بسم الله الرحمن الرحيم
حضرات العلماء الأعلام ، والسادة الفخام المنتدين في الندوة الثالثة عشرة
لمجمع الفقه الإسلامي الهندي ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ~
أما بعد ..
فيسعدني أن أشارككم مناقشة جانبٍ من جوانب الملتقى الثالث عشر لمجمعكم المبارك ، وإنِّي إذ أفعل هذا فلأنني مؤمنٌ تمام الإيمان أنَّ كلَّ من له أدنى معرفة ، فعليه أن يوظفها لخدمة الدين الحنيف ، وشرع الله المبين ، وما جاء به عن ربِّه الرسول الأمين ، ولهذا حينما وردت دعوة المجمع إلى مقام السيِّد الوالد بادرت للبحث في جانبٍ واحدٍ من إحدى مسائل الملتقى .. فإن وُفقت ، فذلك مطمحي ومطمعي ، وإن كانت الأخرى ، فحسبي أنني لم أدَّخر وسعاً ، وتشفع لي نيتي التي ما أردت بها إلاَّ خدمة الإسلام ونصرته ، وجعله مواكباً لما يستجد من المسائل ، وعدم الاكتفاء بالقول بالحرمة لعدم وجود ما نريد بحثه ، في أقوال الأساطين من علمائنا السابقين .
... لقد ساهم معي في اعداد هذا البحث الاخ المحامي عمر صلاح ، وذلك من خلال ما قدمه من اراء وافكار حول الموضوع ، وما يسره لي من مصادر ، لذا كان لزاما عليه ان اذكر اسمه ، واشكره على جهده لخدمة الاسلام .
وأدعوه تعالى أن يوَّفق كلَّ المتصدين لخدمة الدين المبين ، والمنهج المستبين .. آمين .
والحمد لله ربِّ العالمين ~~
الدكتور
مروان محمد محروس المدرس الأعظمي
العراق / الأعظمية / محلة 314 ، زقاق 88 / دار 41
هاتف 4225253 و 4228669
بسم الله الرحمن الرحيم
تأثير العرف في تحديد معنى [ الكفاءة ]
في الزواج
المبحث الأول
معنى الكفاءة لغةً واصطلاحاً
الكفاءة – بالفتح والمدِّ - .. والمُكافأة : في اللغة مصدر .. [ كافأ ] ، وتستعملان اسماً .
والكِفَاءً : المجازاه.. تقول : ما لي به قِبَلٌ ولا كِفاءٌ ، أي : ما لي به طاقةٌ على أن أكافِئَه .(1/1)
وقول حسان بن ثابت : [ وروح القدس ليس له كِفَاءُ ] ، أي جبريل ليس له نظير ولا مثيل . وفي الحديث : { فنظر إليهم فقال : من يَكافِئُ هؤلاء } .
وفي حديث الأحنف : لا أقاوم من لا كِفَاء له .
والكَفِيءُ .. والكفء .. والكفوء : النظيرُ ، والمساوي .
ومما تقدَّم : الكفاءة في النكاح .
ونقول فلان كُفْءُ فلانة : اذا كان يصلح لها بعلا ، والجمع أَكْفَاء(1).
وتَكافَأ الشيئان : تماثلا .
وكَافَأه .. مُكافَأة .. وكِفَاءً : ماثله .
ومن كلامهم : [ الحمد لله كِفاء الواجب ] ، أي : قدر مايكون مُكافئاً له .
وفي الحديث : { المسلمون تَتَكافَأُ دماؤهم .. } ، أي : تتساوى في .. الديات ، والقصاص .
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
وفي اصطلاح الفقهاء - : لها استعمالات .. منها الكفاءة في الدماء ، والكفاءة في النكاح .. فالكفاءة في باب الزواج هي : المماثلة بين الزوجين في أمورٍ مخصوصة(2).
والأمور المخصوصة .. هي : مساواة الزوج للمرأة ، في : حسبها ، ودينها ، ونسبها ، وبيتها .. وغير ذلك .
وعرفها البركتي بانها : مساواة مخصوصة بين الزوجين ، أو كون الزوج نظيراً للزوجة(3). قلت / فعلى هذا .. الكفاءة في النكاح : أن يكون الزوج كفئاً للزوجة في الأمور المذكورة .
المبحث الثاني
معنى [ العرف ] .. لغةً ، واصطلاحا
العُرف – في اللغة - : ما تعارف عليه الناس في عاداتهم ، ومعاملاتهم .
والعُرف : المعروف .
والعرف : شعر عنق الفرس ، ولحمة مستطيلة على رأس الديك .
والعرف : موج البحر ، والمكان المرتفع(4).
__________
(1) راجع لسان العرب . وراجع المعجم الوسيط . وراجع الموسوعة الفقهية / اصدار الكويت ، ج32 .
(2) البحر الرائق ، ج3 ، ص 137 ، الدرالمختار وردِّ المحتار – ج3 / 84 ، والموسوعة الفقهية الكويتية ،ج32 .
(3) البركتي ، التعريفات الفقهية .
(4) المعجم الوسيط – 2 / 595 .(1/2)
وعَرَف .. وعَرُف .. عرِف .. الخ : أفعال لها تصاريف عدَّة ، ولكلِّ تصريفٍ معانٍ في الاستعمال اللغوي لا تعنينا ، وما نحن بصدده من استعمال .. نقلناه .
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
أما اصطلاحاً .. فقد عرفها عبد الله بن احمد النسفي في [ المستصفى ] ، بقوله :
العرف - ما استقر في النفوس من جهة العقول ، وتلقته الطباع السليمة بالقبول(1).
ونقل ذات التعريف ابن عابدين في رسالته عن العرف ، عن صاحب شرح الاشباه للبيري ، عن المستصفى(2).
وفي هذا التعريف نقصٌ ، إذ لم يذكر ما الذي استقر في النفوس ، وتلقته الطباع بالقبول .. وينبغي أن يتضمن التعريف ذلك ، فيقول : ما استقر في النفوس من الأفعال .. ، وسيشمل الفعل : الإيجابي ، والسلبي .. [ فعدم الفعل فعلٌ ](3)، والامتناع الإرادي فعلٌ ، ولذلك يُحاسب عليه الإنسان ! .
وعرفه البركتي ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول وتلقته الطبائع السليمة بالقبول(4).
وعرفه من المحدثين جمعٌ .. بانه : ما تعارف جمهور الناس وساروا عليه ، سواء كان قولاً ، أو فعلا ، أو تركاً(5).
__________
(1) راجع احمد فهمي ابو سنة ، العرف والعادة في رأي الفقهاء ، مطبعة الازهر ، 1941 ، ص8 .
(2) ابن عابدين في رسالته : [ نشر العرف في بناء بعض الاحكام على العرف ] . ولكن التعريف الذي أورده ابن عابدين نقلا عن البيري ، قد أضاف كلمة [ العادة ] في بداية التعريف ، فقال : العادة والعرف ما استقر ... الخ .
(3) نثار العقول في علم الأصول للدكتور محمد محروس المدرس - .
(4) البركتي ، التعريفات الفقهية .
(5) محمد مصطفى شلبي ، المدخل في التعريف بالفقه الاسلامي ، دار النهضة العربية ، 1969 ، ص 260 .
وراجع عبد الوهاب خلاف ، علم اصول الفقه ، دار القلم ، الكويت ، ص 89 . وبنفس المعنى كلا من د.عبد الكريم زيدان ، الوجيز في اصول الفقه ، مكتبة القدس ، ص 252 . ود.مصطفى الزلمي ، اسباب اختلاف الفقهاء في الاحكام الشرعية ، بغداد ، ص503 .(1/3)
وهذا التعريف ليس من الدقة في شئ ، وذلك :
1. في التعريف دورٌ – كما يقول المناطقة - ، لتوقف [ العرف ] على لفظة [ تعارف ] .
2. لم يكن التعريف حقيقياً – كما هو شرط المناطقة - .
3. لم يعتبر التعريف [ الترك ] فعلاً ، مع أنَّ المعلوم عكس ذلك .
والذي نرتضيه .. هو : تعريف النسفي ، مع القيد الذي أضفناه له .
,,,,,,,,,,,,,,,
وأغلب الفقهاء يسوي بين : العرف ، والعادة(1).
ومنهم .. من يرى بأن : العادة أعم من العرف ، وأوسع(2).
وأقول : المسألة مسألة اصطلاح ، و [ لا مشاحة في الاصطلاح ] ، ومعلومٌ أن الاصطلاح هو .. عرفٌ خاص ، فليتنبه لهذا(3).
,,,,,,,,,,,,,,,,
والعرف .. قد : يكون عملياً ، وقد يكون قولياً .
فالعرف العملي : هو ماجرى عليه العمل ، سواءٌ أ كان ذلك عاماً .. مثل دخول الحمام من غير تعيين زمن ، ولا أجرة ، أو خاصا ببلد .. مثل كون رأس المال لاهل البوادي هو الأنعام .
أما العرف القولي : فهو ما كان من الألفاظ ، ووضعها للدلالة على معنىً معيَّنٍ ، فإن كان بين فئةٍ من الناس .. فهو : [ خاص ] كاطلاق الجيولوجيين على الفحوص التي يجرونها في الأرض عن طريق التفجيرات .. [ الفحص الزلزالي ] ، مع أنَّ للزلازل معنىً لغوياً معروفاً هو غير هذا ! .
وإن بين جميعهم .. فهو : [ عام ] ، كإطلاق لفظ [ الدابة ] على ذوات الأربع ، وهي في اللغة لكلِّ ما يدِبُّ على الأرض ! .
فالأعراف اللغوية هي من : [ المجاز ] ، أي .. ما جاوزنا به معناه إلى غيره ، مع قرينةٍ تمنع إرادة الأصل .
وقد تنقلب المجازات – بأنواعها – إلى حقائق .. بشرطين :
1. التبادر عند الاطلاق .
2. وعدم جواز نفيها .
__________
(1) منهم ابن عابدين ، وصاحب المستصفى ، ومن الاساتذة المحدثين د.عبد الكريم زيدان ود.مصطفى الزلمي وعبد الوهاب خلاف .
(2) منهم ابن امير حاج ، والقرافي . ويذهب ابن الهمام في التحرير الى القول بأن العرف أعم من العادة .
(3) نثار العقول / المرجع السابق - .(1/4)
فهناك – حينئذٍ – حقائق : شرعية ، وعرفية خاصَّة تتنوع إلى أنواع الأعراف الخاصَّة ، وعرفية عامَّة إذا كانت لدى الكافَّة .
,,,,,,,,,,,,,,
وقد وضع الفقهاء المسلمون شروطاً لأجل اعتبار العرف ، وللعمل به ، من أهمها :
1. أن يكون العرف مطَّرداً .. أو غالباً ، قال في [ الأشباه والنظائر ] : [ إنما تعتبر العادة اذا اطردت ، أو غلبت ، أما الشهرة فلا عبرة بها ](1).
2. أن يكون العرف عاماً – على رأي بعضٍ - ، فقد ثار خلاف حول العرف الذي يعتبر في بناء الأحكام .. هل هو العرف العام فقط ، أم مطلق العرف ؟ .
أقول : والذي عليه العمل ، هو .. اعتبار العرف الخاص في ترك القياس ، وفي تخصيصه ، فحينما تعارف أهل [ بلخ ] على إعطاء النسَّاج جزءً من المنسوج أجرةً له ، فلإنما حرمة ذلك قد ثبتت قياساً على [ قفيز الطحان ] الذي ورد به صريح النهي عن الرسول عليه السلام ، فخصَّ القياس بالعرف الخاص(2).
3. أن لايكون العرف مخالفاً للشرع .
4. أن يكون العرف الذي يحمل عليه التصرف موجوداً وقت إنشاء التصرف ، بأن يكون حدوث العرف سابقاً على وقت التصرف ، ثم يستمر إلى زمانه .. فيقارنه ، سواء أ كان التصرف : قولاً ، أم فعلاً .
ويقول صاحب الأشباه(3): [ والعرف الذي تحمل عليه الالفاظ إنما هو المقارن(4)السابق ، لا المتأخر ، ولذا قالوا : لاعبرة بالعرف الطارئ ] .
،،،،،،،،،،،،،،،،
__________
(1) الاشباه لابن نجيم ، ج1 ، ص128 . البركتي ، القواعد الفقهية ، القاعدة رقم 55 .
(2) مشايخ بلخ من الحنفية للدكتور محمد محروس المدرس – 2 / .
(3) الاشباه ، ج1 ، ص 133 .
(4) يقول شارحه الحموي تعليقا على عبارة المقارن السابق : أي السابق لوقت اللفظ واستقر حتى صار في وقت الملفوظية ، واما المقارن الطارئ فلا اثر له ولا ينزل عليه اللفظ السابق . نقلا من محمد مصطفى شلبي ، المدخل في التعريف بالفقه الاسلامي ، دار النهضة العربية ، 1969 ، ص 264 .(1/5)
ولقد راعى الشارع الحكيم العرف الصالح ، إذ أنه نزع الناس عما تعارفوا وساروا عليه ، فيه حرج عظيم ، لذا يواجه الانبياء حرج كبير ، لانهم يقومون بنزع الناس عن أعرافهم الفاسدة .
ولقد راعت الشريعة الاسلامية الاعراف التي كانت سائدة في الجاهلية ، واقرت الصحيح منها ، وألغت المخالف للشرع ، وأمثلته كثيرة ..
فمن المقرِّ : البيع ، والشركة ، والوكالة ، والرهن ، والإجارة .. وغيرها .
ومما ألغته : ما يحميه الملوك لأنفسهم من الأرضين ، وبيع المنابذة ، وبيع الملامسة ، وتلقي الركبان ، وبيع الحاضر للباد .. الخ .
المبحث الثالث
الغرض من الكفاءة
لقد اختلف الفقهاء في اعتبار شتراط الكفاءة :
فذهب بعض الحنفية - ومنهم الكرخي - ، والحسن البصري من التابعين : إلى عدم اعتبارها ، وأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : [ الأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ لا تُعْتَبَرَ الْكَفَاءَةُ فِي النِّكَاحِ أصلاً ; لِأَنَّ الْكَفَاءَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِيمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ النِّكَاحِ , وَهُوَ الدِّمَاءُ فَلَأَنْ لَا تُعْتَبَرُ فِي النِّكَاحِ أَوْلَى ](1).
__________
(1) المبسوط ، للسرخسي ج5 . والبدائع -2 / 317 .(1/6)
وذهب الأكثر من فقهاء الحنفية : إلى اعتبارها ، وَوَجْهُ اعْتِبَارِهَا عِنْدَهُمْ , أَنَّ انْتِظَامَ الْمَصَالِحِ يَكُونُ عَادَةً بَيْنَ الْمُتَكَافِئَيْنِ , وَالنِّكَاحُ شُرِعَ لانْتِظَامِهَا , ولا تَنْتَظِمُ الْمَصَالِحُ بَيْنَ غَيْرِ الْمُتَكَافِئَيْنِ , فَالشَّرِيفَةُ تَأْبَى أَنْ تَكُونَ مُسْتَفْرَشَةً لِلْخَسِيسِ , وَتُعَيَّرُ بِذَلِكَ ; ولأنَّ النِّكَاحَ وُضِعَ لِتَأْسِيسِ الْقَرَابَاتِ الصِّهْرِيَّةِ , لِيَصِيرَ الْبَعِيدُ قَرِيبًا عَضُدًا وَسَاعِدًا , يَسُرُّهُ مَا يَسُرُّك , وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلاَّ بِالْمُوَافَقَةِ وَالتَّقَارُبِ , ولا مُقَارِبَةَ لِلنُّفُوسِ عِنْدَ مُبَاعَدَةِ الأنْسَابِ , وَالاتِّصَافِ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ , فَعَقْدُهُ مَعَ غَيْرِ الْمُكَافِئِ قَرِيبُ الشَّبَهِ مِنْ عَقْدٍ لا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَقَاصِدُهُ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْمُخْتَارَةِ لِلْفَتْوَى عِنْدَهُمْ - ، وَاللَّخْمِيُّ ، وَابْنُ بَشِيرٍ ، وَابْنُ فَرْحُونٍ ، وَابْنُ سَلْمُونٍ - مِنْ الْمَالِكِيَّةِ - ، وهوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ : إلَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ(1).
__________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتة .(1/7)
وقالوا : إذا كانت الكفاءة مطلوبة في الْقِتَالِ ، فَفِي النِّكَاحِ أَوْلَى .. [ هَذَا لِأَنَّ النِّكَاحَ يُعْقَدُ لِلْعُمُرِ , وَيَشْتَمِلُ عَلَى أَغْرَاضٍ وَمَقَاصِدَ مِنْ : الصُّحْبَةِ ، وَالْأُلْفَةِ ، وَالْعِشْرَةِ ، وَتَأْسِيسِ الْقَرَابَاتِ , وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بَيْنَ الْأَكْفَاءِ , وَفِي أَصْلِ الْمِلْكِ عَلَى الْمَرْأَةِ نَوْعُ ذِلَّةٍ , وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ :{ النِّكَاحُ رِقٌّ ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ أَيْنَ يَضَعُ كَرِيمَتَهُ } ، وَإِذْلَالُ النَّفْسِ حَرَامٌ , قَالَ : صلى الله عليه وسلم : { لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ } ، وَإِنَّمَا جُوِّزَ مَا جُوِّزَ مِنْهُ ; لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ , وَفِي اسْتِفْرَاشِ مَنْ لَا يُكَافِئُهَا زِيَادَةُ الذُّلِّ , وَلَا ضَرُورَةَ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ فَلِهَذَا اُعْتُبِرَتْ الْكَفَاءَةُ ... ](1).
وقالوا : [ .. إذ الكفاءة وضعت لغرض استمرار العلاقة الزوجية ، فالمرأة بطبيعتها تأبى أن تكون مستفرشة لمن هو أدنى منها ، ذلك لان دناءة الفراش تغيضها ، وتجلب لها ولأوليائها العار ، والمرأة تتعير كذلك إذا كان زوجها أقل شأنا منها ، إضافة إلى ذلك فالولد سوف يتسمى بأسم الاب ](2).
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
المبحث الرابع
في نطاق اعتبار الكفاءة
__________
(1) المبسوط ، السرخسي - ج5 .
(2) راجع الهداية شرح البداية - ج1 / 200 . وقال صاحب البحر الرائق شرح كنز الدقائق : [ إن المصالح لاتنتظم إلا بين المتكافئين عادة ، ولأن الشريفة تأبى أن تكون مستفرشة للخسيس ، بخلاف زوجها ، لان الزوج مستفرِش فلا تغيظه دناءة الفراش ] . لقد أخذت العديد من قوانين الاحوال الشخصية العربية بالكفاءة فنص عليها : القانون السوري ، والاردني ، وقد تأثرت أغلب القوانين التي نصت عليها بالمذهب الحنفي .(1/8)
لقد اختلف الفقهاء فيما يعد من الكفاءة ..
فمذهب الحنفية هو : اعتبارها في أمور ستة هي .. النسب ، الاسلام ، الحرية ، المال ، الديانة ، الحرفة .
ومذهب لشافعية : اعتبارها في .. النسب ، والسلامة من العيوب ، والدين ، والصلاح ، والحرفة ، والحرية .(1)ولم يذكر الكفاءة في المال او اليسار
أما الحنابلة .. فقد وردت عنهم روايتان عن الامام أحمد : أحدهما كالمذهب الشافعي - ماعدا السلامة من العيوب - . والاخرى اعتبرت الكفاءة في : التقوى ، والنسب ، واختلفت فيما عداها .
أما الامام مالك : فلم يعتبر الكفاءة في النسب ، ولا في الصناعة ، ولافي المال أو الغنى ، إنما الكفاءة – عنده - في : التدين ، والتقوى ، والسلامة من العيوب .. وفي الحرية عنه روايتان .. إحداهما تعتبرها ، والأخرى لا .
إن اختلاف أئمة المذاهب حول خصال الكفاءة ، بل واختلاف أئمة المذهب الواحد حول هذه الخصال دليل على أن مايعتبر من الكفاءة هي مسألة نسبية مختلف عليها ، يعود تقديرها الى طبيعة الزمان والمكان .
إن خصال الكفاءة لم يتم تحديدها كما حددت مصارف الزكاة الواردة في آية الزكاة ، وبالتالي كانت مثار خلاف بين الفقهاء ، وتحديد ما يعتبر منها كان مصدره الاساس هو ما تعارف عليه الناس ، ولذا اختلفت احكام الكفاءة باختلاف البقاع والازمان .
وقد أشار بعض الفقهاء إلى هذه الحقيقة بصورة عرضية .. : قال في البدائع : [ فَلَا يَكُونُ الْفَقِيرُ كُفْئًا لِلْغَنِيَّةِ ; لِأَنَّ التَّفَاخُرَ بِالْمَالِ أَكْثَرُ مِنْ التَّفَاخُرِ بِغَيْرِهِ عَادَةً , وَخُصُوصًا فِي زَمَانِنَا هَذَا ] . فقوله .. خصوصا في زماننا ، إشارة إلى أنه قد قاس هذا الحكم على عرف زمانه .
__________
(1) مغني المحتاج – 3 / 166 ، وراجع : محاضرات في عقد النكاح لمحمد أبو زهرة – 190 إلى 191 .(1/9)
وبمناسبة الكلام عن الكفاءة في الحرفة ، أشار إلى رأي الإمام أبي حنيفة رحمه الله ، إلى كونها عرفية ، فقال : [ وَأَمَّا الْحِرْفَةُ , فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي الْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ , فَلَا يَكُونُ الْحَائِكُ كُفْئًا لِلْجَوْهَرِيِّ وَالصَّيْرَفِيِّ , وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ بَنَى الْأَمْرَ فِيهَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّ مَوَالِيهمْ يَعْمَلُونَ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا يَقْصِدُونَ بِهَا الْحِرَفَ , فَلَا يُعَيَّرُونَ بِهَا , وَأَجَابَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْبِلَادِ أَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ حِرْفَةً , فَيُعَيَّرُونَ بِالدَّنِيءِ مِنْ الصَّنَائِعِ , فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِي الْحَقِيقَةِ . وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ اعْتِبَارَ الْكَفَاءَةِ فِي الْحِرْفَةِ ](1).
ففي هذا النص إشارة واضحة إلى أن الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه ، قد بنى الأمر على عرف العرب في ذلك الزمان ، فإذا تغير الزمان .. فلامانع من تغير الحكم مادام الحكم قد بني على العرف ، ومعلومٌ أنَّه : [ لا ينكر تغير الأحكام بتغيِّر الأزمان ] ، وحقيقته أن الزمان لا يتغير ، وإنما أهل الزمان .. وبالتالي عملهم ! .
كذلك نرى الإمام أبا يوسف .. قد بنى الحكم على عادة أهل البلاد .
... وقال ابن الهمام في الفتح (( فاذا ثبت اعتبار الكفاءة بما قدمنا – أي بالادلة المذكورة سابقا- فيمكن ثبوت تفصيلها بعرف الناس فيما يحقرونه ويعيرون به ، فيستأنس بالحديث الضعيف في ذلك ))(2)وقال ان المعتبر في شرف الحرفة ودنائتها هو العرف في كل زمان ومكان ، والمعول عليه في تقارب المهن وتباعدها هو العرف .
ولكونها عرفية ، نراهم اختلفوا في أمور :
1. في ديانة الرجل ..
__________
(1) بدائع الصنائع ، ج2 .
(2) الفتح ، ج2 ، ص418 .(1/10)
يرى محمد : اعتبارها إلا أن يكون الفاسق مهيبا وذا شوكة بين الناس .
ولم يعتبرها أبو حنيفة مطلقا ، لان الفسق قابل للزوال .
وقال نفس القول أبو يوسف ، إلا اذا كان الفاسق يجهر بفسقه بين الناس ، فإنه لايكون كفئا للصالحة بنت الصالح(1).
2. الحرفة ..
فقد اعتبرها ابو يوسف ومحمد .
ولم يعتبرها ابو حنيفة .
وروي عن أبي يوسف .. مثل قول أبي حنيفة ، إلا أن تكون الحرفة فاحشة في الدنو .. كالحجام ، والدباغ ، وسائق الدواب .
3. المال ..
لقد اختلفت الروايات حول معنى الكفاءة في المال .. فمنهم من عنى بها القدرة على دفع المهر ، ومنهم من قصد منها القدرة على دفع النفقة(2).
4.الحسب ..
فالمَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ قولهَ : اعتبارها ، حَتَّى إنَّ الَّذِي يَسْكَرُ فَيَخْرُجُ فَيَسْتَهْزِئُ بِهِ الصِّبْيَانُ لَا يَكُونُ كُفْئًا للمْرَأَةٍ الصَالِحَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ . وَكَذَلِكَ أَعْوَانُ الظَّلَمَةِ مَنْ يُسْتَخَفُّ بِهِ مِنْهُمْ لا يَكُونُ كُفُؤًا لامْرَأَةٍ صَالِحَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَهِيبًا يَعْظُمُ فِي النَّاسِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ : الَّذِي يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ .. فَإِنْ كَانَ يُسِرُّ ذَلِكَ فلا يَخْرُجُ سَكْرَاناً ، كَانَ كُفْئًا , وَإِنْ كَانَ يُعْلِنُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كُفْئًا لامْرَأَةٍ صَالِحَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ .
وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى .. شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ , وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، لأنَّ هَذَا لَيْسَ بلازِمٍ حَتَّى لَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ..(3).
__________
(1) السرخسي في المبسوط ، وراجع : أبو زهرة – المرجع السابق .
(2) أبو زهرة – 188 .
(3) المبسوط للسرخسي ج5 ، البحر الرائق – 4 / 133 .(1/11)
وما تقدم يشير إلى أن أحكام الكفاءة قد بنيت على الأعراف السائدة في أزمانهم ، فالامام ابو يوسف لايعتبر أعوان الظلمة كفئا لامرأة صالحة إذا كان يستخف به ، ولكنه يعتبره كفئا إذا كان مهيباً في أعين الناس ، أي .. أنه جعل المسالة معلقة على ماينظر إليه الناس !! .
ولا نريد التوسع في ذكر الآراء في هذه المسألة الخلافية ، وإنما قصدنا فقط الإشارة إلى الاختلاف حول خصالها في الزمن المتقارب بين أئمة مذهبٍ واحدٍ ! ، فما ظنك بتباعد الأماكن ، والأزمان ؟ ! .
ويؤكد هذا الأمر الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله : إذ يعتبر الكفاءة من الامور الخاضعة للعرف ، لان استمرار الحياة الزوجية يستلزم وجود تقارب بين أسرتي الزوج والزوجة .
المبحث الخامس
العرف وأثره في الوقت الحاضر
إن الشريعة الاسلامية قد قررت أن لتغيِّر الأوضاع والأحوال الزمنية تأثيراً كبيراً في الاحكام الشرعية الاجتهادية ، فالشرع الاسلامي يهدف إلى : إقامة العدل ، وجلب المصالح ، ودرء المفاسد .. ولهذا وجد الكثير من الأحكام التي : تختلف باختلاف الناس وأحوالهم ، وتبدل ظروفهم ومصالحهم ، فالشارع إن وضع حكماً واحداً لما يمكن أن يتغير ، فإن كثيراً من الناس سيصاب بكثير من الجهد والعسر ، وهذا يؤدي الى خلاف ما يقصده الاسلام الذي بنى أحكامه على مصالح العباد ، لذا نجد المشرع قد وضع أحكاماً مطلقة عن البيان والتفصيل ، يمكن تطبيقها بمراعاة الظروف والأحوال ، وقد تتغير تبعاً لذلك ، وبالتالي يبقى الفقه الاسلامي صالحاً لكلِّ زمان ومكان .. فلولا الأحكام القابلة للإجتهاد لما صحَّت هذه المقولة ! .(1/12)
ولذا أفتى الفقهاء المتأخرون - من شتى المذاهب الفقهية - في كثير من المسائل ، مخالفين ما أفتى به أئمة مذاهبهم ، أو فقهائهم السابقين ، وصرح هؤلاء المتأخرون بأن سبب اختلاف فتواهم عمن سبقهم ، هو اختلاف الزمان .. لا غير ، فهم ليسوا في الحقيقة مخالفين للسابقين من فقهاء مذاهبهم ، بل لو وجد الائمة السابقون في عصر المتأخرين ، ورأوا الاختلاف في الأعراف ، والطبائع ، والحاجات ، بل واختلاف الوسائل .. لعدلوا الى ما قاله المتأخرون(1).
لقد كان الاحناف أكثر المذاهب توسعاً في الأخذ بالعرف ، فقد كتب ابن عابدين – من المتأخرين - رسالته الشهيرة : [ نشر العرف في بناء بعض الاحكام على العرف ] ، ووضعوا العديد من القواعد المستنبطة من فروعهم ، والدَّالة على اعتبار العرف في الأحكام فيما لا نصَّ ولا إجماع فيه ، ونذكر جملة من هذه القواعد :
[ العادة محكَّمة ](2).
[ الحقيقة تترك بدلالة العادة ](3).
[ استعمال الناس حجة يجب العمل بها ](4).
[ المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً ](5).
[ التعيين بالعرف كالتعيين بالنص ](6).
[ لاينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان ](7).
[ العادة تجعل حكماً إذا لم يوجد التصريح بخلافه ](8).
[ العادة معتبرة في تقييد مطلق الكلام ](9).
[ المعروف بين التجار كالمشروط بينهم ](10).
[ الثابت بالعرف كالثابت بالنص ](11).
__________
(1) وراجع : رسالة [ نشر العرف ] لإبن عابدين في مجموعة رسائله .
(2) المادة [40 ] من مجلة الأحكام العدلية ، وذكرها البركتي في قواعده الفقهية : القاعدة رقم [ 126 ] .
(3) المادة [40 ] من المجلة .
(4) المادة [ 37 ] من المجلة .
(5) المادة [ 43 ] من المجلة ، البركتي - القاعدة [ 334 ] .
(6) المادة [ 45 ] من المجلة ، البركتي - القاعدة [ 88 ] .
(7) المادة 39
(8) البركتي - القاعدة [ 125 ] .
(9) البركتي - القاعدة [ 127 ] .
(10) البركتي - القاعدة [ 335 ] .
(11) البركتي - القاعدة [ 101 ] .(1/13)
ويقول ابن عابدين في رسالته عن العرف : [ على أن المفتي ليس له الجمود على المنقول في كتب ظاهر الرواية من غير مراعاة الزمان وأهله ، وألا يضيَّع حقوقاً كثيرةً ، ويكون ضرره أعظم من نفعه ](1).
لذا فقد خالف المتأخرون الإمام وصاحبيه في مسائل عديدة ، استناداً لتغير الأحوال .. منها : قولهم بجواز أخذ الاجرة عن : تعليم القرآن ، والآذان ، والإمامة .. خلافا لما قال به الامام وصاحبيه .
ومنها : أن أبا حنيفة رضي الله عنه ، اكتفى في الشهود بالعدالة الظاهرة فيما عدا : الحدود ، والقصاص ، ولم ير تزكيتهم ، استنادا لقول الرسول عليه السلام : { المسلمون عدول بعضهم على البعض } ، وكان هذا الاجتهاد مناسبا لزمان الإمام رضي الله عنه ، لغلبة الخير فيه ، فلما كان زمان .. أبي يوسف .. ومحمد .. وفشا فيه الكذب ، كان الأخذ بظاهر العدالة فيه مفسدة ، وضياع الحقوق ، فدعا فساد الزمان إلى قولهما بتزكية جميع الشهود ، درءً لهذه المفسدة !! ، ولذا قال الفقهاء عن هذا الخلاف : إنه اختلاف عصر وزمان ، وأفتوا بقول الصاحبين(2).
واستنادا لهذا فإن العلماء اعتبروا العرف أصلاً من أصول الاستنباط تبنى عليه الأحكام فيما لاإجماع ولا نصَّ فيه ، لأن .. ما تعارف عليه الناس وساروا عليه صار من حاجاتهم ، ومتفقاً ومصالحهم ، فما دام لا يخالف الشرع ، وجبت مراعاته .
__________
(1) نشر العرف _ مجموعة رسائل ابن عابدين / ج2 الرسالة 31 .
(2) العرف والعادة في رأي الفقاء لأحمد فهمي أبو سنة - ص88 . إضافة إلى امثلة أخرى ذكرها أبو سنة رحمه الله في كتابه . وأورد الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء أمثلةً أخرى ، في كتابه المدخل الفقهي العام / الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد - 1 / 926 إلى 929 .(1/14)
إنَّ الشارع الحكيم قد راعى الصحيح من أعراف العرب في التشريع(1)، ولم يرعَ السقيم منها ، بل .. ألغاه ، وعلى هذا المنوال يجري اعتبار العرف في الأحكام – وقد مرَّ في مبحث شروطه قبلاً - .
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
وفي ظني .. أن الكفاءة : من الامور التي تعتمد اعتماداً كبيراً على العرف ، بل إن الشيخ أحمد فهمي أبو سنة يذهب إلى .. اعتبار الكفاءة من أعراف العرب القديمة التي أقرها الاسلام وأبقاها ، مثل باقي الاعراف(2)!! .
وبما أن الاعراف في زماننا قد تغيرت تغيراً كبيراً عما كانت عليه في زمن الفقهاء المتقدمين ، فإن ذلك يستوجب تغيير النظرة إلى خصال الكفاءة ، بل .. ومعنى كل خصلة من هذه الخصال ، لكي نحقق مقصود الشارع الحكيم ، في استمرار العلاقات الزوجية واستقرارها .
إن المرأة في الوقت الحاضر أخذت تدرس في الجامعات والمدارس المتنوعة ، وأصبحت عاملة في مختلف المجالات ، فنجد : الطبيبة ، والمهندسة ، والمدرِّسة .. الخ ، وأصبحت تتقاضى الأجور عن عملها .
والتقدم العلمي الكبير الحاصل في مجال التكنولوجيا في دول الغرب ، قد غيَّر الكثير من المفاهيم في العالم – ومن جملتهم المسلمين - ، فالأميَّة في أوربا أضحت تعني .. من لا يتقن استخدام أجهزة الحاسوب [ الكومبيوتر ] ، في حين ما زالت دول [ العالم الثالث ] ، والدول النامية ، تعاني من الأميَّة بمفهومها التقليدي القديم ، أي : عدم معرفة القراءة والكتابة ! ، ولقد أصبحت الحياة في : أوربا ، وأميركا ، واليابان ، وكثيرٍ من الدول .. تعتمد اعتماداً كبيراً .. على الأجهزة المتطورة ، والمتقدمة تقنيَّاً ، بينما ما زالت الدول الفقيرة تعتمد في إدارة شؤونها على الوسائل التقليدية .
وأقول .. في ضوء ذلك ألا تتغير مفاهيم الكفاءة لدينا ؟ ! .
__________
(1) علم اصول الفقه لعبد الوهاب خلاَّف - 90 .
(2) أبو سنة ، المرجع السابق - 72 ، خلاَّف - الموضع السابق .(1/15)
ففي مجال الحرفة كان ينظر .. إلى : حرفة الأب ، ذلك لأن الغالب هو عمل الأب ، ونادراً ماكانت المرأة تعمل في العصور السابقة ، وهذا ما ذكره فقهاؤنا حول شرط الحرفة مثلا : [.. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ ، حَتَّى إنَّ : الدَّبَّاغَ ، وَالْحَجَّامَ ، وَالْحَائِكَ ، وَالْكَنَّاسَ ، لا يَكُونُ كُفُؤًا لِبِنْتِ الْبَزَّازِ ، وَالْعَطَّار, وَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْعَادَةَ فِي ذَلِكَ ](1).
وفي مجال العلم نظر فقهاؤنا المتقدمون .. إلى : مقدار علم الاب ، فقالوا بأن بنت العالم لايكافؤها أحد ، لأن شرف العلم فوق شرف المال والنسب(2).
استنادا لهذا الاتتغير مفاهيم خصال الكفاءة في ضوء الظروف الراهنة ؟! ، هل سنستمر بالنظر الى مهنة الاب والمرأة اصبحت عاملة في مختلف الميادين ؟! ، هل نتجاهل مقدار تحصيل الفتاة من العلم ، ونبقى ننظر الى مقدار علم الاب !.
ان احكام الكفاءة تعتمد اعتماد كبير على اعراف المجتمعات ، وهذا ما اكده فقهائنا وما اشرنا الى بعضه سابقا(3).
إذن .. المرأة التي نشأت في بريطانيا ، وتعلمت هناك ، تكون قد نشأت في : ظروفٍ ، وأحوالٍ ، تختلف اختلافاً كبيراً عن ظروف وأحوال بلاد الهند .. بل كلُّ البلاد الشرقية ، وينبغي ذكر هذا في خصال الكفاءة – على ما نرى - ، ألا وهو : اختلاف البلاد ، واختلاف التعليم ! .
__________
(1) المبسوط ، السرخسي ، ج5 .
(2) الدر المختار - 3 /90 – 92 ، وقال : [ ذكره البزازي ، وارتضاه الكمال ] .
(3) راجع الصفحات 9 و 10 .(1/16)
أضف إلى ذلك .. أن أغلب النساء في مجتمعات مثل المجتمع البريطاني يكنَّ من المتعلمات ، ويتقنَّ التعامل مع وسائل الاتصال الحديث ، ومع الأجهزة المتقدمة علمياً ، خلافاً لحال الرجل الذي نشأ في الهند ، وترعرع فيها .. بل قل في شبيهتها من البلاد ، وبالتالي .. فإن هذا الرجل سيجد نفسه ضعيفاً تجاه زوجته ، بل قد يكون محط سخرية الآخرين ، لجهله ، واختلاف بيئته ، والتفاوت الكبير بينه وبين زوجته ، فإن لم تكن هي لتراعي ذلك ، فإن المجتمع سيعامله بسخريةٍ تحطُّ من قدره ، مما يجعله صغيراً في عيني زوجته ، وفي ذلك ما فيه من الضرر ، وأثره على تصدِّع العشرة ، وعدم استقرار الحياة الزوجية ، وستنعدم المودة والرحمة التي أرادها الله جلَّ وعلا بين الزوجين ! .
وفي ظني .. أن فقهاءنا عندما اشتروطوا التشابه والتقارب بين مهنة الاب ومهنة الزوج ، قصدوا التشابه بين بيئتي عيش المرأة ، في بيت أبيها .. وفي بيت زوجها .
وكذلك عندما اشترطوا اليسار في الزوج ، قصدوا أن يوفِّر هذا الزوج بيئةً للزوجة قريبة من البيئة التي نشأت ، وترعرت فيها .
وهنا .. قد يتبادر إلى الذهن السؤال الآتي : لمَ لمْ يعتبر فقهاؤنا ، عدم اختلاف البيئة سبباً من خصال الكفاءة ؟! ، حتى أنهم قالوا : [ أن القروي يكون كفئاً للمدني ](1)، فكيف تعتبرون اختلاف البلد في الوقت الحاضر سبباً من أسباب فقدان الكفاءة ؟ !.
ونقول .. لقد اعتبرنا ذلك حينما يكون الاختلاف بين أحوال البلدين كبيراً ، كاختلاف بريطانيا والهند ، بسبب : التقدم العلمي والتقني من جهة ، وبسبب : كون بريطانيا بلد تختلف تقاليده ، وأحواله عن البلاد الاسلامية والشرقية عموماً .
__________
(1) راجع : شرح فتح القدير للسيواسي – ج3 / ص298 .(1/17)
أما إذا كان البلدان متقاربين في : الظروف ، والاحوال ، والمستوى المعاشي ، وانتشار التعليم ، ونوعية العلوم التي تحصَّل .. فلا يعد الاختلاف سبباً من أسباب اختلاف الكفاءة ،كما هو الحال – مثلاً – بين : الهند ، والباكستان ، وبنغلاديش .
إن الاختلاف الذي ذكره فقهاؤنا كان يمثل الوضع السائد في زمانهم ، حيث لا يوجد فارق كبير بين القرية والمدينة ، أضف إلى أنهم تحدثوا .. عن : قرية ومدينه ضمن دار الاسلام ، ولم يتحدثوا عن الاختلاف بين دار الكفر .. ودار الاسلام !! .
النتائج
لما كان موضوع الكفاءة من المواضيع التي تعتمد اعتماداً كبيراً على العرف – كما توصلنا - ، وبينا أثر العرف على الاحكام ، وأن الكثير منها يتغير نتيجة تغيِّر الاعراف ... لذا فان المرأة التي ولدت في دول الغرب ، وعاشت هناك ، لايكون الرجل الذي ولد في دول العالم الثالث كفئاً لها .
ذلك أن العبرة في الكفاءة هي دفع العار والحرج عن الفتاة وأهلها ، بحيث لاتعيَّر ولا تحقَّر بزواجها من هذا الرجل ، وفق عرف البلد الذي تعيش فيه ، باعتبار ان الكفاءة شرعت لها ،
فاذا كان زواجها من هذا الرجل ، مما يجلب العار لها وفق مجتمعها ، ويكون مثار سخرية الاخرين ، فإنه لايكون كفئا لها .
ومن تبريراتهم لبعض صور الأخذ بخصال الكفاءة .. هو : قول محمد [ لاتعتبر - الديانة - لأنها من أمور الآخرة ، فلا تبنى أحكام الدنيا عليه .. إلا إذا كان : يصفع ، ويسخر منه ، أو يخرج إلى الأسواق سكراناً ، ويلعب به الصبيان ، لأنه مستخف به](1). وهذا القول واضح في دلالته ، فمحمد لايعتبر الكفاءة في الديانه لانها حسب رأيه من امور الآخرة ، الا اذا كان الرجل محل سخرية الآخرين .
__________
(1) البحر الرائق - 3 / 141 ، وبنفس المعنى أوردها صاحب الهداية شرح البداية .(1/18)
كذلك .. فإن الكفاءة شرعت لغرض استمرار العلاقة الزوجية ، وإنشاء عائلة تقوم بين عنصريها المودة والرحمة ، وعدم تحققُّ ذلك يفوِّت غرض الشارع الحكيم ، يقول تعالى:{ومن إياته أن خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لايات لقوم يتفكرون}(1).
والأحكام وإن كانت تربط بالعلل ، إلاَّ أن أصل ذلك هي الحِكَم ، التي عدل عنها الشارع الحكيم بسبب عدم انضباطها ، وانضباط العلة ، فالحكم هي كالعلل في هذا الباب .
والحمد لله ربِّ العالمين ~~
الدكتور / مروان محمد محروس المدرس الأعظمي
العراق / الأعظمية – محلة 314 / زقاق 88 / دار 41 .
تم تحميل هذا الكتاب من موقع الدكتور محمد محروس المدرس
www.almoodares.net
info@almoodares.net
__________
(1) الروم / 21 .(1/19)