية وإن لها صداق كصداق نسائها لا وكس ولا شطط والحديث صحيح يؤكد كذلك لو اشترط وليها أي ولي المرأة أن يتزوج أخت الزوج لا صداق بينهما أي كما تقول العامة : رأس برأس ، وهذا شرط فاسد لا شك في بطلانه ولا أعلم في بطلانه إلا نزاعاً شاذاً وهذا هو الذي يسميه العلماء نكاح الشغار وهو أن يزوج الرجل موليته على أن يزوجه الآخر موليته ولا صداق بينهما ، ودليل بطلانه حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار ، وقد فسره نافع بقوله : ينكح ابنة الرجل وينكحه الآخر ابنته بغير صداق .(1/24)
وينكح أخت الرجل فينكحه أخته بغير صداق فهذا الشرط باطل لأنه يفضي إلى الشغار وهو ممنوع وقد تقرر في القواعد أن ما أفضى إلى الممنوع فهو ممنوع كذلك لو اشترط في العقد أن هذا النكاح ينتهي في زمن كذا وكذا ، أو اشترطت هي ذلك فهذا نكاح باطل وشرط لاغ وهو نكاح المتعة أي أن ينكحها على مدة مشروطة في العقد ينفسخ النكاح بانتهائها ، وهذا كان جائزاً في بداية الإسلام ثم نسخ ، ولا شأن لنا بقول أحد في جوازه كائناً من كان مع صحة حديث النهي ، ففي صحيح مسلم وسنن أبي داود وغيرهما من حديث الزهري عن ربيع بن سبرة من أبيه أن : (( رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم متعة النساء زمن الفتح )) ولو اشترطت هي أن تبقى في وظيفتها أو أن لا يأخذ من مرتبها شيئاً لصح ذلك الشرط لأنه لا يخالف شيئاً من المنصوص عليه ، ولو اشترط عليها أن لا تزور والديها لكان ذلك الشرط باطلاً ولا يلزمها الوفاء به لأنه مناف للمتقرر في الأدلة من وجوب البر والإحسان للوالدين ولعلك بذلك تكون قد فهمت هذا الضابط إن شاء الله تعالى وخلاصته أن يقال : الأصل في الاشتراط في النكاح الإباحة والحل إلا فيما خالف النص فصار بهذا عندنا ثلاثة ضوابط تدخل تحت قاعدة الشروط الجعلية ومن باب التيسير عليك أعيد لك نص القاعدة وأعيد لك نصوص هذه الضوابط حتى تكون منها على ذكر فأقول : قاعدة الشروط الجعلية هي : (( الأصل في الشروط الجعلية الحل إلا فيما خالف النص ) ويدخل تحتها ثلاثة ضوابط وهي كما يلي :
الأول : الأصل في الشروط في المعاملات الحل إلا فيما خالف النص . الثاني : الأصل في الشروط في الوقف الحل إلا فيما خالف النص . الثالث : الأصل في الشروط في النكاح الحل إلا فيما خالف النص والله ربنا أعلى وأعلم .
س80/ عرف المانع ؟ مع ضرب الأمثلة عليه ؟(1/25)
ج: المناع لغة هو الحاجز بين الشيئين والفاصل بينهما وأما شرعاً : فهو ما يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته ، فقوله ( ما يلزم من وجوده العدم ) أخرج السبب والشرط ، وذلك كالحيض بالنسبة للصيام والصلاة والطواف ، فإنه يشترط للصلاة والصوم والطواف عدم الحيض فيلزم في وجود الحيض عدم صحة الصلاة والصوم والطواف ، قال عليه الصلاة والسلام : (( أليس إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم ؟)) قلن بلى ، قال (( فذلك من نقصان دينها )) متفق عليه ، وقد أجمع أهل العلم على أن الحيض مانع من الصلاة والصيام ، وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت لما جئنا سرف حضت فقال النبي صلى الله عليه وسلم (( إفعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري )) وفيهما أيضاً أنه لما حاضت صفية قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أحابستنا هي ؟ )) الحديث ، وكذلك الجنون بالنسبة لسائر العبادات فإن الجنون مانع منها ، ولذلك فإذا وجد الجنون انعدمت الصحة ، بل وانعدم الوجوب ، وهذا هو المانع ، أي الذي يلزم من وجوده العدم ، فإذا وجد المانع انعدم الوجوب ، فالله لا يقبل العبادة مع الكفر وإن أطعم بها في الدنيا لكنه لا ثواب له فيها في الآخرة كما في قوله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله تعالى لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ويؤجر عليها في الآخرة، وأما الكافر فإنه يطعم ، حسنات ما عمل بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها )) رواه مسلم ، وقال تعالى { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا } فالكفر من الموانع لأنه يلزم من وجوده عدم الصحة ، وكذلك الحدث مانع من الصلاة لحديث : (( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه فإذا وجد الحدث الذي هو المانع انعدمت الصحة ، وكوجود الماء بالنسبة للتيمم ، فإنه إذا وجد(1/26)
المانع انعدم التيمم قال تعالى { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ } فوجود الماء مع القدرة على استعماله مانع من التيمم وكوجود الجنب في الدار بالنسبة لدخول الملائكة فإنه إذا وجد الجنب في البيت خرجت الملائكة كما في قوله صلى الله عليه وسلم : (( لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جنب ... ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم وكوجود الصورة أو الكلب في الدار أيضاً هو مانع من دخول الملائكة لحديث : (( لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب أو صورة )) وكوجود الحمل بالنسبة لإقامة الحد فإن وجود الحمل مانع من استيفاء القصاص أو الحد لأنه سيفضي إلى تلف ما في بطنها وهذا من التعدي لأنه لا تزر وازرة وزر أخرى ، ولذلك فقد أخر النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الحد على الغامدية حتى وضعت ما في بطنها وأرضعته مدة الرضاع وقد قرر الفقهاء في كتبهم ذلك أتم تقرير وكدخول وقت النهي بالنسبة للتطوع المطلق الذي لا سبب له فإنه إذا دخل وقت النهي انعدمت صحة التطوع الذي لا سبب له ، وهذه الأوقات هي المذكورة في حديث (( لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر متى تغيب الشمس )) متفق عليه ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس وعند غروبها )) متفق عليه ، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال (( ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا ، حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس وحين تضَّيف الشمس للغروب حتى تغرب )) رواه مسلم ، فلا يجوز إنشاء تطوع مطلق في هذين الوقتين لكن يجوز فيهن فعل التطوع الذي له سبب واختاره الشيخ تقي الدين كتحية المسجد وركعتي الطواف والطهارة وإعادة الجماعة مع قيام السبب لحديث (( فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الإمام ولم يصل فصليا معه فإنها لكما نافلة )) حديث صحيح ،(1/27)
وكصلاة الاستخارة في أمر سيفوت ولا يحتمل التأخير واختاره أبو العباس ولذلك فالضابط عندنا يقول ( لا تطوع في وقت نهي إلا ماله سبب ) أظن أنني شرحته في كتابي إتحاف النبهاء فالله أعلم, وكالفسق الظاهري لرد الشهادة فإن وجود الفسق مانع من قبول الشهادة لقوله تعالى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } وكقوله تعالى { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء } ونحن لا نرضى إلا العدول, وكوجود العداوة بالنسبة لعدم قبولها على عدوه ، فإن وجود العداوة يمنع من قبول شهادة أحدهما على الآخر لما رواه أحمد وأبو داود والبيهقي بسند حسن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت )) وبالمناسبة فإن موانع الشهادة هي الفسق والخيانة والاشتهار بالكذب ووجود التهمة والعداوة والقذف وكذلك لا تقبل شهادة بدوي على صاحب قرية لما رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (( لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية )) قال المنذري : (( رجال إسناده احتج بهم مسلم في صحيحه )) أهـ قلت : وهو حديث صحيح وبالجملة فالأمثلة كثيرة ولا أدري كيف يفلت القلم مني فأطيل من حيث لا أشعر وهذا لعله من محبتي تسهيل المسألة وإيصال المعلومة بشكل يسير يفهمه من ليس من أهل الاختصاص والله يعفو عنا ويغفر لنا الزلل والتقصير في العلم والعمل والدعوة آمين والله أعلى وأعلم .
س81/ اضرب لنا أمثلة على المانع مقرونة بأدلتها غير ما ذكر في مختلف الأبواب الفقهية ؟
ج : أقول: نعم وعلى الرحب والسعة والذي يحضرني منها الآن ثلاثون فرعاً فقيهاً وهي كما يلي:(1/28)
منها: الولاية ، فإنها مانعة من قبول الهدية ، فلا يجوز للوالي كالقاضي والسلطان ونحوهم قبول الهدايا بعد توليهم هذه المناصب لأن الهدايا تأسر القلوب وإن لم يشأ صاحبها وهذه المناصب ركنها الأمانة والعدل والقوة وهذه الهدايا يقصد بكثير منها إحقاق الباطل وإبطال الحق وأخرج أبو داود من حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ (( من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذه بعد ذلك فهو غلول)) وسنده جيد ، وقال البخاري في صحيحه : حدثنا عبيد ابن إسماعيل قال حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال : استعمل رسول الله صلى الله عليه مسلم رجلا على صدقات بين سليم يدعى ابن اللتبية ، فلما جاء حاسبه ، قال : هذا ما لكم وهذا هدية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلاّ جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً )) ثم خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإن استعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول ، هذا ما لكم وهذا هدية أهديت لي ، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته ، والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة ، فلأعرفن أحد منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار ، أوشاة تيعر ، ثم رفع يديه حتى رؤي بياض إبطه يقول : اللهم هل بلغت ؟ بصر عيني وسمع أذني )) وقد بوب عليه البخاري بقوله ( باب اختيار العامل ليهدي له ) فالأصل منع هدايا العمال ولكن قد استثنى أهل العلم من ذلك الهدايا المعتادة والتي كانت قبل الولاية ، ولكن أقول : الورع تركها لأن الدليل ورد عاماً وقد تقرر في الأصول أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال منزل منزلة العموم في المقال والخلاصة أن الولاية من جملة موانع الهدية والله أعلم .(1/29)
الثاني: الأبوة فإنها مانعة من استيفاء القصاص ، أي لا يقتل الأصل بالفرع ، ودليل ذلك ما رواه الترمذي في سننه قال : حدثنا أبو سعيد الأشج قال حدثنا أبو خالد الأحمر عن الحجاج بن أرطأة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( لا يقاد الوالد بالولد )) وهو حديث حسن ، وقال أيضاً : حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا ابن أبي عدي عن إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تقام الحدود في المساجد ولا يقتل الوالد بالولد )) وهو حديث حسن ووجه الدلالة منهما واضحة والله أعلم .
الثالث: الدين فإنه مانع من قبول الهدية ، فإذا استدان منك أحد ديناً فلا تقبل منه الهدية إلا بشرطين ، أن تكون هذه الهدية مما جرى بها العرف قبل الاستدانة ، أو أن تنوي أنت احتسابها من دينك أي أن تنقص من دينك بقدرها والدليل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي بردة بن أبي موسى قال: قدمت المدينة فلقيت عبدالله بن سلام فقال : (( إنك بأرض فيها الربا فاش فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حبل قت فلا تأخذه فإنه ربا )) ولأن هذه الهدية قد تكون سبباً لتعطيل أداء الحقوق والاستحياء من مطالبة أصحابها .(1/30)
الرابع: الشبهة لعدم إقامة الحدود ، فإن المتفق عليه أن الشبهة تمنع من إقامة الحد ، ولكن لا بد أن تكون هذه من الشبه المحتملة ، والمقصود من ذلك إسقاط الحد عن المتهمين بما يوجد من المخارج والمحامل التي يندرى بها الحد فإن هذه الشريعة العظيمة مبنية على العدل والقسط وعلى مصالح العباد في المبدأ والمعاد والحكم بالحد مع الاحتمال أو مع مقارنة الشبهة خروج عن العدل إلى الجور ولذلك فقد أكثر النبي صلى الله عليه وسلم من سؤال ماعز رضي الله عنه لما اعترف عنده بأنه زنى إلا أن النصوص المروية في هذه القاعدة فيها مقال عريض إلا أن الصحيح أن هذه المرويات وإن كان فيها مقال إلا أن القاعدة ثابتة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاء أصحابه من بعده فقد قال لماعز : (( لعلك قبلت )) (( لعلك لمست )) (( لعلك غمزت )) (( أتدري ما الزنا)) وقد قضى الصحابة بأنه لا قطع في مجاعة ، قال ابن القيم ( وهذا محض القياس ومقتضى قواعد الشرع فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد رمقه وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج وهو أقوى من كثير من الشبه التي يذكرها كثير من الفقهاء ) أهـ وكذلك لم يقم عمر الحد على امرأة اعترفت أنها زنت واستهلت به استهلال من يجهل تحريمه فدرأ عمر عنها الحد وقال ابن المنذر رحمه الله تعالى : (( أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الحدود تدرأ بالشبهات )) أهـ والخلاصة أن الشبهة المحتملة من جملة موانع الحدود والله أعلم .
الخامس: الرق والقتل واختلاف الدين بالنسبة للتوارث فإن هذه الأشياء الثلاثة هي موانع الإرث قال الرحبي رحمه الله تعالى .
ويمنع الشخص من الميراث * * * واحدة من علل ثلاث
رق وقتل واختلاف دين* * * فافهم فليس الشك كاليقين(1/31)
ففي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم )) وروى الترمذي وابن ماجه من حديث أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لا يتوارث أهل ملتين )) حديث صحيح, وقد وقع الإجماع على أن المسلم لا يرث من الكافر وأن الكافر لا يرث من المسلم وروى الترمذي وابن ماجه من حديث حميد بن عبدالرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( القاتل لا يرث )) حديث حسن ، وقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على ذلك . والله أعلم .
السادس: العسرة مانعة من حبس المدين وإيذائه بالجلد والتعيير ، لقوله تعالى { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } والمعسر هو الذي لا يجد شيئاً يسدد به ولو بعض دينه والله أعلم .(1/32)
السابع: موانع التكفير - أعني تكفير المعين - وقد بحثناها مستوفاه في مواضع أخرى ، وقد نص أهل العلم على أن الجهل الذي يعذر به صاحبه مانع من موانع التكفير لحديث العهد بالإسلام أو من أسلم في دار الحرب أو في بادية بعيدة عن أهل العلم وكذلك الجنون ، فلو فعل المجنون شيئاً من موجبات التكفير لما كفرناه لوجود مانع وهو الجنون لحديث (( رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق... )) وكذلك الصغر فإن الصغر مانع من موانع التكفير للحديث السابق وفيه (( وعن الصغير حتى يحتلم )) وكذلك الخطأ وعدم القصد فإن عدم القصد والخطأ تمنع من الحكم بالكفر لحديث (( أخطأ من شدة الفرح )) وحديث الرجل الذي قال (( إذا أنا مت فاحرقوني ثم ذروني في يوم رائح نصفي في البر ونصفي في البحر ... الحديث )) وكذلك الإكراه أيضاً من موانع التكفير لقوله تعالى { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } وحديث (( إن الله تبارك وتعالى تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )) وكذلك وجود التأويل وهذا من أوسع الموانع وأذكر أنني بحثتها في القول الرشيد في سرد فوائد التوحيد إن لم أكن واهماً فإنني لا أمتلكه الآن حال كتابتي لهذه المسألة . والمقصود أن هذه الأشياء الستة موانع تكفير المعين فيلزم من وجودها عدم الحكم بالكفر والله أعلم .(1/33)
الثامن: الإحداث في الدين فإنه من جملة موانع الشرب من حوضه صلى الله عليه وسلم ذلك لأن الشرب من هذا الحوض العظيم وقف على أهل الإتباع ولا حظ لأهل الابتداع فيه فكن متبعاً لا مبتدعاً ، مقتفياً لا مبتدأ ، ففي الصحيحين من حديث سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إني فرطكم على الحوض من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم فأقول : (( إنهم مني )) فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فاقول : سحقاً سحقاً لمن غير بعدي )) فنسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن يعيذني وإخواني من الإحداث في الدين والله أعلم .
التاسع: موانع الإجزاء في الأضحية والهدي التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أربع لا تجوز في الأضاحي العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ضلعها والكسير التي لا تنقي )) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم وهو كما قالوا . فهذه العيوب الأربع تسمى موانع الإجزاء في الأضاحي فهي من جملة الموانع والله أعلم .
العاشر: الأنوثة فإنها مانعة من زيارة القبور ومن الولايات أما منعها من الولايات فلما رواه البخاري في صحيحه عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال : (( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة )) فهي ممنوعة من الولايات لكونها امرأة ، وأما زيارة القبول فلحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زوّارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج )) وسنده جيد .(1/34)
الحادي عشر: مرض الموت فإنه مانع من وقوع الطلاق فمن طلق في مرض موته المخوف فإن طلاقه لا يقع معاملة له بنقيض قصده لأنه لما أخر التطليق إلى هذا الوقت وحلول هذا المرض غلب على ظننا أنه يريد بهذا الطلاق حرمان هذه الزوجة من الميراث وقد تقرر في القواعد أن من استعجل الشيء قبل أوانه فإنه يعاقب بحرمانه وقد تقرر أيضاً أن من نوى الشر فإنه يعامل بنقيض قصده والله أعلم .
الثاني عشر: الوصف بالأمانة مانع من الضمان حال تلف المال في يد الأمين بلا تعد ولا تفريط كالوكيل فإنه أمين وكذلك المودع بالفتح فإنه أمين وكذلك المضارب أيضاً فإنه أمين وكذلك الأجير الخاص فإنه أمين وكذلك المستعير فإنه أمين وكذلك المرتهن فإنه أمين وكذلك ناظر الوقف فإنه أمين وكذلك ولي الصغير والسفيه والمجنون فإنه أمين وكذلك المتلتقط بكسر القاف فإنه أمين ووجه كونهم من الأمناء أن مال غيرهم قد حل في أيديهم بإذن الشرع أو بإذن صاحبه فحيث كانوا يوصوفون بأنهم من الأمناء فإن هذا الوصف مانع من الضمان في حال تلف العين بلا تعد أو تفريط أي لا يضمن واحد من هؤلاء السالف ذكرهم ما تلف بيده من أموال الغير إلا ما تعدى فيه أو فرط والضابط عندنا يقول : (( لا يضمن الأمين تلف العين إلا بالتعدي أو التفريط )) ولذلك فإن الغاصب يضمن مطلقاً والله أعلم .(1/35)
الثالث عشر: الحيض فإنه مانع من الطلاق ، فالحائض لا يجوز إيقاع الطلاق عليها ، وكذلك الجماع الذي حصل في الطهر بعد الحيض فإنه مانع من إيقاع الطلاق مالم يتبين به الحمل ، فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأة له وهي حائض فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : (( ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً قبل أن يمسها ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء )) متفق عليه وفي رواية (( مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً )) ولذلك فطلاق السنة هو أن يطلقها وهي طاهرة قبل أن يمسها ، أو يطلقها حاملاً قد استبان حملها طلقة واحدة وما عدا ذلك فهو الطلاق البدعي ، والمقصود أن الحيض والجماع في الطهر قبل استبانة الحمل مانعان من موانع إيقاع الطلاق والله أعلم .
الرابع عشر: لقد نص أهل العلم رحمهم الله تعالى على أن الأبوة والبنوة مانعة من دفع الزكاة أي لا يجوز دفع الزكاة لفروعك ولا لأصولك وذلك لأن هؤلاء ممن تجب عليك نفقتهم فأداء الزكاة لهم فيه تعطيل لما وجب عليك تجاههم والله أعلم .
الخامس عشر: النبوة فإنها مانعة من التوارث لقوله صلى الله عليه وسلم : (( لا نورث ما تركناه صدقة )) متفق عليه والله أعلم .
السادس عشر: الإحرام فإنه مانع من عقد النكاح لحديث : (( لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب )) رواه مسلم .
السابع عشر: الزنا فإنه مانع من النكاح فلا يجوز للعفيف أن ينكح زانية ولا يجوز للعفيفة أن يتزوجها زان لقوله تعالى { الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } .(1/36)
الثامن عشر: قصد التحليل فإنه مانع من صحة النكاح ومانع من ترتب الأثر وهو حل الزوجة لمطلقها الأول ، فهذه النية الفاسدة لا تحل المطلقة المبتوتة لزوجها الأول لحديث (( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له )) حديث صحيح ولا نعلم نزاعاً في ذلك بين الصحابة .
التاسع عشر: نية المضارة في ارتجاع المطلقة مانعة من صحة الرجعة لقوله تعالى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا } ولقوله تعالى { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } .
العشرون: نكاح المرأة فإنه مانع من نكاح أختها وأمها وعمتها وخالتها لقوله تعالى { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ } وقوله تعالى { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ } وفي الحديث (( لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها... )) وهو في الصحيح .
الحادي والعشرون: الإحداد فإنه مانع من الزينة بالإجماع لحديث أم عطية رضي الله عنها قالت : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلى على زوج أربعة أشهر وعشراً ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصبة ولا تكتحل ولا تمس طيباً إلى إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار )) متفق عليه .
الثاني والعشرون: أكل الثوم والبصل فإنه مانع من حضور الجماعة في المسجد لحديث (( من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس )) متفق عليه وفي رواية (( من أكل ثوماً أو بصلاً )) وفي رواية (( أو الكراث )) ويقاس عليهما ما هو أخبث رائحة منهما .(1/37)
الثالث والعشرون : بلوغ الحدود للسلطان فإنه يمنع من الشفاعة فيها لحديث (( يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله . . .)) الحديث وهو في الصحيح ، وقد أخرج أحمد وأبو داود والحاكم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى لله عليه وسلم قال (( من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد لله في أمره )) حديث صحيح ، وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي بإسناد حسن وصححه الحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لصفوان لما أراد أن يشفع فيمن سرق رداءه : (( هلاّ كان ذلك قبل أن تأتيني به )) والله أعلم .
الرابع والعشرون: الغضب وما في معناه فإنه مانع من القضاء لحديث (( لا يقضي القاض وهو غضبان )) وهو في الصحيح .
الخامس والعشرون: الموت على أصل الإسلام فإنه مانع من التخليد الأبدي في النار كخلود الكفار وهذا معتقد أهل السنة رفع الله منازلهم في الدنيا والآخرة فإنهم يعتقدون أن أصحاب الكبائر إذا ماتوا بلا توبة منها فإنهم تحت المشيئة فإن شاء الله غفر لهم وأدخلهم الجنة ابتداءً وإن شاء عذبهم في النار ثم يخرجهم منها إلى الجنة انتقالاً وأنه لا يخلد أحد في النار من أهل القبلة لحديث (( يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير )) رواه البخاري والأحاديث في ذلك كثيرة وقد ذكرنا طرفاً منها في إتحاف أهل الألباب بمعرفة التوحيد والعقيدة في سؤال وجواب .(1/38)
السادس والعشرون: الحرص والتطلع للولاية مانع منها فمن رآه الإمام حريصاً على نيل الولاية ومريد لها فلا يجوز له تمكينه منها لحديث أبي موسى رضي الله عنه قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي فقال أحدهما يا رسول الله أمّرنا على بعض ما ولاك الله تعالى وقال للآخر مثل ذلك فقال : إنا والله لا نولي على هذا العمل من أراده )) أو قال (( لا نولي على هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه )) .
السابع والعشرون: الفسق مانع من الولاية أي ولاية مال الصغير والمجنون وولاية النكاح أيضاً .
الثامن والعشرون: الاكتواء والتطير مانعان من أن يكون الإنسان من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب لحديث (( هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون )) متفق عليه .
التاسع والعشرون: حضور صف الجهاد مانع من الفرار إلا لمتحرف لقتال أو متحيزاً لفئة كما قال تعالى { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ... } .
الثلاثون: ولعله الأخير إن شاء الله تعالى : النسيان مانع من ترتب أثر ارتكاب المحرم لقوله تعالى { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وحديث (( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )) والله ربنا أعلى وأعلم .
س 82/ ما أقسام المانع مع بيان ذلك بالتمثيل ؟(1/39)
ج: أقول : أقسام المانع قسمان : مانع للوجوب ، ومانع للصحة ، كما ذكرناه في الشروط سابقاً فمانع الوجوب يقابله شرط الوجوب ، فضد كل شرط من شروط الوجوب مانع من موانع الوجوب ، فالبلوغ شرط لوجوب الصوم والصلاة مثلاً ، والصغر مانع من وجوبها والإقامة شرط لوجوب الصوم ، والسفر مانع من وجوبه في الذمة ، والاستطاعة شرط وجوب للحج والعجز مانع من وجوبه في الذمة ، فإذا عرفت شرط الوجوب فاعلم أن ضده هو مانع الوجوب ، وأما مانع الصحة ، فهو الذي يكون ضد شرط الصحة ، فإذا عرفت شرط الصحة فاعلم أن ضده هو مانع الصحة ، كالإسلام فإنه شرط صحة فكذلك الكفر مانع صحة ، والنية شرط صحة للمأمورات فكذلك عدمها مانع من موانع الصحة ، والعقل شرط صحة ووجوب لسائر التعبدات فكذلك الجنون مانع من موانع الصحة والوجوب لسائر التعبدات ، والعلم شرط لصحة تكفير المعين والجهل مانع للتكفير ، والإرادة شرط في التكفير والإكراه مانع من التكفير ، ودخول الشهر شرط من شروط صحة الصوم فكذلك عدم دخوله مانع من موانع الصحة ، والطهارة من الحدثين شرط من شروط صحة الصلاة ، والحدث مانع من موانع صحة الصلاة ، والخلو من الموانع الشرعية أي الحيض والنفاس شرط من شروط صحة الصوم وكذلك وجود الحيض أو النفاس مانع من موانع صحة الصوم ، وعلى ذلك فقس فإذا أردت أن تعرف مانع الوجوب ما فاعرف أولاً شرط الوجوب ، لأن مانع الوجوب ضد شرط الوجوب وإذا أردت أن تعرف مانع الصحة فاعرف شرط الصحة لأن مانع الصحة يكون ضد شرط الصحة والله وأعلم .
س83/ متى تكون العبادة والمعاملة صحيحة مع بيان القاعدة في ذلك ؟ باختصار ؟(1/40)
ج: أقول : لا تكون العبادة والمعاملة صحيحة إلا إذا توفرت شروطها وانتفت موانعها ، ونعني بالشروط هنا شروط الصحة لا شروط الوجوب ونعني بالموانع هنا موانع الصحة لا موانع الوجوب ، فالشيء الذي له شروط وله موانع لا يصح إلا إذا توفرت جميع شروط صحته وانتفت جميع موانع صحته ، وعندنا في ذلك قاعدتان : الأولى : لا تصح العبادة إلا إذا توفرت شروطها وانتفت موانعها, وهذه القاعدة خاصة بالعبادات ، الثانية : لا تصح المعاملات إلا إذا توفرت شروط صحتها وانتفت موانعها ، وهذه القاعدة خاصة بالمعاملات ، فالوضوء لا يصح إلا إذا توفرت شروطه وانتفت موانعه والغسل لا يصح إلا إذا توفرت شروط وانتفت موانعه والصلاة والصوم والزكاة والحج لا تصح إلا إذا توفرت شروطها وانتفت موانعها والبيع والسلم والإجارة والحوالة لا تصح إلا إذا توفرت شروطها وانتفت موانعها ، والسبق والمساقاة والمزارعة والمقارضة والشركات بأنواعها والرهن والكفالة والضمان والوكالة والشفعة والعارية والوديعة والوقف والهبة والوصية لا يصح إلا إذا توفرت شروط صحتها وانتفت موانع صحتها, وكذلك النكاح أيضاً لا يصح إلا إذا توفرت شروطه وانتفت موانعه وهكذا في سائر العبادات والمعاملات فإننا نقول فيها جميعها قولاً واحداً لا يختلف ، أنها جميعها مما ذكرناه ومما لم نذكره لا يصح إلا إذا توفرت شروطه وانتفت موانعه ، وكذلك تكفير المعين لا يجوز إلا إذا توفرت شروطه وانتفت موانعه وكذلك الشفاعة في الآخرة لا تكون إلا إذا توفرت شروطها وانتفت موانعها ، وكذلك التوسل بدعاء الآخرين لا يصح إلا إذا توفرت شروطه وانتفت موانعه بأن يكون حياً حاضراً قادراً وبمعرفة شروط الصحة تعرف موانع الصحة كما أسلفناه لك سابقاً والله ربنا أعلى وأعلم .(1/41)
س84/ عرف الصحة والفساد لغة وشرعاً ، وما معنى الصحة في العبادات وما معنى الفساد فيها ؟ وما معنى الصحة في المعاملات وما معنى الفساد فيها ؟ مع بيان ذلك بالتمثيل ؟
ج: أقول : هذا سؤال واسع وفيه فروع :
الأول : الصحة لغة خلافه السقم ، وهي خلو الشيء من موجبات اضطرابه وخروجه عن طبيعته سواء كان ذلك الموجب حسياً أو معنوياً كالمرض الحسي فإنه يوجب خروج الإنسان عن طبيعته من القوة والنشاط ، وكمرض القلوب المعنوي بارتكاب الذنوب والمعاصي وهكذا ، فإذا خلا ذلك الشيء عن شيء يخرجه عن طبيعته فهو الصحيح ، وأما تعريفها اصطلاحاً فهي أثر من آثار وقوع الفعل موافقاً للمشروع ، وهذا تعريف الصحة فإن الفعل إذا وافق الشرع أي فعل مستوفياً شروطه وأركانه وانتفت موانعه فإنه يكون صحيحاً ، فالصحة أثر من آثار موافقة الفعل للمشروع وهي : -أي الصحة - صفة للعمل ، فإن كان العمل موافق للمشروع فهو الصحيح وإن خالف المشروع فهو الفاسد ، فالصحة والفساد وصفان للعمل والله أعلم .
الثاني : الفساد لغة عبارة عن تغير الشيء عن الحالة السليمة إلى حالة سقيمة والمفسدة نقيض المصلحة وأما تعريف الفساد اصطلاحاً فهو أثر من آثار مخالفة العمل للمتقرر شرعاً ، فموافقة الأعمال الباطنية والظاهرية لأمر الشارع تثمر صحتها ومخالفتها لأمر الشارع تثمر فسادها فالصحيح ما وافق الشرع والفاسد ما خالف الشرع . والله أعلم .(1/42)
الثالث : القاعدة في صحة العبادات تقول : لا تصح العبادة إلا إذا استجمعت أركانها وشروطها وانتفت موانعها وقد ذكرناها قبل قليل فإذا وقعت العبادة مستوفية لجميع الأركان والشروط والواجبات مع اجتناب جميع الموانع فإنها تكون صحيحة ومعنى الصحة فيها : براءة الذمة وسقوط الإعادة . فالصحيح من العبادات هو ما ترتبت عليه آثاره من براءة الذمة وسقوط المطالبة ، وبه تعرف الفاسد من العبادات وهو ما لم يترتب عليه أثره من براءة الذمة وسقوط الطلب ، والعبادة الفاسدة هي التي لا تبرأ بها الذمة وتسقط بها المطالبة ، فالمراد بالصحة في العبادات سقوط القضاء بمعنى أنه لا يحتاج إلى فعل العبادة مرة ثانية وهذا هو الإجزاء ولا تكون العبادة مجزية مسقطة للقضاء إلا إذا كانت موافقة لأمر الشرع ، والدليل على ذلك حديث عائشة في الصحيحين مرفوعاً : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) ولمسلم (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) فكل عمل ليس عليه أمر الشارع فهو مردود وكل عمل وافق أمر الشارع فهو المقبول الصحيح وبناءً عليه فمن كان عمله خارجاً عن أمر الشرع وليس متقيداً به فهو مردود ومن كان عمله جارياً تحت أحكام الشرع موافقاً لها فهو مقبول . وعلى ذلك فروع :
منها: الطواف حول القبور ، عمل باطل وبدعة منكرة وطامة إبليسية وهاوية من مهاوي الردى وعمل مخالف للشرع فالطواف حول القبور الذي يظن فاعلوه من العبادات باطل ساقط مردود ولأنه مخالف لأمر الشارع .
ومنها: الذبح لأصحاب القبور ، وهذا لاخلاف في أنه من الشرك وليس من العبادة في صدر ولا ورد وهو باطل وهذه الذبيحة حرام وميتة لأنها أهلت لغير الله تعالى فالذبح للقبور فعل ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد ولأن كل إحداث في الدين فهو رد .(1/43)
ومنها: صلاة الرغائب والألفية فإنهما من البدع المردودة على أصحابها لأنها ليست مما عليه أمره صلى الله عليه وسلم فهي مخالفة للمشروع وما خالف المشروع فهو مردود .
ومنها: الذكر الجماعي ، فإنه مما ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد ولأنه محدث في الدين وكل إحداث في الدين فهو رد والعبادة لا تكون صحيحة إلا إذا كانت موافقة للشرع .
ومنها: الرقص وضرب الطبول في المساجد فإنه من البدع الوخيمة والبلايا العظيمة وصاحبه مأزور لا مأجور وآثم لا غانم ، ومتى كان الرقص والضرب بالطبول في المساجد عبادة يتقرب لله تعالى بها؟ من أين لهم هذا ؟ هل على ذلك أثارة من علم ؟ أم هو إتباع للشهوات وعشق البدع ، نعوذ بالله من الخذلان .(1/44)
ومنها: سائر البدع المنتشرة كالتلفظ بالنية والأذكار أثناء الوضوء واعتقاد أذكار مخصوصة في أزمنة أو أمكنة مخصوصة ولم يثبت بتخصيصه دليل صحيح صريح ، وقراءة القرآن في المقابر والمآتم وقول ( حي على خير العمل ) أو ( أشهد أن علياً ولي الله ) في الآذان والتعريف في الأمصار عشية يوم عرفة ، وصلاة الظهر مباشرة بعد صلاة الجمعة ، وصلاة ركعتين بين الخطبتين ، وقراءة القرآن في مكبر الصوت يوم الجمعة ، والسلت بعد البول أو النتر والقفز والضحك والنحنحة أو كتم النفس وصعود الدرج أو إمساك الحبل بعد البول كل ذلك من البدع المردودة على أصحابها ورفع القبور والكتابة عليها وتجصيصها وكتابة الآيات في مداخل المقبرة أو على بعض القبور وما يعرف بصلاة الكفاية وذبائح الصلح التي يتقرب بها للمذبوح له بالذبح بين يديه أن يرضى وبدع الموالد كلها ووضع المصاحف في المقابر والنذور والقرابين لها ، ونداء أصحابها والاستغاثة بهم وإسراج المقابر و قراءة القرآن قبل الدفن ، وتوزيع الأطعمة فيها ورفع الصوت خلف الجنائز وتحية العلم والسلام الملكي وإخراج الزكاة بالحول الميلادي وشد الرحال إلى القبور وضرب الفخذين باليدين بعد الفراغ من الصلاة كما يفعله الرافضة وتخصيص سجود الجبهة على شيء معين واعتياد لبس الصوف تعبداً كل ذلك من البدع الردية والمحدثات المنكرة التي هي إحداث في الدين وكل إحداث في الدين فهو رد ولا يعتقد أصحابها أنهم مأجورون لأن الأجر فرع الصحة والعبادة لا تكون صحيحة إلا إذا كانت موافقة للمشروع وأما من كان تعبده خارجاً عن سنن الشريعة فإنه آثم ومأزور والفروع كثيرة وقد ذكرنا طرفاً كبيراً منها في كتابنا شرح قاعدة الإحداث في الدين وقد كتبت فيه من الفروع ما يقرب على مائتي فرع ، ولا زلت أزيد فيه حتى يكون بمثابة قاموس للبدع ، نصحاً للأمة وذباً عن حياض الشريعة عسى الله أن يرحمنا وأن يعفو عنا ويغفر لنا زللنا وتقصيرنا في العلم والعمل(1/45)
والدعوة والله أعلى وأعلم .
الفرع الرابع : القاعدة في صحة المعاملات تقول : لا تصح المعاملة إلا إذا توفرت شروطها وانتفت موانعها وقد ذكرناها سابقاً وبناءً عليه فالمراد بالصحة في المعاملات ترتب الأثر المقصود من المعاملة فكل بيع أباح التصرف في المبيع وحقق كما الانتفاع فهو صحيح فالمراد بالفساد إذا كان في المعاملات عدم ترتب الأثر ، فالمعاملة الصحيحة هي التي تترتب عليها آثارها والمعاملة الفاسدة هي التي لا تترتب عليها آثارها وعلى ذلك فروع كثيرة نذكر لك بعضها :
منها: بيع ما لا يقدر على تسليمه كبيع الطير في الهواء والسمك في الماء والجمل الشارد والعبد الآبق كل ذلك لا يجوز لأن من شروط صحة البيع القدرة على التسليم فلو خالف أحد وباع مثل هذه البيوعات فإن هذا البيع لا يترتب عليه أثره لأنه فاسد ، والفساد في المعاملات معناه عدم ترتب الأثر .
ومنها: بيع ما ليس عندك أي ما لا تملك فهذا بيع فاسد ولا يترتب عليه أثره لحديث (( ولا تبع ما ليس عندك )) حديث حسن صحيح ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ليس على رجل بيع فيما لا يملك )) حديث صحيح وفي حديث حكيم بن حزام قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني البيع ليس عندي ما أبيعه منه ثم أبتاعه له من السوق ؟ فقال (( لا تبع ما ليس عندك )) .(1/46)
ومنها: بيوع الغرر والجهالة فيما يقصد فإن هذه البيوع بيوع محرمة فاسدة ولا يترتب عليها أثرها لما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر, وذلك كبيع المنابذة والملامسة لما في الصحيحين من حديث الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الملامسة والمنابذة . والملامسة لمس الثوب لا ينظر إليه والمنابذة طرح الرجل ثوبه إلى الرجل بالبيع قبل أن يقلبه أو ينظر إليه وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين عن الملامسة والمنابذة )) وللنسائي في تفسير ذلك (( أن يتبايع الرجلان بالثوبين تحت الليل يلمس كل رجل منهما ثوب صاحبه بيده ، والمنابذة : أن ينبذ الرجل إلى الرجل الثوب وينبذ الآخر إليه الثوب فيتبايعا على ذلك )) وقد اتفق أهل العلم فيما نعلم على منع هاتين المعاملتين فلو وقعتا لما ترتب عليهما أثرهما لأنهما فاسدتان والفاسد من المعاملات مالا يترتب عليه أثره .
ومنها: بيع الحصاة لحديث أبي هريرة عن مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر. وأظنه والله أعلم أن يقول أحدهما للآخر ، ارم بهذه الحصاة فما بلغت فهو عليه بكذا ، أو يقول : ارم هذه الحصاة فأي سلعة وقعت عليه فهي عليك بكذا فهذا محرم لثبوت النهي عنه بخصوصه فهو بيع فاسد لا يترتب عليه أثره .
ومنها: بيع الثمر قبل بدو صلاحه وبيع الحب قبل اشتداده فهذان بيعان محرمان وفاسدان فلا يترتب عليهما أثر البيع الصحيح وذلك لحديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه )) وفي الصحيح عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (( نهى عن بيع الثمار حتى تزهي ، قل وما تزهي ؟ قال حتى تحمر )) .(1/47)
ومنها: بيع المزابنة ، وهي بيع التمر المجذوذ بتمر لا يزال على رؤوس النخل ، فهذا بيع محرم وفاسد ولكن يستثنى من ذلك العرايا فقط وهي أن يحتاج أهل الاستمتاع بالرطب وليس عندهم إلا تمر العام الماضي فيجوز لهم أن يبيعوا هذا بهذا فيما دون خمسة أوسق ففي الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم (( نهى عن المزابنة )) وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (( نهى عن بيع الثمر بالتمر )) رواه أبو داود وسنده صحيح ، وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (( نهى عن المخابرة والمزابنة والمحاقلة وأن يباع التمر حتى يبدو صلاحه ورخص في العرايا )) وهو في الصحيح ، وعن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (( رخص في العرايا ، بخرصها )) متفق عليه وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (( رخص في العرايا أن تباع بخرصها في خمسة أوسق أو فيما دون خمسة أو سق )) متفق عليه .
ومنها: بيوع الربا بأنواعها سواء ربا النسيئة أو ربا الفصل أو ربا القرض كل ذلك محرم بالأدلة القاطعة .
ومنها: بيع التمر بالرطب فإنه بيع محرم وفاسد ولا يترتب عليه أثره لما رواه أبو داود وابن ماجه من حديث عبدالله بن زيد عن زيد عن سعد قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر بالرطب ؟ فقال لمن حوله : (( أينقص الرطب إذا يبس ؟ قالوا : نعم : فنهى عن ذلك )) وهو حديث صحيح .
ومنها: بيع حبل الحبلة ، وبيع الكلب ولو معلماً ، وبيع الهرة وبيع الخمر والخنزير والميتة والأصنام والصور التي لم تدع لها ضرورة وكتب السحر والابتداع وبيع الملاقيح وما في بطون الأنعام وبيع الصبرة من الطعام بصبرة لا يعلم كيلها أيضاً ، وبيع آلات اللهو والمخدرات ، بأنواعها ومختلف أشكالها وبيع الطعام قبل قبضه وبيع العينة وغير ذلك مما ثبت تحريمه بالنص فإنه بيع محرم وفاسد ولا يترتب عليه أثره والخلاصة من هذه الإجابة عدة أمور هي :(1/48)
الأول : تعريف الصحة لغة وشرعاً
الثاني : تعريف الفساد لغة وشرعاً
الثالث : معنى الصحة الفساد في العبادات مع التمثيل .
الرابع : معنى الصحة والفساد في المعاملات مع التمثيل .
س85/ لقد ذكرت سابقاً أن الصحيح هو ما وافق أمر الشارع والفاسد هو ما خالف أمر الشارع ، ففي أي شيء تكون هذه الموافقة ؟ مع بيان ذلك بالأدلة والفروع ؟
ج: أقول : نعم لقد ذكرنا أن الصحيح هو ما وافق أمر الشارع وهذه الموافقة تكون في ستة أشياء:
الأول: الجنس, أي لابد من موافقة الشارع في جنس العبادة فلا يجوز للمكلف أن يخترع عبادة لا جنس لها في الشرع كالتعبد بالرقص والتعبد بضرب الدفوف والطبول والتعبد بالهيام في البراري ومعاشرة الوحوش والأفاعي والتعبد بلبس الصوف لا غير ، والتعبد بالنظر إلى الأحداث والنسوان وقد وضعوا حديثاً مكذوبا يقول : (( النظر إلى وجه الأمرد عبادة )) وغير ذلك فإنك لو نظرت إلى هذه الأشياء التي ذكرتها لك لم تجد لها جنساً في الشرع ، أي أنها لا تدخل تحت صلاة ولا صدقة ولا زكاة ولا حج ولا صيام ولا غير ذلك ، بل هي تعبدات غريبة ومحدثات سخيفة وإملاءات شيطانية وهي رد على أصحابها وهذا يسميه أهل العلم البدع الحقيقية ، أي هي بدعة في ذاتها وصفاتها ليس لها جنس في الشرع البتة ، فهو إحداث في الأصل وإحداث في الوصف نعوذ بالله من الخذلان فالذكر الجماعي مثلاً هو في أصله مشروع لأنه ذكر لكن الإحداث حصل في وصفه ، وأما البدع التي ذكرتها لك سابقاً فإنها محدثة في أصلها أي لا أصل لها في الشرع ومحدثة في صفاتها ، فهذا أول شيء تجب موافقة الشرع فيه وهو الجنس فمن اخترع عبادة لا جنس لها في الشرع فهي باطلة فاسدة لحديث (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) .(1/49)
الثاني: السبب ، أي لابد من موافقة الشرع في السبب فلا يجوز لأحد كائناً من كان أن يربط عبادة بسبب لا دليل على سببيته في الشرع ، وذلك كتعظيم ليلة بقيام أو بصيام أو باحتفال أو غير ذلك ولا دليل في الشرع على هذا التعظيم ، وهذه مخالفة في السبب كالاحتفال بالمولد النبوي وبدعة الحزن في يوم عاشوراء عند الرافضة ، وعلى العكس من ذلك بدعة الفرح الزائد عند الخوارج وبدعة التشاؤم بشهر صفر ، وبدعة تخصيص شهر رجب بالصوم ، وبدعة تعظيم ليلة الإسراء فيه كما يعتقدونه وبدعة صلاة الرغائب وبدعة صلاة الألفية في شعبان ، وبدعة عيد الميلاد ، وعيد الأم ، وعيد الحب ، والاحتفال بمرور سنين معدودة على تحرير الدولة أو توحيدها والاحتفال الدوري ببعض الانتصارات وغير ذلك فكله من باب الإحداث في السبب ، أي أن هذه الأسباب التي جعلتهم يفعلون هذه الأشياء لا أصل لها في الشريعة فالأسباب محدثة مردودة وما ترتب عليها من هذه الأفعال مردودة أيضاً حتى وإن كانت مشروعة باعتبار الأصل لكنها لما ربطت بهذه الأسباب المحدثة صارت محدثة وكل إحداث في الدين فهو رد لحديث (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) .
الثالث: الصفة أي العبادات التي شرعت على صفات معينة فإنه لابد من موافقة الشرع فيها أي أن نفعلها على الصفة التي وردت لها في الشرع من غير زيادة ولا نقصان كالصلاة مثلاً فلابد لصحتها أن تصلي كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) رواه البخاري وكالحج ، لحديث (( لتأخذوا عني مناسككم )) فقد كان يقوله صلى الله عليه وسلم كلما فرغ من منسك من المناسك وكذلك الوضوء والتيمم وغير ذلك من العبادات وبناءً عليه فمن جاء إلى عبادة لها صفة معينة ، فاخترع لها صفة أخرى فإنه يكون بذلك محدث في الصفة وصفته رد عليه لا تقبل لحديث (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) متفق عليه .(1/50)
الرابع: الزمان أي إذا قيدت هذه العبادة بزمان معين فلابد من إيقاعها في زمنها الذي قيدت به وبناءً عليه فلا يجوز إحداث تعظيم لزمان من الأزمنة بعبادة قولية أو فعلية لم يدل على تعظيمه دليل شرعي صحيح صريح كتعظيم يوم الجمعة أو ليلتها بشيء ليس عليه دليل لحديث (( لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين سائر الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين سائر الأيام )) وكتعظيم ليلة النصف من شعبان وتعظيم السابع أو الثامن والعشرين من شهر رجب ونحو ذلك فكل ذلك من البدع المحدثات والمحرمات المنكرات ، لأنه إحداث تعظيم لزمان لم يأت بتعظيمه نص الشرع وكل إحداث في الدين فهو رد .
الخامس: المكان ، أي إذا خصصت الشريعة لفعل هذه العبادة المعينة مكاناً معيناً فيجب على المكلفين أن يوقعوها في هذا المكان المعين ، كرمي الجمرات ، والوقوف بعرفة والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ولذلك فلا يشرع الطواف بأي جزء من أجزاء الأرض باتفاق العلماء إلا بالبيت العتيق ، ولا يشرع تقبيل أي جزء من أجزاء الأرض إلى الحجر الأسود فقط ولا يشرع رمي شيء بالحصى إلا رمي الجمرات فقط في وقتها المخصوص وبناءً عليه فمن زعم أنه يشرع في هذا المكان المعين عبادات معينة فإنه مطالب بالدليل والله أعلم .(1/51)
السادس: المقدار ، فإذا قدرت الشريعة شيئاً من العبادات بمقدار معين فإنه لا تتم المتابعة إلا بمتابعتها في هذا المقدار بلا زيادة ولا نقصان كأنصبة الزكاة والواجب فيها ومقادير زكاة الفطر ومقدار العقيقة عن الغلام والأنثى ومقدار الإستجمار وغسل نجاسة الكلب وعدد ركعات الصلوات ، وعدد الحصى الذي ترمى به الجمرات وعدد الطواف والسعي ونحو ذلك وبناءً عليه فلا يجوز تقييد عبادة قولية أو فعلية بمقدار معين إلا وعليه دليل شرعي صحيح صريح وإلا لكان ذلك بدعة كصلاة الرغائب وهي التي تكون في أول جمعة من رجب بين صلاة المغرب والعشاء ويسبقها صيام يوم الخميس وصفتها أن يصلي ثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة وقوله : (( إنا أنزلناه في ليلة القدر )) ثلاث مرات وهذا تقدير لا دليل عليه ، ثم يقرأ بعد ذلك (( قل هو الله أحد )) ثنتي عشرة مرة وهذا أيضاً تقدير لا دليل عليه فإذا فرغ من صلاته شرع في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه سبعين مرة وهذا أيضاً تقدير لا دليل عليه ... إلخ .الصفة المبتدعة ، وأعلم أن كل حديث فيها فهو كذب مختلف لا يصح رفعه لمقامه صلى الله عليه وسلم فحيث كانت هذه التقديرات لا دليل عليها فالحق هو إطراحها لأنها إحداث في الدين وكل إحداث في الدين فهو رد والله أعلم .فهذه الأمور الستة هي جهات التعبدات الست وبه تعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) لابد من فهمه فهماً أوسع مما شرحه البعض فنقول فيه : من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه صفة أو ما ليس منه زماناً أو ما ليس منه مكاناً أو ما ليس منه مقداراً من أحدث شيئاً من ذلك فهو أي هذا الشيء الذي أحدثه رد أي مردود على صاحبه لأن كل إحداث في الدين فهو رد ويدخل تحت هذه المسألة عدة ضوابط :
الأول : الأصل في العبادات التوقيف على الدليل .
الثاني : الأصل في العبادات الإطلاق إلا بدليل .(1/52)
الثالث : الأصل في تقييد العبادة بالزمان التوقيف على الدليل .
الرابع : الأصل في تقييد العبادة بصفة التوقيف على الدليل .
الخامس : الأصل في تقييد العبادة بمكان التوقيف على الدليل .
السادس : الأصل في تقييد العبادة بمقدار التوقيف على الدليل .
السابع : الأصل في ربط التعبد بسبب التوقيف إلا بدليل .
الثامن : الأصل في ربط التعبد بشرط التوقيف على الدليل فهذا ما يخص إجابة هذا السؤال العظيم المهم والله ربنا أعلى وأعلم .
س 86/ عرف العزيمة والرخصة لغة واصطلاحاً مع بيان التمثيل عليها ؟
ج: أقول العزيمة هي الحكم الثابت بدليل شرعي خالِ عن معارض راجح ، كتحريم الأكل من الميتة ، فإنه عزيمة لأنه حكم ثابت بدليل شرعي وهو قوله تعالى : (( حرمت عليكم الميتة )) وقوله تعالى : (( قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسق أهل لغير الله به... الآية )) فهذا التحريم ثبت بالدليل الشرعي فيكون عزيمة لكنه يكون عزيمة إذا لم يعارضه ما هو أرجح منه أي أنه يكون عزيمة ما دام خالياً عن المعارض الراجح ، وذلك كوجود الاضطرار في المخمصة ، فإنه إذا وجد الاضطرار انقلب الحكم في حق المضطر من كونه عزيمة إلى كونه رخصة ، لقوله تعالى : (( إلا ما اضطررتم إليه )) فإذا لم يوجد المعارض الراجح لما ثبت بالدليل فإنه يكون عزيمة وإذا وجد المعارض الراجح لما ثبت بالدليل فإنه يكون رخصة ، ومثال آخر :إتمام الصلاة أي إيقاع الصلاة تامة فإنه عزيمة لأنه حكم ثبت بالدليل الشرعي ، وخلا عن المعارض الراجح ، لكن إذا سافر الإنسان ففي هذه الحالة وجد المعارض الراجح وهو وجود وصف السفر فينقلب الحكم هنا مع وجود هذا المعارض الراجح من كونه عزيمة إلى كونه رخصة ، فإتمام الصلاة عزيمة مع عدم وجود هذا المعارض الراجح ، وقصر الصلاة رخصة مع وجود هذا المعارض الراجح أي وصف السفر .(1/53)
ومثال ثالث : إن إيقاع الصلاة في وقتها المحدد لها عزيمة لأنه حكم ثابت بالدليل مع عدم وجود المعارض الراجح إلا أنه إذا قام المعارض في الراجح من وجود وصف السفر وجدت المشقة بسبب المرض أو لوجود المطر الذي يبل الثياب ويحصل معه الأذى بالخروج فيه ، فإن الحكم ينقلب هنا من كونه عزيمة إلى كونه رخصة ، فإذا انعدم هذا المعارض صار الحكم عزيمة وهو صلاة كل فرض في وقته ، وإذا وجد هذا المعارض الراجح صار الحكم رخصة وهو جواز الجمع بين الظهرين والعشائين في وقت أحداهما على ما هو الأرفق بالحال .
ومثال رابع : إن القيام في الفريضة من العزائم التي لا يجوز الإخلال بها لحديث (( صل قائماً )) فهذا هو الأصل وهو العزيمة لأن القيام في الفرض حكم ثبت بالدليل الشرعي وخلا عن المعارض الراجح ، لكن إذا كان الإنسان عاجزاً عن القيام لعذر من الأعذار فقد وجد المعارض الراجح فينقلب الحكم مع وجود هذا المعارض وهو وجود وصف العجز ، من كونه عزيمة إلى كونه رخصة فيجوز له الصلاة قاعداً لحديث (( فإن لم تستطع فقاعداً )) فإذا انعدم هذا المعارض الراجح صار الحكم عزيمة وهو وجوب القيام في الفرض ، وإذا وجد هذا المعارض الراجح صار الحكم رخصة وهو جواز الصلاة جالساً .
ومثال خامس : وهو رمي جمرة العقبة للأقوياء بعد طلوع الشمس من يوم النحر فإن هذا الحكم من العزائم لأنه حكم ثبت بالدليل وهو خال عن المعارض الراجح ، لكن إذا وجد المعارض كالضعيف والعجز والمرض وخوف الهلاك ونحو ذلك فإن الحكم ينقلب من كونه عزيمة في حق من قام به المعارض الراجح إلى كونه رخصة فيجوز له الرمي بالليل أي بعد نصف الليل من ليلة النحر ، فإذا انعدم المعارض فإن الحكم يكون عزيمة وهو أن لا ترمي إلا بعد طلوع الشمس ، وإذا وجد المعارض فإن الحكم يكون عزيمة وهو جواز الرمي ليلاً والله أعلم .(1/54)
ومثال سادس : الصوم عزيمة في شهر رمضان فلا يجوز الإفطار بحال ، فإتمام الصوم في رمضان من العزائم لأنه حكم ثبت بالدليل أعني قوله (( ثم أتموا الصيام إلى الليل )) وخلا عن المعارض الراجح لكن متى ما وجد المعارض الراجح من مرض يشق معه الصوم أو دخل الإنسان في وصف المسافر فإن الحكم ينقلب في حقه من كونه عزيمة إلى كونه رخصة ، فيجوز له الإفطار بالدليل الشرعي فإذا انعدم المعارض فإتمام الصوم عزيمة وإذا وجد المعارض الراجح فالفطر رخصة .
ومثال سابع : وهو أن التطهر بالماء عند وجود الحدث وإرادة الصلاة من العزائم لحديث (( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )) ولقوله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وإيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين )) فهذا هو الأصل وهو من العزائم ، لكن إذا وجد المعارض الراجح وهو وجود الضرر باستعمال الماء إما لبرد شديد يخاف الضرر باستعمال الماء معه ، وإما باحتراق محل الغسل بحيث يتضرر المحل إذا غسل بالماء ، فإن الحكم في هذه الحالة ينقلب من كونه عزيمة إلى كونه رخصة ، فيجوز له من باب التخفيف والتيسير والترخص أن يعدل عن العزيمة الذي هو استعمال الماء إلى الرخصة التي هي التيمم وعلى ذلك حديث عمرو بن العاص لما أجنب وصلى بأصحابه بعدما تيمم ، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا انعدم المعارض الراجح فالحكم عزيمة وهي وجوب استعمال الماء وإذا وجد المعارض الراجح فالحكم رخصة جواز التيمم والله أعلم .(1/55)
مثال ثامن : وهو أنه لا يجوز دفن اثنين في قبر واحد ، بل الذي عليه عمل المسلمين سلفاً وخلفاً هو تخصيص كل ميت بقبر واحد وهذا من العزائم التي لا يجوز الإخلال بها ، لكن إذا وجد المعارض الراجح وهو كثرة الموتى وقلة من يدفنهم مع خوف الفساد عليهم فإنه يجوز وحينئذ دفن اثنين وأكثر في القبر الواحد وهذا رخصة لوجود المعارض الراجح ، فإذا انعدم المعارض الراجح فالحكم عزيمة وهو تخصيص كل ميت بقبر خاص لا يشاركه فيه غيره وإذا وجد المعارض الراجح فالحكم رخصة وهي جواز دفن اثنين أو أكثر في القبر الواحد وعلى ذلك حديث جابر في شهداء أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد ويسأل أيهم أكثر أخذاً للقرآن فيقدمه في اللحد .(1/56)
ومثال تاسع : وهو أن الأصل عدم ذكر المسلم بالسوء لأنه من الغيبة ، والأدلة المحرمة للغيبة كثيرة قال تعالى (( ولا يغتب بعضكم بعضاً )) وغير ذلك ، لكن إذا وجد المعارض الراجح كالنصح للمسلمين ولا يتأتى ذلك إلا بذكر الاسم أو الوصف المعين فإنه يجوز من ذلك ما يحصل به اندفاع الضرر وذلك كالمتظلم عند السلطان أو عند من يقدر استخراج حقه لقوله تعالى (( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم )) وكالمعرف للشخص بالوصف الذي لا يعرف إلا به ، كما هو حاصل عند بعض المحدثين ، لا سيما إذا كان يؤدي عدم التعريف به إلى الضرر ، وكالمحذر من شخص بعينه إذا لم يتم الحذر منه إلا بذكر اسمه ، وعلى ذلك جرى عمل أئمة الحديث فإنهم يحذرون من الوضاعين والضعفاء بأسمائهم من باب التحذير من مروياتهم وبيان حالهم وكمن أراد الاستفتاء عن حال شخص معين فللمفتي أن يجيبه على عين سؤاله وفي الحديث (( أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو الجهم فإنه لا يضع العصا عن عاتقه )) ويدخل في ذلك التحذير من المبتدعة بأسمائهم ومن كتبهم بأعيانها ولا كرامة لهم والمقصود أن هذا المعارض الراجح قلب الحكم من التحريم إلى الجواز لكن ليس الجواز المطلق وإنما هو الجواز المقيد بما يندفع به الضرر والله أعلم .(1/57)
ومثال عاشر : وهو أن تعلم أن الأصل والعزيمة عدم جواز استعمال الذهب للرجال فلا يجوز للرجل استعمال الذهب لكن إذا وجد المعارض الراجح جاز ذلك بقدر الضرورة كمن قطع أنفه مثلاً فيجوز له اتخاذ أنف من الذهب لأنه ضرورة وهو لا ينتن وعلى ذلك حديث عرفجة وكذلك شد الأسنان بالذهب فإنه جائز ، فإذا انعدم المعارض الراجح وهو وجود الحاجة المنزلة منزلة الضرورة فالحكم عزيمة وهو حرمة الاستعمال ، وإذا وجد المعارض الراجح فالحكم رخصة ، وهو جواز استعمال ما تندفع به هذه الحاجة ، ولعل هذه الأمثلة كافية في فهم العزيمة ، فالعزيمة هي الحكم الذي ثبت بالدليل الشرعي إذا كان خالياً عن المعارض الراجح ، وبتعريف العزيمة تعرف الرخصة ، ونقول في تعريفها ( الحكم الثابت بالدليل الشرعي على خلاف دليل الأصل لمعارض راجح ) وبه تعلم أن العزيمة والرخصة كلاهما حكم ثبت بالدليل الشرعي إلا أن العزيمة حكم شرعي خال من المعارض الراجح ، والرخصة حكم شرعي سبب تقريره ووجود المعارض الراجح أي أن دليل العزيمة قرر أولاً ، ودليل الرخصة قرر ثانياً ، وأن دليل العزيمة لم ينظر فيه إلى القرائن المصاحبة لحالة المكلف وأما دليل الرخصة فقد نظر فيه إلى القرائن المصاحبة لحال المكلف وأن التيسير الحاصل في دليل الرخصة أوسع من التيسير الحاصل في دليل العزيمة فكلاهما - أي العزيمة والرخصة - فيهما تيسير إلا أن تيسير الرخصة أوسع من تيسير العزيمة . والله أعلم .
س 87/ ما أقسام الرخصة مع التمثيل عليها ؟(1/58)
ج: أقول : تنقسم الرخصة إلى ثلاثة أقسام : الأول الرخصة الواجبة . الثانية : الرخصة المستحبة . الثالثة : الرخصة المباحة . واختار هذا التقسيم أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى ، واعتمده في كثير من الفتاوى فالرخصة الواجبة هي التي يجب الأخذ بها ولا يجوز تركها والرخصة المستحبة هي التي يندب الأخذ بها مع جواز الترك لكن يكون تركها في هذه الحالة من المكروهات الشرعية والرخصة المباحة هي الرخصة التي يحل للمكلف أن يأخذ بها ويحل له تركها ، ونضرب لك أمثلة على الأنواع الثلاثة في مختلف الأبواب ، فأرجو منك أن لا تستطيل التفريع لأننا قصدنا به زيادة في الإيضاح ورغبة منا في تسهيل المسألة عليك . فأقول وبالله التوفيق ومنه استمد الفضل والعون وحسن التحقيق :(1/59)
منها : التيمم عند عدم الماء عدماً حقيقياً ، فقد أمر الله تعالى بالانتقال عند عدم وجود الماء إلى التيمم لقوله: (( فلم تجدوا ماءً فتيمموا )) وهذه رخصة إلا أنها واجبة أي يجب على من عدم الماء عدماً حقيقياً أن ينتقل إلى التيمم ولا يجوز له ترك هذه الرخصة لأن الصلاة من شرطها الطهارة إما بالماء عند وجوده وإما بالتيمم عند عدم الماء ، فهو - أي التيمم - أحد الطهورين ، فلا تصح الصلاة إلا به عند عدم الماء ،فصار الأخذ به واجباً ولأن الله تعالى قال : (( فتيمموا )) وهذا أمر والأمر يفيد الوجوب إلا لصارف ولا صارف نعلمه في هذه المسألة ، فبان بذلك أنه رخصة الانتقال إلى التراب عند عدم وجود الماء من الواجبات المتحتمات ، فالتيمم عند عدم الماء رخصة واجبة قال أبو داود في سننه : حدثنا محمد بن أحمد بن أبي خلف ، ومحمد بن يحيى النيسابوري في آخرين قالوا : حدثنا يعقوب قال : أخبرني أبي عن صالح عن ابن شهاب قال حدثني عبيدالله ابن عبدالله عن ابن عباس عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس بأولات الجيش ومعه عائشة فانقطع عقد لها من جزع ظفار ، فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر ، ليس مع الناس ماء ، فتغيظ عليها أبو بكر وقال : حبست الناس وليس معهم ماء فأنزل الله تعالى ذكره على رسوله صلى الله عليه وسلم رخصته التطهر بالصعيد الطيب فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم إلى الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئاً فمسحوا بها أيديهم ووجوههم ... الحديث )) وصححه الألباني رحمه الله تعالى وعن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته فإن ذلك خير )) حديث صحيح والله أعلم .(1/60)
ومنها : التيمم مع وجود الماء لخشية البرد أو لوجود حروق في جسده يتأذى بها مع استعمال الماء فإن ذلك رخصة لكن هي رخصة مستحبة مندوبة وليست واجبة بحيث لو احتمل البرد واستعمل الماء أو استحمل الألم واستعمل الماء فلا يكون بذلك قد خالف واجباً ، فاستعمال التيمم مع وجود الماء لخشية التأذي ببرد ونحوه من الرخص المندوبة المستحبة ، قال أبو داود في سننه : حدثنا ابن المثنى قال أخبرنا وهب بن جرير قال : أخبرنا أبي قال سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن زيد ابن أبي حبيب عن عمران بن أبي أويس عن عبدالرحمن ابن جبير المصري عن عمرو بن العاص قال : احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : (( يا عمرو ، صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ )) فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً )) فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً )) وهو حديث صحيح وعلقه البخاري جازماً به ، وبناءً عليه فالمتيمم لا يخلو من حالتين : إما أن يكون تيممه عن عدم حقيقي فرخصة التيمم في هذه الحالة من الواجبات والعزائم ، وإما أن يكون تيممه عن خوف من برد أو ضرر ونحوه فرخصة التيمم في هذه الحالة من المندوبات المستحبات وهذا واضح والله أعلم .(1/61)
ومنها : المسح على الخفين فإنها رخصة باتفاق أهل العلم في الصحيحين من حديث المغيرة أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر قال : فأهويت لأنزع خفيه فقال : (( دعهما فإني أدخلتها طاهرتين فمسح عليهما )) ولمسلم من حديث بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم (( مسح على الخفين والخمار )) وللبخاري من حديث عمرو بن أمية الضمري قال : (( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين )) وفي الصحيحين عن همام قال رأيت جرير بن عبدالله بال ثم توضأ ومسح على خفيه ثم قال إلى الصلاة فسألته فقال : (( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل هذا )) وإسلام جرير كان بعد نزول المائدة ، ولمسلم عن علي رضي الله عنه قال : (( جعل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوماً وليلة للمقيم )) يعني في المسح على الخفين وفي الحديث رخص النبي صلى الله عليه وسلم للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوما وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما .فقد سماه رخصة والأدلة على ذلك كثيرة ولكن هل هو من الرخصة الواجبة أم من الرخصة المستحبة ؟ كأني بك تقول : هو من الرخصة المستحبة المندوبة ، وهذا هو الجواب الصحيح ، فليس المسح على الخفين من الواجبات المتحتمات بل هو من الرخص المستحبات والله أعلم .(1/62)
ومنها : المسح على العمامة هو من رخص الشريعة السمحة اليسيرة زادها الله شرفاً ورفعة ففي حديث عمرو بن أمية الضمري (( أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته )) رواه البخاري وفي حديث بلال السابق ، أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والخمار أي العمامة ولمسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين . وقال أبو داود في سننه : حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل قال حدثنا يحيى بن سعيد عن ثور بن يزيد عن راشد بن سعد عن ثوبان رضي الله عنه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين, والعصائب هي العمائم والتساخين هي الخفاف. وهو حديث صحيح ، فثبت بذلك أن المسح على العمامة رخصة ولكن هل هو من الرخص الواجبة أو من المستحبة ؟ الجواب بل هو من الرخص المستحبة المندوبة ، فالمسح على العمامة رخصته مستحبة والله تعالى أعلى وأعلم .
ومنها : المسح على خمر النساء ، فإنه من الرخص ، فيجوز للمرأة أن تمسح على خمارها الذي على رأسها لا سيما إذا كان مشدوداً ويشق نزعه وقد كانت أم سلمة تمسح على خمارها والقياس على جواز المسح على العمامة بجامع مشقة النزع المتكرر في كلٍّ والمسح على خمر النساء من الرخص المستحبة المندوبة كما قلنا في المسح على العمامة في حق الرجل والله أعلم .(1/63)
ومنها : لقد قرر الفقهاء رحمهم الله تعالى أن من حدثه دائم فإنه يغسل فرجه ويتحفظ بخرقه أو قطنه ونحوها ويتوضأ لكل وقت صلاة مفروضة ويصلي ولا يضر خروج حدثه بعد ذلك أي أنه ما دام في الوقت فإنه لا يلزمه أن يعيد الوضوء إذا خرج حدثه وهذا من الرخص فحدثه هذا لا حكم له شرعاً أي أن وجوده كعدمه وذلك لمشقة التحرز منه ولأن المتقرر في القواعد أن المشقة تجلب التيسير وللقياس على المستحاضة بجامع تكرار خروج الحدث في كل ، وهذه الرخصة من الرخص المستحبة المندوبة فلا ينبغي أن يكلف صاحب الحدث الدائم نفسه أن يتوضأ كلما خرج حدثه لأن ذلك سيشق عليه ولعموم قوله تعالى : (( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )) ولأن من أصول الشريعة رفع الحرج عن المكلفين والله أعلم .
ومنها : التخفيف في غسل المذي ، فإن المذي إذا أصاب الثوب فإن الواجب فيه النضح فقط وهذه رخصة مندوبة أي أن الغسل والحك والفرك والقرص ليس بلازم لكن لو فعله الإنسان فلا حرج عليه إلا أن العمل بالرخصة أولى وأحب إلى الله تعالى ففي حديث سهل بن حنيف مرفوعاً (( إنما يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء فتنضح به حتى ترى أنه قد أصاب منه )) حديث صحيح مع أن المذي من النجاسات بالاتفاق لكن قد خفف الشارع في تطهيره رحمة منه وإحسانا وترخيصاً لعباده وتوسعة عليهم والله أعلم .(1/64)
ومنها:- التخفيف في غسل بول الطفل الرضيع الذي لم يأكل الطعام ، فإن الدليل قد أثبت فيه التخفيف ففي الصحيحين من حديث أم قيس بنت محصن الأسدية أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه رسول الله صلى الله علية وسلم في حجره فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه عليه ولم يغسله وعن أبي السمح رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام )) حديث صحيح فهذا التخفيف من الرخص المندوبة فلا ينبغي التنطع في غسل بول الغلام الرضيع الذي لم يأكل الطعام بل الأخذ بالرخصة أحسن وأحب إلى الله تعالى فإن الله تعالى يحب أن يأخذ المكلفون بما رخص لهم فيه وخفف عليهم به فالحمد لله على نعمه العظيمة التي لا تعد ولا تحصى والله أعلم.
ومنها:- الصلوات بوضوء واحد فإنه رخصة ألا أنها رخصة مباحة فعن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد ومسح على خفيه فقال له عمر يا رسول الله لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه فقال (( عمداَ صنعته يا عمر )) رواه مسلم فهذا ترخيص من الشارع بهذا الأمر لكن الوضوء لكل صلاة أفضل وأحسن لأن هذا هو الغالب من حاله صلى الله عليه وسلم فأداء الصلوات المتعددة من وضوء واحد من رخص الشريعة المباحة الجائزة لكن الوضوء لكل صلاة أكمل وأحسن وأتم والله أعلم .(1/65)
ومنها:- نوم الجنب من غير أن يمس ماء فإن ذلك من الرخص المباحة ، فيجوز من باب الترخيص أن ينام الجنب من غير وضوء ولا غسل ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يجنب ثم ينام ولا يمس ماء حتى يقوم بعد ذلك فيغتسل )) حديث صحيح رواه أبو داود وابن ماجه واللفظ له وفي لفظ له (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانت له إلى أهله حاجة قضاها ثم ينام كهيئته لا يمس ماء)) حديث صحيح ، فنوم الجنب من غير أن يمس ماء من الرخص المباحة إلا أن الأكمل من ذلك أن يتوضأ وضوءه للصلاة لما في الصحيح من حديث ابن عمر أن عمر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال ((نعم إذا توضأ)) وفي الصحيحين أيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان جنباً فأراد أن يأكل أو ينام غسل فرجه وتوضأ للصلاة, وقال ابن ماجه في سننه:- حدثنا أبو مروان العثماني محمد بن عثمان قال حدثنا عبد العزيز بن محمد عن يزيد ابن عبد الله بن الهاد عن عبد الله بن خباب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه كان تصيبه الجنابة من الليل فيريد أن ينام فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ )) حديث صحيح ، وهذا الأمر مصروف عن الوجوب إلى الاستحباب لما تقدم من الأحاديث في أول الفرع ، والأكمل له من الوضوء أن يغتسل لينام على طهر كامل ، والمقصود أن من رخص الشريعة المباحة نوم الجنب من غير أن يمس ماءً والله أعلم.(1/66)
ومنها:- الصلاة في الرحال في الليلة المطيرة ، فإنها من رخص الشريعة التي يستحب إحياؤها والأخذ بها فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته ، فالصلاة في الرحال أي البيوت في الليلة ذات المطر الذي يحصل الأذى بالخروج فيه من رخص الشريعة المندوبه قال ابن ماجه في سننه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المليح قال:- خرجت في ليلة مطيرة فلما رجعت استفتحت فقال أبي من هذا؟ قال:- أبو المليح ، فقال:- لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وأصابتنا سماء لم تبل أسافل نعالنا فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم (( صلوا في رحالكم )) حديث صحيح ورواه أبو داود أيضاً. وفي الصحيح من حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي مناديه في الليلة المطيرة أو الليلة الباردة ذات الريح (( صلوا في رحالكم )) وفي الصحيح أيضاً أن ابن عباس أمر المؤذن يوم الجمعة وذلك في يوم مطير فقال:- الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ثم قال:- ناد في الناس فليصلوا في بيوتهم فقال له الناس ما هذا الذي صنعت ؟ قال: قد فعل هذا من هو خير مني تأمرني أن أخرج الناس من بيوتهم فيأتوني يدوسون الطين إلى ركبهم )) وهذا لفظ ابن ماجه . فهذه الأدلة تفيد أن ذلك من الرخص لكن ليس من الرخص الواجبة والعزائم اللازمة بل من الرخص المستحبة والله أعلم .(1/67)
ومنها:- مسح الحصى عن موضع السجود مرة واحدة فإن الأصل في هذا المسح المنع لكن رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة فقط وهذا من الرخص المباحة ، لا الواجبة ولا المندوبة ففي الصحيح عن معيقيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسح الحصى في الصلاة ((إن كنت فاعلاً فمرة واحدة)) وقلت إن الأصل المنع لحديث أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يمسح الحصى)) رواه أبو داود وابن ماجه بسند فيه مقال ، فمسح الحصى عن موضع السجود مرخص فيه مرة واحدة فقط والله تعالى أعلى وأعلم .
ومنها:- السجود على الثوب من شدة الحر فإن ذلك من الرخص الشرعية المباحة ، ففي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه قال:- كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإذا لم يقدر أحدنا أن يمكن جبهته ، بسط ثوبه فسجد عليه )) وأنت خبير بأن الأصل هو مباشرة الجبهة لموضع السجود بلا حائل لكن هذا من رخص الشريعة المباحة من باب التخفيف وحفظ الخشوع ويقاس على هذا ما إذا كانت رائحة سجاد المسجد قبيحة بسبب تعفنها بالماء ونحو ذلك فيرخص للمصلي حينئذ أن يسجد على طرف كمه أو غترته ونحو ذلك حفاظاً على خشوعه والله أعلم.(1/68)
ومنها:- قصر الصلاة في السفر فإنه من رخص الشريعة بالاتفاق ولكن هل هو من الرخص الواجبة أم من الرخص المستحبة؟ فيه خلاف فمن قال بوجوبه فهو عنده من الرخص الواجبة ومن قال باستحبابه فهو عنده من الرخص المستحبة والراجح عندنا إن شاء الله تعالى أنه من الرخص المستحبة المتأكدة التي تقرب من الوجوب ، فعن عمر رضي الله عنه قال:- صلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان وصلاة العيد ركعتان تمام من غير قصر على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم )) حديث صحيح ، وروى مسلم وغيره أن يعلى بن أمية قال لعمر:- أرأيت قوله تعالى (( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا )) فقد أمن الناس؟ فقال:- عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال ((صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)) وعن أنسٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعاً وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين. متفق عليه ، وعنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلى ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة قيل له:- أقمتم بمكة شيئاً؟ قال:- (( أقمنا بها عشرة أيام )) متفق عليه ، وعن حفص بن عاصم قال صحبت ابن عمر في طريق مكة فصلى لنا الظهر ركعتين ثم جاء رحله وجلس فرآى ناساً قياماً فقال:- ما يصنع هؤلاء؟ قلت:- يسبحون - أي يتنفلون - فقال:- لو كنت مسبحاً أتممت صلاتي ، صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين أبا بكر وعمر وعثمان كذلك )) متفق عليه ، فقصر الصلاة في السفر من رخص الشريعة المستحبة استحباباً مؤكداً جداً ، والله أعلى وأعلم .(1/69)
ومنها:- الجمع بين العشائين أو الظهرين في وقت إحداهما إذا وجد المسوغ الشرعي ، فإن باب الجمع كله مبني على أنه رخصة ولذلك قال أهل العلم ( الجمع رخصة عارضة لرفع الحرج ) فإذا تحقق الحرج جاز الجمع وهذا من الرخص المباحة لكن إذا اشتد الحرج وزاد الضيق فيكون من الرخص المستحبة التي يحب الله تعالى الأخذ بها ، وذلك كجمع المريض والمستحاضة ونحوها وكجمع المسافر إذا جَدَّ به السير وكان الجمع أرفق بحاله ، وكالجمع بين العشائين والظهرين لعذر المطر إذا حصل به الأذى وكالجمع في عرفة تقديماً للتفرغ للدعاء وعدم الإشتغال بغيره ، وكالجمع في مزدلفة تأخيراً بسبب الاشتغال بمعالجة الازدحام في السير من عرفة إلى مزدلفة ، وهكذا فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير ويجمع بين المغرب والعشاء )) رواه البخاري ، وروى مسلم في صحيحه وأبو داود في سننه واللفظ له من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال ((صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً من غير خوف ولا مطر فقيل لابن عباس:- ما أراد إلى ذلك؟ قال:- أراد أن لا يحرج أمته)) أي أراد بذلك أن يرفع الحرج عنهم وعن حمنة بنت جحش رضي الله عنها قالت:- كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستفتيه فقال:- سآمرك بأمرين أيهما فعلت أجزء عنك من الآخر وإن قويت عليهما فأنت أعلم ، إنما هذه ركضة من الشيطان ، فتحيض ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله تعالى ذكره ، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي ثلاثاً وعشرين ليلة ، أو أربعاً وعشرين ليلة وأيامها وصومي فإن ذلك يجزئك وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن ، ميقات حيضهن وطهرهن وإن قويت على أن تؤخر الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين الظهر والعصر ، وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء تم(1/70)
تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي ، وتغتسلين مع الفجر فافعلي وصومي إن قدرتي على ذلك وذلك أعجب الأمرين إلي )) رواه أبو داود وغيره وهو حديث صحيح .
ومنها:- سقوط الجمعة عمن حضر العيد إذا اجتمعا في يوم ، فإن من حضر العيد وصلاها مع الإمام يرخص له في ترك الجمعة ، وهذه رخصة مباحة ، إلا أن الإمام ينبغي له أن يقيم الجمعة لمن أراد أن يصليها معه ولمن لم يصل العيد ، برهان ذلك ما رواه أحمد وأصحاب السنن من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (( العيد أول النهار ، ثم رخص في الجمعة فقال ((من شاء أن يجمع فليجمع)) قال أبو العباس بن تيمية:- ( إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد ، فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال ، الصحيح منها أن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة لكن على الإمام أن يقيمها ليشهدها من شاء شهودها ، ويشهدها أيضاً من لم يشهد العيد ، وهذا هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو قول من بلغه الحديث من الأئمة كأحمد وغيره ، وإنما الذين خالفوهم فلم يبلغهم ما في ذلك من السنن والآثار ثم إن من لم يحضرها فعليه أن يصلي الظهر في وقت الظهر ) إنتهى كلامه وهذا الفرع يدخل تحت الرخصة المباحة ، فإن شاء صلى الجمعة وإن شاء ترك الصلاة ، لكن تجب عليه الظهر في وقتها ، والله أعلم .
ومنها:- دفن اثنين وأكثر في قبر واحد إذا كثر الموتى وقل من يدفنهم وخيف عليهم الفساد فإن ذلك رخصة ، وهي من الرخص المباحة ، فالأصل أن لا يدفن في القبر إلا واحد لكن رخص الشارع دفن اثنين أو أكثر عند الضرورة ، برهان ذلك ما رواه البخاري عن جابر في شهداء أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفن الاثنين والثلاثة في قبر واحد ويقول أيهم أكثر أخذاً للقرآن فيقدمه في اللحد )) فالحمد لله تعالى على هذه التوسعة والتيسير والله أعلم .(1/71)
ومنها:- الفطر في رمضان للمسافر وللمريض الذي يشق عليه الصيام فإن ذلك رخصة ، والأصل أنها رخصة مباحة ، لكن قد تكون مندوبة وقد تكون واجبة على حسب حال المسافر والمريض ومشقة الصيام عليه وبرهان ذلك:- حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصام حتى بلغ عسفان ثم دعا بماءٍ فرفعه إلى يديه ليريه الناس فأفطر حتى قدم مكة وذلك في رمضان فكان ابن عباس يقول قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر ، فمن شاء صام ومن شاء أفطر )) متفق عليه ، وعن أنس رضي الله عنه قال كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. متفق عليه ، ومع المشقة فالمستحب الأخذ بهذه الرخصة أي تترقى من كونها رخصة مباحة إلى كونها رخصة مستحبة لحديث (( ليس من البر الصوم في السفر )) وحديث (( ذهب المفطرون اليوم بالأجر )) وحديث (( أولئك العصاة ، أولئك العصاة )) وإلا فالأصل أنها رخصة مباحة لحديث حمزة بن عمرو الأسلمي مرفوعاً (( إن شئت فصم وإن شئت فأفطر )) وحديث (( هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه )) .
ومنها:- جواز الاشتراط عند الإهلال بالإحرام في حج أو عمرة لمن خاف مانعاً ، فإن الأصل عدم الاشتراط لكن رخص الشارع لمن خاف مانعاً من عدو أو مرض أن يقول:- وإن محلي حيث حبستني إذا حبسني حابس لحديث عائشة رضي الله عنها قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بن الزبير فقال لها:- (( لعلك أردت الحج )) قالت:- والله لا أجدني إلا وجعة فقال لها (( حجي واشترطي قولي:- اللهم محلي حيث حبستني )) وكانت تحت المقداد بن الأسود. متفق عليه ، وهذا الاشتراط ليس رخصة في حق كل أحد إنما هو حق لم خاف المانع فقط واختاره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وهو من الرخص المباحة .(1/72)
ومنها:- الأصل أن المحرم ممنوع من لبس السراويل والخفاف إلا أن الشريعة رخصت في حق من لم يجد الإزار أن يلبس السراويل ومن لم يجد نعلين أن يلبس الخفين ، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات (( من لم يجد النعلين فليلبس الخفين ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل للمحرم. متفق عليه ، ولمسلم مثله من حديث جابر رضي الله عنه .
ومنها:- الأصل أن الحجاج لا يرمون جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس من يوم النحر ، إلا أن الشريعة رخصت من باب التخفيف للضعفة من الرجال والنساء والصغار أن يرموا من ليلة النحر بعد مغيب القمر لحديث سالم قال:- كان عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع فمنهم من يقدم منىً لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك ، فإذا قدموا رموا الجمرة وكان ابن عمر يقول (( أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم )) وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال ( أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله ) متفق عليه ، والله أعلم .(1/73)
ومنها:- أن المتقرر شرعاً حرمة اقتناء الكلاب ، إلا أن الشريعة رخصت في اقتنائها إذا كانت بقصد الاصطياد بها أو لحفظ الزرع أو الماشية ، وماعدا ذلك فلا يجوز اقتناؤه ، برهان ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من اقتنى كلباً فإنه ينقص كل يوم من عمله قيراط إلا كلب حرثٍ أو ماشية )) وفي لفظ (( أو صيد )) متفق عليه وقال عليه الصلاة والسلام (( من اقتنى كلباً لا يغني عنه زرعاً ولا ضرعاً نقص كل يوم من عمله قيراط )) متفق عليه (( وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (( من اقتنى كلباً إلا كلباً ضارياً لصيد أو كلب ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان )) وعن ابن المغفل قال (( أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم )) رواه مسلم ، وهذه الرخصة من الرخص المباحة ، والله أعلم .(1/74)
ومنها:- جواز العرايا ، فإن الأصل المتقرر شرعاً حرمة المزابنة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال:- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة ، أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلاً بتمر محيلاً وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً أو كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعام نهى عن ذلك كله )) متفق عليه ، والعرايا من المزابنة ، إلا أنه قد رخص فيها لحديث رافع بن خديج رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة ، بيع الثمر بالثمر ، إلا أصحاب العرايا فإنه أذن لهم )) متفق عليه ، وعن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التمر بالتمر ورخص في العرية أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطباً )) متفق عليه ، وفي الحديث مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة وعن الثنيا ورخص في العرايا )) رواه مسلم ، وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلاً )) متفق عليه ، ولكن شرط الرخصة إنما هي في مقدار خمسة أوسق فقط فلا يجوز فيما زاد على ذلك ، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:- رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيع العرايا بخرصها من التمر فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق )) وهذه من الرخص المباحة متفق عليه .
ومنها:- الأصل المتقرر شرعاً أنه لا يجوز للرجل أن يلبس الحرير للأدلة المانعة من ذلك ، إلا أن الشريعة رخصت لبسه من باب التداوي لمن به حكة أو قروح ولا يتم شفاؤها إلا بذلك ، وهذا من الرخص المباحة ، وبرهان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبدالرحمن بن عوف والزبير بن العوام في قميص الحرير من حكة كانت بهما )) متفق عليه ، والله أعلم .(1/75)
ومنها:- الأصل في رمي الجمرات أن يرمي الإنسان في الوقت المحدد له ، إلا أن الشريعة رخصت للقائمين على شئون البهائم أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً ، أي من رمى أيام التشريق ، وذلك لتحقيق المصلحة العامة ويقاس على ذلك من باب أولى من يهتم برعاية شؤون الآدميين كالجند المرابطين ورجال الإطفاء والأطباء ونحوهم فهؤلاء ومن في حكمهم يرخص لهم أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً ، فيرمون مثلاً اليوم الحادي عشر ، ويتركون رمي اليوم الثاني عشر ، ثم يرمون اليوم الثالث عشر لليومين جميعاً ، وبرهان ذلك:- حديث عاصم بن عدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوته يرمون يوم النحر ، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين ويرمون يوم النفر )) رواه أبو داود بسند صحيح ، وعن عدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاء أن يرموا يوماً ويدعون يوماً )) رواه أبو داود بسند جيد والله أعلم .
ومنها:- أن الأصل في المبيت بمنى واجب ، إلا أن الشريعة رخصت لأهل السقاية البيتوتة خارج منى ، ويقاس عليهم من باب أولى من يقوم على شؤون الحجاج ممن أوكل لهم ولي الأمر القيام بذلك إذا كانت ظروف عملهم تمنعهم من المبيت وتحتم عليهم المبيت خارج منى ، وهذه من الرخص المباحة ، وبرهان ذلك:- حديث ابن عمر في الصحيحين قال:- استأذن العباس رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له )) والله أعلم.(1/76)
ومنها:- الأصل أن الحائض لا تطوف بالبيت لحديث (( أفعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري )) متفق عليه ولحديث (( أحابستنا هي )) فقالوا:- (إنها قد أفاضت قال: فلتنفر إذاً ) متفق عليه ، إلا أن المرأة الآفاقية إذا حاضت أو نفست قبل طواف الإفاضة ولم تتمكن من الطواف ، وضاق الأمر عليها واضطر رفقتها للذهاب والرجوع إلى ديارهم ، وكانت ديارها بعيدة بحيث لا تستطيع الرجوع إلى مكة للطواف إذا طهرت ، فإن القول الصحيح في هذه المرأة أنها تتلجم جيداً وتطوف للإفاضة ، ويسقط عنها اشتراط الطهارة من الحدث الأكبر للضرورة والعجز ، وهذه رخصة قد دل عليها الدليل العام كقوله تعالى (( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها )) وقوله (( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )) وقوله (( ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به )) قال الله تعالى (( قد فعلت )) كما في صحيح مسلم ، ويدل عليها القواعد العامة أيضاً كقاعدة لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة وقاعدة:- الأصل في الشريعة رفع الحرج عن المكلفين وقاعدة:- كل أمر في تطبيقه عسر فإنه يصحب باليسر ، وقاعدة:- المشقة تجلب التيسير والمقصود أن طواف هذه المرأة من الرخص الشرعية واختار ذلك القول فحل الإسلام في زمانه وبعد زمانه أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى .(1/77)
ومنها:- الأصل المنع من الوصال ، أي أنه لا يجوز للصائم أن يواصل صوم يومين أو أكثر بلا فطر بينهما ، وهذا لا يجوز ، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم فقال رجل من المسلمين:- إنك تواصل يا رسول الله ، قال (( وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقين )) فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً ، ثم يوماً ثم رأوا الهلال فقال (( لو تأخر لزدتكم )) كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا )) متفق عليه وفي رواية لهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( إياكم والوصال )) قالها مرتين ، ولهما عن عائشة رضي الله عنها قالت نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمةً لهم )) فالأصل أن الوصال منهي عنه ، إلا أن الشارع رخص في الوصال إلى السحر فقط ، وهذه رخصة مباحة والترك أحسن لعموم حديث (( لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر )) والدليل على الترخيص في الوصال للسحر حديث أبي سعيد رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول (( لا تواصلوا فأيكم إذا أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر )) رواه البخاري ، والله أعلم.(1/78)
ومنها:- الأصل أن طواف الوداع واجب على كل حاج ذكراً كان أو أنثى إلا أنه من باب الترخيص والتخفيف لا يجب على الحائض فإذا أتمت المرأة مناسك حجها ولم يبق عليها إلا الطواف وحاضت فإنها تنفر إلى بلدها ولا شيء عليها رخصة ورحمة وتوسعة من الله عليها برهان ذلك حديث ((أحابستنا هي ؟)) قالوا:- إنها أفاضت قال (( فل تنفر إذاً )) قاله صلى الله عليه وسلم لما أخبروه أن صفية قد حاضت ، ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال (( أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض )) متفق عليه ، وفي رواية للبخاري ((رخص للحائض أن تنفر إذا حاضت)) وله عن طاووس بشأن الحائض إذا أفاضت قال:- سمعت ابن عمر يقول:- إنها لا تنفر ، ثم سمعته يقول بعد ، إن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهن )) .
ومنها:- الأصل حرمة الغيبة ، أي أنه لا يجوز شرعاً أن تذكر أخاك في حال غيبته بما يكره لقوله تعالى (( ولا يغتب بعضكم بعضا )) وحديث (( الغيبة ذكرك أخاك بما يكره )) قال:- يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول ، قال (( إذا كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته )) والأدلة على تحريمها كثيرة ، إلا أن أهل العلم رحمهم الله تعالى استثنوا من ذلك ست صور وهي ما ذكره الناظم بقوله:-(1/79)
وقد استفادوا استثناءها من النصوص العامة والخاصة فدليل استثناء المتظلم قوله تعالى (( لا يحب الله الجهر بالقول من السوء إلا من ظلم)) فإذا ظلمت في حقٍ من عرضٍ أو مالٍ فلك أن تتظلم عند من يقوى على رفع الظلامة عنك ولو أنك ذكرت اسم ظالمك فذلك ليس من الغيبة ، ومنه ما يكون عند القضاء من التظلم بذكر الأسماء ، ودليل استثناء المعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجل فقال (( إني تزوجت امرأة من الأنصار ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (( هل نظرت إليها؟ فإن في عيون الأنصار شيئاً ... الحديث )) فقوله هذا من باب التعريف لا من باب الغيبة ، وروى مسلم في صحيحه أن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها لما طلقها زوجها أبا عمرو ابن حفص البتة وانتهت عدتها تقدم لها معاوية بن أبي سفيان وأبو جهم ، فجاءت تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (( إما أبو جهمٍ فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له ، ولكن انكحي أسامة ... الحديث )) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وأما دليل استثناء المحذر فاتفاق المحدثين رحمهم الله تعالى على وجوب الكشف عن أحوال الرواة وبيان ضعيفهم وكذابهم وغير ذلك من أحوالهم ،واتفقوا على أن ذلك ليس من الغيبة بل هو من النصيحة الواجبة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، والمقصود أن هذه الصور الست مستثناة من عموم تحريم الغيبة .(1/80)
ومنها:- الأصل أن النظر إلى المرأة الأجنبية حرام قال تعالى (( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم )) إلا أن الشريعة رخصة للخاطب العازم الذي يغلب على ظنه إجابته ينظر إلى مخطوبته ولو بلا علمها وهذه رخصة مستحبة فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أنظرت إليها )) قال:- لا ، قال:- (( اذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً)) وعن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل )) قال:- فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها )) حديث صحيح .
ومنها:- الأصل أن النطق بكلمة الكفر محرم ومن نطق بها فإنه يثبت عليه مقتضاها بشرطه ، إلا أن الشريعة رخصت للمكره إكراهاً شديداً على النطق بها أي ينطق بها من باب الموافقة الظاهرية مع اشتراط اطمئنان القلب بالإيمان كما قال تعالى (( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم )) وهذه من الرخص المباحة .
ومنها:- الأكل من الميتة للمضطر فإنها رخصة واجبة ، فمن اضطر إلى الأكل من الميتة فترك ذلك فمات فقد أعان على نفسه ويخشى عليه أن يكون من أهل النار ، فالأكل من الميتة للمضطر واجب لا يجوز تركه لقوله تعالى ((فمن اضطر في مخمصة غير متجانفٍ لإثم فإن الله غفور رحيم)) وقال (( وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه )) والآيات في هذا المعنى كثيرة.(1/81)
ومنها:- الأصل حرمة استعمال الذهب للرجال ، إلا أنه رخص في أنف الذهب وفي شد الأسنان به ، واختاره شيخ الإسلام أبو العباس استدلالاً بحديث عرفجة رضي الله عنه وأن أنفه قطع يوم الكلاب فاتخذ أنفاً من ورق فأنتن ثم اتخذ بعده أنفاً من ذهب والحديث صحيح والله اعلم .
ومنها:- الأصل حرمة الخيلاء قال تعالى (( إن الله لا يحب كل مختال فخور )) وغير ذلك إلا أن الشارع رخص في الخيلاء في الحرب ، بل هي من الرخص المستحبة ، برهان ذلك ما رواه أبو داوود في سننه من حديث جابر بن عتيك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول (( من الغيرة ما يحبه الله ومنها ما يبغضه الله فأما التي يحبها الله فالغيرة في الريبة وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة ، وإن من الخيلاء ، ما يبغضه الله ، ومنها ما يحب الله ، فأما الخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل نفسه عند القتال واختياله عند الصدقة وأما التي يبغض الله فاختياله في البغي والفخر ) وسنده جيد. والله أعلم . ولعل هذا الفرع هو آخرها إن شاء الله تعالى فأسأله جل وعلا أن يبارك فيما نقول ونكتب وأن يعاملنا بعفوه ورحمته وأن يغفر لنا زللنا وتقصيرنا في العلم والعمل والدعوة وهو أعلى وأعلم .
س88/ ما الأسباب الداعية إلى الترخيص؟ مع بيان الأمثلة عليها؟
جـ/ أقول:- الأسباب الداعية إلى الترخيص كثيرة وهي كما يلي:-(1/82)
الأول:- الضرورة ، وهي حالة يبلغ فيها المكلف الهلاك أو يقاربه إذا لم يتناول الممنوع ، فإذا حصلت الضرورة وجب الترخيص ، كالترخيص في أكل المقدار الذي يندفع به الضرر من الميتة فإنه سببه الضرورة، وكالترخيص في دفع الغصة بالخمر إن لم يوجد إلا هو ، وكالترخيص في كشف العورة والنظر إليها ولمسها للتداوي وكالترخيص في قتل المعتدي الصائل على النفس والعرض والمال ، وكالترخيص في أكل طعام الغير إن لم يكن مضطراً هو إليه مع ضمانه وكالترخيص في النطق بكلمة الكفر حال الإكراه الشديد ، وكالترخيص في دفع الرشوة لمن أسلمت في دار الحرب إذا منعت من السفر لديار المسلمين إلا بهذا الدفع ، وكالترخيص في ذكر مثالب الخاطب إذا استشارك أهل الزوجة وغير ذلك من الأمثلة ، ولكن اعلم رحمك الله تعالى أن الضرورة تقدر بقدرها كما درسناه في قواعد الفقه ، ولا بد أن تكون الضرورة قائمة لا منتظرة ولا بد أن يجتهد المكلف في دفعها بغير المحرم فمتى كان قادراً على دفعها بالمباح فلا يجوز استباحة المحرم بحال ، فلا بد من مراعاة ذلك والله أعلم .(1/83)
السبب الثاني من أسباب الترخيص:- الحاجة ، وهي الحالة التي تعرض للمكلف لو لم تراعى لأفضت به إلى العسر والمشقة ، وهي أدنى من الضرورة فإن الضرورة ظرف قاهر يؤدي عدم مراعاته إلى فوات أحد الضرورات الخمس وهي النفس والدين والمال والعرض والعقل ، وأما الحاجة فإنه لا يتوقف على عدم مراعاتها ذهاب ذلك ، ولكنها توجب على صاحبها العسر والحرج والمشقة لو لم يرخص له ، فالحاجة العارضة من أسباب الترخيص عامة كانت أو خاصة كالترخيص في التداوي بلبس الحرير لمن به حكة ، وكالترخيص في أنف الذهب لمن قطع أنفه من الرجال وكالترخيص في العمليات الجراحية الحاجية وقد شرحناها في المسائل الطبية ، وكالترخيص في تضبيب الإناء بالفضة اليسيرة لسد ثلمة فيه ، وكالترخيص في تحلية آلة الحرب إغاظة للمشركين وكالترخيص في التبختر بين الصفين في الحرب لإدخال الرعب في قلوب الأعداء ، وكالترخيص في التصوير الفوتوغرافي للتعريف بالنفس أو لحاجة الوظيفة أو الدراسة ونحو ذلك وكالترخيص في الانتقال للتيمم مع وجود الماء في الليلة الشاتية مع خوف الضرر إذا لم يكن عنده ما يدفئ به الماء وكالترخيص في مباشرة الحرام للتخلص منه والقاعدة عندنا تقول:- مباشرة الحرام للتخلص منه جائزة ، وكالترخيص في النظر إلى المخطوبة وكالترخيص في النظر إلى المرأة في مجلس القضاء إذا احتيج إلى ذلك للتعرف على عينها ، وكالترخيص في كشف العورة للختان أعني إذا أسلم الرجل وهو كبير، فإن كشفها رخصة وسببها وجود الحاجة ، وكالترخيص في بيان عيب الضعفاء والمجروحين من الرواة ، وكالترخيص للمرضع أن تصلي في ثياب إرضاعها وكالترخيص للقصاب الصلاة في ثياب مهنته ، وكالترخيص للضعفة النفر من مزدلفة بليل ، وكالترخيص في الحركة الكثيرة لقتل الحية والعقرب في الصلاة لحديث (( اقتلوا الأسودين في الصلاة )) ، وكالترخيص في التخلف عن صلاة الجمعة والجماعة لمرافقة المريض المحتاج لذلك ، وكالترخيص في الإنفراد(1/84)
عن الإمام الذي طول الصلاة طولاً زائداً فاحشاً ، لحديث معاذ في الصحيحين وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الذي ترك معاذاً وانفرد عنه وأتم لنفسه وقد تقرر في الأصول أن إقراره صلى الله عليه وسلم دليل الجواز ، وكالترخيص للحجاج من الجند والمرابطين في البيتوتة خارج حدود منى من أجل المحافظة على المصلحة العامة ، وكالترخيص في تأخير إقامة الحد على من وجب عليه في دار الحرب حتى ترجع جيوشنا إلى دار الإسلام ، وكالترخيص في الجمع للمريض وكالترخيص في الفطر في رمضان للمريض الذي يشق عليه الصوم وكالترخيص له في الصلاة قاعداً أو مضطجعاً إذا شق عليه القيام أو القعود ، وكالترخيص في الصلاة وهو حامل النجاسة إذا لم يقدر على التخلص منها كالأنابيب التي تربط بعض المرضى ويمر فيها بولهم أو غائطهم فلهم الصلاة بها ولا حرج ، وكالترخيص في تزويج من أسلمت بلا ولي إذا لم يكن أهلها أو أقاربها مسلم ويكون وليها في هذه الحالة رئيس المركز الإسلامي في بلدها إن وجد ، وإلا فأحد الثقات من طلبة العلم في هذا البلد وكالترخيص في سفر المرأة بلا محرم إذا أسلمت في دار الحرب ولا محرم يصحبها ، أو كما إذا مات محرمها في السفر فيجوز لها السفر في هذه الحالة إتماماً أو عودة بلا محرم لأن ذلك من الحاجة ، وكالترخيص في قبول شهادة بعض الصبيان على بعض فيما لا يكون إلا بينهم في الغالب فإنه لو لم تقبل شهادة بعضهم على بعض في مثل هذه الأمور لضاعت الحقوق ، وكالترخيص في مناظرة أهل البدع فإن الأصل منعه لكن جاز للحاجة ، أعني لمن عنده علم بالمذهب الصحيح وقواعده وبالمذاهب الفاسدة وقواعدها ، والأمثلة لا تكاد تحصر ولو أطلقنا عنان القلم للتمثيل لتضاعف حجم الكتاب والمقصود الاختصار فلعل ذلك كافٍ في فهم ما نريده من أن الحاجة عامة كانت أو خاصة من أسباب الترخيص وهي السبب الثاني ، والله أعلم.(1/85)
الثالث:- السفر ، وهذا لا امتراء فيه فإن السفر تتعلق به عدة رخص ، كقصر الرباعية إلى ركعتين وكالترخيص في الجمع بين الظهرين أو العشائين في وقت إحداهما على ما هو الأرفق به وكالترخيص في ترك الجمعة والجماعة والعيدين ، وكالترخيص في جواز المسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليهن وكالترخيص في الفطر في رمضان وكالترخيص في التنفل على الدابة قبل أي وجهة توجهت وكل ذلك ثابتة بالأدلة وقد ذكرناها فيما مضى من الأسئلة ، بل ذكرناها في السؤال الذي قبل هذا فلا داعي للإعادة هنا والمهم أن تعرف أن من أسباب الترخيص ، السفر والله أعلم.(1/86)
الرابع:- المرض ، وهو عبارة عما يدخل على الجسم من اعتلال يفقده مألوف طبيعته واعتداله فيضعف عن القيام بالمطلوب منه وفروع الترخيص بالمرض كثيرة ، وكالترخيص في ترك الطهارة المائية إلى الطهارة الترابية عند العجز الحقيقي أو الحكمي ، وكالترخيص في المسح على الجبيرة وكالترخيص في الصلاة قاعداً إذا كان لايستطيع القيام لحديث عمران ، وكالترخيص في الجمع لحديث حمنة وكالترخيص في التخلف عن صلاة الجمعة والجماعة إذا كان ذلك يشق عليه وكالترخيص في الفطر في رمضان إذا كان ذلك أرفق بحاله ، وكالترخيص للانتقال للكفارة في الصوم للكبير الذي لا يطيق الصوم إذا كان عقله باقياً ، وكالترخيص في تأخير إقامة الحد إن كان قطعاً أو جلداً عن المريض إذا قرر الطبيب المسلم أن حالته المرضية لا تسمح بإقامة الحد عليه وكالترخيص في التداوي بالحرير لمن ينفعه ذلك كمن به حكة ، وكالترخيص في شد الأسنان بالذهب ، وكالترخيص في عظم الذهب لمن تهشم عظمه بحادث ونحوه وكالترخيص في حلق رأسه إن كان محرماً لكن لزوم الفدية لحديث كعب بن عجرة وكالترخيص في تغطية رأسه إن كان يتضرر بكشفه لكن مع الفدية ، وكالترخيص في إجراء ما قرره الأطباء من العمليات الجراحية وكالترخيص في التخلف عن الجهاد لقوله تعالى (( ولا على المريض حرج )) وكالترخيص في الإنابة في أصل الحج ، أو في الرمي إن كان المرض يعوقه عن ذلك ، وكالترخيص في ترك الوضوء لمن به حدث دائم عند تكرر خروج حدثه ، بل يكتفي بالوضوء في أول الوقت إلى آخره ولا يضره خروج حدثه ، والفروع كثيرة والمقصود أن تعرف أن المرض سبب من أسباب التخفيف وهو السبب الرابع.(1/87)
الخامس:- الإكراه وهو حمل الغير على أن يفعل مالا يرضى فعله ولا يختار مباشرته لو ترك ونفسه والأصل فيه قوله تعالى (( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان )) وقوله صلى الله عليه وسلم (( إن الله تعالى رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )) حديث حسن ، فالإكراه سبب في جواز الترخيص بالنطق بكلمة الكفر حال الإكراه الملجئ عليها مع اطمئنان قلبه بالإيمان ، والإكراه سبب من أسباب عدم وقوع طلاق المطلق إذا أكره عليه وقد رجحنا سابقاً فيما أظن أن من سُحِرَ ليطلق فهو إكراه وإكراه الولي لموليته على نكاح من لا تحب سبب من أسباب تخييرها في فسخ العقد ، والإكراه سبب من أسباب الترخيص بالنطق بكلمة الكذب إذا تعلق بذلك إنقاذ النفس المعصومة من الهلكة ، والإكراه سبب من أسباب سقوط كفارة الظهار إذا أكره الزوج عليه ، والإكراه سبب من أسباب سقوط كفارة الجماع في نهار رمضان عن الزوجة إذا كانت مكرهة عليه ، والإكراه سبب من أسباب سقوط كفارة اليمين إذا أكره الحالف على ترك ما خالفه أو فعل ما حلف على تركه ، أي إذا أكره الحالف على مخالفة مقتضى يمينه فإنه لا كفارة عليه ، والإكراه سبب من أسباب عدم فساد الصوم إذا أكره الصائم على تناول ما يفسد صومه ، والإكراه سبب لسقوط حد الزنا عمن أكرهت عليه بالقهر والضرب والأمثلة على ذلك كثيرة.(1/88)
السبب السادس:- الخطأ ، وهو ما يقابل العمد ، قال تعالى (( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم )) والخطأ مرفوع عن هذه الأمة المرحومة زادها الله شرفاً ورفعة كما قال تعالى (( ربنا لا توآخذنا إن نسينا أو أخطأنا )) قال الله (( قد فعلت )) كما في صحيح مسلم وغيره ، وفي الحديث السابق (( إن الله رفع عن أمتي الخطأ ... )) فيدخل تحت ذلك سقوط القصاص عمن قتل غيره خطأ ، فسبب هذا الإسقاط هو الخطأ وعليه الدية والكفارة فقط ، فالدية لتبرئة ذمته فيما بينه وبين أولياء المقتول ، والكفارة لتبرئة ذمته فيما بينه وبين ربه جل وعلا ، ومن فعل المحلوف على تركه مخطئاً فلا شيء عليه على القول الصحيح ، ومن اجتهد في معرفة جهة القبلة فأخطأ فلا شيء عليه ولو كان الوقت باقياً على القول الصحيح ، ومن نطق بكلمة الكفر خطأ فلا شيء عليه لحديث (( أخطأ من شدة الفرح )) ومن وطئ امرأة خطأً ظاناً أنها زوجته وكانت القرائن تحتمل ذلك فلا حد عليه ولا إثم ، لأنه مخطئ ، ومن شرب شيئاً يظنه مما يجوز شربه من أنواع العصيرات فيجده مسكراً فلا شيء عليه ولا حد ، لأنه مخطئ ، ومن أكل شاكاً في طلوع الفجر فإذا هو قد طلع فلا شيء عليه لأنه مخطئ ، ومن حلف على شيء مضى يظن صدقه في يمينه فيجد أنه على خلاف ذلك فلا شيء عليه ، فلا إثم ولا كفارة ، لأنه مخطئ ، وإذا وقف الناس في عرفة ظناً منهم أنه اليوم التاسع فبان أنه الثامن فلا شيء عليهم ووقوفهم صحيح بالاتفاق ، وإذا عرض على المفتي أو الحاكم مسألة فاجتهد فيها وأخطأ فلا شيء عليه ، لأنه مخطئ بل هو معذور ، وإذا أراد أن يقول لزوجته أنت طاهر فسبق على لسانه فقال أنت طالق فلا طلاق لأنه مخطئ والله أعلم.
السبب السابع الجهل:- وهو عدم العلم بالحكم الشرعي ، أي هو خلو النفس من العلم ، وسيأتي الكلام على تفاصيله في الكلام على مباحث التكليف ومسقطاتها إن شاء الله تعالى.(1/89)
السبب الثامن النسيان:- وهو انقطاع التفكير أي هو عزوب الشيء عن الذهن ، وسيأتي الكلام على تفاصيله إن شاء الله تعالى في الكلام على مسقطات التكليف بحول الله تعالى وقوته.
السبب التاسع:- العجز ، وقد تقرر بالاتفاق أنه لا واجب مع العجز ، فالعاجز عن الطهارة المائية يرخص له بالطهارة الترابية والعاجز عنهما يرخص له في أن يصلي على حسب حاله ، والعاجز عن ستر العورة يرخص له في أن يصلي على جنبه على حسب حاله بلا إعادة والعاجز عن القيام يصلي قاعداً والعاجز عن القعود يرخص له أن يصلي على حسب حاله والمريض يتطهر على حسب حاله وما يعجز عنه فإنه يسقط عنه ، ويصلي على حسب حاله وما يعجز عنه فإنه يسقط عنه وصاحب الحدث الدائم يرخص له في ترك الوضوء كل مرة ويكفيه الوضوء في أول الوقت فقط ، وجماع ذلك أن كل واجب عجزت عنه فلا يخلو فإن كان عجز عنه كله سقط كله وإن كان ما عجز عن بعضه فيسقط عنك ما تعجز عنه ، قال عليه الصلاة والسلام (( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )) والله أعلم.(1/90)
السبب العاشر:- المشقة ، وقد تقرر بالأدلة الكثيرة أن المشقة تجلب التيسير وأن كل فعلٍ فيه عسر فإنه يصحب باليسر ، فالماء الذي يتغير بما يشق صون الماء عنه لا يضره ذلك لوجود المشقة ويدخل تحتها كذلك قاعدة:- ( من حدثه دائم فإنه يتوضأ لوقت كل صلاة ويصلي ولا يضره خروج حدثه ) ويعض عن طين الشوارع في الأمطار ، فالخوض فيه لا يؤثر ولا ينبغي تكلف السؤال عن حاله ، والقول بطهارة روث وبول مأكول اللحم كالغنم والبقر والإبل ، والقول بطهارة الهرة وما دونها في الخلقة لمشقة التحرز منها ، وكتشريع رخص السفر وذلك لرفع المشقة وكجواز صلاة القصاب في ثياب مهنته لمشقة خلعها وإبدالها ، وكجواز صلاة المرضع في ثياب إرضاعها لمشقة خلعها وإبدالها ، وكجواز الجمع للمريض ، وجواز الجمع في مطر يبل الثياب ويحصل بالخروج فيه الأذى ، وكجواز قول المؤذن ((صلوا في الرحال )) في الليلة المطيرة وكجواز دفن اثنين أو أكثر في قبر واحد لكثرة الموتى وقلة من يدفنهم ، وكتطهير بول الغلام الرضيع بالرش فقط للمشقة وكذلك تطهير المذي بالرش فقط ، وكتطهير النعل بالمسح وكتطهير ذيل المرأة بالمرور على ما بعده فقط والأمثلة على ذلك كثيرة ، فهذه مجمل أسباب الترخيص.
س89/اذكر الضوابط الشرعية للأخذ بالرخص؟
ج/ أقول:- لقد قرر الأصوليون رفع الله منازلهم في الدنيا والآخرة أن للأخذ بالرخصة ضوابط لا بد مراعاتها لكل من يريد الأخذ بها وهي:-(1/91)
الضابط الأول:- ثبوت الدليل الشرعي بجواز الترخص بذلك الشيء إذ ليس لكل أحدٍ أن يترخص بما شاء من الأفعال ، بل لا بد من أن تكون هذه الرخصة التي يريد الأخذ بها نابعة من الدليل الشرعي الصحيح الصريح ، وذلك لأن الرخصة حكم شرعي وقد تقرر بالاتفاق أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ، ولحديث (( إن الله يحب أن تؤتى رخصه )) ووجه الدلالة أنه أضاف الرخصة إلى الله تعالى مما يفيد أنها لا تعرف إلا منه جل وعلا ، فأفاد ذلك أن العبد لا يستقل بمعرفة هذه الرخصة على وجه التفصيل بل لا بد لها من مستندٍ شرعي والله أعلم.
الضابط الثاني:- تحقق السبب المقتضي للترخيص ، وذلك لأن الرخصة حكم شرعي منوط بالسبب ، ولا تدخل في حيز التشريع إلا إذا حل سببها ، فلا تشرع رخص السفر إلا بتحقق مسمى السفر ، ولا تشرع رخص المرض إلا إذا تحقق مسمى المرض وكان داعياً لها ، ولا يجوز النطق بكلمة الكفر إلا إذا تحقق مسمى الإكراه وكان في صورته داعياً إلى النطق بها ، وهكذا في كثير من الفروع ، وبناء على اشتراط هذا الشرط فإذا كانت هذه الرخصة لها سبب لا تشرع إلا عنده فإنه لا يجوز الأخذ بها إلا إذا تحقق سببها والله أعلم.
الضابط الثالث:- أن يكون سبب الرخصة مقطوعاً به أو مما يغلب على الظن فلا يكون مشكوكاً فيه لأن الشك لا تناط به الأحكام الشرعية فإن قلت:- اضرب لنا أمثلة على ذلك ليتضح هذا الضابط؟ فأقول سمعاً وطاعة ودونك بعضها:-(1/92)
منها:- من الرخص جواز المسح على الخفين ، لكن هذه الرخصة معلقة بسبب وهو استيفاء شروط المسح وأن يكون في وقته المحدد شرعاً أي في يومٍ وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر فإذا شك المكلف في هذا السبب فإنه لا يجوز له المسح بل عليه أن يغسل قدميه عملاً بالأصل فإذا شك هل تمت المدة أم لا عليه الغسل فإذا شك هل المقيم إذا سافر يتم مسح مسافرٍ أولا؟ فعليه الغسل - أي غسل قدميه - وهكذا ، فإذا شك في السبب المرخص في المسح فإنه يعود إلى الأصل وهو وجوب غسل القدمين لأن الرخصة لا تناط بالشك.
ومنها:- من الرخص مشروعية القصر للمسافر ، لكن هذه الرخصة مناطة بسبب وهو السفر وبناء عليه فإن شك في هذه المسافة التي سيقطعها هل هي تسمى سفراً أولا؟ فإنه لا يترخص بالقصر بل يلزمه الإتمام ، وإذا شك هل المقيم إذا دخل عليه الوقت ثم سافر يقصر أم يتم؟ فإنه لا يقصر بل عليه الإتمام لأنه لا يزال شاكاً في سبب الترخيص ، والرخص لابد من الجزم بحصول أسبابها أو يغلب الظن بذلك ، وأما من لا يزال في دائرة الشك فإنه لا يترخص بها ، بل عليه الإتمام في هذه الحالة.
ومنها:- من الرخص جواز التيمم في شدة البرد وذلك فيما إذا علم أو غلب علي ظنه أنه سيتضرر إذا استعمل الماء ، فهنا يجوز له الترخيص بذلك ، وأما من لا يزال شاكاً لم يترجح عنده شيء فلا يدري هل سيتضرر أم لا فإنه لا يجوز له التيمم بل لابد من استعمال الماء حينئذٍ لأن المتقرر أن الرخص لا تناط بالشك.(1/93)
ومنها:- من رخص الحيض ترك الصلاة والصوم ، فالحائض تترك الصلاة والصوم ، إلا أن هذا الترك مناط بسبب وهو وجود الدم الذي يصلح أن يكون حيضاً وبناءً عليه فالسوائل والصفرة والكدرة المجردة عن الدم لا تجعل المرأة تترخص بهذا الترك ، لأن هذه الصفرة والكدرة لا تجزم المرأة جزماً أنها حيض ، بل لا تزال باقية في دائرة الشك ، والرخص لا تناط بالشك ، وبناءً عليه فلا تزال المرأة في الطهر حتى ينزل الدم الذي يصلح أن يكون حيضاً وأما هذه السوائل من الصفرة والكدرة فإنها لا يتعلق بها الحكم لأن الرخص لا تناط بالشك.
ومنها:- من الرخص الشرعية أن الخائف على نفسه أو على غيره يجوز له ترك الجماعة ، إلا أن هذا الخوف لا بد أن يكون معلوماً أو غالباً على الظن وأما خوف أهل الشكوك والوسوسة فإنه ملغىً لا تأثير له ، لأن خوفهم إنما مصدره الشكوك والأوهام والرخص الشرعية لا تناط بالشك والله أعلم.
ومنها:- من الرخص أيضاً جواز الفطر في رمضان للمريض ، إلا أن هذه الرخصة لا بد أن تناط بالمرض الذي يعلم صاحبه أو يغلب على ظنه بقول طبيب مسلم مشقة الصوم معه ، وأما الأمراض التي يشك صاحبها هل هي مما يسوغ الفطر أو لا؟ فالأصل إتمام الصوم وعدم الأخذ بالرخصة لأن المتقرر شرعاً أن الرخصة لا تناط بالشك.
ومنها:- من الرخص جواز النظر إلى الأجنبية إذا أراد أن يخطبها ، إلا أن هذه الرخصة منوطة بما إذا علم أو غلب على ظنه إجابتهم له وأما إذا كان الأمر عنده في دائرة الشك فإنه لا يجوز له الإقدام على هذه النظرة لأن هذه النظرة رخصة والرخصة لا تناط بالشك والله أعلم.(1/94)
ومنها:- من الرخص الشرعية جواز الاشتراط عند الإحرام بأحد النسكين إلا أن القول الصحيح أن هذه الرخصة ليست في حق كل أحد وإنما هي في حق من علم أو غلب على ظنه وجود المانع وأما إذا كان ذلك المانع في دائرة الشك لا يترجح فيه أحد الطرفين فإنه لا يسوغ له الأخذ بهذه الرخصة حينئذ لأن السبب غير معلوم ولا هو مما يغلب على الظن ، والرخص لا تناط بالشك هذا على القول الصحيح والذي اختاره شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى.
فهذه بعض الفروع الفقهية على هذا الضابط ، فإن قلت:- وما القاعدة الأصولية المتقررة في ذلك؟ فأقول:- القاعدة في هذه المسألة تقول ( الرخصة لا تناط بالشك ) والله أعلم ، فإذا توفرت هذه الضوابط الثلاثة فإنه يجوز الأخذ بالرخصة والله ربنا أعلى وأعلم.
س90/ ما المراد بتتبع الرخص؟ وما حكمه؟ مع بيان بعض المنقول عن أهل العلم في ذلك؟ مع قرن ذلك بالأمثلة التوضيحية؟(1/95)
جـ/ أقول:- هذا سؤال واسع ولكن لعلنا نختصر القول فيه ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون:- المراد بذلك هو أن يقلب المكلف في المذاهب ويبحث فيها عن الأشياء الجائزة فيها وهي ممنوعة عنده في مذهبه وإنما لأن هواه وشهوته تقتضي منه ذلك فهو لم يأخذ بهذه الرخصة المذهبية في غير مذهبه إلا اتباعاً للشهوة والهوى ، ثم إذا أراد الترخص بشيء آخر عاد فقلب في المذاهب تنقيباً عن أحد قال بجواز ما يريده هو فإذا وجد ذلك فرح به واعتمده واحتج به لا لأن الدليل يقتضي رجحان ذلك وإنما فرح به لأن شهوته وهواه يريدان منه ذلك ، فالمبدأ عنده هو إتباع الهوى لا متابعة الكتاب والسنة ، فصار همه إشباع هذه الرغبات أهواء النفس الأمارة بالسوء فقط لا متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهو يأخذ بما يقتضيه هواه لا بما يقتضيه النص ، والعياذ بالله ، وبناءً على ذلك فأقول تتبع الرخص هو ( الأخذ بشواذ الأقوال في المذهب مما لا يسنده نص لإشباع داعي الهوى والشهوة لا لاقتضاء النص ) فإذا علمت هذا فكأني بك قد علمت الحكم الشرعي في ذلك وهو المنع والتشديد في ذلك ، فلا يجوز تتبع هذه الأقوال الشاذة في المذاهب من أجل داعي الشهوة والهوى ، وذلك لعدة أمور:-
أحدها:- لأن المتقرر في الشريعة سد الذرائع وذلك حتى لا يكون الناس تبعاً لهوى نفوسهم وحتى لا يؤدي هذا التتبع إلى حل رباط التكليف والعبث بالديانة ، وارتكاب مالا يجوز بحجة أن فلاناً قال به ، بل إن هذا الباب لا بد من سده حتى لا يستطيع المناهضون للإسلام على تطويع الشرع لرغباتهم ، وحتى يسد على الفساق وأصحاب الشهوات باب تمييع الشرع وحل نظامه.(1/96)
ثانيها:- أن الفيصل عند التنازع إنما هو إرجاع الأمر المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة لا إلى الأهواء والشهوات ، قال تعالى (( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا )) فلا يصح رد الأمر المتنازع فيه إلى أهواء النفوس ، وإنما يرد إلى الشريعة ، ولذلك فقد حكم بعض العلماء بفسق متتبع الرخص ، بسبب أن علمه مؤد إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلفٍ فيها ، وهذا أمر خطير وعاقبته وخيمة.
ثالثها:- الإجماع فقد نقل ابن عبد البر الإجماع على منع تتبع الرخص في المذاهب للعامي وكذلك أيضاً نقل ابن حزم الإجماع على ذلك ، وهما من أئمة الإجماع وكذلك نقل الإجماع على المنع الإمام النووي وأبو الوليد الباجي وأبو عمرو بن الصلاح وابن القيم رحم الله الجميع رحمة واسعة وهذا يفيدك أن الخلاف في هذه المسألة خلاف حادث لا اعتداد به وقد تقرر في القواعد أن الإجماع حجة شرعية يجب قبولها واعتمادها وتحريم مخالفتها ، ولكن ينبغي لك أن تعلم أن تتبع الرخص الذي أجمع أهل العلم على منعه إنما هو إذا أريد بها ما عرفناها به سابقاً ، فانتبه لذلك.(1/97)
رابعها:- أن الله تعالى عاب وذم المتبعين للهوى في غير موضع من كتابه المجيد ، كما قال تعالى ((أرأيت من اتخذ الهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا )) وكما قال تعالى (( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علمٍ وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون )) وقال تعالى (( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى )) وقال تعالى ((ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه )) وقال تعالى (( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا )) ومثلها قوله تعالى (( فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى )) وقال تعالى (( ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدىً من الله )) وقال تعالى ((ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون )) وقال تعالى (( ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير )) والآيات في هذا المعنى كثير يخبر الله تعالى أن من كان قائده هواه فقد اتخذه إلهاً ذلك لأن العبادة هي الطاعة والتسليم فمن أطاع وسلم لهواه فيما يخالف شرع ربه ومولاه فقد اتخذه إلهاً غير الله وأن من انساق وراء هواه انسياق المتبوع للتابع فإنه ممن قد ختم الله على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فلا يسمع الحق وإن تعددت أدلتها ولا يبصر الهدى وإن كانت علاماته كالجبال عظمة ووضوحاً ، ولا يعقل قلبه إلا ما أشربه من شهوته وهواه ، فأي خيبة بعد هذه الخيبة وأي خسارة بعد هذه الخسارة وبين جل وعلا أنهما أمران ، الهدى والهوى ، وأن من اتبع هواه في كل شيء فقد ناقض طريق الهدى ، فالهدى قد سار شرقاً والهوى قد سار غرباً وشتان بين مشرق ومغرب ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إتباع الهوى ، أو إتباع عباد الهوى والشهوات وأخبر أنه إن فعل ذلك فإنه(1/98)
سيردى وأن أمره سيكون عليه فرطا ، وقد نفى الله تعالى عن إتباع الهوى السمع والعقل النافعين وجعلهم في مرتبة أسفل من الأنعام ، وهذه المعاني تفيد الإفادة القطعية حرمة تتبع الرخص الذي مبدؤه إتباع الهوى ، فمهما زخرفوا العقول فيه ومهما بحثوا له عن مخارج فإنه لا يعدو أن يكون من إتباع الهوى الذي تواترت الأدلة على ذمه ووصفه بهذه الأوصاف القبيحة.(1/99)
خامسها:- أن الله تعالى قد أخبرنا أن إتباع الهوى سبب لترك العدل فقال (( فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا )) وأخبر الله تعالى أن المكذبين للرسل والمرتكبين لجريمة قتلهم إنما كان ذلك لأن الرسل جاءت بما لا تهواه أنفسهم ففعلوا بالرسل عليهم الصلاة والسلام ما فعلوه انتصاراً لهواهم ، قال تعالى (( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون )) وأخبر الله تعالى أن إتباع الهوى من أسباب الضلال ، بل هو أكبرها وأساسها فقال تعالى ((ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله )) وأخبر تعالى أن ترك الهوى من أسباب دخول الجنة فقال ((وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى)) فالذين يتتبعون الأقوال الشاذة والرخص المذهبية المخالفة للدليل إنما فعلوا ذلك لأنهم يتبعون الهوى فيخشى عليهم من دخولهم في مقتضى هذه النصوص العظيمة المحذرة التحذير الكامل من إتباع الهوى وشهوات النفوس فيما يخالف الحق ، وتأمل يا أخي الكريم قوله تعالى (( وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم )) فاستعذ بالله من إتباع الهوى ، وإن إتباع الهوى قد لا يسلم منه أحد إلا من عصمه الله تعالى وإلا فلو تفكرت وتأملت وتدبرت ونظرت في أحوال الناس لرأيت أن الكثير منهم يتبعون أهواءهم ، لكن منهم من عنده الإتباع المطلق - و العياذ بالله - ومنهم من عنده مطلق الإتباع فبالله عليك هل حورب الرسل وكذبوا وقتلوا وأنكرت شرائعهم إلا بسبب إتباع الهوى ، وهل شربت الخمور وطبقت القوانين الوضعية وأكل الربا إلا بسبب إتباع الهوى ، وهل أحدثت البدع في الدين وتنكب الكثير عن صراط سيد المرسلين إلا بسبب إتباع الهوى وهل أكلت أموال الناس بالباطل ومنعت الزكاة وتركت الصلوات إلا بسبب إتباع الهوى ، وهل انتشر الزنا واللواط أكرمكم الله, إلا بسبب إتباع الهوى ، وهل كثرت الفواحش ما ظهر منها وما بطن إلا بسبب إتباع الهوى ، وهل قتلت النفوس بغير الحق(1/100)
وظهرت المعازف وتبرج النساء إلا بسبب إتباع الهوى وهل أنكرت الصفات وحصل الشرك بالقبور وغيرها إلا بسبب إتباع الهوى ، فالحق أن إتباع الهوى هو قائد كل مخالفة ، فلا تجد مخالفة للشرع في القديم والحديث إلا وتجد أن من أعظم أسبابها إتباع الهوى فهذه بعض الأدلة الدالة على منع تتبع الرخص ، ولكن أعيد التنبيه عليك أن تتبع الرخص إنما نعني به ما قلناه سابقاً في تعريفها فانتبه لهذا يا أخي جزاك الله خيراً وأجزل لك الأجر والمثوبة ، وأما كلام أهل العلم في ذم ذلك وبيان حكمه فأكثر من أن يحصى ونذكر لك بعضه من باب الإشارة إلى كله فأقول وبالله التوفيق:- قال سليمان التيمي رحمه الله تعالى لمن سأله عن تتبع الرخص ( إن أخذت برخصة كل عالمٍ اجتمع فيك الشر كله ) وقال ابن عبدالبر رحمه الله تعالى معقباً على ذلك ( هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً ) وقال الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى ( من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام ) ويعني رحمه الله تعالى بالنوادر أي الأقوال الشاذة والرخص المخالفة لما ثبت به النص ونقل عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال ( لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ ، وأهل المدينة في السماع ، وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً) ونقلوا عن إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي المتوفى سنة ( 282 ) أنه قال:- ( دخلت على المعتضد ، فرفع إلى كتاباً لأنظر فيه ، وقد جمع فيه صاحبه جميع الرخص من زلل العلماء, وما احتج به كل منهم ، فقلت:- مصنف هذا الكتاب زنديق ، فقال المعتضد:- ألم تصح هذه الأحاديث؟ فقلت:- من أباح المسكر لم يبح المتعة ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والسكر ، وما من عالم إلا وله زلة ، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه ، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب ) أهـ.(1/101)
وقال سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى ( يجوز تقليد كل واحدٍ من الأئمة الأربعة رضي الله عنهم ، ويجوز لكل واحدٍ أن يقلد واحداً منهم في مسألة ويقلد إماماً آخر منهم في مسألة أخرى ، ولا يجوز تتبع الرخص ) أهـ. وقال إبراهيم بن شيبان القرميسيني رحمه الله تعالى ( من أراد أن يتعطل ويتبطل فليلزم الرخص ) أهـ. وقال ابن حزم رحمه الله تعالى في بيان طبقات المختلفين ( وطبقة أخرى وهم قوم بلغت بهم رقة الدين وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهوائهم في قول كل قائل ، فهم يأخذون ما كان رخصة من قول كل عالم ، مقلدين له غير طالبين ما أوجبه النص عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ) أهـ. ونقل الشاطبي عن ابن حزم أنه حكى الإجماع على أن تتبع رخص المذاهب بغير مستند شرعي أنه فسق لا يحل, وقال السمعاني الكبير ( المفتي من استُكْمِلَ فيه ثلاثة شرائط الاجتهاد والعدالة والكف عن الرخص والتساهل ، وللمتساهل حالتان؛- إحداهما:- أن يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام ، ويأخذ ببادئ النظر وأوائل الفكر ، فهذا مقصر في حق الاجتهاد ولا يحل له أن يفتي ولا يجوز أن يستفتى(1/102)
والثانية:- أن يتساهل في طلب الرخص وتأول السنة ، فهذا متجوز في دينه ، وهو آثم من الأول ) أهـ. وقد حكا أبو الوليد الباجي في كتابه ( التبيين لسنن المهتدين ) الإجماع على منع تتبع الرخص فقال ( وكثيراً ما يسألني من تقع له مسألة في الأيمان ونحوها:- ( لعل فيها رواية؟ ) أو (لعل فيها رخصة؟) وهم يرون أن هذا من الأمور الشائعة الجائزة ، ولو تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به ولا طلبوه مني ولا من سواي ، وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتقد به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحدٍ أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق ، رضي بذلك من رضيه وسخط من سخط ، وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى في حكمه, فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه ، والله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام (( وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم )) فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتي يما يشتهي ، أو يفتي زيداً بما لا يفتي به عمراً ، لصداقة بينهما أو غير ذلك من الأغراض وإنما يجب للمفتي أن يعلم أن الله تعالى أمره أن يحكم بما أنزل الله من الحق ، فيجتهد في طلبه ، ونهاه أن يخالفه وينحرف عنه وكيف له بالخلاص مع كونه من أهل العلم والاجتهاد إلا بتوفيق الله وعونه وعصمته ) أهـ. وقال أبو المحاسن الروياني:- (يجوز تقليد المذاهب والانتقال إليها بثلاثة شروط:- أن لا يجمع بينها على صورة تخالف الإجماع كمن تزوج بغير صداقٍ ولا ولي ولا شهود فإن هذه صورة لم يقل بها أحد ، وأن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه ، ولا يقلد أمياً في عماية وألا يتتبع رخص المذاهب ) أهـ.(1/103)
وقال أبو عمرو بن الصلاح في بيان تساهل المفتي ( وقد يكون تساهله وإخلاله بأن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحظورة أو المكروهة والتمسك بالشبه طلباً للترخيص على من يروم نفعه أو التغليظ على من يريد ضرره ومن فعل ذلك فقد هان عليه دينه نسأل الله تعالى العافية والعفو ) أهـ. وقال أيضاً ( واعلم أن من يكتفي بأن يكون في فتياه أو علمه موافقاً لقولٍ أوجه في الترجيح ولا يتقيد به ، فقد جهل وخرق الإجماع ) أهـ. وقال النووي رحمه الله تعالى ( وليس له التمذهب بمجرد التشهي ولا بما وجد عليه أباه ، والعامي لا يلزمه التمذهب بمذهب بل يستفتي من يشاء أو من اتفق لكن من غير تلقطٍ للرخص ) أهـ. وقال أيضاً ( وليس للمفتي والعامل على مذهبٍ في المسألة ذات الوجهين أو القولين أن يفتي أو يعمل بما يشاء منهما من غير نظر ، وهذا لا خلاف فيه ) أهـ. ولما سئل ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى هل يجوز لمن تمذهب بمذهبٍ أن يقلد مذهباً آخر فيما يكون به النفع وتتبع الرخص؟ فأجاب:- (لا يجوز تتبع الرخص والله أعلم) أهـ. وقال القرافي رحمه الله تعالى ( ولا ينبغي للمفتي إذا كان في المسألة قولان أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تخفيف أن يفتي العامة بالتشديد والخواص من ولاه الأمر بالتخفيف ، وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين ودليل فراغ القلب من تعظيم الله تعالى وإجلاله وتقواه وعمارته باللعب وحب الرياسة ، والتقرب إلى الخلق دون الخالق نعوذ بالله من صفات الغافلين ) أهـ.(1/104)
وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى:- ( إن من التزم مذهباً معيناً ثم فعل خلافه من غير تقليدٍ لعالم آخر أفتاه ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك ومن غير عذر شرعي يبيح له ما فعله فإنه يكون متبعاً لهواه وعاملاً بغير اجتهاد ولا تقليد ، فاعلاً للمحرم بغير عذرٍ شرعي ، فهذا منكر ، وقد نص الإمام أحمد وغيره أنه ليس لأحدٍ أن يعتقد الشيء واجباً أو حراماً ثم يعتقده غير واجب ولا حرام لمجرد هواه ) أهـ. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى ( لا يجوز للمفتي أن يعمل بما يشاء من الأقوال والوجوه من غير نظر ولا ترجيح ولا تقيدٍ به بل يكتفي في العمل بمجرد كون ذلك قولاً قاله إمام أو وجهاً ذهب إليه جماعة فيعمل بما يشاء من الوجوه والأقوال حيث رأى القول وفق إرادته وغرضه عمل به ، فإرادته وغرضه هو المعيار وبها الترجيح وهذا حرام باتفاق الأمة ) ثم قال ( وبالجملة فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخير وموافقة الغرض ، فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به ، ويفتي به ويحكم به ، فهذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر والله المستعان ) أهـ. وقال صلاح الدين العلائي ( والذي صرح به الفقهاء في مشهور كتبهم جواز الانتقال في أحد المسائل والعمل فيها بخلاف مذهب إمامه الذي يقلد مذهبه إذا لم يكن ذلك على وجه التتبع للرخص ) أهـ. وقال الشاطبي رحمه الله تعالى في معرض بيان مفاسد تتبع الرخص:- ( وأيضاً فإنه - أي تتبع الرخص - مؤدٍ إلى الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء وهو عين إسقاط التكليف بخلاف ما إذا تقيد بالترجيح فإنه متتبع للدليل فلا يكون متتبعاً للهوى ولا مسقطاً للتكليف ) أهـ. وقال ابن اللحام الحنبلي(ولا يجوز للعامي تتبع الرخص وذكر ابن عبد البر إجماعاً ويفسق عند إمامنا) أهـ.(1/105)
وكذلك نص المرداوي الحنبلي على أنه لا يجوز تتبع الرخص ، وقال الحجاوي رحمه الله تعالى ( ولا يجوز له - أي للمفتي - ولا لغيره تتبع الحيل المحرمة والمكروهة ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه ، فإن تتبع ذلك فسق وحرم استفتاؤه ) أهـ. وقال السفاريني رحمه الله تعالى ( يحرم على العامي الذي ليس بمجتهد تتبع الرخص في التقليد ، وقال علماؤنا:- ويفسق بذلك لأنه لا يقول بإباحة جميع الرخص أحد من علماء المسلمين فإن من قال بالرخص في مذهب لا يقول بالرخصة الأخرى في غيره ) وقال أيضاً ( وفيه - أي تتبع الرخص - مفاسد كثيرة وموبقات غزيرة ، وهذا باب لو فتح لأفسد الشريعة الغراء ولأباح جميع المحرمات ) أهـ. فهذه بعض النقول في هذه القضية الخطيرة سقتها من كتاب زجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء وفيها الكفاية إن شاء الله تعالى وبه تعلم أن هذه المسألة قد فصلها الفقهاء رحمهم الله تعالى وبينوا حكمها وأخطارها وآثارها المترتبة على القول بجوازها فلا يحل التساهل في ذلك الباب والله الموفق والهادي إلى الحق والصواب ، فهذا بالنسبة لمعنى تتبع الرخص وحكمه والأدلة على ذلك مع بيان النقول في ذلك ولم يبق في السؤال إلا ضرب بعض الأمثلة على هذه المسألة ، وهي كثيرة ولكن نقتصر على أهمها فأقول:-(1/106)
منها:- تجويز تزويج المرأة نفسها بنفسها من غير ولي أخذاً بالرخصة في هذا الباب عند الحنفية وهذا محرم لا يحل ، ومذهب الجمهور هو الحق في هذا الباب ولا يجوز لأحد أن يرخص للنساء أن يزوجن أنفسهن بلا ولي بحجة أن هذا قد قال به الأحناف ، فإن قول الحنفية في هذه المسألة قول ساقط لا اعتداد به وأقوال العلماء يستدل لها لا يستدل بها ، فالحجة إنما هي في الكتاب والسنة لا في قول أحد كائناً من كان وقد صح النص باشتراط الولي وذلك في قوله تعالى (( ولا تَنكحوا - بالفتح - المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تُنكحوا - بضم التاء - المشركين حتى يؤمنوا ...(1/107)
الآية )) فنوع مصدر الإنكاح في الآية فجعل مصدره في حق الرجل هو عين ذلك الناكح فقال (( ولا تَنكحوا المشركات )) وأما في حق المرأة فإنه جعله في حق الأولياء فقال (( ولا تُنكحوا المشركين )) بضم التاء وكسر النون والمخاطب به الأولياء, وهو دليل على أن المرأة لا يجوز لها أن تتولى عقد نكاحها بنفسها ، بل لا بد من الولي لأنه أعلم بمصالحها منها ، فلو أنه كان يجوز لها أن تزوج نفسها بنفسها لما كان لهذا التنويع مطلق الفائدة وهذا مما ينزه عنه كلام الحق جل وعلا ، وقال أبو داود في سننه حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان قال حدثنا ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل - ثلاث مرات - فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له )) حديث صحيح وهو نص قاطع في اشتراط الولي لصحة النكاح وإلا فهذا النكاح باطل لا تترتب عيه آثار النكاح الشرعي ، وقال أيضاً:- حدثنا محمد بن قدامة بن أعين قال حدثنا أبو عبيدة الحداد عن يونس وإسرائيل ، عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( لا نكاح إلا بولي )) حديث صحيح ، فقوله ( لا نكاح ) نكرة في سياق النفي وقد تقرر في الأصول أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم فيدخل في ذلك كل النكاح، وقوله (لا نكاح) فعل منفي بـ ( لا ) النافية للجنس وقد تقرر في الأصول أن الفعل المنفي بـ ( لا ) النافية للجنس يتطرق نفيه إلى نفي الصحة أي نفي الحقيقة الشرعية ، ومعنى هذا:- أن النكاح الذي وقع بلا ولي ليس هو حقيقة النكاح المأمور والمأذون فيه شرعاً وهذا هو حقيقة الكلام بهذا التركيب عند العرب ، والحنفية عفا الله عنهم حملوه على نفي الكمال وهذا غلط ، لأنه مخالف للظاهر من كلام العرب ، والصحيح أن قوله (( لا نكاح إلا بولي ))(1/108)
معناه:- لا نكاح يصح أو لا نكاح إلا بولي فانتبه لهذا رحمك الله تعالى ، قال الترمذي رحمه الله تعالى ( والعمل في هذا الباب على حديث النبي صلى الله عليه وسلم (( لا نكاح إلا بولي )) عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عمر بن الخطاب وعلى بن أبي طالب وعبدالله بن عباس وأبو هريرة وغيرهم وهكذا روي عن بعض فقهاء التابعين أنهم قالوا:- لا نكاح إلا بولي ، منهم سعيد بن المسيب والحسن البصري وشريح وإبراهيم النخعي وعمر بن عبدالعزيز وغيرهم ، وبهذا يقول سفيان الثوري والأوزاعي وعبدالله بن المبارك ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق ) أهـ وقال ابن ماجه في سننه:- حدثنا جميل بن الحسن العتكي قال حدثنا محمد بن مروان العقيلي قال حدثنا هشام ابن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لا تزوج المرأةُ المرأةَ ولا تزوج المرأة نفسها )) حديث صحيح ، فقوله ( ولا تزوج المرأة نفسها) هذا نهي وقد تقرر في قواعد الأصول أن النهي المطلق عن القرائن يفيد التحريم ، فهذه الأدلة تفيدك إفادة قطعية أن الحق الحقيق بالقبول هو اشتراط الولي ، فالواجب الرجوع إلى مدلولها وكل قياس جاء به الأحناف يخالف مدلول هذه النص فإنه قياس باطل لأنه تقرر في الأصول أن كل قياس صادم النص فهو فاسد الاعتبار ، وإني والله العظيم لأخشى إذا طال بالناس زمان أن يتركوا مدلول هذه الأحاديث وترفع رايات مطالبة إزالة هذا الشرط بحجة أن هذا من حقوق المرأة العصرية فكما أنها تتصرف في مالها كيفما شاءت فكذلك تتصرف في نكاحها كيف شاءت وما أقرب ذلك إذا أبعدت القلوب عن نور الكتاب والسنة وهديهما وسارت ركاب الأمة وراء الشعارات والدعاوى الكافرة المغرضة التي تسعى لكل ما تستطيعه من قوة أن يخدعن نساء الأمة بمثل هذه الزخارف الكلامية ، ليطرحن جلباب الحياء ويعرضن أنفسهن في سوق العاهرات الفاجرات ، نعوذ بالله من ذلك والمقصود أن هذه(1/109)
الرخصة التي قال بها الأحناف قول شاذ مخالف للنصوص الصحيحة الصريحة فلا يحل لأحد من النساء أن تأخذ بهذه الرخصة ، ومن أخذ بها مع علمه بهذه النصوص القاطعة فإنه يكون داخلاً في تتبع الرخص المنهي عنه شرعاً فأسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن يرفع نزل الأحناف ويعلي درجاتهم في الجنة وأن يغفر لهم المغفرة الكاملة فو الله إني لا أحمل لهم في قلبي إلا كامل المحبة والاحترام والتقدير فجزاهم الله خيراً وأجزل لهم الأجر والمثوبة ، ولكن الحق والنص أحب إلينا من قول كل أحد خالفه ، وهم والله ما خلفوا هذه النصوص إتباعا للهوى - حاشاهم من ذلك - وإنما لعدم العلم بالدليل أو لأنهم حملوه على غير محمله اجتهاداً منهم في إصابة الحق والله أعلى وأعلم.(1/110)
ومنها:- لقد وردت الأدلة الكثيرة الوفيرة في المنع من الخمر قليله وكثيره من أي جنس كان ، قال تعالى (( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون )) وعن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال (( وكل مسكر حرام )) وفي رواية (( نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم ، فاشربوا في كل وعاءٍ غير أن لا تشربوا مسكراً )) رواه مسلم ، وعن أنس رضي الله عنه قال:- كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة وكان خمرهم يومئذٍ الفضيخ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي:- ألا إن الخمر قد حرمت ، قال ، فقال لي أبو طلحة:- أخرج فأهرقها فخرجت فهرقتها ، فجرت في سكك المدينة )) متفق عليه ، وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة )) متفق عليه ، وفي رواية مسلم (( كل مسكرٍ خمر وكل مسكر حرام )) وعن جابر رضي الله عنه أن رجلاً قدم من جيشان فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (( أو مسكر هو؟ )) قال:- نعم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كل مسكرٍ حرام إن على الله عز وجل عهد لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال )) قالوا:- يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال (( عرق أهل النار ، أو عصارة أهل النار )) رواه مسلم ،والمزر خمر يكون من الذرة ومن الشعير ومن الحنطة ،وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال:- خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:- إنه قد نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء:- العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل ، والخمر ما خامر العقل )) متفق عليه ،وعن ابن عمر رضي الله(1/111)
عنهما قال:- ((نزل تحريم الخمر ، وإن في المدينة يومئذٍ لخمسة أشربة ، ما فيها شراب العنب)) رواه البخاري ، وعن أنس رضي الله عنه قال:- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تخلط التمر والزهو ثم يشرب ، وإن كان هو عامة خمورهم يوم حرمت الخمر )) رواه مسلم ، والزهو هو البسر الملون الذي بدا فيه حمرة أو صفرة ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( الخمر من هاتين الشجرتين:- النخلة والعنب )) رواه مسلم ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت:- سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع – وهو نبيذ العسل – وكان أهل اليمن يشربونه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( كل شراب أسكر فهو حرام )) رواه البخاري ، والأحاديث في ذلك كثيرة وهي تفيد إفادة صريحة قطعية أن الشيء متى كان مسكراً فإنه حرام أيا كان نوعه ، وأياً كان جنسه ، ولو كان في بدايات الإسكار ، فهو حرام ، ومن خصه بالعنب فقد أخطأ خطأً كبيراً وخالف مخالفة وخيمة ، فإن الأحاديث السابقة نصت على أن الخمر قد يكون من الزبيب ومن التمر ومن الحنطة ومن البسر ومن التمر ومن العنب ومن العسل ، وكل ذلك منصوص عليه عن الصحابة ، فحصر الخمر فيما كان من العنب خالصة قول عاطل عن البرهان والله يعفو عمن قاله ، والحق في هذه المسألة مع الجمهور ولا ريب كما نطقت به الأحاديث الصحيحة الصريحة المتواترة ، فأول خطأ أخطأ فيه الأحناف رحمهم الله تعالى هو حصرهم الخمر في خمر العنب فقط ، وهذه زلة كبيرة يجب على الأتباع أن يتفادوها ويسيروا على طريق الأحاديث الصحيحة الصريحة وأن لا يقدموا قول أئمتهم على كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم وكلام صحابته الكرام وأكثر الأمة ، والخطأ الثاني:- تجويز بعضهم شرب نبيذ التمر والزبيب إن طبخ كل واحد منهما أدنى طبخة ، وهو أن يطبخ إلى أن ينضج طبخاً يسيراً فهذا النوع من النبيذ أجازوا شربه وإن اشتد ما لم يصل إلى حد الإسكار الكامل أي(1/112)
ما لم يحصل معه لهو ولا طرب ، وكذلك أجاز بعضهم الخليطين من الزبيب والتمر إذا طبخ أدنى طبخة وإن اشتد ، فإنه يحل شربه ، ما لم يسكر كثيراً لا سيما إذا كان قصده التقوي أو استمراء الطعام وأجاز بعضهم أيضاً شرب نبيذ العسل والتين ، والبر والشعير والذرة فإنه عندهم يحل سواءً طبخ أو لا ، ولكن بلا لهو ولا طرب ، ويسمى بنبيذ العسل ( البتع ) إذا صار مسكراً والأحناف – أعني بعضهم – يجيزون شرب هذه الأنواع مادامت في بداية اشتدادها وأما إذا بلغت حد الإسكار ومخامرة العقل فإنها تحرم ، وهذه رخصة مذهبية فاسدة ، بل هي من أفسد الرخص الواردة في باب الأشربة ، وهي مخالفة للمنصوص في الأحاديث الصحيحة ولا يحل لأحد أن يترخص بها ، فإن الآخذ بهذه الرخصة في باب الأشربة عند الأحناف هو من الذين يتتبعون الرخص ، والقول الفاصل في هذا هو تحريم النبيذ إذا بدأ يشتد وحيث كان الاشتداد خفياً فإن الشارع أناط الحكم بالوصف الظاهر وهو جواز هذا النبيذ ثلاثة أيام فقط وما زاد على ذلك فإنه تجب إراقته ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبذ له الزبيب في السقاء فيشربه يومه ، والغد ، وبعد الغد ، فإذا كان مساء الثالثة شربه وسقاه ، فإن فضل من شيء أهراقه )) رواه مسلم ، فمثل هذه الأشياء إذا نبذت وطال مكثها فإنها تتخمر ، أي تشتد وتقذف بالزبد ، ولكن شربها في هذه المدة القصيرة جائزة لأن العادة جرت أنها لا تتغير فيها طبيعتها وأما ما زاد على ذلك فالحق إهراقه لأنه يغلب على الظن خروجها عن طبيعتها بعد هذه المدة ، وقد تقرر في القواعد أن غلبة الظن منزلة منزلة اليقين ، وقد تقرر أيضاً أن الحكمة إذا كانت خفية فإن الحكم يناط بالوصف الظاهر ، وفي رواية من حديث ابن عباس المتقدم (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتبذ أول الليل فيشربه إذا أصبح يومه ذلك والليلة التي تجيء والغد والليلة الأخرى والغد إلى العصر ، فإن بقي(1/113)
شيء سقاه الخادم أو أمر به فصب ، وفي الجملة فرخصة شرب النبيذ في بدايات اشتداده الثابتة جزماً في مذهب الأئمة الحنفية رخصة فاسدة مخالفة للأحاديث الصحيحة الصريحة فالواجب اطراحها وإلغاؤها من الفقه الذي يهدي القلوب والعقول والجوارح لله تعالى وسداً لذريعة شرب الخمر فلا يجوز الأخذ بهذه الرخصة البتة لا لنا ولا للأحناف وليست هذه مسألة اجتهادية يسوغ فيها السكوت عن المخالف بل هي مسألة خلافية قد اتضح جانب الدليل فيها والواجب الإنكار الشديد على من رأيناه يأخذ بها ولو من الحنفية أنفسهم ، فاحذروا رحمكم الله تعالى من زلات بعض أهل العلم واتقوا الله ولا تتبعوا الأقوال الشاذة المخالفة للنص ، والزموا جادة النص تفلحوا ولا يسوغ لأحدٍ أن يخالف النص الواضح من أجل قول فلان وعلان فأسأل الله تعالى أن يغفر لمن قال بهذه الرخصة وأن يتجاوز عنه في الدنيا والآخرة وأن يقي الأمة الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطن والله ربنا أعلى وأعلم.(1/114)
ومنها:- نكاح المتعة ، فإن الحكم الذي لا يتطرق إلينا الشك فيه هو أنها محرمة إلى يوم القيامة وأنها كانت في بداية الإسلام جائزة ثم نسخت ، وآخر الأمرين هو النسخ ففي صحيح مسلم من حديث سبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله تعالى حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً )) وروى مسلم أيضاً عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال:- رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثاً ثم نهى عنها )) وقال عليه الصلاة والسلام في بعض الأحاديث (( ألا إنها – أي المتعة – حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة ومن كان أعطى شيئاً فلا يأخذه )) رواه مسلم ، وقال البخاري في صحيحه:- حدثنا مالك بن إسماعيل قال حدثنا ابن عيينه أنه سمع الزهري يقول أخبرني الحسن بن محمد بن علي وأخوه عبدالله عن أبيهما أن علياً رضي الله عنه قال لابن عباس (( إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمان خيبر )) قال الترمذي رحمه الله تعالى ( والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم وإنما روي عن ابن عباس شيء من الرخصة في المتعة ثم رجع عن قوله حيث أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمر أكثر أهل العلم على تحريم المتعة وهو قول الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق ) أهـ وقال ابن المنذر رحمه الله تعالى ( جاء عن الأوائل الرخصة فيها ولا أعلم اليوم أحداً يجيزها إلا بعض الرافضة ) أهـ وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى ( ثم وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريمها إلا الروافض وأما ابن عباس فقد روي رجوعه عن ذلك ) أهـ وقال ابن بطال:- ( وأجمعوا على أنه متى وقع الآن بطل سواءً كان قبل الدخول أم بعده إلا في قول زفر ) وقال الخطابي رحمه الله تعالى ( تحريم المتعة كالإجماع إلا(1/115)
عن بعض الشيعة ) أهـ قلت:- وممن روى حديث التحريم علي ابن أبي طالب فكان على قاعدة الشيعة وجوب تركها لأن قاعدتهم في المختلفات الرجوع إلى علي وآل بيته وقد نقل البيهقي عن جعفر بن محمد أنه سئل عن المتعة فقال ( هي الزنا بعينه ) وابن جريج كان ممن يجيزها ولكنه قد ثبت رجوعه عن ذلك إلى القول بالمنع ، كما نقله عنه أبو عوانة في صحيحه وأما ما يحكى عن الإمام مالك بأنه يقول بجواز المتعة فإنه كذب عليه وخطأ ، بل المعروف من مذهب المالكية التشديد والمبالغة في منع النكاح المؤقت ، وقد أبطل هذه النسبة ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى ، فنكاح المتعة حرام وباطل ، ولا يحل لأحدٍ أن يأخذه بهذه الرخصة فإنها قد نسخت وقول بعض العلماء بجوازها لا يجعلها حلالاً ، بل إنه من كثرة المانعين ووفرتهم من أهل السنة جعلت هذه المسألة من علامات الشيعة ، فإن أصحاب المقالات إذا حكوا مذاهب الشيعة يجعلون من جملة عقائدهم القول بجواز المتعة وكأن القول بالتحريم صار شبه الإجماع ، ولا سيما أن من قال بجوازها في أول الأمر قد ثبت عنه الرجوع إلى القول بالمنع في آخر الأمر ، فالقول الصحيح والحق الذي لا معدل عنه هو القول بمنعها ولا حاجة للخلاف بعد قوله صلى الله عليه وسلم (( ألا إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة )) وهذا يتضمن حكماً وخبراً ، فالحكم هو قوله (( ألا إنها حرام )) والخبر في قوله (( إلى يوم القيامة )) وقد تقرر في الأصول أن النسخ لا يدخل الأخبار ، فهي حرام إلى يوم القيامة كما نطقت به شفتاه صلى الله عليه وسلم فلا يحل هذا النكاح البتة ولو مع الحاجة الشديدة ، وأجمع أهل العلم على أن التنصيص على الشرط شرط في البطلان ، أي أن يكتب في العقد:- نكحتك إلى يوم كذا وكذا ، فاتقوا الله يا من تفتون الناس بجوازها بحجة أنها مذهب لبعض أهل العلم فإن هذا من تتبع الرخص المنهي عنها شرعاً ، وهو باب شر عظيم وبلاء وفتنة ، والواجب إشهار القول(1/116)
بالمنع وتربية الناس عليه وتذكيرهم به حتى يكون من الأمور التي تعلم من الدين بالضرورة والله تعالى أعلى وأعلم.
ومنها:- لقد تقرر بالدليل الصحيح الصريح حرمة الغناء واستعمال آلات الملاهي والطرب كالعود والطبل والكمان والقانون والناي وغير ذلك من ألآت الإطراب التي يستعملها أهل المجون والغناء والدليل على ذلك قوله تعالى (( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ... الآية )) وقد فسر جمع كبير من السلف بأنه الغناء وهذا من باب التفسير بالمثل وإلا فالآية أوسع من ذلك ، وعن أبي عامرٍ أو أبي مالكٍ رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ...(1/117)
الحديث )) رواه البخاري في صحيحه تعليقاً مجزوماً به داخلاً في شرطه ، وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة مزمار عند نعمة ، ورنة عند مصيبة)) أخرجه البزار ، وقال المنذري والهيتمي:- رجاله ثقات ، وقال الألباني ( إسناده حسن ) وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه عن عبدالرحمن بن عوفٍ رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إني لم أنه عن البكاء ، ولكني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين ، صوت عند نعمة ولهو ، ولعب ومزامير شيطان ، وصوت عند مصيبة ، لطم وجوه وشق جيوب ورنة شيطان )) أخرجه الحاكم والبيهقي والترمذي مختصراً وإسناده حسن وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الله تعالى حرم الخمر والميسر والكوبة وكل مسكر)) رواه أبو داود والبيهقي وأحمد في المسند وسنده صحيح ، وقال سفيان:- قلت لعلي بن بذيمة:- ما الكوبة؟ فقال:- الطبل ، وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( إن الله عز وجل حرم الخمر والميسر والكوبة والغبيراء ، وكل مسكرٍ حرام )) رواه أبو داود وغيره وإسناده جيد ، وعن قيس بن سعدٍ رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو حديث عبدالله بن عمرو السابق ، وقد رواه البيهقي والطبراني في الكبير ، وإسناده حسن, وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( يكون في أمتي قذف ومسخ وخسف ، قيل يا رسول الله:- ومتى ذاك؟ قال (( إذا ظهرت المعازف وكثرت القيان وشربت الخمور )) أخرجه الترمذي ، وقال الألباني رحمه الله تعالى ( ورجاله ثقات غير عبدالله بن عبد القادوس قال الحافظ:- صدوق رمي بالرفض وكان أيضاً يخطئ ، قلت:- أي الألباني:- رفضه لا يضر حديثه وخطؤه مأمون بالمتابعات أو الشواهد التي تؤيد حفظه له )أهـ ثم ذكر له من المتابعات والشواهد الشيء(1/118)
الكثير مما يفيد أن الحديث في رتبة الإحتجاج به ، وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ولا تجارة فيهن وثمنهن حرام ، وقال:- إنما نزلت هذه الآية في ذلك (( ومن الناس من يشتري لهو الحديث )) حتى فرغ منها ثم أتبعها بقوله:- والذي بعثني بالحق ما رفع رجل عقيرته بالغناء إلا بعث الله عز وجل عند ذلك شيطانين يرتقيان على عاتقيه ثم لا يزالان يضربان بأرجلهما على صدره حتى يكون هو الذي يسكت )) أخرجه الطبراني في الكبير وسنده جيد ، وهذه بعض الأدلة على هذه المسألة ، وبها يتضح حكم المعازف والغناء وأنه حرام لا يجوز ، وهو مذهب جماهير أهل العلم رحمهم الله تعالى ، وقد انعقد اتفاق الأئمة الأربعة على تحريمه ، ولما نسب بعض الشيعة إباحية الغناء لأهل السنة رد عليه ابن تيمية بقوله ( هذا من الكذب على الأئمة الأربعة فإنهم متفقون على تحريم المعازف التي هي آلات اللهو كالعود ونحوه ، ولو أتلفها متلف عندهم لم يضمن صورة التالف بل يحرم عندهم اتخاذها ) أهـ وقال بالتحريم شريح القاضي وسعيد ابن المسيب والشعبي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم كثير مما لا يحصى عددهم ، قال الألباني رحمه الله تعالى ( والخلاصة:- أن العلماء والفقهاء وفيهم الأئمة الأربعة متفقون على تحريم آلات الطرب إتباعاً للأحاديث النبوية والآثار السلفية وإن صح عن بعضهم خلاف فهو محجوج بما ذكر والله عز وجل يقول (( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما )) ) أهـ وبهذا تعلم القول الصحيح في هذه المسألة وهو التحريم وحيث علمت ذلك فالواجب هو الأخذ بما دلت عليه الأدلة الصحيحة ولا يجوز الأخذ برخصة بعض المالكية الأتباع فيها ، فإن بعض المالكية الأتباع رخصوا في السماع ولكنها زلة وهفوة أسأله جل وعلا أن يعفو عمن قال بها ، والحق وجوب الحذر من هذه الهفوة ،(1/119)
فالمعازف محرمة بجميع آلاتها والغناء محرم ، ولا يحل لأحدٍ أن يترخص برخصة بعض أهل العلم في ذلك لأن رخصته هذه وردت على خلاف النص وهي مجرد رأي بني على عدم التحقيق في دراسة الأحاديث في المسألة فإياك أيها المسلم الناصح لنفسه أن تتبع هذه الرخصة فإنها على خلاف الدليل فالحذر الحذر من المعازف كلها والغناء كله ، والله جل وعلا قد أمرنا عند حصول الخلاف أن نرد الأمر المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة وبعد الرد وجدنا الأدلة تدل على التحريم فمجرد وقوع الخلاف في هذه المسألة لا يجعلك في حل أن تختار من القول ما يتوافق مع هواك ، بل الواجب النظر في أدلة الفريقين وترجيح ما يسنده النص وقد رأيت بعينك أن النص الصحيح الصريح قد جاء بحرمة المعازف والغناء ، وبناءً عليه فالأخذ بما عليه بعض أهل المدينة في ذلك هو ممن يتتبع الرخص وقد علمت أنه محرم في شريعتنا لأنه من إتباع الهوى والله أعلم.(1/120)
ومنها:- لقد رخص بعض أهل العلم رحمهم الله تعالى في أكل لحوم الحمر الإنسية ، وأكثر أهل العلم على التحريم ، وقولهم هو الحق في المسألة وهو الذي لا يجوز العدول عنه ، وقول من قال بالحل إنما عمدته أحاديث ضعيفة أو الأحاديث التي وردت فيها قبل النسخ ، وآخر الأمرين في الحمر الإنسية هو التحريم الأكيد القاطع ، والدليل على ذلك حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال (( حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية )) متفق عليه ،وروى البخاري بسنده عن عبيد الله عن سالم ونافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال (( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية )) وروى البخاري أيضاً بسنده من حديث مالك عن ابن شهاب عن عبدالله والحسن ابني محمد بن علي عن أبيهما عن علي رضي الله عنه قال (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة عام خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية )) وعن جابر عند البخاري أيضاً قال (( نهى النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر ورخص في لحوم الخيل )) وعن البراء وابن أبي أوفى رضي الله عنهما قالا (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر )) رواه البخاري وعن أنس رضي الله عنه قال:- لما كان يوم خيبر بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا طلحة فنادى:- إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس )) متفق عليه ، وبناءً على ذلك فالحق الحقيق بالقبول هو القول بحرمتها وأن من قال بجوازها فقد جانبه الصواب والله يعفو عنه ويغفر له ، فإن المجتهد إذا اجتهد فأخطأ فله أجر ، ولا حق لأحد أن يترخص برخصة من ذهب إلى جوازها فقد علمت أنه قول مخالف للأدلة وإن قال بها من قاله والله تعالى أعلى وأعلم.(1/121)
ومنها:- لقد رخص بعض أهل العلم عفا الله عنه وعامله بمغفرته ورحمته للمرأة السفر بلا محرم إذا كانت مع نساءٍ مأمونات وكان للحج ، وهذه رخصة قال بها بعض الشافعية وهي قول لشيخ الإسلام رحمه الله تعالى ، وهذه الرخصة قد جاءت على خلاف الأدلة ، فإن الأدلة الصحيحة الصريحة قد قضت قضاءً جازماً بتحريم سفر المرأة بلا محرم ، فكل قولٍ يجيز للمرأة السفر بلا محرم فهو قول مردود ، ويفتح على الأمة باب شر عظيم وإني لأقسم بالله العلي العظيم أن الذين أجازوا سفرها بلا محرم من أهل العلم لا يقصدون فتح شرٍ على الأمة ، ولكن ضعاف النفوس من النساء سيتخذن ذلك ذريعة إلى التحلل من قيود المحرم في الشريعة ، لاسيما في هذا الزمن التي ارتفعت فيه أصوات كثيرة من النساء تطالب بإزالة قوامة الرجل عن المرأة ، فالواجب البقاء مع عموم النصوص وسد باب هذه الرخصة المخالفة للمتقرر من الأدلة فالمرأة أياً كانت لا يجوز لها قطع مسافةٍ تسمى سفراً إلا ومعها ذو محرم العجوز والشابة والعربية والأعجمية والإنسية والجنية حتى نساء الجن لا يجوز لهن السفر إلا مع ذي محرم لأنهم مكلفون بشريعة محمدٍ صلى الله عليه وسلم لأنه مبعوث للثقلين كافة ، ومشروعية المحرم في السفر ليس قيداً يقصد به تعقيد المرأة بل هو من أجل سلامتها وخدمتها والقيام بما تريده في سفرها والسهر على راحتها والمحافظة عليها وحمايتها من تبذل السقطاء والتعاون معها على البر والتقوى ، هذا إذا كانت المرأة تريد السلامة ، وأما السافلة التافهة التي تريد إفراز شهواتها فإنها هي التي يحارب مثلها هذه الشريعة ذات المصالح العظيمة ، وأعلم أن من أنكر تشريع المحرم للمرأة في السفر فإنه يعرف بالأدلة في ذلك فإن أصر على الإنكار فإنه يكفر وكذلك من سخر من تشريع المحرم لأنه شرع فإنه يكفر بذلك رجلاً كان أو امرأة ، فإن من نواقض التوحيد الاستهزاء بشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى ذلك فإن المنكر(1/122)
والمستهزئ بالمحرم لكونه تشريعاً يستتاب ثلاثاً فإن تاب وإلا قتل مرتداً ولا كرامة له ، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لا تسافر المرأة ثلاثاَ إلا مع ذي محرم )) متفق عليه ، وفي رواية للبخاري (( ثلاثة أيام )) وفي رواية لمسلم (( لا يحل لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم )) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومٍ وليلة ليس معها حرمة )) وفي رواية لمسلم (( مسيرة يوم (( وفي أخرى أن تسافر ثلاثاً )) وله (( إلا مع ذي محرم عليها )) وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:- أربع سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو قال:- يحدثهن عن النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبنني وآنقنني (( أن لا تسافر امرأة مسيرة يومين ليس معها زوجها أو ذو محرم ... الحديث )) متفق عليه ، وفي لفظ لمسلم (( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها )) ولأهمية المحرم فإن الرجل يقدم سفره مع امرأته على الجهاد ففي الحديث أن رجلاً قال:- إن امرأتي انطلقت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا فقال:- (( انطلق فحج مع امرأتك )) فالنصوص في ذلك واضحة جلية وعمومها يدخل فيه كل النساء ، فالترخيص لسفر بعض النساء إلى الحج بلا محرم ترخيص لا دليل عليه فضلاً عن مخالفته للأدلة الصحيحة الصريحة القاضية بأنه لا سفر للمرأة إلا مع محرم ، فالآخذ برخصة بعض أهل العلم في ذلك هو ممن يتتبع الرخص وهو بذلك يكون داخلاً في الذم فانتبه لهذا، أسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن يحفظ نساء المسلمين من كل شر وبلاءٍ وفتنة إنه ولي ذلك والقادر عليه والله أعلى وأعلم.(1/123)
ومنها:- لقد ثبت الدليل الصريح بحرمة الذهاب إلى السحرة والكهنة والعرافين والمشعوذين ، فهذه الطائفة الفاسدة والثلة المخربة الكاسدة لا يجوز الذهاب لهم ولا إتيانهم لطلب الشفاء منهم ، هذا محرم ، وكبيرة من كبائر الذنوب بل قد يصل في كثير أحيانه إلى الكفر ، وسيأتي سياق الأدلة على ذلك إن شاء الله تعالى ، ولكن قد رخص بعض من أهل العلم في الذهاب لحل السحر لاعتقاده أنه لا يحل السحر عن المسحور إلا الساحر ، فرخص في ذلك ، وهذا منكر عظيم وبلاء وخيم ونقطع قطعاً أنه خطأ من قائله – عفا الله عنه – وهذه رخصة آثمة ظالمة فاسدة ، تفتح باب الشرور وتهدد التوحيد وتفرح الشيطان ، وتحرك سوق الكهان والسحرة ، ولا بد من الوقوف في وجهها أعظم الوقوف ، فلا يجوز أيها المسلمون الذهاب للسحرة ولا إتيان الكهان للعلاج مطلقاً فليتق الله من يفتي بالجواز وأن الذهاب مما تقتضيه الضرورة هذا كله كذب وخطأ وهذه الرخصة الظالمة تضرب في أصل الاعتقاد والذاهب لهذه الثلة الفاسدة والطغمة العفنة الفاسدة على شفا جرفٍ هارٍ في حفرة الكفر- نعوذ بالله من ذلك – فلا يجوز الأخذ بهذه الرخصة مطلقاً ، والآخذ بها متتبع للرخص ، داخل في الذم ، متقحم في الإثم ، فإن أغلى شيء نملكه هو توحيدنا ، فهو أعز علينا من أنفسنا وأموالنا وأولادنا وصحتنا ، ومن الدنيا بأسرها ، ففي صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (( من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له الصلاة أربعين يوماً )) زاد أحمد (( فسأله عن شيء فصدقه )) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد برئ مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم )) رواه أبو داود وسنده صحيح ، وعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال قلت يا رسول أموراً كنا نصنعها في الجاهلية ، كنا نأتي الكهان ، قال (( فلا تأتوا الكهان ...(1/124)
الحديث )) رواه مسلم ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت:- سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إنهم ليسوا بشيء )) قالوا:- يا رسول الله فإنهم يحدثون أحياناً بالشيء يكون حقاً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة)) متفق عليه ، وقد أثبتت الأحاديث الكثيرة أن الكاهن لا بد أن يكون له ولي من الجن وأنهم يكذبون عليه أكثر من مائة كذبة, وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وسنده صحيح ، وما يدفع للكهان مقابل كهانتهم سحت وحرام ، فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن )) متفق عليه ، وهذا التحريم دليل على تحريم عمله هذا ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت:- كان لأبي بكرٍ رضي الله عنه غلام يخرج له الخراج وكان أبو بكر يأكل من خراجه فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكرٍ فقال له الغلام:- أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكرٍ وما هو؟ قال:- كنت تكهنت لإنسانٍ في الجاهلية وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته ، فلقيني فأعطاني بذلك ، فهذا الذي أكلت منه ، فأدخل أبو بكرٍ يده فقاء كل شيء في بطنه )) رواه البخاري ، فهذه الأدلة تفيدك إفادة صريحة حرمة الإتيان إلى الكاهن وأن هذا من عظائم الذنوب الموصلة إلى الكفر وأنهم كذابون دجالون وأنهم ليسوا بشيء وأنهم لا يمكن أن يعالجوك لسواد عينيك بل لا بد أن يذبحوا توحيدك أولاً ، فالحذر الحذر أيها المسلمون من هذه الرخصة الآثمة الظالمة فإنها على خلاف الدليل الصحيح الصريح ، والله المستعان.(1/125)
ومنها:- لقد تساهل بعض الجهال في وضع الأحاديث والكذب فيها على النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان فيها ترغيب للخير والحث عليه ، ويقولون:- نحن نكذب له لا نكذب عليه ، وهذا لا يعرف عن أحد من أهل العلم وإنما هو كلام السفهاء الجهال من أهل البدع ، وهذا محرم كل التحريم وهو كبيرة من كبائر الذنوب ، ولا يجوز فتح الأذن لمن يجيز ذلك ولا قبول قوله فإنه ظالم آثم ، فالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم كله حرام من غير تفصيل بين كذب وكذب والرخصة التي قال بها هؤلاء الجهال رخصة ظالمة آثمة يجب الحذر منها كل الحذر فقد فصلت الأدلة هذه القضية الفصل الواضح ، فعن المغيرة بن شعبة وسمرة بن جندبٍ رضي الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)) وعن علي بن أبي طالب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لا تكذبوا علي فإنه من كذب علي يلج النار )) وعن المغيرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إن كذباً علي ليس ككذب على أحد فمن كذب عليِّ متعمداً فليتبوءا مقعده من النار )) قال النووي رحمه الله تعالى عن هذه الأحاديث ( وأما متن الحديث فهو حديث عظيم في نهاية من الصحة ، وقيل:- إنه متواتر ، ذكر أبو بكر البزار في مسنده أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو من أربعين نفساً من الصحابة ، وحكا الإمام أبو بكر الصيرفي في شرحه لرسالة الشافعي رحمهما الله أنه روي عن أكثر من ستين صحابياً مرفوعاً ، قال:- ولا يعرف حديث اجتمع على روايته العشرة المبشرون بالجنة إلا هذا ولا حديث يروى عن أكثر من ستين صحابياً إلا هذا ) أهـ فلا حجة لأحد مع صحة النصوص الواردة في ذلك وصلاح المقاصد لا يبرر فساد الوسائل ، فانتبه لهذا رحمك الله تعالى والله يحفظ الأمة من زلل اللسان والبنان ونعوذ بالله تعالى من الكذب مطلقاً, ومن الكذب على رسوله صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص والله(1/126)
ربنا أعلى وأعلم.
ومنها:- ستر وجه المرأة ، فإن الحق الحقيق بالقبول هو وجوب ستر وجهها ، وأنه لا رخصة لها في كشفه في حضور الأجانب مطلقاً إلا فيما دعت إليه الضرورة أو الحاجة المنزلة منزلة الضرورة على ذلك دلت الأدلة الصحيحة الصريحة ، وقد قال بذلك الحنابلة وأكثر الشافعية في القول الراجح عندهم والمتأخرون من الحنفية والمالكية ، وعليه الفتوى في هذه البلاد زادها الله شرفاً ورفعة ووفق علماءها وقادتها لكل خير ، وهو الذي تدل عليه الأدلة الصحيحة الصريحة ، فمن ذلك قوله تعالى (( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً )) ووجه الدلالة منها ما قاله ابن عباس:- أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجةٍ أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة ، وهذا تفسير حبر الأمة وترجمان القرآن وهذا الأمر لا صارف له فيفيد الوجوب ، وذكر المفسرون الحكمة من هذا الأمر حتى يعرفن أنهن حرائر ، ولسن بإماءٍ ولا عاهرات ، قلت:- وليس ذلك هو كل الحكمة ولكن بعض الحكمة ، وإلا فهذا الأمر حتى لا تحصل الفتنة لهن ولا بهن ولا يكون ترك الجلباب ذريعة لفشو الفاحشة المنكرة وحتى ينقطع دابر الفساد تغلق أبواب الرذيلة وغير ذلك من المصالح العظيمة الكبيرة والحكم الوفيرة الغزيرة من أمر النساء بالاحتجاب ، وهذا التفسير من ابن عباس قد وافقه عليه جمع من الصحابة والتابعين ، فقد وافقه ابن مسعود وعبيدة السلماني وقتادة والحسن البصري وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعطاء الخراساني وغيرهم ، فعن محمد بن سيرين قال سألت عبيدة السلماني عن قول الله عز وجل (( يدنين عليهن من جلابيبهن )) فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: لما نزلت (( يدنين عليهن من جلابيبهن )) خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية.(1/127)
رواه أبو داود وسنده صحيح ، وروى البخاري رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: رحم الله نساء المهاجرات الأول ، لما أنزل الله (( وليضربن بخمرهن على جيوبهن )) شققن مروطهن فاختمرن بها. قال الحافظ ابن حجر:- ( قوله (( فاختمرن )) أي غطين وجوههن ) أهـ وقال الواحدي:- قال المفسرون:- يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عيناً واحدة فيعلم أنهن حرائر فلا يعرض لهن بأذى ) أهـ وعن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد )) وعنها رضي الله عنها في حديث الإفك – وفيه – (( فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت – وفي رواية – فسترت وجهي عنه بجلبابي ...(1/128)
الحديث )) متفق عليه ، وعن أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهما قالت:- (( كنا نغطي وجوهنا من الرجال وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام )) أخرجه ابن خزيمة والحاكم وهو حديث صحيح ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( ولا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين )) قال أبو العباس:- ( وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن وذلك يقتضي ستر وجههن وأيديهن ) أهـ وهذا صريح الدلالة على أن النساء في عهد النبوة قد تعودن الانتقاب ولبس القفازين ، فاحتجبن إلى التنبيه بأن هذا هاتين اللبستين لا تجوز في حال الإحرام فقط ، فنهي المحرمة عنهما دليل على أن غير المحرمة ليست كذلك ، فالمحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين وأما غيرها فلتنتقب ولتلبس القفازين وقد تقرر في الأصول أن مفهوم المخالفة حجة ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت:- كان الركبان يمرون علينا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها وإذا جاوزنا كشفناه )) رواه أبو داود ، وقد قال الله عز وجل في حق النساء (( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن )) فحرم على المرأة هذا الضرب حتى لا يسمع صوت خلخالها ولا بياض ساقها ، فإذا كانت المرأة مأمورة بستر ذلك وعدم إبدائه للأجانب فكيف بالوجه الذي هو مجمع الحسن والجمال وهو أول مطلب الرجال وكل جمال في المرأة فإنه تابع لجمال الوجه ، فجمال الوجه يرقع القبيح في غيره ، وجمال غيره لا يرقعه القبح فيه وقد تقرر في الأصول أن مفهوم الموافقة الأولوي حجة ، فالوجه أشد مطالبة بالستر من القدم والخلخال لأنه مجمع الحسن والجمال وعن عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة فقال (( مروها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام )) رواه أحمد وأهل السنن وقال الترمذي حديث حسن ، وعن أم(1/129)
سلمة رضي الله عنها قالت قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إذا كان لإحداكن مكاتب فكان عنده ما يؤدي به فلتحتجب منه )) رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي والحاكم والذهبي وعن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر فيصلي معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس )) متفق عليه ، وفي رواية للبخاري (( ولا يعرف بعضهن بعضاً )) وهذا الحديث يدل على أن نساء الصحابة رضي الله عنهم كن يغطين وجوههن ويستترن عن نظر الرجال الأجانب حتى إنهن من شدة مبالغتهن في التستر وتغطية الوجوه لا يعرف بعضهن بعضاً ولو كن يكشفن وجوههن لعرف بعضهن بعضاً كما كان الرجال يعرف بعضهم بعضاً ، قال أبو برزة رضي الله عنه وكان يعني النبي صلى الله عليه وسلم ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه )) متفق عليه ، وعن أم عطية رضي الله عنها قالت (( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين قلت يا سول الله:- إحدانا لا يكون لها جلباب قال (( لتلبسها أختها من جلبابها )) رواه الشيخان ، وقد عرف أن الجلباب هو ما يغطي الرأس والوجه ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت:- أومأت امرأة من وراء ستر بيدها بكتابٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبض النبي صلى الله عليه وسلم يده فقال (( ما أدري أيد رجلٍ أم يد امرأة؟ )) قالت:- بل امرأة قال:- (( لو كنت امرأة لغيرت أظفارك )) يعني بالحناء رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي ، وهذا الحديث يدل على أن نساء الصحابة رضي الله عنهم ممن يستترن عن الرجال الأجانب ويغطين وجوههن عنهم ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم رجالاً ونساءٍ يفعلون شيئاً إلا بأمر من الشارع فعلم من هذا أن الاستتار وتغطية الوجوه كان مشروعاً للنساء ولهذا أنكر النبي صلى الله(1/130)
عليه وسلم على المرأة ترك الخضاب في يديها وأقرها على الاستتار وتغطية الوجه ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت:- لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهو عروس بصفية بنت حيي ، جئن نساء الأنصار فأخبرنها عنها قالت:- فتنكرت فتنقبت فذهبت فنظر رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم إلى عيني فعرفني قالت:- فالتفت فأسرعت المشي فأدركني فقال (( كيف رأيت )) قالت قلت:- أرسل يهودية وسط يهوديات )) رواه ابن ماجه وله شاهد مرسل ذكره ابن سعد من طريق عطاء ين يسار وهو دليل على أن العادة الجارية في نساء الصحابة أنهن كن يسترن وجوههن ، والأدلة في ذلك كثيرة وكلها تفيد إفادة قطعية أن المرأة مأمورة بستر وجهها ، وحيث كان الأمر كذلك فإن الرخصة التي وردت عن بعض أهل العلم في جواز كشف المرأة وجهها لا يصح الأخذ بها لما تقدم من الأدلة ، ومن احتج بهذه الرخصة وجوز للنساء أن يكشفن وجوههن فقد أساء وتعدى وظلم فالحق هو ستر وجه المرأة ، فالمرأة كلها عورة في باب النظر ، ولا يحل لها أن تبدي منها شعراً ولا وجهاً ولا أي شيء من الزينة الباطنة ، إلا ما ظهر مما لا تستطيع أن تتحرز منه كلون الثوب مثلاً من تحت العباءة ، والمهم أن الصواب المقطوع به في هذه المسألة هو وجوب ستر الوجه ، ومن جوز لها ذلك فإنه إنما اعتمد على أدلة ليست بصريحة من جواز كشف الوجه على وجه الإطلاق فهي إما صحيحة ولكنها ليست بصريحة وإما صريحة ولكنها ليست بصحيحة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم (( المرأة عورة )) رواه ابن مسعود رضي الله عنه وقد أخرجه الترمذي والبزار وابن خزيمة والطبراني وابن حبان وقال الترمذي:- هذا حديث حسن غريب ، وقال الهيثمي:- رجال الطبراني موثوقون ، وقال المنذري:- رجاله رجال الصحيح ، وهذا الحديث دال على أن جميع أجزاء المرأة عورة في حق الرجال الأجانب ، وقد نقل أبو طالب عن الإمام أحمد أنه قال في ظفر المرأة:- إنه عورة ، وأما حديث عائشة رضي(1/131)
الله عنها أن أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهما لما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:- يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه )) فقد رواه أبو داود ولكنه حديث ضعيف لأنه مرسل فإن خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها صرح بذلك أبو داود وأبو حاتم الرازي وهما حجة في هذا الباب ولأن في إسناده أيضاً رجلاً يقال له سعيد بن بشير الأزدي وهو أبو عبدالرحمن البصري أو الواسطي ، وقد تركه ابن مهدي وضعفه أحمد وابن معين وابن المديني وقال أبو مسهر:- منكر الحديث ، وقال عنه البخاري:- يتكلمون في حفظه ، وقال النسائي:- ضعيف وقال ابن حبان:- فاحش الخطأ ، وقال المنذري:- تكلم فيه غير واحد أهـ وكل واحدة من هاتين العلتين تمنع من الاحتجاج به لو انفردت فكيف بها مجتمعة فكيف وقد عارض الأحاديث الصحيحة الكثيرة في شأن ستر الوجه والتي سقنا طرفاً منها في بداية هذا الفرع ، وعلى تقدير ثبوته فإنه يحمل على الحال قبل فرض الحجاب وقد نسخ ذلك بالآيات والأحاديث الآمرة بالحجاب فلا حجة لأحدٍ في هذا الحديث لأنه ضعيف أو منسوخ ، وأما حديث جابر في أنه رأى المرأة في صلاة العيد فقال ((فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين ...(1/132)
الحديث)) فإنه ما قال ذلك إلا لأنها كانت كاشفة عن وجهها ، فلا دلالة فيه أيضاً على جواز كشف الوجه لأن غاية ما فيه أن جابراً رضي الله عنه رأى وجه تلك المرأة ، فلعل جلبابها انحسر عن وجهها بغير قصدٍ منها ، ومن ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كما رآها جابر فعليه الدليل ومما يدل على أن جابراً برؤية وجه تلك المرأة أن ابن مسعودٍ وابن عمر وابن عباس وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري كلهم رووا خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وموعظته للنساء ولم يذكر واحد منهم شأن هذه المرأة ، فهذا يفيد أن الأمر حصل اتفاقاً من غير قصد ، ويقال أيضاً إن جابراً رضي الله عنه عرف المرأة بصفتها وذكرها لنا بصفتها التي تعرف بها ، أي أنه لم ير منها شيئاً ولكنها لما قامت وتكلمت عرفها جابر بصوتها وأنها تلك المرأة التي من صفتها أنها سفعاء الخدين ، وبرهان ذلك أن رواة هذا الحديث كل منهم يذكر صفة لهذه المرأة غير ما ذكره جابر ، فكل منهم عرضها بصفة من صفاتها فهذا ابن مسعود يقول (( فقالت امرأة ليست من علية النساء ...(1/133)
الحديث )) وهذا ابن عمر يقول:-(( فقالت امرأة منهن جزلة)) فابن مسعود ذكر صفة فيها ، وابن عمر ذكر صفة فيها وجابر كذلك ذكر صفة فيها ، وهذا من باب التعريف ولا يلزم ذلك أن تكون هذه المرأة قد كشفت وجهها ، وعلى تقدير أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رآها وأقرها فإن ذلك محمول على ما قبل الحجاب أو أنها من القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً ، فهذا الحديث يتطرق له عدة احتمالات وكلها لها وجه وقد تقرر في الأصول أن الدليل إذا تطرق له الاحتمال سقط به الاستدلال – أي على هذه الجزئية فقط – ولأن المتقرر في الأصول أن المتشابه لا بد أن يرد إلى المحكم ، وهذا الحديث مع ورود هذه الاحتمالات صار فيه شيء من التشابه فيرد إلى المحكمات الواضحات التي تنص على وجوب ستر المرأة وجهها وتقرر أيضاً أن الدلالة النصية مقدمة على الدلالة الظاهرة عند تعارض أحاديث وجوب تغطية الوجه ودلالتها نصية وهذا الحديث دلالته من قبيل الظاهر ، والنص مقدم على الظاهر ، وأما تفسير بعض الصحابة لقوله تعالى (( إلا ما ظهر منها )) بالوجه والكفين فإنه معارض بتفسير بعضهم بأنه مالا يمكن الاحتراز منه كطرف الثوب ونحوه ، وأقوال الصحابة إذا اختلفت لم يكن بعضها حجة على بعض في قول عامة الأصوليين ، والجملة فالحق الحقيق بالقبول في هذه المسألة هو أن المرأة كلها عورة في باب النظر وأنه يجب عليها وجوب عين ستر وجهها وأن الترخيص لها بكشفه إنما هي رخصة لم يدعمها الدليل الذي جمع بين الصحة والصراحة ، بل أحاديثهم الصحيحة ليست بصريحة والصريحة ليست بصحيحة ، ولعل هذه الفروع كافية إن شاء الله تعالى في فهم هذه المسألة ونختمها بنقل عن ابن القيم رحمه الله تعالى قد ذكر فيه فروعاً كثيرة لمن أراد الاستزادة ، فقال رحمه الله تعالى ( أهل العزائم بناء أمرهم على الجد والصدق فالسكون منهم إلى الرخص رجوع وبطالة ، وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل ، ليس على إطلاقه فإن الله عز وجل(1/134)
يحب أن يؤخذ برخصة كما يحب أن يؤخذ بعزائمه وفي المسند مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم (( إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته )) فجعل الأخذ بالرخصة قبالة إتيان المعاصي وجعل حظ هذا المحبة ، وحظ هذا الكراهية وما عرض للنبي صلى الله عليه وسلم أمران إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً والرخصة أيسر من العزيمة وهكذا كان حاله في فطره وسفره وجمعه بين الصلاتين والاقتصار من الرباعية على ركعتين وغير ذلك فنقول:- الرخصة نوعان ، أحدهما:- الرخصة المستقرة المعلومة من الشرع نصاً كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير عند الضرورة إن قيل لها:- عزيمة باعتبار الأمر والوجوب فهي رخصة باعتبار الإذن والتوسعة وكفطر المريض والمسافر وقصر الصلاة في السفر وصلاة المريض إذا شق عليه القيام قاعداً وفطر الحامل والمرضع خوفاً على ولديهما ونكاح الأمة خوفاً من العنت ونحو ذلك ، فليس في تعاطي هذه الرخص ما يوهن رغبته ولا يرد إلى غثاثة ، ولا ينقص طلبه وإرادته البتة فإن منها ما هو واجب كأكل الميتة للمضطر عن الضرورة ومنها ما هو راجح المصلحة كفطر الصائم المريض وقصر المسافة وفطره ومنها ما مصلحته للمترخص وغيره ففيه مصلحتان قاصرة ومتعدية كفطر الحامل والمرضع ففعل هذه الرخص أرجح وأفضل من تركها ، النوع الثاني:- رخص التأويلات واختلاف المذاهب فهذه تتبعها حرام ينقص الرغبة ويوهن الطلب ويرجع بالمترخص إلى غثاثة الرخص ، فإن من ترخص بقول أهل الكوفة في الصرف ، وأهل العراق في الأشربة وأهل المدينة في الأطعمة وأصحاب الحيل في المعاملات وقول ابن عباس في المتعة وإباحة لحوم الحمر الأهلية وقول من جوز نكاح البغايا المعروفات بالبغاء ومن جوز أن يكون زوج قحبة وقول من أباح آلات اللهو والمعازف من اليراع الطنبور والعود والطبل والمزمار وقول من أباح الغناء وقول من جوز استعارة الجواري الحسان للوطء وقول من جوز للصائم أكل البرد وقال:- ليس بطعامٍ(1/135)
ولا شراب ، وقول من جوز الأكل بين طلوع الفجر وطلوع الشمس للصائم ، وقول من صحح الصلاة بـ ( مدهامتان ) بالفارسية وركع كلحظة الطرف ، ثم هوى من غير اعتدال وفصل بين السجدتين كحد السيف ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم وخرج من الصلاة بحبقة ، وقول من جوز وطء النساء في أعجازهن ، ونكاح بنته المخلوقة من مائه ، الخارجة من صلبه حقيقة إذا كان الحمل من الزنى وأمثال ذلك من رخص المذاهب وأقوال العلماء ، فهذا الذي تنقص بترخصه رغبته ويوهن طلبه ويلقيه في غثاثة الرخص فهذا لون ، والأول لون ) أهـ كلام ابن القيم رحمه الله تعالى والله أعلم(1/136)
تعريف الطلاب
بأصول الفقه في
سؤال وجواب
تأليف
وليد بن راشد السعيدان
القسـ4ـــم
س91) ما تعريف الأدلة , وما أنواعها؟
ج) الأدلة جمع مفردها دليل ، والدليل لغة هو المرشد إلى المطلوب ، وشرعا :- هو الموصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري ، وبيان ذلك :- أن الأدلة التي يذكرها الأصوليون من الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح كلها لا يستطيع العبد الاستفادة منها إلا إذا نظر لها نظرا صحيحا، أي نظر لها على مقتضى قواعد النظر الصحيح المقررة عند العلماء ، فإنه إذا نظر إلى تفاصيل الأدلة بمقتضى هذا النظر فإنه سيتوصل في نهاية نظره هذا إلى مطلوب خبري ، أي إلى شيء مطلوب شرعا خرج على صورة الخبر ، وأضرب لك مثالا :- وهو قوله تعالى " وأقيموا الصلاة " فإننا إذا قلنا :- هذا أمر والأمر يفيد الوجوب ، فنتوصل بهذا النظر الصحيح إلى قولنا :- الصلاة واجبة ، وهذا خبر ولكنه مطلوب شرعا ، أي أن الصلاة مطلوبة من قبل الشارع ، فهو طلب في صورة خبر ، وهكذا في سائر الأدلة ، وهذا يفيدك أن الاستفادة من الأدلة إنما هو موقوف على صحة النظر فيها ، وعليه فمن نظر في الدليل نظرا خاطئا فإنه لن يتوصل بهذا النظر للمطلوب الخبري الصحيح ، ومثاله :- قوله تعالى " بل يداه مبسوطتان " فإن من قال :- إن اليد هنا يراد بها القدرة أو النعمة إنما توصل لذلك بسبب النظر الخاطئ في الدليل ، لأنه نظر فيه بناء على أن الاتفاق في الأسماء يستلزم الاتفاق في الصفات ، وقد عرفنا في قواعد العقيدة أن هذه القاعدة باطلة كل البطلان ، فلما نظر إلى الدليل بمقتضى هذا النظر الفاسد أنتج له هذا القول الفاسد ، وهو نفي صفة اليد عن الله تعالى ، وأما أهل السنة فإن القاعدة عندهم أن الاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في الصفات ، فلما نظروا إلى هذا الدليل بالنظر الصحيح صارت نتيجة النظر فيه موصلة إلى المطلوب ، وهو أن هذا الدليل من جملة ما يستدل به على إثبات صفة اليد لله(1/1)
تعالى ، والذي نريد إثباته هنا :- هو أن سلامة النتائج مبنية على سلامة النظر فمن نظر إلى الدليل بالنظر الصحيح فإنه سيتوصل للنتيجة الصحيحة ، ومن نظر إلى الدليل بالنظر الفاسد فإنه لن يتوصل للنتائج الصحيحة ، فإن قلت :- وما هو الطريق للعلم بالنظر الصحيح ؟ فأقول :- هذا هو بيت القصيد عندنا في هذه الكتابة ، فإن تعلم أصول الفقه على منهج أهل السنة وضبط القواعد المقررة بالدليل ، هو من باب تعليم كيفية النظر في الأدلة الشرعية ، فلن يستطيع الطالب أن يحكم معرفة النظر الصحيح في الأدلة إلا إذا طرق أبوابه بتعلم أصول الفقه ، وتعلم القواعد عند أهل السنة والجماعة ، والنظر في كلام أهل العلم في ذلك ، وهو ما نجتهد أن نوصله إليك بأسهل عبارة وأوضح إشارة ، والله ربنا أعلى وأعلم .وأما قولك في السؤال:- ( وما أنواعها ) فقد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى أن الأدلة نوعان :- نوع متفق عليه بين أهل العلم ، ونوع مختلف فيه بينهم ، فأما المتفق عليه الاتفاق القطعي فهو الكتاب والسنة, وأما الإجماع والقياس فهو متفق عليه في الجملة ، فهذه الأربعة متفق عليها ، وما عداها فمختلف فيه ويدخل في ذلك :- قول الصحابي ، وشرع من قبلنا والمصلحة المرسلة ، والاستحسان والاستصحاب ، والعرف ، وإجماع أهل المدينة ، والقول بسد الذرائع ، وغيرها مما سيأتي بيانه ، إن شاء الله تعالى ، وكل ذلك سوف نفصل فيه ونزيد في أدلته ومسائله وفروعه ، حتى يغلب على ظننا أنك فهمت ، والله وحده المستعان على كل ذلك ، فإنه لا حول ولا قوة إلا به جل وعلا .
س92) ما القرآن ، وما العقيدة الصحيحة فيه , وهل هو حجة ، وضح ذلك كله بالدليل والتعليل وكلام العلماء ؟
ج) أقول :- هذا سؤال عظيم القدر كبير الشأن له المنزلة العليا والرتبة الأسمى ، ومن باب توضيحه التوضيح الكامل نفصل الجواب عنه في فروع ، فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد العون والفضل :-
((1/2)
الفرع الأول ) عرف العلماء القرآن (بأنه كلام الله تعالى الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم المعجز بنفسه والمتعبد بتلاوته ) وقد جمع هذا التعريف أربعة قيود :- الأول :- أن هذا القرآن العظيم كلام الله تعالى حقيقة - وسيأتي تفصيل ذلك بعد قليل - الثاني :- أنه منزل من عند الله تعالى ، نزل به جبريل عليه السلام من عند الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى " وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين " ، الثالث :- أنه معجز ، ويخرج بهذا القيد الأحاديث القدسية ، إذ القرآن معجز في لفظه ومعناه ، الرابع :- كونه متعبدا بتلاوته ويخرج بذلك الآيات المنسوخة اللفظ ، سواء بقي حكمها أولا ، لأنها صارت بعد النسخ لا تدخل في حد القرآن ، لسقوط التعبد بتلاوتها فلا تعطى حكم القرآن .
((1/3)
الفرع الثاني ) وأما عن قولك ( ما العقيدة الصحيحة فيه ) فاعلم رحمك الله تعالى ووفقك للهدى ودين الحق ، أن العقيدة الصحيحة في كتاب الله تعالى هي ما قرره أهل السنة والجماعة - رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم - من أن القرآن كلام الله ، منزل غير مخلوق ، من الله بدأ وإليه يعود, فهذه ثلاث نقاط متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض ، فقولنا ( القرآن كلام الله تعالى ) وقد دل على ذلك قوله تعالى " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه " والمراد بكلام الله تعالى هنا إنما هو القرآن ، ومنها قوله تعالى " الر، كتب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " وقال تعالى " قل نزله روح القدس من ربك بالحق " وقال تعالى " والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " وقال تعالى " ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر " فالقرآن ليس كلام محمد ولا كلام جبريل ولا كلام أحد من البشر وإنما هو كلام الله تعالى ، وقولنا ( منزل غير مخلوق ) هذا متفق عليه بين أهل السنة رحمهم الله تعالى ، وقد دلت عليه الآيات الكثيرة التي لا تحصى كثرة ، قال تعالى " قل نزله روح القدس من ربك بالحق " وقال تعالى " حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " وقال تعالى "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" وقال تعالى " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء " وأما قولنا ( غير مخلوق ) فلأنه قد ثبت بالدليل أنه كلام الله تعالى ، وحيث كان كذلك فلا يتصور أن يكون مخلوقا ، لأن الكلام صفة من صفات الله تعالى وليس من صفات الله شيء مخلوق ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وقد انعقد إجماع أهل السنة على أن القرآن غير مخلوق وانعقد إجماعهم على أن من قال بخلق القرآن فإنه كافر ، وأما قولنا ( منه بدأ ) أي أن أول ابتداء الكلام به من الله تعالى فالله تعالى أول من تكلم بهذا القرآن، فالله تعالى تكلم بهذا القرآن(1/4)
ثم سمعه جبريل منه وأنزله على محمد صلى الله عليه ثم سمعته الأمة من النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا فيه بيان لما قد يلتبس على البعض في قول الله تعالى في سورة الحاقة " إنه لقول رسول كريم " والمراد به هنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي سورة التكوير " إنه لقول رسول كريم " والمراد به هنا جبريل عليه الصلاة والسلام ، لأن إضافة القرآن إليهما إنما هو من باب إضافة التبليغ فقط لا إضافة الابتداء، ذلك لأن الكلام إنما ينسب حقيقة إلى من قاله مبتدءا لا إلى من قاله مؤديا مبلغا ، فانتبه لهذا ، وأما قولنا (وإليه يعود) أي أنه سيرفع إلى الله تعالى في آخر الزمان ، وقد ورد في ذلك بعض الآثار الدالة على ذلك ، وإن أردت تفصيلا أكثر في هذه المسألة العظيمة ، فارجع إلى كتابنا ( إتحاف أهل الألباب بمعرفة العقيدة والتوحيد في سؤال وجواب ) فقد ذكرنا هناك الأدلة على كل جزئية تتعلق باعتقاد أهل السنة في كتاب الله تعالى ، والله أعلم, قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى ( القرآن كلام الله تعالى ، وليس كلام جبريل ، ولا كلام محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وأئمة المسلمين الذين يفتى بقولهم في الإسلام كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، وغيرهم ) وقال أيضا ( ومذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين كالأئمة الأربعة وغيرهم ما دل عليه الكتاب والسنة وهو الذي يوافق الأدلة العقلية الصريحة :- من أن القرآن كلام الله تعالى منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود ) وقال عمرو بن دينار رحمه الله تعالى ( أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمن دونهم منذ سبعين سنة ، يقولون :- الله الخالق وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام الله تعالى ، وإليه خرج وإليه يعود ) وقال إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى ( وقد أدرك عمرو بن دينار أجلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من(1/5)
البدريين والمهاجرين والأنصار، مثل :- جابر بن عبدالله ، وأبي سعيد الخدري وعبدالله بن عمر ، وعبدالله بن عباس ، وعبدالله بن الزبير ، وأجلة التابعين وعلى هذا مضى صدر هذه الأمة ) وقال جعفر بن محمد رحمه الله تعالى ( القرآن كلام الله تعالى ليس بخالق ولا مخلوق ) وقال مالك بن أنس رحمه الله تعالى ( القرآن كلام الله ) وكان يستفضع قول من قال :- القرآن مخلوق ، وقد نص على ذلك كلٌ من :- سفيان بن عيينة ، وعبدالله بن المبارك ، والشافعي, ووكيع بن الجراح ، ويحيى بن سعيد القطان ، ويزيد بن هارون ، وعبدالله بن إدريس ، وأبو الوليد الطيالسي ، وسليمان بن حرب ، وخاتمة العقد المبارك أحمد بن حنبل وابن تيمية وابن القيم وأئمة الدعوة النجدية رحم الله الجميع رحمة واسعة ، وغفر لهم وأسكنهم أعلى درجات الجنة ، ونفعنا الله تعالى بعلمهم ، وقد نص على تكفير من قال بخلق القرآن جماعة كبيرة جدا من السلف ، بل هو من الاتفاق القطعي بين سلف الأمة وأئمتها ، وإن شئت أن ترى كلامهم وتعرف أعيانهم فعليك بكتاب اللالكائي رفع الله درجته في الفردوس الأعلى ، ونحن على ذلك الاعتقاد لا نحيد عنه طرفة عين ، ونسأله جل وعلا أن يثبتنا عليه إلى الممات .
((1/6)
الفرع الثالث ) وأما قولك :- ( وهل هو حجة ) فأقول :- لقد اتفق المسلمون الاتفاق القطعي المتواتر على أن القرآن حجة ، بل هو أعظم الحجج وأفخمها وأكبرها وأعلاها ، ولا يخالف في ذلك إلا كافر، وهذه المسألة أوضح وأعلى من أن يستدل لها ، قال تعالى " أتبعوا ما انزل إليكم من ربكم " أي القرآن والحكمة ، ولم يأمر باتباعه إلا وهو حجة قائمة بذاتها ، وقال تعالى " اتبع ما أوحي إليك من ربك " أي القرآن ، فهو أول الحجج وأصلها ، وتاجها وسيدها ، وهو الحق كله والصدق كله والبر والهدى كله، والشفاء والخير كله ، قال تعالى " فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنك ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى " فلو لم يكن القرآن حجة لما مدح من اتبعه ولما عوقب من أعرض عنه ، قال السلف رحمهم الله تعالى ( تكفل الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ) وقال تعالى "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان " والبينة هي الدليل والبرهان والحجة ، وقال تعالى " وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ " والنذارة فرع عن الحجية أي لا تقع النذارة إلا بما هو حجة ، فلو لم يكن القرآن حجة لما تحققت به النذارة ، وقال تعالى "وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ، ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا " وهذا وصف للقرآن بأنه الحق ، وهذا صفة للحجة الصحيحة ، لأن الحجة لا تكون إلا بالحق ، والقرآن هو الحق فينتج من ذلك أن القرآن حجة لأنه حق ، والآيات والنقول في هذه المسألة كثيرة جدا ، وبما أنها من أوضح القضايا وأكبرها فلا داعي للإطالة فيها .
س93) هل يوجد في القرآن ألفاظ غير عربية ؟(1/7)
ج) أقول :- الحق الحقيق بالقبول في هذه المسألة هو أن القرآن كله عربي الألفاظ عربي الدلالات فكل ألفاظه عربية ، وليس فيه من الألفاظ الأعجمية شيء ، والدليل على ذلك قوله تعالى " وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين " فانظر رحمك الله تعالى كيف ذكر الله تعالى أن هذا القرآن نزل باللسان العربي ، ولم يكتف جل وعلا بوصفه بالعربية فقط ، بل وصفها بأنها عربية مبينة ، وهذا - والله أعلم - ليزيل الاحتمال الذي قد يطرأ على بعض العقول من أن فيه بعض الألفاظ الأعجمية ، فالقرآن كله نزل باللسان العربي المبين وقال تعالى " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث أولا في مكة ، وأهلها من أفصح العرب لسانا ، فيكون قد بعث بما يعرفونه من لسان العرب وقال تعالى " وكذلك أنزلناه حكما عربيا " وقال تعالى " إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون " أي صيرناه باللسان العربي ، وقال تعالى " وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا " وقال تعالى " وهذا - أي القرآن - لسان عربي مبين " وقال تعالى "قرآنا عربيا غير ذي عوج" وقال تعالى " وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا " وقال تعالى " وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا " فماذا يقول القائل بعد هذه الآيات الدالة دلالة قطعية على أن القرآن كله عربي ، بل عربي مبين ؟ ولا كلام لأحد بعد كلام الله تعالى ، فإنه القول الحق الذي لا أحق منه ، والصدق الذي لا أصدق منه ، فإن قلت وكيف يستدل بهذه الآيات على كلية عربية القرآن الكريم ؟ فأقول :- يستدل بها على مقتضى بعض القواعد الأصولية ، فمنها :- أن هذه الآيات فيها عموم وقد تقرر في الأصول أن الأصل هو وجوب البقاء على العموم حتى يرد المخصص ، ولا نعلم مخصصا لشيء من هذه الآيات ، فحيث لا مخصص فالأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل(1/8)
ومنها : أن هذه الآيات فيها إطلاق ، وقد تقرر في الأصول أن الأصل هو بقاء المطلق على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل ، ولا نعلم دليلا يصلح أن يكون مقيدا لشيء من هذه الآيات ، فحيث لا دليل يقيدها فالأصل البقاء على إطلاقها ، ومنها :- أن الله تعالى وصف هذا القرآن بأنه عربي ، وقد تقرر في القواعد أن الأصل شمولية الوصف لكل أفراد الموصوف ، فمن أخرج فردا من أفراد هذا الموصوف عن مقتضى الوصف فإنه مطالب بالدليل المخرج لهذا الفرد عن سائر الأفراد ، ولا نعلم دليلا يصلح أن يقبل في إخراج لفظة من ألفاظ القرآن عن هذا الوصف الكلي الشامل العام, فحيث لا دليل يصلح لذلك فالأصل هو البقاء على شمولية الوصف للموصوف حتى يرد الناقل، ومنها :- أن الله تعالى أطلق الوصف بأن هذا القرآن عربي ، ولم يفصل بين لفظة ولفظة ، مع قيام احتمال أن بعض ألفاظه أعجمية ، فحيث ترك التفصيل مع قيام الاحتمال فهذا دليل على إرادة العموم، لأنه قد تقرر في الأصول أن ترك الاستفصال مع قيام الاحتمال منزل منزلة العموم في المقال ، أي أن من الأشياء التي نعرف إرادة العموم في المقالات ترك التفصيل فيها ، ومن الأدلة أيضا على أن القرآن عربي كله قوله تعالى " ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي " وهذا نص في المسألة التي نحن بصددها ، وقال تعالى " ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين" فالحق الحقيق بالقبول في هذه المسألة هو أن القرآن كله عربي الألفاظ وليس من ألفاظه ما ليس بعربي ، فهو عربي الألفاظ عربي الدلالات ، ومن قال بغير ذلك فليأت ببرهانه إن كان من الصادقين ، والله بنا أعلى وأعلم, فإن قلت :- وهل لهذه المسألة اعتبار في أي خلاف فقهي عملي ؟ فأقول :- لا ، بل الخلاف فيها خلاف لفظي ، ولكن أحببت أن أطيل فيها وأذكرها في هذا الكتاب لأنها نوع دفاع عن القرآن ، والدفاع عن القرآن رتبة عالية ومنقبة عظمية, فأحببت أن أشارك(1/9)
فيه عسى أن أنظم من جملة الذابين عن كتاب الله تعالى ، فإن قلت :- فإننا نجد في القرآن بعض الألفاظ التي نص على أنها أعجمية مثل (مشكاة ، إستبرق ، ناشئة الليل ) ونحو ذلك فأقول :- لنا على ذلك أجوبة : الأول :- أننا لا نسلم أن هذه الألفاظ أعجمية ، بل هي ألفاظ عربية ، ودليل عربيتها وجودها في القرآن الكريم الموصوف بأن جميع ما فيه كله عربي ، ولسان العرب لسان واسع لا يحيط بتفاصيل ألفاظه أحد، إلا إن كان هذا الأحد نبيا يوحى إليه ، وأما آحاد العرب فإنه لا يقدر على الإحاطة بكل ألفاظ العرب ، وليس جهل أحد من الناس بأن هذه اللفظة لا توجد في لسان العرب بحجة على أحد ، لأن الجهل قصاراه عدم العلم ، وكيف يكون جهل الجاهل حجة على الشرع ، فضلا على تقديمه على نص الكتاب العزيز القاطع بأن القرآن كله عربي ؟ ولأن المتقرر في الأصول :- أن عدم العلم ليس علما بالعدم ، أي كونك تجهل وجود هذه اللفظة بعينها في لسان العرب ليس دليلا على عدم وجودها ، لأنه لا تلازم بين عدم العلم بالشيء وعدم وجوده ، فكم وكم من الأشياء التي نجهل وجودها وهي موجودة ثابتة في نفس الأمر الجواب الثاني :- أننا حيث قلنا إن هذه الألفاظ عربية فإن ذلك لا يمنع من وجودها في لسان العجم فتكون من الألفاظ المشتركة بين العرب والعجم ، أي مما تكلم به العرب والعجم ، هذا لا يمتنع الثالث :- سلمنا – جدلا- أن هذه الألفاظ أعجمية ، لكن لا نسلم أنها بقيت على عجميتها ، بل إن العرب استعملتها في كلامها ، وعربتها بالاستعمال حتى صارت من الألفاظ العربية ، لكنها ليست من الألفاظ العربية بالأصالة ، وإنما من الألفاظ العربية بالتعريب ، لكنها لا تخرج بذلك عن كونها من الألفاظ العربية ،وهذا لا نقوله إلا من باب التسليم الجدلي ، وبالجملة :- فالحق في هذه المسألة هو أن القرآن كله عربي ، وليس في ألفاظه شيء أعجمي ، والله أعلم ؛ ( تنبيه ) أقول :- اتفق العلماء على أن في القرآن بعض(1/10)
الأسماء الأعجمية ، كإسرائيل ، ولوط ، وإبراهيم ، وعمران ونوح ) واتفق العلماء على أنه لا يوجد في القرآن من الأساليب إلا ما كان على درج أساليب العرب ، فالكلام المركب على أساليب العرب لا يوجد في القرآن ، والله أعلم .
س94) هل القراءة الشاذة حجة ؟ وضح ذلك بالأدلة والفروع ما استطعت إلى ذلك سبيلا ؟(1/11)
ج) أقول :- عرف العلماء القراءة الشاذة بأنها ما نقل آحادا ، وصح سندها ، وخالفت رسم المصحف العثماني ، وعليه :- فالراجح عندنا والله أعلم هو أن القراءة الشاذة هي بعينها القراءة الآحادية ، فهما قسم واحد ، وهو مذهب الجمهور ، وبه تعلم أن القراءة الشاذة تختلف عن القراءة المتواترة في أمرين :- أولا :- أنها نقلت آحادا ، وأما المتواترة فقد نقلت بالتواتر ، الثاني :- أنها خالفت خط المصحف العثماني ، وأما المتواترة فقد وافقت الرسم العثماني ولو من وجه صالح في لغة العرب ، فإذا نقلت القراءة نقلا آحاديا، وخالفت الرسم العثماني فإنها توصف بأنها شاذة ، وهل هي حجة أو ليست بحجة ؟ هذا من مواطن النزاع بين أهل العلم رحم الله تعالى أمواتهم وثبت أحياءهم على الحق، والقول الصحيح عندنا والرأي الراجح المليح هو أنها حجة ، يجب العمل بها لكن بشرط صحة سندها للصحابي المنقولة عنه ، وهو قول الجمهور من الحنابلة في المشهور عنهم والحنفية وقول في مذهب الشافعية ، وقال به من الأصوليين :- السرخسي ، وابن الهمام, والسبكي وابن اللحام ، وابن قدامة ، والفتوحي الحنبلي ، وعليه فنقعد في ذلك قاعدة ونقول ( القراءة الشاذة حجة إذا صح سندها ) والدليل على ما رجحناه عدة أمور :- منها:- أن الناقل لها صحابي والصحابة كلهم عدول ثقات أثبات ، لا مطعن فيهم ، فهم مرضيون صادقون فيما ينقلونه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيجب قبول ما نقلوه من هذه القراءة كما يجب علينا قبول سائر ما نقلوه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صح السند إليهم ، فمن فرق في القبول عنهم بين منقول ومنقول فقد فرق بين متماثلين ، وهذا ممنوع ، ومنبع هذا الدليل هو ما نسميه بالإلحاق بنزع الفارق ، أي أن هذا الصحابي قد نقل لنا عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ونحن قبلنا منه هذا النقل ، وهذه القراءة الشاذة هي من جملة ما نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فنقله لها(1/12)
كنقله سائر ما حدث به وقبلناه ، فكما أننا قبلنا الأول فلنقبل الثاني إذ لا فرق بينهما ، وهذا حق ، ومنها :- أن الناقل لها - أي لهذه القراءة - يخبر إخبار الجازم بأنها مما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، فهي إن لم تكن قرآنا فلا تخلو أن تكون خبرا ، فلا تخرج عن كونها مما سمعه الصحابي منه صلى الله عليه وسلم ، فإذا بطل كونها من القرآن لمخالفتها لرسم المصحف العثماني ، فهي خبر آحاد سمعه الصحابي من المعصوم عليه الصلاة والسلام ، وخبر الآحاد حجة كما رجحناه في موضع آخر ، وعليه :- فالقراءة الشاذة حجة كيفما كان الأمر ، فهي إن ثبت أنها من القرآن فالقرآن كله حجة ، وإن لم تثبت أنها من القرآن فهي حجة أيضا لأنها خبر آحاد صحيح ، وقد تقرر في القواعد أن خبر الآحاد الصحيح الذي لم ينسخ حجة مطلقا ، فهي إذاً حجة على كل حال ، الثالث :- أننا نجزم جزما قاطعا أكيدا أن ما ينقله الصحابة في مقام الاحتجاج والتشريع إنما هو مما سمعوه لا مما اخترعوه من عند أنفسهم - حاشا وكلا - كيف وهم أكمل الأمة إيمانا وأعمقها علما ، وأشدها تمسكا ، وأحرصها على مصدر التشريع من الكتاب والسنة ، فقد حافظوا على القرآن أشد المحافظة أن يزاد فيه أو ينقص ، وكلهم مقطوع بعدالتهم فلا يجوز ظن السوء بهم ، وهذه القراءة الشاذة يجزم هذا الصحابي الناقل لها أنها مما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد أثبتها في مصحفه الخاص به ، وهو يقرؤها على أنها من القرآن ، ويستدل بها في مقام التشريع ، ويحتج بها على المخالف ، فكيف مع ذلك لا تكون حجة ؟ لكننا لا نسلم له أنها من القرآن ، وأما أن نجزم أنها ليست مما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فهذا لا يكون أبدا، لأنه عدل ثقة ثبت صادق أمين فإذا بطلت قرآنيتها فلا تقصر عن أن تكون من أخبار الآحاد وخبر الآحاد الصحيح حجة ، فإن قلت وكيف ينفرد بها الصحابي من بين سائر كتاب الوحي ؟ فأقول :- لعله صلى الله عليه وسلم(1/13)
كان يتلو عليهم الآية ، وكتاب الوحي يكتبون ، وفي ثنايا تلاوة الوحي يتوقف صلى الله عليه وسلم ، لبيان بعض المراد من بعض الألفاظ ، فلعل الصحابي هذا كتب بعض بيان النبي صلى الله عليه وسلم ظنا منه أنه لا يزال يتلو القرآن ، وهذا يدلك على صحة ما قلناه :- من أن هذه القراءة الشاذة إما أن تكون من القرآن وإما أن تكون خبرا سمعه الصحابي من النبي صلى الله عليه وسلم وعلى كل احتمال فهي حجة ، الرابع :- أن المتقرر عند الأصوليين أن انتفاء الأخص لا يستلزم انتفاء الأعم ، فهذه القراءة الشاذة فيها عموم وخصوص ، فأما عمومها فهي لا تخرج عن أن تكون خبرا سمعه هذا الصحابي من النبي صلى الله وسلم ، وأما خصوصها فهي أن تكون قرآنا، فإذا بطلت قرآنيتها فقد انتفى الأمر الأخص ، ولكن بقي الأمر الأعم وهي أنها من الأخبار التي سمعها الصحابي منه صلى الله عليه وسلم ، وانتفاء الأخص لا يلزم منه انتفاء الأعم ، فنحن نسلم لكم بطلان كونها من القرآن ، لكن لا نسلم لكم بطلان كونها من الأخبار المسموعة منه صلى الله عليه وسلم الخامس :- أن هذه القراءة لم تخالف معنى ثبت في القرآن ، فإنها لم تأت بمعنى يخالف ما في كتاب الله تعالى ، وإنما هي أضافت بيانا جديدا لمجمل ورد في الآية ، فلا تكون شاذة بالمعنى المشهور عند المحدثين ، من مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه ، لأن الصحابي لم يخالف الثقات بما أثبته من هذه القراءة وهذا معلوم بالاستقراء لهذه القراءات الشاذة ، وإنما نحن وصفناها بالشذوذ لأنها خالفت الرسم العثماني فقط ، فهي شاذة لمخالفة الرسم لا لمخالفة المعنى ، وهذا لا يوجب ردها ، لأن قصاراها أنها خبر صحيح من صحابي ثقة أمين عدل صادق بين به بعض المجملات أو أوضح بها قيدا لبعض الأحكام الواردة في الآية ، ومن المعلوم أن السنة تبين القرآن وتدل عليه وتعبر عنه ، السادس :- أن الصحابي الناقل لهذه القراءة ، يخبر بخبرين :- الأول :- أنها من القرآن ، لأنه(1/14)
نقلها على أنها من القرآن ، الثاني :- أنه قرآن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، ونحن أبطلنا كونها من القرآن فنكون بذلك قد أبطلنا قوله الأول ، ولكن أين الدليل على بطلان الثاني ، وهو أنها مما سمعه من النبي صلى الله عليه ؟ فإن هذا لا وجود له ، إلا إن كذبناه في قوله أنها مما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، ونعوذ بالله من ذلك ، لأنه لا يصدر من مؤمن يعرف قدر الصحابة وعلو رتبتهم في العلم والدين والإيمان ، السابع :- أنه لا يتصور أن تكون هذه القراءة من مذهب الصحابي الذي أدخله في ثنايا المصحف وأثبته على أنه من القرآن ، واحتج بها على أنها من القرآن وحقيقة الأمر أنها ليست منه ولكنها مذهب له ، هل بالله عليك يمكن أن يكون هذا ، فإن هذا قد لا يتصور من أفسق المسلمين وأبعدهم عن الهدى ، فكيف يقال ذلك في حق الصحابي الناقل لهذه القراءة ، وهذا جواب على من قال :- إنها مذهب له وليست من القرآن ، وهو قول باطل وإن جاء به من جاء بل هو قول مناف لعدالة الصحابة وتوثيقهم ، فاحذر من هذا القول كل الحذر ، الثامن :- أن اشتراط التواتر في صحة القراءة غير مسلم ، بل الحق أن الشرط هو صحة السند ، فما صح سنده من القراءات فهو القراءة الصحيحة وإن لم ينقله إلا الآحاد ، لأن الاشتراط من أحكام الشرع, وقد تقرر أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ، ولا نعلم دليلا يثبت ذلك وأما دعوى الإجماع عليه فلا تصح ، لثبوت المخالف، وعليه :- فشرط القراءة الصحيحة هو صحة السند ولو آحادا ، وموافقة الرسم العثماني ، وموافقتها للعربية ، وهذه اللفظة الزائدة على الرسم العثماني والتي وردت في القراءة الشاذة قد خالفت الرسم فقط ، ومخالفتها للرسم إنما يبطل قرآنيتها فقط ، ونحن نسلم ذلك ونقول :- ليست من القرآن ، ولكن مخالفتها للرسم لا يبطل كونها خبرا مسموعا من النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ما نريد إثباته هنا ، من أن هذه(1/15)
اللفظة الزائدة على رسم المصحف ليست بقرآن لكنها خبر صحيح سمعه الصحابي جازما بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، فهي خبر آحاد وخبر الآحاد حجة ، وبهذه الأدلة تعلم إن شاء الله تعالى أن القول الصحيح والرأي الراجح المليح أن القراءة الشاذة حجة يجب العمل بما فيها ، وأنا في الحقيقة في نفسي شيء منذ زمن قديم من تسمية هذه القراءة بالشاذة ، وأحب جدا أن أسميها بالقراءة الآحادية وذلك لأن الشذوذ من الألفاظ المكروهة المنكرة التي تنفر منها الطباع ولا تعشق سماعها الأذن ولأن الشاذ من القسم الضعيف عند المحدثين ، فخوفا من التباس الأمر على بعض الناس فلا بد من الفصل بين ذلك وبين ما نريده من الكلام في هذه المسألة ، ولأن لفظ الشذوذ يجمل في طياته معنى المخالفة وهذه القراءة لم تخالف شيئا مما ثبت به النقل ، وإنما أضافت بيانا جديدا من صفة أو شرط أو قيد، فليس فيها معنى الشذوذ حتى تسمى به ، وهذه خاطرة قد لا يقبلها إخواني من أهل العلم لكنها في نفسي فأحببت أن أعرضها عليك لتنظر وتفكر فيها وتتأمل في أبعادها ، والله ربنا أعلى وأعلم ، إذا علمت هذا فاعلم - بارك الله فيك - أن هذا الخلاف أثر في جملة من الفروع نذكر لك ما نعرفه منها لتتعرف به على ما لم يذكر ، فأقول وبالله تعالى التوفيق ومنه أستمد العون والفضل وحسن التحقيق :-(1/16)
* من الفروع على هذه القاعدة :- اختلف أهل العلم والفضل في حكم التتابع في صوم الأيام الثلاثة التي هي من كفارة اليمين ، فإذا عجز المكلف عن التكفير بالإطعام والكسوة وتحرير الرقبة ، فإنه ينتقل إلى التكفير بصوم ثلاثة أيام ، لكن هل يشترط فيها التتابع أم لا ؟ فيه خلاف ، فذهب الحنفية والحنابلة في المشهور عنهم إلى أنه لا بد من التتابع ، فالتتابع في صوم كفارة اليمين من الواجبات وذهب المالكية والشافعية إلى عدم الوجوب ، وقالوا :- بالاستحباب فقط ، وأما الوجوب فلا والقول الصحيح والرأي الراجح المليح هو القول بالوجوب ، فإن قلت :- وما الدليل على ما رجحته ؟ فأقول :- الدليل على ذلك ما رواه الحاكم في المستدرك قال :- أخبرنا أبو عبدالله محمد بن يعقوب الحافظ قال :- حدثنا عبدالوهاب بن حبيب العبدي قال :- حدثنا جعفر بن عون قال:- أنبأنا أبو جفعر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه يقرؤها ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) حديث صحيح ، وفي الموطأ عن مالك عن حميد بن قيس المكي أنه أخبره قال :- كنت مع مجاهد وهو يطوف بالبيت فجاءه إنسان فسأله عن صيام أيام الكفارة أمتتابعات أم يقطعها ؟ قال حميد :- فقلت له :- نعم ، يقطعها إن شاء ، قال مجاهد :- لا يقطعها فإنها في قراءة أبي بن كعب ( ثلاثة أيام متتابعات ) وفي مصنف ابن أبي شيبة بالسند الصحيح عن وكيع عن أبي جعفر عن الربيع عن أبي العالية قال :- كان أبيّ يقرؤها ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) وفي المصنف أيضا عن ابن علية عن ابن عون قال :- سألت إبراهيم عن صيام الثلاثة الأيام في كفارة اليمين ؟ فقال :- في قراءتنا ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) وقال عبدالرزاق في المصنف :- أخبرنا معمر عن أبي إسحاق و الأعمش قالا:- في حرف ابن مسعود ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) حديث صحيح ، وفيه أيضا عن ابن أبي نجيح قال :- جاء رجل إلى طاووس فسأله عن صيام ثلاثة أيام(1/17)
في كفارة اليمين ، قال :- صم كيف شئت ، فقال له مجاهد :- يا أبا عبدالرحمن فإنها في قراءة ابن مسعود ( متتابعات ) فقال :- فأخبر الرجل ، وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن هشام عن الحسن أنه كان يقول في صوم كفارة اليمين :- يصومها متتابعات فإن أفطر من عذر قضى يوما مكان يوم ، ويروى هذا القول عن علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما من أهل العلم ، بل هو القول المشهور عن السلف ، وهو الحق إن شاء الله تعالى في هذه المسألة, ونقول أيضا :- إن المعهود الشرعي في الكفارات إنما هو التتابع ، وهذا من المرجحات القوية ، وذلك كما في كفارة الصوم في قتل النفس خطأ أو شبه عمد فقد قال الله تعالى " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله " وكما قال جل وعلا في الكفارة بالصوم في الظهار " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين " فالتتابع في صوم كفارة اليمين ليس بدعا من القول ، بل هو جار على سنن المعهود الشرعي في صوم الكفارات ، ونقول أيضا :- إن قوله تعالى " فصيام ثلاثة أيام " كما في القراءة المتواترة ، هذا مطلق ، وفي قراءة أبيّ بن كعب وابن مسعود ورد التقييد بقوله ( متتابعات ) والسبب واحد والحكم واحد ، فيحمل المطلق على المقيد هنا ، لأنه قد تقرر في قواعد الأصول أن المطلق يحمل على المقيد إذا اتفقا في الحكم والسبب ، فإن قيل :- لماذا لا نقول :- لا يجب التتابع في صوم في كفارة اليمين قياسا على عدم الوجوب في قضاء رمضان ؟ فأقول :- هذا قياس غير مقبول لأمور :- الأول :- أن قضاء رمضان ليس من باب الكفارة في شيء ، فقياس ما هو كفارة على ما ليس بكفارة قياس مع الفارق ، وقد تقرر في الأصول أن القياس مع الفارق باطل ، الثاني:- أنه قياس في مصادمة النص ، لأن النص في القراءة الآحادية أثبت التتابع فيكون القياس باطلا ، لأنه قد تقرر في الأصول أن كل قياس صادم النص فإنه فاسد ، الثالث :- أنه قياس مبناه على الاجتهاد مع أن النص في المسألة موجود(1/18)
وحاضر ، وقد تقرر في القواعد أنه لا اجتهاد مع النص ، والخلاصة من هذا الفرع هو أن القول الراجح أن التتابع في صوم الكفارة واجب ، لا يصح التكفير بالصوم إلا به ، استدلالا بالقراءة الآحادية فإن قطع التتابع فقد فسد التكفير به ، وعليه الإعادة من جديد إلا إن كان قطعه لعذر معتبر شرعا ، والله أعلم وأعلى .
ومن الفروع أيضا:- هل تصح الصلاة بالقراءة الآحادية ؟ أقول :- في هذا الفرع خلاف بين أهل العلم رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم والأقرب عندي في هذه المسألة أنه لا يقرأ بها في الصلاة لأننا قد حكمنا عليها بأنها ليست بقرآن ، لا لأنها ليست بمتواترة ، ولكن لأنها خالفت الرسم العثماني فالأحسن للمسلم أن لا يقرأ بها في الصلاة ، ولأنه أحوط في أمر الصلاة ، وفيه الخروج من خلاف أهل العلم في هذه المسألة ، ولأنها خبر كسائر الأحاديث والأحاديث لا يجوز قراءتها في الصلاة فكذلك القراءة الآحادية ، والله أعلم .(1/19)
ومنها :- اختلف أهل العلم والفضل رحمهم الله تعالى في تعيين الصلاة الوسطى ، على أقوال كثيرة والحق منها هو أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ، وذلك لأنه قد ورد في قوله تعالى " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " ورد فيها قراءة آحادية وهي قراءة ابن مسعود وأبيّ وعائشة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم بلفظ ( والصلاة الوسطى صلاة العصر ) وسندها جيد ، وفي مصحف عائشة ( والصلاة الوسطى وهي العصر ) فاستدلالا بهذه القراءة الآحادية نقول :- إن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ، لأن المتقرر أن القراءة الآحادية حجة ، ويؤيد هذه القراءة ما ثبت في الصحيح من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق :-" حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس " وفي حديث ابن مسعود مرفوعا "عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" وهذا القول هو قول أكثر أهل العلم منهم :- أكثر الصحابة فقد قال الترمذي ( وهو قول أكثر العلماء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ) وهو قول :- جمهور التابعين ، كما قاله الماوردي ،وأكثر علماء الأثر كما قاله ابن عبدالبر ، واختاره أبو العباس ابن تيمية والشوكاني وغيرهم كثير من المحققين ، فلأن القراءة الآحادية والسنة الصحيحة تدل على هذا القول قلنا :- إن الصحيح هو أن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، والله أعلم وأعلى .(1/20)
ومنها :- هل يشترط التتابع في صوم قضاء رمضان ؟ أقول :- فيه خلاف ، والقول الراجح في هذه المسألة أنه لا يشترط التتابع ، بل هو من باب الأفضل والأحسن والأكمل فقط ، وأما من باب الوجوب فلا ، فإن قلت :- كيف تقول بذلك وقد ورد في وجوب التتابع قراءتان آحاديتان ؟ وهما قراءة عائشة رضي الله عنها عند البيهقي وغيره من طريق عبدالرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت :- نزلت ( فعدة من أيام أخر متتابعات ) فلماذا لا تقول بها مع أنك ممن يحتج بالقراءة الآحادية ؟ فأقول :- لم أحتج بها لأنها منسوخة ، فقد كان الترتيب في القضاء في أول الإسلام ثم نسخ وجوبه وبقي استحبابه ، فإن قلت :- وما أدراك بالنسخ ؟ فأقول :- أدراني به قول عائشة في نفس الرواية ( ثم سقطت متتابعات ) قال أهل العلم :- تريد أي نسخت ، لا يصح له تأويل غير ذلك ، فهو من المنسوخ لفظا وحكما ، والله أعلم .
ومنها :- على من تلزم النفقة من القرابة ، أي هل تلزمك النفقة على أقاربك غير والديك وأولادك؟ أقول :- فيه خلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى ، والراجح من هذا الخلاف هو أن النفقة واجبة على كل قريب وارث لك إن كان فقيرا لا يجد ما يسد به لقمة عيشه ، فإن قلت :- وكيف لم تستدل بقراءة ابن مسعود ( وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك ) فأقول :- لأنها ضعيفة السند وقد تقرر أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ،وعليه :- فالآية على إطلاقها لم تقيد بذي رحم ولا غيره وإنما القرابة مع الوراثة والفقر كافية في وجوب الإنفاق وهي مخرجة على القاعدة الفقهية التي تقول ( الغرم بالغنم ) . والله أعلم .(1/21)
ومنها :- ما اليد التي تقطع في السرقة ؟ أقول :- أجمع أهل العلم أن أول ما يقطع من السارق هو يده اليمنى من مفصل الكف ، والإجماع كاف في الاستدلال ، ولكن أيد هذا الإجماع قراءة ابن مسعود الآحادية ( فاقطعوا أيمانهما ) وهي قراءة صحيحة السند ، والله أعلم .
ومنها :- أقول :- اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى على أنه يجوز للمرأة العجوز الكبيرة التي لا تشتهى ولا يرغب فيها في العادة أن تضع ثيابها أمام الرجال الأجانب ولا إثم عليها في ذلك ، بشرط عدم التبرج وإظهار الزينة ، وليس المراد أن تخلع ثيابها كلها فلا يبقى عليها شيء وتكون عارية ، فإن هذا لا يجوز أمام محرمها غير الزوج ، فكيف بالأجنبي عنها ، وإنما المراد أنه يجوز لها أن تضع ثيابها والسؤال الآن هو :- ما المراد بالثياب التي يجوز للقواعد من النساء أن تضعها ؟ هذا فيه خلاف بين أهل العلم رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم ، والقول الصحيح والرأي الراجح المليح هو أن القواعد لا يجوز لهن إلا أن يضعن الجلباب الذي يكون فوق الخمار والثوب ، فقط ، وأما ما عدا ذلك فلا يجوز لها أن يراه الأجانب منها ، فشعرها ووجهها ونحرها كله مما لا يجوز لها أن تكشفه للأجانب هذا ما توصلنا له في هذه المسألة ، وأما قوله تعالى " فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة " فإن الثياب هنا مطلقة ، وقد ورد تقييدها في قراء آحادية فقد قرأ ابن مسعود وابن عباس ( أن يضعن من ثيابهن ) بزيادة ( من ) المفيدة للتبعيض ، وهذا البعض مجمل أيضا ، ولكن بينته قراءة ابن مسعود الأخرى فيما يروى عنه أنه كان يقرأ ( أن يضعن جلابيبهن ) فهذه القراءة الآحادية قد بينت ما تضعه المرأة الكبيرة الطاعنة في السن من الثياب ، وأنه الجلباب فقط ،فشعر المرأة الكبيرة ووجهها عورة يجب عليها ستره وإنما رخص لها في وضع الجلباب الذي يكون فوق الثوب والخمار ، هذا هو الراجح بناء على القراءة الآحادية التي صح سندها وقد تقرر أن(1/22)
القراءة الآحادية حجة مع صحة السند ، والله أعلم .
ومنها:- أن المراد بالسفينة في قوله تعالى " يأخذ كل سفينة غصبا " أي السفينة الصالح التي لا كسر فيها ولا عيب يعيقها عن العمل ، بدليل قراء ابن مسعود ( يأخذ كل سفينة صالحة غصبا ) والله أعلم.
ومنها :- أن المراد بشهادة هذه الأمة على الناس في قوله تعالى " وتكونوا شهداء على الناس " أي الشهادة عليهم يوم القيامة ، بدليل قراء أبي بن حاتم ( وتكونوا شهداء على الناس يوم القيامة ) كما عند ابن أبي حاتم في التفسير .
ومنها :- أن المراد بقوله تعالى " ومنها جائر " أن الضمير يرجع إلى السبيل في قوله تعالى " وعلى الله قصد السبيل " بدليل قراءة ابن مسعود ( ومنكم جائر ) قال ابن عباس :- هي الطرق المختلفة والآراء والأهواء المتفرقة ، كاليهودية والنصرانية والمجوسية . أهـ ، وعلى هذه القراءة فتكون هذه الآية مما يستدل به على ذم الأهواء والسبل المخالفة للمنهج الحق ، من البدع والمحدثات ، أي السبل المخالفة للكتاب والسنة ، فتكون تفسيرا لقوله تعالى " ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " وهي السبل الجائرة الزائغة عن الحق والهدى ، والله أعلم .
ومنها :- أن المراد بقوله تعالى " وقرآنا فرقناه " أي فرّقناه ، من التفريق ، أي تفريق النزول ، فلم ينزل كله جملة واحدة على النبي صلى الله عليه وسلم ، بدليل قراءة ابن مسعود ( وقرآنا فرّقناه ) بالتشديد، أي أنزلناه مفرقا بحسب الحوادث في ثلاث وعشرين سنة ، والله أعلم .(1/23)
ومنها :- اختلف أهل العلم في تفسير قوله تعالى " والشمس تجري لمستقر لها " على أقوال :- فقيل إنها دائمة الجري في كل لحظة لا تفتر عن الجري ، حتى يبلغ الكتاب أجله ويحل وقت قيام الساعة فيذهب نورها وينتهي جريها ، فالمراد بالمستقر المذكور في الآية يوم القيامة الذي هو منتهى جري الشمس ، وهو قول أكثر المفسرين ، وقيل :- بل المراد أنها تجري دائما لا مستقر لها ، واستدل لهذا القول بقراءة ابن مسعود وابن عباس ( لا مستقر لها ) فالقراءة المتواترة فيها إثبات المستقر ، والقراءة الآحادية فيها نفي المستقر ، والصحيح هو القراءة المتواترة ، وهو أن جري الشمس لغاية محددة معلومة عند الله تعالى وهو يوم القيامة ، وأما قراءة ابن مسعود وابن عباس فهي قراءة آحادية ضعيفة بل الثابت عن ابن عباس أنه كان يقرأ كقراءة الجمهور ، والله أعلم .
ومنها :- اختلف أهل العلم في المراد بالفوم في قوله تعالى " وفومها " فذهب البعض إلى أنه الثوم واستدلوا بقراءة ابن مسعود ( وثومها ) وروي ذلك عن ابن عباس ، وله شواهد من كلام العرب فقد قال أمية بن الصلت :-
( فيها الفراديس والفومان والبصل )
أي الثوم ، ومنه قول حسان بن ثابت :-
أنتم أناس لئام الأصول طعامكم الفوم والحوقل
أي الثوم ، وذهب الأكثر إلى أن المراد به الحنطة ، وهو قول ابن عباس الثابت عنه ، والأقرب عندي إن شاء الله تعالى أن الفوم اسم جنس يدخل تحته أنواع ، منها الثوم ومنها الحنطة ، فهو من اختلاف التنوع لا التضاد والله أعلم .
ومنها :- إن قلت :- في قول الله تعالى " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين" بما أنهم أمة واحدة فما الداعي لذلك ؟ فأقول :- يوضح ذلك قراءة ابن مسعود ( كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ) فهذه القراءة تبين أن هذا البعث إنما هو بعد حصول الاختلاف في الدين ، والله أعلم .(1/24)
ومنها :- من الصفات التي يثبتها أهل السنة لله تعالى صفة العجب ، فلله تعالى عجب يليق بجلاله وعظمته ، وأدلته معروفة ، منها :- قراءة ابن مسعود وحمزة والكسائي " بل عجبتُ " بالضم وهذا الفرع لا يصلح هنا ، لأن قراءة الضم ليست من قبيل قراءة الآحاد بل هي متواترة ، والعجب المضاف إلى الله تعالى إنما معناه العجب الذي يكون سببه خروج الشيء عن حكم نظائره لا الذي معناه خفاء الأسباب كما شرحناه في كتاب التوحيد ، والله أعلم .
ومنها :- اعلم أن الخمر الذكور في قوله تعالى " إني أراني أعصر خمرا " إنما الخمر المتخذ من العنب بدليل قراءة ابن مسعود ( إني أراني أعصر عنبا ) رواها ابن أبي حاتم في التفسير ، وقال الحافظ في الفتح :- بسند حسن ، والله أعلم .
ومنها :- اعلم أن المراد بالأخ والإخوة في قول الله تعالى " وإن كان رجل يورث كلالة وله أخت أو أخت فلكل واحد منهما السدس ، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث " أن المراد بالأخ والأخت والإخوة هنا أي من الأم ، لا نعلم في ذلك خلافا ، إلا خلافا شاذا عن بعض العلماء ، ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وغيرهما (وله أخ أو أخت من أم) وهي قراءة آحادية صحيحة ، والله أعلم .(1/25)
ومنها :- اختلف العلماء في حكم الفدية على من لا يطيق الصوم كبر أو مرض لا يرجى برؤه فقيل :- لا تجب عليه ، قيل :- بل تجب عليه ، والراجح أنه واجبة عليه ، فمن لم يستطع الصوم لكبر أو مرض لا يرجى برؤه فإن عليه أن يطعم عن كل يوم مسكينا والدليل على ذلك القراءة الآحادية في قوله تعالى " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين " فقد قرأ ابن عباس في المشهور عنه وعائشة وابن المسيب وطاوس وابن جبير وعكرمة وعطاء ( يُطَوّقُونه) وقرأ مجاهد ( يَطّوّقُونه) وكلها من القراءات الآحادية الصحيحة ، وهي تفيد أن المراد الذي لا يستطيع الصوم للكبر الذي يجهده الصوم وهو قول عامة الصحابة كعلي وابن عباس وأنس وأبي هريرة وقال به سعيد بن جبير وطاوس والثوري والأوزاعي وهو مذهب الحنفية والحنابلة والصحيح عند الشافعية ، وهو الحق إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .(1/26)
ومنها :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في المقتول خطئا في قوله تعالى " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة " على قولين ، فقيل :- إن المراد به الذمي والمعاهد ، فتجب الكفارة في قتل المعاهد والذمي ، وهو قول أكثر أهل العلم ، وقيل :- لا تجب الكفارة بقتل الذمي والمعاهد ، وبه قال الحسن البصري والنخعي وهو مذهب مالك وابن حزم والقول الصحيح عندي والله تعالى أعلى وأعلم هو القول الأول ، القاضي بوجوب الكفارة على من قتل المعاهد والذمي خطئا ، وذلك لقوله تعالى " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة " الآية ، فإن قلت :- فقد قرأ الحسن رحمه الله تعالى هذه الآية هكذا (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) وأنت تحتج بالقراءة الآحادية فأقول :- نعم ، نحن نقول بها ، لكن فيما ثبت منها ، وأما قراءة الحسن هذه فلا نعلمها ثابتة من وجه يمكن الأخذ به ، أي أنها لم تصح ، ولأن حكم قتل المؤمن قد بينه الله تعالى في أول الآية, وهو عام في المؤمن المقتول بالخطأ ، فحمل الآية المذكورة على المؤمن أيضا لا وجه له ، لأنه تكرير بلا فائدة ، إلا المؤمن الذي يكون في دولة الحرب أي يسكن في بلاد حربية ، فإنه إن قتله المسلم خطئا فإنما فيه الكفارة فقط دون الدية كما هو الآية في قوله " فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة " وأما آخر الآية فإنها في المقتول من المعاهدين والذميين جزما لأن التكرار الذي لا فائدة منه ينزه عنه كلام الله تعالى ، والله أعلم .
ومنها :- اعلم أن المراد بالاستئناس في قوله تعالى " حتى تستأنسوا " أي تستأذنوا ، لأن أبي ابن كعب قرأ ( حتى تسلموا وتستأذنوا ) فورود الاستئذان محل الاستئناس مما يدل على أنه هو، والله أعلم .(1/27)
فهذه عشرون فرعا - على ما أظن - تبين لك كيفية تخريج الفروع على قاعدة الاحتجاج بالقراءة الآحادية ، وأعتذر لك على الإطالة وإنما أردت كمال التوضيح والتفهيم ، لأنني أحب لك ما أحب لنفسي ، وأحب لك أن تكون متقنا ومجيدا لكيفية التخريج والله ربنا أعلم وأعلم .
س95) ما القول المحكم في مسألة الإحكام والتشابه في القرآن الكريم ؟ مع بيان ذلك بالتفصيل والتدليل والتفريع ؟
ج) أقول هذه مسألة طويلة الذيول متشبعة الأجزاء ، وحتى تفهمها فهما جليا أحب أن أفصل القول فيها في فروع :-
((1/28)
الفرع الأول ) اعلم رحمنا الله وإياك وجعلك مباركا حيثما كنت أن الله تعالى وصف كتابه بأنه محكم كله وذلك في قوله تعالى " الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " ووصفه جميعا بأنه متشابه ، كما قال تعالى " اله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " فهذا الإحكام يسميه أهل العلم بالإحكام العام والتشابه هذا كذلك يقول فيه أهل العلم إنه التشابه العام ، ولا تنافي بين هذين الوصفين ، لأن القرآن الكريم كله محكم وكله متشابه ، والإحكام العام هو بعينه التشابه العام ومعناهما :- أي أن القرآن محكم كله في ألفاظه ومعانيه ، فهو يصدق بعضه بعضا ، ويؤيد بعضه بعضا ، فأمثاله وقصصه كلها يصدق بعضها بعضا ، فلا اختلاف بينها ، ولا تناقض ولا تنافي ، فلا يخبر في مكان ثم ينقض خبره في مكان ، ولا يحكم في مكان ويأمر بضده في مكان ، وأحكامه كلها عدل وحكمة وخير وبر ومصالح ، فهو محكم في إتقانه وبلاغته وإعجازه ، ومتقن كله في ألفاظه ودلالاته ، فأوامره تتشابه في أنها كلها جاءت لتقرير المصالح وتكميلها ، ونواهيه كلها جاءت لتعطيل المفاسد وتقليلها ، فليس فيه شيء يعاب ، فهو أحسن الحديث وأصدق الحديث ، وهو الذي يهدي للتي هي أقوم ، فبشاراته كلها تبعث في النفوس الراحة والعزيمة على مواصلة المسيرة في التمسك بطريق الحق والهدى ، وإنذاراته كلها تبعث في القلب الخوف والوجل ، وتزجر النفوس عن التمادي في طريق الضلال والرضى به ، فكل بشاراته تتشابه في تحقيق مقصود الرجاء ، وكل إنذاراته تتشابه في تحقيق مقصود الخوف ، فيبقى العبد دائرا في سيره إلى الله تعالى بين الخوف والرجاء ، وجمع البابين مع بعضهما البعض يتشابهان في تحقيق مقصود الخشية ، لأن الخشية مزيج بين الخوف والرجاء ، فالتشابه العام ثمرة من ثمرات الإحكام العام ، ولأنه محكم الإحكام الكامل المطلق ، فقد أعجز البلغاء(1/29)
الفصحاء أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله ، أو بسورة من مثله ، لأنه كلام الله تعالى منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود ، فالتشابه العام هو الإحكام العام ، وهذا متفق عليه لم ينازع فيه عالم ممن له قدم صدق في الأمة ، فالقرآن محكم كله في ألفاظه ومعانيه فهو غاية في البلاغة والإعجاز ، ومتشابه بمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الإعجاز والصدق والبيان والعدل هذا محصل ما ذكره أهل العلم في مسألة الإحكام العام والتشابه العام ، والله أعلم .
( الفرع الثاني ) واعلم رحمك الله تعالى وجعلك مباركا حيثما كنت أن القرآن موصوف كذلك بأن بعضه محكم وبعضه متشابه ، وهذا يسميه الأصوليون رحمهم الله تعالى ( التشابه الخاص والإحكام الخاص ) وقد ورد فيه قوله تعالى " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " وقد اختلف أهل العلم في معنى هذا الإحكام وهذا التشابه على أقوال كثيرة ، وأصح هذه الأقوال عندي - والله أعلم - أن المحكم الخاص هو ما اتضح معناه وعرف المراد منه ، وتحدد المقصود منه ، والمتشابه هو ما لم يعرف المراد منه ولم يتضح المقصود منه ولم تتحدد معالمه ،وقد يطلق السلف الإحكام الخاص ويريدون به ما قابل المنسوخ ، فيقولون ( هذه الآية محكمة غير منسوخة ، وهو من الإحكام الخاص أيضا، والمشهور عند المتأخرين من الأصوليين هو أن المحكم ما اتضح معناه والمتشابه ما خفي معناه ولم يتضح ، وعلى ذلك سوف نسير إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .
((1/30)
الفرع الثالث ) اعلم أرشدك الله لطاعته ورزقك الفهم والعلم أن التشابه الخاص نسبي عرضي فقولنا ( نسبي ) أي أنه يختلف اختلافا كبيرا باعتبار الأفراد على حسب رسوخهم في العلم ودرايتهم بالكتاب والسنة ، وعلى اختلاف فهمهم في الأدلة ، فما يكون متشابها خفيا في حق فلان قد يكون من أوضح الواضحات في حق غيره ، فيكون هذا الأمر من المتشابه في حق فرد دون فرد على اختلافهم في علمهم وفهمهم ، لأن الناس يتفاوتون في الفهم ، فمنهم من أوتي فهما تصدر عنه الأمة ، ومنهم من لم يؤت من الفهم إلا بعضه ، ولذلك فالآية الواحدة قد لا يستطيع البعض أن لا يستخرج منها إلا وجها واحدا ، بينما يستخرج الآخر منها مائة وجه ، وذلك فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، فهذا معنى قولنا ( نسبي ) أي أنه يختلف بين الأشخاص على حسب قدرهم في العلم وفهمهم ، وتوفيق الله تعالى لفهم كتابه ، وأما قولنا:- ( عرضي ) أي أنه ليس بذاتي ، ولكنه عارض يزول بالتعلم ، فتكون الآية مما يخفى معناها على البعض ، ثم يطلب علمها عند العارفين به فيزول عنه الجهل بها ، وتكون من المحكم في حقه ، ولو كان التشابه ذاتي لما انفك عنها الخفاء مطلقا ، لكنه عرضي ولذلك زال بالتعلم ، فتحصل لنا من ذلك أن التشابه النسبي تشابه نسبي عرضي ، فانتبه لهذا بارك الله فيك لأنه مهم في هذا الباب ، والله أعلم .
((1/31)
الفرع الرابع ) اعلم رحمك الله تعالى وجعلك من أهل السنة أن الواجب على كل أحد أن يعمل بما استبان له ، وأن يؤمن بما اشتبه عليه ، وأن يرد المتشابه للمحكم ، ويأخذ من المحكم ما يفسر به المتشابه ، حتى تتفق دلالته مع دلالة المحكم ، وتتوافق النصوص ، ويصدق بعضها بعضا ، لأن كلها من عند الله تعالى ، وما كان من عند الله تعالى فإنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, فهذه طريقة سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة السلف المعتد بأقوالهم في الأمة فالقاعدة عند السلف هي وجوب رد المتشابه إلى المحكم ، حتى تتفق دلالته مع المحكم ، فيجعلون المحكم هو الأصل الذي يجب اتباعه واعتماده ، وأما المتشابه فهم يردونه للمحكم ، فإن بان واتضح وإلا فيكلون علمه إلى الله تعالى مع الإيمان به ويقولون :- آمنا به كل من عند ربنا ، كما أوضح الله تعالى هذه الطريقة الراسخة المنجية في قوله تعالى " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وما يعلم تأويله إلا الله ، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا" فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين اعتمدوا طريقة الراسخين في العلم في كل المسائل ، فإياك ثم إياك أيها المسلم أن تجعل المتشابه مكدرا لصفو المحكم ، وأن تعارض المحكم به ، وأن تقدمه عليه وأن تبتلي الناس به ، وأن تجعله حاكما على النصوص المحكمة ، فإن هذه الطريقة زيغ وضلال ومفضية إلى إنكار ما هو ثابت ، وإثبات ما هو منفي ، وإبطال ما هو حق ، وإحقاق ما هو باطل وأنا أضرب لك أمثلة على أن تقديم المتشابه على المحكم باب من أبواب الشر والفساد في العقيدة والعمل :-(1/32)
فمن ذلك :- استدلال الجهمية النفاة بقوله تعالى " هل تعلم له سميا " على نفي الصفات والأسماء عن الله تعالى ، وبقوله " ليس كمثله شيء " وبقوله " قل هو الله أحد " فعمد الجهمية إلى هذه النصوص المحكمة وحملوها من أوجه الإشكال ما لا تحتمله ، وحرفوا معانيها وتنكبوا عن صراط دلالتها الصحيحة إلى دلالات غريبة على اللسان العربي ، فتوصلوا إلى فهم هذه الآيات بالطرق الفلسفية الضالة المعوجة ، وبالقواعد المنطقية المخالفة للمنقول والمناقضة للمعقول ، حتى صارت عندهم هذه الآيات من قبيل المتشابه ، ففهموا منها فهما غريبا جعلوه هو العمدة الذي تقاس عليه آيات الأسماء والصفات ،وأهملوا بسبب هذا الفهم المغلوط المنكوس الآيات الكثيرة المتواترة المحكمة الواردة في إثبات الأسماء والصفات ، فوقعوا فيها تحريفا وتعطيلا ، وإنكارا وتكذيبا ، بسبب الدلالة المتشابهة في الآيات السابقة ، وتالله إن هذه الآيات لا تفيد إلا أن الله تعالى ليس كمثله شيء ولا سمي له في ذاته ولا في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله ، جل وعلا ، لكن انظر كيف ضربوا دلالة القرآن بعضه ببعض بسبب اعتمادهم على المتشابه وإعراضهم عن المحكم ، فيأتون إلى قوله تعالى "الرحمن على العرش استوى" وهي محكمة فيقولون :- لا تجوز نسبة الاستواء إلى الله تعالى لأنه ليس كمثله شيء ، ولا سمي له ، وهو الله الأحد ، فيجعلون الدلالة التي فهموها من هذه الآيات الثلاث مكدرة لصفو الآيات المحكمة الكثيرة التي امتلأ بها القرآن ، وقررتها السنة الصحيحة ، وتالله لقد أفسدوا في الدين أيما إفساد ، وفتحوا الباب لأعداء الملة على مصراعيه ، وساموا العقيدة الصحيحة في مؤلفاتهم وتقريراتهم سوم العذاب ، فالنصوص التي تثبت لله تعالى صفات الكمال من العلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام والسمع والبصر والوجه واليدين والغضب والرضا والفرح والضحك والرحمة والحكمة ونحوها من صفات الكمال الثابتة ، كل ذلك محكم(1/33)
لا اشتباه فيه باعتبار المعنى ، قد ثبتت بها الأدلة الصحيحة التي لا مطعن فيها ولا وفي دلالتها ، وكذلك الأدلة الواردة في شأن صفات الأفعال كالمجيء والإتيان والنزول للسماء الدنيا ونحو ذلك ، كل ذلك مما لا يحتمل إلا الحق ، لا يحتمل غيره أبدا ، فهو محكم في معناه ومحكم في دلالته ويفهم منه أهل العقول السليمة الفهم السليم المؤيد بفهم سلف الأمة وأئمتها ، فأهمل الجهمية ذلك كله ، وأنكروه وحرفوه وعطلوه ، بسبب دلالة فهموها من قوله " ليس كمثله شيء" فهذا هو شأن أعداء الدين والملة ، أنهم يقبلون إقبال الشره على الدلالة المتشابهة الخفية ويجعلها هي العمدة وينزل الأدلة المحكمة الواضحة التي لا خفاء فيها على هذه الدلالة المجملة المحتملة المتشابهة ، وناهيك عن النتائج الفاسدة التي تصدر من هذه العملية الباطلة الشيطانية البدعية ، والله المستعان ، وحق من يفعل ذلك أن ينصح ويوعظ ويعلم ، فإن استجاب فالحمد لله ، وإلا فلا بد من عقوبته وزجره الزجر الكبير الذي يردعه وأمثاله عن مثل هذه الفهم الفاسد .(1/34)
ومنها :- وهو من العجب العجاب ، ما يستدل به بعض النصارى على المسلمين من تعدد الإله إلى ثلاثة آلهة ، الأب والابن وروح القدس ، بقوله تعالى " إنا " بصيغة الجمع أو بقوله " نحن " أو بقوله " أنزلنا " ونحو ذلك مما يخبر به عن نفسه بنون الجمع ، وهذا هو الكفر بعينه والضلال برمته والحمق والجهل بعروقه وحذافيره ، أين هذه الآيات وما في معناها من قوله تعالى " فاعلم أنه لا إله إلا الله " ومن قوله تعالى " وإلهكم إله واحد " ومن قوله تعالى " وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون " ومن قوله تعالى " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء " ومن قوله تعالى " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط ، لا إله إلا هو العزيز الحكيم " والآيات في هذه المعنى كثيرة ، فتركوا ذلك كله وأهملوه ، ووضعوه جانبا واعتمدوا الدلالة المتشابهة في إخبار الله تعالى عن نفسه بضمير الجمع ، فبالله عليك هل هذا من العدل ؟ مع أن ( النون ) الواردة فيما يخبر به الرب جل وعلا عن نفسه إنما هي ( نون ) المعظم نفسه ، وليست هي نون الجمع، وهو أسلوب عربي تعرفه العرب في كلامها ، ولكنها العقول الفاسدة والأفهام العفنة النتنة ، والنفوس التي عشعشت فيها الشياطين ، فإنا لله وإنا إليه راجعون فانظر - رعاك الله تعالى - كيف يؤدي تقديم المتشابه على المحكم ، فهذه نتائجه وهذه آثاره وسوف ترى من ذلك أكثر إن عشت ، لأنه من يعش منا فسيرى اختلافا كثيرا ، فنسأل الله تعالى أن نموت على الإسلام والإيمان والسنة .(1/35)
ومنها :- اعتماد الرافضة على المتشابه في قوله تعالى " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا " على أن الصحابة كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزل فيهم القرآن وأن منهم من كان عازما على الزواج ببعض نسائه إن مات ، فيجعلون ذلك من القوادح في الصحابة ومن الأسباب التي ينالون بها منهم ، ونسوا قوله تعالى " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ، ذلك مثلهم في التوراة ، ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ، وعد الله الذين آمنوا منهم مغفرة وأجرا عظيما " وقوله تعالى " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم " وقوله تعالى " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " وقوله تعالى "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " وقوله صلى الله عليه وسلم " خير الناس قرني " والنصوص في ذلك لا تكاد تحصر ، وكلها مثبتة لعدالة الصحابة، وأنهم قوم ثقات عدول أثبات ، لا كان ولا يكون مثلهم في علمهم ودينهم وأخلاقهم ومحبتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وأنهم أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا ، وأشدهم تمسكا بالشرع ، وأعظمهم غيرة على محارم الله تعالى ، فمن بالله عليك كالصحابة في دينهم وفضلهم وسابقتهم ونصرتهم لله تعالى ولرسوله عليه الصلاة والسلام ؟ لكن الرافضة - لعنهم الله تعالى - أهملوا ذلك كله وهو من المحكم الواضح وأقبلت قلوبهم على الدلالات المحتملة المتشابهة ، فجعلوا المتشابه هو الحاكم على المحكم وجعلوا المحكم في قفص الاتهام حتى تثبت براءته ، ألا فشاهت(1/36)
وجوه المبتدعة المعاندين للشرع .
ومنها :- ما حكاه ابن القيم في الإعلام بقوله ( ردهم - أي الجهمية - المعلوم المحكم بالضرورة أن الرسل جاءوا به من إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه بمتشابه قول الله تعالى " وهو معكم أينما كنتم " وقوله " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " وقوله " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا " ونحو ذلك ، ثم تحيلوا وتمحلوا حتى ردوا نصوص العلو والفوقية بمتشابهه ، قلت :ــ مع أن علو الله تعالى من أكثر الصفات التي وردت بإثباتها الأدلة على أوجه مختلفة كما شرحنا ذلك في موضع آخر.(1/37)
ومنها:- إن القدرية قد فهموا من قوله تعالى " وما ربك بظلام للعبيد " ومن قوله " ولا يظلم ربك أحدا " أن الله تعالى لا يمكن أن يخلق فعل العبد ، إذ كيف يخلق فعل العبد ثم يعاقبه عليه ، هذا من الظلم فجعلوا ذلك الفهم من الآية حاكما على جميع النصوص التي فيها عموم خلق الله تعالى لكل شيء ، وأن الأشياء إنما تكون بقدر الله تعالى ، فجعلوا تلك الدلالة المتشابهة من الآية هي المقدمة على النصوص المحكمة المتواترة من أنه تعالى خالق كل شيء ، كقوله تعالى " الله خالق كل شيء " وقوله تعالى " وما تشاءون إلا أن يشاء الله " وغير ذلك من النصوص المحكمة القاطعة في دلالاتها من أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ، وأن العبد لا يريد إلا ما يشاء الله ، وما فهموا أن الإرادة قسمان :- إرادة كونية قدرية ، وإرادة شرعية أمرية دينية ، تمسكا منهم بالمتشابه وإهمالا منهم للمحكم الصريح ، وأما أهل السنة فإنهم جمعوا بين الأمرين ، ووحدوا بين الدلالتين فقالوا :- إن أفعال العباد داخلة تحت عموم خلق الله تعالى ، فالله تعالى هو الذي خلق العباد وخلق أفعالهم ، لكنها تنسب إلى العبد باعتبار أنه هو الذي باشر فعلها ، فأفعال العباد تنسب إلى الله تعالى خلقا وإيجادا ، وتنسب إلى العباد تحصيلا واكتسابا ، فالآيات أصلا ليس بينها أي نوع من أنواع التعارض - حاشا وكلا - ولكن القدرية حملوها ما لا تحتمل من الدلالات المتشابهة الخفية المنكوسة ، وجعلوا تلك الدلالات هي الحاكمة على النصوص القاطعة المحكمة ، فجاءوا بتلك الخرافات والهذيان الذي أوجب لهم الخروج عن دائرة الحق إلى دائرة الكفر والبدعة والزندقة ، ولو أنهم وقفوا عند المحكم ، واعتمدوه وردوا دلالة المتشابه له لما وقعوا في مثل ذلك ، ولكنه قدر الله تعالى ، ومن يضلل الله فما له من هاد والله المستعان .(1/38)
ومنها:- رد الجبرية النصوص المحكمة في إثبات كون العبد قادرا ومختارا وفاعلا بمشيئته بالمتشابه في قوله " وما تشاءون إلا أن يشاء الله " وقوله " وما يذكرون إلا أن يشاء الله " وقوله " ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم " وأمثال ذلك ، ثم استخرجوا لتلك النصوص من الاحتمالات التي يقطع السامع أن المتكلم لم يردها ، ما صيروها به من متشابهة ، أفاده العلامة ابن القيم ، أي أنهم فهموا من نسبة المشيئة لله تعالى أن العبد لا قدرة له ولا اختيار ولا مشيئة ، فنفوا عنه مطلق المشيئة ، فهو مجبور على فعله لا قدرة له فيه ولا حيلة ولا اختيار ، بل هو كالمدفوع دفعا إليه ، فاعتمدوا تلك الدلالة التي فهموها ، وجعلوها هي الحاكمة على النصوص الكثيرة المتواترة من نسبة الأفعال إلى العباد ، كقوله تعالى " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " وقوله " كل نفس بما كسبت رهينة " وقوله " ذلك بما قدمت أيديكم " والنصوص التي فيها نسبة الخير والشر والكسب والفعل إلى العبد لا تكاد تحصر كثرة، وكلها تدل الدلالة المحكمة القطعية على أن العبد هو الفاعل وأن له إرادة ومشيئة ، لكن الجبرية لم تحتمل عقولهم ذلك ، ووقفوا عند المتشابه المحتمل وردوا الدلالة الصريحة المحكمة ، كما هو حال أهل البدع والأهواء ، فحرموا بذلك التوفيق للحق ، وزاغت قلوبهم عن الهدى كما قال تعالى " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " وأما أهل الحق والهدى فإنهم جمعوا بين الآيات ووحدوا بين الدلالات ، وقدموا المحكم على المتشابه ، فقالوا :- إن العبد له قدرة ومشيئة واختيار ، وأن له عقلا يميز به بين النافع والضار والحق والباطل والهدى والضلال ، وأنه يقدم على فعله الاختياري بقدرته وإرادته ، لكن هذه القدرية والمشيئة والاختيار ليست مطلقة ، بل هي مقيدة بمشيئة الله تعالى وإرادته ، فصار أهل السنة والجماعة بذلك المذهب وسطا بين طرفين فالقدرية أعطوا العبد القدرة المطلقة والمشيئة المطلقة(1/39)
والإرادة المطلقة ، والجبرية نفوا عن العبد مطلق القدرة ومطلق المشيئة ومطلق الاختيار ، وأما أهل السنة فإنهم لم يعطوه القدرة المطلقة والمشيئة المطلقة والاختيار المطلق ، ولم يسلبوه مطلق القدرة ولا مطلق الاختيار ولا مطلق المشيئة ، أي أن العبد عنده قدرة لكنها خاضعة وتابعة لقدرة الله تعالى ، وعنده مشيئة لكنها خاضعة وتابعة لمشيئة الله تعالى ، وعنده اختيار لكنه خاضع وتابع لاختيار الله تعالى ، فهذا هو الحق المتوافق مع الكتاب والسنة ومذهب سلف الأمة ، وما وفق أهل السنة لذلك الحق إلا لأنهم قدموا المحكم على المتشابه فالله الله بهذه الطريقة الراسخة ، فإنها الطريق التي ترضي الله تعالى من فوق سبع سماوات .
ومنها :- لقد أثبت النص القاطع أمر الشفاعة يوم القيامة ، فوردت بذلك النصوص الصريحة المحكمة التي لا تدع مجلا للشلك ولا للاحتمال في عدم ثبوتها ، فأثبت النص منها الشفاعة العظمى والشفاعة في أهل الكبائر ، والشفاعة في أهل الجنة ليدخلوا الجنة ، وشفاعة التخفيف في أبي طالب، والشفاعة في رفعة الدرجات ، وكل ذلك ثابت بالأدلة الصحيحة الصريحة ، لا سيما الشفاعة في أهل الكبائر ، فإن النصوص الواردة فيها قد بلغت مبلغ التواتر، كما نص على ذلك الناظم في قوله في سرد بعض المتواترات :-
مما تواتر حديث " من كذب " و"من بنى لله بيتا واحتسب "
و(رؤية ) (شفاعة )(والحوض) و(مسح خفين )وهذي بعض(1/40)
فنصوص إثبات الشفاعة نصوص محكمة قطعية الدلالة ، قطعية الثبوت ، ولكن أبي المعتزلة والخوارج ذلك ، وما قبلوه ، بل ردوه واتهموه ، بسبب قوله تعالى " فما تنفعهم شفاعة الشافعين " وفهموا من ذلك نفي الشفاعة عن كل أحد ، وأن هذا النص باق على عمومه ، لم يخص منه أحد فاعتمدوا هذه الدلالة المتشابهة ، وجعلوها حاكمة على النصوص القطعية المتواترة ، وردوا المحكم إلى المتشابه ، وأبطلوا دلالة المحكم وكفروا به ، محافظة منهم على تلك الدلالة التي فهموها من النص العام ، فأدى بهم ذلك إلى نفي أمر الشفاعة عن أهل الكبائر يوم القيامة ، وهذا من أثر تقديم المتشابه على المحكم ، وأما أهل السنة والجماعة - رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم - فإنهم قالوا :- إن قوله تعالى " فما تنفعهم شفاعة الشافعين " إنما هي في حق الكفار الذين ماتوا على الكفر والشرك ، أو نقول :- إنها من العام المخصوص فالأصل عدم الشفاعة ، وأنها لا تنفع إلا من أثبت الدليل الصحيح الصريح أنها تنفعه ، فيخرج من ورد فيه الدليل من النص العام ، لأن المتقرر في قواعد الأصول أن الخاص مقدم على العام ، ولكن أهل الباطل عاندوا في ذلك ، واستمروا على غيهم وضلالهم ، تعصبا وجحدا للحق ، والمقصود :- أن الوعيدية من الخوارج والمعتزلة إنما وقعوا في رد الأدلة الصحيحة في أمر الشفاعة لأنهم قدموا المتشابه على المحكم ، وأن أهل السنة إنما وفقوا في ذلك للحق لأنهم قدموا المحكم على المتشابه، وردوا دلالة المتشابه إلى المحكم ، فالله الله يا طلب العلم باعتماد ذلك ، والله أعلم .(1/41)
ومنها :- لقد أتبث النص القاطع المحكم الأفعال الاختيارية في حق الله تعالى ، وقيامها به ، فالله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد جل وعلا ، فالفعل الاختياري ثابت في حقه تعالى ، كما قال تعالى "كل يوم هو في شأن " وقوله " فسيرى الله عملكم " وقوله " وغضب الله عليهم " وقوله " رضي الله عنهم " وقوله " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام " وقوله " وجاء ربك والملك صفا " وقوله " فلما تجلى ربه للجبل " وقوله " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " وقوله " إن الله يفعل ما يريد " وقوله " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها " وقوله صلى الله عليه وسلم " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ...(1/42)
الحديث " ونحو ذلك من النصوص المثبتة لفعله جل وعلا ، فالله تعالى يفعل ما يشاء وقال أهل السنة بذلك كله ، مع الإيمان بأن فعله يقال فيه ما يقال في سائر صفاته جل وعلا ، فالله تعالى له ذات لا تماثل الذوات ، وله صفات لا تماثل الصفات ، وله أفعال لا تماثل أفعال العباد فليس كمثل الله تعالى شيء لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله جل وعلا وتبارك وتقدس ، فالنصوص المحكمة المتواترة أثبتت قيام الأفعال الاختيارية به جل وعلا ، لكن أبى أهل البدع ذلك ، ورفضوه أيما رفض ، بل وكفروا من قال بذلك ، ووصفوه بالأوصاف القبيحة المستهجنة المنكرة ، استدلالا بقوله تعالى " لا أحب الآفلين " والأفول عندهم محصور في الحركة أي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد استدل على بطلان إلهية الكوكب بأنه أفل - أي تحرك عن مكانه - فقالوا :- فبما أنه استدل على بطلان إلهيته بالحركة ،فهذا دليل على أن الله تعالى لا يقوم به فعل ، ولا يصدر منه شيء من الأفعال ، فانظر إلى مبلغ الحمق والجهل الذي بلغ بهؤلاء القوم الذين يدعون أن طريقتهم أعلم وأحكم من طريقة سلف الأمة وأئمتها ، وتالله إن طريقة البهيمة أعلم وأحكم من طريقة هؤلاء المتهوكين ، لأنها لم تتدخل فيما لا شأن لها به ، فيا أيها الناس ، أين عقول هؤلاء البقر ؟ الذين ينكرون كل هذه النصوص المحكمة القطعية المتواترة، من أجل شيء فهموه من نص يحتمل عدة احتمالات،فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ، وتالله إن هم إلا كالأنعام بل هو أضل سبيلا ، فجعلوا تلك الدلالة المتشابهة حاكمة على تلك النصوص المحكمة القطعية في ثبوتها ودلالتها ، فحرفوها عن مدلولاتها الصحيحة ، وحملوها ما لا تحتمل من المعاني الغريبة الباطلة ، وتعسفوا في إنكار معانيها الصحيحة ، لأنهم فهموا من قوله " لا أحب الآفلين " معنى واحدا ، فأنزلوا على هذا المعنى كل النصوص التي تفيد قيام الأفعال الاختيارية في حق الرب جل(1/43)
وعلا ، تقديما منهم للمتشابه على المحكم ، وردا لدلالة المحكم من أجل مراعاة دلالة المتشابه فانظر كيف أنكروا نصوصا كثيرة بسبب تقديم المتشابه على المحكم ، مع أن الأفول لا يأتي بمعنى الحركة في كلام العرب ، بل الأفول هنا يراد به الغياب ، فقوله " فلما أفل " أي غاب ، والرب لا يغيب عنه أمر الخلق ، بل لا بد وأن يكون الرب مطلعا على خلقه ، وعالما بأمورهم لا يخفى عليه شيء منها كبر أو صغر ، وذلك هو الله تعالى وحده لا شريك له ، كما قال تعالى " إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء " وقوله " ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن " وقوله " وهو معكم أينما كنتم " وقوله " ويعلم ما في البر والبحر ، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " والآيات في هذا المعنى كثيرة ، ومن العجائب أن العرب قالت :- إن الأفول يأتي بمعنى نقصان العقل ، فتقول العرب :- المأفول وهو على وزن :- مأفون ، أي الناقص في عقله ، أفاده ابن منظور في لسان العرب ، وهؤلاء الحمقى ما وقعوا في رد النصوص المتواترة المثبتة لقيام الأفعال الاختيارية في حق الرب جل وعلا استدلالا بأفول القمر والكوكب والشمس إلا لبغيهم وعنادهم ، وهو بعينه دليلنا على أفول عقولهم وغيابها عن معرفة الحق لنقصها وامتلائها من نجاسة التقعيد الفلسفي الكفري الباطل ، المناقض للمعقول والمصادم للمنقول ، والمقصود أن المبتدعة أنكروا دلالة النصوص المحكمة وقدموا عليها الدلالة المحتملة المتشابهة ، وأما أهل السنة فإنهم اعتمدوا على الدلالة المحكمة ، وردوا الدلالة المتشابهة إليها والله أعلم .(1/44)
ومنها :- انعقد إجماع أهل السنة والجماعة - رحمهم الله تعالى - على أنه جل وعلا يرى رؤية حقيقية في الآخرة على ما يريده جل وعلا من كيفيتها ، فالرؤية في الآخرة من المسائل المتفق عليها ومستند هذا الإجماع القرآن والسنة ، قال تعالى " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " وقد ورد في تفسيرها أنها رؤية الله تبارك وتعالى ، وقال تعالى " وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة " وقد تواترت أدلة السنة في ذلك ، فالأدلة في إثبات الرؤية محكمة متواترة قطعية الدلالة قطعية الثبوت, لا ينازع فيها أحد من أهل السنة ، ولكن أبى ذلك أهل البدع والضلال ، وردوه وحاربوه ، ووصفوا من أثبته بأنه مجسم حشوي ، ولم يأبهوا بتلك الأدلة المتواترة ، ولم ينظروا فيها ، بل حرفوها وأخرجوها عن دلالاتها الصحيحة ، وحملوها من المعاني الباطلة الغريبة عن لسان العرب ، وكل ذلك بسبب الدلالة المتشابهة في قوله تعالى " لن تراني " وقوله تعالى " لا تدركه الأبصار " ففهموا من هاتين الآيتين بأنه تعالى لا يمكن أن يرى ، فجعلوا تلك الدلالة المتشابهة هي الأصل ، وحقها الاعتماد ، وأما الأدلة المتواترة في إثبات الرؤية فحقها التحريف والتعطيل والجحد والإنكار ، فأدى بهم ذلك إلى إنكار رؤية الرب جل وعلا يوم القيامة ، فانظر كيف وصلت بهم الحال إلى تعطيل عشرات النصوص المتواترة بسبب تقديم المحتمل المتشابه على الدلالة المحكمة القطعية ، وأما أهل السنة فإنهم قد اعتمدوا على المحكم وردوا المتشابه إلى المحكم فاتفقت الأدلة وتآلفت ، وقال أهل السنة :- إن نفي الرؤية في قوله " لن تراني " إنما هو نفي لها في الدنيا فقط ، ونحن نقول بذلك فالله تعالى لا يرى ولن يرى في الدنيا ، والخلاف الآن إنما هو في الرؤية يوم القيامة ، وأما قوله تعالى " لا تدركه الأبصار " فإنه ليس نفيا للرؤية ، وإنما هو نفي للإدراك فقط ، فالأعين إذا رأت ربها تعالى يوم القيامة ، فإنها لا تحيط به رؤية ، فالرؤية شيء(1/45)
والإدراك شيء آخر ، فأنت ترى السماء لكن هل تحيط برؤيتها كلها ؟ وأنت ترى الأرض لكن هل تحيط برؤيتها كلها؟ بالطبع :- لا فالسماء ترى ولا يحاط بها ، والأرض ترى ولا يحاط بها ، فالله تعالى يرى في الآخرة ولا يحاط به فقوله تعالى " لا تدركه الأبصار " إنما هو نفي للإدراك وليس نفيا للرؤية ، بل إن نفي الإدراك يتضمن إثبات الرؤية ، ولو تدبرت ذلك لرأيته صحيحا ، والمراد :- أن أهل البدع قدموا دلالة المتشابه على المحكم ، فوقعوا في رد الأدلة الصحيحة المتواترة القطعية ، وأما أهل السنة فإنهم قدموا المحكم على المحتمل ، فاتزن قولهم ، وصار وسطا بين طرفين وهدى بين ضلالتين ، ذلك لأن الصوفية الغلاة يعتقدون أن الله تعالى يرى في الدنيا رؤية حقيقية فضلا عن رؤيته في الآخرة ، بينما ذهب أهل البدع من المعتزلة والجهمية والأشاعرة ومن نحا نحوهم إلى أنه جل وعلا لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وأما أهل الحق فإنهم توسطوا بين المذهبين فقالوا :ــ إنه جل وعلا لا يرى في الدنيا ، وإنما يرى في الآخرة ، فالحق معهم ، ولا يخرج البتة عنهم ، ونحن نقول بما قالوا ، والله ربنا يتولانا وإياك لما فيه صلاح الدين والدنيا .(1/46)
ومنها :- قال ابن القيم رحمه الله تعالى ( المثال التاسع :- رد النصوص الصحيحة الصريحة الكثيرة الدالة على ثبوت الأسباب شرعا وقدرا كقوله " بما كنتم تعملون " " بما كنتم تكسبون " "بما قدمت أيديكم " "بما قدمت يداك " " بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون" " ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة " " ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم " " ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا " وقوله " يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام" " يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا " وقوله " ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد " وقوله " فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات " وقوله " فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب " وقوله " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم " وقوله في العسل " فيه شفاء للناس" وقوله في القرآن " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " إلى أضعاف أضعاف ذلك من النصوص المثبتة للسبب ، فردوا ذلك كله بالمتشابه من قوله " هل من خالق غير الله " وقوله " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولمن الله رمى " وقل النبي صلى الله عليه وسلم " ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم " ونحو ذلك ، وقوله " إني لا أعطي أحدا ولا أمنعه " وقوله للذي سأله عن العزل عن أمته " اعزل عنها وسيأتيها ما قدر لها " وقوله " لا عدوى ولا طيرة" وقوله " فمن أعدى الأول " وقوله " أرأيت إن منع الله الثمرة " ولم يقل :- منعها البرد أو الآفة التي تصيب الثمار ، ونحو ذلك من المتشابه الذي إنما يدل على أن مالك السبب وخالقه يتصرف فيه بأن يسلبه سببيته إن شاء ويبقيها عليه إن شاء ، كما سلب النار قوة الإحراق على الخليل ، ويالله العجب ، أترى من أثبت الأسباب وقال إن الله خالقها قد أثبت خالقا غير الله ؟ أما قوله " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " فغاب عنهم فقه الآية وفهمها ،(1/47)
والآية من أكبر معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ، والخطاب بها خاص بأهل بدر وكذلك القبضة التي رمى بها النبي صلى الله عليه وسلم ، فأوصلها الله تعالى إلى جميع وجوه المشركين ، وذلك خارج عن قدرته صلى الله عليه وسلم ، وهو الرمي الذي نفاه عنه ، وأثبت له الرمي الذي هو في محل قدرته وهو الخذف ، وكذلك القتل الذي نفاه عنهم ، هو قتل لم تباشره أيديهم ، وإنما باشرته أيدي الملائكة، فكان أحدهم يشتد في أثر الفارس ، وإذا برأسه قد وقع أمامه من ضربة الملك ، ولو كان المراد ما فهمه هؤلاء الذين لا فقه لهم في فهم النصوص لم يكن فرق بين ذلك وبين كل قتل وكل فعل من شرب أو زنا أو سرقة أو ظلم ، لأن الله تعالى خالق الجميع وكلام الله ينزه عن هذا وكذلك قوله " ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم " لم يرد أن الله حملهم بالقدر وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم متصرفا بأن الله منفذا له ، فالله سبحانه أمره بحملهم فنفذ أوامره ، فكأن الله هو الذي حملهم ، وهذا معنى قوله " والله إني لا أعطي أحدا شيئا ولا أمنعه" ولهذا قال " وإنما أنا قاسم " والله سبحانه هو المعطي على لسانه وهو يقسم ما يقسمه بأمره وكذلك قوله في العزل " فسيأتيها ما قدر لها " ليس فيه إسقاط الأسباب ، فإن الله سبحانه إذا قدر خلق الولد ، سبق من الماء ما يخلق منه الولد ، ولو كان أقل شيء ، فليس من كل الماء يكون الولد ولكن أين في السنة أن الوطء لا تأثير له في الولد البتة ، وليس سببا له ، وأن الزوج أو السيد إن وطئ أو لم يطأ فكلا الأمرين بالنسبة إلى حصول الولد وعدمه على حد سواء ، كما يقوله منكرو الأسباب ، وكذلك قوله " لا عدوى ولا طيرة " لو كان المراد به نفي السبب كما زعمتم لم يدل على نفي كل سبب ، وإنما غايته أن هذين الأمرين ليسا من أسباب الشر ، كيف والحديث لا يدل على ذلك ، وإنما ينفي ما كان المشركون يثبتون من سببية مستمرة على طريقة واحدة لا يمكن إبطالها ، ولا صرفها(1/48)
عن محلها ولا معارضتها بما هو أقوى منها ، لا كما يقوله من قصر علمه :- إنهم كانوا يرون ذلك فاعلا مستقلا بنفسه ، فالناس في الأسباب لهم ثلاث طرق :- إبطالها بالكلية وإثباتها على وجه لا يتغير ولا يقبل سلب سببيتها ، ولا معارضتها بمثلها ، أو أقوى منها ، كما يقوله الطبائعية والمنجمون والدهرية ، والثالث :- ما جاءت به الرسل ودل عليه الحس والعقل والفطرة :- إثباتها أسبابا ، وجواز وقوع سلب سببيتها عنها إذا شاء الله تعالى ودفعها بأمور أخرى نظيرها أو أقوى منها ، مع بقاء مقتضى السببية فيها ، كما تصرف كثير من أسباب الشر بالتوكل والدعاء والصدقة والذكر والاستغفار والعتق والصلة ، وتصرف كثير من أسباب الخير بعد انعقادها بضد ذلك ، فلله كم من خير انعقد سببه ثم صرف عن العبد بأسباب أحدثها منعت حصوله وهو يشاهد السبب حتى كأنه أخذ باليد وكم من شر انعقد سببه ثم صرف عن العبد بأسباب أحدثها منعت حصوله ، ومن لا فقه له في هذه المسألة فلا انتفاع له بنفسه ولا بعلمه ، والله المستعان وعليه التكلان ) اهـ كلامه البديع رحمه الله تعالى ، وأحببت أن أنقله مع ما فيه من الطول لأهميته ولخطورة هذه المسألة ، والخلاصة من هذا الفرع :- أن الأدلة المثبتة لتأثير الأسباب كثيرة جدا تفوق الحصر ، ولكن المبتدعة عطلوها بسبب بعض الدلالات المتشابهة المحتملة ، فقدموا المتشابه على المحكم كعادتهم في مخالفة الحق ، وأما أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى فإنهم قالوا :- إن الأسباب مؤثرة لكن لا بذاتها ، بل بجعل الله تعالى لها مؤثرة ،فجمعوا بين الأدلة ، ولم يطرحوا شيئا منها وذلك ببركة هذه القاعدة الطيبة التي تنص على وجوب تقديم المحكم على المتشابه . والله أعلم.(1/49)
ومنها:- لقد ثبت الثبوت القطعي أن الفاتحة ركن في الصلاة، لا تصح الصلاة إلا بها، لحديث " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج - ثلاثا - غير تمام... الحديث " رواه مسلم، وذهب الجمهور إلى مقتضى هذه الأحاديث فقالوا بوجوب قراءة الفاتحة بعينها في الصلاة، وأما الحنفية رحمهم الله تعالى فقد عارضوا هذه الدلالة المحكمة بالمتشابه في قوله تعالى " فاقرءوا ما تيسر منه " وفي حديث المسيء صلاته " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " فقالوا :- إن الله تعالى هنا قد أمر بقراءة ما تيسر من القرآن وأطلق ولم يحدد شيئا من القرآن بعينه ، وما ورد في السنة من التحديد هو في حقيقته زيادة على القرآن ، والزيادة على القرآن نسخ - كذا قالوا - غفر الله لهم ، وكلامهم هذا ليس بصحيح بل هو من تقديم المحتملة على الدلالة المحكمة ، ذلك لأن الآية مطلقة ، والحديث مقيد ، وقد تقرر في الأصول :- أن المطلق يحمل على المقيد إذا اتفقا في الحكم ، وأما حديث " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " فإنه يحتمل أنه قبل تعيين الفاتحة ، ويحتمل أن يكون هذا الأعرابي لا يحسنها ، أو أنه إنما علمه ما أساء فيه فقط ، وهو لم يسئ في قراءة الفاتحة ، فأمره أن يقرأ معها بقدر زائد عليها, فانظر كم يرد عليه من احتمال ، فهو من المحتمل المتشابه ، والواجب هو تقديم المحكم على المتشابه والمحكم هنا هو الأحاديث الآمرة بقراءة الفاتحة ، وما عداها فهو من المحتمل الذي يجب على العبد أن يرده إلى المحكم ، فالراجح ، بل الحق :- وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة ، بل هي من أركان الصلاة ، فلا تصح الصلاة إلا بها . والله أعلم .(1/50)
ومنها :- قال ابن القيم ( المثال السابع عشر :- رد المحكم الصريح من توقف الخروج من الصلاة على التسليم كما في قوله " وتحليلها التسليم " وقوله " إنما يكفي أحدكم أن يسلم على أخيه من على يمينه ومن على شماله ، السلام عليكم ورحمة الله ، السلام عليكم ورحمة الله " فأخبر أنه لا يكفي غير ذلك ، فرد بالمتشابه من قول ابن مسعود " فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك " وبالمتشابه من عدم أمره للأعرابي بالسلام ) أي أن المحكم في هذه المسألة هو الأحاديث الآمرة بالسلام ، وأما ما عداها فهو من المحتمل المتشابه ، والواجب تقديم المحكم على المتشابه ، فالحق هو أن الصلاة لا يتحلل منها إلا بالتسليم ، والله أعلم .(1/51)
ومنها :- أن القول الصحيح الذي لا ينبغي القول بغيره هو أن الواجب في ولوغ الكلب في الإناء أن يغسل سبعا أولاهن بالتراب ، كما هو ثابت عنه صلى الله عليه وسلم ، فقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة قال :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا " ولأحمد ومسلم " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب " وفي حديث عبدالله بن المغفل رضي الله عنه قال :- أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ، ثم قال " ما بالهم وبال الكلاب " ثم رخص في كلب الصيد والغنم ، وقال " إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعا وعفروه الثامنة بالتراب " رواه مسلم ، فهذه الأحاديث المحكمة الصريحة الصحيحة تقضي قضاء جازما بأن الواجب أن يغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا أولاها بالتراب ، ولكن أبى بعض أهل العلم ذلك وقالوا :- بل الواجب أن يغسل ثلاثا واحتجوا بالفعل المحتمل المتشابه الذي صدر من أبي هريرة رضي الله عنه ، فإنه غسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا ، وهذا احتجاج غير مقبول ، لأن المعتمد:- أنه إذا اختلف رأي الراوي وروايته فالواجب شرعا هو تقديم الرواية على الرأي ، والحنفية عكسوا هذه القاعدة ، فقدموا الرأي على الرواية وهذا غلط فادح واضح ، فإننا متعبدون بالرواية لا بالرأي ، ولأن فعل الراوي هنا محتمل لعدة احتمالات ، وأما الرواية فإنها محكمة ، ونص في المسألة ، فلا يجوز تعديها ، فالواجب في هذه المسألة هو تقديم المحكم على المحتمل المتشابه ، فالحق هو ما ذهب إليه المحققون من أهل العلم من وجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا أحداها بتراب ، وقد فصلنا في المسألة أكثر في كتابنا (تحرير القواعد ومجمع الفرائد) والله تعالى أعلى وأعلم .(1/52)
ومنها :- ما ذكره ابن القيم بقوله ( المثال الرابع والخمسون :- رد السنة الصحيحة الصريحة أنه لا يجوز التنفل إذا أقيمت صلاة الفرض ، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " وقال الإمام أحمد في روايته :" إلا التي أقيمت " وفي الصحيحين عن عبدالله بن مالك ابن بحينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا وقد أقيمت الصلاة ، يصلي ركعتين ، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لاث به الناس ، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " الصبح أربعا ، الصبح أربعا ، " وفي صحيح مسلم عن عبدالله ابن سرجس قال :ــ دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح ، فصلى ركعتين ، قبل أن يصل إلى الصف ، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال له " يافلان :- بأي صلاتيك اعتددت ؟ بالتي صليت وحدك ، أو بالتي صليت معنا ؟" وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل فكلمه بشيء ، لا ندري ما هو ، فلما انصرف أحطنا به نقول :- ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال :- قال لي :- "يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعا" وعند مسلم :- أقيمت صلاة الصبح ، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي ، والمؤذن يقيم الصلاة ، فقال " أتصلي الصبح أربعا ؟" قال أبو داود الطيالسي في مسنده :- حدثنا أبو عامر الخزاز ، عن أبي مليكة عن ابن عباس قال :- كنت أصلي وأخذ المؤذن في الإقامة ، فجذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أتصلي الصبح أربعا؟" وكان عمر بن الخطاب إذا رأى رجلا يصلي وهو يسمع الإقامة ، ضربه ، وقال حماد ابن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه أبصر رجلا يصلي الركعتين والمؤذن يقيم ، فحصبه وقال :- أتصلي الصبح أربعا ؟ فردت هذه السنن كلها بما رواه الحجاج بن نصير ( المتروك ) عن عباد بن كثير ( الهالك ) عن ليث عن عطاء عن أبي(1/53)
هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " وزاد " إلا ركعتي الصبح " فهذه الزيادة كاسمها زيادة في الحديث لا أصل لها ، فإن قيل :- فقد كان أبو الدرداء يدخل المسجد والناس صفوف في صلاة الفجر فيصلي ركعتين ، في ناحية المسجد ، ثم يدخل مع القوم في الصلاة ، وكان ابن مسعود يخرج من داره لصلاة الفجر ثم يأتي الصلاة فيصلي ركعتين في ناحية المسجد ، ثم يدخل معهم في الصلاة فيقال - جوابا على ذلك - عمر بن الخطاب وابنه عبدالله في مقابلة أبي الدرداء وابن مسعود والسنة سالمة لا معارض لها ، ومعها أصح قياس يكون ، فإن وقتها يضيق بالإقامة ، فلم يقبل غيرها بحيث لا يجوز لمن حضر أن يؤخرها ويصليها بعد ذلك ، والله الموفق ) وخلاصته أن من احتج بمثل هذه الزيادة الباطلة التي لا أصل لها وترك الأدلة الكثيرة الوفيرة في هذه المسألة فقد قدم المتشابه على المحكم ، والضعيف على الصحيح ، وخالف منهج الراسخين في العلم ، فالحق في هذه المسألة :- هو اعمتاد الأحاديث المحكمة الصحيحة الصريحة التي لا تحتمل إلا وجها واحدا ، وعليه :- فالراجح هو أنه لا يجوز ابتداء النفل بعد الشروع في الإقامة ، ويجب على من كان في النافلة أن يقطعها حال سماع الإقامة ، إلا إن كان لم يبق عليه منها إلا القليل ، كأن يكون في التشهد مثلا ، ويمكنه إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام ، فلا بأس أن يتمها جمعا بين المصلحتين ، فانظر حفظك الله تعالى كيف بركة هذه القاعدة العظيمة ، فاشدد عليها بيديك ونواجذك والله يحفظنا وإياك ، وهو أعلى وأعلم .(1/54)
ومنها :- لقد تقرر بالدليل أن مس الذكر ناقض للوضوء ، فعن بسرة بنت صفوان رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ " رواه الخمسة وصححه الترمذي ، وقال البخاري :- هو أصح شيء في هذا الباب ، وعن أم حبيبة رضي الله عنها قال :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من مس فرجه فليتوضأ " رواه ابن ماجه والأثرم وصححه أحمد وأبو زرعة ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء " رواه أحمد, والأحاديث في هذا المعنى كثرة ، وكلها تفيد أن من مس ذكره فإن عليه الوضوء ، وهي من قبيل المحكم في هذه المسألة ، ولكن أبى الحنفية ذلك ، فقالوا :- إن مس الذكر لا ينقض الوضوء ، لأن الأحاديث الواردة في ذلك أحاديث آحاد ، والقضية مما تعم البلوى ، وأخبار الآحاد لا تقبل فيما تعم به البلوى ، أي أنهم لا يقبلون في القضايا التي تعم بها البلوى إلا الأخبار المتواترة ، كذا قالوا - ولبئس ما قالوا - غفر الله لهم هذه الزلة ، وهذا من الاستدلال بالمتشابه واطراح المحكم ، لأن المعتمد في كل قضية إنما هو صحة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شأن لنا بنوع المسألة إنما المعتمد عندنا صحة السند ، فإذا صح السند فالواجب علينا اعتماد مدلوله ، ولا يجوز معارضة النص الصحيح الصريح بأي قاعدة كانت ، بل القاعدة التي تقتضي مخالفة الدليل الصحيح الصريح هي في حقيقتها قاعدة مطرحة ملغاة ، كقاعدة الحنفية هذه ، وكم عند الحنفية من قاعدة تحتاج منهم - غفر الله لهم - إلى إعادة نظر ، والمقصود :- أن ما ذهب إليه الحنفية - رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم - ليس بصحيح ، بل الحق هو أن مس الذكر ينقض الوضوء ، بشروط سيأتينا شرحها بأدلتها إن شاء الله تعالى في موضع قريب ، والحق في أصل القاعدة هو أن خبر الواحد الصحيح الذي لم ينسخ حجة(1/55)
مطلقا ، وقد شرحنا هذه القاعدة في كتابنا ( تحرير القواعد وجمع الفرائد ) ومن أهل العلم من استدل على عدم النقض بحديث طلق بن علي رضي الله عنه قال :- قلت :- يا رسول الله ، مسست ذكري - أو قال - الرجل يمس ذكره في الصلاة ، أعليه الوضوء؟ فقال " لا ، إنما هو بضعة منك " وهو حديث صحيح ، لكن تقديمه على أحاديث النقض بمس الذكر هو من باب الاستدلال بالمتشابه وتقيمه على المحكم ، وذلك لكثرة الاحتمالات الواردة عليه فيحتمل أنه منسوخ ، ويحتمل أنه ليس هو المس المصحوب بالشهوة ، لأنه قال ( في الصلاة ) ولا نظن أن الصحابي السائل يقصد المس المصحوب بالشهوة ، لأن الصلاة هي محل الخضوع والخشوع والانطراح بين الرب جل وعلا ،ومحل التدبر والتفكر والاعتبار ، مع أن الصحابة هم أكمل الأمة إيمانا وأعمقها علما ، وأشدها خشوعا في الصلاة ، بل لو قيل ذلك في حق الفاسق من الناس لما قبل ، لاتفاق المسلمين على تعظيم شأن الصلاة ، فكيف الحال والسائل من الصحابة ؟ وهذا يفيدك أن المس المسئول عنه ليس هو المس المصحوب بالشهوة ، وقد تقرر في القواعد أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال القوي الذي له حظ من النظر سقط بها الاستدلال ، فكيف تترك الأحاديث الكثيرة الصحيحة الصريحة في شأن انتقاض الوضوء بمس الذكر ، ويقدم عليها هذا الحديث ؟ هذا من تقديم المتشابه المحتمل على المحكم الصريح ، وهذا مخالف لطريقة الراسخين في العلم ، بل الحق هو تقديم الأحاديث الواردة في انتقاض الوضوء من مس الذكر علة حديث طلق بن علي ، لأنه محتمل ، وهي محكمة صريحة ، وتقديم المحكم على المتشابه هو المتوافق مع طريقة الكتاب والسنة والراسخين من أهل العلم ، والله ربنا أعلى وأعلم .(1/56)
ومنها :- لقد دل الدليل الصحيح الصريح على أن مرور المرأة والحمار والكلب الأسود مما يقطع الصلاة ، وذلك لحديث أبي ذر رضي الله عنه قال :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقطع صلاة الرجل المسلم إذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل المرأة والحمار والكلب الأسود " رواه مسلم ، وفي الباب أحاديث ، فعرض ذلك بالمتشابه المحتمل من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:- كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبلته اضطجاع الجنازة ، فكان إذا أراد أن يسجد مسني برجله " أو نحو هذا اللفظ ، وهو في الصحيح ، وهذا محتمل ، وحديث أبي ذر محكم ، والواجب تقديم المحكم على المتشابه ، هذا إن سلمنا – جدلا- أنه محتمل ، وإلا فالحق أنه يحمل على المكث وحديث أبي ذر يحمل على المرور ، فالذي يقطع الصلاة إنما هو مرور المرأة لا مجرد مكثها بين يدي المصلي ، فرددنا المحتمل إلى المحكم ، وجمعنا بينهما على وجه لا يلغي دلالة أحد الدليلين ، ومثل ذلك من استدل على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، قال :- أقبلت راكبا على حمار أتان ، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار ، فمررت بين يدي بعض الصف ، ونزلت فأرسلت الأتان ترتع ، فدخلت في الصف ، فلم ينكر ذلك علي أحد " وهو في الصحيح ، وهذا في الحق لا ينبغي تقديمه على حديث أبي ذر ، لأنه محتمل ، وحديث أبي ذر غير محتمل ، ذلك لأن ابن عباس رضي الله عنهما لم يقل :- إن الأتان مرت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما قال :- بين يدي بعض الصف ، وأنت خبير بأن المأموم لا يلزمه الانفراد بسترة دون سترة إمامه بل سترة الإمام سترة لمن خلفه ، فمن صلى خلف إمام فليس من السنة ولا من المشروع أن يتخذ سترة خاصة به ، وإنما السترة تشرع في حق الإمام والمنفرد فقط ، وأما المأموم فإن سترة الإمام سترة له - أعني(1/57)
للمأمومين جميعا - وإن تطاولت صفوفهم وتعددت ، فحديث أبي ذر محكم وحديث ابن عباس محتمل ، والواجب تقديم المحكم على المحتمل ، مع أننا ولله الحمد رددنا دلالة حديث ابن عباس إلى دلالة حديث أبي ذر ، فاتفق الحديثان وتآلفا ، وهذا هو الواجب ، أن ترد دلالة المحتمل إلى المحكم الصريح ، فالحق عندنا هو أن مرور الحمار والمرأة والكلب الأسود ، كل ذلك مما يقطع الصلاة ويفسدها ، إذا مرت بين يدي المصلي وسترته ، والله ربنا أعلم وأعلى .(1/58)
ومنها :- ما حكاه ابن القيم بقوله ) المثال الحادي والخمسون :- رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في الجهر في صلاة الكسوف ، كما في صحيح البخاري من حديث الأوزاعي عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة :- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ قراءة طويلة يجهر بها في صلاة الكسوف " قال البخاري :- تابعه سليمان بن كثير وسفيان بن حسين ، عن الزهري ، قلت - أي ابن القيم - أما حديث سليمان بن كثير ففي مسند أبي داود الطيالسي :- حدثنا سليمان ابن كثير عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة في صلاة الكسوف ، وقد تابعه عبدالرحمن بن نمر عن الزهري وهو في الصحيحين أنه سمع ابن شهاب يحدث عن عروة عن عائشة :- كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي ( الصلاة جامعة ) فاجتمع الناس فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر ، وافتتح القرآن ، وقرأ قراءة طويلة يجهر بها " فذكر الحديث ، قال البخاري :- حديث عائشة في الجهر أصح من حديث سمرة ، قلت - أي ابن القيم - يريد قول سمرة :- صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كسوف لم نسمع له صوتا ، وهو أصرح منه بلا شك ، وقد تضمن زيادة الجهر فهذه ثلاث ترجيحات ، والذي ردت به هذه السنة المحكمة هو المتشابه من قول ابن عباس :- ( إنه صلى الكسوف فقرأ نحوا من سورة البقرة ) قالوا :- فلو سمع ما قرأ لم يقدر بسورة البقرة ، وهذا يحتمل وجوها :- أحدها :- أنه لم يجهر ، الثاني :- أنه جهر ولم يسمعه ابن عباس ، الثالث :- أنه سمع ولم يحفظ ما قرأ به فقدره بسورة البقرة ، فإن ابن عباس لم يجمع القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما جمعه بعده ، الرابع :- أن يكون نسي ما قرأ به وحفظ قدر قراءته ، فقدرها بسورة البقرة ، ونحن نرى أن الرجل ينسى ما قرأ به الإمام في صلاة يومه ، فكيف يقدم هذا اللفظ المجمل على الصريح(1/59)
المحكم الذي لا يحتمل إلا وجها واحدا؟ ) قلت :- فانظر على الوضوح الذي يجري عليه المحققون من العلماء رحمهم الله تعالى ، وأنا أعتبر هذه القاعدة من قواعد الذب عن الشريعة الإسلامية ، فمن اعتمدها وعمل بها وحكم بها فيما يرد عليه من هذه المسائل فهو إن شاء الله تعالى من الذين يدافعون عن شريعة الله تعالى وينافحون عنها ، وإني أعدك إن شاء الله تعالى أن أفرد هذه القاعدة بشرح مستقل ، أسأله جل وعلا أن ييسر ذلك ، لأنه يتخرج عليها من الفروع ما حصر له ، بل إن غالب خلاف أهل العلم إنما هو من فروع هذه القاعدة ، وقد استفدت منها في مسيرتي العلمية فائدة كبيرة ، وإني أحب لك ما أحبه لنفسي ، وأريد أن تستفيد منها كما استفدت ، وهذا لا يكون إلا بالتوسع في شرحها في مؤلف مستقل ، والله ربنا أعلى وأعلم .
س96) هل آيات الصفات من قبيل المحكم أم من قبيل المتشابه ؟(1/60)
ج) أقول :- هذه مسألة هامة جدا ، لأنها مسألة عقدية ، وبيانها أن يقال :- إننا قد قررنا أن المتشابه هو ما خفي معناه ، والمحكم ما اتضح معناه ، وعلى ذلك ، فنحن - معاشر أهل السنة - ننظر إلى آيات الصفات باعتبارين :- باعتبار معانيها اللغوية ، وباعتبار كيفياتها على ما هي عليه في الواقع ، فأما نصوص الصفات باعتبار معانيها اللغوية فهي محكمة ، بل هي من أعلى درجات المحكم لأن معناها متضح وجهه في اللغة وليس بخاف ، فأهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى يعلمون معاني الصفات ، وذلك لأن الله تعالى قد خاطبنا في القرآن بلسان عربي مبين ، فكان الواجب علينا هو حمل هذه الألفاظ على معانيها المتقررة في هذا اللسان العربي ، ولن الله تعالى إنما أنزل كتابه هدى مبيان للناس وهذا يفيدك أنه لم يخاطبنا بهذه الألفاظ العربية إلا وهو يريد منا عين معانيها المتقررة في هذا اللسان العربي ، لأنه لو خاطبنا بلفظ وأراد منا خلاف معناه المتقرر في لغة العرب لكان ذلك إلغازا وتعمية وإضلالا ، وقد قلنا إن هذا مناف لمقصود إنزال القرآن ، فالله ما أنزل كتابه إلا لهداية الخلق إليه ودلالتهم عليه ، وتبصيرهم بطرق الخير والبر والإحسان التي توصلهم إلى جنة عرضها السموات والأرض ، فكان الواجب علينا أن نعتقد أن كل لفظة في هذا القرآن فالواجب فيها أن نحملها على معناها المعهود في هذا اللسان ، وهذا متفق عليه بين أهل السنة رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم, ومن نسب إلى أهل السنة أنهم لا يعلمون المعاني فقد كذب عليهم في هذه النسبة ، فهذا بالنبسة للمعاني ، وأما الكيفيات ، فلا والله الذي لا إله غيره ، نحن لا نعلمها ولا يمكن لنا العلم بها في هذه الدنيا ، ولا طريق إلى العلم بها أصلا ، بل هي مما استأثر الله تعالى بعلمه وحده لا شريك له في ذلك ، فلا يعلم كيفية صفاته جل وعلا إلا هو جل وعلا ، والواجب على العبد أن يمسك لسانه ويقطع الطمع في التعرف على كيفية شيء(1/61)
من صفات الله تعالى ، مع اعتقاده الجازم بأن صفات الله تعالى لها كيفيات ، وهذا لا شك فيه ، وإنما المنفي هو علمنا بهذه الكيفيات ، فالكيفية مما أخفاه الله عنا ولم يطلعنا عليه ، ولا طريق أصلا للعلم به ، وذلك لأن أهل العلم رحمهم الله تعالى قرروا أن الكيفية لا تعرف إلا بثلاث طرق ، الأول :- رؤية الشيء ، والله تعالى لا يرى في الدنيا بعيني اليقضة ، وهذا متفق عليه بين أهل العلم ، الثاني :- رؤية نظيره ومثيله وهذا منتف عن الله تعالى ، لأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، ولم يكن له كفوا أحد, ولا سمي له جل وعلا ، الثالث :- أن يخبرك الصادق صلى الله عليه وسلم عن كيفية صفته ، وهذا منتف أيضا ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أن لربنا حياة وعلوا واستواء ولم يخبرنا عن كيفية شيء من ذلك ، وأخبرنا أن له وجها ويدا ورجلا وأصابع ورحمة ورضا وغضبا ولم يخبرنا عن كيفية شيء من ذلك ، وهكذا القول في سائر صفات الرب جل وعلا ، فوجب الوقوف حيث وقف النص ، لا ندخل في هذا الباب متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا ، ولا نقول إلا " آمنا به كل من عند ربنا " فحيث انتفت طرق العلم بالكيفية في حق صفات الله تعالى فاعلم أنه لا يمكننا أبدا أن نتعرف على هذه الكيفية ، بل لا يجوز لنا أن نطلق العنان لعقولنا القاصرة للبحث في هذا الأمر ، لأنه أمر غيبي لا مدخل للعقول فيه ، وليس إداركه مما يدخل تحت طاقة العقل ومدركاته فحيث كان معنى الصفات واضحا جليا ، قلنا ( إن معانيها من قبيل المحكم ) وحيث كانت كيفياتها مما أخفاه الله تعالى عنا ، قلنا ( إنها متشابهة باعتبار الكيفيات ) فأهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى وسط في هذا الباب الخطير بين فرقتين ضالتين :- بين من يزعم أنه لا يعلم معاني الصفات فضلا عن كيفياتها ، وبين من يزعم أنه يعلم معانيها وكيفياتها ، فالفرقة الأولى قالوا ( نصوص الصفات كلها من المتشابه الخفي ) والفرقة الثانية(1/62)
قالوا ( نصوص الصفات كلها من الواضح الجلي ) وأما أهل السنة فتوسطوا وقالوا ( إن نصوص الصفات من الواضح الجلي في معانيها ، ومن المتشابه الخفي في كيفياتها ) وهذا هو الحق الذي ندين الله به ، ولكن لأن أكثر من كتب في أصول الفقه هم من المبتدعة الذين يحرفون الصفات عن معانيها الصحيحة قالوا ( إن نصوص الصفات من المتشابه ) وهذا باطل ، وقولهم في هذا غير مقبول ، بل هو محدث في عقيدة المسلمين ، ومخالف لما عليه سلف الأمة وأئمتها ، ومخالف للعقل السليم ، حتى وإن قال به أكبر عالم في الأصول ، فلا شأن لنا به ، فقوله باطل ، باطل ، باطل ، وبه تعلم :- أن الحق الذي لا يجوز القول بغيره في هذه المسألة هو ما قرره أهل السنة والجماعة رحمهم الله الرحمة الواسعة وأدخلهم فسيح جنانه ، وغفر لهم ورفع قدرهم ومنازلهم في الدنيا والآخرة ، وجزاهم الله تعالى خير ما جزى عالما عن أمته ، وجمعنا بهم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، ومن باب التوضيح أضر لك فروعا على هذه المسألة فأقول :-
منها :- يؤمن أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى بأن لله تعالى وجها ويدا ورجلا وعينا وأصابع وحياة وعلما وسمعا وبصرا وكلاما واستواء على العرش ، كل ذلك يثبتونه على الوجه اللائق بالله جل وعلا ، مع الإيمان الجازم بأنه معلوم المعنى فقط ، وأما كيفية هذه الصفات فإنه لا يعلمها إلا الله تعالى.
ومنها :- يؤمن أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى أن لله تعالى ضحكا وعلوا ورضا وغضبا وكراهية وسخطا ونزولا إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر ومجيئا وإتيانا يوم القيامة لفصل القضاء ،وكل ذلك مما نعلم معانيه علم اليقين ، وأما كيفياته التي هو عليها في الواقع فلا يعلمها إلا الله تعالى ، فمعاني هذه الصفات معلوم ، وكيفياتها مجهولة .(1/63)
ومنها :- يؤمن أهل السنة والجماعة أن لله تعالى معية عامة ومعية خاصة ، وأن له جل وعلا رحمة وعزة وحكمة وهيمنة وعجبا ونسيانا بمعنى الترك عن علم وعمد ، وكل هذا على الكيفية التي يريدها الله تعالى ، لا ندخل في هذا الباب متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا ، ولا نقول إلا " آمنا به كل من عند ربنا " .
ومنها :- يؤمن أهل السنة والجماعة بأن الله تعالى يرى في الآخرة ، فيراه المؤمنون في العرصات ويرونه بعد دخول الجنة ، ومعنى الرؤية معلوم لنا بحسب الوضع اللغوي فقط ، وأما كيفيتها التي ستكون عليه في الواقع فلا يعلمها إلا الله تعالى ، فمعنى الرؤية معلوم ، وأما كيفيتها فمجهولة فنصوص الرؤية محكمة باعتبار معانيها ، ومتشابهة باعتبار كيفياتها ، وهكذا يا أخي الكريم يجب عليك أن تقول في كل نصوص الصفات ، واحذر يا حبيبنا أن تحيد عن هذا الأصل ، فإني أحب لك النجاة ، ولا نجاة في هذا الباب إلا باعتماد ما قرره أهل السنة في هذه القاعدة ، أعني أن نصوص الصفات من المحكم باعتبار معانيها ومن المتشابه باعتبار كيفياتها ، فاشدد عليك بيديك وعلمه غيرك وانشره بين الأمة ، حتى يكون من العلم الذي يعلم من الدين بالضرورة ، فإن قلت:- لقد أطلت علينا فهل من اختصار لما مضى ؟ فأقول :- نعم, وهو أن تحفظ نص القاعدة التي تقول ( أهل السنة والجماعة يعلمون معاني نصوص الصفات ، ويكلون علم كيفيتها إلى الله تعالى ) أي أنهم يتكلمون في المعاني فقط ، ويسكتون عن الكيفيات ، والله يتولانا وإياك لما فيه الخير والصلاح .
س97) هل نصوص اليوم الآخر من المحكم أم من المتشابه ؟(1/64)
ج) أقول :- وهذا السؤال لا يقل أهمية عن السؤال الذي قبله ، وبيان جوابه أن يقال :- إن الكلام هنا هو بعينه كالكلام في السؤال الذي قبله ، وهو أن نصوص اليوم الآخر ننظر لها من جهتين :- من جهة معانيها ، ومن جهة كيفياتها ، فإما من جهة معانيها فإنها معلومة لنا ، وواضحة ولا خفاء فيها ، فهي من المحكم باعتبار معانيها ، وأما كيفياتها فهي مما استأثر الله بعلمه ، فلا يعلم كيفياتها على وجه التفصيل إلا الله تعالى ، فكيفياتها مما أخفاه الله تعالى عنا ، ولم يرد منا أن نعلمه ، فهي إذا من المتشابه باعتبار كيفياتها ، فعذاب القبر ونعيمه وسؤاله حق على حقيقته ، ونحن نعلم معنى السؤال ونعلم معنى العذاب والنعيم ، ولكن لا نعلم كيف سيكون ذلك على وجه التفصيل, فعذاب القبر ونعيمه وسؤاله مما نعلم معناه ، ونجهل كيفيته ، فهو من المحكم في معانيه ومن المتشابه في كيفياته ، ونحن نؤمن بالبعث والنشور والجزاء والحساب ، وتطاير الصحف ووضع الموازين ونصب الصراط ، وغير ذلك مما سيكون في اليوم الآخر ، كل ذلك نؤمن به ، ونعلم معناه ، ولكن لا نتكلم في كيفياته ، ولا نخوض فيها ، لأنه لا يعلم كيفية ما سيكون في اليوم الآخر إلا الله تعالى ونحن نؤمن بالجنة وما جاء فيها من النعيم على وجه الإجمال والتفصيل ، ونؤمن بالنار وما جاء فيها من العذاب على وجه الإجمال والتفصيل ، ونعلم معاني ذلك على حسب الوضع اللغوي عندنا في لسان العرب ، وأما حقائق هذه الأشياء وكيفياتها التي هي عليه في الواقع فإنه لا يعلمها أحد من الثقلين، بل لا يعلمها إلا الله تعالى ، ولا مدخل للعقول الضعيفة في إدراك كيفية ذلك ، وهو وإن اتفق مع الاسم المعهود عندنا في الدنيا ، إلا أن المتقرر عند أهل السنة والجماعة :- أن الاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في الصفات ، أي ليس كل شيئين اتفقا في اسميهما فإنهما لا بد وأن يتفقا في صفتيهما ، فما ورد في الجنة من النعيم نجد أنه في(1/65)
اسمه متفق مع أسماء نعيمنا في الدنيا ، ولكن الاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في المسميات ، أي في الصفات ، ولذلك نفى الله تعالى علمنا بذلك بقوله في الحديث القدسي " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " وهو في الصحيح ، وأرجوك أن تنتبه لهذا الكلام ، وأعيده لك حتى تفهمه فأقول :ــ إن ما ورد في اليوم الآخر مما سيكون فيه ، هو متفق مع الأسماء المعهودة عندنا في الدنيا ، ولكن لا بد أن تعلم أن مجرد الاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في الكيفية ، وعليه :- فنحن لا نعلم من ذلك إلا مجرد الاسم فقط على ما هو مقرر فيه ، أي في لسان العرب ، أي أننا لا بد أن نحمل هذه الألفاظ على المعاني اللغوية عندنا في اللسان العربي ، وأما كيفياتها التي ستكون عليها فلا نتكلم فيها ، لأنه لا يعلمها إلا الله تعالى ، فبان لك بذلك :- أن نصوص ما ورد أنه سيكون في اليوم الآخر هي من قبيل المحكم في معانيها لأننا نعلمه ، ومن المتشابه في كيفياتها لأننا لا نعلمها ، ولعلي أن أكون قد وفقت في إيصال هذه المسألة لك ، ولعلك تكون قد فهمتها ، فأسأل الله تعالى أن ييسر فهمها عليك ، وأن يرزقك قبولها واعتمادها ، وأن يهدي قلبك وروحك وعقلك للحق المتفق مع الكتاب والسنة ، إنه سميع قريب مجيب الدعاء ، والله يتولانا وإياك .
س98) هل هناك في القرآن ألفاظ لا معاني لها ؟(1/66)
ج) أقول :- لا ، ليس في القرآن ألفاظ لا معاني لها ، وأقسم بالله تعالى على ذلك ، فكل لفظ في القرآن فله معنى ، ولا بد ، حتى الحروف المقطعة في أوائل السور ، فإن لها معاني ، وقد تكلم عليها أهل العلم ، فمنهم من أعطاها معاني في ذاتها ، ومنهم من أعطاها معاني في إجمالها ، لكنهم تكلموا عن معانيها ، إلا أن العلم بالمعنى مما يتميز فيه أهل العلم ، فبعضهم يفتح له من معاني القرآن ما لا يفتح للبعض الآخر ، وهذا أمر معلوم ، وهذه مسألة متفق عليها بين أهل العلم ، فقد اتفق العلماء على أنه ليس في القرآن ما لا معنى له ، حكاه أبو العباس في الفتاوى وغيره من أهل العلم ، بل وقد اتفق أهل العلم أيضا :- على أن جميع ما في القرآن ما يفهم معناه ، ويمكن إدراكه بالتدبر والتأمل واتفقوا :- على أنه ليس في القرآن ما لا يمكن أن يعلم معناه أحد ، حكاه ابن تيمية في الفتاوى فهاهنا اتفاقات لا بد من فهمها وهي :- اتفاق أهل السنة والجماعة على أنه ليس في القرآن ما لا معنى له ، والثاني :- اتفاق العلماء على أن ما في القرآن كله مما يمكن العلم بمعناه بالتدبر والتأمل والثالث :- اتفاق أهل العلم على أنه ليس في القرآن ما لا يمكن أن يعلم معناه أحد .
س99) كيف تقول ( ليس في القرآن ما لا يمكن أن يعلم معناه أحد) مع أنك قررت قبل قليل أن نصوص الصفات ونصوص اليوم الآخر مما لا يعلمها إلا الله تعالى ؟(1/67)
ج) أقول :- نعم ، لقد قررت ذلك قبل قليل ، ولكن الذي قررته هو أن العلم بالكيفية هو الذي لا يعلمه أحد فلا يعلمه إلا الله تعالى ، والكلام هنا في العلم بالمعاني لا بالكيفيات ، فمعاني نصوص الصفات واليوم الآخر هو الذي نعلمه ، وأما كيفياتها فإننا نجهلها ، فقولنا ( ليس في القرآن ما لا يعلم معناه أحد ) إنما هو في المعنى فقط لا في الكيف ،وإلا فقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن في القرآن ما لا يعلم تأويله إلا الله تعالى ، كتأويل الروح في قوله تعالى " ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " وكذلك وقت قيام الساعة كما قال تعالى " إن الله عنده علم الساعة " وهي من مفاتح الغيب الخمسة التي لا يعلمها لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي صالح ، فضلا عن غيرهم من الإنس والجن ، وقال تعالى " يسئلونك عن الساعة أيان مرساها ، فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها " وقال تعالى " يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ، ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة ، يسئلونك كأنك حفي عنها ، قل إنما علمها عند الله ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون " وكذلك وقت الآجال فإنها مما يعلمه إلا الله ، كما قال تعالى " وما تدري نفس بأي أرض تموت " والنصوص في هذا المعنى كثيرة ، وعليه فنقول على وجه الخلاصة لما سبق :-
أولا :- ليس في القرآن ما لا معنى له .
ثانيا :- كل ما في القرآن فإنه مما يمكن العلم بمعناه .
ثالثا :- ليس في القرآن لفظ لا يمكن العلم بمعناه .
رابعا :- نصوص الصفات من المحكم في معناها ومن المتشابه في كيفياتها .
خامسا :- نصوص اليوم الآخر من المحكم في معناها ومن المتشابه في كيفياتها .
سادسا :- في القرآن مالا يعلمه إلا الله تعالى ، كالروح والآجال وحقائق الصفات واليوم الآخر -أي كيفياتها - ووقت قيام الساعة .(1/68)
س100) ما الأصح من خلاف أهل العلم في الوقف في قوله تعالى " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " هل الأصح الوقف على الاسم الأحسن ( الله ) أم الأصح أن يوقف على قوله (والراسخون في العلم ) ؟
ج) أقول :- هذه مسألة مبنية على مسألة ، وفهمها ينبني على فهم المسألة الأخرى ، وهي مسألة معرفة معاني التأويل ، فإننا إذا علمنا معاني التأويل هان الأمر علينا وتحدد الراجح في الوقف ، فأقول وبالله تعالى التوفيق :- لقد قرر أهل العلم رحمهم الله تعالى أن التأويل له معنيان ، وهما المعنيان المعروفان عن السلف والأئمة ، وقد زاد أهل الكلام معنى ثالثا ، ولا شأن لنا بما زادوه ، لأننا سنتلكم عليه في مكان آخر إن شاء الله تعالى ، والمهم الآن أن تعلم أن السلف رفع الله منازلهم في الجنة قد قسموا التأويل إلى قسمين :- تأويل بمعنى حقيقة الشيء التي يؤول إليها ، وتأويل بمعنى التفسير ، أي تفسير المعاني ، والتأويل الأول هو غالب المراد من إطلاق لفظ التأويل في القرآن الكريم ، ومنه قوله تعالى " هل ينظرون إلا تأويله ، يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ، أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل " والمراد بتأويل اليوم الآخر ، أي وقوع حقيقته كما أرادها الله تعالى ، أي مجيئه وحصوله ، فقوله "هل ينظرون إلا تأويله " أي هل ينظرون إلا وقوع حقيقة ما أخبرت به الرسل ، وقوله " يوم يأتي تأويله " أي يوم تقع حقيقته على ما هي عليه ، وتكون حقيقة مشاهدة بالبصر ، بعد أن كانت حقيقة علمية معلومة بالعقل فقط ، فالتأويل المراد هنا هو الحقيقة والصفة وظهور الشيء على ما هو عليه ، ومن ذلك أيضا :- قوله تعالى عن يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام " يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا " أي أنه لما وقعت حقيقة هذه الرؤيا وظهرت على ما هي عليه ، قال يوسف عليه(1/69)
السلام هذا الكلام ، فلما سجد له إخوته وأبواه قال " هذا تأويل رؤياي من قبل " أي هذا هو حقيقتها التي تؤول إليها ، فوقوع الرؤيا في أرض الواقع هو تأويلها ، لأنه هو حقيقتها ، ومن ذلك قول عائشة رضي الله تعالى عنها " كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده :- سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي ، يتأول القرآن " متفق عليه فسمت تنفيذه للأمر تأويلا ، والمراد بالأمر أي الأمر الوارد في قوله تعالى " إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " فلما امتثل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر وأخرجه في قوله ( سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي ) سمي ذلك تأويلا ، أي هذا هو حقيقة الأمر الوارد في سورة النصر ، وعلى ذلك :- فيكون تأويل الخبر معناه :- وقوعه على الحقيقة المخبر بها ، وتأويل الأمر معناه :- امتثاله وتنفيذه على الوجه الشرعي ، وتأويل النهي معناه :- تركه واجتنابه تعبدا لله تعالى ، وتأويل الرؤيا معناه :- تحققها وظهورها على أرض الواقع ، هكذا قال أهل السنة والجماعة ، وأما التأويل الثاني :- فهو التأويل بمعنى التفسير وبيان المعنى ، ومنه قول ابن جرير الطبري في تفسيره :- القول في تأويل الله تعالى كذا وكذا ، كذا وكذا ، وقد اتفق أهل السنة على أن التأويل يأتي بمعنى التفسير ، ويفسر به قوله تعالى عن الخضر عليه السلام أنه قال لموسى عليه السلام لما أراد مفارقته لعدم صبره على ما رآه من الأفعال ، وبعد أن فسر له حقيقة ما فعله ، قال له " ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا " أي هذا تفسيره ، وهذا هو حقيقته ، وبالجملة :- فالتأويل له معنيان صحيحان متفق عليهما بين أهل السنة والجماعة وهما :- التأويل بمعنى ما يؤول إليه الأمر ، أي حقيقة الشيء على ما هو عليه والتأويل بمعنى التفسير ، إذا علمت هذا فأقول :- إن قوله تعالى " وما يعلم تأويله إلا الله(1/70)
والراسخون في العلم " إن كان يراد بالتأويل حقيقة الشيء المخبر به وكيفيته على ما هو عليه من حقائق آيات الصفات وحقائق اليوم الآخر فهذا مما لا يعلمه إلا الله تعالى كما قررناه سابقا ، من أن كيفية الصفات وحقائق اليوم الآخر لا يعلمها إلا الله تعالى ، فيكون الوقف على الاسم الأحسن من باب الوجوب ، فتقول " وما يعلم تأويله إلا الله " وتقف ، وأما إن كان يراد بالتأويل تفسير الشيء وبيان معناه ، فالوقف يكون على قوله تعالى " والراسخون في العلم " أي أن الراسخين في العلم يعلمون تفسير معاني ما أنزل إليهم ، كما قررناه سابقا ، من أنه ليس في القرآن ما لا يمكن أن يعلم معناه بالتدبر والتأمل ، فإن قام في قلبك المعنى الأول فقف على الاسم الأحسن ، وإن قام في قلبك المعنى الثاني فقف على " والراسخون في العلم " وعليه :- فيكون خلاف السلف رحمهم الله تعالى في تفسير هذه الآية من باب خلاف التنوع لا التضاد، ذلك لأن منهم من قال :- إن الوقف يكون على الاسم الأحسن ، ومنهم من قال :- بل الوقف التام يكون على قوله " والراسخون في العلم " وهذا من باب التنوع ، لأن الذين قالوا :- إن الوقوف التام يكون على الاسم الأحسن غلبوا جانب المعنى الأول في التأويل ، وهو حقيقة الشيء المخبر به ، والذين قالوا :- إن الوقف التام على قوله " والراسخون في العلم " نظروا إلى التأويل بالمعنى الثاني ، وهو التأويل بمعنى التفسير وكلا القولين مقبول لا غبار عليه، ولكن بالنظر على هذين الاعتبارين ، واختار هذا القول أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى وتلميذه العلامة ابن القيم ، وغيرهما من المحققين ، وهو الحق في هذه المسألة رحم الله الجميع رحمة واسعة ، وغفر لهم وتجاوز عنهم ، وجمعنا بهم في الجنة ، والله ربنا أعلى وأعلم .
س101) هل في القرآن مجاز ، وضح ذلك بالأدلة والأمثلة ما استطعت إلى ذلك سبيلا ؟(1/71)
ج) أقول :- هذه المسألة من المسائل الخطيرة الكبيرة في الأصول والعقيدة ، ولا بد من الإسهاب في شرحها ، وبيانها البيان الكامل ، حتى ينكشف وجه الحق فيها وتزول مواضع الإشكال ، فأقول وبالله تعالى التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون والتأييد :- لقد اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في هذه المسألة على أقوال :- فمنهم من نفى وجود المجاز في كلام العرب مطلقا، وفي القرآن على وجه الخصوص، فقال :- لا مجاز في اللغة ، فضلا عن القرآن الكريم ، ومنهم من أثبت المجاز في كلام العرب ، أي في اللغة ، ولكن نفاه في القرآن الكريم ، فقال :- يوجد المجاز في اللغة ولكن لا وجود له في القرآن ، ومنهم من أثبت وجود المجاز في اللغة ، وأثبته في القرآن الكريم ، إلا أنه شدد على أنه لا يجوز القول بالمجاز في الآيات التي تتعلق بالغيب ، كآيات الصفات وحقائق اليوم الآخر فصارت الأقوال في هذه المسألة ثلاثة أقوال :- قول ينفي وجود المجاز في اللغة وفي القرآن ، وقول يثبته في اللغة وفي القرآن ، وقول يثبته في اللغة دون القرآن ، والترجيح عندنا يتوقف على فهم قواعد مهمة في هذا الباب وهي كما يلي:-
((1/72)
القاعدة الأولى ) الأصل في الكلام الحقيقة ، فلا يجوز العدول عن الحقيقة إلى القول بالمجاز إلا بدليل أو قرينة مقبولة عند أهل السنة خاصة ، فالواجب على السامع لكلام الغير أن يحمله على الحقيقة في أول الأمر ، ولا يجوز له حمله على غير الحقيقة ، إلا إن ورد في كلامه قرينة تدل على أنه لم يرد حقيقة الكلام وإنما أراد مجازه ، فإن وردت هذه القرينة فأهلا وسهلا ، وإلا فالأصل هو البقاء على الحقيقة حتى يرد الناقل ، ولا يجوز التحكم في كلام أحد بنقله من حقيقته إلى مجازه بمجرد الهوى والتعصب والمذاهب الباطلة والقواعد التي ما أنزل الله بها من سلطان ، بل لا بد للانتقال من الحقيقة إلى المجاز من دليل صحيح أو قرينة مقبولة عند أهل الحق ، ومراد صاحب الكلام من كلامه مقدم على فهمنا المخالف له ، أي المخالف لمراده ، وليس فهمنا هو المقدم على مراده ، فإذا فهمنا فهما مخالفا لمراد صاحب الكلام فالواجب علينا أن نعالج فهمنا بما يتوافق مع مراد صاحب الكلام ، لا أن نجعل العيب في المراد ونهجم على الكلام ونحمله من المعاني ما لا يحتمل هذا لا يجوز ، وعليه :- فكل لفظة في القرآن فإننا لا بد أن نحملها على الحقيقة المرادة للرب جل وعلا ، ولا يجوز لنا أن نعدل عن هذه الحقيقة إلى المجاز إلا بالقرينة المقبولة والدليل الصحيح الصريح ، ولا يجوز معارضة حقائق الكلام بفهم فهمناه من دراسة سابقة لنا ، أو بقاعدة ورثناها عن أشياخنا ، فالقواعد والمذاهب والآراء وأقوال الرجال كلها تابعة للدليل ، فهو الحاكم فيها وهو المهيمن عليها ، وليس العكس ، ووالله لهدم عشرة آلاف قاعدة مخالفة للدليل أحب إلينا من تحريف دليل واحد مراعاة لتصحيح قاعدة أنتجتها عقولنا الضعيفة ، فكل لفظة في كتاب الله تعالى فالواجب علينا أن نحملها على الحقيقة ، ولا يجوز العدول عن الحقيقة فيها إلا المجاز إلا بالقرينة المقبولة عند أهل الحق .
((1/73)
القاعدة الثانية ) الأصل في الكلام حمله على ظاهره ولا يجوز العدول عن الظاهر إلا بدليل ، فإذا كان الكلام له ظاهر فالواجب هو البقاء على هذا الظاهر ، ولا يجوز أن نصرفه عن ظاهره المتبادر لأهل العقول السديدة السليمة إلى معان أخرى إلا بالدليل الصحيح الصريح ، فلا يجوز تأويل الكلام تأويلا باطلا ولا تحريفه تحريفا عاطلا ، ولا الهجوم عليه بالقاعدة المخالفة للمنقول والمناقضة للمعقول ، ولا أن نصرفه عن ظاهره بالأهواء العاطلة والآراء الكاسدة الفاسدة ، فكل ذلك لا يجوز في كلام آحاد الناس ، فكيف بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ؟ لا شك أن الأمر أفظع وأفظع ، فالواجب على المكلفين في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقفوا به على ما يظهر منه ، لأن حمل الكلام على الظاهر هو الأصل ، وقد تقرر :- أن الأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل ، فمن قال :- إن هذه الآية ليست على ظاهرها ، فإننا نقول له :- إن البقاء على الظاهر هو المتعين إلا بالقرينة الصارفة عنه ، وكلامك هذا يتضمن الانتقال عن الظاهر إلى معنى آخر ، ففيه انتقال عن الأصل إلى غيره ، فكلامك هذا موقوف على الإتيان بدليل صحيح أو قرينة مقبولة عند أهل الحق تفيد صحة هذا الانتقال ، لأنه قد تقرر :- أن الدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه ، وليست أفهامنا هي الحاكمة على الآية ، بل إن مدلول الآية هو الذي يحكم أفهامنا ، أي لا يجوز لنا أن نفهم منها إلا ما دلت عليه ، فلا يجوز أن نفهم فهما ثم نلوي عنق الدليل حتى يتوافق مع فهمنا هذا ، بل لا نفهم من الدليل إلا ما يقتضيه الدليل من غير زيادة على مدلوله ولا تقصير عنه ، وغالب الذين يدعون أن هذه الآية لا يراد بها ظاهرها هم من هذا الصنف :- الذين أدخلوا في عقولهم فهما خاصا ورثوه من غيرهم وجعلوه هو الذي يحكمهم عند دراسة الآيات والنصوص الشرعية ، وصار هم الواحد منهم :ــ كيف يصحح(1/74)
مدلول الآية حتى يتوافق مع ما كان يفهمه ، ومن هذا الباب دخل الفساد في الاستدلال ، فهو لا يدخل في دراسة الآية ليهتدي بها وليتعرف على مراد الله تعالى فيها ، وإنما يدخل في دراستها ليتعرف هل هي توافق فهمه أو لا؟ فإن كانت توافقه قبل مدلولها واعتمده ، وإن كانت تخالف ما ورثه عن غيره فناهيك عن التحريف في معانيها وقلة الأدب في تعطيلها عن معانيها الصحيحة والقدح فيها، وهذا شأن كل أهل الأهواء ، فتحكيم الهوى في الاستدلال صاد ومانع من التوفيق للاستدلال الصحيح ، ومانع من الاهتداء بنصوص الشرع ، فأدلة الشرع هي حق اليقين وبرد الهدى ، لكنها لمن قدم الهوى حسرة عليه كما قال تعالى " وإنه لحسرة على الكافرين ، وإنه لحق اليقين " فنعوذ بالله أن نكون من الذين قال الله تعالى فيهم " ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا " ومن الذين قال الله تعالى فيهم " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا " ونسأله جل وعلا أن يجعلنا من المتقين الذين قال الله تعالى فيهم " ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين " والمقصود :- أن الواجب هو حمل الكلام على ظاهره الذي يفهمه أهل السنة والجماعة ، لا يسما إن كان النص من نصوص الصفات وحقائق اليوم الآخر ، ولا يجوز العدول عن هذا الظاهر إلا غيره إلا بالدليل الصحيح الصريح ، أو القرينة المقبولة عند أهل الحق .
((1/75)
القاعدة الثالثة ) لا مجاز في الآيات التي تتعلق بالأمور الغيبية ، وهذا باتفاق أهل السنة ، فالواجب في الآيات التي تتكلم عن أمر غيبي ، أن نحملها على حقيقتها وما يظهر منها ، مع التأكيد على العلم بالمعنى وتوكيل أمر العلم بالكيفية إلى الله تعالى ، لأن الانتقال من الحقيقة إلى المجاز عملية عقلية ، أي أن العقل له دور كبير فيها ، والمتقرر عند أهل السنة باتفاقهم أنه لا مدخل للعقل فيما هو من أمور الغيب ، لأن الله تعالى لما خلق العقل جعل له حدودا وطاقات ، فلا يزال تفكيره سليما ما دام في داخل حدود طاقته وقدرته ، ولكنه لا يأتي إلا بالضلال إن أقحم فيما لا شأن له به وفيما لم يخلق له ، وفيما كان خارجا عن حدود قدرته وطاقته ، وأمور الغيب ليست مما يدرك بالعقل استقلالا ، فلا مدخل له فيها ، ولا يجوز لأحد كائنا من كان ، أن يجعل عقله القاصر الضعيف حاكما على أمر من أمور الغيب ، فحيث كلن الغيب مبناه على التوقيف ولا مدخل للعقل فيه فينبني على ذلك أنه لا مجاز في المسائل التي تتعلق بأمور غيبية ، لأن المجاز عملية عقلية ولا تعلق للعقل فيما هو من الغيب ، فانتبه لهذه القواعد لأنها تفيدك ما أريد تقريره لك في آخر الكلام فإذا قال لك أحد في أمر من أمور الغيب :- إنه لا يراد به الحقيقة وإنما يراد به المجاز ، فقل له:- إنك تحكم بالمجاز - وهو عملية عقلية - في أمر من أمور الغيب ، ولا مجاز فيما هو من الغيب, لأن عقلك أقصر من أن يدرك هذا الأمر على ما هو عليه .
((1/76)
القاعدة الرابعة ) لا مجاز في نصوص الصفات ، لأن باب الصفات من الأبواب الغيبية التي لا مدخل للعقل فيها كما قررته لك قبل قليل ، فالعقل ليس حاكما على ما يجوز اتصاف الله به مما لا يجوز ، لأن هذه القضية من قضايا الغيب ، وما عقلك يا هذا حتى يكون حاكما على ما يثبت أو ما ينفى عن الله تعالى من الصفات ؟ ولا بد من التسليم التام والإيمان الكامل بهذه القضية، أعني قضية أن باب الصفات لله تعالى من الغيب الذي مبناه على التوقيف على الدليل الشرعي الصحيح الصريح، وليس مرد ذلك للعقول القاصرة ولا للأفهام العاطلة ولا للمذاهب المنكرة ولا للقواعد الفلسفية التي لا ترضى بها البهيمة فضلا عن أصحاب العقول الكاملة، بل هو باب توقيفي على دليل الشرع، فحيث كلن باب الصفات من الأبواب الغيبية فينتج من ذلك أنه لا مجاز فيه ، لأن المجاز عملية مبناها على الربط العقلي أو الحسي بين الحقيقة والمجاز ، والغيب لا مدخل للعقل فيه فلا مجاز في باب الصفات ، وانتبه لهذا ، لا مجاز في باب الصفات ، وأقسم بالله تعالى أنه لا مجاز فيه بل ما أضيف لله تعالى من الصفات في الكتاب الكريم وصحيح السنة كله حق على حقيقته ، نعلم معناه ولا نعلم كيفيته ، فالمجاز حرام ثم حرام ثم حرام إدخاله في باب الصفات ، فإن إدخال المجاز فيه هو الذي أوجب لأهل التعطيل تعطيلهم ولأهل التمثيل تمثيلهم ولأهل الزندقة زندقتهم ولأهل الكفر كفرهم ولأهل البلاء بلاءهم ، بل إن القول بجواز المجاز في باب الصفات طاغوت لا بد من كسره ، وشيطان لا بد من إحراقه ، وحفرة عميقة لا بد من ردمها ، ونجاسة ستكدر صفو المعين العذب لا بد من حمايته منها وإزالتها عنه ، فلا يجوز البتة بوجه من الوجوه أن ندخل المجاز في نصوص الصفات ، وعلى هذا جرى إجماع أهل السنة والجماعة رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم وإجماعهم حق لا بد من اتباعه ، وعدل لابد من اعتماده، وسبيل صدق لا بد اقتفائه " ومن يشاقق الرسول من بعد(1/77)
ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا" فآيات الصفات يجب فيها حملها على حقيقتها المرادة لله تعالى ويجب فيها حملها على ظاهرها ، مع العلم بمعناها وتفويض أمر العلم بالكيفية لله تعالى، وهذه القاعدة هي بيت القصيد ومحط الرحال ، وهي التي جعلت بعض أهل السنة ينكرون وجود المجاز في القرآن أو في اللغة ، كل ذلك من باب سد الأبواب التي قد يلج منها أهل البدع إلى باب الصفات ، لأن أهل البدع إنما ولجوا إلى تحريف الصفات من باب المجاز ، فهو باب إذا دخل منه إلى صفات الله تعالى فناهيك عن الفساد والشر المترتب على ذلك ، والخلاصة أنه لا مجاز في باب الصفات .
((1/78)
القاعدة الخامسة ) لا مجاز في حقائق اليوم الآخر ، ذلك لأنها من باب الغيب الذي لا ندري عن حقيقة كنهه ، فنعيم القبر وعذابه والبعث والنشور والجزاء والحساب وتطاير الصحف والحوض والميزان والصراط والقنطرة والجنة وما فيها من النعيم والنار وما فيها من العذاب الأليم كل ذلك حق على حقيقته ، نعلم معناه ونكل أمر الكيفية إلى الله تعالى ، ولا نقول :- هذا يراد به المجاز لأن هذه المسائل كلها من باب الغيب الذي اختص الله تعالى بعلم كيفيته وتفاصيله على ما هي عليه ، وأما نحن فلا علم لنا إلا بمجرد المعاني فقط ، فحيث كان ذلك من الغيب فلا يخله حينئذ المجاز ، لأن المجاز عملية عقلية ، أي أن الرابط بين الحقيقة والمجاز إنما تعرف بالعقل أو بالحس, وهذه الأمور التي ستكون في اليوم الآخر من الغيب الذي لا يماثل المحسوسات عندنا في هذه الدنيا ، ولا يتمكن العقل من إدراكه لأنه خارج عن حدود العقل وطاقاته وليس هو مما خلق العقل لإدراكه على وجه التفصيل ، فكيف يدخله المجاز ولا مدخل للعقل فيه أصلا ؟ هذا لا يكون أبدا ، وبه تعلم:- أن من حمل شيئا من ذلك على المجاز إنما هو شيء قاله من كيسه الفاسد ، ومن موروثه العلمي الكاسد ، ومن فهمه العاطل عن الحق ، والله يتولانا وإياك .
((1/79)
القاعدة السادسة ) القول بالانتقال من الحقيقة إلى المجاز وقف على العلم بماهية الحقيقة ، أي بكيفيتها وكنهها التي هي عليه في الواقع ، فإذا قلت لك :- رأيت أسدا يخطب ، فأنت لا تفهم منه حقيقة الأسد لأن حقيقة الأسد في الحيوان المفترس ، وكيف يكون ذلك الحيوان المفترس خطيبا في الناس ؟ وإنما تفهم من كلامي أنني رأيت رجلا شجاعا كالأسد ، وهذا انتقال صحيح ، لأن حقيقة الأسد كانت متصورة في ذهنك وأبى عقلك حمل الكلام عليها ، وإن قلت لك :- رأيت حمارا في المدرسة جالسا على الكرسي ، فهل بالله عليك تفهم من كلامي أنه الحمار الأهلي المعروف ؟ بالطبع لا ، وإنما تفهم منه أنني رأيت طالبا بليدا غيبا كالحمار ، وكيف لم يحتمل عقلك حمل الكلام هنا على حقيقته ؟ بالطبع ستقول :- لأن حقيقة الحمار معروفة عندي ولا يمكن أن تراد الحقيقة هنا فلما كانت الحقيقة معلومة لديك عرفت أن الحقيقة لا يمكن أن تراد هنا ، فقلت :- إن الحمار هنا لا يراد به حقيقته وإنما يراد به الطالب الغبي البليد ، لكن إن سمعت قول الله تعالى " لما خلقت بيدي" " بل يداه مبسوطتان " " ويبقى وجه ربك " " وجاء ربك " وغير ذلك مما يضاف من الصفات لله تعالى ، فهل ستقول إنه لا يراد به حقيقته، وإنما يراد به مجازه ؟ إن قلت ذلك فسأقول لك :- وهل أنت تعلم أصلا حقيقة هذا الكلام وكيفيته التي هو عليها في الواقع ، ثم أبى عقلك حمل الكلام على هذه الحقيقة ؟ هل أنت تعلم حقيقة يد الله تعالى ، هل تعلم حقيقة وجه الله تعالى هل تعلم حقيقة عين الله تعالى ، هل تعلم حقيقة مجيء الله تعالى ؟ هل تعلم حقيقة شيء من ذلك ؟ إن قلت :- لا ، فسأقول لك :- وكيف تنتقل من الحقيقة التي أنت أصلا لا تعرفها ، إلى المجاز فما وجه هذا الانتقال ، وأنت جاهل بالحقيقة التي انتقلت عنها ؟ وقد اشترطنا أن الانتقال عن الحقيقة إلى المجاز فرع عن العلم بالحقيقة وكيفيتها ، وحقائق صفات الله تعالى لا يعلم أحد من الخلق(1/80)
كيف هي ، فكيف تفر من إثبات حقيقة أنت أصلا لا تعلم كيف هي ؟ ولذلك قلنا :- إن الصفات المضافة لله تعالى لا يمكن أن يدخلها المجاز أصلا حتى وإن قلنا بوجود المجاز في القرآن ، لأن القول بالانتقال من حقيقة الكلام إلى مجازه فرع عن العلم بماهية الحقيقة وكيفيتها التي هي عليه وهل نحن أيها الخلق نعلم حقائق صفات الله تعالى حتى نفر من هذه الحقائق إلى مجازاتها ؟ أيها الناس اتقوا ربكم واخشوه من أن تتكلموا فيما يتعلق به بلا علم ولا برهان ، وهل انتهى كلامنا في الخلق حتى نتكلم في الخالق ؟ تالله إنها لقلة أدب وذهاب إيمان في أن نتكلم في ربنا بلا أثارة من علم, وهل يسوغ للمسلم الناصح لنفسه أن يحرف كلام ربه ، ويقع في صفاته تعطيلا وتمثيلا وتحريفا حتى يصحح قواعده الموروثة عن قوم لا خلاق لهم من العلم والهدى ؟ والله لقد بلغ السيل الزبى وضاقت صدورنا من قوم لا خلاق لهم ولا علم يهديهم يتفوهون بما لا يفقهون ويهذرون بما لا يفهمون ويوصفون بالعلماء والسادة والمشائخ ، وهم أحقر وأقصر وأنقص من وصفهم بالبهيمية فضلا عن وصفهم بالآدمية فضلا عن وصفهم بدعاة الهدى والتحررية ،إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا أو كالحمار يحمل أسفارا ، أو كالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، بئس مثل القوم الذين حرفوا صفات الله تعالى وأخرجوها عن مدلولاتها الصحيحة إلى معان غريبة عن اللغة ، فضلا عن غربتها عن معنى الآية الصحيح ، وأعني بهم أهل البدع الذين ساموا عقيدة الأمة إنكارا وتحريفا وجحودا وردا ، ولا تزال القنوات تفتح لهم ، وتعظم أشخاصهم ، وتفتن الأمة بهم ، وتنصب لهم المنابر ، وتعقد لهم الرايات ، ويقدمون على أهل الحق من أهل السنة والجماعة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، لكن مهما طقطق الباطل ، وراتفعت راياته وكثر رجاله وسخرت لهم الوسائل فإنه كزبد السيل يذهب جفاء ، وأما(1/81)
الحق فإنه يمكث في الأرض ، فقليل الحق يغلب كثير الباطل ،" وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " والمقصود :- أن الانتقال من حقيقة الكلام إلى مجازه يفتقر إلى معرفة الحقيقة أولا ، ثم يفتقر إلى وجود القرينة المقتضية للانصراف عن الحقيقة إلى المجاز ، وباب الصفات لله تعالى وحقائق اليوم الآخر ، وما كان من قبيل باب الغيب لا نعلم نحن حقيقته التي هو عليها فحيث كنا لا نعلم كيفيته فلا يجوز لنا حينئذ أن نقول بدخول المجاز فيه ، وهذا واضح لمن فهم الكلام وهداه الله تعالى ، وأما من كابر وعاند فلا حيلة لنا فيه ، والله له بالمرصاد ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
((1/82)
القاعدة السابعة ) فهم السلف في مسائل العقيدة مقدم على فهم غيرهم من الخلف ، ونعني بالسلف أهل القرون المفضلة من الصحابة والتابعين وتابعيهم على الحق والهدى ، فإذا اختلف فهم السلف في مسألة عقدية مع فهم الخلف ، فإن المعتمد عندنا وعند أهل الحق إنما هو فهم السلف وفهم غيرهم باطل ، لأن كل فهم خالف فهم السلف في مسائل العقيدة فهو باطل ، وقد فهم سلف الأمة وأئمتها قاطبة من آيات الصفات أنه إنما يراد بها حقائقها اللائقة بالله تعالى ، وأجروا هذه الآيات على ظاهرها ، فقالوا ( أمروها كما جاءت بلا كيف ) أي بلا كلام في الكيفية, وقالوا ( معاني الصفات معلوم في اللغة العربية ، وكيفياتها على ما هي عليه مجهولة ، والإيمان بها واجب والسؤال عن الكيفية بدعة ) فهذا فهم السلف في مسائل الصفات ، وأما الخلف فقد خالفوهم في الفهم ، فقالوا :- إن نصوص الصفات لا يراد بها حقائقها ولا يجوز القول بظاهرها ، وإنما المراد بها مجازاتها ، فهما فهمان ، فهم للسلف وفهم للخلف ، فأي الفهمين تريد ؟ لا إخالك إن شاء الله تعالى إلا تقول :- بل فهم السلف هو المرجح ، وهو المقدم على فهم غيرهم ، فإن قلت ذلك فأنت منهم وستحشر يوم القيامة معهم إن شاء الله تعالى ، فإن من أحب قوما حشر معهم ، اللهم إننا نشهدك أننا نحب سلف الأمة وأئمتها ، ونسألك أن تحشرنا في زمرتهم وإن قصرت بنا أعمالنا آمين ففهم السلف هو الحجة في هذا الباب ، أي حتى وإن قلنا بجواز المجاز في القرآن الكريم ، فإننا لا نقول به في آيات الصفات ، لأن القول به في آيات الصفات مخالف لما كان عليه السلف ، وخالف لفهمهم ، وما خالف ما عليه السلف في العقائد أو خالف فهمهم فهم باطل ، لأن فهمهم ومنهجهم هو الحق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال . والله المستعان.
((1/83)
القاعدة الثامنة ) إجماع السلف حجة ، ونعني به إذا أجمعوا في مسألة عقدية ، فإن إجماعهم حجة على من سواهم ، ولا عبرة بخلاف أهل البدع فيما أجمع عليه أهل الحق في مسائل العقيدة ، حتى وإن خالفه عامة أهل البدع ، فالمعتبر في مسائل العقيدة هو ما أجمع عليه أهل السنة ، وقد أجمع أهل السنة على أن نصوص الصفات الواردة في الكتاب والسنة إنما يراد بها الحقيقة لا المجاز ، وأجمع أهل السنة على أنه لا مجاز في نصوص الصفات ، وأجمع أهل السنة على أن نصوص الوعد والوعيد والجنة والنار وعامة ما سيكون في اليوم الآخر أنه كله حق على حقيقته وأجمعوا على أنه لا مجاز في حقائق اليوم الآخر ، وهذه الإجماعات حق في ذاتها، يجب قبولها واعتمادها والمصير إليها وتحرم مخالفتها ، لأن الإجماع حجة ، كما تقرر في قواعد الأصول ، فالله الله بهذه القواعد الثمان ، فلا تنبغي دراسة هذه المسألة الخطيرة إلا على ضوء هذه القواعد ، أعني مسألة وجود المجاز في القرآن أو عدم وجوده ، فإن قلت :- وماذا تختار أنت في هذه المسألة ؟ فأقول :- الراجح عندي في هذه المسألة هو أن الخلاف لفظي إلا فيما كان داخلا تحت واحدة من هذه القواعد الثمان ، وذلك أن الأمثلة التي يوردها من يقول بوجود المجاز في القرآن الكريم ويعارض فيها من ينفيه إنما خلافهم في تسمية هذا النوع من الأسلوب ، فالأولون يقولون :- هو مجاز ، والنافون يقولون :- ليس مجازا وإنما هو أسلوب من أساليب العرب في لغتهم ، وأنا أقول :- سواء سميناه مجازا ،أو أسلوبا من أساليب العرب في لغتهم ، فإنه لا يترتب عليه كبير شيء ، إلا فيما كان داخلا تحت واحدة من هذه القواعد الثمان ، ونحن نقول :- إن القول بوجود المجاز في القرآن الكريم لا يجوز إطلاقه من دون تقرير لهذه القواعد الثمان ، حتى لا تمس سلامة الاعتقاد الصحيح فيها ، فالقول الصحيح والرأي الراجح المليح في هذه المسألة هو أن الخلاف بينهم لفظي إلا فيما تعلق بواحدة من(1/84)
هذه القواعد الثمان ، فإن تعلق بواحدة من هذه القواعد فقد قررنا لك وجه الحق فيه ، وأبنا عن وجه مذهب أهل السنة والجماعة فيما يتعلق به ، وهذا مفصل القول في هذه المسألة ، فاشدد عليه بيديك فلعلك لا تراه موضحا بهذه الصورة في كتاب من كتب الأصول ، والله ربنا أعلى وأعلم .
( تنبيه ) لقد رأيت بعض الطلاب يجعل من علامات الابتداع القول بوجود المجاز في القرآن ، فمن قال بأن القرآن فيه مجاز ، فهو من المبتدعة عند هذا البعض ، وهذا جناية وخطأ ، لأن هذا القول ثابت عن جمع كبير من أهل السنة ، فإطلاقه من الخطأ على أهل العلم ، والواجب التثبت قبل إطلاق شيء من هذه الأحكام ، لكن من قال بأن نصوص الصفات فيها مجاز ، فهو من أهل البدع ومن قال بأن نصوص اليوم الآخر يراد بها المجاز فهو من أهل البدع ، ومن قال بأن ما كان متعلقا بما هو من الغيب إنما يراد به المجاز فهو من أهل البدع ، أعني في هذه المسألة ، فالبدعة في هذا الباب لا شأن لها بالقول بوجود المجاز في القرآن الكريم ، ولكن لها تعلق بادعاء المجاز فيما تقرر في القواعد عند أهل السنة أنه لا يراد به إلا حقيقته ، فمن ادعى وجود المجاز فيما قرر أهل السنة أنه لا يراد به إلا الحقيقة وأنه لا يتطرق إليه القول بجواز المجاز فهو الذي يوصف بأنه من أهل البدع ، وعلى كل حال فالقول بوجود المجاز في القرآن سهل لا معارضة فيه إلا فيما يضرب أو يناقض شيئا مما قرره أهل السنة في أحد هذه القواعد الثمان ، والله ربنا أعلى وأعلم .
س102) عرف السنة لغة وشرعا، مع بيان ما تطلق عليه ؟(1/85)
ج) السنة في اللغة هي الطريقة حسنة كانت أو قبيحة ، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا " فهنا قسم المعصوم صلى الله عليه وسلم السنة إلى قسمين إلى سنة حسنة ، وسنة سيئة ، وهذا تقسيم للسنة بالمعنى اللغوي ، وأما السنة بالمعنى الشرعي فلا تقسم إلى ذلك ، بل لا تكون إلا حسنة .
وأما تعريفها عند علماء الشرع فهي تختلف باختلاف الفنون ، فإذا أطلقها علماء الاعتقاد فيريدون بها الشريعة على وجه العموم ومسائل الاعتقاد على وجه الخصوص ، ومن الأول قول البربهاري :-( اعلم أن السنة هي الإسلام والإسلام هو السنة ) فجعل السنة مرادفة لمسمى الإسلام إجمالا ، ومن الثاني ما عرف عن أهل السنة من تسمية كتبهم بـ ( السنة ) ككتاب السنة للخلال ، وكتاب السنة لابن أبي عاصم ، وكتاب السنة لعبدالله بن الإمام أحمد ، وكتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي وغيرها كثير ، رحم الله أهل السنة رحمة واسعة وأجزل لهم الأجر والمثوبة وجزاهم الله خير ما جزى عالما عن أمته ، وأما إذا أطلقها الأصوليون فيعنون بها :- ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا يشمل ما صدر عنه من الأقوال والأفعال والتقريرات والكتابات والإشارات والهم والتروك ، وهو المعنى المقصود عندنا هنا في هذه الوريقات ، وأما السنة عند أهل الحديث :- فهي ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو ترك أو صفة خلقية أو خلقية ، وهو أقرب الإطلاقات لأهل الأصول ، إن لم يكن هو بعينه .
س103) ما المراد بالحكمة إذا وردت في الكتاب العزيز ؟ مع التمثيل ؟(1/86)
ج) أقول :- إن الحكمة إذا وردت مقرونة بالقرآن في سياق ما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يراد بها يراد بها السنة باتفاق السلف رحمهم الله تعالى ، وهذا كقوله تعالى " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما " فالحكمة هنا يراد بها السنة عند عامة السلف ، رحمهم الله تعالى ، وقال تعالى " ويعلمهم الكتاب والحكمة " وقال تعالى " واذكرن ما يتلى عليكن في بيوتكن من آيات الله والحكمة " وقال تعالى " واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به " والله ربنا أعلى وأعلم .
س104) هل السنة حجة ؟ وضح ذلك بالأدلة ما استطعت إلى ذلك سبيلا ؟
ج) نعم ، ثم نعم ، ثم نعم ، هي حجة ،وأقسم بالله ، ثم أقسم بالله ، ثم أقسم بالله أنها حجة ، فإذا صح سند الحديث إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم ولم ينسخ فهو حجة ، ولا جرم في ذلك ، وقد دل على حجية السنة الأدلة المتواترة التي لا مطعن فيها ، إلا عند أهل الإلحاد والزندقة من الرافضة الملعونة والخوارج المارقة ، ولا عبرة بهم في ذلك ، ونحن نورد لك إن شاء الله تعالى الأدلة الدالة على الاحتجاج بالسنة ، مع بيان وجه الاستدلال في بعضها ، ثم نورد ما شغب به أهل البدع على الاحتجاج بها مع الإجابة عنه ، فيارب أسألك باسمك الأعظم التوفيق والعون وحس التحقيق ، فإن هذا المبحث العظيم من المباحث الكبيرة المهمة في أصول الفقه ، ومن الدفاع عن سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم ، وإنه لشرف عظيم لنا أن نقف في وجه الأعداء ذابين عن حياض سنته ، فإنه أحد الجهادين عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن من قبلنا قد أكرمهم الله تعالى بالذب عنه بالسيف والسنان ، فلا أقل من أن نشارك في شرف الدفاع عنه صلى الله عليه وسلم بالذب عن حياض سنته، فأقول :- أما الأدلة من القرآن على حجية السنة فكثيرة :-(1/87)
منها :- قوله تعالى " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " أي مهما أمركم به فأتوه ومهما نهاكم عنه فانتهوا ، لأنه لا يأمر إلا بالخير ولا ينهى إلا عما هو شر ، وقد استدل ابن مسعود بهذه الآية على أن السنة حجة ، وفهم الصحابي في القرآن حجة ، فقد روى أصحاب الصحيح ،أن ابن مسعود روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى لعن الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيرات خلق الله عز وجل " قال :- فبلغ امرأة في البيت يقال لها :- أم يعقوب ، فجاءت إليه فقالت :- بلغني أنك قلت :- كيت وكيت ، قال :- ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي كتاب الله ، فقالت :- إني لأقرأ ما بين لوحي المصحف فما وجدته ، فقال :- إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه ، أما قرأت " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " قالت بلى ، قال :- فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه قالت :- إني لأظن أهلك يفعلونه ، قال :- اذهبي فانظري ، فذهبت فلم تر من حاجتها شيئا فجاءت فقالت :- ما رأيت شيئا ، قال :- لو كانت كذلك لم تجامعنا ، أخرجاه في الصحيحين فهذه الآية تفيد وجوب الأخذ بما أمرنا به النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن نجتنب ما نهانا عنه ، لأن قوله تعالى " فخذوه " أمر ، وقد تقرر أن الأمر يفيد الوجوب ، وقوله " فانتهوا " نهي ، وقد تقرر أن النهي يفيد التحريم ، وقوله " وما آتاكم " هذا فيه إطلاق وعموم ، وقد تقرر أن الأصل في العام بقاءه على عمومه ولا يخص إلا بدليل ، وتقرر أن الأصل بقاء المطلق على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل فيدخل في ذلك كل شيء جاءنا به صلى الله عليه وسلم ، سواء كان ابتداء تشريعه في القرآن وبينته السنة ، أو كان ابتداء تشريعه من السنة أصلا ، فهذا كله داخل فيما أتانا به رسول الله صلى عليه وسلم ، وقد تقرر في الأصول :- أن ( ما ) الموصولة تفيد العموم ، فأين المبتدعة من ذلك ؟ ولكنهم قوم بهت،(1/88)
لا يألون على الأدلة الصحيحة جهدا في ردها والتكذيب بها.
ومن الأدلة أيضا:- قوله تعالى "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " وهذه تزكية لمقاله صلى الله عليه وسلم ، من أن ما ينطق به لسانه ليس نابعا عن الرأي المجرد ، أو ما تهواه نفسه, وإنما هو أمر من الله تعالى ووحي نازل من عنده ، ولا وظيفة له إلا في تبليغه البلاغ الكامل كما أنزل من غير زيادة ولا نقصان ، والوحي مما يحب اتباعه ، فدل ذلك على أن ما يقوله صلى الله عليه وسلم فإنه يجب اتباعه فيه لأنه وحي من الله تعالى ، والوحي يجب اتباعه ، وهذا واضح لمن أراد أن يكون واضحا ، وأما الإيرادات الباطلة الموهمة على الأدلة التي بان وجه الاستدلال منها فإنما هو شنشنه نعرفها من أخزم ، وحثالة فكر ونخالة قول نسمعها ممن ضل وأجرم ،والله أعلم .
ومن الأدلة أيضا :- قوله تعالى في آيات كثيرة جدا " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول " وقال تعالى "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " وغيرها من الآيات الدالة على وجوب طاعته في أمره ونهيه ، وهذه الطاعة هي التي نسميها :- الطاعة المطلقة ، لأنه أمر بطاعته فقال " أطيعوا الله " ثم أعاد الفعل وكرره مرة ثانية ، فقال " وأطيعوا الرسول " وهذا يفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يطاع استقلالا فيما يأمر به أو ينهى عنه ، لأنه لا يأمر إلا بما يحبه الله ويرضاه ، ولا ينهى إلا عما يبغضه الله تعالى ويأباه ، كما قال تعالى " من يطع الرسول فقد أطاع الله " فجعل علامة طاعته في طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذا دليل على أن السنة حجة لأنه جل وعلا قد جعل قوله حجة ، ومن كان قوله حجة فاتباعه واجب ، فالأمر بوجوب طاعته يقتضي الاحتجاج بسنته صلى الله عليه وسلم .(1/89)
ومن الأدلة أيضا :- قوله تعالى " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة " في آيات متعددة ، وهي تفيد أن هذه السنة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي منزلة من عند الله تعالى ، وما كان من الله تعالى فهو حجة ، فدل ذلك على أن السنة حجة .
ومن الأدلة أيضا :- قوله تعالى " فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم " فقسم الله تعالى الناس بعد بعثته صلى الله عليه وسلم إلى قسمين :- فريق استجابوا للرسول صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وبما جاء به من عند الله تعالى ، وفريق أعرضوا عما جاء به ، فلم يستجيبوا له صلى الله عليه وسلم ، ووصف الفريق الذين لم يستجيبوا له بأنهم إنما يتبعون أهواءهم ، وتوعدهم بالعذاب ووصفهم بأنهم ظالمون ، فدل ذلك على وجوب الاستجابة للرسول عليه الصلاة والسلام ، فأفاد ذلك أن السنة حجة ، لأن من أعرض عنها ولم يعتبرها حجة فإنه لم يستجب للرسول عليه الصلاة والسلام ، ومن حصر الاستجابة له في أمر دون أمر فإنه مطالب بالنص المقيد ، لأن قوله " فإن لم يستجيبوا لك " هذا مطلق ، وقد تقرر في القواعد أن المطلق يبقى على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل وهذا واضح .
ومن الأدلة أيضا :- " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " فالله تعالى هنا أمر أمرا صريحا قاطعا لا مناقشة فيه بالاستجابة للرسول عليه الصلاة والسلام ، وقد تقرر في القواعد أن الأمر المطلق عن القرينة يفيد الوجوب والفورية ، والاستجابة له معناها الإيمان به وطاعته فيما أمر وترك ما نهى عنه وزجر وتصديقه فيما أخبر ، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع ،ووصف ما جاء به أنه حياة للقلوب والأرواح ، فأفاد ذلك أن السنة حجة ، لأننا لا نعرف ما أمر به وما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم إلا بما جاء في الكتاب والسنة ، فالاستجابة لله تعالى وللرسول صلى الله وسلم لا تكون إلا بالإيمان القاطع بأن السنة حجة .(1/90)
ومن الأدلة أيضا :- قوله تعالى " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، ذلك خير وأحسن تأويلا " وقد انعقد إجماع السلف أن الرد إلى الله تعالى هو الرد إليه إلى القرآن ، وأن الرد إلى الرسول إنما هو الرد إليه نفسه في حال حياته ، والرد إلى سنته بعد مماته ، فقد أمر الله تعالى بالرد إلى السنة ، فدل ذلك على أنها حجة ، إذ لو لم تكن بحجة فما الداعي إلى الرد لها ، فلما أمر بالرد إليها دل ذلك على أنها مما يفصل في النزاع ، ويعرف بها الحق من الباطل والمقبول من المردود ، والراجح من المرجوح ، ومن قال بغير ذلك فالله له بالمرصاد ، بل وجعل الرد إلى الكتاب والسنة من شروط الإيمان الواجبة ، فلا يتحقق الإيمان الواجب الذي تحصل به النجاة يوم القيامة إلا بهذا الرد ، فالذي لا يرد الأمور المتنازع فيها إلى السنة إيمانه ناقص النقص الذي يوجب عليه العقاب يوم القيامة ، وأخبر تعالى أن الرد إلى هذين المصدرين خير وأحسن عاقبة فأفاد ذلك أن عدم الرد إليهما هو الشر بعينه والحيرة بكمالها والضلال برمته ، والله أعلم .(1/91)
ومن الأدلة أيضا:- قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " أي لا تقولوا حتى يقول ، ولا تأمروا حتى يأمر ، ولا تفتوا حتى يفتي ، ولا تقطعوا أمرا حتى يكون هو الذي يقطعه ويمضيه ، وقال السلف في هذه الآية ( أي لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة ) وهذا يفيد أنها حجة ، لأنها لو لم تكن بحجة لما نهينا عن تقدمها ، فلما نهينا عن ذلك أفاد أنها مما يجب استماعه واتباعه ، ومما يحرم التقدم عليه بقول أو فعل ، وأنا الفيصل في النزاع ، وأن عدم التقدم عليها فرض من فروض الإيمان ولوازمه ، ومن صفة الأمر الذي هو حجة أنه يكون متبوعا لا تابعا ، فالقرآن متبوع لا تابع فهو حجة ، وكذلك السنة ، لأنه قال " لا تقدموا " أي لا تتقدموا عيه بشيء حتى يكون هو الذي يقول أو يفعل ثم تكون أفعالكم وأقوالكم تابعة قوله وفعله ، وهذا يفيد أن السنة متبوعة لا تابعة ، فحيث كانت كذلك فهي حجة ، وهذا إن شاء الله تعالى من أوضح الواضحات.(1/92)
ومنها:- قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " فإذا كان مجرد رفع أصواتهم فوق صوته سببا لحبوط أعمالهم، فكيف بالله عليك بمن يقول إن قوله وفعله أصلا ليس بحجة ؟يا الله، ما أعظم الأمر، وما أقبح هذا الكلام ، كيف حال من نسف السنة من أصلها وقال إنها ليست بحجة ؟ فالنبي إذا قال الحديث فالواجب على القلوب أن تسلم وعلى الألسنة أن تصمت ، وعلى الآذان أن تستمع ، وعلى الجوارح أن تمتثل ، هذا هو الواجب ، ولكن كيف الحال بمن يقول إن ما قاله أو فعله إن لم يكن بمقتضى القرآن فإنه لا يحتج به ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم ، وإنا نبرأ إليك منه ونشهدك أننا نقول بأن السنة الصحيحة حجة ، فلما توعد نهى الله تعالى عن رفع الصوت فوق صوته ، وتوعد من يفعل ذلك بحبوط عمله دل ذلك على أن قوله وفعله حجة إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما أمرنا الله تعالى بعدم رفع الصوت على صوته ولما توعد بهذا الوعيد العظيم من يفعل ذلك.
ومن الأدلة أيضا :- قوله تعالى " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه " قال ابن القيم رحمه الله تعالى ( فإذا جعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهبا إذا كانوا معه إلا باستئذانه ، فأولى أن يكون من لوازمه أن لا يذهبوا إلى قول ولا مذهب علمي إلا بعد استئذانه ، وإذنه يعرف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه )اهـ .
ومنها :- قوله تعالى " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " فعلق محبة الله تعالى على متابعته فمن اتبع النبي صلى الله عليه وسلم فهو المحب حقيقة ، واتباعه يكون باتباع سنته ، وهذا يبطل قول من قال :- إن سنته ليست بحجة ، إذ كيف نتبعه إن لم تكن بحجة .(1/93)
ومنها :- قوله تعالى "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (158) وهذه الآيات حجة قاطعة في حجية السنة .
ومنها :- قوله تعالى " قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ " فجعل ما حرم الرسول مما يلزم اجتنابه مما يفيد أن تحريمه حجة استقلالا . فهذه بعض أدلة القرآن على أن السنة حجة ، وهي غيض من فيض من الأدلة الدالة على ذلك من كتاب الله تعالى ، وإنما أردنا فقط التنبيه على بعضها ، ولم نقصد الاستيفاء .(1/94)
وأما من السنة ، فقد دلت الأدلة الكثيرة عليها أيضا ، ولا يقول لنا قائل ، كيف تستدل بالسنة على مطلب حجيتها في نفسها ؟ فأقول:- قد قررنا بالكتاب أنها حجة، وأن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم واجبة الاتباع، وأنها حياة ، وأنه لا يجوز التقدم بين يدي الله ورسوله ، وأن رفع الصوت على صوته محبط للعمل ،وأن قوله مما يفصل به عند التنازع في وهذا كله يفيد أن قوله حجة ، فإذا تقرر أن قوله حجة بالقرآن الكريم ، فلا بد من أن نأخذ بقوله في هذا الأمر المتنازع فيه أي المتنازع فيه بين أهل السنة وأهل البدع ، فنتعرف على شيء من أقواله في هذه المسألة لأن قوله حجة ، وفيصل في الأمور المتنازع فيها ، فأقول :-
من الأدلة على ذلك من السنة :- مافي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" فأمرنا من جعل الله تعالى قوله حجة بأن نجتنب نهيه إن نهانا ، وأن نأتي من أمره ما استطعنا, وأطلق هذا الأمر والنهي ، فلم يقيده بقرآن ولا بسنة ، فدخل في ذلك كل ما أمر به أو نهى عنه ، سواء أكان من القرآن أو كان من السنة ، لأن المتقرر في القواعد أن الأصل وجوب بقاء المطلق على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل ، وقله " فاجتنبوه " وكذلك قوله " فأتوا منه " كل ذلك من صيغ الأمر وقد تقرر أن الأمر المطلق عن القرينة يفيد الوجوب وكيف يفد قوله ذلك الوجوب ويكسب صفة الشرعية وهو ليس بحجة ؟ هذا لا يكون أبدا، فلما وصفنا قوله بالوجوب أفاد ذلك أنه داخل في مسمى الحجة، فدل ذلك على أن السنة حجة.(1/95)
ومن أدلة السنة أيضا:- حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه ، قال :- وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ، وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا :- يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا ، قال " أوصيكم بكتاب الله ، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين بعدي ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم محدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة " حديث صحيح ، فأمر صلى الله عليه وسلم باتباع سنته مما يدل على أمها حجة ، إذ لو لم تكن بحجة لما أمرنا باتباع ما ليس بحجة ، وهذا واضح .(1/96)
ومن أدلة السنة أيضا :- حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا ،فأصاب منها طائفة طيبة قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها طائفة أخرى أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان ، لا تمسك ماء ولا تنيت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ، ونفعه ما بعثني به فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به " متفق عليه ، فهذا دليل على أن السنة حجة وذلك من وجوه :- الأول :- أنه سماها هدى ، والهدى فرع من فروع الاحتجاج بها ، فهي هدى لأنها حجة ، الثاني :- أنه امتدح الآخذين بها، والمدح لا يكون إلا على فعل مأمور ، فأفاد أن الأخذ بها مما يؤمر به العبد في الشرع ، ويمدح عليه ، الثالث :- أنه ذم الطائفة التي لم تقبل هذا الهدى وهذا العلم الذي بعث به ، والذم لا يكون إلا على فعل محذور ، فدل ذلك على أن القول بعدم حجية السنة محظور في الشرع ، والقائل به متنكب عن الهدى والعلم الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم ،الرابع :- أنه وصف السنة بأنها ( هدى الله ) فنسبها إلى الله تعالى وأنها من جملة ما هدى الله بها عباده ، فدل ذلك على أنها حجة ، لأن الهداية لا تكون إلا بما هو حجة . والله أعلم.(1/97)
ومنها:- حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، قال :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى " قالوا :- ومن يأبى؟ قال " من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى" رواه البخاري في الصحيح ، فعلق دخول الجنة بطاعته ، مما يدل على أن طاعته حق وفرض لازم وصدق يجب الأخذ به ، وأطلق هذه الطاعة ، فيدخل فيها طاعته فيما أمر به أو ما نهى عنه في السنة، لأن المطلق يجب أن يبقى على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل ، فدل ذلك على أن السنة حجة يجب الأخذ بها واتباعها والتحاكم إليها، وأن من قال بغير ذلك فإنه يدخل في قوله "ومن أبى ".(1/98)
ومن الأدلة أيضا :- ما رواه البخاري في الصحيح قال :- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ الطَّوِيلُ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ :- جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ فليس مني " فإذا كان مجرد الرغوب عن سنته في أمر من أمورها يوجب دخول صاحبه في قوله " فليس مني " فكيف بمن يقول :- كل السنة أصلا ليست بحجة ؟(1/99)
ومنها :- ما رواه مسلم في الصحيح قال :- و حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ حَدَّثَنَا بَهْزٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍأَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا آكُلُ اللَّحْمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" ووجه الدلالة كالذي قبله أنه حكم على الراغبين عن سنته بأنهم ليسوا منه ، وذلك في أمور جزئية ، فلا جرم أن من قال بأن من رغب عن السنة كلها وقال :- إنها ليست بحجة أنه أحق بقوله " فليس مني " .
ومنها :- ما رواه الترمذي في سننه قال :- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مِلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الدِّينَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْحِجَازِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا وَلَيَعْقِلَنَّ الدِّينُ مِنْ الْحِجَازِ مَعْقِلَ الْأُرْوِيَّةِ مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ إِنَّ الدِّينَ بَدَأَ غَرِيبًا وَيَرْجِعُ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي " قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .(1/100)
ومنها :- ما رواه الترمذي في سننه قال :- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ حَاتِمٍ الْأَنْصَارِيُّ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا بُنَيَّ إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ ثُمَّ قَالَ لِي يَا بُنَيَّ وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ " وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ ثِقَةٌ وَأَبُوهُ ثِقَةٌ وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ صَدُوقٌ إِلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا يَرْفَعُ الشَّيْءَ الَّذِي يُوقِفُهُ غَيْرُهُ قَالَ و سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ بَشَّارٍ يَقُولُ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ وَكَانَ رَفَّاعًا وَلَا نَعْرِفُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَنَسٍ رِوَايَةً إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَقَدْ رَوَى عَبَّادُ بْنُ مَيْسَرَةَ الْمِنْقَرِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ أَبُو عِيسَى وَذَاكَرْتُ بِهِ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ فَلَمْ يَعْرِفْهُ وَلَمْ يُعْرَفْ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَنَسٍ هَذَا الْحَدِيثُ وَلَا غَيْرُهُ وَمَاتَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمَاتَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ بَعْدَهُ بِسَنَتَيْنِ مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ.(1/101)
ومنها :- ما رواه أبو داود في سننه قال :- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ قَالَا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ لَا نَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ" وهو نص في حجية السنة .
ومنها :- ما رواه ابن بطة في الإبانة الكبرى قال :- حدثنا أبو الفضل شعيب بن محمد الكفي قال ثنا أحمد بن أبي العوام ، قال : ثنا أبي قال : ثنا عمر بن إبراهيم الهاشمي ، عن موسى بن يسار ، عن أبي معن الهمداني ، عن زيد بن أرقم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من تمسك بسنتي وثبت نجا، ومن أفرط مرق ، ومن خالف هلك ».(1/102)
ومنها:- ما رواه مسلم في الصحيح قال :- حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ وَزُهَيْرِ بْنِ عَمْرٍو قَالَا :- لَمَّا نَزَلَتْ{ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } قَالَ انْطَلَقَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَضْمَةٍ مِنْ جَبَلٍ فَعَلَا أَعْلَاهَا حَجَرًا ثُمَّ نَادَى يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافَاه إِنِّي نَذِيرٌ إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ رَأَى الْعَدُوَّ فَانْطَلَقَ يَرْبَأُ أَهْلَهُ فَخَشِيَ أَنْ يَسْبِقُوهُ فَجَعَلَ يَهْتِفُ يَا صَبَاحَاهْ. و حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ عَمْرٍو وَقَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
ومنها :- ما رواه البخاري في الصحيح قال :- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا" .(1/103)
ومنها :- ما رواه ابن ماجه في سننه قال :- حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيُّ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي فَعَمِلَ بِهَا النَّاسُ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ ابْتَدَعَ بِدْعَةً فَعُمِلَ بِهَا كَانَ عَلَيْهِ أَوْزَارُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِ مَنْ عَمِلَ بِهَا شَيْئًا".
ومنها :- ما رواه الحاكم في المستدرك قال :- أخبرنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه ، أنبأ محمد بن عيسى بن السكن الواسطي ، ثنا داود بن عمرو الضبي ، ثنا صالح بن موسى الطلحي ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما : كتاب الله وسنتي ، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض"(1/104)
ومنها :- ما رواه البيهقي في دلائل النبوة قال :- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا أبو جعفر البغدادي ، حدثنا أبو علاثة محمد بن عمرو بن خالد ، حدثنا أبي ، حدثنا ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة بن الزبير ، فذكر قصة حجة الوداع ، قال : ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة ، وجمع الناس وقد أراهم مناسكهم ، فقال : « يا أيها الناس اسمعوا ما أقول لكم ، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في هذا الموقف » ، ثم ذكر خطبته ، وقال في آخرها : « اسمعوا أيها الناس قولي ؛ فإني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبدا أمرين بينين : كتاب الله وسنة نبيكم » وكذلك ذكره أيضا موسى بن عقبة بمعناه أخبرنا أبو الحسين بن الفضل ، أنبأنا أبو بكر بن عتاب ، حدثنا القاسم الجوهري ، حدثنا ابن أبي أويس ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، عن عمه موسى بن عقبة ، فذكره إلا أنه قال : « لن تضلوا بعده أبدا أمرا بينا : كتاب الله ، وسنة نبيه ».
ومنها :- ما رواه الترمذي في سننه قال :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ جَابِرٍ اللَّخْمِيِّ عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الْحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالًا اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ " قَالَ أَبُو عِيسَى:- هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ(1/105)
ومنها :- ما رواه ابن ماجه في سننه قال :- حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ الْكِنْدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي فَيَقُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ أَلَّا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ "
ومنها : -ما رواه أبو داود في سننه قال :- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ حَرِيزِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَوْفٍ عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السَّبُعِ وَلَا لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ " .(1/106)
ومنها :- ما رواه البيهقي في سننه الكبرى قال :- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني إسماعيل ابن محمد بن الفضل الشعراني ثنا جدي ثنا ابن أبى أويس ثنا أبى عن ثور بن زيد الديلى عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع فقال يا أيها الناس أنى قد تركت فيكم ما أن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه"
ومنها :- ما رواه البيهقي أيضا في السنن الكبرى :- أخبرنا أبو الحسين بن بشران العدل ببغداد أنبأ أبو أحمد حمزة بن محمد بن العباس ثنا عبد الكريم بن الهيثم أنبأ العباس بن الهيثم ثنا صالح بن موسى الطلحى عن عبد العزيز بن رفيع عن أبى صالح عن أبى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني قد خلفت فيكم ما لن تضلوا بعدهما ما أخذتم بهما أو عملتم بهما كتاب الله وسنتي ولن تفرقا حتى يردا على الحوض "
ومنها :- ما رواه الدارقطني في سننه قال :- حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الشافعي حَدَّثَنَا أَبُو قَبِيصَةَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ مُوسَى عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « خَلَّفْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا كِتَابَ اللَّهِ وسنتي وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَىَّ الْحَوْضَ ».(1/107)
ومنها:- أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر أصحابه بالأخذ عنه ومتابعته في صفة التعبد وكيفيته وما ذلك إلا لأن فعله حجة ، وذلك كما روى البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ أَتَيْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحِيمًا رَفِيقًا فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدْ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا أَوْ قَدْ اشْتَقْنَا سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا فَأَخْبَرْنَاهُ قَالَ ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا أَوْ لَا أَحْفَظُهَا وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ " وكما روى مسلم في الصحيح من حيث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يقول بعد كل منسك " لتأخذوا عني مناسككم " .(1/108)
وقال مسلم في صحيحه :- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ يَحْيَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ نَفَرًا جَاءُوا إِلَى سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَدْ تَمَارَوْا فِي الْمِنْبَرِ مِنْ أَيِّ عُودٍ هُوَ فَقَالَ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ مِنْ أَيِّ عُودٍ هُوَ وَمَنْ عَمِلَهُ وَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ يَوْمٍ جَلَسَ عَلَيْهِ قَالَ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا عَبَّاسٍ فَحَدِّثْنَا قَالَ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى امْرَأَةٍ قَالَ أَبُو حَازِمٍ إِنَّهُ لَيُسَمِّهَا يَوْمَئِذٍ انْظُرِي غُلَامَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلْ لِي أَعْوَادًا أُكَلِّمُ النَّاسَ عَلَيْهَا فَعَمِلَ هَذِهِ الثَّلَاثَ دَرَجَاتٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوُضِعَتْ هَذَا الْمَوْضِعَ فَهِيَ مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَيْهِ فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ رَفَعَ فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ صَلَاتِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي وَلِتَعَلَّمُوا صَلَاتِي " فلو أن فعله لم يكن حجة لما كان لفعله ذلك أي داع ، وهذا واضح .(1/109)
وروى مسلم في الصحيح أيضا قال :- حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ كِلَاهُمَا عَنْ الْأَزْرَقِ قَالَ زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْرَقُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ لَهُ صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ يَعْنِي الْيَوْمَيْنِ فَلَمَّا زَالَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الظُّهْرَ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ فَلَمَّا أَنْ كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي أَمَرَهُ فَأَبْرَدَ بِالظُّهْرِ فَأَبْرَدَ بِهَا فَأَنْعَمَ أَنْ يُبْرِدَ بِهَا وَصَلَّى الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ أَخَّرَهَا فَوْقَ الَّذِي كَانَ وَصَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ وَصَلَّى الْعِشَاءَ بَعْدَمَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ وَصَلَّى الْفَجْرَ فَأَسْفَرَ بِهَا ثُمَّ قَالَ أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ الرَّجُلُ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَقْتُ صَلَاتِكُمْ بَيْنَ مَا رَأَيْتُمْ " فانظر كيف علمه بالفعل ، مما يدل على أن فعله حجة ، والفعل من سنته ، فأفاد ذلك أن السنة حجة ، لأنه إن كان الفعل حجة فالقول من باب أولى، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يظهر الوضوء لهم أحيانا حتى يتعلموا منه صفة الوضوء .(1/110)
ومنها :- أنه صلى الله عليه وسلم جعل من علامات الضلال والفتنة ظهور أقوام يدعون لغير سنته فقد روى مسلم في الصحيح قال :- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ :- كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ قَالَ نَعَمْ فَقُلْتُ هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ قَالَ نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ قُلْتُ وَمَا دَخَنُهُ قَالَ قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ فَقُلْتُ هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا قَالَ نَعَمْ قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ قَالَ تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ فَقُلْتُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ قَالَ فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ " والشاهد قوله " يستنون بغير سنتي " والأمثلة على التعليم بالفعل كثيرة ، فهذا غيض من فيض من أدلة السنة القولية والعملية(1/111)
على أن السنة حجة ، والمقام أكبر من ذلك ، ولكن لعل ما ذكرناه من الأدلة كاف في تحقيق المطلوب إن شاء الله تعالى .
وأقول :- فهذا بالنسبة للاستدلال بالكتاب والسنة ، ولقد دل الإجماع أيضا على أن السنة حجة فهذا استدلال بالإجماع ، وقد تقرر في القواعد أن الإجماع حجة يجب قبولها واعتمادها والعمل بها والمصير إليها وتحرم مخالفتها ، بل هذا الإجماع من الإجماعات القطعية التي نقلت بالتواتر وعلمت من الدين بالضرورة ، ولا يخالف فيه إلا كافر، لأنه قد تقرر في الأصول :- أن مخالف الإجماع القطعي يكفر، وعلى ذلك أقول :- أجمع أهل العلم على أن السنة حجة شرعية ، إن صح سندها ولم تنسخ ، فالحديث حجة عند كل علماء السنة ، ولا عبرة بخلاف أهل البدع ، لأن المسألة من مسائل العقيدة ، ومسائل العقيدة لا يعتبر فيها إلا إجماع أهل السنة ، فأجمع أهل السنة على الاحتجاج بالسنة , ولم يخالف في ذلك أحد، وقد نقل الإجماع جمع كبير من أهل السنة ، فإن كل من ألف في عقيدة أهل السنة تجده ينص على ذلك ، بل ويجعله أصلا من أصول كتابه ، والأمثلة كثيرة جدا ، وممن نقل الإجماع على ذلك أيضا الإمام الشافعي رحمه الله تعالى فقال رحمه الله (أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس ) اهـ ونص على الأجماع ابن حرز ، بل ذكر رحمه الله تعالى أن من قال أنني لا أعمل إلا بما أتى به القرآن ولا أعمل بالسنة مطلقا فهو كافر مرتد ، ونص على ذلك ابو عمر ابن عبدالبر ، وشيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه العلامة ابن القيم ، وابن حجر والشوكاني ، وغيرهم كثير ممن لا يحصي عددهم إلا الله تعالى ، كلهم ونصوا على أن السنة حجة بالإجماع ، وعليه فهذه المسألة قد فصلت بدلالة الكتاب والسنة والإجماع ، وهذا كاف لأهل العقول النيرة التي أراد الله بها خيرا ، ونزيدك دليلين أيضا حتى يطمئن قلبك :- الأول :- الاستدلال بفعل(1/112)
الصحابة رضي الله عنهم ، الثاني :- الاستدلال بالعقل ، فأقول :- لقد كان الصحابة رضي الله عنهم من أشد الناس حرصا على السنة واقتفاء آثارها وتعظيمها والتشديد على من خالفها ،فمن ذلك ما رواه أحمد في المسند قال :- حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي نَعَامَةَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لِمَ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَاكَ خَلَعْتَ فَخَلَعْنَا قَالَ إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهِمَا خَبَثًا فَإِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقْلِبْ نَعْلَهُ فَلْيَنْظُرْ فِيهَا فَإِنْ رَأَى بِهَا خَبَثًا فَلْيُمِسَّهُ بِالْأَرْضِ ثُمَّ لِيُصَلِّ فِيهِمَا" فانظر كيف خلعوا نعالهم بسبب أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعليه وذلك لأن المتقرر في قلوبهم وعقولهم أن قوله وفعله حجة ، وأنه لازم الاتباع ، وأين هذا الامتثال العظيم ممن يقول ليست السنة حجة ، تالله إنه لمن أقبح الأقوال ، وأخبث المذاهب ، وما لجرح بميت إيلام .(1/113)
ومن هذه الصور العظيمة :- ما رواه البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ اتَّخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَنَبَذَهُ وَقَالَ إِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ " وهذا الامتثال دليل على أن المتقرر في أرواحهم أن فعله وتركه حجة ، وإلا لأنكر عليهم هذه المتابعة ، فأين عقول من يذهب إلى عدم حجية السنة ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم .
ومنها :- ما رواه البيهقي في سننه :- أخبرنا الشريف أبو الفتح العمري أنبأ عبد الرحمن بن أبى شريح أنبأ أبو القاسم البغوي ثنا داود بن رشيد ثنا عمر بن أيوب ثنا جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال كان أبو بكر رضى الله عنه إذا ورد عليه خصم نظر في كتاب الله فان وجد فيه ما يقضى به قضى به بينهم فان لم يجد في الكتاب نظر هل كانت من النبي صلى الله عليه وسلم فيه سنة فان علمها قضى بها وان لم يعلم خرج فسأل المسلمين فقال اتانى كذا وكذا فنظرت في كتاب الله وفى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم اجد في ذلك شيئا فهل تعلمون إن نبى الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء فربما قام إليه الرهط فقالوا نعم قضى فيه بكذا" وما كان يرجع على السنة إلا لعلمه أنها حجة يجب الرجوع إليها والتحاكم له .(1/114)
ومنها :- أنه لما قام في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر ولم يجلس قام الناس معه ، ولم يتخلف عن القيام أحد، مع أنه قام سهوا ، لكنهم لا يزالون في مقام النسخ والتشريع بالزيادة والنقصان فظنوا أن الأمر حصل فيه تغيير ، والمقصود:- الاستلال بمتابعتهم له صلى الله عليه وسلم فهذه المتابعة دليل على أن المتقرر في قلوبهم حجية قوله وفعله ، فرضي الله عنهم وأرضاهم والحديث الذي نعنيه هنا هو ما رواه البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ مَوْلَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَقَالَ مَرَّةً مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ بُحَيْنَةَ وَهُوَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ الظَّهْرَ فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ لَمْ يَجْلِسْ فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلَاةَ وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ سَلَّمَ ".(1/115)
ومنها :- أنه صلى الله عليه واصل الصيام ، فاقتدى به أصحابه من غير أمر قولي ، لكنهم رأوه واصل فأحبوا أن يقتدوا به في فعله فواصلوا ، بغض النظر عن صحة وصالهم من خطئه ، لكنهم تابعوه ، فأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم الوصال فقط ، ولم ينكر عليهم متابعته ، ونحن نستدل الآن على أن متابعته صلى الله عليه وسلم والاحتجاج بسنته كانت من الأمور المتقررة في قلوب الصحابة ، وحديث الوصال الذي نعنيه هو ما رواه البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُوَاصِلُوا قَالُوا إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَالِ قَالَ فَوَاصَلَ بِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَيْنِ أَوْ لَيْلَتَيْنِ ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ "(1/116)
ومنها :- أنه صلى الله عليه وسلم ربما كان يقوم الليل فيقوم وراءه أقوام ، قلوا أو كثروا ، لكنهم كانوا يصلون بصلاته ويقتدون في هديه في صلاة الليل ، وما ذلك إلا لأنهم يرمن أن ما فعله أو قاله حجة من حجج الشرع ، وهذا بإجماعهم ، رضي الله عنهم وأرضاهم ، والحديث الذي نعنيه هنا هو ما رواه البخاري في الصحيح قال :- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاكٍ فَصَلَّى جَالِسًا وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ اجْلِسُوا فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا" وكذلك لما قام في رمضان ، في الليلة الأولى صلى وراه قوم ، ثم كثروا في الليلة الثانية وزادوا في الليلة الثالثة ، وما ذلك إلا لأنهم كانوا يرون أن فعله حجة ، وإلا لم يكن لاقتدائهم به أي معنى ، والحديث الذي نعنيه عنا هو ما رواه البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلَاتِهِ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فَصَلَّوْا مَعَهُ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّوْا(1/117)
بِصَلَاتِهِ فَلَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ لَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا " قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ تَابَعَهُ يُونُسُ وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ضربوا أروع المثل في كمال الاقتداء وسرعة المتابعة من غير تدقيق ولا كثرة نقاش ولا إيرادات باطلة وأوهام تعكر صفو المتابعة ، وإني كنت أقول :- إن من أكثر النقاش في الحق بعد ما تبين فإن فيه شبها من اليهود في كثرة مسائلهم ومعارضتهم للحق بعد اتضاحه ، وما قصة أصحاب البقرة إلا من شواهد ما قلت ، والله المستعان على أهل الزمان ، إن قلت لهم لقد أمر النبي صلى الله عليه بكيت وكيت ، قالوا :- هل هو أمر إيجاب أو أمر استحباب وهل ، وهل ، وهل ، وهذا حال الكثير ، وهذا خلل في المتابعة وضعف في الإيمان ، والله أعلم وأما اشتداد النكير على من خالف السنة فصوره كثيرة جدا ، فمنها ما رواه البخاري في صحيحه قال :ــ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ قَالَ أَخْبَرَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَاهُ عُمَرُ أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ قَالَ إِنِّي شُغِلْتُ فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ فَلَمْ أَزِدْ أَنْ تَوَضَّأْتُ فَقَالَ وَالْوُضُوءُ(1/118)
أَيْضًا وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ " .
ومنها :- ما رواه مسلم في صحيحه قال :- حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمْ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا قَالَ فَقَالَ بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ قَالَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ وَقَالَ أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ .(1/119)
ومنها :- ما رواه مسلم أيضا في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ إِسْحَقَ وَهُوَ ابْنُ سُوَيْدٍ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ حَدَّثَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي رَهْطٍ مِنَّا وَفِينَا بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ فَحَدَّثَنَا عِمْرَانُ يَوْمَئِذٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ قَالَ أَوْ قَالَ الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ إِنَّا لَنَجِدُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَوْ الْحِكْمَةِ أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا لِلَّهِ وَمِنْهُ ضَعْفٌ قَالَ فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتَّى احْمَرَّتَا عَيْنَاهُ وَقَالَ أَلَا أَرَانِي أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُعَارِضُ فِيهِ قَالَ فَأَعَادَ عِمْرَانُ الْحَدِيثَ قَالَ فَأَعَادَ بُشَيْرٌ فَغَضِبَ عِمْرَانُ قَالَ فَمَا زِلْنَا نَقُولُ فِيهِ إِنَّهُ مِنَّا يَا أَبَا نُجَيْدٍ إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ حَدَّثَنَا أَبُو نَعَامَةَ الْعَدَوِيُّ قَالَ سَمِعْتُ حُجَيْرَ بْنَ الرَّبِيعِ الْعَدَوِيَّ يَقُولُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْد.(1/120)
ومنها :- ما رواه البخاري في الصحيح قال :- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَاللَّفْظُ لِيَزِيدَ عَنْ كَهْمَسِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَخْذِفُ فَقَالَ لَهُ لَا تَخْذِفْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْخَذْفِ أَوْ كَانَ يَكْرَهُ الخذف وَقَالَ إِنَّهُ لَا يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ وَلَا يُنْكَى بِهِ عَدُوٌّ وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْذِفُ فَقَالَ لَهُ أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْخَذْفِ أَوْ كَرِهَ الخذف وَأَنْتَ تَخْذِفُ لَا أُكَلِّمُكَ كَذَا وَكَذَا.وما هذا التشديد إلا لأن السنة حجة، يجب قبولها واعتمادها والعمل بها، وإلا لما كان لهذا التشديد أي معنى.
ومما يستدل به على حجية السنة أيضا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرجعون لها عند سماعها،وكانوا يدعون ما قد ذهبوا وقضوا به إلى ما قررته السنة ، وما ذلك إلا لعلمهم أن السنة حجة،يجب قبولها والعمل بها، وذلك في صور كثيرة :-(1/121)
ومنها :- ما رواه أبو داود في سننه قال :- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ الدِّيَةُ لِلْعَاقِلَةِ وَلَا تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا شَيْئًا حَتَّى قَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ كَتَبَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا فَرَجَعَ عُمَرُ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ وَقَالَ فِيهِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْأَعْرَاب ، وقال أبو داود أيضا :ــ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ الدِّيَةُ لِلْعَاقِلَةِ وَلَا تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا شَيْئًا حَتَّى قَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ كَتَبَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا فَرَجَعَ عُمَرُ ، وإنما رجع عمر عن قوله لأنه قد تقرر في قلبه أن السنة حجة .(1/122)
ومنها :- ما رواه أبوا داود في سننه قال :- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ قَالَ كُنَّا نُخَابِرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ عُمُومَتِهِ أَتَاهُ فَقَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا وَطَوَاعِيَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا وَأَنْفَعُ قَالَ قُلْنَا وَمَا ذَاكَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ فَلْيُزْرِعْهَا أَخَاهُ وَلَا يُكَارِيهَا بِثُلُثٍ وَلَا بِرُبُعٍ وَلَا بِطَعَامٍ مُسَمًّى . فانظر كيف رجعوا عن ما كانوا يفعلونه من أجل قول رافع ، وقال ابن ماجة في سننه :- حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ قَالَا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ كُنَّا نُخَابِرُ وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا حَتَّى سَمِعْنَا رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يَقُولُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَتَرَكْنَاهُ لِقَوْلِهِ . وما هذا الرجوع إلا لأنهم يعتقدون الاعتقاد الجازم أن السنة حجة .(1/123)
ومنها :- ما رواه الإمام مسلم في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ (ح) و حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى وَهَذَا حَدِيثُهُ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ :- اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ رَهْطٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّونَ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ إِلَّا مِنْ الدَّفْقِ أَوْ مِنْ الْمَاءِ وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ بَلْ إِذَا خَالَطَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ قَالَ قَالَ أَبُو مُوسَى فَأَنَا أَشْفِيكُمْ مِنْ ذَلِكَ فَقُمْتُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَأُذِنَ لِي فَقُلْتُ لَهَا يَا أُمَّاهْ أَوْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنْ شَيْءٍ وَإِنِّي أَسْتَحْيِيكِ فَقَالَتْ لَا تَسْتَحْيِي أَنْ تَسْأَلَنِي عَمَّا كُنْتَ سَائِلًا عَنْهُ أُمَّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ فَإِنَّمَا أَنَا أُمُّكَ قُلْتُ فَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ قَالَتْ عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ" فانظر كيف انتهى الخلاف وارتاحت القلوب ، وسكتت الألسنة لما سمعوا الحكم المقرر في السنة ، وهل يمكن أن يكون ذلك إلا لأنهم كانوا يعتقدون أن السنة حجة يجب الرجوع إليها ، وأنها فصل النزاع وبرد القلوب .(1/124)
ومنها :- ما رواه أبو داود في سننه قال :- حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ إِسْحَقَ بْنِ خَرَشَةَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ أَنَّهُ قَالَ :- جَاءَتْ الْجَدَّةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا فَقَالَ مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ وَمَا عَلِمْتُ لَكِ فِي سُنَّةِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ فَسَأَلَ النَّاسَ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهَا السُّدُسَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ جَاءَتْ الْجَدَّةُ الْأُخْرَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا فَقَالَ مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ وَمَا كَانَ الْقَضَاءُ الَّذِي قُضِيَ بِهِ إِلَّا لِغَيْرِكِ وَمَا أَنَا بِزَائِدٍ فِي الْفَرَائِضِ وَلَكِنْ هُوَ ذَلِكَ السُّدُسُ فَإِنْ اجْتَمَعْتُمَا فِيهِ فَهُوَ بَيْنَكُمَا وَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا. فقضى أبو بكر بما قضت به السنة ، لأن المتقرر عنده أن السنة حجة ، وقوله " وما علمت لك في سنة رسول الله شيئا " مع قرنها بالقرآن دليل على أن السنة فيصل في النزاع وقرينة القرآن في استنباط الأحكام .(1/125)
ومنها :- ما رواه البيهقي في سننه قال :- (أخبرنا) أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر احمد بن الحسن وأبو زكريا بن أبى إسحاق قالوا ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب أنبأ الربيع بن سليمان أنبأ الشافعي أنبأ سفيان عن عمرو بن دينار وابن طاوس عن طاوس أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال اذكر الله امرأ سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئا فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال كنت بين جارتين لى يعنى ضرتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة فقال عمر رضى الله عنه لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا وقال في موضع آخر عن عمرو وحده وقال في الحديث فقال عمر رضى الله عنه إن كدنا أن نقضى في مثل هذا برأينا، وقال عبدالرزاق في المصنف :- أخبرني عمرو بن دينار عن طاووس عن ابن عباس قال : قام عمر على المنبر فقال : أذكر الله امرءا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين, فقام حمل بن مالك بن النابغة الهذلي ، فقال : يا أمير المؤمنين ! كنت بين جاريتين - يعني ضرتين - فجرحت - أو ضربت - إحداهما الاخرى بالمسطح عمود ظلتها، فقتلتها وقتلت ما في بطنها فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بغرة ، عبد أو أمة ، فقال عمر : الله أكبر ، لو لم نسمع بمثل هذا قضينا بغيره.(1/126)
ولو ذهبنا نستقصي الأدلة على ذلك لطال بنا المقام ولكن كما قيل :- يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق ، فأنت ترى بأن كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل والإجماع وفعل الصحابة ، بل وقد دل على حجيتها العقل أيضا ، وبيان ذلك أن يقال :- إننا نجد في القرآن بعض الأحكام الشرعية المجملة ، والتي ترك التفصيل فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك كأعداد الصلوات ، فأين بالله عليك في القرآن أن صلاة الظهر أربع ، وصلاة العصر أربع وصلاة المغرب ثلاث ركعات وصلاة العشاء أربع وصلاة الفجر ركعتان ، أين ذلك في القرآن؟ وكذلك مواقيت الصلاة على وجه التفصيل ، أين هي في القرآن ؟ وكذلك تفاصيل أنصباء الزكاة ، أين هي في القرآن ؟ وكذلك تفاصيل ألفاظ الأذان ، فبالله عليه أين هي في القرآن ؟ وغير ذلك كثير مما يعسر عده ، كل ذلك قد وردت أصوله في القرآن ،إلا أنه ترك التفصيل فيها للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك اتفق أهل العلم على أن من مهمات السنة النبوية أنها تفصل القرآن وتبين مجمله ، وتقيد مطلقه ، وتخصص عمومه ، وتعبر عنه ، ولا يمكن أبدا أن يفهم القرآن حق الفهم إلا بها ، وإلا لأدى ذلك إلى نسف كثير من الشرائع ، أو العبث في تفاصيلها ، ولذلك قال تعالى " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون " وانعقد إجماع المفسرين وأهل العلم أن خير ما فسر به القرآن :- القرآن ثم السنة ، فالقول بأنها ليست بحجة قول كفري ظالم آثم ، وقول غاشم زائغ عن الحق ، بعيد عن الهدى ، وهو من أقوال الشياطين التي تلقيها في قلوب أوليائها، فما أبعد هذا القول عن الحق ، وما أقصاه عن الهدى ، ووالله إنه باطل ، باطل باطل ، بل لا نعلم قولا قيل في الأمة أبطل منه إلا قول من يقول :ــ القرآن مخلوق ، فهذا القول يبطل حجية القرآن والثاني يبطل حجية السنة ، وأي شيء بقي للأمة بعد ذلك ؟ اللهم إنا نبرأ إليك من هذا القول ، ونعوذ بك من(1/127)
حال قائليه ، والله يتولانا وإياك وهو أعلى وأعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
س105) ما الشبه التي بسببها قيل هذا القول في الأمة مع الإجابة عنها ؟
ج) أقول :- لهم في ذلك شبه شيطانية التأصيل والتخطيط ولكنها آدمية التنفيذ والامتثال ، فقد ألقى الشيطان في قلوب اتباعه شبها جعلتهم يذهبون إلى القول بأن السنة ليست بحجة ، وتالله إنها لخرافات وخزعبلات وخيالات ما لها في العقل من قبول ، ولكن يأبى الله تعالى إلا أن يكون ثمة عقول تقبل هذه الخرافات التي لا تقبلها البهيمة ، وأنا أسوقها لك مع ذكر الجواب عليها ، وهذا المبحث طويل كسابقه ، ولكننا والله في زمن قد تجرأت فيه الأقلام والأفواه على السنة كثيرا وتفننوا في أطروحاتهم أيما تفنن، فلا بد من الوقوف في وجوههم زرافات ووحدانا ، وقد رأيت كتابا حافلا ذكر هذه الشبه ورد عليها ردا علميا مؤصلا كافيا إن شاء الله تعالى ، فرأيت أن أنقله بلفظه ، لأنني مهما بلغت من حسن العبارة لن أوفي الموضوع حقه كما فعله مؤلف الكتاب المذكور وخلاصة الشبه أن نقول :-
( الشبهة الأولى ) أن السنة لم تقيد إلا في أزمنة متأخرة ، فلم تقيد إلا في حدود نهاية المائة الثانية وأما قبل ذلك التاريخ فإن الناس يتناقلونها فيما بينهم من حفظهم ، ومن المعلوم أن الأمور المحفوظة تتغير فقد تزيد وقد تنقص ، وقصر النقل على الحفظ فقط يوجب شكا في المنقول ، أهو باق على حاله أم زيد فيه أو نقص منه ؟ وليس كل الحفاظ على درجة واحدة ، بل منهم من حفظة كالورقة لا ينعدم منه شيء ، ومنهم من حفظه ضعيف ، مع ما يرد على الحفظ من النسيان والوهم والغفلة ،وخلاصة الشبهة تأخير تقييد السنة والاعتماد فيها في أول الأمر على الحفظ المجرد . كذا قالوا ، والجواب عما قالوه من عدة وجوه :-
((1/128)
الأول ) أن تدوين الحديث قد بدأ منذ العهد الأول في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، وشمل قسماً كبيراً من الحديث ، وما يجده المطالع للكتب المؤلفة في رواة الحديث من نصوص تاريخية مبثوثة في تراجم هؤلاء الرواة ، تثبت كتابتهم للحديث بصورة واسعة جداً ، تدل على انتشار التدوين وكثرته البالغة .
(الثاني) أن تصنيف الحديث على الأبواب في المصنفات والجوامع مرحلة متطورة متقدمة جداً في كتابة الحديث ، وقد تم ذلك قبل سنة 200 للهجرة بكثير ، فتم في أوائل القرن الثاني ، بين سنة 120 - 130 هـ ، بدليل الواقع الذي بين لنا ذلك ، فهناك جملة من هذه الكتب مات مصنفوها في منتصف المائة الثانية ، مثل جامع معمر بن راشد (154) ، وجامع سفيان الثوري (161) وهشام بن حسان(148) ، وابن جريج (150) وغيرها كثير.
(الثالث) أن علماء الحديث وضعوا شروطاً لقبول الحديث ، تكفل نقله عبر الأجيال بأمانة وضبط ، حتى يُؤدَّى كما سُمِع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهناك شروط اشترطوها في الراوي تضمن فيه غاية الصدق والعدالة والأمانة ،مع الإدراك التام لتصرفاته وتحمل المسئولية ، كما أنها تضمن فيه قوة الحفظ والضبط بصدره أو بكتابه أو بهما معاً ، مما يمكنه من استحضار الحديث وأدائه كما سمعه ، ويتضح ذلك من الشروط التي اشترطها المحدثون للصحيح والحسن والتي تكفل ثقة الرواة ، ثم سلامة تناقل الحديث بين حلقات الإسناد ، وسلامته من القوادح الظاهرة والخفية ودقة تطبيق المحدثين لهذه الشروط والقواعد في الحكم على الحديث بالضعف لمجرد فقد دليل على صحته ، من غير أن ينتظروا قيام دليل مضاد له .
((1/129)
الرابع ) أن علماء الحديث لم يكتفوا بهذا ، بل وضعوا شروطاً في الرواية المكتوبة لم يتنبه لها أولئك المتطفلون ، فقد اشترط المحدثون في الرواية المكتوبة شروط الحديث الصحيح ، ولذلك نجد على مخطوطات الحديث تسلسل سند الكتاب من راوٍ إلى آخر حتى يبلغ مؤلفه ، ونجد عليها إثبات السماعات ، وخط المؤلف أو الشيخ المسمَع الذي يروي النسخة عن نسخة المؤلف أو عن فرعها فكان منهج المحدثين بذلك أقوى وأحكم وأعظم حيطة من أي منهج في تمحيص الروايات والمستندات المكتوبة .
(الخامس) أن البحث عن الإسناد لم ينتظر مائتي سنة كما وقع في كلام الزاعم ، بل فتش الصحابة عن الإسناد منذ العهد الأول حين وقعت الفتنة سنة 35 هجرية لصيانة الحديث من الدس ، وضرب المسلمون للعالم المثل الفريد في التفتيش عن الأسانيد ، حيث رحلوا إلى شتى الآفاق بحثاً عنها واختباراً لرواة الحديث ، حتى اعتبرت الرحلة شرطاً أساسياً لتكوين المحدث .
(السادس):- أن المحدثين لم يغفلوا عما اقترفه الوضاعون وأهل البدع والمذاهب السياسية من الاختلاق في الحديث ، بل بادروا لمحاربة ذلك باتباع الوسائل العلمية الكافلة لصيانة السنة ، فوضعوا القيود والضوابط لرواية المبتدع وبيان أسباب الوضع وعلامات الحديث الموضوع .
(السابع ):- أن هذا التنوع الكثير للحديث ليس بسبب أحواله من حيث القبول أو الرد فقط ، بل إنه يتناول إضافة إلى ذلك أبحاث رواته وأسانيده ومتونه ، وهو دليل على عمق نظر المحدثين ودقة بحثهم ، فإن مما يستدل به على دقة العلم وإحكام أهله له تقاسيمه وتنويعاته ، بل لا يُعد علماً ما ليس فيه تقسيم أقسام وتنويع أنواع .فظهر بذلك تهافت هذه الشبهة وبعدها عن الموضوعية والمنهجية .
((1/130)
الشبهة الثانية ) من الشبهات التي رددها المشككون في حجية السنة قولهم : " لو كانت السنة ضرورية لحفظها الله كما حفظ القرآن في قوله تعالى { إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون } ولأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابتها كما أمر بكتابة القرآن " وقولهم في الحديث الذي يقول فيه النبي - صلى الله عليه وسلم : - ( ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه ) " لو كان هذا الحديث صحيحاً لما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة السنة ، ولأمر بتدوينها كما دون القرآن ، ولا يمكن أن يدع نصف ما أوحي إليه بين الناس بغير كتابة ، ولا يكون حينئذ قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة كاملة إلى أهلها ، ولماذا ترك الصحابة نصف الوحي ولم يدونوه ، فبإهمالهم له يصبحون جميعاً من الآثمين " الرد على هذه الشبهة و تفنيدها أن يقال :- إن الله عز وجل كما أراد لهذه الشريعة البقاء والحفظ ، أراد سبحانه أيضاً ألا يكلف عباده من حفظها إلا بما يطيقون ولا يلحقهم فيه مشقة شديدة ، فمن المعلوم أن العرب كانوا أمة أمية ، وكان يندر فيهم الكتبة وكانت أدوات الكتابة عزيزة ونادرة ، حتى إن القرآن كان يكتب على جريد النخل والعظام والجلود ، وقد عاش النبي - صلى الله عليه وسلم -بين أصحابه بعد البعثة ثلاثًا وعشرين سنة, ولهذا كان التكليف بكتابة الحديث كله أمرا ًفي غاية الصعوبة والمشقة ، لأنه يشمل جميع أقواله وأفعاله وأحواله وتقريراته - صلى الله عليه وسلم - ولِما يحتاجه هذا العمل من تفرغ عدد كبير من الصحابة له ، مع الأخذ في الاعتبار أن الصحابة كانوا محتاجين إلى السعي في مصالحهم ومعايشهم وأنهم لم يكونوا جميعا يحسنون الكتابة ، بل كان الكاتبون منهم أفراداً قلائل ، فكان تركيز هؤلاء الكتبة من الصحابة على كتابة القرآن دون غيره حتى يؤدوه لمن بعدهم تامًا مضبوطًا لا يُنْقص منه حرف ، ومن أجل ذلك اقتصر التكليف على كتابة ما ينزل من القرآن شيئاً فشيئاً حتى جمع(1/131)
القرآن كله في الصحف ، وكان الخوف من حدوث اللبس عند عامة المسلمين فيختلط القرآن بغيره وخصوصاً في تلك الفترة المبكرة التي لم يكتمل فيها نزول الوحي - أحد الأسباب المهمة التي منعت من كتابة السنة، ثم إنه لم يحصل لحفاظ السنة في عهد الصحابة ما حصل لحفاظ القرآن ، فقد استحرَّ القتل بحفاظ القرآن من الصحابة ، أما السنة فإن الصحابة الذي رووا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا كثر ، ولم يحصل أن استحر القتل فيهم قبل تلقي التابعين عنهم .(1/132)
ومن الأسباب أيضاً أن السنة كانت متشعبة الوقائع والأحداث فلا يمكن جمعها كلها بيقين ، ولو جمع الصحابة ما أمكنهم فلربما كان ذلك سبباً في رد من بعدهم ما فاتهم منها ظناً منهم أن ما جمع هو كل السنة, ثم إن جمعها في الكتب قبل استحكام أمر القرآن كان عرضة لأن يُقبِل الناس على تلك الكتب ، ويدعوا القرآن ، فلذلك رأوا أن يكتفوا بنشرها عن طريق الرواية ، وبعض الكتابات الخاصة, أضف إلى ذلك أن القرآن يختلف عن السنة من حيث أنه متعبد بتلاوته ، معجز في نظمه ولا تجوز روايته بالمعنى ، بل لا بد من الحفاظ على لفظه المنزل ، فلو ترك للحوافظ فقط لما أمن أن يزاد فيه حرف أو ينقص منه ، أو تبدل كلمة بأخرى ، بينما السنة المقصود منها المعنى دون اللفظ ولذا لم يتعبد الله الخلق بتلاوتها ، ولم يتحداهم بنظمها ، وتجوز روايتها بالمعنى ، وفي روايتها بالمعنى تيسير على الأمة وتخفيف عنها في تحملها وآدائها .(1/133)
وقد بلَّغ - صلى الله عليه وسلم - الدين كله وشهد الله له بهذا البلاغ فقال سبحانه : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } ووجود السنة بين الأمة جنباً إلى جنب مع القرآن الكريم فيه أبلغ دلالة على تبليغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - إياها لأمته وبالتالي لم يضع نصف ما أوحاه الله إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما زعم الزاعمون - بل الجميع يعلم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتمتعون بحوافظ قوية ، وقلوب واعية ، وذكاء مفرط ، مما أعانهم على حفظ السنة وتبليغها كما سمعوها ، مستجيبين في ذلك لحث نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لهم في الحديث الذي رواه الترمذي و غيره بقوله ( نضر الله امرءاً سمع مني مقالة فحفظها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع) فتم ما أراده النبي - صلى الله عليه وسلم - من حفظ السنة وتبليغها ، ويكون بذلك - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ دين الله عز وجل كاملاً ولم ينقص منه شيئاً.
( الشبهة الثالثة ) ومن الشبهات التي يرددها المشككون في حجية السنة هو ما فهموه من قوله تعالى{ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } وقوله سبحانه { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ } فقالوا : إن هذه الآيات وأمثالها تدل على أن الكتاب قد حوى كل شيء من أمور الدين ، وكلَّ حُكم من أحكامه ، وأنه بيَّن ذلك وفصَّله بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر ، وإلا كان الكتاب مفرِّطاً فيه ، ولما كان تبياناً لكل شيء ، فيلزم الخُلْف في خبره سبحانه وتعالى .(1/134)
والرد على هذه الشبهة أن يقال :- ليس المراد من الكتاب في قوله تعالى: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } القرآن ، وإنما المراد به اللوح المحفوظ ، فإنه هو الذي حوى كل شيء ، واشتمل على جميع أحوال المخلوقات كبيرها وصغيرها ، جليلها ودقيقها ، ماضيها وحاضرها ومستقبلها ، على التفصيل التام ، بدلالة سياق الآية نفسها حيث ذكر الله عز وجل هذه الجملة عقب قوله سبحانه {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } أي مكتوبة أرزاقها وآجالها وأعمالها كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم كل ذلك مسطور مكتوب في اللوح المحفوظ لا يخفى على الله منه شيء . وعلى التسليم بأن المراد بالكتاب في هذا الآية القرآن ، كما هو في الآية الثانية وهي قوله سبحانه { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ } فالمعنى أنه لم يفرِّط في شيء من أمور الدِّين وأحكامه ، وأنه بيَّنها جميعاً بياناً وافياً ،ولكن هذا البيان إما أن يكون بطريق النص مثل بيان أصول الدين وعقائده وقواعد الأحكام العامة ، فبيَّن الله في كتابه وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج ، وحِلِّ البيع والنكاح ، وحرمة الرِّبا والفواحش ، وحِلِّ أكل الطيبات وحُرْمة أكل الخبائث على جهة الإجمال والعموم ، وتَرَك بيان التفاصيل والجزئيات لرسوله صلى الله عليه وسلم . ولهذا لما قيل لمُطَرِّف بن عبد الله بن الشِخِّير : " لا تحدثونا إلا بالقرآن قال : والله ما نبغي بالقرآن بدلاً ولكن نريد من هو أعلم منا بالقرآن. وروي عن عمران بن حصين أنه قال لرجل يحمل تلك الشبهة : إنك امرؤ أحمق أتجد في كتاب الله الظهر أربعا لا يجهر فيها بالقراءة ، ثم عدد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا ، ثم قال أتجد هذا في كتاب الله مفسَّرا ، إن كتاب الله أبهم هذا وإن السنة تفسر ذلك.(1/135)
وإما أن يكون بيان القرآن بطريق الإحالة على دليل من الأدلة الأخرى التي اعتبرها الشارع في كتابه أدلة وحُجَجاً على خلقه, فكل حكم بينته السنَّة أو الإجماع أو القياس أو غير ذلك من الأدلة المعتبرة ، فالقرآن مبَيِّن له حقيقة ، لأنه أرشد إليه وأوجب العمل به ، وبهذا المعنى تكون جميع أحكام الشريعة راجعة إلى القرآن, فنحن عندما نتمسك بالسنة ونعمل بما جاء فيها إنما نعمل في الحقيقة بكتاب الله تعالى ، ولهذا لما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيرات خلق الله " بلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب ، فجاءت إليه وقالت : إنه بلغني عنك أنك لعنت كيت وكيت ، فقال وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن هو في كتاب الله ، فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ، قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأتِ { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } ؟! قالت : بلى ، قال : فإنه قد نهى عنه .(1/136)
وحُكِي أن الشافعي رحمه الله كان جالساً في المسجد الحرام فقال : لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى ، فقال رجل : ما تقول في المُحْرِم إذا قتل الزُّنْبُور ؟ فقال لا شيء عليه ؟ فقال : أين هذا في كتاب الله ؟ فقال : قال الله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } ثم ذكر إسناداً إلى النبي في الحديث الذي رواه الترمذي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :-" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) ثم ذكر إسناداً إلى عمر رضي الله عنه أنه قال " للمُحْرِم قتل الزُّنْبُور " فأجابه من كتاب الله قال الإمام الخطابي رحمه الله " أخبر سبحانه أنه لم يغادر شيئا من أمر الدين لم يتضمن بيانَه الكتابُ ، إلا أن البيان على ضربين : بيان جَلِيّ تناوله الذكر نصاً وبيان خفِيّ اشتمل عليه معنى التلاوة ضمناً ، فما كان من هذا الضرب كان تفصيل بيانه موكولاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو معنى قوله سبحانه : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فمن جمع بين الكتاب والسنة فقد استوفى وجهي البيان " وبذلك يتبين ضلال هؤلاء وسوء فهمهم وتهافت شبهاتهم ، وأنه لا منافاة بين حجية السنة وبين كون القرآن تبياناً لكل شيء ، والحمد لله أولاً وآخراً .
((1/137)
الشبهة الرابعة ) التي يوردها المشككون في حجية السنة تمسكهم بجملة أخبارٍ منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تؤيد بحسب زعمهم - ما ذهبوا إليه من عدم الاحتجاج بالسنة ، ووجوب عرض ما جاء فيها على كتاب الله, ومن هذه الأخبار ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا اليهود فحدّثوه فخطب الناس فقال : ( إن الحديث سيفشو عنِّي ، فما أتاكم يوافق القرآن فهو عنِّي وما أتاكم يخالف القرآن فليس عنِّي ) فقالوا : إذا أثبتت السنة حكماً جديداً فإنها تكون غير موافقة للقرآن ، وإن لم تثبت حكماً جديداً فإنها تكون لمجرد التأكيد فالحجة إذاً في القرآن وحده .
ومن هذه الأخبار التي استدلوا بها ما روِي أنه - صلى الله عليه وسلم- قال : ( إذا حُدِّثتم عنِّي حديثاً تعرفونه ولا تنكرونه ، قلته أم لم أقله فصدّقوا به ، فإني أقول ما يُعرَف ولا يُنكَر ، وإذا حُدِّثتم عنِّي حديثاً تنكرونه ولا تعرفونه فلا تصدِّقوا به ، فإني لا أقول ما يُنكَر ولا يُعرَف ) ، فقالوا هذا يفيد وجوب عرض الحديث المنسوب إليه - صلى الله عليه وسلم - على المستحسن المعروف عند الناس من الكتاب أو العقل ، فلا تكون السنة حجَّة حينئذ . ومن تلك الأخبار أيضاً ما رُوِي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إني لا أحلُّ إلا ما أحلَّ الله في كتابه ، ولا أحرِّم إلا ما حرَّم الله في كتابه ) ، وفي رواية : ( لا يمسكنَّ الناس عليَّ بشيء ، فإني لا أحلُّ لهم إلا ما أحلَّ الله ولا أحرَّم عليهم إلا ما حرَّم الله ) هذه هي خلاصة الشبه التي أوردوها ، وهي شبه ضعيفة متهافتة لا تثبت أمام البحث والنظر الصحيح ، وتدل على مبلغ جهلهم وسوء فهمهم .(1/138)
والرد على هذه الشبهة و تفنيدها أن يقال :- أما الحديث الأول ( إن الحديث سيفشو عني .... ) فإن أحاديث العرض على كتاب الله كلها ضعيفة لا يصح التمسك بشيء منها كما ذكر أهل العلم فمنها ما هو منقطع ، ومنها ما بعض رواته غير ثقة أو مجهول ، ومنها ما جمع بين الأمرين ، وقد بَيَّن ذلك ابن حزم و البيهقي ، و السيوطي ، وقال الشافعي في الرسالة : " ما روَى هذا أحدٌ يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير ، وإنما هي رواية منقطعة عن رجل مجهول ونحن لا نقبل هذه الرواية في شيء " ، بل نقل ابن عبد البر في جامعه عن عبد الرحمن بن مهدي قوله : " الزنادقة والخوارج وضعوا هذا الحديث " ، ثم قال : ( وهذه الألفاظ لا تصح عنه - صلى الله عليه وسلم - عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه ) بل إن الحديث نفسه يعود على نفسه بالبطلان ، فلو عرضناه على كتاب الله لوجدناه مخالفاً له ، فلا يوجد في كتاب الله أن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل منه إلا ما وافق الكتاب ، بل إننا نجد في القرآن إطلاق التأسي به - صلى الله عليه وسلم والأمر بطاعته ، والتحذير من مخالفة أمره على كل حال ، فرجع الحديث على نفسه بالبطلان .(1/139)
ومما يدل على بطلانه كذلك معارضته الصريحة لقوله - صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي رواه أبو داود : ( لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ) وعلى التسليم بصحة الخبر فليس المراد منه أن ما يصدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم نوعان : منه ما يوافق الكتاب فهذا يُعمل به ، ومنه ما يخالفه فهذا يُردُّ ، بل لا يمكن أن يقول بذلك مسلم ، لأن في ذلك اتهاماً للرسول عليه الصلاة والسلام بأنه يمكن أن يصدر عنه ما يخالف القرآن ، وكيف لمؤمن أن يقول ذلك وقد ائتمنه الله على وحيه ودينه وقال له : { قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي } فالرسول عليه الصلاة والسلام معصوم من أن يصدر عنه ما يخالف القرآن ، ولا يمكن أن يوجد خبر صحيح ثابت عنه مخالفٌ لما في القرآن, فيكون معنى الحديث إذاً : " إذا رُوِي لكم حديث فاشتبه عليكم هل هو من قولي أو لا فاعرضوه على كتاب الله ، فإن خالفه فردُّوه فإنه ليس من قولي " ، وهذا هو نفسه الذي يقوله أهل العلم عندما يتكلمون على علامات الوضع في الحديث ، فإنهم يذكرون من تلك العلامات أن يكون الحديث مخالفاً لمحكمات الكتاب ، ولذلك قال " فما أتاكم يوافق القرآن : فهو عنِّي ، وما أتاكم يخالف القرآن فليس عنِّي" وعندما نقول : إن السنة الصحيحة لابدَّ وأن تكون موافقة للقرآن غير مخالفة له ، فلا يلزم أن تكون هذه الموافقة موافقة تفصيلية في كل شيء ، فقد تكون الموافقة على جهة الإجمال ، فحين تبين السنة حكماً أجمله القرآن ، أو توضِّح مُشْكِلاً ، أو تخصص عامَّاً ، أو تقييد مطلقاً ، أو غير ذلك من أوجه البيان ، فهذا البيان في الحقيقة موافق لما في القرآن ، غير مخالف له, بل حتى الأحكام الجديدة التي أثبتتها السنة ودلَّت عليها استقلالاً ، هي أيضاً أحكام لا تخالف القرآن ، لأن القرآن سكت عنها على(1/140)
جهة التفصيل ، وإن كان قد أشار إليها وتعرض لها على جهة الإجمال حين قال {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وأما الحديث الثاني ( إذا حُدِّثتم عنِّي حديثاً تعرفونه ولا تنكرونه ....) ، فرواياته ضعيفة منقطعة كما قال البيهقي و ابن حزم وغيرهما ، فضلاً عما فيه من تجويز الكذب عليه - صلى الله عليه وسلم - وذلك في عبارة : ( ما أتاكم من خبر فهو عنِّي قلته أم لم أقله ) ، وحاشا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسمح بالكذب عليه وهو الذي تواتر عنه قوله في الصحيحين : ( من كذب عليَّ متعمداً فليتبوَّأ مقعده من النار ) وقد رُوي هذا الحديث من طرق مقبولة ليس فيها لفظ ( قلته أم لم أقله ) منها رواية صحيحة أخرجها الإمام أحمد : ( إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه )(1/141)
والمراد منه أن من أدلَّة صحة الحديث وثبوته أن يكون وفق ما جاءت به الشريعة من المحاسن ، وأن يكون قريباً من العقول السليمة والفطر المستقيمة ، فإن جاء على غير ذلك كان دليلاً على عدم صحته ، وهذا هو الذي يقوله علماء الحديث عند الكلام على العلامات التي يعرف بها الوضع وليس هذا مجال بسطها . نعم قد تقصر عقولنا عن إدارك الحكمة والعلَّة ، فلا يكون ذلك سبباً في إبطال صحة الحديث وحجيته ، فمتى ما ثبت الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجب علينا قبوله وحسن الظن به ، والعمل بمقتضاه ، واتهام عقولنا ، قال ابن عبد البر : كان أبو إسحاق إبراهيم بن سيار يقول : " بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب من فم القربة ، فكنت أقول : إن لهذا الحديث لشأناً ، وما في الشرب من فم القربة حتى يجيء فيه هذا النهي ؟ فلما قيل لي : إن رجلاً شرب من فم القربة فوكعته حية فمات ، وإن الحيات والأفاعي تدخل أفواه القرب علمت أن كل شيء لا أعلم تأويله من الحديث أن له مذهباً وإن جهلته ".(1/142)
وأما الحديث الثالث : ( إني لا أحلُّ إلا ما أحلَّ الله في كتابه ....) ، فهو حديث منقطع في كلتا روايتيه كما قال الشافعي و البيهقي و ابن حزم . وعلى فرض صحته فليس فيه أيُّ دلالة على عدم حجية السنة بل المراد بقوله : ( في كتابه ) ما أوحى الله إليه - كما قال البيهقي - فإن ما أوحى الله إلى رسوله نوعان : أحدهما وحي يتلى ، والآخر وحي لا يتلى ، ففسَّرَ الكتاب هنا بما هو أعم من القرآن .وقد ورد في السنة استعمال الكتاب في هذا المعنى في الحديث الذي رواه الإمام البخاري حيث قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي الزاني بامرأة الرجل الذي صالحه على الغنم والخادم : (والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، الوليدة والغنم ردٌّ ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فغدا إليها فاعترفت فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فرُجِمت ، فجعل - صلى الله عليه وسلم -حكم الرجم والتغريب في كتاب الله ، مما يدُلُّ على أن المراد عموم ما أوحي إليه . وحتى لو سلمنا أن المراد بالكتاب القرآن ، فإن ما أحلَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو حرمه ولم ينص عليه القرآن صراحة ، فهو حلال أو حرام في القرآن لقول الله تعالى { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } ولقوله - صلى الله عليه وسلم - ( ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه ، وإن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حرم الله ) رواه الترمذي وغيره .(1/143)
وأما رواية : ( لا يمسكنَّ الناس عليَّ بشيء ...) ، فقد قال فيها الشافعي إنها من رواية طاووس وهو حديث منقطع . وعلى افتراض ثبوتها فليس معناها تحريم التمسك بشيء مما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أو الاحتجاج به, وإنما المراد أنه -صلى الله عليه وسلم - في موضع القدوة والأسوة ، وأن الله عز وجل قد خصَّه بأشياء دون سائر الناس فأبيح له ما لم يبح لغيره ، وحُرِّم عليه ما لم يُحرَّم على غيره ، فكان المعنى : لا يتمسكن الناس بشيء من الأشياء التي خصني الله بها وجعل حكمي فيها مخالفاً لحكمهم ، ولا يقس أحدٌ نفسه عليَّ في شيء من ذلك ، فإن الحاكم في ذلك كله هو الله تعالى ، فهو الذي سوى بيني وبينهم في بعض الأحكام ، وفرَّق بيني وبينهم في بعضها الآخر .
وبهذا يتبين أن الأحاديث التي استند إليها أصحاب هذه الشبهة منها ما لم يثبت عند أهل العلم ومنها ما ثبت ولكن ليس فيه دليل على دعواهم ، فلم يبق لهؤلاء الذين نابذوا السنة ، وتأولوا القرآن على غير وجهه - من حجة إلا اتباع الهوى ، وصدق الله إذ يقول :{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } .
((1/144)
الشبهة الخامسة) : وخلاصة هذه الشبهة قولهم: إن السنة لم تكن شرعاً عند النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون سنته مصدراً تشريعياً للدين وما قال شيئاً أو فعله بقصد التشريع ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم في حياته أن يكون ثمة مصدر تشريعي سوى القرآن المجيد بل كان مصدر التشريع عند الرسول صلى الله عليه وسلم هو القرآن وحده وكذلك فهم الصحابة رضوان الله عليهم وجاء عهد التابعين الذين بدأت فيه فتنة القول بالسنة وأنها مصدر من مصادر التشريع وكانت تلك قاصمة الظهر بالنسبة للدين حيث دخل فيه ما ليس منه واختلط بالوحي الصحيح الخالص الذي هو القرآن ما ليس من الوحي بل هو كلام البشر التي هي السنة النبوية وهم يزعمون أن لهم أدلة على ذلك وهي :
1.أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه بكتابة القرآن الكريم وحضهم على ذلك ونهى أصحابه عن كتابة شيء من السنة قولاً كانت أو فعلا وذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه )
2. أن الصحابة رضوان عليهم عرفوا من النبي صلى الله عليه و سلم أن السنة ليست شرعاً فأهملوا كتابتها وحفظها رغم اهتمامهم الشديد بكتابة القرآن المجيد على كل ما يصلح أن يُكْتب عليه.
3. أن كبار الصحابة رضوان الله عليهم ومنهم الخلفاء الراشدون كانوا يكرهون رواية الأحاديث ويحذرون منها وكان عمر رضي الله عنه يهدد رواة الحديث ويتوعدهم وقد حبس عمر بن الخطاب عدداً من الصحابة بسبب روايتهم للحديث تنفيذاً لوعيده وتهديده إياهم بعدم رواية الحديث.
والرد على الشبهة وتفنيدها في عدة نقاط :(1/145)
1.أما قولهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة الحديث بينما حضَّ على كتابة القرآن وحفظه وكان له صلى الله عليه وسلم كتبة القرآن فقول مبالغ فيه ويقوم على التدليس وذكر بعض الحق وإخفاء البعض وليس من شك في أن القرآن المجيد قد لقي من العناية بكتابته وحفظه ما لم يكن للسنة النبوية فهو مصدر الدين الأول وهو أعلى من السنة منزلة وقداسة وهو أحق بالعناية والاهتمام بكتابته وحفظه لذلك حظي القرآن من العناية بما لم تحظ به السنة وبخاصة تدوينها وكتابتها والأسباب التي جعلت الصحابة يهتمون بكتابة القرآن فوق اهتمامهم بكتابة السنة كثيرة. منها : أن القرآن الكريم محدود بحدود ما ينزل به جبريل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم فكتابته والإحاطة به أيسر وهم على ذلك أقدر أما السنة النبوية من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله فكثيرة ومتشعبة تتضمن أقواله عليه السلام وأفعاله اليومية وعلى مدى ثلاث وعشرين سنة عاشها صلى الله عليه وسلم بينهم وهذا أمر يشق كتابته وتدوينه وبخاصة إذا أخذنا في الاعتبار ندرة أو قلة الكاتبين بين الصحابة رضوان الله عليهم ومنها : أن كتابة القرآن ضرورة يفرضها ويحتمها كون القرآن العظيم وحي الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه ومعناه ولا تجوز روايته بالمعنى أما السنة فتجوز روايتها بالمعنى ويجوز في السنة أن يقول القائل : " أو كما قال " وما هو من قبيلها وليس ذلك جائزاً في القرآن ومنها : أن الكاتبين بين الصحابة رضوان الله عليهم كانوا قلة وليس في مقدورهم أن يكتبوا السنة والقرآن معاً وإذا كان ثمة اختيار بين أيهما يكتب الصحابة العارفون الكتابة فليكن المكتوب هو القرآن وذلك حتى يسلموه لمن بعدهم محرراً مضبوطاً تاماً لم يزد فيه ولم ينقص منه حرف.(1/146)
وأما احتجاجهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة غير القرآن، وغير القرآن هو السنة فهو احتجاج باطل من وجوه. أولها:أن هذا الحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه ). هذا الحديث معلول أعله أمير المؤمنين في الحديث أبو عبد الله البخاري وغيره بالوقف على أبي سعيد ". ولو صرفنا نظراً عن هذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نهى عن الكتابة، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم الإذن بها بل الأمر بها في أحاديث أخر ولذلك قلنا إن استدلالهم فيه تدليس حيث ذكروا حديث النهي ولم يشيروا إلى أحاديث الإذن وهي كثيرة منها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم الفتح فقال “ إن الله حبس عن مكة القتل –أو الفيل الشك من البخاري وسلط عليهم رسول الله والمؤمنون .. " ولما انتهى من خطبته جاء رجل من أهل اليمن فقال : اكتب لي يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اكتبوا لأبي شاة ) ومنها : ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : " ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني إلا عبد الله بن عمرو فقد كان يكتب ولا أكتب .(1/147)
ومن ذلك ما روي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن بعض الصحابة حدثه فقال : إنك تكتب عن رسول الله كل ما يقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم - بشر يغضب فيقول ما لا يكون شرعاً، فرجع عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قيل له، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (اكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج من فمي إلا الحق) وهذه الروايات في الصحيح وهناك غيرها ضعيف وهي كثيرة فإذا ما وازنا بين روايات المنع وروايات الإذن وجدنا أبا بكر الخطيب رحمه الله (ت463هـ) قد جمع روايات المنع فلم يصح منها إلا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه السابق ذكره وقد بينا أن الإمام أبا عبد الله البخاري قد أعله بالوقف على أبي سعيد وكذلك فعل غيره بينما أحاديث الإذن كثيرة والصحيح منها كثير روينا بعضه ومنها : إضافة إلى ما سبق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته :( ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ) . وقد اجتهد العلماء في الجمع بين أحاديث الإذن وأحاديث المنع، فنتج عن ذلك آراء أهمها * أن ذلك من منسوخ السنة بالسنة أي أن المنع جاء أولاً ثم نسخ بالإذن في الكتابة بعد ذلك وإلى ذلك ذهب جمهرة العلماء، ومنهم ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث وقد قالوا إن النهي جاء أولاً خشية التباس القرآن بالسنة فلما أمن الالتباس جاء الإذن.
* أن النهي لم يكن مطلقاً، بل كان عن كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة أما في صحيفتين فمأذون به.
*أن الإذن جاء لبعض الصحابة الذين كانوا يكتبون لأنفسهم، ويؤمن عليهم الخلط بين القرآن والسنة.(1/148)
وهناك آراء غير ذلك لكن الذي يتضح من روايات المنع وروايات الإذن أن الإذن جاء آخراً فإن كان نسخ فهو الناسخ للمنع وهذا الذي رواه الجمهور. وبهذا يسقط استدلالهم بحديث المنع الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه هذا الحديث الذي يعدونه حجر الزاوية في احتجاجهم بعدم تشريعية أو حجية السنة ويكثرون اللجاج به .(1/149)
2.أما قولهم إن الصحابة رضوان الله عليهم قد فهموا من النبي صلى الله عليه وسلم أن السنة ليست شرعاً فانصرفوا عنها، ولم يهتموا بكتابتها أو الالتزام بها فهذا من الكذب والمكابرة والمطلع على المدونات في كتب السنة وتاريخ العلوم وما كتب العلماء في مواقف الأمة المسلمة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخاصة موقف الصحابة رضوان الله عليهم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع بكذب هؤلاء ويعجب من مدى تبجحهم وافترائهم على الحق إلى حد قلب الأوضاع وعكس الأمور. فقد كان أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحرص الخلق على ملاحظة أقوال رسول الله – صلى الله عليه وسلم وأفعاله وحفظها والعمل بها بل بلغ من حرصهم على تتبع كل صغيرة وكبيرة وحفظها ووعيها والعمل بها أن كانوا يتناوبون ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحدث عنه البخاري بسنده المتصل إليه. يقول : " كنت وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد من عوالي المدينة - وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوما وأنزل يوماً فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم وإذا نزل فعل مثل ذلك" وما كان ذلك إلا لحرصهم الشديد على معرفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعها والالتزام بها ... وقد كان الصحابة يقطعون المسافات الطويلة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكم الله في بعض ما يعرض لهم يروي البخاري عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه أن امرأة أخبرته أنها أرضعته هو وزوجه فركب من فوره من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله عن حكم الله فيمن تزوج امرأة لا يعلم أنها أخته من الرضاع ثم أخبرته بذلك من أرضعتهما ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (كيف وقد قيل ؟ ) ففارق زوجه لوقته وتزوجت بغيره ..(1/150)
وكان الصحابة رضي الله عنهم حريصين على أن يسألوا أزواج النبي رضوان الله عليهن عن سيرته وسنته في بيته وكانت النساء يذهبن إلى بيوت أزواج النبي يسألنهن عما يعرض لهن وهذا معروف مشتهر غني عن ذكر شاهد أو مثال.
بل لقد بلغ من حرص الصحابة رضوان الله عليهم على الالتزام بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يلتزمون ما يفعل ويتركون ما يترك دون أن يعرفوا لذلك حكمة، ودون أن يسألوا عن ذلك ثقة منهم بأن فعله صلى الله عليه وسلم وحي فقد أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب ثم نبذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( إني لن ألبسه أبداً ) فنبذ الناس خواتيمهم ".(1/151)
وروى القاضي عياض في كتابه " الشفا " عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعها عن يساره فلما رأى القوم ذلك ألقوا نعالهم فلما قضى صلاته قال : ( ما حملكم على إلقاء نعالكم) ؟ قالوا : يا رسول الله رأيناك ألقيت نعليك، فقال : ( إن جبريل أخبرني أن فيهما قذرا) وأورد ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله " عن ابن مسعود رضي الله عنه " أنه جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فسمعه يقول : ( اجلسوا ) فجلس بباب المسجد أي حيث سمع النبي يقول ذلك فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (تعال يا عبد الله بن مسعود) إلى هذا الحد بلغ حرص الصحابة رضوان الله عليهم على معرفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله والالتزام بها والاستجابة لأمره ونهيه من فورهم كما فعل عبد الله بن مسعود ومن غير أن يدركوا حكمة الفعل كما في إلقائهم نعالهم في الصلاة ونبذهم خواتيم الذهب ولم يكن ذلك إلا استجابة لله تعالى في أمره بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم والاقتداء به كما في قوله عز وجل :(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) ثم استجابة لرسوله صلى الله عليه وسلم في أمره الأمة باتباع سنته والالتزام بها كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ( خذوا عني مناسككم ) وقوله عليه الصلاة والسلام : (صلوا كما رأيتموني أصلي) وقوله صلى الله عليه وسلم : ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى) قالوا : يا رسول الله ومن يأبى ؟ قال : ( من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) وقوله صلى الله عليه وسلم ( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ..(1/152)
) هذا قليل من كثير مما يبين موقف الصحابة رضوان الله عليهم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موقف يتسم بالحرص الشديد والاهتمام البالغ على معرفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظها والالتزام بها بل وتبليغها إلى من يسمعها استجابة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (نضر الله امرأ سمع مقالتي ووعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلَّغ أوعى من سامع ) ومن هذا يتبين مدى كذب أعداء السنة وأعداء الله ورسوله في ادعائهم الذي سلف ذكره.
3- وأما دعواهم بأن كبار الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يكرهون رواية الحديث وكان عمر رضي الله عنه يتهدد رواة السنة وأنه نفذ وعيده فحبس ثلاثة من الصحابة بسبب إكثارهم من رواية السنة فهذا كذب يضاف إلى ما سبق من دعاواهم الكاذبة وفيه جانب من التدليس الذي لا يخلو عنه كلامهم. أما أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يكرهون رواية الحديث فهذا باطل والحق أنهم كانوا يخشون روايتها ويهابون من ذلك لعظم المسؤولية ووعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على من يكذب عليه في قوله عليه السلام ( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم بين أمرين هم حريصون على كل منهما أولهما : تبليغ دين الله إلى من يليهم من الأمة.
ثانيهما : التثبت والتحري الشديد لكل ما يبلغونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك كان الواحد منهم يمتقع وجهه، وتأخذه الرهبة وهو يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالصواب إذن أن الصحابة كانوا يهابون رواية الحديث بسبب شدة خوفهم من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الخطأ فيما يروون وليس كما يزعم هؤلاء أن ذلك لأنهم كانوا يرون السنة غير شرعية أو أنها ليست مصدراً تشريعياً.(1/153)
أما دعوى حبس عمر رضي الله عنه ثلاثة من أصحابه هم : عبد الله بن مسعود، وأبو ذر، وأبو الدرداء رضي الله عنهم فهذه رواية ملفقة كاذبة، جرت على الألسنة وقد ذكرها البعض كما تجري على الألسنة وتدون في كتب الموضوعات من الأحاديث والوقائع فليس كل ما تجري به الألسنة أو تتضمنه بعض الكتب صحيحاً وقد تولى تمحيص هذه الدعوى الكاذبة الإمام " ابن حزم " رحمه الله في كتابه : “ الإحكام “ فقال :(وروي عن عمر أنه حبس ابن مسعود، وأبا الدرداء وأبا ذر من أجل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد أن طعن ابن حزم في الرواية بالانقطاع محصها شرعاً فقال : إن الخبر في نفسه ظاهر الكذب والتوليد لأنه لا يخلو : إما أن يكون عمر اتهم الصحابة وفي هذا ما فيه أو يكون نهى عن نفس الحديث وتبليغ السنة وألزمهم كتمانها وعدم تبليغها وهذا خروج عن الإسلام وقد أعاذ الله أمير المؤمنين من كل ذلك، وهذا قول لا يقول به مسلم ولئن كان حبسهم وهم غير متهمين فلقد ظلمهم فليختر المحتج لمذهبه الفاسد بمثل هذه الروايات أي الطريقين الخبيثين شاء "
(الشبهة السادسة) : و من شبهاتهم أيضا أن بين السنة والقرآن تعارضا في الكثير كما يزعمون أن السنة تتعارض فيما بينها ويرتبون على ذلك النتيجة التي قدموا لها بأنه لا داعي للأخذ بالسنة أي بالأحاديث النبوية .(1/154)
الرد على هذه الشبهة أن يقال :- إن علماءنا الأفاضل وقفوا أمام شبهة التعارض المزعومة هذه سواء كانت تعارضا مزعوما بين القرآن والحديث أو بين الأحاديث بعضها مع بعض ومن أمثلة التعارض الأول حسب زعمهم أي التعارض بين القرآن والسنة أن يأمر القرآن بقراءة ما تيسر من القرآن في الصلاة في قوله ( فاقرأوا ما تيسر من القرآن ) ثم يقول الحديث النبوي : " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " فنقول ببساطة شديدة أن هذا الأمر لا يمكن أن يكون تعارضا أبدآ و لكنه تخصيص للعام و هذا الأمر من بديهيات علوم الشريعة فأمر القرآن عام خصصته السنة النبوية ومثله قول القرآن ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) فهو عام في كل أنواع البيع لكن يجئ الحديث النبوي ليخصص أنواعا بعينها بطريقة بعينها في البيع فيقول : " الذهب بالذهب مثلا بمثل ويدا بيد والفضل ربا إلخ " ولا تعارض لأن السنة وهى البيان التفصيلي لما يجمل في القرآن كما تصرح الآية ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) ومن النوع الثاني أي تعارض حديث مع حديث ما روى عن استحباب الوضوء بعد الأكل من طعام مسته النار مثل : من أكل لحم جزور فليتوضأ وتوضأوا فيما مست النار ثم جاء الحديث الآخر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ترك الوضوء مما مست النار فلا تعارض هنا ولكن الحديث الأخير غير الحكم في الحديث الذي سبقه فهو ما يسميه علماء الحديث النسخ أي تغيير المتأخر للحكم المتقدم ولا تعارض فيه
ومسائل كثيرة قد تحدث شبهة كاستثناء الخاص من العام كقوله تعالى ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) ثم يأتي الحديث ليقيد حج النساء باشتراط أن يكون مع المرأة محرم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها " فهذا استثناء للخاص من العام وأيضا لا تعارض فيه .(1/155)
فهذه المسائل وغيرها قد عنى بدراستها وتوضيح ما يصنع الشبهة فيها عنى بها علماء السنة وأفردوا لها التصانيف المختلفة التي حولتها من مواطن اشتباه أو مآخذ كما يتلمس الكارهون إلى حيث أصبحت جميعها مصدر سعة وثراء ورفع للحرج عن الإنسان في التشريع الإسلامي يحسب له ولا يعاب عليه .
(الشبهة السابعة ):هي قولهم :- إن حَمَلَةَ السنة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم كانوا جنودا للسلاطين والملوك في العصر الأموي والعباسي فكانوا يضعون لهم من الأحاديث ما يوافق رغباتهم ويثبت ملكهم.(1/156)
ولقد أجاب الدكتور مصطفى السباعي على هذا الزعم الباطل في كتابه مكانة السنة في التشريع الإسلامي فقال: "إن أعداء الإسلام من غلاة الشيعة والمستشرقين ودعاة الإلحاد لم يصلوا ولن يصلوا إلى مدى السمو الذي يتصف به رواة السنة من الترفع عن الكذب حتى في حياتهم العادية بل ولن يصل أعداء الإسلام إلى مبلغ الخوف الذي استقر في نفوسهم بجنب الله خشية ورهبة، ولا مدى استنكارهم لجريمة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال منهم من قال بكفر من يفعل ذلك وقَتْلِهِ وعدم قبول توبته إن أعداء الإسلام معذورون إذ لم يفهموا عن علمائنا هذه الخصائص لأنه لا يوجد لها ظل في نفوسهم ولا فيمن حولهم، ومن اعتاد الكذب ظن في الناس أنهم أكذب منه واللص يظن الناس لصوصا مثله وإلا فمن الذي يقول في قوم جاهروا بالإنكار على بعض ولاتهم لأنهم خالفوا بعض أحكام السنة وتعرض بعضهم للضرب والإهانة والتنكيل في سبيل الجهر بكلمة الحق من يقول: إن هؤلاء استباحوا لأنفسهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيفوا إلى سنته أحكاما لم يقلها".اهـ نعم إن قوما لم يحابوا في حكمهم على الرجال أحدا لا أبا ولا ابنا ولا أخا ولا صديقا ولا شيخا إن ذلك لَعُنوَانُ صدق ديانتهم ونزاهتهم وأمانتهم وعنوان إجلال الحفاظ للسنة النبوية الشريفة وأنها عندهم أغلى من الآباء والأجداد والأولاد والأحفاد فكانوا مضرب المثل في الصدق والتقوى والأمانة. وهاك أمثلةً على نزاهتهم في حكمهم على الرجال :
1- المُجَرِّحُونَ لآبائهم: الإمام علي بن المديني سئل عن أبيه فقال: "سلوا عنه غيري" فأعادوا المسألة، فأطرق ثم رفع رأسه فقال: "هُوَ الدِّينُ، إِنَّهُ ضَعِيفٌ".
2- المجرحون لأبنائهم: الإمام أبو داود السجستاني "صاحب السنن" قال: "ابني عبد الله كذاب". ونحوه قول الذهبي في ولده أبي هريرة: "إنه حفظ القرآن، ثم تشاغل عنه حتى نسيه".(1/157)
3- المجرحون لإخوانهم: زيد بن أبي أنيسة قال: "لا تأخذوا عن أخي يحيى المذكور بالكذب".
4- المجرحون لأصهارهم وأختانهم: شعبة بن الحجاج قال: "لو حابيت أحدا لحابيت هشام بن حسان كان خَتَنِي، ولم يكن يحفظ".
5- المجرحون لبعض أقاربهم: أبو عروبة الحراني: "قال الذهبي في ترجمة الحسين بن أبي السري العسقلاني: "قال أبو عروبة: هو خال أمي، وهو كذاب".
6- ومن الذين لم يحابوا مشايخهم: روى الإمام ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن مهدي قال: "اختلفوا يوما عند شعبة، فقالوا: اجعل بيننا وبينك حكما فقال: قد رضيت بالأحول يعني: يحيى بن سعيد القطان، فما برحنا حتى جاء يحيى فتحاكموا إليه فقضى على شعبة وهو شيخه ومنه تعلم وبه تخرج، فقال له شعبة: ومن يطيق نقدك - أو من له مثل نقدك - يا أحول؟! قال ابن أبي حاتم:
هذه غاية المنزلة ليحيى بن سعيد القطان إذ اختاره شيخه شعبة من بين أهل العلم، ثم بلغ من عدالته بنفسه وصلابته في دينه أن قضى على شعبة شيخه ومعلمه". وبلغ من نزاهة أئمة الحديث أنهم كانوا لا يقبلون شفاعة إخوانهم للسكوت عمن يرون جرحه وكيف يرتضون تلك الواسطة وهم الذين طعنوا في أبنائهم وآبائهم وإخوانهم لما رأوا منهم ما يستوجب القدح. أما عن موقف الصحابة والتابعين فمن بعدهم من أئمة الإسلام من ملوكهم وأمرائهم فالنماذج المشرفة الدالة على ذلك كثيرة فمنها على سبيل المثال لا الحصر موقف أبي سعيد الخدري من مروان والي المدينة، وموقف ابن عمر من الحجاج وموقف الإمام الزهري مع هشام بن عبد الملك الأموي وغيرهم الكثير و الكثير .
((1/158)
الشبهة الثامنة) :وهذه الشبهة هي إختلاف المحدثين في التوثيق والتضعيف .فلقد اعتبر الطاعنون اختلاف علماء الحديث في توثيق الرجال وتضعيفهم مطعنا في منهجهم، ويلزم من ذلك أن يوثقوا من لا يستحق التوثيق، ويضعفوا من لا يستحق التضعيف، وينتج عنه تصحيح أحاديث لم تبلغ درجة الصحة، ولذلك حكموا على كثير من الأحاديث بالصحة وهي ليست كذلك.
والرد على هذه الشبهة أن يقال:- ما وضعه علماء الحديث من قواعد وأصول ثابتة لتوثيق الرواة وتضعيفهم ينفي ما قالوا، ولم ينطلقوا رحمهم الله في تعديل الرواة وتجريحهم من هوى، وإنما كانوا يفعلون ذلك حسبة لله وتدينا، ولذلك كثر قولهم: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم". ولقد قام علم عظيم وضعت له القواعد وأسست له الأسس، وجعل مقياسا دقيقا ضبطت به أحوال الرواة من حيث التوثيق والتضعيف، ذلك "علم الجرح والتعديل" الذي لا نظير له عند أمة من الأمم, والذي يطالع كتب علوم الحديث يقف مبهورا أمام هذا العلم فائقِ الدقة، البالغ الإحكام، الذي لا يمكن أن يكون وضع صدفة أو جاء عفوا، وإنما بذلت فيه جهود، وتعبت فيه أجسام، وسهرت فيه أعين حتى بلغ إلى قمة الحسن ومنتهى الجودة. ونتناول من هذا العلم ثلاثة أسئلة يتضح من خلالها فساد هذا الزعم وبطلانه.
أولا: من هو الراوي الذي يقبل حديثه؟.
ثانيا: كيف يوثق؟.
ثالثا: إذا تعارض فيه توثيق وتضعيف، ما العمل إذا؟ وما الذي أدى إلى ذلك؟.
والجواب على هذه الأسئلة:
أولا: لقد نص علماء الحديث على صفات معينة متى توفرت تلك الصفات في شخص معين قبلت روايته واحتج بحديثه.(1/159)
قال ابن الصلاح - رحمه الله: "وأجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلا ضابطا لما يرويه. وتفصيله أن يكون مسلما بالغا عاقلا، سالما من أسباب الفسق وخوارم المروءة، متيقظا غير مغفل، حافظا إن حدث من حفظه، ضابطا لكتابه إن حدث من كتابه. وإن كان يحدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالما بما يحيل المعاني".
فهذا هو الثقة الذي تقبل روايته وهو الذي جمع بين شرطي العدالة والضبط. ثانيا: يوثق الراوي إذا ثبتت عدالته بالاستفاضة، أو باشتهاره بين أهل العلم بالثناء والخير، أو بتعديل عالم أو أكثر، وثبت ضبطه بموافقة روايته للثقات المتقنين في الغالب.
ويقبل تعديل الراوي ولو لم يذكر سببه وذلك لكثرة أسباب التعديل ومشقة ذكرها.
وأما جرحه فلا يقبل إلا إذا بين سببه؛ لأن الجرح يحصل بأمر واحد، ولا مشقة في ذكره، إضافة إلى اختلاف الناس في أسبابه.
ثالثا: إذا تعارض جرح وتعديل في راو معين قدم الجرح إذا كان مفسرا ولو زاد عدد المعدلين، وعلى ذلك جمهور العلماء؛ لأن مع الجارح زيادة علم خفيت عن المعدل، فالمعدل يخبر عن ظاهر حال الراوي، والمجروح يخبر عن أمر باطن، وهذا شرط مهم؛ فإنهم لم يقبلوا الجرح إذا تعارض مع التعديل إلا إذا كان مفسرا، وهذا ما استقر عليه الاصطلاح.
يقول الدكتور نور الدين عتر: "لكن هذه القاعدة ليست على إطلاقها في تقديم الجرح، فقد وجدناهم يقدمون التعديل على الجرح في مواطن كثيرة، ويمكننا أن نقول: إن القاعدة مقيدة بالشروط الآتية:
1-أن يكون الجرح مفسرا، مستوفيا لسائر الشروط.
2- ألا يكون الجارح متعصبا على المجروح أو متعنتا في جرحه.
3- أن يبين المعدل أن الجرح مدفوع عن الراوي، ويثبت ذلك بالدليل الصحيح.(1/160)
وهذا يدل على أن اختلاف ملحظ النقاد يؤدي إلى اختلافهم في الجرح والتعديل، لذلك قال الذهبي وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال: "لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن قط على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة". وهذا؛ لأن الثقة إذا ضعف يكون ذلك بالنظر لسبب غير قادح والضعيف إذا وثق يكون توثيقه من الأخذ بمجرد الظاهر. وقال الحافظ ابن حجر: "والجرح مقدم على التعديل، وأطلق ذلك جماعة ولكن محله إن صدر مبينا من عارف بأسبابه؛ لأنه إن كان غير مفسر لم يقدم فيمن ثبتت عدالته، وإن صدر من غير عارف بالأسباب لم يعتبر به أيضا، فإن خلا المجروح عن تعديل قُبل الجرح فيه مجملا غير مبين السبب إذا صدر من عارف على المختار؛ لأنه إذا لم يكن فيه تعديل فهو في حيز المجهول، وإعمال قول المجروح أولى من إهماله".
كما أنه يجب أن يراعى عند الاختلاف حال المعدل والمجرح؛ لأن ذلك من القرائن التي يرجح بها عند الاختلاف في التوثيق والتضعيف. قال الإمام الذهبي مبينا أقسام المتكلمين في الرجال من حيث التعنت والتوسط والاعتدال في الجرح والتعديل:
1- قسم منهم متعنت في الجرح، متثبت في التعديل، يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث، ويلين بذلك حديثه، وهذا إذا وثق شخصا فعض على قوله بنواجذك، وتمسك بتوثيقه، وإذا ضعف رجلا فانظر هل وافقه غيره على تضعيفه، فإن وافقه، ولم يوثق ذاك أحد من الحذاق، فهو ضعيف، وإن وثقه أحد فهذا الذي قالوا فيه: لا يقبل تجريحه إلا مفسرا، يعني لا يكفي أن يقول فيه ابن معين مثلا: هو ضعيف، ولم يوضح سبب ضعفه، وغيره قد وثقه، فمثل هذا يتوقف في تصحيح حديثه، وهو إلى الحسن أقرب. وابن معين وأبو حاتم والجوزجاني متعنتون.
2- وقسم في مقابلة هؤلاء، كأبي عيسى الترمذي، وأبي عبد الله الحاكم، وأبي بكر البيهقي: متساهلون.
3- وقسم كالبخاري، وأحمد بن حنبل، وأبي زرعة، وابن عدي: معتدلون منصفون.(1/161)
وبعد فعلماء الحديث لم ينطلقوا في توثيقهم وتجريحهم، وتصحيحهم وتضعيفهم من خواء وتخبط وإنما انطلقوا من قواعد متينة وأرض صلبة، في أحكامهم؛ ولذلك برزت هذه الأحكام إلى الوجود في منتهى الدقة، متفقة فيما بينها، متحدة لا شذوذ فيها، منسجمة لا تباين يعتريها، ويعجز كل دعي أن ينقد ما أصلوه بنقد علمي لا مطعن فيه، وبحكم لا قادح فيه. وهذه شهادة أحد المستشرقين أنفسهم ينقلها الدكتور نورالدين عتر في هذه المسألة وهو (ليوبولد فايس) قال: "إننا نتخطى نطاق هذا الكتاب إذا نحن أسهبنا في الكلام على وجه التفصيل في الأسلوب الدقيق الذي كان المحدثون الأوائل يستعملونه للتثبت من صحة كل حديث، ويكفي من أجل ما نحن هنا بصدده أن نقول: إنه نشأ من ذلك علم تام الفروع، غايته الوحيدة البحث في معاني أحاديث الرسول وشكلها، وطريقة روايتها. ولقد استطاع هذا العلم في الناحية التاريخية أن يوجد سلسلة متماسكة لتراجم مفصلة لجميع الأشخاص الذين ذكروا عن أنهم رواة أو محدثون، إن تراجم هؤلاء الرجال والنساء قد خضعت لبحث دقيق من كل ناحية، ولم يعد منهم في الثقات إلا أولئك الذين كانت حياتهم وطريقة روايتهم للحديث تتفق تماما مع القواعد التي وضعها المحدثون، تلك القواعد التي تعتبر على أشد ما يمكن أن يكون من الدقة. فإذا اعترض أحد اليوم من أجل ذلك على صحة حديث بعينه أو على الحديث جملة، فإن عليه هو وحده أن يثبت ذلك".
الشبهة التاسعة : ومن شبهاتهم أيضآ أن نقد المحدثين إقتصر على نقد الإسناد ولم يشمل نقد المتون(1/162)
يقول غاستون ويت: "وقد درس رجال الحديث السنة بإتقان إلا أن تلك الدراسة كانت موجهة إلى السند ومعرفة الرجال والتقائهم وسماع بعضهم من بعض" ثم قال: "لقد نقل لنا الرواة حديث الرسول مشافهة ثم جَمَعَهُ الحُفَّاظ ودوَّنُوه إلا أن هؤلاء لم ينقدوا المتن لذلك لسنا متأكدين من أن الحديث قد وصلنا كما هو عن رسول الله من غير أن يضيف إليه الرواة شيئا عن حسن نية في أثناء روايتهم الحديث".
الرد على هذه الشبهة: لقد اهتم علماء الحديث اهتماما بالغا بدراسة متن الحديث واستوفوا تلك الدراسة وبذلوا قصارى جهدهم في العناية به بحيث لا يوجد مزيد على ما قدموه. ولقد كان الهدف الذي يسعون إليه من دراسة الإسناد ونقده وهو تمييز صحيح الحديث من ضعيفة وحماية السنة من العبث والكيد كان ذلك مرتبطا ارتباطا وثيقا بنقد المتن، وقد بينا أن توثيق الراوي لا يتم إلا بثبوت عدالته وضبطه، وهذا الأخير إنما يعرف بمقارنة مرويات الراوي مع مرويات الثقات الآخرين.
ومن الثابت الذي لا جدال فيه عند المحدثين أن صحة إسناد الحديث لا تعني بالضرورة صحة الحديث لأن من شروط الصحيح ألا يكون شاذا ولا معللا والشذوذ والعلة يكونان في السند كما يكونان في المتن فقد يصح إسناد حديث ما ويكون في متنه علة قادحة تقدح في صحته وهكذا الشذوذ ولذا لم تكن دراستهم قاصرة على الأسانيد وإنما بحثوا في علل المتون وشذوذها وجمعت أبحاثهم هذه في علل المتون والأسانيد في مصنفاتهم من كتب العلل وهي كثيرة. ومن أجل ذلك نشأت علوم لا تكتفي بدراسة الإسناد بل تعني بدراسة الإسناد والمتن جميعا فمن ذلك: الحديث المقلوب، والمضطرب، والمدرج، والمعلل، والمصحف، والموضوع، وزيادة الثقة.(1/163)
كما أنشئت علوم تتعلق بدراسة المتن خاصة من ذلك غريب الحديث، أسباب وروده، ناسخه ومنسوخة، مشكله، ومحكمه. وفي هذا بذل المحدثون جهدا لا نظير له ولا مثيل ومن جهودهم في دراسة المتن ما وضعوه من علامات وضوابط يعرف بها وضع الحديث من غير رجوع إلى سنده من ذلك:
1- ركاكة اللفظ في المروي: فيدرك من له إلمام باللغة ومعرفتها أن ذلك لا يمكن أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم إذا صرح الراوي بأنه لفظه وإلا فمدار الركة على المعنى وإن لم ينضم إليها ركاكة اللفظ.
2- مخالفة الحديث لنص القرآن أو السنة المتواترة: فما يخالف القرآن كحديث: "مقدار الدنيا وإنها ... آلاف سنة" فهو مخالف لقوله تعالى: (يَسأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرسَاهَا قُل إِنَّمَا عِلمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَت فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ لَا تَأتِيكُم إِلَّا بَغتَةً يَسأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنهَا قُل إِنَّمَا عِلمُهَا عِندَ اللَّهِ) . وما يخالف السنة كأحاديث مدح من اسمه محمد أو أحمد، وأن كل من يسمى بهذه الأسماء لا يدخل النار؛ والنار لا يجار منها بالأسماء والألقاب وإنما بالإيمان والعمل الصالح(1/164)
3- ما اشتمل على مجازفات وإفراط في الثواب العظيم على الأمر الصغير، أو وعيد عظيم على فعل يسير: كحديث: من قال: لا إله إلا الله، خلق الله من تلك الكلمة طائرا له, يقول الدكتور صبحي الصالح صاحب كتاب علوم الحديث و مصطلحه مؤكدا عدم تفرقة المحدثين بين السند والمتن في حكمهم على الحديث: "على أننا لا نرتكب الحماقة التي لا يزال المستشرقون، وتلامذتهم المخدوعون بعلمهم" الغزير" يرتكبونها كلما عرضوا للحديث النبوي، إذ يفصلون بين السند والمتن مثلما يفصل بين خصمين لا يلتقيان أو ضرتين لا تجتمعان، فمقاييس المحدثين في السند لا تفصل عن مقاييسهم في المتن إلا على سبيل التوضيح والتبويب والتقسيم، وإلا فالغالب على السند الصحيح أن ينتهي بالمتن الصحيح، والغالب على المتن المعقول المنطقي الذي لا يخالف الحس أن يرد عن طريق صحيح".
فعلماء الحديث - رحمهم الله - درسوا متن الحديث دراسة وافية يعرف قدرها من نظر إلى مؤلفات القوم وما تركوه من ميراث عظيم سارت على ضوئه الأجيال، واعترف بذلك المنصفون، فلا عبرة بما قاله غاستون ويت، ولا بما قاله كل حاقد يريد شرا بديننا القويم فنحن المسلمون بحمد الله نثق في علمائنا الأجلاء ونقدر لهم جهودهم، ونشكر لهم ما بذلوه من جهود في خدمة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ونشهد لهم بذلك وبسلامة منهجهم واستقامته ولا نلتفت إلى طعن الطاعن أو قول مبغض فيهم أبدا بل نكشف قوله ونرد كيده ونمحو أثره وصدق الله إذ يقول: (بَل نَقذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيلُ مِمَّا تَصِفُونَ) .
((1/165)
الشبهة العاشرة) :يقول المستشرق " ماكدونالد " وغيره من المستشرقين : "إن الأحاديث لا تنبني عليها الحقائق التاريخية، وإنها سجل مضطرب كثير الأغلاط التاريخية مما يدل على الوضع في الحديث والرد على هذه الشبهة أن يقال :- إن الذي يطالع دواوين السنة وخاصة "الصحيحين" يجد حشدا ضخما من الأحاديث النبوية التي تشير إلى وقائع وأحداث تاريخية ماضية كقصص الأنبياء والأمم السابقة وبدء الخلق كما أن هنالك كثيرا من الأحاديث التي تدل على أمور تحدث في المستقبل كأحاديث الفتن وغيرها وكثير من هذه الأحاديث صحيح وثابت تلقته الأمة بالقبول وصدقت بما جاء فيه وآمنت بكل ذلك لأن الذي نطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله عز وجل فيه: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى إِن هُوَ إِلَّا وَحيٌ يُوحَى) . وقد اعتمد علماء الأمة على تلك الأحاديث في بيان الحقائق التاريخية وإثباتها بل تعتبر عندهم من أقوى الأدلة بعد القرآن الكريم ولذلك ملئت بها كتب السير والتاريخ وحكموها في كثير من أخبار أهل الكتاب فقبلوا منها ما أيدته الأحاديث النبوية وردوا منها ما خالفته وتوقفوا فيما لم يرد شاهد من القرآن أو السنة عليه قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ) قال: "أي إذا كان ما يخبرونكم به محتملا لئلا يكون في نفس الأمر صدقا فتكذبوه أو كذبا فتصدقوه فتقعوا في الحرج ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه".(1/166)
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستندون في ذكر الحقائق التاريخية وتصويبها على ما جاء في كتاب الله وما نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري بسنده إلى سعيد بن جبير قال: قُلتُ لِابنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوفًا البَكَالِيَّ يَزعُمُ أَنَّ مُوسَى لَيسَ بِمُوسَى بَنِي إِسرَائِيلَ إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ، فَقَال:َ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ! حَدَّثَنَا أُبَيُّ بنُ كَعبٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ( قَامَ مُوسَى النَّبِيُّ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسرَائِيلَ، فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا أَعلَمُ، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيهِ إِذ لَم يَرُدَّ العِلمَ إِلَيهِ، فَأَوحَى اللَّهُ إِلَيهِ: أَنَّ عَبدًا مِن عِبَادِي بِمَجمَعِ البَحرَينِ هُوَ أَعلَمُ مِنكَ...) . فقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما على صدق الخبر وحقيقته بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وكذب بذلك نَوفًا، وتلك حقيقة تاريخية دل عليها الحديث, بل أكثر من ذلك فقد كانوا يلجئون إلى الأحاديث في فض النزاع إذا اختلفوا في حقيقة تاريخية كما يلجئون إليها في الأحكام. روى البخاري بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالحُرُّ بنُ قَيسِ بنِ حِصنٍ الفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بنُ كَعبٍ فَدَعَاهُ ابنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ؛ هَل سَمِعتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَذكُرُ شَأنَهُ؟ قَالَ: نَعَم سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (( بَينَمَا مُوسَى فِي مَلَإٍ مِن بَنِي إِسرَائِيلَ جَاءَهُ رَجُلٌ ...) .(1/167)
إذن نعلم يقينا بعد دحض هذه الشبهات التي قالها المشككون في حجية السنة و من شايعهم أنهم فشلوا فشلا ذريعا في جميع مطاعنهم التي وجهوها للسنة النبوية والتي وجهوها أيضا للمنهج النقدي للمحدثين وظهر عوار هم واختلال منهجهم العلمي في البحث .وهذا نهاية هذا المبحث العظيم الطيب ، وهذا بكماله كتاب الرد على الشبهات المثارة حول السنة من قبل المستشرقين ومن شايعهم من هذه الأمة ، وهو كتاب حافل طيب ، ولي كبير الشرف أن أضمنه في كتابي هذا ، لا سيما في هذا المبحث ، وهذه أول مرة أفعلها في مؤلفاتي ، ولكنني رأيت الكتاب ذا فائدة عظيمة جدا ، ولا بد من قراءته كاملا ، والله من وراء القصد ، وليعلم الناظر في هذه الشبه والأجوبة أنه ليس لي فيها إلا مجرد النقل فقط ، والفضل كله لله تعالى ثم لفضيلة الشيخ (أحمد بن محمد بو قرين) وهو مؤلف الكتاب المذكور ، ونحن نشهد الله تعالى حبه ، فقد وقف وقوفا طيبا في وجوه من أراد إلغاء الاحتجاج بالسنة أو التشكيك فيها ، فنسأل الله تعالى أن يغفر له وأن يعامله برحمته وعفوه وبره وكرمه ، وأن يحشره في زمرة علماء المسلمين إن ولي ذلك والقادر عليه ، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
س106) ما أوجه الاستدلال بالسنة على الأحكام الشرعية ؟(1/168)
ج) أقول :- السنة تدل على الأحكام باعتبارات مختلفة :- فالأول :- الاستدلال بقول النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله إن كان أمرا ، فالأصل فيه الوجوب إلا لصارف يصرفه عن حقيقة الوجوب إلى شيء آخر ، وإن كان نهيا فالأصل فيه التحريم إلا إن ورد صارف يصرفه عن الوجوب إلى الكراهة ، الثاني :- الاستدلال بفعله صلى الله عليه وسلم ، وقد اختلف أهل العلم في دلالة الفعل على أقوال ، والراجح أن ا لفعل المجرد عن الأمر القولي إنما يفيد الاستحباب فقط ، وإن اقترن بقول فإنه يفيد ما أفاد القول ، الثالث :- الاستدلال بالإقرار ، والراجح أنه يفيد الجواز ، الرابع :-الاستدلال بالترك ، أي أن ما توفر سبب فعله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فالمشرع تركه ، وكل ذلك سيأتي بالتفصيل الواضح والتفريع الطويل الذي يميط وجه الإشكال, إن شاء الله تعالى . والله أعلم .
س107) ما القول في تقسيم الأحاديث إلى متواترة وآحاد ؟(1/169)
ج) أقول :- هذا من التقسيمات المجملة التي تحتمل الحق والباطل ، وما كان كذلك فإننا لا نقبله مطلقا ولا نرده مطلقا بل نوقفه على الاستفصال حتى يتميز حقه من باطله ، فيقبل الحق ويرد الباطل ، فإن كان يقصد بهذا التقسيم التمييز بين الآحاد والمتواتر حتى يعرف ما هو حجة في باب العقائد مما ليس بحجة ، فهذا التقسيم باطل بهذا الاعتبار ، وهو منهج أهل البدع ، وعامة أهل البدع عليه ، فلا يحتجون بحديث الآحاد الوارد في باب العقائد ، زعما منهم الاحتياط في أمر العقيدة ، وكذبوا والله العظيم ، بل يقصدون بهذا التقسيم أن ينسفوا العقائد الواردة في أحاديث الآحاد ، كأحاديث الصفات ، وحقائق اليوم الآخر ، ولا أدل على ذلك من أنهم ردوا العقائد الواردة في النصوص القرآنية ، لكن لما لم يستطيعوا أن يردوها سندا ردوها متنا ، وأما حديث الآحاد فإنهم قدروا على أن يردوه سندا ، فالقوم أصلا لا يريدون إثبات شيء من الصفات ، فمن قال :- إن حديث الآحاد ليس بحجة في باب العقيدة فهو مبتدع ضال ، وأما عامة أهل السنة فإن القاعدة عندهم تقول :- خبر الآحاد حجة في باب العقيدة ، لأن العبرة عنهم إنما هي صحة الحديث إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم ، فإذا الحديث ولم ينسخ فإنهم يعتمدونه ويقبلونه ويجعلونه على رؤوسهم ولا يعارضونه بأي شيء ، فإياك أيها الطالب أن تغتر بمناهج أهل البدع واحذر من رد شيء من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالحق أنه حجة في باب العقائد كما دلت على ذلك الأدلة من الكتاب والسنة ، وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى ، ونحن من مقاصدنا في هذا الكتاب أن نرد على أهل البدع فيما قرروه من المسائل المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة ، وأن نصفي أصول الفقه مما دخل فيه مما ليس من الدين في صدر ولا ورد ، وهذا منها فإن كان يراد بالتقسيم نسف حديث الآحاد في باب العقيدة ، فهو تقسيم مبتدع مخترع باطل ضال لا بد من دفعه بالأيدي والأرجل لإخراجه من(1/170)
كتب الهداية التي أصلا ما ألفت إلا لهداية الناس وأما إن كان يقصد بهذا التقسيم معرفة المتواتر من الآحاد ليعمل به في الترجيح بين ما ظاهره التعارض وليعرف ما يفيد اليقين مما يفيد الظن الراجح ، فهذا لا بأس به ، أي أنه لا يترتب عليه مخالفة عقدية مع أن هذا التقسيم لا يعرف عن سلف الأمة وأئمتها ، وإنما يعرف عن أهل البدع من المعتزلة خاصة ، فالسكوت عنه أسلم ، ولكن لما تكلم به أهل العلم عرفنا أن الكلام فيه مما لا بأس به ، إن كان يقصد به المعنى الثاني ، فهذا هو الحق عندنا في هذه المسألة :- أن هذا التقسيم من الألفاظ المجملة التي لا بد فيها من التفصيل ، والله ربنا أعلى واعلم .
س108) ما حكم خبر الآحاد عند أهل السنة ، وما الدليل على ما تقول ؟
ج) أقول :- خبر الآحاد هو ما رواه عدد لا يبلغ حد التواتر ، أو نقول :- هو ما فقد شرطا من شروط التواتر ،وخبر الآحاد عند أهل السنة حجة بشرطين :- 1) أن يكون ثابت السند ، بأن يكون صحيحا لذاته أو صحيحا لغيره أو حسنا لذاته أو حسنا لغيره ، وأما إن كان ضعيفا أو موضوعا فليس عندهم بحجة ، ولكن هناك نوع خلاف في الاحتجاج بحديث الآحاد في فضائل الأعمال ، سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى ، والمهم أن حديث الآحاد عند أهل السنة حجة بشرطين هذا أحدهما ، الثاني :- أن لا يكون منسوخا ، فإذا صح سنده ولم ينسخ فوالله الذي لا إله غيره أنه حجة ، يجب قبول مدلوله والمصير إليه واعتماده وتحرم مخالفته ، أو معارضته بشيء ، بل هو حجة بنفسه ، سواء وافق القياس أو خالفه ، وسواء كان في العقائد أو في الشرائع ، وسواء وافق قول الأكثر أو خالفه ، وسواء عمل به أحد أو لم يعمل به أحد ، فالحديث حجة بنفسه ، فلا يكتسب حجيته من شيء خارج ، بل الشيء الخارج لا يكون حجة أصلا إلا إن وافق الحديث ، فهو الذي يفيد غيره الحجية وليس غيره هو الذي يفيده الحجية ، والأدلة على ذلك كثيرة شهيرة :-(1/171)
فمنها :- جميع الأحاديث والنصوص التي ذكرناه في حجية السنة ، فإنه مما يستدل به على حجية حديث الآحاد ، لأنها أثبتت حجية السنة على وجه العموم والإطلاق ، وقد تقرر في القواعد أن الأصل بقاء العموم على عمومه ولا يخصص إلا بدليل ، وتقرر أن الأصل بقاء المطلق على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل ، فمن أخرج من عمومها حديث الآحاد فإنه مطالب بالدليل ، لأنه ناقل عن الأصل ، وقد تقرر في القواعد أن الدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه ، ومن قال بغير ذلك فهو إما جاهل أو صاحب هوى .
ومنها :- قوله تعالى " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يرجعون " فنوع الله تعالى المؤمنين إلى نوعين, فرقة قاعدة ، وفرقة نافرة ، وأوجب على الفرقة القاعدة أن تتفقه فيما نزل من الوحي وأن تحفظه ليفقهوا فيه إخوانهم وينذروهم به إذا رجعوا من الجهاد ، وأوجب على الفرقة النافرة حال رجوعهم أن يقبلوا ما يقوله إخوانهم من أهل الفرقة القاعدة ، والطائفة القاعدة لم يشترط فيها عدد التواتر مما يدل على وجوب قبول خبر الطائفة القاعدة وإن كانوا لا يبلغون عدد التواتر .
ومنها :- قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا إن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " فالله تعالى إنما أمر بالتثبت في خبر الفاسق ، فيفهم منه أن الثقة العدل يقبل خبره ، وخبره خبر آحاد ، فأفاد ذلك أن خبر الواحد العدل حجة .(1/172)
ومنها :- ما استدل به القرطبي والجصاص وجمع من المفسرين من قوله تعالى " وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا " فقد جعل القرطبي رحمه الله تعالى من أوجه الاستدلال بها أنها دليل على قبول خبر الواحد فقال ( الثانية - ففي الآية دليل على قبول خبر الواحد فيما يفتقر إليه المرء، ويحتاج إلى اطلاعه من حاجاته الدينية والدنيوية، فتركب عليه الأحكام، ويرتبط به الحلال والحرام، وقد جاء أيضا مثله في الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم لهوازن: (ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم).أخرجه البخاري. وقال الجصاص رحمه الله تعالى ( وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّ نَقِيبَ كُلِّ قَوْمٍ إنَّمَا نُصِبَ لِيُعَرِّفَ أَحْوَالَهُمْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الْإِمَامَ ، فَلَوْلَا أَنَّ خَبَرَهُ مَقْبُولٌ لَمَا كَانَ لِنَصْبِهِ وَجْهٌ .(1/173)
ومنها:- قوله تعالى " واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء " وكذلك قوله تعالى في جزاء الصيد إذا صاده المحرم " يحكم به ذوا عدل منكم " والآيات في الشهادة في القرآن كثيرة ، وهي دليل على قبول خبر الآحاد لأن الشاهد والشاهدان والثلاثة والأربعة ، لا يخرج خبرهم عن كونه خبر آحاد ، ففي قبول شهادتهم دليل على أن خبر الآحاد الصحيح حجة .(1/174)
ومنها :- ما رواه مسلم في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعًا عَنْ وَكِيعٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ إِسْحَقَ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رُبَّمَا قَالَ وَكِيعٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُعَاذًا قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَاب " فانظر كيف بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن لدعوتهم لعقائد الدين ، وهو واحد ، حتى وإن بعث بذلك أبا موسى وعليا ، إلا أن هذا العدد لا يبلغ مع ذلك عدد التواتر ، فلو كان خبر الواحد غير مقبول ، لما كانت حجة الله تعالى قد قامت على أهل اليمن بخبر معاذ ، لأن خبره خبر واحد .(1/175)
ومنها :- ما رواه البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا فَقَالَ أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ قَالَ فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ قُلْتُ لَا قَالَ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ لَا قَالَ فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَقُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ قَالَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ قُلْتُ بَلْ يَزِيدُونَ قَالَ فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ قُلْتُ لَا قَالَ فَهَلْ كُنْتُمْ(1/176)
تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ قُلْتُ لَا قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ قُلْتُ لَا وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا قَالَ وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ قَالَ فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ قُلْتُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ قَالَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ قُلْتُ يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً(1/177)
لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ وَ{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } والشاهد منه أنه صلى الله عليه وسلم أقام حجة الله تعالى على هرقل ببعثة رسول واحد ، مما يفيد أن خبر الواحد حجة ، غذ لو لم يكن حجة لما كانت حجة الله على(1/178)
هرقل وقومه قد قامت .
ومنها :- أنه صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة على المقوقس ، صاحب الإسكندرية وهو واحد بكتاب له يدعو فيها المقوقس وقومه إلى الإسلام ، كما رواه ابن أبي شيبة في المصنف قال :- حدثنا حاتم بن إسماعيل عن يعقوب عن جعفر بن عمرو قال : بعث رسول الله (ص) أربعة نفر إلى أربعة وجوه : رجلا إلى كسرى ، ورجلا إلى قيصر ، ورجلا إلى المقوقس ، وبعث عمرو بن أمية إلى النجاشي... الحديث .(1/179)
ومنها :- ما رواه مسلم في صحيحه قال :- و حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ح و حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى وَهَذَا حَدِيثُهُ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ رَهْطٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّونَ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ إِلَّا مِنْ الدَّفْقِ أَوْ مِنْ الْمَاءِ وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ بَلْ إِذَا خَالَطَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ قَالَ قَالَ أَبُو مُوسَى فَأَنَا أَشْفِيكُمْ مِنْ ذَلِكَ فَقُمْتُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَأُذِنَ لِي فَقُلْتُ لَهَا يَا أُمَّاهْ أَوْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنْ شَيْءٍ وَإِنِّي أَسْتَحْيِيكِ فَقَالَتْ لَا تَسْتَحْيِي أَنْ تَسْأَلَنِي عَمَّا كُنْتَ سَائِلًا عَنْهُ أُمَّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ فَإِنَّمَا أَنَا أُمُّكَ قُلْتُ فَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ قَالَتْ عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ" ووجه الاستشهاد به أن المهاجرين والأنصار رجعوا لقول عائشة رضي الله عنها وانتهى الخلاف بينهم بقولها ، وهي واحدة ، ولك يقل أحد منهم :- إن هذا خبر آحاد ، بل قبلوه وسلموا له واعتمدوه ، مما يفيد أنهم كانوا جميعا يرون حجية خبر الآحاد .وخير الهدي هديهم .(1/180)
ومنها :- ما رواه البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ . والشاهد أنهم فعلوا ما فعلوه استلالا بقول هذا الرجل ، وهو واحد ، فأفاد ذلك أنهم كانوا قد تقرر في قلوبهم أن خبر الواحد الصحيح حجة .(1/181)
ومنها :- ما رواه البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدٍ هُوَ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فَقُلْنَا هَذَا الرَّجُلُ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَجَبْتُكَ فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَا تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ فَقَالَ سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ فَقَالَ أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ أَاللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ فَقَالَ اللَّهُمَّ نَعَمْ قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَاللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ قَالَ اللَّهُمَّ نَعَمْ قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَاللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنْ السَّنَةِ قَالَ اللَّهُمَّ نَعَمْ قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَاللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ نَعَمْ فَقَالَ الرَّجُلُ آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ(1/182)
بَكْرٍ. فكان ضمام بن ثعلبة هو رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه ليدعوهم إلى التوحيد وإفراد الله عز وجل بالعبادة ،وإلى الصلاة والزكاة والصوم ، فلو أن حجة الله على عباده لا تقوم على قوم ضمام بمجرد قوله لما سكت النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك لأنه لا يسكت على ما ليس من الشرع ، فلما أجازه وسكت عنه وأقره على أنه رسول من وراءه من قومه دل ذلك على أن خبر الواحد حجة .
ومنها :- ما رواه أبو داود في سننه قال :- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ مِنْ وَلَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ " فمن حفظ مقالة من النبي صلى الله عليه وسلم وأداها كما سمعها فله ذلك الأجر ، وقال " امرءا " فدل ذلك على أن الواحد إذا حفظ المقالة وأداها كما سمعها ، فله ذلك الأجر ، وما ذلك إلا لأن خبره حجة ، وإلا لما كان لهذا الأداء أي فائدة ، فلما أمر الواحد بأداء ما حفظه ووعده بهذا الأجر أفاد ذلك أن خبر الواحد حجة .(1/183)
ومنها :- ما رواه ابن ماجه في سننه قال :- حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ قَالَا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ كُنَّا نُخَابِرُ وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا حَتَّى سَمِعْنَا رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يَقُولُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَتَرَكْنَاهُ لِقَوْلِهِ" وقد رواه من هو أعلى من ابن ماجه ، ولكن خصصت روايته لأن فيها " فتركناه لقوله " أي لقول رافع ، فانظر كيف ترك الصحابة ما كانوا يفعلونه ويتكسبون منه لقول رافع ، وهو واحد ، مما يفيد أنهم كانوا يرون أن خبر الواحد حجة .
ومنها :- ما رواه البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ مِنْ فَضِيخِ زَهْوٍ وَتَمْرٍ فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ قُمْ يَا أَنَسُ فَأَهْرِقْهَا فَأَهْرَقْتُهَا. فانظر كيف اعتمدوا خبر الواحد في تحريم الخمر ، مما يفيد أن الاحتجاج به كان مما فطرت عليه نفوسهم وتشربته قلوبهم .(1/184)
ومنها :- ما رواه أبو داود في سننه قال :- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ الدِّيَةُ لِلْعَاقِلَةِ وَلَا تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا شَيْئًا حَتَّى قَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ كَتَبَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا فَرَجَعَ عُمَرُ .قَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ وَقَالَ فِيهِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْأَعْرَابِ . وما رجع عمر إلى الحديث هذا غلا لأنه يرى أن خبر الواحد حجة .
ومنها :- ما رواه البخاري في صحيحه :- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ عَمْرًا قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَمْرِو بْنِ أَوْسٍ فَحَدَّثَهُمَا بَجَالَةُ سَنَةَ سَبْعِينَ عَامَ حَجَّ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ عِنْدَ دَرَجِ زَمْزَمَ قَالَ كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الْأَحْنَفِ فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنْ الْمَجُوسِ وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَر. فرجع عمر عن عدم أخذ الجزية من مجوس هجر لهذا الحديث ، وما ذلك إلا لأن حديث الآحاد حجة .(1/185)
ومنها :- ما رواه أبو داود في سننه قال :- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَجْرَةَ عَنْ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ عَجْرَةَ أَنَّ الْفُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدْرَةَ فَإِنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِطَرَفِ الْقَدُومِ لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي فَإِنِّي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةٍ قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ قَالَتْ فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ دَعَانِي أَوْ أَمَرَ بِي فَدُعِيتُ لَهُ فَقَالَ كَيْفَ قُلْتِ فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ مِنْ شَأْنِ زَوْجِي قَالَتْ فَقَالَ امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ قَالَتْ فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا . قَالَتْ فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ . فانظر كيف قضى به عثمان رضي الله عنه مع أنه خبر واحد مما يفيد أن خبر الواحد حجة .(1/186)
ومنها :- ما رواه البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ قَالَ أَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفِيقًا فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدْ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا أَوْ قَدْ اشْتَقْنَا سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا فَأَخْبَرْنَاهُ قَالَ ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا أَوْ لَا أَحْفَظُهَا وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ" والشاهد منه أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بإبلاغ قومهم شرائع الدين وبتعليمهم أحكام الشرع ، وهم لا يبلغون عدد التواتر لأنهم إنما كانوا اثنين فقط ، كما في رواية البخاري الأخرى " أنا وصاحب لي "، مما يفيد أن الحديث الآحاد حجة .(1/187)
ومنها :- ما رواه مسلم في صحيحه قال :- حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ أَنَّ بُسْرَ بْنَ سَعِيدٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُا:- كُنَّا فِي مَجْلِسٍ عِنْدَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَأَتَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ مُغْضَبًا حَتَّى وَقَفَ فَقَالَ أَنْشُدُكُمْ اللَّهَ هَلْ سَمِعَ أَحَدٌ مِنْكُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ فَإِنْ أُذِنَ لَكَ وَإِلَّا فَارْجِعْ قَالَ أُبَيٌّ وَمَا ذَاكَ قَالَ اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَمْسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ ثُمَّ جِئْتُهُ الْيَوْمَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي جِئْتُ أَمْسِ فَسَلَّمْتُ ثَلَاثًا ثُمَّ انْصَرَفْتُ قَالَ قَدْ سَمِعْنَاكَ وَنَحْنُ حِينَئِذٍ عَلَى شُغْلٍ فَلَوْ مَا اسْتَأْذَنْتَ حَتَّى يُؤْذَنَ لَكَ قَالَ اسْتَأْذَنْتُ كَمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَوَاللَّهِ لَأُوجِعَنَّ ظَهْرَكَ وَبَطْنَكَ أَوْ لَتَأْتِيَنَّ بِمَنْ يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَوَاللَّهِ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَحْدَثُنَا سِنًّا قُمْ يَا أَبَا سَعِيدٍ فَقُمْتُ حَتَّى أَتَيْتُ عُمَرَ فَقُلْتُ قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ هَذَا، والشاهد منه أن عمر قبل خبرهما وهما اثنان فقط ، وهذا العد لا يخرج الخبر عن كونه خبر آحاد ، فإن قلت :- أوليس رد عمر لأبي موسى أول مرة دليل على عدم قبول خبر الآحاد ؟ فأقول :- لا ، وإنما هذا من عادة عمر حتى لا يتجرأ الناس في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل قد صرح عمر بذلك في غير هذه(1/188)
الرواية والدليل على ذلك أنه قبل خبره بعد أن أيده أبو سعيد ، ولا يخرج الخبر بذلك عن كونه خبر آحاد فهو من أدلتنا لا من أدلتهم .
ومنها :- ما رواه البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ عُمَرُ ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ فَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ فَقَالَ ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ قَالَ ادْعُوا لِي الْأَنْصَارَ فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ فَقَالَ ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ قَالَ ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ فَدَعَوْتُهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلَانِ فَقَالُوا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ قَالَ أَبُو(1/189)
عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ فَقَالَ عُمَرُ لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ قَالَ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ قَالَ فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ . والشاهد منه أن الصحابة الذين كانوا مع عمر قد انتهى خلافهم في الرجوع من عدمه بخبر عبدالرحمن بن عوف ، وهو خبر آحاد ، فلما قبلوه دل ذلك على أن خبر الواحد حجة ، إذ لو لم يكن حجة لاعترضوا عليه ، فلما سلموا به وعملوا به ولم يعرضوه بشيء أفاد ذلك أنه حجة ، وهذا واضح.(1/190)
ومنها :- ما رواه البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ الْمِصْرِيُّ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنِي أَبُو النَّضْرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَأَلَ عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ نَعَمْ إِذَا حَدَّثَكَ شَيْئًا سَعْدٌ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ غَيْرَهُ وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَخْبَرَنِي أَبُو النَّضْرِ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ سَعْدًا حَدَّثَهُ فَقَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ اللَّهِ نَحْوَهُ.. والشاهد منه أن عمر أمر ابنه عبدالله أن يقبل ما حدثه به سعد بن أبي وقاص ، وخبره خبر واحد ، بل قال " إذا حدثك سعد شيئا عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تسأل عنه غيره ، وهذا دليل على أن عمر يقبل خبر الواحد ، والوقائع كثيرة والشواهد لا تكاد تحصر ، ولكن أهل البدع لا يزالون في حيص بيص ، نعوذ بالله من حالهم ، قال المجد في المنتقى بعد روايته لهذا الحديث في باب المسح على الخفين ( وفيه دليل على قبول خبر الواحد ) وهذا هو فهم العلماء ، وأما الأوباش من أهل البدع فلا عبرة بهم .(1/191)
ومنها :- ما رواه أبو داود في سننه قال :- حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّمْرَقَنْدِيُّ وَأَنَا لِحَدِيثِهِ أَتْقَنُ قَالَا حَدَّثَنَا مَرْوَانُ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ .. والشاهد منه أنه صلى الله عليه وسلم اعتمد رؤية ابن عمر رضي الله عنهما ، وأمر الناس بالصيام بناء على الإخبار بهذه الرؤية وهي خبر واحد ، فلما اعتمده النبي صلى الله عليه وسلم دل ذلك على أن خبر الواحد الصحيح مقبول .(1/192)
ومنها :- ما رواه مسلم في صحيحه قال :- و حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَمْرٌو النَّاقِدُ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالُوا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ح و حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَهَذَا حَدِيثُهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا بِالْأَبْوَاءِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ وَقَالَ الْمِسْوَرُ لَا يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ فَأَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ وَهُوَ يَسْتَتِرُ بِثَوْبٍ قَالَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقُلْتُ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَسْأَلُكَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ اصْبُبْ فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا رَأَيْتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ و حَدَّثَنَاه إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ قَالَا أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَقَالَ فَأَمَرَّ أَبُو أَيُّوبَ بِيَدَيْهِ عَلَى(1/193)
رَأْسِهِ جَمِيعًا عَلَى جَمِيعِ رَأْسِهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ فَقَالَ الْمِسْوَرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ لَا أُمَارِيك أبدا ..وقد استدل به الحافظ ابن دقيق العيد فقال ( وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ سَائِغٌ شَائِعٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَرْسَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُنَيْنٍ لِيَسْتَعْلِمَ لَهُ عِلْمَ الْمَسْأَلَةِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ : قَبُولُ خَبَرِهِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ فِيمَا أُرْسِلَ فِيهِ .وهو فهم صحيح لا شك فيه .(1/194)
ومنها :- ما رواه مسلم في الصحيح قال :- حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ الْحُسَيْنِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ جَاءَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ صَاحِبَا نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدَانِ أَنْ يُلَاعِنَاهُ قَالَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ لَا تَفْعَلْ فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَّا لَا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا قَالَا إِنَّا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَنَا وَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا وَلَا تَبْعَثْ مَعَنَا إِلَّا أَمِينًا فَقَالَ لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ فَاسْتَشْرَفَ لَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ فَلَمَّا قَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.. والشاهد منه أنه صلى الله عليه وسلم اكتفى ببعث رجل واحد يكون واسطة بينه وبين أهل اليمن ، يبلغهم ما أنزله الله تعالى من الهدى والعلم ،ويعلمهم شرائع الدين ، مما يفيد أن خبر الواحد حجة ، إذ لو لم يكن كذلك لما لبعث أبي عبيدة أي منفعة ، لأن أخبراه لا تحصل بها الحجة ، فلما اكتفى ببعثه وحده معهم أفاد ذلك أن خبر الآحاد حجة ، وهذا واضح .(1/195)
ومنها :- حديث الجساسة المعروف ، والذي رواه مسلم في الصحيح ، وهو حديث طويل ، أرى أنه من المناسب أن نسوقه بطوله لما فيه من الفوائد ، فقال مسلم في صحيحه :- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ وَاللَّفْظُ لِعَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ ذَكْوَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ بُرَيْدَةَ حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ شَرَاحِيلَ الشَّعْبِيُّ شَعْبُ هَمْدَانَ أَنَّهُ سَأَلَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أُخْتَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ فَقَالَ حَدِّثِينِي حَدِيثًا سَمِعْتِيهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُسْنِدِيهِ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِهِ فَقَالَتْ لَئِنْ شِئْتَ لَأَفْعَلَنَّ فَقَالَ لَهَا أَجَلْ حَدِّثِينِي فَقَالَتْ نَكَحْتُ ابْنَ الْمُغِيرَةِ وَهُوَ مِنْ خِيَارِ شَبَابِ قُرَيْشٍ يَوْمَئِذٍ فَأُصِيبَ فِي أَوَّلِ الْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا تَأَيَّمْتُ خَطَبَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَطَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَوْلَاهُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَكُنْتُ قَدْ حُدِّثْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ أَحَبَّنِي فَلْيُحِبَّ أُسَامَةَ فَلَمَّا كَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ أَمْرِي بِيَدِكَ فَأَنْكِحْنِي مَنْ شِئْتَ فَقَالَ انْتَقِلِي إِلَى أُمِّ شَرِيكٍ وَأُمُّ شَرِيكٍ امْرَأَةٌ غَنِيَّةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ عَظِيمَةُ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ(1/196)
اللَّهِ يَنْزِلُ عَلَيْهَا الضِّيفَانُ فَقُلْتُ سَأَفْعَلُ فَقَالَ لَا تَفْعَلِي إِنَّ أُمَّ شَرِيكٍ امْرَأَةٌ كَثِيرَةُ الضِّيفَانِ فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْكِ خِمَارُكِ أَوْ يَنْكَشِفَ الثَّوْبُ عَنْ سَاقَيْكِ فَيَرَى الْقَوْمُ مِنْكِ بَعْضَ مَا تَكْرَهِينَ وَلَكِنْ انْتَقِلِي إِلَى ابْنِ عَمِّكِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فِهْرٍ فِهْرِ قُرَيْشٍ وَهُوَ مِنْ الْبَطْنِ الَّذِي هِيَ مِنْهُ فَانْتَقَلْتُ إِلَيْهِ فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتِي سَمِعْتُ نِدَاءَ الْمُنَادِي مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِي الصَّلَاةَ جَامِعَةً فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُنْتُ فِي صَفِّ النِّسَاءِ الَّتِي تَلِي ظُهُورَ الْقَوْمِ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ لِيَلْزَمْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُصَلَّاهُ ثُمَّ قَالَ أَتَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ إِنِّي وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةٍ وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ لِأَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ كَانَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا فَجَاءَ فَبَايَعَ وَأَسْلَمَ وَحَدَّثَنِي حَدِيثًا وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ مَسِيحِ الدَّجَّالِ حَدَّثَنِي أَنَّهُ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ مَعَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامَ فَلَعِبَ بِهِمْ الْمَوْجُ شَهْرًا فِي الْبَحْرِ ثُمَّ أَرْفَئُوا إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ حَتَّى مَغْرِبِ الشَّمْسِ فَجَلَسُوا فِي أَقْرُبْ السَّفِينَةِ فَدَخَلُوا الْجَزِيرَةَ فَلَقِيَتْهُمْ دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ(1/197)
الشَّعَرِ لَا يَدْرُونَ مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ فَقَالُوا وَيْلَكِ مَا أَنْتِ فَقَالَتْ أَنَا الْجَسَّاسَةُ قَالُوا وَمَا الْجَسَّاسَةُ قَالَتْ أَيُّهَا الْقَوْمُ انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالْأَشْوَاقِ قَالَ لَمَّا سَمَّتْ لَنَا رَجُلًا فَرِقْنَا مِنْهَا أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً قَالَ فَانْطَلَقْنَا سِرَاعًا حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقًا وَأَشَدُّهُ وِثَاقًا مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى كَعْبَيْهِ بِالْحَدِيدِ قُلْنَا وَيْلَكَ مَا أَنْتَ قَالَ قَدْ قَدَرْتُمْ عَلَى خَبَرِي فَأَخْبِرُونِي مَا أَنْتُمْ قَالُوا نَحْنُ أُنَاسٌ مِنْ الْعَرَبِ رَكِبْنَا فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ فَصَادَفْنَا الْبَحْرَ حِينَ اغْتَلَمَ فَلَعِبَ بِنَا الْمَوْجُ شَهْرًا ثُمَّ أَرْفَأْنَا إِلَى جَزِيرَتِكَ هَذِهِ فَجَلَسْنَا فِي أَقْرُبِهَا فَدَخَلْنَا الْجَزِيرَةَ فَلَقِيَتْنَا دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ لَا يُدْرَى مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ فَقُلْنَا وَيْلَكِ مَا أَنْتِ فَقَالَتْ أَنَا الْجَسَّاسَةُ قُلْنَا وَمَا الْجَسَّاسَةُ قَالَتْ اعْمِدُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالْأَشْوَاقِ فَأَقْبَلْنَا إِلَيْكَ سِرَاعًا وَفَزِعْنَا مِنْهَا وَلَمْ نَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً فَقَالَ أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ قُلْنَا عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ قَالَ أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا هَلْ يُثْمِرُ قُلْنَا لَهُ نَعَمْ قَالَ أَمَا إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ لَا تُثْمِرَ قَالَ أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ قُلْنَا عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ(1/198)
قَالَ هَلْ فِيهَا مَاءٌ قَالُوا هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ قَالَ أَمَا إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ قَالَ أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ قَالُوا عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ قَالَ هَلْ فِي الْعَيْنِ مَاءٌ وَهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُهَا بِمَاءِ الْعَيْنِ قُلْنَا لَهُ نَعَمْ هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ مِنْ مَائِهَا قَالَ أَخْبِرُونِي عَنْ نَبِيِّ الْأُمِّيِّينَ مَا فَعَلَ قَالُوا قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَنَزَلَ يَثْرِبَ قَالَ أَقَاتَلَهُ الْعَرَبُ قُلْنَا نَعَمْ قَالَ كَيْفَ صَنَعَ بِهِمْ فَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنْ الْعَرَبِ وَأَطَاعُوهُ قَالَ لَهُمْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ قُلْنَا نَعَمْ قَالَ أَمَا إِنَّ ذَاكَ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ وَإِنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّي إِنِّي أَنَا الْمَسِيحُ وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَأَخْرُجَ فَأَسِيرَ فِي الْأَرْضِ فَلَا أَدَعَ قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمَا اسْتَقْبَلَنِي مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا يَصُدُّنِي عَنْهَا وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلَائِكَةً يَحْرُسُونَهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَعَنَ بِمِخْصَرَتِهِ فِي الْمِنْبَرِ هَذِهِ طَيْبَةُ هَذِهِ طَيْبَةُ هَذِهِ طَيْبَةُ يَعْنِي الْمَدِينَةَ أَلَا هَلْ كُنْتُ حَدَّثْتُكُمْ ذَلِكَ فَقَالَ النَّاسُ نَعَمْ فَإِنَّهُ أَعْجَبَنِي حَدِيثُ تَمِيمٍ أَنَّهُ وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ وَعَنْ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ أَلَا إِنَّهُ فِي بَحْرِ الشَّأْمِ أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ لَا بَلْ(1/199)
مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ قَالَتْ فَحَفِظْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ..والشاهد منه أنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بخبر تميم رضي الله عنه ، وصدقه وجمع الناس لإخبارهم به ، وسر به لموافقته ما كان يحدث الناس به ، مع أن تميما لم يكن وحده بل كلن معه ثلاثون رجلا ، ومع ذلك فقد اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بخبر تميم وحده ، مما يفيدنا أن خبر الواحد الصحيح حجة .
ومنها :- ما رواه البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ أَخْبَرَنَا الأوزاعي حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ" والشاهد منه هو أنه صلى الله عليه وسلم أطلق الأمر بالبلاغ ، فيدخل في الأمر بلاغ الواحد ، فإذا أبلغ الآحاد ما عندهم من العلم فيجب قبول خبرهم ، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالبلاغ إلا وقبول الخبر واجب ، فلبلاغ واجب والقبول واجب .(1/200)
ومنها :- ما رواه البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنْ فِي الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَزَيْدَ بْنَ خَالِدٍ قَالَا كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلَّا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَقَامَ خَصْمُهُ وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ فَقَالَ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي قَالَ قُلْ قَالَ إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ ثُمَّ سَأَلْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ وَعَلَى امْرَأَتِهِ الرَّجْمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ الْمِائَةُ شَاةٍ وَالْخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْكَ وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا .. والشاهد منه أنه صلى الله عليه وسلم اكتفى واعتمد على خبر أنيس في اعتراف المرأة ، مع أن فيه إقامة الحد وقتل النفس ، وهو رجل واحد ، مما يفيد أن خبر الواحد الصحيح مقبول . وأقسم بالله تعالى أن الأدلة على حجية خبر الواحد لا تكاد تحصر ، ولكن الله تعالى أعمى عنها عيون الخفافيش التي لا ترى إلا في الظلام .(1/201)
ومنها :- الإجماع ، وقد تقرر أن الإجماع حجة شرعية يجب قبولها والعمل بها واعتمادها وتحرم مخالفتها ، فقد أجمع أهل العلم المعتد بهم - وأعني بهم أهل السنة والجماعة - على أن خبر الآحاد فالصحيح الذي لم ينسخ أنه حجة ، وقد حكى هذا الإجماع الإمام الشافعي والقرطبي وصاحب طرح التثريب وصاحب البحر الزخار في مذاهب علماء الأمصار وابن حزم في الإحكام ، والغزالي في المستصفى ، و عبدالعزيز البخاري في كشف الأستار ، وابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين ، وصاحب الفصول في الأصول ، وغيرهم كثير ، وهي من المسائل التي قيدها أهل السنة في مصنفاتهم العقدية ، وهو ما ندين الله تعالى به ، ونعلمه لطلابنا ونقرره في دروسنا ، بل نحن نجعله من الفروق بين أهل السنة والمبتدعة ، فدونك هذه المسألة بأدلتها ، ولو أن في الوقت متسع لذكرنا لك ما يستدل به الفريق الآخر القائلون بعدم حجيته مع ذكر الرد عليهم ، ولكننا التزمنا الاختصار والله يحفظنا وإياك ، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على هذا القول إلى أن نلقاه ، وهو أعلى وأعلم .
س109) هل يستدل به في مسائل الاعتقاد ؟(1/202)
ج) نعم ، باتفاق أهل السنة والجماعة ، والقاعدة المتقررة عند أهل السنة والجماعة في ذلك تقول (خبر الآحاد حجة في باب الاعتقاد) وقد ذكرت هذه القاعدة من جملة قواعد أهل السنة في كتابي القواعد المذاعة في مذهب أهل السنة والجماعة ، والدليل على ذلك عامة الأدلة السابقة ، فإنها تدل بعمومها أو بخصوصها في بعضها على أن خبر الواحد حجة شرعية مقبولة في باب الاعتقاد ، ومن فرق وقال :- لا يقبل خبر الواحد في العلميات - أي العقائد - ويقبل في الشرعيات - أي مسائل الفقه - فهو من أهل البدع ، ولا يعرف عن أحد من السلف أنه فرق هذا التفريق ، بل السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعامة الأئمة من أهل السنة والجماعة ، كلهم من أولهم إلى آخرهم متفقون على أن خبر الواحد الصحيح حجة في باب الاعتقاد ، فالتفريق بينهما تفريق باطل في الشرع مناقض للأدلة ، موجب لرد عقائد كثيرة ثبتت بأخبار آحاد ، وأول من عرف عنه هذا التقسيم الباطل هم المعتزلة ، وسار على ذلك عامة أهل البدع ، قال الشافعي رحمه الله تعالى (الحديث حجة بنفسه ولكن أقول : لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد فالقول بعدم الاحتجاج بحديث الآحاد في العقيدة بدعة محدثة ) وقال ابن القيم مبينا بطلان التفريق في قبول خبر الآحاد بين العقائد والشرائع ( وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات العلميات ( يعني العقيدة ) كما تحتج بها في الطلبيات العمليات ولا سيما والأحكام العملية تتضمن الخبر عن الله بأنه شرع كذا وأوجبه ورضيه دينا فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه جوز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته فأين سلف المفرقين بين(1/203)
البابين ؟ ) وقد تولى رد هذا التفريق علامة زماننا في الحديث الإمام العلم المحدث الناصح محمد بن ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى في مؤلف خاص ، أسماه ( الحديث حجة بنفسه ) و هي من القضايا الكبار التي نافح عنها في سائر مؤلفاته رحم الله تعالى عامة أهل العلم وجزاهم عنا وعن المسلمين حير الجزاء وجمعنا بهم في الجنة ، والخلاصة أن تعلم أن المتقرر عند سلف الأمة وأئمتها أن خبر الواحد الصحيح حجة ، والمتقرر عند سلف الأمة وأئمتها أن التفريق في قبول خبر الواحد بين باب العقيدة وباب الفقه تفريق باطل باتفاق السلف الصالح ، فكن على الجادة ودع عنك بنيات الطريق والأقوال الشاذة الغريبة على عقيدة الأمة ، وكن كما كان سلف الأمة فإن هديهم ومنهجهم وطريقتهم أكمل ما يكون من المناهج والطرق والهدي ، ونعوذ بالله تعالى أن نحيد عنه طرفة عين ، وإن حصل فيما كتبناه أو قلناه في مؤلفاتنا زلل أو مخالفة لمنهج السلف فليشهد الثقلان والملائكة أنن نرجع عنه ، ونبرأ إلى الله تعالى من مخالفة منهجهم في كبير الأمر وصغيره ، والله خير الشاهدين وهو أعلى وأعلم .
س110) هلا ضربت لنا أمثلة على عقائد ثبتت بخبر الواحد ؟
ج) نعم ، وعلى العين والرأس ، وهي كثيرة ، فأقول
منها :- صفة الضحك ، فنؤمن نحن معاشر أهل السنة والجماعة أن لله تعالى ضحكا يليق بجلاه وعظمته ، ليس كضحك المخلوقين ، والدليل على ذلك أخبار آحاد ، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يضحك الله تعالى إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخلان الجنة ، يقاتل أحدهما في سبيل الله فيقتل ، ثم يتوب الله تعالى على القاتل فيسلم فيستشهد " متفق عليه .(1/204)
ومنها :- صفة الأصابع ، فنؤمن نحن معاشر أهل السنة والجماعة أن لله تعالى أصابع تليق بجلال الله تعالى وعظمته ، لا تماثل شيئا من أصابع المخلوقين ، والدليل علة هذه العقيدة أخبار آحاد كحديث " إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يقلبها كيف يشاء " رواه مسلم ، وحديث ابن مسعود في الصحيحين قال :- جاء حبر من اليهود فقال :- إنه إذا كان يوم القيامة جعل الله السموات على إصبع والأرضين على إصبع والماء على إصبع والثرى على إصبع ، والخلائق على إصبع ثم يهزهن ، ثم يقول :" أنا الملك ، أنا الملك " قال :- فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه تعجبا وتصديقا لقوله ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم " وما قدروا الله حق قدره ... إلى قوله .. يشركون " فآمن أهل السنة بهذه العقيدة ، مع أن الأحاديث الواردة فيها أحاديث آحاد .
ومنها :- صفة الفرح ، فإننا معاشر أهل السنة والجماعة نؤمن الإيمان الجازم بأن لله تعالى فرحا يليق بجلاله وعظمته ، لا يماثل فرح المخلوقين ، لأنه جل وعلا ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فيقال في فرحه جل وعلا كما يقال في سائر صفاته ، مع أحاديث الفرح أحاديث آحاد كحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال :- قال رسول الله عليه وسلم " لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة ، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه ، فأيس منها ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها ، وقد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك ، إذ هو بها قائمة عنده ، فأخذ بخطامها ، ثم قال من شدة الفرح :- اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح " متفق عليه واللفظ لمسلم .(1/205)
ومنها :- صفة الغيرة ، فإننا معاشر أهل السنة والجماعة نؤمن إيمانا جازما بأن لربنا جل وعلا غيرة تليق بجلاله وعظمته ، ليست كغيرة أحد من الخلق ، والاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في المسميات ، ودليل ثبوتها للرب جل وعلا خبر آحاد ، أعني حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله يغار ، وغيرة الله تعالى أن يأتي المرء ما حرم الله عليه " متفق عليه ، وحديث سعد بن عبادة رضي الله عنه لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه "أتعجبون من غيرة سعد ؟ فوالله لأنا أغير من سعد والله أغير مني ، من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا شخص أغير من الله تعالى ... " متفق عليه واللفظ لمسلم فإن قلت :- إن هذه أخبار آحاد ؟ فأقول :- وليكن ، فإن خبر الآحاد حجة في الشرع عقيدة وعملا .
ومنها :- صفة الهرولة ، فلله تعالى هرولة تليق بجلاله وعظمته ، لا تماثل هرولة المخلوق ، لأن الاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في الصفات ، والحديث الذي نعتمد عليه في إثباتها حديث آحاد ، وهو حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيم يرويه عن ربه عز وجل .... وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " رواه مسلم ، وقد أفتت اللجنة الدائمة في المملكة بأنها من الصفات الثابتة لله تعالى ، ونحن نعلم معنى الهرولة في اللغة ، ولكننا نكل أمر كيفيتها لله تعالى .(1/206)
ومنها :- صفة البشبشة والبشاشة ، وهي من الصفات الفعلية الخبرية ، والتي سندها في إثباتها خبر الآحاد الصحيح ، فنؤمن أن لله تعالى بشبشة وبشاشة تليق بجلاله وعظمته على ما يريده الله تعالى فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما توطن رجل مسلم المسجد للصلاة والذكر ، إلا تبشبش الله له كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم" وهو حديث صحيح ، رواه أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي والألباني ، وهي وإن كانت خبر آحاد ، إلا أن المتقرر في قواعد أهل السنة أن خبر الآحاد حجة في الشرع عقيدة وعملا.
ومنها :- صفة الجمال لله تعالى ، فالله تعالى له الجمال المطلق التام الكامل ، في ذاته وفي أسمائه وفي أفعاله جل وعلا ، فكل شيء منه فهو جميل الجمال المطلق ، وهي من الصفات الذاتية لله تعالى التي لا تنفك عنه ، ودليلها الذي ورد بها نصا حديث آحاد ، وهو حديث ابن مسعود رضي الله عنه يرفعه للنبي صلى الله عليه وسلم " إن الله جميل يحب الجمال " رواه مسلم في الصحيح .
ومنها :- صفتا الحجزة والحقو ، وهما صفتان ذاتيتان لله تعالى على ما يليق بجلال الله تعالى وعظمته ودليلها ما رواه أحمد بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما " إن الرحم شجنة من الرحمن آخذة بحجزة الرحمن ، يصل من وصلها ، ويقطع من قطعها " وروى البخاري وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خلق الله الخلق ، فلما فرغ منه ، قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن ،فقال :- مه ، قالت :- هذا مقام العائذ بك من القطيعة ... الحديث " وقد مشى سلف الأمة وأئمتها على إثباتها وعلى الإنكار على من حرفها أو أولها ، أو أنكرها ، بل وصفه بعضهم بأنه جهمي ، ونحن نؤمن بها ، وإن كان دليلها خبر آحاد لأن خبر الآحاد حجة في باب المعتقد .(1/207)
ومنها :- صفة الساق ، فنحن معاشر أهل السنة والجماعة نؤمن إيمانا جازما ، بأن لله تعالى تليق بجلاله وعظمته ، لا تماثل ساق المخلوق ، والاتفاق في الاسم لا يستلزم الاتفاق في المسميات ودليل إثباتها السنة ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه - في الحديث الطويل - وفيه " فيكشف رب العزة عن ساقه ، فيسجد له كل مؤمن ... الحديث " متفق عليه واللفظ لمسلم ، ونحن نعلم أن الله تعالى قال في محكم كتابه " يوم يكشف عن ساق " ولكن قصدنا بإثبات هذا الفرع الرد على الذين يقولون :- إن الصحابة والسلف اختلفوا في تأويل هذه الآية ، فمنهم من فسرها بغير الساق التي هي صفة لله تعالى ، فأردت بذلك أن أثبت له أنه حتى وإن اختلفوا في هذه الآية إلا أنهم اتفقوا على إثبات الساق لله تعالى بهذا الحديث ، فإثبات الساق لم يختلف فيه السلف ، وإنما اختلفوا هل هذه الآية من جملة الأدلة على إثبات هذه الصفة أولا ؟ وعمدة الجميع في إثبات الساق هو هذا الحديث ، وهو خبر آحاد ، وخبر الآحاد حجة في باب المعتقد .
ومنها :- من الأسماء التي نثبتها لله تعالى اسم ( السيد ) فهو من جملة أسمائه تعالى ، ويتضمن صفة السيادة المطلقة ، مع أن هذا الاسم إنما ثبت لله تعالى بخبر آحاد ، فعن عبدالله بن الشخير رضي الله تعالى عنه قال :- انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا :- أنت سيدنا ، فقال " السيد الله تبارك وتعالى " رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني ، فهو وإن كان ثبوته بخبر آحاد والمسألة من مسائل العقيدة ، إلا أن الحق الذي لا نقبل النقاش فيه ، هو أن خبر الواحد حجة في باب المعتقد .(1/208)
ومنها :- من جملة الأسماء التي يثبتها أهل السنة والجماعة لله تعالى ، اسم ( الشافي ) ودليل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال :ــ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقية المريض " اللهم رب الناس ، اذهب البأس ، واشف أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقما " متفق عليه ، وخبر الواحد الصحيح حجة في باب المعتقد .
ومنها :- لقد قرر أهل السنة والجماعة رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم جواز إطلاق لفظ (الشخص) على الله تعالى ، كما ورد بذلك حديث سعد بن عبادة رضي الله عنه مرفوعا للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ولا شخص أغير من الله تعالى ، ولا شخص أحب إليه العذر من الله تعالى ، من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين ، ولا شخص أحب إليه المدحة من الله تعالى من أجل ذلك وعد الله الجنة " هذا لفظ مسلم، وهذا الإطلاق وإن كان في باب المعتقد وخبره خبر آحاد ، إلا أن خبر الواحد الصحيح حجة في باب المعتقد .
ومنها :- لقد قرر أهل السنة بالإجماع أن صفة الصورة ثابتة لله تعالى ، فلله تعالى صورة تليق به جل وعلا ، فهي أعظم الصور وأكبر الصور وأجمل الصور ،وهي من صفته الذاتية الخبرية ، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، قال :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ... فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون ، التي رأوه فيها أول مرة ، فيقول :- أنا ربكم ، فيقولون :- أنت ربنا " متفق عليه ، وفي الحديث الآخر " رأيت ربي في أحسن صورة " وهي وإن كان مستند ثبوتها أخبار آحاد إلا أن خبر الواحد الصحيح حجة في باب المعتق.(1/209)
ومنها :- ورد في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال " فوالله لا يمل الله حتى تملوا ... " ولمسلم " لا يسأم الله حتى تسأموا .. " قال الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية رحمه الله تعالى ( " فإن الله لا يمل حتى تملوا " من نصوص الصفات ، وهذا على وجه يليق بالباري ، لا نقص فيه ، كنصوص الاستهزاء والخداع فيما يتبادر ) وخبرها خبر آحاد ، ولكن خبر الآحاد حجة في باب المعتقد .
ومنها :- من الصفات التي نؤمن بها ونصف الله تعالى بها صفة الوتر ، فهو وتر- أي أحد- لا ثاني له ، لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ، ولا في أفعاله جل وعلا ، ففي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى ، قال :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لله تسعة وتسعون اسما ، من حفظها دخل الجنة ، وإن الله وتر يحب الوتر " متفق عليه ، وورد اسم الوتر أيضا في حديث علي بن أبي طالب عند أبي داود والترمذي بسند حسن ، فمع كونه خبر آحاد ، والمسألة عقدية ، إلا أن خبر الآحاد حجة في باب المعتقد ، فهذه بعض الفروع على ما أردنا إثباته هنا ، وأنت ترى أننا خصصنا الفروع بباب واحد من أبواب المعتقد فقط ، وهو باب الصفات والأسماء ، ولكن الحكم هنا عام ، فحديث الآحاد حجة في كل أبواب العقيدة ، ولكننا خصصنا الكلام هنا على باب الصفات لكثرة التأثير فيه ، والمهم أن تعتقد الاعتقاد الجازم الذي لا يخالطه مطلق الريب ولا مطلق الشك ، أن حديث الواحد الصحيح حجة في باب المعتقد ، فاجعل هذا أصلا من أصولك التي تدين الله تعالى بها ، وتحارب بها أهل البدع المتسلطين على عقيدة الأمة بالتحريف والتعطيل والجحد والتكذيب ،وفقنا الله وإياك للهدى ، وهو أعلى وأعلم .
س111) ما حكم خبر الآحاد إن كان في مسألة تعم بها البلوى ؟ فهل هو مقبول أو مردود ؟ وضح ذلك بالأدلة والفروع ؟(1/210)
ج) أقول وبالله تعالى التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون وحسن التحقيق :- المراد بعموم البلوى أي شدة الحاجة لمعرفة حكم هذا الشيء ، لكثرة وقوعه وتكرره ،إذا علمت هذا فاعلم :- إن المتقرر عندنا وعند جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة ، أن خبر الآحاد الصحيح حجة فيما تعم به البلوى ، لأن المهم عندنا إنما هو صحة السند إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا شأن لنا بشيء بعد ذلك ، فلا ننظر إلى نوع الواقعة أهي مما تعم بها البلوى أو لا تعم ، لا شأن لنا بذلك البتة ، وإنما الذي ننظر إليه هو :- هل صح الحديث الوارد في هذه المسألة أو لا ؟ فقط هذا هو همنا ، فإن كان صحيحا صريحا ولم ينسخ فوالله إنه على رؤوسنا وأعيننا وفي قلوبنا ، ولا نتعداه طرفة عين ، ولا نكدر صفو الاحتجاج به بشبه وخرافات لا طائل من ورائها ، ولا يجنى منها إلا تعطيل النصوص الواردة في هذه المسألة ، فلا يجوز لأحد كائنا من كان أن يهمل شيئا مما صح عنه صلى الله عليه وسلم بحجة أنه آحاد في قضية تعم بها البلوى ، فالسنة فوق الرأس ، وأما الآراء والمذاهب وأقوال الرجال فإنها تحت الحديث ، فهو الأصل وهي الفرع ، وهو السيد المطاع ، وهي التابعة وهو الميزان وهي الموزونة ،فإذا صح الحديث فهو المعتمد الذي لا يجوز تعديه ، بغض النظر عن نوع القضية التي ورد فيها ، وعلى هذا سار جماهير أهل العلم من الأصوليين والفقهاء ، بل لا يبعد إن قلنا :ــ هو إجماع السلف من الصحابة كلهم ، فإنهم كانوا عند اختلافهم في أمر ما ، يسألون عن الحديث ، فإن جاءهم الحديث وصح طريقه عندهم فإنهم يرفعون راية التسليم له ، ولا يعارضونه بقول ولا بفعل ، وهذا بالاستقراء التام المفيد للقطع ،والدليل على أن حديث الآحاد يقبل فيما تعم به البلوى عموم الأحاديث الواردة في حجية السنة ، وعموم الأحاديث الواردة في حجية خبر الآحاد ، فإنها بعمومها تدل على أن خبر الآحاد حجة مطلقا ، من غير تفصيل بين(1/211)
حادثة وحادثة ، وقد تقرر في الأصول :- أن ترك الاستفصال منزل منزلة العموم في المقال ، فمن فرق بين نازلة ونازلة ، فإنه مطالب بالدليل المثبت لصحة هذا التفريق ، فإن جاء به صحيحا صريحا فعلى العين والرأس ، وإلا فنحن نعتذر عن رد قوله ، ولا شأن لنا بأقوال خالفت المنصوص ، وقد تقرر في الأصول :- أن الأصل هو البقاء على العموم والإطلاق حتى يرد التخصيص والتقييد ، ورحم الله الأئمة الحنفية لما ردوا أحاديث كثيرة بحجة أنها أخبار آحاد في مسائل تعم بها البلوى ، وهذا من الرأي الذي خالفوا به النص ، رحمهم الله رحمة واسعة وغفر لهم هذه الهفوة ، ولكن لا شأن لنا بهم ولا بمذهبهم في هذه الجزئية لأنها مخالفة لمذهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومخالفة لما أوردناه من النصوص الكثيرة الدالة على حجية السنة عموما وعلى حجية خبر الواحد على وجه الخصوص ، وقد سقنا الأدلة بأسانيدها على هذه المسألة فلا داعي لإعادتها هنا ، فالحق الذي لا يجوز تعديه ، ولا يجوز القول بغيره هو أن خبر الآحاد معتمد فيما تعم به البلوى ، وقد أثر الخلاف في هذه المسألة في الفروع تأثيرا كبيرا ، ومن باب التوضيح نضرب لك بعض الأمثلة على ذلك :-(1/212)
فمنها :- ذهب الجمهور رحمهم الله تعالى إلى أن مس الذكر من نواقض الوضوء ، على خلاف بينهم في بعض تفاصيل الشروط التي يكون بها من جملة النواقض ، ولكن القول العام أنهم يقولون بأن مس الذكر من نواقض الوضوء ، واستدلوا على ذلك بحديث بسرة بيت صفوان رضي الله تعالى عنها ، قالت :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ " رواه الخمسة وهو حديث صحيح مليح ، وحديث أم حبيبة رضي الله عنها قالت :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من مس فرجه فليتوضأ " إسناده جيد إن شاء الله تعالى ، وحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء " رواه أحمد بسند جيد ، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيما رجل مس فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ " حديث حسن ، وغيرها من النصوص ، وهو الحق في هذه المسألة ، أن مس الذكر ناقض بشرطين :- أن يكون بشهوة ، وأن يكون بلا حائل ، وأما حديث طلق بن حبيب " لا إنما هو بضعة منك " فإنه محمول على المس بلا شهوة ، كما فصلنا القول فيه في غير هذا الموضع ولكن أبى الحنفية رحمهم الله ذلك وقالوا :- إن مس الذكر من المسائل التي تعم بها البلوى ، ولم ينقل فيه إلا أحاديث آحاد وخبر الواحد غير مقبول فيما تعم البلوى عندنا - كذا قالوا - عفا الله عنهم ، والحق ما قاله الجمهور ، وأما قول الحنفية هذا ، فإنه رأي واجتهاد في مقابلة النص ، وقد تقرر أنه لا اجتهاد مع النص ، وتقرر أن خبر الآحاد معتمد فيما تعم به البلوى .(1/213)
ومنها :- خلاف أهل العلم في ثبوت خيار المجلس ، فقد روى البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ" وحديث " البيعان بالخيار حتى يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما ، محقت بركة بيعهما " رواه مسلم وغيره ، فأبى قوم القول بثبوت خيار المجلس بحجج منها:- أنه خبر آحاد في قضية تعم بها البلوى ، قلنا :- بل هو مقبول معتمد ، وإن كان في قضية تعم بها البلوى ، لأن خبر الآحاد متعمد فيما تعم به البلوى ، وليس بعد ثبوت النص كلام لأحد كائنا من كان ، قال الحافظ ابن حجر في الفتح :- (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ هُوَ خَبَرُ وَاحِدٍ فَلَا يُعْمَلُ بِهِ إِلَّا فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ مَشْهُورٌ فَيُعْمَلُ بِهِ كَمَا اِدَّعَوْا نَظِير ذَلِكَ فِي خَبَرِ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ وَإِيجَاب الْوِتْر ) فالحق الحقيق بالقبول :- أن خيار المجلس ثابت في الشرع ، والله أعلم .(1/214)
ومنها :- اختلف أهل العلم في الوضوء مما مسته النار ، والحق في هذه المسألة هو أنه مستحب لأنه ثابت عنه صلى الله عليه وسلم الأمر به ، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " توضؤا مما مست النار " رواه مسلم ، وحديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " توضؤا مما مست النار " رواه مسلم ، وله عن زيد بن ثابت مثله ، ولكننا لم نقل بالوجوب هنا مع أنه أمر والأصل في الأمر الوجوب لأنه قد ورد الصارف ، وهو حديث ميمونة رضي الله عنها قالت :- أكل النبي صلى الله عليه وسلم من كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ " متفق عليه ، وحديث عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه قال:- رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة ، فأكل منها ، ثم دعي إلى الصلاة ، فقام وطرح السكين ، فصلى ولم يتوضأ " متفق عليه ، وحديث جابر رضي الله عنه قال :- أكلت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما خبزا ولحما ثم صلوا ولم يتوضئوا " رواه أحمد وحديث جابر الآخر " كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار " رواه أحمد وأبو داود ، أي ترك الوجوب لا ترك الاستحباب ، فالوجوب هو المنسوخ فقط ، وقد تقرر في القواعد أن الوجوب إذا نسخ ثبت الاستحباب ، ولكن أبى القول بذلك جمع من أهل العلم بحجة أنها أخبار آحاد في مسألة تعم بها البلوى ، فقلنا :- لا شأن لنا بهم ، وافقوا أم أبوا المهم عندنا صحة الحديث ، وقد صح ، وخبر الواحد معتمد عندنا فيما تعم به البلوى .(1/215)
ومنها :- القول الصحيح والرأي الراجح المليح هو مشروعية رفع اليدين في الصلاة في المواضع المنصوص عليها في حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، فقد روى البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ أَيْضًا وَقَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَكَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُود " وقال في صحيحه أيضا :- حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَكَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فأخذ بهذه السنة العظيمة في الصلاة جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى ، لصحة حديثها ، وأما الأئمة الحنفية فاقتصروا على أخذ الرفع في التكبيرة الأولى فقط ، أي تكبيرة الإحرام وأما ما عداها فلم يقولوا بها ، ولئن سألتهم ليقولن :- لأنها ثبتت بخبر آحاد ، وهي فيما يعم به البلوى ، فنقول :- بل المردود هو قولكم وليس حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحديث النبي صلى الله عليه وسلم على العين والرأس ، وأم قولكم فنحن نضعه جانبا لعدم موافقته للسنة والحق ما ذهب إليه الجمهور ، لا لأنهم الجمهور ، وإنما لأن قولهم وافق الدليل ، وهذه الأخبار وإن كانت أخبار آحاد ،(1/216)
إلا أن المعتمد عندنا هو أن أخبار الآحاد معتمدة فيما تعم بها البلوى .
ومنها :- القول الصحيح والرأي الراجح المليح هو مشروعية غسل اليدين ثلاثا بعد الاستيقاظ من نوم الليل الناقض للوضوء ، لقوله صلى الله عليه وسلم " وإذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده " متفق عليه ، وللدارقطني من حديث ابن عمر مثله ، فهذا الحديث يفيد مشروعية غسل اليدين ، وهل غسلها من باب الوجوب أو الاستحباب ؟ فيه خلاف ، ولكن أبي جمع من أهل العلم الأخذ بهذا الحديث ، فقالوا ، هو حديث آحاد في مسألة تعم بها البلوى ، فلا يقبل ، قلنا :- بل هو مقبول معتمد ، ولا عبرة بقول هذا الفريق الذين ردوا الحديث ، فإنه حديث صحيح صريح في مشروعية ذلك ، فلا داعي إلى تجاهله وتعديه واطراحه بلا مسوغ شرعي ولا برهان مرعي ، والآراء والاستحسانات السامجة الباردة التي ما أنزل الله تعالى من سلطان لا تعتبر ولا ينظر لها بعين القبول ، فالحق :- أن غسل اليدين بعد القيام من النوم مشروع ، والراجح أنه شرع إيجاب لأنه أمر والأمر عند الإطلاق يفيد الوجوب والراجح أنه مخصوص بنوم الليل لرواية " إذا قام أحدكم من الليل " وهي رواية ابن ماجه والترمذي ولأنه قال " أين باتت يده " والبيتوتة لا تكون إلا في الليل ، والراجح أن العلة تعبدية ، والراجح أن الماء لا يضره غمس اليد قبل الغسل ، لأن العلة هنا تعبدية ، والعلة التعبدية قاصرة ، والعلة القاصرة لا تتجاوز محلها ، والراجح أن غسلها يدخل مع غسل اليدين ثلاثا قبل الوضوء ، لكن بنية الواجب ، أو بنيتهما معا ، لأنه إذا اجتمع عبادتان من جنس واحد في وقت واحد فإن الصغرى تدخل في الكبرى ، والراجح أنه لا بد من النية لأنه عمل مأمور به في الشرع ، وقد تقرر أن النية شرط لصحة المأمورات ، والراجح أنه إن غفل عنه وتوضأ وصلى فإن صلاته صحيحة ، إذ ليس غسلهما بشرط في صحة الصلاة ، والله أعلم .(1/217)
ومنها :- لقد أختلف أهل العلم في أكل لحم الإبل هل هو من جملة نواقض الوضوء أم لا ؟ فذهب جمهور أهل العلم على أنه ليس بناقض ، وذهب الحنابلة إلى أنه من نواقض الوضوء ، ولا شك عندنا أن قول الحنابلة هو الأرجح ، بل هو الحق في هذه المسألة ، وذلك لحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه ، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال :- أنتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال :- " إن شئت توضأ ، وإن شئت فلا تتوضأ " قال :- أئتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال " نعم توضأ من لحوم الإبل " رواه مسلم ، وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال :- سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل ؟ فقال " توضؤا منها " وسئل عن الوضوء من لحم الغنم ؟ فقال " لا توضؤا منها" رواه أحمد وأبو داود ، وكذلك ورد ذلك في حديث ذي الغرة رواه عبدالله بن الإمام أحمد في زوائد المسند ، قال إسحاق بن راهويه :- صح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان ، حديث جابر وحديث البراء . ولكن أبى ذلك جمع من أهل العلم وهم الجمهور، وأجابوا عن الاستدلال بهذه الأدلة بعدة أجوبة، والذي يعنينا هنا هو أن بعض العلماء قال:- إن هذه الأخبار أخبار آحاد وأخبار الآحاد لا تقبل فيما تعم به البلوى، وهذا باطل لأن الحق أنها تقبل، وحيث صح الحديث فهو الحق الذي يجب قبوله واعتماده، فبما أن الأحاديث قد صحت فالحق هو أن أكل لحمها ناقض للوضوء، وقاعدتهم باطلة، وأما حديث جابر " كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار " فهو حديث عام وأحاديث الانتقاض بأكل لحم الإبل خاصة، وقد تقرر في الأصول:- أن الخاص مقدم على العام والله أعلم.(1/218)
ومنها :- الحق الحقيق بالقبول هو أن من أكل ناسيا في نهار رمضان فإنه لا شيء عليه، لحديث أبي هريرة عند البخار وغيره ، قال البخاري في صحيحه :- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إِذَا نَسِيَ فَأَكَلَ وَشَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ " وهذا حديث صريح في المراد ، وماذا نقول بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإلى ذلك ذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة ، ولكن أبى ذلك الحنفية فقال :- بل يفسد صومه ، وحديث أبي هريرة هذا لا نقبله لأنه حديث آحاد ، والمسألة مما تعم بها البلوى ، فإن النسيان صفة عامة في الناس ويتكرر كثيرا ، فكيف لا يرويه إلا الواحد، ونحن نقول :- بل إن العبرة هي صحة الحديث ، والحديث قد صح ، ولا عبرة بكون المسألة مما تعم بها البلوى أو لا تعم ، هذا شيء لا يكدر على صفو الاستدلال ، فالمهم صحة الخبر ، فحيث كان الخبر صحيحا صريحا فالحق أن من أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه ، والواجب على الحنفية رحمهم الله تعالى أن يرجعوا عن القول بالفساد, حتى وإن قال به أسلافهم ، فالحق أحق أن يتبع ، والله أعلم .(1/219)
ومنها :- لقد اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في مسألة اشتراط الولي في النكاح ، فذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه شرط في صحة النكاح ، فلا نكاح صحيح غلا بولي وخالف في ذلك الحنفية فلم يشترطوه ، والحق الحقيق بالقبول بلا أدنى شك هو قول الجمهور, لأنه المتفق مع الأدلة من الكتاب والسنة ، قال تعالى " وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ "والشاهد منه أنه نوع لفظة " تنكحوا " فقال في الأولى " تنكحوا " بفتح التاء ، لأن الخطاب للرجال ، والرجل له أن يزوج نفسه بنفسه ، وأما في حق المرأة فأنه قال " ولا تنكحوا " بضم التاء ، فمن المخاطب بإنكاح المرأة الآن ؟ إنه الولي ، لأنه لو كان الخطاب موجها لهن لقال "ولا تنكحن" لكنه خاطب الأولياء في نكاح المرأة مما يفيد أن المرأة ليس لها أن تتولى عقد نكاحها بنفسها ، بل لا بد من ولي يتولى ذلك ، يوضح ذلك قوله تعالى " فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف " فلو لم يكن للولي كلام في نكاح المرأة لما ناسب أن ينهاه عن العضل ، وكذلك قوله تعالى " وأنكحوا الأيامى مكنكم " والمخاطب هنا الولي ، وقال أبو داود في سننه :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ بْنِ أَعْيَنَ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ الْحَدَّادُ عَنْ يُونُسَ وَإِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ" والمنفي هنا(1/220)
حقيقة النكاح الشرعية على القول الصحيح ، وقال أبو داود في سننه أيضا :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَالْمَهْرُ لَهَا بِمَا أَصَابَ مِنْهَا فَإِنْ تَشَاجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ " وهو واضح الدلالة في المراد ، وقال ابن ماجه في سننه :- حَدَّثَنَا جَمِيلُ بْنُ الْحَسَنِ الْعَتَكِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ الْعُقَيْلِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا" وهو واضح الدلالة أيضا ، فهذه الأدلة صريحة في أن الولي شرط في صحة النكاح ولكن أبى ذلك الحنفية رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم وردهم إلى جادة الحق في هذه المسألة وأجابوا عن هذه الأدلة بأجوبة لا طائل من ورائها إلا رد الأدلة الثابتة ، فكان فيما قالوه :- إن النكاح كان من الأمور الكثيرة في عهده صلى الله عليه وسلم ومع كثرة وقوعه فلا بد أن يكثر السؤال عن تفاصيله ، ومع كثرة الجواب لا بد أن يكثر الناقلون ، والولي في النكاح له من الأهمية البالغة ما يجعل النبي صلى الله عليه وسلم ينبه عليه المرة بعد المرة ، ومع كثرة التنبيه فلا بد من أن يكثر الناقلون ، فكيف تكون الحال مع عموم البلوى بهذا الأمر أن لا ينقله إلا الواحد والاثنان فقط؟ هذه أخبار آحاد فيما تعم به(1/221)
البلوى ، فلا نقبلها ، كذا قالوا ، والحق أنها أخار مقبولة لأنها بلغت رتبة الاحتجاج ، ولا حق لهم في ردها ، والولي شرط في النكاح وإن أباه من أباه ، والمرأة إذا تجرأت وأنحكت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل ، ولا شان لنا بمن يشكك في صحة الحديث بعد تحقق ثبوته بمقتضى قواعد أهل العلم . والله أعلم .
ومنها :- من المسائل التي اختلف أهل العلم فيها مسألة غسل الكافر إذا أسلم ، فذهب الحنابلة ومع إلى القول بوجوبه ، وذهب الأكثر إلى أنه ليس بواجب بل هو مستحب فقط ، واستدل من قال بالوجوب بحديث قيس بن عاصم عندما قال :- فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم " اغتسل بماء وسدر " رواه الخمسة إلا ابن ماجه ، وهو حديث صحيح ، وعن أبي هريرة أن ثمامة بن أثال عندما أسلم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم " اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل " رواه أحمد ، وأصله في الصحيحين بدون الأمر بالغسل ، فقال الحنابلة :- يجب الغسل على الكافر إذا أسلم بناء على هذه الأحاديث ، وأجاب الآخرون بأجوبة ، والذي يخصنا منها ، هو قولهم :- إن هذه المسألة الكبيرة مما تعم بها البلوى ، فلو أن كل من أسلم أمر بالغسل لاشتهر ذلك وانتشر وصار من المعلوم من الدين بالضرورة ، فكيف لا يرويه والحالة هذه إلا الواحد أو الاثنان ؟ قال الحنابلة :- هذا ليس بشيء ، لأن العبرة عندنا إنما هي في صحة الخبر عن خير البشر ، وقد صحت هذه الأحاديث ، فحيث صحت فلا بد من اعتماد مدلولها ، بغض النظر عن نوعية هذه القضية وخبر الآحاد معتمد فيما تعم به البلوى ، قلت :- ولا ريب أن الحق مع الحنابلة ، وأن الراجح هو وجوب الغسل على الكافر إذا أسلم ، والله أعلم.(1/222)
ومنها :- أحاديث الجهر بالتسمية في الصلاة، إنما ردها الحنفية لأنها أخبار آحاد في مسألة تعم بها البلوى ، ونحن وإن كنا لا نقول بمشروعية الجهر بالبسملة إلا في بعض الأحايين لا سيما إن كان من باب التأليف ، إلا أننا لا نرد أحاديث الجهر بالبسملة لأنها أخبار آحاد فيما تعم به البلوى ، بل لأنها في ذاتها أخبار ضعيفة لا تصح ، والأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة فالسنة هو الإسرار بالبسملة لا الجهر بها ، وللإمام أن يجهر بها أحيانا لتحقيق مصلحة خالصة أو راجحة ، واختاره أبو العباس بن تيمية ، مع أنه يرى أن أحاديث الجهر بها كلها ضعيفة ، فمأخذ الحنفية رحمهم الله تعالى في رد أحاديث الجهر بالبسملة غير صحيح ، لأن خبر الآحاد معتمد فيما تعم به البلوى ، بحيث لو أن الأحاديث هنا صحت لقلنا بما دلت عليه ، لكنها لم تصح ، فلم نقل به ، والله ربنا أعلى وأعلم .
ومنها :- من العجائب التي تدل على ضعف قول الحنفية في هذا الأصل هو أنهم يقولون بأن القهقهة في الصلاة تبطل الوضوء ، مع أنه خبر آحاد فيما تعم به البلوى ، فإن نواقض الوضوء مما يفتقر المكلفون لمعرفته وبيانه البيان الكامل لتعلقه بالركن الثاني من أركان الإسلام وهي الصلاة وعلى ذلك قالوا به ، وأثبتوا ذلك من جملة نواقض الوضوء ، مع أن الخبر أصلا في ذاته ضعيف شديد الضعف ، ولا يصح في هذا الباب شيء أصلا ، بل كلها مرويات شديدة الضعف ، ومع ذلك قالوا به ، فانظر كيف التناقض ، والحق الحقيق بالقبول هو أن القهقهة في الصلاة أو خارج الصلاة ليست من مبطلات الطهارة ، لعدم الدليل الدال على ذلك ، ونواقض الوضوء توقيفية والعبادة المنعقدة بالدليل لا تنقض إلا بالدليل ، والأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ،والله أعلم .(1/223)
ومنها :- لقد أجمع أهل العلم أن الحرم المكي حرم ، أي يوصف بأنه حرم ، وأما المدين فقد اختلف أهل العلم فيها فذهب الجمهور إلى أنها حرم من عير إلى ثور ، واستدلوا على ذلك بما رواه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَحْوَلُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا لَا يُقْطَعُ شَجَرُهَا وَلَا يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ " وهو واضح الدلالة على المطلوب ، وقال في صحيحه أيضا :- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ غَيْرَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قَالَ فَأَخْرَجَهَا فَإِذَا فِيهَا أَشْيَاءُ مِنْ الْجِرَاحَاتِ وَأَسْنَانِ الْإِبِلِ قَالَ وَفِيهَا " الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ وَمَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ(1/224)
الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ " وهو واضح الدلالة أيضا ، ولكن أبى الحنفية ذلك ، لأنها أخبار آحاد فيما تعم به البلوى ، قلنا :- بئس المستند الذي هو أوهى من خيط العنكبوت, وعجبي لمن يجعل القاعدة التي اخترعها هي الحاكمة على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووالله أن هدم ألف قاعدة أحب إلينا من رد جزء من أجزاء نص واحد ، فكيف وقد رد الحنفية أحاديث كثيرة بسبب تصحيح تقعيدهم المخترع الذي هو في حقيقته مجرد رأي لا برهان يعضده ولا دليل ينصره ، تالله إن هذا لأعجب العجب ، وبما أن الأحاديث قد صحت في هذه المسألة فالحق الحقيق بالقبول هو أن في المدينة حرما ، وهذا الحرم من عير إلى ثور ، وهما جبلان خارج المدينة قديما وخبر الآحاد معتمد فيما تعم به البلوى ، والله أعلم ، .(1/225)
ومنها :- لقد رد الحنفية رحمهم الله تعالى حديث الحكم بن عمرو الغفاري في قوله :- نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة .. لأنه خبر آحاد فيما تعم به البلوى وهذا ليس بسديد ، بل الحديث حسن ، وسنده جيد ، ولا داعي لرده ، بل نقول :- إن النهي الوارد هنا ليس على بابه الذي هو التحريم ، وإنما يراد به نهي التنزيه والكراهة فقط ، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة رضي الله عنها ، رواه مسلم ، ولأصحاب السنن:- اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتوضأ منها أو يغتسل ، فقالت له :- يا رسول الله ، إني كنت جنبا ، فقال " إن الماء لا يجنب " وهو حديث صحيح ، وعند أحمد وابن ماجه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بفضل ميمونة رضي الله عنها ، فننزل هذه الأحاديث على الجواز ، وننزل حديث الحكم على الكراهة ، وبذلك تتآلف الأحاديث ، وعلى ذلك :- فالراجح في هذه المسألة هو أنه يجوز استعمال فضل طهور المرأة إلا أنه يكره كراهة تنزيهية مع وجود طهور غيره ، فإن لم يوجد إلا هو فإن الكراهة ترتفع ، لأن المتقرر أن الكراهة ترتفع عند الحاجة ، وعليه :- فلا داعي إلى رد حديث الحكم بم لا يسوغ أن ترد الأحاديث بمثله والله أعلم .(1/226)
ومنها :- القول الصحيح هو أن الأشياء التي تقطع الصلاة إذا لم يكن ثمة سترة بينك وبين القبلة إنما هي أربعة :- مرور المرأة ، والكلب الأسود والحمار ، وذلك لما رواه مسلم في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا إسماعيل ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ ح و حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا إسماعيل بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ يُونُسَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَإِنَّهُ يَسْتُرُهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ قُلْتُ يَا أَبَا ذَرٍّ مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْكَلْبِ الْأَحْمَرِ مِنْ الْكَلْبِ الْأَصْفَرِ قَالَ يَا ابْنَ أَخِي سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَأَلْتَنِي فَقَالَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ " ووجه الدلالة لا خفاء فيها ، والأمر الرابع :- مرور الشيطان إن علم بمروره وقدر على رده ، فلا بد من هذين الشرطين ، وبرهان ذلك ما رواه البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبُطَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي(1/227)
سُلَيْمَانَ رَبِّ{ هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي }فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا " واختار هذا القول ابن تيمية رحمه الله تعالى ، ولكن أبى جمع من أهل العلم ذلك ، وأجابوا عنه بأجوبة ، والمهم عندنا منها هو أن هذه الأخبار أخبار آحاد فيما تعم بها البلوى فلا تقبل ، وهذا باطل ، بل هي أخبار صحيحة فالواجب قبولها ، واعتماد مدلولها ، لأن المهم صحة الحديث وقد صح ، وأما حديث أبي سعيد مرفوعا " لا يقطع الصلاة شيء " فهو ضعيف ، وإن سلمنا صحته ، فهو عام وأحاديثنا خاصة ، وقد تقرر في الأصول :- أن العام يبنى على الخاص ، فالراجح هو ما ذكرته لك في أول المسألة ، والله أعلم .(1/228)
ومنها :- فإن قلت :- إنك في مناسبات كثيرة كنت تقول :- إنه لو كان مس المرأة ناقضا للوضوء مع كثرته وعموم البلوى به لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم بيانه بيانا عام يرتفع به الجهل به ، فها أنت هنا ترد قول من قال بنقض الوضوء من مس المرأة بسبب أنها مسألة تعم بها البلوى ، فكيف تقول في ذلك ؟ فأقول :- نعم ، نحن نقول بأن مس المرأة غير ناقض للوضوء مطلقا ، لا بشهوة ولا بغير شهوة ، إلا إن خرج من ذكره شيء فإن الخارج هذا هو الناقض للوضوء لا مجرد اللمس ، وذلك لأن هذه المسألة أصلا لم ينقل فيه شيء يصح الاعتماد عليه ولو بنقل الآحاد ، لكن ليس فيها أي شيء مما يعتمد عليه ، فإن الآية " أو لمستم " بينا في موضع آخر أنه يراد به الجماع ، وحديث معاذ " توضأ ثم صل " بينا في موضع آخر أنه حديث ضعيف لا تقوم به الحجة ، بل أوضحنا أن الأدلية الصحيحة إنما تدل على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء كما هو موضح في موضعه ، ولكننا نقول :- نقسم بالله تعالى أنه لو صح في نقض الوضوء بمس المرأة حديث آحادي واحد وكان صريحا في المراد فوالله لأقولن به ، ولا عبرة عندي بمن خالفه كائنا من كان ، ولكن هذه المسألة ليس فيها ولا نقل واحد يمكن أن يعتمد عليه في القول بالنقض ، والمسألة التي هي قاعدتنا الآن في تلك الفروع التي ثبتت فيها الأدلة ، وقيل بخلاف الدليل بحجة أنه نقل آحادي ، هذا ما نحن بصصد رده والمحاربته ، فلا تخلط بين الأمرين .والله أعلم .(1/229)
والفروع على هذه القاعدة كثيرة ، ولك لعل فيما ذكرناه كفاية لمعرفة الحق في هذه المسألة إن شاء الله تعالى والخلاصة :- أن تعلم أن المهم عندنا إنما هو صحة الحيث وكونه صريحا في المطلوب ، فإذا صح الحديث ولم ينسخ وكان صريحا في المراد فقل به ، واعتمده ولا تأبه بأحد ، وإياك أن ترد الأحاديث بحجة أنها أخبار آحاد فيما تعم به البلوى ، فإنها قاعدة باطلة ، وشبهة داحضة ، لا حظ لها من النظر ، نعم :- قد يكون لها وجه فيما لم ينقل فيه شيء أصلا ، وأما ما ثبت النقل فيه فالواجب القول بما دل عليه النقل ، ولا يجوز تعديه لقول أحد ولا لتقعيد أحد ، والله يتولانا وإياك لما فيه خير الدارين والله أعلى وأعلم .
س112) هل لا بد في الاحتجاج بالحديث أن يكون قد عمل به أحد ؟(1/230)
ج) أقول :- اعلم اولا ولله الحمد والمنة أنه ليس ثمة حديث صحيح من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد ثبت العمل به عن طائفة من الناس ، ولا يمكن أبدا أن تتفق الأمة على ترك نا هو ثابت في شرعها ، لأن هذا اتفاق على ضلالة ، والأمة لا تتفق على ضلالة ، هذا نقطع به كالقطع بأن إجماع الأمة الثابت حجة ، وما يدعيه البعض من أهل العلم من أن هذا الحديث أو ذاك الحديث لم يعمل به أحد ، فإنما هو مخبر عما انتهى إليه علمه ، ولا يمكنه القطع بذلك ، فهو نفي للعلم ونفي العلم بالشيء لا يلزم منه نفي الشيء ، أو نقول :- عدم العلم ليس علما بالعدم ، وعليه فالمسألة التي نحن بصددها لا وجود لها ، ولكنني حرصت على ذكرها ، لأن بعض أهل العلم يرى أن الحديث لا بد في الاحتجاج به أن يقع عليه عمل أحد من أهل العلم ، فأردنا إبطال هذه الدعوى ، وبيان أن الحديث حجة بنفسه ، ولا يفيده الحجية عمل أحد كائنا من كان ، بل هو حجة من حيث صدوره من شفتي النبي صلى الله عليه وسلم ، وحجيته صفة راسخة فيه وثابتة له بذاته ، أي لأنه حديث فهو حجة ، سواء عمل به أحد من أهل العلم أو لم يعمل به ، وبه تعلم أن قول بعضهم :- لو كان هذا الحديث حجة لعمل به فلان وفلان ، أنه كلام ساقط ، لا داعي له فإن الحديث الثابت حجة ولو لم يعمل به فلانكم هذا ، وعلى ذلك جميع النصوص الواردة في حجية السنة ، فإنها دلت على حجية السنة ، ولم يشرط لذلك أن يعمل به أحد ، والأصل عدم الاشتراط ، والأصل البقاء على العموم حتى يرد المخصص ، والأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل ، والأصل في الاشتراط الشرعي التوقيف ، ولأن قول فلان أو عمل فلان ، هو أصلا لا يكون حجة إلا إن كان متفقا مع دلالة الحديث ، فالحديث هو الميزان لعمل فلان وفلان ، لا العكس ، فالحديث حجة أصلا ، وعمل فلان وفلان ليس بحجة ، فكيف نجعل ما ليس بحجة دليلا على صلاحية العمل بما هو حجة أصلا ؟ هذا تناقض عجيب ، ولو لم(1/231)
يقل به بعض الفضلاء لما كنا نتصور أن يقول به أحد ، قال الإمام الألباني رحمه الله تعالى في كتابه تمام المنة ( القاعدة الرابعة عشرة وجوب العمل بالحديث الصحيح وإن لم يعمل به أحد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في رسالته " الشهيرة : " إن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قضى في الإبهام بخمس عشرة فلما وجد كتاب آل عمرو بن حزم وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل " صاروا إليه قال : ولم يقبلوا كتاب آل عمرو بن حزم - والله أعلم - حتى يثبت لهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى هذا الحديث دلالتان : إحداهما قبول الخبر والأخرى قبول الخبر في الوقت الذي يثبت فيه وإن لم يمض عمل أحد من الأئمة بمثل الخبر الذي قبلوا ودلالة على أنه لو مضى أيضا عمل من أحد من الأئمة ثم وجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرا يخالف عمله لترك عمله لخبر رسول الله ودلالة على أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده ) وهو كلام متين من عالم كرس كل حياته في نصر السنة وتمييز مقبولها من مردودها ، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة ، ومما يبين بطلان الدعوى التي يدعيها هؤلاء من أن الحديث ليس بحجة إلا أن يعمل به إمام من الأئمة أن عامة الأئمة الأربعة كانوا يوصون طلابهم ومن في عصرهم بأن أقوالهم وأعمالهم إنما تقبل إن وافقت الحديث ، وأن ما تعارض مع الحديث منها فحقه أن يرمى به عرض الحائط ، فقد صح عن ابي حنيفة انه قال إذا صح الحديث فهو مذهبي وقد حكى ذلك الإمام ابن عبد البر عن ابي حنيفة وغيره من الأئمة وأما الإمام مالك رحمه الله فقال إنما أنا بشر اخطئ وأصيب فانظروا في رأيى فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه وقد اشتهر عند المتأخرين قول الإمام مالك ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك الا النبي صلى الله عليه وسلم وقد(1/232)
صحح هذا القول عنه ابن عبد الهادي في ارشاد السالك ورواه ابن عبد البر في الجامع وابن حزم في اصول الأحكام من قول الحكم بن عتيبة ومجاهد وأورده السبكي في الفتاوي من قول ابن عباس متعجبا من حسنه ثم قال وأخذ هذه الكلمة من ابن عباس مجاهد واخذها منهما مالك واشتهرت عنه اهـ ثم أخذها عنهم الإمام أحمد بعد ذلك وأما الامام الشافعي رحمه الله فالنقول عنه في ذلك أكثر وأطيب وأتباعه أكثر عملا بها وأسعد فمنها ما روى الحاكم والبيهقي عنه أنه كان يقول إذا صح الحديث فهو مذهبي قال ابن حزم أي صح عنده أو عند غيره من الأئمة وفي رواية اخرى إذا رأيتم كلامي يخالف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعملوا بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم واضربوا بكلامي الحائط وروى عنه أنه قال إذا رأيتموني اقول قولا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فاعلموا أن عقلي قد ذهب وروى البيهقي عن الإمام احمد أنه كان إذا سئل عن مسألة يقول أو لأحد كلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يتبرأ كثيرا من رأى الرجال ويقول لا ترى احدا ينظر في كتب الرأي غالبا إلا وفي قلبه دخل وكان ولده عبد الله يقول سألت الإمام احمد عن الرجل يكون في بلد لا يجد فيها الا صاحب حديث لا يعرف صحيحه من سقيمه وصاحب رأى فمن يسأل منهما عن دينه فقال يسأل صاحب الحديث ولا يسأل صاحب الرأى ونقل ابن القيم عنه قوله لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث اخذوا ، ولغيرهم كلام كثير في مثل ذلك ، فإذا كان الأئمة الأربعة وغيرهم أصلا يقيسون أعمالهم وأقوالهم بموافقة الحديث ، فكيف يكون عملهم أو عمل أحدهم هو مقياس الاحتجاج بالحديث ؟ هذا لا يكون أبدا ، فمن قال بهذه المقولة الشنيعة فقد خالف مذهب أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم ، لأنهم جعلوا العمدة على الحديث ، وهذا البعض يجعل العمدة على موافقة الحديث لعمل أحد ، وعليه فالذي نقسم به ونباهل(1/233)
عليه هو أن الحديث الصحيح الذي لم ينسخ حجة بذاته وإن لم يوافقه عمل أحد من أهل العلم ، مع أن هذا لا يوجد ولله الحمد ، بحسب الاستقراء المفيد للقطع ، أنه لا يوجد حديث صحيح إلا وقد عمل بض الأمة به ، ومن باب التوضيح نضرب لك فروعا لما يدعى أنها أحاديث لم يقع عليها العمل ونبين الوجهة الصحيحة فيها إن شاء الله تعالى فأقول:-(1/234)
منها :- ما رواه أبو داود في سننه قال :- حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَنْطَاكِيُّ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِذَا سَكَرَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إِنْ سَكَرَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إِنْ سَكَرَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ الرَّابِعَةَ فَاقْتُلُوهُ " فقد ادعى الترمذي وجمع بأنه لم يقع على اهذ الحديث عمل الفقهاء والصحيح أنه حديث قد عمل به البعض ، وأفتوا به ، يكفيك أن منهم أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى ، فإنه يختار أن شارب الخمر في الرابعة يقتل ، وأن الحديث يحتج به ، وإن لم يقع عليه أكثر عمل الفقهاء ، لأن الحديث حجة بنفسه وإن لم يعمل به أحد ، وهو مذهب الظاهرية ودعوى النسخ لا تسمع ، لأن المتقرر أن الجمع إن أمكن فلا نسخ ، والجمع هنا أن يكون القتل في الرابعة خاضع انظر الإمام ، وقد نقل القاري عن القاضي عياض أنه لم يقل بمقتضى هذا الحديث إلا شرذمة قليلة ، أي أنه قد عمل به وأفتي به ، ووصف من عمل به بأنه شرذمة ليس كما ينبغي ، لأن الحق هو العمل بالحديث لا إلغاؤه ، لأن المتقرر أن إعمال الكلام أولى من إلغائه ، فرحم الله القاضي عياض والقاري على هذا الوصف ، ومال له الشوكاني في النيل ، وإن لم يصرح باختياره ، وأما ترك النبي صلى الله عليه القتل في الرابعة فإنه بيان أن القتل يرد إلى اجتهاد الإمام ، والمهم أن الحديث معمول به ، وإن سلمنا أنه لم يعمل به أحد فإنه حجة ، لأن الحديث حجة بنفسه وإن لم يقع عليه عمل أحد . والله أعلم .(1/235)
ومنها :- قال الألباني رحمه الله تعالى ( أخرج الطحاوي في " مشكل الآثار " و أبو يعلى في مسنده والسلفي في الطيوريات و ابن عساكر من طريق علي بن زيد بن جدعان عن أنس قال : مطرت السماء بردا فقال لنا أبو طلحة : ناولوني من هذا البرد ، فجعل يأكل و هو صائم و ذلك في رمضان ! فقلت : أتأكل البرد و أنت صائم ؟ فقال : إنما هو برد نزل من السماء نطهر به بطوننا و إنه ليس بطعام و لا بشراب ! فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فقال : "خذها عن عمك" قلت : و هذا سند ضعيف ، وعلي بن زيد بن جدعان ضعيف كما قال الحافظ في " التقريب " و قال شعبة بن الحجاج : حدثنا علي بن زيد و كان رفاعا يعني أنه كان يخطيء فيرفع الحديث الموقوف و هذا هو علة هذا الحديث ، فإن الثقات رووه عن أنس موقوفا على أبي طلحة خلافا لعلى بن زيد الذي رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخطأ ، فرفعه منكر ، فقد أخرجه أحمد وابن عساكر من طريق شعبة عن قتادة و حميد عن أنس قال : مطرنا بردا و أبو طلحة صائم فجعل يأكل منه ، قيل له : أتأكل و أنت صائم ؟ ! فقال : إنما هذا بركة ! و سنده صحيح على شرط الشيخين ، و صححه ابن حزم في " الإحكام " و أخرجه الطحاوي من طريق خالد بن قيس عن قتادة ، و من طريق حماد بن سلمة عن ثابت ، كلاهما عن أنس به نحوه ، و رواه البزار موقوفا و زاد : فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فكرهه ، و قال : إنه يقطع الظمأ ، قال البزار : لا نعلم هذا الفعل إلا عن أبي طلحة ، فثبت أن الحديث موقوف ليس فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، و إنما أخطأ في رفعه ابن جدعان كما جزم بذلك الطحاوي والحديث أورده الهيثمي في " المجمع " مرفوعا ثم قال : رواه أبو يعلى و فيه علي بن زيد و فيه كلام ، و قد وثق وبقية رجاله رجال الصحيح ، و أورده السيوطي في " ذيل الأحاديث الموضوعة " من رواية الديلمي بإسناد يقول فيه كل من رواته : أصم الله هاتين إن لم أكن سمعته من فلان(1/236)
ولكن ابن عراق في " تنزيه الشريعة " رد عليه حكمه عليه بالوضع ونقل عن الحافظ ابن حجر أنه قال في " المطالب العالية " : إسناده ضعيف ، ثم ختم ابن عراق كلامه بقوله : ولعل السيوطي إنما عنى أنه موضوع بهذه الزيادة من التسلسل لا مطلقا ، والله اعلم . قلت: و هذا الحديث الموقوف من الأدلة على بطلان الحديث المتقدم " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ، إذ لو صح هذا لكان الذي يأكل البرد في رمضان لايفطر اقتداء بأبي طلحة رضي الله عنه ، و هذا مما لا يقوله مسلم اليوم فيما أعتقد ) اهـ كلام الألباني رحمه الله تعالى ، وعلى ذلك نستخلص عدة فوائد :- الأولى :- أن أكل البرد لا يصح مرفوعا للنبي صلى الله عليه وسلم ، بل المرفوع قد حكم عليه جمع من أهل العلم بأنه موضوع ، وإنما يصح أكل البرد من فعل أبي طلحة وحده فقط ، فهو على ذلك يكون مذهب صحابي ، لا غير ، وعليه فلا يصح ذكر هذا الحديث في الأحاديث التي لم يعمل بها الفقهاء ، لأننا إنما نتكلم على تلك الأحاديث التي ثبتت صحتها وترك العمل بها ، وأما الأحاديث التي لا تصح فإن ترك العمل بها هو المتعين الثانية :- أن المتقرر في قواعد الأصول أن مذهب الصحابي ليس بحجة بالاتفاق إن خالف المنصوص في الكتاب أو صحيح السنة ، وفعل أبي طلحة قد خالف قول الله تعالى " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " وابتلاع البرد لا شك أنه يدخل في مسمى الأكل في اللغة والعرف ، بل وفي الشرع ، وقال عليه الصلاة والسلام "من أكل أو شرب ناسيا ...(1/237)
" الحديث ، فمفهومه أن من أكل أو شرب متعمدا فقد فسد صومه وفعل أبي طلحة هذا لا شك أنه أكل حال تعمد ، الثالث:- أن المتقرر في القواعد أن فعل الصحابي ليس بحجة إن خالفه صحابي آخر ، ولا نعلم أن أحدا من الصحابة قد وافق أبا طلحة في فعله هذا فلا يكون فعله هذا بحجة ، وعليه فالقول الصحيح بل الحق أن أكل البرد في نهار الصوم لا يجوز لأنه من جملة المفسدات ، ولا عبرة بفعل أبي طلحة رضي الله عنه لما ذكرته لك ، فأكل البرد شيء إنما ينسب لأبي طلحة لا لغيره من أهل العلم لا قديما ولا حديثا ، والله أعلم .(1/238)
ومنها :- ما رواه مسلم في الصحيح من حَدِيث اِبْن عَبَّاس : ( صَلَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْر وَالْعَصْر جَمِيعًا بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْر خَوْف وَلَا سَفَر ) وَقَالَ اِبْن عَبَّاس حِين سُئِلَ : لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ ؟ أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِج أَحَدًا مِنْ أُمَّته " فإن جمعا من أهل العلم قالوا :- وهذا الحديث لم يعمل به العلماء ، منهم الترمذي ، بل نقل رحمه الله تعالى إجماع الأمة على عدم العمل به ، قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي آخِر كِتَابه :( لَيْسَ فِي كِتَابِي حَدِيث أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى تَرْك الْعَمَل بِهِ إِلَّا حَدِيث اِبْن عَبَّاس فِي الْجَمْع بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْر خَوْف وَلَا مَطَر) اهـ أقول : وهذا الإطلاق فيه نظر ظاهر ، ونقل الإجماع فيه نوع مبالغة ، بل الخلاف عن أهل العلم في هذه المسألة مشهور معروف ، بل إن ابن عباس رضي الله عنهما فهم استمرار العمل به وذلك لأنه فسره بقوله ( أراد أن لا يحرج أمته ) وهذا دليل على أن لا يزال العمل عليه ، وأنه من جملة الأحاديث التي تتضمن رحمة الأمة برفع الحرج عنها ، وقد اختلف أهل العلم في تأويل الحديث إلى أقوال ، لكن منهم من قال بالعمل به على ظاهره ما لم يتخذ عادة ، قال الحافظ في الفتح ( وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ إِلَى الْأَخْذِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ ، فَجَوَّزُوا الْجَمْعَ فِي الْحَضَرِ لِلْحَاجَةِ مُطْلَقًا لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُتَّخَذَ ذَلِكَ عَادَةً وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ اِبْنُ سِيرِينَ وَرَبِيعَةُ وَأَشْهَبُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْقَفَّالُ الْكَبِيرُ وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ) وقال الحافظ ابن رجب في شرح البخاري عدة مسالك لتوجيه هذا الحديث فكان من المسالك التي ذكرها ما ذكره بقوله ( المسلك الثامن: حمل الحديث على ظاهره، وأنه يجوز الجمع بين(1/239)
الصلاتين في الحضر لغير عذر بالكلية، وحكي ذلك عن ابن عباس وابن سيرين، وعن أشهب صاحب مالك ) وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم على هذا الحديث ( وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّة إِلَى جَوَاز الْجَمْع فِي الْحَضَر لِلْحَاجَةِ لِمَنْ لَا يَتَّخِذهُ عَادَة ، وَهُوَ قَوْل اِبْن سِيرِينَ وَأَشْهَب مِنْ أَصْحَاب مَالِك ، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ الْقَفَّال وَالشَّاشِيّ الْكَبِير مِنْ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ عَنْ أَبِي إِسْحَاق الْمَرْوَزِيِّ عَنْ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَاب الْحَدِيث ، وَاخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر وَيُؤَيِّدهُ ظَاهِر قَوْل اِبْن عَبَّاس : أَرَادَ أَلَّا يُحْرِج أُمَّته ، فَلَمْ يُعَلِّلهُ بِمَرَضٍ وَلَا غَيْره وَاللَّهُ أَعْلَم .) وبه تعلم أن الفقهاء لم يجمعوا على ترك العمل به ، وقد ذكرت لك سابقا أنه لا يعرف أن الأمة أجمعت على ترك العمل بحديث ثبتت صحته ولم ينسخ ، فإن قلت :- فما الراجح عندك في حديث ابن عباس هذا ؟ فأقول :- الأقرب والله أعلم ، أن الحديث على ظاهره وهو جواز ذلك مع دعاء الحاجة وعلى ذلك نقرر قاعدة فقهية تقول ( الجمع رخصة عارضة ) فإذا احتاج الإنسان للجمع فله ذلك لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد به أن لا يحرج أمته ، وهذا لأن ابن عباس فسره بذلك وقد تقرر عندنا أن تفسير الراوي مقدم على غيره ما لم يخالف ظاهر الحديث ، والله أعلم .(1/240)
ومنها:- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ " رواه أبو داود وغيره ، قال الإمام الألباني ( وبالجملة فهذه خمسة طرق للحديث بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف منجبر فلا شك في صحة الحديث عندنا) وقد ساق ابن القيم رحمه الله تعالى لهذا الحديث طرقا كثيرة ثم قال بعد ذلك ( وهذه الطرق تدل على أن الحديث محفوظ ) ولكن قال بعض أهل العلم بأن العمل ليس على هذا الحديث، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ :( وَأَخْرَجَهُ فِي الْجَنَائِز وَقَالَ : هَذَا مَنْسُوخ ، وَقَالَ أَيْضًا : وَحَدِيث مُصْعَب فِيهِ خِصَال لَيْسَ الْعَمَل عَلَيْهِ ) وهذه الكلمة لا أدري ما الذي أوجبها ، فإن هذا الحديث قد ثبت به العمل وصححه جمع من الأئمة ، وأفتوا بمقتضاه ، وقد وصفهم ابن رشد في بدابة المجتهد فقال (المسألة السابعة: وقد شذ قوم فأوجبوا الوضوء من حمل الميت وفيه أثر ضعيف: من غسل ميتا، فليغتسل ومن حمله فليتوضأ) ووصفهم بالشذوذ فيه نظر كبير ، لأنهم إنما قالوا بمقتضى الحديث فهم على الأصل وغيرهم هو المحتاج لتبرير موقفه ، بل إن ممن عمل به جمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكفى بذلك حجة ، وبرهان ذلك ما رواه البيهقي في سننه الكبرى قال :- (وأخبرنا) أبو بكر الفقيه أنا علي بن عمر الحافظ ثنا ابن صاعد ثنا محمد بن عبد الله المخرمى ثنا أبو هشام المغيرة بن سلمة المخزومي ثنا وهيب ثنا عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل " فقوله " فمنا من يغتسل " دليل على أمرين :- الأول :- أن هذا الحديث من الأحاديث التي وقع عليه العمل ، فقول من قال :- ليس عليه العمل ، ليس بصحيح ، الثاني :- أن الأمر في قوله " فليغتسل " ليس على بابه الذي هو الوجوب ، وإنما يراد به الاستحباب ، واختاره الإمام الألباني رحمه الله تعالى ، واختار ابن حزم العمل(1/241)
بالحديث بل أفتى بأنه من الواجبات ، ونقله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقال الشوكاني في النيل تعليقا على هذا الحديث ومن قال به من أهل العلم ( وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ غَسْلِ الْمَيِّتِ وَالْوُضُوءِ عَلَى مَنْ حَمَلَهُ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَحَدِ قَوْلَيْ النَّاصِرِ وَالْإِمَامِيَّةِ أَنَّ مَنْ غَسَّلَ الْمَيِّتَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ لِهَذَا الْحَدِيثِ ) قلت :- وهو رواية في مذهب الإمام أحمد ، وأظنه القول القديم للشافعي ، ولعله أن يحرر ، ونقله ابن أبي شيبة في المصنف عن جمع من الصحابة والتابعين فقال في مصنفه :- حدثنا وكيع عن سعيد بن عبد العزيز عن مكحول قال سأل رجل حذيفة كيف أصنع قال اغسله كيت وكيت فإدا فرغت فاغتسل... وقال ابن شيبة أيضا:- حدثنا وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عامر عن الحارث عن علي قال من غسل ميتا فليغتسل... وقال أيضا:- حدثنا عبد الاعلى عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال من السنة أن من غسل ميتا اغتسل... وقال أيضا:- حدثنا شريك عن أبي إسحاق أن رجلين من أصحاب علي وأصحاب عبد الله غسلا ميتا فاغتسل الذي من أصحاب علي وتوضأ الذي من أصحاب عبد الله. ... وقال أيضا:- حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنه كان يقول من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ... وقال أيضا:- حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن أبي قلابة أنه كان إذا غسل ميتا اغتسل....(1/242)
والمهم أننا نريد أن نثبت أن جمعا من أهل العلم قد عملوا بهذا الحديث، وأنه حديث عليه العمل، وإن لم يقل به أكثر أهل العلم ، فإنك خبير بأن الكثرة والقلة ليست مما يعرف بها الحق من الباطل ولا الصواب من الخطأ وإما ذلك وقف على موافقة الدليل من عدم الموافقة ، فما وافق الدليل فهو الحق وإن كنت وحدك وما خالفه فهو الباطل وإن جرت على القول به أمم كثيرة ، فإن قلت :ــ وما الراجح عندك في هذه المسألة ؟ فأقول:- الراجح هو أن الاغتسال من تغسيل الميت من المندوبات لا من الواجبات المتحتمات ، فإن قلت :- وكيف تقول بالاستحباب والحديث خرج مخرج الأمر ، والأمر للوجوب؟ فأقول :- قلنا ذلك لوجود الصارف له عن الوجوب إلى الندب وهو أمران :- الأول:- قوله صلى لله عليه وسلم: " ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه، فإن ميتكم ليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم " أخرجه الحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس وقال الحاكم: " صحيح على شرط البخاري " ووافقه الذهبي! وإنما هو حسن الإسناد كما قال الحافظ في " التلخيص " لان فيه عمرو بن عمرو، وفيه كلام، وقد قال الذهبي نفسه في " الميزان " بعد أن ساق أقوال الائمة فيه: " حديثه صالح حسن " الثاني: قول ابن عمر رضي الله عنه " كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل " أخرجه الدار فطني والخطيب في تاريخه باسناد صحيح كما قال الحافظ ، وهذان الصارفان ذكرهما الإمام الألباني في أحكام الجنائز ، وهذا القول هو الراجح في المسألة .(1/243)
ومنها :- حديث أسماء بنت عميس قالت ( دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر فقال : ( لا تحدي بعد يومك هذا ) . أخرجه أحمد وصححه جمع من أهل العلم كابن حبان وبان التركماني والألباني ، بل الأمام أحمد من جملة من صححه ، وقد قال جمع من أهل العلم أنه هذا الحديث ليس عليه العمل ، كما قاله العراقي وغيره ، وذلك أن أسماء بنت عميس كانت زوجة لجعفر بن أبي طالب رصي الله عنه ، والزوجة لا بد وأن تحد على زوجها المتوفى أربعة أشهر وعشرا ، فكيف يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثة أيام أن تخرج من إحدادها ؟ ولذلك لما كان هذا الحديث مخالفا لما عليه النصوص الصحيحة الصريحة رفضه بعض أهل العلم فمنهم من حكم بضعفه ، ومنهم من جعله مخصوصا بجعفر دون غيره ، ومنهم من جعله من الأحاديث الشاذة التي خالفت الأحاديث الصحيحة ، ومنهم من جعله من قبيل المتشابه وقدم عليه المحكم ، وقال بعضهم :- إن جعفر قتل شهيدا والشهداء أحياء عند ربهم ، وهذا أضعف ما يكون من الأجوبة ،وقيل بل كانت حاملا فوضعت بعد وفاته بثلاثة أيام ، وقيل بل كان جعفر قد طلقها وانقضت عدتها قبل استشهاده ، ومنهم من حمله على ثلاثة أيام زائدة على الإحداد الأصلي ، أي أنها كانت قد اعتدت أربعة أشهر وعشرا ولكنها زادت عيها ثلاثة أيام مبالغة في الحزن فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وقيل غير ذلك ، وفي الحقيقة أن هذا الحديث أمره مشكل جدا والأقرب عندي والله ربنا أعلى وأعلم أنه حديث ضعيف لشذوذه ، ومخالفته للأحاديث الصحيحة القطيعة الثابتة في الصحيحين وغيرهما مما صح سنده وبانت دلالته ولم تضطرب ألفاظه ولم يطعن أحد من أهل العلم في سنده ، وذلك كالحديث المتفق عليه من رواية حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَتْ لَمَّا جَاءَ نَعْيُ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ الشَّأْمِ دَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا(1/244)
بِصُفْرَةٍ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَمَسَحَتْ عَارِضَيْهَا وَذِرَاعَيْهَا وَقَالَتْ إِنِّي كُنْتُ عَنْ هَذَا لَغَنِيَّةً لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا "فإنه نص صحيح صريح في المطلوب ، فأين خبر أسماء من هذا الخبر ؟ وقال البخاري في صحيحه :- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّهَا أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّيَ زَوْجُهَا فَخَشُوا عَلَى عَيْنَيْهَا فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنُوهُ فِي الْكُحْلِ فَقَالَ لَا تَكَحَّلْ قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِي شَرِّ أَحْلَاسِهَا أَوْ شَرِّ بَيْتِهَا فَإِذَا كَانَ حَوْلٌ فَمَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بِبَعَرَةٍ فَلَا حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَسَمِعْتُ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ تُحَدِّثُ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إِلَّا عَلَى زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا " وقال في صحيحه أيضا :- حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ(1/245)
فَإِنَّهَا لَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ " وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه :- و حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَمْرٌو النَّاقِدُ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى قَالَ يَحْيَى أَخْبَرَنَا وَقَالَ الْآخَرُونَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجِهَا" والأحاديث في ذلك كثيرة ، فتبين لك بذلك حديث أسماء بنت عميس هذا حديث شاذ وقد تقرر في قواعد التحديث أن الشاذ قسم من أقسام الضعيف ، وعلى ذلك فقد ترك الفقهاء العمل به لأنه ضعيف لا معول عليه ، وأنت خبير بأن من شروط الحديث الصحيح أن لا يكون شاذا ، فهذا الحديث ليس بصحيح لأنه شاذ ، بل وتكلم فيه جمع من أهل العلم كالدارقطني والبيهقي ، وابن حزم وغيرهم ، فهو دائر بين أن يكون منكرا أو شاذا ، فيكون من المنكر إن ثبت ضعفه لأن الضعيف إذا خالف الثقة فحديثه منكر ويكون شاذا إن ثبتت سلامة سنده ، لأن الثقة إن خالف من هو أوثق منه فحديثه شاذ ، كما هي الحال هنا ، وعلى ذلك فلا يكون هذا الحديث مما يصح أن يقال :- ترك الفقهاء العمل به مع صحته ، بل يقال :- ترك الفقهاء العمل به لأنه ضعيف شاذ ، ويؤيد ذلك :ــ أن المتقرر في القواعد أن المتشابه يرد إلى المحكم ، والأحاديث في تقدير مدة الإحداد بأربعة أشهر وعشرا صحيحة ثابتة محكمة ، وأما هذا الحديث فهو محتمل متشابه ، فلا بد أن يرد إلى المحكم ، كما شرحنا لك سابقا ، الثاني :- أن حديث أسماء هذا يرد عليه احتمالات قوية ، وقد تقرر في الأصول :- أن الدليل إن تطرق له الاحتمال القوي المقبول سقط به الاستدلال ، والله(1/246)
تعالى أعلم وأعلى .
ومنها :- ما ورد في المسح على النعلين ، فقد روى أبو داود في سننه قال :- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ وَعَبَّادُ بْنُ مُوسَى قَالَا حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ عَبَّادٌ قَالَ أَخْبَرَنِي أَوْسُ بْنُ أَبِي أَوْسٍ الثَّقَفِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ وَقَدَمَيْهِ وَقَالَ عَبَّادٌ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى كِظَامَةَ قَوْمٍ يَعْنِي الْمِيضَأَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ مُسَدَّدٌ الْمِيضَأَةَ وَالْكِظَامَةَ ثُمَّ اتَّفَقَا فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ وَقَدَمَيْهِ ...فأبى ذلك جمع كبير من أهل العلم ولم يعملوا به ، ولم يروه صحيحا ، قال ابن بطال ( وبترك المسح على النعلين قال أئمة الفتوى بالأمصار) وقال عطاء رحمه الله تعالى ( لم يبلغني عن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على نعليه) وأقول :- لا داعي للإطالة في هذا الفرع ، لأن كل الأحاديث التي ورد فيها مسح النعل لوحدها لا تصح من أساسها ، وحيث كانت ضعيفة فقد ترك العلماء القول به ، فلا نعلم قائلا به فيما نعلم والله أعلم .(1/247)
ومنها :- ما روي عن عمر رحمه الله أنه صلى المغرب فلم يقرأ فيها، فذكر ذلك له فقال: كيف كان الركوع والسجود قالوا: حسن، قال: لا بأس إذا، فقد ذكر مالك وغيره من أهل اعلم أن العمل ليس عليه ، قلت :- وهو الصحيح ، فإن قراءة الفاتحة في الصلاة ركن لحديث " لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب " وحديث " كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج غير تمام " رواه مسام ، وأما ما روي عن عمر هنا فيكفينا فيه قول القرطبي رحمه الله ( وأما ما روي عن عمر رحمه الله أنه صلى المغرب فلم يقرأ فيها، فذكر ذلك له فقال: كيف كان الركوع والسجود قالوا: حسن، قال: لا بأس إذا، فحديث منكر اللفظ منقطع الإسناد، لأنه يرويه إبراهيم بن الحارث التيمي عن عمر، ومرة يرويه إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عمر، وكلاهما منقطع لا حجة فيه) فالفقهاء تركوا العمل به لأنه لا يصح من أساسه ، والله أعلم .
ومنها :- ما رواه البيهقي من طريق الربيع بن سليمان عن الشافعي ثنا مالك عن نافع عن ابن عمر انه كان إذا اغتسل من الجنابة نضح في عينيه الماء ولكن ذكر أهل العلم أن العمل على غير هذا الحديث وأنه ليس من السنة النضح في العينين بعد الغسل ، وأما ما يروى عن ابن عمر فقد قال فيه مالك ( ليس عليه العمل ) و قال الشافعي (ليس عليه أن ينضح في عينيه لانهما ليستا ظاهرتين من بدنه ) قال البيهقي ( وقد روى مرفوعا ولا يصح سنده ) فالفقهاء رحمهم الله تعالى تركوا العمل به لأنه لا يصح ، والله أعلم .(1/248)
ومنها :- ما رواه مالك في الموطأ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَ يُوتِرُ بَعْدَ الْعَتَمَةِ بِوَاحِدَةٍ قَالَ مَالِك وَلَيْسَ عَلَى هَذَا الْعَمَلُ عِنْدَنَا وَلَكِنْ أَدْنَى الْوِتْرِ ثَلَاثٌ هكذا قال مالك رحمه الله تعالى ، فلم ير الاقتصار في صلاة الليل على ركعة واحدة ، بأن لا يصلي بعد العتمة إلا هي ،بل وكان ابن أشهب من المالكية يفتي بالإعادة عليه ، ما لم يصل الصبح ، والراجح في هذه المسألة أن الوتر بواحدة جائز ، ولا إعادة على فعله ، حتى لو اقتص في الليلة الكاملة على هذه الركعة فهي وتر صحيح لا شيء فيه ، ومن أفتى بالمنع فعليه الدليل ، وقد روى أبو داود في سننه قال :- حدثنا عبد الرحمن بن المبارك حدثني قريش بن حيان العجلي حدثنا بكر بن وائل عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الوتر حق على كل مسلم فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل " حديث صحيح ، وروى البخاري في صحيحه :- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ مَا تَرَى فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ قَالَ " مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ صَلَّى وَاحِدَةً فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلَّى وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ وِتْرًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهِ " وقد صح العمل به عن سعد بن أبي وقاص ، فالوتر بواحدة وتر صحيح شرعا على مقتضى ما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/249)
ومنها :- لقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الجنازة على القبر بعدما دفن فروى البخاري في الصحيح قال :- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ وَاقِدٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ امْرَأَةً أَوْ رَجُلًا كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ وَلَا أُرَاهُ إِلَّا امْرَأَةً فَذَكَرَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى قَبْرِهَا ، وقال النسائي في سننه :- أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ فِي حَدِيثِهِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ مِسْكِينَةً مَرِضَتْ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَرَضِهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُ الْمَسَاكِينَ وَيَسْأَلُ عَنْهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَاتَتْ فَآذِنُونِي فَأُخْرِجَ بِجَنَازَتِهَا لَيْلًا وَكَرِهُوا أَنْ يُوقِظُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِالَّذِي كَانَ مِنْهَا فَقَالَ أَلَمْ آمُرْكُمْ أَنْ تُؤْذِنُونِي بِهَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ لَيْلًا فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَفَّ بِالنَّاسِ عَلَى قَبْرِهَا وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ ، وقال البخاري في صحيحه :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنِي غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ الشَّيْبَانِيَّ قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ قَالَ أَخْبَرَنِي مَنْ مَرَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرٍ(1/250)
مَنْبُوذٍ فَأَمَّهُمْ وَصَفُّوا عَلَيْهِ فَقُلْتُ يَا أَبَا عَمْرٍو مَنْ حَدَّثَكَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وقال مسلم في الصحيح :- وحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ السَّامِيُّ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَبْرٍ والأحاديث في هذا المعنى كثيرة, ولكن العجب ممن يدعي أن العمل على غير هذه الأحاديث ، وأنها من جملة ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم ، قال ابن القاسم: قلت لمالك: فالحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه صلى على قبر امرأة؟ قال: قد جاء هذا الحديث ليس عليه العمل. وقال أبو الفرج: صلاة النبي على من دُفن خاص له، لا يجوز لغيره، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : « إن هذه القبور مملوءة ظلمة حتى أصلى عليها » .وكل ذلك مما لا طائل من ورائه ، بل القول الصحيح أن صلاته على القبر مما عليه العمل ، فقد اختارها جمع كبير من أهل العلم ، وأما دعوى الخصوصية له فقط ، فمما لا تقبل لأن المتقرر أن الأصل في الخصائص التوقيف ، إلا بدليل ، وتقرر أن كل حكم ثبت في حقه صلى الله عليه وسلم فهو له ولأمته تبعا إلا بدليل الاختصاص ، فهذه الأحاديث معمول بها ، ومفتى بها ومن أفتى بأن العمل ليس عليها فنقول :- بل العمل ليس على قولك ، غفر الله لك ورفع درجتك في الفردوس الأعلى ، ومن قال: بأنها للخصوصية فنقول له :- بل قولك هذا خاص بك ، غير مقبول ولا معمول به ، والله أعلم .(1/251)
ومنها :- حديث عمرو بن شعيب عن جده قال :- أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي يسأله عن الوضوء فأراه ثلاثا ثلاثا ، ثم قال " هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم " رواه أحمد والنسائي وابن ماجه ، وورد في رواية " أو نقص " وقال الحفظ ابن حجر فيها ( إسناده جيد ) ثم قال ( ولكن ْ عَدَّهُ مُسْلِم فِي جُمْلَة مَا أُنْكِرَ عَلَى عَمْرو بْن شُعَيْب لِأَنَّ ظَاهِره ذَمّ النَّقْص مِنْ الثَّلَاث ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَمْر سَيِّئ وَالْإِسَاءَة تَتَعَلَّق بِالنَّقْصِ ، وَالظُّلْم بِالزِّيَادَةِ . وَقِيلَ: فِيهِ حَذْف تَقْدِيره : مَنْ نَقَصَ مِنْ وَاحِدَة . وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ نُعَيْم بْن حَمَّاد مِنْ طَرِيق الْمُطَّلِب بْن حَنْطَب مَرْفُوعًا " الْوُضُوء مَرَّة وَمَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا، فَإِنْ نَقَصَ مِنْ وَاحِدَة أَوْ زَادَ عَلَى ثَلَاث فَقَدْ أَخْطَأَ " وَهُوَ مُرْسَل رِجَاله ثِقَات. وَأُجِيبَ عَنْ الْحَدِيث أَيْضًا بِأَنَّ الرُّوَاة لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى ذِكْر النَّقْص فِيهِ ، بَلْ أَكْثَرهمْ مُقْتَصِر عَلَى قَوْله : " فَمَنْ زَادَ " فَقَطْ ، كَذَا رَوَاهُ اِبْن خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحه وَغَيْره . وَمِنْ الْغَرَائِب مَا حَكَاهُ الشَّيْخ أَبُو حَامِد الْإسْفَرَايِينِيّ عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء أَنَّهُ لَا يَجُوز النَّقْص مِنْ الثَّلَاث، وَكَأَنَّهُ تَمَسَّكَ بِظَاهِرِ الْحَدِيث الْمَذْكُور ، وَهُوَ مَحْجُوج بِالْإِجْمَاعِ . وَأَمَّا قَوْل مَالِك فِي الْمُدَوَّنَة : لَا أُحِبّ الْوَاحِدَة إِلَّا مِنْ الْعَالِم ، فَلَيْسَ فِيهِ إِيجَاب زِيَادَة عَلَيْهَا . وَاَللَّه أَعْلَم .(1/252)
) اهـ ، قلت :- وهذه الزيادة منكرة ، لا تصح ، لأمور :- لأنها مخالفة للإجماع فقد حكى الإجماع على جواز الاقتصار على الثلاث جمع من أهل العلم كالزرقاني ، وقد نقل النووي إجماع العلماء على خلاف هذا الحديث ، وقال في عون المعبود ( وَأَجْمَعَ أَئِمَّةُ الْحَدِيث وَالْفِقْه عَلَى جَوَاز الِاقْتِصَار عَلَى وَاحِدَة ) ولأنها مخالفة للمعروف من حاله صلى الله عليه وسلم ، فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة " رواه البخاري ، وروى البخاري أيضا أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين " وروى البخاري أيضا من حديث عبدالله بن زيد رضي الله عنه صفة الوضوء عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث ثلاثا ، ثلاثا وقال " ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه مرتين إلى المرفقين " ولا جرم أن ما هذه الأحاديث لا تعارض بهذه الزيادة الضعيفة المنكرة ، وإن سلمنا أنها صحيحة فإنه يكون المراد بها :- أن من زاد عن الثلاث أو نقص عن الواحدة ، وهو وإن كان تأويلا بعيدا لكنه محتمل ، لوجوب الجمع بين ما صح من الأدلة ، لكنها أصلا زيادة لا تصح ، فلا نعمل بها لأنها ضعيفة. قال شارح سنن النسائي بعد ذكره لزيادة ( أو نقص ) قال :- ( وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ وَهْم لِجَوَازِ الْوُضُوء مَرَّة مَرَّة وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ) وقد أعلها إمام الحديث مسلم بن الحجاج بالنكارة ، وحكم عليها الألباني بأنها شاذة ضعيفة ، وعليه :- فأهل العلم إنما تركوها لأنها ضعيفة ، والضعيف لا يعمل به ، والله أعلم .(1/253)
ومنها :- ما رواه أبو داود في سننه قال :- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ حَدَّثَهُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّهُمْ تَمَسَّحُوا وَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّعِيدِ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ فَضَرَبُوا بِأَكُفِّهِمْ الصَّعِيدَ ثُمَّ مَسَحُوا وُجُوهَهُمْ مَسْحَةً وَاحِدَةً ثُمَّ عَادُوا فَضَرَبُوا بِأَكُفِّهِمْ الصَّعِيدَ مَرَّةً أُخْرَى فَمَسَحُوا بِأَيْدِيهِمْ كُلِّهَا إِلَى الْمَنَاكِبِ وَالْآبَاطِ مِنْ بُطُونِ أَيْدِيهِمْ. فهذا الحديث فيه أن المسح في التيمم يكون إلى الآباط ، ولكن قال الزهري :- ولا يعتبر الناس هذا ، أي لا يعتبرون بهذا الحديث ولا يعملون به ، قال في عون المعبود :- ولم يذهب أحد إلى التيمم إلى الآباط والمناكب ، اهـ فهذا حديث قد ترك الناس العمل به ، قلت :- نعم ، ولكن لا بد من تحرير النقل الذي ذكره صاحب المنتقى في شرح الموطأ فإنه قال ( وَأَمَّا الْيَدَانِ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِهِمَا فِي التَّيَمُّمِ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ حُكْمُهُمَا الْمَسْحُ إِلَى الْمَنَاكِبِ ) فإن ثبت ذلك فدعوى الإجماع على أنه لا قائل به لا تصح ، وحديث الباب حديث ضعيف مضطرب لا يصح ، قال الحافظ ابن رجب في شرح البخاري ( وقد اختلف في إسناده على الزهري : فقيل : عنه ، كما ذكرنا . وقيل : عنه ، عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة ، عن أبيه ، عن عمار ، كذا رواه عنه : مالك وابن عيينة ، وصحح قولهما أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان . وقيل : عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبدالله ، عن عمار مرسلا .وهذا حديث منكر جدا ، لم يزل العلماء ينكرونه ، وقد أنكره الزهري راويه ، وقال : هو لا يعتبر به الناس.(1/254)
ذكره الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما . وروي عن الزهري ، أنه امتنع أن يحدث به ، وقال : لم اسمعه إلا من عبيد الله . وروي عنه ، أنه قال : لا ادري ماهو ؟! . وروي عن مكحول ، أنه كان يغضب إذا حدث الزهري بهذا الحديث . وعن ابن عيينة ، أنه امتنع أن يحدث به ، وقال : ليس العمل عليه وسأل الإمام أحمد عنه ، فقال : ليس بشئ . وقال - أيضا - : اختلفوا في إسناده ، وكان الزهري يهابه . وقال : ما أرى العمل عليه ) قلت :- وقد ذكر الحافظ ابن رجب أنه لو صح لكان تأويله على وجهين :- فقال : (أحدهما : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم أصحابه التيمم على هذه الصفة ، وإنما فعلوه عند نزول الآية ؛ لظنهم أن اليد المطلقة تشمل اليدين والذراعين والمنكبين والعضدين ، ففعلوا ذلك احتياطا كما تمعك عمار بالأرض للجنابة ، وضن أن تيمم الجنب يعم البدن كله كالغسل ، ثم بين النبي - صلى الله عليه وسلم - التيمم بفعله وقوله : (( التيمم للوجه والكفين )) ، فرجع الصحابة كلهم إلى بيانه - صلى الله عليه وسلم - ، ومنهم عمار راوي الحديث ؛ فإنه أفتى أن التيمم ضربة للوجه والكفين كما رواه حصين ، عن أبي مالك ، عنه ، كما سبق . وهذا الجواب ذكره إسحاق بن راهويه وغيره من الأئمة .(1/255)
والثاني : ما قاله الشافعي ، وانه أن كان ذلك بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو منسوخ ؛ لان عمارا اخبر أن هذا أول تيمم كان حين نزلت أية التيمم ، فكل تيمم كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعده مخالف له ، فهو له ناسخ ) وقال ابن بطال ( وأما التيمم إلى المناكب، فالأمة في جميع الأمصار على خلافه ) قال الطحاوي: ( ولم يرو عن أحد من المتقدمين غير ابن شهاب ) قلت :- وَيُعَارِضُهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْك الْأَرْضَ ثُمَّ تَنْفُخَ ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَك وَكَفَّيْك ، وَفِي رِوَايَةٍ ثُمَّ ضَرَبَ بيديه الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ ، وَظَاهِرَ كَفِيهِ وَوَجْهَهُ ، وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عَمَّارٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي التَّيَمُّمِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ " وعلى القول بأنه حديث ضعيف فيكون من قبيل المنكر لأنه قد تقرر أن الضعيف إذا خالف الثقة فإن حديثه يوصف بالنكارة ، فنقول :- إن الفقهاء قد تركوا العمل به لأنه حديث ضعيف لا يصح ، ولكن إن سلمنا جدلا أنه حسن ، فالجواب عنه هو ما ذكره الحافظ ابن رجب ، من أنه إما أن يكون من قبيل المنسوخ ، لأن فعلهم هذا كان بعد نزول آية التيمم ، وإما أن يكون اجتهادا منهم فعل عن غير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما فعل عمار لما تمعك في الصعيد ، ثم أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالوجه الصحيح في صفته ، وإما أن يكون من قبيل الشاذ ، لأن الثقة إذا خالف من هو أوثق منه فحديثه شاذ ، والشاذ قسم من أقسام الضعيف ، لأن الأحاديث الصحيحة الصريحة في التيمم إنما فيها الاقتصار على مسح الكف فقط ، والله أعلم .(1/256)
ومنها :- ما رواه أبو داود في سننه قال :- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا قتادة عن خالد بن عرفطة عن حبيب بن سالم أن رجلا يقال له عبد الرحمن بن حنين وقع على جارية امرأته فرفع إلى النعمان بن بشير وهو أمير على الكوفة فقال لأقضين فيك بقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة وإن لم تكن أحلتها لك رجمتك بالحجارة فوجدوه قد أحلتها له فجلده مائة قال قتادة كتبت إلى حبيب بن سالم فكتب إلي بهذا .فقال بعض أهل العلم:- إن العمل ليس على هذا الحديث ، قال البخاري :- ( ولا يقول بهذا الخبر أحد من أصحابنا ) وقال البيهقي ( حصول الإجماع من فقهاء الأمصار بعد التابعين على ترك القول به دليل على إن ثبت صار منسوخا بما ورد من الأخبار في الحدود ) وقال الخطابي ( لا أعلم أحدا من الفقهاء يقول بهذا الحديث ) قلت :- ونحن لا نقول به ، لا لأن الفقهاء قد تركوا العمل به ، وإنما لأن الحديث ضعيف ، والحديث الضعيف لا يعمل به ، فجزى الله تعالى الفقهاء خير الجزاء لما تركوا العمل به فترك العمل به إنما هو نصر للسنة وحماية لجناب الشريعة ، والله أعلم .(1/257)
ومنها :- الأحاديث التي فيها جواز الأكل والشرب بعد أذان الفجر وطلوعه في حق الصائم ، فإنه قد وردت أحاديث تفيد أن من في يده شيء من الشراب فله أن يتمه ولو بعد طلوع الفجر ، فمن ذلك حديث :- أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا سمع النداء أحدكم والإناء في يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه " . رواه أبو داود ، وقد صححه الإمام الألباني رحمه الله تعالى في صحيح سنن أبي داود ، قلت :- وقد أخرجه الدارقطني والحاكم وأحمد في المسند بعدة أسانيد ، وابن جرير الطبري في التفسير وغيرهم من أهل الحديث ، وعلقه ابن حزم في المحلى ، والبيهقي في السنن ، وفي إسناده مقال ، والصحيح أنه موقوف على أبي هريرة وإن ثبتت صحته مرفوعا ، فالوجه فيه ما قاله صاحب عون المعبود نقلا عن أهل العلم فإنه قال :- ( هَذَا عَلَى قَوْله إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّن بِلَيْلِ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّن اِبْن أُمّ مَكْتُوم أَوْ يَكُون مَعْنَاهُ إِنْ سَمِعَ الْأَذَان وَهُوَ يَشُكّ فِي الصُّبْح مِثْل أَنْ يَكُون السَّمَاء مُتَغَيِّمَة فَلَا يَقَع لَهُ الْعِلْم بِأَذَانِهِ أَنَّ الْفَجْر قَدْ طَلَعَ لِعِلْمِهِ أَنَّ دَلَائِل الْفَجْر مَعْدُومَة وَلَوْ ظَهَرَتْ لِلْمُؤَذِّنِ لَظَهَرَتْ لَهُ أَيْضًا ، فَإِذَا عَلِمَ اِنْفِجَار الصُّبْح فَلَا حَاجَة إِلَى أَوَان الصَّبَاح أَذَان الصَّارِخ لِأَنَّهُ مَأْمُور بِأَنْ يُمْسِك عَنْ الطَّعَام وَالشَّرَاب إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْخَيْط الْأَبْيَض مِنْ الْخَيْط الْأَسْوَد مِنْ الْفَجْر اِنْتَهَى .(1/258)
قَالَ فِي فَتْح الْوَدُود : قَالَ الْبَيْهَقِيُّ إِنْ صَحَّ هَذَا يُحْمَل عِنْد الْجُمْهُور عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِين كَانَ الْمُنَادِي يُنَادِي قَبْل طُلُوع الْفَجْر بِحَيْثُ يَقَع شُرْبه قَبْل طُلُوع الْفَجْر قُلْت : مَنْ يَتَأَمَّل فِي هَذَا الْحَدِيث وَكَذَا حَدِيث " كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّن اِبْن أُمّ مَكْتُوم " فَإِنَّهُ لَا يُؤَذِّن حَتَّى يَطْلُع الْفَجْر ، وَكَذَا ظَاهِر قَوْله تَعَالَى { حَتَّى يَتَبَيَّن لَكُمْ الْخَيْط الْأَبْيَض مِنْ الْخَيْط الْأَسْوَد مِنْ الْفَجْر } يَرَى أَنَّ الْمَدَار هُوَ تَبَيُّن الْفَجْر وَهُوَ يَتَأَخَّر عَنْ أَوَائِل الْفَجْر بِشَيْءٍ ، وَالْمُؤَذِّن لِانْتِظَارِهِ يُصَادِف أَوَائِل الْفَجْر فَيَجُوز الشُّرْب حِينَئِذٍ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّن ، لَكِنَّ هَذَا خِلَاف الْمَشْهُور بَيْن الْعُلَمَاء فَلَا اِعْتِمَاد عَلَيْهِ عِنْدهمْ وَاللَّهُ أَعْلَم اِنْتَهَى .وَقَالَ فِي الْبَحْر الرَّائِق : اِخْتَلَفَ الْمَشَايِخ فِي أَنَّ الْعِبْرَة لِأَوَّلِ طُلُوعه أَوْ لِاسْتِطَارَتِهِ أَوْ لِانْتِشَارِهِ ، وَالظَّاهِر الْأَخِير لِتَعْرِيفِهِمْ الصَّادِق بِهِ . وَقَالَ عَلِيّ الْقَارِي : قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " حَتَّى يَقْضِي حَاجَته مِنْهُ " هَذَا إِذَا عَلِمَ أَوْ ظَنَّ عَدَم الطُّلُوع . وَقَالَ اِبْن الْمَلِك : هَذَا إِذَا لَمْ يَعْلَم طُلُوع الصُّبْح ، أَمَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ طَلَعَ أَوْ شَكَّ فِيهِ فَلَا .(1/259)
وَقَالَ الْقَارِي أَيْضًا : إِنَّ إِمْكَان سُرْعَة أَكْله وَشُرْبه لِتَقَارُبِ وَقْته وَاسْتِدْرَاك حَاجَته وَاسْتِشْرَاف نَفْسه وَقُوَّة نَهِمَته وَتَوَجُّه شَهْوَته بِجَمِيعِ هِمَّته مِمَّا يَكَاد يُخَاف عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ مُنِعَ مِنْهُ لَمَا اِمْتَنَعَ فَأَجَازَهُ الشَّارِع رَحْمَة عَلَيْهِ وَتَدْرِيجًا لَهُ بِالسُّلُوكِ وَالسَّيْر إِلَيْهِ ، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّل الْأَمْر اِنْتَهَى ) ومن هذه الأحاديث :- ما أخرجه ابن جرير في التفسير قال :- حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، قال :- سمعت أبي ، قال :- أخبرنا الحسين بن واقد (ح) وحدثنا ابن حميد قال حدثنا يحيى بن وضاح ، قال :- حدثنا الحسين ، قالا جميعا :- عن ابن غالب عن أبي أمامة رضي الله عنه قال :- أقيمت الصلاة والإناء في يد عمر رضي الله عنه ، قال :- أشربها يا رسول الله ؟ قال " نعم " فشربها ، قلت :- ولا يفرح بهذا الحديث ، فإنه حديث ضعيف لا تقوم به الحجة فأبو غالب :- صدوق يخطئ ، والحسين وإن كان ثقة فإن له أوهاما ، ثم هو مدلس ، على ما ذكره سبط ابن العجمي ، وقد عنعن وممن وصفه بالتدليس الإمام الدارقطني ، وحيث كان الحديث ضعيفا فلا يستفاد منه حكم شرعي ، لأن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ، والله أعلم .(1/260)
ومن هذه الأحاديث أيضا :- ما أخرجه أحمد في المسند من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير عن قال :- سألت جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن الرجل يريد الصوم والإناء في يده ليشرب منه فيسمع النداء ؟ قال جابر :ــ كنا نتحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ليشرب" وهو خبر ضعيف لأن مداره على ابن لهيعة ، قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب (صدوق من السابعة خلط بعد احتراق كتبه ورواية بن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما) وهذا الحديث إنما هو عنه من رواية موسى وتابعه الوليد بن مسلم ، فالحديث ليس له إلا طريق واحد هو عن ابن لهيعة ، وعليه فهو حديث ضعيف ، وحيث كان ضعيفا فإنه لا يستفاد منه حكم شرعي ، لأن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ، والله أعلم ، ومن هذه الأحاديث أيضا :- ما رواه الإمام أحمد في المسند من طريق أبي إسحاق السبيعي عن عبدالله بن معقل المزني ، عن بلال بن رباح ، رضي الله عنه ، قال :- أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أوذنه بالصلاة - أي بعدما أذن وقبل الإقامة - قال أبو أحمد :- وهو يريد الصوم ، فدعا بقدح فشرب وسقاني ، ثم خرج إلى المسجد للصلاة ، ... الحديث " قلت :- وأخرجه الطبراني في الكبير وابن جرير في التفسير ، وهو حديث ضعيف ، لأن فيه أبا إسحاق السبيعي ، وهو مدلس وقد عنعن وقد أختلط بأخرة ، وهو بهذا اللفظ إنما مداره على أبي إسحاق السبيعي ، وحيث كان السند ضعيفا لما ذكرته لك من العلة فلا يستفاد منه حكم شرعي ، لأن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأداة الصحيحة الصريحة ، والله أعلم .(1/261)
ومن هذه الأحاديث أيضا :- حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، قال :- كان علقمة بن علاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فقال " رويدا يا بلال ، ليتسحر علقمة " وقد أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده والطبراني وعبد بن حميد في مسنده ، كلهم من طريق قيس بن الربيع ، وهو حديث ضعيف ، لأن قيسا ضعيف فقد ضعفه وكيع وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان والترمذي ، والدارقطني ، وقال فيه يحيى بن معين :- ليس بشيء ، وقال النسائي :- متروك الحديث ، وحيث كان الحديث ضعيفا فلا يستفاد منه حكم شرعي ، لأن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ، ومن هذه الأحاديث أيضا :- ما رواه عبدالرزاق في المصنف عن ابن جريج عن يزيد بن أبي زياد مولى آل علي ،أن ناسا من ثقيف قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزلهم المقبرة ، وذلك في رمضان ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم بسحور بعد أذان بلال ، بعد طلوع الفجر وأسفر جدا ، وأكلوا وأكل معهم بلال ، ثم صاموا جميعا ، قلت :- وهذا الحديث حديث ضعيف لثلاث علل:- الأولى :- الإرسال ، لأن يزيد بن أبي زياد ، لم يلق أحد من الصحابة إلا أنس بن مالك ، وهو هنا يرفعه عن غيره ، فهو مرسل تابعي ، وقد تقرر في قواعد التحديث أن مرسل التابعي ضعيف ، الثانية :- أن يزيد بن أبي زياد أصلا فيه مقال ، والأكثر على تضعيفه ، قال فيه ابن معين :- لا يحتج بحديثه ، وقال مرة :- ليس بالقوي ، وقال أحمد بن حنبل :- لم يكن بالحافظ ، وقال أبو زرعة :ـ- لين ، يكتب حديثه ولا يحتج به ، وقال أبو حاتم :- ليس بالقوي ، وقال الجوزجاني :- سمعتهم يضعفون حديثه ، ومن كانت هذه حاله فإن حديثه ضعيف ، الثالثة :- فيه ابن جريج وهو مدلس ، وقد عنعن هنا ، وقد تقرر في قواعد التحديث أن رواية المدلس المعنعنة لا تقبل حتى يصرح بالتحديث ،وعليه فيكون الحديث ضعيفا ، فلا يستفاد منه حكم ، لأن الأحكام الشرعية(1/262)
تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ، ومن هد الأحاديث أيضا :- ما رواه عبدالرزاق في المصنف عن ابن جريج عن سعيد بن جهمان عن عبدالحميد بن عبدالرحمن بن يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا قتادة في حاجة له ، فجاءه بعدما أسفر جدا ، فقدم إليه النبي صلى الله عليه وسلم سحورا ، فقال :- أي رسول الله قد أصبحت ، فقال :- تسحروا ، وطبق النبي صلى الله عليه وسلم الباب حتى لا يتبين الإسفار ، فلما فرغ ، فإذا هو قد أسفر جدا ، وهذا الحديث حديث ضعيف لا تقوم به الحجة على مخالفة الأحاديث الصحيحة ، فإن فيه ابن جريج وقد عنعن ، ورواية المدلس لا تقبل إلا إن صرح بالتحديث ، ولينظر في عبدالحميد بن عبدالرحمن بن يزيد من هو ؟ وعلى كل حال ، فإن القرآن الكريم قد نص على أن للإنسان أن يأكل ويشرب حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر كما قال تعالى " أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ " وقال البخاري في صحيحه:- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا(1/263)
وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ثُمَّ قَالَ وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ " وقال في صحيحه أيضا :- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سَحُورِهِ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ أَوْ قَالَ يُنَادِي لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ وَيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ وَلَيْسَ الْفَجْرُ أَنْ يَقُولَ هَكَذَا وَجَمَعَ يَحْيَى كَفَّيْهِ حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا وَمَدَّ يَحْيَى إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ ، وقال مسلم في صحيحه :- و حَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَوَادَةَ الْقُشَيْرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يَغُرَّنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا بَيَاضُ الْأُفُقِ الْمُسْتَطِيلُ هَكَذَا حَتَّى يَسْتَطِيرَ هَكَذَا " وَحَكَاهُ حَمَّادٌ بِيَدَيْهِ قَالَ يَعْنِي مُعْتَرِضًا . فهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة هي التي عليها المعتمد في تفسير الآية ، وأما ما عداها مما ذكرناه سابقا من الأحاديث فلا تأبه بها ، لأنها إما صحيحة غير صريحة أو صريحة غير صحيحة ، ولا أقل من أن تكون من قبيل المتشابه الذي لا بد فيه من أن يرد إلى المحكم الواضح ، وعليه :- فالقول الصحيح والرأي الراجح المليح في هذه المسألة أنه لا يجوز لمن علم بأن الفجر قد طلع أن يأكل شيئا أو يشرب شيئا ، والله أعلى وأعلم .(1/264)
والمسألة تطول ، ولعل فيما كفاية وهداية إن شاء الله تعالى ، والخلاصة :- أن خبر الواحد الصحيح الذي لم ينسخ يجب العمل به ، ولا يجوز تخطيه إلى غيره وإن لم يقل به أحد من أهل العلم إلا قليلا ، فالحق مع ها القليل ، لموافقته للسنة ، فالحديث حجة بنفسه ، ولا يستفيد حجيته من قول أحد أو عمل أحد ، فانتبه لهذه المسألة ، فإنها مهمة ، فإنها من جملة تعظيم الحديث ، وتعظيمه من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ، وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم من تعظيم الله جل وعلا وتعظيم الله تعالى وتعظيم شعائره دليل على تقوى القلوب ، واحذر يا أخي من رد الحديث بعد ثبوته ، ولا يهولنك كثرة المخالفين له ، ولا قلة العاملين به ، فالحق ما وافق الحديث ، وإن كنت لوحدك ، فلا تستوحش من قلة السالكين واعتصم بالكتاب والسنة لعلك تكون ممن فاز ونجا وأفلح ونجح في الآخرة ، والله ربنا أعلى وأعلم.
س113) ما الحكم في تلك الأحاديث التي يدعى أنها معارضة لما عليه عمل أهل المدينة ؟ مع بيان ذلك ببعض الأمثلة ؟(1/265)
ج) أقول :- هذا فرع عن الذي قبله ، وهو أننا إن قلنا :- إنه يجب العمل بالحديث الصحيح وإن خالفه من خالفه من أهل العلم ، فإننا نقول هنا :- إن عمل أهل المدينة بخلاف الحديث ليس يعيب الحديث في شيء ، بل إنه يعيب عمل أهل المدينة ، لأن المدحة إنما هي موافقة الحديث لا في مخالفته فإنه ليس في مخالفته إلا الذم والشين والقبح ، فجمال قول العالم موافقته للنصوص الصحيحة الصريحة ، والحق ما وافق السنة ، فإن عمل أهل المدينة بخلاف الحديث فعملهم لهم ، واجتهادهم لا شأن لنا به ، والله يفغر لهم ويتجاوز عنهم ، وأما السنة الصحيحة فلسنا ندعها لأحد ، بل أقوال العلماء هي الخاضعة للرد والقبول ، وأما السنة الصحيحة فليست خاضعة لقول أحد ولا لعمل أحد هكذا تعلمنا ، وهكذا ربانا علماؤنا ومشائخنا ، بل ورثنا هذا الأمر عن أهل السنة ، وأهل الحديث لهم السبق والقدر المعلى في تربية الأمة على تعظيم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاللهم اجز أهل الحديث خير الجزاء واغفر لهم كلهم ، وارفع منازلهم فوق المنازل ، كما رفعوا سنتك على كل قول ، فعمل أهل المدينة بخلاف الحديث لا يؤثر في حجية الحديث ، وعلى أهل المدينة أن يرجعوا عن قولهم المخالف للحديث إلى حياض السنة ، فكل يؤخذ من قوله ويترك إلا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يؤخذ ما صح وثبت عنه كله ، ولا يترك منه شيء ، ولا حرفا واحدا هذا ما ندين الله تعالى به ، والدليل على ذلك كل الأحاديث التي قدمتها في الاحتجاج بخبر الواحد فإنها أحاديث مطلقة في وجوب قبول خبر الآحاد ، من غير اشتراط موافقة لعمل أهل المدينة أو مخالفتهم ، ومن اشترط ذلك فعليه الدليل ، ثم إن أهل المدينة شأنهم شأن سائر أهل العلم ، والأمكنة لا تعظم أصحابها ، إنما يعظم الناس بموافقة الحق والتقوى للرب جل وعلا ، ثم إنه قد علم من بعض عمل أهل المدينة المخالفة الصريحة لبعض الأحاديث الصحيحة الصريحة ، وعلى كل حال :- فإن(1/266)
الحديث حجة بنفسه ، وإن خالفه عمل أهل المدينة ،قال ابن القيم رحمه الله تعالى في عمل أهل المدينة كلاما جميلا أحببت نقله ولو كان طويلا لأنه يميط عن وجه الحق اللثام في هذه المسألة قال رحمه الله تعالى إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج 3 / ص 78)[ الْكَلَامُ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ] : قُلْت : وَهَذَا أَصْلٌ قَدْ نَازَعَهُمْ فِيهِ الْجُمْهُورُ ، وَقَالُوا : عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَعَمَلِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ عَمَلِهِمْ وَعَمَلِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ ؛ فَمَنْ كَانَتْ السُّنَّةُ مَعَهُمْ فَهُمْ أَهْلُ الْعَمَلِ الْمُتَّبَعِ ، وَإِذَا اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ عَمَلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ ، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ ، وَلَا تُتْرَكُ السُّنَّةُ لِكَوْنِ عَمَلِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى خِلَافِهَا أَوْ عَمِلَ بِهَا غَيْرُهُمْ وَلَوْ سَاغَ تَرْكُ السُّنَّةِ لِعَمَلِ بَعْضِ الْأُمَّةِ عَلَى خِلَافِهَا لَتُرِكَتْ السُّنَنُ وَصَارَتْ تَبَعًا لِغَيْرِهَا ؛ فَإِنْ عَمِلَ بِهَا ذَلِكَ الْغَيْرُ عَمِلَ بِهَا وَإِلَّا فَلَا ، وَالسُّنَّةُ هِيَ الْعِيَارُ عَلَى الْعَمَلِ ، وَلَيْسَ الْعَمَلُ عِيَارًا عَلَى السُّنَّةِ وَلَمْ تُضْمَنْ لَنَا الْعِصْمَةُ قَطُّ فِي عَمَلِ مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ دُونَ سَائِرِهَا ، وَالْجُدْرَانُ وَالْمَسَاكِنُ وَالْبِقَاعُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي تَرْجِيحِ الْأَقْوَالِ ، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ لِأَهْلِهَا وَسُكَّانِهَا .(1/267)
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ ، وَعَرَفُوا التَّأْوِيلَ ، وَظَفِرُوا مِنْ الْعِلْمِ بِمَا لَمْ يَظْفَرْ بِهِ مَنْ بَعْدَهُمْ فَهُمْ الْمُقَدَّمُونَ فِي الْعِلْمِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ، كَمَا هُمْ الْمُقَدَّمُونَ فِي الْفَضْلِ وَالدِّينِ ، وَعَمَلُهُمْ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي لَا يُخَالَفُ ، وَقَدْ انْتَقَلَ أَكْثَرُهُمْ عَنْ الْمَدِينَةِ ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْأَمْصَارِ ، بَلْ أَكْثَرُ عُلَمَائِهِمْ صَارُوا إلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ مِثْلَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَأَبِي مُوسَى وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، وَانْتَقَلَ إلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ نَحْوُ ثَلَاثِمِائَةٍ صَحَابِيٍّ وَنَيِّفٍ ، وَإِلَى الشَّامِ وَمِصْرَ نَحْوُهُمْ فَكَيْفَ يَكُونُ عَمَلُ هَؤُلَاءِ مُعْتَبَرًا مَا دَامُوا فِي الْمَدِينَةِ ، فَإِذَا خَالَفُوا غَيْرَهُمْ لَمْ يَكُنْ عَمَلُ مَنْ خَالَفُوهُ مُعْتَبَرًا ، فَإِذَا فَارَقُوا جُدْرَانَ الْمَدِينَةِ كَانَ عَمَلُ مَنْ بَقِيَ فِيهَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ ، وَلَمْ يَكُنْ خِلَافُ مَا انْتَقَلَ عَنْهَا مُعْتَبَرًا ؟ ، هَذَا مِنْ الْمُمْتَنِعِ .(1/268)
وَلَيْسَ جَعْلُ عَمَلِ الْبَاقِينَ مُعْتَبَرًا أَوْلَى مِنْ جَعْلِ عَمَلِ الْمُفَارِقِينَ مُعْتَبَرًا ؛ فَإِنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ ، فَمَنْ كَانَتْ السُّنَّةُ مَعَهُ فَعَمَلُهُ هُوَ الْعَمَلُ الْمُعْتَبَرُ حَقًّا ، فَكَيْفَ تُتْرَكُ السُّنَّةُ الْمَعْصُومَةُ لِعَمَلٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ ؟ ثُمَّ يُقَالُ : أَرَأَيْتُمْ لَوْ اسْتَمَرَّ عَمَلُ أَهْلِ مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ الَّتِي انْتَقَلَ إلَيْهَا الصَّحَابَةُ عَلَى مَا أَدَّاهُ إلَيْهِمْ مَنْ صَارَ إلَيْهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ ، مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُسْتَمِرُّ عَلَى مَا أَدَّاهُ إلَيْهِمْ مَنْ بِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَالْعَمَلُ إنَّمَا اسْتَنَدَ إلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِهِ ؟ فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ وَفِعْلُهُ الَّذِي أَدَّاهُ مَنْ بِالْمَدِينَةِ مُوجِبًا لِلْعَمَلِ دُونَ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ الَّذِي أَدَّاهُ غَيْرُهُمْ ؟ هَذَا إذَا كَانَ النَّصُّ مَعَ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ مَعَ غَيْرِهِمْ النَّصُّ ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ نَصٌّ يُعَارِضُهُ ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ إلَّا مُجَرَّدُ الْعَمَلِ ؟ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَمَلَ لَا يُقَابِلُ النَّصَّ ، بَلْ يُقَابَلُ الْعَمَلُ بِالْعَمَلِ ، وَيَسْلَمُ النَّصُّ عَنْ الْمُعَارِضِ .(1/269)
وَأَيْضًا فَنَقُولُ : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ مُفَارَقَةِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ لَهَا سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكُونُ عِلْمُهَا عِنْدَ مَنْ فَارَقَهَا أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ " لَا يَجُوزُ " أَبْطَلْتُمْ أَكْثَرَ السُّنَنِ الَّتِي لَمْ يَرْوِهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَهْلِ بَيْتِ عَلِيٍّ عَنْهُ ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَصْحَابِ مُعَاذٍ عَنْهُ ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَصْحَابِ أَبِي مُوسَى عَنْهُ ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَصْحَابِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَمُعَاوِيَةَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَضْعَافِ هَؤُلَاءِ ، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَإِنْ قُلْتُمْ " يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ بَقِيَ فِي الْمَدِينَةِ بَعْضُ السُّنَنِ وَيَكُونُ عِلْمُهَا عِنْدَ غَيْرِهِمْ " فَكَيْفَ تُتْرَكُ السُّنَنُ لِعَمَلِ مَنْ قَدْ اعْتَرَفْتُمْ بِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ تَخْفَى عَلَيْهِمْ ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إذَا كَتَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْأَعْرَابِ بِسُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمِلَ بِهَا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْمُولًا بِهَا بِالْمَدِينَةِ ، كَمَا كَتَبَ إلَيْهِ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا } فَقَضَى بِهِ عُمَرُ, وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ الَّتِي لَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَوْ جَاءَ مَنْ رَوَاهَا إلَى الْمَدِينَةِ وَعَمِلَ بِهَا(1/270)
لَمْ يَكُنْ عَمَلُ مَنْ خَالَفَهُ حُجَّةً عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ تَبَعًا لِلْمَدِينَةِ فِيمَا يَعْمَلُونَ بِهِ ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ مُخَالَفَتُهُمْ فِي شَيْءٍ ، فَإِنَّ عَمَلَهُمْ إذَا قُدِّمَ عَلَى السُّنَّةِ فَلَأَنْ يُقَدَّمَ عَلَى عَمَلِ غَيْرِهِمْ أَوْلَى ، وَإِنْ قِيلَ إنَّ عَمَلَهُمْ نَفْسَهُ سُنَّةٌ لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُمْ ، وَلَكِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَهْلَ الْأَمْصَارِ أَنْ لَا يَعْمَلُوا بِمَا عَرَفُوهُ مِنْ السُّنَّةِ وَعِلْمُهُمْ إيَّاهُ الصَّحَابَةُ إذَا خَالَفَ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَأَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ إلَّا بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، بَلْ مَالِكٌ نَفْسُهُ مَنَعَ الرَّشِيدَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ عَزَمَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ لَهُ : قَدْ تَفَرَّقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبِلَادِ ، وَصَارَ عِنْدَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَيْسَ عِنْدَهُ حُجَّةً لَازِمَةً لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِمَا رَأَى عَلَيْهِ الْعَمَلَ ، وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ فِي مُوَطَّئِهِ وَلَا غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِغَيْرِهِ ، بَلْ يُخْبِرُ إخْبَارًا مُجَرَّدًا أَنَّ هَذَا عَمَلُ أَهْلِ بَلَدِهِ ؛ فَإِنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَزَاهُ عَنْ الْإِسْلَامِ خَيْرًا ادَّعَى إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي نَيِّفٍ وَأَرْبَعِينَ مَسْأَلَةٍ ) اهـ كلامه رحمه الله تعالى .(1/271)
وعلى ذلك نضرب لك بعض الأمثلة فنقول وبالله تعالى التوفيق ومنه نستمد العون والفضل :-
منها :- أنه قد دلت الأدلة الصحيحة الصريحة على أن لفظ ( قد قامت الصلاة ) يقال مرتين في الإقامة ، كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال :ـ- أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ، إلا الإقامة " متفق عليه ، يعني إلا قد قامت الصلاة ، وفي حديث عبدالله بن زيد بن عبد ربه - وذكر ألفاظ الأذان - ثم قال :- ثم استأخر غير بعيد فقال :- ثم تقول إذا أقمت :- الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله "وهو حديث صحيح صريح في أن لفظ الإقامة يقال مرتين ، وفيها أحاديث غير هذين ، ولكن أبى المالكية ذلك فذهب مالك كما في ( المدونة ) إلى أن الإقامة عشر كلمات فلم يثن لفظ : ( قد قامت الصلاة ) وهو قول قديم للشافعي كما قال النووي ولم أجد لهذا القول سندا من الروايات بل كلها على خلافه لأنها تقول بتثنية الإقامة ولعل من أخذ به رأى أنه عمل أهل المدينة وعلى هذا يدل كلام ابن حزم ثم رأيت مالكا صرح بذلك في الموطأ، فتركت السنة الصحيحة لأنها خالفت عمل أهل المدينة ، وهذا ليس بحق ، بل الحق أن السنة الصحيحة هي الحاكمة على عمل أهل المدينة وغير أهل المدينة ، والحق في هذه المسألة هو أن السنة في لفظ ( قد قامت الصلاة ) هو التثنية ، كما قضت بذلك السنة الصحيحة ، ويعجبني الحافظ ابن حجر لما في الفتح ( فَإِنَّ اِحْتَجَّ بِعَمَلِ أَهْل الْمَدِينَة عُورِضَ بِعَمَلِ أَهْل مَكَّة وَمَعَهُمْ الْحَدِيث الصَّحِيح ) والله أعلم .(1/272)
ومنها :- خيار المجلس وبيان صفة التفرق ، فالقول الصحيح أن خيار المجلس ثابت في الشرع فقد روى البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ" وقال في صحيحه أيضا :- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ قَتَادَةُ أَخْبَرَنِي عَنْ صَالِحٍ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ سَمِعْتُ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا" وفيه عدة أحاديث ، وقد ورد في بيان صفة التفرق أن المراد به التفرق بالأبدان ، فقد روى مسلم في الصحيح قال :- صحيح مسلم قال :- و حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَابْنُ أَبِي عُمَرَ كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ قَالَ زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَمْلَى عَلَىَّ نَافِعٌ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُا :- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِذَا تَبَايَعَ الْمُتَبَايِعَانِ بِالْبَيْعِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مِنْ بَيْعِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَكُونُ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ فَإِذَا كَانَ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ " زَادَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ :- قَالَ نَافِعٌ :- فَكَانَ إِذَا(1/273)
بَايَعَ رَجُلًا فَأَرَادَ أَنْ لَا يُقِيلَهُ قَامَ فَمَشَى هُنَيَّةً ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ ، وقد تقرر أن تفسير الراوي مقدم على تفسير غيره ما لم يخالف ظاهر الحديث ، ولكن لم يأخذ بعض أهل المدينة بهذا الحديث ، وزعموا أنه معارض بعمل أهل المدينة ، وهي دعوى باطلة ، ولا قول لأهل المدينة مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل هو سيد أهل المدينة عليه الصلاة والسلام وقد رد ذلك الحافظ فقال في الفتح ( وَقَالَتْ طَائِفَةٌ هُوَ مُعَارَضٌ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَنَقَلَ اِبْنُ التِّينِ عَنْ أَشْهَبَ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِعَمَلِ أَهْلِ مَكَّةَ أَيْضًا . وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ قَالَ بِهِ اِبْنُ عُمَرَ ثُمَّ سَعِيدُ بْن الْمُسَيِّبِ ثُمَّ الزُّهْرِيُّ ثُمَّ اِبْنُ أَبِي ذِئْبٍ كَمَا مَضَى ، وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي أَعْصَارِهِمْ وَلَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ الْقَوْلُ بِخِلَافِهِ سِوَى عَنْ رَبِيعَةَ . وَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ فَلَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْهُمْ الْقَوْلَ بِخِلَافِهِ ) فهذه دعوى فجة ، لا بد من الحذر منها ، فإن عمل أهل المدينة إنما يوزن بموافقة النص ، لا أن النص هو الموزون بعمل أهل المدينة ، فالحق هو أن خيار المجلس ثابت ، كما ورد به النص وسمعا وطاعة للنص ، وأن التفرق المذكور في الحديث إنما يعنى به التفرق بالأبدان ، كما فسره بذلك ابن عمر ، والله أعلم .(1/274)
ومنها :- القول الصحيح والرأي الراجح المليح هو أن المشروع في التحلل من الصلاة أن يسلم المصلي تسليمتين ، إحداهما عن يمينه والأخرى عن شماله ، هكذا ثبتت السنة الصحيحة الصريحة فقد روى أبو داود في سننه قال :- حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ قَيْسٍ الْحَضْرَمِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَعَنْ شِمَالِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " وقد قال صلى الله عليه وسلم " صلوا كما رأيتموني أصلي " رواه البخاري ، وهذا هو الفعل الدائم الذي استمر عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات ، وقال الترمذي في سننه :- حَدَّثَنَا بُنْدَارٌ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ...(1/275)
قَالَ الترمذي :- ( وَفِي الْبَاب عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَالْبَرَاءِ وَأَبِي سَعِيدٍ وَعَمَّارٍ وَوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ وَعَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَقَ ) وقال النسائي في سننه :- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ يَعْنِي ابْنَ دَاوُدَ الْهَاشِمِيَّ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ ابْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ وَهُوَ ابْنُ الْمِسْوَرِ الْمَخْرَمِيُّ عَنْ إِسْمَعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ . وقال في سننه أيضا :- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ الْأَسْوَدِ وَعَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَقِيَامٍ وَقُعُودٍ وَيُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَفْعَلَانِ ذَلِكَ ..(1/276)
وقال في سننه أيضا :- أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ عَنْ حَجَّاجٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّان أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ كُلَّمَا وَضَعَ اللَّهُ أَكْبَرُ كُلَّمَا رَفَعَ ثُمَّ يَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ عَنْ يَمِينِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ عَنْ يَسَارِهِ..وقال في سننه أيضا :- أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ عَنْ ابْنِ دَاوُدَ يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دَاوُدَ الْخُرَيْبِيَّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ خَدِّهِ عَنْ يَمِينِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَعَنْ يَسَارِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ..والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ولكن أبى بعض أهل المدينة العمل بها ، ولا حجة لهم فيما ذهبوا إليه إلا لأن العمل في المدينة على خلافها ، فقالوا بالاكتفاء بتسليمة واحدة ، قال في عون المعبود ( وَقَدْ بَيَّنَ اِبْن عَبْد الْبَرّ ضَعْف أَدِلَّة هَذَا الْقَوْل مِنْ الْأَحَادِيث . وَاسْتَدَلَّ الْمَالِكِيَّة عَلَى كِفَايَة التَّسْلِيمَة الْوَاحِدَة بِعَمَلِ أَهْل الْمَدِينَة وَهُوَ عَمَلٌ تَوَارَثُوهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ . وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُول أَنَّ عَمَلهمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ .(1/277)
وَقَدْ أَطَالَ الْكَلَام فِيهِ الْحَافِظ اِبْن الْقَيِّم فِي إِعْلَام الْمُوَقِّعِينَ عَنْ رَبّ الْعَالَمِينَ بِمَا لَا يَزِيد عَلَيْهِ ) فلعلك تراجع كلام ابن القيم فإنه مهم ، والمهم أن الحق في هذه المسألة هو أن الصلاة المفروضة لا يتحلل منها إلا بتسليمتين كما قضت بذلك السنة الصحيحة ، والله أعلم.(1/278)
ومنها :- لقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه سجد سجود التلاوة في سواة الانشقاق ، وذلك فيما رواه مسلم في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَمْرٌو النَّاقِدُ قَالَا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ ( سَجَدْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ) وهذه السجدة كانت في الصلاة كما رواه البخاري في صحيحه قال := حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بَكْرٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ فَقُلْتُ لَهُ قَالَ سَجَدْتُ خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ " وقال النسائي في سننه := أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَجَدَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَمَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمَا.(1/279)
يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالحق في هذه المسألة هو ثبوت هذه السجدة ، في هذه السورة ، وأنه قد جرى عليه العمل القديم ، ولكن أبى بعض المالكية ذلك وقالوا := لا يسجد فيها ، لأنه مخالف لعمل أهل المدينة ، ولا ندري من يعنون بأهل المدينة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد سجد وهو سيد أهل المدينة ، وسجد فيها أبو بكر وعمر وهما الإمامان بعده ، وعلى ذلك جرى عمل أهل المدينة في زمنهما ،فهل يحتمل الأمر أن يعارض ذلك بعمل المتأخرين من أهل المدينة ؟ هذا لا يكون ولا يقبل أبدا ، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين وهو يبين صورا مما يدعى أنه عمل أهل المدينة مع جريانه على خلاف العمل القديم لأهل المدينة ( وَمِنْ ذَلِكَ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِي كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فِي سُجُودِهِمْ فِي { إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } مَعَ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ .وَإِنَّمَا صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَعْوَامٍ وَبَعْضَ الرَّابِعِ ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ مَعَ نَبِيِّهِمْ فِي آخِرِ أَمْرِهِ ، فَهَذَا وَاَللَّهِ هُوَ الْعَمَلُ ، فَكَيْفَ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ عَمَلُ مَنْ بَعْدَهُمْ بِمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ السِّنِينَ وَيُقَالُ : الْعَمَلُ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ ؟ ) فالعمل المأثور عن أهل المدينة المتأخرين مخالف لما عليه السنة الصحيحة ومخالف لما عليه أهل المدينة الأوائل ، فأي الفريقين أحق بالحق إن كنتم تعلمون؟ لا شك أن الحق ما كان جاريا على هدي الدليل الشرعي الصحيح الصريح ، والله أعلم .(1/280)
ومنها :- روى البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّيْمِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُدَيْرِ التَّيْمِيِّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ رَبِيعَةُ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ عَمَّا حَضَرَ رَبِيعَةُ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ حَتَّى إِذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَزَادَ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ السُّجُودَ إِلَّا أَنْ نَشَاءَ..(1/281)
قال الحافظ في الفتح ( وَفِي الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد أَنَّ لِلْخَطِيبِ أَنْ يَقْرَأ الْقُرْآن فِي الْخُطْبَة ، وَأَنَّهُ إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ يَنْزِل إِلَى الْأَرْض لِيَسْجُد بِهَا إِذَا لَمْ يَتَمَكَّن مِنْ السُّجُود فَوْق الْمِنْبَر ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْطَع الْخُطْبَة وَوَجْه ذَلِكَ فِعْل عُمَر مَعَ حُضُور الصَّحَابَة وَلَمْ يُنْكِر عَلَيْهِ أَحَد مِنْهُمْ ، وَعَنْ مَالِك يَمُرّ فِي خُطْبَته وَلَا يَسْجُد ، وَهَذَا الْأَثَر وَارِد عَلَيْهِ ) قلت :- نعم هو وارد عليه رحمه الله تعالى ، وعمر هو أمير المؤمنين فهو سيد أهل المدينة في زمانه ، فعمل أهل المدينة القديم إنما كان على تجويز ذلك لا على منعه ، والمنع منه لا وجه له ، والاستدلال بعمل أهل المدينة المتأخر ليست من حجج الدين حتى ينظر فيها ، قال ابن القيم رحمه الله تعالى وهو يبين صورا من مخالفة العمل القديم لأهل المدينة قال:- ( وَمِنْ ذَلِكَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَدْ قَرَأَ السَّجْدَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ نَزَلَ عَنْ الْمِنْبَرِ فَسَجَدَ ، وَسَجَدَ مَعَهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ صَعِدَ ، فَهَذَا الْعَمَلُ حَقٌّ ، فَكَيْفَ يُقَالُ : الْعَمَلُ عَلَى خِلَافِهِ وَيُقَدَّمُ الْعَمَلُ الَّذِي يُخَالِفُ ذَلِكَ عَلَيْهِ؟) فالحق أن من قرأ سجدة وهو على المنبر فله أن ينزل ويسجد ، أو يسجد على المنبر إن شاء ، وإن سجد القارئ فمن السنة سجود المستمع ، والله أعلم .(1/282)
ومنها :- ما ذكره ابن القيم بقوله ( وَمِنْ ذَلِكَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إقتدائهم بِهِ وَهُوَ جَالِسٌ ، وَهَذَا كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ ، سَوَاءٌ كَانَتْ صَلَاتُهُمْ خَلْفَهُ قُعُودًا أَوْ قِيَامًا ، فَهَذَا عَمَلٌ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَالصِّحَّةِ ، فَمِنْ الْعَجَبِ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهِ رِوَايَةُ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ, وَهُمَا كُوفِيَّانِ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا } ؟ وَهَذِهِ مِنْ أَسْقَطِ رِوَايَاتِ أَهْلِ الْكُوفَةِ ) قلت :- ويعني ابن القيم رحمه الله تعالى الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ قَالَ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فِي مَرَضِهِ فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ قَالَ عُرْوَةُ فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ يَؤُمُّ النَّاسَ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ اسْتَأْخَرَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ كَمَا أَنْتَ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِذَاءَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى جَنْبِهِ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ..(1/283)
وهو صريح الدلالة في المطلوب ، وإن فعل الإمام ذلك لعلة ففعله صحيح جائز سائغ شرعا ، لا وجه لمنعه ، ولا تقبل دعوى الخصوصية بالنبي صلى الله عليه وسلم ، لأن الأصل في الأحكام الشرعية التعميم ، ولا تقبل دعوى أنه مخالف لعمل أهل المدينة ، لأن ما تضمنه هذا الحديث هو بعينه عمل أهل المدينة ، وهل أهل المدينة إلا هؤلاء ؟ والله أعلم .(1/284)
ومنها :- ما ذكره ابن القيم في الإعلام بقوله : -( وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ عَام حَجَّ جَمَعَ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمٌ وَعُبَيْدُ اللَّهِ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَمُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ الطِّيبِ قَبْلَ الْإِفَاضَةِ ، فَكُلُّهُمْ أَمَرَهُ بِالطِّيبِ ، وَقَالَ الْقَاسِمُ : أَخْبَرَتْنِي { عَائِشَةُ أَنَّهَا طَيَّبَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ } .(1/285)
وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ ، إلَّا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ رَجُلًا جَادًّا مُجِدًّا ، كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ ثُمَّ يَذْبَحُ ثُمَّ يَحْلِقُ ثُمَّ يَرْكَبُ فَيُفِيضُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ مَنْزِلَهُ ، قَالَ سَالِمٌ : صَدَقَ ، ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ ، فَهَذَا عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَفُتْيَاهُمْ ، فَأَيُّ عَمَلٍ بَعْدَ ذَلِكَ يُخَالِفُهُ يَسْتَحِقُّ التَّقْدِيمَ عَلَيْهِ ؟) وهذا هو الحق ، أنه يجوز ، بل من السنة للمحرم أن يتطيب في جسده عند إرادة الإحرام ، ويكثر صب الطيب على رأسه ، وأن يتطيب كذلك إذا حل التحلل الأول وقبل الطواف بالبيت ، هكذا ثبتت السنة الصحيحة ، فقد روى البخاري في الصحيح قال :- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ ( كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ ) وقال أيضا :- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ ( كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ) وقد ذكر ابن القيم أن عمل أهل المدينة على تجويز ذلك ، ولا شأن لنا أصلا بعمل أحد ، وإنما المهم أنه قد ثبتت السنة الصحيحة الصريحة بأنه يجوز للمحرم التطيب بعد التحلل الأول ، وقبل الطواف بالبيت ، والله أعلم .(1/286)
ومنها :- ما ذكره ابن القيم بقوله ( وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ قَاسِمِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ : مَا بِالْمَدِينَةِ أَهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ إلَّا يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبْعِ ، وَزَارَعَ عَلِيٌّ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَآلُ أَبِي بَكْرٍ وَآلُ عُمَرَ وَآلُ عَلِيٍّ وَابْنُ سِيرِينَ ، وَعَامَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ عَلَى أَنَّهُ إنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ الشَّطْرُ وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا وَكَذَا .فَهَذَا وَاَللَّهِ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ تَقْدِيمُهُ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ خَالَفَهُ ، وَاَلَّذِي مَنْ جَعَلَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَقَدْ اسْتَوْثَقَ .(1/287)
فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ ، أَيُّ عَمَلٍ بَعْدَ هَذَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ ؟ وَهَلْ يَكُونُ عَمَلٌ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ إجْمَاعٌ أَظْهَرُ مِنْ هَذَا وَأَصَحُّ مِنْهُ ؟) ويعني ابن القيم رحمه الله تعالى المساقاة والمزارعة المشروعة التي مبناها على العدل ، وهي أن يكون عوض العامل جزءا محددا مشاعا، ولبيانها موضع آخر ، والمهم أن السنة الصحيحة قد ثبتت بجواز المساقاة والمزارعة ، وأما ما ورد في النهي عنهما ، فإنما يراد بها المساقاة والمزارعة الظالمة الجائرة وهي التي كان نصيب العامل فيها جزءا معينا من الثمرة ، كأن يقول :- زارعتك على أن يكون ثمر هذه النخلات المعينة ، هذا لا يجوز ، لأنه قد لا تخرج ثمرة هذه النخيلات فيكون قد ضاع جهده سدى ، ولكن العدل أن يقول :- زارعتك على أن يكون لي نصف ما يخرج من الثمر أو ثلثه أو ربعه ، ولا يحدد ثمر شجرة معينة ، وقد فصل القول فيها أبو العباس ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم بما لا مزيد عليه ، ولكن هذا خلاصة ما ذكروه هناك ، والخلاصة :- أن المساقاة والمزارعة قسمان :- الظالمة منها ما كان نصيب العامل فيها جزءا معينا من شجرة بعينها والثانية:- العالة وهي ما كان نصيب العامل فيها جزءا مشاعا مما يخرج من هذه الأرض ، والله تعالى أعلى وأعلم ، والمقصود أن ترك المساقاة والمزارعة بحجة أنه ليس عليه عمل أهل المدينة ، لا يقبل ، بل المردود هو العمل المخالف لما ثبتت به السنة والله أعلم .(1/288)
ومنها:- لقد ثبتت السنة الصحيحة أن من دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين والأحاديث في ذلك كثيرة ، وثبتت السنة بأن من دخل يوم الجمعة والإمام يخطب أنه كذلك لا يجلس حتى يصلي ركعتين ، وعلى ذلك ما رواه البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرًا قَالَ :- ( دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ أَصَلَّيْتَ قَالَ لَا قَالَ قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ) ونحن نقول بما ثبتت به السنة ، ولكن أبى ذلك كثير من المالكية بحجة أنه ليس عليه عمل أهل المدينة ، وللحافظ ابن حجر كلام طيب جدا في الفتح على هذا الحديث ومعارضة أهل المدينة له فقال رحمه الله تعالى وأجزل له الأجر والمثوبة (أَقْوَى مَا اِعْتَمَدَهُ الْمَالِكِيَّة فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة عَمَل أَهْل الْمَدِينَة خَلَفًا عَنْ سَلَف مِنْ لَدُنْ الصَّحَابَة إِلَى عَهْد مَالِك أَنَّ التَّنَفُّل فِي حَال الْخُطْبَة مَمْنُوع مُطْلَقًا ، وَتُعُقِّبَ بِمَنْعِ اِتِّفَاق أَهْل الْمَدِينَة عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ فِعْل التَّحِيَّة عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ وَهُوَ مِنْ فُقَهَاء الصَّحَابَة مِنْ أَهْل الْمَدِينَة وَحَمَلَهُ عَنْهُ أَصْحَابه مِنْ أَهْل الْمَدِينَة أَيْضًا ، فَرَوَى التِّرْمِذِيّ وَابْن خُزَيْمَةَ وَصَحَّحَاهُ عَنْ عِيَاض بْن أَبِي سَرْح "أَنَّ أَبَا سَعِيد الْخُدْرِيَّ دَخَلَ وَمَرْوَان يَخْطُب فَصَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ ، فَأَرَادَ حَرَس مَرْوَان أَنْ يَمْنَعُوهُ فَأَبَى حَتَّى صَلَّاهُمَا ثُمَّ قَالَ : مَا كُنْت لِأَدَعهُمَا بَعْد أَنْ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُر بِهِمَا" اِنْتَهَى . وَلَمْ يَثْبُت عَنْ أَحَد مِنْ الصَّحَابَة صَرِيحًا مَا يُخَالِف ذَلِكَ .(1/289)
وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ اِبْن بَطَّال عَنْ عُمَر وَعُثْمَان وَغَيْر وَاحِد مِنْ الصَّحَابَة مِنْ الْمَنْع مُطْلَقًا فَاعْتِمَاده فِي ذَلِكَ عَلَى رِوَايَات عَنْهُمْ فِيهَا اِحْتِمَال ، كَقَوْلِ ثَعْلَبَة بْن أَبِي مَالِك " أَدْرَكْت عُمَر وَعُثْمَان - وَكَانَ الْإِمَام - إِذَا خَرَجَ تَرَكْنَا الصَّلَاة " وَوَجْه الِاحْتِمَال أَنْ يَكُون ثَعْلَبَة عَنَى بِذَلِكَ مَنْ كَانَ دَاخِل الْمَسْجِد خَاصَّة ، قَالَ شَيْخنَا الْحَافِظ أَبُو الْفَضْل فِي شَرْح التِّرْمِذِيّ : كُلّ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ - يَعْنِي مِنْ الصَّحَابَة - مَنَعَ الصَّلَاة وَالْإِمَام يَخْطُب مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ كَانَ دَاخِل الْمَسْجِد لِأَنَّهُ لَمْ يَقَع عَنْ أَحَد مِنْهُمْ التَّصْرِيح بِمَنْعِ التَّحِيَّة وَقَدْ وَرَدَ فِيهَا حَدِيث يَخُصّهَا فَلَا تُتْرَك بِالِاحْتِمَالِ ، اِنْتَهَى . وَلَمْ أَقِف عَلَى ذَلِكَ صَرِيحًا عَنْ أَحَد مِنْ الصَّحَابَة . وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ " عَنْ عَبْد اللَّه بْن صَفْوَان أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِد وَابْن الزُّبَيْر يَخْطُب فَاسْتَلَمَ الرُّكْن ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسَ وَلَمْ يَرْكَع " وَعَبْد اللَّه بْن صَفْوَان وَعَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر صَحَابِيَّانِ صَغِيرَانِ فَقَدْ اِسْتَدَلَّ بِهِ الطَّحَاوِيُّ فَقَالَ : لَمَّا لَمْ يُنْكِر اِبْن الزُّبَيْر عَلَى اِبْن صَفْوَان وَلَا مَنْ حَضَرَهُمَا مِنْ الصَّحَابَة تَرْك التَّحِيَّة دَلَّ عَلَى صِحَّة مَا قُلْنَاهُ ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ تَرْكهمْ النَّكِير لَا يَدُلّ عَلَى تَحْرِيمهَا بَلْ يَدُلّ عَلَى عَدَم وُجُوبهَا ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ مُخَالِفُوهُمْ .(1/290)
وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِر الْكَلَام عَلَى هَذَا الْحَدِيث الْبَحْث فِي أَنَّ صَلَاة التَّحِيَّة هَلْ تَعُمّ كُلّ مَسْجِد ، أَوْ يُسْتَثْنَى الْمَسْجِد الْحَرَام لِأَنَّ تَحِيَّته الطَّوَاف ؟ فَلَعَلَّ اِبْن صَفْوَان كَانَ يَرَى أَنَّ تَحِيَّته اِسْتِلَام الرُّكْن فَقَطْ . وَهَذِهِ الْأَجْوِبَة الَّتِي قَدْ قَدَّمْنَاهَا تَنْدَفِع مِنْ أَصْلهَا بِعُمُومِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث أَبِي قَتَادَةَ " إِذَا دَخَلَ أَحَدكُمْ الْمَسْجِد فَلَا يَجْلِس حَتَّى يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ " مُتَّفَق عَلَيْهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام عَلَيْهِ . وَوَرَدَ أَخَصّ مِنْهُ فِي حَال الْخُطْبَة ، فَفِي رِوَايَة شُعْبَة عَنْ عَمْرو بْن دِينَار قَالَ " سَمِعْت جَابِر بْن عَبْد اللَّه يَقُول : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُب : إِذَا جَاءَ أَحَدكُمْ وَالْإِمَام يَخْطُب - أَوْ قَدْ خَرَجَ - فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ " مُتَّفَق عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيق أَبِي سُفْيَان عَنْ جَابِر أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي قِصَّة سُلَيْك وَلَفْظه بَعْد قَوْلُهُ فَارْكَعْهُمَا وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا " ثُمَّ قَالَ : إِذَا جَاءَ أَحَدكُمْ يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يَخْطُب فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا " قَالَ النَّوَوِيّ : هَذَا نَصّ لَا يَتَطَرَّق إِلَيْهِ التَّأْوِيل وَلَا أَظُنّ عَالِمًا يَبْلُغهُ هَذَا اللَّفْظ وَيَعْتَقِدهُ صَحِيحًا فَيُخَالِفهُ . وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة : هَذَا الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِم نَصٌّ فِي الْبَاب لَا يَحْتَمِل التَّأْوِيل .(1/291)
وَحَكَى اِبْن دَقِيق الْعِيد أَنَّ بَعْضهمْ تَأَوَّلَ هَذَا الْعُمُوم بِتَأْوِيلٍ مُسْتَكْرَهٍ ، وَكَأَنَّهُ يُشِير إِلَى بَعْض مَا تَقَدَّمَ مِنْ اِدِّعَاء النَّسْخ أَوْ التَّخْصِيص . وَقَدْ عَارَضَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّة الشَّافِعِيَّةَ بِأَنَّهُمْ لَا حُجَّة لَهُمْ فِي قِصَّة سُلَيْك ، لِأَنَّ التَّحِيَّة عِنْدهمْ تَسْقُط بِالْجُلُوسِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابه . وَعَارَضَ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيد رَفَعَهُ " لَا تُصَلُّوا وَالْإِمَام يَخْطُب " وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَثْبُت ، وَعَلَى تَقْدِير ثُبُوته فَيُخَصّ عُمُومه بِالْأَمْرِ بِصَلَاةِ التَّحِيَّة . وَبَعْضُهُمْ بِأَنَّ عُمَر لَمْ يَأْمُر عُثْمَان بِصَلَاةِ التَّحِيَّة مَعَ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الِاقْتِصَار عَلَى الْوُضُوء ، وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون صَلَّاهُمَا . وَفِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد غَيْر مَا تَقَدَّمَ جَوَاز صَلَاة التَّحِيَّة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة ، لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ تَسْقُط فِي الْخُطْبَة مَعَ الْأَمْر بِالْإِنْصَاتِ لَهَا فَغَيْرهَا أَوْلَى . وَفِيهِ أَنَّ التَّحِيَّة لَا تَفُوت بِالْقُعُودِ ، لَكِنْ قَيَّدَهُ بَعْضهمْ بِالْجَاهِلِ أَوْ النَّاسِي كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَنَّ لِلْخَطِيبِ أَنْ يَأْمُر فِي خُطْبَته وَيَنْهَى وَيُبَيِّن الْأَحْكَام الْمُحْتَاج إِلَيْهَا ، وَلَا يَقْطَع ذَلِكَ التَّوَالِي الْمُشْتَرَط فِيهَا ، بَلْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُول كُلّ ذَلِكَ يُعَدّ مِنْ الْخُطْبَة . وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِد شَرْط لِلْجُمُعَةِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَا تُشْرَع التَّحِيَّة لِغَيْرِ الْمَسْجِد وَفِيهِ نَظَر .(1/292)
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَاز رَدّ السَّلَام وَتَشْمِيت الْعَاطِس فِي حَال الْخُطْبَة لِأَنَّ أَمْرهمَا أَخَفّ وَزَمَنهمَا أَقْصَر وَلَا سِيَّمَا رَدّ السَّلَام فَإِنَّهُ وَاجِب ) فما احتج به المالكية من أن هذا الحديث ليس عليه عمل أهل المدينة إنما هو مجرد دعوى لا طائل من ورائها إلا رد الأحاديث الصحيحة بما لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يردها به ، والله أعلم .
ومنها :- القول الصحيح المتقرر بالدليل الشرعي الصحيح الصريح هو أن من مات وعليه صوم صام عنه وليه ، كما رواه البخاري في الصحيح قال :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ " تَابَعَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرٍو وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة ولكن الراجح هو ما ذكرته لك ، ولكن أبى المالكية العمل بهذا الحديث ، وادعوا أنه معارض بعمل أهل المدينة ، قال الحافظ في الفتح ( فَأَمَّا الْمَالِكِيَّة فَأَجَابُوا عَنْ حَدِيث الْبَاب بِدَعْوَى عَمَلِ أَهْل الْمَدِينَة كَعَادَتِهِمْ ) قلت :ــ وعادتهم ليست بحق ، بل الحق ما وافق السنة ، فالصحيح في هذه المسألة أن من مات وعليه صوم وصام عنه وليه فإن ذلك يجزئه ، والراجح عندي أن ذلك في كل صوم ، والله أعلم .(1/293)
ومنها :- القول الصحيح والرأي الراجح المليح هو أنه يستجب أمر الصبيان بالصوم تمرينا وتعويدا لا وجوبا ، لا سيما من كان يطيق ذلك منهم ، وبذلك ثبتت السنة الصحيحة ، ففي صحيح البخاري قال :- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ قَالَتْ فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا وَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ" وبوب على ذلك البخاري بقوله (بَاب صَوْمِ الصِّبْيَانِ وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِنَشْوَانٍ فِي رَمَضَانَ وَيْلَكَ وَصِبْيَانُنَا صِيَامٌ فَضَرَبَهُ) والنشوان أي السكران ، وقال الحافظ في الفتح ( وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ دُون الْبُلُوغ ، وَاسْتَحَبَّ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَف مِنْهُمْ اِبْن سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيّ أَنَّهُمْ يُؤْمَرُونَ بِهِ لِلتَّمْرِينِ عَلَيْهِ إِذَا أَطَاقُوهُ ، وَحَدَّهُ أَصْحَابُهُ بِالسَّبْعِ وَالْعَشْرِ كَالصَّلَاةِ ، وَحَدَّهُ إِسْحَاقُ بِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَأَحْمَد فِي رِوَايَة بِعَشْرِ سِنِينَ ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إِذَا أَطَاقَ صَوْمَ ثَلَاثَةٍ أَيَّامٍ تِبَاعًا لَا يَضْعُف فِيهِنَّ حُمِلَ عَلَى الصَّوْم ، وَالْأَوَّل قَوْل الْجُمْهُور ، وَالْمَشْهُور عَنْ الْمَالِكِيَّة أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ فِي حَقّ الصِّبْيَانِ ، وَلَقَدْ تَلَطَّفَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّعَقُّب عَلَيْهِمْ(1/294)
بِإِيرَادِ أَثَر عُمَر فِي صَدْرِ التَّرْجَمَة لِأَنَّ أَقْصَى مَا يَعْتَمِدُونَهُ فِي مُعَارَضَةِ الْأَحَادِيثِ دَعْوَى عَمَلِ أَهْل الْمَدِينَة عَلَى خِلَافهَا وَلَا عَمَلَ يُسْتَنَدُ إِلَيْهِ أَقْوَى مِنْ الْعَمَل فِي عَهْد عُمَر مَعَ شِدَّة تَحَرِّيهِ وَوُفُور الصَّحَابَةِ فِي زَمَانه ، وَقَدْ قَالَ لِلَّذِي أَفْطَرَ فِي رَمَضَان مُوَبِّخًا لَهُ " كَيْفَ تُفْطِرُ وَصِبْيَانُنَا صِيَامٌ " ) فما ذهب إليه المالكية لا حق لهم فيه مع صحة السنة بذلك ووضوحها والله أعلم .(1/295)
ومنها :- ذَهَبَ الْجُمْهُور مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَفُقَهَاء الْأَمْصَار كَالْأَوْزَاعِيّ فِي أَهْل الشَّام وَالثَّوْرِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَصَاحِبَيْهِ فِي أَهْل الْكُوفَة وَابْن جُرَيْجٍ فِي أَهْل مَكَّة وَمَالِك فِي أَهْل الْمَدِينَة وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبِي ثَوْر وَأَتْبَاعهمْ إِلَى أَنَّ لَبَن الْفَحْل يُحَرِّم وَحُجَّتهمْ هَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح الذي أخرجه البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ فَلَمْ آذَنْ لَهُ فَقَالَ أَتَحْتَجِبِينَ مِنِّي وَأَنَا عَمُّكِ فَقُلْتُ وَكَيْفَ ذَلِكَ قَالَ أَرْضَعَتْكِ امْرَأَةُ أَخِي بِلَبَنِ أَخِي فَقَالَتْ سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ " صَدَقَ أَفْلَحُ ائْذَنِي لَهُ " وقال مسلم في صحيحه :- حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ جَاءَ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا بَعْدَ مَا نَزَلَ الْحِجَابُ وَكَانَ أَبُو الْقُعَيْسِ أَبَا عَائِشَةَ مِنْ الرَّضَاعَةِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَا آذَنُ لِأَفْلَحَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ أَبَا الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَنِي يَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ(1/296)
فَكَرِهْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَكَ قَالَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ائْذَنِي لَهُ " قَالَ عُرْوَةُ فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ حَرِّمُوا مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا تُحَرِّمُونَ مِنْ النَّسَبِ و حَدَّثَنَاه عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ جَاءَ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ وَفِيهِ " فَإِنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يَمِينُكِ " وَكَانَ أَبُو الْقُعَيْسِ زَوْجَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرْضَعَتْ عَائِشَةَ .. فاستفدنا من ذلك أن لبن الفحل يحرم ، أي أن زوج المرأة المرضعة يكون أبا للمرتضع ، وإخوان الزوج أعمام للمرتضع ، وأخواته عمات للمرتضع ، وهكذا ، وهو القول الراجح في هذه المسألة كما صح بذلك الحديث ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة لتأذن لأفلح ، لأنه عمها من الرضاعة ، لأن أبا القعيس أبوها من الرضاعة ، فيكون أخوه عمها ، ولكن خالف في ذلك بعض المالكية ، فقد رواه عَبْد الْعَزِيز بْن مُحَمَّد عَنْ رَبِيعَة مِنْ أَنَّ لَبَن الْفَحْل لَا يُحَرِّم ، قَالَ عَبْد الْعَزِيز بْن مُحَمَّد : وَهَذَا رَأْي فُقَهَائِنَا إِلَّا الزُّهْرِيّ، وقوله ( فقهاؤنا ) أي فقهاء أهل المدينة ، وعلى كل حال فلا مناص عن القول بما دل عليه هذا الحديث ، فإنه حديث متفق عليه بين الشيخين ، ودلالته واضحة ، فلا يجوز معارضته بعمل أحد ولا برأي أحد ، وكل قياس تضمن رد هذا الحديث فإنه باطل ، لأن القياس في مصادمة النص باطل ، والله أعلم .(1/297)
ومنها :- القول الراجح إن شاء الله تعالى أنه يجوز التختم في اليمين وفي الشمال ، لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان تارة يتختم في يمينه وهو الأكثر ، وتارة كان يتختم في شماله ، ووجه الجمع بينهما أن يقال بجواز الأمرين ، قال البخاري في صحيحه:- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ وَجَعَلَ فَصَّهُ فِي بَطْنِ كَفِّهِ إِذَا لَبِسَهُ فَاصْطَنَعَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ فَرَقِيَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ إِنِّي كُنْتُ اصْطَنَعْتُهُ وَإِنِّي لَا أَلْبَسُهُ فَنَبَذَهُ فَنَبَذَ النَّاسُ قَالَ جُوَيْرِيَةُ وَلَا أَحْسِبُهُ إِلَّا قَالَ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى .. ورواه مسلم من طريق عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي خَاتَمِ الذَّهَبِ وَزَادَ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ خَالِدٍ وَجَعَلَهُ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى .. وقال مسلم في الصحيح :- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبَّادُ بْنُ مُوسَى قَالَا حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى وَهُوَ الْأَنْصَارِيُّ ثُمَّ الزُّرَقِيُّ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ خَاتَمَ فِضَّةٍ فِي يَمِينِهِ فِيهِ فَصٌّ حَبَشِيٌّ كَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ...(1/298)
وقال أبو داود في سننه :- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ شَرِيكٌ و أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ ... وقال الترمذي في جامعه :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَقَ عَنْ الصَّلْتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوْفَلٍ قَالَ رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ وَلَا إِخَالُهُ إِلَّا قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ ، قَالَ أَبُو عِيسَى قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَعِيلَ حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَقَ عَنْ الصَّلْتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوْفَلٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ...وقال أبو داود في سننه :- حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي يَسَارِهِ وَكَانَ فَصُّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ .. . وقد تختم في الشمال جمع من الأئمة فقد روى ابن أبي شيبة في المصنف قال :- حدثنا حاتم بن إسماعيل عن جعفر عن أبيه قال : كان الحسن والحسين يتختمان في يسارهما, حدثنا أبو بكر قال حدثنا معن بن عيسى عن سليمان بن بلال عن جعفر عن أبيه أن أبا بكر وعمر وعثمان تختموا في يسارهم... وقال أيضا :- حدثنا عبدة عن عبيدالله قال : رأيت القاسم وسالما يتختمان في يسارهما...(1/299)
وقال أيضا حدثنا حفص عن إسماعيل قال : رأيت على إبراهيم خاتما في يساره. حدثنا عبدة عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر أنه كان يتختم في يساره... وقال أيضا حدثنا وكيع عن الأعمش قال : رأيت خاتم إبراهيم في يساره ... وقال أيضا حدثنا وكيع عن الصلت عن ابن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يتختمون في شمائلهم... وقال أيضا :- حدثنا وكيع عن إسماعيل بن الارزق قال : رأيت خاتم عمرو بن حريث في يساره. وعليه :- فالأمر واسع, فمن شاء أن يتختم في يمينه فله ذلك ، ومن شاء أن يتختم في شماله فله ذلك ، إلا أن التختم في اليمين يستحب أن يكون هو الأكثر ، هكذا قضت السنة الصحيحة ، وأما ما ذهب المالكية من استحباب التختم في اليسار مطلقا ، فلا وجه إلا أنه مما يدعى أنه عمل أهل المدينة ، وما أسمج هذه الدعوى إن تضمنت رد الأحاديث الصحيحة ، قال الحافظ في الفتح ( وَأَمَّا دَعْوَى الدَّاوُدِيِّ أَنَّ الْعَمَل عَلَى التَّخَتُّم فِي الْيَسَار فَكَأَنَّهُ تَوَهَّمَهُ مِنْ اِسْتِحْبَاب مَالِك لِلتَّخَتُّمِ وَهُوَ يُرَجِّح عَمَل أَهْل الْمَدِينَة فَظَنَّ أَنَّهُ عَمَل أَهْل الْمَدِينَة ، وَفِيهِ نَظَر ، فَإِنَّهُ جَاءَ عَنْ أَبِي بَكْر وَعُمَر وَجَمَعَ جَمّ مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ بَعْدهمْ مِنْ أَهْل الْمَدِينَة وَغَيْرهمْ التَّخَتُّم فِي الْيُمْنَى ) والله أعلم .(1/300)
ومنها :- ذهب المالكية إلى من نذر أن يمشي إلى المسجد الحرام فإنه لا بد من المشي جميع الطريق فإن ركب بعذر أو بلا عذر فإنه يعود في العام القادم ، ومشي ما قد ركبه من الطريق ، أي ينظر إلى المسافة التي ركب فيها ، ثم عليه أن يمشيها ، قضاء عن نذره الذي نذره ، وهو مذهب غريب ولا حجة لمالك في ذلك إلا أن هذا عمل أهل المدينة ، ولكن عملهم هذا على خلاف الحديث الصحيح ، فقد روى أبو داود في سننه قال :- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ يَعْنِي ابْنَ طَهْمَانَ عَنْ مَطَرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً وَأَنَّهَا لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ مَشْيِ أُخْتِكَ فَلْتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ بَدَنَةً " وأصله في الصحيح ، لكن بدون الأمر بالهدي، ولم يأمرها بالرجوع لتمشي ما ركبت فيه ، فالحق إن شاء الله تعالى أن من نذر المشي إلى بيت الله الحرام فله أن يمشي وأن يركب ، فإن صحت زيادة إيجاب الهدي قلنا بها ، وإلا فالأصل براءة الذمة ، وقد أعلها البخاري ، وروى البخاري في الصحيح قال :- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ حُمَيْدٍ حَدَّثَنِي ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ وَرَآهُ يَمْشِي بَيْنَ ابْنَيْهِ.(1/301)
قال الحافظ في الفتح بعد روايته لهذا الحديث ( وَفِي الْحَدِيث صِحَّة النَّذْر بِإِتْيَانِ الْبَيْت الْحَرَام ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَة إِذَا لَمْ يَنْوِ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً لَا يَنْعَقِد ، ثُمَّ إِنْ نَذَرَهُ رَاكِبًا لَزِمَهُ فَلَوْ مَشَى لَزِمَهُ دَم لِتَرَفُّهِهِ بِتَوَفُّرِ مُؤْنَة الرُّكُوب ، وَإِنْ نَذَرَهُ مَاشِيًا لَزِمَهُ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ إِلَى أَنْ تَنْتَهِي الْعُمْرَة أَوْ الْحَجّ ، وَهُوَ قَوْل صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَة ، فَإِنْ رَكِبَ بِعُذْرٍ أَجْزَأَهُ وَلَزِمَهُ دَم فِي أَحَد الْقَوْلَيْنِ عَنْ الشَّافِعِيّ ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ أَوْ شَاةٌ ؟ وَإِنْ رَكِبَ بِلَا عُذْر لَزِمَهُ الدَّم ، وَعَنْ الْمَالِكِيَّة فِي الْعَاجِز يَرْجِع مِنْ قَابِل فَيَمْشِي مَا رَكِبَ إِلَّا إِنْ عَجَزَ مُطْلَقًا فَيَلْزَمُهُ الْهَدْي ، وَلَيْسَ فِي طُرُق حَدِيث عُقْبَة مَا يَقْتَضِي الرُّجُوع ، فَهُوَ حُجَّة لِلشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ ، وَعَنْ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر لَا يَلْزَمهُ شَيْء مُطْلَقًا, قَالَ القرطبي زِيَادَة الْأَمْر بِالْهَدْيِ رُوَاتهَا ثِقَات وَلَا تُرَدّ ، وَلَيْسَ سُكُوت مَنْ سَكَتَ عَنْهَا بِحُجَّةٍ عَلَى مَنْ حَفِظَهَا وَذَكَرَهَا ، قَالَ : وَالتَّمَسُّك بِالْحَدِيثِ فِي عَدَم إِيجَاب الرُّجُوع ظَاهِر ، وَلَكِنَّ عُمْدَة مَالِك عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ) قلت :- وعمل أهل المدينة لا يوجب ما ليس بواجب في الشرع ، فإن الإيجاب حكم شرعي ، وقد تقرر أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ، والمهم أن الناذر إن كان شيخا كبيرا في السن فلا يوف بنذره بل عليه أن يرحم نفسه بالركوب ، وإن كان قادرا على المشي ، فلا ينبغي له أن يستوفي المسافة كلها بالمشي ، بل يمشي أحيانا ويركب أحيانا وإن صحت زيادة الأمر بالهدي فلا بد من القول بها ،(1/302)
والله أعلم .
ومنها :- قد اختلف العلماء في وقت قيام الشمس في نصف النهار قبل زوالها: هل هو وقت نهي عن الصلاة، أم لا؟فقالت طائفة: ليس هو وقت نهي، وهو قول مالك، وذكر أنه لا يعرف النهي عنه، قال: وما أدركت أهل الفضل إلا وهم يجتهدون ويصلون نصف النهار.وروي عنه، أنه قال: لا أكرهه ولا أحبه.هذا مع أنه روى في (الموطأ) حديث الصنابحي في النهي عنه، ولكنه تركه لما رآه من عمل أهل المدينة.وممن رخص في الصلاة فيه: الحسن، وطاوس، والأوزاعي في رواية عنه، وهو ظاهر كلام الخرقي من أصحابنا.وقال آخرون: هو وقت نهي لا يصلي فيه، وهو قول أبي حنيفة، والثوري، والحسن بن حي، وابن المبارك، وأحمد، وابن المنذر, وقال: ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه.ونهى عنه عمر بن الخطاب.وقال ابن مسعود: كنا ننهى عنه. فتح الباري لابن رجب - وقال سعيد المقبري: أدركت الناس وهم يتقون ذلك والحق في هذه المسألة هو أنه من أوقات النهي عن النافلة المطلقة ، لثبوت السنة الصحيحة الصريحة بالنهي عنه ، فقد خرج مسلم في (صحيحه) حديثين في النهي عن الصلاة في هذا الوقت:أحدهما: حديث أبي أمامة، عن عمرو بن عبسة، قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الصلاة؟ قال: (صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، حتى ترتفع؛ فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل؛ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل؛ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني الشيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار).(1/303)
والثاني: حديث موسى بن علي بن رباح، عن أبيه: سمعت عقبة بن عامر يقول: ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: "حين تطلع الشمس بازعة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب" ولا كلام مع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما ما ذهب إليه المالكية فإنه لا حجة لهم فيه إلا لأنه مخالف لعمل أهل المدينة ، مع بعض المرويات المطلقة ، أو الواهية الضعيفة ،والتي لا يصلح أن يعارض بها ما ثبت في الصحيح ، وعمل أهل المدينة المخالف للسنة الصحيحة الصريحة لا اعتبار به ، بل الحق بطلانه ، والله أعلم .(1/304)
ومنها :- ذهب الحنابلة والشافعية ، بل هو مذهب الجمهور إلى أن التكبير في أول الأذان يكون أربع مرات ، لحديث عبدالله بن زيد ، وذهب المالكية إلى أن التكبير في أوله مرتان فقط ، واستدلوا بحديث أبي محذورة عند الإمام مسلم وأنه لم يذكر التكبير في أوله إلا مرتين فقط ، وبأن هذا هو عمل أهل المدينة ، وأجاب الجمهور بأنه وقد وقع في بعض روايات الصحيح التكبير في أوله أربعا من حديث أبي محذورة ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه ( وَوَقَعَ فِي بَعْض طُرُق الْفَارِسِيّ فِي صَحِيح مُسْلِم أَرْبَع مَرَّات ) ووقع في السنن في حديث أبي محذورة أن التكبير أربع ، وهي زيادة من الثقة وقد تقرر في الأصول أن الزيادة من الثقة مقبولة ، قال النووي في شرح مسلم (احْتَجَّ الْجُمْهُور بِأَنَّ الزِّيَادَة مِنْ الثِّقَة مَقْبُولَة ، وَبِالتَّرْبِيعِ عَمَل أَهْل مَكَّة ، وَهِيَ مَجْمَع الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَوَاسِم وَغَيْرهَا وَلَمْ يُنْكِر ذَلِكَ أَحَد مِنْ الصَّحَابَة وَغَيْرهمْ ) وأما الاحتجاج بعمل أهل المدينة فلا يعني شيئا، لأن عملهم لا يؤخذ استقلالا ، وإنما يؤخذ منه ما وافق السنة فقط ، وأما ما خالفها فحقه أن يطرح فالراجح في هذه المسألة هو أن تكبير في الأذان يكون أربع تكبيرات ، والله أعلم .(1/305)
ومنها :- الأقرب عندي والله تعالى أعلى وأعلم في صلاة الليل التراويح وغيرها ، أن السنة فيها الاقتصار على إحدى عشرة ركعة ، لأن هذا هو الثابت من فعله الدائم صلى الله عليه وسلم ، ففي صحيح البخاري قال :- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ قَالَتْ مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ قَالَ " تَنَامُ عَيْنِي وَلَا يَنَامُ قَلْبِي"وهو واضح الدلالة على المطلوب وهذا فعل ، وقد تقرر في الأصول أن الأفعال تفيد الندب لا الوجوب المتحتم ، فلو صلى رجل بأزيد أو أنقص فلا حرج عليه ، لكن متابعة السنة والوقوف عندها أولى ، وأما الاستمرار على العمل الذي لا يعرف عنه صلى الله عليه وسلم فهذا هو المنكر ، لا سيما إن احتج عليه بأنه عمل أهل المدينة أو عمل أهل مكة ، لكن إن فعل أحيانا لا على وجه الديمومة والاستمرار فلا حرج ولذلك فالاستمرار على صلاة ست وثلاثين أو أحدى وأربعين ركعة استدلالا بعمل أهل المدينة أو الاستمرار على صلاة إحدى وعشرين ركعة استدلالا بعمل أهل مكة ،ليس هو كما ينبغي ، لا سيما وأن السنة قد ثبتت بخلافه ، وأكمل الهدي وخير الهدي وأحب الهدي إلى الله تعالى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والاقتصار على السنة أولى ، وليست العبرة في الدين بكثرة العمل إن كان على غير السنة ، بل العبرة بموافقة العمل للسنة ، ألا(1/306)
ترى أن قراءة سورتي الإخلاص (الكافرون ، والإخلاص) في سنة الفجر القبلية أحب إلى الله تعالى وأكثر ثوابا من قراءة سورتين طويلتين ، لأن موافقة السنة مقصود بذاته للشارع ، فجزى الله من أحيا هذه السنة في الناس ، لا سيما في رمضان ، والمقصود أن مخالفة السنة بعمل أحد كائنا من كان لا تقبل ، ولا تسمع دعواها ولا حق لأحد أن يعارض ما صح من السنة - ولو آحادا - بعمل أحد ، والواجب علينا جميعا أن تكون السنة فوق رؤوسنا ، كالتاج نفتخر به ، فإنها العز والشرف ، والأقوال لا تعظم بقائليها وإنما تعظم بموافقة الدليل ، نسأل الله تعالى أن يغفر لنا أجمعين ، فما منا إلا وعنده شيء من مخالفة الدليل ، قلت ، أو كثرت ، والله يعفو عن الزلة ، وهو أعلى وأعلم .(1/307)
ومنها :- أقول :- لقد اختلف العلماء فى المسح على العمامة، فممن كان يمسح عليها: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأنس بن مالك، وأبو أمامة، وسعد بن أبى وقاص، وأبو الدرداء، وبه قال الثورى، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.وممن كان لا يرى المسح عليها: عَلىّ، وابن عمر، وجابر, ومن التابعين: عروة، والنخعي، والشعبي، والقاسم، وبه قال مالك، وأبو حنيفة والشافعي، والحق جواز المسح عليها لثبوت السنة الصحيحة بها ، كما في حديث عمرو بن أمية الضمري قال :ــ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه ، رواه البخاري ولمسلم عن بلال قال :ــ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين والخمار ، وفي حديث ثوبان عند أحمد وأبي داود " فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين " والعصائب أي العمائم ،وفي المتفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى العمامة والخفين ، والأحاديث في المسح على العمامة كثيرة ، وبها نقول ، فالمسح على العمامة جائز ، وسيأتي مزيد تفصيل لذلك إن شاء الله تعالى عند الكلام على قاعدة المطلق والمقيد والمهم أن ما ذهب إليه جمهور أهل العلم ليس هو الراجح ، بل الراجح هو ما ذهب إليه أحمد من تجويز المسح على العمامة ، ولنا مناقشة في بعض شروط المسح عليها ستأتي ، إن شاء الله تعالى .(1/308)
ومنها :- قال تعالى " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم " ولقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يتعوذ قبل القراءة من عدة أحاديث هي في مجموعها تصح، فقد روى ابن ماجه في سننه قال :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَاصِمٍ الْعَنَزِيِّ عَنْ ابْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ قَالَ ( اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا ثَلَاثًا الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا ثَلَاثًا سُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ثَلَاثَ مَرَّاتِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ ..(1/309)
قَالَ عَمْرٌو هَمْزُهُ الْمُوتَةُ وَنَفْثُهُ الشِّعْرُ وَنَفْخُهُ الْكِبْرُ ) وفيه ضعف ، وقال أيضا :- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَهَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ ) قَالَ هَمْزُهُ الْمُوتَةُ وَنَفْثُهُ الشِّعْرُ وَنَفْخُهُ الْكِبْرُ وصححه الإمام الألباني رحمه الله تعالى وقال أحمد في المسند:- حَدَّثَنَا قُرَادٌ أَبُو نُوحٍ أَخْبَرَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ قَالَتْ كَانَ إِذَا قَامَ كَبَّرَ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتَلَفْتُ فِيهِ مَنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ قَالَ يَحْيَى قَالَ أَبُو سَلَمَةَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْثِهِ وَنَفْخِهِ قَالَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ(1/310)
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هَمْزُهُ وَنَفْخُهُ وَنَفْثُهُ قَالَ أَمَّا هَمْزُهُ فَهَذِهِ الْمُوتَةُ الَّتِي تَأْخُذُ بَنِي آدَمَ وَأَمَّا نَفْخُهُ فَالْكِبْرُ وَأَمَّا نَفْثُهُ فَالشِّعْرُ .. وفيه ضعف ، فإن قراد وإن كان ثقة لكن له أوهام ، وعكرمة بن عمار صدوق يغلط ، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب ، والأحاديث في ذلك متعددة ، والآثار عن الصحابة أكثر ، ونحن نقول بسنيتها ، أي أنه يسن أن يستعيذ الإنسان في صلاته بعد دعاء الاستفتاح وقبل البسملة والقراءة وأما مالك رحمه الله ، أخذ بعمل أهل المدينة في ترك التعوذ في الصلاة، ولا حجة له فيه ، لأن السنة قد صحت بذلك ، والأحاديث وإن لم تكن بحجة في آحادها ، لكنها بمجموعها ترتقي إلى مرتبة الصحة ، فالقول بها خير من الأخذ بعمل أهل المدينة في هذه المسألة ، والله أعلم .(1/311)
ومنها :- أقول :- سئل أصحاب الفضيلة في اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية عن حكم وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر في القيام في الصلاة ، وكيف أن مالكا لم يعمل به, وهل تركه للعمل به يعتبر نسخا للحديث ، وهل عمل أهل المدينة حجة ؟ فأجابوا بقولهم ( الحديث صحيح عند أئمة الحديث جميعًا ومنهم مالك بن أنس رحمه الله وليس بمنسوخ لا بعمل أهل المدينة ولا بغيره، وإنما تأوله مالك رحمه الله بحمله على وضع اليد اليمنى على اليسرى في النوافل ليستعين بذلك إذا طال قيامه فيها، ولا يفعل ذلك في الفريضة في نظره، ولذا قال: لا أعرف ذلك في الفريضة ولم يقل لا أعرف مطلقًا حتى يتعارض مع روايته هذا الحديث. وإنما تأوله كما تقدم تصريحه بذلك، والصحيح أن عمل أهل المدينة ليس بحجة؛ لأنهم غير معصومين وإنما المعصوم إجماع الأمة.وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ) قلت :- وقد وردت بذلك السنة الصحيحة الصريحة ، فدعك من أي عمل يخالفها ، واشدد على السنة بيديك ، ففي مسند أحمد عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعًا يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ فِي الصَّلَاةِ وروى الترمذي في سننه عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ هُلْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَؤُمُّنَا فَيَأْخُذُ شِمَالَهُ بِيَمِينِهِ ...(1/312)
قَالَ وَفِي الْبَاب عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ وَغُطَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ هُلْبٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يَرَوْنَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ فِي الصَّلَاةِ وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنْ يَضَعَهُمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنْ يَضَعَهُمَا تَحْتَ السُّرَّةِ وَكُلُّ ذَلِكَ وَاسِعٌ عِنْدَهُمْ اهـ قال الشوكاني في النيل مبينا كثرة الروايات في مسألة موضع اليدين في الصلاة مع بيان الحكم المختصر عليها (وَفِي الْبَابِ عَنْ هُلْبٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ ، وَفِي إسْنَادِهِ قَبِيصَةَ بْنُ هُلْبٍ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرَ سِمَاكٍ وَثَّقَهُ الْعِجْلِيّ . وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالنَّسَائِيُّ : مَجْهُولٌ ، وَحَدِيثُ هُلْبٍ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ .وَعَنْ غُطَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنِ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيِّ ، وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ حَرْمَلَةُ .وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْعُقَيْلِيُّ وَضَعَّفَهُ .وَعَنْ حُذَيْفَةَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيّ وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيّ مَرْفُوعًا وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا .وَعَنْ جَابِرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالدَّارَقُطْنِيّ .وَعَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ عِنْدَ أَبِي دَاوُد .وَعَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ وَقَالَ صَحِيحٌ .وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَفِيهِ عَبَّاسُ بْنُ يُونُسَ .(1/313)
وَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ ، وَفِيهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْلَى وَهُوَ ضَعِيفٌ .وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عِنْدَ الْهَيْثَمِيِّ مَوْقُوفًا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَعَنْ مُعَاذٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَفِيهِ الْخَصِيبُ بْنُ جَحْدَرَةَ .وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيِّ . وَعَنْ الْحَسَنِ مُرْسَلًا عِنْدَ أَبِي دَاوُد .وَعَنْ طَاوُسٍ مُرْسَلًا عِنْدَهُ أَيْضًا وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ ) فخلاف مالك إن صح عنه ، واحتجاجه بعمل أهل المدينة لا حجة له فيه ، والله أعلم .(1/314)
ومنها :- أقول :- لقد صحت الصلاة في المسجد على الجنازة ، وثبتت السنة بذلك ، فقد روى مسلم في صحيحه قال :- حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ وَاللَّفْظُ لِابْنِ رَافِعٍ قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ يَعْنِي ابْنَ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ لَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَتْ ادْخُلُوا بِهِ الْمَسْجِدَ حَتَّى أُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَأُنْكِرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ وَاللَّهِ لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجدِ سُهَيْلٍ وَأَخِيهِ.. وقال أيضا :- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا بَهْزٌ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا لَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَمُرُّوا بِجَنَازَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَيُصَلِّينَ عَلَيْهِ فَفَعَلُوا فَوُقِفَ بِهِ عَلَى حُجَرِهِنَّ يُصَلِّينَ عَلَيْهِ أُخْرِجَ بِهِ مِنْ بَابِ الْجَنَائِزِ الَّذِي كَانَ إِلَى الْمَقَاعِدِ فَبَلَغَهُنَّ أَنَّ النَّاسَ عَابُوا ذَلِكَ وَقَالُوا مَا كَانَتْ الْجَنَائِزُ يُدْخَلُ بِهَا الْمَسْجدَ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ مَا أَسْرَعَ النَّاسَ إِلَى أَنْ يَعِيبُوا مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ عَابُوا عَلَيْنَا أَنْ يُمَرَّ بِجَنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ وَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ إِلَّا فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ..(1/315)
وقال ابن أبي شيبة :- حدثنا حفص عن هشام بن عروة عن أبيه قال ما صلي على أبي بكر إلا في المسجد...وقال أيضا :- حدثنا الفضل بن دكين عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر أن عمر صلي عليه في المسجد... قال ابن حزم في المحلى:- ( وإدخال الموتى في المساجد والصلاة عليهم فيها حسن كله، وأفضل مكان صلى فيه على الموتى في داخل المساجد، وهو قول الشافعي وأبى سليمان، ولم ير ذلك مالك ) قلت :- ولا حجة له في ذلك إلا بعض المرويات الواهية ، وأنه ليس عليه عمل أهل المدينة ، وهذا كله لا طائل من ورائه والحق الجواز ، وبلا كراهة ، لكن من السنة اتخاذ مكان خارج البلد للصلاة على الجنائز ، وجزى الله تعالى من أحياها خير الجزاء ، ولكن الصلاة على الجنائز في المساجد لا حرج فيها بالسنة الصحيحة التي لا مدفع لها ، وإن عملت الدنيا بخلافها ، فكيف بمخالفة أهل المدينة لها ، مع أننا لا نسلم اتفاق أهل المدينة على خلاف هذه السنة ، والله أعلم .(1/316)
ومنها :- القول الصحيح إن شاء الله تعالى هو أن سنية سلام الخطيب على المأمومين بعد صعوده على المنبر ، وبهذا قال الشافعية ، والحنابلة . قال في الإنصاف : " بلا نزاع " ، يعني عند الحنابلة قال ابن ماجه في سننه : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ سَلَّمَ، وحسنه الألباني ، وروى البيهقي في سننه بسنده السنن عن نافع عن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دنا من منبره يوم الجمعة سلم على من عنده من الجلوس فإذا صعد المنبر استقبل الناس بوجهه ثم سلم ، وفيه ضعف ، وثبت ذلك من فعل أبي يكر وعثمان رضي الله عنهما ،ولعموم أدلة السلام ، وهي كثيرة ، وخالف في ذلك المالكية ، واستدلوا بأنه ليس عليه عمل أهل المدينة ، ولكن لا حجة ، فالذي يظهر رجحانه في هذه المسألة - والله أعلم بالصواب - هو القول الأول القائل بسنية سلام الخطيب على الناس إذا صعد المنبر ؛ لما استدلوا به ، ولعموم الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة في الحث على إفشاء السلام ، ومعارضة ذلك بعمل أهل المدينة فيه نظر ، لأنه معارضة للحجة بما ليس أصلا بحجة ، والله أعلم .(1/317)
ومنها :- ذهب المالكية إلى أن المأموم لا تجب عليه قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية ، بل المشروع في حقه أن ينصت ، وهو مذهب جماعة من أهل العلم ، واستدلوا عليه بقوله تعالى " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون " وبحديث " وإذا قرأ فأنصتوا " وبحديث " لعلكم تقرؤون خلفي ... الحديث " وبأن ذلك هو عمل أهل المدينة ، وذهب جماعة من أهل العلم إلى وجوب قراءتها على المأموم حتى فيما جهر فيه إمامه ، وقالوا :- إن الآية عامة ، إلا في المقدار الذي يقرأ فيه المأموم الفاتحة ، لأن دليلها خاص ، وقد تقرر في الأصول أن الخاص مقدم على العام ، وكذلك يقال في الحديث " وإذا قرأ فأنصتوا " فهو عام قد خص بقراءة المأموم للفاتحة ،قال أبو داود في سننه:- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَقَ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ كُنَّا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ " لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ" قُلْنَا نَعَمْ هَذًّا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ " لَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا" قَالَ الْخَطَّابِيُّ : (هَذَا الْحَدِيث صَرِيح بِأَنَّ قِرَاءَة الْفَاتِحَة وَاجِبَة عَلَى مَنْ خَلْف الْإِمَام سَوَاء جَهَرَ الْإِمَام بِالْقِرَاءَةِ أَوْ خَافَتَ بِهَا ، وَإِسْنَاده جَيِّد لَا طَعْن فِيهِ) قال في عون المعبود (الْقِرَاءَة خَلْف الْإِمَام فِيمَا أَسَرَّ وَفِيمَا جَهَرَ هَذَا هُوَ الْحَقّ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَالْأَوْزَاعِيُّ(1/318)
وَاللَّيْث بْن سَعْد وَأَبُو ثَوْر ، وَبِهِ قَالَ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَمَكْحُول ) قَالَ الْبُخَارِيّ فِي جُزْء الْقِرَاءَة ( قَالَ الْحَسَن وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَمَيْمُون بْن مَهْرَان وَمَا لَا أُحْصِي مِنْ التَّابِعِينَ وَأَهْل الْعِلْم : إِنَّهُ يَقْرَأ خَلْف الْإِمَام وَإِنْ جَهَرَ ) وقال فيه أيضا ( وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب : اِقْرَأْ خَلْف الْإِمَام .قُلْت : وَإِنْ قَرَأْت قَالَ : نَعَمْ وَإِنْ قَرَأْت وَكَذَلِكَ قَالَ أُبَيُّ بْن كَعْب وَحُذَيْفَة بْن الْيَمَان وَعُبَادَةُ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ وَيُذْكَر عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَعَبْد اللَّه بْن عَمْرو وَأَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ وَعِدَّة مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْو ذَلِكَ ) وقال الحافظ في الفتح ( وَقَدْ ثَبَتَ الْإِذْنُ بِقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ الْفَاتِحَةَ فِي الْجَهْرِيَّةِ بِغَيْرِ قَيْد ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ فِي " جُزْء الْقِرَاءَة " وَاَلتِّرْمِذِيّ وَابْن حِبَّانَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ رِوَايَة مَكْحُول عَنْ مَحْمُود بْن الرَّبِيع عَنْ عُبَادَة " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فِي الْفَجْرِ ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ . قَالَ : فَلَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا " وَالظَّاهِر أَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ مُخْتَصَر مِنْ هَذَا وَكَانَ هَذَا سَبَبَهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - .(1/319)
وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَة عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ ، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَس عِنْدَ اِبْنِ حِبَّانَ ) وأما القول بأن عدم القراءة في حق المأموم في الصلاة الجهرية هو عمل أهل المدينة ، فلا وجه للاحتجاج بها ، لأن عمل أهل المدينة ليس بحجة ، والراجح في هذه المسألة هو وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الجهرية ، والله أعلم .(1/320)
ومنها :- نص المالكية على أنه يجوز لسامع الأذان أن يقول ألفاظه كلها قبل قول المؤذن لها ، قال في شرح مختصر خليل ( وَحِكَايَتُهُ قَبْلَهُ أَيْ يَجُوزُ لِسَامِعِ الْأَذَانِ إذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ ابْتِدَاءً أَنْ يَحْكِيَهُ قَبْلَ أَنْ يَنْطِقَ بِبَاقِي كَلِمَاتِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِحَاجَةٍ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الذِّكْرُ وَالتَّحْمِيدُ وَهُوَ حَاصِلٌ بِسَبْقِهِ وَالْعَمَلُ يُقَوِّيهِ) فقوله ( والعمل يقويه ) أي عمل أهل المدينة ، قلت :- وهذا خلاف السنة ، بل السنة في الترديد أن لا يقول السامع لفظة من ألفاظ الأذان إلا بعد قول المؤذن لها هكذا السنة ، فقد قال صلى الله عليه وسلم " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول " متفق عليه ، وروى مسلم في صحيحه قال :- حَدَّثَنِي إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمٍ الثَّقَفِيُّ حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسَافٍ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ فَقَالَ أَحَدُكُمْ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ قَالَ(1/321)
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ " وهذا ظاهر الدلالة فيما رجحناه ، قال النووي في فوائد هذا الحديث ( وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبّ أَنْ يَقُول السَّامِع كُلّ كَلِمَة بَعْد فَرَاغ الْمُؤَذِّن مِنْهَا ) وهذا هو الحق ، وأما تعليل المالكية ما ذهبوا إليه بأنه عمل أهل المدينة فهو تعليل عليل لمخالفته لظاهر السنة ، والله أعلم.(1/322)
ومنها :- ذهب مالك وجمع إلى أنه لا سجود للتلاوة في سورة النجم ، واستدل على ذلك بحديث عدم سجود النبي صلى الله عليه وسلم فيها ، وذلك فيما رواه مسلم في الصحيح قال :- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَابْنُ حُجْرٍ قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا وَقَالَ الْآخَرُونَ حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ عَنْ ابْنِ قُسَيْطٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ الْإِمَامِ فَقَالَ لَا قِرَاءَةَ مَعَ الْإِمَامِ فِي شَيْءٍ وَزَعَمَ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى فَلَمْ يَسْجُدْ" وبأنه عمل أهل المدينة ، قال النووي (فَاحْتَجَّ بِهِ مَالِك - رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى - وَمَنْ وَافَقَهُ فِي أَنَّهُ لَا سُجُود فِي الْمُفَصَّل ، وَأَنَّ سَجْدَة النَّجْم وَإِذَا السَّمَاء اِنْشَقَّتْ وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك مَنْسُوخَات بِهَذَا الْحَدِيث ، أَوْ بِحَدِيثِ اِبْن عَبَّاس : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْجُد فِي شَيْء مِنْ الْمُفَصَّل مُنْذُ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَة) وقال الحافظ رحمه الله تعالى في الفتح (وَزَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّ عَمَل أَهْل الْمَدِينَة اِسْتَمَرَّ بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْك السُّجُود فِيهَا) ولكن الراجح في هذه المسألة هو مشروعية السجود فيها لثبوت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم ، ففعله لها يدل على المشروعية ، وتركه يدل على عدم الوجوب ، فهي سجدة ، ولكنها ليست من عزائم السجود ، بل عدى مالك ذلك إلى كل المفصل كما ذكره النووي ، فلا سجود للتلاوة عند مالك في كل المفصل ، والدليل على الترجيح ما رواه مسلم في(1/323)
الصحيح قال :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَالَ سَمِعْتُ الْأَسْوَدَ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ وَالنَّجْمِ فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرَ أَنَّ شَيْخًا أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ يَكْفِينِي هَذَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا. فصح عنه فيها السجود وعدم السجود ، ولا اختلاف فيه لجواز هذا وهذا ، وقال البخاري في الصحيح :- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ بِالنَّجْمِ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ .. ودعوى النسخ لا تقبل لأن الجمع ممكن ، وقد تقرر أنه لا نسح الجمع بين الدليلين واجب ما أمكن ، وأنه مقدم على القول بالنسخ ، وأما دعوى ترك أحاديث السجود فيها لأنه خلاف عمل أهل المدينة ، فهو باطل لأن عمل أهل المدينة ليس بحجة ، بل يترك عمل أهل المدينة ويعمل بالحديث ، ولا كرامة لعمل خالف النص الصحيح الصريح ، والله أعلم .(1/324)
ومنها :- أقول :- لقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن كان يزيد أحيانا في السلام في الصلاة عن شقه الأيمن فقط لفظة ( وبركاته ) وذلك فيما رواه أبو داود في سننه قال :- حدثنا عبدة بن عبد الله حدثنا يحيى بن آدم حدثنا موسى بن قيس الحضرمي عن سلمة بن كهيل عن علقمة بن وائل عن أبيه قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعن شماله السلام عليكم ورحمة الله . وهو حديث صحيح ، وأما في الشمال فلم يصح ذلك فيما أعلم من النظر في الروايات ، وزيادتها في بعض نسخ بلوغ المرام من الخطأ الذي لا بد من تنبيه حفاظها عليه ، وأما ثبوت زيادة ( وبركاته ) في السلام من الصلاة على الشق الأيمن فنحن نقول بها ، فمن السنة فعله أحيانا ، ولكن قال الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير في فقه المالكية (وَلَا يَضُرُّ زِيَادَةُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ الصَّلَاةِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا غَيْرُ سُنَّةٍ وَإِنْ ثَبَتَ بِهَا الْحَدِيثُ لِأَنَّهَا لَمْ يَصْحَبْهَا عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ) قلت :- ولا حق له في اعتبار المذهب ولا ما عمله أهل المدينة بعد إثبات أنها زيادة صحيحة ، فالسنة أن تزاد أحيانا ، وأما عمل أهل المدينة فليس معيارا صحيحا لمعرفة ما يثبت به العمل مما لا يثبت به ، لأن المعيار الصحيح هو موافقة الدليل الشرعي الصحيح الصريح ، فالحق أنها تقال أحيانا ، والله أعلم .(1/325)
ومنها :- أقول :- الحق الذي لا ريب فيه هو أن التتريب في غسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا من الواجبات ، وذلك لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعا أولاهن بالتراب " متفق عليه واللفظ لأحمد ومسلم ، وعن عبدالله بن المغفل رضي الله عنه قال :- أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ، ثم قال " ما بالهم وبال الكلاب " ثم رخص في لب الصيد والغنم ، وقال " إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعا ، وعفروه الثامنة بالتراب " رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي فمع صحة هذه النصوص فلا حق لأحد أن يهجم عليها بتأويل سامج ، ولا أن يقدم عليها عمل أحد كائنا من كان ، وعليه فما قاله بعض المالكية من أنه ( لَا يُنْدَبُ التَّتْرِيبُ بِأَنْ يُجْعَلَ فِي أَوَّلَاهُنَّ أَوْ الْأَخِيرَةِ أَوْ غَيْرِهِمَا تُرَابٌ ، لِأَنَّ طُرُقَ التَّتْرِيبِ مُضْطَرِبَةٌ ضَعِيفَةٌ لَمْ يُعَوِّلْ عَلَيْهَا الْإِمَامُ مَعَ كَوْنِ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى خِلَافِهِ) فقوله ( طرق التتريب مضطربة ) هي في حقيقتها كلمة فقيه لا علم عنده بالحديث ولا بطرقه ولا برواياته وإلا فأصغر الطلاب يعلم أن التتريب قد صح ، ولكنه التعصب الأعمى ، وقوله ( مع كون عمل أهل المدينة بخلافه ) خراقة أخرى ، ينبغي إخراجها من كتب الفقه ، التي ما ألفت إلا لهداية الناس ، ودلالتهم على ما هو مشروع ، فإنه إن صح الحديث فالواجب القول بمدلوله وإن خالفه عمل أهل المدينة ، فالحق ثبوتها وأنها من الواجبات في غسل نجاسة الكلب من الإناء ، والمتروك ليس هو الحديث ، بل المتروك هو عمل أهل المدينة بخلاف النص الصحيح الصريح ، والله أعلم .(1/326)
ومنها :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في حكم الضجعة على الشق الأيمن بعد صلاة ركعتي الفجر القبلية ، على أقوال وقد أجملها المباركفوري في تحفة الأحوذي فقال (وَلِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الِاضْطِجَاعِ أَقْوَالٌ .الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مَشْرُوعٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ كَمَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ . قَالَ الْحَافِظُ اِبْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ : قَدْ ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ . فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ اِبْنِ سِيرِينَ أَنَّ أَبَا مُوسَى وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَضْطَجِعُونَ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَيَأْمُرُونَ بِذَلِكَ : وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ : مِمَّنْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَوْ يُفْتِي بِهِ عَنْ الصَّحَابَةِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ اِنْتَهَى . وَمَنْ قَالَ بِهِ مِنْ التَّابِعِينَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ كَمَا فِي شَرْحِ الْمُنْتَقَى . وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى : وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ فِي كِتَابِ السَّبْعَةِ أَنَّهُمْ يَعْنِي : سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ وَالْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَأَبَا بَكْرٍ هُوَ اِبْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَخَارِجَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ كَانُوا يَضْطَجِعُونَ عَلَى أَيْمَانِهِمْ بَيْنَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ اِنْتَهَى .(1/327)
وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ . قَالَ الْعَيْنِيُّ فِي عُمْدَةِ الْقَارِي : ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ اِنْتَهَى . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الِاضْطِجَاعَ وَاجِبٌ لَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَلِيِّ بْنِ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ كَمَا قَالَ فِي الْمُحَلَّى : كُلُّ مَنْ رَكَعَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ صَلَاةُ الصُّبْحِ إِلَّا بِأَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ بَيْنَ سَلَامِهِ مِنْ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَبَيْنَ تَكْبِيرِهِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ ، فَإِنْ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَضْطَجِعَ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الضُّجَعَةِ عَلَى الْيَمِينِ لِخَوْفٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ حَسَبَ طَاقَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا . قَالَ عَلِيٌّ : قَدْ أَوْضَحْنَا أَنَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّهُ عَلَى الْفَرْضِ حَتَّى يَأْتِيَ نَصٌّ آخَرُ أَوْ إِجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ عَلَى أَنَّهُ نَدْبٌ فَنَقِفُ عِنْدَهُ ، وَإِذَا تَنَازَعَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَالرَّدُّ إِلَى كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِنْتَهَى .(1/328)
قُلْت : قَدْ عَرَفْت أَنَّ الْأَمْرَ الْوَارِدَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُدَاوِمُ عَلَى الِاضْطِجَاعِ فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِصِحَّةِ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَقَدْ مَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّوْكَانِيُّ إِلَى الْوُجُوبِ حَيْثُ قَالَ فِي آخِرِ بَحْثِ الِاضْطِجَاعِ : وَعَلِمْت بِمَا أَسْلَفْنَا لَك مِنْ أَنَّ تَرْكَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُعَارِضُ الْأَمْرَ لِلْأُمَّةِ الْخَاصِّ بِهِمْ وَلَاحَ لَك قُوَّةُ الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا الِاضْطِجَاعَ بِدْعَةٌ وَمَكْرُوهٌ : وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ اِبْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ عَلَى اِخْتِلَافٍ عَنْهُ . وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى . رَوَى اِبْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ لَا يُعْجِبُهُ الِاضْطِجَاعُ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ .(1/329)
وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ : التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَنْ يَقُومُ اللَّيْلَ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَلَا يُشْرَعُ لَهُ وَاخْتَارَهُ اِبْنُ الْعَرَبِيِّ وَقَالَ لَا يَضْطَجِعُ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَامَ اللَّيْلَ فَيَضْطَجِعَ اِسْتِجْمَامًا لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَلَا بَأْسَ ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْطَجِعُ لِسُنَّةٍ وَلَكِنَّهُ كَانَ يَدْأَبُ لَيْلَهُ فَيَسْتَرِيحُ ، وَهَذَا لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ رَاوِيًا لَمْ يُسَمَّ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهَا ظَنٌّ وَتَخْمِينٌ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ ، وَقَدْ رَوَتْ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ وَالْحُجَّةُ فِي فِعْلِهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَمْرُهُ بِهِ فَتَأَكَّدَتْ بِذَلِكَ مَشْرُوعِيَّتُهُ . وَقَدْ أَجَابَ مَنْ لَمْ يَرَ مَشْرُوعِيَّةَ الِاضْطِجَاعِ عَنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ بِأَجْوِبَةٍ كُلُّهَا مَخْدُوشَةٌ فَإِنْ شِئْت الْوُقُوفَ عَلَيْهَا وَعَلَى مَا فِيهَا مِنْ الْخَدَشَات فَعَلَيْك أَنْ تُطَالِعَ فَتْحَ الْبَارِي وَالنِّيلَ وَغَيْرَهُمَا .(1/330)
وَالْقَوْلُ الرَّاجِحُ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الِاضْطِجَاعَ بَعْدَ سُنَّةِ الْفَجْرِ مَشْرُوعٌ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ ) وكلامه متين لا زيادة عليه ، فقد روى البخاري في الصحيح قال :- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ بِالْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَبِينَ الْفَجْرُ ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلْإِقَامَةِ) وعن أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا صَلَّى أَحَدكُمْ رَكْعَتَيْ الْفَجْر فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى يَمِينه ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيح عَلَى شَرْط الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم . قَالَ التِّرْمِذِيّ : هُوَ حَدِيث حَسَن صَحِيح، وصححه الألباني ، رحم الله الجميع رحمة واسعة ، ومع صحة هذه الأحاديث فلا حق لأحد أن يقدم عليها عمل أحد كائنا من كان ، وعليه فقول بعض المالكية رحمه الله تعالى ( وَ ) كُرِهَ ( ضِجْعَةٌ ) بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ الْهَيْئَةُ الْمَعْلُومَةُ بِأَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ غَيْرُنَا ؛ إذْ لَمْ يَصْحَبْهَا عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ) قوله هذا ، ورده للخبر الصحيح في شأن هذه الضجعة لمجرد أنه لم يصحب بعمل أهل المدينة لا حق له فيه ، بل الحق أن عمل أهل المدينة بخلاف هذا الأخبار هو المتروك ، وأن الخبر بها هو الحق المعتمد الذي يجب قبوله ، ولا يجوز تعديه ، والله أعلم .(1/331)
ومنها :- لقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة بسورة السجدة ، وسورة الإنسان ، فقد روى البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ وَهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ ) ورواه مسلم أيضا وغيرهما ، ومن المعلوم أن الحالة الدارجة الغالبة عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يسجد عند قراءة آية سجدة ، ففي هذا دليل على أنه كان يسجد في الصلاة المفروضة ، وعليه فلا حق لأحد أن يجعل السجود في صلاة الفرض من جملة المكروهات إذ كيف يكون مكروها وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم ، فما نص عليه بعض المالكية من أنه من مكروهات الصلاة أن يقرأ فيها آية سجدة ، ثم قال :- (وَلَوْ صُبْحَ جُمُعَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ أَيْ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِنَدْبِهَا فِيهِ لِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ؛ لِأَنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى خِلَافِهِ فَدَلَّ عَلَى نَسْخِهِ ) وهذه طامة كبيرة ، أن يترك العمل بالحديث الصحيح الصريح من أجل ترك بعض أهل العلم للعمل به ، ويزاد على ذلك أن يدعى فيه النسخ ، لأن هذا البعض ترك العمل به ، وهذا والله بعيد عن التحقيق العلمي ، لا من جهة معرفة الميزان الصحيح فيما يعمل أو ما لا يعمل به ، ولا من جهة معرفة ما يثبت به النسخ ، نعوذ بالله من رد ما صح من السنة بمثل هذه الترهات التي ما أنزل الله بها من سلطان ، والله أعلم .(1/332)
ومنها :- أقول :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى فيمن أعتق أمته وجعل عتقها صداقها ، فهل يصح ذلك أو لا ؟ على أقوال فذهب :- سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالْحَسَن وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو يُوسُف وَأَحْمَد وَإِسْحَاق : يَجُوز أَنْ يُعْتِقهَا عَلَى أَنْ تَتَزَوَّج بِهِ ، وَيَكُون عِتْقهَا صَدَاقهَا ، وَيَلْزَمهَا ذَلِكَ ، و قال الْجُمْهُور : لَا يَلْزَمهَا أَنْ تَتَزَوَّج بِهِ ، وَلَا يَصِحّ هَذَا الشَّرْط .(1/333)
وَمِمَّنْ قَالَهُ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن وَزُفَر، والقول الصحيح أن ذلك جائز وبرهان ذلك ما رواه البخاري في الصحيح قال :- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ وَشُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا ، وهذا الحديث هو الأصل في الباب ، وروى مسلم في الصحيح قال :- حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ يَعْنِي ابْنَ عُلَيَّةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا خَيْبَرَ قَالَ فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِغَلَسٍ فَرَكِبَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكِبَ أَبُو طَلْحَةَ وَأَنَا رَدِيفُ أَبِي طَلْحَةَ فَأَجْرَى نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ وَإِنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْحَسَرَ الْإِزَارُ عَنْ فَخِذِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي لَأَرَى بَيَاضَ فَخِذِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا دَخَلَ الْقَرْيَةَ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ{ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ } قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَ وَقَدْ خَرَجَ الْقَوْمُ إِلَى أَعْمَالِهِمْ فَقَالُوا مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ قَالَ وَأَصَبْنَاهَا عَنْوَةً وَجُمِعَ السَّبْيُ فَجَاءَهُ دِحْيَةُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي جَارِيَةً مِنْ السَّبْيِ فَقَالَ(1/334)
اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً فَأَخَذَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَعْطَيْتَ دِحْيَةَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ سَيِّدِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ مَا تَصْلُحُ إِلَّا لَكَ قَالَ ادْعُوهُ بِهَا قَالَ فَجَاءَ بِهَا فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ خُذْ جَارِيَةً مِنْ السَّبْيِ غَيْرَهَا قَالَ وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَقَالَ لَهُ ثَابِتٌ يَا أَبَا حَمْزَةَ مَا أَصْدَقَهَا قَالَ نَفْسَهَا أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا حَتَّى إِذَا كَانَ بِالطَّرِيقِ جَهَّزَتْهَا لَهُ أُمُّ سُلَيْمٍ فَأَهْدَتْهَا لَهُ مِنْ اللَّيْلِ فَأَصْبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرُوسًا فَقَالَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيَجِئْ بِهِ قَالَ وَبَسَطَ نِطَعًا قَالَ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْأَقِطِ وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالتَّمْرِ وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالسَّمْنِ فَحَاسُوا حَيْسًا فَكَانَتْ وَلِيمَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .. وحيث صحت السنة بذلك فلا يقال بغير ما وردت به ، فإن قيل :- ألا يحمل ذلك على الخصوصية ؟ قبل :- لا ، لأنه قد ثبت أن الأصل في الأحكام الشرعية التعميم ، ولأنه قد ثبت أن كل حكم ثبت في حقه صلى الله عليه وسلم فإنه يثبت لأمته تبعا إلا بدليل الاختصاص ، ولأنه قد ثبت أن الأصل في الخصائص التوقيف على الدليل ، فإن قيل :- أنه لَمْ يَصْحَبْهُ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فيقال :- وإن يكن ، فإن تخلف عمل أهل المدينة ليس بقادح في النص ، فالصحيح في هذه المسألة هو جواز إعتاق الأمة وجعل عتقها صداقها ، والله أعلم .(1/335)
ومنها :- قال المالكية :- إن الأمام لا يؤمن ، وإنما التأمين سنة في حق المأموم فقط ، وقالوا :- تأمين الإمام ليس عليه أهل المدينة ، والحق أن التأمين سنة في حق الإمام كذلك ، وما ذهب إليه المالكية ومن وافقهم ليس براجح، ودليل ما قلناه حديث أبي هريرة رضي الله نه في الصحيحين قال:- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أمن الإمام فأمنوا ، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة ، غفر له ما تقدم من ذنبه " وأما دعوى أنه ليس عليه عمل أهل المدينة ، فدعوى غير مسموعة ، لأن الحديث الآحاد حجة وإن لم يجر عليه عمل أهل المدينة ، والله أعلم.(1/336)
ومنها :- القول الصحيح جواز المعانقة للقادم من سفر ، وهذا الترجيح لا ريب فيه ، وقد ثبت به النص ، ودليل ذلك ما أخرجه البخاري في الْأَدَب الْمُفْرَد " فَإِنَّهُ تَرْجَمَ فِيهِ " بَاب الْمُعَانَقَة " وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيث جَابِر أَنَّهُ بَلَغَهُ حَدِيث عَنْ رَجُل مِنْ الصَّحَابَة قَالَ " فَابْتَعْت بَعِيرًا فَشَدَدْت إِلَيْهِ رَحْلِي شَهْرًا حَتَّى قَدِمْت الشَّام ، فَإِذَا عَبْد اللَّه بْن أُنَيْسٍ فَبَعَثْت إِلَيْهِ فَخَرَجَ ، فَاعْتَنَقَنِي وَاعْتَنَقْتُهُ " وروى الترمذي في جامعه بسنده عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي فَأَتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ فَقَامَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرْيَانًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ .(1/337)
قال المباركفوري في التحفة ( وَفِي الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ الْمُعَانَقَةِ لِلْقَادِمِ مِنْ السَّفَرِ وَهُوَ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ ، وَقَدْ وَرَدَ أَيْضًا فِي الْمُعَانَقَةِ ) وأما حديث أنس رضي الله عنه عند النسائي قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَنْحَنِي بَعْضُنَا لِبَعْضٍ قَالَ لَا قُلْنَا أَيُعَانِقُ بَعْضُنَا بَعْضًا قَالَ لَا وَلَكِنْ تَصَافَحُوا، فهو في غير القادم من السفر ، قال المباركفوري في التحفة ( فَإِنْ قُلْت : مَا وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا وَبَيْنَ حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الْمُعَانَقَةِ ، قُلْت : حَدِيثُ أَنَسٍ لِغَيْرِ الْقَادِمِ مِنْ السَّفَرِ ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ لِلْقَادِمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ) وقد التزم النبي صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما قدم عليه من الحبشة بعد فتح خيبر ، وعلى ذلك ، فما قاله بعض المالكية رحمه الله تعالى من أن هذه الأحاديث متروكة لأنها ليس عليها عمل أهل المدينة ، كلام غير مقبول ، بل المتروك هو عمل أهل المدينة لأجل هذه الأحاديث ، قال هذا المالكي ( لَا ) تُنْدَبُ ( الْمُعَانَقَةُ ) بَلْ تُكْرَهُ عِنْدَ مَالِكٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ وَرَدَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَانَقَ سَيِّدَنَا جَعْفَرًا حِينَ قَدِمَ مِنْ السَّفَرِ } - فَعِلَّةُ الْكَرَاهَةِ مِنْ كَوْنِ النُّفُوسِ تَنْفِرُ مِنْهَا - مَنْفِيَّةٌ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .(1/338)
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الْمُجْتَهِدِينَ بِجَوَازِهَا وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ : " كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا الْتَقَوْا تَصَافَحُوا فَإِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ تَعَانَقُوا " وَهَذَا يَرِدُ عَلَى الْمَشْهُورِ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ حُجَّةٌ لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ مَا تَقَدَّمَ ) وهذه جرأة لا تقبل من العالم الناصح للأمة ، ولكن عفا الله عنه وغفر له هذه الزلة ، فإنه مجتهد ، ولكن ما قاله خطأ غير مقبول ، بل الحق والصواب ، جواز المعانقة للقادم من سفر أو طول غيبة ، والله أعلم .(1/339)
ومنها :- المستحب بلا ريب أن يبكر بالإتيان إلى الجمعة ، كما شهدت بذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة ، والتي لا مطعن فيها ، فكلما بكر المصلي في الإتيان كلما عظم ثوابه وازداد أجره وعد من السابقين ، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ" وفيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَاهُ عُمَرُ أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ قَالَ إِنِّي شُغِلْتُ فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ فَلَمْ أَزِدْ أَنْ تَوَضَّأْتُ فَقَالَ وَالْوُضُوءُ أَيْضًا وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ " وعَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَسَّلَ وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَدَنَا وَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَجْرُ سَنَةٍ صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا" وهو حديث حسن، والعجب من مالك رحمه الله تعالى ، من أنه لا يرى التبكير(1/340)
يوم الجمعة ، بل المفضل عنده أنه لا يأتي الإنسان لها إلا قبيل خطبتها ، وهذا لا أدري ما الحامل له عليه ، لكنه عمل أهل المدينة الذي هو عمدة عند مالك رحمه الله تعالى, قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ( وَأَقْوَى مُعْتَمَدِ مَالِكٍ فِي كَرَاهِيَةِ الْبُكُورِ إلَيْهَا عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُتَّصِلُ بِتَرْكِ ذَلِكَ وَسَعْيُهُمْ إلَيْهَا قُرْبَ صَلَاتِهَا وَهَذَا نَقْلٌ مَعْلُومٌ غَيْرُ مُنْكَرٍ عِنْدَهُمْ وَلَا مَعْمُولَ بِغَيْرِهِ وَمَا كَانَ أَهْلُ عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ يَتْرُكُ الْأَفْضَلَ إلَى غَيْرِهِ وَيَتَمَالَئُونَ عَلَى الْعَمَلِ بِأَقَلِّ الدَّرَجَاتِ) وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا أَنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَشْهَدُ لَهُ .(1/341)
واستنكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله تعالى وبين أن ما ذهب إليه مالك رحمه الله تعالى خلاف السنة ، فَقَالَ الْأَثْرَمُ قِيلَ لِأَحْمَدَ كَانَ مَالِكٌ يَقُولُ لَا يَنْبَغِي التَّهْجِيرُ يَوْمَ ، الْجُمُعَةِ فَقَالَ هَذَا خِلَافُ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ إلَى أَيِّ شَيْءٍ ذَهَبَ فِي هَذَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ( كَالْمُهْدِي جَزُورًا ) وَأَنْكَرَ عَلَى مَالِكٍ أَيْضًا ابْنُ حَبِيبٍ إنْكَارًا بَلِيغًا فَقَالَ هَذَا تَحْرِيفٌ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ وَمُحَالٌ مِنْ وُجُوهٍ لِأَنَّهُ لَا تَكُونُ سَاعَاتٌ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَشَرْحُ الْحَدِيثِ بَيِّنٌ فِي لَفْظِهِ وَلَكِنَّهُ حُرِّفَ عَنْ مَوْضِعِهِ وَشُرِحَ بِالْخُلْفِ مِنْ الْقَوْلِ وَزُهِدَ فِيمَا رَغَّبَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ التَّهْجِيرِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إنَّمَا يَجْتَمِعُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ قُرْبَ زَوَالِ الشَّمْسِ حَكَاهُ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ هَذَا مِنْهُ تَحَامُلٌ عَلَى مَالِكٍ .(1/342)
قلت :- ليس هذا من التحامل في شيء بل هو إحقاق للحق الواضح الذي لا تنبغي المخالفة فيه ، وقال في طرح التثريب ( وَمَا أَدْرِي أَيْنَ الْعَمَلُ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ وَعُمَرُ يُنْكِرُ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ التَّخَلُّفَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْدُبُ إلَى التَّبْكِيرِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ ) فالحق يا إخواني هو استحباب التبكير للجمعة ، ولا عبرة بأي قول خالف ما صح من النصوص أيا كان قائله ، فرحم الله الإمام مالك ، وجزاه الله خير ما جزى عالما عن أمته ، فكم له من الفضائل التي لا تحصى والسبق الذي لا يدرك ، وكفى بالمرء نبلا أن تعد معابيه ،وقد ربانا هذا الإمام على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم .فهذه بعض الأمثلة الموضحة لك ما قلته في أول القاعدة ، وعلى ذلك فلا بد أن نقرر قاعدة مهمة في هذا الباب ، ونصها يقول ( خبر الآحاد حجة وإن خالفه عمل أهل المدينة ) فاحفظها بارك الله فيك وجزاك خيرا ، فإنها الثمرة التي أريد إثباتها لك في هذا البحث كله ، والله ربنا أعلى وأعلم .
س114) ما الحكم إذا تعارض خبر الواحد مع ما يدعى أنه من القواعد ، أي خبر الواحد إن خالف القواعد فهل يعمل به أو لا ؟ مع بيان أمثلة على ذلك ؟(1/343)
ج) أقول :- إن القاعدة المقررة على خلاف الأحاديث الصحيحة قاعدة لا خير فيها ، وهل يمكن أن يعارض ما صح من الأحاديث بما قرره أهل العلم من القواعد ؟ هل يمكن هذا ،؟ وهل يسوغ هذا ؟ أوَيعاض قول المعصوم صلى الله عليه وسلم بقول من ليس بمعصوم ؟ تالله إنها لأحدى الهفوات الكبيرة التي لا حل لها ، إلا بمراجعة هذه القواعد التي قررت على غير هدي الدليل, ولذلك كانت أصح الأصول ، وأصح القواعد هي أصول وقواعد أهل الحديث ، لأنهم لا يعرف عنهم من الأصول والقواعد إلا ما وافق الدليل ،لا سيما الحنابلة والشافعية رحمهم الله تعالى ، فإن القواعد التي يؤخذ عليها مخالفة الدليل قليلة ، وغالب أصولهم وقواعدهم صحيحة ، ويأتي في الدرجة الثالثة المالكية ، وفي المرتبة الرابعة الحنفية ، ونحن نقول هنا :- إن كل قاعدة تضمنت رد الحديث الشرعي الصحيح الصريح فإنها باطلة ، باطلة ، باطلة ، ولا يجوز قبولها ، ولا اعتمادها ، ولا التعويل عليها ولا إدخالها أصلا في كتب الهداية إلا من باب التحذير منها ، مهما قالها من قالها ، ولا يجوز التعصب للمذهب على حساب رد الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل الحق هو أن تثور الحمية للنبي صلى الله عليه وسلم في الانتصار لقوله إن عارضه قول أحد كائنا من كان ، فلا ينسف الحديث من أجل أنه مخالف لشيء من القواعد ، بل الحق نسف القاعدة من أجله ، ورحم الله ابن القيم لما قال ( أَمَّا أَنْ نُقَعِّدَ قَاعِدًة وَنَقُولُ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ ثُمَّ نَرُدُّ السُّنَّةَ لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ تِلْكَ الْقَاعِدِ فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَهَدْمُ أَلْفِ قَاعِدَةٍ لَمْ يُؤَصِّلْهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَفْرَضُ عَلَيْنَا مِنْ رَدِّ حَدِيثٍ وَاحِدٍ ) فلا يجوز أن نجعل أصلا ولا قاعدة إلا إن كان النص دالا عليها ، وهذه المخالفة المدعاة لا تكون في الغالب إلا في تلك القواعد التي أفرزتها العقول ، ولا دليل عليها ، ولذلك فإنه لو(1/344)
كانت القاعدة مستمدة من الكتاب والسنة فإنها لا تكون أبدا إلا موافقة لدلالة الكتاب والسنة ، لكن المشكلة في تلك القواعد التي لا دليل عليها إلا محض الرأي والاختراع ، ونحن في هذا الكتاب من مقاصدنا أن نبين زيف كثير من تلك القواعد التي يدعى أنها قواعد وليست هي حقيقتها قواعد ، بل هي محض آراء لا طائل من ورائها إلا معارضة الأدلة ، وهذه منها ، أعني قول من قال :- إن خبر الآحاد إن كان معارضا للقواعد فإن القواعد تقدم عليه ، وهي قاعدة باطلة ، لا أساس لها من الصحة ، لأنها مخالفة للشريعة ، بل الحق أن الواجب هو الأخذ بما ورد به النص الصحيح الصريح ، وإلغاء تلك القاعدة ، وذلك لأن الأدلة التي ذكرناها في سياق الاستدلال على حجية خبر الآحاد وردت عامة مطلقة ، ولم تقيد بكون الخبر فيما يتوافق مع القواعد أو يخالفها ، والأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص ، والبقاء على المطلق حتى يرد المقيد ، هذا هو ما ندين الله تعالى به ، وأنا في مسيرتي العلمية ، قد أخذت العهد على نفسي أن لا أترك العمل بدليل إلا بالمسوغ الشرعي, وليس من المسوغات الشرعية عندي أن يكون الخبر مما يخالف القواعد ، ولا أظنك إن شاء الله إلا كذلك فالقاعدة المتقررة عند عامة أهل السنة إلا ما ندر أن خبر الآحاد حجة مطلقا ، حتى ولو خالف ألف قاعدة ، فإن القواعد التي تخالف النص هي التي تكون باطلة ، وهي التي تحتاج أن ينظر فيها وأن يعتذر عن قائليها ، وأما النص فهو الحق والصدق والبر والهدى والإحسان الذي يجب اعتماده والتعويل عليه ، وهذا من تعظيم النصوص ، والذي يجب على طالب العلم أن يربي نفسه عليه وحيث تقدم ذكر الأدلة بأسانيدها على صحة ما ذهبنا إليه فلم يبق إلا قضية التفريع على ما ذكرناه فأقول وبالله تعالى التوفيق ومنه أستمد العون والفضل وحسن التحقيق :-(1/345)
من الفروع عليها :- القول الصحيح والرأي الراجح المليح ، أن الكافر إن فعل شيئا من الأعمال الطيبة فإنه يثاب عليها في الدنيا فقط دون الآخرة ، وعلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا" وهو نص صحيح صريح في المراد ، وعليه فدعوى بعض أهل العلم - رحمه الله تعالى - بأن هذه الأحاديث مخالفة للقواعد فلا يقال بها ، دعوى سامجة غير مقبولة ، بل الحق قبول دلالة هذه الأحاديث ، وعدم الاعتداد بأي قاعدة تخالفها ، فالكافر إذا فعل بعض الأعمال الطيبة فإن الله تعالى لا يظلمه عمله ولن يطعمه ثواب هذا العمل في الدنيا فقط ، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها وهذا هو الحق في هذه المسألة ، بناء على هذا الحديث، والله أعلم .(1/346)
ومنها :- أن القول الصحيح هو أن الكافر إذا أسلم فإنه يسلم على ما سلف من الخير ، أي أن أعماله الطيبة التي فعلها في حال كفره تكون له ، أي يثاب عليها وتكون في ميزان حسناته ، فلا يعدم ثوابها لا في الدنيا ولا في الآخرة، هذا هو الحق في هذه المسألة ، وعلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " إذا أسلم العبد ، فحسن إسلامه ، كتب الله له كل حسنة كان أزلفها ، و محيت عنه كل سيئة كان أزلفها ، ثم كان بعد ذلك القصاص ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عز وجل عنها "وهو حديث صحيح ، وصريح في المراد ، وعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ " وأي صراحة أعظم من ذلك ؟ ولكن أبى ذلك بعض أهل العلم رحمهم الله تعالى لا سيما بعض المالكية ، قَالَ الْمَازِرِيّ :( الْكَافِر لَا يَصِحّ مِنْهُ التَّقَرُّب ، فَلَا يُثَاب عَلَى الْعَمَل الصَّالِح الصَّادِر مِنْهُ فِي شِرْكه ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْط الْمُتَقَرِّب أَنْ يَكُون عَارِفًا لِمَنْ يَتَقَرَّب إِلَيْهِ وَالْكَافِر لَيْسَ كَذَلِكَ ) وَتَابَعَهُ الْقَاضِي عِيَاض عَلَى تَقْرِير هَذَا الْإِشْكَال ، وَاسْتَضْعَفَ ذَلِكَ النَّوَوِيّ فَقَالَ : الصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ - بَلْ نَقَلَ بَعْضهمْ فِيهِ الْإِجْمَاع - أَنَّ الْكَافِر إِذَا فَعَلَ أَفْعَالًا جَمِيلَة كَالصَّدَقَةِ وَصِلَة الرَّحِم ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَام أَنَّ ثَوَاب ذَلِكَ يُكْتَب لَهُ ، وَأَمَّا دَعْوَى أَنَّهُ مُخَالِف لِلْقَوَاعِدِ فَغَيْر مُسَلَّم لِأَنَّهُ قَدْ(1/347)
يُعْتَدّ بِبَعْضِ أَفْعَال الْكَافِر فِي الدُّنْيَا كَكَفَّارَةِ الظِّهَار فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمهُ إِعَادَتهَا إِذَا أَسْلَمَ وَتُجْزِئهُ ، قاله في الفتح ، وبما قال النووي نقول ، لصحة الأحاديث في المسألة ، وأما ما قاله المازري والقاضي عياض ، فقصاراه أنه قياس في مقابلة النص ، وقد تقرر في الأصول أن كل قياس صادم النص فإنه باطل ، ولأنه اجتهاد في مورد النص ، والمتقرر أنه لا اجتهاد مع النص فالحق هو ما ذكرته لك ، وهو قول جماهير أهل العلم ، والله أعلم .
ومنها :- القول الصحيح أنه لا يجوز للجار أن يمنع جاره من غرز خشبة في جداره إن كان محتاجا لهذا الغرز ، ولا ضرر فيه على الجار ، ولا الجدار ، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره " وهو في الصحيح واعتذر قوم عن العمل بهذا الحديث بأن القاعدة المتقررة هي أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ، فأقول :- نعم هو كذلك ، ولكن هذا عام ، والحديث خاص ، والخاص مقدم على العام ، فلا يحل مال أحد إلا بطيب نفسه إلا فيما خصصه النص ، وحديث أبي هريرة حديث صحيح صريح في أن الجار لا يجوز له أن يمتنع في هذه الحالة ، فهذا من جملة ما خص من الأصل العام ، فلا معارضة أصلا حتى يطرح الحديث من أجل مراعاة القاعدة ، والله أعلم .(1/348)
ومنها :- ما ذكرناه من الفروع سابقا ، في إجابة السؤال الذي قبل هذا ، فإنها تتكلم عن تلك الأحاديث التي ردها بعض المالكية بحجة أنها مخالفة للقاعدة المتقررة عندهم في عمل أهل المدينة فردوها لمخالفتها للقاعدة ، وبما أننا ذكرنا طرفا كبيرا منها فيغني عن تكثير التمثيل لهذه القاعدة ونكتفي بما أوردناه سابقا ، وسيأتي إن شاء الله تعالى فروع كثيرة فيما خولفت فيه الأحاديث بسبب القواعد ، وهي في الأسئلة التي بعد هذا ، والمهم الآن أن تعرف أن القاعدة المتقررة عندنا بالدليل تقول ( لا تجوز معارضة أخبار الآحاد بما يدعى أنه من القواعد ) فاحفظ هذه القاعدة, فإنها من قواعد تعظيم الدليل ، والله أعلم .
س115) هل هناك نصوص وردت على خلاف القياس؟ مع بيان ذلك بالتمثيل؟(1/349)
ج) أقول :- هذه من المسائل الكبار ، وقد تولاها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم بالتفصيل والتحليل بما لا مزيد عليه ، وسيكون كلامنا في هذه الجواب عبارة عن خلاصة ما قالوه في هذه المسألة ، فأقول وبالله تعالى التوفيق :- لا ، أبدا ، ليس في الشريعة شيء يخالف القياس هذه الدعوى لا أساس لها من الصحة وإنما يدعيها من لا تحقيق عنده في العلم ، أو أنه أصل أصلا وقعد قاعدة من عنده بالنظر إلى بعض الأدلة دون النظر في جميعها ، ثم لما اطلع على ما تركه من الأدلة ورآها مخالفة للأصل الذي أصله قال :- هذه الأدلة على خلاف الأصل والقياس ، والعيب في ذلك جاء منه لا من الدليل ، ثم إن سلمنا جدلا أن هناك من الأدلة ما يخالف القياس فإن الحق وجوب تقديم الدليل ، لأن المتقرر عند عامة أهل السنة أن القياس إذا صادم النص فإنه فاسد الاعتبار ، فلا حق لأحد أن يلغي شيئا من الأدلة بحجة أنه خالف القياس ، ثم اعلم :ــ أن القياس قسمان :ــ قياس صحيح ، وقياس باطل ، فأما القياس الصحيح فإنه من جملة أدلة الشريعة وأدلة الشريعة لا يمكن أن يقع بينها تعارض فمن يثبت وجود التعارض بين بعض النصوص وبعض الأقيسة فإنه يثبت بين الأدلة الشرعية تعارضا واضطرابا ، وهذا لا يجوز ، وأما القياس الفاسد الباطل فإنه ليس من الشريعة أصلا ، فكيف يجعل معارضا للنصوص ؟ وبه تعلم أن القاعدة المتقررة عند أهل التحقيق من أهل العلم تقول ( ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس المقبول الصحيح ) وأصل هذه القاعدة يرجع إلى قاعدة أخرى ، وهي :- هل يتعارض العقل مع النقل ؟ فأهل السنة جروا على أنه لا تتعارض النقول الصحيحة مع العقول الصريحة ، ومن المعلوم أن القياس من الأدلة العقلية التي أقر الشرع منها ما كان مستوفيا لشروط الصحة ، وحيث كان القياس من أدلة العقل فلا يمكن أبدا أن يتعارض مع النقل ، لأن النقل الصحيح لا يتعارض مع العقل الصريح ، ولكن كثير من الأقيسة(1/350)
التي يدعى أنها تتعارض من النص ، هي في حقيقتها من الأقيسة الفاسدة التي بنيت على غير هدى من الله ، وإنما هي خيالات لا برهان يعضدها ولا رأي ينصرها ، ولا تعبر إلا عن رأي قائليها فقط ، ولا يصح نسبتها للدين أصلا ، لأنه لا يمكن أبدا أن يتعارض القياس الصحيح مع النص الصريح ، هذا ما ندين الله تعالى به ، وسيأتينا في مباحث القياس إن شاء الله تعالى طرف من مسألة تعارض القياس مع النص ، فإذا نكون بذلك قد قررنا لك ثلاثة أمور :- الأول :- أنه لا يمكن أبدا أن يتعارض القياس الصحيح مع النقل الصحيح ، الثاني :- أنه إن وجد ما يوهم ذلك فإن الحق هو تقديم النصوص على الأقيسة ، الثالث :- أن كل قياس عاد على النص بالإبطال فهو باطل, والله ربنا أعلى وأعلم ، ودونك بعض الفروع على هذه القاعدة حتى تتضح أكثر :ـ-(1/351)
فمنها :- قيل :- إن الوضوء من لحم الإبل على خلاف القياس ، لأن القياس يقضي أنه لحم واللحم لا يتوضأ منه كسائر اللحوم ، كلحم الغنم والبقر والخيل ونحوها ، فاختصاص الإبل بإيجاب الوضوء دون سائر اللحمان ورد على خلاف القياس ، قلت :- وهذا قول باطل ، لأن الوضوء من لحومها ورد وجب بمقتضى النص ، وهو المتوافق مع القياس كل الموافقة ، وبيان ذلك أن يقال :- روى مسلم في صحيحه من حديث جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ قَالَ ( إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَوَضَّأْ) قَالَ أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ قَالَ ( نَعَمْ فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ ) قَالَ أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ قَالَ ( نَعَمْ ) قَالَ أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ قَالَ ( لا) ، وروى أحمد في المسند وأبو داود في السنن من حديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ فَقَالَ تَوَضَّئُوا مِنْهَا وَسُئِلَ عَنْ لُحُومِ الْغَنَمِ فَقَالَ لَا تَوَضَّئُوا مِنْهَا وَسُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ فَقَالَ لَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ فَإِنَّهَا مِنْ الشَّيَاطِينِ وَسُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ فَقَالَ صَلُّوا فِيهَا فَإِنَّهَا بَرَكَةٌ .. ولأحمد في المسند من حديث أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَلَا تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ وَصَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ ...(1/352)
ولابن ماجه في سننه من حديث عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قال :- سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ وَتَوَضَّئُوا مِنْ أَلْبَانِ الْإِبِلِ وَلَا تَوَضَّئُوا مِنْ أَلْبَانِ الْغَنَمِ وَصَلُّوا فِي مُرَاحِ الْغَنَمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ ...(1/353)
قال إسحاق بن راهويه :- صح عن النبي صلى الله عليه في هذا الباب حديثان ، حديث البراء وحديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما ، فحيث أوجب النص الوضوء من لحم الإبل ، فإنه أبدا لا يكون إلا متفقا مع القياس الصحيح ، وبيان ذلك أن النص أثبت أن الإبل فيها من القوة الشيطانية ما فيها ، ففي الحديث الصحيح " لا تصلوا في مباركها فإنها من الشياطين " فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مباركها لأنها من الشياطين ، فمباركها من المواضع التي تكثر فيها الشياطين ، وفي الحديث الصحيح أيضا " فإنها من الشياطين " أي أن فيها هذه القوة الشيطانية ، والشيطان قد خلقه الله تعالى من مارج من نار السموم ، ففي لحم الإبل هذه القوة النارية ، فلا بد من معارضتها بما يضادها لتذهب المفسدة, وهو الماء ، فشرع الوضوء بعد أكل لحم الإبل ليطفئ هذه القوة النارية الشيطانية ، فتذهب المفسدة وتبقى المصلحة ، أي تذهب مفسدة اللحم وهي هذه القوة النارية ، وتبقى مصلحة التلذذ به وبأكله ، فانظر كيف هذا الاتفاق الذي لا يمكن أن يأتي به إلا من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وجي يوحى ، فمقتضى القياس الصحيح إيجاب الوضوء بعد تناول لحمها ، لإطفاء هذه الحرارة الشيطانية،فالقياسيون إنما نظروا إلى صورة اللحم فقط ، فقالوا :- هو كسائر اللحم ، وأما الشرع فإنه نظر إلى تحقيق المصالح ودفع المفاسد ، أليس هذا هو محض القياس ، لأن الشريعة جاءت لتحقيق المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ، فجريا على ذلك أوجبت الوضوء من لحم الإبل ، درءا للمفاسد الموجب لتحقيق المصالح ، فالحق الحقيق بالقبول هو أن الوضوء من أكل لحم الإبل من الواجبات ، فمن أكل لحم إبل وصلى ولم يتوضأ فصلاته باطلة ، والله أعلم .(1/354)
ومنها :- قال بعض أهل العلم :ــ إن التفطير بالحجامة على خلاف القياس ، لأن القياس إنما هو التفطير بما يدخل للجسم لا بما يخرج منه ، قلت :- وهذا فاسد ، ودليل فساده أثري ونظري فأما الأثري فلأن فساد الصوم بالحجامة قد دل عليه الدليل الشرعي الصحيح الصريح ، فقد روى أبو داود وغيره من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أفطر الحاجم والمحجوم ...(1/355)
حديث صحيح ، قال الألباني رحمه الله تعالى (رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد عشر نفسا ) وقال أيضا ( وقد ورد عن جماعة من الصحابة بلغ عددهم في تخريج الزيلعي في ( نصب الراية ) ثماني عشر شخصا إلا أن الطرق إلى أكثرهم معللة ) وقال أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى ( وفي الباب عن علي وسعد وشداد بن أوس وثوبان وأسامة بن زيد وعائشة ومعقل بن سنان ويقال ابن يسار وأبي هريرة وابن عباس وأبي موسى وبلال وسعد قال أبو عيسى وحديث رافع ابن خديج حديث حسن صحيح وذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج وذكر عناا علي بن عبد الله أنه قال أصح شيء في هذا الباب حديث ثوبان وشداد بن أوس لأن يحيى بن أبي كثير روى عن أبي قلابة الحديثين جميعا حديث ثوبان وحديث شداد بن أوس وقد كره قوم من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم الحجامة للصائم حتى أن بعض أصحاب النبي احتجم بالليل منهم أبو موسى الأشعري وابن عمر وبهذا يقول ابن المبارك قال أبو عيسى سمعت إسحق بن منصور يقول قال عبد الرحمن بن مهدي من احتجم وهو صائم فعليه القضاء قال إسحق بن منصور وهكذا قال أحمد وإسحق حدثنا الزعفراني قال و قال الشافعي قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه احتجم وهو صائم وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أفطر الحاجم والمحجوم ولا أعلم واحدا من هذين الحديثين ثابتا ولو توقى رجل الحجامة وهو صائم كان أحب إلي ولو احتجم صائم لم أر ذلك أن يفطره قال أبو عيسى هكذا كان قول الشافعي ببغداد وأما بمصر فمال إلى الرخصة ولم ير بالحجامة للصائم بأسا واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في حجة الوداع وهو محرم صائم ) والمسألة خلافية كبيرة ، ولكن القول الصحيح هو أن الحجامة تفسد الصوم ، وهو اختيار أبي العباس ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى ،وحيث أثبت الدليل الشرعي الصحيح أن الحجامة من جملة(1/356)
ما يفسد الصوم, فلا بد وأن تكون قد وقعت على وفق القياس الصحيح ، ولا يمكن أبدا أن تكون متعارضة معه ، وبيان ذلك :- أن النص أفاد أن من جملة مفسدات الصوم إنزال المني دفقا بلذة واختيار ، وهو مما يخرج لا مما يدخل ، فانظر كيف انكسر قولهم :- إن التفطير لا يكون إلا مما يدخل لا مما يخرج فخروج الدم بسبب الحجامة مما يوجب الضعف والوهن في الجسم ، فقياسها على المني أوفق ، لأنهما يجتمعان في أن خروج كل من الجسد يوجب وهنه وضعفه ، فالمحجوم إذا احتجم فلا بد وأن يحس بالضعف والوهن ، ولو قليلا ، والعبرة بالأغلب ، لا بآحاد الناس ، فالتفطير بالحجامة جار على سنن القياس الصحيح ، وهو أن الصائم ممنوع من تعمد إخراج ما يوجب خروجه وهن الجسد وضعفه ، والاحتجام منها ، ولذلك فالقول الصحيح أن التبرع بالدم لا يجوز حال الصوم قياسا على الحجامة ، بل من باب أولى ، لأن الضعف الذي يوجبه التبرع بالدم أكبر من الذي توجبه الحجامة ، وكذلك الفصد ، فإنه لا يجوز في نهار رمضان ، لأن خروج الدم بهذه الصورة يضعف الجسد ويوهنه ، وقد لا يستطيع الصائم معه من احتمال الصوم ، أو يحتمله مع المشقة الكبيرة والكلفة العظيمة ، والشريعة إنما هي رحمة للعالمين ، والله تعالى هو الرحمن الرحيم والرؤوف الكريم فمن مقتضيات رحمته بعباده أن حرم عليهم الاحتجام في نهار الصوم رفقا بهم وإحسانا إليهم ومحافظة على قواهم ورعاية لهم مما يوجب ضعفهم ، فأين مخالفة القياس ؟ فإن قلت :- قد عرفنا عدم مخالفته في المحجوم ، لكن ما بال الحاجم حكم عليه بفساد الصوم ؟ فأقول :- إن الحجامة في العصر الماضي ، بل وفي عصرنا هذا - ولكنها تطورت قليلا - كان الحاجم يباشر مص القارورة بفمه ، فمع هذا المص قد يتطاير إلى باطن فمه شيء من الدم ، لكن هذا الأمر مما يخفى ، وقد جرت عادة الشرع المطردة أن الحكمة إن كانت خفية ، فإنه يعلق الحكم على الوصف الظاهر فلما كان تطاير هذه الجزيئات لفم الحاجم(1/357)
مما يخفى ، وقد لا يحس به ، علقت الشريعة الحكم بوصف ظاهر يعرفه الجميع وهو مباشرة مص القارورة ، فمن مص القارورة فقد فسد صومه تنزيلا له منزلة من تعمد أن يدخل لجوفه شيئا يفطره ، وذلك النوم فإنه ليس بحدث في ذاته ، لكنه مظنة للحدث والنائم لا يشعر ، فنزلت المظنة منزلة الأمر الواقع ، فعلقت الشريعة النقض على مسمى النوم المذهب للشعور ، وكالأمر بإراقة الخليطين بعد ثلاث ، فإن الخليطين لا يلزم أن يتغيرا ولا بد بعد ثلاث ، بل منها ما يتغير قبل ذلك ، ومنها ما يتأخر تغيره إلى ما بعد ذلك ، ولكن هذا مما يخفى ، فعلقت الشريعة الحكم على الوصف الظاهر الذي يشترك الجميع في فهمه والعلم به وهو ثلاث ليال ، لأن الحكم إذا صارت خفية علق الحكم بالوصف المنضبط الظاهر ، وكمس المرأة على قول من قال به ، فإن ذات المس ليس هو الناقض ، وإنما الناقض هو ما يخرج بعد المس ، ولكن لما كان هذا الخارج قد لا يعلم ولا يحس به ، لأنه مما قد يخفى ، علقت الشريعة الحكم بالوصف الظاهر المنضبط وهو المس بشهوة ، لأن هذا الأمر يعرفه الجميع ، وكذلك فإن الحكمة في مشروعية قصر الصلاة في السفر إنما هي وجود المشقة ، ولكن هل كل مسافر يشق عليه السفر ، وهل المشقة فيكل المسافرين واحدة ؟ هذا مما يختلف فيه الناس كثيرا حسب الوسائل ، فلما كان تعليق الحكم بالمشقة فيه حرج وكلفة لأنه مما يقع فيه الاختلاف والتباين ، لعقت الشريعة الحكم على الوصف الظاهر المنضبط وهو مسمى السفر ، فمن دخل في مسمى السفر حل له القصر ، وإن لم يكن ثمة مشقة ، وكذلك المحرم في السفر ، فإنه ليس كل امرأة تحتاج المحرم ، لكن من الذي يميز بين من تحتاج ومن لا تحتاج ؟ هذا مما يخفى ، وتدخل فيه حظوظ النفوس وشهواتها ، فعلقت الشريعة الحكم بالسفر ، فلا يحل لامرأة أن تسافر إلا مع ذي محرم ، والأمثلة كثيرة ، فالقياس الذي جرى عليه الشرع ، هو أن الحكمة إن صارت خفية أنيط الحكم بالوصف الظاهر(1/358)
المنضبط ، فالحاجم هنا يمص القارورة ، والدم قد يتطاير إلى حلقه ويدخل في جوفه من حيث لا يشعر ، فلما كانت الحكمة هنا مما يخفى ، علق الحكم على الوصف الظاهر المنضبط وهو مجرد مباشرة مص القارورة فهل هذا مخالف للقياس ؟ لا والله بل هو متفق معه كل الاتفاق ، وهي كلها فروع تدخل تحت أصل واحد ، بل لو يحكم الشرع ببطلان صوم الحاجم إن باشر مص القارورة ، لكان ذلك مما يخالف القياس ، فالصحيح في هذه المسألة أن المحجوم والحاجم يفسد صومهما ، ولكن أنبهك على أمر ، وهو أن الحجامة في المستشفيات الكبيرة المتطورة لا يباشر فيها الحاجم مص القارورة ، بل يكون ذلك عن طريق آلات تركب في موضع الحجم ، ولا يسمى فاعلها حجاما أصلا ، بل هو طبيب ، ولكن عنده خبرة في استعمال هذه الآلات ، فمن حجم غيره بهذه الطريقة المتطورة التي لا يمص فيها قارورة ولا غيرها ، فإن صومه صحيح لا يفسد ، لأن الحكم قد علق بعلو ، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما ، قال ابن تيمية ( ويفطر الحاجم إن مص القارورة ) والله أعلم .(1/359)
ومنها :- قال بعض أهل العلم :- إن الاشتراط في الإحرام في الحج على خلاف القياس ، لأن القياس في العبادات عدم الاشتراط ، فالصلاة يدخل فيها العبد ولا يشترط ، والزكاة يخرجها العبد ولا يشترط ، والصوم يدخل فيه العبد ولا يشترط ، فاختصاص الحج بمشروعية الاشتراط ورد على خلاف القياس ، فأقول :- أبدا هذا ليس بصحيح ، لا أثرا ولا نظرا ، ذلك لأن الدليل الأثري قد أثبت مشروعية الاشتراط في الإحرام ، فقد روى البخاري في الصحيح ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ لَهَا لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الْحَجَّ قَالَتْ وَاللَّهِ لَا أَجِدُنِي إِلَّا وَجِعَةً فَقَالَ لَهَا حُجِّي وَاشْتَرِطِي وَقُولِي اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ.. ولمسلم " إِنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةٌ وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَمَا تَأْمُرُنِي قَالَ أَهِلِّي بِالْحَجِّ وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ تَحْبِسُنِي قَالَ فَأَدْرَكَتْ " وله في رواية " فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَشْتَرِطَ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ولأبي داود أنها قالت يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ أَشْتَرِطُ قَالَ نَعَمْ قَالَتْ فَكَيْفَ أَقُولُ قَالَ قُولِي لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ وَمَحِلِّي مِنْ الْأَرْضِ حَيْثُ حَبَسْتَنِي ...(1/360)
والقول الصحيح أن الاشتراط لا يسوغ لكل أحد ، بل لا يشرع إلا في حق من خاف مانعا من مرض أو صد عن البت بعدو ، ونحوهما من الأعذار ، وأما من لم يخف مانعا فلا يشرع حقه الاشتراط ، واختاره ابن تيمية رحمه الله تعالى ، فإن الناس قد حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالآلاف ، ولم يأمر أحدا أن يشترط ، ولم يسوغه لأحد إلا لضباعة ، فلو كان من الشرع العام لبينه النبي صلى الله عليه وسلم ، بل هو لم يأمر به ضباعة ابتداء إلا لما شكت له الحال وعلم أنها تحتاجه ، وهذا جار على سنن القياس ، ذلك لأن الشريعة تعامل الضعيف العاجز معاملة التخفيف والتيسير حتى يتمكن من أداء العبادة بيسر وسهولة ، ما لاتعامل به القوي الجلد القادر ، وهذا واضح ، فمن باب التخفيف على أهل الأعذار رخصت الشريعة الاشتراط في الحج لمن خاف مانعا أو كان مريضا وخاف من عجزه عن الإتمام ، وهذا متفق مع القواعد الشرعية من إرادة التخفيف والتيسير وأن الأمر إذا ضاق اتسع ، وأن المشقة تجلب التيسير ، وأن رفع الحرج عن المكلفين من مقاصد هذا الشرع الكريم ، وأين الحج من الصلاة ، فإن الصلاة لا تتجاوز عشر دقائق ، وقد لا تقتضي سفرا ، مع أن الشريعة راعت أحوال أهل الأعذار فيها بما بناسبها ، وأما الحج فإنه طويل ، وذو مناسك متباعدة وزحام شديد ، فأين هذا من هذا ، فالشرع أعطى العاجز والضعيف في كل عبادة ما يتناسب معها، والصوم كذلك أمره سهل ، والشريعة راعت فيه العاجز والمريض والضعيف والمسافر ، فبما أن الصلاة روعي فيها حال المريض والعاجز بما يناسبه في هذه العبادة والصوم روعي فيه حال العاجز والمريض والضعيف بما يناسبه في هذه العبادة ، فالحج كذلك روعي فيه حال العاجز والمريض والضعيف بما يناسبه في هذه العبادة ، وهذا كله يخرج من مشكاة واحدة ، لا اختلاف فيه ولا تناقض ولا تعارض ، بل هو متفق لا يفترق ومؤتلف لا يختلف, فلماذا لما روعي حال المريض في الحج بجواز الاشتراط قيل :-(1/361)
هذا على خلاف القياس ؟ هذا لا يصدر إلا ممن لم يعرف مأخذ القياس أصلا ، ولم بنظر إلا إلى جهة واحدة ،والله أعلى وأعلم .
ومنها :- القول الصحيح والرأي الراجح المليح هو أن المرتهن يجوز له أن يركب الرهن ويشرب لبنه إن كان مركوبا أو محلوبا ، بشرط أن تكون النفقة عليه ، وبرهان ذلك ما رواه البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ " قال الحافظ في الفتح ( وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ الِانْتِفَاع بِالرَّهْنِ إِذَا قَامَ بِمَصْلَحَتِهِ وَلَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمَالِك وَهُوَ قَوْل أَحْمَد وَإِسْحَاق ) وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَهِن لَا يَنْتَفِعُ مِنْ الْمَرْهُون بِشَيْءٍ ، وَتَأَوَّلُوا الْحَدِيث لِكَوْنِهِ وَرَدَ عَلَى خِلَاف الْقِيَاس مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا:- التَّجْوِيز لِغَيْرِ الْمَالِك أَنْ يَرْكَبَ وَيَشْرَبَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، وَالثَّانِي تَضْمِينُهُ ذَلِكَ بِالنَّفَقَةِ لَا بِالْقِيمَةِ .(1/362)
قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ :( هَذَا الْحَدِيث عِنْد جُمْهُور الْفُقَهَاء يَرُدُّهُ أُصُول مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَآثَارٌ ثَابِتَةٌ لَا يُخْتَلَفُ فِي صِحَّتِهَا ، وَيَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ حَدِيث اِبْن عُمَر الْمَاضِي فِي أَبْوَابِ الْمَظَالِم " لَا تُحْلَبُ مَاشِيَة اِمْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنه ") قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الدفاع عن الحديث وللرد على ما قاله هؤلاء ( وَالصَّوَابُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَقَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولُهَا لَا تَقْتَضِي سِوَاهُ ؛ فَإِنَّ الرَّهْنَ إذَا كَانَ حَيَوَانًا فَهُوَ مُحْتَرَمٌ فِي نَفْسِهِ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَلِلْمَالِكِ فِيهِ حَقُّ الْمِلْكِ ، وَلِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْوَثِيقَةِ ، وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الرَّهْنَ مَقْبُوضًا بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ ، فَإِذَا كَانَ بِيَدِهِ فَلَمْ يَرْكَبْهُ وَلَمْ يَحْلِبْهُ ذَهَبَ نَفْعُهُ بَاطِلًا ، وَإِنْ مَكَّنَ صَاحِبَهُ مِنْ رُكُوبِهِ خَرَجَ عَنْ يَدِهِ وَتَوْثِيقِهِ ، وَإِنْ كَلَّفَ صَاحِبَهُ كُلَّ وَقْتٍ أَنْ يَأْتِيَ لِيَأْخُذَ لَبَنَهُ شَقَّ عَلَيْهِ غَايَةَ الْمَشَقَّةِ ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ ، وَإِنْ كَلَّفَ الْمُرْتَهِنَ بَيْعَ اللَّبَنِ وَحِفْظِ ثَمَنِهِ لِلرَّاهِنِ شَقَّ عَلَيْهِ فَكَانَ مُقْتَضَى الْعَدْلِ وَالْقِيَاسِ وَمَصْلَحَةِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ وَالْحَيَوَانِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمُرْتَهِنُ مَنْفَعَةَ الرُّكُوبِ وَالْحَلْبِ وَيُعَوِّضَ عَنْهُمَا بِالنَّفَقَةِ ، فَفِي هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ ، وَتَوْفِيرُ الْحَقَّيْنِ ، فَإِنَّ نَفَقَةَ الْحَيَوَانِ وَاجِبَةٌ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَالْمُرْتَهِنُ إذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَدَّى عَنْهُ وَاجِبًا ، وَلَهُ فِيهِ حَقٌّ ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِبَدَلِهِ ، وَمَنْفَعَةُ(1/363)
الرُّكُوبِ وَالْحَلْبِ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا ، فَأَخْذُهَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُهْدَرَ عَلَى صَاحِبِهَا بَاطِلًا وَيُلْزَمُ بِعِوَضِ مَا أَنْفَقَ الْمُرْتَهِنُ .وَإِنْ قِيلَ لِلْمُرْتَهِنِ : " لَا رُجُوعَ لَكَ " كَانَ فِي ذَلِكَ إضْرَارٌ بِهِ ، وَلَمْ تَسْمَحْ نَفْسُهُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الْحَيَوَانِ ، فَكَانَ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ هُوَ الْغَايَةُ الَّتِي مَا فَوْقَهَا فِي الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ شَيْءٌ يُخْتَارُ .فَإِنْ قِيلَ : فَفِي هَذَا أَنَّ مَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِبَدَلِهِ ، وَهَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ ؛ فَإِنَّهُ إلْزَامٌ لَهُ بِمَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ ، وَمُعَاوَضَةٌ لَمْ يَرْضَى بِهَا .(1/364)
قِيلَ : وَهَذَا أَيْضًا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ ، وَمُوجَبُ الْكِتَابِ ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَهْلِ بَلْدَتِهِ وَأَهْلِ سُنَّتِهِ ، فَلَوْ أَدَّى عَنْهُ دَيْنَهُ أَوْ أَنْفَقَ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ أَوْ افْتَدَاهُ مِنْ الْأَسْرِ وَلَمْ يَنْوِ التَّبَرُّعَ فَلَهُ الرُّجُوعُ ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ فَرَّقَ بَيْنَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَنَفَقَةِ الْقَرِيبِ ؛ فَجَوَّزَ الرُّجُوعَ فِي الدَّيْنِ دُونَ نَفَقَةِ الْقَرِيبِ ، قَالَ : لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ دَيْنًا, قَالَ شَيْخُنَا - أي ابن تيمية - وَالصَّوَابُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْجَمِيعِ ؟ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا ، وَلَوْ افْتَدَاهُ مِنْ الْأَسْرِ كَانَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالْفِدَاءِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ ، وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فَأَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بِمُجَرَّدِ الْإِرْضَاعِ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَقْدًا وَلَا إذْنَ الْأَبِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { وَالْوَالِدَاتُ يَرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } فَأَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَقْدًا وَلَا إذْنًا ، وَنَفَقَةُ الْحَيَوَانِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَالِكِهِ ، وَالْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُرْتَهِنُ لَهُ فِيهِ حَقٌّ ، فَإِذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى رَبِّهِ كَانَ أَحَقَّ بِالرُّجُوعِ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى وَلَدِهِ ، فَإِنْ قَالَ الرَّاهِنُ : أَنَا لَمْ آذَنْ لَكَ فِي النَّفَقَةِ قَالَ : هِيَ وَاجِبَةٌ(1/365)
عَلَيْكَ ، وَأَنَا أَسْتَحِقُّ أَنْ أُطَالِبَكَ بِهَا لِحِفْظِ الْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرُ ، فَإِذَا رَضِيَ الْمُنْفِقُ بِأَنْ يَعْتَاضَ بِمَنْفَعَةِ الرَّهْنِ وَكَانَتْ نَظِيرَ النَّفَقَةِ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ إلَى صَاحِبِهِ ، وَذَلِكَ خَيْرٌ مَحْضٌ ، فَلَوْ لَمْ يَأْتِ بِهِ النَّصُّ لَكَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ ، وَطَرْدُ هَذَا الْقِيَاسِ ، أَنَّ الْمُودَعَ وَالشَّرِيكَ وَالْوَكِيلَ إذَا أَنْفَقَ عَلَى الْحَيَوَانِ وَاعْتَاضَ عَنْ النَّفَقَةِ بِالرُّكُوبِ وَالْحَلْبِ جَازَ ذَلِكَ كَالْمُرْتَهِنِ ) اهـ كلامه رحمه الله تعالى ، وفيه الرد المحكم على من زعم أن هذا الحديث على خلاف القياس ، وتبين بكلامه أن الحديث ورد على وفق القياس ، والله أعلم .(1/366)
ومنها :- لا شك أنه لا يجوز تصرية الإبل والغنم والبقر ، أي لا يجوز حبس اللبن في ضروعها ثم تعرض في السوق بعد ذلك ليغتر المشتري بكبر الضرع بسبب حبس اللبن - وهو لا يدري عن حقيقة الحال - ولكن ما الحكم إن اشتراها ثم تبين له بأخرة أنه قد خدع ؟ أقول :- لقد وردت السنة الصحيحة بحل المسألة ، وهو فيما رواه البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الْأَعْرَجِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَمَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ" فنحن نقول :- إن التصرية حرام في الأصل ، لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عنها فقال " لا تصروا " وهذا نهي ، وقد تقرر في القواعد أن النهي المتجرد عن القرينة يفيد التحريم ولأنه من الغش ، وفي الحديث " من غش فليس منا " والراجح أن المشتري إن حلبها وتبين له أنه مخدوع بها فهو بخير النظرين ، إما أن يمسكها عنده ، وإما أن يردها ، فإن اختار الرد فيجب عليه أن يرد معها صاعا من تمر ، هكذا قضت السنة الصحيحة ، قال الحافظ في الفتح (قَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيث جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَفْتَى بِهِ اِبْن مَسْعُود وَأَبُو هُرَيْرَة وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَقَالَ بِهِ مِنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مَنْ لَا يُحْصَى عَدَده وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اللَّبَن الَّذِي احْتُلِبَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا ، وَلَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّمْر قُوتَ تِلْكَ الْبَلَدِ أَمْ لَا ) ولكن ادعى بعض أهل العلم أن هذا الحديث على خلاف القياس ، فقد َخَالَفَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ أَكْثَرُ(1/367)
الْحَنَفِيَّةِ وَفِي فُرُوعِهَا آخَرُونَ ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا لَا يُرَدُّ بِعَيْب التَّصْرِيَة وَلَا يَجِبُ رَدُّ صَاع مِنْ التَّمْرِ، وقال الحافظ في الفتح مبينا أعذار الحنفية في عدم الأخذ بالحديث ( وَاعْتَذَرَ الْحَنَفِيَّة عَنْ الْأَخْذِ بِحَدِيث الْمُصَرَّاة بِأَعْذَارٍ شَتَّى : فَمِنْهُمْ مَنْ طَعَنَ فِي الْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ مِنْ رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة وَلَمْ يَكُنْ كَابْن مَسْعُود وَغَيْره مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ فَلَا يُؤْخَذُ بِمَا رَوَاهُ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ الْجَلِيِّ ، وَهُوَ كَلَامٌ آذَى قَائِلُهُ بِهِ نَفْسه ، وَفِي حِكَايَتِهِ غِنًى عَنْ تَكَلُّفِ الرَّدِّ عَلَيْهِ ) قال ابن عبدالبر ( هَذَا الْحَدِيثُ مُجْمَع عَلَى صِحَّتِهِ وَثُبُوتِهِ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَاعْتَلَّ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ بِأَشْيَاءَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا) وقد بين ابن القيم رحمه الله تعالى وجه معارضة حديث المصراة للقياس عند من قال بهذه المعارضة بقوله ( قَالُوا : وَهُوَ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ مِنْ وُجُوهٍ : مِنْهَا أَنَّهُ تَضَمَّنَ رَدَّ الْبَيْعِ بِلَا عَيْبٍ وَلَا خَلْفَ فِي صِفَةٍ ، وَمِنْهَا أَنَّ { الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ } ؛ فَاللَّبَنُ الَّذِي يَحْدُثُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ وَقَدْ ضَمَّنَهُ إيَّاهُ ، وَمِنْهَا أَنَّ اللَّبَنَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَقَدْ ضَمَّنَهُ إيَّاهُ بِغَيْرِ مِثْلِهِ ، وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا انْتَقَلَ مِنْ التَّضْمِينِ بِالْمِثْلِ فَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْقِيمَةِ ، وَالتَّمْرُ لَا قِيمَةَ وَلَا مِثْلَ وَمِنْهَا أَنَّ الْمَالَ الْمَضْمُونَ إنَّمَا يُضْمَنُ بِقَدْرِهِ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ ، وَقَدْ قُدِّرَ هَاهُنَا الضَّمَانُ بِصَاعٍ ) ثم كر عليهم رحمه الله تعالى ببيان بطلان هذا القول ، وأنه حديث المصراة(1/368)
وارد على وفق القياس لا على خلافه فقال ( قَالَ أَنْصَارُ الْحَدِيثِ : كُلُّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ خَطَأٌ ، وَالْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِهَا ، وَلَوْ خَالَفَهَا لَكَانَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ ، كَمَا أَنَّ غَيْرَهُ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ ، وَأُصُولُ الشَّرْعِ لَا يُضْرَبُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ، كَمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يُضْرَبَ كِتَابُ اللَّهِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ بَلْ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا كُلِّهَا ، وَيُقَرُّ كُلٌّ مِنْهَا عَلَى أَصْلِهِ وَمَوْضِعِهِ ؛ فَإِنَّهَا كُلُّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ شَرْعَهُ وَخَلْقَهُ ، وَمَا عَدَا هَذَا فَهُوَ الْخَطَأُ الصَّرِيحُ) وهذا أصل عظيم ، نتفق فيه مع ابن القيم اتفاقا كليا ، ونقطع بصحته ، ولا يمكن إن شاء الله تعالى أن يتطرق الشك لقلوبنا فيه ، ثم قال ( فَاسْمَعُوا الْآنَ هَدْمَ الْأُصُولِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي يُعْتَرَضُ بِهَا عَلَى النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ : أَمَّا قَوْلُكُمْ : " إنَّهُ تَضَمَّنَ الرَّدَّ مِنْ غَيْرِ عَيْبٍ وَلَا فَوَاتِ صِفَةٍ " فَأَيْنَ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَلَقَّاةِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى انْحِصَارِ الرَّدِّ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ ؟ وَتَكْفِينَا هَذِهِ الْمُطَالَبَةُ ، وَلَنْ تَجِدُوا إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى الْحَصْرِ سَبِيلًا ؛ ثُمَّ نَقُولُ : بَلْ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ تُوجِبُ الرَّدَّ بِغَيْرِ مَا ذَكَرْتُمْ ، وَهُوَ الرَّدُّ فِي الصِّفَةِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ ، بَلْ الرَّدُّ بِالتَّدْلِيسِ أَوْلَى مِنْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، فَإِنَّ الْبَائِعَ يُظْهِرُ صِفَةَ الْمَبِيعِ تَارَةً بِقَوْلِهِ وَتَارَةً بِفِعْلِهِ ، فَإِذَا أَظْهَرَ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ عَلَى صِفَةٍ فَبَانَ بِخِلَافِهَا كَانَ قَدْ غَشَّهُ وَدَلَّسَ(1/369)
عَلَيْهِ ، فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَالْفَسْخِ ، وَلَوْ لَمْ تَأْتِ الشَّرِيعَةُ بِذَلِكَ لَكَانَ هُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ وَمُوجَبُ الْعَدْلِ ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إنَّمَا بَذَلَ مَالَهُ فِي الْمَبِيعِ بِنَاءً عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي أَظْهَرَهَا لَهُ الْبَائِعُ ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِهَا لَمْ يَبْذُلْ لَهُ فِيهَا مَا بَذَلَ ، فَإِلْزَامُهُ لِلْمَبِيعِ مَعَ التَّدْلِيسِ وَالْغِشِّ مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ الَّذِي تَتَنَزَّهُ الشَّرِيعَةُ عَنْهُ ، وَقَدْ أَثْبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخِيَارَ لِلرُّكْبَانِ إذَا تُلُقُّوا وَاشْتُرِيَ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَهْبِطُوا السُّوقَ وَيَعْلَمُوا السِّعْرَ ، وَلَيْسَ هَاهُنَا عَيْبٌ وَلَا خُلْفٌ فِي صِفَةٍ ، وَلَكِنْ فِيهِ نَوْعُ تَدْلِيسٍ وَغِشٍّ , فِي الضَّرْعِ ، فَضَمَانُهُ هُوَ مَحْضُ الْعَدْلِ وَالْقِيَاسِ .(1/370)
وَأَمَّا تَضْمِينُهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ فَفِي غَايَةِ الْعَدْلِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ بِمِثْلِهِ أَلْبَتَّةَ ، فَإِنَّ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ مَحْفُوظٌ غَيْرُ مُعَرَّضٍ لِلْفَسَادِ ، فَإِذَا حُلِبَ صَارَ عُرْضَةً لِحَمْضِهِ وَفَسَادِهِ ، فَلَوْ ضَمِنَ اللَّبَنَ الَّذِي كَانَ فِي الضَّرْعِ بِلَبَنٍ مَحْلُوبٍ فِي الْإِنَاءِ كَانَ ظُلْمًا تَتَنَزَّهُ الشَّرِيعَةُ عَنْهُ, وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّبَنَ الْحَادِثَ بَعْدَ الْعَقْدِ اخْتَلَطَ بِاللَّبَنِ الْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ ، فَلَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُهُ حَتَّى يُوجِبَ نَظِيرَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَقَدْ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ فَيُفْضِي إلَى الرِّبَا لِأَنَّ أَقَلَّ الْأَقْسَامِ أَنْ تُجْهَلَ الْمُسَاوَاةُ وَأَيْضًا فَلَوْ وَكَّلْنَاهُ إلَى تَقْدِيرِهِمَا أَوْ تَقْدِيرِ أَحَدِهِمَا لَكَثُرَ النِّزَاعُ وَالْخَصْمُ بَيْنَهُمَا ، فَفَصَلَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ صَلَاةُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ النِّزَاعَ وَقَدَّرَهُ بِحَدٍّ لَا يَتَعَدَّيَانِهِ قَطْعًا لِلْخُصُومَةِ وَفَصْلًا لِلْمُنَازَعَةِ ، وَكَانَ تَقْدِيرُهُ بِالتَّمْرِ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ إلَى اللَّبَنِ ، فَإِنَّهُ قُوتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا كَانَ اللَّبَنُ قُوتًا لَهُمْ ، وَهُوَ مَكِيلٌ كَمَا أَنَّ اللَّبَنَ مَكِيلٌ ؛ فَكِلَاهُمَا مَطْعُومٌ مُقْتَاتٌ مَكِيلٌ ، وَأَيْضًا فَكِلَاهُمَا يَقْتَاتُ بِهِ بِلَا صَنْعَةٍ وَلَا عِلَاجٍ ، بِخِلَافِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْأَرُزِّ ، فَالتَّمْرُ أَقْرَبُ الْأَجْنَاسِ الَّتِي كَانُوا يَقْتَاتُونَ بِهَا إلَى اللَّبَنِ .فَإِنْ قِيلَ : فَأَنْتُمْ تُوجِبُونَ صَاعَ التَّمْرِ فِي كُلِّ مَكَان ، سَوَاءٌ كَانَ قُوتًا لَهُمْ أَوْ لَمْ يَكُنْ .(1/371)
قِيلَ : هَذَا مِنْ مَسَائِلِ النِّزَاعِ وَمَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُوجِبُ ذَلِكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ فِي كُلِّ بَلَدٍ صَاعًا مِنْ قُوتِهِمْ ، وَنَظِيرُ هَذَا تَعْيِينُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَصْنَافَ الْخَمْسَةَ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ وَأَنَّ كُلَّ بَلَدٍ يُخْرِجُونَ مِنْ قُوتِهِمْ مِقْدَارَ الصَّاعِ ، وَهَذَا أَرْجَحُ وَأَقْرَبُ إلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يُكَلَّفُ مَنْ قُوتُهُمْ السَّمَكُ مَثَلًا أَوْ الْأَرُزُّ أَوْ الدُّخْنُ إلَى التَّمْرِ ، وَلَيْسَ هَذَا بِأَوَّلِ تَخْصِيصٍ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ ) ولا عطر بعد عروس ، كما قيل ، والله أعلم .(1/372)
ومنها :- لا شك أن القرض من الأمور المستحبة التي وردت فيها الأدلة المرغبة فيها من الكتاب وصحيح السنة، ولكن من ضعف علمه يقول :ــ إن القرض على خلاف القياس ، قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى مبينا وجه كونه معارضا للقياس عند من يقول بذلك مع الرد عليهم فقال رحمه الله تعالى ( وَمَنْ قَالَ : الْقَرْضُ خِلَافُ الْقِيَاسِ قَالَ : لِأَنَّهُ بَيْعُ رِبَوِيٍّ بِجِنْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ الْقَرْضَ مِنْ جِنْسِ التَّبَرُّعِ بِالْمَنَافِعِ كَالْعَارِيَةِ وَلِهَذَا { سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنِيحَةً فَقَالَ : أَوْ مَنِيحَةُ ذَهَبٍ أَوْ مَنِيحَةُ وَرِقٍ } وَبَابُ الْعَارِيَةِ أَصْلُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ أَصْلَ الْمَالِ لِيَنْتَفِعَ بِمَا يَسْتَخْلِفُ مِنْهُ ثُمَّ يُعِيدَهُ إلَيْهِ فَتَارَةً يَنْتَفِعُ بِالْمَنَافِعِ كَمَا فِي عَارِيَةِ الْعَقَارِ وَتَارَةً يَمْنَحُهُ مَاشِيَةً لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا ثُمَّ يُعِيدَهَا وَتَارَةً يُعِيرَهُ شَجَرَةً لِيَأْكُلَ ثَمَرَهَا ثُمَّ يُعِيدَهَا فَإِنَّ اللَّبَنَ وَالثَّمَرَ يُسْتَخْلَفُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ الْمَنَافِعِ وَلِهَذَا كَانَ فِي الْوَقْفِ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنَافِعِ وَالْمُقْرِضُ يُقْرِضُهُ مَا يُقْرِضُهُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ ثُمَّ يُعِيدَ لَهُ بِمِثْلِهِ فَإِنَّ إعَادَةَ الْمِثْلِ تَقُومُ مَقَامَ إعَادَةِ الْعَيْنِ وَلِهَذَا نُهِيَ أَنْ يَشْتَرِطَ زِيَادَةً عَلَى الْمِثْلِ كَمَا لَوْ شَرَطَ فِي الْعَارِيَةِ أَنْ يَرُدَّ مَعَ الْأَصْلِ غَيْرَهُ .(1/373)
وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْبَيْعِ فَإِنَّ عَاقِلًا لَا يَبِيعُ دِرْهَمًا بِمِثْلِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إلَى أَجَلٍ وَلَا يُبَاعُ الشَّيْءُ بِجِنْسِهِ إلَى أَجَلٍ إلَّا مَعَ اخْتِلَافِ الصِّفَةِ أَوْ الْقَدْرِ كَمَا يُبَاعُ نَقْدٌ بِنَقْدِ آخَرَ وَصَحِيحٌ بِمَكْسُورِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِي الْقَرْضِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُقْرِضِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ السَّفْتَجَةِ وَلِهَذَا كَرِهَهَا مَنْ كَرِهَهَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُكْرَهُ لِأَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَنْتَفِعُ بِهَا أَيْضًا فَفِيهَا مَنْفَعَةٌ لَهُمَا جَمِيعًا إذَا أَقْرَضَهُ) والخلاصة أن القرض من باب التبرع بالمنافع لا من باب المعاوضات ، والله أعلم .(1/374)
ومنها :- ما لا ينقضي منه عجبي ، وهو قول من قال :- إن النكاح على خلاف القياس ، لأن النكاح فيه ابتذال للمرأة ، والإنسان شريف مكرم ، وهذا في غاية العجب ، قال أبو العباس في بيان قولهم والرد عليهم فقال بعد كلام لهم ( وَالنِّكَاحُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَنَحْوُ ذَلِكَ : فَهُوَ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : الْإِنْسَانُ شَرِيفٌ وَالنِّكَاحُ فِيهِ ابْتِذَالُ الْمَرْأَةِ وَشَرَفُ الْإِنْسَانِ يُنَافِي الِابْتِذَالَ . وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ النِّكَاحَ مِنْ مَصْلَحَةِ شَخْصِ الْمَرْأَةِ وَنَوْعِ الْإِنْسَانِ وَالْقَدَرُ الَّذِي فِيهِ مِنْ كَوْنِ الذَّكَرِ يَقُومُ عَلَى الْأُنْثَى هُوَ مِنْ الْحِكْمَةِ الَّتِي بِهَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ جِنْسِ الْحَيَوَانِ فَضْلًا عَنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَمِثْلُ هَذَا الِابْتِذَالُ لَا يُنَافِي الْإِنْسَانِيَّةَ كَمَا لَا يُنَافِيهَا أَنْ يَتَغَوَّطَ الْإِنْسَانُ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ وَأَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ وَإِنْ كَانَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ ذَلِكَ أَكْمَلَ بَلْ مَا احْتَاجَ إلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَحَصَلَتْ لَهُ بِهِ مَصْلَحَتُهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ وَالْمَرْأَةُ مُحْتَاجَةٌ إلَى النِّكَاحِ وَهُوَ مِنْ تَمَامِ مَصْلَحَتِهَا فَكَيْفَ يُقَالُ: الْقِيَاسُ يَقْتَضِي مَنْعَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ ؟) وظهور بطلان هذا القول كاف في تطويل الرد عليه ، والله أعلم .(1/375)
ومنها :- القول الصحيح جواز اشتراك السبعة في الإبل والبقر في باب الأضحية والهدي ، كما قضت السنة الصحيحة بذلك ، فعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : شَرَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي {حِجَّتِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبَقَرَةِ عَنْ سَبْعَةٍ} رَوَاهُ أَحْمد ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَحَضَرَ الْأَضْحَى فَذَبَحْنَا الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَعِيرَ عَنْ عَشَرَةٍ } رَوَاهُ الْخَمْسَةِ إلَّا أَبَا دَاوُد ، و مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ : { نَحَرْنَا مَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ } ونحن نقول بما قضت به السنة وقد ادعى جمع بأن الِاشْتِرَاكَ خِلَافُ الْقِيَاسِ ، وَإِنَّمَا جَوَّزَ فِي الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ لِوُرُودِ النَّصِّ أَنَّهُمْ اِشْتَرَكُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرَةِ وَلَا نَصَّ فِي الشَّاةِ ، كَذَا فِي التَّعْلِيقِ الْمُمَجَّدِ نَقْلًا عَنْ الْبِنَايَةِ لِلْعَيْنِيِّ ، قلت :- وهذا خطأ ، بل هو وفق الشرع والقياس ، وذلك لأن الشاة وقع فيها الاشتراك أيضا ، ولكن من أهل بيت واحد ، ألا ترى أن الشاة الواحدة تكفي عن الرجل وأهل بيته ، وهذا نوع اشتراك ، كما وردت بذلك السنة الصحيحة ، فعن عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُ سَأَلْتُ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ كَيْفَ كَانَتْ الضَّحَايَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كَانَ الرَّجُلُ يُضَحِّي بِالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ ، فقولهم :- إن الاشتراك خلاف القياس ، قول باطل ، لما ذكرته لك ،(1/376)
والله تعالى أعلم .
ومنها :- القول الصحيح جواز السلم ، وهو بيع موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد ، وقد دل الدليل الشرعي الصحيح الصريح على جوازه ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:- قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ فَقَالَ " أَسْلِفُوا فِي الثِّمَارِ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ" واعتقد بعض أهل العلم أن السلم على خلاف القياس ، قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى :-( وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : السَّلَمُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَقَوْلُهُمْ هَذَا مِنْ جِنْسِ مَا رَوَوْا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك } وَأَرْخَصَ فِي السَّلَمِ " وَهَذَا لَمْ يُرْوَ فِي الْحَدِيثِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا : السَّلَمُ بَيْعُ الْإِنْسَانِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ فَيَكُونُ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ وَنَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ : إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ بَيْعُ عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ فَيَكُونُ قَدْ بَاعَ مَالَ الْغَيْرِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ وَفِيهِ نَظَرٌ . وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ بَيْعُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ وَهَذَا أَشْبَهُ ؛ فَيَكُونُ قَدْ ضَمِنَ لَهُ شَيْئًا لَا يَدْرِي هَلْ يَحْصُلُ أَوْ لَا يَحْصُلُ ؟ وَهَذَا فِي السَّلَمِ الْحَالِّ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُوَفِّيهِ وَالْمُنَاسَبَةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ .(1/377)
فَأَمَّا السَّلَمُ الْمُؤَجَّلُ فَإِنَّهُ دَيْنٌ مِنْ الدُّيُونِ وَهُوَ كَالِابْتِيَاعِ بِثَمَنِ مُؤَجَّلٍ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ مُؤَجَّلًا فِي الذِّمَّةِ وَكَوْنِ الْعِوَضِ الْآخَرِ مُؤَجَّلًا فِي الذِّمَّةِ ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ فِي الذِّمَّةِ حَلَالٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَإِبَاحَةُ هَذَا عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ لَا عَلَى خِلَافِهِ) وقال ابن القيم رحمه الله تعالى (وَأَمَّا السَّلَمُ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ تَوَهَّمَ دُخُولَهُ تَحْتَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ } فَإِنَّهُ بَيْعٌ مَعْدُومٌ ، وَالْقِيَاسُ يَمْنَعُ مِنْهُ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ ، فَإِنَّهُ بَيْعٌ مَضْمُونٌ فِي الذِّمَّةِ مَوْصُوفٌ مَقْدُورٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ غَالِبًا وَهُوَ كَالْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ فِي الْإِجَارَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ ، وَقِيَاسُ السَّلَمِ عَلَى بَيْعِ الْعَيْنِ الْمَعْدُومَةِ الَّتِي لَا يَدْرِي أَيَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهَا أَمْ لَا ، وَالْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي مِنْهَا عَلَى غَرَرٍ ، مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ صُورَةً وَمَعْنًى ، وَقَدْ فَطَرَ اللَّهُ الْعُقَلَاءَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ بَيْعِ الْإِنْسَانِ مَا لَا يَمْلِكُهُ وَلَا هُوَ مَقْدُورٌ لَهُ وَبَيْنَ السَّلَمِ إلَيْهِ فِي مَغْلٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّتِهِ مَقْدُورٍ فِي الْعَادَةِ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَيْتَةِ وَالْمُذَكَّى وَالرِّبَا وَالْبَيْعِ .(1/378)
وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ {لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ} فَيُحْمَلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَبِيعَ عَيْنًا مُعَيَّنَةً وَهِيَ لَيْسَتْ عِنْدَهُ ، بَلْ مِلْكٌ لِلْغَيْرِ ، فَيَبِيعُهَا ثُمَّ يَسْعَى فِي تَحْصِيلِهَا وَتَسْلِيمِهَا إلَى الْمُشْتَرِي .وَالثَّانِي : أَنْ يُرِيدَ بَيْعَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ ، وَهَذَا أَشْبَهُ ، فَلَيْسَ عِنْدَهُ حِسًّا وَلَا مَعْنًى ، فَيَكُونُ قَدْ بَاعَهُ شَيْئًا لَا يَدْرِي هَلْ يَحْصُلُ لَهُ أَمْ لَا ؟ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ أُمُورًا : أَحَدُهَا : بَيْعُ عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ لَيْسَتْ عِنْدَهُ .الثَّانِي : السَّلَمُ الْحَالُّ فِي الذِّمَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُوَفِّيهِ .الثَّالِثُ : السَّلَمُ الْمُؤَجَّلُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ تَوْفِيَتِهِ [ عَادَةً ] ، فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ تَوْفِيَتِهِ عَادَةً فَهُوَ دَيْنٌ مِنْ الدُّيُونِ ، وَهُوَ كَالِابْتِيَاعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ مُؤَجَّلًا فِي الذِّمَّةِ وَبَيْنَ الْآخَرِ ؟ فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْمَصْلَحَةِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } وَهَذَا يَعُمُّ الثَّمَنَ وَالْمُثَمَّنَ ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ مِنْ الْقُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ فِي الذِّمَّةِ حَلَالٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ .(1/379)
فَثَبَتَ أَنَّ إبَاحَةَ السَّلَمِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ وَالْمَصْلَحَةِ ، وَشُرِعَ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَعْدَلِهَا ، فَشُرِطَ فِيهِ قَبْضُ الثَّمَنِ فِي الْحَالِ ، إذْ لَوْ تَأَخَّرَ لَحَصَلَ شُغْلُ الذِّمَّتَيْنِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ ، وَلِهَذَا سُمِّيَ سَلَمًا لِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ فَإِذَا أُخِّرَ الثَّمَنُ دَخَلَ فِي حُكْمِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ بَلْ هُوَ نَفْسُهُ ، وَكَثُرَتْ الْمُخَاطَرَةُ ، وَدَخَلَتْ الْمُعَامَلَةُ فِي حَدِّ الْغَرَرِ ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ الشَّارِعُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ كَوْنُهُ مِنْ حَائِطٍ مُعَيَّنٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَخَلَّفُ فَيَمْتَنِعُ التَّسْلِيمُ .وَاَلَّذِينَ شَرَطُوا أَنْ يَكُونَ دَائِمَ الْجِنْسِ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ قَصَدُوا بِهِ إبْعَادَهُ مِنْ الْغَرَرِ بِإِمْكَانِ التَّسْلِيمِ ، لَكِنْ ضَيَّقُوا مَا وَسَّعَ اللَّهُ ، وَشَرَطُوا مَا لَمْ يَشْرِطْهُ ، وَخَرَجُوا عَنْ مُوجَبِ الْقِيَاسِ وَالْمَصْلَحَةِ .أَمَّا الْقِيَاسُ فَإِنَّهُ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ دَوَامُهُ وَوُجُودُهُ كَالثَّمَنِ ، وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ فَإِنَّ فِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ تَعْطِيلَ مَصَالِحِ النَّاسِ ، إذْ الْحَاجَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا شَرَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ السَّلَمَ الِارْتِفَاقُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، هَذَا يَرْتَفِقُ بِتَعْجِيلِ الثَّمَنِ ، وَهَذَا يَرْتَفِقُ بِرُخْصِ الثَّمَنِ ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ فِي مُنْقَطِعِ الْجِنْسِ كَمَا قَدْ يَكُونُ فِي مُتَّصِلِهِ فَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ أَكْمَلُ شَيْءٍ وَأَقْوَمُهُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ) والله أعلم .(1/380)
ومنها :- قال الأحناف رحمهم الله تعالى :- فرك المني على خلاف القياس ، لأنه نجس ، والقياس غسله ، فلما اكتفى الشارع بفركه علمنا أنه عدل به عن سنن القياس ، قلت :- وهذا ليس بصحيح ، لأن الحق أن المني طاهر، لأنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بغسله بلا أمر قولي ، فهو حكاية فعل ، والأفعال لا ترتقي إلى الوجوب ، وقد تقرر في الضوابط أن الأعيان التي غسلت بلا أمر قولي ، فإن هذا الغسل لا يفيد أنها نجسة ، ولأنه أصل بني آدم ، وهو مكرم ، ومن مقتضى تكريمه طهارة أصله ، فالراجح طهارة المني ، وهو اختيار شيخ الإسلام ، بل هو جمهور الفقهاء رحمهم الله تعالى ، ثم أقول :- حتى ولو سلمنا أنه نجس ، فإن إزالته بغير الماء ليس على خلاف القياس ، لأنه قد ثبت في الشرع له نظير ، ألا ترى أنه قد شرع إزالة الخارج من السبيلين بالحجر وشرع فرك النعل المتنجسة بالأرض ، وذيل المرأة يطهره ما بعده من مروره على أرض طاهرة فليس فرك المني إلا من ذلك لو فرضنا جدلا أنه نجس ، لكنه في الحق من الطاهرات وليس نجسا والله أعلم .(1/381)
ومنها :- لقد دل الدليل على أن الخمر إن تخللت بنفسها دون فعل الآدمي فإنها تحل ، وتطهر لأنها حينئذ تكون خلا ، وقد زعم بعض العلماء على أن طهارة الخمر بالاستحالة على خلاف القياس وقد رد ابن القيم هذا القول فقال (طَهَارَةُ الْخَمْرِ بِالِاسْتِحَالَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَطَهَارَةُ الْخَمْرِ بِالِاسْتِحَالَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ ، فَإِنَّهَا نَجِسَةٌ لِوَصْفِ الْخُبْثِ ، فَإِذَا زَالَ الْمُوجِبُ زَالَ الْمُوجَبُ ، وَهَذَا أَصْلُ الشَّرِيعَةِ فِي مَصَادِرِهَا وَمَوَارِدِهَا بَلْ وَأَصْلُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَعَلَى هَذَا فَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ تَعْدِيَةُ ذَلِكَ إلَى سَائِرِ النَّجَاسَاتِ إذَا اسْتَحَالَتْ ، وَقَدْ { نَبَشَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبُورَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مَوْضِعِ مَسْجِدِهِ ، وَلَمْ يَنْقُلْ التُّرَابَ } وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ اللَّبَنِ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الدَّابَّةَ إذَا عُلِفَتْ بِالنَّجَاسَةِ ثُمَّ حُبِسَتْ وَعُلِفَتْ بِالطَّاهِرَاتِ حَلَّ لَبَنُهَا وَلَحْمُهَا ، وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ وَالثِّمَارُ إذَا سُقِيَتْ بِالْمَاءِ النَّجَسِ ثُمَّ سُقِيَتْ بِالطَّاهِرِ حَلَّتْ لِاسْتِحَالَةِ وَصْفِ الْخُبْثِ وَتَبَدُّلِهِ بِالطَّيِّبِ ، وَعَكْسُ هَذَا أَنَّ الطَّيِّبَ إذَا اسْتَحَالَ خَبِيثًا صَارَ نَجَسًا كَالْمَاءِ وَالطَّعَامِ إذَا اسْتَحَالَ بَوْلًا وَعَذِرَةً ، فَكَيْفَ أَثَّرَتْ الِاسْتِحَالَةُ فِي انْقِلَابِ الطَّيِّبِ خَبِيثًا وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِي انْقِلَابِ الْخَبِيثِ طَيِّبًا ؟ وَاَللَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ الطَّيِّبَ مِنْ الْخَبِيثِ وَالْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْأَصْلِ ، بَلْ بِوَصْفِ الشَّيْءِ(1/382)
فِي نَفْسِهِ ، وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ بَقَاءُ حُكْمِ الْخُبْثِ وَقَدْ زَالَ اسْمُهُ وَوَصْفُهُ ، وَالْحُكْمُ تَابِعٌ لِلِاسْمِ وَالْوَصْفُ دَائِرٌ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا ، فَالنُّصُوصُ الْمُتَنَاوِلَةُ لِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ لَا تَتَنَاوَلُ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ وَالرَّمَادَ وَالْمِلْحَ وَالتُّرَابَ وَالْخَلَّ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى وَلَا نَصًّا وَلَا قِيَاسًا . وَالْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ اسْتِحَالَةِ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا قَالُوا : الْخَمْرُ نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَطَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ ، فَيُقَالُ لَهُمْ : وَهَكَذَا الدَّمُ وَالْبَوْلُ وَالْعَذِرَةُ إنَّمَا نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَتَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ ، فَظَهَرَ أَنَّ الْقِيَاسَ مَعَ النُّصُوصِ وَأَنَّ مُخَالَفَةَ الْقِيَاسِ فِي الْأَقْوَالِ الَّتِي تُخَالِفُ النُّصُوصَ ) والله أعلم .(1/383)
ومنها :- لقد دل على جواز التيمم الكتاب والسنة والإجماع ، ولكن زعم بعض أهل العلم أنه جرى على خلاف القياس ، وابن القيم رحمه الله تعالى بين ذلك ورد عليه قال رحمه الله تعالى (التَّيَمُّمُ جَارٍ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ ] وَمِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بَابُ التَّيَمُّمِ ، قَالُوا : إنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ التُّرَابَ مُلَوَّثٌ لَا يُزِيلُ دَرَنًا وَلَا وَسَخًا وَلَا يُطَهِّرُ الْبَدَنَ كَمَا لَا يُطَهِّرُ الثَّوْبَ .وَالثَّانِي : أَنَّهُ شُرِعَ فِي عُضْوَيْنِ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ دُونَ بَقِيَّتِهَا ، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنْ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ .(1/384)
وَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ الْقِيَاسِ الْبَاطِلِ الْمُضَادِّ لِلدِّينِ ، وَهُوَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ ، فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - جَعَلَ مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ، وَخَلَقْنَا مِنْ التُّرَابِ ، فَلَنَا مَادَّتَانِ : الْمَاءُ ، وَالتُّرَابُ ، فَجَعَلَ مِنْهُمَا نَشْأَتَنَا وَأَقْوَاتَنَا ، وَبِهِمَا تَطَهُّرَنَا وَتَعَبُّدَنَا ، فَالتُّرَابُ أَصْلُ مَا خُلِقَ مِنْهُ النَّاسُ ، وَالْمَاءُ حَيَاةُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُمَا الْأَصْلُ فِي الطَّبَائِعِ الَّتِي رَكَّبَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا هَذَا الْعَالَمَ وَجَعَلَ قَوَامَهُ بِهِمَا ، وَكَانَ أَصْلُ مَا يَقَعُ بِهِ تَطْهِيرُ الْأَشْيَاءِ مِنْ الْأَدْنَاسِ وَالْأَقْذَارِ هُوَ الْمَاءَ فِي الْأَمْرِ الْمُعْتَادِ ، فَلَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَّا فِي حَالِ الْعَدَمِ وَالْعُذْرِ بِمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ ، وَكَانَ النَّقْلُ عَنْهُ إلَى شَقِيقِهِ وَأَخِيهِ التُّرَابِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ لَوَّثَ ظَاهِرًا فَإِنَّهُ يُطَهِّرُ بَاطِنًا ثُمَّ يُقَوِّي طَهَارَةَ الْبَاطِنِ فَيُزِيلُ دَنَسَ الظَّاهِرِ أَوْ يُخَفِّفُهُ ، وَهَذَا أَمْرٌ يَشْهَدُهُ مَنْ لَهُ بَصَرٌ نَافِذٌ بِحَقَائِقِ الْأَعْمَالِ وَارْتِبَاطِ الظَّاهِرِ بِالْبَاطِنِ وَتَأَثُّرِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ وَانْفِعَالِهِ عَنْهُ ) ثم بين رحمه الله تعالى الحكمة في كون التيمم على عضوين فقط فقال رحمه الله تعالى وأجزل له الأجر والمثوبة ( وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي عُضْوَيْنِ فَفِي غَايَةِ الْمُوَافَقَةِ لِلْقِيَاسِ وَالْحِكْمَةِ ، فَإِنَّ وَضْعَ التُّرَابِ عَلَى الرُّءُوسِ مَكْرُوهٌ فِي الْعَادَاتِ ، وَإِنَّمَا يُفْعَلُ عِنْدَ الْمَصَائِبِ وَالنَّوَائِبِ ، وَالرِّجْلَانِ مَحَلُّ مُلَابَسَةِ التُّرَابِ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ وَفِي(1/385)
تَتْرِيبِ الْوَجْهِ مِنْ الْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ لِلَّهِ وَالذُّلِّ لَهُ وَالِانْكِسَارِ لِلَّهِ مَا هُوَ مِنْ أَحَبِّ الْعِبَادَاتِ إلَيْهِ وَأَنْفَعِهَا لِلْعَبْدِ, وَلِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لِلسَّاجِدِ أَنْ يُتَرِّبَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ، وَأَنْ لَا يَقْصِدَ وِقَايَةَ وَجْهِهِ مِنْ التُّرَابِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لِمَنْ رَآهُ قَدْ سَجَدَ وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التُّرَابِ وِقَايَةً فَقَالَ " تَرِّبْ وَجْهَكَ " وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي تَتْرِيبِ الرِّجْلَيْنِ .وَأَيْضًا فَمُوَافَقَةُ ذَلِكَ لِلْقِيَاسِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ التَّيَمُّمَ جُعِلَ فِي الْعُضْوَيْنِ الْمَغْسُولَيْنِ ، وَسَقَطَ عَنْ الْعُضْوَيْنِ الْمَمْسُوحَيْنِ ، فَإِنَّ الرِّجْلَيْنِ تُمْسَحَانِ فِي الْخُفِّ وَالرَّأْسَ فِي الْعِمَامَةِ ، فَلَمَّا خَفَّفَ عَنْ الْمَغْسُولَيْنِ بِالْمَسْحِ خَفَّفَ عَنْ الْمَمْسُوحَيْنِ بِالْعَفْوِ ، إذْ لَوْ مُسِحَا بِالتُّرَابِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَخْفِيفٌ عَنْهُمَا ، بَلْ كَانَ فِيهِ انْتِقَالٌ مِنْ مَسْحِهِمَا بِالْمَاءِ إلَى مَسْحِهِمَا بِالتُّرَابِ ، فَظَهَرَ أَنَّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ هُوَ أَعْدَلُ الْأُمُورِ وَأَكْمَلُهَا ، وَهُوَ الْمِيزَانُ الصَّحِيحُ .(1/386)
وَأَمَّا كَوْنُ تَيَمُّمِ الْجُنُبِ كَتَيَمُّمِ الْمُحْدِثِ فَلَمَّا سَقَطَ مَسْحُ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ بِالتُّرَابِ عَنْ الْمُحْدِثِ سَقَطَ مَسْحُ الْبَدَنِ كُلِّهِ بِالتُّرَابِ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، إذْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ وَالْعُسْرِ مَا يُنَاقِضُ رُخْصَةَ التَّيَمُّمِ ، وَيَدْخُلُ أَكْرَمُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى اللَّهِ فِي شِبْهِ الْبَهَائِمِ إذَا تَمَرَّغَ فِي التُّرَابِ فَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ لَا مَزِيدَ فِي الْحُسْنِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ عَلَيْهِ ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ) والله تعالى أعلم. وهذه بعض الفروع التي أحببت أن أتحفك بها في هذا الموضع من باب توضيح القاعدة وأعدك إن شاء الله تعالى أنني سأتوسع في جمع فروعها من كلام أهل العلم في باب القياس إن أمد الله تعالى في العمر ،والله تعالى أعلم .
س116) ما الحكم فيما لو تعارض رأي الراوي وروايته ؟ مع بيان ذلك بالأدلة والفروع ؟
ج) الحكم في ذلك أن المعتمد هو الرواية لا الرأي ، وعلى ذلك نقرر قاعدة في هذا الباب طيبة جدا ونصها يقول ( رواية الراوي مقدمة على رأيه عند التعارض ) وهذا هو الذي نجزم به وندين الله تعالى به ، وندرسه لطلابنا ونقيده في مؤلفاتنا لعموم الأمة ، وهذه القاعدة من قواعد تعظيم الدليل فإن من تعظيم الدليل تقديمه على كل شيء ، ومن ذلك رأي الراوي فيما لو تعارض معه ، ولا يحل لمسلم أن يقدم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي أحد أو مذهب أحد كائنا من كان وكما قال الناظم :-
والقول منه مقدم فاحذر إذا ذكر الحديث تقول شيئا ثاني(1/387)
وقد دل على ذلك عدة أدلة :- فمنها :- جميع الأحاديث التي قدمناها لك في الاحتجاج بخبر الواحد ، فإنها تفيد أنه حجة ، وأن الحديث حجة بذاته ، وإن لم يوافقه عمل الراوي بخلافه ، وأن الراوي إن عمل بخلاف مرويه ، فإن العيب في عمل هذا الراوي ، والعذر يطلب لعمل الراوي ، لا أن العلة في مرويه ،ومنها :- أننا متعبدون بالراوية لا بالرأي المخالف لها ، فنحن متعبدون بروايته لا برأيه ، ومنها :- أننا سنسأل يوم القيامة " ماذا أجبتم المرسلين " لا ما ذا أجبتم فلانا وفلانا ، أي أن محط السؤال يوم القيامة عن الراوية لا عن الرأي ، ومنها :- أن الراوية نقلت عن المعصوم من الخطأ في التشريع ، وأما الرأي فإنه فعل من لا عصمة له بانفراده ، فلا جرم أن المقدم عند التعارض ما نقل عن المعصوم لا عن غيره ، ومنها :- أن الرأي يدخله الغلط والغفلة والسهو والنسيان ، وأما الرواية فليس فيها شيء من ذلك ، ومنها :- أن الرواية محكمة ، والرأي المعارض لها محتمل فيحتمل أن الراوي نسي ما رواه ، أو غفل عنه ، أو ظن أن ثمة معارضا راجحا يقدم عليه ، أو غير ذلك ، وقد تقرر في قواعد الدين أن المتشابه يرد إلى المحكم ، فوجب اعتماد الراوية لأنها المحكمة واطراح رأيه لأنه المتشابه المحتمل ، ومنها :- أنه لا يظن في الراوي العدل الثقة أن يبلغ للأمة الدليل المنسوخ ، ويسكت عن الناسخ ، لأن هذا من ظن السوء ، فكيف إن كان الراوي من الصحابة الذين هم خير الأمة أمانة وعلما وعدالة ؟ لا شك أنه من باب أولى، ومنها :- أنه قد تقرر في قواعد الدين أنه لا يترك المعلوم للمظنون ، والرواية قد علمت وحفظت ،وأما الرأي المعارض لها فهو من المظنون ، فلا يترك المعلوم لمجرد الظن ، وهذه وإن كانت من الأدلة العقلية إلا أنها حق وصدق ، وإلا فالأدلة النصية النقلية التي ذكرناها في سياق الاستدلال لحجية خبر الواحد كافية في ذلك لمن أراد الله هدايته ، ونحن لا نريد أن نكثر من الأدلة(1/388)
العقلية ،لأن النقل كاف واف شاف والله أعلم ، فالحق في هذه المسألة هو ما جرى عليه جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم من المحققين من أهل العلم رحمهم الله رحمة واسعة ، وأما الحنفية فأسأل الله تعالى أن يغفر لهم وأن يتجاوز عنهم فيما ذهبوا إليه في هذه المسألة ، فإنهم قدموا الرأي على الرواية ، وحصروا مخالفة الراوي فيما روى بأن ثمة ناسخ علمه الراوي ، وهذا خطأ ، بل مخالفة الراوي لما روى تحتمل احتمالات كثيرة كما ذكرته لم قبل قليل ، ولا تحصر في وجود الماسخ فقط ، وعلى كل حال فالحق ما ذهب إليه الجمهور ، وعلى ذلك عدة فروع :-(1/389)
منها :- اختلف أهل العلم رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم في عدد غسل النجاسة من ولوغ الكلب في الإناء ، فذهب بعضهم إلى أنه يغسل سبعا إحداها بالتراب ، وهذا هو الحق الذي لا محيص ولا مناص عنه ، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا " وفي رواية " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب " وعن عبدالله بن المغفل رضي الله عنه قال :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعا وعفروه الثامنة بالتراب " رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي ، وأبى ذلك بعض أهل العلم من الأحناف وغيرهم وقالوا بل يغسل ثلاث مرات ، وقد وضح ذلك الحافظ في الفتح مع الرد على الحنفية بما لا مزيد عليه وأنا أنقله لك إن كان طويلا لكن كلام في غاية التحقيق والجزالة ، قال الحافظ رحمه الله تعالى (وَأَمَّا الْحَنَفِيَّة فَلَمْ يَقُولُوا بِوُجُوبِ السَّبْع وَلَا التَّتْرِيب ، وَاعْتَذَرَ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْره عَنْهُمْ بِأُمُورٍ ، مِنْهَا كَوْن أَبِي هُرَيْرَة رَاوِيهِ أَفْتَى بِثَلَاثِ غَسَلَات فَثَبَتَ بِذَلِكَ نَسْخ السَّبْع ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَفْتَى بِذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِ نَدْبِيَّة السَّبْع لَا وُجُوبهَا أَوْ كَانَ نَسِيَ مَا رَوَاهُ ، وَمَعَ الِاحْتِمَال لَا يَثْبُت النَّسْخ ، وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَفْتَى بِالْغَسْلِ سَبْعًا وَرِوَايَة مَنْ رَوَى عَنْهُ مُوَافِقَة فُتْيَاهُ لِرِوَايَتِهِ أَرْجَح مِنْ رِوَايَة مَنْ رَوَى عَنْهُ مُخَالَفَتهَا مِنْ حَيْثُ الْإِسْنَاد وَمِنْ حَيْثُ النَّظَر ، أَمَّا النَّظَر فَظَاهِر وَأَمَّا الْإِسْنَاد فَالْمُوَافَقَة وَرَدَتْ مِنْ رِوَايَة حَمَّاد بْن زَيْد عَنْ أَيُّوب عَنْ اِبْن سِيرِينَ عَنْهُ وَهَذَا مِنْ أَصَحّ(1/390)
الْأَسَانِيد ، وَأَمَّا الْمُخَالَفَة فَمِنْ رِوَايَة عَبْد الْمَلِك بْن أَبِي سُلَيْمَان عَنْ عَطَاء عَنْهُ وَهُوَ دُون الْأَوَّل فِي الْقُوَّة بِكَثِيرٍ ، وَمِنْهَا أَنَّ الْعَذِرَة أَشَدّ فِي النَّجَاسَة مِنْ سُؤْر الْكَلْب ، وَلَمْ يُقَيَّد بِالسَّبْعِ فَيَكُون الْوُلُوغ كَذَلِكَ مِنْ بَاب الْأَوْلَى . وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَم مِنْ كَوْنهَا أَشَدّ مِنْهُ فِي الِاسْتِقْذَار أَنْ لَا يَكُون أَشَدّ مِنْهَا فِي تَغْلِيظ الْحُكْم, وَبِأَنَّهُ قِيَاس فِي مُقَابَلَة النَّصّ وَهُوَ فَاسِد الِاعْتِبَار . وَمِنْهَا دَعْوَى أَنَّ الْأَمْر بِذَلِكَ كَانَ عِنْد الْأَمْر بِقَتْلِ الْكِلَاب ، فَلَمَّا نُهِيَ عَنْ قَتْلهَا نُسِخَ الْأَمْر بِالْغَسْلِ .(1/391)
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَمْر بِقَتْلِهَا كَانَ فِي أَوَائِل الْهِجْرَة وَالْأَمْر بِالْغَسْلِ مُتَأَخِّر جِدًّا لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة وَعَبْد اللَّه بْن مُغَفَّل ، وَقَدْ ذَكَرَ اِبْن مُغَفَّل أَنَّهُ سَمِعَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُر بِالْغَسْلِ وَكَانَ إِسْلَامه سَنَة سَبْع كَأَبِي هُرَيْرَة ، بَلْ سِيَاق مُسْلِم ظَاهِر فِي أَنَّ الْأَمْر بِالْغَسْلِ كَانَ بَعْد الْأَمْر بِقَتْلِ الْكِلَاب ، وَمِنْهَا إِلْزَام الشَّافِعِيَّة بِإِيجَابِ ثَمَان غَسَلَات عَمَلًا بِظَاهِرِ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن مُغَفَّل الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِم وَلَفْظه " فَاغْسِلُوهُ سَبْع مَرَّات وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَة فِي التُّرَاب " وَفِي رِوَايَة أَحْمَد " بِالتُّرَابِ " وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَم مِنْ كَوْن الشَّافِعِيَّة لَا يَقُولُونَ بِظَاهِرِ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن مُغَفَّل أَنْ يَتْرُكُوا هُمْ الْعَمَل بِالْحَدِيثِ أَصْلًا وَرَأْسًا ؛ لِأَنَّ اِعْتِذَار الشَّافِعِيَّة عَنْ ذَلِكَ إِنْ كَانَ مُتَّجِهًا فَذَاكَ ، وَإِلَّا فَكُلّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ مَلُوم فِي تَرْك الْعَمَل بِهِ ، قَالَهُ اِبْن دَقِيق الْعِيد .(1/392)
وَقَدْ اِعْتَذَرَ بَعْضهمْ عَنْ الْعَمَل بِهِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافه ، وَفِيهِ نَظَر لِأَنَّهُ ثَبَتَ الْقَوْل بِذَلِكَ عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل فِي رِوَايَة حَرْب الْكَرْمَانِيّ عَنْهُ ، وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيّ أَنَّهُ قَالَ : هُوَ حَدِيث لَمْ أَقِف عَلَى صِحَّته ؛ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُثْبِت الْعُذْر لِمَنْ وَقَفَ عَلَى صِحَّته ، وَجَنَحَ بَعْضهمْ إِلَى التَّرْجِيح لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة عَلَى حَدِيث اِبْن مُغَفَّل ، وَالتَّرْجِيح لَا يُصَار إِلَيْهِ مَعَ إِمْكَان الْجَمْع ، وَالْأَخْذ بِحَدِيثِ اِبْن مُغَفَّل يَسْتَلْزِم الْأَخْذ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة دُون الْعَكْس ، وَالزِّيَادَة مِنْ الثِّقَة مَقْبُولَة . وَلَوْ سَلَكْنَا التَّرْجِيح فِي هَذَا الْبَاب لَمْ نَقُلْ بِالتَّتْرِيبِ أَصْلًا لِأَنَّ رِوَايَة مَالِك بِدُونِهِ أَرْجَح مِنْ رِوَايَة مَنْ أَثْبَتَهُ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقُلْنَا بِهِ أَخْذًا بِزِيَادَةِ الثِّقَة . وَجَمَعَ بَعْضهمْ بَيْن الْحَدِيثَيْنِ بِضَرْبٍ مِنْ الْمَجَاز فَقَالَ : لَمَّا كَانَ التُّرَاب جِنْسًا غَيْر الْمَاء جُعِلَ اِجْتِمَاعهمَا فِي الْمَرَّة الْوَاحِدَة مَعْدُودًا بِاثْنَتَيْنِ . وَتَعَقَّبَهُ اِبْن دَقِيق الْعِيد بِأَنَّ قَوْله " وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَة بِالتُّرَابِ " ظَاهِر فِي كَوْنهَا غَسْلَة مُسْتَقِلَّة ، لَكِنْ لَوْ وَقَعَ التَّعْفِير فِي أَوَّله قَبْل وُرُود الْغَسَلَات السَّبْع كَانَتْ الْغَسَلَات ثَمَانِيَة وَيَكُون إِطْلَاق الْغَسْلَة عَلَى التَّتْرِيب مَجَازًا . وَهَذَا الْجَمْع مِنْ مُرَجِّحَات تَعَيُّن التُّرَاب فِي الْأُولَى .(1/393)
وَالْكَلَام عَلَى هَذَا الْحَدِيث وَمَا يَتَفَرَّع مِنْهُ مُنْتَشِر جِدًّا ، وَيُمْكِن أَنْ يُفْرَد بِالتَّصْنِيفِ ؛ وَلَكِنَّ هَذَا الْقَدْر كَافٍ فِي هَذَا الْمُخْتَصَر . وَاَللَّه الْمُسْتَعَان ) فبان لك بذلك وجه الصواب في هذه المسألة :- وهو أن الواجب في غسل الإناء من ولوغ الكلب إنما هو سبع غسلات الأولى منها بالتراب ، والله ربنا أعلى وأعلم .(1/394)
ومنها :- ما رواه البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ... وهذا دليل على أن فرض المسافر ركعتان ، ولكن ثبت عن عائشة أنها خالفت مرويها هذا ، فقد روى مسلم في الصحيح قال :- حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَوَّلَ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ ...(1/395)
قَالَ الزُّهْرِيُّ فَقُلْتُ لِعُرْوَةَ مَا بَالُ عَائِشَةَ تُتِمُّ فِي السَّفَرِ قَالَ إِنَّهَا تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ فهنا رأي وهنا رواية والمعتمد عندنا هو تقديم الراوية ، ولا شأن لنا بالرأي ، ولكن كان يجب على أصل الحنفية أن يقدموا الرأي على الرواية ، لأن الأصل عندهم هو تقديم الرأي على الرواية ، إلا أنهم هنا خالفوا أصلهم ، وقالوا بسنية القصر في السفر ، ولم يلتفتوا إلى رأي عائشة رضي الله عنها ، وهذا دليل على ضعف تأصيلهم الذي ذهبوا إليه في هذه المسألة ، وهو رد عليهم قولهم :- إن الراوي لا يخالف مرويه إلا لوجود ناسخ اطلع عليه ، فلو كان ذلك حقا ، لأخذوا بالرأي هنا ، فهذا الفرع وارد على أصل الحنفية ، وجزاهم الله خير الجزاء على اختيارهم سنية القصر ، والحمد لله تعالى أنهم لم يذهبوا لغيره ولكن أوردنا هذا الفرع هنا لتعلم ضعف تأصيلهم وأنهم يخالفونه في بعض الأحيان ، ومن المعلوم أن مخالفة التأصيل دليل على ضعف التأصيل ، والحق في هذه المسألة أن القصر في السفر من السنن المؤكدة التي تقرب أن تكون من الواجبات ، فهو مؤكد لا ينبغي تركه ولا الإخلال به إلا لعذر قاهر كالائتمام بالمقيم ، والله تعالى أعلم .(1/396)
ومنها :- روى البخاري في الصحيح قال :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عمر عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ وَفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ " وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا حَجَّ أَوْ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ ...(1/397)
فابن عمر هنا يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بإعفاء اللحى ، وإعفاؤها تركها على حالها من حلق ولا قص ولا تقصير ، وهو توفيرها الوارد في حديث أبي هريرة ، عند مسلم " وفروا اللحى " وهذا يقتضي أن لا يتعرض لشيء من شعر لحيته لا في طولها ولا في عرضها هذا هو مقتضى الرواية ، ولكن زاد البخاري عن ابن عمر أنه كان يأخذ من فضل لحيته ما زاد على القبضة في حجته أو عمرته ، فهل فعل ابن عمر هذا يعتبر مخالفا لما روى ، حتى نقدم الرواية أم يعتبر من باب تفسير الرواية ، فيكون مقدما على فهم غيره ؟ هذا مما يختلف فيه أهل العلم رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم ، وقبل الخوض في الترجيح أقول :- أرجو أن يعرف طلبة العلم أن هذه المسألة من المسائل الاجتهادية التي تخضع للنظر وتحتمل الخلاف ، وليست هي من مسائل الأصول الكبار في الدين ،أو من مسائل الولاء والبراء ،نعم حلق اللحية بالكلية مما لا نرضاه ولا نقر عليه وننكر على فاعله ولو غضب ، ولكن المسألة التي أقصدها بكلامي السابق هي مسألة :- هل يجوز أخذ ما زاد على القبضة أم لا ؟ فهذه المسألة من مسائل الاجتهاد ، ولا بد من مراعاة الأدب في مناقشة المخالف ، وعدم التلفظ بكلام جارح واتهام للذوات وقلة الأدب على أهل العلم الذين قصدهم الحق في طرق مثل هذه المسائل ، فإن بقاء أخوة الإيمان ومحبة الدين أفرض وأوجب من مجرد الكلام على مثل هذه المسألة ، فكيف تكون سببا للتدابر والتناحر وتراشق التهم والاستخفاف بالذوات والعيب والقدح واتهام النوايا ؟ هذا مما لا يجوز ، وبعض الناس هداه الله لا يعرف كيف يتكلم في مثل هذه المسائل ، فليته سكت ، لكان خيرا له ، وكم من كلمة تقول لصاحبها :- دعني فلا بد من دراسة أدب الخلاف ، قبل الدخول فيه ، والقول لا يرده صلف المخالف ولا قلة أدبه ولا تقوى الأقوال برفع الأصوات واتهام النيات ، أو طلب المباهلة من المخالف مباشرة من غير بين مسألة ومسألة ، فإن هذا لا(1/398)
يسمن ولا يغني من جوع ، بل هو من أسباب البعد عن الحق وكراهة المؤمنين بلا وجه حق ، فلنتق الله تعالى في أنفسنا ، وفيما نقول ونكتب ، فإن الله تعالى لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وبعد ذلك أقول:- الراجح عندي في هذه المسألة هو أن الرواية هنا مقدمة على الرأي ، وأن الواجب ترك اللحية على حالها ، ولا يتعرض لها لا بقص ولا بتقصير ، لا ما فوق القبضة ولا ما تحت القبضة ، بل تترك على حالتها التي خلقها الله تعالى عليه ، من طول أو قصر ، وكثافة وخفة ، وأنا عندني أن فعل ابن عمر ورد على خلاف مرويه ، والمعتمد عند اختلاف الرأي والرواية أن المعتمد هو الراوية ، فالعبرة فيما رواه الراوي لا فيما رآه عند التعارض ، ويبين ذلك عدة أمور:- أن فعله هذا إنما هو اجتهاد منه في تأويل قول الله تعالى " محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون " فكان يرى أن الحلق في الرأس والتقصير في اللحية ، فيبقى أن هذا فعل مبناه على الاجتهاد ، والرواية واضحة الدلالة ولا اجتهاد مع الرأي ، ومنها :- أنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم ولا في حديث صحيح واحد أنه كان يأخذ من لحيته شيئا ، لا من طولها ولا من عرضها ، والحديث الوارد في ذلك لا يصح ، أعني حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، والأحكام الشرعية لا تثبت بالأحاديث الضعيفة والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين لنا الدين كله ، وليس فيما بين لنا جواز الأخذ من اللحية ، ومنها :- أنه صلى الله عليه وسلم أمرنا في أحاديث صحيحة صريحة بإعفاء اللحية وإكرامها وإرخائها ، وبين لنا بفعله الذي لازمه طول حياته النبوية إلى أن مات كيفية هذا الإعفاء والإرخاء وهو ترك اللحية على حالها من غير تعرض لها بشيء ، فتركه صلى الله عليه للتعرض للحيته بالتقصير والأخذ طول حياته دليل على أن الواجب هو تركها على حالها ،ولا نحتاج بعد بيانه صلى الله عليه وسلم لبيان أحد كائنا من(1/399)
كان ، ومنها :- أن المتقرر في القواعد أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وهذا بالاتفاق ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بإعفائها وإرخائها ، ولم يبين لنا جواز أخذ ما زاد على القبضة منها ، مع أن ما زاد على القبضة منها داخل في مسماها ، أي أنه من اللحية ، فلو أن أخذه مما يجوز لبينه لنا النبي صلى الله عليه وسلم بيانا شافيا كافيا ، أما أن يترك بيانه طيلة حياته حتى يفوت وقت الحاجة ، ثم يقال :- إنه يجوز أخذه ، فهذا ليس كما ينبغي ، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، ومنها :- أن فعل ابن عمر ومن وافقه من الصحابة كلها أفعال تدخلها الاحتمال ، وأما المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر القولي بتركها وإعفائها ، فهي محكمة واضحة الدلالة ، وقد تقرر في القواعد أن الواجب أن ترد دلالة المتشابه على المحكم ، كما هي طريقة الراسخين في العلم ،ومنها :- أن المتقرر أن رأي الراوي إن تعارض مع روايته فإن المتعمد الرواية ، كما هو الحال هنا ، ومنها :- أن مذهب الصحابي ليس بحجة إن خالف النص من الكتاب أو السنة ، ومنها :- أننا لو سلمنا أن فعل ابن عمر هنا يحتج به ، فإننا نقول :- إن ابن عمر لم يكن يفعله إلا في النسك ، لا كل أسبوع ، وكان يفعله فيما زاد على القبضة من أسفل لا من أعلى ، فالتوسع في الأخذ بفعل ابن عمر ليس كما ينبغي ، وبالجملة :- فالأسلم للعبد في دينه أن يترك الأخذ منها خروجا من خلاف العلماء ، وتركا للمتشابه ، واستبراء واحتياطا للدين ، ومن باب دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، والمقصود هنا أن نبين :- أن ابن عمر روى لنا شيئا ثم خالفه بفعله - طبعا على حد قولنا - وأننا قدمنا روايته على فعله ، لما قررناه من التأصيل ، والله أعلم .(1/400)
ومنها :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى فيما لو مات العبد وعليه صوم ، فهل يصوم عنه وليه؟ على خلاف ، والراجح في هذه المسألة أنه يصوم عنه ، فرضا كان الصوم أو نفلا ، فلا تفريق على القول الراجح ، وذلك لحديث عائشة رضي الله عنها قالت :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من مات وعليه صوم ، صام عنه وليه " والحديث في الصحيح ، ولكن أبى ذلك المالكية والحنفية فأمنا المالكية فأبوه لأنه مخالف لعمل أهل المدينة ، وقد أجبنا عن ذلك سابقا ، فلا نعيده هنا ، وأما الحنفية فإنهم ردوه ، لأنه على خلاف رأي الراوي ، لأن الراوي هنا عائشة رضي الله عنها ، وقد أفتت بخلاف مرويها هذا ، فقد رُوِيَ عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا " سُئِلَتْ عَنْ اِمْرَأَةٍ مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْم قَالَتْ: يُطْعَمُ عَنْهَا " . وَعَنْ عَائِشَة قَالَتْ " لَا تَصُومُوا عَنْ مَوْتَاكُمْ .. فهي هنا تفتي بخلاف مرويها والمعتمد عند الحنفية تقديم الرأي على الرواية ، وهذا من الخطأ في الحقيقة ، ومن التجني على الأدلة بلا بل وجه حق ، بل الحق أن من مات وعليه صوم ، صام عنه وليه ، عملا بمقتضى الرواية ، وأما فتوى عائشة رضي الله عنها فلا نقول بها ، لأنها وردت على خلاف مرويها ، والمعتمد عندنا أن رواية الراوي مقدمة على رأيه عند التعارض ، مع أن ما يروى عنها في هذه المسألة قسه مقال وبعضه ضعيف جدا ، فكيف تترك الرواية التي في الصحيح من أجل رأي لا يصح من جهة سنده ؟ وعلى ذلك قال الحافظ رحمه الله تعالى في الفتح ( وَأَمَّا الْحَنَفِيَّة فَاعْتَلُّوا لِعَدَمِ الْقَوْل بِهَذَيْنِ الْحَدِيثِينَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا " سُئِلَتْ عَنْ اِمْرَأَةٍ مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْم ، قَالَتْ : يُطْعَمُ عَنْهَا " .(1/401)
وَعَنْ عَائِشَة قَالَتْ " لَا تَصُومُوا عَنْ مَوْتَاكُمْ وَأَطْعِمُوا عَنْهُمْ " أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس " قَالَ فِي رَجُل مَاتَ وَعَلَيْهِ رَمَضَان قَالَ يُطْعَمُ عَنْهُ ثَلَاثُونَ مِسْكِينًا " أَخْرَجَهُ عَبْد الرَّزَّاق ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ " لَا يَصُوم أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ " قَالُوا فَلَمَّا أَفْتَى اِبْن عَبَّاس وَعَائِشَة بِخِلَافِ مَا رَوَيَاهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَمَل عَلَى خِلَاف مَا رَوَيَاهُ ، وَهَذِهِ قَاعِدَة لَهُمْ مَعْرُوفَة ، إِلَّا أَنَّ الْآثَار الْمَذْكُورَة عَنْ عَائِشَة وَعَنْ اِبْن عَبَّاس فِيهَا مَقَال ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَمْنَع الصِّيَام إِلَّا الْأَثَر الَّذِي عَنْ عَائِشَة وَهُوَ ضَعِيف جِدًّا ، وَالرَّاجِح أَنَّ الْمُعْتَبَر مَا رَوَاهُ لَا مَا رَآهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُخَالِفَ ذَلِكَ لِاجْتِهَادٍ وَمُسْتَنَدُهُ فِيهِ لَمْ يَتَحَقَّق وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ ضَعْف الْحَدِيث عِنْده ، وَإِذَا تَحَقَّقَتْ صِحَّة الْحَدِيث لَمْ يُتْرَكْ الْمُحَقَّقُ لِلْمَظْنُونِ ، وَالْمَسْأَلَة مَشْهُورَة فِي الْأُصُول ) والله أعلم(1/402)
ومنها :- وهو قريب منها لكن أفردناه بالذكر لاختلاف اسم الصحابي ، وهو أن ابن عباس رضي الله عنهما روى لنا حديثا يفيد جواز صوم النذر عن من مات وعليه صوم نذر ، وذلك فيما رواه البخاري في الصحيح قال :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى .. وفي بعض الروايات :- أنه صوم نذر ، ولكن أبى الحنفية الأخذ بهذا الحديث ، بحجة أن راويه الذي هو ابن عباس أفتى بخلاف مرويه ، ورأي الراوي مقدم على روايته عندنا ، أي عند الحنفية ، فقد رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أنه قَالَ فِي رَجُل مَاتَ وَعَلَيْهِ رَمَضَان قَالَ ( يُطْعَمُ عَنْهُ ثَلَاثُونَ مِسْكِينًا ) أَخْرَجَهُ عَبْد الرَّزَّاق ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ ( لَا يَصُوم أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ ) فانظر كيف تعارض الرأي والرواية ، والحق الذي لا مرية فيه عندنا هو العمل بالرواية ، ولا شأن لنا بما عارضها من الآراء ، وعليه :- فالراجح هو أن من مات وعليه صوم نذر فصام عنه أحد أجزأ ذلك عنه ، وليس هذا خاصا بصوم النذر ، لكن لأن حديثنا ورد فيه فقط ، فالراجح الجواز ، وأما قاعدة الحنفية فباطلة ، وهي من الاجتهاد الذي عورض به النص, ولا اجتهاد مع النص ، ولأن الأثر المروي عن ابن عباس فيه مقال أصلا كما قاله الحافظ في الفتح ، فلا تلفت له ، وأقبل على الرواية واعضض عليها بالنواجذ واستمسك به ، والله أعلم .(1/403)
ومنها :- القول الصحيح الذي دلت عليه السنة الصحيحة هو مشروعية رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع والرفع منه وعند القيام من التشهد الأول ، كما أفاد ذلك جمع من الأحاديث:- منها حديث ابن عمر في الصحيح قال :- كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة ، وإذا كبر للركوع ، وإذا رفع من الركوع رفعهما كذلك ، ولا يفعل ذلك في السجود " فالراوي هنا ابن عمر ، فاحفظ هذا ، وَعَنْ نَافِعٍ { أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ ، وَإِذَا قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ ، وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد ، والراوي هنا هو ابن عمر أيضا ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَذْو مَنْكِبَيْهِ ، وَيَصْنَعُ مِثْلُ ذَلِكَ إذَا قَضَى قِرَاءَتَهُ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ ، وَيَصْنَعُهُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ قَاعِدٌ ، وَإِذَا قَامَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ كَذَلِكَ وَكَبَّرَ } .رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ) .(1/404)
وهذا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِيمَا حَكَاهُ { الْخَلَّالُ } وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ رَأَى { مَالِكَ بْنِ الْحُوَيْرِثِ إذَا صَلَّى كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ ، وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ هَكَذَا } ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .وَفِي رِوَايَةِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ ، وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ ، فَقَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ } .(1/405)
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا :{ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ } والأدلة في ذلك كثيرة ، حتى أفردها بعض أهل العلم بالتأليف ، كالبخاري وغيره ، فالذي يصح في هذه المسألة هو ما ذكرته لك من القول الراجح ولكن أبى الحنفية العمل بهذه الأحاديث ، ووافقونا على الرفع عند تكبيرة الإحرام فقط ، وأما ما عداها فلو يوافقونا عليه ، بل بالغ بعضهم وجعل الرفع في هذه المواضع مبطلا للصلاة ، واحتجوا على ترك الأحاديث السابقة بأن ابن عمر ترك العمل بها ، أي أنه خالف مرويه ، والمعتمد عندهم هو الرأي لا الرواية عند التعارض ، فقد روى مُجَاهِدٌ قَالَ صَلَّيْت خَلْفَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ سَنَتَيْنِ فَكَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ ، ولكن هذا غير مسلم ، لأن المنقول عن ابن عمر في مخالفته للرواية ضعيف لا تقوم به الحجة ، بل الصحيح عنه أن كان يرفع يديه في هذه المواطن الأربعة ، وسلمنا جدلا أنه قد صح ترك الرفع ، فلا شأن لنا برأيه هذا ، وإنما المعتمد عندنا هو الرواية المرفوعة للنبي صلى الله عليه وسلم ، لا الرأي المعارض لها ، وكذلك قالوا في رد حديث ابن مسعود وهو من جملة رواة الرفع ، ولكنه يروى عنه أنه كان لا يرفع إلا في التكبيرة الأولى فقط ولكن المنقول عنه في ذلك لا يصح ، ولئن سلمنا أنه صحيح ، فالمعتمد عندنا روايته لا رأيه ، ومن رواة حديث الرفع العشرة المبشرون بالجنة ،وقال الْحَاكِم )اتَّفَقَ عَلَى رِوَايَةِ هَذِهِ السُّنَّةِ الْعَشَرَةُ الْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ) .قَالَ الْبَيْهَقِيُّ :( وَهُوَ كَمَا قَالَ ).(1/406)
قَالَ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا :( وَلَا يُعْلَمُ سُنَّةٌ اتَّفَقَ عَلَى رِوَايَتِهَا الْعَشَرَةُ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ عَلَى تَفَرُّقِهِمْ فِي الْأَقْطَارِ الشَّاسِعَةِ غَيْرَ هَذِهِ السُّنَّةِ) إلا أن الحنفية أيضا اعتذروا عن قبول رواية العشرة في الرفع بأنه نقل عندهم أنهم كانوا لا يرفعون إلا عند تكبيرة الإحرام ، فقد ذكر الكاساني في بدائع الصنائع عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ إنَّ الْعَشَرَةَ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ مَا كَانُوا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَّا لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَخِلَاف هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ قَبِيحٌ ونقول:- إن هذا نقل لا يصح ، بل الثابت عنهم هو الرفع ، ولئن سلمنا أنه قد صح ، فإن القبيح في الحقيقة إنما هو خلاف السنن الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم ، ولا يمكن البتة أن يتفق العشرة بل ولا الأربعة الخلفاء على خلاف الحق أبدا ، أي أنه لا يمكن في مسألة من مسائل الدين أن يقول فيها العشرة بخلاف الحق ، فالرواية عنهم في أهم لا يرفعون أيديهم إلا في تكبيرة الإحرام فقط لا تصح ، بل هي ضعيفة شديدة الضعف ، فالحق في هذه المسألة هو أن السنة أن ترفع الأيدي في المواطن الأربعة التي ذكرتها لك في أول المسألة ، والمعتمد هو رواية الراوي لا رأيه المعارض لها, والله أعلم .(1/407)
ومنها :- القول الصحيح والرأي الراجح المليح هو أن الولي شرط من شروط صحة النكاح ، فلا نكاح إلا بولي ، هكذا وردت الأحاديث :- فعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ } وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :{ أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ؛ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا ، فَإِنْ اشْتَجَرَا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ} رَوَاهُمَا الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ وَرَوَى الثَّانِي أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ وَلَفْظُهُ : { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ ، وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ ) وَعَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ : جَمَعَتْ الطَّرِيقُ رَكْبًا ، فَجَعَلَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ ثَيِّبٌ أَمْرَهَا بِيَدِ رَجُلٍ غَيْرِ وَلِيٍّ فَأَنْكَحَهَا ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ ، فَجَلَدَ النَّاكِحَ وَالْمُنْكَحَ وَرَدَّ نِكَاحَهَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : مَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ(1/408)
فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنْ عَلِيٍّ ، كَانَ يَضْرِبُ فِيهِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ )، وهذا مذهب جماهير أهل العلم رحمهم الله تعالى ولكن أبى الحنفية الأخذ بذلك ، وتعللوا بعدة أعذار ، والذي يخصنا منها هنا هو أنهم قالوا :- إن من جملة رواة أحاديث اشتراط الولي عائشة رضي الله عنها ، فروي عنها رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا زَوَّجَتْ ابْنَةَ أَخِيهَا حَفْصَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَهُوَ غَائِبٌ فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ : أو مثلي يُفْتَاتُ عَلَيْهِ فِي بَنَاتِهِ ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا : أَوَتَرْغَبُ عَنْ الْمُنْذِرِ ؟ وَاَللَّهِ لَتُمَلِّكَنَّهُ أَمْرَهَا ..رواه مالك في الموطأ ،ولكن قال الحافظ ابن حجر في الفتح ( وَأُجِيب بِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ فِي الْخَبَر التَّصْرِيح بِأَنَّهَا بَاشَرَتْ الْعَقْد ، فَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ تَكُون الْبِنْت الْمَذْكُورَة ثَيِّبًا وَدَعَتْ إِلَى كُفْء وَأَبُوهَا غَائِب فَانْتَقَلَتْ الْوِلَايَة إِلَّا الْوَلِيّ الْأَبْعَد أَوْ إِلَى السُّلْطَان .(1/409)
وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا " أَنْكَحَتْ رَجُلًا مِنْ بَنِي أَخِيهَا فَضَرَبَتْ بَيْنهمْ بِسِتْرٍ ثُمَّ تَكَلَّمَتْ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعَقْد أَمَرْت رَجُلًا فَأَنْكَحَ ثُمَّ قَالَتْ : لَيْسَ إِلَى النِّسَاء نِكَاح " أَخْرَجَهُ عَبْد الرَّزَّاق ) وأقول :- حتى لو صح عن عائشة ذلك ولا تأويل لها فيه ، أو أنها باشرت العقد بنفسها ، فالحق هو العمل بما روت لا بما رأت ، لأن العبرة هي فيما رواه الراوي لا فيما رآه عند التعارض ، نعم الإجابة عن هذه المخالفة الصادرة من الراوي طيبة ، ولكن لا بد من التنبيه أصلا على أنه حتى لو صحت عنه المخالفة لما روى فإن العبرة بما رواه لا بما رآه ، فإن هذا هو بيت القصيد من طرقنا لهذه الفروع ، فلا ينبغي للشارح إهمال هذا الأمر ، والله أعلم .(1/410)
ومنها :- القول الصحيح هو أن الأمة إن عتقت تحت عبد فإن لها الخيار في البقاء معه أو الفسخ وهذا ما قضت به السنة الصحيحة كما في حديث بريرة رضي الله عنها ، فقد روى البخاري في الصحيح قال :- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ إِحْدَى السُّنَنِ أَنَّهَا أُعْتِقَتْ فَخُيِّرَتْ فِي زَوْجِهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْبُرْمَةُ تَفُورُ بِلَحْمٍ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ فَقَالَ ( أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ فِيهَا لَحْمٌ ) قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ ذَلِكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ وَأَنْتَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ قَالَ ( عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ ) وقال أبو داود في سننه :- حَدَّثَنَا ابْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ حُرًّا حِينَ أُعْتِقَتْ وَأَنَّهَا خُيِّرَتْ فَقَالَتْ مَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مَعَهُ وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا... فهذا هو مقتضى الرواية ، ولكن قال في عون المعبود (فَإِنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا كَانَتْ تَذْهَب إِلَى خِلَاف مَا رُوِيَ عَنْهَا وَكَانَ رَأْيهَا لَا يُثْبِت لَهَا الْخِيَار تَحْت الْحُرّ) ولا جرم كأني بك تقول :- إن المعتمد هو رأيها لا روايتها, فالحق في هذه المسألة هو ثبوت الخيار للأمة إن عتقت وزوجها لا يزال عبدا ، والله أعلم .(1/411)
ومنها :- ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يدع أحدا يمر بين يديه ، فقد روى ابن أبي شيبة وعبدالرزاق والطحاوي بأسانيدهم عنه لأن كلن يرد المار بين يديه في التشهد وفي الكعبة وكان يقول :- (إن أبى إلا أن تقاتله فقاتله )وذكره البخاري في ترجمة باب في الصحيح ، وقال الحافظ ( وَقَدْ وَصَلَ الْأَثَر الْمَذْكُور بِذِكْرِ الْكَعْبَةِ فِيهِ أَبُو نُعَيْم شَيْخ الْبُخَارِيّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ صَالِح بْن كَيْسَانٍ قَالَ " رَأَيْت اِبْن عُمَر يُصَلِّي فِي الْكَعْبَةِ فَلَا يَدَعُ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ يُبَادِرُهُ " قَالَ : أَيْ يَرُدُّهُ ) وفي المصنف عن ابن عمر أنه كان يقول رضي الله عنه ( لَا تَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْك وَأَنْتَ تُصَلِّي ، فَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ تُقَاتِلَهُ فَقَاتِلْهُ ) فهذا يفيدنا أن ابن عمر يرى أنه لا يجوز المرور بين يدي المصلي ، وذلك لأن المرور بين يديه إما يؤثر في نقص أجر الصلاة ، أو في قطعها ، ولكن روي عنه خلاف ذلك ، وهو أنه كان لا يرى أن ثمة شيئا يقطع الصلاة ، قال الطحاوي وهو يقرر مذهب الحنفية في أنه لا يقطع الصلاة شيء ، وهو يبين أن ابن عمر خالف روايته ، وأن المعتمد رأيه لا روايته ، قال رحمه الله تعالى (وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا أَيْضًا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَعَ رِوَايَتِهِ مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ رَوَى عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ بَعْدِهِ مَا حَدَّثَنَا يُونُسُ ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمٍ ، قَالَ : قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَيَّاشِ بْنِ رَبِيعَةَ يَقُولُ ( يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ ) .(1/412)
فَقَالَ ، ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ( لَا يَقْطَعُ صَلَاةَ الْمُسْلِمِ شَيْءٌ ) حَدَّثَنَا ابْنُ مَرْزُوقٍ ، قَالَ : ثنا عَبْدُ الصَّمَدِ ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ نَافِعٍ, وَسَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ ( لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ ، وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ ) .حَدَّثَنَا صَالِحٌ قَالَ : ثنا سَعِيدٌ ، قَالَ : ثنا هُشَيْمٌ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِثْلَهُ .فَهَذَا ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَدْ قَالَ هَذَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .فَقَدْ دَلَّ هَذَا عَلَى ثُبُوتِ نَسْخِ مَا كَانَ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حَتَّى صَارَ مَا قَالَ بِهِ مِنْ هَذَا ، أَوْلَى عِنْدَهُ .(1/413)
مِنْ ذَلِكَ ) وكلام الطحاوي هذا غير مسلم له ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم فصل هذه القضية ، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَإِنَّهُ يَسْتُرُهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ " قُلْتُ يَا أَبَا ذَرٍّ مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْكَلْبِ الْأَحْمَرِ مِنْ الْكَلْبِ الْأَصْفَرِ قَالَ يَا ابْنَ أَخِي سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَأَلْتَنِي فَقَالَ " الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ "وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ وَيَقِي ذَلِكَ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ "رواه مسلم ، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ " وهذه نصوص صحيحة صريحة في أن هذه الأشياء تقطع الصلاة ، بل ونزيدها أمرا رابعا ، وهو مرور الشيطان إن على بمروره وقدر على رده ، وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وبرهان ذلك ما في الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبُطَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ رَبِّ{هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي(1/414)
لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا" والواجب حمل اللفظ على معناه المتقرر في الشرع ، ولا يجوز دعوى المجاز إلا بقرينة ، ولأبي داود عن سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا لَا يَقْطَعْ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ " فهذه الأمور الأربعة هي التي تقطع الصلاة على القول الراجح ، وأما ما عداها فإن المصلي يجب عليه فيها المدافعة ، ولكنها لا تقطع الصلاة ، وأما الأحاديث التي فيها " لا يقطع الصلاة شيء " ففيها ما هو ضعيف ، والمقبول منها هو من قبيل العام ، وأحاديثنا من قبيل الخاص ، وقد تقرر في الأصول أن الخاص مقدم على العام ، وأما ما روي عن ابن عمر فإنه من رأيه ، وروايته مقدمة على رأيه ، لأن العبرة فيما رواه الراوي لا فيما رآه عند التعارض ، وأما نوم عائشة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن هذا ليس مرورا ، بل مكث ، والذي يقطع صلاة الرجل هو مرور المرأة لا مكثها بين يديه ، وأما عن العلة ، فلا نعلم في التعليل إلا في الكلب الأسود فقط ، لقوله في الحديث " الكلب الأسود شيطان " وأما ما عداها فالأمر فيه إلى الله تعالى ، والمقصود أن المعتمد هو رواية ابن عمر لا رأيه ، والله أعلم .
ومنها :- يحكي فقهاء الحنفية رحمهم الله تعالى أن ابن عمر كان يصلي في النهار أربع ركعات سردا بتسليم واحد في آخرها ، ويجعلون ذلك مما خالف به ابن عمر مرويه ، فإنه قال :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صلاة الليل والنهار مثنى ، مثنى " وأصل الحديث متفق عليه دون قوله "والنهار" وما قالوه فيه نظر ، ذلك لأن زيادة " والنهار " لا تصح ، فقد أعلها الحفاظ ، كالنسائي وغيره ،فلا يتم ما أرادوه ، وهذا ذكرناه تنبيها فقط ، والله أعلم .(1/415)
ومنها :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في حكم زكاة الحلي الملبوس ، اختلافا لا مزيد عليه وقد ألف فيها بخصوصها ، فذهب جماهير أهل العلم إلى القول بأنها لا زكاة فيها ،قال الترمذي في جامعه (وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ فَرَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةَ مَا كَانَ مِنْهُ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ وَبِهِ يَقُولُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَقُ ) وأعني بالحلي الملبوس ، أي فيما إذا كان من الذهب والفضة فقط, قال المباركفوري في التحفة (يَعْنِي أَنَّ اِخْتِلَافَ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّمَا هُوَ فِي حُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَأَمَّا فِي حُلِيٍّ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَاللُّؤْلُؤِ فَلَيْسَ فِيهِ اِخْتِلَافٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ ) والمسألة طويلة الذيول ولا يحتملها الكلام في هذا الفرع ، وقد كنت في الماضي أذهب إلى أنه لا زكاة في الحلي الملبوس ولكنني تأملت الأدلة في هذه المسألة ، والمناقشة عليها فرأيت أن الراجح فيها وجوب الزكاة ، ولا حرج على من رأى الحق في غير اختيار السابق أن يرجع عنه إلى ما ترجح له ، بل هذا هو مقتضى الواجب ، وقد بحثت في هذه المسألة كثيرا ، ومالت النفس إلى وجوب الزكاة في حلي المرأة الملبوس من الذهب والفضة ، ورجحت ذلك لعدة أمور ، منها قوله تعالى " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم "(1/416)
والكنز هنا قد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ما لا يؤدى زكاته ، كما في الأحاديث التي سأذكرها إن شاء الله تعالى ، ومع تفسيره صلى الله عليه وسلم فلا نحتاج إلى تفسير آخر ، ومنها ما رواه أبو داود والنسائي والترمذي ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده: « أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها: "أتعطين زكاة هذا؟" قالت: لا، قال: "أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟" فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: هما لله ولرسوله » وما روى أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه والدارقطني والبيهقي في سننهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: « دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فتخات من ورق فقال: "ماهذا يا عائشة ؟" فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله، قال: "أتؤدين زكاتهن؟" قلت: لا، أو ما شاء الله، قال: هو حسبك من النار » وما رووا عن أم سلمة قالت: «كنت ألبس أوضاحًا من ذهب فقلت: يا رسول الله أكنز هو؟ فقال: ما بلغ أن يؤدى زكاته فزكي فليس بكنز » وقال أصحاب الفضيلة في اللجنة الدائمة (والأرجح من القولين قول من قال بوجوب الزكاة فيها، إذا بلغت النصاب، أو كان لدى مالكيها من الذهب والفضة أو عروض التجارة ما يكمل النصاب؛ لعموم الأحاديث في وجوب الزكاة في الذهب والفضة، وليس هناك مخصص صحيح فيما نعلم، ولأحاديث عبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة وأم سلمة المتقدم ذكرها، وهي أحاديث جيدة الأسانيد، لا مطعن فيها مؤثر، فوجب العمل بها.(1/417)
أما تضعيف الترمذي وابن حزم لها والموصلي فلا وجه له فيما نعلم مع العلم بأن الترمذي رحمه الله معذور فيما ذكره؛ لأنه ساق حديث عبد الله بن عمرو من طريق ضعيف وقد رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من طريق أخرى صحيحة، ولعل الترمذي لم يطلع عليها ) وقال في عون المعبود عن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ( قَالَ الزَّيْلَعِيُّ : قَالَ اِبْن الْقَطَّان فِي كِتَابه : إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ . وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ : إِسْنَادُهُ لَا مَقَال فِيهِ فَإِنَّ أَبَا دَاوُدَ رَوَاهُ عَنْ أَبِي كَامِلٍ الْجَحْدَرِيِّ وَحُمَيْدِ بْن مَسْعَدَة وَهُمَا مِنْ الثِّقَات اِحْتَجَّ بِهِمَا مُسْلِم وَخَالِد بْن الْحَارِث إِمَام فَقِيه اِحْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَكَذَلِكَ حُسَيْن بْن ذَكْوَانَ الْمُعَلِّم اِحْتِجَابه فِي الصَّحِيح وَوَثَّقَهُ اِبْن الْمَدِينِيّ وَابْن مَعِين وَأَبُو حَاتِم وَعَمْرو بْن شُعَيْب فَهُوَ مِمَّنْ قَدْ عُلِمَ ، وَهَذَا إِسْنَاد تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى ) وقد ذكر في تحفة الأحوذي الأعذار التي يعتذر بها القائلون بعدم الوجوب والتي ردوا بسببها الأحاديث السابقة الذكر فقال:ــ( وَلِلْقَائِلِينَ بِعَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ أَعْذَارٌ عَدِيدَةٌ كُلُّهَا بَارِدَةٌ . فَمِنْهَا أَنَّ أَحَادِيثَ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي اِبْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ فَلَمَّا أُبِيحَ لَهُنَّ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ ، وَهَذَا الْعُذْرُ بَاطِلٌ ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ كَيْف يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ وَحَدِيثِ أَسْمَاءَ وَفِيهَا التَّصْرِيحُ بِلُبْسِهِ مَعَ الْأَمْرِ 3بِالزَّكَاةِ اِنْتَهَى .(1/418)
وَمِنْهَا أَنَّ الزَّكَاةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إِنَّمَا كَانَتْ لِلزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ ، وَهَذَا اِدِّعَاءٌ مَحْضٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ، بَلْ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَا يَرُدُّهُ ، قَالَ الْحَافِظُ الزَّيْلَعِيُّ وَبِسَنَدِ التِّرْمِذِيِّ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مَسَانِيدِهِمْ وَأَلْفَاظُهُمْ قَالَ لَهُمَا : فَأَدِّيَا زَكَاةَ هَذَا الَّذِي فِي أَيْدِيكُمَا ، وَهَذَا اللَّفْظُ يَرْفَعُ تَأْوِيلَ مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهِ شُرِعَتْ لِلزِّيَادَةِ فِيهِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ اِنْتَهَى .وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّكَاةِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ التَّطَوُّعُ إِلَى الْفَرِيضَةِ ، أَوْ الْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ الْإِعَارَةُ ، قَالَ الْقَارِي فِي الْمِرْقَاةِ : وَهُمَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ إِذْ لَا وَعِيدَ فِي تَرْكِ التَّطَوُّعِ وَالْإِعَارَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ الزَّكَاةِ عَلَى الْعَارِيَةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا) اِنْتَهَى كلامه رحمه الله تعالى ، قلت :- وفيه دليل آخر :- وهو قوله صلى الله عليه وسلم " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له يوم القيامة صفائح من نار ...(1/419)
الحديث " فهذا نكرة في سياق الشرط ، وقد تقرر أن النكرة في سياق الشرط تعم ، فيدخل فيها كل ما يصدق عليه أنه ذهب أو فضة ، والحلي من الذهب والفضة داخلة في هذا العموم ، والأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص ، وعلى كل حال ، فالذي ترجح عندي في الأخير أن الحلي الملبوس فيه الزكاة ، فإن قلت :- إن عائشة رضي الله عنها كانت تلي بنات أخيها ولهن الحلي من الذهب ولا تخرج زكاتها وهي ممن روى لنا وجوب الزكاة في الحلي ، فروايتها تفيد وجوب الزكاة فيها ، ورأيها تفيد أنه لا زكاة في الحلي ، والمعتمد عند الحنفية هو الرأي لا الرواية ، وكان مقتضي هذا التأصيل ، أن يختاروا أن لا زكاة في الحلي ، لكنهم خالفوا أصلهم هنا وقالوا بوجوب الزكاة في الحلي ، وأما على قولنا فإننا نقول :- إنه إذا تعارض رأي الراوي وروايته فإن المعتمد روايته لا رأيه ، والله تعالى أعلم .(1/420)
ومنها : -القول الصحيح الذي تؤيد السنة هو أن لبن الفحل ينشر الحرمة ، أي أن التحريم بالرضاع ينشر الحرمة في أقارب الزوج الذي ثاب اللبن بوطئه ، كما أنه ينتشر في أقارب المرأة ،المرضعة وبرهان ذلك :- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا وَهُوَ عَمُّهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ...(1/421)
وهو نص في محل النزاع ، والإشكال هنا هو :- أن الراوي لهذا الخبر عائشة رضي الله عنها وقد نقل عنها ابن بطال في شرح البخاري أنها أفتت بخلافه ، فقال رحمه الله ( قد أفتت عائشة بخلافه، وهى راوية الحديث، فكان يدخل عليها من أرضعته أخواتها، ولا يدخل عليها من أرضعه نساء إخوتها، وهذا ترك منها للقول بما روته من تحريم لبن الفحل) ولكن الحافظ ابن حجر قدح في ذلك النقل فقال رحمه الله تعالى (وَنَقَلَهُ اِبْن بَطَّال عَنْ عَائِشَة وَفِيهِ نَظَرٌ)قلت :- وإن ثبت عنها أنها أفتت بخلافه ، فلا ينظر إلى رأيها في مقابل مرويها ، لأن المتعمد هو روايتها لا رأيها المخالف ، هذا إن صح عنها أنها خالفت مرويها السابق ،وقد نقل الحافظ ابن حجر في الفتح إن بعض أهل العلم جعل هذا الفرع من الإلزامات للحنفية في قاعدتهم التي قرروها من أن الراوي إن عمل بخلاف روايته أن المعتبر رأيه لا روايته ، لأن الحنفية هنا تركوا رأي عائشة وعملوا بروايتها ، وكان على مقتضى قاعدتهم أن يتركوا الرواية ويعملوا بالرأي ، فقال رحمه الله تعالى ( وَأَلْزَمَ بِهِ بَعْضهمْ مَنْ أَطْلَقَ مِنْ الْحَنَفِيَّة الْقَائِلِينَ أَنَّ الصَّحَابِيّ إِذَا رَوَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا وَصَحَّ عَنْهُ ثُمَّ صَحَّ عَنْهُ الْعَمَل بِخِلَافِهِ أَنَّ الْعَمَل بِمَا رَأَى لَا بِمَا رَوَى ، لِأَنَّ عَائِشَة صَحَّ عَنْهَا أَنْ لَا اِعْتِبَار بِلَبَنِ الْفَحْل ذَكَرَهُ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ وَسَعِيد بْن مَنْصُور فِي السُّنَن وَأَبُو عُبَيْد فِي كِتَاب النِّكَاح بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ ، وَأَخَذَ الْجُمْهُور وَمِنْهُمْ الْحَنَفِيَّة بِخِلَافِ ذَلِكَ وَعَمِلُوا بِرِوَايَتِهَا فِي قِصَّة أَخِي أَبِي الْقُعَيْس وَحَرَّمُوهُ بِلَبَنِ الْفَحْل فَكَانَ يَلْزَمهُمْ عَلَى قَاعِدَتهمْ أَنْ يَتَّبِعُوا عَمَلَ عَائِشَة وَيُعْرِضُوا عَنْ رِوَايَتهَا ،(1/422)
وَلَوْ كَانَ رَوَى هَذَا الْحُكْمَ غَيْر عَائِشَة لَكَانَ لَهُمْ مَعْذِرَة لَكِنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ غَيْرهَا ، وَهُوَ إِلْزَام قَوِيّ ) والله أعلم .
ومنها :- القول الصحيح إن شاء الله تعالى هو أن من قال لزوجته ( أنت طالق بالثلاث ) أنه لا تقع عليها إلا واحدة ، ويسميه العلماء ( طلاق الثلاث ) والدليل على ذلك ما رواه مسلم في الصحيح قال :- حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ وَاللَّفْظُ لِابْنِ رَافِعٍ قَالَ إِسْحَقُ أَخْبَرَنَا وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ...(1/423)
وفي المسألة أحاديث غير هذا ، وهذا لوحده كاف في الاستدلال على هذه المسألة ، وقد أشبع ابن القيم هذه المسألة في إغاثة اللهفان ، بما لا مزيد عليه ،ولكن يشكل على الاستدلال بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن ابن عباس نفسه قد أفتى بخلاف روايته هذه ، فقد روى أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيح مِنْ طَرِيق مُجَاهِد قَالَ " كُنْت عِنْد اِبْن عَبَّاس ، فَجَاءَهُ رَجُل فَقَالَ : إِنَّهُ طَلَّقَ اِمْرَأَته ثَلَاثًا ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيَرُدُّهَا إِلَيْهِ فَقَالَ : يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ فَيَرْكَبُ الْأُحْمُوقَةَ ثُمَّ يَقُول: يَا اِبْن عَبَّاس يَا اِبْن عَبَّاس ، إِنَّ اللَّهَ قَالَ ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ) وَإِنَّك لَمْ تَتَّقِ اللَّه فَلَا أَجِدُ لَك مَخْرَجًا ، عَصَيْت رَبّك وَبَانَتْ مِنْك اِمْرَأَتك " وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ لَهُ مُتَابَعَات عَنْ اِبْن عَبَّاس بِنَحْوِهِ ... فهذه الفتيا تخالف ما رواه ، فأيهما يقدم ؟ لا شك كأني بك تقول :- إن المعتبر هو الرواية ، لأن المتقرر أنه إن تعارض رأي الراوي وروايته فالمعتمد روايته لا رأيه ، والله أعلم .(1/424)
ومنها :- القول الصحيح أن الاستدامة على قراءة قصار المفصل في المغرب ليس من السنة ، بل السنة أن يقرأ فيها أحيانا بطوال المفصل ، بل ومن السنة أحيانا أن يقرأ فيها بالأعراف ، ففي الصحيح عن جبير بن مطعم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور ... الحديث وفيه عن أم الفضل أن آخر ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأه في المغرب كان سورة المرسلات ، والحديث نقلته بالمعنى ، وفي حديث زيد بن ثابت في الصحيح أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بطولي الطولين ، الأعراف ، بل وقد رواه منكرا على مروان بن الحكم اقتصاره على قراءة قصار المفصل في المغرب دائما ، ولكن ذهب بعض أهل العلم إلى أن القراءة بالطوال في المغرب لا تستحب ، ورأى أن الأحاديث التي وردت في ذلك منسوخة ، وبرهانهم على ذلك أن عروة ، وهو من رواة الأحاديث الأولى ، كان يقرأ في المغرب بقصار المفصل ، وكأن هذا ما ذهب إليه أبو داود صاحب السنن ، قال الحافظ ابن رجب في شرح البخاري (وأشار أبو داود إلى نسخ القراءة بالأعراف ، واستدل لهُ بعمل عروة بن الزبير بخلافه ، وهو راويه ) قلت :- وهذا بعيد عن الصواب ، لأمرين :- الأول :- أن مقصودنا بعمل الراوي بخلاف ما روى ، أي في طبقة الصحابة فقط ، لا في طبقة التابعين ولا تابعيهم ، الثاني :- أننا حتى وإن سلمنا بأنه يدخل في ذلك التابعون ومن دونهم ، فإن المعتمد هو رواية الراوي لا رأيه المخالف لروايته ، وعليه :- فالراجح هو ما ذكرته لك في أول المسألة ، والله أعلم .(1/425)
ومنها :- أننا رجحنا سابقا - فيما أظن - أن المرتهن يجوز له أن ينتفع بالرهن إن تولى هو النفقة عليه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة " الظهر يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِى يَشْرَبُ وَيَرْكَبُ النَّفَقَةُ » وهو نص صحيح صريح في المراد ، ولكن قال ابن بطال رحمه الله تعالى ( وقد حدثنا فهد، قال: نا أبو نعيم حدثنا الحسن بن صالح، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبي، قال: لا ينتفع من الرهن بشيء فهذا الشعبي روى الحديث وأفتى بخلافه، ولا يجوز عليه ذلك إلا وهو عنده منسوخ ) وأقول :- جوابنا على مخالفة الشعبي إن صحت عنه ، كما أجبنا على معارضة عروة في الفرع السابق ، من أن مخالفة الراوي لما روى إنما هي مفروضة في الصحابي فقط لا فيمن دونه ، ومن أننا لو سلمنا دخول من دونه معه لما كانت مخالفة الشعبي رحمه الله تعالى معتبرة لأن المعتبر روايته لا رأيه ، والله أعلم .(1/426)
ومنها :- أن عائشة رضي الله عنها روت لنا قوله صلى الله عليه وسلم " إنما الرضاعة من المجاعة " وذلك فيما رواه البخاري في الصحيح قال :- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْأَشْعَثِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا رَجُلٌ فَكَأَنَّهُ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ فَقَالَتْ إِنَّهُ أَخِي فَقَالَ " انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ " إلا أنها رضي الله عنها كانت تذهب إلى أن الرضاع ينفع مع الكبر ، فهنا رأي وهنا رواية ، فقدم أكثر أهل العلم روايتها على رأيها ، لا سيما وهو قول كل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم غيرها ، وبعض أهل العلم قدم رأيها على روايتها ، والحق عندي في هذه المسألة ، أن ما قالت به عائشة رضي الله عنها ليس من قبيل الرأي ، بل من باب الاستدلال بالرواية ، وذلك لأنها استدلت على ما ذهبت إليه بقصة سالم مولى أبي حذيفة ، وهي ما رواه مسلم في الصحيح قال :- حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ جَمِيعًا عَنْ الثَّقَفِيِّ قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ كَانَ مَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ وَأَهْلِهِ فِي بَيْتِهِمْ فَأَتَتْ تَعْنِي ابْنَةَ سُهَيْلٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إِنَّ سَالِمًا قَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ وَعَقَلَ مَا عَقَلُوا وَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْنَا وَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(1/427)
وَسَلَّمَ أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ وَيَذْهَبْ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ فَرَجَعَتْ فَقَالَتْ إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُهُ فَذَهَبَ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ... فهي ذهبت لما ذهبت له استدلالا بمروي آخر ، لا لمحض الرأي ، وقد أجاب الجمهور عن حديث سالم بعدة أجوبة :- مِنْهَا أَنَّهُ حُكْمٌ مَنْسُوخ وَبِهِ جَزَمَ الْمُحِبّ الطَّبَرِيُّ فِي أَحْكَامه ، وَقَرَّرَهُ بَعْضهمْ بِأَنَّ قِصَّة سَالِم كَانَتْ فِي أَوَائِل الْهِجْرَة وَالْأَحَادِيث الدَّالَّة عَلَى اِعْتِبَار الْحَوْلَيْنِ مِنْ رِوَايَة أَحْدَاث الصَّحَابَة فَدَلَّ عَلَى تَأَخُّرهَا) ولكن قد أجاب عنه الحافظ في الفتح بقوله (وَهُوَ مُسْتَنَدٌ ضَعِيف إِذْ لَا يَلْزَم مِنْ تَأَخُّر إِسْلَام الرَّاوِي وَلَا صِغَره أَنْ لَا يَكُون مَا رَوَاهُ مُتَقَدِّمًا ، وَأَيْضًا فَفِي سِيَاق قِصَّة سَالِم مَا يُشْعِر بِسَبْقِ الْحُكْم بِاعْتِبَارِ الْحَوْلَيْنِ لِقَوْلِ اِمْرَأَة أَبِي حُذَيْفَة فِي بَعْض طُرُقه حَيْثُ قَالَ لَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَرْضِعِيهِ ، قَالَتْ : وَكَيْف أُرْضِعهُ وَهُوَ رَجُل كَبِير ؟ فَتَبَسَّمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : قَدْ عَلِمْت أَنَّهُ رَجُل كَبِير " وَفِي رِوَايَة لِمُسْلِمٍ قَالَتْ " إِنَّهُ ذُو لِحْيَة ، قَالَ : أَرْضِعِيهِ " وَهَذَا يُشْعِر بِأَنَّهَا كَانَتْ تَعْرِف أَنَّ الصِّغَر مُعْتَبَر فِي الرَّضَاع الْمُحَرِّم ) وأقول :- إن النسخ لا يجوز القول به مع إمكانية الجمع بين الدليلين ، لأن المتقرر أن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما ما أمكن ، ولأن المتقرر أن إعمال الكلام أولى من إهماله ، ومنها:- دَعْوَى الْخُصُوصِيَّة بِسَالِمٍ وَامْرَأَة أَبِي حُذَيْفَة وَالْأَصْل فِيهِ قَوْل أُمّ سَلَمَة وَأَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى(1/428)
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا نَرَى هَذَا إِلَّا رُخْصَة أَرْخَصَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَالِمٍ خَاصَّة، وهذا مستند ضعيف ، لأن الأصل في التشريع التعميم ، ولأن المتقرر أن كل حكم ثبت في حق واحد من الأمة فإنه يثبت في حق الأمة تبعا إلا بدليل الاختصاص ، ولأن المتقرر أن الأصل في الخصائص التوقيف على الدليل ، ولأن المتقرر أن الأصل عدم الخصائص إلا ما أثبته النص ، فالراجح عندي في هذه المسألة ، أن حديث سالم مولى أبي حذيفة معمول به ، وإن كان الأكثر على خلافه ، إلا أنه لا يعمل به إلا في نطلق ضيق جدا وهو فيما إذا تكرر دخول رجل أجنبي على النساء ، واضطررن لدخوله عليهن ، لمسوغ شرعي, لا لمجرد اللعب والوظيفة ونحو ذلك مما هو لعب في أصله ، فإذا تحققت الحاجة المنزلة منزلة الضرورة في دخوله عليهن ، وكانت الحالة كحالة زوجة أبي حذيفة مع سالم ، فلا حرج في أن ترضعه من يكون في إرضاعها تحريمه عليهن جميعا ، وهذا من باب دفع المفاسد وصيانة الأعراض ، ولا يجوز السخرية من هذا الحكم الشرعي ، فالحذر الحذر من ذلك ، لأن الاستهزاء بشيء مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كفر وردة ، فتحلب له من ثديها خمس رضعات ويشربه ، وتنتهي مفسدة دخوله عليهن وهن لسن بمحارم له ، والحمد لله رب العالمين ، وهذا من التيسير على الناس فالحديث معمول به ولكنه لا يحوز إهمال السبب الذي قيل فيه " أرضعيه تحرمي عليه " وتكون هذه الصورة مخصوصة من عموم الأحاديث المشترطة للصغر في الانتفاع بالرضاع ، وقد تقرر في القواعد أن الخاص مقدم على العام ، ولكن أنبه هنا مرة أخرى ، أنه لا بد من قيام الحاجة المنزلة منزلة الضرورة في إرضاع الكبير ، بحيث تكون كالحالة المذكورة في الحديث أو أشد منها ،وبهذا نعمل بالأدلة جميعا ولا يكون بينها أي تنافر أو اختلاف ، واختار هذا القول أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى ، وعلى ذلك فالمسألة(1/429)
فيها ثلاثة أقوال :- منع إرضاع الكبير مطلقا ، الثاني :- تجويزه مطلقا ، الثالث :- تجويزه مع قيام داعي الحاجة والضرورة ، والأخير هو الراجح وهو مقتضى حديث سالم مولى أبي حذيفة ، والمقصود :- أن عائشة رضي الله عنها لم تقل بتجويز إرضاع الكبير من باب رأيها الذي عارضت به النص ، وإنما هو باب معارضة مرويها بمروي آخر لكنها وسعت الدائرة ، ونحن قصرناها على السبب الوارد في الحديث ، والله ربنا أعلى وأعلم .
ومنها :- عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما عن عائشة رضي الله عنها أن بريرة عتقت, فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا فيه دليل على أن الأمة إن عتقت تحت عبد فإن لها الخيار ، وأن هذا العتق لا يؤثر في صحة نكاحها ، ولكن ابن عباس نفسه قد خالف مرويه هذا ، فكان يرى أن عتق الأمة طلاقها ، أي أن الأمة إن عتقت تحت عبد فإن ذلك يعتبر فرقة بينهما ، فعندنا رواية ورأي ، وقد اختلف أهل العلم في ذلك على أقوال ، ولكن الحق منها هو ما قضى به النص الصحيح الصريح من أن الأمة إن عتقت تحت عبد فإن لها الخيار في البقاء أو الفرقة ، أي الفسخ وأما ما ذهب له ابن عباس رضي الله عنهما فإنه اجتهاد في مقابلة النص ، وقد تقرر في القواعد أنه لا اجتهاد مع النص ، ولأنه رأي في مقابل الرواية ، وقد تقرر في الأصول أن رواية الراوي مقدمة على رأيه عند التعارض ، والله أعلم .(1/430)
ومنها :- قال الترمذي في جامعه :- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ " فهذا نص على أن من تسبب في القيئ فإن صومه يفسد ، وأما من غلبه القيئ ، فإنه لا قضاء عليه ،إلا أن أبا هريرة رضي الله عنه قد أفتى بأن من استقاء عمدا فلا قضاء عليه ، قال ابن بطال رحمه الله تعالى (وروى معاوية بن سلام عن يحيى بن أبى كثير، قال: أخبرنى عمر بن الحكم بن ثوبان أنه سمع أبا هريرة يقول: إذا قاء أحدكم فلا يفطر، فإنما يخرج ولا يدخل. وهذا عندهم أصح موقوفًا على أبى هريرة ) وقد زعم البعض بأن هذا الرأي مخالف لما رواه من أن استقاء فعليه القضاء ، وهذا كأنه غير صحيح ، لأن الجمع بينهما ممكن, وهو أن تحمل فتواه على من ذرعه القيء ، وتحمل روايته على من استقاء عمدا ، وهذا إن صح الأثر عنه وإن كان أبو هريرة رضي الله عنه يرى أن من استقاء عمدا فلا قضاء عليه ، فيكون قوله هذا ليس براجح لأنه عارض روايته ، والمعتمد عند تعارض رأي الراوي وروايته هو تقديم الرواية على الرأي فالحق الحقيق بالقبول هو أن من ذرعه القيء قلا قضاء عليه ، ومن استقاء عمدا فعليه القضاء وقد حكى بعض أهل العلم الإجماع على هذه المسألة ، والله أعلم .(1/431)
ومنها :- قال البخاري في صحيحه :- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَقَدْ وَهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ ... فهذه رواية ابن عباس تفيد سنية الرمل في الأطواف الثلاثة الأول من طواف القدوم ، ولكن صح عن ابن عباس أنه كان لا يرى المل من سنن الطواف ، قال النووي (قَالَ النَّوَوِيُّ : مَذْهَبُ اِبْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الرَّمَلَ لَيْسَ بِسُنَّةٍ وَخَالَفَهُ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ) فعندنا رأي ورواية ، فأيهما المقدم ؟ لا شك أن المقدم هو الرواية ، فالحق الحقيق بالقبول هو أن الرمل من سنن الطواف الأول ، أي طواف القدوم ،لأن المعتبر هو ما روى الراوي لا ما رأى عند التعارض ، ولكن السنة المتأخرة قد أثبتت أن الرمل سنة في كل الشوط كاملا ، فقوله " وأن يمشوا ما بين الركنين " منسوخ ، بل الرمل سنة حتى فيما بين الركنين والأحاديث في ذلك معروفة مشهورة ، والله أعلم(1/432)
ومنها :- قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى الحائض عن الطواف ، وذلك فيما البخاري في صحيحه قال :- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَتْ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " افْعَلِي كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي " فعائشة تروي لنا نهي النبي صلى الله عليه وسلم الحائض أن تطوف باليت حتى تطهر ، ولكن قال ابن القيم رحمه الله تعالى ( وَقَدْ صَحَّ عَنْهَا أَنَّ امْرَأَةً حَاضَتْ وَهِيَ تَطُوفُ مَعَهَا فَأَتَمَّتْ بِهَا عَائِشَةُ بَقِيَّةَ طَوَافِهَا ، رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ : ثنا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ عَطَاءٍ ، فَذَكَرَهُ) وقد اختلف أهل العلم بسبب هذا الاختلاف الوارد بين الرواية والرأي والحق في هذه المسألة هو أن الحائض ممنوعة من الطواف حال الاختيار لا في حالة الاضطرار وهو اختيار أبي العباس ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم وجمع من المحققين ، فما دام أنها في سعة من أمرها فلا يجوز لها الطواف ، وأما إن حلت بها الضرورة ولا طريق لها إلا أن تطوف الآن ، فلها ذلك بعد أن تتلجم جيدا وتطوف ، لأن الضرورات تبيح المحظورات ، والمهم أن الحائض في حال الاختيار لا يجوز لها الطواف ، وما أفتت به عائشة رضي الله عنها إن صح ذلك عنها فإنه محمول على حالة الاضطرار ، وإما أن نقول :- هو رأي خالف الرواية ، والمعتمد تقديم رواية الراوي على رأيه عند التعارض ، والله أعلم .(1/433)
ومنها :- روى مسلم في الصحيح قال :- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا بَهْزٌ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ فِي الذَّبْحِ وَالْحَلْقِ وَالرَّمْيِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَقَالَ " لَا حَرَجَ " فهذا نص على أن من قدم شيئا أو أخر شيئا من أعمال يوم النحر على المعروف في صفة حجته صلى الله عليه وسلم فإنه لا حرج عليه ، ونفي الحرج يتضمن نفي الإثم ونفي الضمان ، فلا فدية في ذلك ولا كفارة ، ولا أي شيء ، وعلى ذلك حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال :- سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتَاهُ رَجُلٌ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ وَاقِفٌ عِنْدَ الْجَمْرَةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ فَقَالَ ارْمِ وَلَا حَرَجَ وَأَتَاهُ آخَرُ فَقَالَ إِنِّي ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ ارْمِ وَلَا حَرَجَ وَأَتَاهُ آخَرُ فَقَالَ إِنِّي أَفَضْتُ إِلَى الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ ارْمِ وَلَا حَرَجَ قَالَ فَمَا رَأَيْتُهُ سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا قَالَ افْعَلُوا وَلَا حَرَجَ ... ولكن نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن من قدم شيئا على شيء فأَنَّ فِيهِ دَمًا وهذا رأي في مقابلة الرواية ، والمعتبر تقديم الرواية على الرأي ، فالصحيح أن أعمال يوم النحر مبناها على التوسعة ، والحرج مرفوع عمن قدم شيئا منها على شيء ، وهو اختيار أبي العباس ابن تيمية بل هو قول أكثر أهل العلم رحمهم الله تعالى ، والله أعلم .(1/434)
ومنها :- أقول :- لقد اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في تعيين الصلاة الوسطى ، على أقوال كثيرة ، والحق منها هو أنها صلاة العصر ، وعلى ذلك وردت الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا يقوم في وجهها شيء ، فعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَوْمَ الْأَحْزَابِ: مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ } .مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَلِمُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد : { شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ ) وَعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : { كُنَّا نَرَاهَا الْفَجْرَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ } يَعْنِي صَلَاةَ الْوُسْطَى .رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ ) . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { حَبَسَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى احْمَرَّتْ الشَّمْسُ أَوْ اصْفَرَّتْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مَلَأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا أَوْ حَشَا اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا } .رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ ) وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ } .رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ) وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ } .(1/435)
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَسَمَّاهَا لَنَا أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ }وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ } وَصَلَاةِ الْعَصْرِ .فَقَرَأْنَاهَا مَا شَاءَ اللَّه ، ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّه فَنَزَلَتْ : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } .فَقَالَ رَجُلٌ : هِيَ إذًا صَلَاةُ الْعَصْرِ ، فَقَالَ : قَدْ أَخْبَرْتُكَ كَيْفَ نَزَلَتْ وَكَيْفَ نَسَخَهَا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ )فهذه الأحاديث تفصل لك الأمر في هذه المسألة ، وتقضي بأن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ، وأنت قد رأيت أن من الرواة لها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما ، قال ابن القيم رحمه الله تعالى (وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا صَلَاةُ الصُّبْحِ) وكأني بك تقول :- إن المعتبر روايتهما لا رأيهما ، فأقول لك :- أحسنت ، أحسنت هذا هو الحق الذي لا محيص عنه ، وهذا هو التأصيل المتوافق مع الكتاب والسنة ، والله أعلم .(1/436)
ومنها :- من عجائب الحنفية رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم أنهم ذهبوا إلى أن القهقهة من نواقض الوضوء فيما لو كانت في الصلاة ، واستدلوا على ذلك بروايات كلها لا تثبت ، لكن الذي أعنيه هنا ، أنهم رحمهم الله تعالى يروون بطلان الوضوء بالقهقهة عن جَابِرٍ وَأَبِي مُوسَى فِي الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنْ الضَّحِكِ فِي الصَّلَاةِ ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا : لَا وُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ ، فكان على مقتضى أصلهم أن يدعوا الرواية ويأخذوا بالرأي ، ولكنهم عكسوا الأمر هنا ، فأخذوا بالرواية وتركوا الرأي ، وياليتهم قد وفقوا في الأخذ بالرأي هذه المرة ، لأن الروايات التي قدموها على الرأي باطلة لا تصح ، فكم ردوا النقول الصحيحة من أجل مخالفة رواتها لها ، إلا أنهم هذه المرة ردوا الرأي وأخذوا بالرواية الواهية الضعيفة الواهية ، بل الموضوعة ، فانظر كيف حصل الأمر, والله غالب على أمره ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، والحق في هذه المسألة ، أنه ليس من نواقض الوضوء الضحك ، لا داخل الصلاة ولا خارجها ، نعم إن على صوت ضحكه كثيرا فعليه إعادة الصلاة ، وأما الوضوء فهو على حاله ، وذلك لعدم صحة هذه المرويات ، والإبطال حكم شرعي والأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ، ولأن العبادة المنعقدة بالدليل لا تبطل إلا بالدليل ولأن نواقض الوضوء توقيفية ، والله أعلم .(1/437)
ومنها :- أقول :- روى الإمام أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجه وغيرهم من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر رضي الله عنه مرفوعا " لا يقتل - وفي لفظ - لا يقاد والد من ولده " وهو حديث حسن ، فهذه رواية عمر تقضي بأنه لا يقاد الوالد من ولده ، إلا أن عمر رضي الله عنه كان يقول :- لأقصن للولد من الوالد كما هو عند عبدالرزاق وابن أبي شيبة في مصنفيهما، فهنا رواية وهنا رأي ، فإن صح عن عمر هذا الرأي فإن الحق في هذه المسألة هو ما قضت به الرواية ، لأنه إن اختلف رأي الراوي وروايته فإن المعتبر هو الرواية ، لا الرأي ، كما نصت عليه هذه القاعدة ، والله أعلم .
ومنها :- لقد ذهب الحنفية رحمهم الله تعالى إلى أن الخلع طلاق ، ووافقهم عليه المالكية ، واحتجوا على ذلك بحديثين عن ابن عباس ، وكلاهما من قسم الضعيف الذي لا يصح ، بل من قسم الضعيف جدا ، مع أنه ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما بالسند الصحيح أنه كان يذهب إلى أن الخلع فسخ وليس بطلاق ، فتركوا رأيه الصحيح ، وأخذوا بروايته الواهية ، وياليتهم ثبتوا على أصلهم في هذه المسألة ، لأن الرأي هو الثابت بالسند الصحيح ، وأما الرواية فلم تثبت من وجه يصح ، ولكنه توفيق الله تعالى ، والحق في هذه المسألة هو أن الخلع فسخ وليس بطلاق ، وهو اختيار أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى ، والله أعلم .(1/438)
ومنها :- لقد ذهب الحنفية رحمهم الله تعالى إلى أن الصداق لا يكون أقل من عشرة دراهم استلالا بحديث جابر رضي الله عنه مرفوعا " لا يكون الصداق أقل من عشرة دراهم " فاعتمدوا على هذه الرواية الضعيفة الواهية ، مع أنه قد صح عن جابر رضي الله عنه جواز النكاح بما قل أو كثر, ولكن الحنفية أخذوا بالرواية وتركوا الرأي ، وليتهم ثبتوا على أصلهم في الأخذ بالرأي إن خالف الرواية لأن الرواية هنا واهية ضعيفة ، وأما الرأي فهو الثابت عنه ، ولكنه توفيق الله تعالى ، والحق في هذه المسألة هو صحة النكاح بكل ما يتمول ، قل أو كثر ، بل يصح النكاح حتى بالمنفعة ، كتعليم شيء من القرآن ، أو عمل آخر ، والله أعلم .(1/439)
ومنها :- لقد ذهب الحنفية رحمهم الله تعالى إلى منع بيع أمهات الأولاد ، واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه ذكرت مارية أم إبراهيم عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال " أعتقها ولدها " وللأسف أن إسناده ضعيف ، مع أن الثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما جواز بيعهن وقد ثبت ذلك عنه بالإسناد الصحيح ، فأخذوا روايته الضعيفة ، وتركوا رأيه الصحيح الثابت عنه وليتهم ثبتوا على أصلهم في تقديم الرأي على الرواية عند التعارض ، ولكنهم خالفوا الأمر ،فيالله العجب :- كم ردوا من النقول الصحيحة المتفق عليها أحيانا ، بحجة أن راويها أفتى بخلافها ، فلما جاءت تلك الروايات الواهية الضعيفة ، قالوا بها ، وع أن الثابت الصحيح عن رواتها خلافها ، لكنه توفيق الله تعالى ، ولا نقول إلا كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى وأجزل له الأجر والمثوبة (وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ ، وَتَرَى كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ إذَا جَاءَ الْحَدِيثُ يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ قَلَّدَهُ وَقَدْ خَالَفَهُ رِوَايَةً يَقُولُ : الْحُجَّةُ فِيمَا رَوَى ، لَا فِي قَوْلِهِ ، فَإِذَا جَاءَ قَوْلُ الرَّاوِي مُوَافِقًا لِقَوْلِ مَنْ قَلَّدَهُ وَالْحَدِيثُ بِخِلَافِهِ قَالَ : لَمْ يَكُنْ الرَّاوِي يُخَالِفُ مَا رَوَاهُ إلَّا وَقَدْ صَحَّ عِنْدَهُ نَسْخُهُ ، وَإِلَّا كَانَ قَدْحًا فِي عَدَالَتِهِ فَيَجْمَعُونَ فِي كَلَامِهِمْ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ، بَلْ قَدْ رَأَيْنَا فِي الْبَابِ الْوَاحِدِ ، وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ التَّنَاقُضِ وَاَلَّذِي نَدِينُ لِلَّهِ بِهِ وَلَا يَسَعُنَا غَيْرُهُ وَهُوَ الْقَصْدُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْحَدِيثَ إذَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ حَدِيثٌ آخَرَ يَنْسَخُهُ أَنَّ الْفَرْضَ عَلَيْنَا وَعَلَى الْأُمَّةِ الْأَخْذُ بِحَدِيثِهِ وَتَرْكُ كُلِّ مَا خَالَفَهُ ،(1/440)
وَلَا نَتْرُكُهُ لِخِلَافِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ كَائِنًا مَنْ كَانَ لَا رِوَايَةً وَلَا غَيْرَهُ ؛ إذْ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَنْسَى الرَّاوِي الْحَدِيثَ ، أَوْ لَا يَحْضُرُهُ وَقْتَ الْفُتْيَا ، أَوْ لَا يَتَفَطَّنُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ ، أَوْ يَتَأَوَّلُ فِيهِ تَأْوِيلًا مَرْجُوحًا ، أَوْ يَقُومُ فِي ظَنِّهِ مَا يُعَارِضُهُ وَلَا يَكُونُ مُعَارِضًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، أَوْ يُقَلِّدُ غَيْرَهُ فِي فَتْوَاهُ بِخِلَافِهِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُ وَأَنَّهُ إنَّمَا خَالَفَهُ لِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ ، وَلَوْ قُدِّرَ انْتِفَاءُ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِانْتِفَائِهِ وَلَا ظَنِّهِ ، لَمْ يَكُنْ الرَّاوِي مَعْصُومًا، وَلَمْ تُوجَبْ مُخَالَفَتُهُ لِمَا رَوَاهُ سُقُوطَ عَدَالَتِهِ حَتَّى تَغْلِبَ سَيِّئَاتُهُ حَسَنَاتِهِ ، وَبِخِلَافِ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ ) وهذه بعض الفروع على هذه المسألة ، لعلها تكون كافية في فهم هذه القاعدة والله تعالى أعلى وأعلم .(1/441)