تحرير القواعد
ومجمع الفرائد
تأليف
وليد بن راشد السعيدان
بسم الله الرحمن الرحيم
( رب يسر وأعن ووفق وسدد )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً .. ثم أما بعد :
فلا يخفى على الناظر في أصول الفقه أهمية هذا العلم وعظمته وعلو منزلته بين الفنون ، فهو القدح المعلى والثمر المدلى ، ويكفيه فضلاً وشرفاً أنه أساس الفقه وقاعدته المتينة ، فلولا الأصول لما وجد الفقه ، إذ الفقه هو هذه الأحكام الشرعية العملية المستفادة من الأدلة التفصيلية وطريق استنباطها من أولها مستفاد من أصول الفقه .(1/1)
إذاً هذه الأحكام الشرعية هي ثمرة أصول الفقه . ومن شرفه أيضاً أنه يستمد مادته من سائر الفنون فهو يستمد من الكتاب والسنة والنحو والمنطق وغيرها ، فهو إذاً عبارة عن جملةٍ من الفنون مختلفة المشارب . ومن شرفه أنه القاعدة الأساسية لاستنباط الأحكام الشرعية من الأدلة ، ومن شرفه أن به تحفظ الشريعة إذ جُلُّ مباحثه إنما هي في مصادر الشريعة التي هي الكتاب والسنة وما تفرع عنهما من الإجماع والقياس ، فله الحظ الأكبر في حفظ هذه الشريعة المباركة فهو يحفظ لها أصولها وينافح عنها ويتعمق في البحث في أحكامها ومسائلها فيبحث في حجيتها وفي دلالات ألفاظها المنطوقة والمفهومة ، وفي أوامرها ونواهيها وخاصها وعامها والعمل عند ادعاء التعارض فيها إلى غير ذلك من المسائل التي يعرفها من نظر في مباحث أصول الفقه ، فلله دَرُّ هذا الفن ما أعظمه وما أشد الحاجة إليه ، فلما رأى العلماء من السلف والخلف هذه الأهمية العظمى لهذا الفن أقبلوا على مباحثه فدونوها وإلى مسائله وقواعده فضبطوها ، فألفوا في ذلك المؤلفات النافعة المفيدة العظيمة ما بين مطول ومختصر ، وناظم وشارح فتركوا لنا أيادي مشكورة ، وجهوداً مباركة من أسفارٍ في هذا الفن يعجز القلم عن حصرها والكلام عليها .
ولكن – ومع أهمية هذا العلم – إلا أننا نرى من بعض الطلبة زهداً فيه عجيباً فيه ، فلا تراهم يحرصون عليه باستفهام ولا سؤال بل بعضهم يتضايق من مجرد ذكر اسمه ، وبعضهم اعتقد الاعتقاد الجازم الذي لا مناقشة فيه أن هذا العلم يصف مصاف العلوم الصعبة المعقدة الثقيلة المملة ، وإذا سألتهم عن سبب ذلك أجابوك بأجوبة وقالوا : إن صعوبة هذا العلم ترجع لعدة أمور :(1/2)
أحدها : أننا نجد فيه ألفاظاً صعبة مغلقة لا نستطيع حَلَّها ولا نفقه معناها وخصوصاً في مصنفات من اشتهروا بعلم الكلام كالرازي في " المحصول " والآمدي في " الإحكام " وغيرهما . الثاني : أن مبنى أغلب مسائله إنما يرجع إلى أدلة عقلية والنقل فيه قليل ، فنجد في قلوبنا من قراءة هذه الأدلة العقلية شيئاً من القسوة فضلاً عن صعوبة فهمها لأنها مبنية على أقيسة منطقية معقدة تحتاج في فهمها إلى سنوات .
الثالث : أننا نجد في بعض المباحث والمسائل أن العلماء اختلفوا وأن الصراعات تدور بينهم وفي آخر المسألة يقولون : وهذا الخلاف لفظي أو لا ثمرة له في استنباط الأحكام ، فضاعت الأوقات والجهود فيما لا ثمرة من ورائه ولا طائل تحته .
الرابع : قلة ذكر الفروع الفقهية على كثير من القواعد فنجد في بعض المصنفات وخصوصاً ما كان على طريقة الجمهور أنهم يتكلمون على تقرير القاعدة وأدلتها ثم يكتفون بذلك ولا يتممون ذلك بذكر شيء من فروعها ليتمرس الطالب على تطبيقها على الأدلة الشرعية لاستنباط الأحكام منها .
الخامس : أن الذين اشتهروا بالتأليف فيه بعضهم ينتهج في العقيدة منهجاً مخالفاً لمنهج أهل السنة والجماعة ، ولذلك نجد في بعض المباحث أنهم يقررون أشياء تخالف المنهج السليم فيخشى على الداخل فيه قبل معرفة الحق أن يتشرب قلبه شيئاً من هذه الشبه فتكون سبباً في ضلاله والعياذ بالله تعالى .
وبالجملة فهو علم مفيد مهم لكنه مستصعب .
فقلت : إن من جهل شيئاً عاداه ، فإن جميع هذه الحجج كلها داحضة ، وإنما العلة هي الجهل وقله الفهم .(1/3)
فأما الحجة الأولى فأقول فيها : إن لكل فن مقدمة يعرف فيها الطالب مصطلحات هذا الفن وشيئاً من جمله ومسائله ، وعلم الأصول كسائر الفنون يحتاج قبل الدخول فيه إلى معرفة ذلك ، فهذه الألفاظ التي يدعي المحتج أنها لا تفهم قد فهمها غيره فهي إذا ً تفهم لكن فهمه قصر عنها لأنه لم يطلبها في مظانها ، ولم يحرص على استشراحها عند من يفهمها فحجته إذاً داحضة ، وإنما العلة هي كسله وقصور فهمه وإيثار الراحة على الجد والبحث والتحقيق ، وهذا الكلام الذي قاله هذا المحتج ليس في جميع كتب الأصول وإنما هو في بعضها وإلا فهناك من كتب الأصول ما هو سلس العبارة ، سهل الأسلوب ، واضح الأفكار ، ومع ذلك لا نجد هذا المحتج يذكره ، وإنما أعطانا حكماً عاماً على كتب هذا الفن ، وهذا والله من جهله وزهده في هذا الخير العظيم .(1/4)
وأما الثانية : فليست بصحيحة أبداً ، بل إن غالب مسائله مبنية على أدلة شرعية من الكتاب أو السنة ويعرف ذلك من نظر في كتبه ، وأيضاً ذكر الأدلة العقلية الموافقة للدليل النقلي لا عيب فيه بل هو من زيادة الاستدلال وزيادة اطمئنان القلب وليعلم الناظر أن النقل متفق مع العقل كل الاتفاق ، بل النظر في الأدلة العقلية منهج شرعي فالله أمرنا بالتفكر والتدبر والاعتبار ومقايسة الأمور بنظيرها ، ولذلك نجد أن بعض علماء المعتقد يستدلون على بعض المسائل العقدية بالأدلة العقلية وهذا لا ضير فيه فلماذا اتسع الصدر هناك وضاق هنا وانشرح هناك وضاق هنا . لكن أيضاً ينبغي للناظر في هذه الأدلة العقلية أن يفهم المراد بها بمعرفة مقدماتها ، وقول المحتج إنه يجد قسوة في قلبه إذا نظر في كتب الأصول ، فأعوذ بالله من هذه الكلمة التي لها عواقب وخيمة ، فإن قسوة القلب إنما تكون بالذنب أو كثرة الاشتغال بالمباحات من كلامٍ وأكلٍ وضحك ونحوها أما أن يجد الإنسان قسوة في قلبه إذا قرأ في كتب فنٍ هو من أعظم فنون الشريعة ، فهذا والله العجب العجاب كيف يجد الإنسان قسوة إذا قرأ مباحث في القرآن والسنة والإجماع وما يتعلق بها من مسائل ، هذه والله كلمة جاهلٍ لا يدري ما هو أثرها الوخيم في قلب من يسمعها إن كان جاهلاً بهذا العلم العظيم
ولقد قال بعضهم : " بينما أنا أقرأ في كتابٍ من كتب الأصول إذ أحسست في قلبي ظلمة فتركته فأسفر قلبي " - فلا حول ولا قوة إلا بالله - انظر كيف يصل الجهل بصاحبه ، بل والله الذي لا إله إلا هو إن القراءة في كتب الأصول توجب طرباً ولذة في القلب ؛ لأن الإنسان يترقى بقراءة كتبه بين منازل فهم الأدلة الشرعية حتى يبلغ أعلاها ، فهذه الكلمة القبيحة ينبغي لصاحبها الاستغفار منها .(1/5)
وأما الحجة الثالثة : فأقول فيها نعم إننا نجد شيئاً من ذلك لكن ما مقدار هذه المسائل بالنسبة للمسائل التي لها ثمرة ، فإنك إذا نظرت لهما وجدت أن المسائل التي لا ثمرة لها لا تعادل شيئاً فهل من الإنصاف أن نحكم على علم الأصول ببعضٍ يسير من مسائله ، ثم أضف إلى هذا أن قولهم لا ثمرة له قد لا يجمعون عليه ، وهذا هو الواقع وهو كثير فإنك تجد بعض المصنفين يقول : لا ثمرة لهذه المسألة ، بينما يقول البعض بل لها ثمرة وهي كيت وكيت ، ولو سلمنا أنهم أجمعوا أن لا ثمرة لها فإنهم إنما ذكروها ليتدرب الطالب على طريقة العرض والمحاجة والمناظرة وسرد الأدلة وترتيبها وبيان وجه الاستدلال بها ، فهي إذاً في حقيقتها لها ثمرة ولابد .
ثم اعلم أن المسائل التي لا ثمرة لها ليست في أصول الفقه بل نحن نجد في التوحيد مباحث لا ثمرة لها ، كقولهم : هل رأى محمد ربه أو لا ؟ فبالله عليك ما الثمرة العقدية المستفادة من ذلك ، نعم لو أثبتناها لكان في ذلك زيادة شرف النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن أقصد الثمرة العقدية الخاصة بنا ، وإلا فغالب المسائل بل كل المسائل التي يقال لا ثمرة لها يجد الإنسان فيها بعد التحقيق والتدقيق أن لها ثمرة . فالعاقل المنصف لا يجعل وجود مثل هذه المسائل قادحاً في أصول الفقه .
ثم إنك لو نظرت في كتب التفسير أيضاً لوجدت في كثير منها عرض الخلاف في مسائل لا فائدة من ورائها والإطالة في ذكرها كخلافهم في لون كلب أصحاب الكهف وما كان اسمه ومن أي الشجر كانت عصى موسى وما اسم الغلام الذي قتله الخضر ، وما البعض الذي ضرب به الغلام في قصة البقرة ، كل ذلك لا طائل من ورائه ولا ثمرة تعود من معرفته فلماذا لا نرى هذا قادحاً في كتب التفسير ؟(1/6)
بل في كتب الفقه نجد مسائل افتراضية وهي كثيرة لم تقع ، فنجد الفقهاء يبحثون في أحكامها ، وعلى كل حالٍ فإنه لا يخلو غالب الفنون من وجود بعض المسائل التي لا ثمرة لها لكن بعد التدقيق والتحقيق نجد أن لبعضها ثمرة فالحقيقة أن من جعل وجود ذلك قادحاً في علم الأصول فإنما أتي من جهله وقلة فهمه .
وأما الحجة الرابعة فلا صحة لها بل الغالب خلافها وأقول إن كتب الأصول يكمل بعضها بعضاً فبعض المصنفين إنما يهتم بتقرير القاعدة بأدلتها وهذا هو المطلوب فإذا فهمت القاعدة فهماً جلياً فقد تحقق مقصوده مع أن الغالب أنهم يذكرون ولو على الأقل فرعاً أو فرعين تخريجاً عليها وهذا هو الغالب في تصنيف المتكلمين ، وأما الحنفية فإنهم ملئوا كتب الأصول بذكر الفروع ، ثم اعلم أن تخريج الفروع على الأصول فن من فنون أصول الفقه ، فهذا الأمر لا يوجب القدح في علم الأصول .
وأما الخامسة فهي صحيحة لكن ليست في كتب الأصول كلها بل في كثير منها فقط فأقول : حاول أن تقرأ في كتب من اشتهروا بالسنة كالرسالة وكتاب الفقيه والمتفقه وغيرهما من الكتب المأمونة وعليك بسؤال أهل العلم فيما يشكل عليك .
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه ، والمقصود أنني لما سمعت ذلك ثارت في نفسي الحمية لهذا الفن فأحببت أن أشارك في تقريبه وتيسيره مستفيداً من هذه الحجج متفادياً الوقوع فيها حتى لا يبقى لمحتجٍ حجة ، وقد كنت جمعت قواعد كثيرة من قواعد أصول الفقه فأضفت عليها مثلها وهأنذا أشرع الآن في شرحها . وطريقتي في الشرح هي أولاً : أكتب نص القاعدة جازماً به من غير تردد على القول الراجح عندي الذي ينصره الدليل في نظري ، وأحاول أن اختصر لفظها ما استطعت مع مراعاة ضوابطها المهمة التي لا تفهم إلا بها .
ثانياً : أبدأ في شرح ألفاظها إن كانت ألفاظها تحتاج إلى شرح .
ثالثاً : انتقل لشرح معناها الإجمالي .(1/7)
رابعاً : أبدأ في ذكر الأدلة النقلية والعقلية بعد ذلك إن وجدت وإلا فأذكر الموجود منها وأعرض الأدلة العقلية بأيسر عبارةٍ أجدها .
خامساً : أذكر شيئاً من الخلاف أحياناً في بعض المسائل المهمة جداً ولا أطيل فيه وإنما أشير لصاحبه ودليله مع الجواب عليه .
سادساً : أشرع بعد ذلك في ذكر فروعها فأذكر ما تيسر لي وخطر في ذهني والله الموفق .
وأسميت هذه الوريقات ( تحرير القواعد ومجمع الفرائد ) وإني أعترف أن الفضل في هذا لله وحده ثم للمتقدمين من الأصوليين وبعض المعاصرين ، وإنما مهمتي فيه الجمع والتأليف بين ما ذكروه فلهم الفضل بعد الله تعالى والله أسأل أن ينفع به ويتمه وينزل فيه البركة تلو البركة وأن يشرح له الصدور ويفتح له الأفهام ويجعله نبراساً يستضيء به المريد لهذا الفن وأن يكون عملاً صالحاً ينفعني في قبري إنه ولي ذلك والقادر عليه فإلى المقصود والله المستعان وعليه التكلان فأقول :
القاعدة الأولى
( خبر الآحاد الصحيح حجة مطلقًا )
اعلم أن الأخبار من حيث بلوغها وطرقها لا تخلو من حالتين : إما أن تكون أخباراً متواترة أي رواها جمع عن جمع يوجب العلم من مبدأ السند إلى منتهاه بحيث تحيل العادة تواطأهم على الكذب ، فهذا مقبول في المسائل العلمية والعملية في قول عامة أهل العلم ولا كلام لنا في هذا القسم إذ المخالف فيه نادر جداً بل لا يكاد يوجد .(1/8)
والثاني : الآحاد وهو ما فقد شرطاً من شروط التواتر ، فهذا هو الذي اشتد فيه الخلاف وخصوصاً بين أهل السنة والمبتدعة ، لكن المذهب عندنا هو أنه إذا صح سنده ولم ينسخ فإنه موجب للعمل مباشرة ولا يجوز رده أو التوقف فيه بحجة أنه خبر آحاد فإن هذا قول مبتدع لا سلف له ، بل الصحابة والتابعون يجمعون فيما أعلم على قبوله ووجوب العمل به ولا عبرة بمن تأثر بمذاهب أهل الكلام المذموم ، إذا علم هذا فليعلم أن خبر الآحاد الصحيح يقبل مطلقاً أي سواءً في المسائل العقدية أو المسائل العملية ، هذا هو مذهب أهل السنة ، وقولنا (الصحيح) هذا قيد مهم في القاعدة أي لابد أن يكون هذا الخبر الأحادي مستجمعاً لشروط الصحة فلابد أن يرويه عدل ضابط عن مثله من مبدأ السند إلى منتهاه ولا يكون به شذوذ ولا علة قادحة ، أما إذا فقد شرطاً من ذلك فإنه يرد لكن لا لأنه خبر آحاد ولكن لأنه لم يصح ونحن اشترطنا الصحة .
وقولنا (مطلقًا) أي أنه يقبل سواءٌ في العقائد أم الشرائع خلافاً لمذهب أهل الكلام المذموم الذي لا يقبلون في باب العقائد إلا ما كان متواتراً وهذا القول بدعة وضلالة ، ويدخل أيضاً في قولنا (مطلقًا) ما كان من الآحاد فيما تعم به البلوى خلافاً للحنفية وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى وكذلك نعني بقولنا (مطلقاً) ما كان مخالفاً للقياس أولا خلافاً لبعض المذاهب .(1/9)
وعلى كل حالٍ فالحجة إنما هي فيما صحت نسبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عبرة بكونه متواتراً أو آحاداً بل هذه التقاسيم لم تكن معروفة في العهد النبوي ، بل كان الناس يقبلون من يحدثهم بالحديث أيَّاً كان ولا يردون خبره لكونه آحاداً وإنما هذا التقسيم اشتهر الكلام به عند المبتدعة وتلقفه منهم بعض أهل السنة من غير تمحيص ولا فهم لما وراءه ، فالزم الحق واحمد الله على السلامة فإنها لا يعدلها شيء ، إذا علمت هذا فاعلم أن هذه القاعدة لها أدلة كثيرة جداً نذكر بعضها على وجه الاختصار .
فمن ذلك : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } فأوجب الله علينا التثبت من خبر الفاسق ، فدل ذلك بمفهومه أن العدل يقبل قوله ويعتمد من غير تبين وخبر الآحاد إذا رواه عدل ضابط عن مثله معتمد في ضبطه ونقله فهذا يقبل خبره بمفهوم الآية ، ولو كان خبر العدل أيضاً لا يقبل إلا بعد التبين لما كان للتقييد بالفاسق فائدة ، لكن لما قيد ذلك بالفاسق دل على أن خبر العدل يخالفه في الحكم ، فإذا كان خبر الفاسق موقوفاً على التبين فخبر العدل إذاً يقبل مباشرة وهذا هو منطوق الآية ومفهومها .(1/10)
ومن الأدلة أيضاً : قوله تعالى : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } فأمر طائفة من المؤمنين أن ينفروا للجهاد وطائفة أن يبقوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتعلموا العلم ويستمعوا الوحي حتى إذا جاء أولئك المجاهدون إلى إخوانهم علموهم ما نزل من الوحي وما فرض من السنن والواجبات ، وينذروهم لعلهم يحذرون . والطائفة الباقية اسم يصدق على القليل والكثير ولا يشترط فيهم أن يبلغوا حد التواتر ، والطائفة القادمة من الجهاد يجب عليهم قبول ما يقوله هؤلاء من الأحكام والأخبار التي توجب لهم النذارة والحذر بمجرد إخبارهم بها وتعليمهم إياها ولا يشترط لقبول خبرهم أن يبلغوا حد التواتر مما يدل على أن الخبر من العدل يقبل مطلقاً ولا ينظر هل هو آحاد أو متواتر .(1/11)
ومن الأدلة أيضاً : حديث ابن عمر في الصحيحين قال : " بينما الناس بقباء في صلاة الفجر إذ جاءهم آتٍ فقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها فاستداروا كما هم إلى الكعبة " فالناس قبلوا خبره هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في استبدال القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة مباشرة ولذلك قال : " فاستداروا كما هم إلى الكعبة " مع أن المسألة عظيمة وهذا خبر واحد وقد قبلوه مباشرة ومثل هذه القصة لابد أن تنتشر لما فيها من شدة الاتباع لأمر الله ورسوله ولم يعرف لها منكر مما يدل على أن خبر الواحد الصحيح مقبول وأن من اشترط التواتر فهو مخالف للمتقرر عند الصحابة رضوان الله عليهم ولو كان التواتر مما يشترط في مثل ذلك لأنكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : (( كيف تتحولون عن القبلة الثابتة عندكم بالتواتر إلى قبلة ثبتت لديكم بخبر آحاد ولماذا لا تنتظرون حتى تأتوني وتأخذوا الحكم مني مباشرة أو تسألوا عن ذلك عدداً يبلغ حد التواتر )) فلما لم يقل ذلك ولم ينكر عليهم منكر دل ذلك على إجماعهم - رضي الله عنهم - على ما قررناه .(1/12)
ومن الأدلة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث رسائله وعماله إلى سائر البلدان كاليمن وغيرها لدعوة الناس للإسلام وتعليمهم الدين فكان يبعث الواحد والاثنين إلى بلدٍ كامل وما فعل ذلك إلا لأن الحجة تقوم عليهم بمجرد إبلاغ هؤلاء مع أنها أصول الدين وعقائده كما في حديث إرساله معاذاً إلى اليمن فلو كان التواتر في مثل ذلك واجباً لكان إرساله للواحد أو الاثنين عبثاً لا فائدة فيه لأنه حينئذٍ لا تقوم به الحجة ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ البلاغ المبين لعامة أهل البلدان المجاورة وغيرها فلما بعث الواحد والاثنين دل ذلك على أن خبر الواحد الصحيح يقبل بمجرد بلوغه ولا يجوز رده وأن التواتر ليس بشرط في قبول الأخبار العلمية والعملية ولا فيما تعم به البلوى ولا غير ذلك والله أعلم .
والمقصود : أن بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بعماله واحداً واحداً ورسله واحداً واحداً بقصد إخبار الناس بما أخبرهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من شرائع دينهم ويأخذوا منهم ما أوجب الله عليهم ويعطوهم مالهم ويقيموا عليهم الحدود وينفذوا فيهم الأحكام ولم يبعث أحداً إلا وهو مشهور بالصدق عند من بعثه إليه وما ذلك إلا لأن الحجة تقوم بخبرهم .
ومن الأدلة أيضاً : إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على وجوب العمل بخبر الآحاد وقد ورد من الآثار في ذلك ما يبلغ حد التواتر ونذكر طرفاً منه :
فمن ذلك : ما روي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه سأل عن ميراث الجدة فقام المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة فذكرا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس ، فقبل خبرهما ولم يقل إن هذا الأمر لا يثبت بخبر الآحاد ، وأنه لابد من التواتر ، بل قبل خبرهما واعتمده وعمل به مما يدل على أن خبر الواحد الصحيح يجب قبوله واعتماده .(1/13)
ومن ذلك : أن عمر - رضي الله عنه - عمل بخبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس ، وأيضاً عمل بخبر حمل بن مالك بن النابغة في الغرة العبد والأمة في دية الجنين ، وقال : " لو لم نسمع بهذا لقضينا فيه برأينا " ، وأيضاً عمل بخبر الضحاك بن سفيان في توريث النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها وقد كان يقضي بعدمه ، وأيضاً كان يفتي بدية الأصابع على حسب منافعها فلما بلغه الخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بأن في كل إصبع عشر من الإبل رجع إليه ، وهذه الأخبار إنما هي أخبار آحاد ومع ذلك عمل بها عمر ورجع إليها وترك لها رأيه ولم ينكر عليه من الصحابة منكر مما يدل على أنهم مجمعون على وجوب العمل بخبر الآحاد .
ومن ذلك : أن عبد الله بن عمر قال : " كنا نخابر أربعين سنة فلا نرى بذلك بأساً حتى أخبرنا رافع بن خديج فتركناها لقول رافع " ، فعلل تركه لعملهم الأول بقول رافع وهو خبر آحاد ، وكذلك عمل عثمان - رضي الله عنه - بخبر الفريعة بنت مالك في سكنى المتوفى عنها زوجها ، وهو خبر آحاد ، وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ما حدثني أحد بحديث إلا استحلفته إلا أبا بكرٍ وصدق أبو بكرٍ ، وخبر أبي بكرٍ إنما هو خبر آحاد .
وكذلك رجع ابن عباس عن قوله : " إنما الربا في النسيئة " لأن أبا سعيد الخدري حدثه بالنهي عن ربا الفضل وهو خبر آحاد ، ولما اختلف الصحابة في وجوب الغسل بالتقاء الختانين سألوا عائشة رضي الله عنها فحدثتهم بالحديث المشهور : " إذا التقى الختانان " فرجعوا إليه وهو خبر آحاد ، وتقدم أن أهل قباء رجعوا إلى خبر رجلٍ واحد في تحويل القبلة . وكذلك رجع جماعة منهم في إراقة الخمر إلى خبر الواحد ، فهذه القصص وغيرها كثير يدل دلالة صريحة على أنهم أجمعوا على وجوب العمل بخبر الواحد ، فهذا هو منهجهم وسبيلهم ومن يتبع غير سبيل المؤمنين فله ما تولى ، ونعوذ بالله من حاله .(1/14)
ومن الأدلة أيضاً : الإجماع على قبول الشهادات عند القاضي إذا توفرت شروط الشاهد ، فإذا شهد الشهود عند القاضي وجب عليه العمل بمقتضى خبرهم ، ولا يسأل هل بلغوا حد التواتر أو لا ؟ بل شهود الحدود اثنان أو أربعة ، وشهود المال رجلان أو رجل وامرأتان وهذا ليس عدد التواتر ، فبهذا العدد الذي لا يبلغ حد التواتر جلد الزاني البكر ، ورجم المحصن ، وقطع السارق ، وأثبتت الحقوق ، مما يدل على أن خبر الواحد يجب العمل به ، رواية كان أو شهادة ، والله أعلم .
هذا هو مجمل أدلة القول الراجح الذي لا ينبغي القول بغيره . فهذا هو طريق السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة رضوان الله عليهم ، وهو قول جمهور أهل الأصول والفقه ، وبه تعرف الحق في هذه المسألة التي طال حولها الجدل ،
إذا علمت هذا فاعلم أن خبر الواحد لنا فيه نظران :
الأول : من جهة ثبوته ومطابقته للواقع ، الثاني : من جهة العمل به .
فأما خبر الآحاد من الجهة الأولى : فإنما يفيد الظن في الأصل إلا إذا اقترنت به قرائن ترفعه إلى مرتبة اليقين كاتفاق الأمة عليه ، أو اتفاق الشيخين عليه ، أو تلقي الأمة له بالقبول .
وأما بالنظر الثاني : فهو يفيد وجوب العمل به يقيناً أي لا يجوز لمن سمعه أن يتردد في العمل به ، لكن بشرطين : أن يكون صحيحاً سنده ، وألا يكون منسوخاً من جهة متنه ، فإذا توفر هذان الشرطان وجب العمل به.
وبه تعرف أن قول من قال : إن خبر الواحد يفيد الظن والعمل بالظنون مذموم شرعاً ، فإذا قال ذلك فقل له : نحن نوافقك في الأول ولكن نخالفك في الثاني ، لأننا نفرق بين جهة مطابقته للواقع وبين العمل به ، والله أعلم .(1/15)
إذا علمت هذا فاعلم أنه قد خالف في ذلك - أعني في وجوب التعبد بخبر الواحد – خالف فيه بعض القدرية والظاهرية على ما نقله الشيخ أبو محمد في الروضة ، واستدلوا على ما ذهبوا إليه بعدة أدلة أرى أنه من المهم عرض أدلتهم مع بيان وجه استدلالهم مع الإجابة عنه فأقول :
من أدلتهم : أن دعواكم أن الصحابة قد أجمعوا على قبول خبر الواحد دعوى منقوضة بعددٍ من القضايا فمن هذه القضايا : ما رواه البخاري ومسلم من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة في قصة سلامه - صلى الله عليه وسلم - من ركعتين في إحدى صلاتي العشي فقام إلى خشبة في مقدم المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان وخرج سرعان الناس من المسجد وفي القوم أبو بكرٍ وعمر فهابا أن يكلماه فقام رجل يقال له ذو اليدين فقال : " يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة " ، فقال : (( لم أنس ولم تقصر )) ، فقال : " بلى قد نسيت " ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( أصدق ذو اليدين )) فقالوا : " نعم " .
ووجه الشاهد منه أن خبر ذي اليدين خبر واحد ولم يقبله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد أن أيدوه بقولهم في خبره فارتفع إلى حد التواتر فلو كان خبر الواحد يقبل مباشرة لقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - خبر ذي اليدين ، لكن لما لم يقبله بمفرده دل ذلك على أن خبر الواحد بمجرده لا يقبل .(1/16)
ومن الوقائع أيضاً أن عمر - رضي الله عنه - رد خبر أبي موسى لما حدثه بحديث أن الاستئذان ثلاثاً فإن أجابك وإلا فارجع ، فقال له عمر : " والله لتأتيني على هذا ببرهان أو لأفعلن بك " ، قال : فأتانا ونحن رفقة من الأنصار فقال : يا معشر الأنصار ألستم أعلم الناس بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألم يقل كذا وكذا ، قال : فجعل القوم يمازحونه ، قال أبو سعيد : فرفعت رأسي فقلت : فما أصابك في هذا اليوم من العقوبة من شيء فأنا شريكك ، قال: فأتى عمر فأخبره بذلك ، فقال عمر : ما كنت علمت بهذا " أخرجاه في الصحيحين . فلو كان خبر الواحد يقبل لما فعل عمر ذلك ، أعني لما طلب عمر مع أبي موسى من يشهد له بذلك .
ومنها : أن عائشة رضي الله عنها ردت خبر تعذيب الميت ببكاء أهله وقد رواه ابن عمر مرفوعاً (( الميت يعذب ببكاء أهله عليه )) فقالت عائشة : يرحمه الله لم يكذب ولكنه وهم ، إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجلٍ مات يهودياً : (( إن الميت ليعذب ، وإن أهله ليبكون عليه )) ، فهذه الوقائع مثبتة لأمرين :
الأول : أن دعوى الإجماع التي ذكرتموها منقوضة بهذه الصور ، فكيف تدعون الإجماع في المسألة .
الثاني : أن هذه الصور دليل على أن خبر الواحد بمجرده لا يقبل ما لم يتأيد بغيره من نصٍ أو إجماعٍ أو تلقٍ له بالقبول ، أما هو بمجرده فلا يقبل والوقائع السابقة نصوص صريحة صحيحة في هذا – أي في رد خبر الواحد – وقالوا :
قال الله تعالى : { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ } وقال : { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ }
فقد ذم الله تعالى وعاب الذين يتبعون الظنون ويتركون المحكم المتيقن ، وخبر الواحد بمجرده إنما يفيد الظن فالمتبع له إنما هو متبع للظن وهو مذموم فدل ذلك على عدم جواز التعبد به – كذا قالوا – وهذه مجمل أدلتهم .(1/17)
والجواب عنها بتوفيق الله تعالى أن ما تقدم من الوقائع التي ذكرتموها التي رد الصحابة فيها هذه الأخبار لا تفيدكم شيئاً وذلك لوجهين : -
الأول : أنهم إنما ردوا هذه الأخبار في هذه الوقائع استظهاراً لتلك الأحكام لورود جهات ضعف اختصت بهذه الأخبار بعينها فطلب الصحابة فيها الاستيثاق من حكمها - أعني الذين بلغتهم فقط – أي أن هذه الوقائع لما بلغتهم رأوا بنظرهم أن فيها جهة من جهات الضعف فأردوا إزالة ذلك الضعف وذلك لا يدل على أن خبر الواحد يرد مطلقاً ، إذ هذا التثبت خاص بهذه الأخبار وبمن بلغتهم دون غيرها من الأخبار ، ولذلك نجد أن هؤلاء المنقول عنهم رد هذه الأخبار نجد أنهم قد قبلوا أخباراً كثيرة بدون ذلك بل بمجرد بلوغها لهم كما ذكرنا في سياق أدلتنا ، فهذا دليل على خصوصية هذا التثبت بهذه الأخبار ولا يجعل ذلك قاعدة عامة في جميعها .(1/18)
الثاني : أن الصحابة لم يردوا هذه الأخبار لأنها آحاد ، والدليل على ذلك أنهم قبلوها بعد التوقف فيها بخبر اثنين ، وذلك كما في قصة عمر مع أبي موسى لما شهد معه أبو سعيد الخدري قبل عمر خبرهما وهما اثنان ، وهذا آحاد وليس بمتواتر ، فخبر الاستئذان الذي قبله عمر لم يخرج عن حد الآحاد بشهادة أبي سعيد فدل ذلك على أن عمر لم يرد خبر أبي موسى لأنه آحاد إذ لو كان ذلك كذلك لما قبله إلا بعد أن يخبره مع أبي موسى عدد كثير يفيد خبرهم العلم القاطع ، فهذا يفيد أنه إنما رده لقصدٍ آخر ولذلك قال له بعد ذلك : " أما إني لم أتهمك ، ولكن خشيت أن يقول من شاء في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء " ، أي حتى لا يتجرأ الناس بنسبة شيء للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا وهم متأكدون التأكد التام منه . والمقصود أن خبر أبي موسى وأبي سعيد خبر آحاد وقد قبله عمر فهذا دليل لنا لا لكم ، وكذلك قصة المغيرة بن شعبة في ميراث الجدة ، فإنه لما طلب أبو بكرٍ منه شاهداً على ما قاله قام محمد بن مسلمة فشهد أنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - فقبله أبو بكر - رضي الله عنه - مع أن هذا الخبر حتى مع شهادة محمد بن مسلمة لازال خبر آحاد فدل ذلك على أن رد أبي بكر لخبر المغيرة ليس لأنه خبر آحاد وإنما من باب { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } وليعلم الناس أن التحديث بالسنة ليس أمراً سهلاً ، حتى يسد الباب على من أراد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليكون منهجاً في التثبت ، فهذا أيضاً دليل لنا لا لكم .
وأما رد عائشة لخبر تعذيب الميت في قبره ببكاء أهله عليه فليس لأنه خبر آحاد وإنما لوجود معارضٍ له راجح وهو قوله تعالى : { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } ، ولظنها أن صوابه هو ما قالته .(1/19)
وفي الجملة – حتى لا نطيل – أقول الصواب الذي لا مرية فيه ، والحق الذي لا ينبغي الجدال فيه هو أن خبر الآحاد الصحيح حجة يجب قبوله والتعبد لله بمقتضاه ، في العقائد والشرائع .
إذا علمت هذه القاعدة فلم يبق إلا الفروع عليها وهي أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر ويكفيك أن نقول لك : إن غالب الأحكام الشرعية العملية إنما أثبتت بأخبار الآحاد وهي كثيرة جداً يعرفها من تتبع الفقه ونظر فيه ، ولعل فيما مضى كفاية إن شاء الله تعالى لأننا قد أطلنا في تقرير هذه القاعدة وخرجنا عن المقصود ، والله أعلى وأعلم.
القاعدة الثانية
( خبر الآحاد معتمد فيما تعم به البلوى)
وهذه القاعدة متممة لما قبلها وقد أشرنا إلى شيء منها سابقاً ونزيدها إيضاحاً فنقول : قولنا (معتمد) أي حجة يجب قبولها ، قولنا (فيما تعم به البلوى) أي فيما تكثر حاجة الناس إليه . وصورة ذلك : أن يرد خبر واحدٍ ويدل على حكمٍ من الأحكام الشرعية التي يحتاجها كل أحد أي أن الحكم الشرعي لا يتعلق بواحدٍ أو اثنين من المكلفين بل هو قضية عامة لسائر المكلفين أو معظمهم ، أي أن حاجة الناس لبيان هذا الحكم الشرعي حاجة عامة وضرورية ، ومع ذلك لا يروي هذا الحكم الشرعي إلا واحد فقط أو اثنان أي ينقل نقلاً آحادياً مع شدة الحجة لبيانه ، هذه صورتها ، وبهذا يتبين لك أمران:(1/20)
الأول : أن ما كانت حاجة المكلفين له ماسة وضرورية فإنهم لاشك يكثرون السؤال عنه فيكون بينهم كالمتواتر لكثرة تكرره ووقوعه وكثرة السؤال عنه كأحكام الوضوء مثلاً أو الصلاة أو الحج ونحوها من الأحكام العامة فإن الناس لاشك لكثرة وقوعه وتكرره لابد أن يسألوا عنه ليعرفوا حكم الله فيه ، هذه قضية مسلمة لا أظن أحداً ينازع فيها . الثاني : أن هذا الحكم الشرعي الذي اشتدت الحاجة لبيانه لكثرة وقوعه وعموم الابتلاء به لا ينقله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا الواحد أو الاثنان فقط ، مع كثرة وقوعه وشدة الحاجة إليه لا ينقله إلا القليل جداً ، فإذا فهمت هذين الأمرين وضحت لك المسألة .
فالسؤال هنا هو : أن هذا الخبر الذي يقرر حكماً شرعياً قد اشتدت حاجة الناس وعمت البلوى به إذا لم ينقله إلا واحد أو اثنان هل يقبل أو لا يقبل ؟ هذا ما تجيب عنه هذه القاعدة وهو أنه يقبل ، والقول بأنه يقبل هو قول جمهور الأصوليين ، بل هو مذهب السلف وأئمة أهل الحديث ، وقالت الحنفية : لا يقبل مثل هذا الخبر ، لكن بلاشك أن الصواب هو قول السلف من الصحابة والتابعين وجمهور الأصوليين من أنه يقبل وأنه حجة يجب العمل به إذا صح سنده ولم ينسخ والدليل على هذه القاعدة ما يلي :
منها : إجماع الصحابة السكوتي على ذلك فقد قبل الصحابة - رضي الله عنهم - خبر الواحد فيما تعم الحاجة له وعملوا به من دون أن ينكر ذلك أحد منهم ، وهي صور كثيرة تقدم ذكر بعضها كقبول الصحابة لحديث (إذا التقى الختانان) الذي روته عائشة وهو خبر آحاد فيما تعم به البلوى ، إذ كل زوجين يحتاجان له أشد الحاجة ومع ذلك قبلوه ولم يقولوا : إن هذا الحكم تعم له البلوى وتشتد حاجة الناس له فلا نقبل فيه إلا المتواتر ، بل قبلوه واعتمدوه بمجرد ما أخبرتهم به - رضي الله عنهم - أجمعين .(1/21)
ومن ذلك : أن الصحابة - رضي الله عنهم - قبلوا خبر رافع بن خديج (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة) وقد كانوا يخابرون أربعين سنة فهو مما تعم البلوى به ، ومع ذلك لما حدثهم رافع بذلك قبلوا خبره واعتمدوه وعملوا به وانتهوا عن المخابرة بل قال ابن عمر : " فانتهينا لقول رافع " ، ولو لم يكن يقبل لقالوا : " يا رافع أنت خبرك خبر واحدٍ وهو فيما تعم به البلوى وهو لا يقبل في ذلك " ، لكنهم لم يقولوه - رضي الله عنهم - بل دانوا له وسمعوا وأطاعوا وسلموا تسليماً مما يدل على أن خبر الواحد مقبول معتمد في أي الأمور كان ، فيما تعم البلوى وغيره .
ومن ذلك : أنهم قبلوا خبر المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة في إعطاء الجدة السدس وهذا أمر تعم به البلوى وهو خبر آحاد ، ومع ذلك قبلوه واعتمدوه .
والوقائع كثيرة تفيد الناظر فيها الإجماع السكوتي منهم - رضي الله عنهم - على قبول الأخبار الآحادية فيما تعم البلوى .
ومن الأدلة أيضاً : أن هذا الراوي الواحد عدل ثقة جازم بما يخبر به وصدقه مما يغلب على الظن فوجب قبوله عملاً بغالب الظن ، ولأنه أخبر بأمرٍ يمكن صدقه فيه وهو ثقة لم يعرف عليه كذب فوجب تصديقه وحرم تكذيبه ، فما بالك إذا كان هذا الذي أخبرنا بهذا الخبر صحابي ، فلا شك أنهم - رضي الله عنهم - قد بلغوا في الصدق والثقة والعدالة والضبط والأمانة في النقل ما لم يبلغه غيرهم فإذا أخبرنا واحد منهم بخبرٍ جازم بصدق نفسه فيه فالغالب على الظن صدقه ومن غلب على ظننا صدقه فإنه لا يجوز تكذيبه .(1/22)
ومن الأدلة أيضاً : أن هذا الصحابي الذي روى لنا هذا الخبر حفظه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوفرت همته لنقله وغيره قد يكون مشتغلاً بغيره أو أنه اكتفى بنقل غيره طلباً للسلامة ، أو أنه سأل عنه وأخبر بجوابه وتعبد لله به ولم ينقله إذ ليس كل من يعلم شيئاً ينقله ، فلا يوجب ذلك أن نرد خبر من حفظ وتوفرت همته للنقل إذ عدم نقل غيره ليس قادحاً في نقله .
ومن الأدلة أيضاً : أن الأدلة العامة دلت على وجوب قبول خبر الواحد بالإطلاق كما مضى سياقها في القاعدة الأولى ، والمطلق لا يجوز تقييده إلا بدليل ولا دليل يدل على أن خبر الواحد لا يقبل إذا كان فيما تعم به البلوى ، فإن من اشترط لقبوله أن لا يكون فيما تعم به البلوى فإنه قد جاء بمقيدٍ للأدلة الدالة على وجوب قبوله بلا دليل يدل عليه ، والأصل أن يجرى المطلق على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل فمن ادعى هذا الشرط فعليه الدليل ، والله أعلم .
إذا علمت هذا فاعلم أن الحنفية قالوا : مثل هذا الخبر لا يقبل واستدلوا على ذلك بقولهم : إن ما تعم به البلوى وتكثر الحاجة لبيانه لابد أن يكثر السؤال عنه وإذا كثر السؤال عنه فلابد أن يحرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على البيان الواضح والبلاغ التام وكثرة التأكيد عليه وحينئذٍ فلابد أن يكثر ناقلوه وحافظوه منه ، أي أن الهمم تتوفر لنقله فيشتهر عادة فلما لم ينقله إلا الواحد فقط وترك الأكثرون نقله دل ذلك على أن هذا الواحد في نقله شيء من النظر إذ كيف لا ينقله الناس مع اشتهاره بينهم وينقله الواحد فقط ، فهذا دليل على أن خبره مدخول ، وبه ظِنَّة أي تهمة . هكذا قالوا : والجواب عن ذلك من أوجه :(1/23)
الأول : أن دليلهم هذا مبني على عدم النقل أي أن الأكثر ما نقلوه ، وعدم نقل الأكثر له ليس دليلاً على عدمه إذ يكفي في إثباته نقل واحدٍ فقط وقد حصل ، فلو أن جمعاً كثيراً من الناس اتفقوا على عدم نقل حادثةٍ وهي في الواقع موجودة فإن عدم نقلهم ليس دليلاً على عدمها إذ أننا أثبتنا وجودها بطريق آخر وهو نقل غيرهم لها ، فهب أن الأكثر ما نقلوه هذا الخبر فهل هذا يدل على عدم حقيقة هذا الخبر ؟
الجواب بالطبع : لا . لأنه ثبت بإخبار غيرهم .
الثاني : أننا نجدكم أيها الحنفية تعتمدون أشياء تعم بها البلوى ولا طريق لثبوتها إلا خبر الواحد ، من ذلك : قولكم بوجوب الوتر ، والوضوء من القهقهة في الصلاة مع ضغف الخبر واختياركم تثنية الإقامة في الصلاة وكذلك أوجبتم الوضوء بخروج النجاسة من غير السبيلين وكل ذلك مما تعم به البلوى ، وأدلتكم على ذلك إنما هي خبر الواحد ، بل قلتم بوجوب الغسل من غسل الميت وحديثه آحاد ، فأنتم بذلك متناقضون إذ قد ذهبتم إلى عدم قبول خبر الواحد فيما تعم به البلوى ثم تعتمدون أحكاماً تعم بها البلوى بأخبار الآحاد وهذا التناقض مضعف لقولكم الذي ذهبتم إليه .
الثالث : لا نسلم لكم أن ما كثر السؤال عنه لابد أن يكثر نقلته ، أو أن ما اشتدت الحاجة لبيانه فلابد أن يكثر ناقلوه ، فهذه شروط البيع والنكاح والأذان والإقامة هي مما تعم بها البلوى لكثرة وقوعها ومع ذلك فناقلوها لا يبلغون حدَّ التواتر ، فإذاً تعلم بهذا أن القول الصواب هو ما نصت عليه هذه القاعدة المهمة .
وإليك الآن بعض الفروع عليها حتى تعرف مدى أهميتها فأقول :
منها : الوضوء من مس الذكر ، فذهب الجمهور إلى أنه ناقض بشرطه واستدلوا على ذلك بحديث بسرة بنت صفوان مرفوعاً (( من مس ذكره فليتوضأ )) وقالت الحنفية: لا ينقض الوضوء واستدلوا بحديث طلق بن علي (( لا ، إنما هو بضعة منك )) وأجابوا عن حديث بسرة بأنه خبر آحاد فيما تعم به البلوى فلا يقبل .(1/24)
والصواب قول الجمهور من أن مس الذكر ناقض للوضوء وإن كان ثبت بخبر الآحاد ، ذلك لأن خبر الواحد عندنا يقبل فيما تعم به البلوى ، لكن يشترط لنقضه للوضوء فيما أرى أن يكون بشهوة وبلا حائل والله أعلم .
ومنها : رفع اليدين في الصلاة في غير تكبيرة الإحرام ، فذهب الجمهور إلى أن السنة رفع اليدين عند الركوع والرفع منه مستدلين بحديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك ، وقال الحنفية : لا يرفع في غير تكبيرة الإحرام ، فلا يرفع عند الركوع ولا الرفع منه ، واستدلوا بحديث ابن مسعود " لأصلين لكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى فلم يرفع يديه إلا مرة واحدة " أي عند تكبيرة الإحرام ، ولم يعمل الحنفية بحديث ابن عمر لأنه خبر آحاد فيما تعم به البلوى وهو عندهم لا يقبل ، إذ كيف يصلي النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة فرضها ونفلها أمام الناس ويرفع يديه ولا ينقله إلا ابن عمر .
لكن الصواب هو قول الجمهور لصحة الحديث ولأن خبر الواحد فيما تعم به البلوى معتمد عندنا .
ومنها : التسليمتان في الصلاة : فقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يتحلل الإنسان من صلاته إلا بالتسليم فلو أحدث قبله وبعد التشهد لفسدت الصلاة لأنه لا يزال في صلاة واستدلوا على ذلك بحديث علي - رضي الله عنه - مرفوعاً (( تحريمها التكبير وتحليلها التسليم )) وقال الحنفية : بل إن حكم الصلاة ينتهي بالتشهد الأخير والجلوس له ، ولا دخل للتسليم في التحلل من الصلاة ، فلو أحدث المصلي بعد التشهد وقبل السلام لصحت صلاته ، وأما حديث التسليم فلا نقبله لأنه خبر آحاد فيما تعم به البلوى ، وخبر الآحاد فيما تعم به البلوى غير مقبول عندنا – كذلك قالوا – .(1/25)
والصواب ولاشك هو قول الجمهور لصحة الحديث – إن شاء الله تعالى – مع اقترانه بفعله - صلى الله عليه وسلم - الدائم الذي لا ينخرم مع قوله : (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) ولأن خبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول عندنا .
ومنها : اشتراط الولي في النكاح ، فقد ذهب الجمهور إلى القول بأنه لا يصح النكاح إلا بولي مستدلين على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا نكاح إلا بولي )) وحديث (( أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل )) وقالت الحنفية : لا يشترط الولي لأن هذه الأخبار أخبار آحاد فيما تعم به البلوى ، وخبر الواحد فيما تعم به البلوى لا يقبل عندنا ، ولأن المرأة لها أن تتصرف في مالها كيف شاءت فكذلك في نفسها لها ذلك . والصواب قول الجمهور من اشتراط الولي لصحة الأحاديث بمجموعها وإن كان في بعضها ضعف لكن هي بمجموعها وطرقها يحتج بها على اشتراط الولي ، وهي وإن كانت خبر آحاد فيما تعم به البلوى لكن خبر الآحاد فيما تعم به البلوى معتمد عندنا.
ومنها : قراءة الفاتحة بعينها في الصلاة فإن الجمهور قالوا : يشترط لصحة الصلاة قراءة الفاتحة بعينها فالقراءة الواجبة عند الجمهور هي الفاتحة واستدلوا بحديث عبادة بن الصامت مرفوعاً (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) متفق عليه .
وقالت الحنفية : لا تتعين الفاتحة لصحة الصلاة بل إذا قرأ غيرها صحت صلاته لعموم قوله تعالى : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } ولأن حديث عبادة حديث آحاد فيما تعم به البلوى ومثل ذلك لا يقبل عندنا .
والصواب قول الجمهور لصحة الحديث ، وأما الآية فهي مطلقة وحديثنا مقيد لها، وأما قاعدتهم هذه فهي باطلة ، بل خبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول .(1/26)
ومنها : التسمية فقد ذهب الحنابلة والشافعية إلى أنها سنة في الصلاة قبل الفاتحة ، لكن قال الحنابلة : سراً ، وقال الشافعية : جهراً ، واستدلوا بأحاديث التسمية كحديث نعيم المجمر عن أبي هريرة وغيره ، وذهب المالكية والحنفية إلى عدم قولها سراً أو جهراً فليست هي عندهم من سنن الصلاة ولا من الفاتحة ، واستدل الأحناف على ذلك بأن أحاديث التسمية أخبار آحادٍ والتسمية تعم بها البلوى ، وخبر الآحاد لا يقبل فيما تعم به البلوى . لكن الصواب هو أنها من جملة السنن قبل الفاتحة لثبوت الأحاديث بذلك والسنة أيضاً عدم الجهر بها لحديث أنس في الصحيحين ، لكن إن جهر بها أحياناً لتأليف أو تعليم فلا بأس ، وهذا هو اختيار أبي العباس ابن تيمية ، والمقصود أن الحنفية ردوا أحاديث التسمية لأنها آحاد ولا يقبل الآحاد فيما تعم به البلوى عندهم والله أعلم .
ومنها : غسل الكافر إذا أسلم فقال بعضهم بأنه واجب لحديث قيس بن عاصم عندما أسلم (( أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل بماءٍ وسدرٍ )) وهو حديث صحيح ، وبحديث ثمامة بن أثال أنه عندما أسلم (( أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل )) ورواية الأمر عند عبد الرزاق وأصل الحديث في الصحيحين بدونها لكنها زيادة من ثقة فهي مقبولة كما سيأتي في قاعدة " زيادة الثقات " إن شاء الله تعالى ، وقال بعضهم : لا يجب لأنه أمر تعم به البلوى فقد أسلم الجمع الغفير فلو كان يأمرهم بالغسل لتواتر ذلك وكثر ناقلوه .
قلنا : إن عدم نقل الأكثر لا يقدح في رواية من نقل ، والخبر عندنا مقبول إذا صح سنده من غير نظرٍ إلى ما تعم به البلوى أو ما لا تعم به البلوى ، ولهذا فالقول بالوجوب هو القول الراجح والله أعلم .
ومنها : رؤية هلال رمضان فإذا لم يره إلا واحد فقط فهل رؤيته يعمل بها أو لا ؟(1/27)
الجواب : هو على هذه القاعدة ، فذهب الجمهور إلى قبول خبره وشهادته لحديث ابن عباس رضي الله عنهما (( أن أعرابياً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني رأيت الهلال ، فقال : أتشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، قال : نعم ، قال : فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غداً )) رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان ، وكذلك حديث ابن عمر قال : تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه )) رواه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم ، فأخذ الجمهور بهذه الأحاديث في قبول شهادة المنفرد برؤية الهلال . وقال الحنفية : لا نقبل شهادته لأن خبره لو كان صحيحاً لاشترك معه غيره إذ الهلال بين واضح لكل ذي عينين فهو أمر تعم به البلوى ، والأخبار التي ذكرتموها أخبار آحاد ، وخبر الآحاد فيما تعم به البلوى لا يقبل عندنا .
والصواب قول الجمهور لثبوت هذه الأحاديث وهي نص في المسألة ، وخبر الواحد فيما تعم به البلوى معتمد عندنا كما قالت القاعدة والله أعلم .
ومنها : خيار المجلس ، قال الحنابلة والشافعية به أي بثبوته لحديث ابن عمر في الصحيحين مرفوعاً (( إذا تبايع الرجلان فكل واحدٍ منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً )) ولكن قال الحنفية : ليس يثبت خيار المجلس لأنه مما تعم به البلوى لكثرة مبايعات الناس وشرائهم ومع ذلك لم يروه إلا ابن عمر فهو خبر آحادٍ فيما تعم به البلوى ، وخبر الآحاد فيما تعم به البلوى لا يقبل . والصواب القول الأول ولاشك لثبوت الحديث لذلك ، وأما قاعدتهم فهي باطلة ، بل خبر الآحاد مقبول فيما تعم به البلوى .(1/28)
ومنها : من أكل أو شرب في نهار رمضان ناسياً فالجمهور قالوا : لا شيء عليه لحديث أبي هريرة مرفوعاً (( من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه )) متفق عليه ، وقال الحنفية : بل صومه يفسد وعليه القضاء وهذا الحديث لا نقبله لأنه خبر آحاد فيما تعم به البلوى، وخبر الآحاد فيما تعم به البلوى لا يقبل .
والصواب قول الجمهور لصحة الحديث ولا عبرة بعموم البلوى أو عدم عمومها وإنما المهم صحة الحديث – وقد صح – فوجب القول بمقتضاه والله أعلم .
ولعل هذه الفروع كافية لفهم هذه القاعدة إن شاء الله تعالى .
وأخيراً نقول : اللهم اغفر للحنفية مغفرة واسعة ، والله ما كانوا ليردوا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغضاً له كما فعله غيرهم وإنما فعلوا ذلك من باب زيادة الحرص على السنة وعدم نسبة شيء لها إلا بعد التأكد التام أنه منها فقالوا ما قالوه عن حسن نيةٍ ، لكنه خطأ لا يقبل منهم ، أما هم فلا نتعرض لهم بشيء إلا بالدعاء لهم بالمغفرة والعفو والرحمة .
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
القاعدة الثالثة
( الأمر المجرد عن القرائن يفيد الوجوب
وبالقرينة يفيد ما تفيده القرينة )(1/29)
وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى وهو الذي دلت عليه الأدلة الكثيرة كما سترى طرفاً من ذلك إن شاء الله تعالى ، قولنا (الأمر) عرف العلماء الأمر بأنه استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه ، فقولهم : استدعاء : أي طلب الفعل وخرج به النهي لأنه استدعاء الترك ، وقولنا (بالقول) أي بالنطق وبه يخرج الأمر بالإشارة ونحوها فإنها ليست أمراً حقيقة ولكن مجاز ، وقولنا (ممن هو دونه) أي في الرتبة والمنزلة ، وبه يخرج الدعاء والالتماس ، فأما الدعاء فهو طلب شيء ممن هو فوقه كقولك : رب اغفر لي ، فهذا لا يسمى أمراً وإنما دعاء لأنك تطلب شيئاً ممن هو فوقك ، وأما الالتماس فهو طلب الفعل ممن هو في منزلتك كقول بعض الملوك لبعض افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا ، وقولك لمن هو في مرتبتك أعطني ماءً وهذا لا يسمى أمراً ولكن يسمى التماساً أي أنك تلتمس منه أن يفعل لك هذا لكن لا تأمره ، وإن سمي ذلك أمراً في اللغة فإنه ليس بأمرٍ عند الأصوليين ، ثم اعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة أن الأمر له صيغة تخصه والأصل فيها (افعل) وما تصرف منها ، خلافاً للمبتدعة الذين يقولون لا صيغة له فإن هذا القول بدعة وضلالة لأنه فرع من فروع إنكار الكلام أصلاً كقول المعتزلة ، أو إثبات للكلام النفسي كقول الأشاعرة ، فاحذر من هذا المذهب الخبيث ، فالله متكلم متى شاء كيف شاء بما شاء وكلامه بحرفٍ وصوتٍ تسمعه الآذان وإن كلامه قديم النوع حادث الآحاد ، كذا قال أهل السنة ولذلك قالوا : للأمر صيغة تخصه وهي (افعل) وما تصرف منها .(1/30)
إذا علمت هذا فاعلم أن هذه الصيغة لا تخلو إما أن ترد مجردة عن القرائن وإما أن تكون مقرونة بقرينة ، فإن كانت مقرونة بقرينة فإنها تفيد ما أفادت هذه القرينة ، فإن اقترنت بها قرينة الندب فهي ندب نحوه قوله { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } فهذا أمر ندب لأنها لما نزلت لم يكاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - رقيقه وكذلك كثير من الصحابة لم يكاتبوهم مما يدل على أن الأمر فيها للندب .
ولذلك تجد أن الأصوليين يبحثون معاني هذه الصيغة في باب الأمر ، فيقولون : من معانيها الندب وتقدم ، والإباحة كقوله تعالى : { فَاصْطَادُوا } ، والتعجيز كقوله تعالى : { قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا } ، والتسخير كقوله تعالى : { كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } ، والإهانة كقوله تعالى : { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } ، والتسوية كقوله تعالى : { فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ } ، والتهديد كقوله تعالى : { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } ونحوها كالدعاء والإكرام والخبر . فصيغة (افعل) فيما مضى لا تدخل في بحثنا لأنه قد اقترنت قرائن أخرجتها إلى غير بابها الأصلي فإذا اقترن بهذه الصيغة قرائن فإنها تدل على ما دلت عليه القرينة وليس هذا هو مجال بحثنا .(1/31)
الحالة الثانية : أن تأتي مجردة عن القرائن فإذا وردت مجردة عن القرائن فماذا تفيد ؟ وما هو الأصل فيها حتى نبقى عليه فلا ننتقل عنه حتى يأتينا الناقل ؟ هذا هو ما تفيده هذه القاعدة ، وقبل ذلك أقول : اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في صيغة الأمر إذا وردت مجردة عن القرائن ماذا تفيد ؟ فقال بعضهم : هي تفيد الوجوب وهو قول جمهور الأصوليين ، وقيل : بل تفيد الندب ، وقيل : بل تفيد الإباحة ، وقيل : بل يتوقف فيها إلى ورود القرينة الصارفة لها إلى معنىً من المعاني ، لأنها حقيقة مشتركة بين معانٍ كثيرة ، والصواب هو القول الأول وما عداه فباطل ، فالقول الصحيح هو أن صيغة الأمر إذا وردت مجردة عن القرائن فإنها تفيد الوجوب ، وهو ما تفيده قاعدتنا هذه ، والدليل على أن هذا القول هو الراجح عدة أمور :
منها : قوله تعالى : { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فحذر الله تعالى الذين يخالفون أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه العقوبة الشديدة وهي إصابتهم بالفتن والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة ، فهذا يدل على وجوب القيام بأمره وتنفيذه ، وذلك لأن الواجب هو ما يذم تاركه مطلقاً ، أو هو ما توعد بالعقاب على تركه ، فلما توعد الله من خالف الأمر بالعقاب الشديد دل ذلك على وجوب هذا الأمر وأن الأصل فيه الوجوب وهذا هو المطلوب إذ لو لم يكن واجباً لما عاقبهم على مخالفته لكن لما عاقبهم على مخالفته فهذا دليل وجوبه .(1/32)
ومن الأدلة : قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } ، وقال تعالى في آية أخرى: { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ } ، وفي أخرى : { قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ } .
ووجه الدلالة من ذلك : أن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود سارعوا إلى ذلك وامتنع إبليس عن السجود وعارض النص برأيه فوبخه الله وذمه وعاقبه بالطرد واللعنة والإهباط من الجنة فهذه العقوبة بين الله أنها على ترك الأمر فهذا يدل على أن الأمر في قوله : { اسْجُدُوا } يفيد الوجوب ولذلك لما خالفه نال ما ناله من التوبيخ والذم والعقوبة ولو كان الأمر الموجه للملائكة لا يفيد الوجوب لقال إبليس : لم تعاقبني على ما لم يجب عليَّ لكن لما لم يقل ذلك دل على أنه كان يفهم منه الوجوب ، ولا يقال : إن إبليس لم يسجد لأنه ليس من الملائكة لأننا نقول هو من الملائكة بوصفه ومن الجن بأصله كما هو اختيار أبي العباس ابن تيمية وهو الراجح ، فلما أمر الله الملائكة بالسجود دخل إبليس في ضمنهم بوصفه ومثاله لكنه خالف الأمر برجوعه إلى أصله ولذلك قال تعالى : { إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ … } فقرن الحكم بالفاء بعيد وصفٍ مما يدل على أن سبب فسقه هو لأنه من الجن وطبعهم الفسق والمخالفة .
وخلاصة الأمر أن إبليس من الملائكة بوصفه ومثاله لكنه من الجن بأصله ، فيكون داخلاً في ضمن الأمر للملائكة بالسجود فلما خالف الأمر وأبى واستكبر لُعِن وطُرِد ومُسِخ على أقبح صورة مما يدل على أن الأمر المطلق يفيد الوجوب ، والله أعلم .(1/33)
ومن الأدلة أيضاً : قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } فذمهم الله تعالى وتوعدهم بالويل على عدم امتثالهم للأمر مما يدل على أن الأمر يفيد الوجوب لأن علامة الوجوب أن يذم التارك له وهنا ذمهم الله على مخالفة الأمر فدل على أنه للوجوب .
ومن الأدلة أيضاً : قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً } فالله تعالى هنا أخبر أنه إذا قضى أمراً لم يكن لأحدٍ أن يتخير فيه وجعل مخالفته معصيةً وضلالاً وإذا كانت مخالفة الأمر عصياناً وضلالاً فإن ذلك دليل على أن الأمر يفيد الوجوب لأنه لو لم يفد الوجوب لما كانت مخالفته معصية وضلالاً وهذا واضح .
ومن الأدلة على ذلك : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ برجل يصلي فدعاه فلم يجبه فلما فرغ من الصلاة قال : (( ما منعك أن تجيبني ؟ )) ، قال : يا رسول الله كنت في الصلاة ، فقال: (( أما سمعت الله يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } )) وهذا ظاهر فإنه - صلى الله عليه وسلم - عاتبه على مخالفة أمر الله ، والمعاتبة واللوم لا تكون إلا على ترك واجب فدل ذلك على أن قوله تعالى : { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } على الوجوب إذ لو كان لا يفيد الوجوب لما استحق ذلك الصحابي العتاب ولا اللوم وهذا دليل على أن الأمر المطلق يفيد الوجوب .(1/34)
ومن الأدلة أيضاً : حديث أبي هريرة مرفوعاً : " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " متفق عليه ، فدل ذلك على أن المشقة تحصل بالأمر للزوم الامتثال حينئذٍ لكنه ترك الأمر ، لوجود المشقة ، فدل ذلك على أن الأمر يفيد الوجوب لأنه لو لم يفد الوجوب لما حصلت المشقة ، لكن لما كان الأمر يفيد الوجوب والوجوب فيه مشقة ترك الأمر به ، والله أعلم .
ومن الأدلة على ذلك : حديث بريرة بعد أن أعتقتها عائشة وكان زوجها عبداً فخيرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بين مفارقة زوجها وعدمه فاختارت فراقه وكان زوجها مغيث يحبها وكان يمشي خلفها في الأسواق يبكي فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ذهب إلى بريرة فقال لها : (( لو راجعتيه فإنه أبو أولادك )) فقالت : أتأمرني يا رسول الله ، فقال : (( لا إنما أنا شافع )) ، فقالت : لا حاجة لي فيه . فدل ذلك أنه لو كان أمراً للزمها الطاعة والانقياد ولذلك استفسرت من كلامه هذا : أهو أمر فتمتثل أو لا ؟ فأخبرها أنه إنما هو شافع ، فدل ذلك على أن الأمر يفيد الوجوب ، والله أعلم .
ومن الأدلة التي ذكرها القاضي أبو يعلى في كتابه العظيم العدة على ذلك - أي أن الأمر المطلق يفيد الوجوب – إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على ذلك حيث إنهم كانوا يرجعون إلى مجرد الأوامر في الفعل أو الامتناع من غير توقفٍ فكل أمرٍ كانوا يسمعونه من الكتاب والسنة يحملونه على الوجوب ولذلك لم يرد عنهم أنهم كانوا يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المراد بهذا الأمر بل كانوا يمتثلون الأمر ويحملونه على الوجوب إلا إذا اقترن به قرينة تصرفه إلى غيره ولم يعرف منهم منكر لذلك فكان إجماعاً وهذا ثبت في وقائع كثيرة :
منها : أنهم استدلوا على وجوب الصلاة عند ذكرها بالأمر المطلق في حديث أنس مرفوعاً " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " .(1/35)
ومنها : أنهم أجمعوا على وجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعاً " .
ومنها : أن أبا بكر - رضي الله عنه - استدل على وجوب قتال مانعي الزكاة بقوله تعالى : { وَآتُوا الزَّكَاةَ } وقال : " والزكاة من حقها " يقصد : أن الزكاة من جملة حقوق لا إله إلا الله ، ووافقه عمر . ذكره القاضي في العدة .
ومنها : أن عمر - رضي الله عنه - أخذ الجزية من المجوس بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( سنوا بهم سنة أهل الكتاب )) ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعاً . فدلت هذه الوقائع على ما ادعيناه من إجماع الصحابة على أن الأمر المطلق يفيد الوجوب .
ومن الأدلة أيضاً : قوله تعالى { عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ } فدل على أن مخالفة الأمر معصية وما ذلك إلا لوجوبه وهو المطلوب .
ويدل على أن الأمر المجرد عن القرائن للوجوب من النظر : أن السيد لو قال لعبده : اسقني ماء ، فامتثل العبد فإنه يستحق المدح والثناء ، وإن لم يمتثل فإنه يستحق الذم والعقوبة ، فرآه العقلاء وهو يعاقبه فقالوا له : لم تعاقبه ؟ فقال : إني أمرته أنه يسقيني ماءً فعصاني ولم يفعل ، فإن هؤلاء يتفقون معه على حسن لومه وعقابه نظراً لمخالفته الأمر فدل ذلك على أنه ما استحق الذم والعقوبة إلا لأنه ترك واجباً لأن الواجب هو الذي يذم على تركه مطلقاً وهذا متقرر في أذهان العقلاء .(1/36)
فهذه الأدلة تفيدك أيها الطالب إفادةً صريحة أن صيغة الأمر المطلقة أي المتجردة عن القرائن تفيد الوجوب ، فإذا تقرر لك ذلك فاعلم أن هذه القاعدة مطردة في جميع الفروع فكل أمرٍ يمر عليك في الكتاب أو السنة فاحمله على الوجوب إلا إذا ورد الصارف له عن بابه إلى باب آخر ، من غير فرق بين باب العبادات وباب الآداب ذلك لأن بعض العلماء قال : إذا كان الأمر في باب العبادات فهو للوجوب وإذا كان في الآداب فهو للاستحباب ولا دليل على هذا التفريق بل الأدلة السابقة عامة في جميع الأوامر من غير فرقٍ بين أمرٍ وأمر ، بل نحن نجد في الآداب ما هو واجب بمجرد الأمر به كالأكل باليمين والتسمية على الطعام ونحوها .
والمراد : أن هذا التفريق لا وجه له ، والأصل أن تبقى هذه الأدلة على عمومها حتى يرد المخصص ولا مخصص هنا ، فالأوامر كلها وفي جميع الأبواب تفيد الوجوب عند تجردها عن القرائن ، هذا هو الصواب الذي دلت عليه الأدلة ، والله أعلم .
إذا علمت هذا فلم يبق إلا الفروع وهي كثيرة لكن أذكر ما تيسر منها فأقول :(1/37)
منها : قوله - صلى الله عليه وسلم - للغلام الذي رآه تطيش يده في الطعام : (( يا غُلام سَمِّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك )) فهذه ثلاثة أوامر ، الأول : (سم الله) فهو أمر بالتسمية فالأصل فيه الوجوب إذ لا قرينة هنا تصرفه عن بابه ، فنقول : التسمية عند الطعام واجبة وقد دلت أدلة أخرى على هذا الحكم وأكدته بأن ترك التسمية سبب لاستحلال الشيطان للطعام . الثاني : قوله (وكل بيمينك) فهذا أمر فالأصل فيه الوجوب ، فنقول : الأكل باليمين واجب وقد دلت أدلة أخرى على ذلك وأكدته بأن الشيطان يأكل بشماله ، الثالث : (وكل مما يليك) فهذا أمر والأمر يفيد الوجوب ، فنقول : يجب على الإنسان أن لا يأكل إلا مما يليه ، لكن عندنا حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتتبع الدباء من القصعة ، فظن بعض العلماء أنه صارف للأمر عن الوجوب إلى الندب وهذا ليس بصحيح ، بل الصواب أن يقال : إذا كان الطعام واحداً أي نوع واحد فيجب على الإنسان أن يأكل مما يليه ، وإذا كان الطعام أصنافاً متنوعة فللإنسان حق الاختيار ويأكل مما شاء فالأمر في قوله : (وكل مما يليك) على بابه وهو الوجوب لكن فيما إذا كان الطعام واحداً ، والله أعلم .
ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم - (( أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما )) رواه الأربعة ، ولأبي داود : (( إذا توضأت فمضمض )) .
فها هنا عدة أوامر : الأول : قوله : (اسبغ الوضوء) أمر بالإسباغ فيكون واجباً والإسباغ هو تعميم العضو بالماء مع الإسالة وهذا صحيح فالأمر فيه يفيد الوجوب .(1/38)
الثاني : قوله : (وخلل بين الأصابع) أمر والأصل أنه يفيد الوجوب لكن نظرنا فوجدنا قرينة تصرفه إلى الندب وهو أن جميع الذين وصفوا وضوءه - صلى الله عليه وسلم - لم يذكروا أنه كان يخلل أصابعه مما يدل على أنه لم يكن يواظب عليه إذ لو كان مما يواظب عليه لنقله هؤلاء فلما لم ينقلوه دل على أن قوله : (وخلل بين الأصابع) ليس على بابه الذي هو الوجوب وإنما هو للندب فيكون التخليل مندوباً .
الثالث : قوله : (وبالغ في الاستنشاق) هنا أمران : أمر بالاستنشاق ، وأمر بالمبالغة، فأما الأمر بالاستنشاق فهو على بابه وهو الوجوب ويتأيد ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً )) ، وفي رواية : (( ومن توضأ فليستنشق )) ، وفي رواية : (( فليستنشق بمنخريه من الماء )) ، فالأمر بالاستنشاق على بابه وهو الوجوب . فنقول : من واجبات الوضوء الاستنشاق ، وأما المبالغة فأمر بها هنا في حديث لقيط بن صبرة ولكنه لم يأمر بها في حديث أبي هريرة وجميع الواصفين لوضوئه لم يذكروا أنه كان يبالغ في الاستنشاق فدل ذلك على أن المبالغة فيه سنة لورود القرينة الصارفة .
الرابع : قوله : (إذا توضأت فمضمض) وهذا أمر بالمضمضة والأصل في الأمر المطلق الوجوب ، فنقول : المضمضة واجبة ولم تأت قرينة تصرفه عن بابه بل تأيد ذلك بأحاديث أخرى تفيد أن الأمر بها يراد به الوجوب ، والله أعلم .(1/39)
ومنها : حديث أبي هريرة مرفوعاً : " إذا صلى أحدكم الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح فليضطجع على شقه الأيمن " فهذا أمر بالاضطجاع بعد سنة الفجر ، والأصل أنه للوجوب ، لكن ورد له ما يصرفه عن بابه إلى الندب وذلك في حديث أبي قتادة عند مسلم في قصة نومهم عن صلاة الفجر قال : " فأذن بلال فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتي الفجر ثم أقيمت الصلاة فصنع كما كان يصنع كل يوم " فهنا لم يضطجع - صلى الله عليه وسلم - بعد ركعتي الفجر ففعله هذا صرف الأمر عن بابه إلى الندب ، فنقول : الاضطجاع على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر سنة .
ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( صلوا قبل المغرب ، صلوا قبل المغرب ، صلوا قبل المغرب )) ثم قال : (( لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة )) رواه البخاري ، فقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة قبل المغرب فالأصل في أمره الوجوب لكنه قال (لمن شاء) وهذه قرينة تصرف الأمر عن الوجوب إلى الندب ولو لم ترد هذه اللفظة لقلنا إن الصلاة قبل المغرب واجبة لكن لما وردت القرينة الصارفة للأمر إلى الندب قلنا بها .
ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( توضؤوا من لحوم الإبل )) فهذا أمر بالوضوء من لحمها والأصل في الأمر أنه للوجوب ، ولا أعلم قرينة تصرف الأمر عن بابه فالبقاء عليه هو المتعين ، فنقول : الوضوء من أكل لحم الإبل واجب للأمر به وهذا هو الراجح وهو من مفردات الإمام أحمد .(1/40)
ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( من غسل ميتاً فليغتسل ومن حمله فليتوضأ )) على التسليم بأنه يحتج به فإن الأمرين فيه للاستحباب لا للوجوب بدليل قوله في الحديث الآخر (( ليس عليكم من غسل ميتكم غسل فإن ميتكم يموت طاهراً ))، ومثله أن أم عطية تولت هي وبعض النساء غسل بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكرت أنه دخل عليهن وأمرهن أن يغسلوها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك وأنه أعطاهن حقوه ولم تذكر أنه أمرهن بعد الفراغ من غسلها أن يغتسلن أو يتوضأن ولو أمرهن لنقلته لنا فلما لم يأمرهن بالاغتسال دل ذلك على عدم وجوبه لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، وغسلت أسماء بنت عميس رضي الله عنها أبا بكر - رضي الله عنه - وخرجت وسألت الصحابة هل عليها غسل ؟ فقالوا : لا ، فهذا يُعَدُّ صارفاً للأمر في الحديث ، فنقول : من غسل ميتًا فليغتسل استحباباً ومن حمله فليتوضأ استحباباً هذا إذا سلمنا سلامة الحديث للاحتجاج وإلا فقد قال أحمد : لا يصح في هذا الباب شيء ، والله أعلم .
ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم - في المذي : (( توضأ واغسل ذكرك )) فهذا أمر وهو للوجوب ولا نعلم له صارفاً ، فنقول : من خرج منه مذي فيجب عليه أن يغسل ذكره ويتوضأ للأمر به ، والله أعلم .
ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن )) فهذا أمر والأصل فيه الوجوب ، وبه قال بعض أهل العلم ، لكن ورد ما يصرفه عن بابه وهو ما رواه مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع مؤذناً يؤذن فقال : الله أكبر الله أكبر ، فقال : على الفطرة ، ثم قال المؤذن : أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله ، فقال : خرجت من النار … فلو كانت الإجابة واجبة لأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/41)
ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءاً )) رواه مسلم ، وزاد الحاكم : (( فإنه أنشط للعود )) فهذا أمر والأصل فيه الوجوب ، لكن وردت قرينة تصرفه عن بابه إلى الندب وهي أنه - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه أنه طاف على نسائه بغسل واحد ولم ينقل عنه أنه توضأ . فلو كان الوضوء واجباً لتوضأ فلما لم يتوضأ دل ذلك على أن الأمر به في الحديث أمر ندب لا أمر وجوب ، ولأنه قال أيضاً في رواية الحاكم : (( فإنه أنشط للعود )) فهو أمر معلل فمن كان نشيطاً للعود أصلاً لقوته وشدة رغبته فلا يتوضأ وهذا ما يفهم من الحديث ، فهذا الأمر إذاً يراد به الندب لورود القرينة الصارفة ولو لم ترد لقلنا بالوجوب لهذه القاعدة .
ومنها : تحية المسجد ، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس )) متفق عليه ، فقد أمر بتحية المسجد ، والأصل في الأمر الوجوب ، وقال به بعض العلماء لكن هناك قرينة تصرف الأمر عن بابه وهو حديث طلحة بن عبيد الله لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام فقال : (( خمس صلوات في اليوم والليلة )) قال : هل عليّ غيرها ، قال : (( لا ، إلا أن تطوع )) فوصف ما عدا الصلوات الخمس بأنها تطوع ، وكذلك لما دخل رجل المسجد يوم الجمعة وتخطى رقاب الناس قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( اجلس فقد آذيت وآنيت )) ولم يأمره أن يصلي ركعتين فلو كانت واجبة لأمره بها ، فهاتان القرينتان تصرفان الأمر عن بابه إلى الاستحباب وهو الصحيح إن شاء الله تعالى، ولو لم يردا ، لقلنا بالوجوب لأن الأمر المطلق عن القرائن يفيد الوجوب.(1/42)
ومنها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الجنب إذا أراد أن ينام أن يتوضأ والحديث صحيح ، فهذا أمر والأمر يفيد الوجوب لكن بحثنا فوجدنا أن له صارفاً وهو حديث عائشة رضي الله عنها : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينام وهو جنب من غير أن يمس ماءً " رواه الأربعة بسندٍ حسن ، فهذه القرينة صرفت الأمر عن بابه إلى الندب وهو الصواب ولو لم ترد لقلنا بالوجوب لأن الأمر المطلق عن القرائن يفيد الوجوب .
ومنها : حديث أبي هريرة مرفوعاً : " إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً ثم لينتثر " فهذا أمر بالانتثار وهو للوجوب ولا أعلم له صارفاً عن بابه إلى الندب بل تأيد الأمر القولي بالفعل الدائم ، فنقول : الاستننثار واجب من واجبات الوضوء لأنه أمر به والأمر يفيد الوجوب إذا خلا عن القرينة .
وهكذا فقس ، فأي أمرٍ وجدته فاحمله على الوجوب إلا إذا وردت القرائن الصارفة له عن بابه فاحمله على ما دلت عليه القرينة ، والله أعلم وأعلى.
القاعدة الرابعة
( الأمر بعد الحظر يفيد ما كان يفيده قبل الحظر )(1/43)
وهذا رواية عن الإمام أحمد وهي الموافقة للأدلة من الكتاب والسنة وهي أرجح من قول بعضهم : "الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة" فإنه يشكل عليه كثير من الأدلة ورد فيها الأمر بعد الحظر ولا يفيد الإباحة ونعني (بالأمر بعد الحظر) أنه إذا حظر الشارع قولاً أو فعلاً ثم عاد فأمر به ، فهذا أمر بعد حظر كأن يقول مثلا "لا تزوروا القبور" ، ثم يقول : "زوروها" ونحو ذلك ، فهذا الأمر الذي أعقب الحظر ماذا يفيد ؟ هل يفيد الوجوب كما كان يفيده لو لم يرد بعد حظر ؟ أو أنه يفيد الندب أو يفيد الإباحة ؟ أو يفيد حكمه قبل الحظر ؟ في هذه المسألة خلاف بين الأصوليين والصواب هو مقتضى هذه القاعدة وهو أن الشارع إذا حرم شيئاً من الأقوال ثم أمر به فإنه يرجع بعد فك الحظر عنه إلى حكمه الأول ، فإن كان قبل الحظر واجباً فهو بعد الحظر واجب وإن كان سنة فهو سنة وإن كان قبل الحظر مباحاً فهو بعد الحظر مباح . وهذا هو الموافق للأدلة ، وهي كثيرة :
فمن ذلك : قوله تعالى : { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } فقتال المشركين كان واجباً قبل الأشهر الحرم ثم حرمه الله في الأشهر الحرم ثم أمر به مرةً ثانية بعد انسلاخ الأشهر الحرم فقوله { فاقتلوا } يفيد الوجوب لأنه كان واجباً قبل الحظر ، ولا يمكن أن يقال هنا إنه مباح على قول من قال إنه يفيد الإباحة ، فإن قتال الكفار يعلم من الدين بالضرورة أنه واجب ، فلما فُكَّ الحظر عاد الحكم إلى ما كان يفيده قبل الحظر .(1/44)
ومن ذلك : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } فحرم الله تعالى الصيد البري حال الإحرام ثم قال : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } فأمر به بعد الإحلال ، فالأمر بالصيد بعد الإحلال أمر بعد حظر ، فنقول يرجع إلى ما كان يفيده قبل الحظر ، فنظرنا فوجدنا أن الصيد مباح قبل الحظر فقلنا إن الأمر بالصيد إذاً بعد تحريمه يفيد الإباحة لأنه كان مباحاً قبل تحريمه .
ومن ذلك: قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } فالأصل أن البيع جائز ثم حرمه الله تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة أي النداء الثاني الذي يعقبه الخطبة ثم أمر به في قوله: { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } وهذا الأمر بالانتشار والابتغاء من فضل الله يفيد الجواز لأنه كان يفيده قبل تحريمه ، والأمر إذا ورد بعد حظر أفاد ما كان يفيده قبل الحظر .
ومن ذلك : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة) فالأصل أن زيارة القبور كانت جائزة أو مستحبة ثم نهى عنها ثم أمر بها في قوله (فزوروها) فهذا الأمر يفيد الإباحة أو الاستحباب لأنه كان يفيد ذلك قبل الحظر .
ومن ذلك : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فادخروا …) الحديث . فالأصل أن ادخار شيءٍ من لحم الأضحية جائز ثم نهي عنه من أجل الدافة أي الفقراء الذين نزلوا المدينة ، ثم أمر به في قوله : (فادخروا) فهذا الأمر يفيد الإباحة لأنه كان مباحاً قبل الحظر .(1/45)
ومن ذلك : قوله تعالى : { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } فنهى عن جماع المرأة الحائض ثم قال : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ } فأمر بإتيانها ، وهذا الأمر يفيد الإباحة لأن الإتيان قبل الحيض مباح ، وبهذا يتبين لك جلياً أن الأمر بعد الحظر يرجع إلى حكمه السابق قبل الحظر إلا أنك تلاحظ أن غالب ما ورد في الشريعة من الأمر بعد الحظر إنما يفيد الإباحة ولذلك قال من قال إنه للإباحة ، لكن الأجود هو القول بمقتضى هذه القاعدة والله تعالى أعلى وأعلم .
القاعدة الخامسة
(الأمر المتجرد عن القرائن يفيد الفور ولا يفيد التكرار)
هما قاعدتان مهمتان غاية الأهمية فلابد من فصلهما وشرحهما واحدة واحدة ، فأقول : القاعدة الأولى : " الأمر المتجرد عن القرائن يفيد الفور " .
أقول : المراد (بالفور) أي وجوب المبادرة بالفعل وعدم التأخير ، فهل إذا أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بأمرٍ مَّا فهل تلزم المبادرة بامتثاله أو أنه على التراخي ، أي يجوز للمكلف تأخيره فعله متى شاء ، هذا هو ما تجيب عنه القاعدة ، وقد اختلف العلماء في ذلك اختلافاً قوياً قد أثر في الفروع تأثيراً واضحاً ، فقال بعضهم الأمر المتجرد عن القرائن يفيد الفور ، وقال بعضهم بل يفيد التراخي ، والصواب هو الأول أنه يفيد الفور ، وقد قلنا في المقدمة أننا نخرج القاعدة الأصولية المختلف فيها بصيغة الجزم على القول الذي نرجحه ، والراجح هو أن الأمر المتجرد عن القرائن يفيد المبادرة بالفعل أي الفور ، والدليل على ذلك عدة أمور :(1/46)
من الأدلة عليه : الأدلة العامة الآمرة بالمسارعة في الخيرات كقوله تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } وقوله : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } وقوله : { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ } وقال تعالى مادحاً بعض أنبيائه : { إنهم كانوا َيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } وقال تعالى في ذكر صفات المؤمنين : { أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } فهذه الأدلة فيها الأمر بالمسارعة والمسابقة لفعل الخيرات وتحصيل أسباب المغفرة ولا يتحقق ذلك إلا بالمبادرة بامتثال الأمر فور صدوره ، لأن هذه هي حقيقة المسارعة والمسابقة فدل ذلك على أن الأمر يفيد الفور والمسارعة والمسابقة للامتثال وقد مدح الله المسارعين في الخيرات المبادرين لامتثالها ولا يمدح الله تعالى إلا ما هو خير فالمبادرة بالامتثال إذاً هي الخير ، والله أعلم .
ومن الأدلة أيضاً : أن الله تعالى قال للملائكة { اسْجُدُوا لآدَمَ } فبادر الملائكة بالامتثال وتخلف إبليس وعاتبه الله تعالى وعاقبه أشد العقوبة مما يدل على أن الأمر في قوله { اسْجُدُوا } يفيد الفور إذ لو لم يفد الفور وكان يفيد التراخي لقال إبليس : سأسجد ولكن بعد حين لأنه على التراخي ، فلما لم يحصل ذلك دل على أن الأمر يفيد الفور والمبادرة بالامتثال ، والله أعلم .(1/47)
ومن الأدلة أيضاً : أن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - كان يصلي فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يجبه واستمر في صلاته فلما فرغ قال : لبيك يا رسول الله ، فقال : (( ما منعك أن تجيبني والله تعالى يقول : { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْييكُمْ } )) قال : يا رسول الله إني كنت في صلاة … الحديث ، وهو حديث حسن صحيح ، ووجه الشاهد منه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاتب أبياً على عدم المبادرة بالإجابة مما يدل على أنه ترك شيئاً يعاتب عليه والعتاب لا يكون إلا على ترك واجب ، ثم استدل على أهمية الفورية والمبادرة بالإجابة بالأمر في قوله تعالى : { اسْتَجِيبُوا } مما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفهم منه فورية الامتثال إذ لو كان لا يفيد إلا التراخي لما عاتب أبياً في تأخير الإجابة لكن لما عاتبه على تأخيرها واستدل له بذلك الأمر دل ذلك على أن الأمر يفيد الفور وهذا واضح جلي .(1/48)
ومن الأدلة أيضاً : حديث صلح الحديبية لما صد المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البيت وأبرموا معه صلحاً واشترطوا فيه عليه من الشروط ما رآه الصحابة مجحفاً بالمسلمين لما تم ذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( قوموا فانحروا هديكم واحلقوا رؤوسكم )) فلم يقم أحد ، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على أم سلمة مغضباً فأخبرها الخبر فقالت : " اخرج إليهم ولا تكلم أحداً منهم وانحر هديك واحلق رأسك " ففعل ، فأحسوا بكبير ما فعلوه فقاموا فنحروا هديهم وحلقوا رؤوسهم حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً ، ووجه الشاهد أنه لما أمرهم بالنحر والحلق ولم يمتثلوا الأمر مباشرة ولم يبادروا لتنفيذه غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يدل على أنه يفيد الفور إذ لو كان لا يفيد الفور لما غضب من عدم امتثالهم عقيبه لكن لما غضب وفعل ما فعل دل ذلك أن الأمر المطلق عن القرينة يفيد الفورية ولزوم المبادرة بالأداء حالاً .
ومن الأدلة النظرية أيضاً : أن السيد لو قال لعبده اسقني ماءً أو نحوه فلم يبادر العبد بالامتثال فعاقبه ، فجاءه العقلاء فقالوا : لم عاقبته ؟ فقال لهم : أمرته فلم يبادر بالامتثال ، لاستحسنوا ذلك منه ولم يلوموه على عقابه مما يدل على أنه متقرر في أذهان العقلاء أن صيغة الأمر المجردة تقتضي الفورية . وأن هذا هو المفهوم من وضع اللغة .(1/49)
ومن الأدلة أيضاً : أنه أبرأ للذمة وأسرع في الخروج من عهدة المطالبة ، وهو مقصد العاقل ولأنه لا يدري إذا أخر الفعل هل يتمكن من أدائه أو لا فإن العوارض كثيرة وابن آدم كالخامة الطرية من الزرع ، لكن إذا بادر إلى متثال واتقى الله ما استطاع لكان ذلك أبرأ لذمته ، ثم أضف إلى هذا أن المبادرة إلى الامتثال والمسارعة في تنفيذ الأمر من تعظيم شعائر الله وذلك دليل على تقوى القلوب ، فإنه لو أمرك الملك أو الأمير بشيء ولم تبادر إليه وتراخيت وهو يأمرك لعدَّ ذلك منك سخرية وتساهلاً بأمره وعدم تعظيم له ، لكن لو أنك من حين ما أمرك امتثلت لعَدَّ ذلك تعظيماً لأمره ، ولله المثل الأعلى ، فإنك إذا بادرت في القيام بأمر الشارع فور صدوره وسماعه لكان ذلك من تعظيمه ، وتعظيم شعائر الله أخبر الله أنه من تقوى القلوب .
وأضف إلى هذا أن النفوس على ما عودت عليه فإن عودتها على الجد والمبادرة والمسارعة في الخيرات تعودت عليه وسهلت الطاعات عليها ، وأما إذا عودتها على الخمول والدعة والكسل وحب التأخير تراخت وفترت قواها وآثرت التأخير والتسويف ، ومن ثَمَّ تثقل عليها الطاعة ، فصار القول بأن الأمر المطلق يقتضي الفور له مصالح جمة وحكم عظيمة ، وهذه المصالح تفوت لو قلنا إنه على التراخي كما ترى .
ومن الأدلة أيضاً : أنه لما نزل تحريم الخمر في قوله { فاجتنبوه } وهو أمر بالاجتناب ، امتثل الصحابة هذا الأمر أعظم الامتثال وبادروا بالاجتناب حتى سطروا أروع الأمثلة ، فمنهم من كانت الشربة في فمه فَمجَّها وأريقت دنان الخمور في الشوارع حتى سالت منها شوارع المدينة ، ولم يتراخ أحد منهم مما يدل على أنهم كانوا يفهمون وجوب المبادرة الفورية في تنفيذ الأمر ، ولم يعرف عن أحدٍ منهم إنكار ذلك أو مخالفته فكان إجماعاً منهم أن الأمر يفيد الفور وسرعة الامتثال .(1/50)
ومن الأدلة على ذلك أيضاً : حديث ابن عمر في الصحيحين ، قال : (( بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أُنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها ، فاستداروا كما هم إلى القبلة )) فانظروا كيف هذا الامتثال فإن الصحابة هؤلاء - رضي الله عنهم - فهموا من الأمر باستقبال القبلة وجوب المبادرة ولذلك فعلوا ما فعلوا ولم ينتظروا إلى انتهاء الصلاة ، فلو أن الأمر يفيد التراخي لما تحركوا هذه الحركة الكثيرة في الصلاة ولانتظروا إلى الفراغ منها لكن كانوا يفهمون أن الأمر هذا يفيد الفور فبادروا بامتثاله واستداروا كما هم إلى الكعبة ، ومثل هذا الفعل لا يخفى على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا على سائر الصحابة ولم يثبت عن أحدٍ منهم أنه أنكر ذلك مما يدل على أن المتقرر عندهم هو أن الأمر المطلق يفيد الفور ، والله أعلم .
ومن الأدلة عليه : ما يروى عن عمر موقوفاً ومرفوعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - : (( تعجلوا إلى الحج والعمرة فإنه لا يدري أحدكم ما يعرض له )) وسنده ضعيف ، وقال عمر - رضي الله عنه - : " من قدر على الحج فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً " ، وقال : " لقد هممت أن آمر عمالي فيرسلوا إلى الأمصار أن من وجد جدة للحج ولم يحج أن يضربوا عليهم الجزية ، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين " ولم ينكر عليه أحد مما يدل على أن الأمر بالحج للفور وإلا لم يكن للخليفة الثاني أن يحكم بهذا الحكم على من لم يرتكب حراماً وإنما أمر ما يسوغ له تأخيره ، لكن لما قال ذلك وهَمَّ به دل على أن الأمر بالحج يفيد الفور ووجوب المبادرة ، وهذه الأحاديث وإن كانت في سندها ضعيفة لكنها تتأيد بعموم الأدلة الدالة على أن الأمر يفيد الفور ، وإن لم يقبل هذا الدليل فالأدلة الماضية فيها كفاية إن شاء الله تعالى .(1/51)
ومن الأدلة أيضاً : أن يقال لمن يقول إن الأمر على التراخي ، هل التراخي هذا إلى غاية معينة أو لا غاية له ؟ ولا يمكن أن يكون التأخير إلى غاية مجهولة لأنه يؤدي إلى تفويت الواجب بالكلية ، وأما إن قالوا إنه يجوز تأخيره إلى غاية ، قلنا : هل هذه الغاية معلومة للمكلف أو مجهولة ؟ ولا يمكن أن تكون مجهولة لأن الأحكام الشرعية لا تناط بغاياتٍ مجهولة ، وإذا كانت معلومة للمكلف ، فنقول : متى هي ؟ وما الدليل على تحديدها واعتبارها غاية لتأخير الواجب ؟ كل ذلك مما لا جواب عليه عندهم ، إلا أن يقولوا : يجوز تأخير الواجب مع العلم بسلامة العاقبة ، فإن قالوا ذلك ، فقل : ومن الذي يعلم عاقبته ، فإن العواقب من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى ، وقد أخبر الله تعالى باقتراب الأجل في قوله : { وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ } فهذا تحديد بغايةٍ لا يعلمها المكلف فهي غاية مجهولة والحكم الشرعي لا يعلق بغاية مجهولة ، بقي أن يقال : إن الأمر يفيد الفور ولا يجوز تأخيره إلا لعذرٍ فإذا قلت ذلك لم يلزم عليك أي لازمٍ مما مضى ، واستقام قولك ، وما ورود اللوازم السابقة على القائلين بالتراخي إلا أكبر دليلٍ على فساد قولهم – رحم الله الجميع رحمة واسعة – ثم يقال أيضاً : إن المكلف إذا امتثل الأمر عقيب صدوره فإنه يكون ممتثلاً له بالإجماع أي عند القائلين بأنه على الفور والتراخي ، وأما إذا أخره ثم أتى به فإنه يكون ممتثلاً عند بعضهم فقط ومخالفاً له عند الباقي والعاقل الأريب يحرص على فعل المتفق عليه ، لأن فعل ما اتفق عليه العلماء أولى من فعل ما انفرد به أحدهم ما أمكن ولأنه حينئذٍ يكون ممتثلاً للأمر بيقين ، وأما إن أخره فإنه يشك في صحة امتثاله وفعل المتيقن أولى من فعل المشكوك فيه ، وبهذا يتضح لك إن شاء الله تعالى أن القول الراجح هو القول بأن الأمر المطلق عن القرينة يفيد الفور .(1/52)
فهذا هو الكلام على هذه القاعدة من ناحية الشرح والاستدلال وبقي الكلام عليها من ناحية الفروع فأقول :
منها : الحج فرض في السنة التاسعة وهو - صلى الله عليه وسلم - حج في السنة العاشرة ، فاستدل بهذا القائلون بالتراخي ، وذهب الحنابلة في المشهور عنهم إلى أن الحج يجب على الفور بشرط القدرة ، أي إذا كنت قادراً على الحج فعليك الحج هذه السنة ولا يجوز لك تأخيره فإن أخرته مع القدرة فأنت آثم بذلك ، لأن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أمرا به والأمر المطلق عن القرينة يفيد الفور واستدلوا بحديث عمر السابق ذكره في قيد الأدلة وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى ، للقاعدة المذكورة وهي أن الأمر المطلق عن القرينة يفيد الفور ، وقد أمر الشارع بالحج ولا قرينة فهو للفور ، وأما تأخيره - صلى الله عليه وسلم - - إن سلمناه – فإنه لمصلحة راجحة لأن البيت لم يكن مؤهلاً للحج فأرسل أبا بكر وعلياً أن لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ،ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المشرع وكان يعلم - صلى الله عليه وسلم - أنها إنما هي حجة واحدة فأخرها سنة ليعلم الناس بفرضية الحج عليهم وليتأهبوا للحج معه ليأخذوا عنه مناسكهم ، فالتأخير كان لمصلحة راجحة ولا شك أن القاعدة إنما تقصد المبادرة لتنفيذ الأمر والمسارعة إلى ذلك ما لم يكن في التأخير مصلحة ، والله أعلم .
ومنها : الأمر بالزكاة فإن الله تعالى قال : { وَآتُوا الزَّكَاةَ } فهذا أمر والأمر يفيد الفور ، فإذا بلغ المال نصاباً وحال عليه الحول وجب على مالكه إخراج الزكاة فوراً ، وهذا على القول الصحيح .
ومنها : من أخر إخراج الزكاة حتى تلف المال فهل عليه ضمانها أو لا؟(1/53)
فيه خلاف يتفرع على خلافهم في هذه القاعدة فالذين يقولون إن الأمر يفيد الفور، قالوا : عليه ضمانها لأنه فرط بتأخيرها والمفرط ضامن ، والذين يقولون : لا يفيد إلا التراخي قالوا : لا ضمان عليه لأنه لم يفرط وإنما فعل ما يجوز له فعله .
والصواب الأول : أن عليه ضمانها لأنه فرط في تأخير إخراجها وقد أمره الله بإخراجها والأمر يفيد الفور .
ومنها : قضاء الصوم ، فإن الله تعالى قد أمر به في قوله تعالى { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } والأمر يفيد الفور فيجب إذاً على المكلف المبادرة بالقضاء ، إلا أنه دل الدليل الصحيح أن قضاء رمضان ليس على الفور وأنه يجوز فيه التراخي وهو حديث عائشة في الصحيح قالت : (( كان يكون عليّ الصوم من رمضان فلا أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني )) ومثل هذا الفعل لا يخفى على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما أقرها ولم ينكر عليها دل على أن الأمر في قوله تعالى { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } يفيد التراخي ، وعلى هذا يخرج هذا الفرع من الأصل بمقتضى القرينة الصارفة والله أعلم .
ومنها : إخراج كفارة اليمين فإن الله تعالى قد أمر بإخراجها بقوله { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ … } الخ الآية ، فإذا ثبت أنه أمر بها فإذاً يكون الأمر فيها للفور فينبغي إخراجها على الفور مع القدرة وعدم العذر فإذا أخرها بعد القدرة ولا عذر فمات فإنه يموت عاصياً لأنه أخر ما ليس له تأخيره ، وهذا هو الصواب . وأما الذين قالوا إن الأمر يفيد التراخي فإن إخراج الكفارة عندهم على التراخي ، متى أخرجها أجزأه ولو مات ولم يخرجها فإنه لا يأثم ، ولكن القول الأول أصح لأن الأمر يفيد الفور .(1/54)
ومنها : نذر الطاعة إذا لم يحدد له وقتاً كأن يقول : لله عليّ أن أصلي أو أتصدق أو أحج أو أعتمر ونحوها ، فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوفاء به في قوله (( من نذر أن يطيع الله فليطعه )) فلما ثبت أنه أمر بالوفاء بنذر الطاعة فالذي ينبغي المبادرة بامتثاله والبراءة منه ولا يجوز التأخير لأن الأمر في قوله (( فليطعه )) يفيد الفور فمن نذر أن يطيع الله ولم يحدد وقتاً فليطعه الآن مع صلاحية الوقت والقدرة فلو أخره بعد القدرة والتمكن فمات فإنه يموت عاصياً على الصحيح لأن الأمر يفيد الفورية .
ومنها : لو قال لوكيله بع هذه السلعة فتأخر في بيعها فتلفت عنده فهل يضمن ، على قولين : من قال بأن الأمر للتراخي قال : لا يضمن ، ومن قال للفور قال : بأنه يضمن لأنه مفرط في التأخير وهو الراجح إن شاء الله ، فهذا هو الكلام على القاعدة الأولى وهي أن الأمر المطلق عن القرينة يفيد الفورية .
وأما الثانية : فهي قولنا (لا التكرار) ونصها هو : " الأمر المطلق عن القرينة لا يفيد التكرار "
وبيانها أن يقال : اعلم رحمك الله تعالى أن الأمر لا يخلو من ثلاث حالات : إما أن يقترن به ما يفيد التكرار فهو محمول عليه كقوله - صلى الله عليه وسلم - : " خمس صلوات في اليوم والليلة " فالأمر في قوله تعالى : { أَقِيمُوا الصَّلاةَ } يفيد التكرار لوجود القرينة الدالة على ذلك وكالأمر بغسل نجاسة الكلب سبعاً ، والأمر بغسل اليد عند القيام من النوم ثلاثاً ، والأمر بالاستجمار بثلاثة أحجار.(1/55)
والحالة الثانية : أن يرد دليل مرتبط بالأمر يدل على إفادة المرة الواحدة فقط فهذا يحمل على ما دل عليه من الوحدة ، مثال ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( الحج مرة فمن زاد فهو تطوع )) فإن هذا التقييد أفادنا أن الأمر بالحج في قوله تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله كتب عليكم الحج فحجوا )) أن هذا الأمر يفيد المرة الواحدة لأنه اقترن بما يدل على المرة الواحدة ، إذا علمت هذا فاعلم أن هاتين الحالتين لا تعلق لهما بما نحن بصدد شرحه لأن القاعدة ليست تبحث في الأوامر التي دل الدليل على إفادتها التكرار ولا فيما دل الدليل على إفادتها للمرة الواحدة ، وإنما البحث هنا في صيغ الأمر التي وردت مطلقة عن القرائن المفيدة لأحد الأمرين ، فهذه الأوامر المطلقة عن القرائن هل تفيد التكرار أو لا تفيده ؟ هذا هو ما تجيب عنه هذه القاعدة وهي قولنا (لا التكرار) أي أن هذه الأوامر المطلقة عن القرائن لا تفيد التكرار ، ومعنى أنها لا تفيد التكرار أي أن المكلف يخرج من عهدة الأمر بها بفعلها مرةً واحدة ، فإذا فعلها مرةً واحدة برئت ذمته وخرج من عهدة المطالبة بها ، هذا هو القول الصحيح وهو مذهب أكثر الحنفية والظاهرية ورواية عن الإمام أحمد واختارها من أصحابنا ابن قدامة في الروضة وأبو الخطاب في التمهيد بل ونسب هذا القول إلى أكثر العلماء والمتكلمين ، واختاره الإمام الشنقيطي وغيره من المحققين ، وهو الذي تقتضيه الأدلة التي سيأتي تحقيقها إن شاء الله تعالى ، وذهب القاضي أبو يعلى من أصحابنا إلى أنه يفيد التكرار ونقله ابن القصار عن مالك وهو قول بعض الشافعية كالأستاذ أبي إسحاق الاسفراييني وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى ، وهو قول جماعة من الفقهاء والمتكلمين ، المعتمد في تقرير القاعدة هو أنه لا يفيد التكرار وهو الراجح للأدلة(1/56)
التالية :
منها : أن صيغة الأمر المجردة لا دلالة فيها على عددٍ معين لا مرة ولا أكثر من ذلك ، وإنما فيها مطلق الأمر ، فهي إنما تقتضي حصول ماهية الفعل أي كنهه فقط من غير تعرض لا لمرةٍ ولا أكثر فلا دليل فيها على كمية الفعل ، فإنه إذا قال له : (صَلِّ) فإنما اقتضى ذلك إيقاع حقيقة الصلاة لا على عددٍ معين حتى يجب لأجله التكرار ، فالمطلوب إذاً من صيغة الأمر المجردة هو تحقيق ماهية الفعل وحقيقته ، وماهيته تحصل بفعله مرةً واحدة فلا يجب ما زاد عليها إلا بدليل وهذا هو المراد بقولنا (لا يفيد التكرار) .
ومن الأدلة أيضاً : وضع اللغة فإن السيد لو قال لعبده : ادخل الدار ، فدخل ثم خرج لكان العبد ممتثلاً لأمر السيد بالدخول ، لأن قد طلب منه مطلق الدخول وقد دخل أي أنه امتثل أمر السيد بالدخول فلا يحسن من السيد لومه على عدم دخوله مرة ثانية وثالثة ورابعة ، بل لو لامه على ذلك لأنكر عليه العقلاء ولقالوا إنك أمرته بالدخول وقد دخل ، ولا دلالة في صيغتك على عددٍ معين ، وإنما طلبت منه تحقق ماهية الدخول وقد امتثل العبد ذلك بدخوله مرةً واحدة ، فلا يحسن لومه ولا توبيخه ، وما ذلك إلا لأن الأمر المجرد عن القرائن لا يفيد التكرار .(1/57)
ومن الأدلة أيضاً : قياس الأمر المطلق على اليمين والنذر، وبيان ذلك أنه لو قال: والله لأصومن ، فهذا إلزام لنفسه بالصيام فيخرج من عهدة اليمين عند عقلاء بني آدم بصيام يوم واحد فقط ، فلم يقل أحد هنا بأن اليمين هذه تقتضي التكرار ، فليقل ذلك أيضاً في الأمر المجرد عن القرينة بجامع الإلزام والإيجاب في كلٍ ، فإن ما وجب باليمين كالذي يجب بالشرع وخاصة إذا كان المحلوف على فعله عبادة ، فإذا كان إلزام الإنسان نفسه عبادةً باليمين على فعلها لا يفيد التكرار فكذلك إلزام الشارع له بهذه العبادة بالأمر بها لا يفيد التكرار ، ومثل ذلك يقال في النذر فإنه لو قال : لله علي أن أصوم ، لخرج من عهدة هذا النذر عند العقلاء بصوم يومٍ واحدٍ فقط ، فلا يفيد التكرار هنا فكذلك لا يفيده أيضاً بالأمر المجرد لأن الواجب بالنذر كالواجب بالشرع ، فإذا كان لا يفيد التكرار في النذر علمنا أنه لا يفيده أيضاً بالأمر الشرعي المجرد عن القرائن .
ومن الأدلة أيضاً : أن العقلاء لو رأوا عبداً يدخل الدار ويخرج ثم يدخل ويخرج ثم يدخل ويخرج فسألوه عن سبب هذا الدخول المتكرر فقال : سيدي قال لي : ادخل الدار ، لما تردد واحد منهم في أن العبد أساء الفهم وأخطأ في هذا التصرف ،ولقالوا له : إنما أمرك بالدخول ولم يأمرك بتكرار الدخول ، وأنت امتثلت الدخول بالمرة الأولى فيبقى دخولك الثاني والثالث والرابع لا فائدة فيه ولم تؤمر به ، مما يدل على أن الأمر المطلق لا يفيد التكرار ودلالة الوضع اللغوي مهمة جداً .
ومن الأدلة أيضاً : قياس الأمر المجرد على الوكالة في الطلاق ، فإن الزوج لو قال لوكيله : طلق زوجتي ، فقد أمره بطلاق زوجته ومع ذلك فالوكيل لا يملك إلا طلقة واحدة ، فإذا طلق الوكيل مرةً واحدة انتهت وكالته فليقل ذلك في الأمر المطلق بجامع الأمرية في كلٍ ، فكما أن الأمر في الوكالة لا يفيد إلا المرة فكذلك الأمر المجرد لا يفيد إلا المرة ، والله أعلم .(1/58)
ومن الأدلة أيضاً : أن الرجل لو أخبر عن نفسه وقال : صمت ، فإنه يكون صادقاً بصوم يومٍ واحدٍ ، ولو قال : سوف أصوم ، صدق بصوم يومٍ واحدٍ فقط ، فهذا يدل على أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار ولو كان يقتضيه لما صدق إلا بصوم الأيام كلها وهذا واضح .
إذا علمت هذا فاعلم أنه يشكل على هذا المذهب الراجح بعض الإشكالات التي أوردها الفريق الآخر القائلون بأن الأمر المطلق يقتضي التكرار ، فمن ذلك : حديث ابن عباس عند مسلم في وجوب الحج وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله فرض عليكم الحج فحجوا ، فقام رجل قال : أفي كل عامٍ يا رسول الله ، فقال : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ، الحج مرة فمن زاد فهو تطوع )) ووجه الإشكال أن الأمر في قوله ((فحجوا)) لو كان لا يفيد إلا المرة الواحدة لما حسن سؤال الأقرع بن حابس - رضي الله عنه - أعني قوله (أفي كل عامٍ يا رسول الله)، لكن لما كان لا يفيده حسن السؤال منه ، والأقرع من فصحاء العرب ، فدل سؤاله أنه لم يكن يفهم أن الأمر المجرد لا يفيد التكرار فكيف تقولون إنه لا يفيد التكرار ، فإنكم بهذا تكونون قد فهمتم شيئاً لم يفهمه الأقرع - رضي الله عنه - ، كذا قالوا ، وهو كلام مهزول ضعيف لا تقوم به حجة ، وبيان ذلك من أمور:
الأول : أن الأقرع لم يفهم من الأمر التكرار أيضاً ، أعني أن الدليل يرد على قولكم كما يرد على قولنا ، فنقول : سلمنا أن الأقرع سأل عن المراد بالأمر لأنه لم يفهم إفادته للمرة الواحدة ، لكن أيضاً سؤاله دليل على أنه لم يكن يفهم أنه للتكرار كما تقولون إذ لو كان الأقرع يفهم من الأمر المطلق التكرار فلماذا يسأل عن إفادته التكرار ، ففي الحقيقة أن حديث ابن عباس هذا يرد على كلا المذهبين هذا مع التسليم .(1/59)
الثاني : أن من تدبر إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد أن هذا الحديث دليل لنا لا لكم وبيان ذلك أنه قال ((فحجوا)) ثم قال الأقرع (أفي كل عام) فقال عليه الصلاة والسلام (( لو قلت نعم لوجبت )) أي لوجب تكرارها بقوله ((نعم)) أي لو أجاب الأقرع بنعم لأفاد التكرار ، فدل ذلك على أن الأمر في قوله ((فحجوا)) لا يفيد التكرار ، لأنه لو كان يفيد التكرار لقال يا أقرع نعم الحج في كل عام لكن يكفيك مرة وما زاد فهو تطوع ، لكنه قال ((لو قلت نعم)) وحرف (لو) في اللغة حرف امتناع لامتناع ، أي لما لم يقل ((نعم)) امتنع التكرار فالتكرار مستفاد من قوله ((نعم)) لكنه لم يقله فلا تكرار إذاً ، فإذا انتفى التكرار بانتفاء قول (نعم) بقينا على دلالة الأمر في قوله ((فحجوا)) ولذلك قال مبيناً لهذه الدلالة في آخر الحديث ((الحج مرة فمن زاد فهو تطوع)) وهذا حقه أن يكون في سياق الأدلة لمذهبنا لكن الغفلة عنه أوجبت تأخيره فالله المستعان .
فإن قلت : فإذا كان الأمر كذلك والأمر في قوله ((فحجوا)) لا يفيد التكرار فلماذا يسأل الأقرع هذا السؤال ؟ ولماذا لم يكتف بدلالة الأمر الأول ؟ فما الداعي لسؤاله هذا ؟
فنقول : لعل الأقرع أراد زيادة الاحتياط لدينه ولم يكتف بالوضع اللغوي بل أراد أن يسمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم - ليزول الإشكال وينتفي الاحتمال ، وهذا من الاحتياط المطلوب شرعاً ، وما العيب في هذا ؟ أو لعل الأقرع نظر إلى الفرائض المشروعة ووجدها متكررة فالصلاة تتكرر كل يومٍ وليلة والزكاة كل سنة والصيام كل سنة فغالب الفرائض متكررة إما في اليوم وإما في السنة فلما سمع الأمر بالحج والحج يتكرر موسمه كل عام ظن - رضي الله عنه - أنه كالصيام ونحوه ، فأراد إزالة هذا الظن بالسؤال ، فسأل فأجيب ، فهذا بالنسبة للإشكال الأول والجواب عليه .(1/60)
وقالوا : ألستم تقولون إن النهي يقتضي التكرار أي إذا نهيت عن شيء فعليك تركه أبداً ولا يكفيك تركه في زمن دون زمن فالنهي يفيد التكرار ، والأمر كالنهي فكما أن النهي يفيد التكرار فكذلك الأمر يفيد التكرار ، لأن القول فيهما واحد .
فنقول : أبداً هذا ليس بصحيح وقياسكم الأمر على النهي في هذه المسألة قياس مع الفارق ، وذلك لأنك إذا نهيت عن شيء فإنه لا يتصور امتثالك له إلا بتركه مطلقاً في جميع الأزمان ، فإنك إن فعلته مرة لا تعد ممتثلاً له ، فهو يتصور من إيجاده مرةً واحدة ، وقياس ما امتثاله يتحقق بمرةٍ واحدة على ما لا يتحقق امتثاله إلا بالترك المطلق قياس غير صحيح وأيضاً فإن المطلوب في النهي هو الترك والتكرار فيه لا مشقة فيه ، وأما الأمر فإن المطلوب فيه فعل والتكرار فيه يوجب المشقة ، وأصول الشريعة ترفع المشقة والحرج عن المكلفين ، فالقول بأن الأمر المجرد لا يفيد التكرار قول متوافق مع أصول الشريعة ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة .
إذا علمت هذا تحقق لديك إن شاء الله تعالى أن الراجح من خلاف الأصوليين في هذه المسألة هو ما اعتمدناه في هذه القاعدة ، ولم يبق فيها إلا ذكر بعض الفروع عليها لتتضح أكثر فأقول :(1/61)
من الفروع عليها : اختلاف العلماء رحمهم الله تعالى في إعادة التيمم لكل صلاة فهل يلزم إعادة التيمم عند القيام لكل صلاة أو يجوز أن يصلي بالتيمم عدة صلوات كما أنه تجوز الصلوات الكثيرة بوضوءٍ واحد ؟ هذا فيه خلاف بين العلماء ، فقال بعضهم : إنه يجب إعادة التيمم لكل صلاة وهو المشهور من مذهبنا وقال به جمع من العلماء واستدلوا بدليلين ، الأول : قوله تعالى { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا … إلى قوله … فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } فقد أمر الله بشيئين عند القيام إلى الصلاة : أحدهما أصلي والآخر بدلي ، فالأصلي هو الوضوء ، والبدلي هو التيمم ، وقد خرجا بصيغة الأمر في قوله { فَاغْسِلُوا } وفي قوله { فَتَيَمَّمُوا } وعلق ذلك الأمر بالقيام إلى الصلاة ، والأمر يفيد التكرار . فنقول : يجب الوضوء عند كل صلاة ، ويجب التيمم عند كل صلاة أيضاً.
لكن جاءنا دليل يخرج وجوب الوضوء عند كل صلاة وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد كما في حديث عمر بن أمية الضمري ، بل وفي حديث آخر أن عمر قال له : " لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه " فقال : (( عمداً فعلته )) فخرج الوضوء بهذا الدليل لكن بقي التيمم لم يأت دليل يخرجه عن الوجوب عند كل صلاة فالأمر به يفيد تكراره عند كل قيامٍ للصلاة .
الدليل الثاني : حديث ابن عباس مرفوعاً وموقوفاً : " من السنة أن لا يصلى بالتيمم إلا صلاة واحدة ويتيمم للصلاة الأخرى " وعلى تقدير أنه موقوف فهو في حكم المرفوع، لأن الصحابي إذا قال من السنة كذا فله حكم الرفع فهذان دليلان على وجوب إعادة التيمم عند كل صلاة أعني الصلاة المفروضة .(1/62)
وقال بعض أهل العلم : لا يلزم إعادته ما لم يحدث بل له أن يصلي الصلوات الخمس بتيمم واحد وذلك لأمور : الأول : القياس على الوضوء لأن التيمم بدل له والبدل يأخذ حكم المبدل إلا ما دل الدليل على خلافه ، ومن أحكام الوضوء أنه يجوز أن تصلي بالوضوء الواحد جميع الصلوات فكذلك التيمم ، وأما الآية فإن فيها الأمر بالتيمم والأمر لا يفيد التكرار وأما حديث ابن عباس فليس يصح من جهة سنده بل هو ضعيف جداً ، فقد ضعفه المحققون العارفون بالعلل ، والأحكام الشرعية لا تثبت بمثله ، وهذا القول هو الراجح وهو اختيار أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى وذلك لأن الأمر لا يقتضي التكرار كما رجحنا سابقاً وأما الحديث فسبق الجواب عنه ، والله أعلم .
ومنها : لو قال لوكيله: طلق زوجتي ، فكم يملك الوكيل من الطلقات؟
فيه خلاف بينهم ، فقال بعضهم : يملك الوكيل جميع ما يملكه موكله من الطلقات، والموكل يملك الثلاث فكذلك وكيله ولأنه أمره بالطلاق والأمر يفيد التكرار ، فللوكيل أن يطلق واحدة واثنتين وثلاثاً ، وقال بعضهم : بل لا يملك إلا طلقة واحدة لأن الأمر لا يفيد التكرار وإنما المراد إيقاع الطلاق من غير تعرضٍ لعدده ، وقد وقع بالطلقة الأولى ، فتبقى الطلقات الزائدة لا وكالة فيها فتكون لاغية لأنها وقعت ممن لا يملك حل العقد وهذا هو القول الراجح إن شاء الله تعالى ، لكن لو قال له : طلق زوجتي ثلاثاً ، فهذا لا إشكال في إفادته للتكرار لوجود القرينة وهي قوله (ثلاثاً) ، والله أعلم .
ومنها : الأمر بالعمرة في قوله تعالى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله : (( وتحج وتعتمر )) ، وحديث : (( عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة )).(1/63)
فنقول : أما الأمر بالحج فقد ورد ما يفيد أنه مرةٌ واحدةٌ كما مضى ، وأما الأمر بالعمرة فلم يأت ما يفيد المرة الواحدة ولا التكرار ، فالأمر بها أمر مجرد عن القرائن ، فالصواب إذاً أن الإنسان يخرج من عهدة الأمر بها إذا فعلها مرةً واحدة ، لأن الأمر المجرد عن القرينة لا يقتضي التكرار هذا على القول بوجوبها ، فإذا قلنا بوجوبها فتبرأ الذمة ويسقط الطلب بفعلها مرةً واحدة ، وأما على القول بأن الأمر يفيد التكرار فلا تبرأ الذمة إلا بفعلها دائماً مع الإمكان لكن الراجح ما قدمت لك لهذه القاعدة .
ومنها : تكرار الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما ذكر وذلك لأن الله تعالى أمرنا بالصلاة عليه في قوله : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } فالأمر في قوله { صَلُّوا عَلَيْهِ } هل يفيد التكرار أو لا ؟
فيه خلاف ، فقال بعضهم : نعم يفيد التكرار فتجب الصلاة عليه كلما ذكر ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي )) وقوله : (( رغم أنف امرئٍ ذكرت عنده فلم يصل عليك ، قل آمين ، فقال : آمين )) .
وقال بعضهم : بل الأمر في قوله { صَلُّوا عَلَيْهِ } لا يفيد التكرار ، فيخرج الإنسان من عهدته بفعله مرةً واحدة في عمره ويبقى ما عداه على سبيل الاستحباب لا الوجوب ، وهذا هو الراجح في نظري إن شاء الله تعالى لهذه القاعدة ، وأما الأحاديث الأخرى فإنها تدل على تأكد الاستحباب لا الوجوب ، والله أعلم .(1/64)
ومنها : لو قال لوكيل البيع : بع هذه السلعة فباعها ، فردت لعيبٍ فيها فهل يجوز للوكيل أن يبيعها مرةً أخرى ؟ هذا يتفرع على هذه القاعدة ، وفيه خلاف مبناه هذه القاعدة ، فمن قال : إن الأمر يقتضي التكرار ، قال : نعم يبيعها مرةً أخرى لأن الأمر في قوله (بع هذه السلعة) يفيد التكرار ، ومن قال : لا يفيد التكرار قال : لا حق له في البيع الثاني إلا بأمر جديد لأن الأمر في قوله (بع) لا يفيد التكرار وهذا هو الراجح عندنا إن شاء الله تعالى لهذه القاعدة ، ولأنه الأحوط في أموال الناس ، والله أعلم .
ومنها : تكرار الغُسْل من الجنابة ، هل يسن فيه التثليث أو السنة تعميم البدن بالماء مرةً واحدة فقط ؟ فيه خلاف ، وبيان ذلك أن الله تعالى قال : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } فأمر بالتطهر إذا تحقق وصف الجنابة ، والمراد بالتطهر هنا الاغتسال أي أمر بالاغتسال عند الجنابة ، فقال بعض العلماء وهو رواية في المذهب عندنا : أن السنة تكرار الغسل ثلاث مرات ، وأظن أنهم استدلوا على ذلك بأمرين :
الأول : قاسوه على الوضوء فالتثليث مستحب في الوضوء فكذلك في الغسل بجامع أن كلاً منهما طهارة واجبة .
والثاني : أن الأمر المطلق يفيد التكرار ، فالأمر في قوله { فَاطَّهَّرُوا } يفيد التكرار ، وقال أكثر العلماء : بل السنة الاقتصار في الغسل على مرةٍ واحدة وذلك لأمور :
الأول : أن الأمر في قوله { فَاطَّهَّرُوا } لا يفيد التكرار لأن المطلوب هو تعميم البدن بالماء وهو حاصل بالمرة الأولى .(1/65)
الثاني : أن هذه الآية فيها بيان من النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لما اغتسل من الجنابة لم يفض الماء على بدنه إلا مرةً واحدة إلا الرأس فقد أفاض عليه ثلاثاً كما في حديث ميمونة وعائشة رضي الله عنهما ، أما قياسكم الغسل على الوضوء فهو قياس فاسد لأنه قياس مع الفارق ، وأما استدلالكم بالقاعدة فإن الصواب فيها هو أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار ، وهذا القول أعني الاقتصار في الغسل على مرة واحدة إلا غسل الرأس هو القول الراجح وهو اختيار أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى .
ومنها : تكرار غسل النجاسات ، فإذا وقعت النجاسة على شيءٍ طاهر فقال الحنابلة وغيرهم إنه يجب غسلها سبعاً ، وهذا هو المشهور ، وعندنا رواية أنها تغسل ثلاثاً، وموجب التكرار أمران : أن الشارع أمر بغسل النجاسات والأمر يفيد التكرار ، ولأن ابن عمر قال : " أمرنا بغسل النجاسات سبعاً " وقال بعض العلماء وهو رواية ثالثة في المذهب أن النجاسة تكاثر بالماء حتى تذهب عينها من غير تعرض لعدد ، وجعلوا على ذلك ضابطاً وهو أن الأصل ألا يُحَدَّ غسل النجاسة بعددٍ إلا بدليل ، لأن الأصل في الأمر المجرد أنه لا يفيد التكرار ، وأما حديث ابن عمر فليس بحديث إذ لا يعرف له سند فلا أصل له ، وأما قياس سائر النجاسات على نجاسة الكلب فهو قياس مع الفارق ، ولا أعلم دليلاً في الدنيا يدل على تحديد غسل النجاسات بعددٍ إلا في نجاستين : في غسل نجاسة الكلب سبعاً إحداها بتراب ، وفي إزالة الخارج من السبيل بثلاثة أحجار منقية ، هذا ما أعرفه ، فيبقى سائر النجاسات تغسل بالماء حتى تزول عينها من غير تعرضٍ لعدد لأن الأمر لا يقتضي التكرار وهذا القول هو الراجح وهو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله
ومنها : مسح الرأس في الوضوء ، فإن الله تعالى قد أمر بمسحه فقال جل وعلا { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } فهل يشرع تكرار مسحه أو لا ؟(1/66)
فيه خلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى ، فقال بعضهم : نعم يشرع تكرار مسحه ثلاثاً ، لأن الأمر يقتضي التكرار ولحديث (( توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً ثلاثاً )) وقياساً على سائر الأعضاء . وقال بعضهم : بل السنة فيه مسحة واحدة تأتي على جميعه وذلك لأن الأمر في قوله { وَامْسَحُوا } لا يفيد التكرار وإنما أمر بالمسح وهو حاصل بالمرة ، ولأن السنة بينت ذلك ففي حديث علي في صفة الوضوء قال : (( ومسح برأسه واحدة)) وفي حديث عبد الله بن زيد (( ثم مسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر مرةً واحدةً )) وأما حديث (( توضأ ثلاثاً ثلاثاً )) فهو مجمل قضى عليه البيان النبوي ، وأما قياس الرأس على سائر الأعضاء ففاسد الاعتبار لمصادمته للنص ولأنه مع الفارق إذ الرأس ممسوح وباقي الأعضاء مغسولة .
والضابط عندنا أنه لا تكرار في الممسوح ، واختار هذا القول أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى ، وهو مذهب الحنابلة ، وهو القول الراجح والله أعلم.
ومنها : تكرار المسح في التيمم فقد قال به بعض أهل العلم لأن الأمر في قوله تعالى { فَتَيَمَّمُوا } يفيد التكرار ولحديث ابن عمر " التيمم ضربتان ، ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين " ، وقال بعضهم : بل السنة المسح مرةً واحدة لبيان السنة كما في حديث عمار في الصحيحين ، وأما حديث ابن عمر فالصواب وقفه لا رفعه ، وقد خالفه غيره من الصحابة ، وأما قولهم الأمر في قوله { فَتَيَمَّمُوا } يفيد التكرار فليس بصحيح ، فالأمر لا يقتضي التكرار وهذا هو الراجح أن التيمم ضربة واحدة يمسح بهما ظاهر كفيه ووجهه والله أعلم .
فهذه بعض الفروع التي ظهرت بالتأمل ولم أر كثيراً منها في كتب الأصول ، وإنما هو توفيق الله وفتحه ، فاللهم اغفر للعلماء مغفرة واسعة وارفع نزلهم واجمعنا بهم في جناتك جنات النعيم .
القاعدة السادسة
( الأمر المعلق على شرطٍ أو صفة
هما علته يتكرر بتكررهما )(1/67)
وهذا هو فصل الخطاب في الخلاف في ذلك ، وهو جزء من القاعدة السابقة ولكن لأهميته أفردته بالذكر في قاعدة مستقلة وهذا النوع من الأمر ليس هو الأمر المجرد الذي قد تقدم البحث فيه وقلنا أنه لا يفيد التكرار ، بل هذا الأمر وجدت فيه قرينة تدل على التكرار وهي تعليقه بالشرط والصفة ، لكن ينبغي لك قبل البحث في فروعها الكثيرة أن نعرف شيئاً من قيودها فأقول:
إن الأمر إذا علق على شرطٍ أو صفة فلا يخلو من حالتين : إما أن يكون هذا الشرط وهذه الصفة هي علته التي لا تنفك عنه ولا ينفك عنها إذا توفرت شروطها وانتفت موانعها ، وإما لا . فإن كان هذا الشرط والصفة هما علة الأمر فإن هذا هو ما نعنيه في هذه القاعدة وهو المراد شرحه ، وأما الشرط والصفة التي لا تعلق لها بالعلة فهذا لا يفيد التكرار ولاشك ولذلك قلنا في القاعدة (هما) أي الشرط والصفة (علته) أي علة الأمر وسببه الذي لا يتخلف عنه مع كمال شروطه وانتفاء موانعه .
فإذاً يتلخص من هذا أن الأمر المعلق على الشرط والصفة يفيد التكرار إن كانت هي علته ، ولا يفيد التكرار إن كان لا مدخل لهما في العلة .
إذا علمت هذا فإليك بعض الفروع المهمة فقط من باب الإشارة فأقول :
منها : قوله تعالى { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } فعلق الأمر في قوله { فَاطَّهَّرُوا } بوجود الجنابة ، والجنابة شرط لوجوب الغسل فهي كالعلة له ، فإذا وجدت الجنابة وجد الغسل ، وإذا انتفت الجنابة انتفى الغسل إلا بسببٍ آخر لأن أسباب الغسل كثيرة ، فتعليق الأمر بالغسل على وجود الجنابة هنا يفيد التكرار كلما تكرر شرطه لأن الشرط هنا كالعلة في الأمر ، وعلى ذلك لو خرج المني دفقاً بلذةٍ وجب الغسل لتحقق الشرط فإذا اغتسل ثم خرج بعد الغسل مني آخر ، فهل يلزم الغسل أو لا ؟(1/68)
الصواب أن هذا المني الآخر إن كان دفقاً بلذة فهو جنابة جديدة فيتطلب لها غسل آخر ، وإن كان بلا شهوة فهو بقية المني الأول والمني الواحد لا يوجب غسلين ففيه الوضوء فقط . فقلنا هنا يعيد الغسل في الحالة الأولى لأن الشرط تكرر فتكرر الأمر ، وأعني بالشرط الجنابة وأعني بالأمر الأمر بالتطهر ، والله أعلم .
ومنها : إذا سمع الإنسان مؤذناً فإنه يجيبه لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن )) متفق عليه ، لكن ما الحكم إذا سمع مؤذناً آخر لنفس الوقت وقبل الصلاة فهل يجيبه أو لا ؟
نقول : فيه خلاف والصواب أنه يجيب مؤذناً ثانياً وثالثاً ورابعاً وهكذا وذلك لأن الأمر في قوله " فقولوا " يفيد التكرار لأنه علق على شرط وهو قوله "إذا سمعتم" والشرط هنا علة للأمر والأمر المعلق على شرط هو علة له فإنه يتكرر بتكرر شرطه ، فكلما تكرر السماع تكررت الإجابة واختاره أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى .
ومنها : تكرار تحية المسجد كلما تكرر الدخول للمسجد ، فهذا فيه خلاف بين أهل العلم والصواب أن من دخل المسجد للجلوس فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ولو أنه خرج بنية الرجوع وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس )) فالأمر في قوله ((فليركع)) أمر معلق على شرطٍ وهو قوله ((إذا دخل)) وهذا الشرط هو علة الأمر ، والأمر المعلق على شرطٍ هو علته يتكرر بتكرر شرطه ، ولأنهما تحية للمسجد ومن خرج عن قومٍ ولو يسيراً ثم رجع إليهم فيسن السلام عليهم ولو لم يطل الفصل ولو بنية الرجوع لأنها تحيتهم ، فكذلك تحية المسجد تتكرر كلما تكرر الدخول .(1/69)
لكن من تكرر دخولهم للمسجد كعمال النظافة ونحوهم فهؤلاء قد يشق عليهم تكرار التحية كلما تكرر دخولهم وخصوصاً على القول بوجوبهما ، أما مع القول بالاستحباب فلا مشقة لجواز الترك ، فحينئذٍ ينظر لهؤلاء بنظرٍ خاص وهو الاكتفاء بالركعتين في أول دخولٍ لأن تكرارها عليهم فيه مشقة والمشقة تجلب التيسير وإذا ضاق الأمر اتسع ، لكن يبقى غيرهم ممن لا يكثر تكرر دخوله للمسجد على تكرر الأمر في حقه كلما تكرر شرطه ، والله أعلم .
ومنها : تكرر القطع كلما تكررت السرقة ، ذلك لأن الله تعالى قال: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } فالأمر في قوله { فَاقْطَعُوا } قد علق على صفة هي علة فيه وهي وصف السرقة ، فهو إذاً يقتضي التكرار كلما تكرر هذا الوصف لأنه علة فيه والحكم يتكرر بتكرر علته وخالف في ذلك بعض العلماء فقالوا : بل إذا قطع المرة الأولى ثم سرق فإنه لا يقطع وإنما يعزر بما يراه الإمام ، لكن الصواب هو تكرر القطع بتكرر السرقة ، فمن سرق في المرة الأولى فإنه تقطع يده اليمنى بالإجماع وفي قراءة شاذة { فاقطعوا أيمانهما } وهو عمل الخلفاء الراشدين .
ومن سرق في المرة الثانية فاختلف القائلون بالقطع ، فقال عطاء : " تقطع يده اليسرى " ، لكن الصواب أنه تقطع رجله اليسرى لما روي عن عمر ولا يعرف له مخالف من الصحابة ، ونقل بعضهم الإجماع عليه، لكن دعوى الإجماع لا تصح لثبوت الخلاف ، وهو قول أكثر الفقهاء .(1/70)
ثم إذا سرق ثالثاً ، فقيل تقطع يده اليسرى عملاً بالأمر لأنه يقتضي التكرار لتكرر الوصف ، وقال بعضهم : إذا سرق الثالثة فلا قطع عليه وإنما يعزر بالجلد أو الحبس ونحوهما ويستدلون بفعل علي - رضي الله عنه - وهو أثر مشهور وكان على محضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد فكان مثل الإجماع ، ولعل هذا الرأي هو الأقرب لا لأن الأمر لا يقتضي التكرار بتكرر الوصف وإنما لإجماع الصحابة السكوتي وهو من الحجج الظنية ، ولأنه أرفق بالسارق فإننا لو أتينا على أطرافه الأربعة لتعطل عن منافعه ولذلك قال علي - رضي الله عنه - ما قال ، والله أعلم.
ومنها : من زنى فأقيم عليه الحد ثم زنى لزمه حد آخر لأن الأمر في قوله : { فَاجْلِدُوا } معلق على صفة وهي قوله : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } وهذه الصفة هي علة له ، لكن ما الحكم إذا زنى مراراً ولم يقم عليه الحد ، فهل يكفي في الجميع حد واحد ؟ أو يلزم لكل زناً حد مستقل ؟ فيه خلاف والراجح هو الأول لأن الحدود إذا كانت من جنس واحدٍ فإنها تتداخل وقد شرحنا طرفاً منها في موضعٍ آخر ، والله أعلم .
ومنها : لو قال لزوجه : إن دخلت الدار فأنت طالق ، فدخلت مرةً وقعت عليها طلقة ، لكن ما الحكم لو خرجت ثم دخلت مرةً أخرى ، فهل تطلق ثانية وهكذا أو لا ؟
الجواب : فيه خلاف والصواب أنها لا تطلق ، لأن الإنشاء في قوله (أنت طالق) معلق على شرط وهو دخول الدار ، لكن هذا الشرط ليس علة في الطلاق فلا علاقة بين الطلاق ودخول الدار فإذاً لا يتكرر الطلاق بتكرر الدخول لأننا اشترطنا في الشرط والصفة اللذين علق عليهما الأمر أن يكونا علة في الحكم لا تفارقه عند توفر شروطها وانتفاء موانعها ، والله أعلم .
ومنها : لو قال : إن جاء زيد فأعتق عبداً ، فجاء زيد فبمجيئه يحصل العتق ، لكن لو جاء ثانية وثالثة فهل يتكرر العتق كلما تكرر مجيئه ؟(1/71)
الجواب : لا يتكرر بل العتق يحصل في المجيء الأول لا غير ، لأن الأمر هنا علق على شرطٍ ليس هو علة فيه إذ لا علاقة بين مجيء زيد وبين العتق فلا يتكرر العتق بتكرر المجيء ، والله تعالى أعلم .
(تنبيه) اعلم أن هناك بعض صيغ الشرط تدل على التكرار بوضعها اللغوي وهو كلمة (كلما) كقولك كلما دخلت الدار فأنت طالق فهنا يتكرر الطلاق بتكرر الدخول ، ولو قال : كلما جاء زيد فأعتق عبداً فيتكرر العتق بتكرر المجيء ، وقلنا بالتكرار هنا لأن الأمر علق على شرط يفيد التكرار بوضعه اللغوي .
فإن قلت : قد طال الكلام فأعطنا الخلاصة .
فأقول : خلاصة الكلام أن يقال : إذا علق الأمر على شرط فلا يخلو من ثلاث حالات : إما أن يدل الشرط على التكرار بوصفه فيفيد التكرار .
وإما أن يكون علة في الحكم فيفيد التكرار .
وإما لا هذا ولا هذا فلا يفيد التكرار ، والله أعلى وأعلم .
القاعدة السابعة
( الزيادة على النص ليست نسخاً )
وهذا هو الراجح وهو مذهب جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى من المالكية والشافعية والحنابلة ، والمراد بقولنا (الزيادة) أي من السنة الآحادية ، وقولنا (على النص) أي القرآن ، وبيان معناها أن يقال : إذا ورد حكم في القرآن الكريم ثم وردت السنة بالزيادة فيه زيادةً هي كالجزء أو الشرط أي أن السنة الآحادية أضافت حكماً أو شرطاً على ما ثبت بالقرآن ، فهل تكون هذه الزيادة ناسخة للقرآن ؟ أو زيادة من باب البيان فتقبل ؟ ومثال ذلك : أن حد الزاني البكر في القرآن هو أن يجلد مائة جلدة ، فمائة الجلدة هذه هي حد الزاني البكر في القرآن فجاءت السنة الآحادية فأضافت شيئاً آخر في حد الزاني البكر وهو التغريب عاماً ، فهذه هي الزيادة على النص ، أي أن السنة الآحادية أثبتت شيئاً زائداً على ما في القرآن ، فهل هذه الزيادة نسخ أو لا ؟(1/72)
فيه خلاف ، ومذهب الجمهور كما قدمنا لك أن هذه الزيادة ليست نسخاً بل هي بيانٌ لما في القرآن وإضافة شيءٍ جديدٍ له وليس هذا يسمى نسخاً ، وذهب الحنفية إلى أن هذه الزيادة نسخ للقرآن ، فلا تقبل وسوف يأتي دليلهم مع الجواب عليه إن شاء الله تعالى
إذا علمت هذا فإليك بحث هذه القاعدة بالتفصيل فأقول :
إذا زادت السنة على القرآن شيئاً فلا يخلو : إما أن لا تتعلق بالمزيد عليه ، أي أن القرآن يثبت حكماً وزادت السنة حكماً آخر لا تعلق له بالحكم الثابت بالقرآن كأن يثبت القرآن الصلاة وتأتي السنة بإثبات الحج أو الصوم مثلاً ، فهذه الزيادة ليست نسخاً باتفاق العلماء رحمهم الله تعالى ، فالسنة عند الجميع تثبت أحكاماً جديدة ليست في القرآن ، فهذه الحالة لا خلاف فيها ، وإنما الخلاف وقع في الحالة الثانية : وهي أن تزيد السنة على القرآن زيادةً تكون كالجزء أو كالشرط لما ثبت بالقرآن ، أي أن يثبت القرآن حكماً ثم تأتي السنة فتثبت شرطاً زائداً في هذا الحكم ، لم يتكلم القرآن عليه ، فهل هذه الزيادة نسخ أو لا ؟ هذه هي التي وقع فيها الخلاف ، وقدمنا أن الراجح هو قول الجمهور وهو نص هذه القاعدة وهي أن ما زادته السنة الآحادية على القرآن لا يعد نسخاً للقرآن بل يجري مجرى البيان والدليل على ترجيح هذا القول عدة أمور :
منها : أن حقيقة النسخ عند الأصوليين هو رفع الحكم الثابت بخطابٍ متقدم بخطابٍ متأخرٍ عنه ، وليس في هذه المسألة رفع لحكم وإنما فيها إضافة شيء جديد مع بقاء الحكم الثابت بالقرآن على حاله ، فليس هناك حكم ارتفع حتى نقول إنه نسخ .(1/73)
ومن الأدلة أيضاً : أن الذي ارتفع إنما هو البراءة الأصلية إذ أن الأصل عدم التكليف بهذا الحكم الجديد الذي ثبت بالسنة أي أن الأصل أن ذمة المكلف بريئة منه ، فلما ثبت بالسنة ارتفعت هذه البراءة الأصلية وعمرت الذمة به وبالاتفاق أن رفع البراءة الأصلية لا يسمى نسخاً لأن النسخ رفع للحكم الثابت بالخطاب الشرعي والبراءة الأصلية إنما ثبتت بالعقل لا بالحكم الشرعي فلا يسمى رفعها نسخاً ولأن القاعدة تنص على أن إعمال الدليلين واجب إذا أمكن ولا يصار للنسخ إلا مع تعذر الجمع ، والجمع بين القرآن والسنة الآحادية يمكن وهو جعل هذه الزيادة مبينة لما في القرآن ومضيفة له حكماً جديداً فإذا أمكن الجمع لم يجز القول بالنسخ .
ومن الأدلة : أنه لا يجوز إبطال شيء من كلام الشارع إذا أمكن إعماله وهنا يمكن إعماله ولأن القاعدة تنص على أن إعمال الكلام أولى من إهماله وعلى قول الحنفية فيه إهمال لكلام الشارع فإذا كان إهمال كلام سائر الناس لا يجوز مع إمكان إعماله فمن باب أولى ألا يهمل كلام الشارع مع إمكان إعماله وذلك بجعل السنة مبينة للقرآن لا مضادة له .(1/74)
فهذه هي أدلتنا على ما ذهبنا إليه . وقال الحنفية رحمهم الله تعالى : أما نحن فنرى أن الزيادة على القرآن نسخ ودليل ذلك أن الحكم المذكور في القرآن قبل الزيادة كان كافياً للمقصود منه مستقلاً بنفسه ، وبعد هذه الزيادة ارتفع استقلاله ولم يعد كافياً بمفرده فالزيادة نسخت استقلال الحكم القرآني ورفعته ورفعه هو النسخ عندنا فصارت الزيادة على القرآن نسخ له لا لأنها رفعت الحكم أصلاً وإنما رفعت استقلال الحكم فلم يعد كافياً لوحده كما كان قبل هذه الزيادة ، فإذا تقرر ذلك فنقول : - أي الحنفية – يجب حينئذٍ رد هذه الزيادة لأنها آحاد والقرآن متواتر والآحاد لا يقوى على نسخ المتواتر ، كذا قالوا – رحمهم الله تعالى – وأجاب الجمهور عن ذلك : بأن النسخ حقيقته رفع حكم شرعي ، وهنا لم يرتفع بهذه الزيادة حكم شرعي وإنما الذي ارتفع هو استقلال الحكم الشرعي ورفع الاستقلال لا يسمى نسخاً ، ولأن رفع الاستقلال لم يقصد أصلاً وإنما ارتفع تبعاً لا قصداً لأن من لوازم هذه الزيادة أن يرتفع الاستقلال ، فهي لم تقصد بالرفع فلا يكون رفعها نسخاً لعدم القصد .
ويلزم عليهم – رحمهم الله تعالى – أن الصلاة كانت هي الشعيرة الوحيدة قبل فرض الصوم والزكاة والحج وكانت هي كل الشريعة أعني من الشعائر الظاهرة ، ثم لما فرض الصوم والحج رفعت استقلال الصلاة بكونها كل الشريعة بعد الشهادتين ولم يسم الحنفية رحمهم الله تعالى رفع هذا الاستقلال نسخاً فكذلك هنا بجامع رفع الاستقلال في كلٍ ، بغض النظر عن نوعية هذه الزيادة ، أهي تتعلق بالمزيد عليه أو لا ؟ المهم أن الاستقلال رفع في كلٍ فإذا كان رفع الاستقلال في مثالنا لا يسمى نسخاً فكذلك الزيادة على النص إذا رفعت استقلاله ، فرفع الاستقلال لا يسمى نسخاً .(1/75)
ثم نرى أن الأئمة الحنفية رحمهم الله تعالى يتركون هذه القاعدة في بعض الفروع وهي كثيرة لكن أعطيك مثالاً واحداً وهو : أن نواقض الوضوء في القرآن إنما هي الغائط كما في آية سورة المائدة والنساء فالقرآن نص على ذلك فالغائط هو الناقض الوحيد للوضوء في القرآن فهو مستقل بالنقض لكن نرى أن الحنفية جعلوا من نواقض الوضوء القهقهة في الصلاة ويستدلون على ذلك بحديث آحاد ضعيف فلو كان هذا صحيحاً فإنه يرفع استقلال الغائط بكونه هو الناقض في القرآن فيأتي رجل ويقول : ليس الغائط هو الناقض لوحده بل والقهقهة أيضاً من النواقض ، فهذا القول يرفع استقلال الحكم القرآني ومع ذلك قالوا به ولم يسموه نسخاً ، مع أنه زيادة على النص ، فكيف ذلك ؟ فهذا يدل على ضعف قولهم – رحمهم الله رحمة واسعة وغفر لهم – فكم ردوا من السنن الصحيحة بمثل هذه الآراء الضعيفة – فاللهم اغفر لهم من أولهم إلى آخرهم وتجاوز عنهم واجمعنا بهم في جنتك – لكن السنة أحب إلينا وأعظم في قلوبنا من كل أحد وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا قول الشريعة من كتابٍ وسنة .
إذا علمت هذا وتبين لك ما رجحناه من أن الزيادة على النص ليست نسخاً فإليك بعض الفروع التي اختلفوا فيها بسبب خلافهم في هذه القاعدة :(1/76)
فمن الفروع : النية في الوضوء ، ذهب الجمهور إلى وجوب النية في الوضوء فلا يصح الوضوء إلا بها مستدلين على ذلك بحديث عمر المشهور : " إنما الأعمال بالنيات " وذهب الحنفية إلى أنها ليست بشرط فيه فيصح بدونها وإن جاء بها فحسن ، وقالوا : إن آية الوضوء ليس فيها تعرض للنية وإنما فيها الأمر بغسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس ، فهذا هو الوضوء في الآية فلو اشترطنا النية وقلنا إنها داخلة في مسمى الوضوء لصار ذلك نسخاً للقرآن بسنةٍ آحادية وهو باطل ، لأن الزيادة على النص نسخ ، كذا قالوا ، والحق بلا شك مع الجمهور لصحة الأحاديث في ذلك ، وأما القاعدة فصوابها هو ما تقدم لك فلا عبرة بقولهم لأنه مصادم للنص ، هذا مع التسليم أن الآية ليس فيها إشارة للنية ، وإلا فالحق أن من تدبر لفظ الآية لوجدها قد أشارت للنية وذلك في قوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } أي إذا أردتم وقصدتم القيام لها وهذه هي النية.
والعجب منهم رحمهم الله تعالى فإنهم يشترطون النية في التيمم ويقولون إن القرآن دل على النية في التيمم وذلك في قوله : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّباً } والتيمم هو القصد وهذا هو النية ، فنقول : فهمتم الإشارة إلى النية هنا ولم تفهموها في أول الآية مع أن فهم النية في قوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } أوضح من قوله : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّباً } ، وعلى العموم فالصواب هو اشتراط النية في كلٍ ، بل القاعدة عندنا أن النية شرط لصحة المأمورات وشرط لترتب الثواب في التروك ، والله أعلم .(1/77)
ومنها : وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء ، قال الشافعية والحنابلة : بأنه ركن من أركان الوضوء ، مع اختلاف مآخذهم لكن قالوا بركنيته ، واستدل الحنابلة على الركنية بحديث ((أبدأ بما بدأ الله به)) وهذا وإن كان في الحج لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وبفعله - صلى الله عليه وسلم - ولأنه أدخل ممسوحاً بين مغسولين والشريعة لا تفصل بين متماثلين إلا لحكمة والحكمة هنا هي مراعاة الترتيب ولأن فعله صار بياناً للأمر القرآني والفعل إذا اقترن بأمر قولي أفاد الوجوب ، وفي الحديث (( حتى تسبغ الوضوء كما أمرك الله تعالى )) وتوضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتباً وقال : (( هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به )) وغيرها من الأدلة .
وأما الشافعية فاستدلوا بدليل آخر وهو : أن عطف هذه الأعضاء الأربعة بحرف الواو الناسقة تفيد الترتيب عندهم كما ذكره الزنجاني عنهم ، وعلى كل حال فكلا الفريقين توصل إلى أن الوضوء لا يصح إلا بالترتيب لهذه الأدلة .
وقالت الحنفية : لا يجب الترتيب لأن الآية لم تتعرض للترتيب ولم تشر إليه والواو ليست للترتيب وإنما لمطلق الجمع فلو قلنا بالترتيب لزدنا على الوضوء ركناً لم يتعرض له القرآن ، فهي زيادة على النص والزيادة على النص نسخ والآحاد لا ينسخ المتواتر كذا قالوا ، والحق بلا شك مع الحنابلة والشافعية من وجوب الترتيب وهو ليس بزيادة على ما في القرآن وإنما بيان لما في القرآن ، وإن سلمنا أنه زيادة عليه فالزيادة على النص ليست نسخاً كما قررناه ، والله أعلم .(1/78)
ومنها : تعيين قراءة الفاتحة في الصلاة ، فقد ذهب الحنفية رحمهم الله تعالى إلى أن القراءة الواجبة في الصلاة هي ما تيسر من القرآن عملاً بقوله تعالى: { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } ولم يحدد القرآن شيئاً معيناً لابد من قراءته ، فإذا قرأ الإنسان في صلاته ما تيسر من كتاب الله كفى وهذا هو دلالة القرآن ، وذهب الجمهور إلى أن القراءة الواجبة في الصلاة هي الفاتحة بعينها لا يجزئ غيرها عنها لحديث عبادة بن الصامت في الصحيحين (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) وحديث أبي هريرة (( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج - ثلاثاً – غير تمام )) رواه مسلم ، وغيرهما من الأحاديث المعينة للفاتحة ، وحمل الجمهور قوله : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } على الفاتحة عملاً بالأدلة كلها ، فقال الحنفية : إن الأحاديث المعينة للفاتحة زيادة على القرآن لأنه أطلق ولم يعين والزيادة على النص نسخ والآحاد لا ينسخ المتواتر فلا نقبلها ، فقال الجمهور : إن هذه الأحاديث ليست زيادة على القرآن بل موضحة ومبينة للقرآن ولا تعارضه حتى ترد ، وإن سلمنا أنها زيادة عليه فالزيادة على القرآن ليست بناسخ عندنا ، وهذا القول – أعني قول الجمهور – هو الراجح ولا شك لصحة الأحاديث وصراحتها في الدلالة على تعيين الفاتحة ، وأما قوله : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } فهو مجمل وهذه الأحاديث مبينة والمجمل يحمل على المبين جمعاً بين الأدلة ، والله أعلم .(1/79)
ومنها : اشتراط الطهارة للطواف ، فذهب الحنفية إلى أن الطواف لا تشترط له الطهارة لأن الله تعالى قال : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } فلم يشترط له الطهارة ، والأحاديث التي أشارت لاشتراطها لا تقبل لأنها زيادة على القرآن والزيادة على النص نسخ ، وقال الجمهور : بل الطهارة شرط لصحة الطواف ، لحديث عائشة مرفوعاً (( غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري )) ، وحديث (( توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم طاف )) ، ولحديث ((الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح الكلام فيه)) ومن شروط الصلاة الطهارة وقد جعل الطواف كالصلاة ، والآية وإن لم يصرح فيها بالطهارة لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - بَيَّنَ ذلك بياناً شافياً كافياً وإن سلمنا أنها زيادة على النص فإن الزيادة على النص ليست نسخاً ، واختار أبو العباس أن الطهارة للطواف مستحبة وليست شرطاً لا لأنه يقول بقاعدة الحنفية وإنما لعدم الدليل الصريح الموجب للطهارة ، ولبحث المسألة موضع آخر والمهم أن تعرف مآخذ العلماء في اختلافهم وأنهم اختلفوا في هذا الفرع بسبب خلافهم في هذه القاعدة .
ومنها : الطمأنينة في الركوع والسجود ، فقال الحنفية : ليست الطمأنينة شرطاً في صحتهما بل تكفي صورتهما فقط ، وذلك لأن الله تعالى قال : { ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } فلم يأمر إلا بما يسمى ركوعاً وسجوداً ، ولم يتعرض للطمأنينة فلو زدنا اشتراطها على مسمى الركوع والسجود لزدنا على القرآن والزيادة على النص نسخ .(1/80)
وقال الجمهور : بل الطمأنينة ركن من أركان الصلاة في ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها على خلاف بينهم في تحديدها واستدلوا على ذلك بحديث المسيء صلاته وهو حديث في الصحيحين وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قال للرجل : (( ثم اركع حتى تطمئن راكعاً )) وقال : (( ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً )) وهذا بيان لما في القرآن ، وإن سلمنا أنه زيادة عليه فليست الزيادة على القرآن نسخ وهذا القول هو الراجح لصراحة الدليل وصحته ، والله أعلم .
ومنها : زيادة التغريب على الجلد في حد الزاني البكر ، فإن العلماء قد اتفقوا على أن البكر إذا زنى فإنه يجلد مائة ، لقوله تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } ولكن اختلفوا في تغريبه عاماً ، فقالت الحنفية : لا يغرب لأن التغريب زيادة على ما في القرآن والزيادة على القرآن نسخ ، وقال الجمهور : بل يغرب عاماً كما في حديث عبادة ((البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام )) ، وزيادة التغريب ليست نسخاً لأن الزيادة على النص ليست نسخاً ، وهذا القول هو الراجح لصحة الحديث وصراحته.
ومنها : القضاء بالشاهد واليمين ، فإن القرآن إنما أثبت في الأموال شهادة رجلين أو رجل وامرأتين وذلك في قوله تعالى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } فقال الحنفية لا يقضى بالشاهد واليمين لأنها لم تذكر في القرآن وإنما ذكر في القرآن ما تقدم فإثبات الحكم بالشاهد واليمين زيادة على القرآن والزيادة على النص نسخ ، وقال أكثر العلماء بإثباتها لصحة السنة بها ، وهي وإن كانت زيادة على ما في القرآن لكن الزيادة على النص ليست نسخاً عندنا ، وهذا القول هو الراجح بلا شك ، والله أعلم .(1/81)
ومنها : الرقبة في كفارة اليمين لم يرد لها تقييد بالإيمان في قوله تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } فالقرآن أطلق هذه الرقبة ، فقال الحنفية : ليس من شرط صحة العتق هنا الإيمان بل لو أعتق رقبة كافرة صلح ذلك لأن الإيمان وصف زائد على ما في القرآن والزيادة على النص نسخ ، وقال الجمهور : بل يشترط لصحتها الإيمان لقوله : ((فأعتقها فإنها مؤمنة)) وقياساً على كفارة القتل فإنه اشترط فيها الإيمان ، ولأن تحرير المؤمن من الرق أمر مقصود شرعاً ولذلك شرعت السراية والسعاية وأما الكافر فلا فائدة في تحريره بل بقاؤه في الرق هو الأنسب بل سبب رقه كفره ، ولعل هذا القول هو الأقرب ، وعلى العموم فزيادة وصف الإيمان هنا لو ثبت بهذه الأدلة فلا يكون زيادة على النص بل بيان له وإن سلمنا أنه زيادة فالزيادة على النص ليست نسخاً ، والله أعلم .(1/82)
ومنها : المضمضة والاستنشاق ، قال الحنفية : إنهما سنة في الوضوء وفرض في الغسل ، أما كونهما سنة في الوضوء فلأن آية الوضوء لم تذكرهما وإنما ذكرت الأعضاء الأربعة وأمّا المضمضة والاستنشاق فقد ثبتا بالسنة الآحادية ، فلو قلنا بأنهما واجبان كالأعضاء الأربعة لزدنا على القرآن والزيادة على النص نسخ ، وأيضاً : يدل على أنهما سنة حديث " المضمضة والاستنشاق سنة " ،وحديث " عشر من السنة " وذكر فيها المضمضة والاستنشاق ، وذهب الحنابلة وغيرهم إلى وجوبهما بأدلة كثيرة يطول المقام بذكرها وقد استوفيتها في شرح " أخصر المختصرات " تدل الناظر فيها أن الراجح هو القول بوجوبهما ، وأما قولهم هي زيادة على آية الوضوء فلا نسلمه بل هما بيان لقوله تعالى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } فهما من الوجه لدخولهما في حده ، وإن سلمنا أنهما زيادة فلا ترد بذلك لأن الزيادة على النص ليست نسخاً ، وأما حديث " عشر من السنة " فليس هكذا لفظه وإنما هو عند مسلم وغيره بلفظ " عشر من الفطرة " ، وإن سلمنا لفظهم هذا فليس بالمراد بالسنة ما تعارف عليه الفقهاء وإنما المراد به الطريقة والهدي ، والمصطلحات الحادثة لا تكون حاكمة على الأدلة الشرعية ، وأما حديث " المضمضة والاستنشاق سنة " فقد رواه الدارقطني لكن سنده لا تقوم به حجة ، وقد ضعفه الحافظ ابن حجر وغيره ، فتبين لك بذلك أن الراجح هو القول بوجوبهما وأن زيادتهما إنما هي زيادة بيانية لا ابتدائية ، والعجب كل العجب من الحنفية فإنهم جعلوا المضمضة والاستنشاق فرضاً في الغسل فمن أين لهم ذلك وليس معهم إلا قوله تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } ففي هذه الآية إنما أمر بالتطهر وليس فيه ذكر للمضمضة والاستنشاق أفليست هذه زيادة على القرآن ؟ بلى ولكن لم يردوها وردوها في الوضوء ، مع أن الأمر في الأحاديث بالمضمضة والاستنشاق في الوضوء من الصراحة والصحة والوضوح ما يعرفه من وقف عليها ، ولا(1/83)
أعلم دليلاً واحداً من السنة يأمر بالمضمضة والاستنشاق في الغسل ، ومع ذلك رد الأحناف الأحاديث الصحيحة الصريحة بحجة أنها زيادة على القرآن وأثبتوا شيئاً ليس عليه دليل لا من السنة ولا من القرآن ، بل الدليل على خلافه ، فإن القول الصحيح أن المضمضة والاستنشاق في الغسل سنة وليست فرضاً لحديث أم سلمة عند مسلم : " إني امرأة أشد شعر رأسي أفأنفضه لغسل الجنابة " ، وفي رواية " والحيضة " قال : (( لا ، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء عليك فتطهرين )) ولم يأمرها بهما وهي جاهلة وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، لكن الأمر انقلب عليهم رحمهم الله رحمة واسعة وغفر لهم وتجاوز عنهم ، والله أعلم .
ولعل ما توجنا به هذه القاعدة من الفروع يكفي إن شاء الله تعالى في فهمها ، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
القاعدة الثامنة
( لا تكليف على المكلف إلا مع العلم والقدرة والاختيار )
وهذه تسمى : " قاعدة التكليف " ، وهي من أكبر القواعد الأصولية لأنها تتعلق بالتكليف الذي هو مناط الأمر والنهي ، ذلك لأن هذه الأوامر والنواهي لا تتجه إلا للمكلف وهو إذا أطلق فالمراد به العاقل البالغ ، وأما المجنون والصغير الذي لم يبلغ فليسا بمكلفين ، والشريعة كلها إما أمر بشيءٍ وجوباً أو استحباباً وإما نهي عن شيءٍ تحريماً أو كراهة ، فلا شك إذاً في أهمية هذه القاعدة ، وإليك الآن شيء من تفصيلها فأقول :(1/84)
قوله (التكليف) لغة : إلزام ما فيه كلفة . واصطلاحاً : فيه حدود أسلمها إلزام مقتضى خطاب الشرع ، بمعنى أن خطاب الشارع إما أمر وإما نهي ، فخطاب الأمر الواجب له مقتضى أي يطلب شيئاً ، فالتكليف هو إلزامك بهذا المقتضى ، وخطاب الأمر المستحب إلزام لك بمقتضاه وهكذا ، فليس التكليف هو عين الخطاب ، وإنما التكليف هو الإلزام بمقتضى هذا الخطاب أو بدلالة هذا الخطاب . وللتكليف شروط ترجع للمكلفين وهم الثقلان ، وشروط ترجع للمكلف به أي الشيء الذي طلب منا فعله ، وهذه القاعدة التي نحن بصددها خاصة في الشروط التي ترجع للمكلفين ، وأما الشروط الراجعة للفعل المكلف به فلها موضع وبحث آخر .
قوله (مع العلم) هو لغة : الإدراك ، واصطلاحاً : إدراك الشيء مطابقاً للواقع إدراكاً جازماً وضده الجهل الذي هو عدم الإدراك وهذا هو الجهل البسيط ، وأما الجهل المركب فهو إدراك الشيء على غير وجهه وواقعه .
قوله (والقدرة) هي ضد العجز وهي قوة يخلقها الله في الإنسان يستطيع بها فعل ما أمره به . قوله (والاختيار) وضده الإكراه .
إذا علمت هذا فاعلم : أن هذه القاعدة جمعت خمسة شروط من شروط المكلفين حتى يترتب عليهم الإلزام بالأوامر والنواهي ، أي لا يدخل الإنسان في دائرة المكلفين إلا بخمسة شروط نصت عليها هذه القاعدة المباركة نذكرها بأدلتها وأمثلتها فأقول :
الشرط الأول : العقل ، وهو أول شروط التكليف وضده الجنون ، فالمجنون ليس بمكلف للدليل الأثري والنظري ، فأما الأثري فقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الحسن (( رفع القلم عن ثلاثة ، عن المجنون حتى يفيق … )) والمراد رفع قلم التكليف الذي برفعه ترتفع المؤاخذة على ترك المأمور وفعل المحظور . وأما النظري فلأن القصد من التعبد بالأوامر والنواهي ليس هي صورة فعلها وإنما القصد الأول هو تحقيق الامتثال وإخلاص القصد ، وهذا لا يتصور صدوره من المجنون لعدم عقله ، وهذا شرط واضح .(1/85)
الشرط الثاني : البلوغ : وضده الصغر ، فاتفق العلماء جميعاً على أن الصغير غير المميز ليس بمكلفٍ بفعل المأمور ولا بترك المحظور ، واستدلوا على ذلك بالحديث السابق وفيه (( وعن الصغير حتى يحتلم )) واختلف العلماء في الصبي المميز على أقوال : أولها : أنه مكلف . ثانيها : أنه غير مكلف . ثالثها : أنه مكلف بالنواهي دون الأوامر . والصواب أنه ليس بمكلفٍ مطلقاً حتى يبلغ وذلك لصراحة الحديث في تقييد رفع القلم عن الصغير إلى البلوغ ولأن تعليق التكليف على التمييز تعليق للأحكام الشرعية على ما هو مختفٍ متفاوت لا يعرف أوله ومن ربطه بالسبع سنين فإنما ربطه للخروج من خفاء ابتدائه فقال : نحده بالسن ليكون أوضح لكن هذا لا يصح لوقوع التمييز عند بعض الصغار قبل السبع وبعضهم لا يميزون إلا بعد السبع ، وذلك لأن التمييز كنور الفجر يبدو أوله ولا يكاد يرى ثم يزداد ازدياداً خفياً لا تعرف درجاته حتى تسفر الدنيا فكذلك التمييز ، وتكليف الأولياء بمراقبة أول التمييز تكليف بما لا يطاق فوضع الشارع علامة جلية على أول التكليف وهي البلوغ ، فإذا وجدت علامة من علامات البلوغ المعروفة دخل الإنسان في حيز التكليف .
وأما وجوب الزكاة وضمان المتلفات في مال الصبي والمجنون فإن هذا ليس من باب التكليف وإنما من باب ربط الأحكام بأسبابها تحقيقاً للعدل بين المخلوقين ، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - ((مروهم بالصلاة)) فهذا يخرج على أمرين : الأول : أنه أمر للأولياء لا الصغار ، والأمر بالأمر بالشيء ليس أمراً به على الصحيح من خلاف أهل الأصول ، الثاني : سلمنا أنه أمر للصغار بالصلاة ولكنه أمر استحباب ليتعودوا عليها ويعرفوا صفتها وأحكامها وآدابها لا أنه أمر وجوب والصارف له هو حديث (( رفع القلم عن ثلاثة )) والجمع بين الأدلة هو الواجب إن أمكن ، فإن قلت فهل أمر الاستحباب يعاقب عليه ؟(1/86)
قلنا : نعم يعاقب عليه تعزيراً لأنه أمر ليس كسائر المستحبات التي يستمر استحبابها بل هو استحباب سينقلب بعد فترة إلى واجب فعوقب عليه ليعظم قدره في قلبه وليقر في قلبه أنه إن عوقب عليها مع عدم وجوبها عليه فكيف إذا كلف بها فلاشك أن العقوبة ستكون أعظم ، فهذا التأديب على ترك الصلاة داخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (( ولا ترفع عنهم عصاك أدباً )) والمهم : أن القول الصحيح هو أن الصغير ليس بمكلفٍ حتى يبلغ . فإن قلت : فمن أين أخذت هذين الشرطين من القاعدة قلت : أخذناها من قولنا (مكلف) لأن المكلف عند الفقهاء هو العاقل البالغ والله أعلم .
الشرط الثالث : هو ما نص عليه بقوله ( مع العلم ) أي أن التكاليف الشرعية لا تلزم إلا بعد بلوغها وفهمها ، أي إذا علمها المكلف طولب بها ، وأما إذا كان المكلف يجهلها فإنه لا يطالب بها ، فالجهل عذر في سقوط التكليف عن المكلف أي أن قلم التكليف مرفوع عنه في ارتكابه للمحظور وتركه للمأمور بسبب الجهل ، وقد دل على ذلك أدلة أثرية ونظرية .(1/87)
أما الأثرية : فقوله تعالى { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } وقال تعالى { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا } وقال تعالى { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } ومطالبة المكلف بشريعةٍ يجهلها تكليف بما لا يطاق ، وقال تعالى { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } وقال تعالى { لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } ، وكذلك يدل عليه حديث المسيء صلاته فقد كان يجهل وجوب الطمأنينة في الصلاة فلما علّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوبها لم يأمره بإعادة ما مضى من الصلوات مع أنها داخلة في قوله (( فإنك لم تصل )) لأن الصلوات السابقة كهذه الصلاة التي حكم عليها بهذا الحكم بدليل قوله (( ما أحسن غيره فعلمني )) فلما لم يأمره بإعادة ما مضى من الصلوات دل ذلك على أنه عذره لأنه جاهل لا يعلم وجوب الطمأنينة مما يدل على أن التكاليف الشرعية لا تلزم إلا بالعلم .(1/88)
ومنه حديث عمار في التيمم وأنه تمرغ في الصعيد كما تتمرغ الدابة وهذا ليس هو التيمم الشرعي فكأنه صلى بلا طهارة وعمر كان معه ولم يصل فلما رجعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبراه بين لهما الحكم الصحيح ولم يأمر عماراً بقضاء ما صلاه بهذه الطهارة ولم يأمر عمر بصلاة ما فاته مما يدل على أنهم معذورون بسبب جهلهم وعدم علمهم بالحكم الشرعي . وفي حديث عدي بن حاتم أنه لما نزل قوله تعالى : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ } عمد إلى عقالين فوضعهما تحت وساده فجعل يأكل وينظر إليهما فإذا الصبح قد طلع أي أكل في نهار رمضان عامداً ، ثم استفتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بالصواب ولم يأمره بقضاء هذا اليوم مما يدل على أنه معذور وسبب عذره هو الجهل وعدم العلم . وأيضاً لما حولت القبلة فإن بعض النواحي البعيدة بل والقريبة من المدينة لم يصلهم خبر التحويل إلا بعد صلواتٍ كثيرة إلى القبلة المنسوخة ، فإذا كان أهل قباء لم يصلهم الخبر إلا متأخراً فما بالك بأهل مكة والمسلمين في اليمن بل ومن في الحبشة ومع ذلك فلم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أحداً بقضاء شيء من ذلك مما يدل على أنهم معذورون وسبب العذر عدم العلم ، والأدلة كثيرة جداً وهي تدل على قاعدتين مهمتين :
الأولى : ما نحن بصدده وهو أن التكاليف الشرعية لا تلزم إلا بالعلم .
الثانية : أن الناسخ لا يلزم إلا بالعلم .
وأما الدليل النظري فإن الله لا يريد بعباده العسر وإنما يريد بهم اليسر ومطالبتهم بشريعة لا يعلمونها هو من العسر والحرج وهما مرفوعان شرعاً .(1/89)
إذا علمت هذا فاعلم أنه قد أورد علينا بعض النبلاء الفضلاء سؤالاً مهماً قال فيه : كيف تقولون إن الجهل عذر مسقط للمؤاخذة في فعل المحذور وترك المأمور وأن الإنسان إذا فوت مأموراً جاهلاً به أنه لا يلزمه تداركه ، مع أنكم قررتم في موضعٍ آخر أن باب المأمورات لا يسقط بالجهل والنسيان ، فكيف تقولون مرة الجهل عذر مسقط للتكليف ثم تعودون فتقولون ليس الجهل عذراً في باب المأمورات ؟
فنقول : هذا سؤال مهم والجواب عنه أن تفرق أيها المحب بين الجهل الذي يعذر صاحبه والذي لا يعذر به صاحبه ، وقد اختلف العلماء في التفريق بينهما والراجح عندي والله أعلم أن رفع الجهل من الأحكام الشرعية التي مناطها الاستطاعة فالجهل الذي لا يعذر صاحبه هو الجهل الذي عنده قدرة على رفعه بالسؤال والبحث لكنه فرط في رفعه وتكاسل وتثاقل عن سؤال أهل العلم أو أشغلته الدنيا عن الدين ففرط في السؤال والبحث فصاحب هذا الجهل لا يعذر أبداً . والجهل الذي يعد عذراً ومسقطاً للتكليف هو ذلك الجهل الذي لا قدرة للمكلف على رفعه فهو يريد أن يرفعه لكن لا استطاعة له في رفعه إما لعدم العلماء أصلاً وإما لأنه بعيد عنهم لا يقدر على الوصول إليهم . وإما لأنه يظن صواب نفسه – وهو ما يسمونه الجهل المركب – فهذا النوع من الجهل هو الذي نعنيه في قولنا (لا تكليف مع الجهل) فمن فعل شيئاً من المحرمات جاهلاً حرمتها فلا إثم عليه ، ومن ترك شيئاً من الواجبات جاهلاً وجوبها فلا إثم عليه بل ولا قضاء عليه إذا فات وقت الواجب قبل العلم.(1/90)
وأما قولنا (المأمورات لا تسقط بالجهل) فإننا نعني به الجهل الذي لا يعذر به صاحبه ، فمن ترك الصلاة مثلاً جاهلاً بوجوبها ننظر إن كان جهلاً يعذر به فلا قضاء عليه ، وإن كان جهلاً لا يعذر به فيلزمه القضاء ، والجهل الذي يعذر به صاحبه هو المراد بقول بعض أهل العلم : (ومثله يجهل) فإذا قالوا هذه العبارة فاعلم أنهم يعنون به الجهل الذي يعذر به صاحبه ، وأما باب التروك فإنه أخف بكثير من باب المأمورات ولذلك قالوا (وباب التروك يسقط بالجهل) أي ولو كان لا يعذر به صاحبه وهذا من باب التخفيف فمن فعل شيئاً من المحرمات جاهلاً بحرمتها جهلاً لا يعذر به ثم علم حرمتها فلا إثم عليه لأنه فعل المحظور جاهلاً ، وهذا أحد الأوجه التي بها حكمنا أن باب المأمورات أشد من باب التروك . هذا هو جواب السؤال ، فإن قلتَ : فما حكم العلم إذاً ؟
قلتُ : العلم أقسام فمنه ما يكون فرضاً على كل أحد ، ومنه ما يكون سنة ، ومنه ما يكون فرضاً على الكفاية ونقصد به العلم الشرعي فقط لأنه هو الذي يتعلق بالتكليف فأما الفرض منه فالضابط فيه هو كل علم يحتاج إليه المكلف في عقيدته وعبادته ومعاملته فهو فرض ، أي الذي لا تصح العقيدة إلا به ولا تصح العبادة إلا به ، فهو الفرض ذلك لأن طلب صحة العقيدة والعبادة واجب "وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" وما زاد على ذلك فهو في حق عموم الأمة فرض كفاية ، وفي حق الأفراد سنة ، وبهذا يتبين لك أن التكاليف الشرعية من شرط لزومها العلم وهو الشرط الثالث .
والشرط الرابع : هو ما أشار إليه بقوله (والقدرة) أي أن التكاليف الشرعية لا تلزم إلا القادر على فعلها ، وأما العاجز فلا يلزمه ما عجز عنه وهذا من رحمه الله تعالى أن كل ما عجزت عنه يسقط عنك ، فلله الحمد والمنة .(1/91)
والدليل على اشتراط القدرة في التكليف قوله تعالى { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا } { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } فالذي كلفنا الله به هو ما كان داخلاً في وسعنا وطاقتنا ، وما كان خارجاً عن الوسع والطاقة فلسنا مكلفين به ، فإذا كان الله لا يكلف نفساً إلا وسعها إذاً ما ليس في وسعها لا تكلف به ، وقال تعالى { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وقال { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } والمطالبة بالتكليف مع العجز من العسر الذي لا يريده الله ومن الأغلال والآصار التي وضعها الله عن هذه الأمة المرحومة ، وقال تعالى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } فاشترط له الاستطاعة مما يدل على أن غير المستطيع وهو العاجز لا يجب عليه الحج وكذلك سائر التكاليف ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )) فيدخل في قوله ((وما أمرتكم به )) جميع ما أمرنا به لأن (ما) اسم موصول يفيد الاستغراق أي جميع ما أمرتكم به فإنكم تطالبون منه بالذي تستطيعونه ، وأما ما عجزتم عنه فلا تطالبون به ، فعلق المأمور بالاستطاعة وهي القدرة .(1/92)
ويدل على اشتراطها أيضاً ما في البخاري من حديث عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : (( صل قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب )) فانظر كيف تدرج معه في مراتب الاستطاعة فالقيام في الصلاة فرض يطالب به من يستطيعه ، وأما العاجز عنه فلا يطالب وينتقل إلى الجلوس إن استطاعه وإلا فعلى الجنب ، ومثله أيضاً في الدلالة حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاد مريضاً فرآه يصلي على وسادة فرمى بها وقال (( صل على الأرض إن استطعت وإلا فأومئ إيماءً واجعل سجودك أخفض من ركوعك )) وسنده صحيح .
ويدل عليها أيضاً ما في الصحيحين من حديث عائشة في قصة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالناس وهو مريض قالت : (( فجاء حتى جلس عن يسار أبي بكر فكان يصلي بالناس قاعداً … )) الحديث ، فلما عجز عن القيام سقطت عنه المطالبة به مما يدل على أن سائر التكاليف إنما تلزم القادر عليها وأما غير القادر فلا شيء عليه .
وأما الشرط الخامس فهو ما أشار إليه بقوله (والاختيار) وضده الإكراه ، أي أنه لا يعاقب الإنسان على ترك المأمور وفعل المحظور إذا كان مكرهاً ليس بمختارٍ لذلك ، فإذا حُمل الإنسان على شيءٍ من ذلك سقط عنه التكليف فيكون فعله لا حكم له .
والدليل على ذلك أثري ونظري ، فأما الأثري فقوله تعالى { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } فأجاز الله تعالى النطق بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب بسبب الإكراه ولم يرتب عليه حكماً بالكفر لأن الناطق بها في هذه الحالة ليس بمكلف ، وسبب نزولها صريح في ذلك ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( إن الله تعالى تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وهو صحيح صريح في المراد .(1/93)
وأما النظري : فلأن فعل المكرَه – بالفتح – لا ينسب في الحقيقة له ، وإنما ينسب إلى المكرِه – بالكسر – لأنه هو الذي حمله على هذا القول أو الفعل فكيف يعاقب الإنسان بما ليس من فعله حقيقة ، فصار محض العدل الرباني أن يتجاوز عن المكلف إذا فعل ما أُكره عليه .
إذا علمت هذا فاعلم أن المشهور عند الحنابلة هو التفريق بين الإكراه الملجئ والإكراه غير الملجئ ، ولا دليل على هذا التفريق بل كل ما يدخل في مسمى الإكراه يعد عذراً من الأعذار المسقطة للتكليف وذلك لأن الأدلة لم تفصّل وتفرّق بين إكراه وإكراه ، بل وردت مطلقة والمطلق لا يجوز تقييده ببعض أفراده إلا بدليل ولا دليل ، ثم اعلم أن بعضهم ذكر إشكالاً على اشتراط الاختيار وقال : " بل الإنسان مكلف حتى مع الإكراه " واستدل بحديث طارق بن شهاب عند أحمد بسند حسن في قصة الذي دخل النار في الذباب الذي قربه للصنم وأنه ما قربه إلا مكرهاً ومع ذلك دخل النار مما يدل على أنه مكلف إذ لو لم يكن مكلفاً لما استوجب النار .
فنقول : هذا إيراد قوي يحتاج إلى جواب ، وقد فصلنا أجوبته في كتاب " تلقيح الأفهام " ونعيده هنا باختصار فنقول : قد ذكر العلماء عن هذا الإشكال عدة أجوبة :
منها : أن الحديث ضعيف لأنه من رواية طارق بن شهاب وهو تابعي ومرسل التابعي ضعيف فلا يكون معارضاً للقرآن وصحيح السنة ، وتُعقّب بأن الصحيح أن طارق بن شهاب صحابي من صغار الصحابة وحديثه مرسل صحابي ، والصواب أن مراسيل الصحابة مقبولة .
ومنها : أن الرجل قرب الذباب للصنم تعبداً لا فراراً من الإكراه ، والأدلة إنما أجازت قول الكفر وفعله بشرط ثبات القلب على الإيمان ، وتُعقّب بأن هذا أمر قلبي لا يعلمه إلا الله ، والظاهر يدل على أنه ما قرب إلا لما ألزموه بذلك .(1/94)
ومنها : أن الإكراه على الكفر لا يجوز فيه الفعل وإنما القول فقط وسبب الآية صريح في ذلك وهذا الرجل فعل الكفر وهو الذبح ، والرخصة إنما جاءت في القول ، وتُعقّب بأن الآية وردت بصيغة العموم وهي وإن وردت على سببٍ خاص لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
ومنها : أن الإكراه لا يكون عذراً إلا إذا كان ملجئاً وأما غير الملجئ فلا يكون عذراً ، والذي قرب ذباباً لم يصل إلى حد الإكراه الملجئ ، لأنهم قالوا له : " قرب ولو ذباباً " أي لم يدافعهم ولم يحاول معهم بل استجاب لهم مباشرة ، فإكراهه ليس إكراهاً ملجئاً ، وتُعقّب بأن هذا التفريق لا أصل له بل الأدلة وردت مطلقة ثم لو سلمنا هذا التقسيم فإن هذا الرجل علم منهم أنهم صادقون في تهديدهم وسينفذون ما هددوه به إن لم يفعل بدليل أنهم قتلوا الآخر لما أبى التقريب ، فظاهر هذا الإكراه أنه ملجئ .
ومنها : أن هذا الرجل الذي دخل النار إنما دخلها لكفره لا لأنه قرب ذباباً ، وتُعقّب بأن الظاهر هو أنه كان مسلماً وأنه ما دخل النار إلا بسبب هذا التقريب لأنه قال (( فقرب ذباباً فدخل النار )) فقرن الحكم بالفاء بعد وصفٍ ، وإذا قرن الحكم بالفاء بعيد وصفٍ فيكون هذا الوصف هو علة الحكم ، لأنه لو لم يكن لقوله " فقرب ذباباً " تأثير في قوله " فدخل النار " لكان هذا التعليق عبثاً من الكلام ولغواً ، وكلامه - صلى الله عليه وسلم - لا لغو فيه ولا عبث . فإن قلتَ : فما الجواب ؟(1/95)
أقول : إن أسلم الأجوبة في نظري أن هذا إنما كان في شرع من قبلنا فالرجلان اللذان قص النبي - صلى الله عليه وسلم - قصتهما ليسا من هذه الأمة المرحومة وإنما من الأمم السابقة ، فكان من شريعتهم عدم جواز الكفر مع الإكراه بل الواجب الصبر حتى الموت ، ثم جاءت شريعتنا بخلاف ذلك فأجازت النطق بكلمة الكفر مع الإكراه ، والشرائع السابقة شرائع لنا ما لم يرد نسخها في شريعتنا ، وهذا الفرع المذكور ورد في شريعتنا ما ينسخه ، والدليل على ذلك أن غالب الأحاديث التي فيها " خرج رجلان " " خرج ثلاثة نفر " " كان فيمن كان قبلكم " كل هذه القصص التي يقصها النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه كانت غالباً في الأمم السابقة ، ويندر أن تكون القصة في هذه الأمة ، والعبرة بالكثير الشائع لا بالقليل النادر .
وإذا لم يسلم لنا هذا الجواب فنقول : سلمنا أنه في هذه الأمة لكن كان في بداية الإسلام ثم نسخ ، فإن الشريعة في بدايتها كانت لا تقوم إلا على أفراد قلائل فلو أجيز لهم النطق بكلمة الكفر مع الإكراه لتلاشت في بدايتها لكن هذا المحذور زال بكثرة الداخلين في الإسلام .
فهذان الجوابان هما أسلم الأجوبة والاعتراضات عليها قليلة ضعيفة ، والله أعلم .
وبهذا تكون شروط المكلف ليثبت عليه التكليف إجمالاً خمسة : العقل ، والبلوغ والعلم والقدرة والاختيار .
واعلم أن التكليف كما أن له شروطاً فله أيضاً موانع ، وموانعه هي بعينها نقيض شروطه فالعقل شرط والجنون مانع ، والبلوغ شرط والصغر مانع ، والعلم شرط والجهل مانع ، والقدرة شرط والعجز وعدم الاستطاعة مانع ، والاختيار شرط والإكراه مانع .
هذا هو مجمل الكلام عن هذه القاعدة ، وأما فروعها فهي كثيرة جداً لا حصر لها ونذكر بعضها من باب التنبيه على ما لم يذكر فأقول :(1/96)
منها : أصحاب الفترة ، وهم الذين وجدوا بعد خفاء شريعة النبي الأول وقبل بعثة نبي آخر ، كمن وجد بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام فإن شريعة عيسى عليه السلام في هذه الفترة حرفت واندثر كثير منها وكثر الجهل في الناس فما حكم من مات في هذه الفترة ؟ الجواب : القول الصحيح في حكم أصحاب الفترة هو ما دلت عليه الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة ، هو أنه لا عذاب عليهم إلا بالامتحان والاختبار ، لقوله تعالى { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } وهم ماتوا قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقال تعالى { لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } وهم لم تبلغهم النذارة لموتهم قبل بعثة النذير ، وللحديث الصحيح في احتجاج النفر الأربعة على الله وقبول حجتهم وذكر منهم النبي - صلى الله عليه وسلم - (( من مات في الفترة )) وأنه يقول لربه (( رب لم تبعث لي رسولاً )) فقبل الله حجته ، فبعث لهم رسولاً وأجج لهم ناراً ثم يقول " ادخلوها " فمن دخلها فقد أطاع ومن امتنع فقد أبى ، وهذا الحديث صحيح صريح في أنهم يمتحنون في عرصات يوم القيامة حتى تقوم عليهم الحجة . وبه تعلم أن أصحاب الفترة لهم عندنا حكمان :
الأول : أننا نعاملهم في الدنيا معاملة من مات على الكفر في عدم جواز الاستغفار لهم وعدم تغسيلهم ودفنهم في مقابر المسلمين وهكذا .
الثاني : أما في الآخرة فنعتقد أنهم يمتحنون في عرصاتها والله أعلم بما كانوا عاملين فلا نجزم لأحدٍ منهم بجنةٍ ولا نار إلا من شهدت الأدلة له بذلك ، فممن شهدت الأدلة أنه من أهل النار والد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل الذي سأله عن أبيه (( أبوك في النار )) فولى الرجل باكياً فدعاه فقال (( إن أبي وأباك في النار )) رواه مسلم .(1/97)
فلا عبرة بما يردده مخرفو الصوفية الضالون من أن الله أحيا له أبويه فأسلما فإنه من خرافاتهم وموضوعاتهم – قبحهم الله – ومجرد القرابة لا تغني شيئاً إذا لم يكن معها إيمان بالله وحده وعمل صالح ، فابن نوح مات كافراً ، ووالد إبراهيم مات كافراً وهو في النار كما في الحديث الصحيح ، وزوجة لوطٍ ونوحٍ من أهل النار كما في سورة التحريم ، فقرابة الصالحين لا تنفع إن لم يكن معها إيمان وعمل صالح .
وأما أمه - صلى الله عليه وسلم - فلم يأت دليل يشهد أنها من أهل النار وإنما ورد الدليل بنهيه عن الاستغفار لها ، ومجرد النهي عن الاستغفار لا يدل على أنها من أهل النار لأننا ذكرنا سابقاً أننا نعامل أصحاب الفترة في الدنيا معاملة المشركين فلا يجوز الاستغفار لهم ، والمقصود أن أصحاب الفترة في الآخرة لا يعذبون إلا بعد إقامة الحجة عليهم في عرصات يوم القيامة ، لأنه لا تكليف إلا بعلم ولا عقوبة إلا بعد إنذار .
ومنها : من نشأ في باديةٍ بعيدةٍ عن العلم والعلماء أو أسلم حربي في دار حرب ولا قدرة له على الهجرة ولا يعرف شرائع الإسلام فترك الصلاة وشرب الخمر ثم علم بالحكم بعد ذلك فإنه لا يلزمه قضاء ما فات من الصلوات ولا إثم عليه ولا حد في شربه للخمر لأنه يجهل الحكم فيها ومثله يجهل ولا تكليف إلا بعلم .
ومنها : اختلف العلماء متى تقوم الحجة على المكلف ، هل هو ببلوغها ؟ أم ببلوغها وفهمها ؟ فيه قولان ، والصواب منهما أن الحجة لا تقوم على المكلف إلا بالأمرين : ببلوغها وفهمها ، وقد ذكرت الأدلة على ترجيح هذا القول وبينت أن الخلاف بينهم لفظي في كتاب " المباحث الجلية " . والمراد تخريج هذا الخلاف على القاعدة وبيانه أن يقال : انظر كيف اشترط العلماء لقيام الحجة على المكلف أن يعلم الحكم الشرعي مما يدل على أن العلم شرط في التكليف فلا تكليف إلا بعلم .(1/98)
ومنها : من فعل شيئاً من المحرمات – أيَّاً كان هذا المحرم – وهو يجهل حرمته فلا إثم عليه ولا حد ، كمن ارتكب مبطلاً من مبطلات الصلاة كالكلام و الأكل ونحوهما أو فعل شيئاً من محظورات الإحرام – أياً كان – من جماعٍ أو حلقٍ أو عقد نكاحٍ ، أو ارتكب شيئاً من محظورات الصيام من أكلٍ وشربٍ ونحوهما ، وهو يجهل الحكم الشرعي فيها فإنه لا شيء عليه ، فالصلاة صحيحة والصوم صحيح ولا فدية عليه في فعل محظورات الإحرام ، ومن فعل المحلوف عليه جاهلاً أنه هو المحلوف عليه ، فلا حنث عليه ولا كفارة ، كل ذلك لأنه جاهل لا يعلم الحكم الشرعي فيها أو جاهلاً بحقيقة المحلوف عليه فلم يتعمد المخالفة ، ولا تكليف إلا بعلم .
ومنها : اختلف العلماء هل الكفار مخاطبون بالفروع أو لا ؟
والصواب أنهم مكلفون بها إذ ليس من شروط التكليف الإسلام ، بل الإسلام شرط للصحة لا للوجوب ، فالفروع تجب عليهم لكن لا تصح منهم إلا بالإسلام ، كالصلاة تجب على المكلف ولو كان محدثاً لكن لا تصح منه إلا بالطهارة الشرعية .
فإن قلتَ : فما علاقة هذا الفرع بالقاعدة ؟ قلتُ : لأن القاعدة تتكلم عن شروط التكليف وهي العلم والعقل والبلوغ والقدرة والاختيار ، فإذا تحققت هذه الأمور في الكافر وجب عليه التكليف ومجرد كفره لا يعد مانعاً من موانع التكليف ، فهذه القاعدة تدل على رجحان القول بتكليفهم والله أعلم .
ومنها : أن قاعدة ( لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة ) فرع من هذه القاعدة فكل واجبات الشريعة تسقط مع العجز كالقيام في الفريضة والركوع والسجود كل ذلك يسقط إذا عجز الإنسان عن الإتيان به ، وإن قدر على البعض وعجز عن البعض سقط عنه ما عجز عنه ووجب عليه ما قدر عليه ، وقد شرحنا هذه القاعدة في " تلقيح الأفهام " .(1/99)
ومنها : أن المريض الذي لا يرجى برؤه والكبير الذي لا يستطيع الصوم فإن وجوب الإمساك يسقط عنهما وينقلان إلى البدل وهو الإطعام لأن الصوم لا يجب إلا على القادر إذ لا تكليف إلا مع القدرة .
ومنها : إذا أكره المكلف على بيع ماله بغير حق فلا يصح البيع لأنه مكره ، ولو أكره على طلاق زوجته وعتق عبده فلا يقع الطلاق ولا العتاق لأنه مكره فأقواله وأفعاله لا حكم لها لأنه لا تكليف إلا باختيار ، ومن صور الإكراه أن يُسْحَرَ ليطلق ، فإن من طلق بسبب السحر فإن طلاقه لا يقع لوجود الإكراه وهو اختيار أبي العباس ابن تيمية فإنه قال : " وإن سحره ليطلق فإكراه " .
والفروع كثيرة جداً وفيما مضى كفاية ، وبها تعرف أهمية هذه القاعدة الواسعة فعليك أن تراجعها وأن تكثر السؤال عن ما أشكل فيها لأنها من أهم القواعد الأصولية على الإطلاق لتعلقها بالحكمة من خلقنا وهو العبادة .
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد
القاعدة التاسعة
(العبرة فيما رواه الراوي لا فيما رآه عند التعارض)
اعلم _ أرشدك الله لطاعته – أن المراد بالراوي هنا هو الصحابي ، فالصحابة هم الواسطة بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده ، فهم النقلة لأحكامه وأخباره وأحواله ، فالواجب قبول روايتهم إن صحت في سندها إليهم ، هذا هو الأصل ولم يختلف في ذلك علماء الإسلام في الجملة ،ولكن ما الحكم إذا روى لنا الصحابي حديثاً فيه أمر أو نهي ثم هو - رضي الله عنه - عمل بخلافه أي عمل بخلاف ما رواه ، فأيهما نقدم حينئذٍ ؟ أنقدم روايته وندع رأيه له ؟ أم نقدم رأيه وندع روايته ؟ هذا هو ما تبحثه هذه القاعدة ، ولكن قبل الجواب لابد من ذكر من تفصيل مهم في هذه المسألة فأقول :(1/100)
إن الصحابي إذا روى شيئاً فلا يخلو : إما أن يعمل بما يوافقه ، وإما أن يعمل بخلافه، فإن عمل بما يوافقه فلا إشكال ، بل في هذه الحالة يكون عمله مفسراً للحديث إن كان في الحديث ما يحتاج إلى تفسير ، وعلى ذلك قال العلماء : إنه إذا فسر الحديث بعدة تفاسير ومن بين هذه التفاسير تفسير راويه ، فإن تفسير الراوي للحديث مقدم على كل تفسير ، لأن الراوي أدرى وأعلم بما روى من غيره ، وهذه الحالة لا تدخل معنا في هذه القاعدة ، لأنه حينئذٍ لا تعارض بين عمله وروايته ونحن اشترطنا في القاعدة وجود التعارض ، الحالة الثانية : أن يروي شيئاً ثم يعمل بخلافه كأن يروي لنا أمراً ثم هو لا يعمل به ، أو يروي لنا نهياً فيعمله هو ، أي يعمل بخلاف ما يروي فحينئذٍ حصل عندنا تعارض بين روايته التي يرفعها للنبي - صلى الله عليه وسلم - وبين عمله هو ، فأيهما يقدم ؟
أقول : هذا هو بيت القصيد وقد اختلف أهل العلم في ذلك ، فذهب الحنابلة في المشهور عنهم والشافعية إلى أن : المعتمد هو روايته لا رأيه ، فرأيه له ، وروايته لنا ، وذهب الحنفية إلى أن : المعتمد رأيه لا روايته .
والقاعدة التي نحن بصدد شرحها خرجت موافقة لقول الحنابلة والشافعية لأنه هو القول الراجح ، فالقول الراجح أنه : إذا تعارض رأي الراوي وروايته فالعبرة إنما هي فيما روى لا فيما رأى ، والدليل على هذا الترجيح عدة أشياء :
منها : أن الحجة إنما هي في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله لا في قول أحدٍ من الناس وفعله مهما كان صحابياً أو غيره ، وهو قد نقل لنا قول الشارع أو فعله وعمل بخلافه ، فالحجة ليست في عمله وإنما فيما نقله عن الشارع .
ومنها : أن الصحابي لما عمل بخلاف ما رواه ولم يبين لنا مستند هذا العمل من الأدلة ، كان عمله بمنزلة عمل المجتهد الذي لا يعارض به قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله ، إذ أن عمل المجتهد إنما يقبل إذا كان موافقاً للأدلة لا مخالفاً لها .(1/101)
ومنها : أن الصحابي ليس بمعصوم فيجوز عليه الخطأ والغفلة عن روايته أو نسيانها أو اعتقاد معارضٍ راجحٍ لها ، وأما الرواية فهي خبر المعصوم الذي لا يجوز عليه الخطأ ولا الغفلة ولا الاضطراب في أمور التشريع فكيف تترك الرواية عن المعصوم ويُقدَّم عليها عمل غير المعصوم .
ومنها : أننا سوف نسأل يوم القيامة : { ماذا أجبتم المرسلين } أي كيف قابلتم أمرهم ونهيهم ، ولن نسأل عن متابعة أحدٍ من الناس ، ولذلك سنسأل يوم القيامة عن متابعة الرواية لا عن متابعة الرأي ، فكيف يقدم المكلف الشيء الذي لن يسأل عنه على الشيء الذي سيسأل عنه .
ومنها : أننا مأمورون بمتابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله أمر وجوب في بعضها واستحبابٍ في بعضها ، ولسنا مأمورين بمتابعة أحدٍ من الناس – أياً كان – إلا فيما وافق الشريعة ولذلك أقوال المجتهدين إنما يلزم متابعتها إذا كانت موافقة للشريعة ، فكيف نقدم رأي من لسنا مأمورين باتباعه على هدي من أمرنا باتباعه والإقتداء به .
ومنها : أن أقوال الصحابة وأفعالهم على القول بأنها حجة كما هو القول الصحيح ، إنما تكون حجة إذا لم تخالف ما هو أقوى منها من عمل الشارع أو فعله ، فإذا خالفت وجب اطراحها ولا يجوز قبولها .
ومنها : أن العلماء اشترطوا ليكون قول الصحابي أو فعله حجة أن لا يخالفه صحابي آخر ، فإذا كان قبول قوله وفعله متوقفاً على عدم معارضة صحابي مثله فكيف إذا كان قوله وفعله معارضاً بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو فعله ، لاشك أن قوله وفعله حينئذٍ ليس بحجةٍ فكيف يقدم رأيه على روايته .(1/102)
ومنها : أن الصحابة رضوان الله عليهم اشتد نكيرهم جداً على من خالف الحديث ، من غير تفريق بين أن يكون المخالف هو الراوي أو غيره ، والوقائع كثيرة جداً ويكفيك فيها قول ابن عباس لما رأى الناس يأخذون بقول أبي بكرٍ وعمر في إنكار المتعة التي ثبتت عن المعصوم باللفظ الصريح قال قولته المشهورة : " يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتقولون قال أبو بكرٍ وعمر " ، ولما روى بعضهم حديث النهي عن الخذف لمن رآه يخذف ، ثم لم ينزجر وخذف فقال له : " أحدثك عن رسول الله ولا تنتهي ، والله لا كلمتك أبداً " ، ولما حدث عمران بن حصين بحديث (الحياء خير كله) قال بشير بن سعد إننا نجد في بعض الكتب أو الحكمة أن منه سكينة ومنه ضعف ، فغضب عمران حتى احمرت عيناه وقال له : " ألا أراني أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعارض فيه " ، ولما حدث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله )) قال ابنه بلال والله لمنعهن ، فأقبل عليه عبد الله فسبه سباً عنيفاً بسبب هذه المخالفة وقال : " أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعارض فيه " .
والوقائع كثيرة يفيد مجموعها الإجماع على الإنكار على من خالف حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير تفريق بين الراوي وغيره ، إذاً نستفيد من هذا أن من خالف الحديث فإنه يشدد في الإنكار عليه سواءً كان الراوي أو غيره ، وما أنكر الصحابة على المخالفين للحديث إلا لحرمة الحديث وعظم مخالفة السنة ، فكيف نقدم رأي الراوي على روايته .(1/103)
ومنها : أن الراوي لما عمل بخلاف روايته لم يكذب روايته ، أي لم يقل : إن ما رويته ليس بصحيح ، فهو لم يتعرض لروايته بالإبطال ، وعمله بخلافها من غير تكذيب لها ليس بقادحٍ فيها ، فيطلب له العذر في مخالفة روايته لكن مع بقاء روايته ، فالرواية ليست هي المتهمة حتى نرمي بها ، وإنما المتهم هو عمل الراوي فهو الذي يطلب له العذر . فيقال : إنه عمل بخلافها نسياناً أو غفلةً أو لظنه عدم وجوب العمل بها أو لوجود معارضٍ لها في ظنه هو ، أو لاعتقاده أنها نسخت وكل هذه الظنون والاعتقادات تكون خاصة به هو - رضي الله عنه - غير مجزومٍ بها ولا يلزم قبولها ، لكن تبقى عندنا روايته سالمة عن جميع الاعتراضات ، قالها وهو جازم بصحتها معتقد لها ، فوجب تقديمها على عمله بخلافها لأن عمله يرد عليه احتمالات كثيرة ، وبهذا يتبين لك صحة هذه القاعدة المهمة ، لكن قال الحنفية : لا يمكن أبداً أن نظن بالصحابة ظن السوء مثلكم ، فإن الصحابة عدول مأمونون في عملهم ونقلهم ، لا يتصور منهم معارضة ما يروونه إلا لعلمهم بوجود ناسخٍ لما رووه، هم قد اطلعوا عليه لكنهم لم ينقلوه اكتفاءً بعملهم بخلاف روايتهم ، فنقلوا الرواية بالقول ونقلوا الناسخ لها بالعمل ، هذا هو الواجب ظنه في الصحابة ، فإنهم عدول لا يجوز البحث عن عدالتهم فإذا خالفوا روايتهم فلابد من هذا التخريج وإلا لخرجوا عن حد العدالة الموجبة لرد جميع روايتهم والبحث عن المعدل لهم ، كذا قالوا – ويشكرون على هذا الظن بالصحابة – كما هي عادة الحنفية فإنهم من أشد الناس تعظيماً للصحابة ، ومن أكثر الفقهاء رداً للأحاديث الصحيحة ، فجزاهم الله خيراً على الأولى ، وعفا عنهم وسامحهم في الثانية ، ومن الذي قال لكم أيها الحنفية الأحبة والعلماء النبلاء ، من الذي قال لكم أن المسألة التي بيننا وبينكم لها تعلق بعدالة الصحابة ، فإننا والله لأشد الناس تزكية لهم واعتقاداً لعدالتهم وأي قدحٍ فيهم إذا قلنا نعمل(1/104)
بما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي نقلوه لنا هم ، أو ليس في هذا تعظيم لروايتهم وتصديق لهم وتبرئة لهم عن الكذب والغفلة في الرواية ، فإن تقديم روايتهم على رأيهم من أعظم التزكيات لهم ، فإن نسبة الغفلة والخطأ لفعلهم أيسر بكثير من نسبة الغفلة والخطأ لروايتهم ، ثم من الذي قال لكم أن عملهم بخلافه لابد أن يكون لوجود ناسخ اطلعوا عليه ولم ينقلوه فإن هذا فيه اتهام لهم بكتم شيء من العلم ولا يكفي نقله بمجرد العمل فكيف تتوفر همته لنقل المنسوخ ولا تتوفر همته لنقل الناسخ مع أن الأمة تحتاج إلى معرفة الناسخ أشد من حاجتها لمعرفة المنسوخ ، أي قدحٍ بعد هذا القدح ، فإن قلتم : لعل الصحابي غفل عن نقل الناسخ ، فنقول : عالجتم الزلة بعلاجٍ قد فررتم منه ، فإنكم قلتم : نقدم رأيه لأنه لا يمكن أن يغفل عن روايته فلم يعمل بها إلا لوجود ناسخ ، ثم قلتم لم ينقل الناسخ لأنه غفل عنه ، فإذا كنتم سترجعون للغفلة فهلا قلتم من بادئ الأمر أنه عمل بخلاف روايته نسياناً أو غفلة عنها وارتحتم وأرحتم ، فلماذا تعارضون في غفلته ونسيانه ثم ترجعون تعللون عدم نقله للناسخ بأنه غفل عنه أو ظن أن غيره ينقله أو اطلع عليه وعمل به ونسيه ؟ ما الموجب لذلك كله ؟ وما أوقعكم في ذلك إلا لظنكم التلازم بين القدح في الصحابي وبين العمل بخلاف روايته ، فإنكم تعتقدون أن الصحابي إذا عمل بخلاف روايته فإنه فاسق فذهبتم تبحثون عن مخرج يفك لكم هذا التلازم ، والجواب أنه تلازم باطل فإن مخالفة الحديث نسياناً وغفلةً أو لاعتقاد المعارض الراجح ليست بقادحة في الراوي ولا غيره وإنما يكون الفسق فيمن خالف الحديث عناداً بلا عذرٍ ، وهذا هو الذي ننزه الصحابة عنه ، أما مخالفتهم نسياناً أو لاعتقاد النسخ أو لاعتقاد المعارض الراجح كل هذا موجود وله وقائع كثيرة ، فلماذا حصرتم أنفسكم في أنه ما خالف روايته إلا لتعمده المخالفة ثم قلتم : كيف بالصحابي أن يخالف(1/105)
روايته متعمداً ؟ فقلتم : إنه اطلع على ناسخ لم نطلع عليه فخالف روايته من أجله ، أما نحن فنقول : إن مخالفته لروايته لها عدة احتمالات منها واحد مرفوض رفضاً باتاً وبقية الاحتمالات ورادة :
فأما الاحتمال المرفوض : أن يكون خالفها عناداً وتكبراً وبغضاً للعمل بها ، فهذا والعياذ بالله لا يمكن أن يتصوره مسلم يؤمن بالله ورسوله .
وأما الاحتمالات المقبولة فهي أنه خالفها غفلة عنها ، أو أنه خالفها نسياناً لها ، أو أنه خالفها لاعتقاده وجود ما ينسخها أو خالفها لاعتقاده معارضٍ راجح لها فهذه الاحتمالات مقبولة واردة ، لكن ليست بقادحةٍ في أصل الرواية بل هي باقية على حجيتها ووجوب العمل بها .
إذاً تبين لك أن العبرة والاعتداد إنما هو في الرواية لا في الرأي المعارض ، إذا علمت هذا فإليك بعض الفروع على هذه القاعدة حتى يتضح لك كيفية العمل بها ، ويتبين لك طريقة إنزالها على الفروع :(1/106)
فمن الفروع : ما رواه أبو هريرة مرفوعاً (( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً أولاهن بالتراب )) فذهب ابن عباس وعروة بن الزبير ومحمد بن سيرين وطاووس وعمرو بن دينار والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وداود وغيرهم من العلماء إلى أن الواجب في غسل نجاسة الكلب سبع غسلات لصحة حديث أبي هريرة وصراحته في ذلك صراحةً لا مزيد عليها ، وذهب الحنفية إلى أن السبع غسلات سنة وإنما الواجب ثلاث ، واستدلوا بما رواه الطحاوي والدارقطني موقوفاً على أبي هريرة - رضي الله عنه - " أنه يغسل من ولوغه ثلاث مرات " وهو الراوي لحديث السبع وقد عمل بخلافه فيقدم رأيه على روايته ، فتكون السبع من باب الاستحباب والثلاث من باب الوجوب ، لكن الصواب هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من أن الواجب في نجاسة الكلب سبع غسلات ، ولا عبرة بفعل أبي هريرة لأنه مخالف لروايته وإذا تعارض رأي الراوي وروايته فإننا نقدم روايته وندع رأيه له ، فانظر كيف اختلفوا في هذا الفرع الفقهي بسبب خلافهم في هذه القاعدة ، فالحنفية قدموا الرأي ، والجمهور قدموا الرواية ، ورجحنا بينهم بمقتضى هذه القاعدة .
والذي يرجح السبع أيضاً أنه قد روى التسبيع غير أبي هريرة كعبد الله بن المغفل وغيره ، وأيضاً مما يرجح التسبيع أن أبا هريرة نفسه أفتى بالتسبيع وهي من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عنه وهذا من أصح الأسانيد ، وأما الفتوى بالثلاث فهي من رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عنه وهو دون الأول في القوة بكثير ، قاله الحافظ في الفتح ، وأيضاً لا حجة لأحدٍ مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والله أعلم .(1/107)
ومنها : رفع اليدين في الصلاة ، فقد اتفق العلماء على مشروعية رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام نقله النووي وابن عبد البر وابن حزم وغيرهم ، لكن اختلفوا في رفعهما عند الركوع والرفع منه وبعد التشهد الأول ، فذهب الجمهور وأكثر العلماء إلى أن السنة الرفع واستدلوا بحديث ابن عمر في الصحيحين قال : " رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك " وأما رفعهما بعد القيام من التشهد فقد رواه عنه البخاري ، وعن علي عند أحمد وأبي داود بلفظ : " وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك وكبر " ، وعن أبي حميد الساعدي عند الخمسة إلا النسائي بلفظ : " حتى إذا قام من السجدتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما صنع حين افتتح الصلاة " فقال الجمهور بهذه السنة أي بالرفع في هذه المواطن الأربعة عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع وعند الرفع منه وعند القيام من الركعتين في الرباعية أو الثلاثية ، وأما الحنفية فقالوا : لا يسن الرفع إلا في تكبيرة الإحرام فقط دون غيرها، وقالوا : إن حديث ابن عمر الذي رويتموه في الصحيحين لا نأخذ به لأن راويه عمل بخلافه فإن ابن عمر كان لا يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى ، مما يدل على أن روايته منسوخة ، وإذا تعارض رأي الراوي وروايته فإننا – أي الحنفية – نقدم رأيه واستدلوا بغير ذلك ، وجميع الأحاديث المرفوعة والموقوفة التي استدلوا بها ضعيفة بل بعضها موضوع ولولا خوف الإطالة لذكرتها ، والذي يعنينا هنا احتجاجهم بالقاعدة .
إذا علمت هذا فالراجح ولاشك هو قول الجمهور وذلك لاعتمادهم على الأحاديث الصحيحة الصريحة في إثبات هذه السنة .(1/108)
وأما عمل ابن عمر بخلاف روايته فيجاب عنه بأمرين : الأول : لا نسلم أنه عمل بخلاف روايته بل الثابت عنه أنه عمل بها فقد روى البخاري والنسائي وأبو داود عن نافع أن ابن عمر كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه ، وإذا ركع رفع يديه ، وإذا قال سمع الله لمن حمده رفع يديه ، وإذا قام من الركعتين رفع يديه ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأي صراحة غير هذه الصراحة في أنه عمل بروايته .
الثاني : سلمنا أنه عمل بخلافها فإنه وإن عمل بخلافها فالمقدم هو الرواية ورأيه له - رضي الله عنه - لما قدمنا لك من القاعدة ، والله أعلم .(1/109)
ومنها : النكاح بغير ولي ، فقد ذهب جماهير أهل العلم – رحمهم الله تعالى – إلى أن المرأة لا يجوز لها أن تزوج نفسها بغير إذن وليها واستدلوا على ذلك بحديث عائشة مرفوعاً وهو حديث صحيح : (( أيما امرأةٍ نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل )) وبحديث أبي موسى مرفوعاً : (( لا نكاح إلا بولي )) وذهب السادة الحنفية – غفر الله لهم وتجاوز عنهم – إلى أنه يجوز للمرأة أن تزوج نفسها بلا ولي ، واستدلوا على ذلك بثلاثة أدلة : الأول : حديث (الأيم أحق بنفسها من وليها) أي لها أن تزوج نفسها بدون الرجوع إليه – كذا فهموا الحديث - ، الثاني : قياس النكاح على المال ، فكما أن لها أن تتصرف في مالها بما أرادت كيفما أحبت بلا إذن وليها فكذلك لها أن تنكح من شاءت متى شاءت بلا إذن وليها ، الثالث : - وهو بيت القصيد – أن حديث عائشة الذي رويتموه لا نقبله لأن راويته – رضي الله عنها – قد عملت بخلافه فإنها رضي الله عنها ثبت عنها أنها زوجت ابنة أخيها حفصة بنت عبد الرحمن بالمنذر بن الزبير من غير إذن وليها لأنه كان غائباً ، فقد روى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها زوجت حفصة بنت أخيها عبد الرحمن بالمنذر بن الزبير ، وعبد الرحمن غائب بالشام ، فلما قدم عبد الرحمن قال : ومثلي يفتات عليه في بناته ؟ فكلمت عائشة رضي الله عنها المنذر بن الزبير فقال : إن ذلك بيد عبد الرحمن ، وقال عبد الرحمن : ما كنت لأرد أمراً قضيته ، فاستمرت حفصة عند المنذر ، ولم يكن طلاقاً فقد عملت عائشة بخلاف ما روت ، وإذا تعارض الرأي والرواية قدمنا الرأي – كذا قالوا – والراجح بلا شك هو قول جماهير أهل العلم لصراحة الأحاديث الكثيرة في ذلك .
وأما حجج الحنفية فإنها خيالات باطلة وليست بحجج :(1/110)
فأما الأولى : فالمراد من الحديث أن الثيب لابد أن تصرح برضاها ويسمع الولي أمرها ولا يكتفي بسكوتها ، وأما البكر فإذنها صمتها ، هذا هو المراد (بالأيم) أي الثيب ، ثم لو سلمنا لهم ما قالوه لكان ذلك مقصوراً على الأيم فلماذا يقولون يجوز للبكر أيضاً أن تزوج نفسها مع أن الحديث إنما ورد فيه الأيم .
وأما الثانية : فقياس مع الفارق فمسائل الفروج لا تقاس على المال ، فإن المال يجوز بذله من غير عوض والفرج لا ، والمال يجوز إهداؤه والنظر له ممن لا يحل له والفرج لا ، فالقياس مع الفارق باطل .
وأما الثالثة – وهي ما يعنينا - : أن هذا الحديث الذي رويتموه إن صح عن عائشة رضي الله عنها فلا حجة فيه لأن العبرة بما روت لا بما رأت ، فاجتهادها لها وروايتها للأمة ، على أنه قد قيل إنها إنما اختارت الزوج ولكن الذي تولى العقد غيرها ، وعلى كل حال فإذا تعارض رأي الراوي وروايته فالحجة فيما روى لا فيما رأى ، والله أعلم .
ومنها : رضاع الكبير هل ينشر الحرمة أم لا ؟ أي إذا أرضعت لبنها صبياً فوق السنتين أو بالغاً فهل تكون أماً له من الرضاع أم لا ؟ فيه خلاف والجمهور على أن الرضاع المحرم هو ما كان في الحولين أو قبل الفطام ، لحديث عائشة رضي الله عنها : " إنما الرضاعة من المجاعة " ، وحديث أم سلمة مرفوعاً (( لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام )) رواه الترمذي ، وعن جابر مرفوعاً : (( لا رضاع بعد فصال )) فهذه الأحاديث تقضي أن الرضاع المعتبر هو ما كان قبل الفطام ، وذهب عروة بن الزبير وعائشة وعطاء بن أبي رباح والليث بن سعد وابن علية والظاهرية – ويروى عن علي – إلى أن رضاع الكبير معتبر ينشر الحرمة ، واستدلوا على ذلك بقصة سالم مولى أبي حذيفة .(1/111)
فعن زينب بنت أم سلمة قالت : قالت أم سلمة لعائشة : إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل عليّ ، فقالت عائشة : أما لك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة ، وقالت : إن امرأة أبي حذيفة قالت : يا رسول الله إن سالماً يدخل عليّ وهو رجل وفي نفس أبي حذيفة منه شيء ، فقال - صلى الله عليه وسلم - (( أرضعيه حتى يدخل عليك )) رواه مسلم وهذه القصة دليل على أن رضاع الكبير معتبر ناشر للحرمة ، لكن أجاب الجمهور عنه بأجوبة منها : أنه منسوخ ، ومنها أنه مخصوص بسالم مولى أبي حذيفة ولذلك أبى سائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قبول ذلك وإنما كانوا يرونه رخصة لسالم لا تتعداه ، والمراد هو أن تعرف أمراً مهماً وهو أن عائشة روت لنا حديث (( إنما الرضاعة من المجاعة وكان قبل الفطام )) ثم خالفت روايتها برأيها المبني على هذه القصة فكانت ترى أن رضاع الكبير معتبر ، فعندنا روايتها معارضة لرأيها ، فكان الذي ينبغي للحنفية الكرام أن يأخذوا برأيها ويدعوا روايتها جرياً على أصلهم ، لكنهم هذه المرة عكسوا الأمر فإنهم أخذوا بروايتها وتركوا رأيها ، فقالوا بما قال به الجمهور من أن رضاع الكبير لا يحرم ، وعللوا مخالفتهم لأصلهم بأنهم يقبلون رأي الراوي المخالف لروايته إذا لم يعرف لرأيه سبباً ولا مستنداً ، أما إذا عرفوا أنه خالف روايته لمستندٍ واضح فإنهم ينظرون في هذا المستند هل يصلح أن تعارض به الرواية أو لا ؟ وهنا عائشة رضي الله عنها روت لنا المنع من رضاع الكبير ثم أجازت رضاع الكبير ، فنظروا إلى رأيها هذا فوجدوه مستنداً لقصة سالم مولى أبي حذيفة فلم يروا صوابها في هذا الرأي فتركوا رأيها وأخذوا بروايتها لكن أصلهم يعملون به إذا لم يظهر لرأي الراوي مستند فيقولون لعله اطلع على الناسخ، إما إذا ظهر له مستند فإنهم ينظرون في صلاحية هذا المستند.(1/112)
والراجح في هذا الفرع والله أعلم : أن الأصل أن الرضاع إنما يكون قبل الفطام لكن من تحققت فيه ضرورة الدخول على بيتٍ آخر وكثر ذلك الدخول وحصل من دخوله الحرج فنقول لإحداهن : أرضعيه حتى تحرمي عليه ، فرضاع الكبير معتبر عند الضرورة ، واختار هذا القول الشيخ تقي الدين والشوكاني ، وذلك لقصة سالم فتكون هذه القصة مخصصة لعموم (( إنما الرضاعة من المجاعة وكان قبل الفطام )) ومخصصة لحديث (( لا رضاع إلا في الحولين )) وهذا القول مذهب وسط بين من منع رضاعه مطلقاً وبين من أجازه مطلقاً ، وبه تتآلف الأدلة ، ولا يجوز دعوى التخصيص بلا برهان لأن الأصل عدم التخصيص بل الحكم لشخصٍ حكم لجميع أفراد الأمة إلا بدليل مخصص ، وقول أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه خاص بسالم ، معارض بقول عائشة ، فالراجح هو إعمال الأدلة كلها ولا يمكن إعمالها إلا بما رجحنا لك .
إذا علمت هذا فاعلم أن هذا الفرع مع التحقيق والنظر الدقيق لا يدخل تحت هذه القاعدة التي نحن بصدد التفريع عليها وبيان ذلك أن عائشة رضي الله عنها روت حديث (( إنما الرضاعة من المجاعة )) ثم خالفته ، لكن مخالفتها لروايتها ليس برأيها وإنما خالفت روايتها اعتماداً على نصٍ آخر والقاعدة عندنا إنما تكون فيمن خالف مرويه برأيه لا بمروي آخر ، وإنما ذكرت هذا الفرع لأن بعض المؤلفين في فروع القواعد الأصولية ذكره فأحببت التنبيه عليه والله أعلم.(1/113)
ومنها : أن علياً - رضي الله عنه - روى لنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهدٍ في عهده )) والذي نريده هو قوله (( ألا لا يقتل مؤمن بكافر )) فهو نص على أن المسلم لا يقتل بالذمي ، فهذه روايته وقد تأيدت هذه الرواية بحديث أبي جحيفة قال : سألت علياً هل عندكم شيء من الوحي ليس في القرآن ؟ فقال : لا والذي فلق الحبة … إلى أن قال : " وألا يقتل مسلم بكافر " وهو عند البخاري ، فهذه روايته وذهب لما دلت عليه جمهور أهل العلم ، لكن يشكل على هذه الرواية أن راويها الذي هو أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - عمل بخلافها وذلك فيما رواه الطبراني أن علياً - رضي الله عنه - أتي برجلٍ من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمة فقامت عليه البينة فأمر بقتله فجاء أخوه – أي أخو المقتول – فقال : إني قد عفوت ، قال : لعلهم هددوك وفرقوك وقرعوك ؟ قال : لا ، ولكن قتله لا يردُّ عليّ أخي وعرضوا لي ورضيت ، فقال : أنت أعلم ، من كان له ذمتنا فدمه كدمنا وديته كديتنا " فانظر للفرق بين روايته الأولى ورأيه فلاشك تجد بينهما تعارضاً ، ولذلك أخذ الحنفية بأصلهم المتقرر فقدموا رأيه على روايته فقالوا : المسلم إذا قتل ذمياً قُتل ، ووافقهم على ذلك الشعبي والنخعي وغيرهما ، لكن لاشك أن الراجح هو قول جمهور أهل العلم من أن المسلم لا يقتل بالكافر وهو عام في الذمي والحربي ، وأما رأيه فيجاب عنه بأجوبة :(1/114)
الأول : أن سنده ضعيف فإن فيه أبا الجنوب الأسدي وهو ضعيف الحديث كما قاله الدارقطني . الثاني : أنه معارض بمثله لأن أمير المؤمنين علياً - رضي الله عنه - أفتى بأن لا يقتل مسلم بكافرٍ . الثالث : أنه وإن سلمنا صحة رأيه وليس معارضاً بمثله فإن المعتمد عندنا هو روايته لا رأيه لأن رأيه يعد اجتهاداً منه واجتهاد الصحابي ليس بحجةٍ إذا خالف نص المعصوم - صلى الله عليه وسلم - فإذا تعارض رأي الراوي وروايته فالمعتمد هو الرواية لا الرأي ، والله أعلم .
ومنها : السنة في السفر قصر الرباعية ركعتين ، بل لو قلنا أن القصر واجب لما أبعدنا وذلك لحديث عائشة في الصحيحين (( فرضت الصلاة ركعتين فأتمت صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على الأول )) فإن قيل فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها أتمت في السفر ، قلنا : العبرة في روايتها لا رأيها ، فروايتها لعموم الأمة ورأيها لها والله أعلم .(1/115)
ومنها : لبن الفحل هل ينشر الحرمة في أقاربه أو لا ؟ وصورة المسألة إذا رضعت صبية من امرأة لها زوج هذا اللبن انعقد بسببه – أي بسبب وطئه – فإنهم اتفقوا على أن هذه المرضعة أم للصبية وأن أولاد المرضعة إخوة لهذه الصبية من الرضاع ، واتفقوا أيضاً أن هذا الزوج يكون أباً لهذه الصبية من الرضاع ، ثم اختلفوا هل يكون أخو الزوج عماً لهذه الصبية من الرضاع ؟ ولو تزوج هذا الزوج امرأة أخرى غير التي أرضعتها وجاءت بأولاد فهل يكونون إخواناً لهذه الصبية من الأب ؟ هذا هو المراد بقولنا " هل لبن الفحل ينشر الحرمة في أقاربه أو لا ؟ " فذهب جمهور أهل العلم إلى أنه ينشر الحرمة أي يكون أقارب الزوج من النسب أقارب لهذه الصبية من الرضاعة ، فأخوه عمها وأبناؤه من كل زوجةٍ إخوتها من الأب ، وأبوه جدها من الرضاعة وهكذا واستدلوا بحديث عائشة قالت: إن أفلح أخا أبا القعيس جاء يستأذن عليها – وهو عمها من الرضاعة – بعد أن نزل الحجاب ، قالت فأبيت أن آذن له فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرتُهُ بالذي صنعت فأمرني أن آذن له وقال : إنه عمك )) وفي رواية أنها قالت : إنما أرضعتني امرأة أبي القعيس )) ووجه الدلالة أن أخا أبي القعيس صار عماً لعائشة لأن عائشة رضي الله عنها شربت من لبن أخيه أبي القعيس وهو نص صحيح صريح . وهو الذي روته عائشة رضي الله عنها ، لكنها خالفت مرويها هذا فكانت ترى أن لبن الفحل لا ينشر الحرمة ، والعجب من الحنفية أنهم في هذا الفرع أخذوا بروايتها وتركوا رأيها ، فقالوا بما قال به الجمهور من أن لبن الفحل ينشر الحرمة ، وكان المنتظر منهم أن يقولوه بأن لبن الفحل لا ينشر الحرمة عملاً بأصلهم في أخذ الرأي وترك الرواية ، لكن خالفوا أصلهم وأخذوا الرواية وتركوا الرأي ولعلهم رأوا أدلة أخرى جعلتهم يخالفون أصلهم ، أما نحن فالمعتمد عندنا هو الرواية لا الرأي ، فالراجح هو قول الجمهور لصحة حديث أبي القعيس وصراحته(1/116)
وهذا هو آخر الفروع والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد .
القاعدة العاشرة
( أفعال الشارع للندب ما لم تقترن بقولٍ فتفيد ما أفاد القول )
والمراد بالشارع : أي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، وقد ذكرنا في موضعٍ آخر أن التشريع يؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله وتركه وإقراره ، وهذه القاعدة تتكلم عن الأمر الثاني وهو أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - فكم أنواعها ؟ وما الأصل فيها ؟ وما الضابط في الفرق بينها ؟ وماذا يستفاد منها ؟ مع ذكر فروع فقهية مخرجة ؟ وما حكم الفعل إذا كان مقروناً بنهي ؟
هذه مسائل سوف نجيب عنها بعبارات مختصرة فأسأل الله التوفيق للحق والصواب فأقول : المسألة الأولى : قسم الأصوليون الأفعال الصادرة عنه - صلى الله عليه وسلم - إلى ثلاثة أقسام :
الأولى : أفعال فعلها على وجه التشريع وتسمى بالأفعال التشريعية ، وهي التي نريد الحديث عنها في هذه القاعدة .
الثاني : أفعال خاصة أي فعلها على غير وجه التشريع ، وإنما على وجه الخصوصية وحكم هذه الأفعال – أعني الخاصة – عدم جواز فعلها ، بل نحن نتعبد لله بتركها واعتقاد خصوصيتها به - صلى الله عليه وسلم - ويمثل لها بالزواج بأكثر من أربع وبجواز استقبال القبلة واستدبارها ، ووصال الصيام يومين متصلين وأكثر بلا إفطار بينهما ، وكالزواج بلا مهرٍ ، وغيرها – وهي كثيرة – وقد ألفت فيها المؤلفات النافعة فليراجعها من شاء .(1/117)
النوع الثالث : أفعال الطبيعة والجبلة والعادة وهي التي فعلها لا بمقتضى التشريع وإنما فعلها لداعي الطبيعة والعادة كالأكل والشرب والقيام والقعود والنوم والتخلي ، فهذه الأشياء في ذاتها إنما فعلت لداعي الطبيعة والجبلة والعادة لا لأنها تشريع أما هيئاتها التي أوقعت عليها فهي التي تعد من الأفعال التشريعية ، فمثلاً : الأكل فعل وكيفية الأكل فعل فالأول جبلي والثاني تشريعي ، وكذلك النوم فعل وهيئة النوم فعل فالأول جبلي والثاني تشريعي ، كذلك التخلي فعل ، وهيئة التخلي فعل فالأول جبلي والثاني تشريعي ، فهي أفعال جبلية لكن أوقعت على هيئاتٍ شرعية ، والحكم في هذا النوع من الأفعال أن لا يعطى حكماً بالنظر إلى ذاته مجرداً عن النية لأنه من جملة المباحات ، أما هيئته فهي داخلة تحت النوع الأول السابق ذكره وهو الفعل التشريعي .
إذاً فالأنواع ثلاثة : فالتشريعي يتعبد لله بفعله ، والخصوصي يتعبد لله بتركه ، والجبلي لا يدخل في مجال التعبد أصلاً – أعني بالنظر إلى ذاته – وأعني بذاته أي بغض النظر عن نية التقرب به وبغض النظر عن هيئته ، والله أعلم .
المسألة الثانية : اعلم أن الأصل في الأفعال التي فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها من قبيل الأفعال التشريعية حتى يدل دليل يخرجها من التشريع إلى الخصوصية أو الجبلية ، فأي فعل صدر منه - صلى الله عليه وسلم - فهو التشريع إلا بدليل ، والدليل على ذلك أمور :
منها : قوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } و الأسوة أي القدوة ، فهو قدوة لنا في أقواله وأفعاله ، فهذا هو الأصل ومن ادعى خلافه فعليه الدليل .
ومنها : أن الأصل أنه بعث للناس مشرعاً وهادياً لأقوم السبل ، فأقواله كلها يؤخذ منها الشرع الذي بعث لبلاغه إلا بدليل ، وكذلك أفعاله كلها يؤخذ منها التشريع إلا بدليل .(1/118)
ومنها : قوله تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي } فأمر باتباعه ، والاتباع هنا أمر عام فيشمل : الاتباع في الأقوال ، والاتباع في الأفعال . وهما الهدي القولي ، والهدي الفعلي .
ومنها : أنه - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه بالاستقراء أنه كان يأمر بالأخذ عنه في أفعاله ، فقال في الصلاة : (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) ، وصلى مرة على المنبر وقال : (( إنما فعلت ذلك لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي )) ، وكذلك أفعاله في الحج فكان كلما فعل فعلاً قال : (( خذوا عني مناسككم )) ، وكذلك لما سأله الأعرابي عن مواقيت الصلاة علمه بالفعل في يومين ثم قال : (( ما بين هذين وقت )) ، وقد كان الصحابة يقتدون به في أفعاله وهو يراهم ولا ينكر عليهم ، وهذا كله يدل على أن الأصل في باب الأفعال النبوية أنها للتشريع إلا ما دل الدليل على إخراجه إلى بابٍ آخر .
وفائدة هذا الأصل أنه إذا أشكل عليك شيء من الأفعال ، هل هو تشريعي أو من باب الخصوصية أو الجبلة ؟ فاعمل بالأصل هذا ، وقل هو للتشريع لأن الأصل في أفعاله التشريع ، وأيضاً إذا ادعى أحد أن فعله هذا من باب الخصوص ، فقل له : لا نقبل قولك هذا إلا بدليل لأن الأصل في فعله التشريع ، فلماذا أخرجته عن أصله ؟ ما الدليل على هذا الإخراج ؟ ذلك لأن الدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه ، لكن هو لا يستطيع أن يقول لك : وما دليلك أنت على أن فعله هذا للتشريع ، لأن معك الأصل ، ومن كان قائلاً بالأصل فإنه لا يطالب بالدليل ، فاحفظ هذا الأصل فإنه سيكون فاصلاً للنزاع فيما ستراه من الفروع التي كثر فيها الخلاف، والله أعلم.
(المسألة الثالثة) : وهي قولنا (ما الضابط في الفرق بينها) أي بين هذه الأقسام الثلاثة ، الأفعال التشريعية والخصوصية والجبلية .(1/119)
فأقول : قد بحثت في غالب كتب أهل الأصول فلم أجد ضابطاً إلا وهو مدخول ، وقد لبثت سنين في البحث عن هذا الضابط وأكثرت السؤال عنه فلم يشف ذلك ما في صدري ، وما زلت في البحث والتحقيق حتى تسطير هذا الكتاب ، فلما رأيت الأمر كذلك رأيت لزاماً علي أن أذكر لك ما ذكره الأصوليون من الفروق والضوابط في التفريق بين هذه الأفعال إلى تيسر بحث آخر إن شاء الله تعالى .
فأقول : اعلم رحمك الله تعالى أن التفريق بين هذه الأفعال من أهم المطالب ، وذلك لأن عدم التفريق بينها موجب للاختلاف في التأسي بها من عدمه ، بل غالب خلاف العلماء في أفعاله إنما منشؤها من عدم التفريق بينها ، ولذلك حرص العلماء على محاولة التفريق بينها . فقالوا : إن الأشياء الضرورية التي لابد لكل أحدٍ منها هي من الأفعال الجبلية فلا يتأسى به بها ، وذلك كالأكل والشرب والنوم والتخلي والقيام والقعود ونحوها ، لأن هذه الأفعال إنما فعلها من باب الضرورة واقتضاء الجبلة ، وكذلك الأفعال التي هي من عادة قومه لا تشريع فيها ، كاللباس والشعر – على ما مثل به بعضهم – وكذلك الأفعال التي فعلت من باب الموافقة من غير قصدٍ لا تشريع فيها كاختيار مكان التخلي ومكان الصلاة في السفر ، فذلك لم يحصل قصداً وإنما حصل موافقةً ، ولذلك أنكر الصحابة على ابن عمر شدة تتبعه لآثار هذه الأمكنة ، وقطع عمر شجرة رأى الناس يبتدرونها يصلون عندها بحجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى عندها ، وقال : " أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد " ، فهذه الأقسام الثلاثة السابقة كلها تدخل تحت فعله الجبلي والطبعي ، فلا يؤخذ منها تشريع ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها بقصد القربة وإنما فعلها ضرورة أو جبلةً أو مسايرة لعادة قومه أو من باب الموافقة .(1/120)
ثم يأتي خلاف العلماء في آحاد الأفعال فتراهم قد يختلفون في تحديدها ومن باب التمثيل أذكر لك شيئاً من الخلاف : فمثلاً لبس العمامة هل يستفاد منه أنه سنة أو هو من باب موافقة عادة قومه لأنهم كانوا يعتمون ؟ فيه قولان للعلماء : سببه خلافهم في مأخذ لبس العمامة هل فعله تشريعاً أو موافقة لعادة قومه ؟ ، وكذلك خلافهم في توفير الشعر هل هو سنة أو لا ؟ فيه قولان لأهل العلم وسببه خلافهم في مأخذ توفير شعره - صلى الله عليه وسلم - هل فعله تشريعاً أو موافقةً لعادة قومه ؟ وكذلك خلافهم في الذهاب يوم العيد من طريق والرجوع من طريق آخر ، هل فعله تشريعاً فيكون سنة أو من باب الموافقة فقط فلا يكون سنة ؟ ، فيه قولان سببه هو ما ذكرته لك ، وهكذا وسوف يأتي تحقيق هذه الفروع إن شاء الله تعالى وبيان الراجح فيها في ذكر التفريع على أصل القاعدة .
وإنما المقصود الإشارة ، فهذا هو ضابط الأفعال الجبلية ، وأما الأفعال الخاصة فكل فعلٍ انفرد به ولم يتأس به غيره فهو خاص به ، وما عدا ذلك فهو من قبيل الأفعال التشريعية ، هذا مجمل ما ذكره أهل الأصول ، وفيه خير كثير ولا يخلو من نقص ، لكن يبقى عندك أمر مهم وهو أنه إذا أشكل عليك تحديد فعلٍ من أفعال الشارع - صلى الله عليه وسلم - فارجع إلى الأصل الذي قررته لك سابقاً وهو أن الأصل في أفعاله التشريع ، والله أعلم .
(المسألة الرابعة) : (ماذا يستفاد منها) وأعني بها الأفعال التشريعية ، أي التي فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقصد القربة ، ما هو الحكم الشرعي الذي يستفاد منها ؟(1/121)
أقول : هذا هو المقصود من القاعدة وما مضى إنما هو كالمقدمة له ، وقد اختلف الأصوليون في الفعل المجرد عن القول ، ماذا يستفاد منه ؟ على أقوال : فقال بعضهم يستفاد منه الوجوب ، أي كل فعل فعله بقصد القربة فإنه للوجوب كالقول ، وقال بعضهم : بل يستفاد منه الاستحباب والندب ، وقال بعضهم : لا هذا ولا ذاك وإنما يفيد الإباحة ، وقال بعضهم : بل نتوقف فيه إلى ورود المرجح .
والصواب والله أعلم هو ما نصت عليه القاعدة وهو أن فعله - صلى الله عليه وسلم - المجرد عن القول يفيد الندب والاستحباب ، واختار هذا القول أبو العباس بن تيمية وهو المشهور من مذهب الأصحاب ، واختاره ابن حزم والفخر الرازي والبيضاوي وغيرهم ، بل هو مذهب الجمهور ، وهو القول الذي دلت عليه الأدلة ، وذلك لأن هذا الفعل الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه التعبد هو طاعة وقربة ، ولا تكون أبداً خارجة عن الوجوب أو الندب ، أي إما أن تكون واجبة وإما أن تكون مندوبة ، والقدر المشترك بينهما ترجيح الفعل على الترك ، وهذه هي حقيقة المندوب . فقصد القربة يخرجه عن حد الإباحة ، لأن الإباحة لا ترجيح فيها لا لفعلٍ ولا لترك ، والقربة فيها ترجيح الفعل ، فاحتمال الإباحة فيه لا يرد ، فيبقى احتمال الوجوب والندب فهو مشترك بينهما ، والقدر المشترك هو أن فعله خير من تركه وهذا هو الندب ، وبه تعرف أن الراجح هو أن أفعاله التي قصد بها القربة لها حكم الندب ، ولا تنزل إلى مرتبة الإباحة ، ولا ترتقي إلى مرتبة الوجوب ، وهذا هو الذي سوف نطنب في ذكر فروعه إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .
(المسألة الخامسة) ما حكم الفعل إذا كان مخالفاً لنهي أو أمرٍ ، أي إذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء ثم فعله (لا على وجه الخصوصية) فما حكم هذا الفعل ؟(1/122)
الجواب : هذا الفعل لا يحكم له بأنه سنة لأنه ليس فعلاً مجرداً ، والأفعال التي قلنا إنها للندب هي الأفعال المجردة عن أمر أو نهي ، لكن هذا الفعل يدخل تحت قاعدة أخرى وهي : " أن الفعل إذا خالف النهي الصريح فإنه لبيان الجواز " أي لبيان أن النهي ليس على بابه الذي هو التحريم ، وإنما هو للكراهة فيكون هذا الفعل صارفاً للنهي عن حقيقته إلى الكراهة ، وهذا أولى من قول بعضهم : إن الفعل يكون في هذه الحالة خاصاً به ، والنهي لأمته ، ويعبرون عنه بقولهم : الفعل الخاص به لا يعارض النهي العام للأمة ، ولكن الواجب أن لا يجعل الفعل معارضاً للنهي إذا أمكن الجمع ، وذلك ممكن بجعل الفعل صارفاً للنهي من الحرمة إلى الكراهة ، لكن بشرط : وهو أن يكون الفعل المخالف للنهي قصد إظهاره ، لأنه حينئذٍ يراد به التشريع ، أما الفعل الذي لم يظهره - صلى الله عليه وسلم - لمن يحصل بهم البلاغ فلا يجعل معارضاً للنهي بل يكون خاصاً به ، ومن باب التوضيح نذكر شيئاً من الفروع على ذلك فأقول :
منها : ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن البول واقفاً في أحاديث كثيرة ، وثبت عنه أيضاً أنه خالف ذلك وبال مرةً قائماً كما في حديث حذيفة عند الشيخين ، وفعله - صلى الله عليه وسلم - بمحضرٍ من حذيفة بل لما ابتعد حذيفة أمره أن يقترب حتى قام عند عقبه حتى فرغ ، أي أنه قصد إظهار هذا الفعل ، فعلى قاعدتنا هذه يكون هذا الفعل صارفاً للنهي عن بابه إلى الكراهة ، فالبول قائماً صرف من التحريم إلى الكراهة ، لأن هذا الفعل لبيان الجواز ، فيجوز البول قائماً بشرطه لكن مع الكراهة ، هذا أولى من أن نعلل فعله هذا بعللٍ لا دليل عليها من أنه كان للاستشفاء أو لجرح في مئبضه أو لأنه كان في سباطةٍ قومٍ مرتفعة ، بل الأصوب أن يقال إنه فعله لبيان الجواز ، وأما إنكار عائشة رضي الله عنها فلعدم علمها بما رأى حذيفة ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ .(1/123)
ومنها : ثبت عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشرب قائماً في عدة أحاديث صحيحة ، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه خالف ذلك النهي فشرب مرةً قائماً من بئر زمزم كما في حديث علي - رضي الله عنه - قال : " فدعا بسجلٍ من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ " ، وكذلك شرب واقفاً من القربة المعلقة وهذا الفعل كان بمحضرٍ من الناس . فنقول : إنما فعله - صلى الله عليه وسلم - لبيان الجواز أي لبيان جواز الشرب قائماً ، فالنهي إذاً مصروف عن بابه إلى الكراهة ، وذلك للجمع بين الأدلة لأنه إذا أمكن العمل بالدليلين فهو أولى ، وبه تعلم أن من قال إنما شرب قائماً للزحام أو لضرورة الوقوف لأن القربة معلقة أنها تعليلات عليلة ، بل الصواب أن يقال : إنه شرب قائماً لبيان الجواز وأن النهي الذي صدر منه ليس للتحريم وإنما للكراهة ، فالشرب قائماً جائز لكن مع الكراهة ، فقلنا بالجواز : لوجود الفعل ، وقلنا بالكراهة : لوجود النهي ، وبه تتآلف الأدلة ولله الحمد والمنة ، وعلى ذلك فقس . فالفعل المظهر إذا خالف النهي فلبيان الجواز ويكون صارفاً للنهي من التحريم إلى الكراهة .
فإن قلتَ : فلماذا اشترطت في الفعل أن يكون ظاهراً ، قلتُ : لأنه لا يكون تشريعاً إلا مع الإظهار ، إذ ما الفائدة من تشريع يختفي به - صلى الله عليه وسلم - فهو مأمور أن يبلغنا شرع ربنا ، وكيف يحصل البلاغ مع الاختفاء ؟ فإذا اختفى بفعل علمنا أنه لم يرد به التشريع ، ولذلك اشترطنا أن يظهره ولو عند واحدٍ من المكلفين ليحصل البلاغ ، فنحن لا نطالب بشريعة إلا إذا علمناها ، ولا يمكن أن نعلمها إلا إذا ظهرت لنا ، فإن قلتَ : هل عندك شيء من الفروع الفقهية على هذا ؟(1/124)
فالجواب : نعم ، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه بالتواتر أنه نهى عن استقبال القبلة واستدبارها في أحاديث كثيرة ، وثبت عنه في حديث ابن عمر أنه رآه مستدبراً الكعبة على ظهر بيت حفصة ، وكذلك جابر رآه يستقبل القبلة ، فهل هذا الفعل يعد صارفاً للنهي عن بابه إلى الكراهة ، فنقول : لا ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقصد إظهار هذا الفعل ، ففي حديث ابن عمر أنه كان على بيت حفصة ، وأي بلاغ يحصل للأمة بفعلٍ استخفى به على بيت حفصة ولا يعلم هو بابن عمر ، ولا يمكن أن يشرع - صلى الله عليه وسلم - لأمته بكشف عورته ، وكذلك في حديث جابر لا ندري أهو رآه أو لا ؟ ففعله المخالف لنهيه لم يظهره كما أظهر الشرب قائماً والبول قائماً ، مما يدل على أنه لا يريد به التشريع ، فنبقى نحن على قوله الصريح الذي لا يتطرق له الاحتمال ، ونترك فعله المخالف له ونقول : إنه خاص به، وهذا هو القول الصحيح . واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وجمع من المحققين ، ولذلك اشترطنا أن يكون الفعل المخالف للنهي ظاهراً .
فهذا بالنسبة لقاعدة الفعل المخالف للنهي الصريح ، وأما الفعل المخالف للأمر الصريح كأن تأمر الأدلة بشيءٍ ثم يخالفه النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله فلا يفعله ، أي لا يمتثل هذا الأمر ويفعل خلافه ، فهذا الفعل أيضاً نقول إنه لبيان الجواز وأن الأمر ليس على الوجوب وإنما للاستحباب فقط ، إذ لو كان الأمر واجباً لما خالفه ، فلما خالفه بفعله دل على جواز المخالفة ، وعلى ذلك بعض الأمثلة :(1/125)
منها : أمر الله تعالى بالوضوء عند القيام إلى الصلاة أمراً معلقاً بشرط ، وتقدم لك أن الأمر المعلق على الشرط يفيد التكرار إذا كان الشرط علة له ، فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر المؤمنين مأمورين بتكرار الوضوء عند تكرر القيام إلى الصلاة ، هذا هو ظاهر الآية ، لكن ثبت في صحيح مسلم وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خالف هذا الأمر وصلى الصلوات الخمس بوضوءٍ واحد وقال : (( عمداً فعلته )) ، ففعله هذا مخالف للأمر فيدل على بيان الجواز ، لكن المستحب تكرار الوضوء وتجديده ، لكن لو صلى الصلوات الكثيرة بوضوءٍ واحد فلا بأس ، وهذا هو الصحيح ولا شك . فجعلنا الفعل لبيان جواز الترك والأمر القولي للاستحباب .
ومنها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً )) فهذا أمر قولي يقضي أن يكون الوتر هو آخر صلاة الليل ولا شيء بعده من صلاة الليل ، وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خالف ذلك الأمر بفعله ، فثبت عنه أنه صلى بعد الوتر ركعتين وهو جالس ، فالفعل خالف القول ، لأن هاتين الركعتين من جملة صلاة الليل ، فيكون فعله هذا لبيان الجواز ، والأمر لبيان الاستحباب ، فالفعل هذا صرف الأمر القولي عن بابه إلى الندب ، فيجوز للإنسان التطوع بشفعٍ بعد الوتر ، لكن المستحب أن يجعل الوتر آخر صلاة الليل ، فيصلي ما شاء من الشفع ثم يوتر ، لكن لو أوتر ثم بدا له أن يصلي بقية الليل فله ذلك لكن لا يعيد الوتر مرة أخرى لحديث : ((لا وتران في ليلة)) .
والفروع كثيرة وإنما المقصود الإشارة ، فنخلص من ذلك أن فعله - صلى الله عليه وسلم - إذا خالف أمره أو نهيه فإنه لبيان الجواز ، أي لبيان جواز الترك في الأمر ، ولبيان جواز الفعل في النهي ، وأن فعله يُعَدُّ من جملة الصوارف للأمر من الوجوب إلى الاستحباب ، والنهي من التحريم إلى الكراهة التنزيهية . هذا هو التحقيق في هذه المسألة .(1/126)
فإن قلتَ : فما حكم الفعل إذا كان مقروناً بأمرٍ قولي ؟ أقول : إذا كان فعله - صلى الله عليه وسلم - مقروناً بأمرٍ قولي فإنه يعطى حكم هذا القول وهو المراد بقولنا في القاعدة (ما لم تقترن) أي الأفعال (بقول فتفيد ما أفاد القول) أي فإن كان الأمر القولي يفيد الوجوب فإن الفعل أيضاً للوجوب ، وإن كان القول للاستحباب فالفعل للاستحباب .
ونذكر لك فروعاً على هذه القاعدة ، أعني قاعدة : الفعل إذا كان مقروناً بأمرٍ قولي فيعطى حكمه .
فمن الفروع : أفعال الصلاة من قيامٍ وقعود وسجود وركوع هي أفعال لكنها اقترنت بقوله - صلى الله عليه وسلم - ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) وبأمره بها للمسيء صلاته ، فتكون هذه الأفعال لها حكم القول والقول هنا للوجوب فتكون واجبة أيضاً لاقترانها بأمر قولي واجب
ومنها : أفعال المناسك من رمي ووقوف بعرفة ومبيت بمزدلفة وطواف وسعي وحلقٍ ونحوها من المناسك ، هي أفعال لكنها اقترنت بأمر قولي في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( خذوا عني مناسككم )) فتعطى هذه الأفعال حكم القول ، والقول هنا للوجوب فكذلك أيضاً هذه الأفعال لها حكم الوجوب ، لأنها اقترنت بأمر قولي واجب إلا ما دل الدليل على سبيته كطواف القدوم .
ومنها : ثبت عند ابن حبان وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بعد غروب الشمس ركعتين فهذا فعل ، لكن هذا الفعل اقترن بأمرٍ قولي وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( صلوا قبل المغرب )) ثلاثاً ، فتعطى حكمه ، فنظرنا إلى هذا القول فوجدناه للاستحباب ، بدليل قوله في آخر الحديث ((لمن شاء)) كراهية أن يتخذها سنة ، أي عادة وطريقة ، فالقول يفيد الاستحباب فكذلك أيضاً الفعل يفيد الاستحباب ، لأنه اقترن بأمرٍ قولي يفيد الاستحباب.(1/127)
ومنها : ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع يمين السارق وهذا فعل لكنه اقترن بقوله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وهذا القول للوجوب ، فيكون فعله أيضاً للوجوب ، فإذا سرق السارق وجب قطع يمينه ، وقلنا إن الفعل هنا واجب لأنه اقترن بأمرٍ قولي واجب .
ومنها : أفعال الوضوء فقد اقترنت هذه الأفعال بأمرٍ قولي كما في آية الوضوء ، وهذا القول له حكم الوجوب ، فكذلك أيضاً الأفعال تأخذ حكم الوجوب لأنها اقترنت بأمرٍ قولي واجب ، وبذلك تعرف أن الأفعال إذا كانت مقرونة بأمرٍ قولي فإنها تعطى حكمه . فإن كان القول للوجوب فهي واجبة ، وإن كان للاستحباب فهي مستحبة ، والله أعلم .
فإن قلتَ : قد ذكرت لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نهى عن شيء ثم خالفه بفعله فيكون الفعل لبيان الجواز ، أي تجوز المخالفة مع الكراهية ، فهل يتصور أن يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلاً مكروهاً وهو رسول الله ؟
فأقول : إن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - المخالف لنهيه ليس بمكروهٍ في حقه خاصة لأنه يلزم عليه أن يبلغنا به ، ففعله هذا واجب لوجوب البلاغ ، وإنما هو مكروه في حقنا ، فالبول قائماً مثلاً مكروه في حقنا لكنه - صلى الله عليه وسلم - لما بال واقفاً فإن وقوفه هذا الذي قصد بيان الجواز ليس بمكروه ، لأنه من باب البلاغ الواجب عليه .
فإن قلت : أفلا بلغنا جواز المخالفة بالقول كما بلغنا النهي بالقول ، فلماذا يبلغنا بالفعل ؟ فالجواب : أن هذا تحكم على الشارع وحجر عليه ، ولا يليق هذا السؤال بأهل الأدب ، فللشارع أن يبلغنا بما شاء بقوله أو فعله أو تقريره أو تركه كل ذلك راجع إلى المصالح والحكم الشرعية والله أعلم .(1/128)
(المسألة السادسة) إذا عرفت ما مضى فلم يبق إلا الفروع على القاعدة التي هي أم الباب ، وهي أن الأفعال المجردة تفيد الاستحباب ، وفروعها كثيرة لكن نذكر لك بعضها من باب التنبيه على غيرها :
فمنها : رفع اليدين في الصلاة ، فعل من الأفعال ثبت بالأدلة في مواضع ، عند تكبيرة الإحرام ، وعند الركوع ، وعند الرفع منه ، وعند القيام من التشهد الأول ، وهو للندب لأنه فعل والأفعال لها حكم الندب . فإن قلت : كيف لم يقترن بقولٍ وهو فعل في الصلاة وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) ؟
فأقول : هذا سؤال جيد وجوابه أن يقال : إن الأمر في قوله : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) عام في جميع أفعال الصلاة إلا ما أخرجه الدليل فهو أمر وجوب في الأفعال الواجبة ، وأمر استحباب في الأشياء المستحبة ، والرفع في المواضع الأربعة مستحب لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر به المسيء صلاته ، ولو كان الرفع واجباً لأمره به لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، فيكون الرفع داخلاً في قوله : ((كما رأيتموني أصلي)) ، لكن لا للوجوب ، وإنما للاستحباب لوجود الصارف وهو عدم أمر المسيء صلاته به .
ومنها : الجلوس بين الخطبتين ، فعل مجرد ، فهو للاستحباب جرياً على هذه القاعدة .
ومنها : الذهاب للعيد من طريق والعودة من طريق ، من جملة الأفعال فيكون سنة لأن الأفعال المجردة مندوبة .(1/129)
ومنها : جلسة الاستراحة ، فيها خلاف بين أهل العلم على أقوال : فقيل لا تسن أصلاً وهذا قول بعيد عن الصواب ، لمخالفته الأحاديث الصحيحة . وقيل : سنة مطلقاً أي عند الحاجة لها أو عدمه . وقيل : سنة عند الحاجة لها فقط ، واستدل أصحاب هذا القول بدليلين : الأول : أنها ذكرت في بعض الأحاديث ولم تذكر في بعض ، والحديث الذي ذكرت فيه هو حديث مالك بن الحويرث ، وهو متأخر الإسلام أي بعد كبر سن النبي - صلى الله عليه وسلم - . الثاني : أن اسمها يدل على أنها لا تشرع إلا عند الحاجة لها .
ولكن الصواب أنها سنة مطلقاً تفعل أحياناً وتترك أحياناً ، والدليل على سنيتها حديث مالك بن الحويرث عند البخاري ، والأصل أن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - تشريعية ، وأما تسميتها بجلسة الاستراحة إنما هو عند الفقهاء المتأخرين ، والمصطلحات الحادثة لا تكون حاكمة على الأدلة الشرعية ، فتحديد حكمتها بأنها للاستراحة فقط لا دليل عليه . فالقول الراجح هو أنها سنة مطلقاً عند الحاجة وعدمها ، ولكن ليست بسنةٍ مؤكدة لا تترك أبداً ، بل السنة تركها أحياناً ، لأن ما ليس بسنةٍ راتبة فالأفضل تركه أحياناً .
ومنها : رفع اليدين بالدعاء في مواضع رفع اليدين كالاستسقاء على المنبر وفوق الصفا والمروة ونحوه ، هو من باب الأفعال فهو إذاً سنة ، لأن الأفعال المجردة يحكم لها بأنها للندب .
ومنها : التورك في التشهد الأخير في الرباعية والثلاثية ، فعل من الأفعال فهو سنة.
ومنها : تقبيل الحجر الأسود واستلامه هو والركن اليماني من جملة الأفعال ، فهي إذاً سنة لهذه القاعدة .
ومنها : تأخير العشاء إلى نصف الليل ، ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله ورغب فيه بقوله ، كما في حديث عائشة وابن عباس ، فتأخيرها إذاً سنة إذا لم يشق على المأمومين .(1/130)
ومنها : الوضوء للطواف ، فيه خلاف طويل ، والراجح أنه سنة ، لأن الحديث إنما فيه : " أنه توضأ ثم طاف " ، وهذا فعل والفعل المجرد يدل على السنية ، وحج معه الجم الغفير وطافوا ولم يثبت أنه أمر واحداً منهم بالوضوء مع أنهم جاءوا ليتعلموا منه مناسكهم .
ومنها : ذكر الدخول للخلاء وللمسجد ، كل ذلك سنة لأنه فعل من الأفعال .
ومنها : التثليث في الوضوء ، أي غسل الأعضاء المغسولة ثلاثاً سنة لأنه فعل من الأفعال .
ومنها : الوضوء قبل الغسل من الجنابة سنة ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله ، والأفعال لها حكم الندب .
والفروع كثيرة ولعل فيما مضى كفاية لأن المقصود الإشارة ، والله أعلم.
القاعدة الحادية عشرة
(يبنى المطلق على المقيد عند الاتفاق في الحكم)
وهذه القاعدة العظيمة مهمة جداً لطالب الأصول ، لأنها ينبني عليها من الفروع الشيء الكثير ، فلابد للطالب من فهمها وإتقانها ، ومن باب تسهيلها أتكلم عليها في عدة مسائل :
(المسألة الأولى) المطلق لغة : هو المنفك من كل قيد حسياً كان أو معنوياً .(1/131)
واصطلاحاً : هو اللفظ المتناول لفردٍ شائعٍ في جنسه ، أي يدل على فردٍ واحدٍ ، لكن هذا الفرد ليس بمحددٍ ولا بمعين ، فليس بمتميزٍ من جملة أفراد جنسه فهو شائع فيها ، والمراد بقولنا (شائع) أي غير متميز ، وذلك كقولي : أكرم طالباً ، فبالطبع لا تفهم أني أمرتك بأن تكرم كل طالب ، وإنما فهمت مني الأمر بإكرام طالب واحدٍ فقط ، لكن ماهية هذا الطالب وصفاته وقيوده غير محددة فهو طالب من جملة الطلبة ، فلفظة (طالباً) لفظ مطلق لأنه يدل على فرد غير متميز عن جملة حقيقته ، وقال تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } وهذا أمر بإعتاق رقبة ، فهي رقبة واحدة ، لكنها مطلقة شائعة في جنس الرقاب لا تتميز عنهم بشيء ، فلم يحدد لنا صفةً لهذه الرقبة تميزها عن جنس الرقاب ، وهكذا فالمطلق إذاً لا يفهم منه إلا تعيين الحقيقة لا تعيين الأفراد . وهذه الحقيقة التي دل عليها اللفظ مركبة من جملة أفراد ، واللفظ المطلق عين الحقيقة لكن لم يتعرض للأفراد بوصف ولا قيد فلذلك سمي مطلقاً ، لأنه ذكر الحقيقة منفكةً عن كل قيدٍ ، فأنت عرفت بقوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } جنس المراد عتقه وهو الرقبة ، لكن أي رقبةٍ هي ، وبأي ديانةٍ تكون ، ومن أي الأجناس ، عربية أم أعجمية ، بيضاء أم سوداء ، صغيرة أم كبيرة ، ذكر أم أنثى ، كل ذلك لم يتعرض له النص بشيء وإنما ذكر لك لفظاً مطلقاً عن كل قيدٍ فهذا هو اللفظ المطلق ، وأما المقيد : فهو اللفظ الدال على شيءٍ معين باسمٍ أو صفةٍ ، كأسماء الأعلام مثلاً أو الإشارة أو المعرف بالألف واللام ونحوها ، كل ذلك يسمى مقيداً ، لأنه يدل على شيءٍ زائدٍ على مجرد الحقيقة ، فهو يذكر لك الحقيقة ويقيد لك الفرد الذي يريده منها باسمه أو صفته التي تميزه عن غيره من جملة أفراد هذه الحقيقة ، كقوله تعالى في كفارة قتل الخطأ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } فإنها هنا لم تذكر مطلقة كما ذكرت في كفارة الظهار ، بل قيدت بوصف(1/132)
حددها وميزها عن غيرها وهو قوله : { مُؤْمِنَةٍ } فهذا الوصف حدد لنا المراد بالرقبة ، وإن كان قد بقي فيها بعض جوانب الإطلاق ، فكلمة { مُؤْمِنَةٍ } لفظ قيد الرقبة وأخرجها عن إطلاقها ، لأنها لم تعد بعد تقييدها منفكة من القيود ، فهذا بالنسبة لتعريفهما . وخلاصته : أن اللفظ المطلق يدل على الحقيقة مجردة عن وصفٍ زائدٍ ، والمقيد يدل على الحقيقة بزيادةٍ قيدٍ من اسم أو وصف ، والله أعلم .
(المسألة الثانية) اعلم أن النكرة إذا وردت في سياق الإثبات فهي من الألفاظ المطلقة كقوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } فهنا إثبات ، ولفظ { رَقَبَةٍ } نكرة فهي إذاً لفظ مطلق ، وكقولي (أكرم ضيفاً) فهذا إثبات للإكرام وأمرٌ به ، ولفظ (ضيفاً) نكرة فهو إذاً مطلق لأن النكرة في سياق الإثبات مطلقة ، وكقولي (أعط فقيراً صدقة) فهذا إثبات و(فقيراً) نكرة ، وكذلك لفظ (صدقة) نكرة أيضاً ، فهما نكرتان في سياق إثبات فهي إذاً لفظ مطلق ، وكقوله تعالى : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } فـ { آتُوا } أمر و { حَقَّهُ } نكرة ، فهو إذاً لفظ مطلق ، وهكذا فأي نكرة تأتيك في سياق الإثبات فاعلم أنها من جملة الألفاظ المطلقة .(1/133)
(المسألة الثالثة) اعلم – أرشدك الله لطاعته – أن الدليل المطلق يجب العمل به على إطلاقه ولا يجوز تقييده إلا بدليل صحيح ، لا بمجرد الهوى والمذاهب وأقوال الأئمة ، وأن الدليل يطلب ممن ادعى التقييد ، لأنه مدعٍ والبينة على المدعي ، فإذا جاء بدليلٍ شرعي صحيح مثبتٍ لهذا القيد قبلناه ، وإلا فهو مردود عليه ، وذلك لأن الدليل المطلق من كلام الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وكلاهما لا يجوز التحكم فيه بتقييدٍ أو اشتراط أو تقديم أو تأخير إلا بدليل آخر من كلامهما ، أما التحكم والهوى والتعصب فكل ذلك لا يصلح أن يكون مستنداً للعقلاء في تقييد المطلق من كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فأي حكم ورد في الكتاب والسنة مطلقاً فإنه يجرى وجوباً على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل صحيح ، ولأن هذه الشريعة من مقاصدها التيسير على المكلفين ، وإن إطلاق الأحكام الشرعية عن القيود نوع من أنواع التيسير والتخفيف ، لأن القيد فيه تكليف زائد على التكليف بالمطلق ، وزيادة التكليف قد توجب عدم الامتثال ، فورود الأحكام مطلقة من رحمة الله تعالى بعباده ، فلا يجوز لأحدٍ من الناس أن يقيد المطلق بقيودٍ تخرجه من حيز التيسير إلى حيز التعسير كما يفعله بعض الفقهاء – هداهم الله تعالى – فإن بعضهم : - وهم قليل – يعمدون إلى أحكامٍ وردت في الشريعة مطلقة لا قيود فيها ثم يشترطون فيها شروطاً لا دليل عليه فيضيقون على الناس ما وسعه الله عليهم حتى تذهب روح التشريع من هذا الحكم فيكون في تنفيذه من الآصار والأغلال بسبب هذه القيود الشيء الكثير ، ونضرب لك أمثلة على ذلك حتى ترى كيف أثر هذه القاعدة أعني قاعدة وجوب إجراء المطلق على إطلاقه فأقول :(1/134)
من الأمثلة : المسح على الخفين فإنه رخصة بإجماع أهل السنة والجماعة ، حتى ذكره بعض علماء الاعتقاد في كتبهم كالطحاوي وغيره في عقيدته ، وأصل تشريعه إنما هو الرحمة وإرادة التخفيف ، وإن الأدلة الدالة على جواز المسح على الخفين والجوربين بلغت مبلغ التواتر ، وبالنظر فيها لم أجد غالب ما يشترطه الفقهاء في الخفين ، فإنهم قد اشترطوا لجواز المسح عليها شروطاً لا دليل عليها ، أو لها أدلة لكنها ليست بصريحة فضلاً عن مخالفتها للأدلة الصحيحة وأصول الشريعة ، فمن ذلك اشتراط كونه صفيقاً لا يرى لون البشرة من تحته ، فهذا قيد يقيدون به أدلة المسح المطلقة ، فنقول : وأين الدليل الدال على هذا القيد ؟ وعلى اعتباره فإن أتوا بدليل – وأنى لهم به – وإلا فكلامهم مردود ، ولذلك فالراجح جواز المسح على الخف الشفاف الذي ترى من تحته البشرة ، لأن الأدلة وردت مطلقة والأصل إجراء المطلق على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل .
ومن ذلك : اشتراطهم أن يكون الخف سليماً من الخروق والفتوق ، وهذا أيضاً تقييد للمطلق فنقول : وأين الدليل الدال على هذا القيد ؟ وإلا فهو قيد باطل لا ينظر إليه، وإنك إذا نظرت إلى تعليلهم في اشتراط كونه سليماً من الخروق وجدته عليلاً وقياساً باطلاً ، فالصواب هو جواز المسح على الخف المخرق مادام اسمه باقياً ، ويمكن متابعة المشي فيه وهو اختيار أبي العباس شيخ الإسلام .
ومن ذلك : اشتراطهم في جواز المسح أن يثبت الخف بنفسه ، فالذي لا يثبت إلا بشده فإنه لا يجوز المسح عليه ، وهذا أيضاً قيد يحتاج إلى دليل ، فأين الدليل الدال على ذلك ؟ فالصواب جواز المسح على الخف ولو لم يثبت إلا بشده لأن الأدلة في المسح وردت مطلقة فلا تقيد إلا بدليل .(1/135)
ومن ذلك : اشتراطهم لجواز المسح على الخفين في السفر ثلاثة أيامٍ ولياليهن أن يكون سفر طاعة ، وهذا قيد يحتاج إلى دليل لأن الأحاديث أثبتت جواز المسح ثلاثة أيامٍ ولياليهن للمسافر هكذا مطلقاً من غير تقييد بسفرٍ دون سفر فأين الدليل الدال على هذا القيد ؟ فهو إذاً باطل ، فالمسافر يمسح المدة المقررة له شرعاً من غير اشتراط أن يكون سفر طاعة وهو اختيار أبي العباس شيخ الإسلام .
وعلى العموم فإنني سبرت الشروط التي يشترطها الفقهاء في المسح على الخفين فلم أجد شيئاً منها صالحاً للاعتبار إلا شرطين فقط وهما : اشتراط الطهارة ، وأن يكونا طاهرين مباحين ، وهذان القيدان لهما أدلة كثيرة يطول المقام بذكرها وبه تعرف أهمية قاعدة إجراء المطلق على إطلاقه وعدم قبول تقييده إلا بدليل شرعي صحيح ، وهذا هو المثال الأول .
المثال الثاني : المسح على العمامة فإن الأدلة فيها وردت مطلقة إلا أنك ترى بعض الفقهاء قد اشترط فيها شروطاً وقيدها بقيودٍ لا دليل عليها .
فمن ذلك : اشتراط أن تكون محنكة أو ذات ذؤابة فأين الدليل على ذلك ؟
فإني بحثت لهم عن دليل فلم أجد إلا قولهم : لأنها عمائم العرب ومثل ذلك لا يكون مقيداً لكلام الشارع ولذلك فهذه القيود باطلة والصواب أن المسح جائز على ما يسمى عمامة بأي عرفٍ كانت وعلى أي صفة كانت .
ومن ذلك : اشتراط الطهارة قبل لبسها وهذا أيضاً لا دليل عليه وقياسها على المغسول في الوضوء كالقدمين للابس الخفين قياس مع الفارق فالصواب أنه يجوز المسح عليها ولو لبسها على حدثٍ وهو اختيار أبي العباس لأن الأدلة وردت مطلقة وليس في شيءٍ منها اشتراط الطهارة .
ومن ذلك : توقيتها بيومٍ وليلة للمقيم وثلاثة أيامٍ للمسافر كالخفين وهو تقييد لا دليل عليه ولذلك فالصواب أنه يمسح عليها مطلقاً لأن الأدلة وردت مطلقة ولم تقيد المسح عليها بوقت والمطلق يجري على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل وهو اختيار أبي العباس .(1/136)
المثال الثالث : المسح على خمر النساء فإن الأدلة فيه وردت مطلقة فالنبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين والخمار ، والخمار اسم لما يغطى به الرأس وكانت أم سلمة تمسح على خمارها وهذه الأدلة مطلقة فمن قيدها بشيءٍ فعليه الدليل ، وبه تعرف خطأ من قيد جواز المسح على الخمار بكونه مداراً تحت الحنك فإن هذا القيد لا أصل له في كلام الله ورسوله فالصواب جواز المسح على الخمار ولو لم يكن مداراً تحت الحلق والله أعلم .
ومن الأمثلة أيضاً : وجوب صلاة الجمعة ، فإن الأدلة دلت على وجوبها إذا تحققت الجماعة ، هكذا وردت الأدلة ، فمن قيد وجوبها بعددٍ معين فعليه الدليل ، وإني لا أعلم إلى ساعتي هذه دليلاً صحيحاً صريحاً في الأعداد التي نص عليها الفقهاء ، فالحنابلة يشترطون الأربعين ولا دليل معهم إلا حديث جابر (( مضت السنة أن في كل أربعين فصاعداً جمعة )) وهذا ضعيف جداً ولا تقوم بمثله الحجة ، وبعضهم يشترط اثني عشر رجلاً ويستدل بحديث جابر عند مسلم في قدوم القافلة من الشام قال : (( فانفتل الناس إليها حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً )) وهذا وإن كان صحيحاً لكنه ليس بصريح في المراد وبما أنه لا دليل يقيد وجوبها بعددٍ معين فالأصل أنه إذا تحقق مسمى الجماعة ممن تجب عليه فإنه تجب عليهم وأقل الجماعة اثنان واحد يخطب وواحد يستمع ، أو على الأقل يقال : أقل الجمع ثلاثة واحد يخطب واثنان يستمعان ، وعلى كل حال فالمراد أن تعرف أن الدليل المطلق يجرى على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل صحيح صريح .
ومن الأمثلة أيضاً : ألفاظ النكاح والبيع ونحوها من سائر العقود وردت أدلتها مطلقة لم تقيد بلفظٍ لا تصح إلا به ، فمن قيد صحتها بألفاظٍ وشروطٍ معينة فعليه الدليل ولذلك فالراجح أن عقود النكاح والبيع ونحوها تصح بما تعارف عليه الناس في مثلها من قول أو فعل وهو اختيار أبي العباس والله أعلم .(1/137)
والمقصود من هذه الأمثلة التي ذكرتها لك أن تعرف معرفة جيدة أن الأدلة المطلقة تبقى هكذا على إطلاقها ومن ادعى فيها قيداً أو شرطاً زائداً على مجرد حقيقتها فعليه الدليل فإن جاء بدليل شرعي صحيح صريح فاقبله واعتمده وإن لم يكن ثمة دليل معه وإنما هي المذاهب وأقوال الأئمة فاطرح هذا القيد وأبق المطلق على إطلاقه ، فهذا هو الذي أردنا إثباته في هذه المسألة والله يتولانا وإياك .
المسألة الرابعة : وهي بيت القصيد ولب القاعدة وهي فيما إذا كان لفظ مطلق ولفظ آخر مقيد ، فما العمل في هذه الحالة ؟
والجواب عن ذلك أن في المسألة تفصيلاً يحتاج إلى فهم دقيق مع الإكثار من ضرب الأمثلة ، فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل وحسن التحقيق .
اعلم – رحمك الله تعالى – أنه إذا ورد لفظ مطلق ولفظ آخر مقيد أنك تنظر في سبب ورودهما والحكم الذي يدلان عليه ، ذلك لأن الأدلة التي تثبت أحكاماً شرعية لها سبب وردت من أجله وحكم تريد إثباته فأنت عليك أولاً أن تنظر في سبب كل منهما وتنظر في حكم كلٍ منهما وحينئذٍ إذا نظرت في ذلك فلا يخلو الأمر من أربع حالات :
الحالة الأولى : أن يختلفا في السبب والحكم ، أي يكون سبب ورودهما مختلفاً عن سبب الآخر ، وكذلك الحكم ، فحكم المطلق يختلف تماماً عن حكم المقيد ففي هذه الحالة لا يبنى أحدهما على الآخر بل يعمل بالدليل المطلق في موضعه مطلقاً ، ويعمل بالدليل المقيد في موضعه مقيداً وهذا بإجماع الأصوليين فيما أعلم ولله الحمد والمنة.
ونضرب لهما بمثالين ولن نطيل فيهما :(1/138)
المثال الأول : قوله تعالى في السرقة { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } فاليد هنا وردت مطلقة ولم تقيد بحدٍ ، فهذا الدليل مطلق ، وسببه السرقة ، وحكمه وجوب قطع اليد ، وقال تعالى في آية الوضوء { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } فاليد هنا وردت مقيدة بالمرفق ، والسبب هو الوضوء ، والحكم وجوب الغسل ، فهنا ذكرت اليد في الآيتين مطلقة في آية السرقة ومقيدة في آية الوضوء ، فهل نحمل المطلق على المقيد ونقول إذاً يد السارق تقطع من المرفق كما أن اليد في الوضوء تغسل إلى المرفق ؟
فالجواب : هو أن ننظر أولاً في سببهما وحكمهما ، فسبب الأولى السرقة وسبب الثانية الوضوء ، فهما إذاً مختلفتان في سببهما ، وحكم الأولى وجوب قطع اليد ، وحكم الثانية وجوب غسل اليد ، والقطع يختلف عن الغسل فهما إذاً المطلق والمقيد مختلفان في سببهما وحكمهما فهنا لا يبنى المطلق على المقيد بل يعمل بآية السرقة في موضعها فلا تقيد بالمرفق لكننا وجدنا لآية السرقة مقيداً صحيحاً معتبراً كما سيأتي إن شاء الله في الحالة الرابعة .
ومن الأمثلة أيضاً : قوله تعالى في آية التيمم { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } فاليد هنا في التيمم وردت مطلقة لم تقيد بشيء لا بمرفقٍ ولا غيره ثم وجدناها قيدت في آية الوضوء بالمرفق كما مضى ، فهل نقول كما أنها في الوضوء إلى المرفق فكذلك في التيمم ؟ فهل يبنى المطلق على المقيد في هذه الحالة ؟(1/139)
الجواب : عليك بالنظر في السبب والحكم ، فسبب الدليل المطلق الذي هو آية التيمم سببه بيان التيمم ، وسبب الدليل المقيد بيان الوضوء ، والوضوء شيء والتيمم شيء آخر ، فهما مختلفان في الحد والكيفية ، وحكم الدليل المطلق وجوب مسح اليد بالصعيد الطيب ، وحكم الثانية وجوب غسل اليد بالماء ، والمسح شيء والغسل شيء آخر ، فإذاً المطلق والمقيد هنا قد اختلفا في الحكم والسبب فلا يبنى حينئذٍ المطلق على المقيد ، هكذا مثل به بعض الأصوليين ، وسيأتي المثال نفسه في الحالة الثالثة إن شاء الله تعالى .
فإن قلت : كيف تقول لا يبنى المطلق على المقيد في هذه الحالة وقد قال جمع من العلماء بأن اليد في التيمم تمسح إلى المرفق ؟
فأقول : إن الذين قالوا ذلك إنما استدلوا بأمرين :
أولاً : بالقياس على الوضوء ولكنه قياس باطل لأنه مع الفارق .
الثاني : بحديث ابن عمر يرفعه (( التيمم ضربتان ، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين )) وهو حديث صريح لكنه لا يصح من جهة سنده . بهذين استدلوا فيما أعلم ، لكن وإن قال بعضهم بأن المطلق يبنى على المقيد هنا فهو كلام باطل أيضاً لأن المطلق والمقيد هنا مختلفان في الحكم والسبب . والصواب في هذا أن اليد في التيمم تمسح إلى الرسغ لحديث عمار في الصحيحين ولأن اليد إذا أطلقت فإنه يراد بها الكف فقط ، وإن أريد غير ذلك فإنه يرد مقيداً هذا هو المعروف باستقراء أدلة الشريعة والله أعلم .
فهذه هي الحالة الأولى فإذا كان المطلق والمقيد مختلفين في السبب والحكم فإنه لا يحمل أحدهما على الآخر بل يعمل بكل منهما في موضعه على دلالته .(1/140)
الحالة الثانية : أن يتفقا في الحكم والسبب ، أي أن يكون سببهما واحداً ، فهنا لاشك يبنى المطلق على المقيد بإجماع أهل العلم فيما أعلم وإن كان بعضهم ذكر خلافاً عن الحنفية لكن لا أظنه يصح عن إمامهم – عليه الرحمة والرضوان وأدخله الله فسيح الجنان – فالإجماع هنا قد نص عليه كبار أئمة أهل الأصول وفحوله كالقاضي الباقلاني وابن فورك والقاضي عبد الوهاب والكيا الطبري والشريف أبي عبد الله التلمساني وأي كلام مع نقل هؤلاء الفحول الكبار . وابن برهان أيضاً نقل في الأوسط خلاف أصحاب أبي حنيفة في هذا القسم وصحح مذهبهم أنه يحمل ، ونقل أيضاً أبو زيدٍ الحنفي وأبو منصور الماتريدي عن أبي حنيفة أنه يقول بالحمل في هذه الصورة ، فتحرر والله أعلم أن المسألة شبه إجماع أو إجماع .
وهذه الحالة لها أمثلة كثيرة جداً لكن قبل الدخول فيها أود أن أوضح لك ما معنى قولنا (يحمل) أو (يبنى) المطلق على المقيد ، ومعناه : أن نجعل هذا القيد الوارد مقيداً للدليل المطلق ، فالإطلاق ينتهي وسيتضح أكثر مع سياق الفروع الفقهية ، فأقول :(1/141)
منها : الدم ورد مطلقاً وورد مقيداً في قوله { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ } فلم يحدد دماً ؟ ولم يصفه بشيء ، فهو دم مطلق ، وورد مقيداً في قوله { أَوْ دَماً مَسْفُوحاً } فقيد الدم بكونه مسفوحاً وسبب الأول : سياق المحرمات من الأطعمة ، وسبب الثاني أيضاً سياق المحرمات من الأطعمة ، فهما متفقان في السبب وحكم الأول تحريم الدم ، وحكم الثاني أيضاً تحريم الدم ، فهما أيضاً متفقان في الحكم فالمطلق والمقيد هنا متفقان في الحكم والسبب ، فسببهما واحد وحكمهما واحد ، فيحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة فنقول : إنما الدم المحرم هو الدم المسفوح ، فالدم المطلق في آية المائدة مقيد بكونه مسفوحاً كما في آية الأنعام فانتهى الإطلاق بعد هذا القيد ، ولذلك فالراجح أن الدم الذي يبقى في العروق بعد الذبح وخروج الدم المسفوح أنه دم طاهر وعليه يحمل حديث عائشة (( فنأكله وخطوط الدم على القدر )) .
وكذلك دم الجرح أيضاً طاهر لعدم الدليل الدال على نجاسته والأصل في الأعيان الطهارة ومن نجسها فعليه الدليل ، ولا يستدل عليه بقوله تعالى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ } لأن الدم المراد هنا هو الدم المسفوح لوروده مقيداً في آية الأنعام مع الاتفاق في الحكم والسبب والله أعلم .(1/142)
ومنها : ولي النكاح وشهوده ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لا نكاح إلا بولي وشهود )) فالولي هنا مطلق وكذلك الشهود ، وقال عليه الصلاة والسلام (( لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدلٍ )) فورد الولي هنا مقيداً بالرشد والشهود قيدوا بالعدالة فهل يحمل المطلق على المقيد هنا ؟ الجواب : ننظر أولاً في السبب والحكم ، فسبب الأول : بيان شروط النكاح ، وسبب الثاني : أيضاً بيان شروط النكاح ، فهما إذاً متفقان في السبب ، وحكم الأول اشتراط الولي والشهود ، وحكم الثاني أيضاً اشتراط الولي والشهود لكن بصفةٍ زائدة ، فهما أيضاً متفقان في الحكم ، فالمطلق والمقيد إذاً اتحد سببهما وحكمهما فلاشك بحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة فنقول : يشترط الرشد في الولي ويشترط العدالة في الشهود وهو القول الصحيح والله أعلم .
ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم - (( إذا فرغ أحدكم من التشهد فليستعذ بالله من أربع يقول : اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال )) متفق عليه ، فإن لفظ (التشهد) لفظ مطلق لم يحدد بما إذا كان الأول أو الأخير ، لكن ورد في رواية مسلم (( إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليقل )) فهنا ورد التشهد مقيداً ، وسببهما بيان سنية الدعاء في التشهد ، وحكمهما استحباب هذا الدعاء ، فلاشك يبنى المطلق على المقيد في هذه الحالة فلا يسن هذا الدعاء إلا في التشهد الأخير .(1/143)
ومنها : زكاة الغنم ، فإن الغنم وردت مطلقة ومقيدة ، فوردت مطلقة في قوله - صلى الله عليه وسلم - (( في أربعين شاةٍ شاة )) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم ، فالغنم هنا لم توصف بشيء يقيدها فيدخل فيها السائمة والمعلوفة ، ووردت مقيدة بوصف (السوم) في قوله - صلى الله عليه وسلم - (( وفي صدقة الغنم في سائمتها )) وفي رواية (( في سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة )) أخرجه البخاري ، فهل يبنى المطلق على المقيد هنا ؟
الجواب : ننظر في سببهما وحكمهما ، أما سببهما فبيان وجوب زكاة الغنم ، فهما متفقان في السبب ، وأما حكمهما فهو وجوب الزكاة في الغنم فهما أيضاً متفقان في الحكم فلاشك في بناء المطلق على المقيد في هذه الحالة فنقول : لا زكاة إلا في الغنم السائمة الحول أو أكثره ، أما المعلوفة فلا زكاة فيها والله أعلم .
ومنها : قوله تعالى : { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } فهو مطلق في الذكر فلم يحدد نوعاً دون نوع ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( تحريمها التكبير )) وهذا مقيد في تحديد هذا الذكر وسببهما : الأمر بذكر الله تعالى عند الصلاة وحكمهما وجوب هذا الذكر لكنه مطلق في الأولى مقيد في الثانية فيحمل حينئذٍ المطلق على المقيد ، فنقول : إن المراد بقوله تعالى { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ } المراد به قوله (الله أكبر) لحديث علي هذا فلا يجزئ غيرها عنها ، فالاستدلال بالآية على جواز الدخول في الصلاة بأي ذكر ليس بصحيح لأنها قيدت بالتكبير وإذا قيد المطلق بشيء فإن دلالته تكون مقصورة على هذا القيد لا تتعداه إلى غيره ، والله أعلم .(1/144)
ومنها : رفع الإصبع في الصلاة ، فإنه ورد مطلقاً ومقيداً ، فورد مطلقاً في حديث ابن عمر قال : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد في الصلاة وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى واليسرى على اليسرى وعقد ثلاثاً وخمسين وأشار بإصبعه السبابة " رواه مسلم ، فرفع الإصبع هنا مطلق في كل قعود وبذلك استدل من قال بمشروعية رفع الإصبع في الجلسة بين السجدتين لأنها قعود في الصلاة ، لكن ورد رفع الإصبع مقيداً في بعض الروايات الصحيحة أنه رفع في التشهد فقط ، وسببهما واحد وحكمهما واحد فالمطلق هنا يحمل على المقيد ، فنقول : إنما السنة في رفع الإصبع أن يكون في قعود التشهد لا غيره ، لأن جميع الروايات المطلقة في القعود قيدت بقعود التشهد ، فمن اعتقد سنية رفع الإصبع في الجلوس بين السجدتين فليأت بدليل غير هذه الأدلة المطلقة لأنها قد قيدت ، وإذا قيد المطلق فإنه لا يستدل به إلا على ما قيد به فقط ، والله أعلم
ومنها : قوله تعالى في نفقة النساء { فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ } فهو مطلق في هذه النفقة لكن قيدت هذه النفقة بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف )) وسببهما واحد ، وحكمهما واحد وهو وجوب نفقة النساء ، فيحمل المطلق على المقيد .
فنقول : إنما الواجب في النفقة هو ما قرره العرف لقوله تعالى { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } ، فما عده الناس من النفقة الواجبة فهو واجب ، وما عدوه من النفقة المستحبة فهو مستحب وذلك حملاً للمطلق على المقيد ، والله أعلم .(1/145)
ومنها : الرضاع فإنه ورد مطلقاً ومقيداً ، فالمطلق في قوله تعالى { وأخواتكم من الرضاعة } ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب )) فهو مطلق لم يحدد عدداً للرضعات التي بها يكون مُحَرِّماً ، لكنه ورد مقيداً في حديث عائشة المشهور " ثم نسخن بخمسٍ معلومات " وسببهما واحد وحكمهما واحد ، فيبنى المطلق على المقيد ، فنقول : لا يحرم الرضاع إلا إذا كان بخمس رضعات معلومات ، حملاً للمطلق على المقيد .
ومنها : قوله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } فهو مطلق في اليد لأنها لم تحدد ، لكن ورد ذلك مقيداً في قراءة عبد الله بن عمرو ابن العاص باليمين وهي قراءة شاذة لكنها حجة إذا صح سندها ، وقيد أيضاً بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه قطع يمين السارق وكذلك قيد بفعل الخلفاء الراشدين وبإجماع المسلمين من بعدهم ، وبأن اليد إذا أطلقت إنما يراد بها الكف لا غير ، فكل ذلك يعد مقيداً لليد في الآية ، فنقول : يد السارق والسارقة تقطع من مفصل الكف حملاً للمطلق على المقيد .
ومنها : صيام كفارة اليمين ، فإنه ورد مطلقاً في قوله تعالى : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ } فلم يقيد بالتتابع ، لكنه ورد مقيداً به في قراءة ابن مسعود (فصيام ثلاثة أيامٍ متتابعات) وهي قراءة شاذة لكنها حجة إذا صح سندها ، فيحمل المطلق على المقيد فنقول : لابد أن يقع صيام كفارة اليمين متتابعاً ، ولا يفصل إلا لعذرٍ حملاً للمطلق على المقيد .
ومنها : صدقة الفطر عن الرقيق ، فإنها وردت مطلقة في حديث ابن عمر ، ووردت مقيدة بالمسلمين في بعض الروايات الصحيحة ، فيحمل المطلق على المقيد للاتفاق في السبب والحكم ، فنقول : إنما تجب صدقة الفطر على الرقيق المسلمين دون الكافرين لهذا القيد ، ولأنها طهرة للصائم من اللغو والرفث والكافر لا طهرة له إلا بالإسلام .(1/146)
ومنها : أحاديث جر الثوب ، فإنها وردت مطلقة ومقيدة ، فوردت مطلقة في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم المسبل إزاره )) الحديث ، وفي قوله : (( ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار )) ، وورد مقيداً بالخيلاء في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة )) وقال لأبي بكرٍ (( إنك لست ممن يجره خيلاء )) وسببهما بيان حكم الإسبال ، وحكمهما تحريم الإسبال ، فهما إذاً متفقان في الحكم والسبب فيحمل المطلق على المقيد .
فنقول : لا يحرم الإسبال إلا إذا كان من باب الخيلاء والفخر ، أما إذا كان لعذرٍ كعيبٍ في القدم ونحو ذلك ، ولم يقصد صاحبه الخيلاء فإنه لا بأس به لأن الأحاديث المطلقة في تحريم الإسبال قيدت بالخيلاء فلا يعمل بها في غير المقيد ، وإذا نظرت فإن الغالب من يجر ثوبه إنما يجره للزينة والفخر وهذا هو الخيلاء ، ولذلك يكثر هذا في أرباب الأموال والمناصب نعوذ بالله من حالهم ، فهذه غيض من فيض من أمثلة الحالة الثانية ، وهي فيما إذا اتفق المطلق والمقيد في الحكم والسبب ، وقلنا إذا اتفق المطلق والمقيد في الحكم والسبب فإن يبنى المطلق على المقيد ولعلها قد اتضحت إن شاء الله تعالى .(1/147)
الحالة الثالثة : أن يختلفا في الحكم ويتفقا في السبب ، أي أن يكون سبب ورودهما واحداً ، لكن حكمهما مختلف ففي هذه الحالة لا يبنى المطلق على المقيد ، وقد نقل بعضهم الإجماع على هذا لكنه مدخول لثبوت الخلاف ، لكن الصواب هو عدم الحمل في هذه الحالة لاختلاف الحكم في كلٍ منهما ، ومثال ذلك : أن الظهار موجب للكفارة وكفارته مرتبة من ثلاثة أشياء ، من تحرير رقبةٍ قبل أن يتماسا ، فإن لم يجدها ، فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا ، فإن لم يستطيع فإطعام ستين مسكيناً ، فكل هذه الكفارات سببها واحد وهو الظهار فهي متفقة في السبب ، إلا أن الحكم في الرقبة والصيام مقيد بأن يكون قبل المسيس ، والإطعام مطلق لم يقيد بشيء ، فهل يقال إن الإطعام أيضاً يكون قبل المسيس حملاً للمطلق على المقيد أو لا ؟
أقول : فيه خلاف بين أهل العلم فالذين يقولون بأن المطلق يحمل على المطلق في هذه الحالة قالوا : يقيد ، والذين قالوا لا يحمل قالوا : لا يقيد ، وهو الصواب إن شاء الله تعالى لأن الحكم مختلف ، والمطلق والمقيد إذا اتفقا في السبب واختلفا في الحكم فإنهما لا يتداخلان ، ومثلوا له أيضاً باليد المطلقة في التيمم في قوله : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } فسببه القيام للصلاة مع الحدث ، وحكمه وجوب المسح ، مع قوله تعالى في الوضوء : { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } فسببه أيضاً القيام للصلاة مع الحدث ، وحكمه وجوب الغسل ، فهما متفقان في السبب إذ سبب كلٍ منهما القيام للصلاة مع الحدث ، لكنهما اختلفا في الحكم ، فحكم اليد في التيمم المسح وحكمها في الوضوء الغسل والمسح يختلف عن الغسل ، فلا يبنى المطلق على المقيد في هذه الحالة وقد قدم ذكر الخلاف في هذه المسألة قبل قليل . ووضع هذا الفرع هنا أصح عندي لأن السبب في الآيتين واحد ليس بمختلف ، والله أعلم .(1/148)
ومثلوا له أيضاً بصيام الظهار فإنه يشترط فيه التتابع كما مضى ، وأما الإطعام فإنه لم يشترط فيه التتابع وسببهما واحد وهو الظهار ، لكن الحكم مختلف فهذا صيام وهذا إطعام ، فهل نحمل المطلق على المقيد ونقول كما أن الصيام يشترط فيه التتابع فكذلك الإطعام يشترط التتابع ، هل نقول ذلك أو لا ؟
الجواب : فيه خلاف ينبني على أن المطلق هل يحمل على المقيد في هذه الحالة أم لا ؟ وقد رجحنا أنه لا يحمل في هذه الحالة فحينئذٍ فالصواب أن الإطعام لا يشترط فيه التتابع ، وإنما التتابع في الصوم فقط ، والله أعلم .
ومثلوا له أيضاً بقوله تعالى في كفارة اليمين : { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ } فأطلق الكسوة وقيد الإطعام بالوسط ، وسببهما واحد وهو اليمين لكن حكمهما مختلف ، لأن هذا إطعام وهذا كسوة والإطعام غير الكسوة ، فهل يقال يحمل المطلق على المقيد هنا أو لا ؟
الجواب : فيه خلاف بين أهل العلم والفصل والراجح أنه لا يبنى لاختلاف الحكم فلا يشترط في الكسوة أن تكون من الوسط بهذا الدليل إلا أنه قد وردت أدلة أخرى تنهى عن إخراج رديء المال فالوسط في الكسوة يستفاد من أدلة أخرى غير حمل المطلق على المقيد ، والله أعلم .
وخلاصة هذه الحالة أنه إذا اتفق المطلق والمقيد في السبب لكن اختلفا في الحكم فإنه لا يبنى أحدهما على الآخر ، والله أعلم .
الحالة الرابعة : وهي عكس الحالة الثالثة وهي أن يتفقا المطلق مع المقيد في الحكم ويختلفا في السبب ، أي يكون حكمهما واحد وسببهما مختلف ، فهل يبنى المطلق على المقيد في هذه الحالة أو لا ؟(1/149)
أقول فيه خلاف بين أهل العلم وفي مذهبنا روايتان عن الإمام أحمد : فقيل يحمل المطلق على المقيد وهي الرواية المشهورة ، اختارها القاضي أبو يعلى ، وهي قول بعض الشافعية والمالكية ، وقيل لا يحمل ، وهي اختيار أبي إسحاق بن شاقلا ، وهو قول أكثر الحنفية والمالكية ، وقال به بعض الشافعية ، ولكلٍ أدلته ، والراجح والله تعالى أعلم أنه في هذه الحالة يحمل المطلق على المقيد قياساً للاتفاق في الحكم ، ولها عندي في ذهني بعض الأمثلة : الأول : قوله تعالى في شهود البيع : { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } فأطلق الشهود ولم يشترط فيهم العدالة ، وقال في شهود الرجعة { وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ } فقيدهم بكونهم عدول ، والسبب في الآيتين مختلف ، فسبب الأولى البيع والثانية الرجعة ، لكن الحكم متفق فحكم كلٍ منهما الأمر بالإشهاد فقد اتفقا في الحكم واختلفا في السبب ، وقد رجحنا أنه يحمل المطلق على المقيد فيقال : كما أن شهود الرجعة يشترط فيهم العدالة فكذلك شهود البيع حملاً للمطلق على المقيد ويؤيده قوله تعالى { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } .(1/150)
الثاني : قوله تعالى في رقبة كفارة الظهار { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } فأطلقها ولم يحددها بشيء لا بإيمانٍ ولا غيره ، وقال في رقبة كفارة القتل { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } فقيدها بالإيمان ، والسبب مختلف فسبب الأولى الظهار وسبب الثانية القتل ، لكن الحكم واحد وهو وجوب إعتاق الرقبة في كلٍ ، إذاً قد اتفق المطلق والمقيد في الحكم واختلفا في السبب وقد رجحنا أنه يحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة قياساً للاتفاق في الحكم فيقال : كما أن الرقبة في كفارة القتل يشترط فيها الإيمان فكذلك أيضاً الرقبة في كفارة الظهار يشترط فيها الإيمان حملاً للمطلق على المقيد ، ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم - (( أعتقها فإنها مؤمنة )) ولأن الكافر حقه أن يبقى في الرق فإنما الرق قام به بسبب كفره بالله تعالى .
فهذه هي حالات المطلق والمقيد ، فهي أربع حالات ، يبنى فيها المطلق على المقيد في حالتين ولا يبنى في حالتين ، وإذا رجعت إلى قاعدة الباب التي نحن بصدد شرحها وجدت فيها ذكر الحالتين التي يبنى فيها المطلق على المقيد فإننا قلنا (يبنى المطلق على المقيد عند الاتفاق في الحكم) أي إن العبرة في البناء هو الاتفاق في الحكم وإذا اتفقا في الحكم فلا يخلو إما أن يتفقا في السبب ، وإما أن يختلفا وفي كلتا الحالتين فإنه يبنى المطلق على المقيد ، وأما إذا اختلفا في الحكم فلا بناء سواءٌ اختلفا في السبب أو اتفقا فيه ، فالسبب في كلا الحالات لا عبرة به ، وبالتفصيل مع الاختصار أقول : الحالات أربع :
الأولى : الاتفاق في الحكم والسبب فيبنى المطلق على المقيد اتفاقاً .
الثانية : الاتفاق في الحكم والاختلاف في السبب فيبنى على القول الراجح .
الثالثة : الاختلاف في الحكم والسبب فلا يبنى اتفاقاً .(1/151)
الرابعة : الاختلاف في الحكم والاتفاق في السبب فلا بناء على القول الراجح . والله أعلم . وهذه هي المسألة الرابعة وهي حالات المطلق مع المقيد .
المسألة الخامسة : إن قلت ، فما دليلك على أن المطلق يحمل على المقيد إذا اتفقا في الحكم والسبب أو في الحكم فقط ؟ فأقول : قد دَلَّ على ذلك عدة أمور :
فمن ذلك : أن القاعدة تنص على وجوب إعمال الدليلين ما أمكن والقول بحمل المطلق على المقيد فيه إعمال لكلا الدليلين .
ومن ذلك : قياس المطلق مع المقيد على العام مع الخاص ، فكما أنه يبنى العام على الخاص فكذلك يبنى المطلق على المقيد .
ومن ذلك : تنزيه الشريعة عن وجود التعارض فإننا لو لم نقل ببناء المطلق على المقيد لأفضى ذلك إلى وجود التعارض في بعض الأحكام والخلاص من ذلك يكون بأمورٍ
منها : بناء المطلق على المقيد ، فالقول ببناء المطلق على المقيد أصل من أصول الشريعة في دفع التعارض بين الأدلة .
ومن ذلك : أن الدليل المطلق ساكت عن هذا القيد وسكوته عنه ليس إلغاء له ، وقد ثبت بدليل آخر فيجب اعتماده ، فهو وإن كان زائداً على دلالة المطلق لكنه لا يتعارض معها .
ومن ذلك : أن القرآن عربي نزل بالأساليب التي تتعامل بها العرب وزاد عليها ، ومن الأساليب العربية أنها تطلق في مكانٍ وتقيد في مكان ، فيحمل المطلق على المقيد كما قال قيس بن الحطم :
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
والمراد : نحن بما عندنا راضون ، فأطلقها في البيت الأول وقيدها في البيت الثاني ، والله تعالى أعلم .
المسألة السادسة : وهي زيادة فروع فقهية على هذه القاعدة غير التي مضت لعلها تزداد وضوحاً على وضوحها فأقول :(1/152)
من الفروع : قوله تعالى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } فهذا فيه بيان حكم الردة وأنها محبطة للعمل بمجردها ، فحبوط العمل إذاً بمجرد الردة ، لكن ورد ذلك مقيداً بقيد آخر وهو الموت على الكفر في قوله : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ } فاشترط شرطاً زائداً لحبوط العمل وهو الموت على الردة فيحمل المطلق على المقيد ، فنقول : إن مجرد الردة لا يحبط العمل المتقدم إلا إذا مات صاحبه ، أما إذا عاد للإيمان فإنه يعود له ما عمله قبل الردة ، وينبني على ذلك أن صلاته وحجه وعمرته وصومه وسائر أعماله الصالحة باقية له لا يلزمه إعادتها ، مثاب عليها في الآخرة ، أما إذا مات وهو مصر على ردته – والعياذ بالله تعالى – فإن كل عمل صالح عمله في وقت إيمانه يحبط ويكون هباءً منثورا .
ومنها : قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } قال بعض العلماء : يعني إذا أخروا التوبة إلى حضور الموت حملاً لهذه الآية على قوله تعالى : { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ } ولعموم الأدلة الدالة على أن من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها وغرغرة الروح تاب الله عليه ، وأن الله يغفر الذنوب جميعاً ، فلذلك حملنا الآية الأولى على ما إذا أخر التوبة إلى حضور الأجل جمعاً بين الأدلة بحمل المطلق على المقيد ، والله أعلم .(1/153)
ومنها : حديث عائشة في الفواسق الخمس التي تقتل في الحل والحرم ، فإن فيها "والغراب" هكذا مطلقاً ، لكن ورد في نفس الحديث في رواية لمسلم "والغراب الأبقع" فيحمل المطلق على المقيد ، ومن ادعى أن رواية الإطلاق أرجح لاتفاق الشيخين عليها فلم يصب ، لأنه لا تعارض أصلاً بينهما حتى نرجح ، إذ الجمع ممكن يحمل المطلق على المقيد وإذا أمكن الجمع فلا يصار إلى الترجيح ، والله أعلم .
ومنها : قضت السنة في المحرم أنه إن لم يجد نعلين فليلبس الخفين ، لكن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلبس الخفين مطلقاً ومقيداً ، فأمر بلبسهما مطلقاً أي من غير قطع في حديث ابن عباسٍ وجابر رضي الله عنهما ، وورد لبسهما مقيداً بالقطع أي بقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين في حديث ابن عمر ، وسببهما واحد وحكمهما واحد ، فلا شك في بناء المطلق على المقيد هنا ، فنقول : المحرم إذا لم يجد النعلين فله أن يلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ، وهذا الجمع هو الواجب بين هذه الأحاديث ، وهو أصح من مذهب من قال بأن القطع منسوخ لتأخير حديث ابن عباس وجابر وليس فيهما الأمر به ، لأننا نقول : قد تقرر في الأصول أنه إذا أمكن الجمع فلا تعارض ، وهنا يمكن الجمع بحمل المطلق على المقيد وخصوصاً مع الاتفاق في الحكم والسبب كما هنا ، ومجرد تأخر المطلق عن المقيد لا يضر ، كما أنه لم يضر تأخر العام على الخاص .(1/154)
ومنها : ركوب الهدي ، فقد ورد جواز ركوبه مطلقاً كما في حديث ((اركبها)) فقال الرجل إنها هدي ، فقال : ((اركبها)) فهذا فيه جواز ركوب الهدي هكذا مطلقاً ، لكن وقع في رواية مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل : (( اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً )) فهذا قيد لجواز ركوب الهدي ، وهو إذا دعت لركوبه الحاجة والضرورة ، فهو قيد لابد من اعتباره ، فنقول : يجوز ركوب الهدي إذا دعت له الحاجة والضرورة فحملنا المطلق على المقيد للاتفاق في الحكم والسبب .
وبهذا ينتهي الكلام على هذه القاعدة العظيمة المهمة جداً ، فالذي ينبغي للطالب مراجعتها وإجادة التفريع عليها ، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه ، والله أعلم .
القاعدة الثانية عشرة
(القرآن اسم للنظم والمعنى معاً)
وهي من مُلَحِ القواعد الأصولية وأيسرها ، وإنما ذكرتها هنا من باب الترويح عن النفس ، وهي من أصول القواعد ، وذكرتها ليتعرف الطالب على أحكام الفروع المندرجة تحتها ، فقد كثر السؤال عن هذه الفروع فأحببت الإجابة عنها بالكلام على هذه القاعدة فأقول :
فأما القرآن فهو معروف وغني عن التعريف إلا أني أنبه هنا إلى قضية مهمة وهي أن القرآن هو المعجزة الكبرى التي أوتيها نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، وأن إعجاز القرآن مستفاد من مجموع ألفاظه ومعانيه لا يستقل أحدها عن الآخر بالإعجاز ، وكلها أعني الألفاظ والمعاني من الله تعالى ، وعقيدتنا فيه أنه كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود ، وهذا القرآن له أحكام عندنا في شريعتنا كثيرة ، نذكرها في الفروع إن شاء الله تعالى .
والمراد بقولنا : (للنظم) هو العبارات الدالة على المعاني ، والمراد بقولنا : (والمعنى) أي مدلولات هذه الألفاظ .(1/155)
ومعنى هذه القاعدة : أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - مكون من أمرين : من الألفاظ ، ومن المعاني . فمجموع الألفاظ والمعاني هي القرآن ، فليس القرآن هو اللفظ فقط ، وليس هو المعنى فقط ، بل هو اسم للنظم أي اللفظ والمعنى معاً لا يفرد أحدهما عن الآخر ، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة ، ولا ينبغي عندي – والله أعلم – أن تجعل هذه المسألة من مسائل الفروع التي يسوغ فيها الخلاف ، بل هي في الحق من مسائل الأصول ، ولا أعلم خلافاً في أن القرآن اسم للنظم والمعنى معاً إلا ما يروى عن الإمام أبي حنيفة ، لكن خطّأ المحققون في مذهبه هذه النسبة ورجحوا أنه يقول بما يقول به أهل السنة ، ولا غرو فإنه رحمه من أهل السنة فيما نحسبه وحسيبه الله ، ولا يسلم أحد من الخطأ والمعصوم من عصمه الله ، والذين نقلوا عنه غير ذلك إنما استفادوا ذلك استنباطاً من بعض الفروع لا أنهم نقلوا ذلك نصاً عنه ، ولذلك فالصواب عنه أنه يقول بما يقول به أهل السنة ، وهذا الظن به رحمه الله رحمة واسعة ورضي عنه ، فلله دره كم له في الإسلام من أيادٍ مشكورة ومساعٍ مشهورة يعرفها الكبير والصغير فلا نظن به إلا خيراً .(1/156)
وإني لأعجب أشد العجب من أناسٍ أطلقوا ألسنتهم بالسوء فيه ، ولا نعلم عليه إلا خيراً ، فالله حسيبهم فإن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في منتهكي أعراضهم معلومة ، فانج بنفسك مع أهل النجاة ، ودع العلماء للعلماء ، ولا تظن بأخيك إلا خيراً ، فكيف إذا كان عالماً زاهداً ورعاً تقياً نقياً كالإمام أبي حنيفة ، فأين نحن منه ؟ وهل نحن في الإسلام إلا كغبار قدميه ، والمقصود أن النقل الصحيح عنه في هذه المسألة موافق لما عليه أهل السنة من أن القرآن اسم للنظم والمعنى ، وأن التفريق بينهما إنما هو مسلك الهالكين من أهل البدع ، وقد نص أبو العباس ابن تيمية على هذه القاعدة في مواضع كثيرة من كتبه كالعقيدة الواسطية وغيرها .
إذا علمت هذا فاعلم أنه يبنى على هذه القاعدة عدد من الفروع أذكرها مختصرة فأقول : -
منها : هل ترجمة المعاني تسمى قرآناً أو لا ؟
الجواب : يعرف من هذه القاعدة وهو أن الترجمة أهملت لفظ القرآن ، وإنما عنيت بترجمة معانيه فقط ولا تعلق لها بالألفاظ فإنما فيها المعنى فقط ، والقرآن اسم للفظ والمعنى معاً ، فعلى هذا فلا تسمى الترجمة قرآناً لاختلال الركن الثاني وهو النظم والله أعلم .
ومنها : ما حكم قراءة الفاتحة بغير العربية في الصلاة ؟(1/157)
وجوابه يعرف من هذه القاعدة فذهب الجمهور إلى أن القرآن لا يقرأ في الصلاة وغيرها بغير العربية ، وأن من قرأه في الصلاة بغير العربية أن صلاته باطلة ، وذهب أئمة الحنفية في المشهور عنهم إلى جواز قراءة الفاتحة في الصلاة بالفارسية فمنهم من قيدها بالعجز عن العربية ، ومنهم من أطلق ذلك ، ومن هذا الفرع قال من قال بأن الحنفية يقولون بأن القرآن اسم للمعنى فقط دون النظم ، ولكنه ليس بصريح في ذلك لأن المنقول عنهم هو ما قدمناه لك وإنما وجهة نظرهم في ذلك هو لأن النظم مبني على التوسعة ولأن القرآن نزل على سبعة أحرف كلها شافٍ كافٍ كما في الحديث فلما تعسر تلاوته بلغة قريش على سائر العرب نزل التخفيف وأذن بتلاوته بسائر لغات العرب واتسع الأمر حتى جاز لكل فريق أن يقرؤه بلغتهم ولغة غيرهم ، فيجوز للقرشي أن يقرأه بلغة تميم مثلاً مع كمال قدرته على لغة نفسه ، ولذلك أجازوا قراءته بالفارسية ولكن هذا المذهب ليس بصحيح والصواب هو ما ذهب إليه الجمهور لأن القرآن اسم للنظم والمعنى معاً ، والقراءة بالفارسية إنما حملت المعنى دون اللفظ ، وأما اختلاف لغات العرب فهي داخلة مع اختلافها تحت اللسان العربي فلا تخرج عن قوله تعالى { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } وقوله تعالى { قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } وأما الفارسية فهي لسان أعجمي يختلف فيه النظم عن نظم القرآن ، ولأن القرآن معجز في لفظه ومعناه فإذا غُيّر خرج عن نظمه فلم يكن قرآناً، وإذا كان الإنسان عاجزاً عن قراءة القرآن بالعربية فله أن ينتقل إلى البدل وهو التسبيح والتهليل على ما هو مقرر في حديث عبد الله بن أبي أوفى .
وخلاصة هذا الفرع أن قراءة القرآن في الصلاة (الفاتحة أو غيرها) لا يجزئ بغير العربية لأن القرآن اسم لمجموع النظم والمعنى ، والله أعلم .(1/158)
ومنها : حكم ترجمة القرآن ، فأما ترجمته ترجمة لفظية فلا أظن أحداً يقدر عليه فكم فيه من الألفاظ والتراكيب والإعجاز الذي سيختل بسبب هذه الترجمة ، وأما ترجمة معانيه فهي جائزة على القول الراجح لكنها لا تكون حينئذٍ قرآناً ولا تأخذ أحكام القرآن وإنما تجرى مجرى كتب التفسير وسائر كتب العلم التي لها حرمة لكن لا تكون كحرمة القرآن ولا تأخذ أحكام القرآن والله أعلم .
ومنها : إذا ترجمت المعاني فهل يجوز للمحدث والجنب والحائض مسها ؟
الجواب : يبنى هذا على القول بأن القرآن اسم للنظم والمعنى ، وهذه الترجمة إنما حملت المعنى دون اللفظ فلا تكون حينئذٍ قرآناً ، وإنما الأدلة دلت على أن المحدث والجنب والحائض لا يمسون ما يسمى قرآناً وهذه ليست بقرآنٍ فيجوز حينئذٍ مسها وقراءتها لهم بلا كراهة .
ومنها : هل يجوز السفر بالترجمة لأرض العدو ؟
الجواب : أيضاً يبنى على هذه القاعدة ، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((نهى عن السفر بالقرآن لأرض العدو مخافة أن تناله أيديهم)) والقرآن اسم للنظم والمعنى جميعاً ، وهذه الترجمة قد اختل فيها النظم فليست هي بقرآن فالسفر بها لبلاد العدو جائز لا بأس به .
ومنها : الحلف بالقرآن جائز عند أهل السنة باعتبار أنه كلام الله وكلامه صفة من صفاته جل وعلا يجوز الحلف بها ، فهل إذا ترجمت المعاني يجوز الحلف بها ؟
الجواب : يعرف من هذه القاعدة ، فالقرآن اسم للنظم والمعنى جميعاً والترجمة قد اختل النظم فيها فلا تكون قرآناً فإذا بطلت قرآنيتها فلا يجوز الحلف بها لأنها ليست من كلام الله وإنما هي من كلام البشر وكلام البشر مخلوق والمخلوق لا يجوز الحلف به والله أعلم .(1/159)
ومنها : أن ادعاء وجود الخلل والنقص في الترجمة ليست بكفرٍ لأنها يعتريها النقص إذ هي من عمل البشر وليست بقرآن ولو كانت قرآناً لكفر من ادعى فيها خللاً أو نقصاً لكن لما لم يكفر دل على أنها ليست بقرآنٍ وأنها لا تأخذ أحكامه ، والله أعلم .
ومنها : أن من قرأ الترجمة فإنه يثاب على ما اكتسبه من العلم فقط لكن لا يأخذ بكل حرفٍ منها حسنة لأنها ليست بقرآن ، أما القرآن فإن له بكل حرفٍ حسنة فدل ذلك على اعتبار النظم والمعنى معاً ولا يفرد أحدهما عن الآخر .
ومنها : أن قراءة الترجمة لا يتعبد بها لذاتها ، وأما قراءة القرآن فيتعبد بها لذاتها فدل على اعتبار النظم والمعنى معاً .
ومنها : أن نظم القرآن لا يجوز إبداله ولا الزيادة فيه ، وأما الترجمة فيجوز إبدال شيء من الألفاظ بأوضح منها والزيادة فيها أو اختصارها إذا كان المعنى سليماً فلو كانت قرآناً لما جاز ذلك لكنها ليست بقرآن لاختلال النظم فيها ، فهذا دليل على اعتبار النظم والمعنى معاً .
ولعلك بهذه الفروع قد اتضح لك ما أريد إثباته وهو التأكيد على أن القرآن لا يسمى قرآناً إلا إذا توفر فيه النظم والمعنى ولا يفرد أحدهما عن الآخر وأنه إذا أفرد المعنى عن النظم فإنه يخرج عن مسمى القرآن فلا يأخذ أحكام القرآن والله يتولانا وهو أعلم وأعلى .
القاعدة الثالثة عشرة
( تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز )
اعلم أن عندنا مسألتين بحثها علماء الأصول رحمهم الله تعالى في تأخير البيان :
الأولى : حكم تأخير البيان عن وقت العمل بالخطاب .
الثانية : حكم تأخيره إلى وقت الخطاب .(1/160)
وقاعدتنا هذه إنما تخص المسألة الأولى لا الثانية ، لأن الأولى هي التي تشتد الحاجة لمعرفتها لكثرة الفروع عليها ، أما الثانية فنشير إليها مجرد إشارة مع بعض أدلتها في آخر الكلام على هذه القاعدة إن شاء الله تعالى ، وأما ما أريد بحثه والإطالة فيه هو المسألة الأولى وهي قولنا : هل يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة أو لا ؟
فأقول : اعلم رحمك الله تعالى أن العلماء قد اتفقوا جميعاً على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، والمراد بوقت الحاجة : أي وقت الحاجة إلى العمل بالخطاب المجمل ، فإذا خاطبنا الله تعالى بخطاب مجمل وهو خطاب مثلاً يأمرنا بفعلٍ في وقت من الأوقات ، ولكن هذا الخطاب مجمل في الصفة أو المقدار فإنه لابد إذا جاء الوقت الذي أمرنا بإيقاع مقتضى الخطاب فيه لابد أن يأتي البيان لهذا المجمل ، ولا يمكن أبداً أن يتأخر عن وقت الحاجة ، وهذا بالاتفاق ولله الحمد ، وقد حكى الاتفاق على ذلك جمع من العلماء كابن قدامة والشيرازي في اللمم وابن السمعاني والباجي والغزالي وغيرهم ، والاتفاق هنا خاص بالوقوع الشرعي فإنهم اتفقوا على أنه لم يقع في الشرع ذلك ، أي لم يؤخر بيان في وقت الحاجة إليه .
أما الجواز العقلي أي : هل يجوز ذلك عقلاً ؟ فهنا وقع الخلاف ، لكن لا عبرة بالعقل مع الشرع ولا خير فيه إذا لم يكن مستنيراً بنوره ، ونحن نبحث هنا في الجواز الشرعي لا الجواز العقلي ، ونبهت على ذلك خشية أن يرى أحد خلاف العلماء في الجواز العقلي فيقول : كيف تدعون الإجماع في هذه المسألة وقد ثبت الخلاف فيها ، فالجواب أن الاتفاق الذي ذكرناه إنما هو في الوقوع الشرعي لا في الجواز العقلي .
وقد استدل العلماء على ما اتفقوا عليه بأدلة نقلية وعقلية :(1/161)
فمن الأدلة : قوله تعالى : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا } ، وقوله تعالى : { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } ، قال الله : (قد فعلت) كما في مسلم ، وقوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } فهذه الأدلة تفيد إفادة قطعية أن ما كان خارجاً عن وسع النفس وما ليس داخلاً تحت طاقتها فإنها لا تكلف به ، ومطالبتها بالعمل بالمجمل فعل البيان خارج عن وسعها وطاقتها فلا تطالب به ، فلابد من بيانه إذا جاء وقت العمل ، ولأن المطالبة بالعمل بالمجمل قبل بيانه من العسر ، وقد نفى الله تعالى إرادته بنا فكان من مقتضى ذلك أن لا نطالب بالعمل به قبل بيانه ، فإذا جاء وقت الحاجة له فلابد من بيانه لأن هذا من اليسر الذي يريده الله بنا .
ومن الأدلة أيضاً : أن وقت الحاجة وقت للأداء فإذا لم يكن مبيناً تعذر الأداء ، فالأداء إذاً ضرورة من الضروريات التي لابد منها ، والشريعة راعت باب الضروريات ولم تترك شيئاً منه ، فإذا كان البيان عند وقت الحاجة إليه ضرورة ، فإنه إذاً لابد من وروده مراعاة لإزالة هذه الضرورة .
ومن الأدلة أيضاً : إجماع العلماء على ذلك ، كما نقلته سابقاً عن بعضهم ، فهذه الأدلة تفيدك قطعاً ما قررته هذه القاعدة .
وإليك الآن بعض الفروع عليها تنبيهاً على غيرها لا حصراً . فأقول :(1/162)
منها : اختلف العلماء في غسل ما صاده الكلب بفمه ، فمنهم من قال بأنه يجب غسل موضع فمه ، ومنهم من قال بأنه يستحب ذلك ولا يجب ، واستدل الأولون بأن لعاب فمه نجس فيتلوث الصيد به فلابد من غسله ، كما أنه لو ولغ في الإناء فلابد من غسله فكذلك ما باشره بفمه يجب غسله ، وقال الآخرون : لا يجب ذلك لأن الله تعالى قال : { مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } فأجاز الأكل مما صاده الكلب المعلم بشرط التسمية وأن يكون صاد لنا لا له ، ولم يذكر لنا هنا وجوب غسله فلو كان واجباً لذكره ، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، يوضح ذلك حديث عدي في الصحيحين أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صيد الكلب وما يجب فيه ، وكان جاهلاً – فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن : (( ما صاده بكلبه المعلم وذكر اسم الله عليه فليأكله )) ولم يقل فاغسله وكل ، ولم يفرق بين ما إذا صاده بفمه أو غيره فدل ذلك على أنه لو كان غسل الصيد واجباً لذكره ، فلما لم يذكر ولم يبينه مع جهل عدي بذلك ومع أنه وقت الحاجة للبيان فلما لم يذكر له غسله دل على عدم وجوبه ، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، وهذا هو الراجح أن غسل ما صاده الكلب بفمه لا يجب وإنما يستحب فقط ، تخريجاً على هذه القاعدة .(1/163)
ومنها : حديث المسيء صلاته ، ففي الصحيحين بل عند السبعة جميعاً عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " دخل رجل المسجد فصلى ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد عليه وقال : ((ارجع فصل فإنك لم تصل)) فرجع الرجل فصلى كما كان صلى ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد عليه وقال : ((ارجع فصل فإنك لم تصل)) فرجع الرجل فصلى كما كان صلى ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد عليه وقال : ((ارجع فصل فإنك لم تصل)) فقال الرجل والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها حتى تقضيها)) " فهذا الحديث العظيم عمدة في معرفة أركان الصلاة ، فهذا الرجل جاهل ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في مقام تعليم ، فلاشك أنه سيعلمه جميع الأركان والواجبات التي في الصلاة ، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، فلا يمكن أبداً أن يكون ثمة ركن أو واجب تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يعلمه هذا الرجل ، وبناءً على هذا فأي أمرٍ قولي أو فعلي لم يرد في هذا الحديث فإنه ليس بواجبٍ إلا بدليل خاص صريح ، لأنه لو كان واجباً لبينه لهذا الجاهل صلاته ، فلما لم يبينه دل على عدم وجوبه ، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، لكن ينبغي لك قبل أن تحكم بذلك أمر مهم وهو : أن تبذل جهدك ما استطعت في جمع روايات هذا الحديث وطرقه المتناثرة ، وتعرف الصحيح منها والضعيف حتى يكون نفيك على علمٍ وبصيرة لا على جهلٍ وهوى ، وقد أفرده بعض أهل العلم في رسالة مستقلة ، وقد ذكر الإمام الشوكاني في نيل الأوطار طرفاً كبيراً من طرقه ، فعليك بتتبعها وتنقيحها ، ثم تجعله مقياساً لما هو واجب في(1/164)
الصلاة أو ركن مما ليس كذلك .
إذا علمت هذا فاعلم أن هناك أشياء كثيرة من أقوال الصلاة وأفعالها اختلف العلماء في حكمها : كجلسة الاستراحة ، وتكبير الانتقال والتسميع ، وتسبيح الركوع والسجود ووضع اليدين على الركبتين حال الركوع ، والسجود على الأعضاء السبعة ، ورفع اليدين حال تكبيرة الإحرام والتشهدين الأول والثاني وغيرها ، كل ذلك مما اختلف فيه ، والبحث فيه أولاً أن تجمع روايات هذا الحديث المتفرقة من بطون كتب الحديث ثم ينظر فيها ، فما أثبتته فهو الركن أو الواجب ، وما لا فهو سنة .
ولولا خوف الإطالة لذكرنا الخلاف مع الراجح في كل واحدةٍ منهن ، لكن نذرك لفهمك وبحثك والله خير معين وهو أعلى وأعلم .
ومنها : خلاف العلماء في انتقاض الوضوء بمس المرأة ، فيه خلاف بين العلماء على أقوالٍ ، فقيل بعدمه مطلقاً ، وقيل بالنقض مطلقاً ، وقيل إذا كان بشهوة أما بدونها فلا ، واستدل القائلون بالنقض بقوله تعالى : { أو لمستم النساء } وهذا في قراءة سبعية وهي مفيدة أن مس النساء ناقض للوضوء ، وقال الذي نفى ذلك إن الأدلة دلت على عدم ذلك ، ففي الصحيحين " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى وهو حامل أمامة بنت زينب ، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها " ، ولمسلم " وهو يؤم الناس في المسجد " ، وفيهما أيضاً عن عائشة " أنها كانت تنام قدام النبي - صلى الله عليه وسلم - معترضة اعتراض الجنازة فكان إذا سجد غمز رجلها فقبضتها " ، وفي صحيح مسلم أنها افتقدته ليلة فبحثت عنه فوقعت يدها على قدميه وهو ساجد يدعو .
فإن قيل : إن هذا اللمس المذكور في الأدلة كان بغير شهوة .
قلنا : والآية وردت هكذا مطلقة بدون قيد فلماذا قيدتموها بالشهوة .
ونقول : وقد روى أحمد وغيره عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبَّل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ .(1/165)
ونقول : لا يزال المسلمون يلمسون نساءهم بشهوةٍ وبغير شهوة وهذا مما تعم به البلوى ومع ذلك لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - كلمة واحدة أنه أمر بالوضوء من مس النساء ، فلو كان ذلك ناقضاً للوضوء لبينه ، كما بين غيره من النواقض بياناً شافياً كافياً لاسيما ومع شدة الحاجة له وكثرة الوقوع فيه ، فلما لم يثبت عنه في ذلك شيء لا من قوله ولا من فعله ولا من إقراره دل على أنه ليس بشيءٍ ، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، وهذا القول هو الصحيح الذي تدل عليه هذه الأدلة وتؤيده هذه القاعدة ، وأما الآية فإنها تحمل على القراءة الأخرى { أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ } وهو الجماع وهو تفسير حبر الأمة وترجمان القرآن ، وهو الذي تؤيده الأدلة السابقة .
والمهم أن تعرف كيف تخرج هذا الفرع على القاعدة ، وهو أن يقال : إن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً لعدم الدليل ، إذ لو كان ناقضاً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - وخصوصاً مع شدة حاجة الناس لبيانه لكثرة الوقوع فيه ، فلما لم يبينه دل على أنه ليس بناقضٍ ، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، والله أعلم .
ومنها : بعض الناس في الحج يرى وجوب غسل حصى الجمار ، أو استحباب ذلك . فنقول : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقط حصى الجمار ورمى بها في يوم العيد وثلاثة أيام بعده ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه غسلها أو أمر بذلك أو أقر عليه ، فغسلها لو كان مشروعاً لبينه ، فلما لم يبينه في وقت الحاجة لبيانه دل على أنه غير مشروع ، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، والله أعلم.(1/166)
ومنها : اختلف العلماء في المرأة إذا جامعها زوجها في نهار رمضان مع الاتفاق على أن الرجل عليه الكفارة المغلظة المعروفة ، لكن هل تجب الكفارة أيضاً على المرأة أو لا ؟ فيه خلاف طويل قوي ، فقيل : نعم عليها كفارة إن كانت مطاوعة له في ذلك ، واستدلوا على ذلك بأن كل حكمٍ ثبت في حق الرجال فإنه يثبت في حق النساء إلا بدليل والعكس كذلك ، لأن النساء شقائق الرجال ، ولأن الكفارة وجبت على الرجل لانتهاكه حرمة رمضان وإفساد صيامه ، وهذه العلة نفسها متحققة في المرأة ، فتقاس على الرجل للاستواء في العلة ، وقيل : بل لا كفارة عليها مطلقاً وإنما عليها الإثم والقضاء ، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاءه المجامع في نهار رمضان يقول : " وقعت على أهلي وأنا صائم ، قال له : هل تجد كذا ، هل تستطيع كذا … الخ " فأوجب عليه الكفارة ولم يذكر أهله بشيء مع أن الرجل أخبر أنه وقع على أهله ، فأوجب الكفارة عليه وسكت عن أهله مما يدل على أنه لا كفارة على امرأته إذ لو كانت عليها كفارة لبينها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو بالإشارة فلما لم يبين ذلك وسكت عنه دل على عدم الكفارة عليها لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، وهذا القول قوي كما ترى لاسيما وأن جميع روايات الحديث لم يذكر فيها أنه أوجب على أهله شيئاً ، وأما قياسها عليه فهو قياس في كفارة والقياس في الكفارات ممنوع وهي قاعدة خلافية ، ومذهب الجمهور جواز القياس في الحدود والكفارات لكن يبقى الجواب عن سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المرأة فإنه لم يتعرضها بشيء أبداً وسكوته عن الشيء مع القدرة يستفاد منه تشريع فكأنه لما أوجب على الرجل الكفارة وسكت عن المرأة دل أن هذا الحكم مختص بالرجل دونها ، والأحوط للمرأة إخراجها خروجاً من الخلاف ، وليس المقصود الترجيح وإنما المقصود التفريع على هذه القاعدة .
ومنها : هل خروج الدم من غير السبيلين ناقض للوضوء أم لا ؟(1/167)
فيه خلاف بين أهل العلم والفضل رحمهم الله جميعاً ، فقيل بالنقض إذا كان كثيراً فاحشاً عرفاً ، وقيل لا ينقض مطلقاً قليله وكثيره .
واستدل القائلون بالنقض بأنه خارج نجس من البدن فيقاس على الخارج من السبيلين ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب على المستحاضة الوضوء لكل صلاة معللاً ذلك بقوله (( إنما ذلك عرق )) والدم الخارج من سائر البدن إنما هو دم عرقٍ ، وبحديث (( من أصابه قيء أو رعاف أو مذي أو قلسٌ فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن وهو في ذلك لا يتكلم)) وبحديث (( إذا أحدث أحدكم في الصلاة فليأخذ بيده على أنفه وليخرج )) أي ليوهم المصلين أنه أصابه رعاف مما يدل على أنه ناقض .
واستدل المانعون بأدلة منها : أن الأصل عدم النقض إلا بدليل ولا دليل ، ولأن المسلمين لا يزالون في حروبهم يصلون في جراحاتهم ودماؤهم تسيل ، ولخبر الرجل الذي أصيب وهو يحرس القوم وهو قائم يصلي فأتم صلاته ، ومثل هذا لا يخفى على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلو كان ذلك ناقضاً لبين فلما سكت وأقر ولم يبين دل ذلك على أنه ليس بشيء لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وهذا القول هو الأقرب إن شاء الله تعالى .
فأما قياسه على دم المستحاضة فقياس مع الفارق لأن الناقض ليس مجرد الدم بل خروج الدم من أحد السبيلين ، فقياس الخارج من غيرهما على الخارج منهما قياس مع الفارق ، وأبعد من ذلك قياس القيء على البراز وهذا من أبعد القياس وأشنعه ، وأما حديث (( من أصابه قيء أو رعاف )) فهو حديث ضعيف لا يقوم بمثله حجة فقد ضعفه أحمد وغيره ، وكذلك حديث (( فليأخذ على أنفه )) فهو ضعيف أيضاً .
فالصواب إذاً أن خروج الدم لا ينقض الوضوء مطلقاً والله أعلم .(1/168)
ومنها : اختلف العلماء في الوضوء من شرب ألبان الإبل فقيل بالوجوب واستدلوا بحديث (( توضؤا من أبوالها وألبانها )) ، وقيل : لا يجب لأن العرنيين لما اجتووا المدينة أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن " يلحقوا بإبل الصدقة وأن يشربوا من أبوالها وألبانها " ولم يأمرهم بالوضوء منها فدل على أنه غير ناقض ، إذ لو كان ناقضاً لبين فلما لم يبين دل على أنه ليس بشيء ، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ،وهو الراجح إن شاء الله تعالى . وأما دليلهم فهو حديث ضعيف عند أهل الصناعة .
ومنها : أكل الضب فيه شيء من الخلاف ، والصواب حل أكله بلا كراهة ، لأنه أكل على مائدته - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر ، فدل ذلك على جواز أكله ، إذ لو كان حراماً أو مكروهاً لبين ذلك ، فلما لم يبين دل على أنه حلال ، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، وهذا القول هو الصواب والله أعلم .
ومنها : قضاء راتبة الفجر بعدها لمن فاتته ، فالقول الصحيح جواز ذلك ، وقال البعض لا يجوز ، لكن الصواب الجواز بدليل حديث الرجل الذي صلى الفجر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قام فصلى ركعتين ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((أصليت الصبح أربعاً)) فقال : لم أكن صليت قبل الفجر فصليتهما الآن ، فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فدل ذلك السكوت على جواز قضائها بعد الفجر ، وأما أحاديث النهي فهي عامة وهذا الدليل خاص والخاص مقدم على العام ، ولو كان قضاؤها في هذا الوقت لا يجوز أو مكروهاً لبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فلما سكت ولم يبين دل ذلك على جواز ما فعله ذلك الصحابي ، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .(1/169)
ومنها : أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حبرٌ من اليهود فقال يا محمد : إنا نجد في التوراة أن الله تعالى يضع السموات على إصبع والأرضين على إصبع والماء والثرى على إصبع والجبال على إصبع ثم يهز بهن فيقول : أنا الملك ، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - تصديقاً لما قال الحبر ، فهذا دليل على أن ما قاله الحبر صحيح يجب اعتقاده ، فنحن بهذا الحديث وبغيره نثبت لله تعالى صفة الأصابع على ما يليق بجلاله وعظمته ، إذ لو كان ما أخبر به الحبر ليس صحيحاً لبين ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .
ومنها : من العلماء من يقول في التيمم : إن السنة فيه ضربتان ، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين ، ويستدل على ذلك بما رواه الدارقطني وغيره عن ابن عمر يرفعه (( التيمم ضربتان ، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين )) وقال أكثر العلماء : بل التيمم ضربة واحدة يمسح بها وجهه وكفيه فقط مستدلين بأصح حديث في التيمم وهو حديث عمار في الصحيحين وكان عمار جاهلاً بالتيمم فقال له (( إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا ، فضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ومسح اليمين على الشمال وظاهر كفيه ووجهه )) وهذا بيان للصفة الشرعية ولم يذكر فيها إلا ضربة واحدة إلى الكفين ، فلو كان ما ذكر نحوه داخلاً في الصفة الشرعية لبينه لعمار لأنه وقت الحاجة للبيان فلما لم يبينه دل على أنه ليس بشيء لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وهذا هو القول الراجح إن شاء الله تعالى ، وأما حديث ابن عمر فخلاصة القول فيه أنه ضعيف مرفوعاً والراجح أنه موقوف ، وقول الصحابي إن ثبت عنه حجة إذا لم يخالف نصاً ولم يخالفه صحابي آخر ، وهنا تحقق الأمران ، فقد خالف حديث عمار ، وخالف ابن عمر جمع من الصحابة والله أعلم .
والفروع على هذه القاعدة أكثر من أن تذكر ، ولعل فيما مضى كفاية لمن شاء الله أن يكفيه والله تعالى أعلى وأعلم .(1/170)
القاعدة الرابعة عشر
( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب )
وهذه القاعدة يتوقف فهمها على معرفة صيغ العموم ، وهي الألف واللام الاستغراقية الداخلة على المفرد والجمع ، والأسماء الموصولة والنكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط والنكرة المضافة إلى معرفة ، وأيُّ ، وكل وجميع وكافة وعامة وأسماء الاستفهام ، فهذه هي صيغ العموم ، فهذه الصيغ إذا وردت بياناً لحكم واقعةٍ حصلت في العهد النبوي ، أي إذا وقعت واقعة في العهد النبوي واحتاج الناس لبيان حكمها فنزل الوحي بالحكم فيها لكن بلفظٍ من ألفاظ العموم ، فهل يقال إن العبرة هنا بلفظ الحكم العام ؟ أم أن العبرة والاعتداد بهذه الواقعة لا بعموم اللفظ ؟ هذا هو ما تجيب عنه هذه الواقعة . ولكن هناك بعض الأمور أنبه عليها في هذا المقام حتى تكون عوناً على فهم هذه القاعدة فأقول :
(الأمر الأول) اعلم أرشدك الله تعالى أنه لم يقل أحد من أهل العلم إن أحكام الشرع تخص من نزلت فيهم بحيث لا يدخل فيها غيرهم ، هذا لم يقل به أحد من المسلمين أبداً ، كما حكاه أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى ، فلم يقل أحد من المسلمين إن آية الظهار تخص من نزلت فيه لا تعم غيره ، ولا أن آية اللعان تخص من نزلت فيه لا تتعدى إلى غيره ، بل هذه الأحكام الشرعية وإن نزلت في أسباب خاصة إلا أن حكمها يتعدى لغيرهم ، لكن الخلاف الذي وقع بين أهل العلم إنما هو : في أن تعدية الحكم إلى غير من نزلت فيه هل هو بمقتضى اللفظ العام أو بالقياس على من نزلت فيه ؟ هذا هو الخلاف الذي وقع بينهم .
فمنهم من قال : إن غيرهم دخل معهم بمقتضى اللفظ ، ومنهم من قال : بل غيرهم دخل معهم بمقتضى القياس لا اللفظ ، لكن لم يقل أحد إن الآية تخص من نزلت فيه بحيث لا يدخل معه أحد لا بالوضع اللغوي ولا بالقياس ، فهذا قول لم يقل به أحد من المسلمين فيما أعلم ، وقد نص على ذلك أئمة الأصول ، فانتبه لهذا فإنه بيت القصيد .(1/171)
(الأمر الثاني) اعلم رحمك الله تعالى ووفقك لهداه وما يرضيه أنه إما أن تكون صورة السبب مؤثرة في الحكم بمعنى أن لا يفهم المراد بالحكم إلا بعد معرفة السبب وإما لا ، فإن كانت صورة السبب مؤثرة في الحكم فإنه لا ينبغي إفراد الحكم عن صورة سببه ويكون خاصاً بها ولا يتعلق بغيرها ، وأعني بصورة السبب أي الحال التي بسببها نزل الحكم ، لا أعني أفرادها ، وإنما حالة أفرادها وعلى ذلك أمثلة تبين لك ما أردت إثباته فإني لم أره في كتب الأصوليين إلا نادراً ، فأقول :
المثال الأول : الصوم في السفر ، فإنه قد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صام في السفر وأجاز الصيام في السفر ، ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : " أأصوم في السفر " - وكان كثير الصيام – فقال : (( إن شئت فصم وإن شئت فأفطر )) فأجاز له الصيام .
وفي الصحيح أيضاً عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : " كنا نسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم " ، وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان في حرٍ شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن رواحة " وهذا مع إخباره بشدة الحر ومع ذلك فقد صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن رواحة ، وهذه الأحاديث كما ترى ليس فيها إنكار منه - صلى الله عليه وسلم - على الصيام في السفر .(1/172)
لكن انظر إلى حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه ، فقال : ((ما هذا ؟)) ، قالوا : صائم ، قال : ((ليس من البر الصيام في السفر)) " فهنا إنكار بهذه الشدة على الصيام في السفر حتى أخبر أنه ليس من البر ، مع أنه في الأحاديث لم ينكر الصوم بل قد صام وأجاز الصيام ، فلو كان الصيام في السفر ليس من البر ، فكيف إذاً يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجيز فعله ؟ وكيف لم يقل ((ليس من البر الصيام في السفر)) على عبد الله بن رواحة ومن صام معه في سفره ؟ بل في حديث أنس السابق "لم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم" ، فكل هذا يدلك أن قوله - صلى الله عليه وسلم - ((ليس من البر الصوم في السفر)) وإن كان بلفظٍ عام ، لكن لا ينبغي إفراده عن صورة سببه ، لأن الصيام في السفر كان واقعاً منه ومن أصحابه كما رأيت في الأحاديث السابقة ، ومع ذلك لم ينكر عليهم ، وإنما أنكر لما رأى حالة هذا الرجل الذي قد شق عليه الصيام حتى أوجب له السقوط والتظليل عليه من حر الشمس فهنا قال هذه الكلمة ، مما يدل على أن صورة السبب لها تأثير في الحكم بدليل صيامه هو في السفر وعدم إنكاره على من صام إنما أنكر الصيام في السفر لما رأى حالة هذا الرجل ، فهذا يبين لك أن حكمه هذا إنما هو لأجل هذا الأمر ، فإذاً قوله ((ليس من البر الصوم في السفر)) لابد أن يربط بصورة سببه ولا يفرد عنها ، فهذا يرجح مذهب من قال بأن أفضلية الفطر في السفر تربط بالمشقة ، فإذا وجدت المشقة استحب الفطر ، أما إذا لم توجد المشقة فالأفضل الصيام وعلى هذا تتفق جميع الأحاديث وتتآلف . والمقصود الذي أريد إثباته هنا أنه لا يدخل في قوله ((ليس من البر الصوم في السفر)) إلا من كان كحالة هذا الرجل الذي شق عليه الصوم وأما من لم يشق عليه الصوم فلا يدخل ، لأن صورة السبب هي المؤثرة في الحكم(1/173)
فلا يدخل فيها إلا هذا الرجل ومن كان بمنزلته وحالته وهيئته .
(المثال الثاني) آية اللعان فإنها نزلت على سببٍ خاص ، فقد ثبت في الصحيح أنها في عويمر العجلاني فيدخل فيها هو ومن كان بمنزلته ، ذلك لأن صورة السبب لها تأثير في نزول الآية ، فتكون مقصورة على صورة سببها لا تتعداه إلى غيره ، فلا يدخل فيها من قذف أجنبية عنه ، أو من قذف رجلاً بزناً أو لواط ، وإنما يدخل فيها من قذف زوجته بالزنا وليس عنده شهود على بذلك ، فهذا هو صورة السبب .
(المثال الثالث) آية الظهار أيضاً نزلت في سبب خاص ، وهي بلفظٍ عام ، فقد ثبت أنها نزلت في أوس بن الصامت لما ظاهر من زوجته وجاءت تشكو حالها للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول لها : (( اتقي الله واصبري فإنه ابن عمك)) فنزلت هذه الآية ، إذاً صورة السبب لها تأثير في نزول الآية فحينئذٍ يكون هذا الحكم مقصوراً على صورة السبب لا يتعداه إلى غيره ، فيدخل فيها من نزلت فيه ومن كان بمنزلته أي كل مظاهر ، فلا يستدل بها على غير المظاهر ، كمن حلف على زوجته بالطلاق ،أو قال : أنت عليّ حرام إن فعلتِ كذا ، ونحو هذه الصور لا يستدل عليها بآية الظهار ، لأنها خاصة بهذه الحالة دون غيرها أعني لا يدخل فيها إلا هذه المظاهر ومن كان بمنزلته ، ذلك لأن صورة السبب لها تأثير في نزول الحكم وما كان كذلك فإنه لا يتعدى صورة سببه وهكذا .(1/174)
فأي حكم بلفظ عام كانت صورة سببه هي المؤثرة في نزوله فإنه يناط بها ولا يتعداها إلى غيرها ، فإن قلت : فهل هذا ينافي قولنا : العبرة بعموم اللفظ ، قلت : لا ينافيها أبداً ، لكن أيضاً لا يتجاوز بها صورة السبب ، هذا إذا كانت صورة السبب لها تأثير في ورود الحكم ، أما إذا كان الحكم قد قرر في مناسبات متعددة ، ثم قرر مرةً أخرى بعد سبب خاص ، ففي هذه الحالة فالعبرة بعموم لفظه مطلقاً أي لا يقصر على صورة سببه ، وذلك كقوله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن بئر بضاعة وأنها يلقى فيها الحيض ولحوم الكلام والنتن فقال : (( إن الماء طهور لا ينجسه شيء )) فهذا الحكم عام مطلقاً ولا يخص ببئر بضاعة بل ولا بغيرها من الآبار المماثلة لها ، لأن طهورية الماء قد قررت في مناسبات متعددة ، فمن ذلك قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً } ، وقال : { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } ، وفي حديث أبي أمامة : " الماء طهور لا ينجسه شيء " ، وفي حديث ابن عمر : " إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث " ، ففي مناسباتٍ كثيرة يقرر الشارع طهورية الماء ، إذاً ليس الحكم خاصاً ببئر بضاعة ، وسببها ليس مؤثراً في ورود الحكم ، فهنا يكون الحكم دليلاً على غير صورة السبب ، فيكون دليلاً على طهارة الآبار والعيون والأنهار والبحار والمستنقعات الصغيرة والكبيرة وهكذا ، مع أنه ورد في بئر بضاعة لكن هو عام فيها وفي غيرها من سائر أنواع المياه وهكذا ، وعلى كل حال فالحكم إذا ورد على سببٍ خاص فلا يخلو إما أن تكون صورة السبب هي المؤثرة في ورود الحكم وإما لا ، فإن كان الأول فيكون العموم معتبراً في صورة السبب فقط ، وإن كان الثاني فيكون العموم في مسمى اللفظ ، والله يتولانا وإياك .(1/175)
إذا علمت هذا فاعلم – وفقك الله – أن الصواب الذي دلت عليه الأدلة هو أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وإذا قلنا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فنعني أن غير أفراد السبب دخل معهم بمقتضى اللفظ العام لا بالقياس ، والدليل على ذلك عدة أمور :
من الأدلة : أن العبرة إنما هي بلفظ الشارع ، فلفظه هو الحجة لا غيره ، فإذا كان عاماً فإنه يجب إبقاؤه على عمومه ولا يخص بسببه ، لأن الحجة في لفظه لا في مجرد الأسباب .
ومن الأدلة أيضاً : أن بلاغة الشارع وفصاحته تأبى أن يريد السبب المخصوص ويعبر عنه باللفظ العام ، فهو إذاً لم يعبر عن هذا السبب الخاص باللفظ العام إلا لإرادة التعميم ، إذ لو كان يريده بعينه دون غيره لعبر عنه بلفظٍ خاص ، لكن لما عدل عنه إلى لفظٍ عنه دل على أنه يريد العموم ، فالعبرة إذاً بمراد الشارع لا بمراد غيره .
ومن الأدلة أيضاً : أن الشريعة الإسلامية عامة صالحة لكل زمانٍ ومكان ، والوحي انقطع بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلو قلنا إن العبرة بخصوص السبب لتعطلت وقائع كثيرة عن الأحكام وهذا فيه إبطال لكمال هذه الشريعة ، وذلك لأن من أوجه كمالها أن الشارع ينزل حكمه بعد واقعةٍ ليبين للناس أن حكمه في هذه الواقعة هو هذا الحكم ، حتى إذا وقعت واقعة مثلها فإذا الحكم قد تقرر في الأذهان وهذا لا يتأتى إلا إذا قلنا بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .(1/176)
ومن الأدلة أيضاً : إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على تعميم الأحكام الواردة على أسباب خاصة ، وذلك أن أكثر العمومات قد وردت على أسباب خاصة كآية الظهار فقد نزلت في أوس بن الصامت وزوجته ، وآيات اللعان نزلت في شأن عويمر العجلاني وزوجته وقيل أنها نزلت في هلال بن أمية وزوجته ، وآية السرقة أيضاً نزلت في سرقة رداء صفوان بن أمية إن صح ذلك ، وآية القذف نزلت في شأن عائشة رضي الله عنها والأمثلة كثيرة ، فالصحابة رضوان الله عليهم لم يقصروا هذه الأحكام على أصحابها ، بل قد عمموها وعملوا بها في غير من نزلت فيهم فكان ذلك منهم كالإجماع على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
ومن الأدلة أيضاً : ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : " أن رجلاً من الأنصار قَبَّل امرأة لا تحل له فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } فقال الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ألي هذا وحدي يا رسول الله ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ((بل لأمتي كلهم)) " ، ووجه الدلالة أن هذه الآية نزلت في ذلك السبب ومع ذلك فهي شاملة للأمة كلها بنص المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مما يدل على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . وهو نص نبوي في محل النزاع .(1/177)
ومن الأدلة أيضاً : ما رواه البخاري ومسلم أيضاً من حديث علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أيقظ علياً وفاطمة بالصلاة من الليل قال له علي - رضي الله عنه - : " إن أرواحنا بيد الله إن شاء بعثنا ، فولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يضرب فخذه ويقول { وَكَانَ الإنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا } " فهذه الآية نزلت في الكفار الذين يجادلون في القرآن ، فاستدل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا المقام مع أنه ليس هو سبب نزولها ، فجعل علياً باعتراضه هذا داخلاً في حكم الآية ، مما يدل على أن العبرة بعموم لفظ الآية لا بخصوص سببها .
ومن الأدلة أيضاً : ما في الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : لقيت كعب بن عجرة فسألته عن آية الفدية ، فقال : نزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة ، حملت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي فقال : ((ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى)) الحديث ، والشاهد هو قوله " نزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة " ، وهذا هو عين قولنا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فهي وإن كان سبب نزولها خاصاً لكن يدخل فيها كل من اتصف بوصف كعب - رضي الله عنه - .(1/178)
ومن الأدلة أيضاً : ما رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح عن أبي واقدٍ الليثي قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن حدثاء عهدٍ بكفرٍ وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم فقلنا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال : ((الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى { اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } لتركبن سنن من كان قبلكم )) ، والشاهد منه أنه - صلى الله عليه وسلم - جعل قولهم "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط" جعله داخلاً في عموم قول قوم موسى لموسى { اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } مما يدل على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فإن هذه الآية وإن نزلت في قوم موسى لكن يدخل فيها كل من أراد التبرك بشيء يطلب خيره كما فعل أبو واقدٍ ومن كان معه جهلاً منهم بحقيقة الأمر ، والله المستعان .(1/179)
ومن الأدلة أيضاً : أن الأمة أجمعت على أن البنات لهن الثلثان بدليل قوله تعالى : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } فأجمعت الأمة الإسلامية على أن البنات إذا كن فوق اثنتين أن لهما ثلثي التركة بهذه الآية مع أنها نزلت في سبب خاص ، فقد روى أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد وغيرهم من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : " جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتي سعدٍ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعدٍ قتل معك يوم أحد وإن عمهما أخذ جميع ما ترك أبوهما وإن المرأة لا تنكح إلا على مالها ، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلت آية المواريث " { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ } فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخا سعد بن الربيع فقال : (( أعط ابنتي سعدٍ ثلثي ماله ، أعط امرأته الثمن وخذ أنت الباقي )) ، فهذه الآية وإن نزلت على سببٍ خاص إلا أن الأمة أجمعت على العمل بها في البنات إذا كن فوق اثنتين ، فهذا يدل على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
ومن الأدلة أيضًا : أن المتقرر في الأصول أن خطاب الشارع للواحد خطاب للأمة ما لم يدل دليل التخصيص ، فهذا يدل على أن العبرة عموم اللفظ لا خصوص السبب . فهذه مجمل الأدلة الدالة على صحة هذه القاعدة المفيدة جداً للطالب.
إذا علمت هذا فاعلم أن بعض أهل العلم ذهب إلى عكس هذه القاعدة فقال : العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ ، وهذا ليس بصواب إذ لا دليل عليه بل الأدلة تخالفه كما رأيت ، وإنما ليس عندهم إلا شبهات عقلية ظنوها أدلة سليمة وإنما هي خيالات عقيمة أردت كثيراً منهم في مزالق وخيمة .(1/180)
فقالوا : لو أن العبرة بعموم اللفظ وأن السبب لا دخل له في الحكم فإذاً يجوز إخراج صورة السبب من عموم الحكم ومثاله أن آية الظهار نزلت في أوس بن الصامت وزوجته ، والعبرة بعموم لفظها فإذاً يجوز إخراج أوس وزوجته من عموم لفظ الآية بالتخصيص .
قلنا : هذا هراء وخلط وليس بدليل يستحق الجواب ، ذلك لأن صورة السبب قطعية الدخول في الحكم ، إذاً الحكم نزل لعلاجها فكيف يقال بجواز إخراجها من الحكم والحكم إنما نزل لها أولاً ، ثم سلمنا أنه يجوز إخراجها لأنها بعض أفراد العام . فإنما يجوز ذلك إذا دل الدليل على تخصيصها ولا أعلم فيما اطلعت عليه أن هناك مخصصاً يخرج الأسباب عن أحكامها فإذاً إيرادهم هذا ليس بوارد وفرض نظري محض لا واقع له ألبتة فلا نشتغل به .
وقالوا أيضاً : لو لم يكن للسبب تأثير في الحكم لما تكلف الراوي نقل السبب مقروناً بحكمه ولاكتفى بنقل الحكم فقط ولم يشتغل بنقل السبب ، لكن لما نقله – أعني السبب مقروناً بالحكم – دل على أنه يرى ربط الحكم بالسبب .
قلنا : وهذا أيضاً كلام لا تحقيق فيه وذلك لأن نقل الراوي للسبب لا يلزم انحصاره فيما ذكرتموه بل لإرادة التوضيح فإن الأحكام يفهم المراد منها إذا عرفت أسبابها ، وكذلك لمعرفة التاريخ إذ لو أورد الحكم مباشرة لما علمنا التاريخ لكن لما نقل السبب اتضح ذلك وفي كثير من الأسباب الإشارة إلى التاريخ أو بعض الوقائع التي يستدل بها على التاريخ ، والعلم بالتاريخ من أنفع الأشياء في معرفة الناسخ والمنسوخ . وكذلك لبيان نعمة الله على عباده بالتفريج فالواقعة حصلت ولا يعرف حكم الله فيها والحرج حاصل بذلك ثم ينزل الحكم فيحصل الفرج فهذا موجب للشكر والحمد ، وغير ذلك من الفوائد فلماذا تحصرون فوائد نقل السبب في الذي قلتموه فقط .(1/181)
وقالوا أيضاً : لو أن السبب لا تأثير له في الحكم ، فلماذا يتأخر الحكم إلى وقوع السبب ولكان نزل قبل الحاجة إليه ، ولكن لما تأخر إلى حدوث الواقعة ثم نزل فهذا التأخير مشعر بارتباطه بالسبب .
قلنا : وهذا أيضاً كلام لا تحقيق فيه إذ هو من باب التحكم على الله في شرعه لماذا يؤخر ؟ لماذا يقدم ؟ فإن أمر تشريع الأحكام هو لله وحده يقدم منها ما يشاء ويؤخر ما يشاء { لا يُسْئلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئلُونَ } ولو فتحنا هذا الباب لاضطرب الأمر وكثر التجرؤ على أحكام الله والقدح في حكمته وعدله ، ثم أضف إلى هذا أن من حكمة الله تعالى أنه يؤخر الحكم إلى وقوع الحاجة إليه ليكون ذلك أوقع في النفس وأوضح للفهم فإذاً جميع ما استدلوا به على قولهم كما ترى (لو أن ، ولماذا ، ويلزم عليه ) وكل ذلك لا يفيد شيئاً ، وأما القول الراجح فقد دلت عليه الأدلة الواضحة الناصعة من الكتاب والسنة والعقل الصريح واللغة العربية والإجماع فلا يشك عاقل في رجحانه ولله الحمد والمنة وهو أعلى وأعلم .
ولم يبق إلا أن يشار إلى شيء من الفروع التي تزيد الوضوح وتبين لك أثر هذه القاعدة في الفروع فأقول :
منها : في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ على صبرة طعامٍ فأدخل يده فيها فأصابت أصابعه بللاً فقال : (( ما هذا يا صحاب الطعام ؟ قال : أصابته السماء يا رسول الله ، فقال : أفلا جعلته فوق الطعام ليراه الناس من غش فليس منا )) وهذا الحكم عام لأنه ورد بصيغة (من) وهو الشرطية وأسماء الشرط من صيغ العموم ، وقد قيل على سببٍ خاص وهو الغش في البيع لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فيستدل به على تحريم الغش في الامتحانات والعقارات والنصيحة وغيرها ، بل هذا الكلام منه - صلى الله عليه وسلم - قاعدة عامة في جميع أنواع الغش ، فهو حرام بسائر أنواعه في جميع المجالات لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، والله أعلم .(1/182)
ومنها : اختلف العلماء في الدباغ هل هو مطهر لجلد الميتة أو لا ؟ أو لا يطهر إلا جلد المأكول دون غيره ؟ والنقاش الآن مع الذين قالوا لا يطهر بالدباغ إلا جلد المأكول فقط فاستدلوا على ذلك بحديث ابن عباسٍ قال (( تُصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت فمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يجرونها فقال : هلاّ أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ؟ فقالوا إنها ميتة ، قال : يطهرها الماء والقرظ )) فهذا الحكم العام ورد على سبب خاص وهو شاة ميمونة والشاة مما يؤكل لحمها فيقصر الحكم على سببه الخاص ولا يتعداه إلى غيره ، وفي لفظٍ لأحمد (( أن داجناً لميمونة ماتت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا انتفعتم بإهابها ألا دبغتموه فإنه ذكاته )) ولذلك قال الإمام مجد الدين في المنتقى : " وهذا تنبيه على أن الدباغ إنما يعمل فيما تعمل فيه الذكاة " اهـ . واختاره حفيده أبو العباس – رحمه الله – وهو رواية عن أحمد وليست هي المشهورة في المذهب ، وذهب بعض العلماء إلا أن الدباغ مطهر لجلد جميع الحيوانات الطاهرة في الحياة مأكولة أو غير مأكولة ، وهو رواية في المذهب واستدلوا بأدلة كثيرة جداً وأجابوا عن استدلال أصحاب القول الأول بأن الحكم عام وإن نزل على سببٍ خاص إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فلما قالوا (( إنها ميتة )) قال - صلى الله عليه وسلم - : (( يطهرها الماء والقرظ )) فهذا الحكم المعتبر فيه عمومه بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - حكم بطهارة جلود الميتة بالدباغ في غير خصوص الشاة فقال في حديث ابن عباسٍ (( إذا دبغ الإهاب فقد طهر )) وفي حديث أم سلمة (( دباغ جلود الميتة طهورها )) وغيرها من الأدلة المستوفاة في مكانٍ آخر مما يدل على أن حكمه على الشاة لا يدل على الخصوصية بها لأن العبرة بعموم اللفظ ولأن ذكر بعض أفراد العام لا يكون مخصصاً للعموم ، وهذا هو القول الراجح في نظري والله أعلم .(1/183)
ومنها : اختلف العلماء في الترتيب في الوضوء هل يجب أو لا ؟
على قولين : فقيل يجب وهو المشهور من مذهبنا ومذهب الشافعي واستدلوا على ذلك بأدلة منها وهو الذي يهمنا قوله - صلى الله عليه وسلم - (( إبدأوا بما بدأ الله به )) ولمسلم (( أبدأ بما بدأ الله به )) فدل هذا على وجوب البداءة بالشيء الذي بدأ الله به في الوضوء فقد بدأ بالوجه ثم باليدين إلى المرفقين ثم بمسح الرأس ثم بغسل الرجلين ، وقال الآخرون : كيف تستدلون بهذا الكلام وقد قاله - صلى الله عليه وسلم - في الحج لما دنا من الصفا قال (( أبدأ بما بدأ الله به )) فسببه الحج ونحن في الوضوء .
والجواب : أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فإن قوله (أبدأ بما) صيغة من صيغ العموم وهو (ما) بمعنى الذي فهو وإن قاله في الحج لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وهذا هو القول الصحيح – أعني وجوب الترتيب في الوضوء مع القدرة – لهذا الدليل ولأدلة أخرى ليس هذا مجال بحثها ، والله أعلم .
ومنها : بيع العرايا هل يشترط فيه أن يكون لحاجة أو يجوز بلا حاجة ؟
فيه خلاف فقال بعضهم : يشترط الحاجة أي الحاجة إلى الرطب واستدلوا على ذلك بما رواه الشافعي في مختلف الحديث عن زيد بن ثابت أنه سمى رجالاً محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نقد في أيديهم يبتاعون به رطباً ويأكلون مع الناس وعندهم فضول قوتهم من التمر فرخص لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر . قال الجمهور : بل الصواب عدم اشتراط الحاجة للأحاديث الصحيحة كحديث زيد بن ثابت وأبي هريرة في الصحيحين فإن فيها ذكر الترخيص من غير اشتراط الحاجة ، وأما الحديث الذي ذكرتموه فهو حديث ضعيف فقد أنكره محمد بن داود الظاهري على الشافعي ، وقال ابن حزم : "لم يذكر الشافعي له إسناداً فبطل " اهـ .(1/184)
وعلى تسليم صحته فيقال : إن الأحاديث الصحيحة صرحت بالترخيص بلفظ مطلق من غير قيد الحاجة والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وهذا هو القول الراجح فالعام يجرى على عمومه ولا يقيد إلا بدليل صحيح صريح .
ومنها : حديث الخثعمية وأنها قالت : يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج قد أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه ، قال : نعم حجي عنه )) متفق عليه ، فقال بعض أهل العلم : إن هذا الحديث خاص بالخثعمية وأبيها دون غيرهم ، وهذا ليس بصحيح ، بل الصواب أنه عام لها ولغيرها ممن هو في حالة أبيها فمن كان مريضاً أو كبيراً لا يثبت على الراحلة فله أن يقيم عنه من يحج ويعتمر ، لعموم قوله (( فاقضوا الله فالله أحق بالوفاء )) فإن قيل إنه نزل على سبب خاص وهو سؤالها ، قلنا : إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما مرضى ترجيحه .
ومنها : رضاع الكبير هل ينشر الحرمة أم لا ؟ قد قدمنا لك ذلك الفرع في قاعدة " مخالفة الراوي لما روى " ونعيده هنا لأنه داخل تحت هذه القاعدة أيضاً فأقول :(1/185)
ففي قصة سالم مولى أبي حذيفة أنه كان يدخل على امرأة أبي حذيفة فتغيرت نفس أبي حذيفة فرفعت الأمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لها (( أرضعيه حتى يدخل عليك )) والحديث عند مسلم وغيره فهذا الحديث له سبب خاص ، ولفظه عام ، فهل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب ، هنا وقع الخلاف بين العلماء ، فقال جملة من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قول الجمهور أيضاً إنه خاص بسالم لا يتعداه لغيره ، وقالت عائشة : الحكم للأمة فرضاع الكبير محرم سواءً كانت حالته موافقة لحالة سالم أو لا . وقال بعض أهل العلم : بل العبرة بحالة السبب ذلك لأن السبب له تأثير في الحكم وإذا كان السبب له تأثير في الحكم فإنه يناط بحالته ، وإذا نظرنا إلى حالة سالم وأبي حذيفة وامرأته وجدناهم قد تأذوا بتكرر دخول سالم عليهم وهم مضطرون لدخوله ، فأرضعته المرأة ليكون ابناً لها ، فمن كانت حالته مثل حالة أبي حذيفة وامرأته من تكرر دخول رجلٍ عليهم وهم محتاجون لدخوله فللمرأة أن ترضعه ليحرم عليها ، وهذا القول فيه إعمال للأدلة كلها وهو اختيار أبي العباس – رحمه الله – وهو القول الراجح في نظري ولا يخالف أحاديث الحولين لأنها عامة وقضية سالم خاصة والخاص مقدم على العام ، ولا ينبغي إبطال شيء من السنة مادام إعمالها ممكناً ، وأما مخالفة أمهات المؤمنين فمعارض بقول عائشة وقول الصحابي ليس بحجة إجماعاً إذا خالفه صحابي آخر ، والله أعلم .
ومنها : آية اللعان فإنها نزلت في عويمر العجلاني وزوجته لكن العبرة بعموم اللفظ فيدخل فيها من كان بمنزلتهم .
ومنها : آية الظهار فإنها نزلت في أوس بن الصامت وزوجته لكن العبرة بعموم اللفظ فيدخل فيها من كان بمنزلتهم .(1/186)
ومنها : حديث عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إني لا أستطيع أن آخذ شيئاً من القرآن فعلمني ما يجزئني عنه فقال - صلى الله عليه وسلم - قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم …)) الحديث فهذا الحديث وإن كان له سبب خاص لكن العبرة بعموم اللفظ فيدخل فيه هذا الرجل ومن كان بمنزلته ممن يعجزون عن أخذ شيءٍ من القرآن وهذا القول هو الصواب .
ومنها : قوله تعالى { وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } ذكر غير واحدٍ من المفسرين أنها نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ، بل ذكر بعضهم الإجماع على ذلك . فنقول : نعم إنها نزلت فيه لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، أي يدخل في هذه الآية صديق الأمة - رضي الله عنه - ومن كان بمنزلته من الاتصاف بالتقوى والكرم والجود والبذل للمال في طاعة الله ونصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، بل القاعدة عندنا أن الآية التي لها سبب خاص إن كانت مدحاً أو ذماً أو أمراً أو نهياً فإنه يدخل فيها من نزلت فيه ومن كان بمنزلته ذكره أبو العباس رحمه الله تعالى في مقدمة التفسير والله أعلم .
ومنها : إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً فإنه لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره ، ويذوق الآخر عسيلتها لقوله - صلى الله عليه وسلم - (( لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك)) فهذا الحكم وإن كان له سبب خاص وهو ما روته عائشة قالت : جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : (( كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب فقال : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك )) فهو وإن كان قيل في لشخص خاص فخطاب الشارع للواحد خطاب للأمة كلها .(1/187)
ومنها : أن من قَتَّر عليها زوجها بالنفقة فلا يعطيها ما يكفيها وولدها فلها أن تأخذ من ماله بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف لحديث هند امرأة أبي سفيان فهو وإن كان على سببٍ خاص لكنه خطاب لكل من كانت مثلها ، فيستدل به على من كان كحالتها .
ومنها : من فوت الصلاة أو الصوم لعذرٍ فإنه يقضي في قول عامة أهل العلم للأدلة الصريحة الصحيحة في ذلك ، لكن من فوتهما لغير عذر – أي ترك الصلاة عمداً أو أفطر عمداً – فهل يقضي أو لا ؟
فيه خلاف ، فقيل يقضي لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (( فاقضوا الله فالله أحق بالوفاء )) ، وقال بعضهم : بل لا يصح قضاؤه لأنها عبادة مؤقتة بوقت والعبادة المؤقتة بوقتٍ تفوت بفوات وقتها من غير عذرٍ والأدلة دلت على قضاء المعذور ، وأما المتعمد فيمنع من القضاء حرماناً لا تخفيفاً ، وأما قوله (( فاقضوا الله فالله أحق بالوفاء )) فهو فيمن فاته الحج لموتٍ أو مرضٍ ونحوه ، لأنه قيل في الحج فلا يستدل به على غيره .
قال الأولون : نعم سلمنا أنه قيل في الحج لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولأنه يفهم المراد منه بنفسه من غير معرفة سببه ، ولبحث المسألة موضع آخر وإنما المقصود التفريع على هذه القاعدة .
ولعله قد اتضحت القاعدة إن شاء الله بهذه الفروع فعليها فقس والله أعلى وأعلم .
القاعدة الخامسة عشرة
( القياس في مقابلة النص باطل )(1/188)
اعلم – رحمك الله تعالى – أن أدلة الشريعة أربعة : الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، والكلام في هذه القاعدة عن القياس ، فالقياس دليل تستنبط به الأحكام الشرعية في قول جملة أهل العلم إلا من شذ من الظاهرية وغيرهم ، وأدلة إثباته دليلاً شرعياً مذكورة في غير هذا الموضع ، والذي يعنينا هنا هو أن القياس إنما يكون حجة شرعية إذا لم يخالف دليلاً شرعياً ، فإن القياس الذي يخالف نصاً من كتابٍ أو سنةٍ صحيحة يسمى فاسد الاعتبار وفساده دليل بطلانه ، فإن الحجة إنما هي الكتاب والسنة وأما الأقيسة الباطلة المصادمة للنصوص فإنها غير معتبرة ولا يحل لأحدٍ تقديمها على الكتاب والسنة ، فإن القياس فرع من الكتاب والسنة فكيف يقدم الفرع على أصله عند التعارض بل الواجب على كل أحدٍ أن يطرح مثل هذا القياس خارجاً وألا يعتبره شيئاً ، والدليل على فساده إذا صادم النص أمور :
الأول : حديث معاذ بن جبل وهو حديث صحيح مشهور تلقته الأمة بالقبول واعتمدوه في استدلالاتهم بلا نكير ، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه إلى اليمن قال : بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : فبسنة رسول الله ، قال : فإن لم تجد ؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو )) أي لا أقصر وهو عند أحمد وأبي داود والترمذي والطيالسي وقد صححه جماعة من الحفاظ أمثال أبي بكر الرازي وأبي بكر بن العربي والخطيب البغدادي وابن القيم وغيرهم – رحمهم الله تعالى رحمة واسعة – ووجه الحجة فيه أن معاذاً - رضي الله عنه - أخرَّ القياس عن النص وصوبه النبي - صلى الله عليه وسلم - فدل على أن رتبة القياس بعد النص ، فإذا تعارض القياس والنص فتقديمه – أي القياس على النص – تقديم لما هو متأخر في الرتبة وهذا فاسد وهو المراد بقولهم " فاسد الاعتبار " .(1/189)
ومن الأدلة أيضاً : أن ربنا جل وعلا عاب في آياتٍ على الذين يعملون عقولهم بعد ورود النص القاطع فتراهم يقولون : لو كان كذا لكان كذا ويقاس هذا على هذا ، فعاب الله عليهم وذمهم وأمرهم باتباع النص الواضح وترك هذه الأقيسة الباطلة وذلك كقوله تعالى { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } فنصوص المعاد وبعث الأجساد في القرآن كثيرة ومع ذلك لا يزالون في أقيستهم الفاسدة ، وكقوله في معرض أمرهم بالنفقة ومعارضتهم ذلك بالقياس { وإذا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } وغير ذلك في آياتٍ كثيرة ، وما ذلك إلا لأنه لا ينبغي القياس في معارضة النص ، بل النص مقدم على غيره والله أعلم
ومن الأدلة أيضاً : أن الصحابة رضوان الله عليهم على كثرة اجتهادهم وفتاويهم لم ينقل عنهم أنهم قاسوا إلا مع عدم النص ، وكانوا يتساءلون عن النصوص فإذا وجدوها لم يعدلوا عنها بل كان الواحد منهم يفتي برأيه زمناً ثم يأتيه النص فيترك رأيه وقياسه ويأخذ بالنص مما يدل على أن النص مقدم عندهم وأنه لا يعارض برأيٍ ولا قياس وذلك بإجماعهم رضي الله عنهم .
فمن ذلك : أن عمر - رضي الله عنه - لما ذكر له خبر حمل بن النابغة في غرة الجنين قال عمر (لو لم نسمع هذه لقضينا بغيره) فكان النص مانعاً له من القياس المعارض فترك قياسه من أجل النص .(1/190)
ومن ذلك : أنه - رضي الله عنه - كان لا يورث المرأة من دية زوجها فلما أخبره الضحاك بن سفيان الكِلابي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها لما بلغه ذلك رجع عن رأيه إلى النص مما يدل على عدم اعتباره الرأي مع النص .
ومن ذلك : أنه كان لا يأخذ الجزية من المجوس اجتهاداً وقياساً على غيرهم من سائر المشركين وأنهم ليس لهم كتاب معروف فليسوا من أهل الكتاب ، فلما أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر كتب عمر إلى عماله على البلاد بأخذ الجزية منهم فترك رأيه من أجل النص .
ومن ذلك : أن عثمان - رضي الله عنه - كان يقول : " إن المتوفى عنها زوجها لا سكنى لها " حتى جاءه خبر الفريعة بنت مالك أن زوجها خرج في طلب أعبدٍ له فقتلوه ولم يكن ترك سكناً تملكه ولا نفقة قالت : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ، قالت : فاعتددت أربعة أشهرٍ وعشراً )) فلما علمه عثمان اتبعه وقضى به وترك رأيه .
ومن ذلك : أن عمر - رضي الله عنه - كان يفتي بأن دية الأصابع على حسب منافعها حتى جاءه خبر معاوية - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( هذه وهذه سواءٌ )) فرجع عن رأيه واتبع السنة.
فهذه الصور حصلت بمحضرٍ من الصحابة ولم ينكرها أحد فكان ذلك إجماعاً .
ومن الأدلة أيضاً : اتفاق الصحابة والسلف الصالح وأئمة الدين على ذم من ترك النصوص الصريحة الصحيحة وتتبع الأقيسة الباطلة ، وكلامهم في ذلك مشهور معروف ، والله أعلم .
ومن الأدلة : أن القياس إنما هو حجة ينسب للشريعة ويكون دليلاً من أدلتها إذا كان قياساً صحيحاً ومن شرط صحته أن لا يخالف نصاً ، فأما إذا خالف نصاً فإن الشريعة بريئة منه وإنما ينسب إلى صاحبه .(1/191)
فوا عجباً ممن يقدم قول البشر على وحي رب البشر . فهذه الأدلة تفيد إفادة قطعية أن الحجة إنما هي النص لا القياس المعارض ، وأن هذا القياس المصادم للنص يجب على العالم إطراحه ، فالنص هو المقدم على كل شيء والله أعلم .
هذا شرح القاعدة من ناحية التنظير لكن بقي شرحها من ناحية التفريع وفروعها في الحق كثيرة لكن أقتصر على أشهرها ، فغيرها يعرف بها فأقول :
اعلم – أرشدك الله لطاعته – أن أول من قاس قياساً فاسد الاعتبار إبليس فإنه إمام لكل قائس قياساً يخالف به النص ، وذلك أن الله تعالى لما أمره بالسجود لآدم عليه السلام بقوله { اسْجُدُوا لآدَمَ } وهو نص صريح لا يحتمل المناقشة ، عارض عدو الله هذا النص القاطع بأقيسةٍ فاسدة ، فقاس عنصره على عنصر آدم فرأى أن النار أقوى من الطين وأنه أقدم منه في الخلق فكانت نتيجة قياسه الفاسد أن قال { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } فأبى السجود وقدم قياسه الفاسد على النص الصريح ، وقياسه هذا قياس باطل ولاشك ، ووجه بطلانه ثلاثة أمور :
الأول : أنه في معارضة النص ، والقياس في مقابلة النص باطل .
الثاني : منع القياس أصلاً فإن النار ليست خيراً من الطين ، فإن النار طبيعتها الخفة والطيش والإفساد والتفريق ، وأما الطين فطبيعته الرزانة والإصلاح والإعمار فإنك تعطيه الحبة فيعطيكها سنبلة ، وتعطيه النواة فيعطيكها نخلة وهكذا ، وبه تعمر البيوت فكيف تكون النار خيراً من الطين .
الثالث : سلمنا جدلاً أن النار خير من الطين فإن شرف الأصل لا يستلزم شرف الفرع فإبليس فرع من النار فإذا قلنا أصل النار خير فإنه لا يلزم من ذلك أن كل فروع النار خير ، فكم من أصل رفيع وفرعه وضيع ، كما قال الشاعر :
إذا افتخرت بآباءٍ لهم شرف……قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا
والمقصود : أن قياس إبليس هذا قياس في مقابلة النص فهو قياس باطل .(1/192)
ومن الفروع أيضاً : ذهب الحنفية – رحمهم الله تعالى وغفر لهم – أن المرأة يجوز لها أن تتولى عقد نكاحها بنفسها قياساً على جواز تصرفها في مالها بما شاءت ، فكما أنها تتصرف في مالها كيفما شاءت ولا تفتقر إلى الولي فكذلك في النكاح أيضاً لها أن تزوج نفسها من شاءت ولا تفتقر إلى الولي .
قال الجمهور : هذا قياس فاسد لأنه قياس في مقابلة النص فإن النصوص دلت على أنه لا يصح النكاح إلا بولي وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - (( أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل )) وحديث (( لا نكاح إلا بولي )) وحديث (( ولا تزوج المرأة نفسها )) وهذه النصوص بمجموعها صحيحة ثابتة فإذا صح النص فلا قياس ، لأن القياس في مقابلة النص باطل ولاشك أن القول الصحيح مع الجمهور .(1/193)
ومن الفروع : ذهب بعض أهل العلم إلى سنية استلام سائر أركان البيت أما الركنان اليمانيان فبالنص وأما الآخران فبالقياس عليهما ، وذهب أكثر العلماء إلى عدم السنية إلا في اليمانيين لثبوت النص بهما ، وأما الآخران فلا استلام ولا تقبيل وقياسهم هذا في مقابلة النص ، ففي صحيح مسلم من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال : (( لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلم من البيت غير الركنين اليمانيين )) وأنكر ابن عباس على معاوية استلامه أركان البيت جميعها فقال معاوية : " ليس شيء من البيت مهجوراً " فقال ابن عباس : " أما لك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة " فسكت معاوية لقبوله الحق رضي الله عنه وأرضاه كما هو طبع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي هم وأمي ، ولأن القياس في العبادات ممنوع عند الأكثر ، ولأن الأصل في العبادات الحظر والتوقيف ، ولأن الركنين الآخرين ليسا على قواعد إبراهيم كما قال أهل العلم – رضي الله عن الجميع – وهذا هو الصواب ، فالسنة إنما هي استلام الركن اليماني والحجر الأسود ، ويذكرني هذا بمن قال : السنة تقبيل الركن اليماني قياساً على تقبيل الحجر الأسود ، وهذا أيضاً قياس في مقابلة النص فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستلم الركن اليماني ولا يقبله فهو إذاً قياس باطل والله المستعان.
ومنها : قال بعض أهل العلم : يشرع للإنسان إذا أتم السعي بين الصفا والمروة أن يصلي ركعتين قياساً على صلاة ركعتين بعد الطواف حول البيت ، وهذا قياس في مقابلة النص لأنه - صلى الله عليه وسلم - سعى بين الصفا والمروة ولم يصل بعده شيئاً فلو كان مشروعاً لفعله ، فقياسهم هذا قياس باطل لأنه في مقابلة النص . فالصواب إذاً عدم مشروعيتها .(1/194)
ومنها : قال الحنفية – رضي الله عنهم – لا يجوز للرجل تغسيل امرأته إذا ماتت لانقطاع حبل النكاح بينهما قياساً على الأجنبية ،وقال أكثر العلماء بالجواز وهو الصحيح فعن عائشة رضي الله عنها قالت : (( رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جنازةٍ بالبقيع وأنا أجد صداعاً في رأسي وأقول وارأساه ، فقال : بل أنا وارأساه ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك )) رواه أحمد وابن ماجه ، وهو نص في الموضوع ، وفي حديث أسماء بنت عميس قالت : ( غسلت أنا وعلي فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) رواه الحاكم والبيهقي وحسنه الحافظ ابن حجر ، واشتهرت هذه القصة فلم تنكر فكانت إجماعاً ، ولا يقال : إن علياً غسلها من باب الخصوصية لأن عقده عليها لم ينقطع لأنها زوجته في الآخرة ، لأننا نقول : إن مثل هذا لا يثبت إلا بدليل ولا أعلم دليلاً يثبت مثل هذا في الكتب التي نظرت فيها ، وبه تعلم أن قياس الحنفية ومن وافقهم قياس في مقابلة النص فيكون باطلاً لأن القياس في مقابلة النص فاسد الاعتبار .
ومنها : ذهب بعض أهل العلم إلى أن المحرم يجوز له عقد النكاح واستدلوا على ذلك بالقياس فقالوا : كما أنه يجوز شراء الأمة للوطء وهو محرِم فكذلك يجوز له عقد النكاح وهو محرِم بجامع أن كلاً منهما يقصد به الوطء ووسيلة من وسائله ، وذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز عقد النكاح للمحرم وهو الصحيح لحديث عثمان - رضي الله عنه - عند مسلم وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب )) فهو نص صحيح صريح الدلالة على المنع من ذلك ، فقياسهم إذاً قياس في مقابلة النص فهو باطل والنص مقدم عليه ، والله أعلم .(1/195)
ومنها : ذهب بعض الشافعية إلى أنه يجوز قطع أغصان شوك الحرم قياساً على جواز قتل الدواب الخمس الفواسق بجامع وجود الإيذاء في كلٍ ، ونقول : الصواب أنه لا يجوز ابتداء قطعه لحديث أبي هريرة في الصحيحين (( ولا يختلى شوكها )) وقياسهم هذا قياس في مقابلة النص والقياس إذا صادم النص فهو باطل .
ومنها : ذهب بعض أهل الفضل والعلم – رحمهم الله تعالى – إلى أن اللبن في المصراة عند الرد يضمن بلبن مثله ، لأنه مثلي فيضمن بمثله كسائر المثليات ، وذهب الأكثر إلى ضمانه بصاعٍ من تمر لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعاً من تمر )) متفق عليه ، وهذا هو الصواب ولاشك لثبوت الحديث به كما ترى ، وأما قياسهم اللبن على سائر المثليات فهو قياس باطل لأنه قياس في مقابلة النص ، والله أعلم .
ومنها : في باب المعتقد فقد ذهب الممثلة إلى إثبات الأسماء والصفات لله تعالى على وجهٍ يماثل صفات المخلوقات وذلك لأن الاتفاق في الأسماء يستلزم الاتفاق في الصفات ولقياس الغائب على الشاهد بجامع الاتفاق في الاسم فقاسوا الله بخلقه ، جل وعلا ، وقياسهم هذا من أبطل القياس وأشنعه وذلك لأنه في مصادمة النص في قوله تعالى { ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَمِيعُ البَصِيرُ } وقوله { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } وقوله { فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ } وقوله { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وغيرها من النصوص القاطعة لدابر المشابهة بين المخلوق والخالق ، لكنهم أثبتوا التشبيه بالقياس وقياسهم هذا باطل لأنه في مقابلة النص فلا اعتبار به ،ولهم أجوبة أخرى لكن هذا ما يهمنا لفهم القاعدة .(1/196)
ومنها : ما رواه مسلم من حديث صالح بن أبي صالح الهمداني قال : حضرت الشعبي وجاءه رجل من أهل خراسان فقال : يا أبا عمرو ، إن من قبلنا ناس من أهل خراسان يقولون إن الرجل إذا أعتق أمته ثم تزوجها فهو كالراكب بدنته ، فقال الشعبي : حدثنا أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين – الحديث – وفيه ورجل كانت عنده أمة فغذاها فأحسن غذاءها وأدبها فأحسن أدبها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران )) فأهل خراسان هنا قاسوا من تزوج أمته بعد عتقها كمن ركب بدنته بجامع القبح في كلٍ ، لكنه قياسٌ فاسد لأنه في مقابلة النص ، والصواب أن هذا العمل جليل يثيب الله عليه بأجرين ، وأما قياسهم فباطل ، فلا قياس مع ثبوت النص.
ومنها : قياس ما في الجنة من النعيم على ما في الدنيا بجامع الاتفاق في الاسم وهذا قياس باطل لأنه مصادم لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث مرفوعاً إلى ربه جل وعلا (( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )) وقال ابن عباس : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ، وصدق رضي الله عنه .(1/197)
ومنها : اختلف العلماء – رحمهم الله تعالى – في السلم في الحيوان هل يصح أو لا ؟ على قولين فقيل لا يصح لأن السلم لا يصح إلا فيما تنضبط صفاته والحيوان تختلف صفاته ولا يمكن ضبطها فالسلم يؤدي إلى الخلاف قياساً على سائر ما لا تنضبط صفاته ، وقال بعضهم : بل السلم في الحيوان صحيح لحديث أبي رافع عند الإمام مسلم رحمه الله تعالى قال : (( استسلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بكراً من رجل فجاءت إبل الصدقة فأمرني أن أوفي الرجل فقلت : لا أجد إلا رباعياً ، فقال : أعطه إياه فإن خيركم أحسنكم قضاءً )) أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - ، ولحديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال : أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أجهز جيشاً فنفدت الإبل فكنت آخذ البعير بالبعيرين من إبل الصدقة )) فهذا دليل على جواز السلم في الحيوان وهو الصواب إن شاء الله تعالى .
وأما اشتراط انضباط الصفات فمن الذي اشترطه ، وإنما المشترط العلم بالكيل والوزن فيما يكال ويوزن وكذلك العلم بالأجل وتسليم رأس المال في مجلس العقد ، حتى ولو سلمنا اشتراطه فإن الحيوان يمكن ضبطه بالصفات من نوعه وجنسه ومقداره ، وعلى كل حال فالنص دل على الجواز ولا قياس مع النص فقياسهم فاسد الاعتبار والله أعلم .
ومنها : قال الحنفية – رحمهم الله تعالى – إن المرتدة لا تقتل قياساً على الكافرة الأصلية فهي لا تقتل ولحديث (( نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء )) وذهب الجمهور إلى أنها تقتل بعد استتابتها وهو الصحيح لعموم حديث ابن عباس (( من بدل دينه فاقتلوه )) ولقصة أم رومان أو أم مروان أنها ارتدت فاستتابها النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً فلم تتب فقتلها ، وقتل أبو بكر امرأة ارتدت بعد استتابتها ثلاثاً ، وقياسهم هذا يكون قياساً في مقابلة النص والقاعدة تقول القياس في مقابلة النص باطل ، والله أعلم .(1/198)
ومنها : أن بعض أهل العلم قال بسنية الدعاء بعد رمي الجمرة الثالثة في أيام التشريق قياساً على الوقوف للدعاء عند الجمرتين الأولى والثانية ، وذهب أكثر العلماء إلى أن السنة عدم الوقوف وهو الحق لحديث ابن عمر عند البخاري وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف يدعو طويلاً عند الجمرة الأولى والثانية وفيه (( ثم رمى جمرة العقبة ولم يقف عندها)) وأما قياسهم فهو قياس في مقابلة النص والقياس في مقابلة النص باطل ، والله أعلم .
ومنها : ذهب قليل من أهل العلم إلى مشروعية الأذان لصلاة العيد قياساً على الفريضة أو النداء لها بـ (الصلاة جامعة) وقال بعضهم : السنة أن يقيم لها ، وذهب جماهير أهل العلم إلى أن السنة أن تصلى العيد بلا أذان ولا إقامة وهو الصحيح لحديث جابر بن سمرة عند مسلم (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى العيد بلا أذان ولا إقامة )) وأما قياسهم فهو قياس في مقابلة النص والقياس في مقابلة النص باطل ، والله أعلم .
ومنها : قول بعض أن المشروع في التيمم أن يبلغ به إلى المرفقين واستدلوا بدليلين بحديث ابن عمر (( التيمم ضربتان ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين )) رواه الدارقطني ، والثاني قياساً على غسل اليدين في الوضوء ، وقال بعضهم إن المشروع هو مسح الكفين فقط وهو الحق لحديث عمار بن ياسر وفيه (( إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا وضرب بكفيه الأرض ضربة واحدة ومسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه )) متفق عليه ، وأما حديث ابن عمر فهو ضعيف مرفوعاً ، وأما قياسهم فهو في مقابلة النص والقياس في مقابلة النص باطل ، والله أعلم .(1/199)
ومنها : ذهب بعض أهل العلم أن المني نجس واستدلوا بالقياس على المذي بجامع أن كلا منهما يخرج بسبب الشهوة ، وذهب الأكثر إلى طهارته وهو الراجح لحديث عائشة قالت (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفرك المني من ثوبه فركاً ثم يصلي فيه )) رواه مسلم، وفي رواية (( لقد كنت أحكه يابساً بظفري من ثوبه )) ومعلوم أن الحك لا يزيل عينه بالكلية ولحديث ابن عباس (( إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق فيكفيك أن تمسحه عنك بخرقة أو بإذخره )) وأما قياسهم فهو قياس في مصادمة النص وقياس مع الفارق والله أعلم.
ومنها : قال بعض المغفلين بجواز حلق اللحية قياساً على إزالة سائر شعور البدن بجامع أن كلا منهما شعر ، وذهب من يعتد بقوله إلى تحريم حلقها وهو الصحيح بلا شك للأحاديث الصحيحة الصريحة الواردة في ذلك كحديث ابن عمر (( حفوا الشوارب وأعفوا اللحى )) وغيره ، وأما قياسهم فقياس في مقابلة النص والقياس في مقابلة النص باطل والله أعلم .
ومنها : قياس المشركين جواز الربا على جواز البيع فإن كلا منهما فيه مبادلة منفعة قال الله جل وعلا { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } فهذا نص يقضي على جميع أنواع الربا بمختلف أشكالها ويقضي على جميع الأقيسة الفاسدة التي تلحق الربا بالبيع والله أعلم .
ومنها : ذهب بعضهم أن من أتى بهيمة طبق عليه حد الزنا قياساً على الزنا بالآدمية بجامع أن كلا منهما إيلاج في فرج أصلي ، وذهب بعضهم أن عقوبته القتل لحديث ابن عباس (( من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها )) وأقول إن صح هذا الحديث فإنه يجب الأخذ به ويترك ما عداه من القياس لأن هذا القياس حينئذٍ يكون فاسد الاعتبار لمقابلته للنص ، لكن نحتاج أولاً للبحث في سند هذا الحديث وطرقه والله أعلم .(1/200)
ومنها : ذهب الحنفية إلى عدم وجوب التسبيع والتتريب في غسل نجاسة الكلب واستدلوا بأدلة منها : قياس ولوغ الكلب على العذرة فالعذرة أشد وأغلظ نجاسة منه ومع ذلك لم يجب التسبيع في غسلها فكذلك نجاسة الكلب ، فإذا كانت العذرة مع غلظ نجاستها لا يجب فيها التسبيع فمن باب أولى ولوغ الكلب ، قال الجمهور : هذا قياس في مقابلة النص الصحيح الصريح وهو حديث أبي هريرة في ولوغ الكلب والقياس في مقابلة النص فاسد الاعتبار .
ومنها : ذهب بعض العلماء إلى جواز التداوي بالخمر وقاسوها على جواز الأكل من الميتة للمضطر عند الضرورة ، وذهب جماهير الأئمة إلى حرمة التداوي بها واستدلوا على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - (( ولا تتداو بحرام )) وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الخمر تصنع للدواء فقال (( إنها داء وليست بدواء )) وقال (( إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها )) وفي سنن أبي داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (( أنه نهى عن الدواء الخبيث )) فهذه النصوص تفيد تحريم التداوي بكل حرام وعن الخمر بخصوصها ، وقياسهم هذا قياس فاسد الاعتبار لأنه في مقابلة النص والله أعلم .
القاعدة السادسة عشرة
( الزيادة من الثقة مقبولة إذا لم يخالف الثقات )
وهي من أجمل القواعد الأصولية الحديثية ، ولها من الفروع ما لا يحصى كثرةً ، وبمعرفتها وضبطها تحل إشكالات كثيرة ، ولا تتم بركتها إلا بجمع الطرق ، فإن جمع الطرق من أنفع ما يكون لطالب العلم ، فيا ليت طلاب العلم يقبلون على ضبط زيادات الثقات بجمع الطرق الحديثية ، كما كان السلف يحرصون كثيراً على مثل هذا وسوف ترى إن شاء الله تعالى في الفروع كيف تأثير هذه القاعدة في الترجيح بين خلاف العلماء.
فأقول في شرحها وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل بحسن التحقيق :(1/201)
قولنا (الزيادة) : هذه الزيادة نوعان : إما زيادة لفظية أي لا تعلق لها بالمعنى وإنما زيادة كلمةٍ أو حرفٍ فقط ، مع بقاء المعنى على ما هو عليه كزيادة الواو في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((ربنا لك الحمد)) فيكون ((ربنا ولك الحمد)) فهذه زيادة لفظية لا تعلق لها بالمعنى ، فالمعنى لم يختلف ، بل هو هو قبل الزيادة وبعدها .
فهذا النوع من الزيادات لا أهتم به كثيراً لأنه لم يوجب خلافاً كبيراً بين أهل العلم ، وإنما المهم عندي وهو الذي أريد التفريع عليه هو النوع الثاني من الزيادات وهو الزيادة المعنوية ، أي زيادة لفظةٍ أو حرف يتغير به المعنى ، أي أن المعنى بعد الزيادة يختلف عن المعنى قبلها وذلك إما بزيادة شرطٍ أو قيدٍ أو صفٍ مثلاً ، فيكون المعنى بعدها مختلفاً عنه قبلها ، فهذه الزيادة هي التي ينصب عليها حرصي .
وقولنا (من الثقة) : المراد بالثقة أي العدل الضابط ، وهذا القيد مهم جداً في القاعدة ، وبناءً عليه فتخرج الزيادات ممن ليسوا بثقات كالضعفاء والمجهولين والمتروكين وإنما الذي يقبل من الزيادات ما رواه الثقة العدل .
وقولنا (مقبولة) : أي معتمدة يحتج بها بمعنى أنها معتبرة مؤثرة ، لا يجوز تجاهلها ولها حكم الحديث المستقل ، وتعطى صبغة التشريع والقداسة ، فإن كانت بزيادة شرطٍ أو حكمٍ أو وصف فإنه يجب اعتباره ولا يجوز إلغاؤه ، بل ينبغي القول بمقتضاه ، هذا هو معنى قولنا مقبولة ، لكن قبولها هذا بشرط وهو المراد بقولنا (إذا لم يخالف الثقات) فإذا روى شيئاً زائداً على ما رواه الثقات فلا يخلو إما أن تكون هذه الزيادة مخالفة لما رووه وإما لا ، فإن كانت مخالفة فالحق إلغاؤها والأخذ برواية الثقات والاقتصار عليها لأن هذه الزيادة حينئذٍ تكون من قبيل الشاذ ، والشاذ قسم من أقسام الضعيف .(1/202)
وأما إذا كانت موافقة لما رووه لكن بزيادة قيدٍ أو شرطٍ أو صفةٍ أو حكمٍ أو حرفٍ يتغير به المعنى فهذه الزيادة هي التي نعنيها بهذه القاعدة وهذا القيد أيضاً مهم جداً ، فصارت القاعدة بهذا لها شرطان ، أي أن ما زاده الثقات فإنه لا يقبل إلا بشرطين :
الأول : أن تكون من ثقة فتخرج زيادة من عداه .
الثاني : أن لا تكون هذه الزيادة مخالفة لرواية الثقات ، فإذا تحقق هذان الشرطان وجب قبولها واعتمادها لما يأتي من الأدلة إن شاء الله تعالى ، ونحن هنا لا نتكلم عن الحديث المستقل الذي ينفرد به الثقة وإنما نتكلم عن الحديث الذي يرد به الثقات عن شيخٍ ثم ينفرد أحدهم بزيادة شيءٍ لم يذكره سائر الثقات من إخوانه ، فهذه الزيادة التي انفرد بها هذا الثقة هي التي نتكلم عن حكمها ، فهل تقبل أو لا ؟
أقول : القاعدة تنص على أنها تقبل بشرطها وهو ما قدمته لك قبل قليل ، إذا علمت هذا فاعلم أنه قد دل على وجوب قبولها عدة أدلة :
منها : أن الثقة إذا انفرد برواية حديث كامل ، فإنه يجب قبول روايته فكذلك من باب أولى إذا انفرد بكلمةٍ أو حرفٍ عن سائر الثقات وهذا قياس صحيح مستوفٍ لجميع أركانه ، فالأصل روايته للحديث استقلالاً وانفراده به ، والفرع روايته لهذه الزيادة ، والعلة وجوب القبول والحكم ، كما أنه يجب قبول روايته إذا انفرد بها فكذلك يجب قبول زيادته المنفرد بها .
ومن الأدلة أيضاً : أن العدل الضابط مأمون صادق فإذا أخبر بشيءٍ يمكن وقوعه فإنه يجب قبول خبره ، وهذه الزيادة قد أخبر بها الثقة العدل المأمون الصادق وهي في شيءٍ يمكن وقوعه ولم يخالف بها الثقات فإذاً شروط القبول فيها مستوفاة فما الداعي لردها وما الحجة في عدم قبولها .
ومن الأدلة أيضاً : أن العادة لا تمنع أن ينفرد الثقة بشيءٍ دون الثقات فليس ذلك بمستحيلٍ شرعاً ولا عرفاً ، بل هو واقع والوقوع دليل الجواز .(1/203)
فمن أمثلة وقوعه ما رواه البخاري من حديث عمران بن حصين قال : " دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعقلت ناقتي بالباب فأتاه ناس من بني تميم فقال : (( اقبلوا البشرى يا بني تميم )) قالوا : أبشرتنا فأعطنا – مرتين - ، ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال : (( اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم )) قالوا : قد قبلنا يا رسول الله ، قالوا : جئنا نسألك عن هذا الأمر ، قال : (( كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيءٍ وخلق السموات والأرض )) فنادى منادٍ : ذهبت ناقتك يا ابن الحصين فانطلقتُ فإذا هي يقطع دونها السراب ، فوالله لوددت أني كنت تركتها " فهنا عمران ترك مجلس التحديث ولا شك أن من في المجلس سيسمعون شيئاً لم يسمعه ولذلك ندم على قيامه من المجلس .
فلعل هذا الراوي الثقة الذي انفرد بالزيادة سمع ما لم يسمع الثقات بسبب شغلهم أو إخبارهم بما يزعجهم ويوجب خروجهم أو خروج بعضهم من المجلس ، فإذاً انفراد الثقة بزيادة على ما رواه الثقات لا يمنع منه شيء وليس بمستحيل بذاته ولا بغيره .
ومن ذلك أيضاً : أن الثقات قد يشتركون من السماع من الشيخ وينسون إلا بعضهم وهذا شيء حادث لا يدفعه أحد ، ففي صحيح البخاري من حديث قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال : " سمعت عمر - رضي الله عنه - يقول قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقاماً فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه " فالنسيان وارد ، ولا يسلم منه لا ثقة ولا غيره ، فهذه الزيادة التي انفرد بها الثقة هي مما حفظه فلا يضره نسيان غيره ولا يجوز لنا أن نجعل نسيان غيره سبباً مانعاً من قبول ما حفظه .(1/204)
وانظر إلى عمر وعمار فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثهما في حاجة فأجنبا فتمرغ عمار في الصعيد كما تتمرغ الدابة وصلى ، وعمر لم يصل فلما أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبره الخبر قال : ((إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا … الحديث)) فلما جاءت خلافة عمر - رضي الله عنه - كان عمار يحدث بهذا الحديث عنه وعن عمر ، فدعاه فقال : ما هذا الحديث الذي تحدث به عني فأخبره عمار بالقصة فلم يتذكر - رضي الله عنه - ، فقال عمار : إن شئت أن لا أحدث به ما حدثت ، فقال عمر : بل عليك ما تحملت ، فهذا عمر أصابه النسيان وهو من سادات الثقات العدول الأثبات ، فهل نسيانه لهذا الحديث يقدح في رواية عمار له ؟ بالطبع لا ، ولذلك فلا غرابة أن يحفظ بعض الثقات ما لا يحفظه الآخر .
ومن ذلك أيضاً : أن بعض الثقات قد يكون ألزم للشيخ من غيره من الثقات ، فيسمع ما لا يسمعون ويحضر مالا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون كحال أبي هريرة - رضي الله عنه - كما روى البخاري من حديث ابن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة أنه قال : " إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق ، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون " وهذا معروف بالتجربة فإن المشايخ لا يستوي الطلاب عندهم غالباً ، بل من الطلاب من يكون كظل الشيخ ومن الطلاب من لا يرى الشيخ إلا في الحلقة فقط ، فيسمع الأول ما لا يسمع الثاني ، ومن الذي ينكر هذا ، فلعل هذه الزيادة سمعها ذلك الثقة في وقتٍ انفرد به مع الشيخ ، وهذا متصور كما ذكرنا .(1/205)
ومن ذلك أيضًا : أن بعض الثقات حريص على الحضور للحلقة من أول الدرس وبعضهم قد يتأخر حضوره فيسمع الأول ما لا يسمعه الثاني ، فيروي الثاني ما سمعه ويزيد الأول عليه ما فات الثاني ، وهذا متصور ، بل قد وقع في العهد النبوي كما في صحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي من حديث عقبة بن عامرٍ - رضي الله عنه - قال : " كانت علينا رعاية الإبل فجاءت نوبتي فروحتها بعشي فأدركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً يحدث الناس فأدركت من قوله : ((ما من مسلم يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يقوم يصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة)) ، فقلت : ما أجود هذا ، فإذا رجل بين يدي يقول : التي قبلها أجود ، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : (ما منكم من أحدٍ يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة يدخل من أيهما شاء) فهذا عمر سمع شيئاً لم يسمعه عقبة رضي الله عنهما ، لتأخر عقبة عن الحضور .(1/206)
ومن ذلك أيضا : أن يكون الشيخ حدث بالحديث في مجلسين فحدث بالحديث مرة في مجلس فسمعه بعض الثقات ، ثم حدث به في مجلس آخر بزيادةٍ عن المجلس الأول لكن لا يحضر جميع من كان في المجلس الأول وإنما بعضهم فيحفظ الآخرون في المجلس الثاني ما لم يحفظه الأولون في المجلس الأول ، وهذا متصور وذلك كحديث أبي سعيدٍ - رضي الله عنه - حيث روى حديث الذي يمنيه الله بالجنة فيتمنى حتى تنقطع الأماني فقال الله له : (( ألا ترضى أن تكون لك الدنيا ومثلها معها )) ، وكان أبو هريرة يزيد على أبي سعيد فيقول : (( فإن لك ما تمنيت وعشرة أمثاله معه )) فكان أبو سعيدٍ ينكر ذلك ويقول : لم أسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأبو هريرة يقول : قد سمعته أنا ، وكلاهما صادق بأبي هما وأمي رضي الله عنهما . فهذا يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حدث بالزيادة التي رواها أبو هريرة في مجلس آخر لم يكن فيه أبو سعيد .(1/207)
فإذاً كل هذه الأدلة تفيدك أنه لا استحالة في أن ينفرد الثقة بشيءٍ عن سائر الثقات، ومن منعه فإنه ليس معه إلا الجهل ومخالفة الحس والعادة . فهذه الزيادة التي انفرد بها الثقة هي من هذا القبيل فلا وجه لردها مع احتمالها وإمكانها والذي أخبر بها ثقة ولم يخالف بها الثقات ، فالصواب إذاً بلا شك هو قبولها واعتمادها والحكم بمقتضاها – هذا ما ندين الله جل وعلا به – ولكن كما ذكرت لك سابقاً أن المنتفع بهذه القاعدة حق الانتفاع هو من يحرص على جمع الطرق وتتبع الروايات ، وخصوصاً الأحاديث التي لها وقع في الأحكام كحديث المسيء صلاته ، وحديث جابر في صفة الحج ، وحديث أنس الطويل في أنصبة الزكاة وغيرها من سائر أحاديث الأحكام ، فطوبى لمن اشتغل بها ثم طوبى ، ويا ليت في الوقت متسع حتى نتمكن من ذلك ، لكنها دعوة لمن وسع الله عليه في علم الحديث ورزقه صبراً على تتبع رواياته وجمع طرقه ، وأما أنا فبضاعتي مزجاة ، ومراجعي قليلة والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله .
والمقصود : أن زيادة الثقة مقبولة لما ذكرته من الأدلة وقد خالف في ذلك قوم لكن لا دليل معهم إلا الخيالات التي لا ورد لها ولا صدر ، فلا نشتغل بالجواب عنها ويكفيك معرفة القول الراجح بدليله . ولم يبق إلا ذكر الفروع حتى يتم فهمها وترى كيف أثرها في الترجيح بين الأقوال ، وسوف أذكر لك من الفروع ما يحضرني فإن رأيت خللاً أو تجاوزاً فليكن حسن الظن مقدماً على ضده فأقول وبالله التوفيق :(1/208)
فمن الفروع : اعلم رحمك الله تعالى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم أبا محذورة الأذان ولاشك وعلمه فيه الترجيع ، لكن روى مسلم حديث أذان أبي محذورة وذكر أن التكبير في أوله مرتين فأخرج في باب صفة الأذان بسنده عن مكحول عن عبد الله بن محيريز عن أبي محذورة أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - علمه الأذان (الله أكبر الله أكبر) ثم ساق باقي الآذان ، فمسلم لم يذكر في روايته التكبير إلا مرتين ، ولذلك اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في ذلك ، فذهب الجمهور من الشافعية والحنفية والحنابلة إلى أن السنة في الأذان التربيع مستدلين بحديث أذان بلال عند مسلم أيضاً ، فإنه ذكر التكبير في أوله مربعاً ، وذهب المالكية إلى اختيار تثنية التكبير لحديث أبي محذورة هذا فإنه صريح في أن التكبير إنما هو مرتان في أوله ، إذا علمت هذا فاعلم أن الراجح إن شاء الله تعالى هو التربيع كما هو مذهب الجمهور لا أقول لحديث بلال ، فإن هذا ليس من الإنصاف ، بل أقول : السنة التربيع لحديث أبي محذورة ، فإن قلت : كيف ذلك ومسلم لم يروه إلا بتثنية التكبير ، قلت : نعم ، لكن ثبتت زيادة التربيع من طريق صحيح ، فإن حديث أبي محذورة قد أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد والدارمي وابن خزيمة ، وكل هؤلاء رووه مربعاً من طريق الثقات وإنما رواه مسلم بالتثنية من طريق هشام الدستوائي عن عامر ، ومع ذلك فقد ذكر الإمام النووي في شرحه على مسلم عن القاضي عياض أنه قال : " وقع في بعض طرق الفارسي في صحيح مسلم أربع مرات " أهـ .
وقد رواه أبو نعيم في المستخرج والبيهقي بتربيع التكبير ، فإذاً هذه الزيادة ثابتة ، فتكون مرجحة مذهب الجمهور من تربيع التكبير لأنها من ثقة ، والزيادة من الثقة مقبولة وهذا هو الإنصاف ، والله أعلم .(1/209)
ومنها : روى السبعة عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل الخلاء قال : ((اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)) فتوهم البعض أنه يقوله بعد الدخول وادعى أن هذا هو ظاهر الحديث ، ولكن هذا مجانب للصواب ، بل الصواب أن المراد بالحديث عند إرادة الدخول . فإن قلتَ : فما دليلك على هذا ؟
قلتُ : دليلنا زيادة عند البخاري في الأدب المفرد قال : حدثنا أبو النعمان قال : حدثنا سعيد بن زيد قال : حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال : حدثني أنس قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يدخل الخلاء قال : ((اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)) فقوله : "إذا أراد" زيادة من الثقة ولم يخالف بها الثقات ، والزيادة من الثقة مقبولة ، فانظر وفقك الله – كيف أزالت هذه الزيادة الإشكال وأماطت اللثام ، والله أعلم .
ومنها : اختلف أهل الفضل والعلم هل يجب في الاستجمار استيفاء ثلاثة أحجار أو المراد الإنقاء ، فلو حصل بواحدٍ أو اثنين كفى .
أقول : مذهب الجمهور هو اشتراط استيفاء الثلاث وذلك للأدلة الكثيرة المتواترة في الأمر بالثلاثة والأمر يقتضي الوجوب ، وذهب الحنفية إلى عدم اشتراط الثلاث بل المراد الإنقاء فلو حصل بأقل لكفى واستدلوا – رحمهم الله تعالى – بحديث ابن مسعود عند البخاري وغيره " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده فأخذت روثة فأتيته بها ، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال : ((هذا ركس))" فقال الحنفية : لو أن استيفاء الثلاثة شرط لطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ثالثاً ، لأنه رمى الروثة وإنما هي حجران فقط .(1/210)
والجواب : هو أن هذا الحديث رواه أحمد والدارقطني بزيادة مفيدة جداً وهي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ((هذا ركس ، ائتني بحجرٍ)) ، وفي لفظٍ عند الدارقطني ((ائتني بغيرها)) وهي زيادة صحيحة من قبل سندها ، وقال الحافظ عنها في الفتح : ورجاله ثقات أثبات . فإذا كان الأمر كذلك فلا يستقيم استدلال الحنفية بالحديث ، فإن هذه الزيادة تقضي على ما قالوه ، وعلى هذا فمذهب الجمهور هو الصواب أن استيفاء ثلاث مسحات شرط لصحة الاستجمار ولو حصل الإنقاء بدونها ، والله أعلم .
ومنها : استدل بعض الفضلاء من أسيادنا أهل العلم – رحمهم الله تعالى – على أن الروث جميعه نجس بحديث ابن مسعود المتقدم ووجه الشاهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الروثة : ((إنها ركس)) وفي رواية ((إنها رجس)) والرجس النجس ، لكن هذا المذهب لا يحالفه الصواب ، ذلك لأن هذه الروثة التي أتى بها ابن مسعود ورد الإفصاح عن حقيقتها في زيادةٍ رواها ابن خزيمة في صحيحه من طريق عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة عن ابن مسعود وفيه "فأتيته بحجرين وروثة حمار" ، وهي زيادة صحيحة لأنها من ثقة فحقها القبول ، فلا يتم إذاً تنجيس جميع الروث من كل الحيوانات ، بل الأدلة الصحيحة دلت على جواز الصلاة في مرايض الغنم ولا تخلو غالباً من روثها ، وأجازت شرب بول الإبل ، والبول والروث شيء واحد ، فإذاً يترجح القول بأن ما أكل لحمه فروثه وبوله طاهر ، وما لا فنجس والحمار روثه نجس لأنه لا يؤكل لحمه ، والآدمي بوله وروثه نجس لأنه لا يؤكل لحمه ، وقد نقل أبو العباس رحمه الله تعالى أنه لا يعرف عن أحدٍ من الصحابة أنه أفتى بنجاسة روث الحيوان المأكول ، وعلى كل حال فهذه الزيادة أزالت الإشكال ووضحت المراد ، ولله الحمد والمنة .(1/211)
ومنها : حديث ابن مسعود عند الشيخين قال : " سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال أفضل قال : ((الصلاة على وقتها))" فإنه قد اتفق أصحاب شعبة رحمهم الله تعالى على هذا اللفظ ((الصلاة على وقتها)) وهو يفيد إيقاع الصلاة في أي جزء من أجزاء الوقت ، لكن جاءتنا زيادة حددت المراد النبوي وهي من ثقة فقد زاد علي بن حفص المدائني فقال (( الصلاة في أول وقتها )) وهي عند الحاكم والدارقطني من طريقه ، وعليٌّ هذا شيخ صدوق من رجال الإمام مسلم ، وقد وثقه أحمد وابن معين وابن المديني وأبو بكر بن شيبة وأبو داود فبالله عليك ماذا بعد هذا ؟ فهي زيادة من ثقةٍ لم يخالف بها الثقات ، والزيادة من الثقة مقبولة وهي تفيدنا أن أفضل الأعمال عند الله تعالى وأحبها إليه الصلاة في أول وقتها ، ونحن نقول به لهذه الزيادة ولأدلة أخرى ولله الحمد والمنة ، فكيف إذا وردت هذه الزيادة من طرقٍ أخرى غير هذه الطريق ، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء .
ولذلك قال الإمام الشنقيطي " فالظاهر ثبوت هذه الزيادة " اهـ .
ومنها : تثنية الإقامة ، فقد روى الشيخان عن أنس - رضي الله عنه - قال (أُمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة) فهذا يفيدنا أن ألفاظ الإقامة تقال فرادى ، لكن وردت زيادة من طريق سماك بن عطية البصري المربدي بلفظ " إلا الإقامة " وهذه الزيادة عند البخاري ومسلم فهي زيادة من الثقة فحقها القبول والاعتماد وهي تفيد أن لفظ (قد قامت الصلاة) يقال مرتين ، وهو الراجح والله أعلم .
ومنها : اختلف أهل الفضل في حكم غسل الكافر إذا أسلم فقال بعضهم : يجب مطلقاً ، وقال بعضهم : سنة مطلقاً ، وقال بعضهم : يجب إن وجد في كفره ما يوجبه .(1/212)
والراجح والله أعلم أنه واجب مطلقاً ، والدليل على ذلك حديث قيس بن عاصم أنه أسلم فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل بماءٍ وسدرٍ )) وحديث ثمامة ابن أثال ، فإن قلت كيف تستدل بحديث ثمامة على وجوب الغسل على الكافر وقد رواه الشيخان بلفظ لا يدل على الوجوب ولا يدل عل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بذلك وإنما فيه أنه انطلق إلى حائط بني النجار فاغتسل ، وهذا لا يستفاد منه الوجوب .
فأقول : نعم هكذا هو في الصحيحين ليس فيه الأمر بالغسل ، وإنما فيهما أنه ذهب فاغتسل لكن ورد لهذا الحديث زيادة من ثقةٍ وهي عند ابن خزيمة والبيهقي وابن حبان من طريق عبد الله وعبيد الله أبناء عمر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة بنفس القصة لكن بزيادة (( فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل فاغتسل )) وهذه الزيادة اتفق على روايتها الأخوان عبد الله وعبيد الله ، وعبد الله ضعيف لكن شد من أزره أخوه عبيد الله ، فهي إذاً زيادة من ثقة لم يخالف بها الثقات ، ويجمع بينها وبين ما في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالاغتسال ثم ذهب هو بنفسه فاغتسل ، فهذه الزيادة تؤيد القول بالوجوب كما هو الحق لأنها من ثقة والزيادة من الثقة مقبولة . فإن قلت : قد أسلم الكثير والكثير ولم ينقل أنه أمرهم بالاغتسال إذ لو أمرهم لنقل وتواتر .
فنقول : إن عدم نقل الأكثر لا يقدح في رواية الأقل ، إذ من حفظ حجة على من لم يحفظ ، وقد تقدم لك أن خبر الواحد يقبل فيما تعم به البلوى والله أعلم .(1/213)
ومنها : اختلف العلماء – رحمهم الله تعالى – في تكرار مسح الرأس هل يثلث أم يقتصر على واحدة ؟ فذهب عطاء والإمام الشافعي إلى استحباب التثليث ، وذهب الجمهور إلى الاقتصار على المرة مستدلين بالأدلة المتواترة في صفة وضوئه - صلى الله عليه وسلم - ، فإن جميع من وصف وضوءه لم يذكر أنه ثلث مسح الرأس مع ذكرهم لتثليث بقية الأعضاء ، بل صرح بعضهم أنه مسح رأسه مرة واحدة كما في حديث عبد الله بن زيد عند البخاري وكما في حديث علي في صفة الوضوء وغير ذلك .
لكن قال الشافعية : سلمنا لكم ما تقولون لكن وردت زيادات في بعض هذه الأحاديث تفيد التثليث، فأخرج أبو داود من طريق عامر بن شقيق بن جمرة عن شقيق بن سلمة قال : (رأيت عثمان بن عفان غسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً ومسح رأسه ثلاثاً ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل هذا ) .
قلنا : نعم فيه زيادة لكنها من طريق ضعيف فإن عامر بن شقيق الأسدي الكوفي هذا ضعفه ابن معين وقال أبو حاتم : ليس بالقوي وليس من أبي وائل بسبيل ، وقال الحافظ في التقريب : (لين الحديث) وقال الذهبي (صدق ضُعِّفْ) فمثل هذا في الحقيقة زيادته هذه لا تقبل لأنه ليس بثقة ، ونحن نتكلم عن زيادة الثقة ، بل حتى لو كان عامر هذا ثقة فإن زيادته هذه لا تقبل أيضاً لأنه خالف الثقات ، فإن جميع الثقات الذين رووا حديث عثمان ذكروا التثليث في جميع الأعضاء إلا الرأس فاتفاقهم هذا دليل على أنه ليس بمحفوظ ، فعلى تضعيفه تكون زيادته منكرة ، وعلى توثيقه تكون شاذة ، والله أعلم .
قال الشافعية : ورويت زيادة التثليث أيضاً عند الدارقطني من طريق صالح بن عبد الجبار حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني عن أبيه عن عثمان بن عفان أنه توضأ بالمقاعد فذكر الحديث ، فذكر فيه التثليث في جميع الأعضاء .(1/214)
قلنا : نعم فيه زيادة التثليث لكن من طريق كله ظلمات ، قال ابن القطان : " صالح بن عبد الجبار لا أعرفه إلا في هذا الحديث وهو مجهول الحال " اهـ ، وأما محمد بن عبد الرحمن البيلماني هذا فقال عنه يحيى بن معين " ليس بشيء " وقال أبو حاتم والبخاري والنسائي " منكر الحديث ، وقال أبو حاتم " مضطرب الحديث " ، وقال فيه أحمد بن عدي : وكل ما يرويه ابن البيلماني فالبلاء فيه منه " اهـ ، وأما أبوه عبد الرحمن بن البيلماني فضعيف الحديث أيضاً ، قال عنه أبو حاتم : لين الحديث ، وقال البزار : له مناكير ، وقال الدارقطني : ضعيف لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث فكيف بما يرسله ، وذكره ابن الجوزي في الضعفاء ،وقال الحافظ في التقريب " ضعيف " .
قلت : فإذاً هذه الزيادة ليست من الثقات بل من طريق المجاهيل والضعفاء فحقها الإطراح لأننا نبحث في زيادة الثقات .
قال الشافعية : ورويت زيادة التثليث أيضاً عند الدارقطني من طريق أبي يوسف القاضي عن أبي حنيفة عن خالد بن علقمة عن عبد خير عن علي أنه توضأ فغسل يديه ثلاثاً فذكر الحديث وفيه (ومسح رأسه ثلاثاً).
قلت : نعم فيه زيادة التثليث لكنها زيادة لا تقوم بها الحجة لأمرين :(1/215)
الأول : لأنها من طريق الإمام أبي حنيفة وهو حجة في الفقه والرأي وبحر لا يشق له موج ، وفقيه لا يجارى ، وعالم نحرير ، لكنه في هذه الزيادة قد خالف من هو أوثق منه ، فإن جميع الثقات رووه بالمرة الواحدة كزائدة بن قدامة وسفيان الثوري وشعبة وأبي عوانة وشريك وأبي الأشهب جعفر بن الحارث وهارون بن سعد وجعفر بن محمد وأبان بن تغلب وعلي بن صالح وحازم بن إبراهيم وحسن بن صالح وجعفر الأحمر فهؤلاء كلهم رووه عن علقمة بلفظ (ومسح رأسه واحدة) قاله الإمام الدارقطني ، ورواه أبو حنيفة عن علقمة فقال (ومسح برأسه ثلاثاً) فلاشك أن هذه الزيادة شاذة لأن أبا حنيفة مع توثيقه فقد خالف الثقات ، ومخالفة الثقات شذوذ ، وأما مع القول الآخر فزيادته هذه منكرة ، وعلى كلا القولين فهي زيادة ضعيفة وفيه طرق أخرى مستوفاة في كتب الحديث لكن جميع الطرق لا تخلو من مقال ، فالحق الحقيق هو كما قاله الشوكاني في النيل فإنه قال : (والإنصاف أن أحاديث الثلاث لم تبلغ إلى درجة الاعتبار حتى يلزم التمسك بها لما فيها من الزيادة فالوقوف على ما صح من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما من حديث عثمان وعبد الله بن زيد وغيرهما هو المتعين لاسيما بعد تقييده في تلك الروايات السابقة بالمرة الواحدة … الخ) .
وهذا هو القول الراجح إن شاء الله تعالى وهو اختيار شيخ الإسلام أبي العباس بن تيمية رحمه الله تعالى ، والله أعلم .(1/216)
ومنها : روى البخاري في صحيحه من طريق مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً))" فأنت ترى أنه اقتصر على الأمر بالغسل سبعاً من غير بيانٍ لشيء آخر ، فلا ندري هل هي سبع بالماء جميعها أم معه غيره ، فبحثنا فوجدنا الإمام مسلم روى في صحيحه قال : "حدثنا زهير بن حرب حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مراتٍ أولاهن بالتراب))" وهذه زيادة مفيدة جداً وهي من ابن سيرين رحمه الله تعالى وفيها بيان لأمرين : أن السبع فيها غسله بالتراب ، وأن هذه الغسلة هي الأولى ، وهي زيادة من ثقةٍ ولم يخالف بها الثقات ، والزيادة من الثقة مقبولة ، ثم وجدنا زيادة أخرى في صحيح مسلم فروى في صحيحه قال : "حدثني علي بن حجر السعدي حدثنا علي بن مُسْهِر أخبرنا الأعمش عن أبي رزين وأبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات))" والزيادة في قوله (فليرقه) وهي أمر بإراقة هذا الماء وهي من طريق الثقات والزيادة من الثقة مقبولة ، فقلنا : تجب إراقة هذا الماء عملاً بهذه الزيادة .(1/217)
فإن قلتَ : قد روى الإمام الترمذي في جامعه قال : حدثنا سَوَّار بن عبد الله العنبري حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت أيوب يحدث عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات أولاهن أو آخرهن بالتراب ، وإذا ولغت فيه الهرة غسل مرة)) وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح أهـ ، فهذا الحديث هو الحديث الذي رواه الإمام عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة لكن رواية الترمذي هذه وقع فيها زيادتان : الأولى : أنه قال (أولاهن أو آخرهن) وليس في رواية مسلم إلا قوله (أولاهن) فماذا يقال في زيادة الترمذي هذه ؟
فأقول : إن هذه الزيادة لا كلام لنا في إسنادها فإنهم ثقات أثبات جميعهم لكن الكلام في متنها فكلمة (أو) في اللغة تحتمل أموراً من أهمها : التخيير ، هذا إذا كانت مرفوعة أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خير في غسلة التراب فإن شئت فاجعلها الأولى وإن شئت فاجعلها الأخيرة ، وهذا فيه توسيع على المكلفين .
وإن كانت (أو) للشك فإنها تنسب لراويها أي أن الراوي عن ابن سيرين شك هل قال : أولاهن أو آخرهن ، وحينئذٍ فلابد من الترجيح بين الروايتين ، ولاشك أن المنصف يرجح رواية (الأولى) وسبب الترجيح أمور :
منها : أن أكثر الرواة عن ابن سيرين رووها بلفظ (أولاهن) جازمين بها ، قال الحافظ في الفتح : وهي رواية الأكثر عن ابن سيرين أهـ .
ومنها : أنهم أحفظ أي رواة (أولاهن) أحفظ من رواة الشك .
ومنها : من حيث المعنى فإنك إن جعلت التراب الأولى أزاله ما بعده من الغسلات ، لكن إن جعلتها الأخيرة اقتضى ذلك الاحتياج إلى غسلةٍ أخرى لتنظيفه .
إذا علمت هذا فالأقرب عندي والله أعلم أن (أو) في رواية الترمذي للشك وأن رواية (أولاهن) أرجح من رواية (أخرهن) فنقول : إذا ولغ الكلب في الإناء فإنه يجب إراقته وغسله سبعاً الأولى بالتراب ، هذا هو ما تفيده هذه الزيادات .(1/218)
الزيادة الثانية في رواية الترمذي ((إذا ولغت فيه الهرة غسل مرة)) فهذه الزيادة طعن فيها بعض الحفاظ فقال : إنها ليست من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما هي مدرجة من كلام أبي هريرة - رضي الله عنه - ورفعها وهم من بعض الرواة ، والمحفوظ أنها موقوفة ، قال البيهقي : والصحيح أنه في ولوغ الكلب مرفوع وفي ولوغ الهر موقوف أهـ . وقد رواه الدارقطني في سننه من حديث قرة بن خالدٍ عن ابن سيرين عن أبي هريرة موقوفاً ووافقه عليه جماعة من الثقات ، فعلى هذا تكون هذه الزيادة من قول الصحابي ، أي من قبيل الموقوف ، ولا تعلق لها ببحثنا لأننا نبحث في الزيادات التي لها حكم الرفع وسيأتي الكلام على قول الصحابي إن أمَدَّ الله في العمر إن شاء الله تعالى .
وأيضاً على جعلها من قبيل المرفوع فإن الأمر بغسل ولوغ الهرة يعطى حكم الاستحباب لا الوجوب لأن سؤرها ظاهر لحديث أبي قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الهرة : ((إنها ليست بنجسٍ إنها من الطوافين عليكم والطوافات )) وهو حديث صحيح ، والله تعالى أعلى وأعلم .
ومنها : حديث المسيء صلاته ، وهو حديث عظيم جداً قد أخرجه السبعة وغيرهم ، وفيه زيادات جميلة جداً تحل كثيراً من الإشكالات الفقهية وهو عمدة في معرفة واجبات الصلاة ، وأرى أن الكلام عليه يطول ، فهلا أحد من طلبة العلم جمعه لنا بطرقه في مؤلفٍ مستقل فإنه والله عمل ضخم نافع جليل وفوائده جمةٌ لا تعد ولا تحصى ، فأسأل الله تعالى أن ييسر له من يميط اللثام عنه ، ويلم أطرافه ، ويؤبد شوارده إنه ولي ذلك والقادر عليه ، فإن فيه من الزيادات ما هو في غاية الأهمية والله المستعان .(1/219)
ومنها : روى الإمام مسلم بسنده عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ما منكم من أحدٍ يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول : أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ))" فالحديث إلى هذا الحد لا زيادة فيه ، لكن وجدنا زيادة عن الإمام الترمذي فقال في جامعه : " حدثنا جعفر بن محمد بن عمران الثعلبي الكوفي ، حدثنا زيد بن حباب عن معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد الدمشقي عن أبي إدريس الخولاني وأبي عثمان عن عمر – به – وفيه زيادة (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)" فما القول في هذه الزيادة ؟
فأقول : هذه الزيادة خطأ ، مخالفة لرواية الثقات ، وذلك لأن أبا عثمان وأبا إدريس في سند الترمذي قد رفعا الحديث مباشرة إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وهذا الرفع فيه خطأ لكن لا أظن الخطأ إلا من الترمذي أو من شيخه وإلا فجميع من فوق شيخه قد رووا الحديث عن عقبة بن عامرٍ عن عمر رضي الله عنهما بدون هذه الزيادة ، فقد رواه أحمد ومسلم وابن خزيمة من طريق معاوية بن صالح عن ربيعة بن زيد عن أبي إدريس الخولاني عن عقبة ، وكذلك رواه أحمد وابن خزيمة وأبو داود من طريق معاوية بن صالح عن أبي عثمان عن جبير بن نفير عن عقبة ، وكل هذه الطرق ليس فيها ذكر زيادة الترمذي ، فالحكم على هذه الزيادة بالشذوذ هو الصواب ، لأن الترمذي وشيخه ثقات ولاشك ، لكنهم خالفوا بهذه الزيادة روايات الثقات والثقة إذا خالف الثقات فحديثه شاذ ، فالصواب إن شاء الله تعالى أن هذه الزيادة شاذة والله الموفق والهادي .(1/220)
فإن قلت : قد روى أبو داود في سننه قال : حدثنا الحسين بن عيسى ، حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ عن حيوه بن شريح عن أبي عقيل عن ابن عمه عن عقبة بن عامر الجهني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه ، ولم يذكر أمر الرعاية ، قال عند قوله (فأحسن الوضوء) ثم رفع بصره إلى السماء أهـ . فأنت ترى أن في هذا الطريق زيادة (ثم رفع بصره إلى السماء) فهل هي زيادة مقبولة أو لا ؟
قلت : لا ، لا تقبل وذلك لأنها ليست عن ثقة فإن ابن عم عقيل هذا مجهول لا يعرف ، فالزيادة هذه منكرة ، لأنه خالف بها الثقات ونحن قد اشترطنا في الزيادة المقبولة شرطين : أن تكون عن ثقةٍ ، وألاَّ يخالف بها الثقات ، والله أعلم .
ومنها : حديث طلق بن علي - رضي الله عنه - عند أحمد وأهل السنة وغيرهم قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف فليتوضأ )) فهذا الحديث فيه الأمر لمن أحدث في الصلاة أن ينصرف ويتوضأ لكن إذا توضأ هل يبني على ما مضى من صلاته أو يستأنف صلاة جديدة ؟ فيه خلاف ، فقال البعض : يبني على صلاته لحديث عائشة رضي الله عنها : (من أصابه قيء أو رعاف أو قلسٍ أو مذي فلينصرف وليتوضأ ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم) رواه ابن ماجه ، وقال الأكثر : بل صلاته التي أحدث فيها بطلت فيستأنف صلاة جديدة ، والدليل على ذلك هو الحديث المذكور في أول الفرع لكن بزيادة (وليعد الصلاة) فإنه قد تفرد بها جرير بن عبد الحميد ولا يضر تفرده بها لأنه إمام ثقة والزيادة من الثقة مقبولة وهي نص في محل النزاع .
وأما حديث عائشة الذي ذكروه فهو حديث لا تقوم بمثله حجة فهو منكر لا يصح رفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما صرح بذلك أئمة هذا الشأن كالإمام الشافعي وأحمد وأبي زرعة ومحمد بن يحيى الذهلي وابن عدي وأبي حاتم والدارقطني ، فهذا لا يجوز أن يثبت بمثله حكم شرعي فترجح ما قلناه والله أعلم .(1/221)
ومنها : حديث جابر في الصحيحين وغيرهما قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي … فذكر منها : (( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )) فكلمة (الأرض) عامة لما تصاعد على وجهها من التراب والرمل والجدار والحصى ونحوها ، وبهذا استدل من قال بجواز التيمم بما صعد على وجه الأرض .
ولكن روى مسلم من حديث حذيفة (( وجعل تربتها لنا طهوراً )) فهذه الزيادة خصت الطهورية بالتراب ، ومثلها ما رواه أحمد بسنده عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن علي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بلفظ (( وجعل التراب لنا طهوراً )) وبهذه الزيادة استدل من قال بأنه لا يستعمل في التيمم إلا التراب .
قلت : وهي زيادة مقبولة ولاشك لأنها من ثقة وزيادة الثقة مقبولة ، لكن لا تصلح لتخصيص العموم في قوله (( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )) وذلك لأن التراب بعض أفراد الأرض وذكر بعض أفراد العام بحكمٍ يوافق حكم العام لا يكون تخصيصاً وإنما يفيد الاهتمام فقط ، بمعنى أن الأرض كلها مطهرة والتراب مطهر ، فتخصيص التراب بالذكر ليس من قبيل التخصيص لأن الخاص لابد أن يخالف حكم العام ، أما إذا اتفق الخاص والعام في الحكم – كما هو هنا – فلا تخصيص . فالصواب أن التيمم يجوز بكل ما علا على الأرض من رمل و ترابٍ ونحوهما وذلك ليس لأننا لم نقبل الزيادة بل هي مقبولة لكن لأنها لا تصلح أن تكون مخصصة للعام لموافقتها له في الحكم والله أعلم .(1/222)
ومنها : ما في الصحيحين من حديث أبي قتادة (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهو حامل إمامة بنت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا قام حملها وإذا سجد وضعها )) فلا ندري هل كانت هذه الصلاة التي حمل فيها أمامة وهو إمام ؟ أو كان متنفلاً ؟ فبحثنا فوجدنا زيادة عند الإمام مسلم توضح ذلك لنا وهي قول أبي قتادة (( رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص وهي ابنة زينب بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - على عاتقه فإذا ركع وضعها وإذا رفع من السجود أعادها )) وهي زيادة من ثقة فحقها القبول ، لأن الزيادة من الثقة مقبولة وهي دليل على جواز حمل الصبي والصبية وغيرهما من الحيوان الطاهر في صلاة الفرض والنفل لأن الصلاة التي حمل فيها أمامة كانت فرضاً لأنه كان إماماً كما هو مقتضى هذه الزيادة وبها تعرف خطأ المالكية – رحمهم الله تعالى – في حملهم هذا الحديث على صلاة النافلة أما الفريضة فلا يجوز مثل هذا ، وهذا التأويل فاسد لأن قوله (وهو يؤم الناس) صريح في أنه كان في الفريضة .
فالصواب إن شاء الله تعالى جواز ذلك في الفرض والنفل عملاً بهذه الزيادة المفيدة ، فانظر كيف قضت زيادة الثقة هذه على هذا الخلاف .
ومنها : اختلف أهل الفضل والعلم في الصلاة الوسطى ما هي على أقوال :-
فقال جماعة : هي العصر قاله علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبو أيوب وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وجمع من التابعين . قال الترمذي : " هو قول أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم رضي الله عنهم " اهـ .
وقيل : بل هي الصبح وروي عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وابن عباسٍ أيضاً وابن عمر وجابر وجمع من التابعين ، وقالت طائفة : هي الظهر ونقلوه عن زيد بن ثابت وأسامة بن زيد وأبي سعيد الخدري أيضاً وعائشة ، وقيل : هي المغرب .(1/223)
وقيل : هي العشاء ، وقيل : هي واحدة من الخمس لكنها مبهمة ، وقيل : هي الجمعة ، وقيل : بل هي كل الفرائض الخمس ، قال النووي - رحمه الله تعالى - : " والصحيح من هذه الأقوال قولان : العصر والصبح ، وأصحهما العصر للأحاديث الصحيحة " اهـ . وكذلك نقول أيضاً لما رواه مسلم بسنده عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مرفوعاً (( شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى آبت الشمس ملأ الله قبورهم ناراً أو بيوتهم وبطونهم )) فإن قلتَ : فأين تحديدها بأنها العصر ؟
قلتُ : هذا التحديد ورد في زيادة بسند مسلم من حديث الأعمش عن مسلم بن صبيح عن شُتَيْر بن شَكَل عن علي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب (( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر)) الحديث فقوله (صلاة العصر) زيادة موضحة مزيلة للإشكال وهي من ثقة وزيادة الثقة مقبولة ، فقلنا بمقتضاها والله تعالى أعلم .
ومنها : ولعله آخرها – لأنني أظن أني أطلت – حديث عامر بن ربيعة - رضي الله عنه - في الصحيحين قال : (( رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته حيث توجهت به )) لكن لم يحدد لنا كيف الركوع والسجود ، لكننا وجدناه في البخاري بزيادة (( يومئ برأسه قبل أي وجهٍ توجه )) فأفادتنا هذه الزيادة أن الركوع والسجود يكون إيماءً ، وهي زيادة من ثقة والزيادة من الثقة مقبولة .
ولعل هذه الفروع تكفي لفهم القاعدة إن شاء الله تعالى ، وإن كنت لأعلم أننا لم نعطها حقها ، لكن ماذا نفعل بالكسل والعجز ، نعوذ بالله منه والله المستعان وهو أعلى وأعلم .
القاعدة السابعة عشر
( القراءة الشاذة حجة إذا صح سندها )
اعلم – رحمك الله تعالى _ أن أكثر أهل العلم رحمهم الله تعالى اشترطوا في القرآن ليصدق عليه مسمى القرآن ثلاثة شروط :
الأول : التواتر ، وهذا وإن لم يقع عليه الإجماع لكنه قول غالبهم .
الثاني : موافقة الرسم العثماني .(1/224)
الثالث : موافقة وجهٍ من وجوه العربية . والذي يخصنا هنا هو الشرط الثاني ، فإن القراءة إذا خالفت الرسم العثماني وصفت بأنها شاذة وذلك كزيادة كلمةٍ ليست في المصاحف العثمانية ، فهل هذه الكلمة الزائدة يعمل بمقتضاها أو لا ؟ أي هل هي حجة أو ليست بحجة ؟ ذلك لأن بعض الكلمات الزائدة على الرسم العثماني في بعضها زيادة حكم أو تقييد مطلقٍ أو بيان مجمل فهل يعمل بها أو لا ؟
أقول : فيه خلاف بين أهل العلم – رحمهم الله تعالى – فقال بعضهم : القراءة الشاذة حجة ، وقال بعضهم : ليست بحجة . والقاعدة تنص على رجحان القول الأول وهو أن القراءة الشاذة حجة ، وأن لها حكم الرفع إذا صح سندها للصحابي ، والدليل على ذلك هو أن الصحابي عدل تام العدالة ، ثقة مأمون ثبت ، ناصح مشفق ، تقيٌ نقيٌ وقد قرأ هذه الزيادة على أنها قرآن وهو جازم بذلك ، ولا يتصور أبداً فيه غير ذلك ، فلا يمكن أن تكون مذهباً له ، كما يقوله البعض فإن هذا لا يمكن صدوره منهم رضي الله عنهم ولا من آحادهم ، إذ كيف يجعل مذهبه قرآناً يتلى ، ويبلغه للناس على أنه قرآن ، هذا مع شدتهم رضي الله عنهم وحرصهم ألا يخلط القرآن بغيره ، فكيف يُجوِّز لنفسه أن يقحم مذهبه في كلام الله ويبلغه للناس ولا يخبرهم بأنه مذهبه ، فلا والله لا نظن هذا فيمن هو دونهم من آحاد المسلمين فكيف بهم . ولا يتصور أن يكون قد قالها استنباطاً ، فما أشبه هذا بالذي قبله ، إذ كيف يتصور في الصحابي أن يجعل ما استنبطه قرآناً يتلى ، فهذا والله ظن السوء بهم – شرفهم الله وكرمهم ورفع منزلتهم عن مثل هذا الظن – .(1/225)
فإذاً لم يبق إلا مخرج واحد وهو أن يقال إنهم سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا هو المخرج الصحيح فلها إذاً حكم الرفع ، فنحن وإن قلنا : إنها ليست بقرآنٍ لكنها تجري مجرى الأخبار المرفوعة ، فلابد من هذا الجزم ، والذي جعلنا نقول ذلك هو عدالة الصحابة جميعاً وأفراداً فهذه الكلمة الزائدة على الرسم العثماني لها حكم الرفع فهي بمنزلة السنة القولية ، ولذلك قال بعض المنصفين من أهل العلم : إن هذه الزيادات غالباً تكون في قراءة ابن مسعودٍ وعبد الله بن عمرو بن العاص وهما من كتاب الوحي ، فربما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يملي عليهم ما أنزل عليه من ربه وهم يكتبون ثم سكت ثم قال هذه الزيادة من باب التفسير لا أنها قرآن فكتبها بعضهم ظناً منه أنها قرآن فكان يقرأ بها جازماً بأنها قرآن لأنه سمعها من فيِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا اتفقنا وإياكم على أنها ليست بقرآن فإنها لا تقل عن مرتبة السنة الأحادية ، وتقدم لنا أن أخبار الآحاد حجة إذا صح سندها ولم تنسخ ، وبذلك تعلم أن تطويلات بعض الأصوليين فيها ورده لها لا وجه له .
والمقصود : أن القول الراجح إن شاء الله تعالى أن القراءة الشاذة حجة إذا صح سندها ولم تنسخ ، هذا هو شرح القاعدة من باب التنظير ، وبقي شرحها من باب التفريع فأقول : إن فروعها قليلة لكنها مؤثرة في الفقه والخلاف ولذلك سأذكر منها ما يحضرني الآن فأقول وبالله التوفيق :(1/226)
منها : اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في صوم الكفارة – أعني كفارة اليمين – هل يجب فيه التتابع أو لا ؟ على قولين ، منهم من قال يجب ذلك ومنهم من قال لا يجب والأرجح إن شاء الله تعالى الوجوب وذلك لقراءة ابن مسعود وأبي بن كعب أنهما كانا يقرآن : { فصيام ثلاثة أيامٍ متتابعات } وقد صح سندها ، فقد أخرجها ابن جرير من طريق قزعة بن سويد عن سيف ابن سليمان عن مجاهد قال : في قراءة عبد الله { فصيام ثلاثة أيامٍ متتابعات } . ولها طريق آخر عن مجاهد عند البيهقي من طريق سعيد بن منصور عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن مجاهدٍ به ، وقال السيوطي في الدر المنثور عن هذا الحديث : " وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري وأبو الشيخ والبيهقي عن طرقٍ عن ابن مسعود أنه كان يقرؤها { فصيام ثلاثة أيامٍ متتابعات } " اهـ ، وقد صححها العلامة المحدث الألباني رحمه الله تعالى فإذا صحت فبقي القول بمقتضاها فيكون التتابع واجباً في صيام كفارة اليمين ، وهكذا شأن الصيام في الكفارات ككفارة الظهار والقتل والجماع في رمضان ، ولأن التتابع فيه خروج من الخلاف ، ولأن القراءة الشاذة حجة على الراجح إذا صح سندها ، والله أعلم .(1/227)
ومنها : اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في تفسير قوله تعالى : { ثَلاثَةَ قُرُوءٍ } على قولين ، والخلاف قديم من عصر الصحابة فقالت عائشة وغيرها القرء هو الطهر ، وقال نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - القرء هو الحيض ، واستدل من قال إن القرء هو الطهر بقوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وهذا نص في أن عدة المرأة هو الطهر ، لأن الحيض لا يجوز إيقاع الطلاق فيه ، ويؤيد ذلك حديث ابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يراجعها حتى تطهر ثم يطلقها طاهراً من غير جماع ثم قال: ((فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء)) وهذا نص في المسألة : أن العدة هي الطهر لا الحيض . واستدل الآخرون بأدلة تجدها في موضعها ومن هذه الأدلة : أن الآية المذكورة أعني قوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وردت فيها قراءة شاذة بينت المراد بها وهي قراءة ابن عباسٍ وابن عمر { يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قُبُلِ عدتهن } وقد رواها مسلم في صحيحه ، فلاشك في صحة سندها وقد صححها الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الرسالة للإمام الشافعي ، وهي قراءة شاذة لمخالفتها للرسم العثماني لكن سندها صحيح ، والقراءة الشاذة حجة إذا صح سندها وهي تفيدنا أن المراد بالآية : أي بمعنى طلقوهن في استقبال عدتهن وإذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون طلاق المرأة في طهرٍ لم يمسها فيه وأبان أن هذا هو الطلاق الذي أذن الله بإيقاعه وأن ذلك هو العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء فلا تكون العدة الطهر أبداً ، فلا تكون إلا الحيض لأنه أمر بالطلاق لتستقبل المرأة عدتها ، لأن الطهر الذي أوقع الطلاق فيه لا تستقبله المرأة إنما تستقبل ما بعده والذي بعده هو الحيض فيكون الحيض هو العدة ، وهذا هو الراجح أن العدة هي الحيض لا الاطهار فهذه القراءة أزالت الإشكال ووضحت المراد(1/228)
فلا يبقى لهم فيها حجة ، فإن قالوا : إنها ليست بقرآن ، قلنا : نعم لكن هي خبر آحاد صحيح وأخبار الآحاد الصحيحة يجب العمل بها .
وأما حديث ابن عمر الذي ذكروه فقد ورد في بعض رواياته عند مسلم لفظ " فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يراجعها حتى يطلقها طاهراً من غير جماع " وقال : يطلقها في قُبُلِ عدتها ، فيكون موافقاً لهذه القراءة الشاذة ومرجحاً لما رجحناه ، والله أعلم .
ومنها : اختلف العلماء في الصلاة الوسطى ما هي : على أقوال كثيرة قد ذكرنا طرفاً منها سابقاً ورجحنا أنها صلاة العصر وذكرنا دليلنا هناك ، لكن يشكل على هذا الاختيار ما رواه مسلم في صحيحه من حديث مالك عن زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم عن أبي يونس مولى عائشة أنه قال : " أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً وقالت : إذا بلغت هذه الآية فآذنِّي { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى } فلما بلغتها آذنتها فأملت عليَّ { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين } فقالت عائشة : هكذا سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - " ، وكذلك نفس القصة حصلت لحفصة كما رواه مالك في الموطأ . فإن زيادة { وصلاة العصر } قراءة شاذة سندها صحيح لا غبار عليه وعطفها على قوله { والصلاة الوسطى } يقتضي المغايرة فصلاة العصر غير الصلاة الوسطى كما تفيده هذه القراءة الصحيحة ، بل قد صرحت عائشة بسماعها من النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف تجمع بين هذه القراءة وبين الأحاديث القاضية بأن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ؟ قلت : هذا سؤال جيد يحتاج إلى جواب محرر ، لاسيما وقد روى مسلم أيضاً بسنده من حديث الفضيل عن مرزوق عن شقيق بن عقبة عن البراء بن عازب قال : " نزلت هذه الآية { حافظوا على الصلوات وصلاة العصر } فقرأناها ما شاء الله ثم نسخها الله فنزلت { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى } " فقال رجل كان جالساً عند شقيق :(1/229)
هي إذن صلاة العصر ، فقال البراء : " قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله " والله أعلم . فكيف الجمع بين الأحاديث وبين هذه القراءة الشاذة ؟
فأقول : الجواب بحمد الله يسير جداً وهو أن يقال : قد اختلفت أجوبة العلماء في ذلك ، فقال بعضهم : إنها قراءة شاذة والقراءة الشاذة ليست بحجة ، وهو ضعيف لما تقدم من أن الدليل دل على أنها حجة ، وقال بعضهم : إن الواو في قوله : { وصلاة العصر } ليست لعطف الذوات وإنما لعطف الصفات كقوله تعالى : { وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } وقوله : { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى* وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } وكل ذلك صفة لشيء واحد ، وقال الشاعر :
أنا الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
فقوله (القرم وابن الهمام) هما صفة للملك لا أنه غيره .
وقال الآخر :
فقددت الأديم لراهشيه ... وألفى قولها كذباً ومينا
والكذب والمين شيء واحد ، وقد نص إمام النحاة سيبويه على جواز قول القائل : مررت بأخيك وصاحبك ، ويكن الصاحب هو بعينه الأخ . إذاً فالواو هنا لعطف الصفات . وقال بعضهم : على تسليم التعارض بين القراءة وبين الأحاديث السابقة فلاشك أن حديث علي وابن مسعودٍ أرجح منها سنداً وأصرح منها في الدلالة .(1/230)
وقال بعضهم : بل إن هذه القراءة منسوخة أعني زيادة (( وصلاة العصر )) والدليل على أنها منسوخة حديث البراء المتقدم فإنه صرح بنسخها بلفظٍ صريح فإنه قال : ثم نسخها الله فنزلت { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى } وهذا الجواب هو أصح الأجوبة عندي لصراحة هذا الدليل ولعدم التكلف فيه ، وقد رواه مسلم كما ذكرنا فتكون زيادة { وصلاة العصر } منسوخة لكن اعلم أن هذا مما نسخ لفظه وبقي حكمه وهو جائز وواقع كآية الرجم والدليل على بقاء حكمها الأحاديث المصرحة بأن الوسطى هي العصر ، فإن قلتَ : كيف تقول عائشة إذاً : " سمعتها من رسول الله " ؟
قلتُ : نعم صدقت والله الذي لا إله غيره ، لقد سمعتها من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد كانت قرآناً يتلى ، بل قال البراء : " فقرأناها ما شاء الله " وفي رواية مسلم أيضاً " فقرأناها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - زماناً " لكنها نسخت وعائشة وحفصة لم تعلما بأنها نسخت ، فالبراء حفظ القراءة والنسخ وهما حفظا القراءة فقط ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، وهذا القول هو الذي تتآلف به الأدلة ولله الحمد والمنة فلا إشكال وبالله التوفيق وهو أعلم وأعلى .
القاعدة الثامنة عشر
( شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف )
وهذه القاعدة وإن كانت أصولية لكنها عقدية أيضاً ، وهي مفيدة جداً لطالب العلم فبها يعرف الفرق بين مشروعية الأصل ومشروعية الوصف ، وهل يتطلب الوصف دليلاً زائداً على دليل الأصل أو يستدل له بدليل الأصل ؟
هذا ما ستعرفه إن شاء الله تعالى في هذه القاعدة فأقول :(1/231)
إن الأصل في العبادات الإطلاق عن ثلاثة أشياء : عن الصفة والزمان والمكان ، أي أن الله تعالى كلفنا باعتقاد مشروعية هذه العبادة فقط من غير تعرض لصفتها ولا لزمانها ولا لمكانها ، ثم بعد ذلك وردت الأدلة محددة الزمان والمكان والصفة ، وذلك مثل قوله تعالى { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } إنما هو دليل على وجوب إقامتها فقط ، فلا يستفاد منه صفة إقامتها ولا زمان إقامتها ولا مكان إقامتها ، وكذلك قوله تعالى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } إنما يستفاد منه وجوب الحج فقط ، لكن لا يستفاد منه صفة الحج ولا زمانه ولا مكانه ، وهكذا الصيام في قوله تعالى { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } يستفاد منه وجوب الصوم فقط ، لكن لا يستفاد منه صفة الصوم ولا زمانه ولا مكانه ، فهذا دليل على أن هذه الأدلة إنما تثبت أصل شرعية العبادة فقط ، وأن صفة العبادة وزمانها ومكانها لابد له من دليل آخر غير أدلة إثبات أصل المشروعية .
إذاً صدق قولنا : الأصل في العبادات الإطلاق ، أي الأصل أن كل عبادة مطلقة عن الصفة والزمان والمكان والمطلق لا يجوز تقييده إلا بدليل صحيح صريح ، فمن قيد عبادة بصفةٍ معينة أو مكانٍ معين أو زمانٍ معين فهذا التقييد لابد له من دليل صحيح صريح وإلا فيكون من التشريع في دين الله ما لم يأذن به الله تعالى .
فالعبادات يجب أن تبقى هكذا مطلقة حتى يرد الدليل المقيد ، وهذا الدليل المقيد لابد أن يكون دليلاً غير الدليل الذي يثبت أصل المشروعية ، لأن الدليل الذي يثبت أصل المشروعية لم يتعرض لا لوصفٍ ولا لزمانٍ ولا لمكانٍ ونحن إنما نطلب الدليل المثبت لهذه الصفة وهذا الزمان وهذا المكان .(1/232)
فإذاً دليل الأصل لا يصلح للاستدلال به على إثبات الصفة ولا الزمان ولا المكان ، وبه تعلم أنه لابد من دليل آخر غير الدليل الأول ، فاحفظ فإنك تقضي به على بدعٍ كثيرة واعتقادات باطلة يظن أهلها أنها مشروعة ويستدلون عليها بالأدلة التي تثبت أصلها كما ستراه في الفروع إن شاء الله . فإذاً ليس كل شيء مشروع بأصله يكون مشروعاً بوصفه ، بل قد تكون العبادة مشروعة من أصلها لكنها ممنوعة بسبب وصفها .
وإذا لم تفهم هذا فإليك بعض الفروع حتى يتضح لك الأمر إن شاء الله تعالى فأقول(1/233)
منها : الذكر الجماعي في أدبار الصلوات وفي بعض المناسبات الذي يفعله كثير من الصوفية ، فإنك إذا سألتهم عن دليل ذلك قالوا : دليلنا قوله تعالى { اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } وقوله { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ } وقوله { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لا يزال لسانك رطباً بذكر الله )) فتراهم يستدلون بمثل هذه الأدلة فحينئذٍ قل لهم : إن هذه الأدلة على العين والرأس لكنها تثبت أصل مشروعية الذكر أي أننا نستفيد منها مشروعية الذكر إجمالاً لكن أنتم توقعون الذكر بصفاتٍ معينة وإيقاعاتٍ منغمة وأوقاتٍ معلومة وأمكنةٍ مرسومة ، فأين الدليل على هذا التقييد . فأنا لا أطلب الدليل على أصل الذكر لكن أطالبكم بالدليل على إيقاعه على هذه الصفة المعينة ، فأين الدليل المثبت لهذه الصفة ؟ ذلك لأن الصفة أمر زائد على أصل الذكر تحتاج إلى دليل زائد على مجرد دليل الأصل ، لأن شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف ، فأنا لا أناقش في (( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر )) بل أناقش في إيقاعها على صفة معينة ، وفي زمان معين . فأنت إذا قلت ذلك تكون قد ألقمتهم حجراً فلا يجدون جواباً ، لكن لو لم تعرف هذا الأصل لعسر عليك الجواب ، وبالله التوفيق .(1/234)
ومنها : الاحتفال بالمولد النبوي ، وهو مما ابتلي به المسلمون في هذه الآونة ، وقد حصل أن ناقشت بعض هؤلاء فقلت له : أنتم تحتفلون بمولد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وتتعبدون لله بذلك الاحتفال وترجون ثوابه يوم القيامة ، فهو عندكم عبادة من أعظم العبادات ، وقربة من أجلّ القربات ، وقد تقرر عند أهل الإسلام أن العبادات مبناها على الحظر والتوقيف فلا يشرع منها إلا ما عليه دليل صحيح صريح ، فأين الدليل الدال على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي ؟ فقال لي : نحن نحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من آبائنا وأبنائنا بل ومن أنفسنا وقد قال - صلى الله عليه وسلم - (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين )) وقال ربنا جل وعلا { لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } ، وقال لي : إن حبه - صلى الله عليه وسلم - فرض على كل مسلم ، بل لا يصح الإيمان إلا إذا كان - صلى الله عليه وسلم - أحب إلينا مما سواه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما )) فقلت له : نعم إن جميع ما قلته حق حقيق لا تنبغي مخالفته ، لكن هذه الأدلة المذكورة إنما تدل على وجوب أصل المحبة ، لكن أي الدليل الدال على مشروعية إيقاع هذه المحبة على هذه الصفة المعينة وفي هذا الزمان المعين ؟ لأنكم عبرتم عن محبتكم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاحتفال بمولده سنوياً في يومٍ معين ، فأين الدليل على ذلك ؟ وليس لك أن تحتج بالأدلة الدالة على وجوب محبته فهذه الأدلة لا تثبت جواز الاحتفال بمولده مع ما يكون فيه من القصائد الكفرية والاختلاط السافر وتضييع الصلوات فبهت الرجل وقال : أنتم لا تحبون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت له : إن المحبة الصادقة مصداقها الاتباع لا الابتداع ، فالتعبير عن محبته - صلى الله عليه(1/235)
وسلم - لا يكون بكل شيء ، فليس لكل أحدٍ يعمل في دينه ما يشتهي ، بل التعبير عن محبته يكون بمتابعته كما قال تعالى { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } والمقصود هو أن أدلة إثبات المحبة له - صلى الله عليه وسلم - لا تكفي للاستدلال بها عن شرعية الاحتفال بالمولد النبوي لأن شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف والله أعلم .
ومنها : الطواف حول قبور الأولياء والصالحين والاعتقاد فيهم أنهم يجلبون خيراً ويدفعون شراً والنذر لهم ونحو ذلك مما يفعل عند قبورهم ، إذا قلت لمن يفعل ذلك : ما دليلك على مشروعية هذا ؟ قال لك : إن الله جل سبحانه قال في كتابه الكريم { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } وقال تعالى { أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } .(1/236)
قلنا : خبتم وخسرتم وأخطأتم طريقة الاستدلال حيث أخرجتم الشرك الذي تفعلونه عند قبور من تسمونهم بالأولياء والصالحين في ثوب المحبة والتقدير وإنزالهم منازلهم وأن هذا من حقهم عليكم ، فشاهت الوجوه – ونعوذ بالله منكم ومن حالكم – ولم يكفكم ذلك حتى استدللتم على شرككم بأدلة الشريعة التي جاءت بإنكار الشرك ومحاربة أهله – ظلمات بعضها فوق بعض – فهذه الأدلة فيها إثبات الولاية وإخبار عن حال أولياء الله الصالحين ، فأين دلالتها على الطواف حول قبورهم والنذر لهم والذبح عند أضرحتهم وتقبيلها وغير ذلك ، فإن هذه الشركيات التي تفعلونها لا تدل عليها الآية مطابقةً ولا تضمناً ولا التزماً ، ذلك لأن شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف ، ويعني بالأصل هنا إثبات الولاية وحال الأولياء ، ونعني بالوصف ما تفعلونه عند الأولياء أو عند قبورهم، فالآية إنما أثبتت الأمر الأول فإثباتها للأمر الأول لا يستلزم منه إثبات الأمر الثاني، بل الأمر الثاني يحتاج إلى دليل آخر ، والله أعلم.
ومنها : اعتقاد تأكد السواك عند الدخول للمسجد ، فإن بعض الناس أو أحدهم قال : ويستحب السواك عند دخول المسجد ثم شرع يستدل على ذلك بالأدلة المثبتة لأصل مشروعية السواك كقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)) ، وقوله ((لا زال جبريل يأمرني بالسواك حتى خشيت أن أحفي مقدم فمي)) ، وقوله ((أربع من سنن المرسلين – وذكر منها - والسواك)) ، وقوله ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)) وكذلك ((عند كل وضوء)) هكذا قال ، وخلاصة الأمر أنه يستدل على ما ذهب إليه من استحباب الاستياك عند دخول المسجد ، يستدل عليه بالأدلة الدالة على استحباب السواك في الجملة ، فهي تثبت شرعية الأصل ، وهي يريد إثبات الأفضلية في زمن معين وهو دخول المسجد .(1/237)
فنقول له : إن السواك مشروع في كل وقت ، والأصل فيه الإطلاق عن الزمان والمكان فمن اعتقد استحباب في زمانٍ دون زمان أو مكانٍ دون مكان فهذا التفضيل يحتاج إلى دليلٍ شرعي صحيح صريح ، ولا يكتفى بالأدلة الدالة على مشروعية السواك ، لأن المراد إثباته ليس هو مشروعية السواك وإنما المراد إثباته هو اعتقاد فضيلته في هذا الزمان بعينه فأين الدليل على ذلك ؟ أما أدلة الأصل فهي للأصل ويبقى الوصف محتاجاً لدليل آخر غير أدلة مشروعية الوصف ، والله أعلم .
ومنها : تخصيص صيام يومٍ من أيام السنة أو الشهر بلا دليلٍ بعينه داخل تحت هذا الباب ، فبعض الناس يخصص يوماً بصومٍ ، فإذا سألته عن دليله على هذا التخصيص قال لك : ألم تسمع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل : " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك و للصائم فرحتان … الخ " فيجاب عنه : بأن هذا يثبت أصل مشروعية الصوم وثوابه عند الله تعالى وفضله من غير تعرضٍ لشيءٍ زائد ، وأنت توقعه بصفةٍ معينة ، والدليل الذي نطلبه منك هو الدليل المثبت لهذه الصفة فأين هو ؟ ذلك لأن أدلة الأصل لا تثبت شرعية الوصف ، بل لابد للوصف من دليلٍ زائدٍ على أدلة الأصل ، والله أعلم .(1/238)
ومنها : بعض المبتدعة الطغام تراه إذا شيع الجنازة يتصدق على هذا وعلى هذا ويطعم الطعام في المقبرة وقت الدفن بل وبعده أيضاً ، فإذا سألته عن دليله قال : هذا من الصدقة عن الميت وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية …)) فيقال له : نعم إن الصدقة عن الميت مشروعة ولا شك ولا منازعة في ذلك، لكن أنت توقع هذه الصدقة على صفةٍ معينة ، فما دليلك على هذه الصفة ، فإن دليلك الذي قلته إنما يدل على أصل مشروعية الصدقة عن الميت ، ونحن لا نختلف أن الصدقة عن الميت مشروعة لكن الذي نخالف فيه ونطلب عليه الدليل هو هذه الصفة المعينة ، والدليل الذي ذكرتموه لا يدل عليها لا بمطابقة ولا تضمنٍ ولا التزام ، ومجرد مشروعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف ، والله أعلم .
وعلى ذلك فقس ، والله أعلى وأعلم .
القاعدة التاسعة عشر
( يجب إجراء العام على عمومه ولا يخص إلا بدليل )(1/239)
وهذا من تعظيم كلام الشارع ، فما ورد بلفظٍ عام فالواجب فيه بقاء عمومه ، وما ورد خاصاً فالواجب فيه بقاء خصوصه ، فلا نعمم الخاص ولا نخص العام ، ذلك لأنه لا يجوز لنا أن نتحكم في كلام الله ورسوله بأهوائنا أو مذاهب أئمتنا ، فكلام الشارع العام لا يخصه إلا الدليل الصحيح الصريح ، فأي دليل من الكتاب أو السنة ورد عاماً فهو عام وما ورد خاص فهو خاص ، هذا هو الحق الحقيق بالقبول ، ودع عنك كلام بعض الفقهاء – هداهم الله – في مخالفة ذلك ، وتجرؤ بعضهم على كلام الله ورسوله بالتخصيص بلا دليل وإنما لموافقة مذهب إمامه ، وإنك لتقرأ في كتب الفقهاء من ذلك ما يوجب العجب ، فالزم جادة الحق ، وانج بنفسك من الوقوع في هذه المهالك – أعاذنا الله وإياك منها - وقد بحث الأصوليون رحمهم الله تعالى في الأشياء التي يخصص بها العام ، واستقرءوها من أدلة الشريعة ، وذلك تحت بحث مخصصات العموم وأنا إن شاء الله تعالى أذكرها لك مختصرة تجنباً للإطالة فأقول :
من المخصصات للعموم الحس ، والمراد بالحس : أي الدليل المأخوذ من أحد الحواس الخمس وهي : الرؤية البصرية والسمع واللمس والذوق والشم .
وقد أجمع العلماء على جواز التخصيص به ، وقد دل على ذلك الوقوع : فمن أمثلة التخصيص به قوله تعالى في وصف ريح عادٍ العاتية { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } فهذا يقضي بعمومه أنها لم تدع شيئاً إلا دمرته ، لكن نحن نشاهد بأعيننا أنها لم تدمر السماء ولا الأرض ولا الجبال ، إذاً هذه الأشياء المذكورة لم يقع عليها التدمير فهي مخصوصة من عموم قوله تعالى { كُلَّ شَيْء } والذي أخرجها من العموم هو الحس لأن المشاهدة البصرية نوع من الحس .(1/240)
ومن أمثلته أيضاً : قوله تعالى عن بلقيس ملكة سبأ في صفة ملكها { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } فهذا يقضي أنه ما من شيء إلا وقد أوتيته ، ولكن نحن نعلم أن هناك أشياء لم تملكها مثل الجن وما في يد سليمان والسموات والأرض وكل ذلك يطلق عليه لفظ {الشيء} لكنه لا يدخل في عموم قوله تعالى { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } والذي أخرجه من العموم هو الحس والمشاهدة ، فإذاً أول المخصصات الحس .
ومن المخصصات أيضاً العقل : فإذا ورد الدليل العام واقتضى العقل السليم تخصيص شيءٍ منه فإنه يصلح أن يكون مخصصاً ، وهذا هو مذهب جمهور الأصوليين وذلك كقوله تعالى { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } فيقضي هذا العموم أنه خالق جميع الأشياء ، لكن الله سبحانه وتعالى بصفاته ليس بمخلوق جل وعلا بل هو الخالق وما سواه مخلوق ، فهو خارج من عموم { كُلِّ شَيْءٍ } وذلك بالعقل ، فالعقل يقضي ذلك قضاءً جازماً ، وبما أن القرآن كلام الله وكلام الله صفة من صفاته فالقرآن لا يدخل في هذا العموم أيضاً(1/241)
ومن المخصصات أيضاً الدليل الشرعي : ويدخل تحت ذلك تخصيص الكتاب بالكتاب ، بمعنى أن الدليل العام والخاص كلاهما من القرآن ، ومثال ذلك قوله تعالى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ } فهذا لفظ عام يدخل فيه جميع المطلقات ، لكن قال الله تعالى { وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وهذا خاص ، فالمطلقة الحامل خرجت من العموم بهذا الدليل فعدتها وضع حملها لا ثلاثة قروء ، وأيضاً قوله تعالى { وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } فهذا عام في جميع المشركات ، لكن قوله تعالى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } أخرج المشركة الكتابية فيجوز الزواج بها ، فهذا تخصيص كتابٍ بكتاب ، وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله تعالى . ويدخل تحته أيضاً تخصيص الكتاب بالسنة أي أن يكون الدليل العام من القرآن والدليل الخاص من السنة سواءً كانت متواترة وهذا بالاتفاق أو آحادية وهذا هو على القول الصحيح وهو مذهب الجمهور ، وعلى ذلك أمثلة :
فمنها : قوله تعالى { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ } فهذا عام في جميع الأولاد ذكورهم وإناثهم ، صغارهم وكبارهم ، مسلمهم وكافرهم ، وكذلك الولد القاتل نعم فالولد الكافر والقاتل داخل في عموم هذه الآية لكن قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم)) فهذا الدليل من السنة خصص عموم الكتاب فأخرج الولد الكافر فإنه لا حق له في ميراث المسلم ، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - ((لا يرث القاتل من المقتول شيئاً)) أخرج الولد القاتل فإنه لا حق له في الميراث ، فإذاً السنة أخرجت الكافر والقاتل .(1/242)
ومن الأمثلة أيضاً : قوله تعالى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } فهذا عام في الزناة ذكورهم وإناثهم ، والمحصن وغير المحصن ، نعم المحصن داخل في هذا العموم ، لكن لما رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - ماعزاً والغامدية وقال لأنيس (( وأغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها )) دل ذلك على أن الزاني المحصن لا يدخل في عموم الآية والذي أخرجه السنة .
ومن الأمثلة أيضاً : قوله تعالى { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } فهذا قضاء جازم بقتل جميع المشركين صغارهم وكبارهم ، ذكورهم وإناثهم ، لكن جاءت السنة بالنهي عن قتل المرأة والشيخ الفاني والطفل الصغير ، فقال عليه الصلاة والسلام ((ولا تقتلوا وليداً)) وقال لما رأى مقتولة في أحد غزواته ((ما كان ينبغي لمثل هذه أن تقتل)) فخرج هؤلاء من عموم القرآن بالسنة .
وكذلك : قوله تعالى { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ } خرج منها أولاد الأنبياء بقوله - صلى الله عليه وسلم - ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)) .
وكذلك : قوله تعالى { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } أي أن جميع النساء حلال لكم ماعدا المذكورات في الآية التي قبلها ، فما عداهن حلال لكم ، لكن هذا ليس على عمومه فقد أخرجت السنة الصحيحة المتفق عليها نكاح البنت على عمتها وعلى خالتها فقال - صلى الله عليه وسلم - (( لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها )) فهذا مخصص لعموم الآية فهو من تخصيص القرآن بالسنة .
ومن ذلك أيضاً : قوله تعالى { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } فهو حكم عام بقتال جميع المشركين ، لكن السنة أخرجت المجوس وذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - (( سنوا بهم سنة أهل الكتاب))(1/243)
ومنه : قوله تعالى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } فهذا عام في كل سارق من غير تقدير لكن هذا مخصوص بقوله - صلى الله عليه وسلم - (( لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً )) .
ومنه : قوله تعالى { يأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } هو عام للذكور والإناث والأحرار والعبيد ، لكن حديث طارق بن شهاب (( الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة امرأة وصبي ومملوك ومريض )) على القول بأنه حديث حسن صحيح فإنه يخرج هؤلاء من عموم القرآن ، وكذلك حديث (( ليس على مسافر جمعة)) وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصلي الجمعة في السفر ، كل ذلك من تخصيص القرآن بالسنة .
والأمثلة كثيرة ، وبهذه الأمثلة تعلم أن السنة تخصص القرآن أياً كانت من غير نظر إلى كونها متواترة أو آحادية ، إنما المطلوب صحة السند فقط .
وقد قدمنا لك سابقاً أن أهل السنة لا يفرقون بين آحادٍ ومتواتر ، بل التفريق بينهما هو مسلك أهل البدع ، ووراء الأكمة ما وراءها ، فاحذر من هذه المزالق ، فإنك تجد جمعاً من أهل الأصول يقولون السنة الآحادية لا تخصص القرآن ، وهو مذهب باطل مخالف لإجماع الصحابة ، فإن الأمثلة السابقة عمل بها الصحابة وخصوا القرآن بها من غير نكير وهي آحاد على حد تعريفهم للآحاد ، فخذ ما مع القوم من الصواب واطرح الخطأ وحذر منه ، والله يغفر للجميع ، فإن بعضهم مجتهدون إن شاء الله لكن التوفيق للصواب مِنَّةٌ من الله تعالى ، والله المستعان .
ويدخل أيضاً تحت التخصيص بالدليل الشرعي تخصيص السنة بالسنة من غير تفصيل بين متواتر وآحاد كما سلف ، وهذا قول الجمهور ، بل هو قول أهل السنة والجماعة وما عداه فمسلك أهل الضلال .(1/244)
ومن أمثلة ذلك : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر )) فهذا عام فيما خرج من الأرض من غير تفصيل بين قليل وكثير ، لكن العام مخصص بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ليس فيما دون خمسة أو ست من حب ولا تمرٍ صدقة )) فقضى الخاص على ما يقابله من العام ، فهذا تخصيص سنةٍ بسنة .
ويدخل تحته أيضاً تخصيص السنة بالكتاب أي أن يكون الدليل العام من السنة والخاص من القرآن .
ومن أمثلة ذلك : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله )) فهذا عام في مقاتلة جميع من لم يقل هذه الكلمة ، لكن خرج أهل الكتاب إذا أعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ، بقوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ … } إلى قوله : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } فالقرآن أخرج أهل الكتاب إذا أعطوا الجزية من عموم الأمر بالقتال .
ومنه أيضاً : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائةٍ والرجم )) فهذا عام في الزناة سواءً الأحرار أو العبيد ، لكن خرجت الأمة من هذا العموم بقوله تعالى : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } والعذاب هنا يراد به الجلد لأنه يمكن تصنيفه ، أما الرجم فلا يمكن فيه ذلك ، فهذا الدليل القرآني الخاص أخرج الأمة المحصنة من عموم قوله ((الثيب بالثيب)) فهذا تخصيص سنةٍ بقرآن .(1/245)
ومنه أيضاً : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ما أبين من حيٍّ فهو كميتته )) فهو عام في جميع ما يبان من الحيوان حال حياته شعراً كان أو صوفاً أو وبراً أو سناماً أو إلية ونحوها ، لكن خرجت إبانة الصوف والشعر والوبر من هذا العموم بقوله تعالى : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ } أي أن هذه الأشياء تقطع من البهيمة وهي حية وينتفع بها ، فهذا تخصيص سنةٍ بقرآن وغير ذلك .
فصارت الأقسام أربعة : تخصيص الكتاب بالكتاب ، وتخصيص الكتاب بالسنة ، وتخصيص السنة بالسنة ، وتخصيص السنة بالكتاب ، فكل ذلك داخل تحت التخصيص بالدليل الشرعي ، فالدليل الشرعي العام يخص بالدليل الشرعي الخاص .
ومن المخصصات أيضاً : التخصيص بالإجماع : وهو جائز باتفاق العلماء المعتد بقولهم ، ودليله الوقوع ، فمن ذلك قوله تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } فهذا عام في الأحرار والأرقاء لكن خص منه العبد إذا زنى فإنه يجلد خمسين جلدة ، وهذا التخصيص وقع عليه الإجماع ، ومستند هذا الإجماع قياس العبد على الأمة في تنصيف الحد بجامع الرق .
ومن ذلك أيضاً : قوله تعالى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } فإنه نص في أن ما ملكت يمينك من الإماء فإنها حلال لك أن تستمتع بها ، لكن وقع الإجماع على أنه لا يجوز الاستمتاع بأختك من الرضاع إذا كانت ملكاً لك ، وهذا بالإجماع وهو مخصص لقوله تعالى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وهذا الإجماع له مستند وهو قوله تعالى في ذكر المحرمات : { وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ } وقد يقال إن المخصص إنما هو مستند الإجماع وهو القرآن لا أنه الإجماع ، وهو قول حسن لا مانع منه .(1/246)
ومنه أيضاً : قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } هو عام في الأحرار والأرقاء ، لكن خرج الرقيق بالإجماع ، فقد أجمعوا على أن الرقيق القاذف يجلد أربعين .
ومن ذلك أيضاً : قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } فهو عام للجميع الذكور والإناث والأحرار والأرقاء ، لكن أجمع العلماء على عدم وجوب الجمعة على المرأة ، وقد دل عليه أيضاً دليل طارق المذكور سابقاً .
ومن أمثلته أيضاً : حديث (( إن الماء طهور لا ينجسه شيء )) فهو عام في جميع المياه ، لكن أجمع العلماء على أن الماء إذا تغير بالنجاسة أنه نجس سواءً كان قليلاً أو كثيراً ، فالإجماع أخرج الماء المتغير بالنجاسة ، وقد ورد في حديث أبي أمامة : " إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه " لكنها زيادة ضعيفة لكن انعقد الإجماع عليها .
لكن كما ذكرت أن المخصص إنما هو دليل الإجماع لا الإجماع وحده ، ذلك لأن الإجماع لابد أن يكون له مستند علمناه أم لم نعلمه فهذا المستند هو المخصص ، فيكون الإجماع مؤيد للتخصيص بالمستند ، والله أعلم .
ومن المخصصات أيضاً : مفهوم المخالفة ، وهو مذهب جمهور أهل العلم وهو الصواب .
ومن أمثلة ذلك : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( في أربعين شاةٍ شاةٌ )) فهذا عام في الشياه السائمة والمعلوفة ، لكن خرجت المعلوفة بقوله - صلى الله عليه وسلم - ((في سائمة الغنم زكاة)) وقوله ((وفي الغنم في سائمتها)) فيفهم من وصف السائمة إخراج المعلوفة ، لأن المعلوفة تخالف السائمة فهذا تخصيص بمفهوم المخالفة ، أي أننا فهمنا بعقولنا من تقييده بالسائمة إخراج ما خالفها فهو مفهوم مخالفة .(1/247)
ومن ذلك أيضاً : قوله - صلى الله عليه وسلم - (( إن الماء طهور لا ينجسه شيء )) فهو عام في القليل والكثير لكن خص منه الماء إذا وقعت فيه نجاسة وكان أقل من قلتين بمفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر " إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث " فيفهم أنه إذا بلغ قلتين حمل الخبث ، فهذا المفهوم خصصنا به عموم قوله ((إن الماء طهور لا ينجسه شيء)) وقد تكلمنا على هذه المسألة في مكانٍ آخر ، والله أعلم .
ومن المخصصات أيضاً : القياس الصحيح ، وبه قال جمهور أهل العلم وهو الصواب ، لكن يشترط أن يكون قياساً صحيحاً ، ويمثل له بقوله تعالى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } فكلمة { الزاني } عام في الذكور أحراراً كانوا أو عبيداً ، لكن خرج العبيد من العموم بالقياس على الأمة الزانية ، فإن القرآن نص على أن عليها نصف ما على الحرة من العذاب ، فقاسوا العبد عليها وهو قياس صحيح والجامع بينهما الرق ، فالقياس هو المخصص لهذا العموم .
ومن الأمثلة أيضاً : قوله تعالى : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } فهذا نص عام في كل من دخل حدود الحرم أنه آمن ولو كان قد أحدث حدثاً ثم لجأ إلى الحرم ، فإن الآية بعمومها تقضي أنه لا يقام عليه الحد حتى يخرج لكن القياس أخرج هذا ، أي أن من أحدث حدثاً من قتلٍ أو قذفٍ أو سرقةٍ أو غيرها ثم لاذ بالحرم أنه يقام عليه الحد ولو كان في الحرم ، وقاسوا هذا على من أحدث حدثاً وهو في الحرم فإنه يقام عليه الحد في الحرم.(1/248)
فإن العلماء قالوا : من جنى جناية في داخل الحرم فإنه يقام عليه الحد في الحرم ، ويقاس عليه من جنى جناية خارج الحرم ثم دخل الحرم بجامع وجود الجناية منهما ، وهذا هو الصحيح وهو مذهب الجمهور ، ولأن سد الذرائع مطلوب فقد يؤدي القول بعدم إقامة الحد في الحرم إلى اتخاذه ذريعة للجناية ثم دخول الحرم فتضيع حقوق الناس ، ولأن هذا الجاني ظالم معتدٍ والظالم والمعتدي لا حرمة له ، ولأن إقامة الحد على هذا الجاني في الحرم هو من باب الأخذ بالحق وإقامة العدل وهذا مأمور به شرعاً .
فالقياس الصحيح يقضي أن من جنى خارج الحرم ثم لاذ بالحرم أنه يقاد منه قياساً على الإقادة ممن جنى داخل الحرم ، فإن قلت : لقد قدمت سابقاً في القاعدة الخامسة عشر أن القياس إذا خالف النص فهو فاسد الاعتبار أي أنه مردود ، فكيف تقول هنا إن القياس يخصص النص ، فقياسك العبد على الأمة في تنصيف الحد أليس يعارض عموم الآية ؟ فإن العبد يدخل فيها والقياس يخرجه ، فلماذا عملت بالقياس هنا وأبطلته هناك وهذا الذي جنى خارج الحرم ثم لاذ بالحرم أليس يدخل في عموم قوله تعالى { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } والقياس يخرجه ، فعملت بالقياس ، فما الفرق بين القياس هنا والقياس هناك حتى تعمله هنا تبطله هناك ؟
قلت : هذا والله سؤال جيد يحتاج إلى جواب محرر ولم أر في كتب الأصول من ذكر الإشكال أصلاً فضلاً عن ذكر الجواب عليه ، وإني أجيب عليه مستعيناً بالله الصمد الحي القيوم ، مفتقراً إليه أن يوفقني لهداه وأن يلهمني الحق والصواب فأقول :
إن القياس الخاص إذا أخرج بعض أفراد النص العام لا يكون ذلك من التعارض في شيء ، بل نخص العام بالخاص فيخرج هذا الفرد الذي أخرجه القياس وتبقى سائر الأفراد يعمل بها في عمومها ، فالنص العام معمول به بعد إخراج هذا الفرد ، فالعمل بالقياس لم يبطل العمل بالنص أصلاً وإنما أخرج فرداً من أفراده فقط وهذا هو المراد بقولنا : من المخصصات القياس .(1/249)
أما القياس الفاسد الاعتبار فهو القياس الخاص إذا عارض نصاً خاصاً بمعنى أننا إن عملنا بالقياس تركنا العمل بالنص ، وإن عملنا بالنص تركنا العمل بالقياس فهنا حصل التعارض بين القياس وبين النص ، فيكون القياس فاسد الاعتبار . ولو رجعت إلى الأمثلة التي ذكرناها في القاعدة الخامسة عشر لوجدت أن جميع الأقيسة المذكورة فيها عارضت نصوصاً خاصة لا نصوصاً عامة .
وخلاصة الجواب : أن القياس الخاص هو الذي يخص به عموم النص ، أما النص الخاص فهذا لا يدل على أفرادٍ كثيرة حتى يتطرق إليه التخصيص ، بل هو يدل على شيءٍ واحد إذا جاء القياس معارضاً له في دلالته تعارضا فلابد من إبطال أحدهما ، والنص الشرعي لا يجوز إبطاله فلم يبق إلا القياس فيكون فاسد الاعتبار . وهذا هو تحرير الجواب والحمد لله على الفهم والتوفيق وهو أعلى وأعلم .
فإن قلت : أليس الحنفية رحمهم الله تعالى قالوا : إن المرتدة لا تقتل وأخرجوها بالقياس من عموم (( من بدل دينه فاقتلوه )) وهذا النص بعد إخراج المرتدة منه بالقياس لم يبطل بل يعمل به في غير المرتدة ، فقياسهم هذا لم يبطل النص وإنما أخرج بعض أفراده فقط وبقي معمولاً به في الباقي وقد جعلته قياساً فاسد الاعتبار لأنه في مقابلة النص ، فكيف نجمع بين هذا وبين كلامك قبل قليل ؟
قلت : وهذا أيضاً سؤال جيد يحتاج إلى جواب محرر ، والجواب عليه من وجهين :(1/250)
الأول : لا نسلم أن هذا القياس لم يخالف نصاً خاصاً بل قياسهم هذا عارض نصاً خاصاً وهو ما رواه جابر - رضي الله عنه - أن أم مروان ارتدت فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يعرض عليها الإسلام فإن ثابت وإلا قتلت )) أخرجه الدارقطني والبيهقي ، وضعفه الحافظ ، وأخرجه البيهقي من وجهٍ آخر ضعيف أيضاً عن عائشة (( أن امرأة ارتدت يوم أحد فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت )) وأخرج الدارقطني والبيهقي أن أبا بكرٍ استتاب امرأة يقال لها أم قرفة كفرت بعد إسلامها فلم تتب فقتلها ، فهذه الأدلة – إن سلمنا الاحتجاج بها – تدل بخصوصها على قتل المرتدة ، فقياس الحنفية عارض نصاً خاصاً .
وإن لم يسلم هذا فالوجه الثاني : أن القياس الذي يخص به العموم لابد أن يكون قياساً صحيحاً مستوفياً لجميع أركانه ، وقياسهم هذا قياس باطل لأنه مع الفارق والقياس مع الفارق باطل ، فإنهم قاسوا المرتدة على الكافرة الأصلية وهذا قياس مع الفارق فإن الكافرة الأصلية لا تجبر على الإسلام ، تقر في بلادنا على كفرها ، وأما المرتدة فإنها تجبر قهراً على الإسلام عندنا بالقتل وعندهم بالحبس والجلد ، وقياسهم هذا يوجد أيضاً قياس المرتد على الكافر الأصلي لأن الكافر الأصلي لا يقتل عندنا وعندهم فكذلك المرتد ، فالتفريق بين المرتد والمرتدة في هذا قياس لا وجه له ، فالقياس إذاً فاسد لوجود الفارق بين الأصل والفرع ، فالأصل هو الكافرة الأصلية والفرع هو المرتدة ، ومن شروط صحة القياس وجود الاتفاق في العلة بين الفرع والأصل ، ولا علة تجمع بينهما هنا والله أعلم.
وعلى كل حالٍ فالقول الصحيح هو أن القياس الصحيح يصلح أن يخصص النص العام كما هو مذهب الجمهور والله أعلى وأعلم .(1/251)
ومن أمثلة التخصيص بالقياس أيضاً : قوله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع (( بمثل هذه فارموا )) ورمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال (( خذوا عني مناسككم )) فهذه النصوص عامة في الرمي للرجال والنساء والصغار والكبار من الحجاج ، لكن النص أخرج الصغار فيجوز الرمي عنهم ، وقسنا عليهم النساء والمرضى إذا عجزوا عن الرمي في الليل كما هو الحال الآن ي هذه الأزمنة فإن فيها من الزحام ما يصل إلى درجة الهلاك ، حتى إن فحول الرجال الأقوياء يضعفون عنه فما بالك بالنساء والضعفة ، وقد رخصت الشريعة لهم الرمي ليلاً لكن الآن حتى الرمي بالليل فيه زحام شديد جداً ، فالمريض الذي لا يستطيع المزاحمة والمرأة الحامل والعجوز الكبيرة ونحوهم يجوز لهم التوكيل في الرمي قياساً على الصبيان بجامع العجز في كلٍ ، فهذا القياس أخرج هؤلاء من النص العام فهذا تخصيص بالقياس والله أعلم .
فهذه جملة المخصصات التي ترجح بالدليل أنها مخصصة وبقي ماعداها فيه نقاش واسع محله كتب الأصول المطولة ، والمقصود من ذكر المخصصات أن يعرف طالب العلم ما الذي يصلح به التخصيص وما لا يصلح به ذلك ، فليس لأحدٍ أن يتحكم في النصوص بتخصيصٍ ولا تقييدٍ إلا وعلى ذلك دليل صحيح صريح .
وإليك الآن بعض الفروع الفقهية المهمة المندرجة تحت هذه القاعدة ، وقد ذكرنا طرفاً كبيراً منها في المخصصات لكن نزيدها هنا ليزداد الوضوح فأقول :(1/252)
منها : اختلف العلماء في اشتراط النية للوضوء والغسل ، فقال الجمهور : هي شرط لا تصح الطهارة إلا بها ، وقال الحنفية : بل هي سنة وليست بشرط ، واستدل الجمهور لمذهبهم بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إنما الأعمال بالنيات )) والطهارة عمل فهي معلقة بالنية ، وهذا عام في كل عملٍ والعام يجب إجراؤه على عمومه ولا يخص بدليل ، وقال الحنفية : هي وسيلة للصلاة والوسائل لا تفتقر إلى نية ، لكن الصواب مع الجمهور ولا شك ، لأن الدليل عام ، ومن جملة الأعمال الطهارة فهي داخلة تحت عمومه ولم يأت ما يوجب إخراجها منه فتبقى على هذا العموم ، لأن البقاء على العموم هو الأصل .
ومنها : اختلف العلماء في وجوب الطهارة لصلاة الجنازة ، فذهب جماهير السلف والخلف على القول باشتراطها لصحة صلاة الجنازة ، وقال الشعبي : لا تشترط لأنها دعاء ليس فيها ركوع ولا سجود ، فلا تحمل مسمى الصلاة الشرعية التي تجب لها الطهارة ، واستدل السلف بحديث (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) وهو نص صحيح صريح عام ، فإن النكرة المضافة إلى معرفة تعم فيدخل في ذلك كل ما يسمى صلاة فإنه لا يقبل إلا بالطهارة ، وصلاة الجنازة تسمى شرعاً وعرفاً ولغة ، أما شرعاً فلحديث : (صلوا على صاحبكم) وقال الراوي : ((صلى النبي على النجاشي)) وفي الحديث فقال : ((دلوني على قبرها فدلوه فصلى عليها)) فسماها النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة ، فإذا ثبت أنها صلاة فإنها تدخل تحت هذا العموم ولا تخرج إلا بدليل ولا دليل يخرجها ، فالواجب إذاً هو البقاء على العام حتى يرد المخصص ، فالصواب إذاً ولا شك هو قول جمهور الأمة ، والله أعلم(1/253)
ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام )) فقوله (بحرام) نكرة في سياق النهي ، والنكرة في سياق النهي تعم ، فيدخل في ذلك جميع المحرمات الشرعية ، فإنه لا يجوز جعلها علاجاً يتداوى به ومن جوز التداوي بحرام معين فعليه الدليل ، لأن الأصل هو البقاء على العام حتى يرد المخصص ، وبه تعلم أن التداوي بالخمر محرم ، مع ورود النص الخاص بها بعينها ، وكذلك التداوي بشحم الخنزير أيضاً محرم كذلك ، وكذلك بالعقاقير المخدرة ، ومن أجاز ذلك فعليه الدليل لأن الأصل هو البقاء على العموم حتى يرد الدليل المخصص ، وإذ لا دليل هنا فنبقى على العموم ، هذا هو الواجب .
ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( من بدل دينه فاقتلوه )) هو نص عام في المرتدين ذكوراً وإناثاً ، وأخرج الحنفية المرأة المرتدة ، والصواب عدم إخراجها لعدم الدليل الصحيح الصريح في تخصيصها ، وليس مع الحنفية إلا مجرد الأوهام والأقيسة المضاربة للنصوص ، وإذ لا دليل يخصها من إفراد العام فالواجب هو البقاء على العام وهذا هو الصحيح أعني : مذهب الجمهور ، وقد تقدم طرف من أدلة هذه المسألة قبل قليل ، والله تعالى أعلى وأعلم
ومنها : قال - صلى الله عليه وسلم - : (( أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل )) وقال عليه الصلاة والسلام : ((لا نكاح إلا بولي)) وقال : ((ولا تزوج المرأة نفسها)) فهذه النصوص عامة في كل النساء في الحرائر والإماء ، لكن أخرج الحنفية الحرة فأجازوا لها تزويج نفسها بغير ولي وهذا تخصيص للعام بلا دليل وليس معهم إلا محض القياس الفاسد ، والعام يجب إبقاؤه على عمومه ولا يخص إلا بدليل صحيح صريح ، والراجح بلا شك قول الجمهور عملاً بعموم هذه الأدلة ، والله أعلم .(1/254)
ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا دبغ الإهاب فقد طهر )) وقال : (( أيما إهاب دبغ فقد طهر )) فهذا نص عام في جميع الجلود من غير فرق بين مأكولٍ وغير مأكول ، فمن أخرج جلداً من الجلود من هذا العموم فعليه الدليل ، لأن العام يجب إجراؤه على عمومه حتى يرد المخصص ، فالقول الراجح في هذه المسألة هو القول بطهارة جميع الجلود الطاهرة في الحياة ، من غير فرقٍ بين مأكولٍ وغير مأكول ، وأما الجلود النجسة في الحياة فإنها لا تطهر بحال لأن نجاستها عينية ، والدباغ وسيلة للتطهير فهو يعيد الجلد إلى حالته في الحياة والنجاسة العينية لا تطهر بحال ، والله أعلم .
ومنها : اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في حكم حيوانات البحر ، فقال الحنفية: يحرم أكل ما سوى السمك ، وقال الإمام أحمد : يؤكل ما في البحر إلا الضفدع والتمساح ، وقال ابن أبي ليلى ومالك : يباح كل ما في البحر ، وذهب جماعة إلى أن ماله نظير من البر يؤكل نظيره من حيوان البحر مثل : بقر الماء ونحوه ، ولا يؤكل ما لا يؤكل نظيره في البر مثل : كلب الماء وخنزير الماء .(1/255)
والراجح : هو حل جميع ميتات البحر التي لا تعيش إلا فيه على مختلف أشكالها وتباين أنواعها من غير تفصيل بين نوعٍ ونوع ، والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في البحر : (( هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته )) ، وقال تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } فهذه النصوص عامة يدخل تحتها جميع أنواع ميتات البحر وطعامه وصيده ، فمن أخرج شيئاً منها فعليه الدليل ، لأن العام يجب إجراؤه على عمومه حتى يرد المخصص . وأما الأهواء وأقوال المذاهب فدعك منها فإنها لا تؤثر في عموم الكتاب والسنة . وإليك هذان الضابطان في هذا الموضوع وهما قولنا : الأصل في الحيوانات برية كانت أو بحرية الحل والإباحة إلا بدليل ، فمن حكم على شيءٍ منها بالتحريم فعليه الدليل ، والله أعلم .
ومنها : اختلف أهل العلم في تحية المسجد الحرام ، هل هي ركعتان كسائر المساجد أو هي الطواف على أقوال ، والصواب عندي والله أعلم أنه كسائر المساجد فتحيته ركعتان لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين )) فيدخل تحت هذا العموم جميع المساجد ومنها المسجد الحرام ، وأما قولهم : " تحية البيت الطواف " فهذا ليس بحديث ولا سند له ، بل هو من قول الفقهاء ويقصدون به من يريد الطواف لا الجلوس فأول شيء يبدأ به الطواف ، لا أنه تحية لكل داخل ، فهذا لا دليل عليه ، بل عموم الحديث السابق يقضي أن تحية المسجد الحرام هي تحية سائر المساجد ، والله أعلم .(1/256)
ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم - (( أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )) فقوله " صلاة المرء " عام لأن المفرد المضاف يعم فهو نص عام يقضي أن كل صلاة يصليها المرء فالأفضل له فعلها في بيته إلا المكتوبة ، وهذا حتى في المسجد الحرام والمسجد النبوي ، والمسجد الأقصى ، فالأفضل للإنسان في الصلاة مطلقاً في غير المكتوبة فعلها في بيته ، فيدخل في ذلك النوافل المؤكدة القبلية والبعدية والوتر وقيام الليل والمنذورة ونحوها ، كل ذلك فعله في البيت أفضل حتى مع شرف البقعة كالمسجد الحرام وغيره ، فمن أخرج شيئاً من ذلك فعليه الدليل والله أعلم .
ومنها : قوله تعالى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } هو نص عام ، لأن البيع دخلت عليه الألف واللام المفيدة للاستغراق ، فكل ما يسمى بيعاً فهو حلال ، فمن أخرج نوعاً من أنواع البيع من هذا العموم فعليه الدليل ، وبه تعلم خطأ بعض الفقهاء في تحريم بعض المعاملات بلا دليل ، وهذا لا يجوز ، لأن الأصل هو بقاء العموم على عمومه ولا يخص إلا بدليل صحيح والله أعلم .
ومنها : اختلف العلماء في الذي يقوله المستمع إذا قال المؤذن في الصبح " الصلاة خير من النوم " على قولين ، فمنهم من قال يقول " صدقت وبررت " ومنهم من قال يقول مثل ما يقول المؤذن ، وهذا هو الصحيح ، وذلك لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول )) فقوله (ما) هي بمعنى (الذي) وهي صيغة من صيغ العموم فتشمل جميع الذي يقوله المؤذن إلا ما ورد الدليل بخلافه ، ولم يرد الدليل إلا في الحيعلتين أنه يقول فيهما ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) لحديث عمر عند مسلم .
وأما صدقت وبررت فلم تثبت من طريق صحيح ، والعام يبقى على عمومه حتى يرد المخصص والله أعلم .
وصلى الله على نبينا محمد ، وأستغفر الله من الزلل والخطأ .
فهرس الموضوعات
الموضوع…………… …… الصفحة
المقدمة….. 1
القاعدة الأولى(1/257)
خبر الآحاد الصحيح حجة مطلقاً….. 7
القاعدة الثانية
خبر الآحاد معتمد فيما تعم به البلوى…15
القاعدة الثالثة
الأمر المجرد عن القرائن يفيد الوجوب… 22
القاعدة الرابعة
الأمر بعد الحظر يفيد ما كان يفيده قبل الحظر…32
القاعدة الخامسة
الأمر المتجرد عن القرائن يفيد الفور لا التكرار… 34
القاعدة السادسة
الأمر المعلق على شرطٍ أو صفة هما علته يتكرر بتكررهما… 50
القاعدة السابعة
الزيادة على النص ليست نسخاً… 54
القاعدة الثامنة
لا تكليف على المكلف إلا بالعلم والقدرة والاختيار… 62
القاعدة التاسعة
العبرة فيما رواه الراوي لا فيما رآه عند التعارض… 74
………… القاعدة العاشرة
أفعال الشارع للندب ما لم تقترن بقولٍ فتفيد ما أفاد القول… 86
القاعدة الحادية عشرة
يبنى المطلق على المقيد عند الاتفاق في الحكم…97
القاعدة الثانية عشرة
القرآن اسم للنظم والمعنى معاً… 114
القاعدة الثالثة عشرة
تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز… 118
القاعدة الرابعة عشر
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب… 126
القاعدة الخامسة عشرة
القياس في مقابلة النص باطل… 139
القاعدة السادسة عشرة
الزيادة من الثقة مقبولة إذا لم يخالف الثقات… 149
القاعدة السابعة عشر
القراءة الشاذة حجة إذا صح سندها… 166
القاعدة الثامنة عشر
شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف… 171
القاعدة التاسعة عشر
يجب إجراء العام على عمومه ولا يخص إلا بدليل… 176 الفهرس… 189(1/258)