سلسلة البحوث الأصوليّة
المقدَّمة لِنَيْل درجة الأستاذيّة
(1)
بلوغ المَرام
في
قواعد العامّ
الدكتور
إسماعيل محمد علي عبد الرحمن
أستاذ أصول الفقه المساعد بجامعة الأزهر
والأستاذ المشارك بجامعة الملك سعود بالرياض
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله ربّ العالَمين ، والصلاة والسلام على خاتَم النبيّين وأَشرَف المرسَلين سيدنا محمد ، وعلى آله وصحْبه أجمعين ..
وبَعْد ..
فإنّ الله عزّ وجلّ رفَع مكانة العِلْم والعلماء وأَعلَى شأنهم وبَيَّن فضْلهم ومنزلتهم في آيات كثيرة ، منها : قوله تعالى { وَالرَّسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } (1) ، وقوله تعالى { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلَئكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائمَا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم } (2) وقوله تعالى { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَؤا } (3) ، وقوله تعالى { يَرْفِعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَت } (4) ..
كما بَيَّن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّ طلب العِلْم الشّرعيّ والتفقه في الدين مِن أمارة توفيق الله تعالى لِعبْده وإرادة الخير له في قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّين } (5) .
(1) سورة آل عمران مِن الآية 7
(2) سورة آل عمران الآية 18
(3) سورة فاطر مِن الآية 28
(4) سورة المجادَلة مِن الآية 11(1/1)
(5) أَخرَجه البخاري عن معاوية - رضي الله عنه - في كتاب العِلْم : باب مَن يُرِد الله به خيراً يفقهه في الدين برقم ( 69 ) ومُسلِم عن معاوية - رضي الله عنه - في كتاب الزكاة : باب النهي عن المسألة برقم ( 1721 ) والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما في كتاب العِلْم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : باب إذا أراد الله بعبد خيراً فَقَّهه في الدين برقم ( 2569 ) .
أسأل العليّ القدير أنْ يرزقنا التفقه في الدين ومحبة المتفقِّهين العلماء العاملين .
ولَمّا كان فقْه الرجُل لا يَتحقَّق ولا يُسَمَّى " فقيهاً " إلا إذا كان عالِماً بقواعد استخراج الأحكام الشَّرعيَّة ـ وهو المسمَّى بـ" عِلْم أصول الفقه " ـ ولِذا وجبَت دراسته وفَهْم قواعده ؛ حتى لا يستخرج أحكاماً بِلا أصولٍ تابعةً لِهوى أو مَيْل شخصيّ .
وحيث إنّ عِلْم أصول الفقه مستمَدّ مِن عِلْم الكلام وعِلْم اللغة والأحكام الشَّرعيَّة ( تَصوُّرها ) كانت اللغة العربية أحد روافد عِلْم الأصول إنْ لم تكن طريقها الأوحد لاستنباط الأحكام ؛ وذلك لأنّ الكتاب والسُّنَّة ـ وهُمَا مَصدَر التشريع وإليهما تَرجع جميع أدلة الأحكام الشَّرعيَّة إمّا بطريق مباشر أو غيْر مباشر ـ لُغتُهما العربية ، ولا يَتأتى التعامل معهما بحثاً واستنباطاً لِلأحكام إلا بَعْد الوقوف على هذه الألفاظ وكيفية دلالتها على الأحكام ومعرفة ما فيها مِن حقيقة ومَجاز وعموم وخصوص وأمْر ونهْي وإطلاق وتقييد ومنطوق ومفهوم وغيْرها مِن المباحث اللغوية ، ومِن هنا خصَّص الأصوليّون قِسْماً كبيراً لِهذا الغرض (1) .
وفي هذا المقام يعجبني تعبير الشيخ خلاّف ـ رحمه الله لِهذه الدراسة اللغوية بـ" القواعد الأصوليّة اللغوية " (2) .(1/2)
ولَمّا كان العامّ أحد هذه القواعد الأصوليّة اللغوية ـ بل هو في ذاته محتوٍ على مسائل شتَّى ، كُلّ مسألة تُعَدّ قاعدةً ـ فقدْ شرَح الله تَبارَك وتعالى صدري لِلبحث فيه كبحْث أول لِبحوث الترقية لِدرجة الأستاذية ؛
(1) يُراجَع : قواطع الأدلة 1/34 والإشارة /156 وبذْل النظر /13 وشرْح الورقات 1/313 والمحصول 1/55 والتقريب والإرشاد 1/312 والبحر المحيط 2/5 والمنهاج مع الإبهاج 1/191
(2) عِلْم أصول الفقه لِخلاّف /147
لِمَا يلي :
1- جَمْع شتات العامّ ومسائله في مصنَّف مستقِلّ .
2- الوقوف على مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم في مسائل العموم ، وترجيح ما أَراه أَوْلى بذلك .
3- الوقوف على أهميَّة العامّ ومنزلته عند الأصوليّين .
4- بيان أثر العامّ في الأحكام الشَّرعيَّة وكيف طَبَّق الفقهاء قواعده عند استخراجه لِلأحكام .
5- صياغة مسائل العامّ بصيغة قواعد يَسهُل الرجوع إليها وحِفْظها ، وقد صُغْتُها وفْق المرجَّح في كُلّ مسألة .
وقد سَمَّيْتُ هذا البحث بـ" بلوغ المرام (1) في قواعد العامّ " مقتبِساً إيّاه مِن " بلوغ المرام مِن أدلة الأحكام " لابن حَجَر العسقلاني رحمه الله(2).
كما قسَّمتُ سَيْر البحث فيه إلى هذه المقدمة وأربعة فصول وخاتمة ، وفْق الخطة التالية :
الفصل الأول : تعريف العامّ ومدلوله وصيغه وألفاظه :
وفيه تمهيد ومبحثان :
التمهيد في : موقع العامّ عند الأصوليّين .
(1) والمَرام : مِن " رُمْت الشيء أَرُومه رَوْماً ومَراماً " طلَبْتُه ، فالمرام هو المَطلَب ، فيَكون المراد ببلوغ المرام بلوغ الطلب ..
المصباح المنير 1/246 ومختار الصحاح /285
(2) ابن حَجَر العسقلاني : هو شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علِيّ بن محمد الكناني العسقلاني المصري الشافعي ، وُلِد بمِصْر سَنَة 773 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الإصابة في تمييز الصحابة ، الدرر الكامنة ، بلوغ المرام .
تُوُفِّي بمصر سَنَة 852 هـ .(1/3)
الأعلام 1/178 وشذرات الذهب 7/273
المبحث الأول : تعريف العامّ ومدلوله ودلالته .
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : تعريف العامّ لغةً واصطلاحا .
المطلب الثاني : الفَرْق بيْن العامّ وغيْره .
المطلب الثالث : العموم مِن عوارض الألفاظ أم داخِل في حقيقتها .
المطلب الرابع : مدلول العامّ ودلالته ومعياره .
المبحث الثاني : صيغ العموم وألفاظه .
وفيه ستة مطالب :
المطلب الأول : صيغ العموم .
المطلب الثاني : صيغ العموم حقيقة في العموم أم لا ؟
المطلب الثالث : ألفاظ العموم .
المطلب الرابع : الجَمْع المعرَّف بالألِف واللام أو الإضافة والجَمْع المُنَكَّر وأَقَلّ الجَمْع .
المطلب الخامس : المفرَد المحلَّى بالألِف واللام والأسماء المبهمة .
المطلب السادس : النكرة في سياق النفي والأسماء المؤكدة وألفاظ معناها العموم .
الفصل الثاني : تمييز ما يُمكِن دعوى العموم فيه :
وفيه تمهيد وثلاثة مباحث :
التمهيد في : تمييز ما يمكن دعوى العموم فيه .
المبحث الأول : عموم اللفظ ، والمقتضى ، والمفهوم ، والمشترك ، والجَمْع المضاف .
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : العِبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
المطلب الثاني : عموم المقتضى .
المطلب الثالث : عموم المفهوم .
المطلب الرابع : عموم المشترك .
المطلب الخامس : الجَمْع المضاف إلى جَمْع .
المبحث الثاني : الفعل المتعدِّي ، والمثبت ، والحُكْم المُعَلَّق على علة ، والعطف على العامّ .
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : الفعل المتعدِّي في سياق النفي أو الشرط .
المطلب الثاني : الفعل المثبت .
المطلب الثالث : قول الصّحابيّ : نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَن كذا .
المطلب الرابع : الحُكْم المُعَلَّق على علة .
المطلب الخامس : العطف على العامّ .
المبحث الثالث : تَرْك الاستفصال ونَفْي المساواة وسوْق العامّ لِغرض آخَر .
وفيه ثلاثة مطالب :(1/4)
المطلب الأول : تَرْك الاستفصال في حكاية الحال .
المطلب الثاني : نَفْي المساواة بيْن الشيئيْن .
المطلب الثالث : سَوْق العامّ لِغرض آخَر كالمدح والذّمّ .
الفصل الثالث : الخطاب العامّ وتَعارُض العموميْن والعامّ بَعْد
تخصيصه :
وفيه ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : الخطاب العامّ المختلَف في عمومه .
وفيه تمهيد وتسعة مطالب :
المطلب الأول : خطاب الله تعالى نبيّه - صلى الله عليه وسلم - .
المطلب الثاني : خطاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لِواحد مِن أُمّته .
المطلب الثالث : خطاب الأُمَّة هل يدخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عمومه ؟
المطلب الرابع : المخاطِب هل يدخل في عموم خطابه ؟
المطلب الخامس : الخطاب العامّ هل يدخل فيه العَبِيد ؟
المطلب السادس : الخطاب العامّ لِجَمْع المذكَّر هل يعمّ الإناث ؟
المطلب السابع : الخطاب الشّفاهيّ هل يعمّ الغائب والمعدوم ؟
المطلب الثامن : خطاب أهْل الكتاب هل يعمّ الأُمَّة ؟
المطلب التاسع : خطاب العامّ هل يعمّ الكفار ؟
المبحث الثاني : تَعارُض العموميْن .
وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : القاعدة في دفْع تَعارُض العموميْن .
المطلب الثاني : الترجيح بيْن صِيَغ العموم المتعارضة .
المطلب الثالث : تَعارُض العامّ والخاصّ .
المبحث الثالث : العامّ بَعْد تخصيصه وحُجِّيّة العامّ المخصّص .
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : العامّ بَعْد تخصيصه .
المطلب الثاني : حُجّية العامّ المخصَّص .
المطلب الثالث : الاستدلال بالعامّ قَبْل البحث عن المخصّص .
المطلب الرابع : أَقَلّ العامّ الباقي بَعْد التخصيص .
الفصل الرابع : أثر العامّ في الأحكام :
وفيه تمهيد وخمسة فروع :
التمهيد في : أثر القواعد الأصوليّة في الأحكام الشَّرعيَّة .
الفرع الأول : نِصَاب زكاة الزروع والثمار .
الفرع الثاني : التسمية عند الذبح .
الفرع الثالث : قَتْل المرأة المرتَدّة .(1/5)
الفرع الرابع : قيام الليل .
الفرع الخامس : قَتْل المسلِم بالذِّمِّيّ .
الفصل الأول
تعريف العامّ ومدلوله وصيغه وألفاظه
وفيه تمهيد ومبحثان :
التمهيد في : موقع العامّ عند الأصوليّين .
المبحث الأول : تعريف العامّ ومدلوله ودلالته .
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : تعريف العامّ لغةً واصطلاحا .
المطلب الثاني : الفَرْق بيْن العامّ وغيْره .
المطلب الثالث : العموم مِن عوارض الألفاظ أم داخِل في حقيقتها .
المطلب الرابع : مدلول العامّ ودلالته ومعياره .
المبحث الثاني : صيغ العموم وألفاظه .
وفيه ستة مطالب :
المطلب الأول : صيغ العموم .
المطلب الثاني : صيغ العموم حقيقة في العموم أم لا ؟
المطلب الثالث : ألفاظ العموم .
المطلب الرابع : الجَمْع المعرَّف بالألِف واللام أو الإضافة والجَمْع المُنَكَّر وأَقَلّ الجَمْع .
المطلب الخامس : المفرَد المحلَّى بالألِف واللام والأسماء المبهمة .
المطلب السادس : النكرة في سياق النفي والأسماء المؤكدة وألفاظ معناها العموم .
تمهيد
في موقع العامّ عند الأصوليّين
إنّ الوقوف على موقع العامّ عند الأصوليّين يَستدعي أنْ نبيِّن تقسيمات اللفظ عندهم ، والتي تَختلف عند الحنفية عن غيْرهم ..
فبعض الحنفية قسَّموا اللفظ إلى تقسيمات أربعة :
التقسيم الأول : باعتبار وضْعه له .
والتقسيم الثاني : باعتبار استعماله فيه .
والتقسيم الثالث : باعتبار ظهور المعنى وخفائه ومراتبهما .
والتقسيم الرابع : باعتبار كيفية دلالته .
والتقسيم الأول : اللفظ إنْ وُضِع لِكثير وضعاً متعدِّداً فمشترَك ، أو وضعاً واحداً والكثير غيْر محصور فعامّ إن استغرَق جميع ما يَصلُح له وإلا فجَمْع مُنَكَّر ونحْوه ، وإنْ كان محصوراً ـ كالعَدَد والتثنية ـ أو وُضِع لِواحد فخاصّ (1) .
وبعضهم قسّمه باعتبارات أخرى :
الأول : وجوه النظم لغةً وصيغةً ..
وهي أربعة : الخاصّ ، والعامّ ، والمشترك ، والمؤوّل .(1/6)
والثاني : وجوه البيان بذلك النظم ..
وهي أربعة : الظاهر ، والنَّصّ ، والمفسَّر ، والمُحْكَم .
وتقابِلها أربعة : الخفيّ ، والمُشْكِل ، والمُجْمَل ، والمتشابه .
(1) التوضيح مع التنقيح 1/47 ، 48 بتصرف .
والثالث : وجوه استعمال ذلك النظم ..
وهي أربعة : الحقيقة ، والمَجاز ، والصريح ، والكناية .
والرابع : وجوه الوقوف على المراد ..
وهي أربعة : عبارة النَّصّ ، وإشارته ، ودلالته ، واقتضاؤه (1) .
أمّا غيْر الحنفية : فمنهم مَن حصَرها في خمسة :
الأول : المراد مِن اللفظ ..
ويَنقسم إلى : منطوق ، ومفهوم .
الثاني : دلالة اللفظ على الطلب بالذات ..
ويَنقسم إلى : أمْر ، ونهْي .
الثالث : دلالته على عوارض مدلوله مِن كوْنها محصورة ..
ويَنقسم إلى : عامّ ، وخاصّ ، ومُطلَق ، ومقيَّد .
الرابع : كيفية دلالتها مِن خفاء وجلاء ..
ويَنقسم إلى : مُجمَل ، ومُبَيَّن .
الخامس : دلالته على ارتفاع الأحكام وبقائها ..
ويَنقسم إلى : ناسخ ، ومنسوخ (2) .
مِمَّا تَقَدَّم يَتَّضِح لنا : أنّ محلّ دراسة العامّ عند الأصوليّين هو دلالة الألفاظ على الأحكام ، وأنّهم ينظرون إليه باعتبار اللفظ لغةً وصيغةً ؛ لأنّ اللفظ إنْ وُضِع بوضع واحد لِكثير غيْر محصور مستغرِق لِجميع ما يَصلُح له ، وهو ما عليه الحنفية ..
(1) يُراجَع : المنار مع كشْف الأسرار 1/21 - 25 وكشْف الأسرار لِعلاء الدين البخاري مع أصول البزدوي 1/123 - 137 وحاشية نسمات الأسحار /88 - 91 وأصول السرخسي 1/163 - 166
(2) يُراجَع : تشنيف المسامع 1/159 ، 160 وشرْح الكوكب الساطع 1/202
أمّا غيْرهم : فإنّهم اعتبَروا عوارض مدلول اللفظ مِن كوْنها محصورةً أم لا .
والمعنيان يتَّفقان موضوعاً لا شكلا .
المبحث الأول
تعريف العامّ ومدلوله ودلالته
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : تعريف العامّ لغةً واصطلاحا .
المطلب الثاني : الفَرْق بيْن العامّ وغيْره .(1/7)
المطلب الثالث : العموم مِن عوارض الألفاظ أم داخِل في حقيقتها .
المطلب الرابع : مدلول العامّ ودلالته ومعياره .
المطلب الأول
تعريف العامّ لغةً واصطلاحاً
أوّلاً - تعريف العامّ لغةً :
والعامّ في اللغة : مِن " عَمّ المطر وغيْره عموماً " مِن باب " قَعَد " ، فهو عامّ ..
والعامّة : خلاف الخاصة ، والجَمْع : عَوَام (1) .
و" عَمّ الشيء " : شَمِل الجماعة ، و" عمّم اللبَن " : أَرغَى كأنّ رغْوته شُبِّهَت بالعمامة ، و" عُمِّم الرجُل " : سُوِّد ؛ لأنّ تيجان القوم كانت عمائمهم و" فَرَس مُعَمَّم " : أبيض الرأس (2) ..
ويقال :" عَمّ الجماعة بالعطية " أيْ شَمِلهم (3) .
وكُلّ ما يَتناول أفراداً متفِقة الحدود على سبيل الشمول فهو العامّ ..
وبعبارة أخرى : كُلّ ما صحّ الاستثناء منه مِمَّا لا حصْر فيه فهو عامّ لِلزوم تَناوُله لِلمستثنى (4) .
ومِمَّا تَقَدَّم يَكون معنى العامّ لغةً هو : الشمول .
ثانياً – تعريف العامّ اصطلاحاً :
عرَّف الأصوليّون العامّ بتعريفات عدة ، أكتفي بثلاثة تعريفات شرحاً ومناقشةً وترجيحاً ..
(1) المصباح المنير 2/430
(2) مُجمَل اللغة 3/610
(3) مختار الصحاح /480
(4) يُراجَع الكُلِّيَّات /600
التعريف الأول : لأبي الحسين البصري (1) ..
وهو : ( كلام مستغرِق لِجميع ما يَصلح له ) (2) ..
واختاره الكلوذاني (3) في " التمهيد " بلفْظه (4) ..
كما اختاره الفخر الرازي (5) مع تعديل ، فعرَّفه بأنّه :( اللفظ المستغرِق لِجميع ما يَصلح له بحسب وضْع واحد ) (6) ..
وتَبِعه الأرموي (7) فعرَّفه بأنّه :( لفْظ مستغرِق لِكُلّ ما يَصلح له في
(1) أبو الحسين البصري : هو محمد بن عَلِيّ بن الطَّيِّب البصريّ ، أحد أئمة المعتزلة ، وُلِد بالبصرة ورَحَل لِبغداد ..
مِن تصانيفه : المعتمد ، تَصَفُّح الأدلة ، غرر الأدلة .
تُوُفِّي سَنَة 436 هـ .
شذرات الذهب 3/259 والنجوم الزاهرة 5/38
(2) المعتمد 1/189(1/8)
(3) أبو الخطاب الكلوذاني : هو محفوظ بن أحمد بن الحَسَن بن أحمد الكلوذاني البغدادي الحنبلي ، وُلِد سَنَة 432 هـ ، بَرَع في مذهب الحنابلة وعِلْم الخلاف والفرائض ..
مِن مصنَّفاته : الهداية في الفقه ، التهذيب في الفرائض .
تُوُفِّي سَنَة 510 هـ
الفتح المبين 2/11
(4) التمهيد 2/5
(5) فخر الدين الرازي : هو أبو عبد الله محمد بن عُمَر بن الحسين بن الحَسَن بن علِيّ التيمي البكري الطبرستاني الرازي الشافعي ، وُلِد بالرّيّ سَنَة 544 هـ ..
مِن مصنَّفاته : المحصول ، مفاتيح الغيب ( التفسير الكبير ) .
تُوُفِّي بهراة سَنَة 606 هـ .
البداية والنهاية 13/55 والفتح المبين 2/50
(6) المحصول 1/353
(7) سراج الدين الأرموي : هو أبو الثناء محمود بن أبي بكر بن أحمد الأرموي الشافعي ، فقيه أصوليّ متكلِّم ، مِن القضاة ، أصْله مِن أرمية ، وُلِد سَنَة 594 هـ ..
مِن مصنَّفاته : التحصيل ، شرْح الوجيز لِلغزالي . =
وضْع واحد ) (1) ..
وتَبِعه البيضاوي (2) فعرَّفه بأنّه :( لفْظ يستغرق جميع ما يَصلح له بوضع واحد ) (3) .
ولَمّا كان " منهاج " البيضاوي هو محطّ رحال الدراسة الأصوليّة بجامعة الأزهر فإنّي سأتعرض له ـ بإذنه تعالى ـ بالتفصيل شرحاً ومناقشة ..
شرْح تعريف البيضاوي :
( لفْظ يستغرق جميع ما يَصلح له بوضع واحد ) ..
( لفْظ ) : اللفظ هو : ما تَرَكَّب مِن بعض الحروف الهجائية ، وهو كالجنس في التعريف ، يشمل العامّ وغيْره ، ويشمل المهمَل والمستعمَل ، ويشمل المستغرِق لِكُلّ ما يَصلح له وغيْر المستغرِق ، كان الاستغراق بوضع واحد أو بأوضاع متعدِّدة (4) .
( يستغرق ) : الاستغراق هو : التناول على سبيل الشمول ، وهو جنسي نحْو :" لا رجلَ في الدار " ، وفردي ، نحْو :" لا رجلٌ في الدار " ، وعرفي ، نحْو :" جمَع الأمير الصاغة " (5) ..
= تُوُفِّي بقونية سَنَة 682 هـ .(1/9)
الأعلام 8/41 ، 42 وطبقات الشافعية الكبرى 5/155 ومعجم المؤلِّفين 12/155
(1) التحصيل 1/343
(2) القاضي البيضاوي : هو أبو الخير عبد الله بن عُمَر بن محمد بن علِيّ البيضاوي الشافعي ، وُلِد بالمدينة البيضاء بفارس قُرْب شيراز ، وإليها نُسِب ..
مِن مؤلَّفاته : منهاج الوصول إلى عِلْم الأصول ، الإيضاح في أصول الدين .
تُوُفِّي بتبريز سَنَة 685 هـ .
البداية والنهاية 13/309 والفتح المبين 2/91
(3) منهاج الوصول مع نهاية السول 2/76
(4) يُراجَع أصول الفقه لِلشيخ زهير 2/199
(5) يُراجَع الكُلِّيَّات /103
والاستغراق قيْد أوّل في التعريف ، خرج به أولاً اللفظ المهمل ؛ لأنّ الاستغراق فرْع الوضع ، والمهمل غيْر موضوع ..
كما خرج به ثانياً النكرة في سياق الإثبات ، سواء كانت مفردةً : كـ" رجل " ، أو مثناةً : كـ" رجليْن " ، أو مجموعةً : كـ" رجال " ، أو عَدَداً : كـ" عشرة " ؛ فإنّ العشرة ـ مَثَلاً ـ لا تستغرق جميع العشرات ، ولكنها عامة عموم البدل عند الأكثر ، ومعنى ذلك أنّها تَصدُق على كُلّ واحد بدلاً عن الآخَر (1) ..
كما خرج به ثالثاً المُطْلَق ؛ فإنّه لا يَدلّ على شيء مِن الأفراد فضلاً عن أنْ يستغرقها (2) .
( جميع ما يَصلح له ) : قيْد ثانٍ ، خرج به الجَمْع المُنَكَّر ، نحْو : " رجال " ؛ فإنّه يَصلح لِكُلّ ثلاثة رجال ولا يفيد الاستغراق ، بخلاف المعرَّف بِلام الاستغراق ، نحْو : " الرجال " ؛ فإنّه مستغرِق لِجميع ما يَصلُح له .
( بوضع واحد ) : قيْد ثالث في التعريف ، خرج به المشترك اللفظي إذا استُعمِل في معانيه المتعددة : كـ" العين " ؛ فإنّها تُستعمَل في المبصِرة والفوارة والجاسوس ، فإذا قال :" رأيت العيون " كُلّ أفراد المشترك اللفظي فإنّ اللفظ " العيْن " لا يَكون عامّاً حينئذٍ ؛ لأن استغراقه لأفراده ليس بوضع واحد ، وإنّما هو استغراق بأوضاع متعدِّدة ..(1/10)
كما خرج به ـ أيضاً ـ اللفظ الذي له حقيقة ومَجاز : كـ" الأسد " ؛ فإنّه لفْظ مستغرق لِجميع ما يَصلح له ، ومع ذلك ليس بعامّ ..
(1) نهاية السول 2/78 بتصرف ، ويُراجَع أصول الفقه لِلشيخ زهير 2/199
(2) الإبهاج 2/88
ولِذا كان استعمال اللفظ في المشترك والحقيقة والمَجاز ليس بوضع واحد ، وإنّما بأوضاع مختلفة (1) .
مناقَشة هذا التعريف :
وقد نوقش هذا التعريف باعتراضات عدة :
الاعتراض الأول :
أنّه عرَّف العامّ بأنّه ( لفْظ يستغرق ) ، والاستغراق هو العموم ، والمستغرق والعامّ لفظان مترادفان ، فيَكون تعريفاً لفظيّاً بتبديل لفْظ بلفْظٍ آخَر مُساوٍ له ، وليس تعريفاً حقيقيّاً حدّاً أو رسما .
الجواب عن هذا الاعتراض :
وقد رُدّ هذا الاعتراض : بأنّا لا نُسَلِّم أنّ الاستغراق والعامّ لفظان مترادفان ؛ فالعموم لغةً : الشمول ، والشمول والاستغراق غيْر مترادفيْن ، فكل منهما له معنىً يخالف الآخَر حتى وإن اشترَكا في بعض اللوازم .
الاعتراض الثاني :
أنّ هذا التعريف غيْر مانع مِن دخول كُلّ لفْظ مستغرق لِجميع ما يَصلح له بوضع واحد ومع ذلك فليس بعامّ ، نحْو : قولنا :" ضرب زيْد عمراً " ؛ فإنّ الفعل المتعدِّي إلى مفعول واحد أو إلى مفعوليْن فصاعداً إذا ذُكِر معه جميع ما يقتضيه مِن الفاعل والمفعول فإنّه يَصدق عليه أنّه اللفظ المستغرِق لِمَا يَصلح له وليس بعامّ .
الجواب عن هذا الاعتراض :
وقد رُدّ هذا الاعتراض : بأنّا لا نُسَلِّم دخول ما ليس بعامّ في العام ؛
(1) يُراجَع : مباهج العقول 2/75 ، 76 والكاشف عن المحصول 4/214 ، 215 ونهاية السول 2/78(1/11)
لأنّ سند إدخالكم إيّاه في العامّ أنّه لفْظ مستغرِق لِجميع ما يَصلح له ، وهذا ما ليس متحقِّقاً في المثال الذي أوردتموه ، فليس مستغرِقاً لِجميع ما يَصلح له ؛ لأنّ الفعل وهو الضرب صالِح لِكُلّ ضرْب ، سواء كان بالعصى أو بغيْرها ، ومع ذلك فإنّه ليس مستغرِقاً لِجميعها ؛ وإلا لَمَا صَدَق بأيّ واحد منها .
الاعتراض الثالث :
أنّه غيْر مانِع مِن دخول كُلّ نكرة مِن أسماء الأعداد : كالعشرة والمائة والألْف ؛ فإنّه لفْظ مستغرِق لِجميع ما يَصلح له بوضع واحد ومع ذلك ليس بعامّ .
الجواب عن هذا الاعتراض :
وقد رُدّ هذا الاعتراض بوجهيْن :
الوجه الأول : أنّا لا نُسَلِّم دخول الأعداد المذكورة في العامّ ؛ لأنّها مردودة بقيد التعريف بـ( مستغرِق لِجميع ما يَصلح ) ، ولفْظ " العشرة " إنّما يتناول بعض ما يَصلح له وهو العشرة الواحدة ، وليس ذلك بتناولٍ لِكُلّ واحد مِن أفراد العشرات على سبيل الاستغراق .
الوجه الثاني : أنّ أسماء الأعداد لا عموم فيها ؛ لأنّه لفْظ دَلّ على الحصر ، والعامّ شأنّه أنْ لا يَكون في اللفظ ما يُشعِر بالحصر .
الاعتراض الرابع :
أنّه تعريف فيه دوْر حينما أتى في التعريف بلفْظ " جميع " ، وهي مِن صيغ العموم ، ولِذا توقفَت معرفة العامّ على معرفة أجزاء التعريف ومنها " جميع " ، ومعرفة هذه الصيغة لِلعموم " جميع " تتوقف معرفتها على معرفة العامّ ، فتتوقف معرفة كُلّ منْهما على الآخَر ، وهذا هو الدور بعينه
وهو باطل .
الجواب عن هذا الاعتراض :
وقد رُدّ هذا الاعتراض : بأنّا لا نُسَلِّم أنّ معرفة " جميع " متوقفة على معرفة العموم الاصطلاحيّ ، وإنّما تتوقف على معرفة العموم اللّغويّ ، وإذا انفكَّت الجهة انعدم الدور (1) .
التعريف الثاني : لِلغزالي (2) ..
وهو : ( اللفظ الواحد الدّالّ مِن جهة واحدة على شيئيْن فصاعدا ) (3) .
شرْح التعريف :(1/12)
( اللفظ ) : كالجنس في التعريف ، يشمل المهمَل والمستعمَل والعامّ والخاص وغيْر ذلك مِن أصناف اللفظ .
( الواحد ) : قيْد أول ، خرج به اللفظ المتعدد ، نحْو :" ضرَب زيْد عمراً " ؛ فإنّه دلّ على شيئيْن لكنْ لا بلفظ واحد ، بل أَكثَر منه (4) .
( الدّالّ مِن جهة واحدة ) : قيْد ثانٍ ، خرج به :" ضرَب زيْد عمراً " و:" ضرَب زيْداً عمرو " ؛ فإنّه يدلّ على شيئيْن ولكنْ بلفْظيْن لا بلفْظ واحد
(1) يُراجَع هذه الاعتراضات والجواب عنها في : المحصول 1/353 والإحكام لِلآمدي 2/181 وبيان المختصر 2/105 ، 106 والكاشف عن المحصول 4/215 ، 216 ونهاية السول 2/79 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 2/201 - 203
(2) الغزالي : هو زيْن الدين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الشافعي ، حُجّة الإسلام ، فقيه أصوليّ صوفيّ حكيم متكلِّم ، وُلِد بالطابران بخراسان سَنَة 450 هـ .
مِن مصنَّفاته : إحياء علوم الدين ، المستصفى ، الوجيز .
تُوُفِّي سَنَة 505 هـ .
الأعلام 7/247 وطبقات الشافعية 1/249 - 264
(3) المستصفى 2/32
(4) شرْح مختصر الروضة 2/456
ومِن جهتيْن لا مِن جهة واحدة (1) ..
كما خرج به الألفاظ المشتركة والمَجازية (2) .
( على شيئيْن فصاعداً ) : قيْد ثالث ، خرج به ما دلّ على شيء واحد : كـ" رجل " ، و" زيْد " (3) .
مناقَشة هذا التعريف :
وقد نوقش هذا التعريف مِن وجهيْن :
الوجه الأول : أنّه غيْر جامِع مِن جهتيْن :
الجهة الأولى : خروج لفْظ المعدوم والمستحيل ؛ لأنّه ليس بشيء ، وهو مِن العامّ .
والجهة الثانية : الموصولات مع صِلاتها ليست بلفْظ واحد ، وهي مِن جملة العامّ .
الجواب عن هذا الوجه :
وقد رُدّ هذا الاعتراض في الجهة الأولى : بأنّ المعدوم والمستحيل وإنْ لم يكن شيئاً في الاصطلاح فهو شيء في اللغة .
وفي الجهة الثانية : بأنّ العموم ثابت لِلموصولات ، وما الصلات إلا مبيِّنات لها ، فانفصَل التعدد في اللفْظ ، وسقط الاعتراض .(1/13)
الوجه الثاني : أنّه غيْر مانِع مِن دخول المثنَّى ، نحْو : " رجليْن " ، والجَمْع لِمعهود : كالرجال المعهودين ، وكُلّ نكرة ، نحْو : " رجال " مع أنّها ليست بعامّ .
(1) المستصفى 2/32
(2) الإحكام لِلآمدي 2/182
(3) بيان المختصر 2/106
الجواب عن هذا الاعتراض :
وقد رُدّ هذا الاعتراض بوجهيْن :
الأول : أنّ تقييد الشيئيْن في التعريف بـ( فصاعداً ) أَخرَج المثنَّى ؛ لأنّه دالّ على شيئيْن فقط ، ولِذا فلا يدخل في العامّ .
الثاني : أنّ الإمام الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ قد يلتزم دخول النكرة والجَمْع لِمعهود في التعريف ، ويمنع أنّهما ليسا بعامّين (1) .
وخروجاً مِن الاعتراضات التي وُجِّهَت إلى تعريف الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ عرَّف الآمدي (2) ـ رحمه الله تعالى ـ العامّ بأنّه :( اللفظ الواحد الدّالّ على مسمييْن فصاعداً مطلقاً معا ) (3) .
التعريف الثالث : لِصدر الشريعة (4) ..
وهو : ( لفْظ وُضِع وضعاً واحداً لِكثيرٍ غيْر محصور مستغرِق جميع ما يَصلح له ) ..
(1) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 2/182 وبيان المختصر 2/107 ومُسَلَّم الثبوت 1/257 ، 258 وإرشاد الفحول /198
(2) سيف الدين الآمدي : هو أبو الحَسَن علِيّ بن أبي علِيّ محمد بن سالم التغلبي الأصوليّ ، وُلِد بآمد سَنَة 551 هـ ، نشأ حنبليّاً ، وتَمَذهَب بمذهب الشافعية ..
مِن مصنَّفاته : الإحكام في أصول الأحكام ، منتهى السول في الأصول ، لباب الألباب .
تُوُفِّي بدمشق سَنَة 631 هـ .
البداية والنهاية 13/140 وطبقات الشافعية الكبرى 5/129 والفتح المبين 2/58
(3) الإحكام لِلآمدي 2/182 ومنتهى السول 2/18
(4) صدْر الشريعة الأصغر : هو عبد الله بن مسعود بن تاج الشريعة ، الإمام الحنفيّ الفقيه الأصوليّ الجدليّ ..
مِن تصانيفه : كتاب الوقاية .
تُوُفِّي في شرع آباد ببخارى سَنَة 747 هـ .
الفتح المبين 2/161 والفوائد البهية /109
واختاره الجرجاني (1) (2) .(1/14)
شرْح التعريف :
( لفْظ ) : كالجنس في التعريف ، يشمل العامّ والخاصّ والمهمَل والمستعمَل .
( وُضِع وضعاً واحداً ) : قيْد أوّل ، خرج به المشترك بالنسبة إلى معانيه المتعددة ، وأمّا بالنسبة إلى أفراد معنى واحد له ـ كـ" العيون " لأفراد العيْن الجارية ـ فهو عامّ .
( لِكثير ) : قيْد ثانٍ ، خرج به الخاصّ : كـ" زيْد " و" عمرو " و" رجل " و" فَرَس ".
( غيْر محصور ) : قيْد ثالث ، خرج به أسماء العَدَد : كـ" مائة " و" ألْف " ؛ فإنّها وُضِعَت وضعاً واحداً لِلكثير لكنّه محصور .
( مستغرق جميع ما يَصلح له ) : قيْد رابع ، خرج به الجَمْع المُنَكَّر الذي تدلّ القرينة على عدم استغراقه ، نحْو :" رأيتُ رجالاً " (3) .
مناقَشة هذا التعريف :
ويمكن مناقَشة هذا التعريف بما نوقش به تعريف البيضاوي ، والجواب هو الجواب ، والعهد به قريب ، فلا داعي لِتكراره .
والراجح عندي : هو تعريف صدر الشريعة ؛ لأنّه وإنْ كان قريباً
(1) الشريف الجرجاني : هو أبو الحَسَن علِيّ بن محمد بن علِيّ ، المعروف بـ" السيد الشريف الجرجانيّ " الحنفيّ ، وُلِد سَنَة 740 هـ ..
مِن مصنَّفاته : التعريفات ، حاشية على شرْح مختصر المنتهى لابن الحاجب .
تُوُفِّي سَنَة 816 هـ .
الفتح المبين 3/20
(2) يُراجَع تعريفات الجرجاني /159
(3) يُراجَع التوضيح مع شرْح التلويح 1/56 ، 57
مِن تعريف البيضاوي إلا أنّه مقيَّد بقيديْن خلا منهما تعريف البيضاوي ، وهُمَا :
1- ( وُضِع وضعاً واحدا ) .
2- ( لِكثير غيْر محصور ) .
مِمَّا زاد التعريف قوّةً في اطراده وانعكاسه .
المطلب الثاني
الفَرْق بَيْن العامّ وغيْره
لَمّا كان لفْظ " العامّ " يلتبس بغيْره مِن الألفاظ ، وهي : الأعمّ والمُطْلَق والنكرة والعَدَد والكُلّ والكُلِّيّ والكُلِّيّة ، ولِذا وجب الوقوف على حقيقتها ؛ حتى يتضح الفَرْق بيْنها وبيْن العموم .
1- الأعمّ والعموم :(1/15)
و" الأعمّ " في اصطلاح الأصوليّين يقال لِلمعنى ، ومقابِله " أخَصّ " ، أمّا اللفظ فيقال له " عامّ وخاصّ " ؛ تفرقةً منهم بيْن صفتَي الدّالّ ـ وهو اللفظ ـ وبيْن المدلول ـ وهو المعنى ـ بـ" أفعل " لأنّه أَعَمّ مِن اللفظ (1) .
وقال القرافي (2) :" ووجْه المناسبة : أنّ صيغة " أفعل " تدلّ على الزيادة والرجحان ، والمَعاني أهمّ مِن الألفاظ ، فخُصَّت بصيغة " أفعل " التفضيل ، ومنهم مَن يقول : فيها عامّ وخاص أيضاً " (3) ا.هـ .
والفَرْق بيْن العموم والعامّ : أنّ العامّ هو اللفظ المتناول ، والعموم تناوُل اللفظ لِمَا صلح له ، فالعموم مصدر ، والعامّ اسمّ فاعل مشتقّ مِن هذا المصدر ، وهُمَا متغايران ؛ لأنّ المصدر الفعل ، والفعل غيْر
(1) يُراجَع : غاية الوصول /70 والكُلِّيَّات /602 وحاشية النفحات /74
(2) القرافي : هو أبو العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله بن يَلِّين الصنهاجي البهنسي المصري المالكي ، وُلِد بالبهنسا ..
مِن مؤلَّفاته : التنقيح في أصول الفقه ، شرْح التهذيب .
تُوُفِّي بدير الطين سَنَة 684 هـ .
الفتح المبين 2/90
(3) تشنيف المسامع 1/327
الفاعل (1) .
2- المُطْلَق :
والمُطْلَق لغةً : مِن :" أَطلَق الأسير " خلاَّه ، و" فَرَس مطلَق اليدين " إذا خلا مِن التحجيل (2) ..
ولِذا كان المُطْلَق لغةً : المُرْسَل أو المُخَلَّى سبيله .
واصطلاحاً : عرَّفه ابن السبكي (3) بأنّه : الدّالّ على الماهية بِلا قيْد مِن وحدة أو غيْرها (4) .
والفَرْق بيْن العامّ والمُطْلَق : أنّ العامّ يدلّ على شمول كُلّ فرْد مِن أفراده ، وأمّا المُطْلَق فإنّه يدلّ على فرْد شائع أو أفراد شائعة لا على جميع الأفراد ، فالعامّ يتناول كُلّ ما يَصدق عليه مِن الأفراد دفعةً واحدةً ، والمُطْلَق لا يتناول ما يَصدق عليه دفعةً واحدةً ، وإنّما فرداً شائعاً مِن الأفراد ..(1/16)
ولِذا قال الأصوليّون : عموم العامّ شموليّ ، وعموم المُطْلَق بدليّ (5) .
3- النكرة :
النكرة في اللغة : ما شاع في جنس موجود أو مقدّر (6) .
(1) البحر المحيط 3/7
(2) يُراجَع : مختار الصحاح /420 والمصباح المنير 2/376 ، 377
(3) تاج الدين السبكي : هو أبو نصْر عبد الوهاب بن علِيّ بن عبد الكافي بن علِيّ بن تمّام بن يوسف ابن موسى السبكي الشافعي ، الملقَّب بـ" قاضي القضاة " ، وُلِد بالقاهرة سَنَة 727 هـ ..
مِن مصنَّفاته : شرْح مختصر ابن الحاجب ، الإبهاج ، جَمْع الجوامع ، طبقات الفقهاء الكبرى .
تُوُفِّي بدمشق سَنَة 771 هـ .
الفتح المبين 2/192
(4) جَمْع الجوامع مع البناني 2/44
(5) علم أصول الفقه لِخلاّف /188 بتصرف ويُراجَع إرشاد الفحول /200
(6) شرْح قطر الندى /128
أو هي : ما لا يدلّ إلا على مفهوم مِن غيْر دلالة على تمييزه وحضوره وتعيين ماهيته مِن بيْن الماهيات ، وإنْ كان تَعقُّله لا ينفكّ عن ذلك (1) .
والعلاقة بيْن العامّ والنكرة رَبَطها البعض بالعلاقة بيْنها وبيْن المُطْلَق .
فهناك مِن الأصوليِّين مَن يرى أنّ المُطْلَق فرْد مِن أفراد النكرة ، وهو ما اختاره الآمدي وابن الحاجب (2) .
ومنهم ـ كالبيضاوي وابن السبكي ـ مَن يرى أنّهما متباينان ، ولِذا عرَّفوا النكرة بأنّها : ما دَلّ على شائع في جنسه ، سواء كان الشائع واحداً : كـ" رجل " ، أو مُثَنَّى : كـ" رجليْن " ، أو جَمْعاً : كـ" رجال " .
وسيأتي الحديث مفصَّلاً ـ بإذن الله تعالى ـ حوْل النكرة في ألفاظ العموم (3) .
4- العَدَد :
واسم العَدَد هو : اللفظ الدّالّ على بعض وحدات ماهية مدلوله (4) .
والعلاقة بيْن العامّ والعَدَد : أنّ كلاًّ منهما يدلّ على الحقيقة مع الكثرة ، غيْر أنّها في الثاني محصورة ، وفي الأول غيْر محصورة .
(1) الكُلِّيَّات /894(1/17)
(2) ابن الحاجب : هو جمال الدين أبو عمرو عثمان بن عُمَر بن أبي بكر بن يونس المالكي ، وُلِد في إسنا سَنَة 570 هـ ..
مِن تصانيفه : المقصد الجليل في عِلْم الخليل ، الإيضاح ، مختصر منتهى السول والأمل .
تُوُفِّي بالإسكندرية سَنَة 646 هـ .
سِيَر أعلام النبلاء 13/287 والفتح المبين 2/67 ، 68
(3) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 3/3 ومختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/99 والمنهاج مع الإبهاج 2/90 ومنتهى السول 2/80 ، 81 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 2/204
(4) شرْح مختصر الروضة 2/460 ويُراجَع شرْح الكوكب المنير 3/101
وقد يجتمع العامّ والعَدَد في لفْظ واحد ، نحْو : " المائة " و" الألْف " ، فإذا نظرْنا إلى كُلّ منْهما باعتبار ضبْط وحدتهما كان كُلّ منْهما عدداً ، وإنْ نظرْنا إلى كُلّ منْهما باعتبار أنّ أفراد المائة غيْر مقدَّرة بَعْدُ ـ لِتَناوُلها كُلّ المئات بِلا حصْر ، وكذا أفراد الألْف تتناول كُلّ الآلاف بِلا حصْر بعَدَد مُعيَّن مِن الألْف ـ كان كُلّ منْهما عامّاً فيه ، وهو المئات في المائة ، والآلاف في الألْف (1) .
5- الكُلّ والكُلِّيّ والكُلِّيّة (2) :
والكُلّ هو : المجموع الذي لا يبقى بَعْده فرْد والحُكْم فيه على المجموع مِن حيث هو مجموع لا على الأفراد : كأسماء الأعداد .
ويقابِله " الجزء " ، وهو : ما تَرَكَّب منه ومِن غيْره : كالخمسة مع العشرة .
والكُلِّيّ هو : المعنى الذي يَشترك فيه كثيرون : كالعِلْم والجهل ، والإنسان والحيوان ؛ فإنَّه يصدق بفرد واحد في سياق الثبوت ، نحْو : " رَجُل " ، واللفظ الدّالّ عليه يُسَمَّى " مُطْلَقا " .
ويقابِله " الجزئيّ " : كـ" زيْد " و" عمرو " .
والكُلِّيَّة : ثبوت الحُكْم لِكُلّ واحد بحيث لا يبقى فرْد ، ويَكون الحُكْم ثابتاً لِلكُلّ بطريق الالتزام ..
(1) أصول الفقه لِلشيخ زهير 2/205 بتصرف .(1/18)
(2) الكُلّ عند المناطقة هو : الحُكْم على المجموع : كقولنا :" كُلّ بني تميم يحملون الصخرة " ..
والكلية عندهم هي : الحُكْم على كُلّ فرْد : كـ:" كُلّ بني تميم يأكل الرغيف " ..
والكُلِّيّ : ما يراد به أنّه غيْر مانِع من الشركة .
والجزء : ما تَركَّب منه ومِن غيْره كُلّ ..
والجزئية هي : الحُكْم على بعض الأفراد ..
يُراجَع : إيضاح المبهم /27 ، 28 والكُلِّيّات 744 ، 745
نحْو : قولنا :" كُلّ رجل يُشبِعه رغيفان غالباً " أيْ كُلّ رجل على حِدَته يُشبِعه رغيفان غالباً لا يصدق باعتبار الكُلّ ، أي المجموع مِن حيث هو مجموع .
ويقابِلها " الجزئيّة " ، وهي : الثبوت لِبعض الأفراد (1) .
ومدلول العامّ كُلِّيَّة ، أيْ محكوم فيه على كُلّ فرْد مطابَقةً ، إثباتاً أو سلباً ، لا كُلّ ولا كُلِّيّ (2) .
(1) يُراجَع : تشنيف المسامع 1/328 والتمهيد لِلإسنوي /297 ، 298 وشرْح تنقيح الفصول /195 196
(2) جَمْع الجوامع مع تشنيف المسامع 1/328
المطلب الثالث
العموم مِن عوارض الألفاظ
أم داخِل في حقيقتها ؟
اتَّفَق العلماء على أنّ العموم مِن عوارض الألفاظ (1) حقيقةً ، أيْ أنّه لا يعرض إلا لِصيغة لفظية : كـ" المسلمين " و" المشرِكين " .
واختلَفوا في عروضه حقيقةً لِلمعاني على مذاهب ..
وقبْل إيرادها نحقِّق الفَرْق بيْن الألفاظ والمَعاني :
اللّفظ العامّ : يدلّ على ما تحْته مِن المسمَّيات دلالةً واحدةً مِن جهة واحدة دون أنْ يختَصّ بعض مسمَّياته ببعضه : كلفْظ " الكفار " ؛ فإنّه دالّ على آحاد كثيرة كفار دون اختصاصه واحداً منهم ببعض لفْظ " الكفار " .
أمّا المَعاني : فإنّ محالّها يختص ببعضها : كقولنا : " خصْب عامّ " ، و" بلاء عامّ " ، فإنّ الخصب والبلاء في كُلّ موضع غيْره في الموضع الآخَر ؛ فخِصْب مِصْر غيْر خِصْب الشام ، وبلاء الهند غيْر بلاء الصين (2) .(1/19)
إذا تَقرَّر ذلك فإنّ الأصوليِّين اختلَفوا في وصْف العموم على ثلاثة مذاهب :
المذهب الأول : أنّها لا توصَف بالعموم لا حقيقةً ولا مَجازاً ..
(1) والعَرَض : ما يَعرض لِلشيء بَعْدَ تحققه فلا يَكون ذاتيّا .
والجوهر : ذات الشيء وحقيقته .. يُراجَع حاشية العدوي /11
(2) يُراجَع شرْح مختصر الروضة 2/450
وهذا المذهب أَورَده ابن الحاجب (1) ، وذكَر الزركشي (2) أنّه أَبعَد الأقوال ، بل في ثبوته نظر (3) .
وحُجّتهم : أنّ العموم هو شمول أمْر واحد لِمتعدد ، ولا يتحقق إلا في الألفاظ ، فلا يوصَف المعنى به حقيقةً ولا مَجازاً ؛ لِعدم العلاقة بيْن اللفظ والمعنى .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم عدم العلاقة بيْن اللفظ والمعنى ، وإنّما هي متحقِّقة وموجودة ، وهي علاقة الدّالّ بالمدلول ، فثبت وصْف المَعاني بالعموم مَجازا (4) .
المذهب الثاني : أنّها توصَف بالعموم حقيقةً ..
وهو ما اختاره ابن الحاجب .
واحتَجّ لِذلك : بأنّ العموم في اللغة حقيقةً هو شمول أمْر لِمُتَعَدِّد ، وهذا المعنى كما يَعرض لِلّفظ يَعرض لِلمَعاني ، فكما يَكون حقيقةً في اللفظ يَكون حقيقةً في المَعاني : كعموم المطر والخصب ونحوهما .
والأصْلُ في الاستعمالِ الحقيقةُ ، فيَكون العموم حقيقةً في كُلّ منْهما على سبيل الاشتراك المعنويّ .
(1) بيان المختصر 2/109
(2) الزركشي : هو بدْر الدين أبو عبد الله محمد بن بهادر بن عبد الله التركي المصري الزركشي الشافعي ، وُلِد بمصر سَنَة 745 هـ ..
مِن مصنَّفاته : البحر المحيط ، تشنيف المسامع .
تُوُفِّي بمصر سَنَة 794 هـ .
الفتح المبين 2/218
(3) تشنيف المسامع 1/327
(4) يُراجَع أصول الفقه لِلشيخ زهير 2/198
مناقَشة هذا الدليل :(1/20)
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ العامّ شمول أمْر واحد لأفراد متعدِّدة ، وعموم المطر والخصب ونحْوهما ليس كذلك ؛ فإنّه لا يَكون أمراً واحداً شمل الأطراف والأكناف ، بل حصل كُلّ جزء مِن أجزاء المطر في جزء مِن أجزاء الأرض .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقد رُدّت هذه المناقَشة : بأنّ العموم لغةً لا يَكون مشتركاً بأنْ يَكون أمراً واحداً شاملاً لأفراد متعدِّدة ، بل العموم بحسب اللغة شَرْطُه أنْ يَكون أمراً يشمل متعدِّداً ، سواء كان المتعدِّد أفراده أو لا ، وهذا المعنى مِن عوارض المَعاني (1) .
المذهب الثالث : أنّها توصَف بالعموم مَجازاً لا حقيقة ..
وعزاه الآمدي والهندي (2) لِلجمهور .
واحتَجّوا : بأنّ العموم لو كان حقيقةً في المَعاني لاطّرد في كُلّ معنى ، والعموم في المَعاني غيْر مُطَّرد ، فلا توصف المَعاني بالعموم حقيقةً لِعدم الاطراد ، ولِذا كانت المَعاني لا توصف بالعموم حقيقةً وإنّما مَجازا .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ العموم كما لا يطَّرد في المَعاني فهو كذلك
(1) بيان المختصر 2/109 ، 110 بتصرف ويُراجَع : الإحكام لِلآمدي 2/184 ، 185 وإرشاد الفحول /199
(2) صفي الدين الهندي : هو محمد بن عبد الرحيم بن محمد الشّافعيّ الأصوليّ ، وُلِد بدلهي بالهند سَنَة 644 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الزبدة في عِلْم الكلام ، نهاية الوصول إلى عِلْم الأصول .
تُوُفِّي بدمشق سَنَة 715 هـ .
الدرر الكامنة 4/14 والفتح المبين 2/120
في الألفاظ ؛ فإنّ أسماء الأعلام : كـ" زيْد " و" عمرو " ونحْوه لا يُتصوَّر عروض العموم لها لا حقيقةً ولا مَجازاً ، ومقتضَى هذا أنْ يَكون وصْف الألفاظ بالعموم مَجازاً لا حقيقةً لِعدم الاطِّراد ، ولا قائل به (1) .
الترجيح :(1/21)
بَعْدَ الوقوف على مذاهب الأصوليِّين الثلاثة المشهورة في وصْف المَعاني بالعموم أرى : أنّ المذهب الأول النافي لِوصف المَعاني بالعموم لم تَسلَم حُجّته مِن المناقَشة ، وكذلك المذهب الثالث الذي يرى وصْفها بالعموم مَجازاً لا حقيقةً ، ولِذا كان هذان المذهبان مستبعَديْن مِن الترجيح ، ويصبح المذهب الثاني القائل بوصف المَعاني بالعموم حقيقةً هو الأَوْلى بالقبول والترجيح ، وهو ما اختاره ابن الحاجب .
وأُعضِّد ترجيحي : بما ذكَره الزركشي في هذا المقام :" أنّه ( أي العموم ) يعرض لها ( أي المَعاني ) كما يعرض لِلّفظ ، كما يَصِحّ في الألفاظ شمول أمْر لِمُتَعدِّد يَصِحّ في المَعاني شمول معنى لِمعاني متعدِّدة بالحقيقة فيهما ..
وقال القاضي عبد الوهاب (2) :" مراد قائله : حَمْل الكلام على عموم الخطاب وإنْ لم يَكُنْ هناك صيغة تَعمّها : كقوله تعالى { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ
(1) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 2/184 ، 185 وتشنيف المسامع 1/327 ونهاية السول 2/77 ، 78 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 2/197 ، 198
(2) القاضي عبد الوهاب : هو عبد الوهاب بن علِيّ بن نصْر بن أحمد بن الحسين بن هارون ابن مالك بن طوق الثعلبي البغدادي ، الفقيه المالكي ..
مِن مصنَّفاته : المعونة بمذهب عالِم المدينة ، شرْح المدوَّنة ، التلقين .
تُوُفِّي سَنَة 422 هـ .
شذرات الذهب 3/233 وشجرة النور الزكية /103
الْمَيْتَة } (1) أيْ نَفْس المَيْتَة وعيْنها لَمّا لمْ يَصِحّ تَناوُل التحريم لها عمَّمْنا بالتحريم جميع التصرف فيها مِن الأكل والبيع واللبس وسائر أنواع الانتفاع وإنْ لم يَكُنْ لِلأحكام ذِكْرٌ في التحريم لا بعموم ولا بخصوص " (2) ا.هـ .
(1) سورة المائدة مِن الآية 3
(2) تشنيف المسامع 1/327
المطلب الرابع
مدلول العامّ ودلالته ومعياره
أوّلاً : مدلول العامّ(1/22)
ومدلول العامّ مِن حيث الحُكْم عليه كُلِّيّة ، أيْ محكوم فيه على كُلّ فرد فرد مطابقة إثباتاً أو سلباً ، نحْو :" جاء عبيدي وما خالَفوا ، فأكرِمْهم ولا تُهِنْهم " ؛ لأنّه في قوة قضايا بعَدَد أفراده ، أيْ : جاء فلان وجاء فلان ويقابل الكلِّيَّة الجزئيّة .
وخرج بالكلِّيَّة الكُلّ والكُلِّيّ ، فليس مدلول العامّ كلاًّ ـ أيْ محكوماً فيه على مجموع الأفراد مِن حيث هو مجموع ، نحْو :" كُلّ رجل في البلد يَحمِل الصخرة العظيمة " أيْ مجموعهم ، فالكُلّ هو المجموع الذي لا يَبقى بَعْده فرْد ـ ولا كلّيّاً ، وهو الذي يشترك في مفهومه كثيرون ، أي المحكوم فيه على الماهية مِن حيث هي ، أيْ مِن غيْر نظر إلى الأفراد : كمفهوم الحيوان في أنواعه ، والإنسان في أنواعه ؛ فإنّ الحيوان صادِق على جميع أفراده (1) .
وفي ذلك يقول ابن السبكي رحمهما الله :" ومدلوله كُلِّيَّة ، أيْ محكوم فيه على كُلّ فرْد مطابَقةً ، إثباتاً أو سلباً ، لا كُلّ ولا كُلِّيّ " (2) .
(1) يُراجَع : الإبهاج 2/81 ، 82 وحاشية النفحات /73 وغاية الوصول /70 وشرْح تنقيح الفصول /195 ، 196 وتشنيف المسامع 1/328 والتمهيد لِلإسنوي /297 ، 298
(2) جَمْع الجوامع مع تشنيف المسامع 1/328
ويقول الإسنوي (1) رحمه الله :" دلالة العموم على أفراده كُلِّيَّة ، أيْ تدلّ على كُلّ واحد دلالةً تامّةً ، ويُعَبَّر عنه ـ أيضاً ـ بـ" الكُلِّيّ التّفصيليّ والكُلِّيّ العَدَديّ " ، وليست مِن باب الكُلّ ، أي الهيئة الاجتماعية المُعَبَّر عنها ـ أيضاً ـ بـ" الكُلِّيّ المجموعيّ " (2) .
وعَلَّل القرافي ذلك فقال :" فلو كان مدلول العموم كُلاًّ لَمَا لزم ثبوت حُكْمه لِفرْد مُعَيَّن مِن أفراد إذا كان في سياق النفي أو النهي " (3) .(1/23)
واستثنَى الزركشي مِن ذلك : إذا كان معناه الكُلِّيَّة التي يُحكَم فيها على محلّ فرْد فرْد بحيث لا يبقى فرْد كما عرفْت ، وحينئذٍ يُستدَلّ بها على فرْد ما مِن الأفراد في النفي والنهي ، إنَّما يَختلف الحال بيْن الكُلّ والكُلِّيَّة في النفي والنهي لا في الأمر ، وحيث الثبوت فمدلول العموم كُلِّيَّة لا كُلّ ؛ لِصحّة الاستدلال به على ثبوت حُكْمه لِكُلّ فرْد مِن أفراده عند القائلين به إجماعا (4) .
(1) الإسنوي : هو أبو محمد عبد الرحيم بن الحَسَن بن علِيّ بن عُمَر بن علِيّ بن إبراهيم القرشي الشافعي ، وُلِد بإسنا سَنَة 704 هـ .
مِن تصانيفه : المبهمات على الروضة ، الأشباه والنظائر .
تُوُفِّي بمصر سَنَة 772 هـ .
الدرر الكامنة 2/354 والفتح المبين 2/193 ، 194
(2) التمهيد /299
(3) شرْح تنقيح الفصول /196
(4) تشنيف المسامع 1/328
ثانياً : دلالة العامّ
و" دلالة العامّ " هو تعبير الكثرة مِن الأصوليّين (1) ..
ومنهم مَن عبَّر بـ" موجب العامّ " (2) .
ومنهم مَن عبَّر بـ" اعتقاد عموم العامّ " (3) .
ومنهم مَن عبَّر بـ" حُكْم العامّ " (4) ..
والأَوْلى عندي : ما عليه الكثرة ، ولِذا عنونتُ به .
والمراد به : هل دلالة العامّ على جميع أفراده قَطْعِيَّة أم ظَنِّيَّة ؟
والإجابة عن هذا السؤال تقتضي بيان التالي :
1- تحرير محلّ النزاع .
2- مذاهب الأصوليِّين وأدلّتهم ، مع الترجيح .
3- ثمرة الخلاف في دلالة العامّ .
أولاً – تحرير محلّ النزاع :
لِلعامّ أنواع ثلاثة :
النوع الأول : عامّ يراد به العموم قَطْعا .
وهو : كُلّ عامّ لا يَحتمل التخصيص بمقتضى القرائن الدّالّة على
(1) يُراجَع : جَمْع الجوامع مع تشنيف المسامع 1/329 والمسوَّدة /109 والبحر المحيط 3/26 وشرْح الكوكب المنير 3/114
(2) يُراجَع : مُسَلَّم الثبوت 1/265 وكشْف الأسرار لِلبخاري 1/587 وفتح الغفار 1/94 وحاشية نسمات الأسحار /69
(3) شرْح مختصر الروضة 2/542(1/24)
(4) حاشية النفحات /79 وأصول السرخسي 1/132 وشرْح التنقيح على التلويح 1/66
ذلك .
نحْو : قوله تعالى { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } (1) ، فعامّة دوابّ الأرض بِلا استثناء تَكفَّل الله جلّ وعلا برزقها .
وحُكْم هذا النوع : أنّه قطعي الدلالة على العموم .
النوع الثاني : عامّ يراد به الخصوص قَطْعا .
وهو : كُلّ عامّ خُصِّص بمقتضى القرائن المانعة بقاءه على العموم .
نحْو : قوله تعالى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } (2) ، فلفْظ " الناس " هنا ليس مراداً به عامّتهم ، وإنّما المراد المكلَّفون منهم ، وإلا دخل الصَّبِيّ والمجنون .
وحُكْم هذا النوع : أنّه قَطْعيّ الدلالة على الخصوص .
النوع الثالث : عامّ مُطْلَق .
وهو : كُلّ عامّ أُطلِق عن قرائن إرادة التخصيص أو إرادة العموم ، وهذا هو الغالب في النصوص الشَّرعيَّة التي وردَت بصيغة العموم .
نحْو : قوله تعالى { وَالْمُطَلَّقَتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَثَةَ قُرُوء } (3) .
وهذا النوع لا نزاع فيه بيْن العلماء في أنّه يدلّ على جميع الأفراد التي يَصدق عليها معناه ، وأنّ الحُكْم الوارد عليه يَكون ثابتاً لِجميع ما يتناوله مِن الأفراد ..
وإنّما النزاع بيْنهم في : صفة هذه الدلالة هل هي قَطْعِيَّة كدلالة الخاصّ على معناه أم ظَنِّيَّة ؟ (4) .
(1) سورة هود مِن الآية 6
(2) سورة آل عمران مِن الآية 97
(3) سورة البقرة مِن الآية 228
(4) يُراجَع : الرسالة لِلإمام الشافعي /53 - 63 وعِلْم أصول الفقه لِخلاّف /191 وأصول الفقه =
ثانياً – مذاهب الأصوليِّين في دلالة العامّ وأدلّتهم :
اختلَف الأصوليّون في دلالة العامّ المُطْلَق عن قرينة إرادة العموم أو التخصيص : هل هو قَطْعيّ الدلالة أم ظَنِّيّها ؟
على مذاهب :
المذهب الأول : أنّ دلالة العامّ على جميع أفراده ظَنِّيَّة .(1/25)
وهو ما عليه الجمهور مِن المالكية والشافعية والحنابلة ، واختاره الماتريدي (1) مِن الحنفية ..
وهو قول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - (2) .
واحتَجّوا بأدلة ، منها :
الدليل الأول : أنّ ألفاظ العموم تُستعمَل تارةً لِلاستغراق وتارةً لِلبعض ، فما مِن عامّ إلا وخُصِّص ، وهذا هو الغالب في كُلّ عامّ ..
فإذا وَرَد مُطْلَقاً دون تخصيص حُمِل على الغالب وهو احتمال التخصيص ، وإذا احتمَل لفْظ العامِّ التخصيصَ كانت دلالته على العموم ظنِّيّةً لا قَطْعِيّة .
= الإسلامي لِلزحيلي 1/250 وأصول الفقه الإسلامي لِشعبان /330 وأثر الاختلاف في القواعد الأصوليّة /203 204
(1) الماتريدي : هو أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي الحنفي ، إمام المتكلِّمين ..
مِن مصنَّفاته : كتاب التوحيد ، تأويلات القرآن ، مأخذ الشرائع في الأصول .
تُوُفِّي بسمرقند سَنَة 333 هـ .
الفوائد البهية /195 ومعجم المؤلِّفين 1/193 ، 194
(2) الإمام الشافعي : هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن شافع المطَّلبي ، أحد أئمة المذاهب الأربعة ، وُلِد بغزّة ، وقيل : بعسقلان ـ سَنَة 150 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الأُمّ ، الرسالة ، أحكام القرآن .
تُوُفِّي بمصر سَنَة 204 هـ .
طبقات الشافعية الكبرى 1/100 ووفيات الأعيان 9/249 ، 250 والفتح المبين 1/133 - 142
الدليل الثاني : قوله تعالى { فَسَجَدَ الْمَلَئكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون } (1) ..
وجْه الدلالة : أنّ لفْظ " الملائكة " في الآية عامّ ، وهو يحتمل التخصيص ، ولولا ذلك لَمَا جاز تأكيده بـ" كُلّ وأجمعين " ، وإذا جاز تأكيد العامّ دلّ ذلك على احتماله التخصيص ، وإلا لم يكن لِلتأكيد فائدة ، وإذا كان كذلك كانت دلالة العامّ على جميع أفراده ظَنِّيَّة (2) .
مناقَشة هذيْن الدليليْن :(1/26)
وقد نوقش هذان الدليلان : بأنّا لا نُسَلِّم لكم أنّ احتمال العامّ لِلتخصيص يجعل دلالته على العموم ظنّيّةً ، وإنّما غاية ما لَزَم منه أنّ بقاء العموم مغلوب مِن المخصّص ، والمغلوب إنّما يُحمَل على الأغلب إذا كان مشكوكاً ، وليس العامّ المُطْلَق مشكوكاً في عمومه ، وقد دلَّت الأدلة القاطعة على أنّه موضوع لِلعموم ، والضرورة العربية شهدَت بأنّ اللفظ المجرَّد عن القرينة يتبادر منه الموضوع له ولا يخطر بالبال معناه المَجازيّ (3) .
الجواب عن هذه المناقَشة :
ويمكن ردّ هذه المناقَشة : بأنّ احتمال العامّ لِلتخصيص لا ينفي أنّه موضوع لِلعموم ولا يشكِّكنا في عمومه ، وإنّما يؤثّر في دلالته على جميع أفراده لِتصبح بسبب وجوده ظنِّيّةً لا قَطْعيّة .
المذهب الثاني : أنّ دلالة العامّ على جميع أفراده قَطْعيّة .
وهو ما عليه جمهور الحنفية .
(1) سورة الحِجْر الآية 30
(2) يُراجَع : تشنيف المسامع 1/330 وغاية الوصول /70 وعِلْم أصول الفقه لِخلاّف /189 والإبهاج 2/87 وشرْح الكوكب المنير 3/114 ، 115
(3) فواتح الرحموت بشرْح مُسَلَّم الثبوت 1/266 ، 267
واحتَجّوا : بأنّ اللفظ إذا وُضِع لِمعنى كان هذا المعنى لازماً له وثابتاً به قَطْعاً حتى يقوم الدليل على خلافه ، والعامّ موضوع لِلعموم بالاتفاق ، فلِذا يَكون لازماً له ولا ينفكّ عنه حتى يقوم الدليل على تخصيصه ، فإذا لم يقم هذا الدليل كانت إرادة البعض مِن العامّ مُجَرَّد احتمال ، واحتمال العامّ لِلتخصيص احتمال يَنقصه الدليل ، ولِذا لا يؤثر في قَطْعِيَّة العامّ كما لم يؤثر احتمال المَجاز في قَطْعِيَّة الخاصّ (1) .
مناقَشة هذا الدليل :(1/27)
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّه قد ثبت بالاستقراء والتَّتَبُّع كثرة تخصيص العامّ ، حتى أَصبَح ما مِن عامّ إلا وقد دخله التخصيص ، ولِذا فاحتمال التخصيص قائم في كُلّ عامّ ، وإذا ثبت احتمال التخصيص كانت دلالة العامّ على جميع أفراده ظَنِّيَّةً لا قَطْعيّة .
المذهب الثالث : الوقف .
ونسبه السرخسي (2) لِبعض المتأخرين مِمَّن لا سلف لهم في القرون الثلاثة وسُمُّوا بـ" الواقفية " .
واحتَجّوا بدليليْن :
الدليل الأول : قوله تعالى { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَنًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل } (3) ..
(1) يُراجَع : مُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/265 وأثر الاختلاف /205 وأصول الفقه الإسلامي لِشعبان /330
(2) السرخسي : هو شمْس الأئمة أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهْل الحنفي ..
مِن مصنَّفاته : المبسوط في الفقه ، أصول السرخسي .
تُوُفِّي سَنَة 483 هـ .
الفوائد البهية /158 والجواهر المضيئة 2/28
(3) سورة آل عمران الآية 173
وجْه الدلالة : أنّ " الناس " مِن ألفاظ العموم ، وقد أريدَ بالأولِ الخاصُّ والمراد به رجُل واحد ، وهو نُعيم بن مسعود الأشجعيّ (1) الذي أُرسِلَ مِن مكة لِيُخَوِّف المؤمِنين بالمدينة ، وأريدَ بالناس الثاني أهْل مكة (2) ..
وإذا احتمَل العامّ العموم والخصوص كان مشتركاً بيْنهما ، ولا يُحمَل على واحد منها إلا بقرينة ، ويجب التوقف حتى يَظهر المراد مِن هذا العموم .
الدليل الثاني : أنّ لفْظ " العامّ " مُجْمَل في معرفة المراد به حقيقةً ؛ لاحتمال أنْ يَكون المراد به الخصوص ، ولِذا فسّر بما ينفي ذلك ، نحْو :" جاء القوم كُلّهم أو أجمعون " ، وإذا كان العامّ مُجْمَلاً فيجب التوقف حتى يفسّر إجماله (3) .
مناقَشة هذا المذهب وأدلّته :(1/28)
وهذا المذهب بأدلّته مردود ؛ لأنّه لا يُعرَف له قائل ، وتلك أمَارة ضَعفه ، كما أنّ الدليل الأول لا يُقوِّي وجْهتهم ؛ لأنّ العامّ الذي أريدَ به الخصوص خارج محلّ نزاعنا ..
وأنّ الدليل الثاني مرفوض : بأنّ العامّ لفْظ واضح الدلالة على المراد به مع احتمال ورود التخصيص عليه ، والمُجْمَل ليس كذلك ؛ لأنّه اللفظ
(1) نعيم بن مسعود : هو الصّحابيّ الجليل أبو سلمة نعيم بن مسعود بن عامر الغطفاني الأشجعي - رضي الله عنه - ، صحابيّ جليل أَسلَم في وقعة الخندق وأَوقَع الخلاف بيْن اليهود والمشرِكين فتَنازَعوا ورحلوا عن المدينة ..
تُوُفِّي في خلافة عثمان رضي الله عنهما ، وقيل : في وقعة الجمل .
أسد الغابة 5/33 والإصابة 3/568
(2) يُراجَع : أصول السرخسي 1/134 وأصول البزدوي مع كشْف الأسرار لِلبخاري 1/607 والتوضيح مع التنقيح والتلويح 1/66 - 70
(3) يُراجَع أصول السرخسي 1/134
الذي لا تتضح دلالته إلا لاستفسار مِن المُجْمَل وبيان مِن جهته يُعرَف به المراد (1) .
الترجيح :
وبَعْد الوقوف على مذاهب الأصولييّن وأدلّتهم في دلالة العامّ أرى : أنّ المذهب الثالث القائل بالوقف مردود ؛ لِجهْل قائله وضَعْف أدلته ..
وأنّ المذهب الثاني القائل بأنّ دلالته قَطْعِيَّة حُجّته قوية وأدلّته لها وجاهتها ، لكنِّي أقف عند احتمال التخصيص الذي غالباً ما يَرِد على العامّ ..
ولِذا كان المذهب الأول عندي هو الأَوْلى بالقبول والترجيح في أنّ دلالة العامّ على جميع أفراده ظَنِّيَّة لا قَطْعِيَّة .
(1) يُراجَع أصول السرخسي 1/168
ثالثاً : معيار العموم
ومعيار العموم : أيْ ميزان العموم .
أو هو : ما يُعلَم به كوْن اللفظ عامّا أم لا ، وهو جواز الاستثناء .
نحْو : " جاء الرجال إلا زيداً " ، وذلك لأنّ الاستثناء يُخرِج مِن اللفظ ما لولاه ( الاستثناء ) لَوَجب اندراجه تحْت اللفظ ( المستثنَى منه ) .(1/29)
ودليل ذلك : أنّه لو لم يكن الاستثناء معيار العموم لَجاز أنْ يُستثنَى مِن الجَمْع المُنَكَّر ؛ إذ لا مانِع منه سِوَى عدم وجوب الاندراج وإنْ لم يوجَد الاستثناء ، واللازم باطل ؛ فلا تقول :" جاء رجال إلا زيداً " ..
وقد نَصّ النحاة على منْعه ، وقالوا : لا يصحّ الاستثناء مِن الجَمْع المُنَكَّر إلا أنْ يُخصَّص فيعمّ ما يخصّص به ..
نحْو : " قام رجال كانوا في دارك إلا زيداً منهم أو رجلاً منهم " ، ويصحّ :" جاء رجل إلا زيْدٌ " بالرفع على أنّ " إلا " صفة بمعنى غيْر : كما في قوله تعالى { لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (1) أيْ غيْره تعالى .
اعتراض على معيار العموم :
وقد اعتُرِض على معيار العموم وهو جواز الاستثناء : بأنّه لو كان جواز الاستثناء معيار العموم لَكان العَدَد عامّاً ، وليس كذلك .
الجواب عن هذا الاعتراض :
وقد أجاب ابن السبكي عن هذا الاعتراض : بأنّا لم نَقُلْ " كُلّ مستثنَى منه عامّ " ، بل قُلْنَا : كُلّ عامّ يَقبَل الاستثناء ، فمِن أين العكس ؟
(1) سورة الأنبياء مِن الآية 22
مناقَشة هذا الجواب :
وقد نوقش هذا الجواب : بأنّا لا نُسَلِّم جواز الاستثناء مِن العَدَد ؛ فقدْ ذهب ابن مالك (1) إلى أنّه لا يُشترَط في صحّة الاستثناء كوْنه مِن عامّ ، بل جَوَّزه مِن النكرة في الإثبات بشرْط الفائدة ، نحْو : " جاءني قوم صالحون إلا زيدا " .
وخرج عليه الاستثناء مِن العَدَد ، نحْو : قوله تعالى { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَاما ... } الآية (2) .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقد رَدّ الإسنوي هذه المناقَشة : بأنّ المصنِّف ( البيضاوي ) لم يَدّعِ وجوب الاندراج مع كوْنه مستثنى ، بل ادّعاه عند عدمه ، ولِهذا قال ( ما يجب اندراجه لولاه ) .(1/30)
وأيضاً : فإنّ المستثنى داخِل في المستثنى منه لغةً لا منه ، فلا تَناقُض لأنّ الصحيح أنّ الحُكْم على المستثنى منه إنّما هو بَعْدَ إخراج المستثنى (3) (4) .
(1) ابن مالك : هو أبو عبد الله جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك الطائي النحوي الشافعي ، أديب نحويّ ، إمام في القراءات وعِلَلها ..
مِن مصنَّفاته : الكافية ، الشافية ، الألفية .
تُوُفِّي بدمشق سَنَة 672 هـ .
طبقات الشافعية الكبرى 8/67 وشذرات الذهب 5/339
(2) سورة العنكبوت مِن الآية 14
(3) نهاية السول 2/95
(4) يُراجَع : المحصول 1/364 - 366 والكاشف عن المحصول 4/280 - 284 ونهاية السول 2/94 ، 95 ومعراج المنهاج 1/351 ، 352 وتشنيف المَسامع مع جَمْع الجوامع 1/341 ، 342 وشرْح الكوكب المنير 3/153 ، 154 وشرْح الكوكب الساطع 1/460 ، 461 وتقرير الشربيني مع المَحَلِّيّ مع البناني 1/417 ، 418 وغاية الوصول /72
المبحث الثاني
صيغ العموم وألفاظه
وفيه ستة مطالب :
المطلب الأول : صيغ العموم .
المطلب الثاني : صيغ العموم حقيقة في العموم أم لا ؟
المطلب الثالث : ألفاظ العموم .
المطلب الرابع : الجَمْع المعرَّف بالألِف واللام أو الإضافة والجَمْع المُنَكَّر وأَقَلّ الجَمْع .
المطلب الخامس : المفرَد المحلَّى بالألِف واللام والأسماء المبهمة .
المطلب السادس : النكرة في سياق النفي والأسماء المؤكدة وألفاظ معناها العموم .
المطلب الأول
صيغ العموم
اختلَف الأصوليّون أوّلاً في التعبير عن صيغ العموم ..
وقد وقفتُ لهم في ذلك على أربعة تعبيرات :
الأول : أدوات العموم .
وهو اختيار القرافي (1) .
الثاني : ألفاظ العموم .
وهو اختيار أبي إسحاق الشيرازي (2) (3) وابن السمعاني (4) (5) وصدْر الشريعة (6) .
(1) يُراجَع شرْح تنقيح الفصول /178
(2) أبو إسحاق الشيرازي : هو إبراهيم بن علِيّ بن يوسف بن عبد الله الشيرازي الشافعي ، وُلِد سَنَة 393 هـ ..(1/31)
مِن مصنَّفاته : التنبيه ، اللمع ، التبصرة في الأصول .
تُوُفِّي سَنَة 476 هـ .
طبقات الشافعية الكبرى 3/88 ووفيات الأعيان 1/5
(3) يُراجَع شرْح اللمع 1/309
(4) ابن السمعاني : هو أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد بن محمد ، مِن أهْل مرو ..
مِن مصنَّفاته : البرهان ، الاصطلام ، القواطع في أصول الفقه .
تُوُفِّي سَنَة 489 هـ .
النجوم الزاهرة 5/160 والبداية والنهاية 12/153
(5) يُراجَع قواطع الأدلة 1/167
(6) يُراجَع التوضيح مع التنقيح 1/87
وابن قدامة (1) (2) .
الثالث : صيغة العموم أو صيغ العموم .
وهو اختيار الآمدي (3) والزركشي (4) وابن الهمام (5) (6) والفتوحي (7) (8) والمحلِّيّ (9) (10) .
(1) ابن قدامة : هو أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصْر بن عبد الله المقدسي الدمشقي الحنبلي ، وُلِد بجماعيل سَنَة 541 هـ ..
مِن مصنَّفاته : المغني في الفقه ، الروضة في أصول الفقه .
تُوُفِّي بدمشق سَنَة 620 هـ .
البداية والنهاية 13/134 والفتح المبين 2/54
(2) يُراجَع روضة الناظر /195
(3) يُراجَع الإحكام لِلآمدي 2/183
(4) يُراجَع البحر المحيط 3/62
(5) ابن الهمام : هو محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود الحنفي ، فقيه أصوليّ متكلِّم نحويّ ، وُلِد سَنَة 790 هـ ..
مِن مصنَّفاته : التحرير ، فتْح القدير ، زاد الفقير في الفقه .
تُوُفِّي سَنَة 861 هـ ودُفِن بجوار ابن عطاء الله السكندري .
الفتح المبين 3/39
(6) يُراجَع التيسير مع التحرير 1/197
(7) الفتوحي : هو تقيّ الدين أبو البقاء محمد بن شهاب الدين بن أحمد بن عبد العزيز بن علِيّ الفتوحي المصري الحنبلي ، الشهير بـ" ابن النجار " ، وُلِد بمصر سَنَة 898 هـ ..
مِن مصنَّفاته : منتهى الإرادات ، الكوكب المنير المسمَّى بـ" مختصر التحرير " .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 979 هـ .(1/32)
شذرات الذهب 8/39 والأعلام 6/233 ومقدمة شرْح الكوكب المنير 1/5 ، 6
(8) يُراجَع شرْح الكوكب المنير 3/119
(9) المحَلِّيّ : هو جلال الدين محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم المحلِّيّ الشّافعيّ ، فقيه أصوليّ متكلِّم نحويّ مفسِّر ، وُلِد بمصر سَنَة 791 هـ ..
مِن مصنَّفاته : شرْح جَمْع الجوامع ، شرْح المنهاج في الفقه ، شرْح الورقات .
تُوُفِّي بمصر سَنَة 864 هـ .
شذرات الذهب 7/303 والفتح المبين 3/40
(10) يُراجَع المحلِّيّ مع البنانيّ 1/408
الرابع : ما يفيد العموم .
وهو اختيار أبي الحسين البصري (1) وفخر الدين الرازي (2) وابن السبكي (3) .
وأرى : أنّ التعبيريْن الأول والثاني كلاهما قاصِر على صِيَغ العموم المستفادة مِن اللغة ، دون المستفادة مِن العرف والعقل ، ولِذا كان التعبيران الأخيران أَعَمّ وأَشمَل .
إذا تَقَرَّر ذلك .. فإنّ صيغ العموم أو ما يفيده العموم له أقسام ذَكَرها أبو الحسين البصري (4) ، وتَبِعه الفخر الرازي (5) والسراج الأرموي (6) والإسنوي (7) وابن السبكي (8) والزركشي (9) .
وهذه الأقسام ثلاثة :
القِسْم الأول : صيغ العموم التي تفيد العموم لغةً .
القِسْم الثاني : صيغ العموم التي تفيده عرفاً .
القِسْم الثالث : صيغ العموم التي تفيده عقلاً .
ووجْه الحصر في هذه الأقسام الثلاثة : وضَّحه العجليّ الأصفهاني (10)
(1) يُراجَع المعتمد 1/191
(2) يُراجَع المحصول 1/353
(3) يُراجَع الإبهاج 2/91
(4) يُراجَع المعتمد 1/191 - 193
(5) يُراجَع المحصول 1/353 - 355
(6) يُراجَع التحصيل 1/343 - 344
(7) يُراجَع نهاية السول 2/89 - 94
(8) يُراجَع الإبهاج 2/91 - 107
(9) يُراجَع البحر المحيط 3/62 ، 63
(10) الأصفهاني : هو شمْس الدين أبو عبد الله محمد بن محمود بن محمد بن عياد العجلي ، وُلِد بأصفهان سَنَة 616 هـ .. =
فقال :" إنّ ما يفيد العموم إمّا أنْ يَكون لفْظاً أو غيْر لفْظ ..(1/33)
واللفظ لا بُدّ وأنْ تَكون دلالته على معناه إمّا لاصطلاح عامّ ، وهو اصطلاح أئمة اللغة ، أو لاصطلاح خاصّ ، وهو اصطلاح أهْل العرف .
وأمّا المفيد الذي ليس بلفْظ فهو العقل ، أيْ بطريق العقل فُهِم العموم ، فقُيِّد الحصر المفيد لِلعموم في الأقسام الثلاثة " (1) .
ونُفَصِّل القول في كُلّ منها فيما يلي :
القِسْم الأول : صيغ العموم التي تفيده لغةً :
والصيغة التي تفيد العموم لغةً على ضربيْن :
الضرب الأول : أنْ يَكون عامّاً بنَفْسه لِكوْنه موضوعاً له ..
وهو نوعان ؛ لأنّه إمّا أنْ يَكون شاملاً لِجميع المفهومات مِن غيْر حاجة إلى قرينة ، وإمّا أنْ يَكون غيْر شامل ..
فإنْ كان شاملاً لِجميع المفهومات فصيغُه : " أيّ " و" كُلّ " و" جميع " و" الذي " و" التي " ونحْوهما و" سائر " إنْ كانت مأخوذةً مِن سور المدينة وهو المحيط بها .
وإنْ لم يكن شاملاً لِلكلّ فهو على وجهيْن :
أحدهما : أنْ يَكون مختصّاً بأُولِي العلم ، وهي صيغة " متى " كـ" مَن " .
ثانيهما : أنْ يَكون مختصّاً بغيْر أُولِي العلم ..
وهو على قِسْمَيْن :
الأول : أنْ يتناول كُلّ ما ليس مِن العالَمين ، نحْو : صيغة " ما " .
= مِن مؤلَّفاته : كتاب القواعد ، غاية المطلب ، الكاشف عن المحصول .
تُوُفِّي بالقاهرة سَنَة 688 هـ .
الفتح المبِين 2/93 والبداية والنهاية 13/315
(1) الكاشف عن المحصول 4/229
وقيل : إنّه يتناول العالَمين أيضاً ، نحْو : قوله تعالى { وَلا أَنتُمْ عَبِدُونَ مَا أَعْبُد } (1) .
وهي إمّا أنْ تختصّ بالزمان ، وهي " متى " ، وإمّا أنْ تختصّ بالمكان وهي : " أنّى " و" حيث " و" أين " .
الضرب الثاني : أنْ يَكون عامّاً بنَفْسه ليس بالوضع ، وإنّما بقرينة ..
وهذا الضرب له صورتان :
الأولى : في جانِب الإثبات ..
وصيغه :
1- لام الجنس الداخلة على الجَمْع ، نحْو : " الرجال " .
2- الجَمْع المضاف ، نحْو : " ضربْت عَبِيدي " .(1/34)
الثانية : في جانِب النفي ..
وهي : النكرة في سياق النفي .
وسيأتي تفصيل القول بإذن الله تعالى في هذه الصيغ .
القِسْم الثاني : ما يفيد العموم عرفاً :
مثاله : قوله تعالى { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَتُكُم } (2) ، فأهْل العرف نقلوا تحريم العيْن إلى تحريم جميع وجوه الاستمتاعات ؛ لأنّه المقصود مِن المرأة .
القِسْم الثالث : ما يفيد العموم عقلاً :
وأسبابه ثلاثة :
الأول : ذِكْر الحُكْم مع علة يعمّ لِعموم علّته ؛ فإنّ ترتيبه يُشعِر بكوْنه علّةً
(1) سورة الكافرون الآية 3
(2) سورة النساء مِن الآية 23
له ، فيَقتضي ثبوت الحُكْم كلّما ثبتَت العلَّة .
الثاني : ما يُذكَر جواباً عن سؤال سائل : كمَن يسأل النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عمَّن أَفطَر فقال - صلى الله عليه وسلم - ( عليه الكفارة ) فيعلم أنّه يعمّ كُلّ مفطِر .
الثالث : مفهوم المخالَفة ( دليل الخطاب ) عند القائلين به .
نحْو : قوله - صلى الله عليه وسلم - { فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاة } (1) ؛ فإنّ مفهومه يقتضي عدم إيجاب الزكاة في غيْر السائمة (2) .
أقسام العامّ عند أهْل اللغة :
قسَّم اللّغويُّون العامّ إلى قِسْمَيْن :
القِسْم الأول : عامّ صيغةً ومعنى .
وهو : كُلّ عامّ وَرَد بصيغة الجَمْع ، سالماً كان أو غيْر سالِم ..
نحْو : " زيدون " ، و" رجال " ، و" نساء " .
وسواء كان جَمْع قلة أم كثرة ، مُعّرَّفاً أم مُنَكَّرا .
القِسْم الثاني : عامّ معنىً لا صيغة .
وهو : كُلّ عامّ لم يَرِد بصيغة الجَمْع ، وإنَّما بصيغة المفرَد ، ولِهذا يُثَنَّى ويُجْمَع .
نحْو : " القوم " و" الإنس " والجنّ " و" الرهط " وكُلّ " و" جميع " و" مَن " و" ما " (3) .(1/35)
(1) هذا جزء مِن حديث أَخرَجه البخاري في كتاب الزكاة : باب زكاة الغنم برقم ( 1362 ) والنسائي في كتاب الزكاة : باب زكاة الإبل برقم ( 2404 ) وأحمد في مسنَد العشرة المبشَّرين بالجَنَّة ، كُلّهم عن أبي بكْر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - .
(2) يُراجَع : المعتمد 1/191 - 193 والمحصول 1/353 - 355 والكاشف 4/228 - 241 والإبهاج 2/91 - 107 ونهاية السول 2/89 - 94 ومناهج العقول 2/83 - 86 والبحر المحيط 3/62 ، 63
(2) يُراجَع الكُلِّيّات /600 ، 601
وهو تقسيم ـ فيما نرى ـ قائم على قاعدة تُفَرِّق بيْن العامّ الذي يَرِد بصيغة الجَمْع وبيْن غيْره : فما كان مِن الأُولى فهو عامّ صيغةً ومعنىً أو لفظاً ومعنى ، وما كان مِن الثانية ـ أعني غيْر الجَمْع ـ فهو عامّ معنىً لا صيغةً أو معنىً لا لفظا .
وقريب مِن تلك القاعدة ما ذهَب إليه بعض الأصوليّين مِن الشافعية حينما قسَّموا العموم إلى قِسْميْن :
القِسْم الأول : عموم مِن جهة اللفظ .
وهو : كُلّ لفْظ دَلّ على العموم بصيغته .
وهو متحقِّق في الجَمْع : كـ" المسلِمين " و" المؤمِنين "
القِسْم الثاني : عموم مِن جهة المعنى .
وهو : كُلّ لفْظ لا يَدُلّ على العموم بصيغته ، وإنّما اقترَن به .
نحْو : الأسماء المبهَمة : " مَن " و" ما " ، واسم الجنْس : كـ" الإنسان " و" السارق " و" الزاني " (1) .
(1) يُراجَع قواطع الأدلة 1/167 - 169
المطلب الثاني
صيغ العموم حقيقة في العموم أم لا ؟
اختلَف العلماء في صيغ العموم : هل هي حقيقة في العموم أم لا ؟ على مذاهب :
المذهب الأول : أنّها حقيقة في العموم ، مَجاز في الخصوص .
وهو ما عليه الجمهور ، ويُسمَّى " مذهب أرباب العموم " ..
واختاره الشيرازي (1) وابن الحاجب (2) والبيضاوي (3) ، وهو قول الإمام أبي حنيفة (4) والإمام مالك (5) والإمام الشافعي وداود (6) والإمام
(1) شرْح اللمع 1/318
(2) مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/102(1/36)
(3) منهاج الوصول مع نهاية السول 2/85
(4) الإمام أبو حنيفة : هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن كاوس بن هرمز ، أول الأئمة الأربعة ، وُلِد بالكوفة سَنَة 80 هـ ..
مِن مصنَّفاته : المخارج في الفقه واللغة .
تُوُفِّي سَنَة 150 هـ .
الأعلام 9/4 والفتح المبين 1/106 - 110
(5) الإمام مالك : هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك الأصبحي المدني ، إمام دار الهجرة ، أحد الأئمة الأربعة ، وُلِد بالمدينة سَنَة 93 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الموطَّأ .
تُوُفِّي بالمدينة سَنَة 179 هـ .
الأعلام 3/824 والفتح المبين 1/117 - 123
(6) داود الظاهري : هو أبو سليمان داود بن علِيّ بن داود بن خلف الأصفهاني الظاهري ، وُلِد بالكوفة ، كان شافعيّاً متعصِّباً في أول أمْره ..
مِن مصنَّفاته : الكافي . =
أحمد (1) رحمهم الله (2) .
واحتَجّوا بأدلة ، منها :
الدليل الأول : قوله تعالى على لسان نوح - عليه السلام - { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبّ إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَكِمِين } (3) ..
وجْه الدلالة : أنّ نوحاً - عليه السلام - عقل أنّ العامّ حقيقة في العموم في قوله تعالى { احْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَك } (4) ، فالأهْل المحمولون همْ جميع الأهْل بما فيهم ولده ، ولِذا نادى ربَّه مستفهِماً : أليس ولده مِن أهْله ؟ فأَقَرَّه الله ـ عَزّ وجَلّ ـ على فهْمه لِعموم العامّ ولم ينكر تَعلُّقه به ، وإنّما بيَّن أنّ ولده ليس مِن جملة أهْله لِسبب اختصّ به وهو أنّه عمل غيْر صالح ، وإنّما أَمَرَه بحَمْل مَن أطاع مِن أهْله ..
فدَلّ ذلك على أنّ لفْظ " العامّ " بإطلاقه يقتضي العموم حقيقةً ، وإلا لَمَا كان لاستفهام نوح - عليه السلام - محلّ .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ العامّ إنّما حُمِل على العموم لأنّ اللفظ
= تُوُفِّي ببغداد سَنَة 270 هـ .(1/37)
الفتح المبين 1/167 - 169
(1) الإمام أحمد : هو أبو عبد الله أحمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس الشيباني ، الإمام الفقيه المحدِّث ، أحد الأئمة الأربعة ، وُلِد ببغداد سَنَة 164 هـ .
مِن مصنَّفاته : المسنَد ، التفسير ، السُّنَّة .
تُوُفِّي ببغداد سَنَة 241 هـ .
البداية والنهاية 10/320 والفتح المبين 1/156 - 163
(2) يُراجَع المسوَّدة /89
(3) سورة هود الآية 45
(4) سورة هود مِن الآية 40
يحتمل ذلك ، فإنْ كان لا يحتمل فإنَّه لا يُحمَل عليه ؛ لِعدم القرينة .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقد رُدّت هذه المناقَشة : بأنّه لا يجوز أنْ يُحتجّ على الله تعالى في أمْر محتمل لا عِلْم له ولا ظاهر يدلّ عليه ؛ لأنّ احتمال دخوله فيه كاحتمال عدم دخوله فيه ؛ لأنّ العاقل إنّما يَحتجّ على غيْره بلفْظ صريح ظاهِر في مقتضاه ، ولكنْ مع الشّكّ والاحتمال فلا يرون الاحتجاج به .
الدليل الثاني : قوله تعالى { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَ رِدُون } (1) ..
وجْه الدلالة : أنّ عبد الله بن الزِّبعري (2) حَمَل ما في الآية على العموم ، ولِذا قال :" لأخصمنّ محمَّداً " ، وجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له :" قد عُبِدَت الملائكة ، وعُبِد المسيح ، فيدخلون النار " ، فأَنزَل الله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُولَئكَ عَنْهَا مُبْعَدُون } (3) (4) ..
فابن الزبعري مِن بلغاء العرب الذين يَحملون لفْظ العموم على عمومه وأَقَرَّه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك حتى وَرَد دليل التخصيص وإخراج مَن سبقَت لهم الحسنى مِن الله تعالى .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ ابن الزبعري ادَّعى ما ادَّعى لاحتمال
(1) سورة الأنبياء الآية 98(1/38)
(2) عبد الله بن الزِّبعري : هو الصّحابيّ الجليل أبو سعْد عبد الله بن الزِّبعري بن قيس القرشي السّهميّ - رضي الله عنه - ، كان مِن أَشعَر قريش ، وكان شديداً على المسلِمين ، أَسلَم بَعْد الفتح ومَدَح النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ..
تُوُفِّي سَنَة 15 هـ .
الإصابة 1/308
(3) سورة الأنبياء الآية 101
(4) يُراجَع أسباب النزول لِلنيسابوري /200 ، 201
دخولهم في العموم ، ولو لم يكن ذلك لَمَا احتجّ به ؛ لأنّ اللفظ بموضوعه يقتضي دخولهم فيه .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقد رُدّت هذه المناقَشة : بأنّه لا يَحسُن مِن ابن الزبعري أنْ يخاصِم في لفْظ محتمل لا ظاهر فيه على ما يدُلّ عليه ، ولا يُعقَل الاحتجاج ، ولكن خصامه دليل على نفْي الاحتمال وأنّ العامّ يُحمَل على العموم إلا إنْ وَرَد ما يخصِّصه .
الدليل الثالث : إجماع الصحابة على أنّ العامّ حقيقة في العموم ..
وأدلة ذلك كثيرة ، أكتفي منها بدليليْن :
الأول : أنّ عُمَر - رضي الله عنه - (1) عارَض أبا بكر - رضي الله عنه - (2) أوّلاً قي قتال مانعِي الزكاة قائلا :" كَيْفَ تُقَاتِلُهُمْ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا " لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ " ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُم } (3) ..
فتعَلَّق عُمَر - رضي الله عنه - بعموم اللفظ في العصمة المعلَّقة على الشهادة ،
(1) عُمَر بن الخطّاب : هو أبو حفْص الفاروق عُمَر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى العدوي القرشي - رضي الله عنه - ، وُلِد سَنَة أربعين قَبْل الهجرة ، مِن السابقين في الإسلام الذين أَعَزَّ الله بهم دينه ، تَوَلَّى الخلافة سَنَة 13 هـ ، وهو الخليفة الراشد الثاني ..
قُتِل شهيداً سَنَة 23 هـ .
الفتح المبين 1/54 - 57(1/39)
(2) أبو بكر الصِّدِّيق : هو الصّحابيّ الجليل عبد الله بن عثمان بن عامر التّيميّ ، وُلِد بمكة سَنَة 51 هـ قَبْل الهجرة ، أول مَن أَسلَم مِن الرجال ، وأول الخلفاء الراشدين ..
تُوُفِّي بالمدينة سَنَة 13 هـ .
أسد الغابة 3/205 والإصابة 2/341
(3) أَخرَجه مسلِم في كتاب الإيمان : باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا " لا إله إلا الله محمد رسول الله " برقم ( 31 ) والنسائي في كتاب الجهاد : باب وجوب الجهاد برقم ( 3042 ) وابن ماجة في كتاب الفِتَن : باب الكفّ عَمَّن قال " لا إله إلا الله " ، كُلّهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
ولم ينكِر أبو بكر - رضي الله عنه - احتجاجه ، ولكنّه وضَّح أنّ هذا العامّ قد خُصِّص بقوله - صلى الله عليه وسلم - { إِلاَّ بِحَقِّهَا ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّه } .
الثاني : أنّ السيدة فاطمة عليها السلام (1) أتت أبا بكر - رضي الله عنه - تطالب بميراثها مِن أبيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محتجّةً بقوله تعالى { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْن } (2) ، فقدْ فهمَت عموم الميراث في كُلّ ميت ، لكنّ أبا بكر - رضي الله عنه - بيَّن لها أنّه مخصَّص بقوله - صلى الله عليه وسلم - { نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة } (3) .
مناقَشة هذيْن الدليليْن :
وقد نوقش هذان الدليلان : بأنّ هذه الروايات مِن أخبار الآحاد ، وخبر الآحاد لا يُحتَجّ به في الأصول .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقد رُدّت هذه المناقَشة : بأنّ هذه الأخبار تَلَقَّتْها الأُمَّة بالقبول وإن اختُلِف في العمل بها ، فصارت مقطوعاً على صِحَّتها (4) .
المذهب الثاني : أنّ صيغ العموم حقيقة في الخصوص ، مَجاز في العموم(1/40)
(1) السيدة فاطمة الزهراء : بنت الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - ، أُمّ الحسنيْن رضي الله عنهما ، وُلِدَت قَبْل البعثة بقليل ، تَزَوَّجها عَلِي - رضي الله عنه - في السَّنَة الثانية من الهجرة ..
تُوُفِّيَت بَعْد وفاة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بستّة أَشهُر سَنَة 11 هـ .
الإصابة 8/53 - 60
(2) سورة النساء مِن الآية 11
(3) أَخرَجه البخاري في كتاب فرْض الخُمس : برقم ( 2862 ) ومسلِم في كتاب الجهاد والسَّيْر : باب حُكْم الفيء برقم ( 3302 ) والترمذي في كتاب السَّيْر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : باب ما جاء في تركة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برقم ( 1535 ) ، كُلّهم عن أبي بكْر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - .
(4) يُراجَع هذه الأدلة في : شرْح اللمع 1/320 - 325 والتمهيد لِلكلوذاني 2/7 - 12 وشرْح الكوكب المنير 3/110 ، 111 والإحكام لِلآمدي 2/186 - 188
فتُحمَل على ثلاثة ، ولا تُحمَل على ما زاد عليها إلا بدليل .
وهو قول ابن المنتاب (1) مِن المالكية ومحمد بن شجاع الثلجي (2) مِن الحنفيّة وأبي هاشم (3) مِن المعتزلة ..
ويُسَمَّى أصحاب هذا المذهب بـ" أرباب الخصوص " (4) .
واحتَجّوا بأدلة ، منها :
الدليل الأول : أنّ الثلاث متيقَّن ؛ لأنّه أقَلّ الجَمْع ، وتناوله لِلعموم محتمل وحَمْل اللفظ على المتيقّن أَوْلى مِن حَمْله على المحتمل ، ولِذا كان لفْظ " العامّ " مَجازاً فيه حقيقةً في الخصوص .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم أنّ العامّ مَجاز فيما زاد على الثلاث ؛ لأنّ اللفظ صالح لِلثلاث ولِمَا زاد عليه ، واستعماله فيما زاد عليه
(1) ابن المنتاب : هو أبو الحَسَن عُبَيْد الله بن المنتاب بن الفضل البغدادي المالكي ، قاضي المدينة المنوَّرة ، إمام حافِظ نظّار ، يُعَدّ مِن كبار أئمة المالكيّة ..
مِن مصنَّفاته : كتاب في مسائل الخلاف ، الحُجّة لِمالك .(1/41)
تُوُفِّي سَنَة 388 هـ .
الديباج المذهب /237 وشجرة النور الزكية /77
(2) محمد بن شجاع الثلجي : هو أبو عبد الله محمد بن شجاع الثلجي البغدادي البلخي الحنفي ، وُلِد سَنَة 181 هـ ، شرَح فِقْه أبي حنيفة ..
مِن مصنَّفاته : تصحيح الآثار .
تُوُفِّي سَنَة 226 هـ .
الأعلام 7/28
(3) أبو هاشم الجبائي : هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي المعتزلي ..
مِن مصنَّفاته : الجامع الكبير ، الأبواب الكبير .
تُوُفِّي ببغداد سَنَة 321 هـ .
الفتح المبين 1/183 ، 184
(4) يُراجَع : شرْح اللمع 1/319 وإرشاد الفحول /202 والإحكام لِلآمدي 2/186
كاستعماله فيه ، فإذا دخل فيه الثلاث لِمقتضاه وجب أنْ يدخل ما زاد عليه (1) .
الدليل الثاني : أنّ الغالب في ألفاظ العموم استعمالها في الخصوص ، ومنه يقال :" جَمَع السلطان التجار وكُلّ صاحب حرفة " و:" ضربتُ الدراهم " والمراد البعض ، وأَخَصُّ البعض المتيقَّن وهو الثلاثة ، وحيث إنّ هذا البعض هو الغالب لِذا كان الأَوْلى جَعْل العامّ حقيقةً في الخصوص مَجازاً في العموم .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم أنّ الغالب في ألفاظ العموم استعمالها في الخصوص كما ادَّعَيْتُم ، وإنْ سلَّمْنا أنّه مستعمَل في البعض فلا نُسَلِّم أنّه حقيقة في الخصوص مَجاز في العموم ، فغالباً ما يُستعمَل الشيء في المَجاز ..
ومِن ذلك : استعمال لفْظ " الغائط " في الخارج المستقذَر مَجازاً ، وحقيقته الموضع المطمئنّ مِن الأرض .
وكذلك : الراوية تُستعمَل غالباً في المزادة مَجازاً ، وحقيقتها الجَمَل الذي يُحمَل عليه ..
وإنْ سلَّمْنا جدلاً أنّه حقيقة في الخصوص فلا نُسَلِّم أنّه حقيقة في الثلاثة وذلك لِعدم الدليل (2) .
المذهب الثالث : أنّها مشتركة بيْن العموم والخصوص .
وهو قول الباقلاني (3) ..
(1) يُراجَع شرْح اللمع 1/337(1/42)
(2) يُراجَع : شرْح اللمع 1/333 والتمهيد لِلكلوذاني 2/42 ، 43 والإحكام لِلآمدي 2/191 ، 202
(3) القاضي أبو بكر الباقلاني : هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم الباقلاّني المالكي =
ونُقِل عن الأشعري (1) ، وعليه أَكثَر الواقفية (2) .
واحتَجّوا بأدلة ، منها :
هذا الدليل : أنّ ألفاظ العموم تُستعمَل تارةً لِلعموم وتارةً لِلخصوص ، والأصل في الاستعمالِ الحقيقةُ ، وحقيقة الخصوص غيْر حقيقة العموم ، ولِذا كانت ألفاظ العموم مشتركاً لفْظيّاً بيْن العموم والخصوص : كلفْظ " العيْن " و" القرء " ، ولا تُحمَل على أحدهما إلا بدليل .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّه يجوز أنْ يُستعمَل في كُلّ واحد مِن الأمْريْن ثم لا يَدُلّ ذلك على أنّه ليس بحقيقة في أحدهما : كـ" الحمار " يُستعمَل في البهيمة المعروفة ، ويُستعمَل في الرجُل البليد ، ثُمّ هو حقيقة في البهيمة ..
وكذلك : " البحر " يُستعمَل في الماء الكثير والرجل الجواد والفَرَس الجواد ، ثُمّ هو حقيقة في الماء الكثير المجتمِع (3) .
وأضيفُ مناقَشةً لِهذا الدليل : أنّ حَمْل المشترك على أحد أفراده لا بُدّ له مِن قرينة ، وحَمْل لفْظ العامّ على العموم لا يحتاج إلى ذلك إلا إذا أريد
= مِن تصانيفه : التمهيد ، المقنع في أصول الفقه ، إعجاز القرآن ، المقدمات في أصول الديانات .
تُوُفِّي ببغداد سَنَة 403 هـ .
وفيات الأعيان 4/269 ، 270 وشذرات الذهب 3/168 والفتح المبين 1/233 - 235
(1) يُراجَع : شرْح العضد 2/102 وفواتح الرحموت 1/260 والإحكام لِلآمدي 2/186
(2) أبو الحَسَن الأشعري : هو علِيّ بن إسماعيل بن أبي بِشْر إسحاق بن سالم البصري ، كان إماماً مِن فحول المعتزلة ثُمّ تَحَوَّل إلى أهْل السُّنَّة ، وُلِد بالبصرة سَنَة 260 هـ ..
مِن مصنَّفاته : مقالات الإسلاميّين ، الموجَز ، إيضاح البرهان .
تُوُفِّي ببغداد سَنَة 324 هـ .(1/43)
شذرات الذهب 2/303 والفتح المبين 1/185 - 187
(3) يُراجَع : شرْح اللمع 1/332 والتمهيد لِلكلوذاني 2/27 ، 28 والإحكام لِلآمدي 2/192 ، 203
به التخصيص ، وحينئذٍ لا بُدّ مِن قرينة ، وإذا كان كذلك انفكّت جهة الاشتراك وأَصبَح لفْظ العامّ حقيقةً في العموم مَجازاً في التخصيص .
المذهب الرابع : الوقف .
نَقَله الباقلاّني عن الأشعري ومعظَم المحقِّقين واختاره ، وهذا المذهب يُسَمَّى " مذهب الواقفية " .
ولهم في الوقف أقوال :
الأول : الوقف بمعنى : لا ندري هل هو حقيقة في العموم أم الخصوص ؟
وهو القول الثاني لِلأشعري ، ومختار الباقلاّني .
الثاني : الوقف عن الوعد والوعيد دون الأوامر والنواهي .
حكاه الرازي عن الكرخي (1) .
الثالث : الوقف فيما عَدَا الوعد والوعيد .
وهو قول جمهور المرجِئة (2) .
الرابع : الوقف فيما زاد على الخصوص .
وهو اختيار الآمدي (3) .
(1) الكرخي : هو أبو الحَسَن عبد الله بن الحَسَن بن دلال بن دلهم الكرخي الحنفي ..
مِن مصنَّفاته : المختصر ، شرْح الجامعين .
تُوُفِّي ببغداد سَنَة 340 هـ .
البداية والنهاية 11/24 والفتح المبين 1/197 ، 198
(2) المرجئة : فِرْقة تَزعم أنّ مَن شَهِد شهادة الحقّ دَخَل الجَنَّة وإنْ عَمِل أيّ عملٍ كان ، وأنّه لا يدخل النارَ مَن قال " لا إله إلا الله " وإن ارتَكَب العظائم وتَرَك الفرائض ..
وهمْ أصناف أربعة : مرجِئة الخوارج ، ومرجِئة الجبرية ، ومرجِئة القدَرية ، والمُرجِئة الخالصة وانقسمَت هذه الأخيرة إلى فِرَق كثيرة ، منها : اليونسية ، والغسّانية ، والصالحية ، والثوبانية .
الفَرْق بيْن الفِرَق /202 - 207 والمِلَل والنَّحِل لِلشهرستاني 1/145 - 151
(3) يُراجَع : التمهيد لِلإسنوي /297 وشرْح اللمع 1/319 والإحكام لِلآمدي 2/186 وتشنيف المسامع 1/332 وإرشاد الفحول /203(1/44)
واحتجّ الواقفية : بأنّهم سبَروا اللغة ووضْعها فلم يجدوا فيها صيغةً دالّةً على العموم ، سواء وَرَدَت مطلقةً أو مقيّدةً بضروب مِن التأكيد ..
هذا الدليل ذكَره بدْر الدين الزركشي في " تشنيف المسامع " (1) والشوكاني (2) في إرشاده (3) .
ولكنّي أرى أنّه دليل على أنّه لا صيغة لِلعموم ، وهو المذهب الخامس .
ولِذا أرى أنّ الأَوْلى الاحتجاج لِلواقفية بأنّ : العامّ قد استُعمِل لِلعموم كما استُعمِل لِلخصوص ، ولِذا وجب التوقف فيهما حتى تَرِدَ قرينة تُرجِّح أحدهما على الآخَر .
مناقَشة هذا الدليل :
ويمكِن ردّ هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم تَساوِي استعمال العامّ فيهما ، وإنّما الأصل أنّ العامّ على عمومه إلا إذا وَرَد دليل يخصِّصه فيُحمَل حينئذٍ عليه .
المذهب الخامس : أنّه ليس لِلعموم صيغة ، وألفاظ العموم تَصلح لِلعموم والخصوص ، ولا تُحمَل على أحدهما إلا بقرينة تَدُلّ على مراد المتكلِّم بها .
(1) تشنيف المسامع 1/332
(2) الشوكاني : هو محمد بن عَلِيّ بن محمد بن عبد الله الشوكاني الصنعاني اليماني ، مجتهِد فقيه مُحَدِّث أصوليّ قارئ مقرئ ، وُلِد بصنعاء سَنَة 1172 هـ ، تَفَقَّه على مذهب الإمام زيْد - رضي الله عنه - ثُمّ استقَلّ ولم يُقَلِّد وحارَب التقليد ..
مِن مصنَّفاته : إرشاد الفحول ، نَيْل الأوطار ، تحفة الذاكرين .
تُوُفِّي بصنعاء سَنَة 1250 هـ .
الأعلام 3/953 والفتح المبين 3/144 ، 145
(3) إرشاد الفحول /203
وهو ما عليه جماعة مِن المُرْجِئة ، ونُقِل عن الأشعري (1) .
واحتَجّوا بما سبق ذِكْره ، ويُرَدّ هذا الدليل بما نوقش به الدليل المتقدِّم .
الترجيح :
بَعْدَ الوقوف على مذاهب الأصوليِّين وأدلّتهم في أنّ صِيَغ العموم هل هي حقيقة في العموم أم لا ؟(1/45)
أرى : أنّ أدلة المذاهب الأربعة التالية لِلأول لم تَسْلَم مِن المناقَشة ، وهم القائلون بأنّه حقيقة في الخصوص مَجاز في العموم ، أو أنّه حقيقة فيهما بالاشتراك ، أو أنّا نتوقف ، أو أنّه لا صيغة له .
ولِذا كان المذهب الراجح عندي هو : المذهب الأول القائل بأنّ ألفاظ العموم حقيقة في العموم مَجاز في الخصوص ؛ لِقوّة حُجّته وسلامة أدلّته مِن المناقَشة والاعتراض .
(1) يُراجَع : شرْح الكوكب المنير 3/109 والتمهيد لِلكلوذاني 2/6 ، 7
المطلب الثالث
ألفاظ العموم
بَعْد الوقوف على صيغ العموم في المطلب السابق اتَّضَح لنا أنّها أقسام ثلاثة ؛ لأنّها إما تفيد العموم لغةً أو عرفاً أو عقلاً ..
ولَمّا كان القِسْم الأول هو الغالب والأكثر في العموم لِذا عَبَّر كثير مِن الأصوليِّين به .
وها نحن مِن خلال هذا المطلب نحاوِل حصْر هذه الألفاظ التي سَلَّم الأصوليّون بوجودها ، لكنّهم اختلَفوا في تنويعها إلى تنويعات عدة ، أَذكر منها ما يلي :
التنويع الأول : لأبي الحسين البصري ..
ولقد نوَّع أبو الحسين البصري لفْظ " العام " في اللغة إلى نوعيْن :
النوع الأول : ما دلّ على العموم بنَفْسه ..
نحْو : " أيْ " و" كُلّ " و" جميع " و" سائر " و" مَن " و" ما " و" متى " و" أين " و" حيث " .
النوع الثاني : ما دلّ على العموم بواسطة ..
وهذه الواسطة قد تَكون في جانب الإثبات ، نحْو : " ال " الداخلة على الجَمْع أو اسم الجنس أو المضاف إليهما ..
وقد تَكون في جانب النفي ، وهي النكرة في سياق النفي .
وتَبِع البصري في ذلك الفخر الرازي والأرموي والبيضاوي (1) .
(1) يُراجَع : المعتمد 1/191 - 194 والمحصول 1/353 - 355 والتحصيل 1/343 ، 344 =
التنويع الثاني : لِلبزدوي (1) ..
ولقد نوَّع البزدوي لفْظ العامّ إلى نوعيْن :
النوع الأول : عامّ بصيغته ومعناه ..
وهو : صيغة كُلّ جَمْع وما أَشبَه ذلك ، أمّا صيغته فموضوعة لِلجمع ، وأمّا معناه فكذلك .(1/46)
النوع الثاني : عامّ بمعناه دون صيغته ..
نحْو : " رهْط " و" قوم " و" مَن " و" كُلّ " و" جميع " و" ما " و" الذي " والنكرة ولام التعريف و" أيْ " (2) .
وتَبِعه في ذلك السرخسي (3) وابن جزّي (4) (5) ، ونحْوه تنويع
= ومنهاج الوصول مع الإبهاج 1/91 ، 92
(1) فخْر الإسلام البزدوي : هو علِيّ بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى ابن مجاهد الحنفي ، وُلِد سَنَة 400 هـ ..
مِن مصنَّفاته : كنْز الوصول إلى معرفة الأصول ، غناء الفقهاء ، شرْح الجامع الصغير والكبير .
تُوُفِّي سَنَة 482 هـ .
معجم البلدان لِياقوت 2/54 ومفتاح السعادة /12
(2) يُراجَع أصول البزدوي مع كشْف الأسرار 2/5 - 46
(3) يُراجَع أصول السرخسي 1/151 - 162
(4) ابن جزّي : هو أبو القاسم محمد بن أحمد بن جزّي الكلبي الغرناطي المالكي ، فقيه أصوليّ محدِّث متكلِّم أديب ، وُلِد سَنَة 693 هـ ..
مِن مصنَّفاته : تقريب الوصول إلى عِلْم الأصول ، وسيلة المسلِم في تهذيب صحيح مسلِم ، النور المبِين في قواعد عقائد الدين .
تُوُفِّي شهيداً سَنَة 741 هـ .
الفتح المبين 2/154
(5) يُراجَع تقريب الوصول /75
الإسمندي (1) (2) والقرافي (3) .
التنويع الثالث : لِلشيرازي ..
وجعَل الشيرازي ألفاظ العموم أربعةً :
الأول : أسماء الجموع المعرَّفة بالألِف واللام .
والثاني : الاسم المفرَد المعرَّف بالألِف واللام .
والثالث : الأسماء المبهمة ( الأسماء الناقصة ) : " مَن " و" ما " و" أيْ " و" أنّى " و" حيث " و" متى " .
والرابع : النفي في النكرات (4) .
ونحْو هذا التنويع سارت الكثرة مِن الأصوليِّين ، منهم ابن السمعاني (5) وإمام الحرميْن (6) الذي نصّ على الألفاظ المؤكدة : " كُلّ " و" سائر "
(1) الإسمندي : هو علاء الدين أبو الفتح محمد بن عبد الحميد بن الحَسَن الإسمندي السمرقندي الحنفي ، وُلِد سَنَة 488 هـ ..(1/47)
مِن مصنَّفاته : الهداية في الكلام ، وبذْل النظر .
تُوُفِّي سَنَة 563 هـ .
النجوم الزاهرة 5/379 ومعجم المؤلِّفين 10/130
(2) يُراجَع بذْل النظر /161 - 164
(3) يُراجَع شرْح تنقيح الفصول /178
(4) يُراجَع شرْح اللمع 1/309 - 318
(5) يُراجَع قواطع الأدلة 1/167 - 169
(6) إمام الحرميْن : هو ضياء الدين أبو المعالي عبد المَلِك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني الشافعي ..
مِن مصنَّفاته : البرهان في أصول الفقه ، الأساليب في الخلافيّات ، التحفة ، التلخيص ، الإرشاد في الكلام .
تُوُفِّي سَنَة 478 هـ .
طبقات الفقهاء الشافعية 2/799 والبداية والنهاية 12/128 والفتح المبين 1/273 - 275
و" أجمعون " (1) والكلوذاني (2) والغزالي الذي زاد نوعاً خامساً وهو : الألفاظ المؤكدة : " كُلّ " و" جميع " و" أجمعون " و" أكتعون " (3) ، ومِثْله ابن قدامة (4) ، وزاد الطوفي (5) خامساً وهو : المضاف إلى معرفة (6) .
وعلى ضوء ما تَقدَّم فإنّه يمكن حصْر ألفاظ العموم ـ سواء أكانت تدل على العموم بذاتها أم بواسطة ـ في الأقسام التالية :
القِسْم الأول : الجَمْع المعرَّف بالألِف واللام أو الإضافة .
القِسْم الثاني : المفرَد المحلَّى بالألِف واللام .
القِسْم الثالث : الأسماء المبهمة .
القِسْم الرابع : النكرة في سياق النفي .
القِسْم الخامس : الأسماء المؤكدة .
القِسْم السادس : ألفاظ معناها الجَمْع .
ونفصِّل القول فيها فيما يأتي ..
(1) يُراجَع التمهيد لِلكلوذاني 2/5 ، 6
(2) يُراجَع الورقات مع الشرْح الكبير 2/93 - 111 والتلخيص 2/14 - 18
(3) يُراجَع المستصفى 2/35 ، 36
(4) يُراجَع روضة الناظر مع نزهة الخاطر 2/107 - 109
(5) الطوفي : هو نَجْم الدين أبو الربيع سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد الطوفي الصرصري البغدادي الحنبلي الأصولي ، وُلِد سَنَة 673 هـ ..
مِن مصنَّفاته : مختصر روضة الموفّق ، بغية السائل في أمّهات المسائل .(1/48)
تُوُفِّي ببلدة الخليل سَنَة 716 هـ .
الدرر الكامنة 2/154 والفتح المبين 2/124
(6) يُراجَع شرْح مختصر الروضة 2/465 - 473
المطلب الرابع
الجَمْع المعرَّف بالألِف واللام أو
الإضافة والجَمْع المُنَكَّر وأَقَلّ الجَمْع
والحديث فيه يحتوي على ما يلي :
1- الجَمْع المعرَّف بالألِف واللام أو الإضافة .
2- الجَمْع المُنَكَّر .
3- أَقَلّ الجَمْع .
أوّلاً : الجَمْع المُعَرَّف
بالألِف واللام أو الإضافة
نحْو : المؤمنين والأبرار والمتقين والمشركين والمشركات ..
سواء أكان جَمْع صحة أم جَمْع تكسير كما تَقدَّم ، وسواء كان له واحد مِن لفْظه ـ كـ" المؤمنين " ـ أو ليس له واحد مِن لفْظه ـ كـ" الأبرار " و" النساء " و" الخيل " ـ وهو اسم الجنس ، وكذا إذا أضيفَ الجَمْع ، نحْو : " عبيدي أحرار " و" نسائي طوالق " و" مال زيْد صدقة " .
واختلَفوا في استغراق الجَمْع المعرَّف بالألِف واللام لِلجنس وإفادته لِلعموم ..
على مذاهب ثلاثة :
المذهب الأول : أنّه يفيد العموم عند عدم العهد ، فإذا كان هناك معهود
حُمِل عليه .
نحْو : قوله تَبارَك وتعالى { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُم } (1) قال في الناس الأولى والثانية لِلعهد وليست لِلجنس ، فالمراد بالأولى نعيم بن مسعود الأشجعي ، والمراد بالثانية أبو سفيان (2) وجماعته (3) ..
وهذا المذهب هو ما عليه جمهور الأصوليِّين ، واختاره إمام الحرميْن وأبو الحسين البصري والفخر الرازي وابن السبكي .
المذهب الثاني : أنّه موضوع لاستغراق الجنس .
وهو ما عليه أبو هاشم وأبو علِيّ (4) وجماعة مِن الفقهاء .
المذهب الثالث : الوقف .
وهو مَرْوِيّ عن إمام الحرميْن في " تشنيف المسامع " و" إرشاد الفحول " ولكنْ بالرجوع إلى " البرهان " و" التلخيص " اتَّضَح أنّه مع الجمهور (5) .
(1) سورة آل عمران مِن الآية 173(1/49)
(2) أبو سفيان : هو الصّحابيّ الجليل صخر بن حرب بن أمية بن عبْد شمس بن عبْد مناف القرشيّ - رضي الله عنه - ، كان أَسَنّ مِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعَشْر سنين ، أَسلَم عام الفتح وحَسُن إسلامه ..
تُوُفِّي سَنَة 34 هـ ، وقيل : سَنَة 31 هـ .
الإصابة 3/414 ، 415
(3) يُراجَع أصول الفقه الإسلامي لِلزحيلي 1/246
(4) أبو علِيّ الجبائي : هو أبو علِيّ محمد بن عبد الوهاب بن سلامة الجبائي ، أحد أئمة المعتزلة ، وُلِد سَنَة 235 هـ ، له مقالات وآراء انفرَد بها في المذهب ..
تُوُفِّي سَنَة 303 هـ .
البداية والنهاية 11/125 والأعلام 7/136 والنجوم الزاهرة 3/189
(5) يُراجَع : المعتمد 1/223 وجَمْع الجوامع مع تشنيف المسامع 1/334 والإبهاج 2/113 ، 114 وحاشية النفحات /75 والبرهان 1/236 والتلخيص 2/115 والمستصفى 2/37 ومختصر المنتهى 2/102 والمحصول 1/378
أدلة المذاهب :
أوّلاً – أدلة المذهب الأول :
استدَلّ الجمهور على أنّ الجَمْع المعرَّف بـ" ال " وليس هناك معهود يفيد الاستغراق بأدلة ، أَذكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله - صلى الله عليه وسلم - { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه } (1) ..
وجْه الدلالة : أنّ عُمَر - رضي الله عنه - احتَجّ في قتال أبي بكر - رضي الله عنه - مانعي الزكاة بعدم الجواز لأنّهم يقولون " لا إله إلا الله " ، ولم ينكِر عليه أحد مِن الصحابة ، لكنّ أبا بكر - رضي الله عنه - بَيَّن لهم وجود الاستثناء المجوِّز في قوله - صلى الله عليه وسلم - { إِلاَّ بِحَقِّهَا } ، والزكاة مِن حقّها ، فلو لم يكن الجَمْع المعرَّف بـ" ال " يفيد العموم لَمَا جاز استدلال عُمَر - رضي الله عنه - به على عدم جواز قتال مانعي الزكاة ، ولَمَا عَدَل أبو بكر - رضي الله عنه - إلى الاستثناء ، فدَلّ ذلك على أنّ الجَمْع المعرَّف بـ" ال " يفيد العموم ، وهو المُدَّعَى .(1/50)
الدليل الثاني : قوله - صلى الله عليه وسلم - { الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْش } (2) ..
وجْه الدلالة : أنّ أبا بكر - رضي الله عنه - احتَجّ على الأنصار بهذا الحديث لَمّا طلبوا الإمامة فسلَّموا له ؛ لأنّهم فَهِموا مِن الحديث أنّ الأئمة جميعهم مِن قريش ، ولو كان معناه بعض الأئمة لَطالَبوا بحقّهم في الإمامة ، ولكنّهم لم يَفعلوا ، فدَلّ ذلك على أنّ الجَمْع المعرَّف بـ" ال " يفيد العموم والاستغراق (3) .
(1) سبق تخريجه .
(2) أَخرَجه أَحمد عن أنس - رضي الله عنه - في باقي مسنَد المُكثِرين برقم ( 11859 ) .
(3) يُراجَع : المحصول 1/378 وبيان المختصر 2/114 - 116 وإرشاد الفحول /209
أدلة المذهب الثاني :
استدَلّ أصحاب المذهب الثاني ـ القائلون أنّ الجَمْع المعرَّف بـ" ال " موضوع لاستغراق الجنس ـ بأدلة ، أَذكُر منها :
الدليل الأول : أنّ الإنسان إذا قال :" جَمَع الأمير الصاغة " لم يُعقَل منه أنّه جَمَع صاغة الدنيا ، وإنّما يُعقَل منه أنّه جَمَع هذا الجنس ..
وإذا كان كذلك كان الجَمْع المعرَّف بـ" ال " غيْر مفيد لِلعموم والاستغراق .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ المعقول مِن المقولة السابقة أنّ الأمير جَمَع صاغة بلده دون غيْرهم ؛ لِتعذُّر جَمْعهم ، ويلزمهم أنْ يُجوِّزوا جَمْعه لِصاغة الدنيا ؛ لأنّ الاسم يحتمله .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقد رُدَّت هذه المناقَشة : بأنّا نَعلم أنّه لم يَجمع صاغة الدنيا وإن احتَمَله اللفظ ؛ لِقرينة وهي تَعذُّر جَمْعهم ، ولِذا كانت القرينة هي المانعة ، فاعتراضكم لا محلّ له .
مناقَشة هذا الجواب :
وقد رُدّ هذا الجواب : بأنّ اللفظ لا يَصلح إلا لِلاستغراق ، وإنّما عَلِمْنا أنّه لم يُرِد المتكلِّمُ الاستغراقَ لِتَعذُّره .
الدليل الثاني : أنّ قولنا :" رجال " يقتضِي جَمْعاً مِن الرجال غيْر مستغرِق واللام أفادت التعريف ، فمِن أين جاء الاستغراق ؟(1/51)
فدَلّ ذلك على أنّ الجَمْع المعرَّف بـ" ال " لا يفيد العموم والاستغراق ، وإنّما هو موضوع لاستغراق الجنس .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ إفادة اللام لِلتعريف لا تَمنع مِن إفادتها الاستغراق ؛ لأنّها لو لم تُفِدْ ذلك لَكان حَمْلُه على بعضٍ غيْر مُعَيَّن نقضاً لِلتعريف ؛ لأنّ البعض الذي ليس بمُعيَّن مجهول وأفاد الجنس ، وقد كان حاصلاً قَبْل دخول اللام ، فدلّ ذلك على أنّ دخول " ال " على الجَمْع تفيد الاستغراق (1) .
أدلة المذهب الثالث :
احتَجّ أصحاب هذا المذهب القائلون بالوقف : بأنّه لم يكن هناك دليل على إرادة الجنس ولا العهد ، وأنّه محتمل لهما ، ولِذا لا يُحمَل على الاستغراق أو الجنس إلا بقرينة (2) .
مناقَشة هذا الدليل :
وأرى رَدّ هذا الدليل : بأنّه قد ثبت بالأدلة القاطعة والحُجج الساطعة بأنّ الجَمْع المعرَّف بـ" ال " يفيد العموم والاستغراق ، ولِذا وَجَب حَمْلُه عليه .
والراجح عندي بَعْدَ الوقوف على أدلة المذاهب هو : المذهب الأول القائل بأنّ الجَمْع المعرَّف بـ" ال " يفيد العموم والاستغراق ، وهو ما عليه الجمهور ؛ وذلك لِقوّة أدلّته وسلامتها مِن المناقَشة والاعتراض ، ولِضَعْف أدلّة المذهبيْن الآخَريْن وعدم سلامتهما مِن المناقَشة .
(1) المعتمد 1/225 ، 226 بتصرف ويُراجَع المحصول 1/381
(2) يُراجَع تشنيف المسامع 1/334
ثانياً : الجَمْع المُنَكَّر
وهو : لفْظ دَلّ بوضْعه على كثير غيْر محصور بغيْر استغراق لِكُلّ فرْد مِن أفراده .
والفَرْق بيْن العامّ والجَمْع المُنَكَّر : أنّ العامّ يَستغرق جميع أفراد مدلولاته ، وأنّ الجَمْع المُنَكَّر يتناول مجموع الأفراد مِن غيْر استغراق لِكُلّ فرْد مِن أفراده (1) .
الجَمْع المُنَكَّر هل يفيد العموم أم لا ؟
تحرير محلّ النزاع :
اتَّفَق الأصوليّون على أنّ الجَمْع المُنَكَّر لا شكّ في عمومه بمعنى انتظام جميع المسمَّيات (2) .(1/52)
والكثرة حصرَت الخلاف في جَمْع الكثرة ، أمّا جَمْع القلة فلا خلاف فيه ، وهو جَمْع يُطلَق على ما فوْق العشرة بأوزان مخصوصة : " أفعل " و" أفعال " و" أفعلة " و" فعلة " (3) ..
وسِرّ ذلك : أنّه لا يتجاوز عَدَداً مُعَيَّنا ، فأَصبَح كأسماء الأعداد ، بخلاف الكثرة (4) .
وذهب البعض إلى أنّه لا فَرْق بيْن جَمْع القلة وجَمْع الكثرة (5) .
(1) يُراجَع شرْح طلعة الشمس 1/142 ، 143
(2) يُراجَع التلويح 1/97
(3) الكاشف 4/277
(4) يُراجَع : تيسير التحرير 1/205 وشرْح الكوكب المنير 3/142 وفواتح الرحموت 1/268 والإبهاج 2/115
(5) يُراجَع تشنيف المَسامع 1/342
كما اتَّفَقوا على أنّه لا يفيد العموم إذا مَنَع مانِع ..
نحْو : قولهم :" رأيتُ رجالاً " ؛ فإنّه يُحمَل على أَقَلّ الجَمْع قَطْعاً .
كما اتَّفَقوا على أنّ الجَمْع المُنَكَّر المضاف يفيد العموم ..
نحْو : " أَكرِمْ عَبِيدي أو رجال الأزهر " (1) .
وكذلك في موضع النفي ..
نحْو : قوله :" لم أَرَ رجالاً غرباء " (2) .
واختلَفوا في الجَمْع المُنَكَّر المثبت إذا كان جَمْع الكثرة ولم يمنع مانع مِن إفادة العموم ولم يُضَف ـ نحْو :" أَكرِمْ رجالاً " ـ هل يفيد العموم أم لا ؟
لهم في ذلك ثلاثة مذاهب ..
مذاهب الأصوليِّين في إفادة الجَمْع المنكَّرِ العمومَ وأدلّتهم :
المذهب الأول : أنّه لا يفيد العموم .
وهو ما عليه الجمهور (3) ، واختاره الشيرازي (4) وإمام الحرميْن (5) والفخر الرازي (6) وابن الحاجب (7) وابن السبكي (8) ، ورُوِي عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - (9) .
(1) يُراجَع : شرْح الكوكب المنير 3/142 وشرْح الكوكب الساطع 1/461
(2) يُراجَع التنقيح مع التوضيح 1/97
(3) شرْح تنقيح الفصول /191
(4) شرْح اللمع 1/310
(5) التلخيص 2/15
(6) المحصول 1/387
(7) مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/104
(8) جَمْع الجوامع مع تشنيف المسامع 1/342
(9) شرْح الكوكب المنير 3/142(1/53)
واحتَجّوا بأدلة ، منها :
الدليل الأول : أنّا نَقطَع بأنّ " رجالاً " في المجموع كـ" رجل " في الواحد ، فكما أنّ " رجلاً " في قوله :" رأيتُ رجلاً " حقيقة في كُلّ فرْد على سبيل البدل ـ لأنّه يَستغرق جميع آحاده ـ فكذلك " رجالاً " في قوله :" رأيتُ رجالاً " ؛ لأنّه لا يَستغرق جميع مراتب الجَمْع كما في قوله :" رأيتُ جميع الرجال " ، وإنّما هو لِكُلّ جَمْع على سبيل البدل ، وإذا ثبت أنّ " رجلاً " في الوحدان ليس بعامّ فكذلك " رجال " في المجموع .
فدَلّ ذلك على أنّ الجَمْع المُنَكَّر لا يفيد العموم (1) .
الدليل الثاني : أنّ الجَمْع المُنَكَّر لو كان عامّاً لَمَا صحّ تفسير " عَبِيد " بأَقَلّ الجَمْع ـ وهو ثلاثة ـ في قوله :" عندي عَبِيد " ، لكنّه مُسَلَّم اتفاقاً ، ولو كان الجَمْع المُنَكَّر لِلعموم لَمَا صحّ هذا التفسير ؛ لأنّه ينافيه في العموم عنده جَمْع " العبيد " وفي أَقَلّ الجَمْع ثلاثة ، فدَلّ ذلك على أنّ الجَمْع المُنَكَّر لا يفيد العموم (2) .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ عدم صحة التفسير بالعموم ليس لأنّ الجَمْع المُنَكَّر لا يفيد العموم ، وإنّما كان لِقرينة صارفة ، وهو استحالة تَمَلُّك جميع عَبِيد الدنيا ، ولِذا كان الدليل خارج محلّ نزاعنا .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقد رُدَّت هذه المناقَشة : بأنّه ليس معنى العموم جميع عَبِيد الدنيا ،
(1) يُراجَع : مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/104 وبيان المختصر 2/122 والمحصول لِلرازي 1/387 وكشْف الأسرار لِلبخاري 2/7 وتيسير التحرير 1/205 ، 206 ومُسَلَّم الثبوت 1/268 ، 269
(2) يُراجَع المراجع السابقة .
وإنّما معناه جميع عَبِيده ، فلا استحالةَ فيه ، وحينئذٍ لا يَصلُح قرينةً صارفةً عنه (1) .
المذهب الثاني : أنّه يفيد العموم .(1/54)
وهو ما عليه الجبائي مِن المعتزلة وفخر الإسلام البزدوي ، وَنَسَبه ابن عبد الشكور (2) إلى حُجّة الإسلام الغزالي ..
وبالرجوع إلى " المستصفى " وجدتُ نصّ الغزالي ، وهو :" وقال قوم : يدلّ المُنَكَّر على جَمْع غيْر مُعَيَّن ولا مُقَدَّر ، ولا يدلّ على الاستغراق ، وهو الأَظهَر " (3) .
ولِذا كانت هذه النسبة إلى الغزالي فيها نظرٌ .
هذا .. وقد نَسَب الغزالي هذا المذهب لِلجمهور ، وليس كذلك (4) .
واحتَجّوا بأدلة ، منها :
الدليل الأول : أنّ الجَمْع المُنَكَّر يصحّ إطلاقه على كُلّ واحد مِن مراتب الجَمْع ، وإذا صَحّ إطلاقه على جميع مراتبه صَحّ حَمْله عليها ؛ لأنّ حَمْله على جميع مراتب الجَمْع حَمْل على جميع حقائقه ، والحَمْل على جميع الحقائق أَوْلى مِن حَمْله على البعض ، فدَلّ ذلك على أنّ الجَمْع المُنَكَّر يفيد العموم (5) .
(1) يُراجَع : حاشية السعد مع العضد 2/104 وفواتح الرحموت مع شرْح مُسَلَّم الثبوت 1/269
(2) ابن عبد الشكور : هو محِبّ الله بن عبد الشكور البهاري الهندي الحنفي ، فقيه أصوليّ ..
مِن مصنَّفاته : مُسَلَّم الثبوت ، سُلَّم العلوم في المنطق .
تُوُفِّي سَنَة 1119 هـ .
الفتح المبين 3/122
(3) المستصفى 2/37
(4) المستصفى 2/37
(5) يُراجَع أصول البزدوي مع كشْف الأسرار 2/7
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ حَمْل الجَمْع المُنَكَّر على جميع حقائقه مردود بنحْو :" جاءني رجُل " ؛ فإنّه يَصلُح لِكُلّ واحد مِن أفراده التي هي حقائقه ، ولا يُحمَل على جميع أفراده ، وإنّما يصحّ إطلاقه على كُلّ واحد مِن أفراده على سبيل البدل .
وكذلك الجَمْع المُنَكَّر إنّما يَصلُح لِكُلّ واحد مِن مراتب الجَمْع على سبيل البدل .
وإذا كان كذلك كان الجَمْع المُنَكَّر لا يفيد العموم (1) .(1/55)
الدليل الثاني : أنّ الجَمْع المُنَكَّر لو لم يكن لِلعموم لَمَا صحّ الاستثناء منه ، لكنّه صحّ الاستثناء منه : كقوله تعالى { لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (2) ، وصحّة الاستثناء دليل العموم ، فثبت أنّ الجَمْع المُنَكَّر يفيد العموم ، وهو المُدَّعَى (3) .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجهيْن :
الأول : أنّا لا نُسَلِّم صحّة الاستثناء منه ؛ لأنّ الاستثناء : إخراج ما يجب اندراجه لولاه ، فلو قلْت :" جاءني رجال " لم يَقطَع السامع بكوْن زيْد مِن جُمْلتهم ، فلا يجب ، وإذا لم يجب إخراجه لم يَصِحّ الاستثناء منه ، وإذا لم يَصِحّ الاستثناء منه انتفى كوْنه لِلعموم (4) .
(1) يُراجَع : شرْح تنقيح الفصول /191 والإبهاج 2/115 ومعراج المنهاج 1/354 والمحصول لِلرازي 1/387 ، 388 والكاشف عن المحصول 4/355
(2) سورة الأنبياء مِن الآية 22
(3) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 2/191 والتلويح 1/97 وشرْح طلعة الشمس 1/143
(4) يُراجَع شرْح طلعة الشمس 1/143
الثاني : أنّا لا نُسَلِّم أنّ قوله تعالى { لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } استثناء ، وإنّما هو صفة ، ولو كان استثناءً لَوَجب نصْب لفْظ الجلالة ، وحيث إنّه مرفوع فدَلّ ذلك على أنّه ليس استثناءً مِن الجَمْع المُنَكَّر وهو { ءَالِهَة } ، فلا يَصلُح دليلاً لِمدَّعاكم (1) .
الدليل الثالث : لو لم يكن الجَمْع المُنَكَّر لِلعموم لَكان مختصّاً ببعض الجموع دون بعض ، وذلك تخصيص بِلا مخصِّص ، والتخصيص بِلا مخصِّص مردود ، فدَلّ ذلك على أنّ الجَمْع المُنَكَّر لِلعموم ، وهو المُدَّعَى .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد رُدّ هذا الدليل مِن وجهيْن :
الأول : أنّه منقوض بـ" رجُل " ونحْوه مما ليس لِلعموم ، ومع هذا يَجوز اختصاصه ببعض أفراده دون بعض .(1/56)
الثاني : أنّا لا نُسَلِّم أنّه لِلعموم ؛ لِلزوم اختصاصه بالبعض دون البعض ؛ لأنّه موضوع لِلقَدْر المشترك بيْن الجموع ، فيَصِحّ أنْ يَكون لِكُلّ واحد مِن تلك الجموع على سبيل البدل ، ولِذا فلا يَلزم مِن عدم كوْنه لِلعموم كوْنه مختصّاً بالبعض كما ادَّعيتم (2) .
المذهب الثالث : أنّ الجَمْع المُنَكَّر واسطة بيْن العامّ والخاصّ .
وهو اختيار صدْر الشريعة .
ومَرجع صدْر الشريعة في ذلك : تعريفه لِلعامّ ، وهو :( لفْظ وُضِع وضعاً واحداً لِكثير غيْر محصور مستغرق جميع ما يَصلُح له ) ..
(1) يُراجَع : التلويح 1/97 والبحر المحيط 3/134
(2) يُراجَع : مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/104 ، 105 والإحكام لِلآمدي 2/191 وبيان المختصر 2/126 والتلويح 1/97 وفواتح الرحموت 1/269 وشرْح طلعة الشمس 1/143
فقد اشترَط في العامّ استغراقه لِجميع الأفراد ، وتَفَرَّع على اشتراط الاستغراق وعدمه الجَمْع المُنَكَّر : فمَن لا يشترطه في العامّ كان الجَمْع المُنَكَّر عندهم عامّاً ، وعند مَن اشترَطه كان الجَمْع المُنَكَّر واسطةً بيْن العامّ والخاصّ (1) .
مناقَشة هذا المذهب :
وقد نوقش هذا المذهب مِن وجهيْن :
الأول : لِلتفتازاني (2) ..
وهو : أنّ اشتراط الاستغراق الذي أَخرَج الجَمْع المُنَكَّر ليس مختصّاً بالجَمْع المُنَكَّر ، بل كُلّ عامّ مقصور على البعض بدليل العقل أو غيْره يَلزم أنْ يَكون واسطةً جَمْعاً مُنَكَّراً ونحْوه على مقتضى عبارة المصنِّف ؛ لِدخوله في قوله :" وإنْ لم يستغرق " ، فجَمْع مُنَكَّر ونحْوه ، وفساده بَيِّن (3) .
الثاني : لِلباحث ..
وهو : أنّ صدْر الشريعة نَصّ في تعريفه لِلعامّ على اشتراط الاستغراق لِجميع الأفراد ، وهذا الشرط يَستلزم نفْي العموم عند انعدامه ، وهو ما تَحَقَّق في الجَمْع المُنَكَّر ..
نحْو : " رأيتُ رجالاً " فلا يفيد جميع الرجال .(1/57)
(1) يُراجَع : التنقيح مع التلويح 1/56 ، 57 وشرْح نور الأنوار مع كشْف الأسرار 1/160 ، 161
(2) التفتازاني : هو سعْد الدين مسعود بن عُمَر بن عبد الله التفتازاني ، العلاّمة الشافعي ، وُلِد بتفتازان سَنَة 712 هـ ..
مِن تصانيفه : التلويح في كشْف حقائق التنقيح ، شرْح الأربعين النووية في الحديث .
تُوُفِّي بسمرقند سَنَة 791 هـ .
الدرر الكامنة 1/545 والفتح المبين 2/216
(3) التلويح 1/57
ولِذا .. كان مِن الأَوْلى لَمّا اشترَطه أنْ يَجزم مع الجمهور بنفْي العموم عن الجَمْع المُنَكَّر ، لا أنْ يَقول بأنّه واسطة بيْن الخاصّ والعامّ .
والراجح عندي هو : ما ذهب إليه الجمهور أصحاب المذهب الأول القائل بأنّ الجَمْع المُنَكَّر لا يفيد العموم ، وذلك لِقوّة أدلّتهم وسلامتها مِن المُعارَضة والمناقَشة ، ولِضَعْف أدلة المذهبيْن الثاني والثالث .
حقيقة الخلاف في عموم الجَمْع المُنَكَّر :
ذهب كثير مِن الأصوليِّين إلى أنّ الخلاف في عموم الجَمْع المُنَكَّر لفْظيّ ، وذلك لأنّه مبنيّ على اشتراط الاستغراق في العامّ ..
فمَن شَرَطه ـ وهو المذهب الأول ـ قال بالاستغراقيّ ، فلا يفيد الجَمْعُ المُنَكَّرُ العمومَ ، ومَن نفاه ـ وهو المذهب الثاني ـ قال بالشموليّ المتعدِّد ، وهو أعمّ مِن الاستغراق .
وأمَارة لفظيّة الخلاف : أنّ العامّ الاستغراقيّ يَقبَل الأحكام مِن التخصيص والاستثناء بِلا نزاع ، واتَّفَقوا على أنّ الجَمْع المُنَكَّر لا يَقبَل هذه الأحكام ، فلا يقال :" اقتل رجالاً إلا زيداً " ؛ لأنّ الاستثناء : إخراج ما لولاه لَدخَل ، ولم يدخل ..
ولا يَقبَل التخصيص أيضاً ، حتى لو قيل :" اقتل رجالاً ، ولا تقتل زيداً " كان ابتداءً لا تخصيصا (1) .
غيْرَ أنّ ابن عبد الشكور جَعَل الخلاف لفظيّاً بيْن الجمهور والبزدوي ، معنويّاً مع الجبائي ؛ مستنِداً في ذلك إلى الواضح مِن دليلهم .(1/58)
والمختار عندي : أنّ الخلاف لفْظيّ ؛ لأنّ القائلين بالعموم ـ كما قال التفتازاني ـ لا يريدون شمول الحُكْم لِكُلّ فرْد حتى يجب في مِثْل :" أَعطِ
(1) يُراجَع : تيسير التحرير 1/206 وفواتح الرحموت بشرْح مُسَلَّم الثبوت 1/268 وحاشية نسمات الأسحار /60 وفتْح الغفار 1/94
الدرهم فقيراً " صرْفه إلى كُلّ فقير ، بل المراد الصرف إلى فقير أيّ فقير كان ، فإنْ سُمِّي مِثْل هذا " عامّاً " فعامّ وإلا فلا ..
على أنّهم جعلوا مِثْل :" مَن دخَل هذا الحصن أوّلاً فله كذا " عامّاً ، مع أنّه مِن هذا القبيل ..
فإنْ جُعِل مستغرقاً فكلّ نكرة كذلك ، وإلا فلا جهة لِلعموم . ا.هـ (1) .
ومِن أمارة لفظية الخلاف أيضاً : أنّ الجَمْع المُنَكَّر لا يَشمل القليل مِن مدلولات مسمَّياته ؛ فمَن حَلَف بالله لا يقيم في هذا المكان أيّاماً فأقام يوماً أو يوميْن فلا حنث عليه ؛ لِعدم شمول الأيام لِليوم واليوميْن ، وهو معنى استغراق الجَمْع المُنَكَّر لِجميع أفراده (2) .
(1) التلويح 1/102 بتصرف .
(2) شرْح طلعة الشمس 1/143
ثالثاً : أقَلّ الجَمْع
وأَقَلّ الجَمْع كان محلّ خلاف بيْن الأصوليِّين ؛ لِمَا يرتبط ذلك بالجَمْع المُنَكَّر ، ولِذا فرَّع الفخر الرازي الجَمْع المُنَكَّر على أَقَلّ الجَمْع (1) ، وهو تفريع وجيه مقبول عندي .
اختلَف العلماء في أَقَلّ الجَمْع على مذاهب ، أشهرها مذهبان :
المذهب الأول : أَقَلّ الجَمْع ثلاثة ، ولا يُطلَق على الأقل منه إلا مَجازا .
وهو ما عليه الجمهور ، ورُوِي عن الأئمة غيْر مالك رحمهم الله ، وحكاه الآمدي عن ابن عباس رضي الله عنهما (2) ومشايخ المعتزلة (3) .
واحتَجّوا بأدلة ، أَذكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُس } (4) ..
وجْه الدلالة : أنّ ابن عباس رضي الله عنهما قال لِعثمان - رضي الله عنه - (5)
(1) يُراجَع المحصول 1/384(1/59)
(2) ابن عباس : هو حَبْر الأُمَّة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، ابن عمّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، دعا له النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال { اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيل } ..
تُوُفِّي بالطائف سَنَة 68 هـ .
الإصابة 2/330 وشذرات الذهب 1/75
(3) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 2/204 وأصول السرخسي 1/151 والبرهان 1/348 والمنخول لِلغزالي /148 وشرْح الكوكب المنير 2/144 وشرْح مختصر الروضة 2/490 وفواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/269
(4) سورة النساء مِن الآية 11
(5) عثمان : هو الصّحابيّ الجليل ذو النّوريْن عثمان بن عفّان بن أبي العاص بن أُمَيَّة القرشيّ الأمويّ - رضي الله عنه - ، ثالث الخلفاء الراشدين ، وُلِد بَعْد عام الفيل بِسِتّ سنين ، مِن السابقين في الإسلام ، =
عندما ردّ الأُمّ مِن الثلث إلى السدس بأخويْن بقوله :" لَيْسَ الأَخَوَانِ إِخْوَةً فِي لِسَانِ قَوْمِك " فقال عثمان - رضي الله عنه - :" لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُضَ أَمْراً كَانَ قَبْلِي وَتَوَارَثَهُ النَّاسُ وَمَضَى فِي الأَعْصَار " (1) ..
ولولا أنّ ذلك مقتضَى اللغة لَمَا احتجّ به ابن عباس على عثمان - رضي الله عنهم - ، فاتَّفَقَا على أنّ الاثنين لا يسمَّيان إخوةً وذكَراه على لسان قومهما ، وإنّما رَدّه عثمان - رضي الله عنه - بالإجماع .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ زيْد بن ثابت - رضي الله عنه - (2) قال :" الأَخَوَانِ إِخْوَة " ورُوِي عنه أن أقَلّ الجَمْع اثنان ، وإذا كان كذلك لم يكنْ " أقَلّ الجَمْع ثلاثة " مُسَلَّماً عند جميع الصحابة .
الجواب عن هذه المناقَشة :(1/60)
وقد رُدّت هذه المناقَشة : بأنّه لم يثبت هذا عن زيْد - رضي الله عنه - ، وإنْ صَحّ ذلك عنه فإنّ المراد أنّهما إخوة في حَجْب الأُمّ ، أو أنّهما في حُكْم الجَمْع في الحَجْب ، أو أنّه أراد أنّهم إخوة مَجازاً .
الدليل الثاني : أنّه لو صَحّ إطلاق " الرجال " على " الرجليْن " لَصَحّ نعْتُهما بما يُنعَت به الرجال : كأنْ يقال :" جاءني رجلان ثلاثة " كما
= تَزَوَّج بِنْتَيْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..
تُوُفِّي سَنَة 23 هـ .
الإصابة 4/456 - 459
(1) يُراجَع المستدرَك 4/335
(2) زيْد بن ثابت : هو أبو سعيد أو أبو خارجة زيْد بن ثابت بن الضّحّاك بن زيْد بن لوذان الأنصاريّ - رضي الله عنه - ، الكاتب لِلوحي ، المُقرِئ الفرضيّ ..
تُوُفِّي سَنَة 45 هـ ، وقيل : سَنَة 54 هـ ، وقيل : سَنَة 55 هـ .
شذرات الذهب 1/54 وأسد الغابة 2/221
يقال :" جاءني رجال ثلاثة " ، ولَصَحّ أنْ يقال :" رأيتُ اثنين رجالاً " كما يقال :" رأيتُ ثلاثة رجال " ، ولِذا فإنّه لا يُنعَت الجَمْع بالاثنين في اللغة ، فدلّ ذلك على أنّ لفْظ الجَمْع لا يتناولهما ، وهو المُدَّعَى (1) .
المذهب الثاني : أقَلّ الجَمْع اثنان .
وهو اختيار القاضي أبي بكر والغزالي في " المستصفى " ، ورُوِي عن الإمام مالك ، وهو قول لِعُمَر وزيْد بن ثابت رضي الله عنهما (2) (3) .
واحتَجّوا بأدلة ، أَذكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى { وَإِن طَائفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } (4) ..
وجْه الدلالة : أنّ الله تعالى أَوجَب الصلح بيْن الطائفتيْن مِن المؤمِنين المقتتِلين ، و" الطائفتان " مُثَنَّى " طائفة " ، والضمير في { اقْتَتَلُوا } يرجع إليه ، والضمير يجب أن يطابِق ما يرجع إليه ، فدَلّ ذلك على أنّ { طَائفَتَان } وهو المثنَّى مطابِق لِضمير الجَمْع ، وذلك يقتضي كوْنه جَمْعاً ..(1/61)
فإذَنْ { طَائفَتَان } جَمْع وهو مثنَّى ، فكان أَقَلّ الجَمْع اثنان ، وهو المُدَّعَى .
(1) يُراجَع : التمهيد لِلكلوذاني 2/59 ، 60 والإحكام لِلآمدي 2/207 ، 208 وشرْح الكوكب المنير 3/146 ، 147
(2) يُراجَع : المستصفى 2/91 ومُسَلَّم الثبوت 1/270 وشرْح تنقيح الفصول /233
(3) زيْد بن ثابت : هو الصّحابيّ الجليل أبو سعيد زيْد بن ثابت بن الضّحّاك الأنصاريّ الخزرجيّ النّجّاريّ - رضي الله عنه - ، كان مِن كُتّاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، وكان من أَعلَم الصحابة وأَفرَضهم ..
تُوُفِّي سَنَة 45 هـ .
الفتح المبِين 1/84 ، 85
(4) سورة الحجرات مِن الآية 9
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم أنّ الطائفتيْن مثنَّى مُكَوَّن مِن فرديْن والضمير راجِع إليهما ، وإنّما فرْد المثنَّى ـ وهو الطائفة ـ ما هي إلا جماعة ، ولِذا عاد الضمير إليها ؛ بدليل قوله تعالى { وَلْتَأْتِ طَائفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَك } (1) .
الدليل الثاني : قوله تعالى { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِى رَبِّهِم } (2) ..
وجْه الدلالة : أنّ { خَصْمَان } مثنى ، والضمير في { اخْتَصَمُوا } ضمير جَمْع ، وهو راجِع إلى { خَصْمَان } ، والضمير يجب أنْ يطابق ما يرجع إليه ، فدَلّ ذلك على أنّ { خَصْمَان } مطابِق لِضمير الجَمْع ، ولا يَعُود ضمير الجَمْع إلا على جَمْع وهو { خَصْمَان } ، ولِذا كان أَقَلّ الجَمْع اثنيْن ، وهو المُدَّعَى .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ " الخصم " الذي هو مفرَد المُثَنَّى ليس واحداً حتى يَثبت مُدَّعاكم ، وإنّما يُطلَق على الجماعة ، يقال :" رجل خصم " و:" جماعة خصم " كما في قوله تعالى { وَهَلْ أَتَكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُود فَفَزِعَ مِنْهُم } (3) ..(1/62)
قال المفسِّرون : وكانوا جماعةً مِن الملائكة ، ولِذا قال تعالى { بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْض } ولم يَقُل : بغى بعضنا على الآخَر (4) (5) .
(1) سورة النساء مِن الآية 102
(2) سورة الحجّ مِن الآية 19
(3) سورة ص مِن الآيتيْن 21 ، 22
(4) يُراجَع : تفسير القرآن العظيم 4/31 ، 32 والجامع لأحكام القرآن 15/109
(5) يُراجَع : التمهيد لِلكلوذاني 2/61 - 64 والمستصفى 2/91 - 94 والمحصول 1/385 - =
والراجح عندي : أنّ أَقَلّ الجَمْع ثلاثة ؛ لِضَعْف أدلة القائلين بأنّ أَقَلّه اثنان ، ولِقوّة حُجّة المذهب الأول القائل أنّ أَقَلّ الجَمْع ثلاثة ، وهو الذي تؤيِّده اللغة ؛ حيث فرَّق أهْلُها بيْن ضمير التثنية وضمير الجَمْع ، فقالوا في الاثنين :" فَعَلاَ " وفي الثلاثة :" فَعَلُوا " ، كما فصَّلوا بيْن التثنية والجَمْع وبيْن الواحد والجَمْع .
= 387 والإحكام لِلآمدي 2/205 - 207 وشرْح مختصر الروضة 2/491 - 494 وشرْح الكوكب المنير 3/147 - 150 ومُسَلَّم الثبوت وفواتح الرحموت 1/270 ، 271
المطلب الخامس
المفرَد المحلَّى بالألِف واللام
والأسماء المبهمة
أولاً : القِسْم الثاني
المفرد المحلَّى بالألِف واللام
اختلَف الأصوليّون في المفرَد المحلَّى بالألِف واللام ـ كـ" المسلِم " و" الإنسان " ـ هل يفيد العموم أم لا ؟ على مذاهب :
المذهب الأول : أنّه لا يفيد العموم إلا بقرينة .
حكاه أبو الحسين البصري عن أبي هاشم (1) ، واختاره الفخر الرازي وأتباعه (2) .
المذهب الثاني : أنّه يفيد العموم واستغراق الجنس إذا لم يكن هناك معهود .
وهو ما عليه الجمهور ..
ونَصّ عليه الشافعي في " الرسالة " ، وقال القرطبي (3) : إنّه مذهب
(1) يُراجَع : المعتمد 1/227 ، 228 والبحر المحيط 3/99
(2) يُراجَع : المحصول 1/382 والكاشف عن المحصول 4/333
(3) القرطبي : هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي المالكي ، فقيه مفسِّر ..(1/63)
مِن مصنَّفاته : الجامع لأحكام القرآن ، التذكرة .
تُوُفِّي بمصر سَنَة 671 هـ .
شذرات الذهب 5/335 ومعجم المؤلِّفين 8/239
مالك (1) ، واختاره ابن السمعاني (2) والشيرازي (3) والكلوذاني (4) وابن السبكي (5) .
المذهب الثالث : التفصيل بيْن أنْ يتميَّز فيه لفْظ الواحد عن الجنس بالهاء كالتمرة والتمر ، والبرّة والبرّ ، فإنْ عُرِّي عن الهاء فهو لِلاستغراق ..
وما لا يتميَّز بالهاء ينقسم إلى : ما يتشخص ويتعدَّد : كـ" الدنيا " و" الرجُل " ، وإلى ما لا يتشخص واحد منه ..
فإنْ لم يتشخص مدلوله ولم يتعدد ـ كـ" الذهب " و" الماء " ـ فهو لاستغراق الجنس ، وإنْ تَشخَّص وتَعدَّد ـ كـ" الرجُل " ـ احتمل العموم وتعريف الماهية ، فلا يُحمَل على العموم ..
وهذا المذهب هو ما عليه إمام الحرميْن (6) والغزالي .
المذهب الرابع : أنّه مجمَل ، وهو محتمِل لِلأمْريْن على السواء .
المذهب الخامس : أنّه مشترك بيْن الواحد والجنس وبعض الجنس .
حكاهما الغزالي ولم ينسبهما إلى أحد (7) .
والمشهور مِن هذه المذاهب مذهبان : الأول والثاني ، ولِذا سأقتصر على عَرْض أدلّتهما ومناقَشة ما يَحتاج إلى ذلك مع الترجيح ..
أدلة المذهب الأول :
استدَلّ أصحاب المذهب الأول ـ القائلون بأنّ المفرَد المعرَّف بـ" ال "
(1) يُراجَع : الرسالة /67 والبحر المحيط 3/98 وتشنيف المسامع 1/335
(2) قواطع الأدلة 1/167
(3) شرْح اللمع 1/312
(4) التمهيد لِلكلوذاني 2/53
(5) يُراجَع جَمْع الجوامع مع تشنيف المسامع 1/335
(6) يُراجَع : البرهان 1/339 - 342 والإبهاج 2/102
(7) يُراجَع : المستصفى 2/37 ، 53
لا يفيد العموم ـ بأدلة ، أَذكُر منها ما يلي :(1/64)
الدليل الأول : أنّ الألِف واللام لا تدخل إلا لِلعهد : كما في قوله تَبارَك وتعالى { كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُول } (1) ، وتقول :" دخلتُ السوق فلَقِيتُ رجلاً ، ثم عدتُ إليه فلَقِيتُ الرجل " ويريد الذي لَقِيَه أوّلاً لأنّه تَقَدَّم ذِكْره ، فرجع التعريف إليه ، وإذا كان كذلك فليس فيه ما يدلّ على أنّه ـ أي المفرد المعرَّف بـ" ال " ـ على العموم ، وإنّما هو لِلعهد ، وهو المُدَّعَى .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّه خارج محلّ نزاعنا ، وهو المفرَد المعرَّف بـ" ال " الذي ليس له معهود يَعُود إليه ، فإنْ وُجِد المعهود رجعَت " ال " إليه ولم تُفِد العموم .
الدليل الثاني : أنّه لو كان لِلعموم لَجاز تأكيده بما يؤكَّد به العموم ، واللازم باطل ..
بيان الملازَمة : أنّها لو كانت لِلعموم لَكان قولنا :" الرجل " عامّاً جزماً ولَكان مِثْل قولنا :" الرجال " في إفادة العموم ، ولَحَسُن تأكيد الأول بما يؤكَّد به الثاني ؛ لأنّ حُكْم الألفاظ المترادفة في التأكيد حُكْم واحد .
وبيان انتفاء اللازم : أنّه لا يَجوز أنْ تقول :" جاءني الرجُل كُلّهم ".
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا نُسَلِّم أنّ لفْظ التأكيد يَكون بحسب لفْظ المؤكّد ، واللفظ المفرَد لا يؤكَّد بلفْظ الجَمْع والكُلّ إلا مَجازاً وحَمْلاً على الاستغراق بالمعنى ؛ لأنّه إذا قال :" اقطع السارق " وليس هناك سارق
(1) سورة المزمل مِن الآيتيْن 15 ، 16
معروف حَمَلْنا التعريف على جميع الجنس ..
كما أنّه قد حُكِي عن العرب أنّها تقول :" أَهْلَكَ الناس الدرهم البيض والدينار الصفر " ، فَنَعَتوا الواحد بالجَمْع ، وإذا جاز نعْت الواحد بالجَمْع جاز تأكيده به (1) .
أدلة المذهب الثاني :(1/65)
استدَلّ الجمهور على أنّ المفرَد المعرَّف بـ" ال " يفيد العموم ما لم يكن هناك معهود بأدلة ، أَذكُر منْها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ المفرَد المعرَّف بـ" ال " لو لم يقتضِ العموم والاستغراق لَمَا صح الاستثناء منه ؛ بدليل : قوله تعالى { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَنَ لَفِى خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَت } (2) فاستثنى الجنس منه ، وليس في الواحد جنس ، فدلّ ذلك على أنّ الإنسان عبارة عن الجنس ، فأفاد العموم ؛ وإلا لَمَا دَخَلَه الاستثناء .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم أنّه استثناء مِن الجنس ، وإنّما هو استثناء مِن غيْر الجنس ، والاستثناء هنا مَجاز ؛ بدليل : أنّه يقبح أنْ يقال :" رأيتُ الإنسان إلا المؤمِنين " ولو كان حقيقةً لاطّرد .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقد رُدَّت هذه المناقَشة : بأنّ الأصلَ في الاستثناءِ الحقيقةُ ، وأنّه إخراج ما لولاه لَدَخَل في اللفظ ، والمُدَّعِي غيْر ذلك يَلزمه الدليل .
(1) يُراجَع : التمهيد لِلكلوذاني 2/55 - 58 وشرْح اللمع 1/314 ، 315 والكاشف عن المحصول 4/338 - 340 وقواطع الأدلة 1/167
(2) سورة العصر مِن الآيات 1 - 3
الدليل الثاني : أنّ المفرَد المعرَّف بـ" ال " يصحّ وصْفه باللفظ الموضوع لِلجنس والاستغراق ، وإذا كان كذلك كان المفرَد المعرَّف بـ" ال " مفيداً لِلعموم ..
ودليل ذلك : قوله تعالى { أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَتِ النِّسَاء } (1) ، ولو لم يكن المراد به الجنس لَمَا وصَفه بلفْظ الجَمْع وعقبه بلفْظ الجَمْع (2) .
والراجح عندي هو : ما ذهب إليه الجمهور مِن أنّ المفرَد المعرَّف بـ" ال " يفيد العموم والاستغراق ما لم يكن هناك معهود ؛ لِقوة أدلّته وسلامتها مِن المناقَشة ، ولِعدم سلامة أدلة المذهب الأول النافي لِعمومه .
فائدتان :(1/66)
الفائدة الأولى : الفَرْق بيْن المفرَد المعرَّف بـ" ال " واسم الجنس ..
وفيها ذَكَر الزركشي أنّ التعبير بـ" المفرَد " أَعَمّ ؛ لأنّ المفرَد المحلَّى ينقسم إلى : اسم جنس ، واسم ليس بجنس ..
فاسم الجنس : ما لا واحد له مِن لفْظِه : كـ" الناس " و" النساء " و" الإبل " و" الحيوان " ، ومِن هذه الجهات يفارِق المجموع .
وأمّا الاسم المفرَد ـ كـ" الدينار " و" الدرهم " ـ يفارق اسم الجنس ؛ لأنّه لا يُنَكَّر عندنا تنكير مدلوله ، بخلاف المفرَد ..
فإذا أشرتَ إلى شيء مِن الذهب ثم زِدْتَ عليه أمثاله لم يَتَغَيَّر الاسم .
ولو أشرتَ إلى جماعة مِن الآدميِّين وقلتَ :" هؤلاء ناس " ، فلو زِيد فيهم لم يَتَغَيَّر لفْظ الإشارة وكانت الإشارة إليهم مع الزيادة بقولك :
(1) سورة النور مِن الآية 31
(2) يُراجَع : شرْح اللمع 1/312 ، 313 وقواطع الأدلة 1/167 ، 168 والتمهيد لِلكلوذاني 2/53 - 55 والمحصول 1/384 والكاشف عن المحصول 4/334 ، 335
" هؤلاء " .
ولو أشرتَ إلى درهم أو دينار تَغَيَّر اللفظ تقول :" هذان درهمان " ولا يصدق :" هذا درهم " (1) ا.هـ .
الفائدة الثانية : إضافة المفرَد إلى معرفة ..
والمفرَد المضاف إلى معرفة يقتضي العموم عند الجمهور ، ومنه : قوله تعالى { وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا } (2) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - { مَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَدِينَارَهَا ، وَمَنَعَتِ الشَّامُ قَفِيزَهَا (3) وَصَاعَهَا (4) } (5) ..
ولِذا لو حَلَف لَيَشْرَبنّ ماء هذا البئر فإنّه يحنث في الحال على الأصحّ لأنّ لفْظه يقتضي جميع مائه ، وذلك مُحال (6) .
ولِذا عَدَّ البعض (7) المفرَد المضاف إلى معرفة مِن صِيَغ العموم ، وهو ما أميل إليه وأرجحه
(1) تشنيف المسامع 1/337 بتصرف .
(2) سورة النحل مِن الآية 18
(3) القفيز : مكيال معروف ، ويعادل بالتقدير المصريّ الحديث ستة عَشَر كيلو جراما ..(1/67)
المصباح المنير 2/511 والمعجم الوجيز /510
(4) الصّاع : مكيال تُكال به الحبوب وغيْرها ، ويُقَدَّر بحوالي 2,650 كيلو جراماً تقريبا
يُرَاجَع : المصباح المنير 1/351 والمعجَم الوجيز /374
(4) أَخرَجه مسلِم في كتاب الفِتَن وأشراط الساعة : باب لا تَقُوم الساعة حتى يُحسَر الفرات عن جبل مِن ذهب برقم ( 5156 ) وأبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفي : باب في إيقاف أرْض السواد وأرْض العنوة برقم ( 2639 ) وأحمد في باقي مسنَد المُكثِرين برقم ( 7249 ) ، كُلّهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(5) يُراجَع : شرْح الكوكب المنير 3/136 والبحر المحيط 3/108 وتشنيف المسامع 1/336 وإرشاد الفحول /210
(6) يُراجَع : شرْح الكوكب المنير 3/136 والبحر المحيط 2/108 وإرشاد الفحول /210 وشرْح مختصر الروضة 2/466 وروضة الناظر 2/108
ثانياً : القِسْم الثالث
الأسماء المبهمة
( أسماء الشرط والاستفهام والموصولات )
والأسماء المبهمة تعبير الشيرازي (1) وابن السمعاني (2) وإمام الحرميْن .
وسُمِّيَت مبهمةً لأنّ وجْه الإبهام في غيْر الموصولات ظاهر ؛ إذ لا يدلّ على مُعَيّن ..
وأمّا في الموصولات مع أنّها معارف فلأنّه لم يعلم معانيها منها بالتعيين وإن اعتُبِر في معانيها الإشارة إلى التعيين ، وإنّما تُعرَف معانيها بالصلة (3) .
ونفصِّل القول فيها فيما يلي :
الأول : مَنْ ..
وتَكون لِلعموم إذا كانت شرطيّةً ـ نحْو :" مَن دخل داري فأَكْرِمْه " ـ أو استفهاميّةً ، نحْو : قوله تعالى { مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِه } (4) ..
فإنْ كانت نكرةً موصوفةً ـ نحْو :" بِمَن معجَبٍ لك " بجرّ " معجَب " أيْ رجل معجَب ـ أو كانت موصولةً ـ نحْو :" مَرَرْتُ بمَن قام " أيْ بالذي قام ـ فإنّها لا تَعمّ ..
(1) شرْح اللمع 1/315
(2) قواطع الأدلة 1/168
(3) يُراجَع : الشرْح الكبير 2/101 وحاشية النفحات /75
(4) سورة البقرة مِن الآية 255(1/68)
ومنه : قوله تعالى { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْك } (1) فالمراد بعض مخصوص مِن المنافقين .
والصحيح : أنّها تعمّ الذكور والإناث أحراراً وأرِقّاء .
وقيل : تَعمّ شرعاً الذكور الأحرار ، وهو قول ضعيف .
و" مَن " الأصل فيها أنّها تُستعمَل لِلعاقل ، ولكنّها قد تُستعمَل لِغيْر العاقل ، نحْو : قوله تعالى { وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى أَرْبَع } (2) (3) .
الثاني : ما ..
و" ما " تَكون لِلعموم إذا كانت شرطيّةً ـ نحْو : قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَا أَكَلَتِ الْعَافِيَةُ مِنْهَا فَهِيَ لَهُ صَدَقَة } (4) ـ أوْ كانت استفهاميّةً ، نحْو : قوله :" ماذا عندك ؟ "..
وأمّا إذا كانت موصولةً ـ نحْو : قوله تعالى { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَان } (5) ـ أو موصوفةً ـ نحْو :" مررتُ بما معجب لك " أيْ شيء ـ فإنّها لا تَعمّ حينئذٍ .
و" ما " الأصل فيها أنّها لِغيْر العاقل ، وقد تُستعمَل لِلعاقل ، نحْو : قولك :" إنْ كان ما في بطنكِ ذَكَراً فأنتِ حرة " ..
وقد تجيء بمعنى " مَن " مَجازاً ، نحْو : قوله تعالى { وَالسَّمَاءِ
(1) سورة محمد مِن الآية 16
(2) سورة النور مِن الآية 45
(3) يُراجَع : شرْح التلويح على التوضيح 1/102 ، 104 وأصول السرخسي 1/155 ونهاية السول 2/89 ، 90 وحاشية النفحات /75 والشرْح الكبير 2/102
(4) أَخرَجه أحمد في باقي مسنَد المُكثِرين برقم ( 13976 ) والدارمي في كتاب البيوع : باب مَن أحيا أرضاً ميتةً فهي له برقم ( 2493 ) ، كلاهما عن جابر - رضي الله عنه - .
(5) سورة المزمل مِن الآية 20
وَمَا بَنَهَا } (1) أيْ : ومَن بناها .
الثالث : أيّ ..
و" أيّ " تَكون لِلعموم إذا كانت شرطيّةً ـ نحْو :" أيّ عبيدك جاءك أَحسِنْ إليه " ـ أو كانت استفهاميّةً ، نحْو : قوله تعالى { أَىُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدا } (2) .(1/69)
وأمّا إذا كانت موصولةً ـ نحْو :" مررْت بأيّهم قام " أي الذي قام ـ فمِن الأصوليِّين مَن يرى أنّها لِلعموم (3) ، ومنهم مَن يرى أنّها لا تَعُمّ .
والراجح عندي : أنّها لا تَعمّ إذا كانت موصولةً أو صفةً ـ نحْو : " مَرَرْتُ برجل أيّ رجل " بمعنى : كامل ـ أو كانت حالاً ـ نحْو :" مَرَرْتُ بزيْد أيَّ رجل " بفتْح أيّ ، بمعنى : كامل ـ أو منادَى ، نحْو :" يا أيّها الرجُل " (4) .
وذهب السرخسي (5) إلى أنّ " أيّ " لا تَعمّ مُطْلَقاً ..
ولكنّي أرى أنّها تَعمّ إذا كانت شرطيّةً أو استفهاميّة .
و" أيّ " تُستعمَل لِلعاقل وغيْر العاقل .
الرابع : أين وحيث ..
ويفيدان العموم في المكان ، استفهاماً كان أم شرطا .
ومنه : قوله تعالى { وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وَجُوهَكُمْ شَطْرَه } (6) ،
(1) سورة الشمس الآية 5
(2) سورة الكهف مِن الآية 12
(3) يُراجَع : شرْح الورقات لِلمحلِّي مع حاشية النفحات /75 والشرْح الكبير 2/105
(4) يُراجَع : الإبهاج 2/91 ونهاية السول 2/89 والتمهيد لِلإسنوي /306 وشرْح الكوكب المنير 2/122 ، 123
(5) يُراجَع أصول السرخسي 1/161
(6) سورة البقرة مِن الآية 144 ، سورة البقرة مِن الآية 150
وقوله تعالى { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْت } (1) ..
ولِذا لو قال لامرأته :" أنتِ طالق أين شئت وحيث شئت " يقتصر على المجلس ؛ لأنّه ليس في لفْظِه ما يوجِب تعميم الأوقات .
الخامس : متى ..
و" متى " تفيد عموم الزمان ، نحْو : قوله :" متى شئت جئتك " ..
وقيَّد ابن الحاجب عمومها بالزمان المبهم ، وتَبِعه الفتوحي في قوله : " ومتى لِزمان مبهم ، نحْو :" متى تَقُم أَقُم " ، ولا يقال :" متى طلعَت الشمس " ؛ لأنّ زمن طلوعها غيْر مبهم " ..
وهو قيْد عندي له وجاهته (2) .
السادس : الاسم الموصول ..(1/70)
والاسم الموصول يفيد العموم ، سواء كان مفرَداً ـ نحْو :" الذي يَحضر عندنا نكرمه ، والتي تحضر نكرمها " ـ أو كان مُثَنَّى ـ نحْو : قوله تعالى { وَالَّذِانِ يَأْتِيَنِهَا مِنكُم } (3) ـ أو كان مجموعاً ، نحْو : قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُولَئكَ عِنْهَا مُبْعَدُون } (4) وقوله تعالى { وَالَّتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنّ } (5) .
(1) سورة النساء مِن الآية 78
(2) يُراجَع : قواطع الأدلة 1/168 ، 169 والتلخيص 2/15 ، 16 والبرهان 1/322 ، 323 ومختصر المنتهى 2/102 ، 103 والمسوَّدة /100 ، 101 وفتح الغفار 1/105 ، 106 وأصول السرخسي 1/155
(3) سورة النساء مِن الآية 16
(4) سورة الأنبياء الآية 101
(5) سورة النساء مِن الآية 34
المطلب السادس
النكرة في سياق النفي والأسماء
المؤكَّدة وألفاظ معناها العموم
أوّلاً : القِسْم الرابع
النكرة في سياق النفي
والنكرة إمّا أنْ تَكون في الإثبات أو في النفي ..
فإنْ كانت في الإثبات : فإنّها لا تفيد العموم إلا إذا وُصِفَت بصفة عامة وحينئذٍ تعمّ النكرة بعموم الصفة ..
نحْو : قوله تعالى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَة } (1) (2) ..
ولِذا قال الحنفية : النكرة عند الإطلاق لا تعمّ عندنا .
وعند الشافعي رحمه الله : تَكون عامة (3) .
والنكرة إنْ كانت في سياق الإثبات لِلامتنان : أفادت العموم ..
نحْو : قوله تعالى { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورا } (4) .
وإنْ كانت النكرة في سياق الاستفهام الإنكاريّ : أفادت العموم ..
(1) سورة النساء مِن الآية 92
(2) يُراجَع الكُلِّيَّات /894
(3) يُراجَع أصول السرخسي 1/159 والمنار مع إفاضة الأنوار مع حاشية نسمات الأسحار /80 ، 81
(4) سورة الفرقان مِن الآية 48
نحْو : قوله تعالى { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا } (1) وقوله تعالى { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا } (2) .(1/71)
وإنْ كانت في سياق الشرط : أفادت العموم ..
نحْو : قوله تعالى { مَنْ عَمِلَ صَلِحًا فَلِنَفْسِه } (3) .
وقوله تعالى { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْه } (4) (5) .
وإنْ كانت خبراً : لا تقتضي العموم ..
نحْو : قوله :" جاءني رجل " .
وإنْ كانت أمراً : فالأكثرون على أنّه لِلعموم ..
نحْو : قوله :" أعتِق رقبة " (6) .
وإنْ كانت النكرة في سياق النفي : فالجمهور على أنّها تفيد العموم ، لكنّ القرافي قيَّد هذا الإطلاق ونقل عن أهْل اللغة نفياً لِلنكرة ولم تفد العموم ..
منها : إذا قُلْتَ :" لا رجلُ في الدار " بالرفع لا تعمّ ، بلْ هو نفْي لِلرجل بوصف الوحدة ، فتقول العرب :" لا رجلُ في الدار ، بل اثنان " ، فهذه نكرة في سياق النفي ، وهي لا تعمّ إجماعا .
ومنها : سلْب الحُكْمِ العمومَ حيث وقع : كقولك :" ما كُلّ عَدَد زوْج " ،
(1) سورة مريم مِن الآية 65
(2) سورة مريم مِن الآية 98
(3) سورة الجاثية مِن الآية 15
(4) سورة التوبة مِن الآية 6
(5) يُراجَع : شرْح الكوكب المنير 3/139 - 141 والتلويح مع التوضيح 1/97 - 100 والبحر المحيط 3/117 - 119 والمنخول /146 ، 147
(6) يُراجَع المحصول 1/370
فالمقصود إبطال قول مَن قال :" كُلّ عَدَد زوْج " ، فهو سلْب الحُكْم على العموم ، لا حُكْم بالسلب على العموم .
ومنها : قولك :" ما جاءني مِن رجل " ؛ فإنّ " مِن " تفيد العموم ، ولو قُلْتَ :" ما جاءني رجل " لم يَحصل العموم مع أنّها نكرة في سياق النفي .(1/72)
وذكَر القرافي ثلاثين لفْظاً سماعيّاً يُستعمَل في النفي ، وهي : ما بها أحد ولا وابر ولا صافر ولا عريب ولا كتبع ولا دبي مِن دبيب ولا دبيح ولا نافخ ضرمة ولا ديار ولا طوري ولا دوري ولا تؤمري ولا لاعي قرو ولا أرم ولا داع ولا مجيب ولا معرب ولا أنيس ولا نافر ولا نابح ولا ناع ولا راغ ولا دعوى ولا شغر ولا صوات ولا طوى ولا زابن ولا تأمور ولا عين ولا عائن وما لي منه بُدّ ..
وقال : إنّ هذه الألفاظ وُضِعَت لِلعموم في النفي ، وما عَدَاها يقتضي ظاهِر النقول أنّه لا يفيد العموم إلا بوساطة " مِن " .
وقرَّر القرافي في النهاية أنّ النكرة في سياق النفي تقتضي العموم في أحد قِسْميْن : مسموع ، وقياس ..
أمّا المسموع : فهي هذه الألفاظ .
وأمّا القياس : فهي النكرة المبنيّة .
وما عَدَا ذلك لا عموم فيه (1) .
وإنّي أتَّفِق مع القرافي ـ رحمه الله ـ في أنّ النكرة في سياق النفي تعمّ ليس على إطلاقه ، وإنّما هو مقيَّد بالنكرة بشرطها ، سماعاً أو كانت مبنيّةً وما عَدَاهما لا عموم فيه .
(1) يُراجَع شرْح تنقيح الفصول /181 - 184
أدلة عموم النكرة المنفيَّة :
واستدَلّوا على عموم النكرة المنفيَّة بأدلة ، أَذكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى { مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَىْء } (1) ..
وجْه الدلالة : أنّ اليهود نفوا نزول أيّ كتاب مِن السماء على واحد مِن البشر (2) ، فهو سلْب كُلِّيّ ، ولِذا رَدّهم جَلّ وعلا بقوله سبحانه { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَبَ الَّذِى جَاءَ بِهِ مُوسَى } (3) وأنتم معترِفون بذلك ، فهو إيجاب جزئيّ باعتبار أنّ تَعلُّق الحُكْم بفرد مُعيَّن مِن الشيء تَعلُّق ببعض أفراده ضرورةً ، فكان هذا الاستفهام التقريريّ دليلاً على أنّ النكرة المنفيَّة في قوله تعالى { مِن شَىْء } لِلعموم ، وإلا لَمَا كان لِلاستفهام محلّ .(1/73)
الدليل الثاني : لو لم تكن النكرة المنفيَّة لِلعموم لَمَا كان قولنا " لا إله إلا الله " نفياً لِكُلّ معبود سِوَى الله تعالى ، لكنّها كلمة التوحيد إجماعاً ، فدَلّ ذلك على أنّ النكرة المنفيَّة لِلعموم ، وإلا لَمَا تَحقَّق نفْي جميع الآلهة سِوَى الله عزّ وجلّ (4) .
فوائد :
الفائدة الأولى : أنّ النكرة في سياق النهي تفيد العموم ؛ لأنّها في معنى النفي ..
نحْو : قوله تعالى { وَلا تَقْرَبُوا الزّنَى } (5) ، وقوله تعالى { وَلا تَقُولَنَّ
(1) سورة الأنعام مِن الآية 91
(2) يُراجَع : تفسير القرآن العظيم 2/159 والجامع لأحكام القرآن 7/26
(3) سورة الأنعام مِن الآية 91
(4) يُراجَع : المحصول 1/369 والتلويح مع التوضيح 1/98 ، 99 وإرشاد الفحول /207 والتحصيل 1/350 والبحر المحيط 3/110 ، 111 وكشْف الأسرار لِلبخاري 2/25
(5) سورة الإسراء مِن الآية 32
لِشَاىْءٍ إِنِّى فَعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلا أَن يَشَاءَ اللَّه } (1) (2) .
الفائدة الثانية : أنّ النكرة في سياق النفي تعمّ ، سواء دخل حَرْف النفي " لا ، ما ، لن ، لم ، ليس " على فِعْل ـ نحْو :" ما رأيتُ رجلاً " ـ أو على اسم ـ نحْو :" لا رَجُل في الدار " ـ وسواء باشَرها النفْي ـ نحْو :" ما أحد قائماً ـ أو عاملها ، نحْو :" ما قام أحد " (3) .
الفائدة الثالثة : تكرار النكرة ..
والنكرة إمّا أنْ تعاد معرفةً وإمّا أن تعاد نكرةً ..
فإنْ أعيدَت النكرة معرفةً : كانت الثانية عيْن الأُولى لِدلالة العهد ..
نحْو : قوله تعالى { كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا * فَعَصَى فِرْعُونُ الرَّسُول } (4) .
وإنْ أُعيدَت النكرة نكرةً : كانت الثانية غيْر الأولى ..(1/74)
نحْو : قوله تعالى { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا } (5) ، فاليسر الأول خلاف الثاني ، ولِذا بَشَّر النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بهذه الآية فقال { لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن } (6) .
أمّا المعرفة إذا أعيدَت معرفةً : كانت عيْن الأولى ؛ لِدلالة العهد : كالعسريْن في الآيتيْن السابقتيْن ، ولِذا قال ابن عباس رضي الله عنهما : " لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن " (7) .
(1) سورة الكهف مِن الآيتيْن 23 ، 24
(2) يُراجَع : شرْح الكوكب المنير 3/136 ، 137 والمسوَّدة /100 وغاية الوصول /71
(3) يُراجَع : البحر المحيط 3/110 وشرْح تنقيح الفصول /184 وإرشاد الفحول /207
(4) سورة المزمل مِن الآيتيْن 15 ، 16
(5) سورة الشرْح الآيتان 5 ، 6
(6) يُراجَع : تفسير القرآن العظيم 4/525 والجامع لأحكام القرآن 20/73
(7) أَخرَجه الفرّاء بإسناد ضعيف .. يُراجَع : تفسير القرطبي 20/107 وفتْح الباري 8/712
وإذا أعيدَت المعرفة نكرةً : كانت الثانية غيْر الأولى ..
نحْو : ما إذا أَقَرّ بألْف مقيَّد بصكّ ثم أَقَرّ في مجلس آخَر بألْف مُنَكَّر وجب عليه ألْفان عند الإمام إلا أنْ يتَّحد المجلس .
وقد تعاد النكرة نكرةً مع عدم المغايَرة ..
نحْو : قوله تَبارَك وتعالى { وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِى الأَرْضِ إِلَه } (1) ، ومنه باب التوكيد اللفظيّ .
وقد تعاد النكرة معرفةً مع المغايَرة ..
نحْو : قوله تعالى { وَهَذَا كِتَبٌ أَنزَلْنَهُ مُبَرَك } إلى قوله تعالى { أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَبُ عَلَى طَائفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا } (2) .
وقد تعاد المعرفة معرفةً مع المغايرة ..
نحْو : قوله تعالى { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقّ مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَب } (3) .
وقد تعاد المعرفة نكرةً مع عدم المغايرة ..(1/75)
نحْو : قوله تعالى { فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَحِد } (4) (5) .
(1) سورة الزخرف مِن الآية 84
(2) سورة الأنعام مِن الآيتيْن 155 ، 156
(3) سورة المائدة مِن الآية 48
(4) سورة الحج مِن الآية 34
(5) يُراجَع : أصول البزدوي مع كشْف الأسرار 2/30 - 34 وفتح الغفار 1/119 والوجيز /25 ، 26 والتلويح مع التوضيح 1/102 ، 103 والمنار مع شرْح إفاضة الأنوار مع حاشية نسمات الأسحار /83 ، 84 وشرْح طلعة الشمس 1/100 - 103
ثانياً : القسم الخامس
الأسماء المؤكّدة
الأول : كُلّ ..
ومدلولها الإحاطة بكُلّ فرْد مِن الجزئيّات إنْ أضيفَت إلى النكرة أو الأجزاء إنْ أضيفَت إلى معرفة ..
وهي تشمل العاقل وغيْره والمفرَد وغيْره ، مؤنَّثاً ومذكراً ، ولِذا عَدّها الزركشي أَقْوَى صيغ العموم ، وتَكون في الجَمْع بلفْظ واحد ؛ تقول :" كُلّ الناس " ، و" كُلّ القوم " ، و" كُلّ رجل " ، و" كُلّ امرأة " .
وتفيد العموم إذا أضيفت إلى نكرة ..
نحْو : قوله تعالى { كُلُّ نَفْسٍ ذَائقَةُ الْمَوْت } (1) ، ومعنى العموم هنا كُلّ فرْد فرْد لا المجموع .
وإنْ أضيفَت إلى معرفة أفادت العموم أيضاً : كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - { كُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِه } (2) ..
لكنّهم اختلَفوا في دلالتها : هل هي على كُلّ فرْد أم كلِّيَّة ؟
وإذا قطعت " كُلّ " عن الإضافة ـ نحْو : قوله تعالى { كُلٌّ ءَامَنَ
(1) سورة آل عمران مِن الآية 185 ، سورة الأنبياء مِن الآية 35 ، سورة العنكبوت مِن الآية 57
(2) أَخرَجه البخاري في كتاب الجمعة : باب الجمعة في القُرَى والمدن برقم ( 844 ) ومسلِم في كتاب الإمارة : باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحثّ على الرفق برقم ( 3408 ) والترمذي في كتاب الجهاد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : باب ما جاء في الإمام برقم ( 1627 ) ، كُلّهم عن ابن عُمَر رضي الله عنهما .(1/76)
بِاللَّه } (1) { كُلٌّ لَّهُ قَنِتُون } (2) ـ جاز فيها الوجهان : الإفراد كالأول ، والجَمْع كالثاني .
الثاني : جميع وأجمع وأجمعون ..
و" جميع " وما يتصرف منها : كـ" أجمع " و" أجمعون " ، وهي مِثْل " كُلّ " إذا أضيفَت ، ولا تضاف إلا إلى معرفة ، غيْر أنّها توجِب الاجتماع وإحاطة الأجزاء دون الانفراد (3) .
ويرى ابن السبكي ـ رحمهما الله ـ أنّ العموم لا يستفاد مِن لفْظ " جميع " لأنّها لا تضاف إلا إلى معرفة ؛ تقول :" جميع القوم ، وجميع قومك " ، ولا تقول :" جميع قوم " ، ومع التعريف بالألِف واللام أو الإضافة يَكون العموم مستفاداً منها لا مِن لفْظة " جميع " " (4) ا.هـ ..
ولكنّي أخالفه في ذلك ، صحيح أنّ الإضافة إلى المعرفة تفيد العموم بصفة عامة ، ولكن " جميع " بلفْظها يفيد الجميع ، فإنْ أضيفَت إلى ما يفيد العموم تَكون حينئذٍ أفادت العموم مِن جهتيْن : لفْظها ، والإضافة .
الثالث : سائر ..
وهو لفْظ قريب مِن " كُلّ " و" جميع " ، وهو مأخوذ مِن سور المدينة وهو المحيط بها ، ولِذا تفيد العموم بهذا المعنى ..
نحْو : قوله :" أعطِ سائر الناس " أيْ جميعهم .
وإنْ كانت مأخوذةً مِن السؤر بالهمزة ـ وهو البقية ـ فلا تفيد العموم ؛
(1) سورة البقرة مِن الآية 185
(2) سورة البقرة مِن الآية 116 ، سورة الروم مِن الآية 26
(3) يُراجَع : البحر المحيط لِلزركشي 3/64 - 71 وأصول البزدوي مع كشْف الأسرار 2/16 - 20 وأصول السرخسي 1/6157 ، 158 وروضة الناظر مع نزهة الخاطر 2/108 وإرشاد الفحول لِلشوكاني /205
(4) الإبهاج 2/91
ففي الحديث { وَفَارِقْ سَائِرَهُنّ } (1) أيْ باقيهنّ .
وقال القاضي عبد الوهاب : إنّها ليست لِلعموم ؛ إذ أنّ معناها بعض الشيء لا جمْلته .
ولكنّ الثابت عند أهْل اللغة أنّها لِجملة الشيء ، وحينئذٍ تفيد العموم ، وهو الراجح عندي (2) .(1/77)
(1) أَخرَجه مالك عن ابن شهاب الزّهري في كتاب الطلاق : باب جامع الطلاق برقم ( 1071 ) وابن حبّان 9/465 والبيهقي في سُنَنه الكبرى 7/181 والشافعي في مسنَده/274 ، كلُهّم عن ابن عُمَر رضي الله عنهما .
(2) يُراجَع : نهاية السول 2/89 والمختصر 108 ، 109
ثالثاً : القِسْم السادس
ألفاظ معناها الجَمْع
وهي : " الرهط " و" القوم " و" الجماعة " و" الطائفة " .
وهذه الألفاظ نَصّ عليها البزدوي ؛ لأنّ معناها جَمْعاً ، فلِذا كانت اسماً لِلثلاثة فصاعداً ، إلا " الطائفة " ؛ فإنّها اسم لِلواحد فصاعداً .. كذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى { فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائفَة } (1) أنّه يقع على الواحد فصاعداً (2) .
وهذه الألفاظ تفيد العموم ..
نحْو : قوله :" أعطِ رهطك " ، و" ساعد قوْمك " و" أَخرِج جماعتك أو طائفتك " أيْ عامّتهم .
" معشر " و" معاشر " و" عامّة " و" كافّة " و" قاطبة " :
وهذه الألفاظ تفيد العموم ..
ومنه : قوله تعالى { يَمَعْشَرَ الْجِنّ وَالإِنس } (3) وقوله تعالى { وَقَتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة } (4) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - { نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَث } (5) ، وقوله :" جاءني القوم عامة " .
(1) سورة التوبة مِن الآية 122
(2) يُراجَع أصول البزدوي مع كشْف الأسرار 2/10 ، 11
(3) سورة الرحمن مِن الآية 33
(4) سورة التوبة مِن الآية 36
(5) سبق تخريجه .
وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها (1) : لَمَّا مَاتَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ قَاطِبَة " أيْ جميعهم .
والفَرْق بيْن هذه الألفاظ : أنّ " معشر " لا يُستعمَل إلا مضافاً ، و" قاطبة " لا يضاف ، و" عامة " و" كافة " يُستعمَلان مضافيْن وخالييْن (2) .
أعلى صيغ العموم :
اختلَف الأصوليّون في ألفاظ العموم : أيّها أَقوَى دلالةً على ذلك ؟(1/78)
فذهب إمام الحرميْن وابن القشيري (3) إلى أنّ أعلاها أسماء الشرط والنكرة في سياق النفي (4) .
وذهب ابن السمعاني إلى أنّ ألفاظ الجموع أَعْلَى وجوه العموم ، ثُمّ اسم الجنس المعرَّف باللام (5) .
وذهب الطوفي إلى أنّ لفْظ الجَمْع أَكمَل في باب العموم مِن غيْره (6) ؛
(1) السيدة عائشة : هي أمّ عبد الله الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق السيدة عائشة بنت أبي بكْر عبد الله ابن عثمان ، أُمّ المؤمِنين ، أَفقَه نساء المسلِمين ، وُلِدَت قَبْل الهجرة بتِسْع سنوات ، تَزَوَّجَها النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْد الهجرة ..
تُوُفِّيَت بالمدينة سَنَة 58 هـ .
الإصابة 9/359
(2) يُراجَع : البحر المحيط 3/73 وإرشاد الفحول /208
(3) ابن القشيري : هو عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري النيسابوري الشافعي ، الفقيه النحوي المتكلِّم الواعظ ، أَخذَ عن أبيه صاحِب " الرسالة القشيرية " وعن إمام الحرميْن وعن أبي إسحاق الشيرازي ، اشتغَل بالوعظ والتدريس جُلّ عُمُره ..
مِن مصنَّفاته : تفسير القرآن ، الموضّح في الفروع .
تُوُفِّي سَنَة 514 هـ .
طبقات ابن السبكي 7/159 وطبقات المفسِّرين لِلدّاودي 8/289
(4) يُراجَع البحر المحيط 3/130 ، 131
(5) قواطع الأدلة 1/167
(6) يُراجَع شرْح مختصر الروضة 2/465
لِقيام العموم بصيغته ومعناه جميعاً ، وأسماه " العامّ الكامل " .
وذهب الفتوحي إلى أنّ أقواها " كُلّ " (1) .
وقال البستي (2) : الكامل في العموم هو الجَمْع ؛ لِوجود صورته ومعناه وما عَدَاه قاصِر في العموم ؛ لأنّه بصيغته إنّما يتناول واحداً ، لكنّه ينتظم جَمْعاً مِن المسميات معنىً ، فالعموم قائم بمعناها لا بصيغتها (3) .
والذي أراه راجحاً : أنّ الجَمْع هو أعلى ألفاظ العموم ؛ لأنّ العموم قائم فيه بصورته ومعناه كما ذَكَر البستي .
(1) يُراجَع شرْح الكوكب المنير 3/123 ، 124(1/79)
(2) البستي : هو أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد البستي التميمي ، فقيه مُحَدِّث واعظ ..
مِن مصنَّفاته : المسنَد الصحيح ، الجرْح والتعديل .
تُوُفِّي سَنَة 354 هـ .
شذرات الذهب 3/16 وطبقات الشافعية 3/131
(3) روضة الناظر 2/109
الفصل الثاني
تمييز ما يمكن دعوى العموم فيه
وفيه تمهيد وثلاثة مباحث :
التمهيد في : تمييز ما يمكن دعوى العموم فيه .
المبحث الأول : عموم اللفظ ، والمقتضى ، والمفهوم ، والمشترك ، والجَمْع المضاف .
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : العِبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
المطلب الثاني : عموم المقتضى .
المطلب الثالث : عموم المفهوم .
المطلب الرابع : عموم المشترك .
المطلب الخامس : الجَمْع المضاف إلى جَمْع .
المبحث الثاني : الفعل المتعدِّي ، والمثبت ، والحُكْم المعلَّق على علّة ،
والعطف على العامّ .
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : الفعل المتعدِّي في سياق النفي أو الشرط .
المطلب الثاني : الفعل المثبت .
المطلب الثالث : قول الصّحابيّ : نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَن كذا .
المطلب الرابع : الحُكْم المُعَلَّق على علة .
المطلب الخامس : العطف على العامّ .
المبحث الثالث : تَرْك الاستفصال ونَفْي المساواة وسوْق العامّ لِغرض آخَر .
وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : تَرْك الاستفصال في حكاية الحال .
المطلب الثاني : نَفْي المساواة بيْن الشيئيْن .
المطلب الثالث : سَوْق العامّ لِغرض آخَر كالمدح والذّمّ .
تمهيد
في تمييز ما يُمْكِن
دعوى العموم فيه عمّا لا يمكن
لقد وقفْتُ على ثلاثة عناوين عند الأصوليِّين لِهذا المبحث :
الأول : ما يصحّ دعوى العموم فيه وما لا يصحّ .
لأبي إسحاق الشيرازي ..
وفيه قسّم الألفاظ إلى قِسميْن :
الأول : الألفاظ التي يصحّ دعوى العموم فيها ..
وهي الألفاظ التي تَقَدَّم ذِكْرها في ألفاظ العموم .
الثاني : الألفاظ التي لا يصحّ دعوى العموم فيها ..(1/80)
وذكَر فيها عدة حالات ادَّعَى فيها عدم العموم ، وليس فيها مُسَلَّم عند الجميع إلا واحداً ، وهو : ورود اللفظ في شيء بعينه ..
نحْو : قوله - صلى الله عليه وسلم - { تُجْزِئُكَ ، وَلاَ تُجْزِئُ أَحَداً بَعْدَك } (1) ؛ فهذا خاصّ بأبي بردة - رضي الله عنه - (2) في التضحية بالجذع مِن الماعز ، فلا يَتناول غيْره ، فلا يُدَّعَى فيه العموم .
(1) أَخرَجه البخاري في كتاب الجمعة : باب التبكير إلى العيد برقم ( 915 ) ومسلِم في كتاب الأضاحي : باب وقْتها برقم ( 6327 ) ، كلاهما عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - .
(2) أبو بردة : هو الصّحابيّ الجليل هانئ بن نيار بن عمرو الأنصاريّ - رضي الله عنه - ، أحد الذين شَهِدوا العقبة وشَهِد المغازي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..
تُوُفِّي بالمدينة سَنَة 42 هـ .
سِيَر أعلام النبلاء 2/36
ولِذا كان تعبيره فيما يصحّ وما لا يصحّ وفْق الراجح عنده (1) .
الثاني : تمييز ما يمكن دعوى العموم فيه عمّا لا يمكن ..
لِحُجّة الإسلام الغزالي ، الذي أَورَد في هذا الباب عشرين مسألة (2) .
الثالث : فيما أُلحِقَ بالعموم وليس منه ..
لِلفخر الرازي ، وقد أَورَد في ذلك خمسة عشر مسألة (3) .
وهو تعبير وفْق الراجح عنده ـ أيضاً ـ كالشيرازي .
أمّا تعبير الغزالي فكان أَليَق بمحلّ النزاع ؛ لِتَرْكه الباب مفتوحاً لِلحُكْم بما يمكن دعوى العموم فيه عمّا لا يمكن ، ولِذا عنونتُ به هذا المبحث الذي قسمتُه إلى مطالب ؛ لِكثرتها .
هذا .. وقد تَفاوَت الأصوليّون في حصْر هذه المسائل بيْن مُقِلّ ومُكْثِر وقد حاولْتُ أنْ أَجمَع هذه المسائل في موضعيْن ، جعلْتُ الثاني منهما مبحثاً في خطاب العموم المحتلَف في عمومه ، والأول منهما وهو هذا الفصل ، وقد حصَرْتُه في ثلاثة عَشَر مطلباً وفْق ما تَقَدَّم .
(1) يُراجَع : شرْح اللمع 1/355 - 362 والمستصفى 2/68
(2) يُراجَع المستصفى 2/58 - 97(1/81)
(3) يُراجَع المحصول 1/382 - 395
المبحث الأول
عموم اللفظ ، والمقتضى ، والمفهوم
والمشترك ، والجَمْع المضاف .
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : العِبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
المطلب الثاني : عموم المقتضى .
المطلب الثالث : عموم المفهوم .
المطلب الرابع : عموم المشترك .
المطلب الخامس : الجَمْع المضاف إلى جَمْع .
المطلب الأول
العِبرة بعموم اللفظ
لا بخصوص السبب
تحرير محلّ النزاع :
لا خلاف بيْن العلماء في صحة دعوى العموم فيما وَرَد مِن الشارع ابتداءً بغيْر سؤال سابق ..
نحْو : قوله - صلى الله عليه وسلم - { مِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الطَّهُور } (1) .
أمّا إنْ كان جواباً لِسؤال : ففيه تفصيل ..
لأنّه إمّا أنْ يَكون جواباً لِسؤال سائل أو لا ..
فإنْ كان جواباً : فإما أنْ يستقلّ بنَفْسه أولا ..
فإنْ لم يستقلّ بحيث لا يصحّ الابتداء به : فلا خلاف في أنَّه تابِع لِلسؤال في عمومه وخصوصه .
فإنْ كان السؤال عامّاً : كان الجواب عامّا ..
مثاله : ما لو سئل عمَّنْ جامَع امرأته في نهار رمضان فقال :" يعتق رقبةً " ؛ فهذا عامّ في كُلّ واطئ في رمضان ، ولفْظ " يعتق " وإنْ كان خاصّاً بالواحد لكنّه لَمّا كان جواباً عمَّنْ جامَع امرأته بلفْظ يعمّ كُلّ مَن جامَع كان الجواب كذلك .
وإنْ كان السؤال خاصّاً : كان الجواب خاصّا ..
(1) أَخرَجه الترمذي في كتاب الطهارة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : باب ما جاء أنّ مفتاح الصلاة الطهور برقم ( 64 ) وأبو داود في كتاب الطهارة : باب ماء البحر برقم ( 56 ) ، كلاهما عن عَلِيّ - رضي الله عنه - .
نحْو : قوله تعالى { فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا } (1) .(1/82)
ومثاله : ما لو سأله - صلى الله عليه وسلم - سائل وقال :" توضأتُ بماء البحر ؟ " فقال له :" يُجْزِئك " كان الحُكْم خاصّاً بالسائل ، ولا يعمّ غيْره إلا بدليل مِن خارج على أنَّه عامّ في المكلَّفين أو في كُلّ مَن كان بصفته .
وإنْ كان جواباً مستقِلاًّ بنَفْسه دون السؤال : فله صوَر ثلاث :
الصورة الأولى : أنْ يَكون مُساوياً لِلسؤال عامّاً أو خاصّاً .
ومثاله في الأول : ما رُوِي عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سُئِل فقيل له :" إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ عَلَى أَرْمَاثٍ (2) لَنَا وَلَيْسَ مَعَنَا مِنَ الْمَاءِ الْعَذْبِ مَا يَكْفِينَا : أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْر ؟ " فقال - صلى الله عليه وسلم - { الْبَحْرُ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُه } (3) .
ومثاله في الثاني : سؤال الأعرابيّ عن وطْئه في نهار رمضان وقوله - صلى الله عليه وسلم - { أَعْتِقْ رَقَبَة } (4) .
والحُكْم في هذه الصورة كالحُكْم كما لو لم يكن الجواب مستقِلاًّ ، فإنْ كان السؤال عامّاً كان الجواب كذلك ، وإنْ كان السؤال خاصّاً كان الجواب كذلك ، إلا أنّ الحُكْم في هذه الحالة مع أنّ السؤال خاصّ هو العموم ؛ لأنّ الحُكْم ـ وهو عتْق رقبة ـ تَعَلَّق بالعلة وهي الوطء في نهار رمضان ، فيَرتبط بها وجوداً وعدما ، ولِذا قال الآمدي :" فالحُكْم في حقّ غيْره إنْ
(1) سورة الأعراف مِن الآية 44
(2) الأرماث : جَمْع " رَمَث " ، وهو خشب يُضَمّ بعضه إلى بعض ثُمّ يُشَدّ ويُرْكَب في الماء .. المصباح المنير 1/238
(3) أَخرَجه الترمذي في كتاب الطهارة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : باب ما جاء في ماء البحر أنّه طهور برقم ( 3) والنسائي في كتاب الطهارة : باب ماء البحر برقم ( 59 ) وأبو داود في كتاب الطهارة : باب الوضوء بماء البحر برقم ( 76 ) ، كُلّهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .(1/83)
(4) أَخرَجه أحمد في باقي مسنَد المُكثِرين برقم ( 7453 ) والدارمي في كتاب الصوم : باب في الذي يقع على امرأته في شهْر رمضان نهارا برقم ( 1654 ) كلاهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
ثبت ؛ فبالعِلَّة المتعدية لا بالنَّصّ " (1) .
الصورة الثانية : أنْ يَكون الجواب أَخَصّ مِن السؤال .
مثاله : أنْ يُسأل عن أحكام المياه فيقول :" ماء البحر طهور " .
وحُكْمه : أنَّه لِلخصوص ، ولا يُحمَل على العموم إلا بدليل خارج عن اللفظ ؛ إذ اللفظ لا عموم له .
الصورة الثالثة : أنْ يَكون الجواب أَعَمّ مِن السؤال .
وهذه الصورة قِسْمان :
القِسْم الأول : أنْ يَكون الجواب أَعَمّ منه في حُكْم آخَر غيْر ما سُئِل عنه .
مثاله : سؤالهم عن التوضؤ بماء البحر وجوابه - صلى الله عليه وسلم - بقوله { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُه } (2) .
وحُكْمه : أنَّه عامّ ، يعمّ حال الضرورة والاختيار ، مع أنّ السؤال كان في حالة الضرورة .
القِسْم الثاني : أنْ يَكون الجواب أعمّ منه في ذلك الحُكْم الذي سأل عنه .
مثاله : سؤاله - صلى الله عليه وسلم - عن بئر بضاعة ، فقال - صلى الله عليه وسلم - { الْمَاءُ طَهُورٌ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْء } (3) .
وهذا هو محلّ النزاع ، فاختلَف الأصوليّون في أنَّه يُحمَل على العموم أم أنَّه قاصر على سببه على مذاهب ..
مذاهب الأصوليّين في ورود العامّ على سبب خاصّ وأدلّتهم :
اختلَف الأصوليّون فيما إذا ورَد العامّ على سبب خاصّ على مذاهب ،
(1) الإحكام لِلآمدي 2/218
(2) سبق تخريجه .
(3) أَخرَجه الترمذي في كتاب الطهارة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : باب ما جاء أنّ الماء لا يُنَجِّسه شيء برقم ( 61 ) والنسائي في كتاب المياه : باب ذِكْر بئر بضاعة برقم ( 324 ) وأبو داود في كتاب =
أَشهَرها مذهبان :
المذهب الأول : سقوط العموم .(1/84)
وهو منسوب إلى المزني (1) وأبي ثور (2) وأبي الحسن الأشعري (3) ، ونَسَبَه الإمام في " البرهان " (4) لأبي حنيفة والشافعي ، ونقله ابن السمعاني وغيْره عن مالك (5) .
واحتَجّوا بأدلة ، أَذكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ الرواة نقلوا أسباب الأحكام وحافَظوا على نقْلها ، ولولا اختصاص الحُكْم بالسبب لَمَا نقله الرواة ؛ لأنّ نقْله حينئذٍ يَكون عديم الفائدة إذ لا فَرْق بيْن نقْله وعدم نقْله في عموم الحُكْم ، فدَلّ ذلك على أنّ الحُكْم مختصّ بالسبب .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم بأنّ نقْل السبب لا فائدة فيه ، بل له
= الطهارة : باب ما جاء في بئر بضاعة برقم ( 60 ) ، كُلّهم عن أبي سعيد الخدريّ - رضي الله عنه - .
(1) المزني : هو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني الشافعي ، إمام الشافعية بمِصْر ، تلميذ الإمام الشافعي ، وُلِد بمِصْر سَنَة 175 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الجامع الكبير ، المنثور ، المسائل المعتبَرة ، المختصَر ، الترغيب في العِلْم .
تُوُفِّي سَنَة 264 هـ .
طبقات الشافعية الكبرى 2/93 والنجوم الزاهرة 3/39 والفتح المبين 1/164 - 166
(2) أبو ثور : هو إبراهيم بن خالد بن اليمان البغدادي ، حَدَّث عن الإمام الشافعي وسفيان بن عيينة وغيْرهما ..
مِن مصنَّفاته : مبسوط في الفقه على ترتيب كُتُب الإمام الشافعيّ .
تُوُفِّي سَنَة 240 هـ .
تذكرة الحُفّاظ 2/512 ، 513 وسِيَر أعلام النبلاء 12/72 ، 73
(3) يُراجَع المحصول 1/448
(4) يُراجَع : البرهان 1/372 - 375 والرسالة /231 والبحر المحيط 3/205
(5) يُراجَع قواطع الأدلة 1/194 ، 195
فوائد ، منها : معرفة أسباب النزول والقصص ، وتوسعة عِلْم الشريعة بمعرفة الأحكام بأسبابها ، كما يفيد امتناع إخراج السبب بحُكْم التخصيص بالاجتهاد .(1/85)
الدليل الثاني : أنَّه لولا اختصاص الحُكْم بسببه الخاصّ لَجاز إخراج السبب بالتخصيص ، أيْ إخراجه عن العامّ بالاجتهاد ، لكنْ لا يجوز إخراجه بالتخصيص ، فدلّ ذلك على أنّ الحُكْم مختصّ بسببه .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنَّه لا يَلزم مِن كوْن الجواب عامّاً أنْ يَكون السبب مخصّصاً ؛ فإنَّه لا خلاف في أنَّه بيان الواقعة ..
وإنَّما الخلاف : هل هو بيان لها خاصّةً أم لها ولِغيْرها ؟
فاللفظ يتناولها يقيناً ويتناول غيْرها ظنّاً ؛ إذ لا يسئل عن شيء فيَعدل عن بيانه إلى بيان غيْره إلا أنْ يجيب عن غيْره بما يُنَبِّه على محلّ السؤال كما قال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لِعُمَر - رضي الله عنه - لَمّا سأله عن القُبلة لِلصائم { أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْت } (1) (2) .
المذهب الثاني : بقاء العامّ على عمومه .
وهو ما عليه الجمهور ، واختاره إمام الحرميْن (3) والغزالي (4) والفخر الرازي (5) والآمدي (6) وابن الحاجب (7) .
(1) أَخرَجه أحمد في مسنَد العشرة المبَشَّرين بالجَنَّة برقمَيْ ( 132 ، 350 )
(2) يُراجَع روضة الناظر مع نزهة الخاطر 2/123 ، 124
(3) البرهان 1/374 ، 375
(4) المستصفى 2/60 ، 61 والمنخول /151
(5) يُراجَع المحصول 1/448
(6) الإحكام لِلآمدي 2/218 ، 219
(7) مختصر المنتهى مع بيان المختصر 2/148
واحتَجّوا بأدلة ، أَذكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ الأُمَّة مُجْمِعة على عموم حُكْم السرقة واللعان والظهار وغيْرها مع أنّ سببها كان خاصّاً ..
فآية السرقة نزلَت في سرقة المِجَنّ (1) (2) أو سرقة رداء صفوان ابن أميّة (3) (4) .
وآية الظهار نزلَت في سلمة بن صخر (5) .
وآية اللعان نزلَت في هلال بن أمية (6) .
وإذا كان كذلك فإنّ العامّ الوارد على سبب خاصّ باقٍ على عمومه ؛
(1) المجنّ : هو الدرع الواقي لِلمقاتِل ، سُمِّي بذلك لأنّ صاحِبه يَتستَّر به .. المصباح المنير 1/112(1/86)
(2) أَخرَجه البخاري في كتاب الحدود : باب قول الله تعالى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ... } برقم ( 2688 ) ومسلِم في كتاب الحدود : باب حدّ السرقة ونِصَابها برقم ( 3194 ) والترمذي في كتاب الحدود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : باب ما جاء في كمْ تُقطَع يد السارق برقم ( 1366 ) ، كُلّهم عن ابن عُمَر رضي الله عنهما .
(3) صفوان بن أميّة : هو الصّحابيّ الجليل أبو وهْب صفوان بن أميّة بن خلَف الجمحيّ القرشيّ - رضي الله عنه - أَسلَم بعْد الفتح ..
تُوُفِّي سَنَة 41 هـ .
الإصابة 3/432 ، 433
(4) أَخرَجه النسائي في كتاب قَطْع السارق : باب ما يَكون حرزاً وما لا يَكون عن صفوان بن أميّة - رضي الله عنه - .
(5) سلمة بن صخْر : هو الصّحابيّ الجليل سلمة بن صخْر بن سلمان الأنصاريّ البياضيّ - رضي الله عنه - ، كان أحد البكّائين ..
روى عنه سعيد بن المسيّب وأبو سلمة وسماك بن حرْب وسليمان بن يسار .
التاريخ الكبير 4/72 والإصابة 3/150
(6) هلال بن أميّة : هو الصّحابيّ الجليل هلال بن أميّة بن عامر بن قيس الأنصاري - رضي الله عنه - ، شَهِد بدراً وما بَعْدها ، وهو الذي قذَف امرأته بشريك بن سمحاء ..
يقال أنّه عاش حتى زمَن معاوية .
الاستيعاب 4/1542 والإصابة 6/546
فالعِبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
الدليل الثاني : أنّ المقتضي لِلعموم قائم ، وهو اللفظ الموضوع لِلعموم ، وخصوص السبب لا يعارضه ؛ لأنّه لا منافاة بيْن عموم اللفظ وخصوص السبب ؛ فإنّ الشارع لو صرّح وقال :" تَمسَّكوا بهذا اللفظ العامّ وإنْ كان سببه خاصّاً " لم يلزم منه التناقض ، فلو كان خصوص السبب معارِضاً لِعموم اللفظ لَلَزم التناقض ، فدلّ ذلك على أنّ العامّ على عمومه وإنْ كان سببه خاصّا (1) .(1/87)
والرّاجح عندي : ما ذهب إليه الجمهور ، وهمْ أصحاب المذهب الثاني القائل بأنّ العامّ إذا ورَد على سبب خاصّ باقٍ على عمومه ؛ لأنّ الإجماع يؤيِّدهم ، ولأنّ القول بعدم عمومه يؤدي إلى عدم إقامة حدود الله وأحكام الشريعة التي كانت أسبابها ناشئةً في عصْر النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فيقتصر الحُكْم عليها لِربْطه بسببها ، وهو قول شنيع في الدين ، ولا مَخلَص منه إلا بجعل العامّ باقٍ على عمومه ، ولا عِبرة بخصوص السبب ، كما أنّ أصحاب المذهب الأول ليس لهم دليل سالم يُقَوِّي حُجّتهم ودعواهم .
(1) يُراجَع : قواطع الأدلة 1/193 - 197 والمحصول 1/448 ، 449 وبيان المختصر 2/155 156 والمستصفى 2/60 والإحكام لِلآمدي 2/218 - 222 وروضة الناظر 2/123 - 127 وشرْح تنقيح الفصول /216 وإرشاد الفحول /230 - 233 وشرْح مختصر الروضة 2/501 - 508 والبحر المحيط 3/198 - 220 وشرْح الكوكب المنير 3/168 - 186
المطلب الثاني
عموم المقتضى
المقتضِي بكسر الضّاد : الطالب لِلإضمار .
وبفتْحها : ذلك المضمر بعينه الذي اقتضاه الكلام تصحيحاً له ، وهو المراد هنا (1) .
وعرَّفه الآمدي بأنَّه : ما أضمر ضرورة صدْق المتكلِّم (2) .
قال العضد (3) :" المقتضِي بصيغة الفاعل : ما لا يستقيم كلاماً إلا بتقدير ، وذلك التقدير هو المقتضَى بصيغة اسم المفعول " (4) .
تحرير محلّ النزاع :
اتَّفَق الأصوليّون على أنَّه إذا توقَّف صدْق الكلام أو صحّته على مقدّر مُعَيَّن كان واجباً تقديره بخصوصه ، عامّاً كان المقدّر أو خاصّا .
واختلَفوا فيما إذا كانت تقديراته متعدِّدةً ويستقيم الكلام بكُلّ واحد منها : هل يقدّر الجميع وهو عموم المقتضى أم لا ؟
(1) تشنيف المسامع 1/348
(2) الإحكام لِلآمدي 2/229
(3) عضد الدين الإيجي : هو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار بن أحمد الإيجي الشافعي ، وُلِد بإيج مِن أعمال شيراز بفارس ..(1/88)
مِن تصانيفه : شرْح مختصر ابن الحاجب في الأصول ، المواقف في أصول الدين .
تُوُفِّي سَنَة 756 هـ .
الفتح المبين 2/173 والدرر الكامنة 2/322
(4) شرْح العضد 2/115
مذهبان لهم في ذلك (1) .
مذاهب الأصوليّين في عموم المقتضى وأدلّتهم :
المذهب الأول : عدم عموم المقتضى .
وهو ما عليه أَكثَر الأصوليّين مِن الشافعية والحنفية ، واختاره الشيرازي (2) والغزالي (3) والفخر الرازي (4) وابن السمعاني (5) والآمدي (6) وابن الحاجب (7) والسرخسي (8) والسمرقندي (9) مِن الحنفية (10) .
وأصحاب هذا المذهب قالوا بتقدير واحد مِن المقدّرات بدليل ، فإنْ لم يقم دليل معيّن لأحدهما كان مجملا ..
فإنْ قام دليل على تعيين أحد هذه المقدّرات فلا خلاف أنَّه يتعيّن ..
نحْو : قوله تعالى { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة } (11) ؛ فالمراد الأكل .
وقوله تعالى { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَتُكُم } (12) أي الوطء .
(1) يُراجَع : شرْح العضد 2/115 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 2/230
(2) يُراجَع شرْح اللمع 1/358
(3) يُراجَع المستصفى 2/61
(4) يُراجَع المحصول 1/39
(5) يُراجَع قواطع الأدلة 1/171
(6) يُراجَع الإحكام لِلآمدي 2/229
(7) يُراجَع مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/115
(8) يُراجَع أصول السرخسي 1/194
(9) السمرقندي : هو علاء الدين أبو منصور محمد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي الحنفي ..
مِن مصنَّفاته : اللباب ، تحفة الفقهاء ، الميزان .
تُوُفِّي ببخارى سَنَة 539 هـ .
معجم المؤلِّفين 8/228
(10) يُراجَع ميزان الأصول /307
(11) سورة المائدة مِن الآية 3
(12) سورة النساء مِن الآية 23
وإنْ لم يقم دليل : فإما أنْ تَكون المقدّرات على حدّ واحد في الدلالة ، وإمّا أنْ يَكون بعضها أَعَمّ مِن غيْره ..
فإنْ كان بعضها أَعَمّ مِن غيْره : فالأَوْلى إضمار الأعمّ ؛ لِمَا فيه مِن تكثير الفائدة مع اندفاع المحذور ، وهو تكثير الإضمار .(1/89)
وهو اختيار الشيخ تقيّ الدين (1) في " الإلمام " والقرافي (2) .
وإنْ كانت المقدّرات على حدّ واحد في الدلالة : فإنّهم انقسَموا ..
فمنهم مَن قال : يضمر ما يفهم مِن اللفظ بعرف الاستعمال ..
وهو اختيار الغزالي ، فقال في قول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَان } (3) : إنّه يقتضي بالوضع رفْع حُكْمه لا على الإطلاق (4) .
ومنهم مَن قال : يضمر حُكْماً مِن غيْر تعيين ، وتعيينه إلى المجتهد ..
وهو اختيار الآمدي .
ومنهم مَن تَوَقَّف ، وهو ما عليه ابن الحاجب ، وآخِر كلام الآمدي (5) .
(1) تقيّ الدين بن دقيق العيد : هو أبو الفتح محمد بن علِيّ بن وهْب بن مطيع القشيري المنفلوطي المصري ، القوصي المنشأ ، المالكي ثُمّ الشافعي ، وُلِد سَنَة 625 هـ ، فقيه أصوليّ نحويّ ، وُلِّي قضاء الديار المصرية ..
مِن مصنَّفاته : الإلمام في أحاديث الأحكام ، شرْح كتاب العمدة في الأحكام ، شرْح الأربعين النووية .
تُوُفِّي سَنَة 702 هـ .
البداية والنهاية 14/27 والدُّرَر الكامنة 4/91 والفتح المُبِين 2/102
(2) يُراجَع البحر المحيط 3/157 - 160
(3) أَخرَجه ابن ماجة عن أبي ذرّ - رضي الله عنه - في كتاب الطلاق : باب طلاق المُكْرَه والناسي برقم ( 2033 ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما برقم ( 2035 ) .
(4) يُراجَع : المستصفى 2/62 والكاشف عن المحصول 4/362 ، 363
(5) يُراجَع : البحر المحيط لِلزركشي 3/157 ومختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/115 والإحكام لِلآمدي 2/229 والكاشف عن المحصول 4/364 وكشْف الأسرار لِلبخاري 2/441
واستدَلّ أصحاب هذا المذهب بدليليْن :
الدليل الأول : أنّ العموم مِن صفات اللفظ ( عوارض الألفاظ ) ، والمقتضى معنى وليس لفظاً ، وإذا كان كذلك كان المقتضى ليس عامّا .
مناقَشة هذا الدليل :
وأرى مناقَشة هذا الدليل : بأنّا سلَّمْنا أنّ العموم مِن عوارض الألفاظ ،(1/90)
لكنْ ما المانع أنْ يثبت الحُكْم بالمقتضى كما أثبتم لِلمفهوم وهو ليس لفظاً ؟ ولِذا جعَله الإمام الشافعي كالمنصوص ؛ لأنّه ثابت به ، فكان مِثْله (1) .
الدليل الثاني : أنّ الإضمار خلاف الأصل ، فلا يصار إليه إلاّ لِضرورة ، ولَمّا كان الكلام لا يصحّ أو لا يصدق إلا بإضمار واحد ، وبه تندفع الضرورة ، فما زاد عن الواحد لا حاجة إليه إلا بدليل ، فدَلّ ذلك على أنّ إضمار جميع التقديرات عملاً بعموم المقتضى فوْق الحاجة ، فلا يجوز (2) .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ إضمار أحد التقديرات بغيْر دليل تَحَكُّم ، وليس بأَوْلى مِن إضمار غيْره ، ولَتعددَت بذلك الإضمارات تبعاً لاختيارات المجتهِدين كما ذهب الآمدي ..
ولِذا .. فإمّا أنْ لا يضمر حُكْم أصلاً ، وهو غيْر جائز .
وإمّا أنْ يضمر الكُلّ ؛ عملاً بعموم المقتضى ، وهو المطلوب (3) .
المذهب الثاني : عموم المقتضى .
وهو ما عليه أَكثَر المالكية والحنابلة ، واختاره الإمام الشافعي رحمه
(1) يُراجَع : البحر المحيط 3/155 وأصول البزدوي مع كشْف الأسرار 2/441
(2) يُراجَع : شرْح اللمع 1/358 وكشْف الأسرار لِلبخاري 2/441 وبيان المختصر 2/176 والإحكام لِلآمدي 2/230 ، 231
(3) يُراجَع المحصول 1/390
الله تعالى (1) .
واحتَجّوا بأدلة ، أَذكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله - صلى الله عليه وسلم - { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَان } ..
وجْه الدلالة : أنّ لفْظ الحديث يدلّ بالحقيقة على رفْع مفهوم الخطأ والنسيان عن الأُمَّة ، وهو غيْر مستقيم إلا بإضمار تقدير في الكلام ، وأَقرَب مَجاز إلى رفْع الخطأ والنسيان عن الأُمَّة عموم رفْع أحكامهما ؛ لأنّ عدم جميع أحكام الخطأ والنسيان أَقرَب إلى عدم الخطأ والنسيان مِن عدم بعض أحكامهما ، ولِذا الحَمْل على المَجاز الأقرب هو الأَوْلى ؛ عملاً بعموم المقتضى .
مناقَشة هذا الدليل :(1/91)
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ الإضمار خلاف الأصل ، وهو متحقِّق بإضمار البعض ، وهو الإثم والمؤاخَذة ، فإضمار عموم رفْع أحكامهما زيادة بغيْر حاجة ، ولِذا كان إضمار البعض أَوْلى ، وهو أَقرَب إلى الحقيقة .
الدليل الثاني : إذا قيل :" ليس في البلد سلطان " فُهِم منه نَفْي جميع الصفات السلطانية مِن العدل والسياسة وإنفاذ الحُكْم وغيْرها ، ولولا أنَّه يقتضي العموم لَمَا فُهِم منه ذلك .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجوه :
الوجه الأول : أنّ هذا مثال جزئيّ لا يُثبِت حكْماً كُلِّيّاً ، بل ذلك بعرف
(1) يُراجَع : المختصر /111 وشرْح الكوكب المنير 3/197 وميزان الأصول /307 وفواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/294
خاصّ فيه ، فلا يقاس عليه ، والقياس في العرف غيْر جائز كالقياس في اللغة .
الوجه الثاني : أنَّه يجوز أنْ يَكون هذا المثال مِن عموم المقدّر ، أيْ صفة
لِلسلطان ، لا مِن عموم التقديرات ، فلا يدلّ على جواز عموم التقديرات .
الوجه الثالث : أنّا نمنع الملازَمة ، وهي فهْم نَفْي جميع الصفات عند هذا القول ، بل المفهوم منه نَفْي مَن يَجمع هذه الصفات على طريق استعمال السلطان فيه مَجازاً مِن قَبِيل الاستعارة تشبيهاً لِلجامع بيْن هذه الصفات بالسلطان ، لا أنّ ها هنا تقديراً لِمَن يَجمع الصفات حتى يَردّ عليه أنَّه قد لزم حينئذٍ ـ أيضاً ـ كثرة التقديرات ؛ فإنّ المقدّر حينئذٍ مَن يجمَع صفة السلطان وصفةً أخرى له (1) .
والراجح عندي بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليّين في عموم المقتضى وأدلّتهم : أنْ يُحمَل المقتضى على عمومه ؛ لأنّه ثابت بالنَّصّ ، فحُكْمه حُكْمه ، وهو ما ذهب إليه إمامنا الشافعي رحمه الله ، وعليه أصحاب المذهب الأول ..
غيْر أنّي أرى نَفْي العموم عن المقتضى إنْ وُجِدَت قرينة لِحَمْل المقتضى على أحد المقدّرات ..(1/92)
نحْو : قوله - صلى الله عليه وسلم - { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَان } ؛ فالمقتضى هنا رفْع الحُكْم ، وهو قد يَكون في الدنيا : كإيجاب الضمان ، وقد يَكون في الآخرة كرفْع التأثيم (2) ، فالقرينة التي منعَت العموم لِلمقتضى هنا هي التعلق بحقّ الغير ، ولِذا كان المقدّر هو رفْع التأثيم .
(1) مُسَلَّم الثبوت شرْح فواتح الرحموت 1/295 بتصرف ، ويُراجَع الإحكام لِلآمدي 2/230 ، 231
(2) يُراجَع المحصول 1/390
المطلب الثالث
عموم المفهوم
اختلَف الأصوليّون في عموم المفهوم ـ سواء أكان مفهوماً لِلموافَقة أم مفهوماً لِلمخالَفة ـ على مذهبيْن :
المذهب الأول : أنَّه يعمّ في سِوَى المنطوق .
وهو ما عليه أَكثَر الأصوليّين ، واختاره الفخر الرازي والآمدي وابن الحاجب .
واحتَجّوا : بقوله - صلى الله عليه وسلم - { فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاة } (1) .
وجْه الدلالة : أنّ لفْظ الحديث دلّ منطوقه على وجوب الزكاة في الغنم السائمة ، ودلّ مفهومه على عدم وجوب الزكاة في الغنم المعلوفة ، وعدم وجوب الزكاة فيها دليل على عموم المفهوم ؛ وإلا لَقُلْنَا بوجوب الزكاة فيها أو في بعضها (2) .
المذهب الثاني : أنَّه لا يعمّ .
وهو اختيار الغزالي ، وعليه أبو إسحاق الاسفراييني والقاضي أبو بكر .
(1) سبق تخريجه .
(2) يُراجَع : المحصول 1/395 ومختصر المنتهى مع بيان المختصَر 2/194 ، 195 والإحكام لِلآمدي 2/237 وشرْح الكوكب المنير 3/211
(3) أبو إسحاق الاسفراييني : هو ركْن الدين إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الاسفراييني ، الفقيه الشافعي ، وُلِد باسفرايين .
مِن مصنَّفاته : الجامع في أصول الدين والرد على المُلحِدين .
تُوُفِّي بنيسابور سَنَة 418 هـ .
طبقات الفقهاء الشافعية 1/312 - 314 والفتح المبين 1/240 ، 241
واحتَجّ الغزالي : بأنّ العموم مِن صفات الألفاظ ، والمفهوم ليس لفظاً ، ولِذا فلا عموم له (1) .(1/93)
مناقَشة حُجّة الغزالي :
وقد نوقش الغزالي : بأنّك إنْ كنتَ تمنع عموم المفهوم أيْ لا تسمّيه لأنّه ليس لفظاً ، وعليه يَكون النزاع لفظيّا .
وإنْ كنتَ تقصد بنفي العموم عنه أنَّه لا يُعرَف منه انتفاء الحُكْم عن جميع ما عَداه : فباطل ؛ لأنّ البحث عن عموم المفهوم مُفَرَّع على أنَّه حُجّة ، ومتى ثبت أنَّه حُجّة لزم القَطْع بانتفاء الحُكْم عمّا عَداه ؛ لأنّه لو ثبت الحُكْم في غيْر المذكور لم يكن لِتخصيصه بالذكْر فائدة ، فدَلّ ذلك على عموم المفهوم ، وهو المُدَّعَى .
والراجح عندي : أنّ الخلاف بيْن الغزالي والكثرة لفظيّ ؛ لأنّ الغزالي مِن القائلين بحُجِّيَّة المفهوم ، ولا يستقيم قوله بها إلا بتأويل نفْيه لِعمومه ..
ولِذا قال ابن الحاجب :" أراد أنّ العموم لم يثبت بالمنطوق به كما ذكَر الفخر الرازي والآمدي وابن السبكي وغيْرهم أنّ الخلاف لفظيّ " (2) .
(1) يُراجَع : المستصفى 2/70 والبحر المحيط 3/163
(2) يُراجَع : المحصول 1/395 والكاشف 4/379 ومختصر المنتهى مع بيان المختصر 2/194 ، 195 وجَمْع الجوامع مع تشنيف المسامع 1/340 والمختصر /113
المطلب الرابع
عموم المشترك
المشترك هو : اللفظ الموضوع لِكُلّ واحد مِن معنييْن فأَكثَر (1) ..
نحْو : العين ؛ فإنَّها تُطلَق على الجارية والباصرة ، والقرء : على الطهر والحيض .
ونظراً لِتعدُّد معاني هذا اللفظ بالاشتراك فإنّ الأصوليّين اختلَفوا في عمومه على مذاهب ، أَشهرُها مذهبان :
المذهب الأول : أنّ المشترك يعمّ .
وهو قول الإماميْن مالك والشافعي رضي الله عنهما ، والقاضييْن أبي بكر وعبد الجبار المعتزلي (2) (3) ، واختاره الشيرازي (4) وابن برهان (5) (6)
(1) شرْح تنقيح الفصول /29
(2) القاضي عبد الجبار : هو أبو الحَسَن عبد الجبار بن أحمد الهمداني ، فقيه أصوليّ مُتَكَلِّم معتزليّ ، وُلِد سَنَة 359 هـ ..
مِن تصانيفه : تفسير القرآن ، طبقات المعتزلة .(1/94)
تُوُفِّي بالرّيّ سَنَة 415 هـ .
سِيَر أعلام النبلاء 11/54 ومعجم المؤلِّفين 5/78
(3) يُراجَع : فواتح الرحموت شرْح مُسَلَّم الثبوت 1/201 والإحكام لِلآمدي 1/222
(4) التبصرة /184
(5) ابن برهان : هو أبو الفتح أحمد بن عَلِيّ بن محمد الوكيل ، الفقيه الشّافعيّ الأصوليّ المُحَدِّث ، وُلِد ببغداد سَنَة 444 هـ ..
مِن مؤلَّفاته : البسيط في أصول الفقه ، الوجيز في أصول الفقه .
تُوُفِّي سَنَة 520 هـ .
الفتح المبين 2/16
(6) الوصول إلى الأصول 1/283
وابن الحاجب (1) والبيضاوي (2) .
وشرْط حَمْل المشترك على العموم : أنْ يَكون مِن متكلِّم واحد في وقْت واحد إذا كانت اللفظة الواحدة مشتركاً بيْن معنييْن ، وبشرط إمكان الجَمْع بيْنهما ، فإن امتنَع لأمْر خارج ـ كما في الضِّدَّيْن والنقيضيْن ـ فلا .
واختلَف أصحاب هذا المذهب في هذا العموم : هل هو حقيقة أم مَجاز ؟
فذهب الإمامان مالك والشافعي ـ رضي الله عنهما ـ والقاضيان أبو بكر وعبد الجبار وأبو علِيّ الجبائي إلى أنَّه يعمّ بطريق الحقيقة (3) .
واختار ابن الحاجب أنَّه يعمّ بطريق المَجاز (4) ، وكذا القرافي (5) .
واحتَجّوا بأدلة ، منها :
الدليل الأول : قول الحقّ تَبارَك وتعالى { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَئكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ } (6) ..
وجْه الدلالة : أنّ الصلاة لفْظ مشترك : فهي مِن الله تعالى المغفرة ، ومِن الملائكة الاستغفار ، وهُمَا مفهومان متغايران ، وقد أُطْلِق عليهما دفعةً واحدةً ..
وإذا كان كذلك .. فإنّ المشترك يعمّ أفراده ؛ وإلا لَمَا حُمِلَت الصلاة على المغفرة والاستغفار (7) .
(1) مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/111
(2) منهاج الوصول مع الإبهاج 1/258
(3) الإبهاج 1/255
(4) مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/111
(5) شرْح تنقيح الفصول /29
(6) سورة الأحزاب مِن الآية 56
(7) الإبهاج 1/258 وحقائق الأصول 2/553
مناقَشة هذا الدليل :(1/95)
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ قوله تعالى { يُصَلُّون } فيه ضمير عائد إلى الله تعالى وضمير يَعُود إلى الملائكة ، وتَعَدُّد الضمائر بمثابة تَعَدُّد الأفعال ، فكأنّه قال : إنّ الله يصلِّي ، والملائكة يصلّون ..
فلا يَكون حينئذٍ استعمال اللفظ الواحد في معنيَيْه ، وإنَّما استعمَل لفظيْن في معنييْن ، وهو خارج محلّ نزاعنا (1) .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقد رُدّ هذا الاعتراض : بأنّ الفعل لم يَتعدد في اللفظ قَطْعاً ، وإنّما تَعَدَّد في المعنى ، فاللفظ واحد ، والمعنى متعدِّد .
الوجه الثاني : أنَّه يجوز أنْ تَكون الصلاة قد استُعمِلَت في معنى مشترك بيْن المغفرة والاستغفار ، وهو الاعتناء بإظهار الشرف .
الجواب عن هذا الوجه :
وقد رُدّ هذا الوجه : بأنّ إطلاقها على الاعتناء مَجاز ؛ لِعدم التبادر ، وقد ثبت أنَّها مشتركة بيْن المغفرة والاستغفار ، فالحَمْل عليها أَوْلى ؛ مراعاةً لِلمعنى الحقيقيّ (2) .
الدليل الثاني : أنّ اللفظ المشترك صالِح لِلجميع مِن حيث كان موضوعاً لِكُلّ نوْع مِن الأنواع على جهة الحقيقة ، فكان عند الإطلاق منصرفاً إلى الجميع (3) .
المذهب الثاني : أنّ المشترك لا يعمّ .
وهو قول الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - والفخر الرازي والكرخي والغزالي
(1) نهاية السول 1/317 والإبهاج 1/259
(2) نهاية السول 1/317
(3) الوصول إلى الأصول 1/384 بتصرف ويُراجَع شرْح العضد 2/112
وأبي عبد الله البصري (1) ، ونقله القرافي عن الإمام مالك - رضي الله عنه - .
وشرط أبو عبد الله البصري في المنع شروطاً أربعةً : اتحاد المتكلم ، والعبارة والوقت ، وأنْ يَكون المعنيان مختلفيْن لا ينتظمهما فائدة واحدة ، فمتى انخرَم شرْط جاز أنْ يراد (2) .
واستدَلّوا بأدلة ، منها :
الدليل الأول : أنّه لو صحّ إطلاق اللفظ المشترك على معنييْه لَكان ذلك إمّا لأنّه موضوع لِمجموع المعنييْن معاً ، أو لا ..(1/96)
فإنْ كان لِكوْنه حقيقةً لِلمجموع ؛ لأنّه وُضِع لِكُلّ واحد مِن معنييْه ، واستعمال اللفظ فيما وُضِع له حقيقة .
ولو كان اللفظ المشترك حقيقةً في المجموع لَكان المستعمِل اللفظ المشترك مريداً لِنفْي أحد معنييْه خاصّةً لاستعماله في الآخَر ، وهو مُحال .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم لكم أنَّ صحة إطلاق المشترك على معنييْه تَجعله حقيقةً في المجموع ؛ لأنّ المراد مِن استعمال اللفظ المدلولان معاً بطريق المَجاز ، لا أنّ المراد منه بقاؤه لِكُلّ فرْد مِن معنييْه حتى يَكون حقيقةً في المجموع ويلزم أنْ يَكون أحدهما خاصّةً مراداً غيْر مراد (3) .
(1) أبو عبد الله البصري : هو أبو عبد الله الحسين بن عَلِيّ البصري الحنفي، فقيه متكلِّم ..
مِن مصنَّفاته : الإيمان ، الإقرار ، نقْض كلام ابن الراوندي .
تُوُفِّي سَنَة 369 هـ .
شذرات الذهب 3/68
(2) بيان المختصر 2/164 ، 165 بتصرف ويُراجَع : البحر المحيط 2/130 والمنخول /147 والمستصفى 1/355 والمعتمد 1/300
(3) يُراجَع : الإبهاج 1/262 ونهاية السول 1/321 ، 322 وشرْح العضد 2/113 وبيان =
الدليل الثاني : أنَّه لو صحّ إطلاق اللفظ المشترك على معنييْه لَجاز أنْ يراد باللفظ الواحد تعظيم الرجل والاستخفاف به ، ولَمّا لم يجز ذلك لم يجز إطلاق المشترك على معنييْن .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم لكم الأصل المقيس عليه ؛ لأنّ التعظيم والاستخفاف معنيان متضادّان ، ولا تصحّ إرادتهما باللفظ الواحد ، وليس كذلك في المشترك ؛ فإنّهما لا يتضادّان في الإرادة .
الدليل الثالث : أنّ أهْل اللغة لم نرهم استعمَلوا اللفظ الواحد في معنييْن مختلِفيْن : في أحدهما حقيقةً ، وفي الآخَر مَجازاً ، وفي أحدهما صريحاً ، وفي الآخَر كنايةً ..
فدلّ ذلك على أنَّه لا يصحّ إطلاق اللفظ المشترك على معنييْن .
مناقَشة هذا الدليل :(1/97)
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ الظاهر لغةً خلاف ما ادّعيتموه ؛ ألاَ ترون أنَّه يصحّ أنْ يقول :" مَن لم يلمس امرأته فلا طُهْر عليه " ويريد به نَفْي جنس اللمس في الجِمَاع وما دونه ، وإذا صحّ ذلك في النفي صحّ ـ أيضاً ـ في الإثبات ؛ إذ لا فارِق بيْنهما (1) .
والمذهب الراجح عندي هو : أنّ المشترك إذا تَجَرَّد عن القرينة حُمِل على جميع معانيه احتياطاً ؛ لأنّه متى حُمِل على جميع معانيه حصَل مراد المتكلم قَطْعاً ، وهو ما عليه المذهب الأول (2) (3) .
= المختصر 2/164 ، 165 والمنخول /147 ، 148 والمستصفى 1/355 ، 356
(1) التبصرة /185 ، 186 بتصرف .
(2) يُراجَع معراج المنهاج 1/214
(3) تراجَع هذه المسألة في : التبصرة /184 - 186 والوصول إلى الأصول 1/283 - 285 =
.........................................................................
= والمعتمد 1/18 ، 19 والمنخول لِلغزالي /147 ، 148 والمستصفى لِلغزالي 2/355 ، 356 والمحصول 1/108 - 110 وأصول الجصاص 1/46 ، 47 والإحكام لِلآمدي 2/322 - 327 وأصول السرخسي 1/125 ومختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/111 - 114 وبيان المختصر 2/161 - 169 والبحر المحيط 2/128 - 136 والإبهاج 1/254 - 265 ونهاية السول 1/309 - 324 ومناهج الفصول 1/309 - 323 وفواتح الرحموت 1/201 - 203 وجَمْع الجوامع مع شرْح المحلّي مع البناني 1/294 - 297 وكشْف الأسرار لِلبخاري 1/103 - 116 ومعراج المنهاج 1/208 - 214 وشرْح طلعة الشمس 1/134 - 140
المطلب الخامس
الجَمْع المضاف إلى جَمْع
اختلَف الأصوليّون في الجَمْع المضاف إلى جَمْع ـ نحْو : قوله تعالى { خُذْ مِنْ أَمْوَلِهِمْ صَدَقَة } (1) ؛ فالأموال في قوله { مِنْ أَمْوَلِهِم } جَمْع مضاف إلى ضمير الغائب لِلجَمْع ـ هل يقتضي العموم أم لا ؟
بمعنى : هل يقتضي أخْذ الصدقة مِن كُلّ نوْع مِن أنواع مال كُلّ مالك ؟ أو أخْذ صدقة واحدة مِن نوْع (2) ؟(1/98)
لهم في ذلك مذهبان :
المذهب الأول : أنَّه يقتضي العموم .
وهو ما عليه الجمهور وأَكثَر العلماء مِن أصحاب الأئمة الأربعة وغيْرهم ، وعليه نصّ الإمام الشافعي - رضي الله عنه - في " الرسالة " (3) ، واختاره ابن السبكي (4) .
واحتَجّوا : بأنّ الله تعالى أضاف الصدقة إلى جميع الأموال بقوله تعالى { مِنْ أَمْوَلِهِم } ، والجَمْع المضاف مِن ألفاظ العموم ، فكأنّه نزل منزلة قوله تعالى { خُذْ مِنْ أَمْوَلِهِمْ صَدَقَة } ، ولِذا كانت الصدقة متعددةً بتعدد أنواع الأموال .
(1) سورة التوبة مِن الآية 103
(2) يُراجَع الإحكام لِلآمدي 2/256
(3) تُراجَع الرسالة /187 - 196
(4) يُراجَع : شرْح الكوكب المنير 3/256 ونهاية السول 2/103 وتشنيف المسامع 1/357 وجَمْع الجوامع مع البناني 1/429 والبحر المحيط 3/173
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ { مِن } في الآية لِلتبعيض ولو كانت الآية عامّة ، والتبعيض يصدق ببعض المجموع ولو مِن نوْع واحد ، ولِذا فيكفي صدقة واحدة مِن نوْع واحد ..
وهذه المناقَشة تُعَدّ احتجاجاً لِلكرخي .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقد رُدّت هذه المناقَشة : بأنّا لا نُسَلِّم لكم أنّ التبعيض في العامّ يصدق ببعض المجموع ولو مِن نوْع واحد ، وإنَّما يَكون باعتبار تبعيض كُلّ جزء جزء منه ، ولِذا فلا بُدّ وأنْ يَكون مأخوذاً مِن كُلّ نِصَاب ..
وأمارة ذلك : أنَّه لو سقطَت { مِن } لَكان المال يؤخَذ كلّه صدقة (1) .
المذهب الثاني : أنَّه لا يقتضي العموم ..
وهو ما عليه الكرخي (2) والآمدي (3) وابن الحاجب (4) .
واحتَجّوا بأدلة ، منها :
الدليل الأول : أنّ مقتضى الآية وجوب أخْذ صدقة مِن أموالهم ؛ لأنّ { صَدَقَة } نكرة في سياق الإثبات ، فيقتضي الوحدة ، ولِذا كان أخْذ صدقة واحدة مِن أموالهم امتثالاً ..
وإذا كان كذلك فإنّ الجَمْع المضاف إلى جَمْع لا يقتضي العموم .
مناقَشة هذا الدليل :(1/99)
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا نمنع صدْق { خُذْ مِنْ أَمْوَلِهِمْ صَدَقَة }
(1) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 2/256 ، 257 وشرْح الكوكب المنير 3/257 ، 258
(2) تيسير التحرير 1/257
(3) الإحكام لِلآمدي 2/257
(4) مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/128
على ظاهِره ؛ لأنّ { أَمْوَلِهِم } جَمْع مضاف ، فكان عامّاً في كُلّ نوْع نوْع وفرْد فرْد ، إلا ما خرج بالسُّنَّة في قوله - صلى الله عليه وسلم - { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ ، وَلاَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَة } (1) .
الدليل الثاني : أنَّه لو اقتضت الآية أخْذ صدقة مِن كُلّ نوْع مِن أموالهم لَوجَب أخْذ صدقة مِن كُلّ دينار وكُلّ درهم مِن أموالهم ؛ لأنّه يصدق على كُلّ دينار وكُلّ درهم أنَّه مال ، ولا يجب أخْذ الصدقة مِن كُلّ دينار وكُلّ درهم إجماعاً ، وإذا لم يجب لم يجب في كُلّ نوْع ؛ إذ لا مقتضى له إلا فهْم العموم مِن الخطاب .
مناقَشة هذا الدليل :
وأرى : أنّ هذا الدليل مردود بالنِّصَاب الذي حدَّدَته السُّنَّة المطهّرة ، ومنه الحديث المتقدم { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ ، وَلاَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَة } ، ولِذا كان عموم الآية مخصّصاً بالسُّنَّة التي حَدَّدَت نِصَاب المال المزَكَّى (2) .
والأَوْلى عندي بالقبول : ما عليه الجمهور مِن أنّ الجَمْع المضاف إلى جَمْع يقتضي العموم ، ومنه قوله تعالى { خُذْ مِنْ أَمْوَلِهِمْ صَدَقَة } ؛ فإنَّه يَستلزم أخْذ الصدقة مِن كُلّ نوْع مِن أنواع المال ، إلا أنّ السُّنَّة خصَّصَت
(1) أَخرَجه البخاري في كتاب الزكاة : باب ما أُدِّي زكاته فليس بكنز برقم ( 1317 ) ومسلِم في كتاب الزكاة برقم ( 1625 ) والترمذي في كتاب الزكاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : باب ما جاء في صدقة الزرع والتمر والحبوب برقم ( 568 ) ، كُلّهم عن أبي سعيد الخدريّ - رضي الله عنه - .(1/100)
(2) يُراجَع : مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/128 وبيان المختصر 2/230 - 233 وشرْح الكوكب المنير 3/257 وتيسير التحرير 1/257 - 259 وفواتح الرحموت 1/282 وأصول السرخسي 1/276 والإحكام لِلآمدي 2/256 ، 257 وتشنيف المسامع 1/357 ، 358 وجَمْع الجوامع مع البناني 1/429 والبحر المحيط 3/173 ، 174
هذا العموم .
وأَعجَبني في ذلك قول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - :" ولولا دلالة السُّنَّة كان ظاهِر القرآن أنّ الأموال كلّها سواء ، وأنّ الزكاة في جميعها لا في بعضها دون بعض " (1) .
(1) الرسالة /196
المبحث الثاني
الفعل المُتَعَدِّي والمثبت والحُكْم
المُعَلَّق على علة والعطف على العامّ
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : الفعل المُتَعَدِّي في سياق النفي أو الشرط .
المطلب الثاني : الفعل المثبت .
المطلب الثالث : قول الصحابيّ :" نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كذا " .
المطلب الرابع : الحُكْم المُعَلَّق على علة .
المطلب الخامس : العطف على العامّ .
المطلب الأول
الفعل المتعدِّي في سياق النفي أو الشرط
اختلَف الأصوليّون في الفعل المُتَعَدِّي في سياق النفي ـ نحْو :" لا أكلْت " ـ أو الشرط ـ نحْو :" إنْ أكلْت " ـ هل هو عامّ في مفعولاته فيَقبَل التخصيص أم لا ؟
على مذهبيْن :
المذهب الأول : أنَّه يعمّ .
وهو ما عليه جمهور المالكية والشافعية والحنابلة ، واختاره أبو يوسف (1) مِن الحنفية (2) والغزالي (3) والآمدي (4) وابن الحاجب (5) .
واحتَجّوا بأدلة ، منها : أنّ قولنا :" لا آكل " يدلّ على نَفْي حقيقة الأكل الذي تَضَمَّنه الفعل ، فيَكون نَفْي الأكل متحقِّقاً بالنسبة إلى كُلّ مأكول لأنّه لو لم ينتفِ بالنسبة إلى بعض المأكول لم تكن حقيقةً منتفيةً ، وإذا كان نَفْي الأكل متحقِّقاً بالنسبة إلى كُلّ مأكول كان عامّاً ؛ إذ لا معنى لِلعموم إلا
(1) يُراجَع شرْح الكوكب المنير 3/203(1/101)
(2) أبو يوسف : هو القاضي يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي الحنفي ، تلميذ الإمام أبي حنيفة ، وُلِد بالكوفة سَنَة 113 هـ ، أوَّل مَن سُمِّي بـ" قاضي القضاة " ..
مِن تصانيفه : الخراج ، أدب القاضي ، الجوامع .
تُوُفِّي سَنَة 181 هـ .
البداية والنهاية 10/180 والفتح المبين 4/13 ، 14 والأعلام 3/116
(3) يُراجَع المستصفى 2/62
(4) يُراجَع الإحكام لِلآمدي 2/231
(5) يُراجَع مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/216
ذلك ، وإذا كان عامّاً فإنَّه يَقبَل التخصيص (1) .
المذهب الثاني : أنَّه لا يعمّ .
وهو ما عليه الحنفية والقرطبي ، واختاره الرازي (2) .
واحتَجّوا بأدلة ، منها : أنَّه لو قَبِل التخصيص باعتبار المفعول به لَقَبِل التخصيص باعتبار المفعول فيه ( الزمان والمكان ) ، واللازم باطل اتفاقاً فبطل ما أدّى إليه ، وهو عموم الفعل المُتَعَدِّي في سياق النفي أو الشرط .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجهيْن :
الوجه الأول : أنّا نلتزم كوْن الفعل عامّاً بالنسبة إلى الزمان والمكان ، وقبوله لِلتخصيص لأنّ نَفْي حقيقة الأكل تَكون بنفيه في كُلّ زمان ومكان .
الوجه الثاني : أنّا نمنع الملازَمة ؛ لأنّ " أكلْت " لا يُعقَل معناه إلا متعلِّقاً بمأكول ، وظرْف الزمان والمكان ليس كذلك ، مع الجواز أنْ لا يخطر بالبال أصلاً وإنْ كان لا ينفكّ عنهما في الواقع ..
وعلى ذلك كان المفعول به كالمذكور ، وهو كقولك :" لا أكلْت شيئاً " ولا نزاع في أنَّه لو ذكر لَكان عامّاً ، فيَقبَل التخصيص (3) .
وقد أشار الزركشي إلى أنّ بعض ... الحنفية جعلوا مسألة عموم المقتضى مِن فروع هذه ، أعني " لا آكل " أو " إنْ أكلْت " (4) ..
فالحنفية ـ كما قال الغزالي ـ يرون أنّ هذا الفعل مِن قَبِيل المقتضى ،
(1) بيان المختصر 2/179 ، 180 بتصرف .
(2) يُراجَع : فواتح الرحموت 1/286 وشرْح الكوكب المنير 3/203 والمحصول 1/391(1/102)
(3) يُراجَع : فواتح الرحموت بشرح مُسَلَّم الثبوت 1/286 ، 287 وشرْح العضد 2/117 والإحكام لِلآمدي 2/232 وبيان المختصر 2/181 ، 182 والمستصفى 2/62
(4) يُراجَع تشنيف المسامع 1/348
فلا عموم له .
والراجح عندي : أنّ الفعل المُتَعَدِّي في سياق النفي أو الشرط ـ نحْو : " لا آكل " أو :" إنْ أكلْت فعبدي حُرّ " ـ يعمّ مفعولاته ، فيَقبَل التخصيص حتى وإنْ وقَع في يمين ، نحْو :" واللهِ لا آكُل أو لا أضرب أو لا أقوم " أو " ما أكلْت أو ما قعدْت " ..
وهو ما عليه الجمهور أصحاب المذهب الأول .
المطلب الثاني
الفعل المثبت
تمهيد :
المراد بالفعل المثبت عند الجمهور : فِعْل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - المقابِل لِقوله .
وفسَّروا المثبت بالواقع ، ولم يجعلوه مقابل المنفيّ (1) .
ولا شكّ أنّ هذا الفعل الذي فَعَله النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وبنى عليه حُكْماً لا يَصِل إلينا إلا بطريق الرواية أو الحكاية عن الصحابة - رضي الله عنهم - ..
ولِذا .. فإنّا بَعْد بحْث هذه المسألة اتَّضَح لنا أنّ الأصوليّين لهم في بحْثها ثلاثة مسالك :
المَسْلَك الأول : توزيع الحديث فيه إلى ثلاث مسائل .
وهو مَسْلَك الغزالي ، حينما جعَل مسألةً في فِعْل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، وأخرى في قول الصّحابيّ :" نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَن كذا " : كبيْع الغرر ، وثالثةً في قول الصّحابيّ :" قَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين " (2) .
وتَبِعه في ذلك الفخر الرازي (3) والإسنوي (4) .
المَسْلَك الثاني : توزيع الحديث فيه إلى مسألتيْن .
وهو مَسْلَك الآمدي ، حينما جعَل مسألةً في الفعل ، وأخرى في قول الصّحابيّ :" نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ ، وَقَضَى بِالشُّفْعَةِ
(1) يُراجَع حاشية السعد على شرْح العضد 2/118(1/103)
(2) يُراجَع المستصفى 1/64 - 68
(3) يُراجَع المحصول 1/394 ، 395
(4) يُراجَع زوائد الأصول /254 - 258
لِلْجَار " (1) .
وتَبِعه في ذلك ابن الحاجب (2) وآل تيمية (3) (4) والفتوحي (5) .
المَسْلَك الثالث : حصْر الحديث في الفعل المثبت في مسألة واحدة .
وهو ما عليه السراج الأرموي (6) وصدْر الشريعة (7) وابن السبكي (8) والزركشي (9) والشوكاني (10) .
(1) يُراجَع الإحكام لِلآمدي 2/233 - 235
(2) يُراجَع مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/118 ، 119
(3) آل تيمية : همْ مَجْد الدين ، وابنه شهاب الدين ، وابن ابنه تقيّ الدين ..
أمّا مَجْد الدين فهو : أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحرّاني الحنبلي ، فقيه أصوليّ ، وُلِد سَنَة 590 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الأحكام الكبرى ، منتهى الغاية شرْح الهداية ، أرجوزة في عِلْم القراءات ، المسوَّدة وقد زاد فيها ولده عبد الحليم ، وحفيده أحمد .
تُوُفِّي بحران سَنَة 652 هـ .
وأمّا شهاب الدين فهو : أبو المَحاسن عبد الحليم بن عبد السلام ، وُلِد سَنَة 627 هـ ..
له تعاليق في الأصول ضمَّت فوائد جليلة ، ومصنَّفات في غيْر ذلك مِن العلوم .
تُوُفِّي بدمشق سَنَة 672 هـ .
وأمّا تقيّ الدين فهو : أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ، وُلِد سَنَة 661 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الصارم المسلول على شاتم الرسول ، فصْل المقال فيما بيْن الحكمة والشريعة مِن الاتصال ، الجواب الصحيح لِمَن بَدَّل دين المسيح .
تُوُفِّي بدمشق سَنَة 728 هـ .
شذرات الذهب 2/257 والفتح المبين 2/70 ، 71 ، 86 ، 134
(4) يُراجَع المسوّدة /102 - 105
(5) يُراجَع شرْح الكوكب المنير 3/213 - 230
(6) التحصيل 1/364 ، 365
(7) التوضيح مع التنقيح 2/111 ، 112
(8) جَمْع الجوامع مع تشنيف المسامع 1/349
(9) البحر المحيط 4/166
(10) إرشاد الفحول /216(1/104)
والغاية في المسالك الثلاثة واحدة ، وهو فِعْل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - الوارد إلينا بصيغة الرواية أو الحكاية عن الصحابة - رضي الله عنهم - .
والأَوْلى عندي : توزيع الحديث في هذا المطلب إلى مسألتيْن ، وهو ما عليه المسلك الثاني ؛ فهو منهج وسط بيْن الأول والثالث ..
ولِذا .. فقدْ رأيتُ تقسيم الحديث في هذا المقام إلى قِسميْن :
القِسْم الأول : عموم الفعل المثبت ..
ومحلّه هذا المطلب .
والقِسْم الثاني : قول الصحّابيّ :" نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَن كذا وَقَضَى بكذا " أو :" حَكَمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين " .
ومحلّه المطلب التالي .
تحرير محلّ النزاع في عموم الفعل المثبت :
الفعل المثبت إمّا أنْ يَكون له جهة واحدة أو جهات متعدِّدة ..
فإنْ كان له جهة واحدة ـ نحْو : قولهم :" ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْن " (1) ـ كان هذا الفعل لا عموم فيه ؛ لأنّه يقع على صفة واحدة .
وإنْ كان الفعل المثبت له جهات متعدِّدة : فإمّا أنْ تتعدد بحسب الأقسام وإمّا أنْ تتعدد بحسب الأوقات ..
فإنْ تعددَت أقسام الفعل المثبت ، نحْو : قول الراوي :" صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - دَاخِلَ الْكَعْبَة " (2) ؛ فالصلاة تَنقسم إلى فرْض ونفْل ، ولِذا اتَّفَقوا على
(1) أَخرَجه البخاري في كتاب الأضاحي : باب مَن ذبَح الأضاحي بيده برقم ( 5132 ) ومسلِم في كتاب الأضاحي : باب استحباب الضحية وذبْحها مباشَرةً بِلا توكيل والتسمية برقم ( 3635 ) والترمذي في كتاب الأضاحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : باب ما جاء في الأضحية بكبشيْن برقم ( 1414 ) كُلّهم عن أنس - رضي الله عنه - .
(2) أَخرَجه مسلِم في كتاب الحجّ : باب استحباب دخول الكعبة لِلحاجّ وغيْره والصلاة فيها برقم =(1/105)
أنّ الفعل في هذه الحالة ليس بعامّ أيضاً ؛ لأنّه يقع على صفة واحدة ، فإنْ عُرف تَعَيَّن ، وإلا كان مجملاً حتى يَرِد دليل .
لكنِّي لا أُسَلِّم لهم هذا الاتفاق ؛ لأنّ صلاة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - داخِل الكعبة لم تكنْ إلا نافلة ..
وفي ذلك يقول النووي :" ودليل الجمهور : حديث بلال أنَّه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى داخِل الكعبة ، وإذا صحّت النافلة صحّت الفريضة " (1) .
ويقول ابن حَجَر في " الفتح " :" فيه استحباب الصلاة في الكعبة ، وهو ظاهِر في النفل ، ويلحق به الفرض ؛ إذ لا فَرْق بيْنهما في مسألة الاستقبال لِلمقيم ، وهو قول الجمهور " (2) .
والجمهور قد أجاز الصلاتيْن فيها ، لكنّ محلّ نزاعنا هو فِعْل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - .
وإنْ تعدَّدَت أوقات الفعل ، نحْو : قول الراوي أنَّه - صلى الله عليه وسلم - " صَلَّى بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَق " (3) ؛ فالشفق يُطْلَق على الشفق الأحمر والأبيض بالاشتراك اللفظيّ ، فصَلاته - صلى الله عليه وسلم - يُحتمَل أنَّها وقَعَت بَعْد الحمرة ، ويُحتمَل أنَّها وقَعَت بَعْد البياض ، ولا يمكن حَمْل ذلك على وقوع فِعْل الصلاة بَعْدهما إلا على رأْي مَن يَحمِل المشترك على جميع مَحامِله .
ومثاله أيضاً : قول الراوي :" إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ
= ( 2363 ) والترمذي في كتاب الحجّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : باب ما جاء في الصلاة في الكعبة برقم ( 800 ) ، كلاهما عن عبد الله بن عُمَر عن بلال - رضي الله عنهم - .
(1) شرْح النووي على صحيح مسلِم 9/83
(2) فتْح الباري 3/466
(3) أَخرَجه النسائي في كتاب المواقيت : باب أول وقْت العصر برقم ( 500 ) وأحمد في باقي مسنَد المكثِرين برقم ( 14263 ) ، كلاهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما .(1/106)
الصَّلاَتَيْنِ فِي السَّفَر " (1) ؛ فإنَّه يحتمل أنَّه جَمَعَهما في وقْت الصلاة الأولى ويحتمل أنَّه جَمَعَهما في وقْت الصلاة الثانية ، فلا يعمّ وقتيْهما على معنى أنَّه - صلى الله عليه وسلم - جمَعهما في الوقتيْن (2) .
وهذا القِسْم ـ وهو الفعل المثبت باعتبار تَعدُّد أوقاته ـ هو محلّ النزاع ..
ولِذا اختلَف فيه الأصوليّون على مذهبيْن :
المذهب الأول : أنَّه لا يقتضي العموم .
وهو ما عليه الجمهور ، واختاره الشيرازي (3) والغزالي (4) والآمدي (5) وابن الحاجب (6) وصدْر الشريعة (7) ، وأحد قولَي الإمام الشافعي - رضي الله عنه - (8) .
واحتَجّوا : بأنّ الفعل لا يقع إلا على وجْه معيَّن ، فلا يجوز حَمْله على كُلّ وجْه يمكِن وقوعه عليه ؛ لِتَساوي سائر الوجوه بالنسبة إلى محتملاته ، والعموم ما يتساوى بالنسبة إلى دلالة اللفظ عليه ، بل الفعل كاللفظ المُجمَل المتردِّد بيْن معانٍ متساوية في صلاح اللفظ (9) .
المذهب الثاني : أنَّه يقتضي العموم .
وهو أحد قولَي الشافعي - رضي الله عنه - .
(1) أَخرَجه أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما في مسنَد بني هاشم برقم ( 1778 ) .
(2) يُراجَع : المحصول 1/395 والإحكام لِلآمدي 2/233 وبيان المختصر 2/184 ، 185
(3) اللمع /16
(4) المستصفى 2/66
(5) الإحكام لِلآمدي 2/233
(6) مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/118
(7) التوضيح مع التنقيح 1/111
(8) البحر المحيط 3/168
(9) المستصفى 1/63 ، 64 بتصرف .
واحتَجّ : بحديث ضرْب العَقْل (1) على العاقِلَة في ثلاث سنين (2) ..
وجْه الدلالة : أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - جعَل الدية مؤجَّلةً على العاقلة في ثلاث سنين ، وهي عامة في الذكَر والأنثى ، فيضرب العقل على المرأة في ثلاث سنين ، وتلك أمارة العموم (3) .
والراجح عندي : ما عليه الجمهور ، وهو : أنّ الفعل المثبت لا يقتضي العموم ؛ لِقوّة حُجّتهم ..(1/107)
أمّا المذهب الثاني : فإنّ دليله يشير إلى أنَّه خارِج محلّ نزاعنا ، وهو الفعل المثبت .
أمّا إنْ كان بلفْظ :" قَضَى " فسيأتي الحديث عنه بإذن الله تعالى ، ولفْظ " ضَرَب " في هذا الدليل مِن هذا القبيل .
(1) أي الدِّية .. المصباح المنير 2/422
(2) أَخرَجه الشافعي في المختصَر ..
يُراجَع : تلخيص الحبير 4/32 وخلاصة البدر المنير 2/279 ونَيْل الأوطار 7/86
(3) يُراجَع البحر المحيط 3/168
المطلب الثالث
قول الصّحابيّ :" نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَن كذا "
و:" قَضَى - صلى الله عليه وسلم - بكذا " أو :" حَكَم بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين "
تحرير محلّ النزاع :
قول الراوي :" قَضَى بِالشُّفْعَة " له معنيان :
أحدهما : قضى بمعنى : نفذ الحُكْم بيْن الخصوم كما يفعله القضاة ..
فهذا يستحيل فيه العموم في الشفعة ؛ فإنّ جميع الشفعات إلى يوْم القيامة يستحيل الحُكْم فيها بيْن خصومها مِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وثانيهما : حَكَم بمعنى : أَلزَم ، مِن باب الفتيا وتقرير قواعد الشريعة ..
كقوله تعالى { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَلِدَيْنِ إِحْسَنا } (1) أيْ : أمَركم بهذا وقدَّره ..
فهذا يُتصوَّر فيه العموم (2) .
والقضاء في حقّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - يَنقسم إلى قول وفِعْل ، فتارةً يُسمَّى أمْره لأحد الخصميْن أو نهْيه " قضاءً " ، وتارةً يُسمَّى الفعل البادر منه " قضاءً " وإذا كان القضاء فعلاً فلا عموم فيه ، وإنْ كان قولاً ففيه خلاف (3) .
إذا تَقرَّر ذلك .. فإنّ الأصوليّين اختلَفوا في قول الصّحابيّ - رضي الله عنه - :" نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الْغَرَر " أو :" قَضَى بِالشُّفْعَة " أو :" حَكَمَ بِالشَّاهِدِ
(1) سورة الإسراء مِن الآية 23
(2) شرْح تنقيح الفصول /189
(3) يُراجَع : التلخيص 2/50 والوصول إلى الأصول 1/327(1/108)
وَالْيَمِين " : هل يقتضي العموم أيْ أنَّه يعمّ الغَرَر والجار مُطْلَقاً أم لا ؟
لهم في ذلك مذاهب :
المذهب الأول : أنَّه لا عموم فيه .
وهو ما عليه الجمهور ، واختاره الشيرازي (1) وإمام الحرميْن (2) والغزالي (3) وابن برهان (4) .
واحتَجّوا : بأنّ الصّحابيّ يحتمل أنْ يَكون قد سَمِعه مِن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - نهياً عن غرر خاصّ وقضاء بشفعة خاصّة ، فظنّ عمومها باجتهاده ، وحينئذٍ لا يَكون حُجّةً في العموم ؛ لأنّ الحُجّة بالمحكيّ لا بالحكاية ، والحكاية لا يُحتَجّ بها إلا إذا طابقَت المحكيّ .
كما يحتمل دخول اللام في " الغرر والجار " لِلاستغراق ، ويحتمل أنْ تَكون لِلعهد ، وإذا تعارضَت الاحتمالات لم يثبت العموم .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد ردّ الخصم هذا الدليل : بأنّ هذه الاحتمالات خلاف الظاهر ؛ لأنّ اللام لِلاستغراق غالباً ، كما أنّ الظاهر والأصل هو عدالة الصّحابيّ وأنَّه عالِم بأحكام اللغة ، فلا يُترَك الأصل أو الظاهر لِلاحتمال (5) .
المذهب الثاني : أنَّه لِلعموم .
وهو اختيار الفخر الرازي (6) وابن الحاجب (7) وابن قدامة وأَكثَر
(1) اللمع /29
(2) التلخيص 2/51 ، 52
(3) المستصفى 2/66 ، 67
(4) الوصول إلى الأصول 1/327
(5) يُراجَع : المستصفى 2/66 ، 67 والإحكام لِلآمدي 2/235 وشرْح العضد 2/119
(6) المحصول 1/394
(7) مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/119
الحنابلة (1) .
واحتَجّوا : بأنّ الصّحابيّ عادِل عارف باللغة وصِيَغ العموم ومواقع اللفظ ، والظاهر يقتضي صدْقه فيما أَخبَر به ، وقد أَخبَر بصيغة العموم ، وهي المعرَّف بـ" ال " في " الغرر والجار " ، فوجب قبوله ، ولا يتأتَّى إلا بحَمْله على العموم (2) .
المذهب الثالث : أنّ الفعل إن اتصَل به " الباء " فلا عموم فيه ، وإنْ اقترَن بـ" أنْ " كان لِلعموم .(1/109)
وهو محكيّ في " التقريب والإرشاد " و" شرْح اللمع " عن القفّال (3) وأصحابنا (4) ، وذَكَر الزركشي أنّ في نسبة ذلك لِلقفّال نظر (5) .
ومثاله : " قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَار " (6) ؛ فلا يدلّ على ثبوتها لِكُلّ جار ، بل يدلّ على أنّ الحُكْم في القضية دون القول .
ومثاله أيضا : " قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَان " (7) ؛ فيدلّ على العموم ؛
(1) روضة الناظر 1/206
(2) يُراجَع : المراجع السابقة والبحر المحيط 3/167 وشرْح الكوكب المنير 3/231 وتيسير التحرير 1/249 والمسوَّدة /102
(3) القفّال : هو أبو بكر محمد بن علِيّ بن إسماعيل القفّال الكبير الشّاشي الشافعي ، وُلِد بشاش سَنَة 291 هـ ، كان يَمِيل إلى الاعتزال في أوَّل حياته العلمية ..
مِن مصنَّفاته : كتاب في الأصول ، شرْح الرسالة .
تُوُفِّي بشاش سَنَة 335 هـ .
شذرات الذهب 3/51 والفتح المبين 1/212 ، 213
(4) البحر المحيط 3/167 وشرْح اللمع 1/356 ، 357
(5) يُراجَع البحر المحيط 3/169 ، 170
(6) أَخرَجه الترمذي في كتاب الأحكام عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : باب ما جاء إذا حدّت الحدود ووقعَت السهام فلا شفعة برقم ( 1291 ) .
(7) أَخرَجه الترمذي في كتاب البيوع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : باب ما جاء فيمَن يشتري العبدَ ويَستغِلّه =
لأنّ الظاهر مِن ذلك حكاية لفْظه - صلى الله عليه وسلم - (1) .
والأَوْلى بالقبول في هذه المسألة هو : القول بأنَّها لِلعموم ، وهو ما عليه أصحاب المذهب الثاني ؛ لِقوّة حُجّتهم التي دُعِّمَت بعدالة الصّحابيّ التي تقتضي صِدْقه فيما يخبِر به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..
أمّا المذهب الأول : فإنّ دليله يَجرح هذه العدالة ، ولِذا لم يكنْ أهلاً لِلاختيار .
وكذلك المذهب الثالث الذي لم نرَ له حُجّةً أو دليلاً يُفَرِّق لنا به بيْن القِسميْن المذكوريْن .(1/110)
وأَعجَبني في هذا المقام ما أَورَده الزركشي بقوله :" وجعَل بعض المتأخِّرين النزاع لفظيّاً ؛ مِن جهة أنّ المانع لِلعموم ينفي عموم الصيغ المذكورة ، نحْو :" أَمَر وَقَضَى " ، والمثبِت لِلعموم يثْبِته فيها مِن دليل خارِج وهو : إجماع السلف على التمسك بها بقوله { حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَة } (2) ، والأقرب أنّ التعميم فيها حاصِل بطريق القياس الشّرعيّ كما قاله أبو زيْد الدبوسيّ (3) ، فإذا رأيْنا النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - حَكَم بقضاء في
= ثُمّ يَجِد به عيباً برقم ( 1206 ) والنسائي في كتاب البيوع : باب الخراج بالضمان برقم ( 4414 ) كلاهما عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
(1) يُراجَع البحر المحيط 3/169 ، 170
(2) قال ابن كثير :" لم أَرَ بهذا قَطّ سنداً ، وسألتُ عنه شيخنا الحافظ جمال الدين أبا الحَجّاج وشيخَنا الحافظ أبا عبد الله الذهبي فلم يَعرفاه " .. تحفة الطالب 1/286
قال الشوكاني :" وهو وإنْ لم يكنْ حديثاً معتبَراً عند أئمة الحديث فقدْ شَهِد لِمعناه حديث { إِنَّمَا قَوْلِي لامْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَة } " .. نَيْل الأوطار 1/30
قُلْتُ : وحديث { قَوْلِي لامْرَأَة ... } أَخرَجه جَمْع مِن أئمّة الحديث : كمالك والنسائي والترمذي وابن حبّان والحاكم والطبري وغيرهم .
(3) أبو زيْد الدّبوسي : هو عبد الله بن عُمَر بن عيسى القاضي ، كان مِن أكابر علماء الحنفية =
واقعة معيَّنة ثُمّ حدَثَت لنا أخرى مِثْلها وجب إلحاقها بها ؛ لأنّ حُكْم المِثْليْن واحد " (1) .
= وهو أول مَن وضَع عِلْم الخلاف وأَبرَزه إلى الوجود ..
مِن مؤلَّفاته : تقويم الأدلة ، الأسرار في الأصول والفروع ، الأمد الأقصى ، تأسيس النظر فيما اختلَف فيه أبو حنيفة وصاحِباه ومالك والشافعي .
تُوُفِّي ببخارى سَنَة 430 هـ .
الفتح المبِين 1/248
(1) البحر المحيط 3/170
المطلب الرابع(1/111)
الحُكْم المُعَلَّق على علَّة
إذا علَّق الشارع حُكْماً على علَّة ، كما لو قال :" حرّمت الخمر لأنّه مُسْكِر " ..
ومنه : قوله - صلى الله عليه وسلم - في حقّ المُحْرِم الذي وقَعَت به ناقته { لاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلاَ تُقْرِبُوهُ طِيباً ؛ فَإِنَّهُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِيّا } (1) .
وكقوله - صلى الله عليه وسلم - في قَتْلَى أُحُد { زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ ؛ فَإِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَما } (2) (3) .
اختلَف الأصوليّون في هذا الحُكْم المُعَلَّق على علة : هل يعمّ أم لا ؟
على مذاهب :
المذهب الأول : أنَّه يعمّ بالشرع قياساً لا لفظا .
وهو مذهب الشافعي - رضي الله عنه - ، واختاره ابن الحاجب (4) والآمدي (5) وابن السبكي (6) وبعض الحنفية (7) .
(1) أَخرَجه البخاري في كتاب الحجّ : باب المُحْرِم يموت بعرفة برقم ( 1718 ) ومسلِم في كتاب الحجّ : باب ما يُفعَل بالمُحْرِم إذا مات برقم ( 2092 ) والنسائي في كتاب مناسك الحجّ : باب تخمير المُحْرِم وجْهه ورأْسه برقم ( 2665 ) ، كُلّهم عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(2) أَخرَجه أحمد عن عبد الله بن ثعلبة بن أبي صُعَيْر - رضي الله عنه - في باقي مسنَد الأنصار برقم ( 22549 ) .
(3) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 2/231 وشرْح العضد 2/119 وتشنيف المسامع 1/350
(4) مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/119
(5) الإحكام لِلآمدي 2/236
(6) جَمْع الجوامع مع البناني 1/425
(7) يُراجَع : تيسير التحرير 1/259 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/285
واحتَجّوا : بالعموم قياساً بأنّ تعليق الحُكْم على العلة ظاهِر في استقلال العلة في اقتضاء الحُكْم ، فكلّما وُجِدَت العلة وُجِد الحُكْم ، فوجب اتّباعها وإثبات الحُكْم حيث تثبت .(1/112)
وأمّا عدم عمومه لفظاً ( صيغةً ) : فلأنّ العموم لو كان بالصيغة لَكان قول القائل :" أعتقتُ غانماً لِسواده " يقتضي عتْق كُلّ عبْد أسْوَد مِن عبيده واللازم باطل ؛ إذ لا قائل به (1) .
المذهب الثاني : أنَّه يعمّ لفظاً لا قياسا .
ونَسَبَه الزركشي إلى بعض الحنابلة ، منهم : أبو يعلى (2) ، وابن عقيل (3) ، وأبو الخطّاب (4) .
واحتَجّوا : بأنَّه لا فَرْق بيْن قولنا :" حرّمت الخمر لإسكاره " وقولنا : " حرّمت المُسْكِر لإسكاره " عرفاً ، والمفهوم منهما واحد ، والثاني يعمّ كُلّ مُسْكِر ، فيجب أنْ يعمّ الأول أيضا .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد رُدّ هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم لكم عدم الفَرْق بيْن القوليْن ؛ لأنّ
(1) شرْح العضد 2/119 بتصرف ، ويُراجَع : بيان المختصر 2/192 ، 193 والإحكام لِلآمدي 2/236 وتيسير التحرير 1/259 وفواتح الرحموت 1/285
(2) القاضي أبو يعلى : هو محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء الحنبلي ..
مِن مصنَّفاته : أحكام القرآن ، إيضاح البيان ، المعتمد ، مسائل الإيمان .
تُوُفِّي سَنَة 458 هـ .
طبقات الحنابلة /377 - 388 والنجوم الزاهرة 5/78
(3) ابن عقيل : هو أبو الوفا علِيّ بن عقيل بن محمد بن عقيل بن أحمد البغدادي الظفري الحنبلي ..
مِن مصنَّفاته : الفنون ، كفاية المفتي ، الواضح في أصول الفقه ، عمدة الأدلة .
تُوُفِّي ببغداد سَنَة 513 هـ .
الفتح المبين 2/12 والبداية والنهاية 12/184
(4) يُراجَع التمهيد 2/175 ، 176
الأول خاصّ بالخمر صيغةً ، والثاني عامّ لِكُلّ مُسْكِر .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقد رُدّت هذه المناقَشة : بأنّا وإنْ سلَّمْنا بوجود الفَرْق بيْن القوليْن إلا أنَّه لا فَرْق بيْن القوليْن في الحُكْم .
مناقَشة هذا الجواب :
وقد رُدّ هذا الجواب : بأنّ عدم الفَرْق بيْن القوليْن في الحُكْم إنَّما هو ثابت شرعاً وليس صيغةً ( أو لفظاً ) كما ادَّعيتم (1) .(1/113)
المذهب الثالث : أنَّه لا يعمّ لا قياساً ولا لفظا .
وهو قول الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - (2) ، واختاره الغزالي ، وحكاه عن القاضي أبي بكر (3) .
واحتَجّوا : بحديث المُحْرِم الذي وقَعَت به ناقته ، فقال - صلى الله عليه وسلم - { لاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلاَ تُقْرِبُوهُ طِيباً ؛ فَإِنَّهُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيا } (4) ..
وجْه الدلالة : أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّل الحُكْم هنا في حقّ الأعرابيّ المُحْرِم : إمّا لاحتمال أنَّه وقَعَت به ناقته مُحْرِماً لا بمجرد إحرامه ، وإمّا لأنّه علِم مِن نيّتِه أنَّه كان مخلِصاً في عبادته ، وإمّا لأنّه مات مُسْلِماً ، وغيْره لا يعلم موْته على الإسلام فضلاً عن الإخلاص ، وذلك كُلّه غيْر معلوم في حقّ الغير ، ولِذا كان تَحقُّق العموم فيه غيْر مقبول (5) .
(1) يُراجَع : شرْح العضد 2/119 وبيان المختصر 2/193 ، 194 وفواتح الرحموت 1/285 وتيسير التحرير 1/259 ، 260
(2) البحر المحيط 3/146
(3) المستصفى 2/68
(4) سبق تخريجه .
(5) يُراجَع : المستصفى 2/68 ، 69 والإحكام لِلآمدي 2/236 ، 237
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ ما استندتم إليه إنَّما هو مجرَّد احتمالات ، ولا يُترَك الظاهر مِن أجْلها ، والتعليل ظاهر في الاستقلال كسائر العلل المنصوصة ، فدَلّ ذلك على أنّ الحُكْم المُعَلَّق بعلة يعمّ (1) .
والأَوْلى بالقبول في هذه المسألة : أنّ الحُكْم المُعَلَّق على علة يعمّ بالقياس شرعاً لا لفظاً ، وهو ما عليه أصحاب المذهب الأول ؛ لِقوّة حُجّتهم ، ولِعدم سلامة أدلة المذاهب الأخرى مِن المعارَضة والمناقشة (2) .
(1) يُراجَع : شرْح العضد 2/119 وبيان المختصر 2/193(1/114)
(2) تُراجَع هذه المسألة في : المستصفى لِلغزالي 2/68 ، 69 والوصول إلى الأصول 1/272 - 374 والإحكام لِلآمدي 2/236 ، 237 ومختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/119 وبيان المختصر 2/191 - 194 والبحر المحيط 3/146 ، 147 وجَمْع الجوامع مع البناني 1/425 ، 426 وتشنيف المسامع 1/350 وتيسير التحرير 1/259 وفواتح الرحموت بشرْح مُسَلَّم الثبوت 1/285
المطلب الخامس
العطف على العامّ
إذا عُطِف على العامّ : هل يقتضي ذلك عموم المعطوف ؟
وعبَّر البعض عن هذه المسألة بـ: هل يجب أنْ يُضمَر في المعطوف جميع ما يمكِن إضماره مِمَّا في المعطوف عليه ؟
فإذا وجب ذلك وكان المضمر في المعطوف مخصوصاً وجب أنْ يَكون المعطوف عليه مخصوصاً أم لا ؟
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ يُقْتَلْ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ ، وَلاَ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِه } (1) ؛ فقدْ نهَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عن قتْل المسلِم بالكافر ، وهو عامّ في الحربيّ والذِّمِّيّ ؛ لأنّه نكرة في سياق النفي وعطف عليه الذِّمِّيّ ..
فهلْ يُقتَل المسلِم بالذِّمِّيّ أم لا ؟
اختلَف الأصوليّون في العطف على العامّ على مذهبيْن :
المذهب الأول : أنَّه لا يقتضي العموم .
وهو ما عليه الشافعية (2) ، واختاره الغزالي (3) وابن برهان (4) والفخر الرازي (5) والآمدي (6) ، والكلوذاني مِن الحنابلة (7) .
(1) أَخرَجه أحمد عن ابن عمرو رضي الله عنهما في مسنَد المُكثِرين مِن الصحابة برقم ( 6403 ) .
(2) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 2/238 وبيان المختصَر 2/197
(3) المستصفى 2/70
(4) الوصول إلى الأصول 1/278
(5) المحصول 1/393
(6) الإحكام 2/238
(7) التمهيد 2/172
واحتَجّوا بأدلة ، منها :(1/115)
الدليل الأول : أنّ المعطوف لا يستقلّ بنَفْسه في إفادة حُكْمه ، واللفظ المعطوف على حُكْم المعطوف عليه لا دلالة له على حُكْم المعطوف بصريحه ، والإفادة تستلزم إضمار حُكْم المعطوف عليه في المعطوف ، والإضمار خلاف الأصل ، فيجب الاقتصار فيه على ما تندفع به الضرورة وهو التشريك في أصْل الحُكْم دون تفصيله مِن صفة العموم وغيْره ؛ تقليلاً لِمخالَفة الدليل ..
كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ يُقْتَلْ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ ، وَلاَ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِه } ؛ فإنّا نقدِّر في المعطوف { وَلاَ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِه } بـ" حربيّ " ؛ لأنّنا لو لم نقدِّره لامتنَع قتْله مُطْلَقاً ، وهو باطل ، وهو خاصّ ، ولا يضرّ تَخالُفه مع المعطوف عليه في ذلك ؛ إذ لا يُشترَط إلا اشتراكهما في نَفْس الحُكْم (1) .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ قوله - صلى الله عليه وسلم - { فِي عَهْدِه } بمنزلة التأكيد لِقوله - صلى الله عليه وسلم - { ذُو عَهْد } ، وليس بزيادة حُكْم ؛ لأنّه لو لم يَقُل { فِي عَهْدِه } لأفاد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - { ذُو عَهْد } ؛ لأنّه إذا انقضى عهْده فليس بذي عهْد ، ولِذا يُقتَل المسلِم بالذِّمِّيّ .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقد رُدّت هذه المناقَشة : بأنّ النهي عن قتْل الذِّمِّيّ إنَّما بسبب عهْده ، كما أنَّه إذا اقتضَى العطف أنْ يَكون معناه " ولا ذو عهْد بكافر " ودلّ الدليل على أنَّه أراد الحربيّ لم يجب أنْ يخصّ اللفظ الأول العامّ ؛ لأنّ
(1) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 2/238 وبيان المختصر 2/196 ، 197 والفوائد السنية 2/483
الاشتراك قد حصّل في لفْظ " الكافر " ، والعطف يجوز مع الاشتراك في اللفظ وإن اختلفَت الصفة ..(1/116)
نحْو : قوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَئكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ } (1) { هُوَ الَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وَمَلَئكَتُه } (2) ؛ فالصلاة مِن الله تعالى رحمة ، ومِن الملائكة دعاء (3) .
الدليل الثاني : أنَّه لو كان العطف على العامّ يقتضي العموم لَمَا ورَد خلافه لكنْ قد ثبت عطْف الخاصّ على العامّ ، وإذا كان كذلك كان العطف على العامّ لا يقتضي العموم ..
أمّا دليل عطْف الخاصّ على العامّ : فمنه : قوله تعالى { وَالْمُطَلَّقَتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَثَةَ قُرُوء } (4) ؛ فإنَّه عامّ في الرجعية والبائن ، مع قوله تعالى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنّ } (5) ، وهو خاصّ (6) .
المذهب الثاني : أنَّه يقتضي العموم .
وهو ما عليه الحنفية (7) ، واختاره ابن الحاجب (8) .
واحتَجّوا بأدلة ، منها :
الدليل الأول : أنّ المعطوف إذا لم يكن مستقِلاًّ في نَفْسه فلا بدّ مِن إضمار حُكْم المعطوف عليه فيه ؛ حتى تتحقق الإفادة ..
(1) سورة الأحزاب مِن الآية 56
(2) سورة الأحزاب مِن الآية 43
(3) التمهيد لِلكلوذاني 2/173 ، 174 بتصرف .
(4) سورة البقرة مِن الآية 228
(5) سورة البقرة مِن الآية 228
(6) يُراجَع الإحكام لِلآمدي 2/238
(7) يُراجَع التقرير والتحبير 2/333 ، 334
(8) يُراجَع مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/120
وعند ذلك لا يَخْلُو إمّا أنْ يقال بإضمار كُلّ ما ثبت لِلمعطوف عليه لِلمعطوف أو بعضه ..
ولا جائز أنْ يَكون الإضمار بالبعض ؛ لأنّه إمّا أنْ يَكون مُعَيَّناً أو غيْر مُعَيَّن ..
والأول باطل ؛ لِعدم تَعيُّنه في الكلام .
والثاني كذلك ؛ لأنّه يؤدي إلى الإبهام والإجمال ، وهو خلاف الأصل .
فلم يبقَ إلا إضمار الكُلّ ، وهو المُدَّعَى .
مناقَشة هذا الدليل :(1/117)
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم بطلان إضمار البعض المعيَّن لِعدم تَعيُّنه ؛ لأنّ الاشتراك في أصْل الحُكْم المذكور دون صفتِه ـ وهو مدلول اللفظ ـ مِن غيْر إبهام ولا إجمال ، وهذا هو مقتضى العطف (1) .
الدليل الثاني : أنّ العطف يفيد اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحُكْم ؛ فالحُكْم على أحدهما يَكون حُكْماً على الآخَر ..
ولِذا لو جعَلْنَا { الْكَافِر } في قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ يُقْتَلْ مُسْلِمٌ بِكَافِر } عامّاً وهو معطوف عليه ثُمّ جعلْناه في المعطوف وهو { وَلاَ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِه } خاصّاً بالحربيّ لم يكن العطف مفيداً لِلاشتراك فيما قصَده المتكلِّم ؛ لأنّه قصَد بأول الكلام العموم وبآخِره الخصوص .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجوه :
الوجه الأول : أنّ العطف لا يقتضي الاشتراك بيْن المتعاطفين مِن كُلّ
(1) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 2/239 والتقرير والتحبير 2/333 ، 334 والوصول 1/279 ، 280 وبيان المختصر 2/196 ومختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/120 ، 121
وجْه .
الوجه الثاني : أنّ الاشتراك في الحُكْم حاصِل في اسم " الكافر " ، وأمّا صفته فلا يَلزم الاشتراك فيها ؛ ألاَ ترى أنَّه لو قال :" ضربتُ زيداً وعمْراً " وقام الدليل على أنَّه ضرَب زيداً على صفة العمْد بالسيف لم يجب أنْ يجعل ضرْب عمرو بتلك الصفة لأجْل العطف مِن غيْر دليل .
الوجه الثالث : أنّ حَمْل الكافر المذكور على الحربيّ لا يَحسُن ؛ لأنّ إهدار دمه معلوم مِن الدين بالضرورة ، فلا يَتوهّم أحد قتْل مسلِم به (1) .
والراجح عندي : ما عليه أصحاب المذهب الأول مِن أنّ العطف على العامّ لا يقتضي العموم ؛ لِقوّة حُجّتهم وسلامتها مِن المعارَضة ..(1/118)
ولِذا .. فأنا مع الشافعية في عدم قتْل المسلِم بالذِّمِّيّ ؛ لأنّ قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ يُقْتَلْ مُسْلِمٌ بِكَافِر } عامّ بالنسبة لِكُلّ كافر ، فيَشمل الحربيّ والذِّمِّيّ .
والحنفية قالوا : المراد بالكافر : الحربيّ ، فهو خاصّ ..
ودليل ذلك : عطْف الخاصّ عليه ، وهو : قوله - صلى الله عليه وسلم - { وَلاَ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِه } ، فيَكون التقدير : ولا ذو عهْد في عهْده بكافر (2) (3) .
(1) يُراجَع : التمهيد لِلكلوذاني 2/174 ، 175 والإحكام لِلآمدي 2/239 والمعتمد 1/287 وإرشاد الفحول /239 ، 240
(2) يُراجَع إرشاد الفحول /239
(3) تُراجَع هذه المسألة في : المعتمد 1/285 - 288 والوصول إلى الأصول 1/277 - 280 وقواطع الأدلة 1/205 والمستصفى 2/70 ، 71 والتمهيد لِلكلوذاني 2/172 - 175 ومختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/120 ، 121 وبيان المختصر /195 - 200 والإحكام لِلآمدي 2/238 239 والمحصول 1/393 والتحصيل 1/362 والفوائد السنية 2/482 والكاشف 4/372 ، 373 وتشنيف المسامع 1/348 ، 349 والبحر المحيط 3/225 - 231 وتيسير التحرير 1/261 - 263 والتقرير والتحبير 2/232 - 234 وفواتح الرحموت 1/298 - 300 وشرْح تنقيح الفصول /191 وإرشاد الفحول /238 - 240
المبحث الثالث
تَرْك الاستفصال ، ونَفْي المساواة
وسَوْق العامّ لِغرض آخَر
وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : تَرْك الاستفصال في حكاية الحال .
المطلب الثاني : نَفْي المساواة بيْن الشيئيْن .
المطلب الثالث : سَوْق العامّ لِغرض آخَر كالمدح والذّمّ .
المطلب الأول
تَرْك الاستفصال في
حكاية الحال مع قيام الاحتمال
هذا العنوان منقول عن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ، ونَصّه :" تَرْك الاستفصال في وقائع الأحوال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال " (1) .(1/119)
ومعنى هذه القاعدة : أنّ الراوي لَمّا ترَك التفصيل ولم يقيِّد الجواب ببعض الأحوال مع احتمال كوْنه مقيّداً به وحكى الواقعة مِن غيْر تفصيل علِم أنَّه فَهِم العموم مِن الشارع ؛ وإلا لَكان يجب تفصيله عليه (2) .
تحرير محلّ النزاع :
قصَر القرافي النزاع على حكاية الحال أو واقعة العين إذا تَطَرَّق إليها الاحتمال سقَط بها الاستدلال في حالة الاحتمال المُساوِي أو المتقارِب ، أمّا الاحتمال المرجوح فلا يمكِن أنْ يَكون مسقِطاً لِلاستدلال .
وقسّم الاحتمال المُساوِي إلى قِسميْن :
القِسْم الأول : وهو الاحتمال في دليل الحُكْم .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - في المُحْرِم { لاَ تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ ؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيا } (3) ؛ فهذا حُكْم في رجل بعيْنه ، يحتمل أنْ يَكون ذلك خاصّاً به ،
(1) يُراجَع : قواطع الأدلة 1/225 ونهاية السول 2/102 والبحر المحيط 3/148
(2) تيسير التحرير 1/264
(3) سبق تخريجه .
فلا يمسّ غيْره الطِّيب ، ويحتمل أنْ يَكون عامّاً في المُحْرِمين كما قال الإمام الشافعي - رضي الله عنه - .
القِسْم الثاني : وهو الاحتمال في محلّ الحُكْم .
مثاله : ما رُوِي أنّ غيلان بن سلمة الثقفيّ - رضي الله عنه - أَسلَم وتحْته عَشْر نسوة فقال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - { أَمْسِكْ أَرْبَعاً ، وَفَارِقْ سَائِرَهُنّ } (1) ، ولم يسأله عن كيفية العقد عليهنّ : هلْ عَقَد عليهنّ على الترتيب أو عقَد عليهنّ دفعةً واحدة ؟
فهلْ ينزل ذلك منزلة العموم أم لا (2) ؟
مذاهب الأصوليّين :
اختلَف الأصوليّون في تَرْك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال : هل ينزل منزلة العموم ؟
على مذاهب :
المذهب الأول : أنَّه مُنزل منزلة العموم .(1/120)
وهو ما نصّ عليه الشافعي - رضي الله عنه - ، وهو ظاهِر كلام الإمام أحمد - رضي الله عنه - ، واختاره ابن السمعاني وابن السبكي (3) وإمام الحرميْن ؛ إلا أنَّه قيَّده بما إذا لم يعلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - تفاصيل الواقعة ، أمّا إذا علِم فلا يعمّ (4) ، وتَبِعه الغزالي في " المنخول " (5) والفخر الرازي في " المحصول " (6) .
(1) سبق تخريجه .
(2) يُراجَع : شرْح تنقيح الفصول /186 ، 187 وقواطع الأدلة 1/225 ، 226 ونهاية السول 2/102 وتشنيف المسامع 1/351 والبحر المحيط 3/148
(3) يُراجَع : قواطع الأدلة 1/225 وجَمْع الجوامع مع تشنيف المسامع 1/350 ، 351 والمسوّدة /108 وشرْح الكوكب المنير 3/171
(4) البرهان 1/346 ، 347
(5) المنخول /150
(6) المحصول 1/393
واحتَجّوا : بقوله - صلى الله عليه وسلم - لِغيلان بن سلمة الثقفي - رضي الله عنه - وقد أَسلَم على عَشْر نسوة { أَمْسِكْ أَرْبَعاً ، وَفَارِقْ سَائِرَهُنّ } ..
وجْه الدلالة : أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَستفصِل منه : هلْ تَزَوَّجَهنّ معاً أو مرَتَّباً ، فلولا أنّ الحُكْم يعمّ الحاليْن لَمَا أَطلَق - صلى الله عليه وسلم - الكلام ؛ لامتناع الإطلاق في موضع التفصيل المحتاج إليه ..
فدَلّ ذلك على أنّ تَرْك الاستفصال ينزل منزلة العموم ، وهو المُدَّعَى (1) .
المذهب الثاني : أنَّه لا ينزل منزلة العموم ، بل يَكون الكلام مجملا .
وهو رواية عن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ، ولِذا فله قولان في هذه المسألة .
وسندُهم في ذلك : ما رُوِي عن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - : حكاية الحال إذا تَطَرَّق إليها الاحتمال كساها ثوْب الإجمال وسقَط بها الاستدلال .
وقد يظنّ البعض أنّ القوليْن متعارضان في محلّ واحد ، وهو ما لا يليق بمقام الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ..(1/121)
وفي ذلك يقول القرافي :" فذَكَرْتُ هذا ( التناقض ) لِبعض العلماء الأعيان فقال : يُحمَل ذلك على أنَّه قولان له اختَلَفَا كما يَختلف قول العلماء في المسائل بالنفي والإثبات ..
والذي يَظهَر لي : أنّ ذلك ليس باختلاف " ..
ثُمَّ جَمَع بيْنهما بطريقيْن :
الأول : أنّ المراد بالاحتمال في القاعدةِ الاحتمالُ المُساوِي أو المتقارِب ، أمّا المرجوح فلا يسقط به الاستدلال ولا عِبْرة به .
الثاني : أنّ الاحتمال تارةً يَكون في دليل الحُكْم وتارةً في محلّ الحُكْم ..
(1) يُراجَع : المحلّي مع البناني 1/426 والبرهان 1/347 وقواطع الأدلة 1/226
فإنْ كان في دليل الحُكْم : حصَل الإجمال وسَقَط به الاستدلال ، كما في حديث المُحْرِم { لاَ تُمِسُّوهُ طِيبا } (1) .
وإنْ كان في محلّ الحُكْم والدليل لا إجمال فيه : فلا يسقط به الاستدلال كما في قصة غيلان - رضي الله عنه - (2) .
وعقَّب الزركشي : بأنّ هذا الجَمْع الذي ذهب إليه القرافي يخالِف طريقة الشافعي - رضي الله عنه - ؛ فإنَّه يقول بالعموم في مِثْل هذه الحالة بالقياس كما سبق ، وليس في هذيْن الطريقيْن ما يبيّن به الفَرْق بيْن المقاميْن ؛ لأنّ غالِب وقائع الأعيانِ الشَّكُّ واقِعٌ فيها في محلّ الحُكْم .
والصواب في الجَمْع بيْنهما : ما ذَكَره الأصفهاني في " شرْح المحصول " والشيخ تقيّ الدين في " شرْح الإلمام " وغيْرهما : أنّ القاعدة الأولى في تَرْك استفصال الشارعِ الاستدلالُ فيها بقول الشارع وعمومه في الخطاب الوارد على السؤال عن الواقعة المختلفة الأحوال ، والعبارة الثانية في الفعل المحتمَل وقوعه على وجوه مختلفة (3) .(1/122)
وأَعجَبَني في هذا المقام نصّ الأصفهاني ـ الذي أَتَّفِق معه في إزالة هذا اللبس والتناقض المنسوب إلى الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ـ في قوله :" فإنّا نَمنَع أوّلاً صِحَّة النقل عن الشافعي - رضي الله عنه - فيما ذكَرتم ، سَلَّمْنَا ذلك ، ولكنْ لا مناقَضة بيْن الكلاميْن ؛ لأنّ الأول هو تَرْك استفصال الشارع ، والثاني كوْن الواقعة في نَفْسها لم تُنقَل بتفصيل ، بل نقلاً محتملاً لِوجوه يَختلف الحُكْم باختلافها ، فلا استدلال بتلك الواقعة ، كما نُقِل أنَّه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في
(1) سبق تخريجه .
(2) يُراجَع شرْح تنقيح الفصول /186 ، 187
(3) البحر المحيط 3/153
الكعبة (1) أو فَعَل فعلاً ، فلا تَناقُض ، والله أَعلَم " (2) .
المذهب الثالث : أنَّه ليس مِن أقسام العموم ، وإنَّما يكفي الحُكْم فيه مِن حاله - عليه السلام - لا مِن دلالة الكلام .
وهو قول الكيا الهراسي (3) .
واعتبَر الزركشي اختيار إمام الحرميْن وابن القشيري مذهباً (4) ، والأَوْلى عنده أنَّه تقييد لِلمذهب الأول ..
والراجح عندي : أنّ تَرْك الاستفصال في وقائع الأحوال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال ، وهو ما عليه أصحاب المذهب الأول ؛ لِقوّة حُجّتهم ، ولأنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لِغيلان - رضي الله عنه - { أَمْسِكْ أَرْبَعا } فأَجْمَلَهُنّ ولم يخصِّص في الإمساك أوائل عن أواخر أو العكس ، وتلك أمَارة العموم (5) .
(1) سبق تخريجه .
(2) الكاشف عن المحصول 4/371 بتصرف .
(3) الكيا الهراسي : هو أبو الحَسَن عماد الدين علِيّ بن محمد بن علِيّ الطبري الشافعي ، فقيه أصوليّ مفسِّر مُحَدِّث ..
مِن مصنَّفاته : شفاء المسترشدين ، أحكام القرآن .
تُوُفِّي ببغداد سَنَة 504 هـ .
طبقات الشافعية /231 وشذرات الذهب 4/8(1/123)
(4) يُراجَع : البحر المحيط 3/149 والبرهان 1/345 والمستصفى 2/68 والمسوّدة /158 وفواتح الرحموت 1/289 وتيسير التحرير 1/264 والمنخول /150 ونهاية السول 2/102
(5) يُراجَع قواطع الأدلة 1/226
المطلب الثاني
نَفْي المساواة بيْن الشيئيْن
مثاله : قوله تعالى { لا يَسْتَوِى أَصْحَبُ النَّارِ وَأَصْحَبُ الْجَنَّة } (1) ؛ فنفْي الاستواء هل هو مِن كُلّ وجْه فيفيد العموم أم لا ؟
ومنشأ الخلاف في هذه المسألة : أنّ الاستواء في الإثبات هل هو مِن كُلّ وجْه في اللغة أو مدلوله لغةً الاستواء مِن وجْهٍ ما ؟
فإنْ قُلْنَا " مِن كُلّ وجْه " : فنفْيه مِن سلْب العموم ، فلا يَكون عامّاً .
وإنْ قُلْنَا " مِن بعض الوجوه " : فهو مِن عموم السلب (2) في الحُكْم (3) .
إذا تَقَرَّر ذلك .. فإنّ الأصوليّين اختلَفوا في عموم نَفْي المساواة بيْن الشيئيْن على مذهبيْن :
المذهب الأول : أنَّه يفيد العموم ، أيْ نَفْي الاستواء مِن كُلّ وجْه .
وهو ما عليه الشافعية والحنابلة ، واختاره الآمدي (4) وابن الحاجب (5) وابن السبكي (6) والفتوحي (7) .
واحتَجّوا : بأنّ حرْف النفي إذا دخَل على الفعل اقتضَى نفْي جنس
(1) سورة الحشر مِن الآية 20
(2) وسلْب العموم هو : نفْي الشيء عن جملة الأفراد ، لا عن كُلّ فرْد ..
وعموم السلب بالعكس .. الكُلِّيَّات /512
(3) يُراجَع : شرْح تنقيح الفصول /186 والإبهاج 2/116 وشرْح الكوكب المنير 3/208 ، 209
(4) الإحكام لِلآمدي 2/227
(5) مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/114
(6) جَمْع الجوامع مع تشنيف المسامع 1/345
(7) شرْح الكوكب المنير 3/208
المصدر الذي تَضَمَّنه الفعل ، فيَكون نفياً وارداً على نكرة ، والنكرة في سياق النفي لِلعموم ، فوجب التعميم هنا كغيْره مِن النكرات ، وليس هذا قياساً في اللغة ، وإنَّما استدلال فيها بالاستقراء (1) .
المذهب الثاني : أنَّه لا يفيد العموم .(1/124)
وهو ما عليه الحنفية والمعتزلة (2) ، واختاره الفخر الرازي (3) والبيضاوي (4) .
واحتَجّوا بأدلة ، منها :
الدليل الأول : أنّ المساواة مطلقاً أعَمّ مِن المساواة بوجْه خاصّ ، وهو المساواة مِن جميع الوجوه ؛ لأنّ المساواة كما تَكون مِن جميع الوجوه قد تَكون مِن بعضها ، والأعمّ لا يَستلزم الأخصّ ، وإذا كان كذلك فإنّ نَفْي الاستواء المُطْلَق لا يَستلزم نَفْي الاستواء مِن كُلّ وجْه .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ الأعمّ لا يدلّ على الأخصّ في جانب الإثبات ، أمّا في جانب النفي فيدلّ ؛ لأنّ نَفْي العامّ يدلّ على نَفْي الخاصّ ؛ لأنّه نفى الحقيقة ، ويلزم مِن انتفائها انتفاء كُلّ شيء ؛ لأنّه لو وُجِد لَوُجِدَت الماهية ..
ولِذا لو قال :" لم أرَ حيواناً " وقد رأَى إنساناً لَعُدّ كاذبا .
الدليل الثاني : أنَّه لو عمّ نَفْي المساواة لَمَا صدق ؛ لأنّ صدْقه حينئذٍ يَتوقف على نَفْي المساواة في جميع الوجوه ، ونفْيها مِن الجميع إنَّما يَتحقق
(1) يُراجَع : بيان المختصر 2/170 وشرْح العضد 2/114
(2) يُراجَع : تيسير التحرير 1/250 وفواتح الرحموت 1/286 والمعتمد 1/232 ، 233
(3) المحصول 1/388
(4) المنهاج مع الإبهاج 2/116 ، 117
إذا لم يكن بيْنها مساواة أصلاً ، وهو غيْر متصوَّر ؛ إذ ما مِن شيئيْن إلاّ ويَكون بيْنهما مساواة بوجهٍ ما ، وأقلّها المساواة بيْنهما في نَفْي ما سِواهما عنهما .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ المراد مِن نَفْي المساواة نَفْي مساواة يصحّ انتفاؤها ، لا المساواة مِن جميع الوجوه ، واللفظ وإنْ كان ظاهِرُه العموم لكنّه مخصّص بالعقل ..
نحْو : قوله تعالى { اللَّهُ خَلِقُ كُلّ شَىْء } (1) أيْ : خالِق كُلّ شيء يُخلَق .
الدليل الثالث : أنّ المساواة في جانب الإثبات لِلعموم : كقولنا :" زيْد وعمرو متساويان " ؛ فإنَّه يقتضي تَساويهما مِن جميع الوجوه ..(1/125)
أمّا في جانب النفي : فإنّ نَفْي المساواة بيْن الشيئيْن لا يعمّ ؛ لأنّ نَفْي الإيجاب الكُلِّيّ سلْب جزئيّ .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم أنّ المساواة في جانب الإثبات لِلعموم ، وإنَّما لِلخصوص ، وهو بعض المساواة ؛ وإلا لم يصدق إثبات مساواة لِشيئيْن إلا ويصدق بيْنهما نَفْي المساواة في شيء مِن الصفات ، وإذا كانت المساواة في جانب الإثبات لِلخصوص كانت في جانب النفي لِلعموم ؛ لأنّ نقيض الجزئيِّ الموجبِ السالبُ الكُلِّيّ (2) .
والراجح عندي : ما عليه أصحاب المذهب الأول القائلون بأنّ نَفْي
(1) سورة الزمر مِن الآية 62
(2) تُراجَع هذه الأدلة ومناقشتها في : الإحكام لِلآمدي 2/227 - 229 ومختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/114 ، 115 وبيان المختصر 2/171 - 173
المساواة بيْن الشّيئيْن لِلعموم ؛ لِعدم سلامة أدلة المذهب الثاني ، ولِسلامة أدلة المذهب الأول ..
ولِذا .. فإنّ المسلِم لا يُقتَل بالذِّمِّيّ بقوله تعالى { لا يَسْتَوِى أَصْحَبُ النَّارِ وَأَصْحَبُ الْجَنَّة } (1) ؛ لأنّ نَفْي الاستواء يقتضي نَفْي الاستواء مِن جميع الوجوه ، ولو قُتِل المسلِم بالكافر لاستويَا في شرعيّة القصاص ، أمّا في نَفْي العموم فإنَّه لا يمنع قصاص المؤمِن بالذِّمِّيّ (2) (3) .
(1) سورة الحشر مِن الآية 20
(2) يُراجَع تشنيف المسامع 1/325
(3) تُراجَع هذه المسألة في المراجع المتقدمة ، وفي : المعتمد 1/232 ، 233 والمحصول 1/388 والمسوّدة /107 والإبهاج 2/116 ، 117 ونهاية السول 2/99 ، 100 وشرْح الكوكب المنير 3/207 ، 208 وفواتح الرحموت 1/286 وتيسير التحرير 1/250
المطلب الثالث
سَوْق العامّ لِغرض آخَر كالمدح والذّمّ
هذا المطلب عَنْوَنَه الكثيرون بـ: إذا تَضَمَّن العامّ مدحاً أو ذمّا .(1/126)
والمدح والذّمّ هنا كما قال البناني (1) : إنَّما هو على وجْه التمثيل ، والمراد أنّ سَوْق العامّ لِغرض آخَر كالمدح أو الذّمّ هل ينصرف بذلك عن عمومه أم لا (2) ؟
مثاله : قوله تَبارَك وتعالى { إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيم } (3) ، وقوله تعالى { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيم } (4) ، وقوله تعالى { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَفِظُون } (5) (6) .
تحرير محلّ النزاع :
لا خلاف بيْن الأصوليّين أنّ العامّ الوارد على جهة المدح أو الذَّمّ إذا عارَضه عامّ آخَر لم يقصد به المدح أو الذَّمّ أنَّه يخصّه ويَقصره على
(1) البناني : هو أبو يزيد عبد الرحمن بن جاد الله البناني المالكي ، فقيه أصوليّ ..
مِن مصنَّفاته : حاشية على شرْح المحلّيّ على جَمْع الجوامع .
تُوُفِّي سَنَة 1198 هـ .
الفتح المبين 3/134
(2) حاشية البناني 1/422
(3) سورة الانفطار الآيتان 13 ، 14
(4) سورة التوبة مِن الآية 34
(5) سورة المؤمِنون الآية 5
(6) يُراجَع : البحر المحيط 3/195 وشرْح الكوكب المنير 3/254
المدح والذَّمّ ، ولا يُحمَل على عمومه ، بل يقضي بعموم ذلك الخطاب .
مثاله : قوله تعالى { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَتُكُمْ وَبَنَاتُكُم } (1) مع قوله تعالى { فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء } (2) ؛ فالآية الأولى قصد بها بيان الأعيان المحرّمات دون العَدَد ، والثانية قصد بها بيان العَدَد ، وظاهِرها يقتضي إباحة العَدَد المذكور ، سواء كان مِن الأعيان المحرّمات أو مِن غيْرهنّ ، إلا أنّا قضيْنا بتلك الآية التي قصد بها بيان الأعيان المحرّمات على الآية الأخرى التي قصد بها بيان العَدَد ، كذلك هذا مِثْله (3) .(1/127)
واختلَف الأصوليّون في الخطاب العامّ الوارد على جهة المدح أو الذَّمّ ولم يعارَض بخطاب عامّ لم يقصد به المدح أو الذَّمّ : هل يبقى العامّ على عمومه أم لا ؟
لهم في ذلك مذهبان :
المذهب الأول : بقاء العامّ على عمومه .
وهو ما عليه الجمهور ، واختاره الشيرازي (4) وأبو الحسين البصري (5) وابن السمعاني (6) والآمدي (7) وابن الحاجب (8) .
وذكَر الأنصاري (9) في " فواتح الرحموت " أنَّه قول الأكثر مِن الحنفية
(1) سورة النساء مِن الآية 23
(2) سورة النساء مِن الآية 3
(3) قواطع الأدلة 1/208 بتصرف .
(4) شرْح اللمع 1/319
(5) المعتمد 1/279
(6) قواطع الأدلة 1/208
(7) الإحكام لِلآمدي 2/257
(8) مختصر المنتهى مع شرْح المختصر 2/233
(9) بحْر العلوم الأنصاري : هو أبو العباس عبد العليّ محمد بن نظام الدين محمد اللكنوي الحنفي ، فقيه أصوليّ منطقيّ .. =
والمالكية والحنابلة (1) .
وكأنّه يَرى أنّ الشافعية خالَفوا الجمهور في ذلك ، والثابت عنهم أنّهم مع الجمهور ، وإنْ كان البعض منهم ـ كما ذكَر الشيرازي ـ تَوَقَّف ..
ويكفي دليلاً على ادّعائي : أنّ قول الشيخ أبي حامد الاسفراييني (2) : " إنّه المذهب " (3) ، كما أنَّه اختيار كوكبة مِن علماء الشافعية ، منهم : الشيرازي ، وابن السمعاني ، وابن السبكي ، والإسنوي (4) .
أدلة هذا المذهب :
استدَلّ أصحاب المذهب الأول القائلون ببقاء العامّ على عمومه إذا تَضَمَّن مدحاً أو ذمّاً بأدلة ، أذكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : ما رُوِي عن عثمان - رضي الله عنه - أنَّه قال في الأختيْن المملوكتيْن : " أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ ، وَحَرَّمَتْهُمَا آيَة " (5) ، وعنى بالتحليل قوله تعالى { إِلا عَلَى
= مِن مصنَّفاته : فواتح الرحموت شرْح مُسَلَّم الثبوت .
تُوُفِّي سَنَة 1180 هـ .
الفتح المبين 3/132
(1) فواتح الرحموت 2/283(1/128)
(2) أبو حامد الاسفراييني : هو أبو حامد أحمد بن محمد بن أحمد الاسفراييني ، وُلِد باسفرايين سَنَة 344 هـ ، فقيه شافعيّ أصوليّ ..
مِن مصنَّفاته : شرْح مختصر المزني ، وتعليقة في أصول الفقه .
تُوُفِّي ببغداد سَنَة 406 هـ .
سِيَر أعلام النبلاء 11/43 ، 44 والفتح المبين 1/236 ، 237
(3) يُراجَع تشنيف المسامع 1/344
(4) يُراجَع : شرْح اللمع 1/339 وقواطع الأدلة لابن السمعاني 1/208 وجَمْع الجوامع مع تشنيف المسامع 1/344 ونهاية السول 2/103
(5) أَخرَجه الإمام مالك في كتاب النكاح : باب ما جاء في كراهية إصابة الأختيْن بمِلْك اليمين برقم ( 988 ) .
أَزْوَجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُم } (1) ..
وجْه الدلالة : أنَّه حَمَل الآية على العموم مع أنّ القصد كان هو المدح لِمَن حَفِظ فرْجه عن الحرام ؛ لأنّ اللفظ إذا ورَد عامّاً فإنَّه يُحمَل على عمومه ، ولا يخصّ إلا بالمُعارِض أو المُنافِي أو المُماثِل ، فلا يخصّص به بل يبقى على عمومه ، وليس بيْن الخطاب العامّ وبيْن قصْد المدح أو الذَّمّ بذلك منافاة ، فبطل تخصيصه به ، ووجب حَمْل اللفظ على عمومه (2) .
الدليل الثاني : أنّ قصْد الذَّمّ أو المدح وإنْ كان مطلوباً لِلمتكلِّم فلا يمنع ذلك مِن قصْد العموم معه ؛ إذ لا منافاة بيْن الأمْريْن ، وقد أتى بالصيغة الدّالّة على العموم ، فكان الجَمْع بيْن المقصوديْن أَوْلى مِن العمل بأحدهما وتعطيل الآخَر (3) .
الدليل الثالث : أنَّه لو كان اقتران المدح والذَّمّ باللفظ يَمنع مِن التعلق بعمومه في الحُكْم لَوجب أنْ لا يجوز التعلق بالعمومات الواردة في إيجاب العقوبات في المعاصي ؛ لأنّ القصد بها الردع والزجر عن المعاصي : كآية الزنا والسرقة ، وفي ذلك إبطال الكثير مِن العمومات ، ولا يقول ذلك أحد (4) .
المذهب الثاني : عدم بقاء العامّ على عمومه .(1/129)
وهو ما عليه بعض الشافعية ، ونَسَبه ابن برهان والآمدي وابن الحاجب إلى الشافعي - رضي الله عنه - .
ولِذا منَع بعض الشافعية التمسك بوجوب زكاة الحُلِيّ بقوله تَبارَك
(1) سورة المؤمِنون مِن الآية 6
(2) قواطع الأدلة 1/209 ، 210 بتصرف .
(3) الإحكام لِلآمدي 2/257 بتصرف .
(4) شرْح اللمع 1/340 ويُراجَع الوصول إلى الأصول 1/308
وتعالى { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيم } (1) ؛ لأنّ العموم لم يقع مقصوداً في الكلام ، وإنَّما سيق لِقصْد الذَّمّ والمدح مبالَغةً في الحثّ على الفعل أو الزجر عنه ، فيَجوز أنْ لا يَتناول الحُكْم الحُلِيّ (2) .
واحتَجّوا لِهذا المذهب : بأنّ هذا العامّ سيق بقصْد المدح والذَّمّ ، وليس لِقصْد التعميم ؛ لأنّه إنَّما سيق لِقصْد المبالَغة في الحثّ إذا كان في مَعرِض المدح ، والمبالَغة في الزجر إذا كان في مَعرِض الذَّمّ ..
وإذا كان كذلك فلم يبقَ العامّ على عمومه (3) .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجهيْن :
الوجه الأول : أنّا لا نُسَلِّم أنّ هذا العامّ سيق بقصْد المدح والذَّمّ فيَكون إنشاءً لِذلك ، وإنَّما هو إخبار عن أمْر واقعيّ فيه مدْح ؛ ألاَ ترَى الإخبار بالحمد عيْن الحمد وكذا بالذَّمّ عيْن الذَّمّ ؟
وإنْ أريدَ أنَّه خبر سيق لِلمدح والذَّمّ بذكْر ما ليس بواقع فهو البطلان بعيْنه (4) .
الوجه الثاني : أنّا لا نُسَلِّم أنّ المقصود بالعامّ ذِكْر المدح والذَّمّ دون الحُكْم وإنَّما المقصود به بيان الحُكْم والمدح والذَّمّ جميعاً ؛ لِذِكْره الجميع ، والظاهر أنَّه قصد بيان الجميع ؛ لأنّ مقاصد المتكلِّم إنَّما تُعلَم بقوله ، وقوله
(1) سورة التوبة مِن الآية 34(1/130)
(2) يُراجَع : شرْح اللمع 1/340 والإحكام في أصول الأحكام لِلآمدي 2/257 ومختصر المنتهى مع بيان المختصر 2/234 والبحر المحيط 3/195 ومُسَلَّم الثبوت 2/283
(3) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 2/257 وشرْح اللمع 1/340 وبيان المختصر 2/234
(4) فواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/284 بتصرف .
قد يعمّ الأمْريْن ، ولِذا كان العامّ باقياً على عمومه (1) .
والراجح عندي : ما عليه أصحاب المذهب الأول ، وهو : أنّ العامّ إذا تَضَمَّن مدحاً أو ذمّاً بقى على عمومه ؛ لِقوّة حُجّتهم ، ولِعدم سلامة حُجّة المذهب الثاني مِن الرّدّ والمناقَشة (2) .
(1) يُراجَع شرْح اللمع 1/340 ، 341
(2) يُراجَع العامّ إذا تَضَمَّن مدحاً أو ذمّاً في : المعتمد 1/279 وشرْح اللمع 1/340 وبيان المختصر 2/233 والوصول إلى الأصول 1/308 ، 309 والإحكام لِلآمدي 2/257 ومختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/168 والمستصفى 2/157 والمسوّدة /109 وقواطع الأدلة 1/208 وشرْح تنقيح الفصول /221 ، 222 والإبهاج 2/147 ونهاية السول 2/103 وجَمْع الجوامع مع البناني 1/422 وتشنيف المسامع 1/344 ، 345 وتيسير التحرير 1/257 وفواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/283 ، 284 وشرْح الكوكب المنير 3/254 والبحر المحيط 3/195
الفصل الثالث
الخطاب العامّ وتَعارُض
العموميْن والعامّ بَعْد تخصيصه
وفيه ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : الخطاب العامّ المختلَف في عمومه .
وفيه تمهيد وتسعة مطالب :
المطلب الأول : خطاب الله تعالى نبيّه - صلى الله عليه وسلم - .
المطلب الثاني : خطاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لِواحد مِن أُمّته .
المطلب الثالث : خطاب الأُمَّة هل يدخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عمومه ؟
المطلب الرابع : المخاطِب هل يدخل في عموم خطابه ؟
المطلب الخامس : الخطاب العامّ هل يدخل فيه العَبِيد ؟
المطلب السادس : الخطاب العامّ لِجَمْع المذكَّر هل يعمّ الإناث ؟(1/131)
المطلب السابع : الخطاب الشّفاهيّ هل يعمّ الغائب والمعدوم ؟
المطلب الثامن : خطاب أهْل الكتاب هل يعمّ الأُمَّة ؟
المطلب التاسع : خطاب العامّ هل يعمّ الكفار ؟
المبحث الثاني : تَعارُض العموميْن .
وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : القاعدة في دفْع تَعارُض العموميْن .
المطلب الثاني : الترجيح بيْن صِيَغ العموم المتعارضة .
المطلب الثالث : تَعارُض العامّ والخاصّ .
المبحث الثالث : العامّ بَعْد تخصيصه وحُجِّيّة العامّ المخصّص .
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : العامّ بَعْد تخصيصه .
المطلب الثاني : حُجّية العامّ المخصَّص .
المطلب الثالث : الاستدلال بالعامّ قَبْل البحث عن المخصّص .
المطلب الرابع : أَقَلّ العامّ الباقي بَعْد التخصيص .
المبحث الأول
خطاب العامّ المختلَف في عمومه
وفيه تمهيد وتسعة مطالب :
المطلب الأول : خطاب الله تعالى نبيّه - صلى الله عليه وسلم - .
المطلب الثاني : خطاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لِواحد مِن أُمّته .
المطلب الثالث : خطاب الأُمَّة هل يدخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عمومه ؟
المطلب الرابع : المخاطِب هل يدخل في عموم خطابه ؟
المطلب الخامس : الخطاب العامّ هل يدخل فيه العَبِيد ؟
المطلب السادس : الخطاب العامّ لِجَمْع المذكَّر هل يعمّ الإناث ؟
المطلب السابع : الخطاب الشّفاهيّ هل يعمّ الغائب والمعدوم ؟
المطلب الثامن : خطاب أهْل الكتاب هل يعمّ الأُمَّة ؟
المطلب التاسع : خطاب العامّ هل يعمّ الكفار ؟
تمهيد
عندما بدأتُ في بحْث ما اختُلِف في عمومه ـ أو ما أُلحِق بالعموم عند البعض دون البعض ـ اتَّضَح لي ما يلي :
1- أنّ الأصوليّين اختلَفوا في موقع هذه المسائل :
فمنهم مَن جعَل محلّ دراستها باب الأمر : كما فَعَل الشيرازي حينما نصّ على بعضها في باب " مَن يدخل في الأمر ومَن لا يدخل " (1) ، وكذا الكلوذاني (2) وابن السمعاني (3) والباجي (4) (5) .(1/132)
ومنهم مَن جعَل محلّ دراستها باب العموم والخصوص أو العامّ والخاصّ : كإمام الحرميْن (6) والغزالي (7) والآمدي (8) وابن الحاجب (9) .
(1) شرْح اللمع 1/261 - 283
(2) التمهيد 1/269 - 315
(3) قواطع الأدلة 1/106 - 121
(4) الباجي : هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي الأندلسي المالكي الباجي ، وُلِد سَنَة 403 هـ ..
مِن مصنَّفاته : إحكام الفصول في أحكام الأصول ، كتاب الحدود ، تبيين المنهاج ، الإشارة ، المنتقى .
تُوُفِّي سَنَة 474 هـ .
النجوم الزاهرة 5/144 وشجرة النور الزكية /120
(5) إحكام الفصول /220 - 230
(6) البرهان 1/356 - 371
(7) المستصفى 1/77 - 88
(8) الإحكام 2/238 - 255
(9) مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/123 - 128
2- أنّ هناك حالاتٍ كثيرةً أو مسائل مِن خطاب العامّ المختلَف في عمومه قد تميزَت أو وردَت بعبارة " خطاب " ، فحاولتُ جَمْع شتاتها مِن المَراجع الأصوليّة في مبحث مستقِلّ ، وأَمكَنني بعون الله وتوفيقه أنْ أَحصرها في تسع ، وهي :
1- خطاب الله تعالى نبيّه - صلى الله عليه وسلم - .
2- خطاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لِواحد مِن أُمّته .
3- خطاب الأُمَّة هل يدخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عمومه ؟
4- المخاطِب هل يدخل في عموم خطابه ؟
5- الخطاب العامّ هل يدخل فيه العَبِيد ؟
6- الخطاب العامّ لِجَمْع المذكَّر هل يعمّ الإناث ؟
7- الخطاب الشّفاهيّ هل يعمّ الغائب والمعدوم ؟
8- خطاب أهْل الكتاب هل يعمّ الأُمَّة ؟
9- خطاب العامّ هل يعمّ الكفار ؟
وقد جَعلتُ كُلّ خطاب منها في مطلب مستقِلّ ، حاولتُ فيه التوسط في العَرْض والبحث ، تاركاً التوسع لِمَن يأتي مِن الباحثين لِيُفْرِد خطاب العامّ عند الأصوليّين بدراسة مستفيضة وافية ؛ لأنّه ـ فيما أَرَى ـ موضوع جدير بذلك .
المطلب الأول
خطاب الله تعالى نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -(1/133)
خطاب الله تعالى نبيَّه محمَّداً - صلى الله عليه وسلم - بنداء ونحْوه ـ نحْو : قوله تعالى { يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ الَّيْلَ إِلا قَلِيلا } (1) وقوله تعالى { لَئنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك } (2) ـ هل يَتناول الأُمَّة فيَكون لِلعموم أم لا ؟
اختلَف الأصوليّون في ذلك على مذاهب ، نُفَصِّلها بَعْد أنْ نُحَرِّر محلّ النزاع ..
أوّلاً - تحرير محلّ النزاع :
لقد وقفتُ في ذلك على أَربَع حالات ، اتَّفَق الأصوليّون فيها على أنَّها خارج محلّ النزاع :
الأولى : الخطاب الخاصّ به - صلى الله عليه وسلم - ..
نحْو : قوله تعالى { يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِر } (3) وقوله تعالى { يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّك } (4) ؛ فإنَّه لا يدلّ على العموم ، فلا تدْخل فيه الأُمَّة قَطْعا .
الثانية : الخطاب الذي قامت فيه قرينة على اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - مِن الخارج ..
نحْو : قوله تعالى { وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِر } (5) ؛ فإنَّه لا يدلّ على العموم ،
(1) سورة المزَّمِّل الآيتان 1 ، 2
(2) سورة الزمر مِن الآية 65
(3) سورة المدَّثِّر الآيتان 1 ، 2
(4) سورة المائدة مِن الآية 67
(5) سورة المدَّثِّر الآية 6
وإنَّما هو خاصّ به - صلى الله عليه وسلم - .
الثالثة : الخطاب الذي لا يُمكِن فيه إرادة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك الحُكْم المقترِن بخطابه ، بل يَكون الخطاب له - صلى الله عليه وسلم - والمراد الأُمَّة ..
نحْو : قوله تعالى { لَئنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك } (1) .
الرابعة : الخطاب الذي قامت فيه قرينة على دخول الأُمَّة فيه ..(1/134)
نحْو : قوله تعالى { يَأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء } (2) ؛ فإنّ ضمير الجَمْع في { طَلَّقْتُم } و{ طَلِّقُوهُنّ } قرينة لفظيّة على أنّ الأُمَّة مقصودة معه بالحُكْم ، وأنّ تخصيصه - صلى الله عليه وسلم - بالنداء تشريف له - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنّه إمامهم وقدْوتهم الذي يَصدر فِعْلهم عن رأْيه وإرشاده .
واختلَفوا في خطاب الله تعالى نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - الذي يمكِن أنْ يراد به النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ويمكِن أنْ يراد تَضَمُّنه مِن الحُكْم لِلأُمَّة معه - صلى الله عليه وسلم - أيضاً ولا قرينة على إرادتهم معه - صلى الله عليه وسلم - ـ نحْو : قوله تَبارَك وتعالى { يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ الَّيْلَ إِلا قَلِيلا } (3) وقوله تعالى { يَأَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك } (4) ـ هل يدلّ على العموم أم لا (5) ؟
اختلَف الأصوليّون في ذلك على مذاهب ، نبيّنها فيما يلي ..
ثانياً - مذاهب الأصوليّين في خطاب الله تعالى نبيّه - صلى الله عليه وسلم - :
اختلَف الأصوليّون في خطاب الله تعالى نبيّه - صلى الله عليه وسلم - : هل يَقتضي العموم
(1) سورة الزمر مِن الآية 65
(2) سورة الطلاق مِن الآية 1
(3) سورة المزَّمِّل الآيتان 1 ، 2
(4) سورة التحريم مِن الآية 1
(5) يُراجَع : الفوائد السَّنِيّة لِلبرماوي 2/501 - 505 والبحر المحيط 3/187 ، 188 وشرْح الكوكب المنير 3/222
أم لا ؟ على مذهبيْن :
المذهب الأول : أنَّه لا يعمّ إلا بدليل .
وهو ما عليه المحقِّقون مِن الأصوليّين (1) وجمهور الشافعية والمالكية والمعتزلة وبعض الحنابلة ، واختاره الشيرازي (2) والكلوذاني (3) والغزالي (4) والفخر الرازي (5) والآمدي (6) وابن الحاجب (7) وابن السبكي (8) .
واحتَجّوا بأدلة ، أَذكُر منها ما يلي :(1/135)
الدليل الأول : أنَّه ثبت بالاستقراء مِن كلام العرب أنّ خطاب المفرَد لا يَتناول غيْره ، فالقول بتناوله له ولِغيْره مُخالِف لِمَا وُضِع له اللفظ عند العرب ، ولِذا كان خطاب المفرَد لا يَتناول غيْره إلا بدليل .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ محلّ نزاعنا ليس الاستعمال اللّغويّ ، وإنَّما العرف الشّرعيّ الذي جعَل مِثْل هذا الخطاب متناوِلاً لِغيْره فيما إذا كان المخاطَب قدوةً والغير أتباعاً وأشياعاً له .
ردّ هذه المناقَشة :
وهذه المناقَشة عندي مردودة : بأنّ العرف الشّرعيّ حينما جعَل
(1) شرْح طلعة الشمس 1/122
(2) شرْح اللمع 1/280 ، 281
(3) التمهيد 1/276
(4) المستصفى 2/80
(5) المحصول 1/388
(6) الإحكام 2/239
(7) مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/201
(8) جَمْع الجوامع مع تشنيف المَسامع 1/351
الخطاب هنا متناوِلاً لِغيْره ليس لأنّ الأصل فيه كذلك ، وإنَّما لِقرينة ودليل وهو ـ فيما ذكَرتم ـ كوْن المخاطَب قدوةً لِغيْره ؛ { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة } (1) ، وهذا ما سَلَّم به القائلون بعدم العموم إلا بدليل .
الدليل الثاني : أنّ الخطاب الخاصّ لِمفرَد لو كان متناوِلاً لِغيْره لَكان خروج غيْر ذلك الواحد عنه تخصيصاً ، والتخصيص لا يَكون إلا لِلعموم ، وهو خلاف الظاهر ؛ لأنّه مفرَد ، ولِذا كان خطاب المفرَد غيْر متناوِل لِغيْره إلا بدليل .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ عرْف الشرع جعَل هذا الخطاب متناوِلاً المفرَد وغيْره ، فيَكون لِلعموم ، وإذا كان كذلك جاز تخصيصه (2) .
ردّ هذه المناقَشة :
وهذه المناقَشة عندي مردودة ـ أيضاً ـ بما رُدَّت به سابقتها .
المذهب الثاني : أنَّه لِلعموم ، ولا يخصّ المخاطَب إلا بدليل .(1/136)
وهو ما عليه الحنفية وبعض المالكية والشافعية والحنابلة ، ومنقول عن الإمام أبي حنيفة والإمام أحمد رضي الله عنهما ، واختاره إمام الحرميْن وابن السمعاني (3) .
واحتَجّوا بأدلة ، أَذكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى { يَأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء ... } (1) ..
(1) سورة الأحزاب مِن الآية 21
(2) يُراجَع : الإحكام في أصول الأحكام لِلآمدي 2/240 ، 241 ومختصر المنتهى مع شرْح العضد وحاشية السعد 2/121 ، 122 وبيان المختصر 2/201 ، 202 وشرْح الكوكب المنير 3/221 ، 222 وشرْح طلعة الشمس 1/122
(3) يُراجَع : البحر المحيط 3/186 ، 187 والبرهان 1/367 - 370 وقواطع الأدلة 1/226
(4) سورة الطلاق مِن الآية 1
وجْه الدلالة : أنّ الله تعالى خاطَب النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بمفرَده ثُمّ عَمَّم ذلك بقوله { إِذَا طَلَّقْتُم } { فَطَلِّقُوهُنّ } ، وكِلاهما لِلجَمْع ، فدَلّ ذلك على أنّ خطاب المفرَد خطاب له ولِغيْره ، وهو المُدَّعَى .
مناقَشة هذا الدليل :
وهذا الدليل قد نوقش : بأنّ الخطاب هنا لِلعموم وليس لِلمفرَد وهو المصطفَى - صلى الله عليه وسلم - ؛ بدليل { طَلَّقْتُم } و{ فَطَلِّقُوهُنّ } ، وذِكْر النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وتخصيصه بالنداء والذِّكْر إنَّما هو تشريف وإكرام له - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يَمتنع أنْ يقال " يا فلان .. افعل أنت وأتباعك كذا " ، إنَّما النزاع فيما يقال :" افعل أنت كذا " ولا يَتعرض لِلأتباع .
الدليل الثاني : قوله تَبارَك وتعالى { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَكَهَا لِكَىْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَج ... } (1) ..(1/137)
وجْه الدلالة : أنّ إباحة تزويج النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مِن زوجة الدَّعِيّ خطاب خاصّ به - صلى الله عليه وسلم - وتَعَدّاه لِيَشمل جميع الأُمَّة ، وما ذلك إلا لأنّ خطاب المفرَد لِلعموم ، ولو كان الخطاب خاصّاً به - صلى الله عليه وسلم - لَمَا تَعَدّاه ، فدَلّ ذلك على أنّ الخطاب الخاصّ به - صلى الله عليه وسلم - عامّ له ولأُمّته .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ الخطاب هنا لِلعموم ليس لأنّ خطاب الخاصّ يعمّ المخاطَب وغيْره كما ادَّعَيْتم ، وإنَّما لِدليل ، وهو القياس ؛ لأنّه إذا ارتَفَع الحرج عنه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك مع عُلُوّ رتْبته فغيْره مِمَّن هو دُونَه أَوْلى برفع الحرج عنه في ذلك .
الدليل الثالث : قوله تعالى { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِين } (2) وقوله
(1) سورة الأحزاب مِن الآية 37
(2) سورة الأحزاب مِن الآية 50
تعالى { فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّك } (1) ..
وجْه الدلالة : أنّ خطاب الخاصّ لِلنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لو كان لِلخصوص فلا يَتناول غيْره لَمَا كان لألفاظ الخصوصية في الآيتيْن ـ { خَالِصَةً لَّك } { نَافِلَةً لَّك } ـ فائدة لِدلالته على اختصاص الخطاب به - صلى الله عليه وسلم - وهو مستفاد مِن نَفْس الخطاب ، واللازم باطل ؛ لامتناع اللغو في كلامه عزّ وجلّ .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم عدم الفائدة مِن ذِكْر ألفاظ الخصوصية ، وإنَّما فائدتها قَطْع إلحاق غيْره به - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الحُكْم ورفْع قياس أُمّته عليه ، أيْ فلو لم يَذكُر ذلك لَوَجَب علينا إجراء ذلك الحُكْم على غيْره بطريق الإلحاق به والقياس عليه لِوجوب القياس لا لِعموم الخطاب (2) .
والراجح عندي : ما عليه أصحاب المذهب الأول ؛ لأنّه الأصل في اللغة ؛ فخطاب المفرَد لا يعمّ غيْره إلا إنْ وُجِد دليل ..(1/138)
أمّا أصحاب المذهب الثاني : فإنّ أدلّتهم لم تَسْلَم مِن المناقَشة والاعتراض ؛ لأنّ عُرْف الشرع لم يَجعل خطاب المفرَد لِلعموم إلا إذا اقترَن به دليل على ذلك ..
وحينئذٍ يصحّ أنّ النزاع والخلاف بيْن المذهبيْن لفظيّ كما ذهب الطوفي ، ويَكون التقدير : إنّ اللغة تقتضي أنّ الخطاب لِواحد مُعَيَّن
(1) سورة الإسراء مِن الآية 79
(2) يُراجَع : الإحكام في أصول الأحكام لِلآمدي 2/240 - 242 ومختصر المنتهى مع شرْح العضد مع حاشية السعد 2/621 - 623 وبيان المختصر 2/201 - 205 وشرْح طلعة الشمس 1/122 ، 123 وشرْح الكوكب المنير 3/219 - 222 وشرْح مختصر الروضة 2/413 - 418 والتحرير مع التيسير 1/251 ، 252 ومُسَلَّم الثبوت 1/281 ، 282
يَختَصّ به ، ولا خلاف فيه بيْنهم ، والواقعة الشَّرعيَّة الخاصّة إذا قام دليل على عمومها عمّت ، ولا خلاف ـ أيضاً ـ فيه بيْنهم (1) .
(1) يُراجَع شرْح مختصر الروضة 2/418
ويُراجَع في هذه المسألة : شرْح اللمع 1/280 ، 281 والتمهيد لِلكلوذاني 1/276 - 281 والبرهان 1/367 - 370 وقواطع الأدلة 1/226 والمستصفى 2/80 والمحصول 1/388 ، 389 والكاشف عن المحصول 4/360 والإحكام لِلآمدي 2/239 - 242 ومختصر المنتهى مع شرْح العضد وحاشية السعد 2/121 ، 122 وبيان المختصر 2/201 ، 202 والبحر المحيط 3/186 - 188 وشرْح الكوكب المنير 3/221 ، 222 وجَمْع الجوامع مع تشنيف المسامع 1/351 وحاشية البناني مع المحلِّيّ 1/426 ، 427 وتيسير التحرير 1/251 ، 252 ومُسَلَّم الثبوت /2/281 ، 282 والتقرير والتحبير 1/224 ، 225 وشرْح طلعة الشمس 1/122 ، 123 وشرْح مختصر الروضة 2/413 - 418
المطلب الثاني
خطاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لِواحد مِن الأُمَّة
اتَّفَق الأصوليّون على أنّ خطاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لِواحد مِن الأُمَّة إذا اقترَن به ما يخصّ ذلك الواحد لم يكنْ لِلعموم ، وإنَّما هو خاصّ بمَن خوطِب به ..(1/139)
نحْو : قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بُرْدَة - رضي الله عنه - (1) عندما ذبَح قَبْل الصلاة { أَبْدِلْهَا } قال :" لَيْسَ عِنْدِي إِلاَّ جَذَعَةٌ هِيَ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّة ؟ " فقال - صلى الله عليه وسلم - { اجْعَلْهَا مَكَانَهَا ( وفي رواية { اذْبَحْهَا } ) ، وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك } (2) .
ومِثْله : رخَّص النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لِزيْد بن خالد الجهنيّ - رضي الله عنه - (3) كما في أبي داود والمسنَد (4) ..
(1) أبو بُرْدَة : هو الصّحابيّ الجليل هانئ بن نِيَار الأنصاري - رضي الله عنه - ، وقيل : اسمه مالك بن هبيرة ، وقيل : الحارث بن عمرو الأنصاري ، خال البراء بن عازب - رضي الله عنه - ، شَهِد بدراً وما بَعْدها ..
تُوُفِّي سَنَة 43 هـ .
يُراجَع : الطبقات الكبرى 3/451 وأسد الغابة 1/30 والإصابة 7/36
(2) أَخرَجه البخاري في كتاب الجمعة : باب التبكير إلى العيد برقم ( 915 ) ومسلِم في كتاب الأضاحي : باب وقْتها برقم ( 3627 ) والنسائي في كتاب صلاة العيديْن : باب الخُطبة يوْم العيد برقم ( 1545 ) ، كُلّهم عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - .
(3) زيْد بن خالد : هو الصّحابيّ الجليل أبو زرعة ( وقيل غير ذلك ) زيْد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - ..
تُوُفِّي سَنَة 78 هـ وقيل : سَنَة 68 هـ .
أسد الغابة 2/144 والإصابة 2/603
(4) سُنَن أبي داود 2/86 ومسند أحمد 5/194 ، وقد جاء فيه أنّ زيْد بن خالد الجهنيّ - رضي الله عنه - قال : " قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَصْحَابِهِ ضَحَايَا فَأَعْطَانِي عَتُوداً جَذَعا ( الجذع مِن المعز : الذي أتى عليه حوْل ) مِن الْمَعِزِ ، فَجِئْتُ بِهِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ :" إِنَّه جَذَع ؟ " فَقَال { ضَحِّ بِه } فَضَحَّيْتًُ بِه " .
ويُراجَع : فتْح الباري 10/14 والمُحَلَّى 4/366 ، 367(1/140)
وكما رخَّص - صلى الله عليه وسلم - لِعقبة بن عامر - رضي الله عنه - (1) كما في الصَّحيحيْن (2) .
واختلَفوا في خطابه - صلى الله عليه وسلم - لِواحد مِن الأُمَّة لم تَقترن به قرينة تدلّ على اختصاص المخاطَب به ـ نحْو : قوله - صلى الله عليه وسلم - لِمَن واقَع في رمضان { أَعْتِقْ رَقَبَة } (3) (4) ـ هل يعمّ غيْره أم لا ؟
لهمْ في ذلك مذاهب :
المذهب الأول : أنَّه لا يعمّ .
وهو ما عليه الجمهور مِن الحنفية والمالكية والشافعية ، ونصّ عليه الإمام الشافعي - رضي الله عنه - (5) ، واختاره الشيرازي (6) والآمدي (7) وابن الحاجب (8) .
واحتَجّوا بأدلة المذهب الأول في خطاب الله تعالى نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - والتي سبق
(1) عقبة بن عامر : هو الصّحابيّ الجليل أبو حمّاد عقبة بن عامر بن عبس الجهنيّ - رضي الله عنه - ، مِن السابقين في الإسلام والهجرة ، شارَك في جَمْع القرآن ، أحد علماء الصحابة وفقهائهم ، شَهِد فتْح مِصْر ..
تُوُفِّي سَنَة 58 هـ .
الطبقات الكبرى 4/342 ، 343
(2) عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَعطاه غَنَماً يُقَسِّمها على صحابته ، فبقي عتود وجذعة ، فذَكَره لِلنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال { ضَحِّ بِه } فضحَّى به ..
اللؤلؤ والمرجان فيما اتفَق عليه الشيخان : كتاب الأضاحي برقم ( 1283 ) 3/512 ويُراجَع نَيْل الأوطار لِلشوكاني 5/114
(3) سبق تخريجه .
(4) يُراجَع : الفوائد السَّنيّة 2/515 ، 516 والبحر المحيط 3/189 وشرْح الكوكب المنير 3/225 226 وشرْح مختصر الروضة 2/412 والتمهيد لِلكلوذاني 1/276
(5) يُراجَع البحر المحيط 3/189
(6) شرْح اللمع 1/282
(7) الإحكام لِلآمدي 2/242
(8) مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/123
ذِكْرها فيما تَقَدَّم (1) ..(1/141)
وأضافوا دليلاً آخَر ، وهو : أنَّه لو كان خطاب الواحد عامّاً له ولِغيْره لانعَدَمَت الفائدة في قوله - صلى الله عليه وسلم - { حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَة } (2) لأنّ فهْمنا العموم مِن الخطاب نَفْسه بصيغته (3) .
المذهب الثاني : أنَّه لِلعموم .
وهو ما عليه الحنابلة ، واختاره ابن السمعاني (4) ..
وقَصَر أبو الخطاب الكلوذاني ما وقَع جواباً لِسؤال ، نحْو :" وَاقَعْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَان ؟ " فقال له - صلى الله عليه وسلم - { أَعْتِقْ رَقَبَة } ، وإلا فلا عموم (5) .
واحتَجّوا بأدلة ، أَذكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاس } (6) وقوله - صلى الله عليه وسلم - { بُعِثْتُ إِلَى الأَسْوَدِ وَالأَحْمَر } (7) ..
وجْه الدلالة : أنّ الآية الكريمة والحديث الشريف يؤكِّدان أنّ رسالته - صلى الله عليه وسلم - عامّة لِلناس جميعاً ، وإذا كان كذلك كان حُكْمه - صلى الله عليه وسلم - متناوِلاً لِلجميع حتى وإنْ كان الخطاب لِواحد بمفرَده .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ وجْه الدلالة في النّصّيْن الكريميْن ليس كما
(1) يُراجَع ص 192 ، 193 مِن الكتاب .
(2) سبق تخريجه .
(3) يُراجَع شرْح العضد 2/123 وبيان المختصر 2/206 ، 207
(4) قواطع الأدلة 1/228
(5) يُراجَع : التمهيد 1/276 وشرْح الكوكب المنير 3/224 ، 225
(6) سورة سبأ مِن الآية 28
(7) أَخرَجه مسلِم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في كتاب المساجد ومَواضعها برقم ( 810 ) وأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما في مسنَد بني هاشم برقم ( 2144 ) .
ادّعيتم ، وإنَّما المراد أنَّه مبعوث إلى الإنس والجِنّ والعرب والعجم ؛ حتى يَعرف كُلّ واحد ما يَختصّ به مِن الأحكام ، ولا يَلزم مِن ذلك اشتراك الكُلّ فيما أثبت لِلبعض منهم .(1/142)
الدليل الثاني : قوله - صلى الله عليه وسلم - { حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَة } (1) ..
وجْه الدلالة : أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بَيَّن لنا أنّ خطابه لِفرْد مِن أُمّته بحُكْم مِن الأحكام إنَّما هو في ذاته حُكْم لِلجماعة وليس خاصّاً بمَن وُجِّه إليه الخطاب ولِذا كان الحُكْم على الواحد متناوِلاً لِلجميع .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ هذا الحديث محمول على أنّ حُكْم الجماعة حُكْم الواحد بقياس الجماعة على الواحد أو بهذا الحديث ، لا لأنّ خطاب الواحد خطاب لِلجميع ، وإنَّما حُمِل على هذا جَمْعاً بيْن الأدلة .
الدليل الثالث : أنّ الخطاب لِواحد لو كان خاصّاً به لَكان قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة - رضي الله عنه - لَمّا ضَحَّى بعناق { تُجْزِئُكَ وَلاَ تُجْزِئُ أَحَداً بَعْدَك } (2) وتخصيصه - صلى الله عليه وسلم - خزيمة - رضي الله عنه - بقبول شهادته وحْده زيادةً لا فائدة فيها ، ولولا أنّ الحُكْم بإطلاقه على الواحد حُكْم على الأُمَّة لَمَا احتاج إلى التنصيص بالتخصيص ..
فدَلّ ذلك على أنّ الخطاب لِواحد يعمّ غيْره .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم أنّ القول بعدم العموم يَجعل الخطاب بالتخصيص زيادةً لا فائدة فيه ، وإنَّما فائدته نَفْي احتمال الشركة
(1) سبق تخريجه .
(2) سبق تخريجه .
قَطْعاً لِلإلحاق بالقياس (1) .
والرأي عندي في هذه المسألة هو : الجَمْع بيْن المذهبيْن كما ذهب إمام الحرميْن ـ رحمه الله ـ في قوله :" فإنْ وقَع النظر في مقتضى اللفظ فلا شكّ أنَّه لِلتخصيص ، وإنْ وقَع النظر فيما إذا استمرّ الشرع عليه فلا شكّ أنّ خطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنْ كان مختصّاً بآحاد الأُمَّة فإنّ الكافّة يُلزَمون في مقتضاه ما يَلتزمه المخاطَب " ..(1/143)
ثُمّ قال :" فلا معنى لِعَدّ هذه المسألة مِن المختلفات والشِّقّان جميعاً متفَق عليهما " (2) .
ومِمَّا يَجدُر التنبيه عليه في هذه المسألة : ما ذكَره الزركشي مِن أنّ الشيخ أبا حامد جَمَع هذه المسألة والتي قَبْلها تحْت عنوان واحد ، وهو : مخاطَبة الشارع واحداً بلفظ مختصّ به ، سواء كان المخاطِب الله تعالى لِنبيّه - صلى الله عليه وسلم - ـ نحْو : { يَأَيُّهَا النَّبِىُّ حَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَال } (3) و{ يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغ } (4) ـ أو المخاطِب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - واحداً مِن أُمّته (5) ، ولكنّا رأَيْنا الكثرة فَصَّلَت بيْنهما ، وهو ما نهَجْتُه وسِرْتُ عليه في هذا المقام .
(1) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 2/242 - 244 ومختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/123 ، 124 وبيان المختصر 2/205 - 211 وشرْح اللمع 1/282 ، 283 والتحرير مع التيسير 1/252 ، 253 ومُسَلَّم الثبوت 1/280 ، 281 وشرْح الكوكب المنير 2/223 - 230 والتمهيد لِلكلوذاني 2/275 - 280 وقواطع الأدلة 1/227 ، 228
(2) البرهان 1/370 ، 371
(3) سورة الأنفال مِن الآية 65
(4) سورة المائدة مِن الآية 67
(5) يُراجَع البحر المحيط 3/190
المطلب الثالث
خطاب الأُمَّة هل يدخل
الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عمومه ؟
اتَّفَق العلماء على أنّ الخطاب الخاصّ بالأُمَّة لا يدخل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في عمومه ، نحْو : " أيّها الأُمَّة " ..
ونحْو : قوله تعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم } (1) ..
فالأول عامّ ، والثاني خاصّ فينا دُونه .(1/144)
واختلَفوا في الخطاب المُطْلَق ـ نحْو : قوله تَبارَك وتعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا } ، وقوله تَبارَك وتعالى { يَأَيُّهَا النَّاس } ، وقوله تَبارَك وتعالى { يَعِبَادِى } ـ هل يدخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عمومه (2) ؟ إلا أنَّه ـ كما قال الشيرازي رحمه الله ـ سيّد الناس وسيّد المؤمِنين صلوات الله وسلامه عليه .
لِلأصوليّين في ذلك مذاهب :
المذهب الأول : دخول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في عمومه .
وهو ما عليه الكثرة مِن العلماء ، واختاره الشيرازي (3) وإمام
(1) سورة الأنفال مِن الآية 24
(2) يُراجَع : المستصفى 2/80 ، 81 والإحكام لِلآمدي 2/251 والبحر المحيط 3/188 ، 189 والمحصول 1/389
(3) شرْح اللمع 1/280
الحرميْن (1) والغزالي (2) وابن الحاجب (3) وابن السبكي (4) .
واحتَجّوا بأدلة ، أَذكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ هذه الصيغ التي خوطبَت بها الأُمَّة عامّة لِكُلّ إنسان وكُلّ مؤمِن وكُلّ عبْد ، والنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - سيّد الناس والمؤمِنين والعباد قَطْعاً ، والنُّبُوَّة لا تُخرِجه عن إطلاق هذه الأسماء عليه ، فوجَب دخوله فيها .
الدليل الثاني : أنّ الصحابة - رضي الله عنهم - كان إذا أَمَرهم النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بأمْر فَهِموا دخوله - صلى الله عليه وسلم - فيه ؛ لأنّه إذا لم يَفعل بمقتضاه سألوه وقالوا :" لِمَ لا تَفعله ؟ " فيَذكر لهم - صلى الله عليه وسلم - موجِب التخصيص ، فدَلّ ذلك على دخول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في خطاب الأُمَّة (5) .
المذهب الثاني : عدم دخول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في عمومه .(1/145)
ونَسَبه الآمدي لِطائفة مِن الفقهاء والمتكلِّمين (6) ، وذكَره الغزالي بعبارة " وقال قوْم : لا يدخل " (7) ، وعَبَّر عنهم إمام الحرميْن بـ:" وذهب شرذمة لا يُؤْبَه لهم إلى أنَّه غيْر داخِل تحْت الخطاب " (8) ، ولم يَذكر الزركشي لِهذا المذهب صاحباً ، وإنَّما بعبارة التضعيف في قوله :" وقيل : لا ؛ لأجْل الخصائص الثابتة له " (9) ، ونحْوه تعبير ابن عبد الشكور ، وهو :" وقيل :
(1) البرهان 1/365
(2) المستصفى 2/80 ، 81
(3) مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/126
(4) جَمْع الجوامع مع تشنيف المسامع 1/351 ، 352
(5) يُراجَع : الإحكام في أصول الأحكام لِلآمدي 2/251 وبيان المختصر 2/222 ومختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/126
(6) الإحكام 2/251
(7) المستصفى 2/81
(8) البرهان 1/365
(9) البحر المحيط 3/189 وتشنيف المسامع 1/352
لا يَدخل هو - صلى الله عليه وسلم - مُطْلَقا " (1) .
وقد قصدتُ سَرْد ما قيل في أصحاب هذا المذهب التي اتَّضَح منها أنَّه مذهب لا يُعرَف له قائل ، الأمرَ الذي لا يؤهِّله لِلترجيح والاختيار ، ومع ذلك فلْنَستعرِض ما له مِن أدلة فيما يلي :
الدليل الأول : أنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - آمِر الأُمَّة ومُبَلِّغ الأوامر إليهم ..
فإذا كان آمراً فلا يَكون مأموراً ؛ لأنّ الواحد بالخطاب الواحد لا يَكون آمراً ومأموراً معا .
وإذا كان مُبَلِّغاً فلا يَكون مُبَلَّغاً إليه ؛ لِمِثْل ذلك .
ولِذا كان النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - غيْر داخِل في خطاب الأُمَّة .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجهيْن :
الأول : لا نُسَلِّم لكم عدم اجتماع الآمر والمأمور والمُبَلِّغ والمُبَلَّغ إليه ؛ فإنَّه يجوز مِن الجهتيْن : كالطبيب إذا عالَج نَفْسه ؛ فهو معالِج مِن حيث هو طبيب ، ومعالَج مِن حيث هو مريض .(1/146)
الثاني : لا نُسَلِّم لكم أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - هو الآمِر والمُبَلِّغ ، وإنَّما الآمِر هو الله سبحانه وتعالى ، والمُبَلِّغ جبريل - عليه السلام - ، والنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - حاكٍ لِتبليغ جبريل - عليه السلام - ، وهو داخِل فيه .
الدليل الثاني : أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قد اختُصّ بأحكام انفرَد بها عن الأُمَّة ، نحْو : وجوب ركعتَي الفجر والضحى والأضحى ، والزيادة على أَربَع نسوة ، ولو كان داخلاً تحْت العمومات لَلَزم أنْ يَكون حُكْمه حُكْم الأُمَّة ، والتالي باطل ؛ لاختصاصه بأحكام خاصّة ، فدَلّ هذا الاختصاص على عدم
(1) مُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/277
المشارَكة في العموم .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ اختصاص النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بهذه الأحكام ليس لِعدم مشارَكته - صلى الله عليه وسلم - في العموم ، وإنَّما بدليل خاصّ ، ولا يَلزم مِن الخروج مِن البعض بدليل الخروجُ مِن كُلّ عامّ مُطلَقاً : كالمريض والمسافِر ؛ فإنّهما داخلان تحْت تلك العمومات ، وخروجهما عنها بدليل خاصّ (1) .
المذهب الثالث : عدم دخوله - صلى الله عليه وسلم - في عمومه إذا صدَر الخطاب بـ" قُل " ، وإلا كان داخلاً في العموم .
وهو منقول عن الصيرفي (2) والحليمي (3) مِن الشافعية (4) .
وكأنّ الحُجّة عندهم : أنّ الخطاب إذا كان معه " قُل " ـ نحْو : قوله
(1) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 2/251 ، 252 ومختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/126 ، 127 وبيان المختصر 2/222 - 226 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/277 ، 278 والتحرير مع التيسير 1/254 ، 255
(2) الصيرفي : هو أبو بكر محمد بن عبد الله الصيرفي البغدادي الشافعي الأصولي الفقيه ، مِن فقهاء بغداد ..
مِن مصنَّفاته : البيان ، شرْح الرسالة ، كتاب في الإجماع .
تُوُفِّي بمصر سَنَة 330 هـ .(1/147)
طبقات الشافعية الكبرى 2/69 وشذرات الذهب 2/325 والفتح المبين 1/191
(3) الحليمي : هو القاضي أبو عبد الله الحسين بن الحَسَن بن محمد بن حليم البخاري الشافعي ، أحد أصحاب الوجوه في المذهب ، كان عالِماً بالحديث والأدب والبيان والفقه ، مِن تلاميذه البيهقي والحاكم ..
مِن تصانيفه : المنهاج في الفقه .
تُوُفِّي سَنَة 403 هـ .
طبقات الحُفّاظ /407 ، 408 والوافي بالوفيّات 2/228 - 233
(4) يُراجَع : البرهان لإمام الحرميْن 1/366 ، 367 والإحكام لِلآمدي 2/251 ومختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/126
تعالى { قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم } (1) وقوله تعالى { قُلْ يَعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِم ... } (2) ـ يَجعل النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مأموراً بالتبليغ ، ولِذا لا يَتناوله الخطاب ؛ لأنّه سيَكون مُبَلِّغاً ومُبَلَّغاً إليه بخطاب واحد ، وهو مُحال ، ولِذا لا يدخل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في عموم الأُمَّة في هذه الحالة .
مناقَشة هذه الحُجّة :
ويمكِن مناقَشة هذه الحُجّة بما نوقش به الدليل الأول في المذهب الثاني .
والأَوْلى عندي في هذا المقام هو : ما عليه الأكثرون أصحاب المذهب الأول القائل بدخول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في عموم خطاب الأُمَّة مُطْلَقاً ، سواء صدر الخطاب بـ" قُل " أم لا كما فَرَّق الحليمي والصيرفي رَحِمهما الله .
أمّا المخالِفين ـ وهمْ أصحاب المذهبيْن الثاني والثالث ـ فأدلّتهم مردودة وحُجّتهم ضعيفة ، ولأنّ عدم دخوله - صلى الله عليه وسلم - في خطاب الأُمَّة ساقِط مِن جهة أنّ اللفظ صالِح ووضْع اللسان حاكِم باقتضاء التعميم كما ذكَر إمام الحرميْن ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - مِن المتعبِّدين بقضايا التكليف كالأُمَّة (3) .
(1) سورة الأعراف مِن الآية 158
(2) سورة الزمر مِن الآية 53
(3) يُراجَع البرهان 1/365
المطلب الرابع(1/148)
المخاطِب هل يدخل في عموم خطابه ؟
والمراد بالمخاطِب ( بالكسر ) : المتكلِّم .
أمّا المخاطَب ( بالفتح ) : فقدْ سبق الحديث عن حُكْم دخوله في عموم الخطاب في خطاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخطاب الأُمَّة .
أمّا المخاطِب بخطاب يَكون متعلِّقه عامّاً ، نحْو : قول القائل لِمأموره : " مَن دخَل هذه الدار فأَعطِه درهماً " ؛ فلو دخل هذا المخاطِبُ الدارَ المذكورةَ فهلْ يعطيه المأمور بحُكْم اقتضاء اللفظ لأنّه داخِل في عمومه (1) أم لا ؟
اختلَف الأصوليّون في ذلك على مذاهب :
المذهب الأول : دخوله في عمومه أمراً أو نهياً أو خبرا .
وهو ما عليه الأكثرون ، واختاره الآمدي (2) وابن الحاجب (3) والغزالي (4) .
واستدَلّوا بأدلة ، منها :
الدليل الأول : أنّ اللفظ الصادر مِن المتكلِّم ( المخاطِب ) متناوِل له ولِغيْره وليس هناك مانِع يَمنع دخوله فيه ، فوجب الدخول بالمقتضى السالم عن
(1) يُراجَع : البرهان 1/362 ، 363 والبحر المحيط 3/193 ، 194 ومُسَلَّم الثبوت 1/280 وشرْح الكوكب المنير 3/252
(2) الإحكام لِلآمدي 2/255 ويُراجَع مُسَلَّم الثبوت 1/280
(3) مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/127
(4) المستصفى 2/89
المُعارِض (1) .
ومِمَّا يَجدر التنبيه إليه : أنّ الكثرة مِن أصحاب هذا المذهب قيَّدوا دخول المخاطِب في عموم خطابه ما لم تَرِدْ قرينة أو دليل مخصِّص (2) ، فإنْ وردَت قرينة فإنَّه لا يدخل ، نحْو : قوله لِعبْده :" مَن دخل الدار فأَعطِه درهماً " فلا خفاء أنَّه لا ينبغي أنْ يَتصدق عليه مِن ماله .
ومنه : قوله تعالى { اللَّهُ خَلِقُ كُلّ شَىْء } (3) ، وذاته وصفاته أشياء وهو غيْر خالِق لها ، ولو كان داخلاً في عموم خبره لَكان خالقاً لها ، وهو مُحال (4) .
وعَدّه الزركشي (5) مذهباً ، ولستُ معه في ذلك ؛ لأنّ أَغلَب القائلين بدخوله قيَّدوه بما تَقَدَّم .
المذهب الثاني : عدم دخول المخاطِب في عموم خطابه إلا بدليل .(1/149)
وهو ما عليه أَكثَر الشافعية ، والصحيح مِن مذهبهم (6) .
واحتَجّوا : بأنّ المخاطِب لو كان داخلاً في عموم خطابه لَلَزم أنْ يَكون الباري جلّ وعلا خالقاً لِنَفْسه ؛ لِقوله تعالى { اللَّهُ خَلِقُ كُلّ شَىْء } (7) ، وهو مُحال ، فدَلّ ذلك على عدم دخول المخاطِب في عموم خطابه (8) .
(1) بيان المختصر 2/229 ، 230 بتصرف .
(2) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 2/256 وشرْح الكوكب المنير 3/252 وشرْح طلعة الشمس 1/119
(3) سورة الزمر مِن الآية 62
(4) يُراجَع : البرهان 1/364 والإحكام لِلآمدي 2/256
(5) يُراجَع تشنيف المسامع 1/356
(6) يُراجَع البحر المحيط 3/192
(7) سورة الزمر مِن الآية 62
(8) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 2/256 وبيان المختصر 2/229 ، 230 والبرهان 2/363 ، 364 وشرْح مختصر الروضة 2/540 والتحرير مع التيسير 1/256 ، 257
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ الخطاب بحسب وضْع اللغة يَتناول المخاطِب ، لكنّ الباري جلّ وعلا لا يدخل في خطابه ؛ لامتناع ذلك عقلاً ..
وهذا دليل عقليّ مخصِّص لِعموم الآية .
المذهب الثالث : عدم دخول المخاطِب إنْ كان كلامه أمْرا .
وهو ما اختاره الشيرازي (1) وأبو الخطاب الكلوذاني (2) وابن السمعاني (3) وابن السبكي (4) .
واحتَجّوا لِذلك بأدلة ، أَذكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ الأمر استدعاء الفعل على جهة الاستعلاء ، فلو دخل المتكلِّم تحْت ما يأمر به غيْرَه لَكان مستدعِياً مِن نَفْسه ومستعلِياً عليها ، وهو مُحال ، ولِذا كان المتكلِّم غيْر داخِل في أمْره .
الدليل الثاني : أنّ السيد إذا أَمَر عبْدَه أنْ يسقيه ماءً فلا خلاف بيْن أهْل اللغة أنَّه لا يدخل في هذا الأمر ، وما ذاك إلا لأنّ الآمر لا يدخل في أمْر نَفْسه (5) .
مناقَشة هذيْن الدليليْن :(1/150)
ويُمكِن مناقَشة هذيْن الدليليْن : بأنّ القرائن هي التي منَعَت دخول المخاطِب في خطابه أو الآمِر في أمْره ، فمَن كان يَتصدق بدراهم مِن ماله
(1) شرْح اللمع 1/261
(2) التمهيد 1/272
(3) قواطع الأدلة 1/120
(4) جَمْع الجوامع مع تشنيف المسامع 1/356
(5) يُراجَع : شرْح اللمع 1/261 ، 262 والتمهيد لِلكلوذاني 1/172 ، 273 وقواطع الأدلة 1/120 121
ثُمّ قال لِعبْده :" مَن دخَل الدار فأَعطِه درهماً " فلا ينبغي أنْ يَتصدق عليه مِن ماله ، أمّا لو قال لِمَن يخاطِبه :" مَن وَعَظك فاتَّعِظ ، ومَن نصحَك فاقبلْ نصيحته " فلا قرينة تُخرِجه (1) .
وأَرى في هذا المقام : أنّ المخاطِب داخِل في عموم خطابه ـ أمراً كان أو نهياً أو خبراً ـ ما لم يَرِدْ دليل مخصِّص ، وهو ما عليه أصحاب المذهب الأول الذين قويَت حُجّتهم ، ولم تَسلَم حُجّة غيْرهم مِن الاعتراض والمناقَشة .
ومِمَّا يؤكِّد الراجح عندي : تلك النصوص التي يدخل المخاطِب في عمومها ..
نحْو : قوله عليه الصلاة والسلام { مَنْ قَالَ " لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ " خَالِصاً مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّة } (2) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - أيضا { إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّم } قالوا : " وَمِنْك ؟ " قال - صلى الله عليه وسلم - { نَعَمْ ، إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَم } (3) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - { لَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ أَحَداً عَمَلُه } قالوا :" وَلاَ أَنْت ؟ " قال
(1) يُراجَع : البرهان 1/364 ، 365(1/151)
وتُراجَع هذه المسألة في : شرْح اللمع 1/261 ، 262 والتمهيد لِلكلوذاني 1/272 - 275 وقواطع الأدلة 1/120 ، 121 والبرهان 1/364 ، 365 والإحكام لِلآمدي 2/256 ومختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/127 ، 128 وبيان المختصر 2/229 ، 230 وجَمْع الجوامع مع البناني 1/384 والتحرير مع التيسير 1/256 ، 257 والبحر المحيط 3/193 والمستصفى 2/89 وشرْح مختصر الروضة 2/538 - 541 وإحكام الفصول /220 ، 221 وشرْح الكوكب المنير 3/252 - 255 وشرْح طلعة الشمس 1/119
(2) أَخرَجه أحمد عن معاذ - رضي الله عنه - في مسنَد الأنصار برقم ( 20996 ) .
(3) أَخرَجه أحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في باقي مسنَد المُكثِرين برقم ( 13804 ) .
{ وَلاَ أَنَا ، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْل } (1) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - { صَلُّوا خَمْسَكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُم } (2) (3) .
(1) أَخرَجه البخاري في كتاب المَرْضَى : باب تَمَنِّي المريض الموت برقم ( 5241 ) وابن ماجة في كتاب الزهد : باب التَّوَقِّي على العمل برقم ( 4191 ) وأحمد في باقي مسنَد المُكثِرين برقم ( 7176 ) كُلّهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(2) أَخرَجه الترمذي في كتاب الجمعة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برقم ( 559 ) وأحمد في باقي مسنَد الأنصار برقم ( 21140 ) ، كلاهما عن أبي أمامة - رضي الله عنه - .
(3) يُراجَع شرْح مختصر الروضة 2/538 ، 539
المطلب الخامس
الخطاب العامّ هل يدخل فيه العَبِيد ؟
اختلَف الأصوليّون فيما إذا وَرَد خطاب بلفْظ عامّ مُطْلَق ـ مِثْل : " النّاس " و" المؤمِنين " ـ هل يدخل فيه العبيد والإماء أم لا ؟
لهم في ذلك ثلاثة مذاهب :
المذهب الأول : دخولهم فيه .(1/152)
وعليه جمهور الأصوليّين والأئمة الأربعة (1) ، واختاره الشيرازي (2) وإمام الحرميْن (3) والغزالي (4) والكلوذاني (5) والآمدي (6) وابن الحاجب (7) وابن السمعاني (8) .
واحتَجّوا لِذلك بأدلة ، نَذكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى { يَأَيُّهَا النَّاس } وقوله تعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا } ..
وجْه الدلالة : أنّ الله تعالى وجَّه الخطاب فيهما لِلناس والمؤمِنين أحراراً وعبيداً ، والعبيد مِن الناس ومِن المؤمِنين قَطْعاً ، ولا مانِع يُخرِجهم
(1) يُراجَع البحر المحيط 3/181
(2) شرْح اللمع 1/267
(3) البرهان 1/356
(4) المستصفى 2/77
(5) التمهيد 1/281
(6) الإحكام 2/249
(7) مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/125
(8) قواطع الأدلة 1/114
منهما ، ولِذا وجب دخولهم فيهما ؛ لِصلاحهم له (1) .
الدليل الثاني : أنّ الخطاب مُوَجَّه إلى العاقل ، وهو شرْط مِن شروط التكليف ؛ لِصحّة وقوع الامتثال فيه ، والعبد كالحُرّ في ذلك ؛ لاشتراكهما في العقل وصحّة الفعل ، ولِذا وجب دخول العبيد في الخطاب العامّ كالأحرار تماماً بتمام .
الدليل الثالث : أنّ العبيد أحرار في الأصل عقلاء ، وإنَّما طرأ عليهم لزوم حقّ ، وهذا لا يُسقِط تَوَجُّه الخطاب إليهم ، كما لو لزم العقلاء حدّ أو قِصاص فإنَّه لا يؤثِّر في الخطاب ؛ كذلك لزوم الرِّقّ ؛ فإنَّه لا يَمنع منه ، ولِذا وجب دخولهم في الخطاب كالأحرار (2) .
المذهب الثاني : عدم دخولهم في الخطاب العامّ إلا بدليل .
وإليه ذهب بعض المالكية : كابن خويز منداد (3) (4) ، وبعض متأخِّري الشافعية (5) .
واحتَجّوا لِذلك بأدلة :
الدليل الأول : أنَّه ثبت بالدلائل القاطعة أنّ رقاب العبيد ومَنافعهم مملوكة
(1) يُراجَع : بيان المختصر 2/219 وشرْح اللمع 1/267 ، 268 والتمهيد لِلكلوذاني 1/282 وقواطع الأدلة 1/114
(2) التمهيد لِلكلوذاني 1/283 - 285 بتصرف .(1/153)
(3) ابن خويز منداد : هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله ، وقيل : محمد بن أحمد بن عَلِيّ ابن إسحاق المالكيّ ، فقيه أصوليّ مجتهِد ، صنَّف في أصول الفقه وأحكام القرآن ..
مِن مصنَّفاته : كتاب في الخلاف ، كتاب في أصول الفقه .
تُوُفِّي سَنَة 390 هـ .
مُعْجَم المؤلِّفين 8/280
(4) إحكام الفصول /223
(5) يُراجَع : شرْح اللمع 1/267 ونشْر البنود 1/218 والمسوّدة /34 والقواعد والفوائد الأصوليّة /174 والتمهيد لِلإسنوي /355 ، 356
لِسيّدهم ، فلا تُصْرَف لِغيْره ، فلو خوطب العبد بصرف تلك المَنافع إلى عَبيده لَلَزم منه التناقض ، ولِذا لا يدخل العبد في عموم الخطاب .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل بوجهيْن :
الأول : سَلَّمْنا أنّ مَنافع العبد مِلْك لِسيّده ، ولكنْ ليس على الإطلاق ؛ فإنّ السيد لا يَملك شرعاً منْع عبْده مِن عبادة ربّه ، ولِذا فإنَّه يدخل في عموم الخطاب بهذا الخصوص .
الثاني : أنَّه لو صحّ ما قلتم مِن منْع تَوَجُّه الخطاب إليه في الأمر المُطْلَق لَمَا جاز أنْ يَتوجَّه إليه الأمر الخاصّ به ، وهذا باطل باتِّفاق الأُمَّة .
الدليل الثاني : أنّ الخطاب العامّ لو كان متناوِلاً لِلعَبِيد لَوَجب عليهم الحجّ والجهاد والجمعة ؛ لِوجود الموجِب وهو الخطاب العامّ ، والتالي باطل بالاتِّفاق ، ولِذا فإنّهم لا يدخلون في عموم الخطاب .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ عدم وجوب هذه الأمور عليهم لا يوجِب عدم تَناوُل الخطاب العامّ إيّاهم ؛ لأنّه يجوز أنْ يَكون إخراجهم مِن الخطاب العامّ بدليل خارجيّ : كخروج المريض والمسافِر (1) .
المذهب الثالث : دخوله في العمومات المثبِتة لِحقوق الله تعالى ، دُون حقوق الآدميِّين .
وهو اختيار أبي بكر الرازي (2) مِن الحنفية .(1/154)
(1) يُراجَع : شرْح اللمع 1/267 ، 268 والتمهيد لِلكلوذاني 1/286 - 289 وإحكام الفصول /223 ، 224 وبيان المختصر 2/219 ، 220 والإحكام لِلآمدي 2/249 ، 250 وتيسير التحرير 1/253 ، 254
(2) أبو بكر الرازي : هو أحمد بن عَلِيّ الرّازي الحنفي ، المعروف بـ" الجصّاص " .. =
واحتَجّ لِذلك : بأنّ العبد لا يَملك فِعْل شيء مِن حقوق الآدميِّين ـ كالعقود والإقرارات وغيْر ذلك ـ إلا بإذْن سيِّده ، ولِذا فإنَّه لا يدخل في خطاب العامّ المتعلِّق بحقوق الآدميِّين ، بخلاف حقّ الله تعالى : كالعبادة ونحْوها ؛ فإنَّه لا يَحتاج إلى إذْن سيِّده ، ولِذا وجب دخوله في خطاب العامّ المتعلِّق بحقّ الله تعالى .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ منْع تَصَرُّف العبد في حقوق الآدميِّين لا يَمنع مِن دخوله في الخطاب بها وبغيْرها ثُمّ يُخَصّ بدليل : كالعموم مِن صيغته الاستغراق وإنْ جاز أنْ يخصَّص (1) .
ردّ هذه المناقَشة :
وهذه المناقَشة مردودة عندي : بأنَّه إذا كان العبد ممنوعاً مِن التصرف في حقوق الآدميّين كان تَوَجُّه الخطاب إليه بهذا الخصوص لا فائدة فيه ، ونصوص الشرع تنأى عن ذلك .
والذي أَمِيل إليه هو : ما اختاره أبو بكر الرازي ـ رحمه الله ـ صاحِب المذهب الثالث ، الذي فَرَّق بيْن حقوق الله تعالى وحقّ الآدميّين ؛
= مِن مصنَّفاته : أحكام القرآن ، شرْح مختصَر الطحاوي ، شرْح الجامع لِمحمد بن الحَسَن .
تُوُفِّي سَنَة 370 هـ .
سِيَر أعلام النبلاء 16/340 وطبقات الحنفية /27 ، 28 والفتح المبين 1/214 - 218
(1) يُراجَع : التمهيد لِلكلوذاني 1/289 ، 290(1/155)
وتُراجَع هذه المسألة في : شرْح اللمع 1/267 والتمهيد لِلكلوذاني 1/283 - 290 وإحكام الفصول /223 ، 224 والمستصفى 2/77 والبرهان /356 ، 357 وقواطع الأدلة 1/114 والإحكام لِلآمدي 2/248 ، 249 وبيان المختصر 2/219 وشرْح تنقيح الفصول /196 ، 197 والبحر المحيط 3/181 ، 182 وشرْح الكوكب المنير 3/242 ، 243 والتحرير مع التيسير 1/253 ومُسَلَّم الثبوت 1/276 ، 277 والمَحَلِّيّ مع البناني 1/434 ونشْر البنود 1/218 وإرشاد الفحول /221 ، 222
لأنّ التصرف في الأخيرة ممنوع على العبد بالإجماع إلا بإذْن سيِّده ، وإذا كان كذلك فمِن العبث تَوَجُّه الخطاب إليه ..
أمّا ما يَتعلق بخطاب الله تعالى فهو في ذلك والأحرار سواء ، فيدخل في عموم خطابهم .
وهذا المذهب الذي اختاره أبو بكْر الرازي منهج وسط بيْن المذاهب الثلاثة ، فلم يُدخِلهم على الإطلاق كما قال أصحاب المذهب الأول ، ولم يَمنعهم على الإطلاق كما قال أصحاب المذهب الثاني .
وفي ذلك يقول ابن الهمام وأمير بادشاه (1) :" فوجب التفصيل بيْن حقّ الله تعالى وغيْره ، وبهذا التفصيل انتظَم ـ أيْ صَحّ ـ منْع عموم ملكية مَنافعِه لِلسَّيِّد في جميع الأوقات ، بل يُستثنَى منها أوقات الأعمال المطلوبة منه عند الضيق ، حتى لو أَمَره في آخِر وقْت الصلاة بحيث لو أطاعه لَفاتَته وجب عليه صَرْف ذلك الوقت في الصلاة ، ولا يَجوز لِلسَّيِّد استخدامه ، فاندَفَع الأول ، أي التناقض المذكور ، فرجح قول الشيخ أبي بكر الرازي " (2) .
(1) أمير باد شاه : هو السَّيِّد الشَّريف محمد أمين بن محمود الحسينيّ ، مُفَسِّر أصوليّ فقيه ، وُلِد بخراسان ، واستوطَن مكّة ..
مِن مصنَّفاته : تيسير التحرير ، تعريب فَصْل الخطاب في التصوف .
تُوُفِّي بمكّة سَنَة 987 هـ .
أصول الفقه .. تاريخه ورجاله /474
(2) يُراجَع : التيسير مع التحرير 1/254
المطلب السادس
الخطاب العامّ لِجَمْع المذكَّر هل يعمّ الإناث ؟(1/156)
اتَّفَق العلماء على أنّ الخطاب العامّ لِكُلّ واحد مِن المذكَّر والمؤنَّث لا يعمّ الجَمْع الخاصّ بالآخَر ..
نحْو : " الرجال " ؛ فإنَّه لا يعمّ النساء ، وكذا " النساء " ؛ فإنَّه لا يعمّ الرجال .
واتَّفَقوا على أنّ خطاب العامّ إنْ وَرَد بصيغة الجَمْع وليس لِعلامة التذكير والتأنيث فيه مدخل ـ كـ" النّاس " ـ فإنَّه يدخل فيه كُلّ واحد منهما ، ونحْوه " مَن " و" ما " ؛ فإنَّه يدخل المذكَّر والمؤنَّث .
واختلَفوا فيما إذا وَرَد خطاب العامّ بلفظ الجَمْع الذي ظهرَت فيه علامة التذكير والتأنيث ـ كـ" المسلِمين " و" المؤمِنين " ـ أو مضمَراً ـ كالواو في " افعلوا " ـ هل يعمّ الإناث أم لا ؟
لهم في ذلك مذهبان :
المذهب الأول : عدم عموم الخطاب إلا بدليل منفصِل .
وهو ما عليه الجمهور والكثرة مِن الشافعية والأشاعرة وبعض المالكية والحنفية ، وقول المعتزلة ، ومذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - (1) ..
واختاره أبو الحسين البصري (2) وأبو إسحاق الشيرازي (3)
(1) يُراجَع : التمهيد لِلكلوذاني 1/290 وشرْح العضد 2/124 وبيان المختصر 2/212 ، 213 والإحكام لِلآمدي 2/244 وتشنيف المسامع 1/354 والكاشف عن المحصول 4/360
(2) المعتمد 1/250
(3) التبصرة /77 وشرْح اللمع 1/269
والغزالي (1) والفخر الرازي (2) وابن الحاجب (3) والآمدي (4) .
واحتَجّوا لِذلك بأدلة ، أَذكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : ما رُوِي عن السَّيِّدة أمّ سلمة رضي الله عنها (5) أنّها قالت : " يَا رَسُولَ اللَّهِ .. إِنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ : مَا بَالُ النِّسَاءِ لاَ يُذْكَرْنَ فِي الْقُرْآن ؟ " وفي رواية :" مَا نَرَى يُذْكَرُ إِلاَّ الرِّجَال ؟ " فأَنزَل الله تعالى { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَت ... } الآية (6) (7) ؛ فلو كان " المسلِمون " متناوِلاً المسلِمات لَمَا حَسُن عطْف قوله تعالى { وَالْمُسْلِمَت } عليه ؛ لِعدم الفائدة .
مناقَشة هذا الدليل :(1/157)
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ النساء قُلْنَ ذلك لإرادتهنّ أنْ يُذكَر النساء بلفظ يخصّهنّ كما يُذكَر الرجال ، ولم تُرِدْ أنّهنّ لا يُذكَرْنَ بحال .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقد رُدَّت هذه المناقَشة : بأنّ الظاهر يَقتضي أنّهنّ لم يُذكَرنَ بحالٍ ؛ لأنّهنّ قُلْن :" مَا بَالُ النِّسَاءِ لاَ يُذْكَرْنَ فِي الْقُرْآن ؟ " ، فمَن حَمَله على طلب الإفراد بالذِّكْر فقدْ تَرَك الظاهر ، وتَرْك الظاهر بغيْر دليل لا يجوز .
(1) المستصفى 2/79
(2) المحصول مع الكاشف 4/360
(3) مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/124
(4) الإحكام 2/244
(5) السَّيِّدة أمّ سلمة : هي أُمّ المؤمِنين السَّيِّدة هند بنت أبي أميّة سهْل بن المغيرة المخزوميّة رضي الله عنها ، مِن المهاجرات الأُوَل ، تَزَوَّجها النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - سَنَة 4 هـ ..
تُوُفِّيَت سَنَة 59 هـ .
سِيَر أعلام النبلاء 2/201 - 210
(6) سورة الأحزاب مِن الآية 35
(7) أَخرَجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برقم ( 2948 ) وأحمد في باقي مسنَد الأنصار برقم ( 25363 ) .
الدليل الثاني : أنّ أهْل العربية أَجمَعوا على أنّ مِثْل " المسلمين " ومِثْل الواو في " ضربوا " لِجَمْع المذكَّر ، فلا يَتناول النساء ، ولِذا قالوا في خطاب الجَمْع لِلرجال " افعلوا " ولِلنساء " افعَلْن " (1) .
المذهب الثاني : دخول النساء في خطاب الرجال .
وهو ما عليه الحنابلة ، وظاهِر كلام الإمام أحمد - رضي الله عنه - ، وبه قال ابن داود الظاهري (2) وبعض الحنفية وبعض الشافعية (3) .
واحتَجّوا بأدلة ، نَذكُر منها ما يلي :(1/158)
الدليل الأول : أنَّه جرَت عادة العرب على تغليب الذكور على الإناث إذا اجتمَعَا ، ولِذا يقال لِلرجال والنساء :" ادخلوا " ، وقال تعالى لآدم - عليه السلام - وحوّاء وإبليس { اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعا } (4) ، وكُلّ هذا يدلّ على أنّ صيغة المذكَّر تَتناول الإناث .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ تغليب المذكَّر على المؤنَّث صحيح إذا قُصِد الجميع وأريد أنْ يُعَبَّر عنهما بعبارة واحدة مِن العبارتَيْن ، فيَكون حينئذٍ مَجازا ، أمّا إذا لم يقصد الجميع لم يَلزم منه تَناوُله الإناث .
(1) يُراجَع : شرْح اللمع 1/269 - 272 والتمهيد لِلكلوذاني 1/295 - 298 وبيان المختصر 2/212 - 214 وشرْح العضد 2/124 ، 125 وشرْح تنقيح الفصول /198 ، 199 وقواطع الأدلة 1/115 ، 116
(2) ابن داود الظاهري : هو أبو بكر محمد بن داود بن علِيّ الأصفهاني ، وُلِد سَنَة 255 هـ ..
مِن تصانيفه : كتاب الزهرة ، كتاب الوصول إلى معرفة الأصول .
تُوُفِّي ببغداد سَنَة 297 هـ .
الأعلام 6/355 وشذرات الذهب 2/226 والنجوم الزاهرة 3/171
(3) يُراجَع : المسوَّدة /45 ، 46 وشرْح اللمع 1/269 والتمهيد لِلكلوذاني 1/290 وشرْح الكوكب المنير 3/234 ، 235 وأصول السرخسي 1/234 وتيسير التحرير 1/231
(4) سورة البقرة مِن الآية 38
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقد رُدّت هذه المناقَشة : بأنّ الأصلَ في الإطلاقِ الحقيقةُ ، ولِذا فإذا قصد الجميع ـ كما ادَّعيتم ـ كان حقيقةً فيها ، فيُستعمَل فيهما مُطلَقاً ، ولا يصار إلى المَجاز إلا بدليل .
الجواب عن هذا الجواب :
وقد رُدّ هذا الجواب : بأنَّه لا نزاع في أنّ لفْظ " المسلِمين " أو جَمْع الذكور لهم وحْدهم حقيقة ، ولو كان لهمْ ولِلنساء معاً حقيقةً أيضاً لزم الاشتراك ؛ لأنّه حقيقة في خصوص المذكَّر ، وإذا دار اللفظ بيْن المَجاز والاشتراك فالمَجاز أَوْلى .(1/159)
الدليل الثاني : أنّ النساء يَدخلنَ في عامة أوامر الشرع مِن صلاة وصيام وزكاة وغيْر ذلك مِن الأحكام ، وكثير منها وَرَد بصيغة التذكير ، فدَلّ ذلك على أنّ اللفظ حقيقة في الجميع تذكيراً وتأنيثا ؛ وإلا لَمَا شارَكْنَ في هذه الأحكام .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقِش هذا الدليل : بأنّا سَلَّمْنَا بمشارَكة النساءِ الرجالَ في كثير مِن الأحكام ، ولكنْ ليس لأنّ الخطاب يَتناولهنّ جميعاً ؛ فهناك مِن الأوامر ما لم يدخلنَ فيه ، ولِذا كانت مشارَكتهنّ بدليل خارجيّ : كما في الأمر بالجهاد والجمعة ، مع أنّ الخطاب وَرَد بصيغة جَمْع المذكَّر ، مِثْل : قوله تعالى { وَجَهِدُوا فِى اللَّه } (1) وقوله تعالى { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه } (2) .
والراجح عندي : ما عليه الجمهور أصحاب المذهب الأول مِن عدم
(1) سورة الحجّ مِن الآية 78
(2) سورة الجمعة مِن الآية 9
دخول النساء في خطاب العامّ لِجَمْع المذكَّر إلا بدليل ؛ لِقوّة حُجّتهم ، وعدم سلامة أدلة المذهب الثاني مِن المناقَشة والاعتراض .
وأَعجَبني قول حُجّة الإسلام الغزالي ـ رحمه الله ـ الذي يَدعَم ترجيحي " لأنّ الله تعالى ذكَر المسلِمين والمسلِمات والمؤمِنين والمؤمِنات ، فجَمْع الذكور متميِّز ، نعمْ إذا اجتمَعوا في الحُكْم وأراد الإخبار تُجَوِّز العرب الاقتصار على لفْظ التذكير ، أمّا ما ينشأ على سبيل الابتداء ويخصّه بلفظ " المؤمِنين " فإلحاق المؤمِنات إنَّما يَكون بدليل آخَر مِن قياس أو كوْنه في معنى المنصوص أو ما جرى مَجْراه " (1) (2) .
(1) المستصفى 2/79 ، 80(1/160)
(2) تُراجَع هذه المسألة في : شرْح اللمع 1/269 - 273 والتمهيد لِلكلوذاني 1/290 - 298 والإحكام لِلآمدي 2/244 - 248 وبيان المختصر 2/212 - 218 ومختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/124 ، 125 وشرْح تنقيح الفصول /198 ، 199 وقواطع الأدلة 1/115 ، 116 والكاشف عن المحصول 4/360 ، 361 وأصول السرخسي 1/234 وتيسير التحرير 1/231 - 235 ومُسَلَّم الثبوت 1/273 ، 274 والبحر المحيط 3/178 - 180 والتلخيص 1/404 -407 وشرْح الكوكب المنير 3/234 - 240
المطلب السابع
الخطاب الشّفاهيّ هل يعمّ الغائب والمعدوم
اتَّفَق الأصوليّون على أنّ الخطاب الوارد شفاهاً في عصْر النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كتاباً وسُنَّةً ـ نحْو : قوله تعالى { يَأَيُّهَا النَّاس } وقوله تعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا } وقوله تعالى { يَعِبَادِى } ـ ويُسَمَّى " خطاب المواجَهة " يَكون عامّاً في الحُكْم الذي تَضَمَّنه لِمَن لم يشافَه به ، سواء كان موجوداً غائباً وقْت تبليغ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أو معدوماً بالكُلِّيَّة ، فإذا وُجِد الغائب أو المعدوم تَعَلَّق الحُكْم به إنْ كان أهلاً لِذلك .
ولكنّهم اختلَفوا : هل هذا العموم باللفظ أم بدليل آخَر (1) ؟
لهمْ في ذلك مذهبان :
المذهب الأول : أنّ العموم بدليل آخَر ( الإجماع أو القياس ) .
وهو ما عليه الأكثرون مِن الشافعية والحنفية والمالكية والمعتزلة ، واختاره الشيرازي (2) والغزالي (3) وابن الحاجب (4) .
واحتَجّوا لِذلك بأدلة ، نَذكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ المخاطَبة شفاهاً بمِثْل قوله تعالى { يَأَيُّهَا النَّاس } وقوله تعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا } تَستدعي كوْن المخاطَبين موجودين متَّصِفين بالإنسانية أو الإيمان ، ومَن لم يكن موجوداً وقْت الخطاب ليس متَّصِفاً
(1) الفوائد السَّنِيَّة 2/494 بتصرف ، ويُراجَع البحر المحيط 3/184
(2) شرْح اللمع 1/282(1/161)
(3) المستصفى 2/81 ، 82
(4) مختصر المنتهى مع بيان المختصر 2/226
بشيء مِن هذه الصفات ، ولِذا فإنّ الخطاب لا يَتناوله .
الدليل الثاني : أنّ خطاب المجنون والصَّبِيّ الذي لا يُمَيِّز ممتنِع مع وجودهما وقْت الخطاب ؛ فالمعدوم أَوْلى بأنْ لا يَكون مخاطَباً بمِثْله (1) .
المذهب الثاني : عموم الخطاب الشّفاهيّ لِلغائب والمعدوم .
وهو ما عليه الحنابلة وبعض الحنفية (2) .
واحتَجّوا لِذلك بأدلة ، نَذكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاس } (3) وقوله - صلى الله عليه وسلم - { بُعِثْتُ إِلَى الأَحْمَرِ وَالأَسْوَد } (4) ..
وجْه الدلالة : أنّ الآية الكريمة والحديث الشريف كلاهما يدلّ على عموم رسالة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لِمَن عاصَره ولِمَن أَتَى بَعْده ، والقول بعدم تَناوُل الخطاب لِمَن لم يعاصره معارَضة ومنافاة لِتلك النصوص ؛ لأنّه حينئذٍ لا يَكون رسولاً إليهم ، وهو باطل .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ عدم التبليغ بهذه العمومات ممنوع ، بل الخطاب لِلبعض ـ وهم الموجودون زمن الخطاب ـ شفاهاً ، ولِلباقي بنصب الدليل على أنّ حُكْمهم كحُكْمهم .
الدليل الثاني : أنّ الصحابة - رضي الله عنهم - ومَن بعدهم ما زالوا يَحتَجّون في الأحكام الشَّرعيَّة على مَن وُجِد بَعْد النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بالآيات والأخبار الواردة على لسان النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، واحتجاجهم دليل على عموم الخطاب الشّفاهيّ لِلغائب
(1) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 2/253 وبيان المختصر 2/227
(2) يُراجَع : شرْح الكوكب المنير 3/249 وفواتح الرحموت 1/278
(3) سورة سبأ مِن الآية 28
(4) سبق تخريجه .
والمعدوم .
مناقَشة هذا الدليل :(1/162)
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - إنَّما حَكَموا بذلك لِعِلْمهم أنّ حُكْم الخطاب الشّفاهيّ يعمّ مَن بَعْده بدليل آخَر مِن نصّ أو إجماع أو قياس ، فيَكون تعميمهم لِهذا الدليل وليس لِمجرَّد الخطاب الشّفاهيّ (1) .
والرأي عندي في هذا المقام بَعْد أنْ وقَفْنا على محلّ النزاع : وهو هل العموم باللفظ أم بدليل آخَر ؟ والمذاهب وأدلّتهم : أنّ اللغة مع أصحاب المذهب الأول ؛ لأنّ خطاب العامّ المشافه لا يَتناول غيْر الحاضرين ، لكنّ عُرْف الشرع يوجِب تَناوُلهم له كما ذهب أصحاب المذهب الثاني ..
والخلاف ـ كما ذكَر الزركشي (2) ـ لفظيّ بيْن المذهبيْن ؛ لاتفاقهما على عمومه ، بمعنى أنَّه يَشمل الغائبين والمعدومين الذين سيوجَدون مِن بَعْد وفاته - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة إذا كانوا أهلاً لِذلك .
وكذا ذهب ابن دقيق العيد رحمه الله (3) في قوله :" الخلاف في أنّ خطاب المشافَهة هل يَشمل غيْر المخاطَبين قليل الفائدة ، ولا ينبغي أنْ يَكون فيه خلاف عند التحقيق ؛ لأنّه إمّا أنْ يَنظر إلى مدلول اللفظ لغةً ، ولا شكّ أنَّه لا يَتناول غيْر المخاطَب ، وإمّا أنْ يقال : إنّ الحُكْم يقصر
(1) يُراجَع : مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/127 والإحكام في أصول الأحكام لِلآمدي 2/253 255 والمستصفى 2/82 - 86 وبيان المختصر 2/228 ، 229 وشرْح اللمع 1/282 وفواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/278 - 280 والبرهان 1/270 وتيسير التحرير 1/255 وشرْح الكوكب المنير 3/250 والمحلِّيّ مع البناني 1/427 وإرشاد الفحول /222 ، 223
(2) يُراجَع تشنيف المسامع 1/352
(3) سبقَت ترجمته ص 129
على غيْر المخاطَب إلا أنْ يدلّ دليل على العموم في تلك المسألة بعينها ، وهذا باطل ؛ لِمَا عُلِم قَطْعاً مِن الشريعة أنّ الأحكام عامة إلا حيث يَرِد التخصيص " (1) .
(1) البحر المحيط 3/185 ويُراجَع إرشاد الفحول /223(1/163)
المطلب الثامن
خطاب أهْل الكتاب هل يعمّ الأُمَّة ؟
إذا وَرَد خطاب في شريعتنا ـ كتاباً أو سُنّةً ـ لأهْل الكتاب هل يعمّ أُمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - أم لا ؟
نحْو : قوله تعالى { يَأَهْلَ الْكِتَبِ لا تَغْلُوا فِى دِينِكُم } (1) وقوله تعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ ءَامِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا } (2) وقوله تعالى { يَأَهْلَ الْكِتَبِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَواءِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم } (3) ..
اتَّفَق الأصوليّون على أنَّه إذا وَرَد دليل يدلّ على مشارَكة الأُمَّة لهم كان الخطاب لِلعموم .
واختلَفوا فيما إذا لم يَرِدْ دليل : هل يعمّ خطابهم أُمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - أم لا ؟
على مذهبيْن :
المذهب الأول : عدم العموم .
وهو ما عليه الجمهور ، وقَطَع به بعضهم ، فقالوا : إنّ خطاب أهْل الكتاب لا يَشمل أُمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا بدليل منفصِل ؛ لأنّ اللفظ قاصِر عليهم (4) .
المذهب الثاني : عموم الخطاب إنْ شارَكوهم في المعنى .
(1) سورة النساء مِن الآية 171
(2) سورة النساء مِن الآية 47
(3) سورة آل عمران مِن الآية 64
(4) يُراجَع : جَمْع الجوامع مع تشنيف المَسامع 1/355 وشرْح الكوكب المنير 3/245 والبحر المحيط 3/182
وهو لِلمجد بن تيمية رحمه الله (1) .
وشرْط العموم عنده : المشارَكة في المعنى ، وإلا لم يدخلوا في عموم خطابهم .
وحُجّته : أنّ شرْعه - صلى الله عليه وسلم - عامّ لِبني إسرائيل وغيْرهم مِن أهْل الكتاب كالمؤمِنين ، وهمْ صنْف مِن المأمورين بالقرآن ، بمنزلة خطابه جلّ وعلا لأهْل أُحُد وعتابه لهم في قوله تَبارَك وتعالى { إِذْ هَمَّت طَّائفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا } (2) ونحْو ذلك ؛ فإنّ الخطاب المُواجَه به صنْف مِن الأُمَّة المدعوّة أو شخص يَشمل سائر المدْعوّين (3) .(1/164)
والراجح : ما عليه الجمهور مِن أنّ خطاب أهْل الكتاب الوارد على شريعتنا لا يعمّ أُمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا بدليل منفصِل ؛ لأنّ اللغة والشرع تُقَوِّيان وجْهتهم ، فلفْظ الخطاب لنا وليس لنا ولهم ، وشرْع مَن قَبْلنا فيه خلاف : هل هو شرْع لنا أم لا ؟
(1) سبقَت ترجمته ص 150
(2) سورة آل عمران مِن الآية 122
(3) يُراجَع : المسوَّدة /47 ، 48 وشرْح الكوكب المنير 3/246
المطلب التاسع
خطاب العامّ هل يعمّ الكفّار ؟
خطاب الشارع الوارد بلفظ عامّ ـ نحْو : قوله تَبارَك وتعالى { يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم } (1) وقوله تعالى { وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَوةٌ يَأُولِى الأَلْبَب } (2) هل يدخل الكفار في عمومه أم لا ؟
لِلإجابة عن هذا السؤال لا بُدّ مِن الرجوع إلى مسألة تكليف الكفار بفروع الشريعة ؛ لأنّ التكليف خطاب مِن الشارع مُوَجَّه لِلمسلِمين ..
فهلْ يدخل الكفار معهم فيه ؟
الأصوليّون اتَّفَقوا على أنّ الكفار مخاطَبون بالإيمان .
واختلَفوا في الخطاب الوارد في فروع الشريعة : هل يدخلون في عمومه أم لا ؟
لهمْ في ذلك مذاهب :
المذهب الأول : أنَّهم يدخلون في عموم الخطاب مُطْلَقاً في الأوامر والنواهي ( مُكَلَّفون بفروع الشريعة ) .
وهو ما عليه الشافعية والمالكية وبعض الحنفية ، وإليه ذهب الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد - رضي الله عنهم - (3) ، واختاره الشيرازي (4)
(1) سورة النساء مِن الآية 1 ، سورة الحجّ مِن الآية 1 ، سورة لقمان مِن الآية 33
(2) سورة البقرة مِن الآية 179
(3) يُراجَع : الإبهاج 1/176 ونهاية السول 1/155 وإحكام الفصول /224 والإحكام في أصول الأحكام لِلآمدي 1/144 وفواتح الرحموت 1/128
(4) شرْح اللمع 1/274
والكلوذاني (1) والباجي (2) .
واحتَجّوا لِذلك بأدلة ، نَذكُر منها ما يلي :(1/165)
الدليل الأول : قوله تَبارَك وتعالى { يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُم } (3) وقوله تعالى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْت } (4) ..
وجْه الدلالة : أنّ الخطاب وَرَد عامّاً في الأولى آمراً بعبادة الله جلّ وعلا ، والثانية بوجوب الحجّ على المستطيع ، والعامّ يبقى على عمومه ما لم يخصَّص ، ولِذا فالحُكْم يشمل عموم الناس ، ومنهم الكفار ، والكفر غيْر مانِع مِن الامتثال ؛ لإمكان إزالته كالحدث المانع مِن الصلاة ؛ إذ كُلّ منهما مانِع ممكِن الزوال ، وما قال أحد مِن المسلِمين إنّ المُحْدِث لا يُكلَّف بالصلاة ، ولِذا كان الكفار مخاطَبون بفروع الشريعة (5) .
الدليل الثاني : قوله تعالى { مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين } (6) ..
وجْه الدلالة : أنّ الكفار أجابوا عن سِرّ دخولهم جهنم ، وهو تَرْك الصلاة وإطعام الطعام ، ولم يَتَّصِلْ مِن الله عزّ وجلّ بذلك نكير عليهم في قولهم ، فدَلّ ذلك على أنّ الخطاب متوجِّه إليهم بالعبادات ، وأنّهم يعاقَبون على تَرْكها في الآخرة ، وتلك أمارة الوجوب (7) .
المذهب الثاني : أنّهم غيْر مخاطَبين بفروع الشريعة ، فلا يدخلون في
(1) التمهيد 1/298
(2) إحكام الفصول /224
(3) سورة البقرة مِن الآية 21
(4) سورة آل عمران مِن الآية 97
(5) يُراجَع : الإبهاج 1/181 ومعراج المنهاج 1/144
(6) سورة المُدَّثِّر الآيات 42 - 44
(7) يُراجَع : شرْح اللمع 1/274 ، 275 وفواتح الرحموت 1/131
عموم الخطاب .
وهو ما عليه أَكثَر الحنفية ، وهو قول لِلإمام الشافعي - رضي الله عنه - ورواية لِلإمام أحمد - رضي الله عنه - ، واختاره السرخسي (1) .
واحتَجّوا بأدلة ، نَذكر منها ما يلي :(1/166)
الدليل الأول : أنّ الكافر لو كان مخاطَباً بفروع الشريعة لَصَحَّت منه إذا أدّاها حال كفْره ، ولَوجب عليه القضاء في حال الإسلام ، وكِلاهما لا يصحّ ، ولِذا لا يجوز أنْ يُكَلَّف بفروع الشريعة ، أو بعبارة أخرى : لا يدخل في الخطاب العامّ .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ العبادة لم تصحّ منه حال كفْره لِعدم شرْطها ، وهذا لا يَمنع مِن الخطاب بها ، كالمُحْدِث يخاطَب بالصلاة ولا تصحّ منه ؛ لِعدم تَحَقُّق شرْط الطهارة .
وأمّا القضاء فإنَّه فرْض ثانٍ يجب بغيْر الخطاب الأول ، كما أنّ القضاء بَعْد الإسلام تنفير له ، خاصّةً إنْ أَسلَم وهو شيْخ كبير .
الدليل الثاني : أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمّا بعَث معاذاً - رضي الله عنه - إلى اليمن قال له { ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه ... } الحديث (2) ..
وجْه الدلالة : أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بَيَّن لِمعاذ - رضي الله عنه - حينما أَرسَله إلى دعوة غيْر المسلِمين ورَتَّب أولويّاتها ، فأمَره أنْ يدْعوهم إلى الإسلام أوّلاً ( الشهادتيْن ) فلو كان الخطاب يَتوجَّه إليهم بغيْر ذلك لأمَره أنْ يدْعوهم إليه .
(1) يُراجَع : أصول السرخسي 1/74 وفواتح الرحموت 1/128 وتيسير التحرير 2/148
(2) أَخرَجه البخاري في كتاب الزكاة : باب وجوب الزكاة برقم ( 1308 ) ومسلِم في كتاب الإيمان : باب الدعاء إلى الشهادتيْن وشرائع الإسلام برقم ( 27 ) والنسائي في كتاب الزكاة : باب إخراج الزكاة مِن بلد إلى بلد برقم ( 2475 ) ، كُلّهم عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وكذا كَتَب - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر ودَعاهما إلى التوحيد ، ولم يَدْعهما إلى غيْره ، فدَلّ ذلك على أنّهم غيْر مخاطَبين بفروع الشريعة .
مناقَشة هذا الدليل :(1/167)
وقد نوقش هذا الدليل : بأنَّه لم يَدْعهم إلى العبادات لأنّه لم يصحّ فِعْلها في حال الكفر ، فأَمَره - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَدْعوهم إلى ما يصحّ فِعْله وهو الإيمان (1) .
المذهب الثالث : أنّهم مكلَّفون بالنواهي دُون الأوامر .
ولم يُعرَف له قائل ، ولِذا ذكَروه بعبارة :" وقال قوم " ، وقرأتُ في " المسوَّدة " أنَّه رواية عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - (2) .
واحتَجّوا لِمذهبهم : بأنّ النهي هو تَرْك المنهيّ عن فِعْله ، وهو مُمكِن مع الكفر ، كما أنّ النواهي أَليَق بالعقوبات الزاجرة ، ولِذا كان خطاب النواهي يَشملهم دون الأوامر ؛ لأنّها لا تؤدَّى مع الكفر .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ الكفر مانِع مِن التَّرْك كالفعل ؛ لأنّها عبادة يثاب العبد عليها ، ولا تَصِحّ إلا بَعْد الإيمان ، كما أنّ المُكَلَّف به في النهي هو الكفّ ، وهو فِعْل (3) .
ومِمَّا تَقَدَّم أرى : أنّ خطاب الشارع الوارد بلفظ العامّ يَتناول الكفار
(1) يُراجَع التمهيد لِلكلوذاني 1/310 - 314
(2) المسوَّدة /47
(3) يُراجَع : إرشاد الفحول /31
وتُراجَع هذه المسألة في : إحكام الفصول /224 ، 225 والتمهيد لِلكلوذاني 1/298 - 315 وقواطع الأدلة 1/106 - 110 ومعراج المنهاج 1/142 - 146 والإبهاج 1/176 - 187 وشرْح مختصر الروضة 1/205 - 220 ومُسَلَّم الثبوت 1/128 - 132 والمستصفى 2/78 والمسوَّدة /46 ، 47 وتشنيف المسامع 1/352 وشرْح الكوكب المنير 3/243 ، 244 والبحر المحيط 3/182 ، 183 وحقائق الأصول 1/343 - 349 وإرشاد الفحول /30 ، 31
مُطْلَقاً ، أمراً كان أو نهياً ، وَرَد بصيغة { يَأَيُّهَا النَّاسُ } ونحْوها أو صيغة تَصلُح لِلمؤمِنين وغيْرهم ، ولا يخرج الكفار عن هذا العموم إلا بدليل ، وهو ما عليه أصحاب المذهب الأول .(1/168)
أمّا الخطاب الوارد بصيغة " يا أيّها المؤمِنين " : فإنّي مع ابن السمعاني (1) في أنَّه يعمّ الكفار أيضاً ، مع أنّ الخطاب لا يَتناولهم لفظاً ، لكنّه يَتناولهم مِن جهة أنّهم مخاطَبون بفروع الشريعة على الراجح .
(1) يُراجَع قواطع الأدلة 1/110 والبحر المحيط 3/182 ، 183
المبحث الثاني
تَعارُض (1) العموميْن
وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : القاعدة في دفْع تَعارُض العموميْن .
المطلب الثاني : الترجيح بيْن صِيَغ العموم المتعارِضة .
المطلب الثالث : تَعارُض العامّ والخاصّ .
ونُفَصِّل القول فيهما فيما يلي ..
(1) والتعارض لغةً : مصدر " تعارض " وهو المقابَلة ؛ يقال :" عارضتُ الشيء بالشيء " قابَلْتُه به ..
المصباح المنير 2/404 ولسان العرب 1/28
واصطلاحاً : ورود دليليْن يَقتضي أحدهما عدم ما يقتضيه الآخَر في محلّ واحد في زمان واحد .. التوضيح مع التلويح 2/215 ، 216
المطلب الأول
القاعدة في دفْع تَعارُض العموميْن
والقاعدة في دفْع تَعارُض العموميْن هي ذاتها في دفْع التعارض بيْن الدليليْن ، والتي اختلَفَت عند الحنفية عن غيْرهم على النحو التالي :
دفْع التعارض عند الحنفية :
ذهب الحنفية إلى أنَّه إذا تَعارَض دليلان متساويان في القوة فإمّا أنْ يُعلَم تاريخهما أوْ لا ..
فإنْ عُلِم تاريخ المتقدِّم منهما : كان منسوخاً والمتأخر ناسخا .
وإنْ لم يُعلَم تاريخهما : كان الترجيح إنْ أَمكَن ، ويُعمَل بالراجح دون المرجوح ؛ لأنّ تَرْك الراجح خلاف المعقول والإجماع .
وإذا لم يُمكِن الترجيح : فإمّا أنْ يُمكِن الجَمْع بيْنهما أو لا ..
فإنْ أَمكَن الجَمْع بيْنهما : جُمِع بقَدْر الإمكان ؛ لِلضرورة .
وإنْ لم يُمكِن الجَمْع : تَساقَطَا ؛ لأنّ العمل بأحدهما دون الآخَر ترجيح بِلا مُرَجِّح ..(1/169)
وإذا تَساقَطَا : فحينئذٍ يُرْجَع إلى ما دُونَهما مُرَتَّباً : فإذا كان التعارض بيْن الآيتيْن فالمصير إلى خبر الواحد ، وإذا كان بيْن الخبريْن فالمصير إلى أقوال الصحابة أو القياس (1) .
ومِمَّا تَقَدَّم تَكون القاعدة عند الحنفية في دفْع التعارض وفْق المراحل
(1) يُراجَع : التنقيح مع التلويح 2/217 وكشْف الأسرار لِلنسفي 2/87 ، 88 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/189 ، 190
التالية ، ولا يصار إلى المرحلة التالية إلا بَعْد عدم تَحَقُّق السابقة :
1- النسخ .
2- الترجيح .
3- الجَمْع .
4- التساقط .
5- الرجوع إلى ما دُونهما مِن الأدلة مُرَتَّبا .
وهذه القاعدة وفْق المراحل المذكورة ليست مُسَلَّمةً عند جميع الحنفية ؛ فقدْ رأَيْنَا مَن خالَف : كالسمرقندي والإسمندي حينما نَهَجَا نهْج غيْر الحنفية في دفْع التعارض (1) .
دفْع التعارض عند غيْر الحنفية :
والقاعدة في دفْع التعارض عند غيْر الحنفية مبنيّة على مرحلتيْن :
الأولى : إمكان الجَمْع بيْن الدليليْن المتعارضيْن .
الثانية : عدم إمكان الجَمْع بيْنهما .
أمّا الأولى وهي إمكان الجَمْع بيْنهما : فذهب الكثرة مِن الأصوليّين إلى أنَّه إذا أَمكَن الجَمْع بيْن العامّيْن المتعارضيْن تأويلاً أو تخصيصاً فإنَّه يَتعيَّن العمل بكُلّ واحد منهما ولو مِن وجْه ؛ لأنّ العمل بهما أَوْلى مِن تَرْك أحدهما والعمل بالآخَر (2) .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاء } قيل :" بَلَى يَا رَسُولَ
(1) يُراجَع : ميزان الأصول /689 وبذْل النظر /258
(2) يُراجَع : قواطع الأدلة 2/197 ، 198 وبذْل النظر /258 والمستصفى 2/139 - 141 وميزان الأصول /689 وإحكام الفصول /734 والمحصول 2/450 وروضة الناظر /222 وشرْح تنقيح الفصول /421 وشرْح مختصر الروضة 3/732 وتشنيف المَسامع 2/177 وشرْح الكوكب المنير 4/674(1/170)
اللَّه " قال { أَنْ يَشْهَدَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَد } (1) وقوله - صلى الله عليه وسلم - { ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَد } (2) وفي رواية { شَرُّ الشُّهَدَاءِ مَنْ شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَد } (3) ..
فظاهِر النَّصّيْن التعارضُ حينما حَدَّد الأولُ صفةَ خيْر الشهود ، وهي الشهادة قَبْل أنْ يُستشهَد ، وحَدَّد الثاني صفةَ شرّ الشهود بنَفْس الصفة ..
ولِذا ذهب العلماء إلى التأويل لِدفْع هذا التعارض ؛ جَمْعاً بيْن النَّصَّيْن ، وهروباً مِن إهمال أحدهما وإعمال الآخَر ..
فمنهم مَن قال : يُعمَل بالأول في حقوق الله تعالى ، ويُعمَل بالثاني في حقوق العباد (4) .
ومنهم مَن قال : الأول محمول على ما إذا شَهِد ولم يَعلَم صاحِب الحقّ أنّ له شاهداً ؛ فإنّ الأول شَهِد وإنْ لم يُستشهَد ؛ لِيَصِل المشهود له إلى حقّه والثاني محمول على ما إذا علِم أنّ له الحقّ بشهادة ، فلا يَجوز لِلشاهد أنْ يبدأ بالشهادة قَبْل أنْ يُستشهَد (5) .
ومثاله أيضاً : قوله تعالى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُم } (6) مع قوله تعالى { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَغِرُون } (7) ..
(1) أَخرَجه مسلِم في كتاب الأقضية برقم ( 19 ) وعبد الرزاق في المصنَّف 6/364 والطبراني في الكبير 5/232 ، كُلّهم عن زيْد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - .
(2) أَخرَجه البيهقي 5/387 وابن حبان 12/399 ، كلاهما عن ابن عُمَر رضي الله عنهما .
(3) أَخرَجه مُعَمَّر بن راشد في الجامع عن أبي هريرة - رضي الله عنه - 11/402
(4) يُراجَع : المحصول 2/450 والإبهاج 3/226 ، 227 وشرْح مختصر الروضة 3/732 ، 733
(5) قواطع الأدلة 2/197 ، 198 بتصرف ، ويُراجَع التعارض والترجيح /174 ، 175
(6) سورة التوبة مِن الآية 5
(7) سورة التوبة مِن الآية 29(1/171)
فظاهِر الآية الأُولى يَقتضي وجوب قتال المشركين أَيْنَمَا وُجِدوا ، وظاهِر الآية الثانية يَقتضي جواز أخْذ الجزية مِن كُلّ كافِر ، كتابيّاً كان أم غيْر كتابيّ .
ومنه : قول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه } (1) مع قوله قال - صلى الله عليه وسلم - { خُذُوا مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارا } (2) ..
فظاهِر الأول يقتضي وجوب قتال الناس جميعاً حتى يؤمِنوا ، وظاهر الثاني يقتضي عدم قتالهم وجواز أخْذ الجزية .
ولِذا جمَع العلماء بيْن النَّصَّيْن ـ قرآناً وسُنّةً ـ دفعاً لِلتعارض ، بأخذ الجزية مِمَّن كان كتابيّاً أو له شبهة كتاب ، وقتال مَن ليس كتابيّا (3) .
ومثاله أيضاً : قوله عليه الصلاة والسلام { مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلاَ صِيَامَ لَه } (4) مع ما رُوِي أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يَدْخل على بعض أزواجه فيقول { هَلْ مِنْ غِذَاء } فإنْ قالوا :" لاَ " قال { إِنِّي صَائِم } وفي رواية { إِنِّي إِذَنْ صَائِم } (5) ..
(1) أَخرَجه البخاري في كتاب الجهاد والسَّيْر : باب دعاء النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - الناسَ إلى الإسلام والنُّبُوَّة برقم ( 2727 ) ومسلِم في كتاب الإيمان : باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا " لا إله إلا الله محمد رسول الله " برقم ( 30 ) ، كلاهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(2) أَخرَجه الترمذي في كتاب الزكاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : باب ما جاء في زكاة البقر برقم ( 566 ) والنسائي في كتاب الزكاة : باب زكاة البقر برقم 2407 وأبو داود في كتاب الزكاة : باب في زكاة السائمة برقم ( 1345 ) ، كُلّهم عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - .
(3) يُراجَع : البرهان 2/1192 - 1194 والإبهاج 3/227(1/172)
(4) أَخرَجه الترمذي في كتاب الصوم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : باب ما جاء لا صيام لِمَن لم يَعزِم مِن الليل برقم ( 662 ) وأبو داود في كتاب الصوم : باب النِّيَّة في الصيام برقم ( 2098 ) ، كلاهما عن السيدة حفصة رضي الله عنها .
(5) أَخرَجه مُسْلِم عن السَّيِّدة عائشة رضي الله عنها في كتاب الصيام : باب جواز صوْم النافلة =
فالتعارض ظاهِر بيْن النَّصَّيْن : الأول يَمنع الصيام إذا لم تَنعقد النِّيَّة قَبْل الفجر ، والثاني يُجوِّزه بَعْد ذلك ، ولِذا حَمَلوا الأول على صيام الفرض ، وحَمَلوا الثاني على صيام النفل (1) .
والأَوْلى عندي في هذه الحالة : ما عليه الكثرة مِن الأصوليِّين ، وهو الجَمْع بيْن العامَّيْن المتعارضيْن ؛ لأنّ العمل بكُلّ واحد منهما ولو مِن وجْه أَوْلى مِن العمل بأحدهما وتَرْك الآخَر .
الثانية : إذا تَعَذَّر الجَمْع بيْن العامّيْن المتعارضَيْن : فإمّا أنْ يَكون أحدهما متقدِّماً على الآخَر ، وإمّا أنْ يَتقارَنا ، وإمّا أنْ يُجْهَل التاريخ ..
أحوال ثلاثة :
الأُولى : أنْ يُعلَم تَقَدُّم أحدهما وتأخُّر الآخَر ..
وحينئذٍ يَكون المتأخِّر ناسخاً والمتقدِّم منسوخاً ، سواء كانا معلومَيْن أو مظنونَيْن ؛ هذا إذا كان المتقدِّم قابلاً لِلنسخ ..
أمّا إذا لم يَقْبَل النسخ : فإنْ كانا معلومَيْن تَساقَطَا ووجب الرجوع إلى غيْرهما ، وإنْ كانا مظنونَيْن طلب الترجيح بيْنهما ، فيُعمَل بالأقوى (2) .
الثانية : أنْ يُعلَم مقارَنتهما معاً ..
وحينئذٍ إمّا أنْ يَكونُا معلومَيْن فيَتساقطان ويُترَك العمل بهما ويُرجَع إلى غيْرهما ، وإمّا أنْ يَكونا مظنونَيْن فيُعمَل بالأقوى منهما ترجيحا (3) .
= بنِيَّة مِن النهار قَبْل الزوال برقم ( 1951 ) .
(1) يُراجَع : الإبهاج 3/227 والتعارض والترجيح /175
(2) أصول الفقه لِلخضري /358(1/173)
(3) يُراجَع : المحصول لِلرازي 2/450 ، 451 وشرْح تنقيح الفصول /421 ، 422 وروضة الناظر /222 وبذْل النظر /258 ، 259 وتشنيف المَسامع مع جَمْع الجوامع 2/176 ، 177 والبحر المحيط 6/140 - 142 والمنهاج مع الإبهاج 3/228 ، 229 ونهاية السول 3/218 ، 219 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/200 ، 201 وشرْح طلعة الشمس 2/191 - 193
مثاله : قوله تعالى { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا } (1) مع قوله تعالى { وَأُولَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ } (2) ..
فالآية الأُولى تقتضي وجوب اعتداد المتوفَّى عنها زوْجها أربعة أَشهُر وعَشْراً ، حاملاً كانت أم غيْر حامِل ، والآية الثانية معارِضة لها حينما جَعَلَت عِدّة الحامل بوضْع حَمْلها ، تُوُفِّي عنْها زوْجها أم لا .
وقد ثبت عن ابن مسعود - رضي الله عنه - (3) أنّ الثانية متأخِّرة في النزول عن الأُولى ، فكانت ناسخةً لها في هذا القَدْر ، وأنّ الحامل المتوفَّى عنْها زوْجها عِدَّتُها وضْع حَمْلها (4) (5) .
الثالثة : أنْ يُجهَل تاريخهما ..
وحينئذٍ يُرَجَّح أحدهما على الآخَر إذا أَمكَن ..
فإنْ تَعَذَّر الترجيح أصلاً : قال بعضهم بالتساقط ، وقال آخَرون : يُخَيَّر المُكَلَّف في العمل بأيّهما شاء ، واختاره الإسمندي (6) .
ومِمَّا تَقَدَّم تَكون القاعدة في دفْع التعارض عند غيْر الحنفية وفْق
(1) سورة البقرة مِن الآية 234
(2) سورة الطلاق مِن الآية 4
(3) عبد الله بن مسعود : هو الصّحابيّ الجليل أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود بن غافل ابن حبيب الهذليّ - رضي الله عنه - ، أَسلَم في بداية الدعوة ، وكان مُلازِماً لِرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَحمِل له سِواكه ونَعْلَيْه ، شَهِد - رضي الله عنه - بدراً وهاجَر الهجرتيْن ..
تُوُفِّي بالمدينة سَنَة 32 هـ ودُفِن بالبقيع .(1/174)
أسد الغابة 3/384 والإصابة 7/209
(4) يُراجَع أصول الفقه لِلخضري /358 ، 359
(5) يُراجَع مذهب الحنفية في بذْل النظر /230 وما بَعْدها .
(6) بذْل النظر /258
المراحل التالية :
1- الجَمْع والتوفيق .
2- النسخ .
3- التساقط في حالات ثلاثة :
الأولى : إذا لم يَقبَل النسخ وكانا معلومَيْن .
الثانية : إنْ جُهِل المتأخِّر منهما وكانا معلومَيْن .
الثالثة : إنْ عُلِم مقارَنتهما معاً وكانا معلومَيْن .
4- الترجيح في حالات ثلاث :
الأولى : إذا لم يَقبل النسخ وكانا مظنونَيْن .
الثانية : إنْ جُهِل المتأخِّر منهما وكانا مظنونَيْن .
الثالثة : إنْ عُلِم مقارَنتهما معاً وكانا مظنونَيْن .
والأَوْلى عند تَعارُض الدليليْن : أنْ نَبحث أوّلاً عن تاريخهما : فإنْ عَلِمْنا المتقدِّم مِن المتأخِّر جَعَلْنَا المتأخِّر ناسخاً والمتقدِّم منسوخاً ، وإنْ لم نَعلم فإنْ أَمكَن الجَمْع بيْنهما فَعَلْنَا ، وإلا رجَعْنَا إلى الترجيح بيْنهما ؛ لِنُقَدِّم الراجح على المرجوح ، وإنْ لم نَستطع رَدَدْناهما وتَساقَطَا وتَرَكْنَا العمل بهما وانتَقلْنَا إلى غيْرهما مِن الأدلة ..
وهذه المرحلة ـ التساقط ـ كما قال الشيخ خلاّف رحمه الله : صورة فرضيّة لا وجود لها (1) .
وعلى الراجح تَكون مَراحل دفْع التعارض على النحو التالي :
1- النسخ .
2- الجَمْع والتوفيق .
(1) يُراجَع عِلْم أصول الفقه لِخلاّف /276
3- الترجيح .
4- التساقط .
5- الرجوع إلى ما دُونهما .
وحينئذٍ أَكُون قد نَهَجتُ منهجاً وسطاً بيْن الحنفية وغيْرهم ، قدَّمتُ فيه النسخ على الجَمْع والتوفيق ، وجعلتُ الترجيح مرحلةً ثالثةً ، وهي رابعة عند غيْر الحنفية ، وثانية عند الحنفية .
المطلب الثاني
الترجيح بيْن صِيَغ العموم المتعارضة(1/175)
لقد تَفاوَت الأصوليّون في حصْر حالات الترجيح بيْن صيغ العموم المتعارضة ، وقد جَمَعْتُهَا في تسْع حالات ، غيْرَ أنِّي أَفردتُ تَعارُض العامّ والخاصّ ؛ لأنّ سِوَاها كان تَعارُض عامّ مع عامّ ..
وها هي حالات ترجيح العامّ على العامّ :
الحالة الأولى : أنْ يَكون أحدهما عامّاً مخصَّصاً ، والآخَر غيْر مخصَّص ..
فالترجيح لِلعامّ الذي لم يخصَّص لِعدم تَطَرُّق الضَّعف إليه ، ورَجَّح ابن السبكي العامّ الذي خُصِّص (1) .
الحالة الثانية : أنْ يَكون أحدهما وَرَد على سبب ، والآخَر لم يَرِد على سبب ..
فالذي وَرَد على غيْر سبب مختلَف في عمومه ..
وقال الصفي الهندي :" ومِن المعلوم أنّ هذا الترجيح إنَّما يتأتى بالنسبة إلى ذلك السبب ، وأمّا بالنسبة إلى سائر الأفراد المندرِجة تحْت العامَّيْن فلا " .
ولم يوافِقه الشوكاني في ذلك ؛ محتجّاً بأنّ الخلاف في عموم الوارد على سبب هو كائن في سائر الأفراد (2) .
(1) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 4/222 وشرْح العضد 2/314 والمحصول لِلرازي 2/463 وإرشاد الفحول /463 وجَمْع الجوامع مع البناني 2/367
(2) يُراجَع : شرْح اللمَع 2/196 والبرهان 2/1194 ، 1195 وإرشاد الفحول /463 ونشْر البنود 2/289
الحالة الثالثة : أنْ يَكون أحدهما عامّاً مِن وجْه عن الآخَر ويَنقص عنه مِن وجْه ..
وضابِط الأعمّ والأخصّ مِن وجْه : أنْ يوجَد كُلّ واحد منهما مع الآخَر وبدُونه .
وقد وُجِد الأول في الأختيْن الحُرَّتَيْن بدون المِلْك ، ووُجِد الثاني في المملوكات الأجنبيّات بدُون الإخوة ، واجتَمَعَا معاً في الأختيْن المملوكتَيْن ، فهُمَا ـ حينئذٍ ـ كُلّ واحد منهما أَعَمّ مِن الآخَر مِن وجْه وأَخَصّ مِن وجْه ، ولا رجحان لأحدهما على الآخَر مِن هذا الوجه ، بل مِن خارج ..
ولِذا اختلَف العلماء في نكاح الأختيْن بمِلْك اليمين : فالمشهور مِن المذاهب التحريم ، وقيل : الإباحة ، وقيل بالتوقف .(1/176)
وهذه الحالة هي المعَبَّر عنها بقاعدة ( إذا تَعَارَض المُحَرِّم والمبيح رجح المُحَرِّم ) (1) .
الحالة الرابعة : أنْ يَكون في أحدهما ما يقتضي التعليل في صيغة التعميم والآخَر ليس فيه اقتضاء التعليل ..
فيُرَجَّح العامّ الذي وَرَد فيه ما يقتضي التعليل ؛ لأنّ التعليل في صيغة العموم مِن أَقوَى الدلالات على ظهور قصْد التعميم ..
ولِذا قال بعضهم : إنّه نصّ يَمتنع تخصيصه (2) .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوه } (3) مع ما رُوِي عنه مِن
(1) شرْح تنقيح الفصول /421 ، 422 بتصرف ، ويُراجَع : المستصفى 2/148 ، 149 وإحكام الفصول /749 وشرْح طلعة الشمس 2/199 والمنثور 1/125
(2) البرهان 2/1195 ، 1196 بتصرف وشرْح مختصر الروضة 3/337 ، 338
(3) أَخرَجه البخاري في كتاب الجهاد والسَّيْر : باب لا يعذّب بعذاب الله برقم ( 2794 ) والترمذي في كتاب الحدود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : باب ما جاء في المرتَدّ برقم ( 1378 ) والنسائي في كتاب تحريم الدم : باب الحُكْم في المرتَدّ برقم ( 3991 ) ، كُلّهم عن ابن عباس رضي الله عنهما .
نهْيه - صلى الله عليه وسلم - عن قتْل النساء والصبيان (1) ..
فالحُكْم الأول مُعَلَّل بعلة ، وهي : تبديل الدِّين ( الردة ) ، ولِذا كان الترجيح فيه أَقوَى ؛ لأنّ الانقياد إلى ما فيه عِلَّة أَوْلى مِن الانقياد إلى ما ليس فيه عِلَّة (2) .
الحالة الخامسة : أنْ يَكون أحدهما عامّاً في قوله - صلى الله عليه وسلم - ، والآخَر عامّاً في فِعْله - صلى الله عليه وسلم - ..
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ يُقْتَلْ مُؤْمِنٌ بِكَافِر } (3) مع ما رُوِي عنه أنَّه أقاد مُسْلِماً بذِمِّيّ (4) .
والراجح عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - هو الفعل ، وعند غيْره القول (5) .(1/177)
الحالة السادسة : أنْ يَكون أحدهما مِن قَبِيل الشرط والجزاء ، والآخَر مِن قَبِيل النكرة المنفيَّة ..
نحْو : " مَن يكرمني أكرمه " ؛ فإنَّه يرجح على النكرة المنفيَّة ؛ لِكوْن الحُكْم فيه معلَّلاً ، والمعلَّل أَوْلى مِن غيْر المعلَّل .
وقد ترجح النكرة المنفيّة على العموم لِقوّة دلالتها على العموم ؛ لأنّ خروج الواحد منها يفيد خُلْفاً في الكلام ؛ ألاَ تَرى أنّك إذا قُلْتَ :" لا رَجُل
(1) أَخرَج ذلك البخاري في كتاب الجهاد والسَّيْر : باب قتْل الصبيان في الحرب برقم ( 2791 ) ومسلِم في كتاب الجهاد والسَّيْر : باب تحريم قتْل النساء والصبيان في الحرب برقم ( 3279 ) والترمذي في كتاب السَّيْر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : باب ما جاء في النهي عن قتْل النساء والصبيان برقم ( 1494 ) ، كُلّهم عن ابن عُمَر رضي الله عنهما .
(2) يُراجَع الإبهاج 3/247
(3) أَخرَجه أبو داود 3/80 وابن خزيمة 4/26 عن عبْد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، والترمذي 4/24 والحاكم 2/153 عن عَلِيّ كرَّم الله وجْهه .
(4) أَخرَجه البيهقي 8/31 والدارقطني 3/135 عن عبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما .
(5) يُراجَع شرْح مختصر الروضة 3/736 ، 737
في الدار " وكان فيه رجُل فإنَّه يُعَدّ كَذِباً ، بخلاف مقابِله (1) .
الحالة السابعة : أنْ يَكون أحدهما مِن قَبِيل الشرط والجزاء ، والآخَر مِن قَبِيل أسماء الجموع ..
فيُرَجَّح العامّ الذي مِن قَبِيل الشرط والجزاء على الآخَر الذي مِن قَبِيل أسماء الجموع ؛ لأنّ أَكثَر مَن خالَف صِيَغ العموم وافَق على صيغة الشرط والجزاء ، كما أنّ الدلالة فيه مشيرة إلى الحُكْم والعلة ، وليس كذلك ما كان مِن قَبِيل أسماء الجموع .
الحالة الثامنة : أنْ يَكون أحدهما مِن قَبِيل الجَمْع المُعَرَّف ، والآخَر مِن قَبِيل الجَمْع المُنَكَّر ..(1/178)
فيُرَجَّح الجَمْع المعرَّف على الجَمْع المُنَكَّر ؛ لأنّ بعض مَن وافَق على عموم الجَمْع المعرَّف خالَف في المُنَكَّر ، ولأنّ المعرَّف لا يَدخله الإبهام ، ولِذا كان أَوْلى بالترجيح .
الحالة التاسعة : أنْ يَكون أحدهما اسم جَمْع مُعَرَّف ، والآخَر اسم جنْس دَخَله الألِف واللام ..
فيُرَجَّح اسم الجَمْع ؛ لإمكان حَمْل اسم الجنس على الواحد المعهود ، بخلاف الجَمْع المعروف ، فكان أَقوَى عموما (2) .
(1) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 4/222 وشرْح العضد 2/314 وشرْح طلعة الشمس 2/198
(2) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 4/223 وشرْح العضد 2/314 وشرْح طلعة الشمس 2/198 ، 199
المطلب الثالث
تَعارُض العامّ والخاصّ
والمراد بالعامّ والخاصّ هنا العموم والخصوص مُطْلَقاً وليس مِن وجْه دُون وجْه ، والذي سبق الحديث عنه فيما تَقَدَّم في ترجيح صِيَغ العموم .
مثاله : قوله تَبارَك وتعالى { وَقَتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة } (1) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { وَلاَ تَقْتُلُوا الصِّبْيَان } (2) ..
فالأول عامّ مُطْلَق في وجوب قتال المشرِكين صغيرهم وكبيرهم ، والثاني خاصّ بالنهي عن قتْل صبيان المشرِكين ..
وهُنَا تَعارَض الدليلان : الأول يوجِب قتْل المشرِكين مُطْلَقاً ، والثاني يُحَرِّم قتْل الصبيان (3) .
ومثاله أيضاً : ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - (4) أنّ سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَّم رجلاً الصلاة فقال { كَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآن } (5) مع قوله - صلى الله عليه وسلم -
(1) سورة التوبة مِن الآية 36
(2) أَخرَجه أبو داود عن أنس - رضي الله عنه - في كتاب الجهاد : باب في دعاء المشرِكين برقم ( 2247 ) .
(3) يُراجَع شرْح تنقيح الفصول /422(1/179)
(4) أبو هريرة : هو الصّحابيّ الجليل عبد الرحمن بن صخْر الدّوسيّ - رضي الله عنه - ، أسلَم أول سَنَة سبْع عام خيبر وشَهِدها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولازَمَه يَدُور معه حيث دار ، ولِذا حَفِظ عنه - صلى الله عليه وسلم - ما لم يُلحَق به في كثْرته ..
تُوُفِّي سَنَة 58 هـ .
الاستيعاب لابن عبد البر 4/1768 - 1772 وطبقات ابن سعْد 2/362
(5) أَخرَجه البخاري في كتاب الأذان : باب أمْر النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يُتِمّ ركوعه بإعادة الصلاة برقم ( 751 ) والنسائي في كتاب الافتتاح : باب فرْض التكبيرة الأولى برقم ( 874 ) وأبو داود في =
{ لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب } (1) ..
فالأول عامّ في وجوب أيّ قراءة مِن القرآن في الصلاة ، والثاني خاصّ في وجوب قراءة سورة الفاتحة ..
وهُنَا تَعارَض الدليلان : العامّ الموجِب أيّ قراءة مِن القرآن ، والخاصّ الموجِب لِقراءة سورة الفاتحة (2) .
ما المَخرَج حينما يَتعارض دليلان ـ كما تَقَدَّم ـ أحدهما عامّ والآخَر خاصّ : هل يبقى العامّ على عمومه أم يُخصَّص أم نَتوقف ؟
خلاف بيْن الأصوليِّين ، نَستعرضه فيما يلي ..
مذاهب الأصوليِّين في تَعارُض العامّ :
قَبْل بيان مذاهب الأصوليِّين في تَعارُض العامّ والخاصّ أَرَى أنْ أوضِّح أوّلاً القاعدة التي ساروا عليها عند اختلافهم ، والتي ترجع إلى العِلْم بتاريخهما أو عدم العلم به ..
حالتان :
الحالة الأولى : أنْ يُعلَم تاريخهما ..
وله صورتان :
الصورة الأولى : أنْ يُعلَم تَقَدُّم العامّ وتأخُّر الخاصّ ..
ولِلأصوليِّين فيها ثلاثة مذاهب :
المذهب الأول : تقديم الخاصّ على العامّ ، أيْ تخصيص العامّ .
= كتاب الصلاة : باب صلاة مَن لا يقيم صُلْبَه في الركوع والسجود برقم ( 730 ) .(1/180)
(1) أَخرَجه مسلِم في كتاب الصلاة : باب وجوب قراءة الفاتحة في كُلّ ركعة برقم ( 595 ) والترمذي في كتاب الصلاة : باب ما جاء أنَّه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب برقم ( 230 ) والنسائي في كتاب الافتتاح : باب إيجاب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة برقم ( 901 ) ، كُلّهم عن عبادة ابن الصامت - رضي الله عنه - .
(2) يُراجَع الإبهاج 3/345
وهو ما عليه الكثرة مِن الأصوليِّين مِن غيْر الحنفية ، واختاره ابن السمعاني (1) والكلوذاني (2) والفخر الرازي (3) والآمدي (4) وابن الحاجب (5) والبصري (6) .
المذهب الثاني : نسْخ الخاصّ العامَّ بقَدْر الخاصّ ويبقى الباقي .
وهو ما عليه الحنفية وكثير مِن المعتزلة .
وفرَّقوا بيْن ورود الخاصّ قَبْل حضور وقْت العمل بالعام ـ فإنَّه يَكون بياناً لِلتخصيص ـ ووروده بَعْد حضور وقْت العمل به ؛ فإنَّه يَكون بياناً لِلنسخ (7) .
المذهب الثالث : أنّهما يَتعارضان .
وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني وبعض الظاهرية (8) .
الصورة الثانية : أنْ يُعلَم تَقَدُّم الخاصّ وتأخُّر العامّ ..
وفيها مذهبان :
المذهب الأول : بناء العامّ على الخاصّ ، أيْ يخصِّصه .
وهو ما عليه أصحاب المذهب الأول في الصورة الأولى .
المذهب الثاني : نسْخ الخاصّ به .
(1) قواطع الأدلة 1/198
(2) التمهيد 2/150 ، 151
(3) المحصول 2/451
(4) الإحكام لِلآمدي 4/222
(5) مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/148
(6) المعتمد 2/176
(7) يُراجَع : ميزان الأصول /324 وبذْل النظر /231 ، 234 والمحصول لِلرازي /403 والبحر المحيط 3/143
(8) يُراجَع : قواطع الأدلة 1/198 ، 199 والبحر المحيط 3/143
وهو ما عليه أصحاب المذهب الثاني في الصورة الأولى .
الحالة الثانية : أنْ يُجهَل تاريخهما ..
وفيها مذهبان :
المذهب الأول : بناء العامّ على الخاصّ ، أيْ يخصِّصه .
وهو ما عليه غيْر الحنفية أصحاب المذهب الأول فيما تَقَدَّم .
المذهب الثاني : التوقف .(1/181)
وهو ما عليه الحنفية (1) .
ومِمَّا تَقَدَّم يتضح : أنّ غيْر الحنفية عند تَعارُض العامّ والخاصّ يبْنون العامّ على الخاصّ أو يَقضون بالخاصّ على العامّ مُطْلَقاً ، تَقَدَّم العامّ أو تأخَّر ، أو العكس حينما يَتَقدَّم الخاصّ أو يتأخر ، وكذا إنْ جُهِل تاريخهما ولم يُعلَم تَقَدُّم أحدهما على الآخَر .
أمّا الحنفية : فإنّهم يقولون بالنسخ فيما إذا تَقَدَّم أحدهما على الآخَر ، والتوقف إنْ جُهِل تاريخهما .
ولِذا يُمكِن حصْر مذاهب الأصوليّين في تَعارُض العامّ والخاصّ في مذهبيْن :
المذهب الأول : لِلجمهور ، أعني غيْر الحنفية ..
وعندهم : يُبْنَى العامّ على الخاصّ مُطْلَقاً كما تَقَدَّم .
المذهب الثاني : لِعامّة الحنفية ..
وعندهم : يَنسخ المتأخِّرُ المتقدِّمَ إنْ عُلِم تاريخهما ، وإنْ جُهِل توقَّفوا .
(1) يُراجَع : قواطع الأدلة 1/198 ، 199 وبذْل النظر /233 والتمهيد لِلكلوذاني 2/151 والمحصول لِلرازي 2/453 والبحر المحيط 3/143 وكشْف الأسرار لِلنسفي 1/176 والتنقيح مع التلويح 1/67 وتيسير التحرير 1/271 ، 272 وميزان الأصول /323 - 327
ونَستعرض فيما يلي أدلة المذاهب مع المناقَشة والترجيح :
أوّلاً : أدلة المذهب الأول :
استدَلّ أصحاب المذهب الأول القائلون ببناء العامّ على الخاصّ مُطْلَقاً بأدلة ، أَذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ العمل بالعامّ دون الخاصّ يَلزَم منه إبطال دلالة الخاصّ وتعطيله ، ولا يَلزَم مِن العمل بالخاصّ تعطيل العامّ ، بل تأويله وتخصيصه ، ولِذا كان العمل به أَوْلى ؛ لأنّ فيه جَمْعاً بيْن الدليليْن ، أمّا العمل بالعامّ ففيه إهمال لأحد الدليليْن ، والإعمال أَوْلى مِن الإهمال (1) .
الدليل الثاني : أنّهما دليلان أحدهما عامّ والآخَر خاصّ ، فإذا تَعارَضَا قُدِّم الخاصّ ..(1/182)
أصْله إذا كان هو المتأخِّر يبين هذا أنّ ما أَوجَب تخصيص العموم لا فَرْق بيْن أنْ يَتقدم أو يتأخر : كالقياس ؛ لا فَرْق بيْن أنْ يَكون مستنبَطاً مِن أصْل متقدِّم أو مِن أصْل متأخِّر في أنَّه يخصّص ، كذلك ها هنا ، بل هذا أَوْلى ؛ لأنّ الخبر الخاصّ أَقوَى مِن القياس ، ولِذا يُقَدَّم عليه ، وإذا جاز التخصيص بالقياس كان أَوْلى ما هو أَقوَى منه (2) .
ثانياً : أدلة المذهب الثاني :
والحنفية أصحاب المذهب الثاني ـ القائل بالنسخ عند العِلْم بتاريخهما ، والتوقف عند عدم العِلْم ـ رأيتُ لهم أدلّةً لِلأخذ بالنسخ وأدلّةً لِلتوقف ، ورأيتُ لابن الهمام قولاً في حالة التوقف ..
(1) الإحكام في أصول الأحكام لِلآمدي 4/222 بتصرف ، ويُراجَع : قواطع الأدلة 1/201 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 4/210
(2) التمهيد لِلكلوذاني 2/152
ونَستعرضها جميعاً فيما يلي :
أدلة الحنفية في أنّ المتأخِّر يَنسخ المتقدِّم :
استدَلّ الحنفية على أنّ العامّ إذا عارَض الخاصّ وعُلِم تاريخهما كان المتقدِّم منسوخاً والمتأخِّر ناسخاً بأدلة ، أَذكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ النَّصّ العامّ المتأخِّر يوجِب العِلْم قَطْعاً ، والخاصّ كذلك ، وحُكْمهما مختلِف ، فوجب أنْ يَكون المتأخِّر ناسخاً لِلمتقدِّم عند وقوع التعارض مِن حيث الظاهر ؛ دفعاً لِلتناقض والتعارض عن دلائل الله تعالى ، ويَكون هذا عملاً بالدليليْن الخاصّ والعامّ جميعا (1) .
مناقَشة هذا الدليل :
وأناقِش هذا الدليل : بأنِّي لا أُسلِّم لكم أنّ القول بنسخ المتأخِّر إعمال لِلدليليْن العامّ والخاصّ ، وإنَّما هو في الحقيقة إعمال لِدليل واحد فقط ، وهو المتأخِّر أي الناسخ ، أمّا المتقدِّم ـ وهو المنسوخ ـ فلا يجوز العمل به إلا على أنَّه دليل على النسخ ..
أمّا القول بالتخصيص فهو الذي يَتحقَّق فيه إعمال الدليليْن ، وليس ما ادَّعيتم .(1/183)
الدليل الثاني : ما رُوِي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال :" كُنَّا نَأْخُذُ بِالأَحْدَثِ فَالأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " (2) ..
وجْه الدلالة : أنّ الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا مع سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ورودها على فِعْل واحد أَكثَر مِن مَرَّة يَكون تَمَسُّكهم بالأحدث ، وهو آخِرها وروداً ، وتَرْك العمل بما قَبْلها ، وهو عيْن النسخ ، فدَلّ ذلك على
(1) ميزان الأصول /325 ، ويُراجَع بذْل النظر /232
(2) أَخرَجه الدارمي 2/16 ومالك /294 وابن حبان 8/329 والبيهقي 4/240
أنّ الخاصّ المتقدِّم يُنسَخ بالعامّ المتأخِّر .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم لكم بأنّ معنى الأخذ بالأحدث هو نسْخ المتقدِّم ، وإنَّما معناه أنْ نأخذ بالأحدث فالأحدث على حسب ما يقتضيه ، وما مِن مقتضى العموم أنْ يَنسخ الخصوص ثُمّ نَحمله على لفظَيْن خاصّيْن لا يُمكِن استعمالهما فإنَّه يُقَدَّم الأخير ، فأمّا ها هنا فيُمكِن استعمالهما معاً فيُبنَى العامّ على الخاصّ .
الدليل الثالث : أنّ تَرَدُّد الخاصّ المتقدِّم بيْن كوْنه منسوخاً ومخصّصاً يَمنع مِن كوْنه مخصّصاً ؛ لأنّ التَّرَدُّد أمارة الشَّكّ واللبس ، والبيان لا يَكون مُلبسا .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ منْع التَّرَدُّد مِن كوْنه مخصّصاً لَيَمنعنّ التَّرَدُّد بيْن كوْن العامّ مخصّصاً أو ناسخاً مِن كوْنه ناسخاً ، ثُمّ إنّه عندنا لا يَتردد ، بل قد صحّ كوْنه مخصّصا (1) .
أدلَّة الحنفية في التوقف :(1/184)
احتَجّ الحنفية في القول بالتوقف : بأنّ العامّ المتأخِّر يَنسخ الخاصّ ويُخَصّ بالخاصّ المقارن والمتأخِّر ، ويجوز أنْ يَكون العامّ متأخِّراً فيَنسخ الخاصّ ، ويجوز أنْ يَكون الخاصّ متأخِّراً فيوجِب خروج ما تَناوَله عن العامّ ، وليس أحدهما أَوْلى مِن الآخَر ، ولِذا وجب التوقف حتى يَظهَر دليل يُرَجِّح أحدهما على الآخَر (2) .
(1) يُراجَع التمهيد لِلكلوذاني 2/153 - 156
(2) يُراجَع : بذْل النظر /233 ، 234 وكشْف الأسرار لِلنسفي 1/176 وميزان الأصول /324
مناقَشتي لِهذا الدليل :
وهذا الدليل لَمّا كان مبنيّاً على القاعدة عند الحنفية ، وهي أنّ المتأخِّر يَنسخ المتقدِّم ؛ وحيث إنّه لم يُعلَم تاريخهما فيُمكِن أنْ يَنسخ كُلّ منهما الآخَر فيَتعارضا فنَتوقف ..
وعندي : أنّ الأصل الذي بُنِي عليه التعارض والمساواة ـ وهو النسخ ـ فيه نظر ، بل إنّ غيْر الحنفية يرون في مِثْل هذه الحالة أنْ يُبنَى العامّ على الخاصّ ، وأدلّتهم في ذلك تُعَدّ ترجيحاً لِتخصيص العامّ على النسخ الذي هو موجِب التساوي بيْن العامّ والخاصّ .
وقد خالَف ابن الهمام الحنفية عند تَعارُض العامّ والخاصّ ولم يوجَد مُرَجِّح لأحدهما على الآخَر ، فلم يَنسخ ولم يَتوقف ، وإنَّما خَصَّص العامّ ، وأمّا إذا وُجِد مُرَجِّح فإنَّه يقدِّم الراجح على المرجوح (1) .
والأَوْلى عندي في هذه المسألة : ما عليه الجمهور عند تَعارُض العامّ والخاصّ يُقضَى بالخاصّ على العامّ فيخصّص مُطْلَقاً ، تَقَدَّم العامّ أم تأخَّر عُلِم تاريخهما أم لم يُعلَم ؛ وذلك لِقوة أدلّتهم ، وعدم سلامة أدلة الحنفية مِن الرَّدّ والمناقَشة .
(1) يُراجَع تيسير التحرير 3/138 ، 139
المبحث الثالث
العامّ بَعْد تخصيصه
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : العامّ بَعْد تخصيصه .
المطلب الثاني : حُجّية العامّ المخصَّص .
المطلب الثالث : الاستدلال بالعامّ قَبْل البحث عن المخصّص .(1/185)
المطلب الرابع : أَقَلّ العامّ الباقي بَعْد التخصيص .
المطلب الأول
العامّ بَعْد تخصيصه
والحديث في هذا المقام أرى أنْ أقسِّمه على النحو التالي :
1- الأصل الذي بُنِي عليه .
2- تحرير محلّ النزاع .
3- مذاهب الأصوليّين .
4- أدلة المذاهب مع الترجيح .
ونفصِّل القول فيها فيما يلي ..
أوّلاً - الأصل الذي بُنِي عليه الخلاف في العامّ بَعْد تخصيصه :
ذَكَر السمرقندي أنّ الخلاف في العامّ بَعْد تخصيصه مبنيّ على شرْط اللفظ العامّ : هل هو الاستيعاب والاستغراق أو الاجتماع ؟
فمَن قال " شرْطه الجَمْع " : فما دامت الصيغة متناوِلةً لِجَمْع مُطْلَق وهو الثلاثة فصاعداً فهي عامّ حقيقةً ، وإن انتهى الخصوص إلى الاثنيْن والواحد لا يبقى عامّاً حقيقة .
ومَن قال " إنّ شرْطه الاستيعاب " : فمتى خُصّ واحد مِن الجملة لا يبقى عامّاً حقيقةً ؛ لأنّ حقيقة اسم العامّ أنْ يَكون متناوِلاً لِكُلّ المسمَّيات فإذا لم يَتناول مسمىً واحداً لا يبقى كُلاًّ ، فلا يبقى عامّاً ضرورة (1) .
ثانياً - تحرير محلّ النزاع :
لا خلاف بيْن الأصوليّين في أنّ العامّ الذي أريد به الخصوص مَجاز
(1) ميزان الأصول /288 ويُراجَع كشْف الأسرار لِلبخاري 1/622 ، 623
قَطْعاً ؛ لأنّه مستعمَل في بعض مدلوله ، إلا إذا قُلْنَا : إنّ دلالة العامّ على كُلّ فرْد مِن أفراده دلالة مطابقة ، فيحتمل أنْ يَكون حقيقةً في كُلّ فرْد فيطرقه الخلاف ، وهو بعيد .. كذا ذكَر الزركشي (1) .
كما أنَّه لا خلاف بيْنهم في أنّ العامّ إذا دخَله التخصيص كان مُجمَلاً في الباقي إنْ كان المخصّص عنه مجهولا (2) .
واختلَفوا في اللفظ العامّ الذي خُصّ بدليل عقليّ أو شرعيّ أو استثناء مُتَّصِل به أو منفصِل عنه : هل يبقى حقيقةً في الباقي بَعْد التخصيص أم لا ؟
لهم في ذلك مذاهب ، نَذكرها فيما يلي ..
ثالثاً - مذاهب الأصوليّين في العامّ بَعْد تخصيصه :(1/186)
لقد تَفاوَت الأصوليّون في حصْرهم لِلمذاهب في العامّ بَعْد تخصيصه : فمنهم مَن حَصَرها في ثلاثة ، ومنهم مَن حَصَرها في أربعة ، ومنهم مَن حَصَرها في خمسة ، ومنهم مَن حَصَرها في ثمانية ، ومنهم مَن حَصَرها في تسعة ..
فذهب الشيرازي إلى أنَّها ثلاثة ، وهي :
المذهب الأول : أنَّه حقيقة فيما بقي ، واختاره .
المذهب الثاني : أنَّه مَجاز .
المذهب الثالث : أنَّه إنْ خُصّ بلفظ مُتَّصِل لم يَصِرْ مَجازاً ، وإنْ خُصّ بمنفصِل صار مَجازا (3) .
(1) يُراجَع البحر المحيط 3/264
(2) يُراجَع : البرهان 1/410 والمنخول /153
(3) يُراجَع التبصرة /122
وتَبِعه في هذا الحصر الباجي (1) وابن قدامة (2) والبيضاوي (3) والقرافي (4) .
وقسَّمها البصري إلى ثلاثة أيضاً ، إلا أنَّها في الواقع خمسة :
الأول : أنَّه حقيقة فيما بقي .
الثاني : أنَّه مَجاز .
الثالث : أنَّه يَصِير مَجازاً في حالٍ دُون حال ..
وقَسّم هذا المذهب إلى أقوال ثلاثة :
القول الأول : إنْ خُصّ بدليل منفصِل صار مَجازاً ، وإلا فلا ، واختاره .
القول الثاني : إنْ خُصّ بدليل غيْر لفظيّ صار مَجازاً ، وإلا فلا .
القول الثالث : إنْ خُصّ بشرط أو استثناء أو تَقَيَّد بصفة لم يَصِرْ مَجازا (5) .
وتَبِعه في هذا الحصر أو نحْوه الكلوذاني (6) والسمرقندي (7) وابن السمعاني (8) والفخر الرازي (9) .
وقد حصَرها ابن برهان في أربعة :
الأول : أنَّه مَجاز .
(1) إحكام الفصول /245
(2) روضة الناظر مع نزهة الخاطر 2/133
(3) منهاج الوصول مع الإبهاج 2/134
(4) شرْح تنقيح الفصول /226
(5) يُراجَع المعتمد 1/262
(6) التمهيد 3/138 ، 139
(7) ميزان الأصول /288 ، 289
(8) قواطع الأدلة 1/175
(9) المحصول 1/400
الثاني : أنَّه لا يصير مَجازا .
الثالث : أنّ المخصّص منفصِلاً صار مَجازا (1) .
الرابع : أنّ التخصيص بغيْر الاستثناء صار مَجازا .
وقسّمها إمام الحرميْن إلى أربعة ، وهي :(1/187)
الأول : الإجمال .
الثاني : أنَّه حقيقة .
الثالث : أنَّه مَجاز .
الرابع : أنَّه اشترك في اللفظ موجِب الحقيقة والمَجاز ، واختاره (2) .
وقسّمها الغزالي في " المستصفى " إلى أربعة ، وهي :
الأول : أنَّه حقيقة .
الثاني : أنَّه مَجاز .
الثالث : أنَّه حقيقة في تَناوُله ، مَجاز في الاقتصار عليه .
الرابع : أنَّه مَجاز إنْ خُصّ بدليل منفصِل (3) .
وقسّمها في " المنخول " إلى خمسة ، وهي :
الأول : أنَّه حقيقة في الباقي ، مَجاز في الانحصار عليه ، واختاره .
الثاني : أنَّه مَجاز .
الثالث : أنَّه حقيقة .
الرابع : نَتمسّك به في واحد ، ولا نَتمسَّك به جميعا .
الخامس : مُجمَل لا نَتمسَّك به (4) .
(1) الوصول إلى الأصول 1235 ، 236
(2) البرهان 1/406
(3) المستصفى 1/54 ، 55
(4) المنخول /153
وحصَرها الآمدي وابن الحاجب في ثمانية :
المذهب الأول : أنَّه مَجاز مُطْلَقا .
وهو ما عليه جمهور الشافعية والمعتزلة وبعض الحنفية والمالكية والحنابلة (1) ، واختاره الكلوذاني (2) وابن الحاجب (3) والبيضاوي (4) .
المذهب الثاني : أنَّه حقيقة في الباقي مُطْلَقاً ، سواء كان المخصّص ، مُتَّصِلاً أم منفصِلا ، دليلاً سمعيّاً أم عقليّاً .
وهو ما عليه الحنابلة وكثير مِن الشافعية والحنفية (5) ، وهو قول الإمام الشافعي والإمام مالك رضي الله عنهما (6) ، واختاره القاضي أبو يعلى (7) وابن السمعاني (8) .
المذهب الثالث : أنَّه يَصِير مَجازاً إنْ كان المخصّص مستقِلاًّ بنَفْسه .
وهو قول أبي الحسين البصري (9) ، واختاره الفخر الرازي (10) والكرخي والإسمندي (11) .
المذهب الرابع : أنَّه حقيقة في الباقي إنْ خُصّ بمُتَّصِل ، وإلا فمَجاز .
(1) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 2/209 وبيان المختصر 2/132 ، 133
(2) التمهيد 2/138
(3) مختصر المنتهى مع بيان المختصر 2/132
(4) منهاج الوصول مع الإبهاج 2/134(1/188)
(5) يُراجَع : شرْح الكوكب المنير 3/160 وميزان الأصول /289 والإبهاج 2/134
(6) المنخول /153
(7) التمهيد لِلكلوذاني 2/138 وشرْح الكوكب المنير 3/160
(8) قواطع الأدلة 1/175
(9) المعتمد 1/262
(10) المحصول 1/400
(11) يُراجَع : ميزان الأصول /289 وبَذْل النظر /238 والإحكام في أصول الأحكام لِلآمدي 2/209 والإبهاج 2/134
وهو قول القاضي أبي بكر (1) ، ومحكِيّ عن الكرخي وبعض الحنفية (2) .
المذهب الخامس : إنْ كان الباقي جَمْعاً فهو حقيقة ، وإلا فلا .
وهو اختيار الباجي (3) ، وذَكَر الآمدي أنَّه اختيار أبي بكر الرازي مِن الحنفية .
المذهب السادس : أنَّه حقيقة إنْ خُصّ بدليل لفظيّ ، مُتَّصِلاً كان أم منفصِلاً ، وإلا فهو مَجاز .
ونسَبه ابن السمعاني لِبعض الحنفية (4) .
المذهب السابع : أنَّه حقيقة في الباقي إنْ خُصّ بشرط أو صفة ، وإلا فمَجاز .
وهو قول القاضي عبد الجبار (5) .
المذهب الثامن : أنَّه حقيقة في الباقي مِن حيث إنّ اللفظ العامّ متناوِل الباقي ، مَجاز مِن حيث إنّه اقتصَر على الباقي .
وهو اختيار إمام الحرميْن في " البرهان " (6) .
وهذه المذاهب الثمانية ذَكَرها ابن السبكي (7) وابن الهمام (8) والتفتازاني (9) والشوكاني (10) ، وكذا الزركشي ، إلا أنَّه زاد مذهباً تاسعاً ،
(1) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 2/209 والإبهاج 2/135
(2) البحر المحيط 3/260 وإرشاد الفحول /235
(3) إحكام الفصول /246
(4) يُراجَع قواطع الأدلة 1/175
(5) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 2/209 ، 210 وبيان المختصر 2/133 - 135 والمعتمد 1/262
(6) البرهان 1/412
(7) الإبهاج 2/134 ، 135
(8) تيسير التحرير 1/308
(9) التلويح 1/75
(10) إرشاد الفحول /234 ، 235
وهو : أنَّه حقيقة إنْ خُصّ بمنفصِل ، وإلا فمَجاز ، وهو محكيّ عن القاضي عبد الجبار (1) .
تعقيب :(1/189)
بَعْد الوقوف على مَناحي كثرة مِن الأصوليّين في حصْر مذاهبهم في العامّ بَعْد التخصيص يمكِن التوصل إلى النتائج التالية :
1- استبعاد المذهب الأول عند إمام الحرميْن في " البرهان " والخامس عند الغزالي في " المنخول " ، وهو القائل بالإجمال ، وعليه جمهور المعتزلة ..
وأَعجَبني تعليل الغزالي ـ رحمه الله ـ في ذلك في قوله :" وهذا مُحال لأنّ المُخْرَج عنه معلوم ، فكيف يَصِير الباقي مُجمَلاً ؟ نعمْ لو كان مجهولاً فلا نَتمسَّك به ، كما لو تَمَسَّك متمسِّك في مسألة الوتر بقوله تَبارَك وتعالى { وَافْعَلُوا الْخَيْر } (2) لا يجوز ؛ لأنّ المستثنى عن عموم هذا الأمر غيْر معلوم " (3) .
2- استبعاد المذهب الخامس عند المكثِرين لِلمذاهب ، والقائل بأنَّه إنْ كان الباقي جَمْعاً فهو حقيقة وإلا فلا ، وهو ما اختاره الباجي وأبو بكر الرازي مِن الحنفية ؛ لأنّه كما ذكَر الغزالي رحمه الله :" لا خلاف في أنَّه لو رُدّ إلى ما دُون أَقَلّ الجَمْع صار مَجازاً ، فإذا قال :" لا تُكَلِّم الناس " ثُمّ قال : " أَردتُ زيداً خاصّةً " كان مَجازاً وإنْ كان هو داخلاً فيه " (4) .
3- أنّ المذهبيْن الأول والثاني هُمَا أَكثَر المذاهب أتباعاً عند الأصوليّين ؛ فالأول قد جعَل العامّ مَجازاً في الباقي ، والثاني جعَل العامّ حقيقةً في الباقي
(1) يُراجَع البحر المحيط 3/259 - 262
(2) سورة الحجّ مِن الآية 77
(3) المنخول /153
(4) المستصفى 2/54
ولِذا فإنِّي سأَقتصر على أدلّتهما مع الترجيح بيْنهما .
4- أنّ باقي المذاهب لا تَقْوَى على منافَسة هذيْن المذهبيْن ، ولِذا فقد اكتفيتُ بذِكْر هذه المذاهب والقائلين بها ، مع بيان وجْه اختيار المذهبيْن محلّ الاستدلال والمناقَشة .
رابعاً - أدلة المذاهب مع الترجيح :
أدلة المذهب الأول :(1/190)
استدَلّ أصحاب المذهب الأول ـ القائلون بأنّ العامّ بَعْد تخصيصه يَصِير مَجازاً على الإطلاق ـ بأدلة ، نَذكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنَّه لو كان العامّ حقيقةً في الباقي بَعْد التخصيص لَلَزم منه الاشتراك ؛ لأنّ العموم هو اللفظ المستغرق ، وبَعْد تخصيصه خرَج عن أنْ يَكون مستغرقاً ، فخرَج عن موضوعه الأصليّ ، فلا يبقى حقيقةً ، فاستعماله فيما دُون الاستغراق استعمال في غيْر ما وُضِع له وهو المَجاز ، ولِذا كان العامّ بَعْد تخصيصه مَجازاً في الباقي .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم أنَّه لو كان حقيقةً في الباقي يَلزَم الاشتراك ، وإنَّما يَلزَم ذلك لو لم يكنْ إطلاقه على العموم وعلى الباقي بالاشتراك المعنويّ ، فيَكون حقيقةً في كُلّ واحد منهما بطريق التواطؤ .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقد رُدّت هذه المناقَشة : بأنَّه لو كان كذلك لَمَا كان ظاهراً في العموم ولأَفْضَى إلى رفْع المَجاز مِن الكلام ؛ فما مِن لفْظ إلا ويمكِن أنْ يقال فيه ذلك ، فيقال " الحمار " مع الإطلاق حقيقةً في البهيمة ، ومع القرينة في الرجُل البليد .
الدليل الثاني : أنّ القرينة تدلّ على أنّ المتكلِّم استعمَل لفْظ العموم في البعض ، والقرينة لا يُحتاج إليها إن استُعمِل اللفظ فيما وُضِع له ؛ لأنّها الحقيقة ، ولِذا كان العامّ المخصَّص مَجازاً فيما بقي بَعْد التخصيص (1) .
أدلة المذهب الثاني :
استدَلّ أصحاب المذهب الثاني ـ القائلون بأنّ العامّ المخصّص حقيقة فيما بقي ـ بأدلة ، نَذكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ الأصلَ في الاستعمالِ الحقيقةُ ، والعموم : ما تَناوَل شيئيْن فصاعداً مِن جهة واحدة ، وهذا هو معناه قَبْل التخصيص ، وكذلك بَعْد التخصيص ، ولِذا كان العامّ حقيقةً فيما بقي .
مناقَشة هذا الدليل :(1/191)
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ تَناوُل اللفظ لا يَستوي في الحالتيْن ؛ لأنّه قَبْل التخصيص إنَّما كان متناوِلاً له مع غيْر ذلك الباقي ، أمّا بَعْد التخصيص فلا ، ولا يَلزم مِن كوْن تَناوُل اللفظ لِلباقي مع غيْره حقيقةً كوْن تَناوُل اللفظ لِلباقي وحْده حقيقة .
جوابي عن هذه المناقَشة :
وهذه المناقَشة عندي مردودة : بأنّكم فَرَّقتم بيْن عامّ دخَله التخصيص وعامّ لم يخصَّص وجعلتم التخصيص قرينةً على أنَّه ليس على حقيقته ، وحقيقة العامّ أنَّه لفْظ وُضِع وضعاً واحداً لِكثير غيْر محصور مستغرق جميع ما يَصلُح له (2) ، وهذا متحقِّق في العامّ الذي بقي بَعْد التخصيص ..
(1) يُراجَع : بيان المختصَر 2/134 ، 135 والتمهيد لِلكلوذاني 2/139 ، 140 وشرْح تنقيح الفصول /226 والإحكام لِلآمدي 2/210 - 213 وتيسير التحرير 1/308 وقواطع الأدلة 1/176 وإرشاد الفحول /234
(2) التنقيح 1/56 والتعريفات /159
فلو قُلْنا :" أَكرِم العلماء " فهو عامّ في كُلّ عالِم حقيقةً ، ولو قُلْنَا : " أَكرِم العلماء إلا الغائبين " فالعلماء ـ أيضاً ـ لفْظ عامّ إلاّ أنَّه خُصِّص بالحاضرين ، وهو حقيقة فيه .
الدليل الثاني : أنّ الباقي بَعْد التخصيص يَسبق إلى الفهم عند إطلاق اللفظ عليه ، والسبق إلى الفهم علامة الحقيقة ، ولِذا كان العامّ بَعْد تخصيصه حقيقةً في الباقي .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ الباقي إنَّما يسبق عند قرينة الخصوص ، والسبق إلى الفهم علامة المَجاز عند القرينة (1) .
جوابي عن هذه المناقَشة :
وأَرُدّ هذه المناقَشة : بأنّ قرينة الخصوص أو التخصيص إنَّما قَصَرَت حُكْم العامّ عن بعض أفراده ، والباقي كما هو حقيقة وليس مَجازاً ؛ لأنّ صفة العامّ لم تَختلف في الحالتيْن كما تَقَدَّم .(1/192)
والذي أراه أَوْلى بالقبول : أنّ العامّ بَعْد تخصيصه يصبِح حقيقةً في الباقي كما عليه أصحاب المذهب الثاني ، وليس مَجازاً كما ذهب أصحاب المذهب الأول ؛ وذلك لأنّ لفْظ العامّ متناوِل كُلّ أفراده حقيقةً باتِّفاق ، وهذا التَّناول باقٍ على ما كان عليه ، ولا يضرّه طرْد عدم تَناوُل الغيْر بالتخصيص (2) ..
ولأنّا كما قال الباجي :" إنَّما نَحمله على عمومه عند تَعَرِّيه مِن القرائن
(1) يُراجَع : بيان المختصر 2/135 ، 136 والوصول إلى الأصول 1/236 ، 237 وشرْح العضد 2/107 وشرْح تنقيح الفصول /226 والتمهيد لِلكلوذاني 2/141 ، 142 وإرشاد الفحول لِلشوكاني /234
(2) يُراجَع إرشاد الفحول /235
وإذا اقترَنَت به قرينة التخصيص كان حقيقةً في ذلك ؛ لأنّه لم يُنقَل مِن مسمّى إلى غيْره ، وإنَّما أَوقَعه على بعض ما كان واقعاً تحْته مِمَّا يَصلُح أنْ يَنطلق عليه ؛ ألاَ تَرى أنّك تقول " الزَّيْدان " فيَنطلق هذا على زيْد وزيْد ثُمّ تقول " زيْد " فتسقط قرينة التثنية فيَنطلق اللفظ على أحدهما ، ثُمّ هو مع ذلك حقيقة في الاثنين وحقيقة في الواحد " (1) .
ثمرة الخلاف في هذه المسألة :
وثمرة الخلاف في هذه المسألة أَورَدها الزركشي ، وهي مبنيّة أو مُخَرَّجة على المذهبيْن المشهوريْن الأول والثاني ..
فإنْ قُلْنَا بالأول ـ وهو أنَّه مَجاز في الباقي ـ فلا يمكِن الاحتجاج بالعموم المخصوص فيما بقي إلا بدليل يدلّ عليه ، أيْ على أنّ حُكْمه ثابت في الباقي .
وإنْ قُلْنَا بالثاني ـ وهو أنَّه حقيقة في الباقي ـ فإنَّه يُحتَجّ بلفظ العموم فيما لم يُخَصّ منه مُجَرَّداً مِن غيْر دليل يدلّ عليه (2) .
(1) إحكام الفصول /246(1/193)
وتُراجَع هذه المسألة في : التبصرة /122 - 125 والمعتمد لأبي الحسين البصري 1/262 - 264 وبذْل النظر /237 - 245 وإحكام الفصول /245 - 247 والوصول إلى الأصول 1/235 237 وقواطع الأدلة 1/175 وميزان الأصول /287 ، 288 والمستصفى 2/54 - 56 والتلخيص 2/606 - 620 والإحكام لِلآمدي 2/209 والمحصول 1/400 - 402 والمسوّدة لآل تيمية /115 ، 116 وجَمْع الجوامع مع تشنيف المسامع 1/351 ومختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/106 وبيان المختصر 2/132 والإبهاج 2/134 ونهاية السول 2/120 وروضة الناظر مع نزهة الخاطر 2/133 وكشْف الأسرار لِلبخاري 1/627 والتنقيح مع التلويح 1/77
(2) يُراجَع البحر المحيط 3/265
المطلب الثاني
حُجِّيَّة العامّ المخصَّص
العامّ إمّا أنْ يُخَصّ بمعلوم أو بمجهول ..
فإنْ خُصّ بمجهول أو مُبْهَم : كما لو قيل :" اقتلوا المشرِكين إلا بعضهم " فلا يُحتَجّ به على شيء مِن الأفراد ؛ إذ ما مِن فرْد إلا ويجوز أنْ يَكون هو المُخرَج ، وهو ما عليه الجمهور ، حتى صرَّح البعض بأنَّه لا خلاف عليه كما قاله الآمدي وغيْره ، ونَقَل جماعةٌ الإجماعَ على هذا ..
ولكنْ رأَيْنَا مَن شَذّ فجعَله حُجّةً إذا كان مجهولاً كفخر الإسلام البزدوي ولِذا قال بعضهم : لم يذهب أحد إلى أنَّه حُجّة إذا كان المخصّص مُجْمَلاً ؛ لأنّ إخراج المجهول مِن المعلوم يُصَيِّره مجهولاً ، ولِهذا لو قال :" بِعْتُك هذه الصبرة إلا صاعاً منها " لا يصحّ (1) .
وإنْ خُصّ العامّ بمعلوم فإنّ الأصوليّين اختلَفوا في حُجِّيَّته على مذاهب :
المذهب الأول : أنَّه حُجّة في الباقي .
وهو ما عليه الجمهور ، واختاره الغزالي (2) والآمدي (3) وابن
(1) يُراجَع : نهاية السول 2/124 والبحر المحيط 3/266 ، 267 وتيسير التحرير 1/313 والإبهاج 2/143 وكشْف الأسرار لِلبخاري 1/625 ومُسَلَّم الثبوت 1/308 وشرْح طلعة الشمس 1/129 ، 130 وبيان المختصر 2/142 وإرشاد الفحول /236(1/194)
(2) المستصفى 2/56
(3) الإحكام 2/214
الحاجب (1) والنسفي (2) (3) والكلوذاني (4) وابن قدامة (5) .
واحتَجّوا لِذلك بأدلة ، نَذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ الصحابة - رضي الله عنهم - ومَن بَعْدهم مِن سلف هذه الأُمَّة تَمَسَّكوا بالعامّ بَعْد التخصيص مُطْلَقاً ، ولم يُفَرِّقوا بيْن مخصّص مُتَّصِل أو غيْر مُتَّصِل ، وشاع ذلك عنهم ، ولم يُنكِر عليهم أحد ، فيَكون إجماعاً منهم على أنّ العامّ بَعْد التخصيص حُجّة في الباقي ، وهو المُدَّعَى .
ومثال ذلك : أنّ السيدة فاطمة ـ عليها السلام ـ عندما طلبَت ميراثها مِن أبيها - صلى الله عليه وسلم - مُحْتَجَّةً بقوله تعالى { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْن } (6) مع أنَّه مخصَّص بالكافر والقاتل ، ولم يُنكِر أحد مِن الصحابة - رضي الله عنهم - صحّة احتجاجها مع ظهوره وشُهْرته ، لكنّ أبا بكر - رضي الله عنه - احتَجّ بحرمانها بقوله - صلى الله عليه وسلم - { نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة } (7) .
ومثاله أيضاً : ما رُوِي أنّ عليّاً - عليه السلام - احتَجّ على جواز الجَمْع بيْن الأختيْن في المِلْك بقوله تعالى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُكُم } (8) مع كوْنه
(1) مختصر المنتهى مع بيان المختصر 2/141
(2) النسفي : هو أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي ، الملقَّب بـ" حافظ الدين " ، الفقيه الحنفي الأصوليّ ..
مِن مصنَّفاته : تفسير النسفي ، منار الأنوار .
تُوُفِّي سَنَة 710 هـ ببلدته أيذج ، وبها دُفِن .
الفتح المبين 2/112
(3) أصول السرخسي 1/144
(4) التمهيد 2/142
(5) روضة الناظر مع نزهة الخاطر 1/131
(6) سورة النساء مِن الآية 11
(7) سبق تخريجه .
(8) سورة النساء مِن الآية 4
مخصّصاً بالأخوات والبنات (1) .(1/195)
الدليل الثاني : أنّ العامّ قَبْل التخصيص كان حُجّةً في الباقي لأنّه قد اقتضَى الحُكْم قَبْل التخصيص في كُلّ واحد مِن أفراده ، والباقي مِن جملة أفراده ، والأصل بقاء الشيء على ما كان عليه ، فيَكون حُجّةً في الباقي ، وهو المُدَّعَى (2) .
المذهب الثاني : أنَّه ليس حُجّةً فيما بقي .
وإليه ذهب عيسى بن أبان (3) وأبو ثور .
واحتَجّوا : بأنّ العامّ المخصّص صار مُجْمَلاً بَعْد التخصيص ؛ لأنّه يَكون حينئذٍ مَجازاً بالنسبة إلى الباقي ؛ لأنّ معنى العموم حقيقةً غيْر مراد مع تخصيص البعض ..
وإذا كانت الحقيقة غيْر مرادة وتَعدَّدَت المَجازات كان اللفظ مُجْمَلاً في الباقي ، والمُجمَل لا يَكون حُجّةً بالاتفاق .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم بإجمال اللفظ عند تَعَدُّد المَجازات إلا إذا كانت المَجازات متساويةً ولا دليل على تَعَيُّن أحدهما ، ولِذا كان اللفظ متعيِّناً لِلباقي ؛ لأنّه مراد قَبْل التخصيص ، والأصل بقاء الشيء على
(1) أَخرَجه البيهقي 7/164 وابن أبي شيبة 3/482 والبزار 2/304
ويُرَاجَع : تفسير القرطبي 5/77 ، 78 وتفسير القرآن العظيم 1/472 ، 473
(2) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 2/215 ، 216 وبيان المختصر 2/145 والتمهيد لِلكلوذاني 2/144 وروضة الناظر مع نزهة الخاطر 1/132 وإحكام الفصول /248
(3) عيسى بن أبان : هو أبو موسى عيسى بن أبان بن صدقة البغدادي الحنفي ، فقيه العراق ..
مِن مصنَّفاته : العِلَل في الفقه ، إثبات القياس واجتهاد الرأي ، الحُجَج والشهادات .
تُوُفِّي سَنَة 221 هـ .
طبقات الفقهاء لِلشيرازي /137 والأعلام 5/100 والجواهر المضيئة 2/678 - 680
ما كان عليه (1) .
المذهب الثالث : أنَّه حُجّة إنْ خُصّ بُمَّتصِل كالشرط والصفة ، وإلا فلا .
وهو محكيّ عن الكرخي ومحمد بن شجاع الثلجي .(1/196)
واحتَجّوا : بأنّ المخصّص المُتَّصِل يصير مع الأصل حقيقةً فيما بقي ، والحقيقة حُجّة ، والمخصّص المنفصِل لا يمكِن جَعْله حقيقةً مع الأصل ، فتَعَيَّن المَجاز والإجمال .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ دليلكم إنَّما يصحّ إذا كان المَجاز أجنبيّاً عن الحقيقة : كـ" الأسد " إذا لم تكن الحقيقة فيه مرادةً ، وليس بعض الشجعان أَوْلى مِن بعض ، فيَتَعيَّن الإجمال ..
أمّا المَجاز في العلم المخصوص فمتعيّن ؛ لأنّه ليس أجنبيّاً ، بل محلّ التَّجَوُّز هنا بقي بَعْد التخصيص ، فلا إجمال (2) .
المذهب الرابع : إنْ كان العامّ غيْر محتاج إلى بيان الشارع المقصود منه لِكوْنه معلوماً لِلمُكّلَّف كالمشرِكين فإنَّه يبقى حُجّةً في الباقي ، وإنْ كان محتاجاً لا يبقى حُجّةً في الباقي .
وهو قول أبي عبد الله البصري .
كما في قوله تعالى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } (3) ؛ لأنّ قيام الدلالة على اعتبار النِّصَاب والحرز وكوْن المسروق لا شبهة فيه لِلسارق تَمنع مِن تَعَلُّق الحُكْم ـ وهو القَطْع ـ بعموم اسم السارق ، وموجِب
(1) يُراجَع : بيان المختصر 2/147 والإحكام في أصول الأحكام لِلآمدي 2/217 وإرشاد الفحول لِلشوكاني 2/217
(2) يُراجَع : شرْح تنقيح الفصول /227 ، 228 وإرشاد الفحول /237
(3) سورة المائدة مِن الآية 38
لِتَعَلُّقه بشرط لا يُنبِئ عنه ظاهِر اللفظ ، وإنْ كان التخصيص لا يَمنع مِن تَعَلُّق الحُكْم به جاز التَّعَلُّق به (1) .
مناقَشة هذا المذهب :
وقد رُدّ هذا المذهب : بأنّ محلّ النزاع دلالة اللفظ العامّ على ما بقي بَعْد التخصيص ، وهي كائنة في الموضعيْن ، والاختلاف بكوْن الدلالة في البعض أَظهَر منها في البعض الآخَر باعتبار أمْر خارِج لا يَقتضي ما ذكَره مِن التفرقة المُفْضِية إلى سقوط دلالة الدّالّ أصلاً وظاهرا (2) .(1/197)
المذهب الخامس : أنَّه حُجّة إنْ كان لا يَتوقف على البيان كالمشرِكين ، وإلا فلا .
نحْو : قوله تعالى { وَأَقِيمُوا الصَّلَوة } (3) ؛ فإنَّه قَبْل إخراج الحائض كانت الصلاة مُجْمَلةً محتاجةً إلى بيان الشارع معناها ، فيَتوقف العمل على بيان التخصيص ، وهو إخراج الحائض .
وهو قول القاضي عبد الجبار .
وقال الشوكاني ردّاً لِهذا المذهب : بأنَّه لم يدلّ عليه دليل مِن عقْل ولا نقْل .
المذهب السادس : أنَّه يجوز التَّمَسُّك به في أَقَلّ الجَمْع ؛ لأنّه المتعيّن ، ولا يجوز فيما زاد عليه .
حكاه القاضي أبو بكر والغزالي وابن القشيري ، وقال :" إنّه مُحْكَم " ..
وحُكِي عن أبي هاشم أنَّه يَتمسك به في واحد ولا يَتمسك به جَمْعا .
وعمدة هذا المذهب : أنّ أَقَلّ الجَمْع هو المتيقَّن ، والباقي مشكوك فيه .
(1) يُراجَع : الإبهاج 2/145 وإرشاد الفحول /238
(2) يُراجَع إرشاد الفحول /438
(3) سورة البقرة مِن الآية 43
ورَدّه الشوكاني : بمنْع كوْن الباقي مشكوكاً فيه ؛ لِمَا تَقَدَّم مِن الأدلة .
المذهب السابع : التوقف ، فلا يُعمَل به إلا بدليل .
حكى هذا المذهب أبو الحَسَن القطّان (1) ، وجعَله مغايِراً لِقول ابن أبان .
ورَدّه الشوكاني أيضاً : بأنّ الوقف إنَّما يَحسُن عند تَوازُن الحُجّج وتَعارُض الأدلة ، وليس هناك شيء مِن ذلك (2) .(1/198)
والراجح في هذا المقام : أنّ العامّ بَعْد تخصيصه حُجّة في الباقي ، وهو ما عليه الجمهور أصحاب المذهب الأول ؛ لِقوّة أدلّتهم ، ولِعدم سلامة أدلة غيْرهم مِن المذاهب ، ولأنّ اللفظ العامّ كان متناوِلاً لِلكُلّ ، فيَكون حُجّةً في كُلّ واحد مِن أقسام ذلك الكُلّ ، ونحن نَعلَم بالضرورة أنّ نسبة اللفظ إلى كُلّ الأقسام على السوية ، فإخراج البعض منها بمخصِّص لا يَقتضي إهمال دلالة اللفظ على ما بقي ولا يرفع التَّعَبُّد به ، ولو تَوَقَّف كوْنه حُجّةً في البعض على كوْنه حُجّةً في الكُلّ لَلَزم الدور ، وهو مُحال (3) .
والخلاف في هذه المسألة ـ كما ذكَر الزركشي ـ مبنيّ على التي قَبْلها ..
فمَن قال " إنّه مَجاز " لا يُجَوِّز التَّعَلُّق به .
ومَن قال " إنّه حقيقة " جَوَّزه .
وأمّا مَن قال " إنّه مَجاز " ثُمّ أجاز التَّعَلُّق به ـ يعني كالقاضي ـ صار
(1) أبو الحَسَن القَطّان : هو عَلِيّ بن محمد بن عبد المَلِك الحميري الكتّاني الفاسي المالكي ، حافِظ مُحَدِّث ، كان معروفاً بالحفظ والإتقان ..
مِن مصنَّفاته : الوهم والإيهام على الأحكام الكبرى لِلأشبيلي .
تُوُفِّي سَنَة 628 هـ .
شذرات الذهب 5/128 وشجرة النور الزكية /179
(2) يُراجَع : إرشاد الفحول /237 ، 238 والإبهاج 2/144 - 146 والبحر المحيط 3/268 - 271 وبيان المختصر 2/143 - 148
(3) إرشاد الفحول /236 ، 237
الخلاف معه لفظيّا .
وذكَر صاحِب " الميزان " مِن الحنفية أنّ هذه المسألة مُفَرَّعة على أنّ دلالة العامّ على أفراده قَطْعيّة أو ظنِّيَّة ، فمَن قال " قَطْعِيّة " جَعَل الذي خُصّ كالذي لم يُخَصّ ، وإلا فلا ، وفيه نظر .
وقال غيْره : يُبنَى على أنّ اللفظ العامّ إذا وَرَد هل يَتناول الجنس أم لا ؟ وتَندرج الآحاد تحْته ضرورة اشتماله عليه أو يَتناول الآحاد واحداً واحداً حتى يَستغرق الجنس ؟
فالمعتزلة قالوا بالأول ، ولِذا كان عندهم مُجْمَلا (1) .(1/199)
والبناء الأول عندي هو الأَوْلى ؛ لِوجاهة العلاقة بيْن المسألتيْن ..
ولِذا قال ابن السبكي :" يُشبه أنْ تَكون هذه المسألة مُفَرَّعةً على قول مَن يقول " العامّ المخصوص مَجاز " ؛ فإنّ مَن قال غيْر ذلك احتجّ به هُنَا لا محالة " (2) (3) .
(1) البحر المحيط 3/271 ، 272 بتصرف .
(2) الإبهاج 2/143
(3) تُراجَع هذه المسألة في : مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/108 وبيان المختصر 2/141 - 148 والمستصفى 2/54 - 57 وشرْح مختصر الروضة 2/524 وإحكام الفصول /247 ، 248 والوصول إلى الأصول 1/233 ، 234 والتنقيح مع التلويح 1/78 - 86 والإحكام لِلآمدي 2/203 217 والتمهيد لِلكلوذاني 2/142 - 148 والمحصول 1/402 وكشْف الأسرار لِلبخاري 1/621 وأصول السرخسي 1/144 - 148 وشرْح تنقيح الفصول /227 ، 228 والبحر المحيط 3/266 268 والتيسير مع التحرير 1/313 - 315 والإبهاج 2/143 - 147 ونهاية السول 2/124 - 126 ومُسَلَّم الثبوت 1/308 - 310 وشرْح طلعة الشمس 1/129 - 132
المطلب الثالث
الاستدلال بالعامّ قَبْل البحث عن المخصّص
اختلَف الأصوليّون في الاستدلال بالعامّ قَبْل البحث عن المخصّص ..
وقَبْل بيان مذاهبهم في ذلك أُحرّر محلّ النزاع ، والذي اتَّضَح لي أنّ بعضاً مِن الأصوليّين أَخرَج حالاتٍ عن محلّ النزاع ..
وقد جمَعتُها فيما يلي :
الحالة الأولى : إذا كان النَّصّ عامّاً بطريق الدلالة وليس عامّاً مِن حيث اللفظ ـ نحْو : قوله تعالى { فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلا تَنْهَرْهُمَا } ـ فلا يجوز تخصيصه ؛ لأنّ لفْظ التأفيف هو المنصوص عليه ، وهو ليس بعامّ ، بل هو اسم خاصّ لِمعنى خاصّ ، ولكنْ لَمّا كان تحريم التأفيف تحريماً لِكُلّ أذى فوْقه مِن القتل والضرب والشتم ونحْوها بضرورة العقل ، فيَكون تخصيص شيء مِن ذلك مناقَضة .. كذا ذكَر السّمرقنديّ (1) .(1/200)
الحالة الثانية : إذا وَرَد العامّ وعُلِم أنّ له مخصّصاً فلا يجوز الأخذ بعمومه حتى يُبحَث عن مخصّصه ، فيَلزم البحث عن المخصّص المعلوم مِمَّن أراد العمل بالعموم قَبْل الأخذ به إجماعاً ؛ لِئلاّ يُخطئ في عملِه بالعموم فيَحكم بغيْر ما أَنزَل الله تعالى .. كذا ذكَر السّالميّ (2) ، وهو قول
(1) يُراجَع ميزان الأصول /305 ، 306
(2) السّالميّ : هو أبو محمد عبد الله بن حميد بن سالوم السالمي ، فقيه أصوليّ ..
مِن مصنَّفاته : طلعة الشمس ، وشرْحها ، وأنوار العقول .
تُوُفِّي بعُمَان سَنَة 1332 هـ .
الفتح المبين 3/166
الصيرفي (1) .
الحالة الثالثة : وجوب العمل بالعامّ والتَّمَسُّك به في حياة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَبْل البحث عن المخصّص ، فتجب المبادَرة إلى الفعل على عمومه ؛ لأنّ أصول الشريعة لم تكن متقرِّرةً ، وهو ما ذكَره السبكي (2) (3) ، أو لِتأكُّد انتفاء احتمال المخصّص (4) .
الحالة الرابعة : إذا وَرَد لفْظ عامّ بعبادة أو بغيرها بَعْد دخول وقْت العمل به فيجب العمل به .. هكذا قال الجويني (5) ، وتَبِعه الآمدي (6) .
الحالة الخامسة : لا خلاف بيْن الأصوليّين في امتناع العمل بموجب اللفظ العامّ قَبْل البحث عن المخصّص وعدم الظفر به (7) .
الحالة السادسة : امتناع العمل بالعامّ قَبْل البحث عن كُلّ ما يمكِن أنْ يَكون مخصّصاً .. كذا ذكَر الغزالي (8) ، وتَبِعه الآمدي (9) ، وادّعوا الإجماع في ذلك وأنَّه لا خلاف فيه ..
(1) شرْح طلعة الشمس 1/112 ويُراجَع المحصول 1/404
(2) تقيّ الدين السبكي : هو أبو الحَسَن علِيّ بن عبد الكافي بن علِيّ بن تمّام بن يوسف بن موسى السبكي الشافعي ، وُلِد بسُبك سَنَة 683 هـ ..
مِن مصنَّفاته : تفسير القرآن ، شرْح المنهاج في الفقه .
تُوُفِّي بمِصْر سَنَة 756 هـ .
الدرر الكامنة 3/63 والفتح المبين 2/176
(3) يُراجَع : الإبهاج 2/148 وجَمْع الجوامع 1/363 ، 364(1/201)
(4) تيسير التحرير 1/231
(5) البرهان 1/406 - 408
(6) الإحكام 3/46
(7) الإحكام لِلآمدي 3/46
(8) المستصفى 2/158
(9) الإحكام 2/261 - 263
والواضح أنّ الأمر ليس كما ذهبوا ؛ بل هناك مِن الأصوليّين مَن خالَف في ذلك ، فأجازوا العمل بالعامّ قَبْل البحث عن المخصّص .
وإذا كان كذلك فهذه الحالة هي محلّ نزاعنا ؛ لأنّ الصيرفي جَوَّز العمل بالعامّ قَبْل البحث عن المخصّص .
وإذا تَقَرَّر ذلك كان محلّ نزاعنا هو اللفظ العامّ الذي لم يُعلَم له مخصّص ولم يَرِد في حياة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ولم يدخل وقْت العمل به ، فهي شروط ثلاثة لِمحلّ النزاع :
1- أنْ لا يُعلَم له مخصّص .
2- أنْ لا يَرِد الخطاب به في حياة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - .
3- أنْ لا يدخل وقْت العمل بموجبه .
بَعْد أنْ حرَّرْنَا محلّ النزاع اتَّضَح لي أنّ الحديث في هذا المقام فيه موضعان محلاّن لِلنزاع بيْن الأصوليّين :
الأول : اعتقاد عموم العامّ قَبْل البحث عن المخصّص .
الثاني : المدة التي يجب البحث فيها عن مخصّص .
ونُفَصِّل القول فيهما فيما يلي :
الموضع الأول : اعتقاد عموم العامّ قَبْل البحث عن المخصّص .
نصّ عليه الشِّيرازي في قوله :" إذا وردَت هذه الألفاظ الموضوعة لِلعموم هل يجب اعتقاد عمومها عند سماعها والمبادَرة إلى العمل بمقتضاها أو يتوقف عنها ؟ اختلَف أصحابنا " (1) .
وحصَر المذاهب في مذهبيْن :
المذهب الأول : وجوب اعتقاد العموم في الحال قَبْل ظهور المخصّص ،
(1) شرْح اللمع 1/341
وإذا ظَهَر المخصّص تَغَيَّر ذلك الاعتقاد .
وهو قول أبي بكر الصيرفي ، وحكاه عنه ـ أيضاً ـ إمام الحرميْن (1) والآمدي (2) ، وحكى عنه الفخر الرازي الجواز (3) ، وتَبِعه في الحكاية ابن السبكي (4) .(1/202)
وأَنكَر إمام الحرميْن هذه النسبة إلى الصيرفي فقال :" وأبو بكر هذا مِن الرّادّين على هؤلاء في تصانيفه ، وإنْ زَعَم صاحِب هذا المذهب أنّ تَبَيُّن الخصوص ممكِن فكيف يُتصوَّر جزْم العقد مع اشتماله على تجويز أنّ تَبَيُّن الأمر على خلاف العقد به والتَّرَدُّد والجزم متناقضان ؟! " (5) .
المذهب الثاني : وجوب البحث عن المخصّص قَبْل العمل بالعامّ ، فإنْ لم يَجِد دليلاً على التخصيص اعتقَد عمومه وعَمِل بموجبه .
وهو قول أبي العباس بن سريج (6) وأبي إسحاق المروزي (7) وأبي
(1) البرهان 1/456
(2) الإحكام 3/46
(3) المحصول 1/404
(4) الإبهاج 2/147
(5) البرهان 1/407
(6) ابن سريج : هو أبو العباس أحمد بن عُمَر بن سريج البغدادي ، وُلِد ببغداد سَنَة 249 هـ ، فقيه الشافعية في عصْره ..
مِن تصانيفه : الانتصار ، الأقسام ، الخصال في فروع الفقه الشافعي .
تُوُفِّي ببغداد سَنَة 306 هـ .
مُعجَم المؤلِّفين 2/31 وطبقات الفقهاء الشافعية 2/712 وطبقات الشافعية الكبرى 2/87
(7) أبو إسحاق المروزي : هو إبراهيم بن أحمد المروزي ، تلميذ ابن سريج ، انتهت إليه رئاسة الشافعية ببغداد ..
تُوُفِّي بالقاهرة سَنَة 340 هـ .
شذرات الذهب 2/355 والفتح المبين 1/199
سعيد الإصطخري (1) ، واختاره الشيرازي (2) .
وقد تَبِع الشيرازي في حصْر النزاع في مذهبيْن كوكبة مِن الأصوليّين كالفخر الرازي الذي حصَر الخلاف بيْن ابن سريج المانع لِلأخذ بالعموم قَبْل البحث عن المخصّص وبيْن الصيرفي المُجَوِّز لِذلك (3) ، وتَبِعه ابن السبكي (4) ..
وكذلك فَعَل الآمدي ، إلا أنَّه تَوَسَّع في ذِكْر أصحاب المذهب المانع لِلعمل بالعموم قَبْل البحث ، فذكَر ابن سريج وإمام الحرميْن والغزالي وأَكثَر الأصوليّين ، واختاره (5) .
وقد وصَف ابن الحاجب أصحاب المذهب المانع بأنّهم الأكثر ، واختاره (6) .
تعقيب على مذهب الصيرفي :(1/203)
بَعْد الوقوف على ما نُقِل عن مذهب الصيرفي في العامّ قَبْل البحث عن المخصّص اتَّضَح لنا أنّ هناك مَن نقَل عنه وجوب اعتقاد عمومه والعمل به قَبْل ظهور المخصّص كما نقَله الشيرازي ، وهناك مَن نقَل عنه جواز ذلك كما نقَله الفخر الرازي .
(1) الإصطخري : هو أبو سعيد الحَسَن بن أحمد بن يزيد بن عيسى الإصطخري الشافعي ، وُلِد سَنَة 244 هـ ..
مِن تصانيفه : كتاب الفرائض الكبير ، كتاب الشروط والوثائق ، المحاضر ، السجلات .
تُوُفِّي سَنَة 328 هـ .
البداية والنهاية 11/193 وشذرات الذهب 2/313 والفتح المبين 1/189 ، 190
(2) شرْح اللمع 1/342 ويُراجَع التبصرة /119 ، 120
(3) المحصول 1/404 ، 405
(4) الإبهاج 2/147
(5) الإحكام 1/46 ، 47
(6) مختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/168
كما اتَّضَح لي أنّ الصيرفي لم يَنفرد بذلك كما تُوحِي بعض أو مُعظَم مصنَّفات الكثرة مِن الأصوليّين وغيْر الحنابلة ، أمّا الحنابلة فقدْ قال منهم ابن الخلال (1) وأبو يعلى وابن عقيل قول الصيرفي ، وكذا بعض الحنفية (2) .
وقد حاوَل بعض الأصوليّين تأويل قول الصيرفي ؛ حتى لا يخرج عن الكثرة ، أو ـ على تعبير البعض ـ الإجماع ..
فنرى إمام الحرميْن ـ رحمه الله ـ يَرُدّ القول بوجوب العمل بالعامّ قَبْل البحث عن المخصّص كما تَقَدَّم .
وقَيَّده الشيرازي بما إذا لم يَظهر المخصّص : فإنْ ظَهَر المخصّص تَغَيَّر اعتقاد العموم ، وإنْ لم يَظهر استمَرّ اعتقاد العموم (3) .
وجعَل الصَّفيّ الهنديّ الخلافَ مع الصّيرفيّ قَبْل حضور وقْت العمل به فإنْ حضَر وقْته وجب العمل به إجماعاً (4) ، لكنْ مع الجزم بعدم المخصّص عند جَمْعٍ : كالقاضي ، ومع ظنّه عند آخَرين : كإمام الحرميْن وابن سريج والغزالي ، وهو الأَوْلى (5) ، وتَبِعه الإسنوي (6) .
وأمّا الزركشي فقدْ جعَل الخلاف بيْن الصيرفي وغيْره في حُكْم مقتضى(1/204)
(1) ابن الخلال : هو أبو بكر عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد بن معروف الحنبلي ، المعروف بـ" غلام الخلاّل " ..
مِن مصنَّفاته : الشافي ، المقنع .
تُوُفِّي سَنَة 363 هـ .
شذرات الذهب 3/45 والبداية والنهاية 11/278
(2) يُراجَع : التمهيد لِلكلوذاني /65 ، 66 والمسوّدة /109 ، 110 وروضة الناظر /212 ، 213
(3) يُراجَع : التبصرة /120 وتيسير التحرير 1/230
(4) يُراجَع نهاية الوصول 4/1498
(5) يُراجَع البحر المحيط 3/48
(6) يُراجَع نهاية السول 2/127
العموم ابتداءً ، فقال :" وأمّا الخلاف المحكيّ عن الصيرفي وابن سريج فهو في حُكْم مقتضى العموم ابتداءً ، ويَعتمد على ظهور التخصيص ابتداءً والخلاف في العامّ في إجرائه على عمومه ، وفي الخاصّ في إجرائه على حقيقة واحد ..
فمَن أَوجَب الاستقصاء عن المخصّص أَوجَب البحث عن المقتضي بحَمْل اللفظ على المَجاز " (1) .
والذي أَمِيل إليه في هذا المقام : أنّ القول بـ" وجوب اعتقاد العمل بالعامّ قَبْل البحث عن المخصّص ، وإذا ظَهَر المخصّص تَغَيَّر اعتقاده " قول غيْر مقبول ومردود ؛ لأنّه كما قال إمام الحرميْن :" أيجوز أنْ يبين الخصوص الآخرة ؟ فإنْ قال " لا " فتقدير ورود الخصوص متأخِّراً مُحال إذَنْ ، ويتصل القول في ذلك بالرّدّ على الذين أَوجَبوا اتصال البيان بمورد الخطاب ، وأبو بكر ( الصيرفي ) هذا مِن الرّادّين على هؤلاء في تصانيفه " (2) .
أمّا القول بالجواز أو القول بالعمل بالعامّ ابتداءً فإنَّه ذو وجْه ظاهِر وجيه كما ذكَر ابن السبكي (3) ، ولِذا كان تعبير الفخر الرازي بـ" الجواز " هو الأَوْلى ، وكذا تعبير البيضاوي بقوله :" يُستدَلّ بالعامّ ما لم يَظهر مخصّص " (4) ، ونحْوه تعبير الأرموي (5) .
وعلى ضوء ما تَقَدَّم يُمكِن حصْر الخلاف في العمل بالعامّ قَبْل البحث
(1) البحر المحيط 3/48
(2) البرهان 1/407
(3) الإبهاج 2/148
(4) منهاج الوصول مع الإبهاج 2/147(1/205)
(5) التحصيل 1/372
عن المخصّص في مذهبيْن :
المذهب الأول : جواز العمل بالعامّ قَبْل البحث عن المخصّص .
وهو قول الصيرفي ، وقول أصحاب الظاهر ، واختاره البيضاوي (1) والأرموي (2) والسالمي (3) ، وحُكِي عن بعض المالكية والشافعية والحنفية .
وذكَر شيخنا أبو النور زهير رحمه الله (4) أنَّه قول جمهور العلماء ، وهذه النسبة لِلجمهور عندي فيها نظر (5) .
واستدَلّوا لِذلك بأدلة :
الدليل الأول : أنَّه لو وجب طلب المخصّص والبحث عنه قَبْل التمسك بالعامّ لَوجب طلب المَجاز عند استعمال اللفظ في حقيقته ، لكنّ طلب المَجاز عند العمل بالحقيقة باطِل ؛ فكذلك طلب المخصّص عند العمل بالعامّ باطل ، ولِذا كان العمل بالعامّ دون البحث عن المخصّص جائزاً ، وهو المُدَّعَى .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بمنْع القياس على الحقيقة ؛ لأنّ احتمال العامّ
(1) منهاج الوصول مع الإبهاج 2/146
(2) التحصيل 1/372
(3) شرْح طلعة الشمس 1/112 ، 113 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/267
(4) أبو النور زهير : هو أبو حسام الدين محمد أبو النور زهير المالكيّ ، فقيه أصوليّ ، أستاذ بجامعة الأزهر ووكيلها الأسبق ، وُلِد سَنَة 1327 هـ = 1906 م ..
تَتَلمَذ على يديْه أئمّة الأصول وفحولهم مِن أبناء الأزهر الشريف .
مِن مصنَّفاته : شرْح " منهاج الوصول " المعروف بـ" أصول الفقه " ، وهو مصنَّف يَمتاز بأنّه الأفضل منهجاً وأسلوباً وعَرْضاً ، مِمَّا جَعَلَه مرجعاً لا يَستغني عنه أيّ أصوليّ ، كما أنّ له شرحاً على " تيسير التحرير " لابن الهمام تدريساً وإملاءً لِطُلاّب العِلْم .
تُوُفِّي بالقاهرة سَنَة 1407 هـ = 1987 م .
مقدمة أصول الفقه لِلشيخ زهير( الجزء الأول ) .
(5) أصول الفقه لِلشيخ زهير 2/267(1/206)
لِلتخصيص أَقوَى وأَرجَح مِن احتمال اللفظ لِلمَجاز ، ولِذلك قيل " ما مِن عامّ إلا وخُصِّص " ولم يُقَلْ " ما مِن حقيقة إلا ولها مَجاز " ، ولِذا فلا يَلزم مِن طلب الأقوى والأرجح ـ وهو المخصّص ـ طلب الأضعف المرجوح وهو المَجاز ، فهو إذَنْ قياس مع الفارق ، فلا يُعتَدّ به .
الدليل الثاني : أنّ الأصل عدم التخصيص ، وهذا يوجِب ظنّ عدم المخصّص ، فيَكفي في إثبات ظَنّ الحُكْم ، ولِذا جاز العمل بالعامّ دون البحث عن المخصّص (1) .
المذهب الثاني : عدم جواز العمل بالعامّ قَبْل البحث عن المخصّص .
وهو قول ابن سريج وأبي إسحاق المروزي وأبي سعيد الإصطخري ، واختاره الشيرازي (2) وإمام الحرميْن (3) والغزالي (4) والآمدي (5) والكلوذاني (6) .
واحتَجّوا لِذلك بأدلة ، أَذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ العامّ وإنْ دلّ على ثبوت الحُكْم في جميع الأفراد فاحتمال المخصّص يعارِضه ؛ لأنّ العامّ قَبْل طلب المخصّص يَحتمل التخصيص ويَحتمل عدمه احتمالاً على السواء ، ولِذا فلو عمِل بالعامّ قَبْل طلب المخصّص لزم ترجيح أحد المتساوييْن على الآخَر بدون مُرَجِّح ، وهو باطل ، ولِذا وجب طلب المخصّص لِيَكون مُرَجِّحاً لأحد المتساوييْن ، وهو
(1) يُراجَع : المحصول 1/404 / 405 والتحصيل 1/372 وإرشاد الفحول /240 ، 241 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 2/267 ، 268
(2) شرْح اللمع 1/342
(3) البرهان 1/406 - 408
(4) المستصفى 2/157
(5) الإحكام 3/46 ، 47
(6) التمهيد 2/65 ، 66
المُدَّعَى .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم تَساوي الاحتماليْن ؛ لأنّ الأصل عدم المخصّص ، والاحتمال بمُجَرَّده لا يَصلُح مُعارِضاً لِهذا الأصل ، فيَكون مُرَجّحا (1) .(1/207)
الدليل الثاني : أنّ لفْظ العموم يقتضي الاستغراق بشرط تَجَرُّده عن قرينة تخصّه ، ونحن لا نَعلم عدمها إلا بَعْد البحث عنها وطلبِها فلا نجدها ، ولِذا وجب البحث عن المخصّص قَبْل العمل بالعامّ ، وهو المُدَّعَى .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ الأصل عدم القرينة .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقد رُدّت هذه المناقَشة : بأنَّه يجوز أنْ تَكون القرينة موجودةً ، فمتى لم نَعلَم عدمَها لا نَعلم تَجَرُّد لفْظ العموم ، فلا يجب حَمْله على الاستغراق .
مناقَشة هذا الجواب :
وقد نوقش هذا الجواب : بأنّ هذا الأصل ـ وهو العمل بالعامّ بشرط تَجَرُّده عن قرينة تخصّه ـ يوجِب علينا التوقف أبداً ؛ لِجواز وجود القرينة المخصّصة .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقد رُدّت هذه المناقَشة : بأنّ الواجب علينا أنْ نَبحث ونَجتهد في الأصول ، فإذا لم نَجِد حَكَمْنَا بعدم ذلك ، ولا نَتوقف لِنترقب ما عساه أنْ يوجَد ، تماماً كما نقول في الحاكم إذا شَهِد عنده اثنان بَحَث عن عدالتهما ،
(1) يُراجَع : المحصول 1/405 والإبهاج 2/149 ، 150 وإرشاد الفحول /241 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 2/268
فإذا لم يجد ما يُسقِط العدالة وجب عليه الحُكْم ، ولا يَترقَّب أنْ يَجِد قَدْحاً فيما بَعْد (1) (2) .
والرّاجح عندي : ما عليه الصيرفي ومَن تَبِعه مِن أصحاب المذهب الأول القائل بجواز العمل بالعامّ قَبْل البحث عن المخصّص ؛ لأنّه متناسِق مع الحَمْل على الأصل ، والأصل استغراق العامّ لِكُلّ أفراده ، صحيح أنَّه يحتمل التخصيص لكنّ هذا الاحتمال لا يُخرِجه عن أصْله ..(1/208)
كما أنّ البحث عن المخصّص يَجعلنا نَتوقف عن العمل بأحكام الشريعة التي وردَت بصيغة العموم كُلّها حتى نَبحث عن مخصّص ، وهو ما لم يُعهَد في سلفِنا الصالح عندما كان الصحابة - رضي الله عنهم - ومَن تَبِعهم يأتيهم لفْظ عامّ مِن الكتاب أو السُّنَّة عَمِلوا به ولم يَتوقفوا بحثاً عن مخصّص أو ناسِخ .
هذا .. وقد يَكون الحُكْم الوارد في اللفظ العامّ واجباً أو مندوباً ، أيْ مطلوب فِعْله ، والتوقف بحثاً عن المخصّص يعارِض طلب الفعل ، والامتناع عن أداء الفعل المطلوب لا يجوز شرعاً ، ولِذا كان الآخِذ بالعامّ قَبْل البحث عن المخصّص هو المُسارِع لِلامتثال لأمْر الشارع ؛ لأنّه ربّما لا يَكون مِن أهْل العِلْم فلا يَصِل أو لا يقف على المخصّص ، وربّما يَكون مِن أهْل العِلْم ولم يَقِف على المخصّص .
(1) التمهيد لِلكلوذاني 2/67 بتصرف .
(2) تُراجَع هذه المسألة في : شرْح اللمع 1/340 - 343 والمحصول 1/404 ، 405 والإحكام لِلآمدي 3/46 ، 47 والإبهاج 2/147 - 150 ومختصر المنتهى مع شرْح العضد 2/168 وروضة الناظر /212 ، 213 ونهاية السول 2/127 ، 128 وبيان المختصر 2/412- 414 والبحر المحيط 3/36 - 49 والتحصيل 1/372 والبرهان 1/406 - 408 والتبصرة /112 ، 113 والتمهيد لِلكلوذاني 2/65 - 70 والمسوّدة 109 - 111 وتيسير التحرير 2/230 ، 231 ومُسَلَّم الثبوت 1/368 ، 369 وشرْح طلعة الشمس 1/112 ، 113 وإرشاد الفحول /240 ، 241 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 2/265 - 269
الموضع الثاني : المدة التي يجب فيها البحث عن المخصّص ..
فَرَّع الفخر الرازي هذا الموضع على المسألة المتقدمة ، أعني الموضع الأول في هذا المطلب ، وهو تفريع له وجاهته ؛ لأنّه مبنيّ على القول بوجوب البحث عن المخصّص قَبْل العمل بالعامّ ، وهو ما عليه أصحاب المذهب الثاني .
وقد ذُكِر لِلأصوليّين في ذلك مذاهب :
المذهب الأول : حصول غلبة الظَّنّ بالانتفاء عند الاستقصاء في البحث .(1/209)
وهو ما عليه الأكثر ، ومنهم ابن سريج .
ووجْهتهم : أنّ الاستقراء إنَّما يفيد الظَّنّ ، والبحث إنَّما يَكون بالاستقراء ، فشرْط القَطْع سدّ لِباب العمل بالعامّ ، ولِذا وجب البحث حتى حصول غلبة الظَّنّ بعدم وجود المخصّص .
المذهب الثاني : لا بُدّ مِن اعتقاد جازم .
وإليه ذهب جماعة مِن الأصوليّين ، واختاره الباقلاني .
ووجْهتهم : أنَّه إذا كَثُر بحْث المجتهِد عن المخصّص ولم يَجِد مع هذا قضت العادة بالقَطْع بعدم المخصّص .
المذهب الثالث : لا بُدّ مِن القَطْع بانتفاء الأدلة .
وإليه ذهب القاضي أيضا .
ووجْهتهم : أنّ الاعتقاد الجازم مِن غيْر دليل قاطِع سلامة قلْب وجهْل بل العالِم الكامل يُشعِر نَفْسه بالاحتمال حيث لا قاطِع ، ولا تَسكُن نَفْسه .
المذهب الرابع : يكفيه أَدْنَى نظر وبحْث .
وقد جمَع الغزالي ـ رحمه الله ـ بيْن هذا المذهب والمذهب الأول ، ونَسَبه إلى قوْم دون أنْ يَذكُر له صاحِبا .
المذهب الخامس : أنَّه يجب العمل بأَقَلّ ما يَتناوله العموم ..
وهو الثلاثة في الجَمْع مَثَلاً ؛ لأنّ أَقَلّ ما يَتناوله اللفظ هو المتحقِّق عندهم إرادته مِن اللفظ ، فيجب إجراء العموم فيه عند إطلاقه ؛ لِتَحقُّق إرادته ، كما أنّ ما عَدَا الأقلّ غيْر متحقِّق إرادة دخوله تحْت العامّ .
ونَسَبه السالمي ـ أيضاً ـ إلى قوم ولم يُسَمّهم (1) .
والأَوْلى عندي ـ إنْ سلَّمْنَا جدلاً بوجوب البحث عن المخصّص قَبْل العمل بالعامّ ـ هو : ما عليه أصحاب المذهب الأول ، وهو حصول غلبة الظَّنّ بالانتفاء عند الاستقصاء في البحث .
أمّا المذهبان الثاني والثالث : فكِلاهما فيه كلفة وعناء حتى بالنسبة لِلمجتهِد .
وأمّا المذهبان الرابع والخامس : فكلاهما يأخذ بأدنى درجات البحث والنظر ، وهذا في حدّ ذاته لا يكفي لِتحصيل المخصّص .
ومِمَّا تَقَدَّم كان المذهب الأول مذهباً وسطاً بيْن الفريقيْن ؛ الأمرَ الذي يؤهِّله لِلترجيح والاختيار .(1/210)
(1) يُراجَع : المستصفى 2/158 - 160 والبحر المحيط 3/49 ، 50 وتيسير التحرير 1/231 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/268 وشرْح طلعة الشمس 1/114
المطلب الرابع
أقَلّ العامّ الباقي بَعْد التخصيص
اختلَف الأصوليّون في المقدار الذي لا بُدّ مِن بقائه بَعْد التخصيص على مذاهب ، حصَرْتُها فيما يلي :
المذهب الأول : لا بُدّ مِن بقاء جَمْع كثير .
وهو ما عليه أَكثَر الشافعية والمعتزلة ، واختاره أبو الحسين البصري (1) ، وإليه مال إمام الحرميْن (2) ، وصحَّحه الفخر الرازي (3) ، واختاره البيضاوي (4) .
واختلَفوا في تفسير الجَمْع الكثير :
فقيل : لا بُدّ أنْ يقرب مِن مدلوله قَبْل التخصيص .
وقال البيضاوي : لا بُدّ أنْ يَكون غيْر محصور .
واستدَلّوا : بأنَّه لو قال :" أَكلتُ كُلّ رُمّان في البيت " ولم يأكل غيْر واحدة لَكان ذلك مستهجَناً في اللغة سمجاً ، أيْ رديئاً مِن الكلام قبيحا .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الأول : أنّ هذا الدليل لا يَحصُل به المُدَّعَى ؛ لأنّه إنَّما يَنفي الواحد فقط .
(1) يُراجَع : الإحكام لِلآمدي 2/261 والمعتمد 1/236
(2) البرهان 1/354 ، 355
(3) المحصول 1/399 ، 400
(4) منهاج الوصول مع الإبهاج 2/127
الثاني : أنّ البيضاوي ـ وهو مِن القائلين بهذا المذهب ـ قد جوَّز :" له علَيّ عشرة إلا تسعة " ، والاستثناء عنده مِن المخصّصات المنفصلة ، فهذا التخصيص وأمثاله لم يَبْقَ فيه عَدَد غيْر محصور (1) .
المذهب الثاني : أنّ العامّ إنْ كان ظاهراً مُفرَداً ـ كـ" مَن " والألِف واللام نحْو :" اقتل مَن في الدار ، واقطع السارق " ـ جاز التخصيص إلى أَقَلّ المراتب ، وإنْ كان في غيْرها مِن ألفاظ الجموع ـ كـ" المسلمين " ـ فيجوز إلى أَقَلّ الجَمْع وهو الثلاثة (2) .
وهو محكيّ عن القفّال الشاشي رحمه الله .(1/211)
واحتَجّوا : بأنّ اسم الجَمْع لا يُستعمَل فيما دون الثلاثة ، فالحَمْل عليه إسقاط له ، فلم يصحّ إلا بما يصحّ به الشرط .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الأول : أنَّه يجوز أنْ يُستعمَل لفْظ الجَمْع فيما دون الثلاثة ، ولِهذا قال تعالى { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاس } (3) والمراد به نعيم بن مسعود الأشجعي ، وقوله تعالى { أَولَئكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُون } (4) والمراد به السيدة عائشة رضي الله عنها .
الثاني : أنّ الاستثناء عند أصحاب هذا المذهب يجوز أنْ يستثني مِن اللفظ العامّ حتى يبقى منه واحد وإنْ كان اللفظ العامّ لا يُستعمَل في الواحد (5) .
(1) يُراجَع : المحصول 1/400 ونهاية السول 2/115 ، 116 والإبهاج 2/127 ، 128
(2) يُراجَع : الإبهاج 2/128 ونهاية السول 2/116
(3) سورة آل عمران مِن الآية 173
(4) سورة النور مِن الآية 26
(5) يُراجَع : إحكام الفصول /249 والتبصرة /126
المذهب الثالث : جواز تخصيص العامّ إلى أنْ يبقى واحدا .
وهو ما عليه الحنفية وعامّة أهْل الحديث وأَكثَر الشافعية ، واختاره الشيرازي والباجي وابن قدامة .
واحتَجّوا لِذلك : بأنّ التخصيص معنى يُخرِج مِن اللفظ العامّ ما لولاه لَدَخل فيه ، فجاز أنْ يطرأ على اللفظ العامّ إلى أنْ يبقى منه واحد كالاستثناء (1) .
المذهب الرابع : أنّ التخصيص إنْ كان باستثناء أو بدل جاز إلى واحد ، نحْو :" عشرة إلا تسعة " و:" اشتريتُ العشرة أحدها " ، وإلا فإنْ كان بمتصِل غيْرهما ـ كالصفة والشرط ـ جاز إلى اثنيْن ، نحْو :" أَكرِم الناس العلماء " أو " إنْ كانوا علماء " ..
وإنْ كان بمنفصِل : فإنْ كان في محصور قليل جاز إلى اثنيْن ، كما تقول :" قتلتُ كُلّ زنديق " وهمْ ثلاثة أو أربعة ، وإنْ كان في غيْر محصور أو في عَدَد كثير فلا بُدّ مِن بقاء الجَمْع .
وهو اختيار ابن الحاجب .(1/212)
واحتَجّ لِذلك : بأنَّه لا بُدّ في العامّ غيْر المحصور القليل مِن بقاء عَدَد يقرب مِن مدلول العامّ ، سواء كان العامّ مِن أسماء الشرط ـ نحْو :" مَن دخَل داري فأَكرِمْه " ـ أو مِن غيْرها وكان غيْر محصور ـ نحْو :" قتلتُ كُلّ مَن في المدينة " ـ أو محصوراً كثيراً ، نحْو :" أَكلتُ كُلّ رُمّانة " وكان عنده ألْف ..
(1) يُراجَع : التبصرة /125 ، 126 وإحكام الفصول /248 ، 249 وروضة الناظر /210 ، 211 وميزان العقول /302 وشرْح الكوكب المنير 3/271 ، 272 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/306
وتقرير الحُجّة كما قال الأصفهاني (1) : أنَّه لو قال :" قتلتُ كُلّ مَن في المدينة " وقد قتَل ثلاثةً عُدّ لاعباً ، وكذلك لو قال :" أكلتُ كُلّ رُمّانة " وقد أكَل ثلاثةً ، وكذلك لو قال :" مَن دخَل داري أو أكَل فأَكرِمْه " وفسّر بثلاثة فلو جاز التخصيص في هذه الصوَر إلى ثلاثة لَمَا عُدّ لاعبا (2) .
مناقَشة هذا الدليل :
ويمكِن مناقَشة هذا الدليل : بأنَّه تفريق بيْن المخصّصات بِلا دليل ولا حُجّة ، كيف وقد رَدّ ابن الحاجب القائلين ببقاء العموم إلى واحد وإلى اثنيْن ثُمّ أتَى فجمع المذاهب كُلّها ؟! وهو تجميع ـ كما قال ابن السبكي رحمهما الله ـ لا نعرفه بغيْره (3) .
هذا .. وقد اكتفيتُ بإيراد المذاهب الأربعة المشهورة ، وتركتُ ما دونها مِن الشهرة (4) .
وأَرى : أنّ المذهب الثالث المجوِّز لِتخصيص العامّ إلى أنْ يبقى واحد
(1) شمْس الدين الأصفهاني : هو أبو الثناء محمود بن أبي القاسم عبد الرحمن بن أحمد بن محمد ابن أبي بكر بن علِيّ الأصفهاني الشافعي الأصولي ، وُلِد بأصفهان سَنَة 674 هـ ..
مِن مصنَّفاته : بيان المختصَر ، تشييد القواعد في شرْح تجريد العقائد ، مَطالع الأنظار شرْح طوالع الأنظار ، ناظر العين في المنطق .
تُوُفِّي بالقاهرة سَنَة 749 هـ .
الدرر الكامنة 4/327 والفتح المبين 2/165(1/213)
(2) بيان المختصر 2/241 ، 242 ويُراجَع شرْح العضد مع مختصر المنتهى 2/130 ، 131
(3) يُراجَع الإبهاج 2/129
(4) تُراجَع هذه المسألة في : التبصرة /125 ، 126 والمعتمد 1/236 ، 237 والبرهان 1/352 - 355 والمحصول 1/399 - 400 وقواطع الأدلة 1/181 ، 182 وإحكام الفصول /248 ، 249 وروضة الناظر /210 ، 211 والإحكام لِلآمدي 2/261 - 263 وميزان الأصول /301 ، 302 وبذْل النظر /203 ، 204 والإبهاج 2/127 - 129 ونهاية السول 2/114 - 116 ومناهج العقول 2/115 - 120 والبحر المحيط 3/255 - 259 وشرْح الكوكب المنير 3/271 - 275
هو الأَوْلى بالقبول والترجيح ؛ حتى لا يأتي هذا الواحد الباقي بَعْد التّخصيص ويَدَّعِى أنَّه خارج العموم فلا يَشمله الحُكْم العامّ مع أنَّه ما زال داخلاً فيه ؛ لِعدم خروجه بالتخصيص كما هو الحال في الاستثناء .
الفصل الرابع
أثر العامّ في الأحكام
وفيه تمهيد وخمسة فروع :
التمهيد في : أثر القواعد الأصوليّة في الأحكام الشَّرعيَّة .
الفرع الأول : نِصَاب زكاة الزروع والثمار .
الفرع الثاني : التسمية عند الذبح .
الفرع الثالث : قتْل المرأة المرتَدّة .
الفرع الرابع : قيام الليل .
الفرع الخامس : قتْل المسلِم بالذِّمِّيّ .
تمهيد
في أثر القواعد الأصوليّة
في الأحكام الشَّرعيَّة
لَمّا كان عِلْم أصول الفقه هو ( العِلْم بالقواعد التي يُتَوصَّل بها إلى استنباط الأحكام الشَّرعيَّة الفرعيَّة مِن أدلّتها التَّفصيليَّة ) فإنّ الغاية العظمى والهدف الأَسمَى مِن دراسة هذا العِلْم حصْر تلك القواعد الأصوليّة لا لِذاتها ، وإنَّما لِتَكون سراجاً يسير الفقيه على ضوْئِه في استخراج الأحكام الشَّرعيَّة مِن أدلّتها التفصيلية ..
وإذا كانت القواعد الأصوليّة لم تُبْنَ إلا لِتُستنبَط الأحكام على هَدْيِها فهذه الأحكام مبنيَّة عليها ، ومَن تَوَصَّل إليها دُونها فلا اعتداد باجتهاده ومردود عليه .(1/214)
وفي المقاِبل كانت قواعد الأصول غايتها التوصل إلى استنباط الأحكام لأنّ القواعد التي لا يستفاد منها في ذلك تُصْبِح بِلا فائدة ، وهو أمْر مرفوض ، وغيْر مقبول أنْ يَبذل الأصوليّون جهْدهم في استخراج قواعد أصوليّة لا تُعطِي ثمرةً فقهيّة ..
وفي ذلك يقول الشاطبي رحمه الله (1) :" كُلّ مسألة مرسومة في
(1) الشاطبي : هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطي المالكي ، فقيه أصوليّ مُفَسِّر مُحَدِّث ..
مِن مصنَّفاته : الموافقات ، الاعتصام ، أصول النحو .
تُوُفِّي سَنَة 790 هـ .
الفتح المبين 2/212 ، 213
أصول الفقه لا يُبنَى عليها فروع فقهيَّة أو أبواب شرعيَّة أو لا تَكون عوناً في ذلك فوضْعها في أصول الفقه عارية " (1) .
ولقد صنَّف الأصوليّون فنّاً تَتَّضِح فيه أثر القواعد الأصوليّة في الفروع الفقهيَّة ..
ومِن أَشهَر هذه المصنَّفات : " التمهيد في تخريج الفروع على الأصول " لِلإسنوي ، و" تخريج الفروع على الأصول " لِلزنجاني (2) ، و" مفتاح الأصول " لِلتلمساني (3) ، و" القواعد والفوائد الأصوليّة " لابن اللَّحّام (4) .
وما أَحوَجَنا اليوم إلى أنْ نَشُدّ على هذا المنهج ونَتمسّك به في كُلّ دراستنا الأصوليّة ؛ لِنُذَيِّل كُلّ مسألة أو قاعدة أصوليّة ببعض الفروع الفقهية ..
(1) الموافقات 1/17
(2) الزنجاني : هو شهاب الدين أبو المناقب محمود بن أحمد بن محمود الزنجاني الشافعي ، فقيه أصوليّ مُحَدِّث مُفَسِّر ..
مِن مصنَّفاته : تخريج وتهذيب الصحاح .
استُشهِد ببغداد أيّام التتار سَنَة 656 هـ .
طبقات الشافعية الكبرى 5/154 والفتح المبين 2/72
(3) التلمساني : هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علِيّ التّلمسانيّ الشريف الحسنيّ المالكيّ ..
مِن مصنَّفاته : مفتاح الأصول في بناء الفروع على الأصول .
تُوُفِّي سَنَة 771 هـ .
الفتح المبين 2/189 ، 190(1/215)
(4) ابن اللَّحّام : هو علاء الدين أبو الحَسَن عَلِيّ بن محمد بن عَلِيّ الدِّمشقيّ الحنبليّ ، المعروف بـ" ابن اللَّحّام " لِصنعة والده ، فقيه أصوليّ ، وُلِد ببعلبك ، ودَرَس بدمشق والقاهرة ..
مِن مصنَّفاته : القواعد والفوائد الأصوليّة ، المختصَر .
تُوُفِّي سَنَة 803 هـ .
شذرات الذهب 7/31 والضوء اللامع 5/320
وذلك لِمَا يلي :
1- نَفْي صفة الجمود عن عِلْم أصول الفقه كما يسيء البعض فهماً له .
2- تأكيد عمْق العلاقة بيْن الأصول والفقه .
3- بيان أثر القواعد الأصوليّة في الأحكام الشَّرعيَّة .
وها أنذا مِن خلال هذا الفصل أَستعرِض نماذج لِبعض الفروع الفقهية التي بُنِي استخراج الأحكام فيها على القواعد الأصوليّة في العموم ..
وقد حصَرْتُها في الفروع التالية :
الفرع الأول : نِصَاب زكاة الزروع والثمار .
الفرع الثاني : التسمية عند الذبح .
الفرع الثالث : قتْل المرأة المرتَدّة .
الفرع الرابع : قيام الليل .
الفرع الخامس : قتْل المسلِم بالذِّمِّيّ .
الفرع الأول
نِصَاب زكاة الزروع والثمار
القاعدة المُفَرَّع عليها : تَعارُض العامّ والخاصّ .
الدليل الوارد فيه : قوله تعالى { وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه } (1) وقوله - صلى الله عليه وسلم - { فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيّاً (2) الْعُشْرُ ، وَفِيمَا سُقِي بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْر } (3) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ (4) صَدَقَةٌ ، وَلاَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ (5) صَدَقَةٌ ، وَلاَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ (6) صَدَقَة } (7) ..
(1) سورة الأنعام مِن الآية 141
(2) العثريّ : النخيل الذي يَشرَب بعروقه مِن التربة بدون سقْي ، أو ما سُقِي سحّاً ، أو ما لا يسقيه إلا ماء المطر .. المصباح المنير 2/393(1/216)
(3) أَخرَجه البخاري في كتاب الزكاة : باب العُشْر فيما يُسقَى مِن ماء السماء أو بالماء الجاري برقم ( 1388 ) والترمذي في كتاب الزكاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : باب ما جاء في الصدقة فيما يُسقَى بالأنهار وغيْرها برقم ( 579 ) ، كلاهما عن عبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما .
(4) الوسق : ما قَدْره ستّون صاعاً مِن تمْر أو نحْوه ، أو ما يساوي 130 كيلو جراماً ، والخمسة أوسق تُساوِي 653 كيلو جراما ..
يُراجَع : معجَم المصطلحات والألفاظ الفقهيّة لِمحمود عبد الرحمن 3/477 والفقه الإسلاميّ وأدلّته لِلزحيلي 3/1890
(5) الأوقيّة : سبعة مثاقيل : ( 119 ) جرام فضة .. الفقه الإسلامي لِلدكتور وهبة الزحيلي 1/146
(6) الذود : ما بيْن الثلاث إلى التسع مِن الإبل ، وقيل : ما بيْن الثلاث إلى العشر .. لسان العرب لابن منظور 3/1525
(7) أَخرَجه البخاري في كتاب الزكاة : باب ما أُدِّي زكاته فليس بكنز برقم ( 1317 ) ومسلِم في كتاب الزكاة برقم ( 1625 ) والترمذي في كتاب الزكاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : باب ما جاء في صدقة الزرع والتمر والحبوب برقم ( 568 ) ، كُلّهم عن أبي سعيد الخدريّ - رضي الله عنه - .
فالآية الكريمة والحديث الأول أَوجَب الزكاة في كُلّ ما سقته السماء والعيون أو نحْوها مِمَّا لا تَدَخُّل لِلإنسان في ريّه العُشْر ، ونِصْف العُشر فيما سُقِي بالنضح ، والحُكْم هنا عامّ مأخوذ مِن لفْظ { مَا } ، ولِذا فإنَّه يوجِب الزكاة في القليل والكثير دون تحديد نِصَاب لِهذا الواجب .
والحديث الثاني نفَى الحُكْم عن ما كان أَقَلّ مِن خمسة أَوسُق ، أو بتعبير أَدَقّ : قَصَر حُكْم العامّ على ما فوْق خمسة أوسُق ، أمّا ما دونها فلا تجب فيه الزكاة .(1/217)
ونظراً لِتَعارُض الدليليْن ـ أحدهما عامّ في كُلّ ما يخرج مِن الأرض ، والثاني خاصّ فيما فوْق خمسة أوسُق ـ فإنّ العلماء اختلَفوا في وجوب الزكاة فيما دون خمسة أوسُق على أقوال ..
أَشهرُها قولان :
القول الأول : عدم وجوب الزكاة فيها .
وهو ما عليه جمهور العلماء ، وقول أبي يوسف ومحمد بن الحَسَن (1) مِن الحنفية .
وحُجّتهم : أنّ الخاصّ في حديث الأوسق يقضي على العامّ في { وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه } وحديث { فِيمَا سَقَتِ السَّمَاء ... } فيخصّص عمومه ، وفيه جَمْع بيْن الأدلة ؛ فقدْ عَمِلْنَا بالخاصّ مِن جميع الوجوه ، وعَمِلْنَا بالعامّ فيما عَدَا ما تَقَدَّم مِن وجوه الخاصّ ، وإعمال الدليليْن أَوْلى
(1) محمد بن الحَسَن : هو أبو عبد الله محمد بن الحَسَن الشيباني ، وُلِد بواسط بالعراق ، اشتهر بالتَّبَحُّر في الفقه والأصول ، تَوَلَّى قضاء الرقة مِن قِبَل الخليفة هارون الرشيد ..
مِن مصنَّفاته : المبسوط في فروع الفقه ، الزيادات ، الآثار .
تُوُفِّي سَنَة 186 هـ .
الأعلام 3/882 والفتح المبين 1/115
مِن إهمال أحدهما والعمل بالآخَر ، ولا يَتحقَّق ذلك إلا بالقول بعدم وجوب الزكاة فيما دون خمسة أَوسُق (1) .
القول الثاني : وجوب الزكاة فيها .
وهو ما عليه الحنفية ، وهو قول ابن عباس وزيْد بن علِيّ (2) والنخعي (3) - رضي الله عنهم - .
واحتَجّوا لِذلك : بقوله تعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْض } (4) ، وقوله تعالى { وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه } (5) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - { مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ ، وَمَا سُقِي بَغَرْبٍ (6) أَوْ دَالِيَةٍ (7) فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْر } (8) ..(1/218)
وجْه الدلالة : أنّ جميع النصوص السابقة ثلاثتها أَوجبَت الزكاة في كُلّ ما يخرج مِن الأرض مِن غيْر فَصْل بيْن القليل والكثير ، ولأنّ سبب الوجوب
(1) يُراجَع : بداية المجتهد 1/265 والمهذَّب 1/506 - 508 والكافي 1/397 - 399 وأحكام القرآن لابن العربي 2/282 ، 283
(2) زيْد بن علِيّ : هو أبو الحسين زيْد بن علِيّ بن الحسين بن علِيّ بن أبي طالب - رضي الله عنهم - ، أخو أبي جعفر محمد الباقر ، كان ذا عِلْم وجلالة وصلاح ..
تُوُفِّي سَنَة 122 هـ .
طبقات ابن سعد 5/325 وشذرات الذهب 1/258 ، 159
(3) النخعي : هو أبو عمران إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي اليماني ثُمّ الكوفي ، أحد الأعلام الحُفّاظ وفقيه العراق ..
تُوُفِّي سَنَة 96 هـ .
طبقات الفقهاء لِلشيرازي /82 وطبقات الحفّاظ لِلسيوطي /29
(4) سورة البقرة مِن الآية 267
(5) سورة الأنعام مِن الآية 141
(6) الغرب : الدَّلْو العظيمة يُسْتَقَى بها .. المصباح المنير 2/444
(8) الدّالية : الدلو ونحْوها وخشب يُصنَع كهيئة الصليب ويُشَدّ برأْس الدّلو ثُمّ يؤخَذ حبْل يُرْبَط طرفُه بذلك وطرفُه بجِذْع قائم على رأْس البئر ويُسْقَى بها .. المصباح المنير 1/199
وهي الأرض النّامية بالخارج لا يوجِب التفصيل بيْن القليل والكثير .
وقال الحنفية ردّاً على حديث الأوساق : إنّه غيْر مخصِّص لِلعموم المتقدِّم كما ذهب الجمهور ؛ لِوجْهيْن :
الأول : أنَّه خبر آحاد ، فلا يُقبَل في مُعارَضة الكتاب والخبر المشهور .
الثاني : أنّ المرادَ مِن الصدقةِ الزكاةُ ؛ لأنّ مُطْلَق اسم " الصدقة " لا يَنصرف إلا إلى الزكاة المعهودة ، ولِذا فإنّا نقول : إنّ ما دون خمسة أَوسُق مِن طعام أو تمْر لِلتجارة لا تجب فيه الزكاة ما لم يَبْلُغ قيمتها مائتَيْ درهم ، أو يحتمل الزكاة فيُحمَل عليها ؛ عملاً بالأعلى بقَدْر الإمكان (1) .(1/219)
وأَدفَع حُجّة الحنفية : بأنّ حديث الأوساق خبر آحاد ظاهِرُه التعارض مع الكتاب والخبر المشهور كما ذهبتم ، لكنّ التعارض ليس حقيقيّاً ، وإنَّما هو ظاهريّ فقط ؛ بدليل أنَّه يمكِن الجَمْع بيْنهما بقَصْر العامّ على ما فوْق خمسة أَوسُق وهو التخصيص ، وهو أَوْلى مِن إهمال المخصّص وإبطاله .
كما أنّي لا أُسَلِّم لكم أنّ المرادَ بالصَّدقةِ الزكاةُ ؛ لأنّ الصدقة هي العطيّة التي بها تُبتَغَى المثوبة مِن الله تعالى (2) ، ولِذا كانت في الأصل لِلمُتَطَوِّع به ..
وفي ذلك يقول الراغب الأصفهاني (3) :" الصدقة : ما يُخرِجه الإنسان مِن ماله على وجْه القُربة كالزكاة ، لكنّ الصدقة في الأصل تقال لِلمتطوِّع
(1) يُراجَع : بدائع الصنائع 2/59 وأحكام القرآن لِلجصّاص 3/18 ، 19
(2) أنيس الفقهاء /134
(3) الراغب الأصفهاني : هو أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل ، أديب لغويّ مُفَسِّر حكيم ..
مِن مصنَّفاته : مفرَدات ألفاظ القرآن ، تحقيق البيان في تأويل القرآن .
تُوُفِّي سَنَة 502 هـ .
معجم المؤلِّفين 4/59
به ، والزكاة تقال لِلواجب " (1) .
والغالب عند الفقهاء استعمال هذه الكلمة في صدقة التَّطَوُّع خاصّة (2) .
وعلى ضوء ما تَقَدَّم كان القول الأول القائل بعدم وجوب الزكاة فيما دون خمسة أَوسُق هو الراجح عندي ؛ لِقوّة حُجّته ، ولِضَعْف أدلة القول الثاني وعدم سلامتها مِن المناقَشة والاعتراض .
وجْه التفريع على القاعدة :
بَعْد الوقوف على أَشهَر أقوال العلماء في زكاة ما دُون خمسة أَوسُق اتَّضَح لنا أنّ العامّ هنا عارَض الخاصّ ، ووفْق الراجح عند تَعارُضهما فإنّ الخصوص يُبنَى على العموم ، فيَكون القول الأول بانياً الخصوص على العموم ، فلا تجب الزكاة فيما دون خمسة أَوسُق ، ويَكون القول الثاني خلاف ذلك ، فيبقى العامّ على عمومه .
والأَوْلى أنْ يُبْنَى الخصوص على العموم ، فلا زكاة فيما دون خمسة أَوسُق ..(1/220)
وفي ذلك يقول ابن رشْد (3) :" فمَن رَأَى الخصوص يُبنَى على العموم قال : لا بُدّ مِن النِّصَاب ، وهو المشهور ..
ومَن رَأَى أنّ العموم والخصوص متعارِضان إذا جُهِل المتقدِّم فيهما والمتأخِّر ؛ إذ كان قد يُنسَخ الخصوص بالعموم عنده ، ويُنسَخ العموم
(1) المفردات /278 ، 279
(2) الموسوعة الفقهية 26/323
(3) ابن رشد : هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن أبي الوليد الغرناطي المالكي ، فقيه أديب أصوليّ حكيم ، وُلِد بقرطبة سَنَة 52 هـ ..
مِن مصنَّفاته : مختصر المستصفى ، بداية المجتهِد ونهاية المقتصِد .
تُوُفِّي بمراكش سَنَة 595 هـ ونُقِلَت جثّته إلى قرطبة .
النجوم الزاهرة 6/54 والفتح المبين 2/38 ، 39
بالخصوص ؛ إذ كُلّ ما وجب العمل به جاز نَسْخه ، والنسخ قد يَكون لِلبعض وقد يَكون لِلكُلّ .
ومَن رَجَّح العموم قال : لا نِصَاب .
ولكنّ حَمْل الجمهور عندي الخصوص على العموم هو مِن باب ترجيح الخصوص على العموم في الجزء الذي تَعارَضَا فيه ؛ فإنّ العموم فيه ظاهِر ، والخصوص فيه نصّ " (1) .
(1) بداية المجتهد 1/265
الفرع الثاني
التسمية عند الذبح
القاعدة المُفَرَّع عليها : العِبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ..
وقيل : إنّه مُفَرَّع على تَعارُض العامّ والخاصّ .
الدليل الوارد فيه : قوله تعالى { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْق } (1) ..
وجْه الدلالة : أنّ الله تعالى نَهَى عن أكْل كُلّ مذبوح لم يُذكَر اسم الله عليه ، وهذا العموم مأخوذ مِن لفْظ " مَا " ، ولِذا كانت التسمية هي المبيحة لِلأكل .
ولكنّ العلماء اختلَفوا في حُكْم التسمية عند الذبح على أقوال ، أَشهرُها ثلاثة :
القول الأول : أنَّها فرْض على الإطلاق .
وهو ما عليه الظاهرية ، ورواية عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - ..
ورُوِي عن ابن عُمَر رضي الله عنهما (2) والشعبي - رضي الله عنه - (3) وابن(1/221)
(1) سورة الأنعام مِن الآية 121
(2) ابن عُمَر : هو الصّحابيّ الجليل أبو عبد الرحمن عبد الله بن عُمَر بن الخطّاب القرشي العدوي رضي الله عنهما ، أحد الأعلام في العِلْم والعمل ..
تُوُفِّي بمكة سَنَة 74 هـ .
التاريخ الكبير 5/125 وتذكرة الحُفّاظ 1/37 والطبقات الكبرى لابن سعد 4/142 - 187
(3) الشعبي : هو أبو عمرو عامر بن شراحيل بن معبد الشعبي ، وُلِد في إمرة عُمَر بن الخطّاب - رضي الله عنه - وتَتلمَذ على كبار الصحابة ، كان مِن أَفقَه التابعين وأفاضلهم وأحد الحُفّاظ .. =
سيرين - رضي الله عنه - (1) .
واحتَجّوا لِذلك : بعموم قوله تَبارَك وتعالى { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْه } ؛ فالنهي عن أكْل متروك التسمية يُوجِب التسمية ويُحَرِّم الأكل مِن متروكها مُطْلَقاً ، عامداً كان أم ناسيا (2) .
واستثنَى ابن حزْم الظاهري (3) مِن هذا العموم كُلّ ما غاب عنّا مِمَّا ذكّاه مُسْلِم فاسق أو جاهل أو كتابيّ فحلال أكْله ؛ محتجّاً بما روته السيدة عائشة أنّ قوماً قالوا لِلنّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - :" إِنَّ قَوْماً يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ لاَ نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لاَ ؟ " فقال - عليه السلام - { سَمُّوا اللَّهَ أَنْتُمْ وَكُلُوا } ..
قالت السيدة عائشة رضي الله عنها :" وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْر " (4) (5) .
= تُوُفِّي سَنَة 104 هـ .
تاريخ بغداد 12/227 وطبقات الحُفّاظ /32
(1) ابن سيرين : هو أبو بكر محمد بن سيرين الأنصاري البصري ، مولى أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، وُلِد بالبصرة ، ونشأ بزّازاً يبيع الثياب ، سَمِع الحديث مِن كثير مِن الصحابة ..
يُنسَب له كتاب في تعبير الرؤيا .
تُوُفِّي سَنَة 110 هـ .
تاريخ بغداد 5/331 والبداية والنهاية 9/267
(2) يُراجَع : بداية المجتهد 1/448 والجامع لأحكام القرآن 7/50(1/222)
(3) ابن حزْم الظّاهريّ : هو علِيّ بن أحمد بن سعيد بن حزْم الفارسيّ الأصل ثُمّ الأندلسيّ القرطبيّ ، الفقيه الحافظ المتكلِّم الأديب ، أستاذ الفقه الظّاهريّ ..
مِن مصنَّفاته : المُحَلَّى ، الإحكام في أصول الأحكام ، الإملاء في شرْح الموطأ .
تُوُفِّي سَنَة 456 هـ .
وفيات الأعيان 3/325 - 330 وطبقات الحُفّاظ /436 ، 437
(4) أَخرَجه البخاري في كتاب التوحيد : باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها برقم ( 6849 ) وأبو داود في كتاب الضحايا : باب ما جاء في أكْل اللحم لا يدري أذُكِر اسم الله عليه أم لم يُذكَر ؟ برقم ( 2446 ) .
(5) المُحَلَّى 4/457 ، 458
القول الثّاني : أنَّها فرْض مع الذِّكْر ، ساقطة مع النسيان .
وهو ما عليه الحنفية والمالكية والحنابلة ، ورُوِي عن علِيّ (1) وابن عباس ومجاهد (2) وعطاء (3) والثوري (4) - رضي الله عنهم - ، وهو قول الإمام مالك والإمام أبي حنيفة ، ورُوِي عن الإمام أحمد - رضي الله عنهم - .
واحتَجّوا لِذلك : بحديث { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْه } (5) ، كما أنّ الخطاب في قوله تعالى { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ
(1) الإمام عَلِيّ : هو الصّحابيّ الجليل أبو الحَسَن عَلِيّ بن أبي طالب بن عبد المُطَّلِب كَرَّم الله وجْهه ابن عمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أوَّل مَن أَسلَم مِن الصِّبيان ، وُلِد سَنَة 23 قَبْل الهجرة ، وتَرَبَّى في حِجْر المصطفَى - صلى الله عليه وسلم - ، وهو رابِع الخلفاء الراشدين ..
تُوُفِّي سَنَة 40 هـ .
الفتح المبِين 1/60 - 65
(2) مجاهد : هو أبو الحَجّاج مجاهد بن جبير القرشي المخزومي ، أحد أئمة التابعين والمفسِّرين ، كان مِن أخصّاء أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما ، وكان أَعلَم أهْل زمانه بالتفسير ..
تُوُفِّي وهو ساجد سَنَة 100 هـ .
البداية والنهاية 9/224(1/223)
(3) عطاء : هو أبو محمد عطاء بن أبي رباح القرشي ، وُلِد في خلافة عثمان - رضي الله عنه - ، حَدَّث عن جماعة مِن الصحابة منهم أبو هريرة والسيدة عائشة والسيدة أمّ سلمة - رضي الله عنهم - ، كان مِن أكابر علماء التابعين ..
تُوُفِّي سَنَة 114 هـ .
طبقات ابن سعد 5/467 والبداية والنهاية 9/306
(4) سفيان الثّوريّ : هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثّوريّ الكوفيّ ، وُلِد سَنَة 96 هـ ، لُقِّب بـ" أمير المؤمِنين في الحديث " ..
مِن مصنَّفاته : مسنَد الثّوريّ .
تُوُفِّي بالبصرة سَنَة 161 هـ .
الطّبقات الكبرى لابن سعد 6/371 وطبقات الحُفّاظ 1/95
(5) أَخرَجه ابن ماجة عن أبي ذرّ - رضي الله عنه - في كتاب الطلاق : باب طلاق المُكْرَه والناسي برقم ( 2033 ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما برقم ( 2035 ) .
اللَّهِ عَلَيْه } خطاب لِلعامد دون الناسي ؛ ويدلّ عليه قوله تعالى في نسق التلاوة { وَإِنَّهُ لَفِسْق } ، وليس ذلك صفةً لِلناسي ، ولأنّ الناسي حال نسيانه غيْر مُكَلَّف بالتسمية (1) .
القول الثالث : أنَّها سُنَّة مؤكَّدة .
وهو ما عليه الشافعية ، وهو قول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - والحَسَن - رضي الله عنه - (2) ورُوِي عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء - رضي الله عنهم - ، ورُوِي عن الإمام مالك - رضي الله عنه - في رواية عنه ، وكذا الإمام أحمد - رضي الله عنه - .
واحتَجّوا لِذلك بأدلة ، أَذكُر منها :
الدليل الأول : قوله تعالى { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّم ... } إلى قوله تعالى { إِلا مَا ذَكَّيْتُم } (3) ؛ فأباح المُذَكَّى ولم يَذكُر التسمية ، ولو كانت واجبةً لَذَكَرها .
الدليل الثاني : أنّ الله تعالى أباح ذبائح أهْل الكتاب بقوله تعالى { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ حِلٌّ لَّكُم } (4) ، وهمْ لا يُسَمّون غالباً ، فدَلّ ذلك على أنَّها غيْر واجبة .(1/224)
الدليل الثالث : قول السيدة عائشة رضي الله عنها :" إِنَّ قَوْماً قَالُوا :" يَا رَسُولَ اللَّهِ .. إِنَّ قَوْمَنَا حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ ، يَأْتُونَنَا بِلَحْمٍ لاَ نَدْرِي
(1) يُراجَع : أحكام القرآن لِلجصّاص 3/10 والجامع لأحكام القرآن 7/50 ونَيْل المآرب 2/129 وبدائع الصنائع 5/46 وفتْح الباري 9/601 ونَيْل الأوطار 8/134
(2) الحَسَن : هو أبو سعيد الحَسَن بن يسار البصريّ ، مِن أكابر التابعين ، أَدرَك مائةً وعشرين مِن الصحابة ..
تُوُفِّي سَنَة 110 هـ .
شذرات الذهب 1/136
(3) سورة المائدة مِن الآية 3
(4) سورة المائدة مِن الآية 5
أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لَمْ يَذْكُرُوا ؛ أَنَأْكُلُ مِنْهَا ؟ " فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - { اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَكُلُوا } (1) ، ولو كان واجباً لَمَا أجاز الأكل مع الشّكّ .
ورَدّ الشافعية القائلين بالوجوب المستنِدين إلى ظاهِر الآية الكريمة المُحَرِّمة لأكْل كُلّ مذبوح لم يُذكَر اسم الله تعالى عليه ، فقالوا : الذي تقتضيه البلاغة أنّ قوله تعالى { وَإِنَّهُ لَفِسْق } (2) ليس معطوفاً ؛ لِلتَّبايُن التّامّ بيْن الجملتيْن ؛ إذ الأُولى فعليّة إنشائيّة ، والثانية اسميّة خبريّة ، ولا يجوز أنْ تَكون جواباً ؛ لِمكان الواو ، فتَعَيَّن أنْ تَكون حاليّة ، فتَقَيَّد النهي بحِلّ كوْن الذبح فسقاً ، والفسق في الذبيحة مُفَسَّر في كتاب الله تعالى بما أُهِلّ لِغَيْر الله به .
وعن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهم - وغيْرهما أنّ المراد بما لم يُذكَر اسم الله عليه الميتةُ ؛ وذلك أنّ مجوس الفُرْس قالوا لِقريش :" تأكلون مِمَّا قتلتم ولا تأكلون مِمَّا قَتَل الله ؟ " ، فأَنزَل الله تعالى { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْه } (3) .(1/225)
والأَوْلى عندي : أنّ التسمية سُنَّة ، فمَن تَرَكها عمداً أو نسياناً تُؤكَل ذبيحته ، وهو ما عليه الشافعية أصحاب القول الثالث ؛ لِقوّة حُجّتهم ، لكنّي لا أَتَّفِق معهم في تَعَمُّد التَّرْك ، ولستُ مع أصحاب القول الثاني في عدم حِلّ ذبيحة التّارك عَمْداً ..
ولِذا فإنّ تَعَمُّد التَّرْك عندي يجعلني آخُذ موقفاً مِن هذا المُكَلَّف ولا أساويه بمَن نسي التكليف ولم يَتعمد التَّرْك ، فيُكرَه حينئذٍ الأكل منها ،
(1) سبق تخريجه .
(2) سورة الأنعام مِن الآية 121
(3) مغني المحتاج 4/272 بتصرف ، ويُراجَع : أحكام القرآن لابن العربي 2/270 وأسباب النزول لِلنيسابوري /150
وهو ما عليه بعض المالكية ، وهو الأصحّ عند الشافعية ، وهو أحد ثلاثة أَوجُه عندهم ، والثاني : خلاف الأَوْلى ، والثالث : يأثم بالتَّرْك ولا يُحَرَّم الأكل (1) .
وجْه التفريع على القاعدة :
فرَّعَت الكثرة مِن العلماء (2) هذا الفرع على قاعدة ( العِبْرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ) ؛ فالآية نازلة في الميتة وذبائح المشرِكين ، ولكنّ الحُكْم ليس قاصراً عليها ، وإنَّما هو عامّ في كُلّ ذبيحة ..
وفي ذلك يقول القرطبي :" وذلك أنّ اللفظ الوارد على سبب هل يقصر عليه أم لا ؟ فقال علماؤنا : لا إشكال في صحة دعوى العموم فيما يَكْرَه الشارع ابتداءً مِن صيغ العموم " (3) .
ويقول الكاساني (4) :" إنّه سمَّى أكْل ما لم يُذكَر اسم الله عليه " فسقاً " لِقوله عزّ وجلّ { وَإِنَّهُ لَفِسْق } (5) ، ولا فِسْق إلا بارتكاب المُحَرَّم ، ولا يُحمَل إلا على الميتة وذبائح أهْل الشرك بقول بعض أهْل التأويل في سبب نزول الآية الكريمة ؛ لأنّ العامّ لا يُخَصّ بالسبب عندنا ، بل يُعمَل
(1) يُراجَع : الجامع لأحكام القرآن 7/122 ونَيْل الأوطار 8/135(1/226)
(2) يُراجَع : أحكام القرآن لِلجصّاص 3/8 وأحكام القرآن لابن العربي 2/270 والجامع لأحكام القرآن 7/49 وتخريج الفروع على الأصول /359 - 362
(3) الجامع لأحكام القرآن 7/49
(4) الكاساني : هو علاء الدين أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني الحنفي ، نُسِب إلى كاسان مِن تركستان ، فقيه أصوليّ ..
مِن مصنَّفاته : البدائع ، السلطان المبين .
تُوُفِّي بحلب سَنَة 587 هـ .
الفوائد البهية /53
(5) سورة الأنعام مِن الآية 121
بعموم اللفظ لِمَا عُرِف في أصول الفقه " (1) .
وفرَّع ابن رشْد هذا الفرع على قاعدة تَعارُض العامّ والخاصّ ، وذَكَر أنّ السُّنَّة المعارِضة لِهذه الآية : ما رواه مالك عن عروة (2) أنَّه قال : " سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقِيل :" يَا رَسُولَ اللَّهِ .. إِنَّ نَاساً مِنَ الْبَادِيَةِ يَأْتُونَنَا بِلُحْمَانٍ وَلاَ نَدْرِي أَسَمَّوُا اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهَا أَمْ لاَ ؟ " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { سَمُّوا اللَّهَ عَلَيْهَا ثُمَّ كُلُوهَا } ، فذهب مالك إلى أنّ الآية ناسخة لِهذا الحديث ، وتأوَّل أنّ هذا الحديث كان في أول الإسلام .
ولم يَرَ الشافعي ذلك ؛ لأنّ هذا الحديث ظاهِره أنَّه كان بالمدينة ، وآية التَّسمية مكِّيَّة (3) .
واعتبَره ابن حزْم الظاهري قَصْراً لِلعامّ ، أيْ تخصيصاً له (4) .
وأرى : أنَّه يمكِن تفريع هذا الفرع على القاعدتيْن :
الأولى : وهي ( العِبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ) ، فيصبح الحُكْم عامّاً في كُلّ ذبيحة في أنَّها لا تؤكَل إلا بالتسمية ، مع اختلاف العلماء في حُكْمها كما تَقَدَّم .
والثانية : مُعارَضة الخاصّ العامّ ، فيُجمَع بيْنهما ويُبْنَى الخاصّ على العامّ ويُخصّص عموم الآية بهذا الحديث ، وهو ما أميل إليه وأُرجِّحه ..
فيَكون الحُكْم وفْق الراجح : كراهة الأكل مِن الذبيحة التي تَعَمَّد
(1) بدائع الصنائع 5/46(1/227)
(2) عروة : هو أبو عبد الله عروة بن الزبير بن العوّام القرشي الأسدي المدني رضي الله عنهما ، مِن التابعين ، وُلِد في خلافة عثمان - رضي الله عنه - ..
تُوُفِّي سَنَة 90 هـ .
تذكرة الحُفّاظ 1/62 وسِيَر أعلام النبلاء 4/423 - 433
(3) بداية المجتهد 1/448
(4) المُحَلَّى 4/457
الذابح تَرْك التسمية عند ذبْحها ، أمّا اللحوم التي تأتي مِن غيْر المسلمِين ولا ندري أسمّوا الله تعالى عليها أم لا فيجوز أكْلها بَعْد التسمية .
الفرع الثالث
قتْل المرأة المرتَدّة
القاعدة المُفَرَّع عليها : الخطاب العامّ لِجَمْع المُذَكَّر هل يعمّ الإناث ؟
الدليل الوارد فيه : ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوه } (1) ..
وجْه الدلالة : أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بَيَّن حُكْم المرتَدّ التّارك لِدينه ، وهو وجوب القتل ، وهذا حُكْم وَرَد بلفْظ { مَن } ، وهو يفيد العموم في كُلّ مرتَدّ ..
والخطاب العامّ هنا مُوَجَّه إلى المُذَكَّر ، فهلْ يَدخل الإناث في عمومه ؟
اتَّفَق العلماء على أنّ قتْل المرتَدّ الذَّكَر واجب بمقتضى هذا الدليل ، ولكنّهم اختلَفوا في قتْل المرأة المرتَدّة على أقوال (2) :
القول الأول : وجوب قتْل المرأة المرتَدّة .
وهو قول الجمهور (3) .
واحتَجّوا لِذلك بأدلة ، أَذكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : ما رواه جابر (4) والسيدة عائشة رضي الله عنهما أنّ امرأةً
(1) سبق تخريجه .
(2) يُراجَع المغني لابن قدامة 10/74
(3) يُراجَع : روضة الطالبين 7/295 وفتْح الباري 12/280
(4) جابر بن عبد الله : هو الصّحابيّ الجليل أبو عبد الله جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن كعْب الأنصاري السلمي رضي الله عنهما ، شَهِد بيعة العقبة الثانية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير ، وشَهِد مع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ثماني عشرة غزوة ..(1/228)
تُوُفِّي سَنَة 74 هـ ، وقيل : سَنَة 78 هـ .
أسد الغابة 1/351 والإصابة 1/434 ، 435
يقال لها " أُمّ مروان " ارتدّت عن الإسلام ، فبَلَغ أمْرُها النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأَمَر أنْ تستتاب ، فإنْ تابت وإلا قُتِلَت (1) .
الدليل الثاني : أنّ { مَن } في حديث { مَنْ بَدَّلَ دِينَه ... } شرطيّة ، وهي تفيد العموم ، فتَشمل الذَّكَر والأنثى ، ولا يخرج منها واحد إلا بدليل ، ولا دليل يُخرِج المرأة عن الحُكْم ، فلِذا يجب قتْلها كالرجُل .
مناقَشة هذا الدليل :
وقد نوقش هذا الدليل : بأنّ المرأة خرجَت عن هذا العموم بمقتضى قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ تَقْتُلُوا الْمَرْأَة } (2) ، وإذا كان كذلك كان هذا الحديث مخصِّصاً لِعموم حديث { مَنْ بَدَّلَ دِينَه ... } .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وهذه المناقَشة مردودة : بأنّ المرأة المنهيّ عن قتْلها ليست المرتَدّة ، وإنَّما المُشْرِكة ..
وأمارة ذلك : سياق الحديث الذي يُبَيِّن أنَّه وَرَد في وصايا النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لِمَن خرَج لِقتال الكافرين ، وهي { انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ، وَلاَ تَقْتُلُوا شَيْخاً فَانِياً وَلاَ طِفْلاً صَغِيراً وَلاَ امْرَأَة } (3) (4) .
القول الثاني : أنَّها لا تُقتَل ، وتُحبَس حتى تُسْلِم .
وهو قول الحنفية (5) ، ورُوِي عن عبد الله بن عباس وعطاء
(1) أَخرَجه البيهقي 8/203 والدارقطني 3/119 عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما .
(2) سبق تخريجه .
(3) أَخرَجه أبو داود عن أنس - رضي الله عنه - في كتاب الجهاد : باب في دعاء المشرِكين برقم ( 2247 ) .
(4) يُراجَع : المغني لابن قدامة 10/70 والاختيار 4/149 والمعالم /84 والبحر المحيط 3/73 - 75
(5) يُراجَع الاختيار 4/149
والثوري - رضي الله عنهم - (1) .
وحُجّتهم : الحديث المتقدِّم { وَلاَ تَقْتُلُوا امْرَأَة } .(1/229)
وقد تَبَيَّن فيما سبق أنّ المنهيّ عن قتْلها ليست المرتَدَّة ، وإنَّما المرأة الكافرة ؛ بدليل سياق الحديث وسبب روايته .
القول الثالث : أنَّها تُسْتَرَقّ ، ولا تُقْتَل .
وهو قول علِيّ والحَسَن وقتادة (2) - رضي الله عنهم - .
ودليلهم : استرقاق أبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - نساء بني حنيفة اللائي أَعطَى منهنّ امرأةً لِعَلِيّ - رضي الله عنه - فوَلَدَت له محمد بن الحنفية (3) - رضي الله عنه - ، وكان ذلك بمَشهَد مِن الصحابة وعدم مُعارَضة ، لِيُصبِح إجماعاً على أنّ المرتَدّة تُسْتَرَقّ ولا تُقْتَل .
مناقَشة هذا الدليل :
وهذا الدليل يُمكِن مناقَشته : بأنَّه لم يَثبت أنّ مَن استُرِقّ مِن بني حنيفة كان مُسْلِماً ؛ لأنّ بني حنيفة لم يُسلِموا جميعهم ، فكان منهم المرتَدّ ومنهم الكافر دون سبْق إسلام له ، والاسترقاق إنَّما كان في المرأة الكافرة (4) .
(1) بداية المجتهِد 2/459 والهداية 2/458 ، 459
(2) قتادة : هو أبو الخطاب قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي البصري ، وُلِد سَنَة 60 هـ ، فقيه مُفَسِّر ، كان ممَّن يُضرَب به المَثَل في العِلْم وقوّة الحِفْظ ..
تُوُفِّي بواسط سَنَة 118 هـ .
طبقات ابن سعد 7/229 وسِيَر أعلام النبلاء 5/269 - 283
(3) محمد بن الحنفية : هو محمد بن علِيّ بن أبي طالب الهاشمي المدني ، أخو الحَسَن والحُسَين - رضي الله عنهم - أُمّه خولة بنت جعفر الحنفية ، وُلِد سَنَة 13 هـ ، كان عالِماً وَرِعاً عابداً كريم الخُلُق ..
تُوُفِّي سَنَة 81 هـ .
حلية الأولياء 3/174 وشذرات الذهب 1/88
(4) يُراجَع : المغني لابن قدامة 10/74 وفتْح الباري 12/280
والذي أَمِيل إليه في هذا المقام : أنّ المرأة المرتَدّة تُقْتَل ، وهو ما عليه الجمهور أصحاب القول الأول ؛ لِقوّة حُجّتهم ، ولِعدم سلامة حُجَج غيْرهم .
وجْه التفريع على القاعدة :(1/230)
بَعْد الوقوف على أقوال الفقهاء في حُكْم قتْل المرأة المرتَدّة نَرَى : أنّ القول الأول ـ وهو وجوب قتْلها كالرجُل تماماً بتمام ـ مبنيّ على أنّ الخطاب العامّ لِلمُذَكَّر يدخل فيه المؤنَّث ، وأنّ لفْظ { مَن } لِلعموم في كُلّ مَن يبدِّل دينه ، ذَكَراً كان أم أنثى ، فيجب قتْله .
أمّا القول الثاني : فيَرَى عدم قتْلها ؛ لأنّ المرأة خرجَت مِن عموم الخطاب الأول بمخصِّص وهو { لاَ تَقْتُلُوا الْمَرْأَة } ، فيقصر حُكْم العامّ على الرجل دون المرأة .
وكذلك القول الثالث : الذي اعتبَر الاسترقاق لِلمرأة تخصيصاً لها مِن عموم { مَنْ بَدَّلَ دِينَه ... } .
والأَوْلى عندي : أنَّها لا تخرج عن العموم ، ويجب قتْلها كالذَّكَر ؛ لِقوّة الأدلة ، وعدم قوّة المخصّصات التي ذهب إليها أصحاب القوْليْن الثاني والثالث .
الفرع الرابع
قيام الليل
القاعدة المُفَرَّع عليها : خطاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - هل يدخل فيه عموم الأُمَّة ؟
الدليل الوارد فيه : قوله تعالى { يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ الَّيْلَ إِلا قَلِيلا } (1) ..
وجْه الدلالة : أنّ الله تعالى خاطَب النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - آمِراً إيّاه بقيام الليل ، فهلْ تدخل الأُمَّة في هذا الخطاب أم لا ؟
العلماء اختلَفوا في عموم هذا الخطاب لِلأُمّة أم هو خاصّ بالنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - على أقوال :
القول الأول : أنَّه خطاب لِلأُمّة أيضاً ، فكان واجباً قيام الليل على النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وعلى أُمّته .
وهو قول ابن عباس والسيدة عائشة - رضي الله عنهم - .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما :" كَانُوا يَقُومُونَ نَحْوَ قِيَامِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، ثُمَّ نُسِخَ فَرْضُ قِيَامِهِ عَلَى الأُمَّة " (2) .
واختُلِف بماذا نُسِخ عنهم على قوْليْن :
الأول : بالصَّلوات الخَمْس .
وهو قول السيدة عائشة رضي الله عنها .(1/231)
والثاني : بآخِر سورة المُزَّمِّل .
وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما (3) .
(1) سورة المُزَّمِّل الآيتان 1 ، 2
(2) أَخرَجه أبو داود في كتاب الصلاة : باب نسْخ قيام الليل والتيسير فيه برقم ( 1110 ) .
(3) يُراجَع : النكت والعيون 4/331 وأحكام القرآن لِلجصّاص 3/626
القول الثاني : أنّه خطاب خاصّ بالنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - دُون أُمّته .
وهو قول منسوب إلى سعيد بن جبير (1) .
محتَجّاً : بتَوَجُّه الخطاب إليه - صلى الله عليه وسلم - وحْدَه .
وذكَر ابن كثير (2) أنَّه كان واجباً على النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وحْدَه .
القول الثالث : أنَّه خاصّ بالنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وحْده ، وكذا الأنبياء ـ عليهم السلام ـ قَبْله (3) .
وهو قول لابن عباس رضي الله عنهما .
والراجح عندي : ما عليه أصحاب القول الأول ، وهو أنّ الخطاب الخاصّ بالنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - الآمِر بقيام الليل يعمّ الأُمَّة أيضاً ، ليس لأنّ القاعدة كذلك ، وهي أنّ الخطاب الخاصّ بالنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَشمَل الأُمَّة كُلّها ، وإنَّما لأنّ القرائن والأدلّة هي التي جَعَلَت الخطاب لِلعموم ، ومنها : آخِر سورة المُزَّمِّل { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَان ... } الآية (4) ..
(1) سعيد بن جبير : هو أبو محمد سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الكوفي ، كان إماماً حافظاً مقرئاً مُفَسِّراً ، روَى عن جَمْع مِن الصحابة ، منهم : ابن عباس وأبو هريرة والسيدة عائشة - رضي الله عنهم - ..
قَتَله الحَجّاج سَنَة 95 هـ .
طبقات ابن سعد 6/256 وحلية الأولياء 4/272(1/232)
(2) ابن كثير : هو أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن كثير بن ضوء البصري ثُمّ الدمشقي ، الفقيه الشافعي ، وُلِد سَنَة 700 هـ ، كان إماماً فاضلاً عالِماً بالحديث والتاريخ والعربية والتفسير ..
مِن مصنَّفاته : البداية والنهاية ، مختصَر تهذيب الكمال ، تفسير القرآن العظيم .
تُوُفِّي سَنَة 774 هـ .
شذرات الذهب 6/230 - 232
(3) يُراجَع : الجامع لأحكام القرآن 19/23 ، 24 وتفسير القرآن العظيم 4/434 وفتْح الباري 3/3
(4) سورة المُزَّمِّل مِن الآية 20
ومِن السُّنَّة : ما رواه زرارة بن أبي أَوْفى (1) أنّ سعْد بن هشام (2) أراد أنْ يغزو في سبيل الله ... الحديث ، وفيه :" فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا :" أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ " فَقَالَتْ :" أَلَسْتَ تَقْرَأ { يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّل } ؟ " قُلْتُ :" بَلَى " ، قَالَتْ :" فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ ، فَقَامَ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ حَوْلاً ، وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْراً فِي السَّمَاءِ ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ التَّخْفِيفَ ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعاً بَعْدَ فَرِيضَة " (3) (4) .
وجْه التفريع على هذه القاعدة :
أنَّه على القول الأول يَكون خطاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يعمّ الأُمَّة ، ولكنْ ليس لأنّ القاعدة كذلك ، وإنَّما لِوجود الأدلة التي تَقَدَّم ذِكْرها ، ولِذا كان العموم هنا لِوجود الأدلة ، وهي ذاتها التي تَرُدّ القوْليْن الثاني والثالث ؛ لأنّهما قَصَرَا الخطاب على النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وحْدَه دون أُمّته ، مع غضّ طَرْفهم عن تلك الأدلة التي تُثبِت عموم الخطاب .
والأَوْلى عندي : ما عليه القول الأول .(1/233)
(1) زرارة بن أبي أوفى : هو أبو حاجب زرارة بن أبي أوفى العامري البصري ، قاضي البصرة ، سَمِع الحديث مِن جماعة مِن الصحابة ، منهم : أبو هريرة وابن عباس - رضي الله عنهم - ..
تُوُفِّي بالبصرة سَنَة 93 هـ .
طبقات ابن سعد 7/150 وحلية الأولياء 2/258 والبداية والنهاية 9/93
(2) سعْد بن هشام : هو سعْد بن هشام بن عامر الأنصاريّ ، مِن الطبقة الوسطى مِن التابعين ..
قُتِل شهيداً بأرض مُكران بالهند .
التاريخ الكبير 4/66 والطبقات الكبرى 7/529
(3) أَخرَجه مسلِم في كتاب صلاة المسافِرين وقَصْرها : باب جامع صلاة الليل ومَن نام عنه أو مَرِض برقم ( 1233 ) وأحمد في باقي مسنَد الأنصار برقم ( 23134 ) والدارمي في كتاب الصلاة باب صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برقم ( 1439 ) .
(4) يُراجَع الجامع لأحكام القرآن 19/24
الفرع الخامس
قتْل المُسْلِم بالذِّمِّيّ
القاعدة المُفَرَّع عليها : الخطاب العامّ لِلمسلِمين هل يعمّ غيْرهم ؟
الدليل الوارد فيه : قوله تعالى { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْس } (1) وقوله تعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِى الْقَتْلَى } (2) ، وقوله تعالى { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَنًا فَلا يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورا } (3) ..
وجْه الدلالة : أنّ الله تعالى أَوجبَ في التوراةِ القصاصَ النَّفْس بالنَّفْس وكذا أَوجَب علينا القصاص في القتلى ، وكلاهما وَرَد بخطاب عامّ ، وهو الضمير في لفْظ { عَلَيْهِم } { عَلَيْكُم } { وَمَن } ..
فهلْ يقتضي هذا العموم أنْ يُقتَل المسلِم بالكافر لأنّه نَفْس ولأنه يدخل في خطاب العموم مع المؤمِنين أم لا يُقتَل ؟
اتَّفَق العلماء على أنَّه لا يُقتَل المسلِم بالكافر الحربيّ .
واختلَفوا في قتْله بالذِّمِّيّ على أقوال :(1/234)
القول الأول : عدم قتْل المسلِم بالذِّمِّيّ .
وهو ما عليه جمهور الفقهاء ، وهو قول عُمَر بن عبد العزيز (1)
(1) سورة المائدة مِن الآية 45
(2) سورة البقرة مِن الآية 178
(3) سورة الإسراء مِن الآية 33
(4) عُمَر بن عبد العزيز : هو أبو حفْص عُمَر بن عبد العزيز بن مروان بن الحَكَم الأمويّ القرشيّ ، وُلِد بحلوان مِصْر سَنَة 60 هـ ، تَوَلَّى الخلافة سَنَة 99 هـ بعهْد مِن سليمان بن عبد المَلِك ، وكان =
وعطاء والحَسَن والثوري والشافعي وأحمد وداود - رضي الله عنهم - (1) .
واحتَجّوا لِذلك بأدلة ، منها :
الدليل الأول : ما رواه أبو جحيفة - رضي الله عنه - (2) قال :" قُلْتُ لِعَلِيٍّ - رضي الله عنه - :" هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ؟ " فَقَالَ :" لاَ وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ ، إِلاَّ فَهْماً يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلاً فِي الْقُرْآنِ ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ " ، قُلْتُ :" وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ ؟ " قَالَ :" الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الأَسِيرِ وَأَنْ لاَ يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِر " (3) ..
وجْه الدلالة : أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن أنْ يُقتَل المسلِم بكافر ، وهو بعمومه يشمل كُلّ كافر ، ذمِّيّاً كان أم مستأمنا .
الدليل الثاني : ما رُوِي عن علِيّ - رضي الله عنه - أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال { الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ، أَلاَ لاَ يُقْتَلْ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلاَ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِه } (4) ..
= عادلاً في مُلْكِه ، فنال شرف " الخليفة الراشد الخامس " ..
تُوُفِّي بدمشق سَنَة 101 هـ .
الكامل 2/716 والأعلام 5/23 ، 24(1/235)
(1) يُراجَع : الأُمّ 6/38 والمغني لابن قدامة 7/653 ومنهاج الطالبين /271 وبداية المجتهد 2/399 ومغني المحتاج 4/16
(2) أبو جحيفة : هو الصّحابيّ الجليل أبو جحيفة وهْب بن عبد الله السّوائيّ الكوفيّ - رضي الله عنه - ، تُوُفِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لم يزلْ مُراهِقاً ، كان صاحِب شرطة لِعَليّ بن أبي طالب كَرَّم الله وجْهه ..
تُوُفِّي سَنَة 74 هـ ، وقيل غيْر ذلك .
طبقات ابن سعد 6/63 والإصابة 6/642
(3) أَخرَجه البخاري في كتاب العِلْم : باب كتابة العِلْم برقم ( 108 ) والنسائي في كتاب القسامة : باب سقوط القود مِن المسلِم لِلكافر برقم ( 4663 ) وأحمد في مسنَد العشرة المبَشَّرين بالجَنَّة برقم ( 565 ) .
(4) أَخرَجه النسائي في كتاب القسامة : باب القود بيْن الأحرار والمماليك في النَّفْس برقم ( 4653 ) =
وجْه الدلالة : أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن قتْل المؤمِن بالكافر ، وهو عامّ ـ أيضاً ـ في كُلّ كافر ، ذمِّيّاً كان أم مستأمناً ، وإذا كان كذلك فلا يُقتَل المسلِم بالذِّمِّيّ (1) .
فالجمهور خصَّصوا عموم القرآن في قتْل النَّفْس بالنَّفْس بالأحاديث المتقدمة .
القول الثاني : قتْل المسلِم بالذِّمِّيّ .
وهو ما عليه الحنفية ، وهو قول الشعبي والنخعي رضي الله عنهما .
واحتَجّوا : بعموم الأدلة المتقدمة مِن الكتاب العزيز التي لا تُفَرِّق بيْن نَفْس ونَفْس ..
كما احتَجّوا مِن السُّنَّة : بما رُوِي أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَتَل رَجُلاً مِن أهْل القِبْلَة برَجُل مِن أهْل الذِّمَّة وقال { أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِعَهْد } (2) (3) ..
وقد ضَعَّفه أهْل الحديث ، ولِذا فإنّ الاستدلال به يَكون كذلك .
القول الثالث : قتْل المسلِم بالذِّمِّيّ الذي قَتَلَه غيلة .
وهو قول مالك والليث (4) رضي الله عنهما .(1/236)
= وأبو داود في كتاب الديات : باب إيقاد المسلِم بالكافر برقم ( 3927 ) وأحمد في مسنَد العشرة المبَشَّرين بالجَنَّة برقم ( 913 ) .
(1) يُراجَع : المغني لابن قدامة 7/653 وبداية المجتهد 2/399 ومغني المحتاج 4/16 ونَيْل الأوطار 7/9 والعدة /482
(2) سبق تخريجه .
(3) يُراجَع الهداية 4/504 وبدائع الصنائع 7/237
(4) الليث : هو الليث بن سعْد بن عبد الرحمن ، وُلِد في مِصْر سَنَة 94 هـ ..
قال عنه الإمام الشافعي : كان الليث أَفقَه مِن مالك ، إلا أنّه ضَيَّعه أصحابه .
تُوُفِّي سَنَة 175 هـ .
طبقات ابن سعد 7/517 وشذرات الذهب 1/285
وقتْل الغيلة : أنْ يُضجِعه فيَذبحه ، وبخاصة على ماله (1) .
والأَوْلى عندي : عدم قتْل المسلِم بالكافر ؛ لِقوله - صلى الله عليه وسلم - { الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ، أَلاَ لاَ يُقْتَلْ مُؤْمِنٌ بِكَافِر } (2) ، أمّا مَن كان له عهْد وأمان فلا أَرَى أنْ يستباح دمه ، ومَن استباح دمه بغيْر وجْه حقّ فعليه القصاص كما ذهب الحنفية ..
وهذا الرأي المرَجَّح عندي نحن في حاجة ماسّة إليه في زماننا ؛ لأنّ هناك مِن المسلِمين مَن يستبيح دم غيْر المسلِم مِمَّن له عهْد وأمان وليس مُحارِباً لِلمسلِمين .
وجْه التفريع على القاعدة :
أنَّه على القول الأول القائل بعدم قتْل المُسلِم بالذِّمِّيّ يَكون الخطاب العامّ لِلمسلِمين لا يَعُمّ غيْرهم ، وحينئذٍ يَكون الفرع مُفَرَّعاً على مذهب القائلين بأنّ الخطاب العامّ لِلمسلِمين لا يعمّ غيْرهم .
وأمّا على القول الثاني القائل بقتل المسلِم بالذِّمِّيّ فإنَّه يَكون مُفَرَّعاً على مذهب القائلين بأنّ الخطاب العامّ لِلمسلِمين يعمّ غيْرهم .(1/237)
والأوْلى عندي : التفريع على مذهب القائلين بالعموم ؛ لِمَا رَجَّحْناه فيما القاعدة ، ولِمَا وَرَد مِن نصوص في السُّنَّة تَرْعَى حرمة الذِّمِّيّ وعَهْده .
(1) يُراجَع : بداية المجتهِد 2/399 والجنايات في الفقه الإسلامي /188 - 193
(2) سبق تخريجه .
الخاتمة
الحمد لله الذي شرَح صدري ويَسَّر لي أمْر البحث والدراسة في هذا الموضوع ، وحَبَّب إليّ الصَّبر على لأوائه حتى أَستشعر حلاوة الوقوف على قواعد العامّ ومسائله ، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحْده لا شريك له ، خاطَبَنَا بالعامّ في كثير مِن آيات القرآن ، وأشهد أنّ سيِّدنا محمَّداً عبْد الله ورسوله ، عَمَّتْ رسالته الناس جميعاً ، صلوات الله واسلامه عليك يا سيدي يا رسول الله ، وصلاةً وسلاماً على آلك وصحْبك ومَن تَبِع هُداك إلى يوْم الدين ..
وبَعْد ..
فقدْ عشْتُ ما يرْبُو فوْق العام في رحاب مسائل العامّ ، أخوض غمارها وأُنَقِّب عن كنوزها ، وأَغوص في أعماقها ، وأَجمَع شتاتها ؛ كيْ أُشبِع رغبةً صادقةً في الوقوف على حقيقة العامّ وكيفية دلالته على الأحكام كأحد جوانب عِلْم أصول الفقه وقواعده .
وحمداً لله تعالى حمداً يوافِي نِعَمَه ويكافئ مَزِيده الذي وَفَّقَني وسَدَّد خُطَاي حتى تحقَّقَت تلك الغاية في حصيلتي العلميّة وملكتي الأصوليّة التي استوعبَت مُعْظَم جزئيّات العامّ ومَسائله إنْ لم تكنْ جميعها ، بَعْد أنْ كانت قاصرةً في هذا الباب وتلك المسائل .
وقد حاولْتُ مشارَكة الأصوليّين في كُلّ مسألة مِن مسائل العامّ باحثاً ومحقِّقاً ومُناقِشاً ثُمّ مُرَجِّحاً ما هو أَوْلى بذلك ، مُراعِياً حقّ علمائنا ومقامهم ؛ فما أنا إلا طُوَيْلِب عِلْم يحاوِل اقتفاء أثرِهم والتَّشَبُّه بهم .
ويُمكِن في ختام هذا البحث التَّوَصُّل إلى أهمّ النّتائج ، والتي بَنَيْتُ مُعظَمَها وفْق ما رَجَّحْتُه في كُلّ مسألة أو مطلب على النحو التالي :(1/238)
1- العِلْم بقواعد العامّ ومسائله لا يُسمَح بالجهل بها لِمُفْتٍ أو مجتهِدٍ ؛ فكيف يُفْتِي بالعموم مَن لا يَعرِف ألفاظه ؟ أو كيف يخصّص العامّ بغيْر مخصّص ؟ أو ما هو مخلَصه حينما يُعارِض العامّ العامّ أو الخاصّ ؟ ونحْو ذلك .
2- الأصوليّ ـ أيضاً ـ لا يُعذَر جهْله بقواعد العامّ ومسائله ؛ لأنّها أحد لَبِنَات هذا العامّ ودعائمه التي بها وبغيْرها مِن قواعد عِلْم الأصول يَكون أهلاً لِلتشريف والتكريم بلقب " أصوليّ " .
3- أَوْلَى علماء الأصول ورجالاته ـ رَحِمَهم الله تعالى ـ مبحث العامّ وقواعده عنايةً واهتماماً يليق به كأحد دلالات الألفاظ على الأحكام .
4- العامّ لغةً : الشمول ..
واصطلاحاً : لفْظ وُضِع وضعاً واحداً لِكثير غيْر محصور مستغرِق جميع ما يَصلُح له .
5- أنّ الأعمّ عند الأصوليّين يقال لِلمعنى ، ومقابِله الأخصّ ..
والعموم هو تناوُل اللفظ لِمَا صَلُح له ، والعامّ هو اللفظ المتناول ، فالأول مَصدَر ، والثاني اسم فاعِل .
6- أنّ الفَرْق بيْن العامّ والمُطْلَق : أنّ العامّ يدلّ على شمول كُلّ فرْد مِن أفرداه ، فعمومه شموليّ ..
والمُطْلَق يدلّ على فرْد شائع أو أفراد شائعة ، لا على جميع الأفراد ، فعمومه بدليّ .
7- أنّ العموم مِن عوارض الألفاظ حقيقةً ، وأنّ المَعاني تُوصَف بالعموم
حقيقة .
8- أنّ مدلول العامّ كُلِّيَّة ، أيْ محكوم فيه على فرْد مطابَقةً ، إثباتاً أو سلباً لا كُلّ ولا كُلِّيّ .
9- دلالة العامّ المُطْلَق عن قرينة إرادة العموم أو التخصيص على جميع أفراده ظَنِّيَّة لا قَطْعِيَّة .
10- معيار العموم وميزانه ـ أيْ ما يُعلَم به كوْن اللفظ عامّاً أنْ لا ـ هو جواز الاستثناء .
11- لِلعموم صِيَغ ثلاثة :
ما يفيده لغةً :
وهو إمّا أنْ يَكون عامّاً بنَفْسه لِكوْنه موضوعاً له ، نحْو : " أيّ " و" كُلّ " و" جميع " والذي " و" التي " ونحْوهما و" سائر " ومَن " و" ما " .(1/239)
وإمّا أنْ يَكون عامّاً بقرينة ، نحْو : " الرجال " والجَمْع المضاف .
وما يفيد العموم عرفاً :
نحْو : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَتُكُم } (1) أيْ حُرِّم الاستمتاع وليس العين .
وما يفيده عقلاً :
نحْو : { فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاة } (2) ، فلا زكاة في غيْر السائمة .
12- ألفاظ العموم حقيقة في العموم ، مَجاز في الخصوص .
13- الجَمْع المُعَرَّف بـ" ال " يفيد العموم والاستغراق ..
والجَمْع المُنَكَّر لا يفيد العموم ، نحْو : قوله " اقتل رجالاً " .
وأَقَلّ الجَمْع ثلاثة .
(1) سورة النساء مِن الآية 23
(2) سبق تخريجه .
والمُفْرَد المُعَرَّف بـ" ال " يفيد العموم والاستغراق ما لم يكنْ هناك معهود .
14- المفرَد المضاف إلى معرفة يقتضي العموم ، لِذا فهو يُعَدّ مِن صِيَغ العموم .
15- الأسماء المبهمة : " مَن " و" ما " و" أيّ " تَكون لِلعموم إذا كانت شرطيّةً أو استفهاميّةً .
و" أين " و" حيث " يفيدان العموم في المكان ، استفهاماً كان أم شرطا .
و" متى " تفيد عموم الزمان المبهم .
أمّا الاسم الموصول : فيفيد العموم ، سواء كان مفرَداً أو مُثَنَّى أو مجموعا .
16- النكرة إنْ كانت في الإثبات أفادت العموم إلا إذا وُصِفَت بصفة عامة وحينئذٍ تعمّ النكرة بعموم الصفة ..
وإنْ كانت في سياق الإثبات لِلامتنان أو في سياق الاستفهام الإنكاريّ أو في سياق الشرط أو في سياق النهي أفادت العموم .
أمّا إنْ كانت خبراً فلا تقتضي العموم .
وإنْ كانت أمراً فالأكثرون على أنّه لِلعموم .
أمّا إنْ كانت النكرة في سياق النفي فإنّها تفيد العموم ، ولكنْ ليس على إطلاقه ، وإنّما هو مقيَّد بالنكرة بشرطها ، سماعاً أو كانت مبنيّةً ، وما عَدَاهما لا عموم فيه .
17- الأسماء المؤكّدة : " كُلّ " تفيد العموم إذا أضيفت إلى نكرة أو إلى معرفة ..
و" جميع " وما يتصرف منها : كـ" أجمع " و" أجمعون " ، وهي مِثْل(1/240)
" كُلّ " إذا أضيفَت ، ولا تضاف إلا إلى معرفة ، غيْر أنّها توجِب الاجتماع وإحاطة الأجزاء دون الانفراد .
و" جميع " بلفْظها يفيد الجميع ، فإنْ أضيفَت إلى ما يفيد العموم تَكون حينئذٍ أفادت العموم مِن جهتيْن : لفْظها ، والإضافة .
أمّا " سائر " وهو مأخوذ مِن سور المدينة وهو المحيط بها ، ولِذا تفيد العموم بهذا المعنى ، وإنْ كانت مأخوذةً مِن السؤر بالهمزة ـ وهو البقية ـ فلا تفيد العموم .
18- الألفاظ التي معناها الجَمْع : كـ" الرهط " و" القوم " و" الجماعة " و" الطائفة " و" معشر " و" معاشر " و" عامّة " و" كافّة " و" قاطبة " تفيد العموم
19- الجَمْع هو أعلى ألفاظ العموم ؛ لأنّ العموم قائم فيه بصورته ومعناه .
20- العامّ إذا ورَد على سبب خاصّ باقٍ على عمومه .
21- يُحمَل المقتضى على عمومه ، إلا إنْ وُجِدَت قرينة لِحَمْل المقتضى على أحد المقدّرات ؛ فحينئذٍ أَرَى نفْي العموم عن المقتضى .
22- المفهوم يعمّ ، سواء أكان مفهوماً لِلموافَقة أم مفهوماً لِلمخالَفة .
23- المشترك إذا تَجَرَّد عن القرينة حُمِل على جميع معانيه احتياطاً ؛ لأنّه متى حُمِل على جميع معانيه حصَل مراد المتكلم قَطْعاً .
24- الجَمْع المضاف إلى جَمْع يقتضي العموم
25- الفعل المُتَعَدِّي في سياق النفي أو الشرط ـ نحْو : " لا آكل " أو :" إنْ أكلْت فعبدي حُرّ " ـ يعمّ مفعولاته ، فيَقبَل التخصيص حتى وإنْ وقَع في يمين ، نحْو :" واللهِ لا آكُل أو لا أضرب أو لا أقوم " أو " ما أكلْت أو ما قعدْت " .
26- الفعل المثبت لا يقتضي العموم
27- قول الصّحابيّ :" نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَن كذا " و:" قَضَى - صلى الله عليه وسلم - بكذا " أو :" حَكَم بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين " لِلعموم .
28- الحُكْم المُعَلَّق على علة يعمّ بالقياس شرعاً لا لفظا .
29- العطف على العامّ لا يقتضي العموم .(1/241)
30- تَرْك الاستفصال في وقائع الأحوال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال .
31- نَفْي المساواة بيْن الشّيئيْن لِلعموم .
32- العامّ الوارد على جهة المدح أو الذَّمّ إذا عارَضه عامّ آخَر لم يقصد به المدح أو الذَّمّ أنَّه يخصّه ويَقصره على المدح والذَّمّ ، ولا يُحمَل على عمومه ، بل يقضي بعموم ذلك الخطاب .
33- العامّ إذا تَضَمَّن مدحاً أو ذمّاً ولم يعارَض بخطاب عامّ لم يقصد به المدح أو الذَّمّ بقى على عمومه .
34- خطاب الله تعالى نبيّه - صلى الله عليه وسلم - لا يعمّ غيْره إلا إنْ وُجِد دليل .
35- الخطاب الخاصّ بالأُمَّة لا يدخل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في عمومه .
36- النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يدخل في عموم خطاب الأُمَّة مُطْلَقاً ، سواء صدر الخطاب بـ" قُل " أم لا .
37- المخاطِب داخِل في عموم خطابه ـ أمراً كان أو نهياً أو خبراً ـ ما لم يَرِدْ دليل مخصِّص .
38- العبد يدخل في العمومات المثبِتة لِحقوق الله تعالى ، دُون حقوق الآدميِّين .
39- الخطاب العامّ لِكُلّ واحد مِن المذكَّر والمؤنَّث لا يعمّ الجَمْع الخاصّ
بالآخَر .
40- النساء لا تدخل في خطاب العامّ لِجَمْع المذكَّر إلا بدليل .
41- الخطاب الوارد شفاهاً في عصْر النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كتاباً وسُنَّةً يَكون عامّاً في الحُكْم الذي تَضَمَّنه لِمَن لم يشافَه به ، سواء كان موجوداً غائباً وقْت تبليغ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أو معدوماً بالكُلِّيَّة ، فإذا وُجِد الغائب أو المعدوم تَعَلَّق الحُكْم به إنْ كان أهلاً لِذلك .
42- خطاب أهْل الكتاب الوارد على شريعتنا لا يعمّ أُمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا بدليل منفصِل .(1/242)
43- خطاب الشارع الوارد بلفظ العامّ يَتناول الكفار مُطْلَقاً ، أمراً كان أو نهياً وَرَد بصيغة { يَأَيُّهَا النَّاسُ } ونحْوها أو صيغة تَصلُح لِلمؤمِنين وغيْرهم ، ولا يخرج الكفار عن هذا العموم إلا بدليل .
44- عند تَعارُض الدليليْن نَبحث أوّلاً عن تاريخهما : فإنْ عَلِمْنا المتقدِّم مِن المتأخِّر جَعَلْنَا المتأخِّر ناسخاً والمتقدِّم منسوخاً ، وإنْ لم نَعلم فإنْ أَمكَن الجَمْع بيْنهما فَعَلْنَا ، وإلا رجَعْنَا إلى الترجيح بيْنهما ؛ لِنُقَدِّم الراجح على المرجوح ، وإنْ لم نَستطع رَدَدْناهما وتَساقَطَا وتَرَكْنَا العمل بهما وانتَقلْنَا إلى غيْرهما مِن الأدلة ..
فتَكون مَراحل دفْع التعارض على النحو التالي :
1- النسخ .
2- الجَمْع والتوفيق .
3- الترجيح .
4- التساقط .
5- الرجوع إلى ما دُونهما .
45- إذا كان أحد العامّيْن عامّاً مخصَّصاً والآخَر غيْرمخصَّص فالترجيح لِلعامّ الذي لم يخصَّص .
46- إذا كان في أحد العامّيْن ما يقتضي التعليل في صيغة التعميم والآخَر ليس فيه اقتضاء التعليل يُرَجَّح العامّ الذي وَرَد فيه ما يقتضي التعليل .
47- إذا كان أحد العامّيْن مِن قَبِيل الشرط والجزاء والآخَر مِن قَبِيل أسماء الجموع يُرَجَّح العامّ الذي مِن قَبِيل الشرط والجزاء على الآخَر الذي مِن قَبِيل أسماء الجموع .
48- إذا كان أحد العامّيْن مِن قَبِيل الجَمْع المُعَرَّف والآخَر مِن قَبِيل الجَمْع المُنَكَّر يُرَجَّح الجَمْع المعرَّف على الجَمْع المُنَكَّر
49- إذا كان أحد العامّيْن اسم جَمْع مُعَرَّف والآخَر اسم جنْس دَخَله الألِف واللام يُرَجَّح اسم الجَمْع .
50- عند تَعارُض العامّ والخاصّ يُقضَى بالخاصّ على العامّ فيخصّص مُطْلَقاً تَقَدَّم العامّ أم تأخَّر عُلِم تاريخهما أم لم يُعلَم .
51- العامّ بَعْد تخصيصه يصبِح حقيقةً في الباقي .
52- العامّ بَعْد تخصيصه حُجّة في الباقي .(1/243)
53- يجوز العمل بالعامّ قَبْل البحث عن المخصّص .
54- يجوز تخصيص العامّ إلى أنْ يبقى واحد .
55- أَمكَن توضيح أثر العامّ في الفقه الإسلاميّ مِن خلال تطبيقات كثيرة أَذكُر منها :
* نِصَاب زكاة الزروع والثمار ؛ حيث فُرِّع على ( تَعارُض العامّ والخاصّ ) .
* التسمية عند الذبح ؛ حيث فُرِّع على قاعدة ( العِبرة بعموم اللفظ
لا بخصوص السبب )..
وقيل : إنّه مُفَرَّع على ( تَعارُض العامّ والخاصّ ) .
* قتْل المرأة المرتَدّة ؛ حيث فُرِّع على ( الخطاب العامّ لِجَمْع المُذَكَّر هل يعمّ الإناث ؟ )
* قيام الليل ؛ حيث فُرِّع على ( خطاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - هل يدخل فيه عموم الأُمَّة ؟ ) .
* قتْل المُسْلِم بالذِّمِّيّ ؛ حيث فُرِّع على ( الخطاب العامّ لِلمسلِمين هل يعمّ غيْرهم ؟ ) .
وختاماً ..
فإنّ كُلّ ما في هذا البحث مِن توفيق وتسديد إنّما هو مِن فضْل الله تعالى ومَنِّه وإكرامه ، أمّا ما فيه مِن خَلَل أو زَلَل فما هو إلا مِن تشويش حصَل مِنِّي أو وهْم صدَر مِن سوء فهْمي وقِلّة إدراكي .
والمأمول مِن شيوخي وأساتذتي الأفاضل وزملائي الكرام وكُلّ مُطَّلِع على هذا المصنَّف ألاّ يَحرمني مِن دعائه الصّالح ونُصْحه الخالص لِوجْهه تعالى ، ورَحِم الله مَن رأَى عيباً فسَتَره أو زللاً فغَفَره ؛ فإنّه قَلّ أنْ يَخلُص مصنَّف مِن الهفوات أو ينجو مؤلَّف مِن العثرات .
واللهَ تعالى أسأل أنْ يُخَلِّص بحثي هذا مِن شوائب النفاق والرياء ، وأن يُلْبِسه ثوْب الإخلاص والنقاء ؛ عَلِّي أنال به الفوز والرضاء ، وأنْ يَجعل مِثْل ذلك في ميزان والدَيّ وأصحاب الحقوق عَلَيّ أساتذةً وشيوخاً وأهلاً وذُرِّيَّةً وإخوانا .
وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحْبه وسلَّم .
دكتور
إسماعيل محمد علي عبد الرحمن
أهمّ المراجع
أولاً : القرآن الكريم وعلومه
* القرآن الكريم .(1/244)
* أحكام القرآن لابن العربي .. دار الكتب العلمية – بيروت 1988 م .
* أحكام القرآن لِلجصاص .. دار الكتب العلمية .
* تفسير القرآن العظيم لابن كثير .. دار البيان العربي - القاهرة .
* الجامع لأحكام القرآن لِلقرطبي .. دار الكتب العلمية .
* المفردات في غريب القرآن لِلأصفهاني .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
* النكت والعيون لِلماوردي .. أوقاف الكويت .
ثانياً : الحديث الشريف
* تحفة الطالب لابن كثير .. دار حراء - مكة .
* سُنَن ابن ماجة .. دار إحياء التراث العربي – بيروت .
* سُنَن أبي داود .. دار الحديث – حمص 1969 م .
* سُنَن الترمذي .. دار الفكر – بيروت .
* سُنَن الدارقطني .. دار المحاسن – القاهرة .
* سُنَن الدارمي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* السُّنَن الكبرى لِلبيهقي .. حيدر آباد – الهند 1355 هـ .
* سُنَن النسائي .. دار الفكر – بيروت .
* شرْح صحيح مسلم لِلنووي .. دار إحياء التراث العربي – بيروت .
* صحيح البخاري .. دار الشعب – القاهرة .
* فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني .. المكتبة
السلفية – القاهرة .
* المستدرَك لِلحاكم .. دار الكتاب العربي – بيروت .
* مسند الإمام أحمد .. دار صادر – بيروت .
* الموطأ لِلإمام مالك .. دار النفائس – بيروت 1400 هـ .
ثالثاً : أصول الفقه ورجاله
* الإبهاج في شرح المنهاج لِلسبكي وولده .. مكتبة الكليات الأزهرية –
القاهرة 1401 هـ .
* أثر الاختلاف في القواعد الأصولية د./ مصطفى الخشن .. مؤسسة
الرسالة – بيروت 1402 هـ .
* الإحكام في أصول الأحكام لِلآمدي .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
* الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم .. دار الكتب العلمية – بيروت
1404 هـ .
* إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق مِن عِلْم الأصول لِلشوكاني .. مكتبة
الحلبي - القاهرة 1356 هـ .
* أصول البزدوي ( كنز الوصول إلى معرفة الأصول ) .. دار الكتاب
العربي – بيروت 1411 هـ .(1/245)
* أصول السرخسي .. دار المعرفة – بيروت .
* أصول الفقه لِلشيخ محمد أبي النور زهير .. المكتبة الأزهرية - القاهرة
1412 هـ .
* أصول الفقه لِلشيخ محمد الخضري .. دار إحياء التراث العربي –
بيروت 1405 هـ .
* أصول الفقه الإسلامي د./ وهبة الزحيلي .. دار الفكر – دمشق
1406 هـ .
* البحر المحيط للزركشي .. أوقاف الكويت 1413 هـ .
* بَذْل النظر لِلإسمندي .. دار التراث – القاهرة 1412 هـ .
* البرهان لإمام الحرمين الجويني .. دار الأنصار – القاهرة 1400 هـ .
* بيان المختصر لِلأصفهاني .. جامعة أم القرى - مكة المكرمة 1406 هـ .
* التبصرة لِلشيرازي .. دار الفكر – دمشق 1403 هـ .
* التحرير لابن الهمام .. مكتبة الحلبي - القاهرة ( مع تيسير التحرير )
1350 هـ .
* التحصيل مِن المحصول لِلأرموي .. مؤسسة الرسالة – بيروت
1408 هـ .
* تخريج الفروع على الأصول لِلزنجاني .. مؤسسة الرسالة – بيروت
1404 هـ .
* تشنيف المسامع لِلزركشي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* تقرير الشربيني على شرح المحلي .. مكتبة الحلبي - القاهرة ( مع
حاشية البناني ) 1356 هـ .
* التقرير والتحبير لابن أمير الحاج .. المكتبة العلمية – بيروت .
* التمهيد في أصول الفقه لِلكلوذاني .. جامعة أم القرى – مكة المكرمة
1406 هـ .
* التمهيد في تخريج الفروع على الأصول لِلإسنوي .. مؤسسة الرسالة –
بيروت 1404 هـ .
* التوضيح مع التلويح لِصدر الشريعة .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* تيسير التحرير لأمير بادشاه .. مكتبة الحلبي - القاهرة 1350 هـ .
* جَمْع الجوامع مع حاشية البناني لابن السبكي .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
* حاشية البناني مع شرح المحلِّيّ .. مكتبة الحلبي - القاهرة 1356 هـ .
* حاشية السّعد على شرْح العضد .. المكتبة الأزهرية لِلتراث - القاهرة .
* حاشية نسمات الأسحار على شرْح إفاضة الأنوار لابن عابدين .. مكتبة
الحلبي - القاهرة 1399 هـ .(1/246)
* حقائق الأصول شرح منهاج الوصول لِلأردبيلي ( تحقيق د./ إسماعيل
محمد علي عبد الرحمن [ الجزء الأول ] ، د./ قاسم عبد الدايم [ الجزء
الثاني ] ) .. رسالة ماجستير بكلية الشريعة بالأزهر .
* الرسالة لِلإمام الشافعي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة .. دار الكتاب العربي –
بيروت 1401 هـ .
* شرْح إفاضة الأنوار على متن أصول المنار لِعلاء الدين الحصني ..
مكتبة الحلبي - القاهرة 1399 هـ .
* شرْح التلويح على التوضيح لِلتفتازاني .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* شرْح تنقيح الفصول لِلقرافي .. المكتبة الأزهرية لِلتراث – القاهرة
1414 هـ .
* شرْح التوضيح لِلتنقيح لِصدر الشريعة .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* شرْح طلعة الشمس لِلسالمي .. وزارة التراث القومي – سلطنة عمان
1405 هـ .
* شرْح العضد على مختصر ابن الحاجب .. مكتبة الكليات الأزهرية -
القاهرة 1403 هـ .
* شرْح الكوكب الساطع لِلسيوطي ( تحقيق د./ محمود عبد المنعم ) ..
رسالة دكتوراه بكلية الشريعة – جامعة الأزهر برقم 3390
* شرْح الكوكب المنير لِلفتوحي .. جامعة أم القرى – مكة المكرمة
1400 هـ .
* شرْح اللمع لِلشيرازي .. البخار – بريدة ( المملكة السعودية ) .
* شرْح المحلِّيّ على جمع الجوامع .. مكتبة الحلبي - القاهرة ( مع حاشية
البناني وحاشية العطار ) .
* شرح مختصر الروضة لِلطّوفي .. مؤسسة الرسالة – بيروت .
* شرْح المنهاج لِلبيضاوي .. مكتبة الراشد – الرياض 1401 هـ .
* شرْح الورقات لِلجلال المحلِّيّ .. مكتبة محمد علي صبيح – القاهرة .
* العدة في أصول الفقه لِلقاضي أبي يعلى .. الرياض - السعودية .
* عِلْم أصول الفقه لِلشيخ عبد الوهاب خلاّف .. دار القلم – الكويت
1407 هـ .
* غاية الوصول إلى دقائق علم الأصول لأستاذنا الفاضل د./ جلال عبد
الرحمن .. مكتبة السعادة – القاهرة 1399 هـ .(1/247)
* فتح الغفار بشرح المنار لابن نجيم .. مكتبة الحلبي - القاهرة 1355 هـ .
* فواتح الرحموت بشرح مُسَلَّم الثبوت لِلأنصاري .. دار الكتب العلمية –
بيروت .
* قواطع الأدلة لابن السمعاني .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* القواعد والفوائد الأصوليّة لابن اللحام .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* كشْف الأسرار على أصول فخر الإسلام البزدوي لِعلاء الدين البخاري
دار الكتاب العربي – بيروت 1411 هـ .
* كشْف الأسرار لِلنسفي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* الكاشف عن المحصول لِلعجلي .. دار الكتب العلمية - بيروت .
* المحصول في عِلم الأصول لِلرازي .. دار الكتب العلمية – بيروت
1408 هـ .
* مختصر المنتهى لابن الحاجب .. المكتبة الأزهرية لِلتراث – القاهرة
( مع شرح العضد ) .
* المستصفى مِن عِلم الأصول لِلإمام الغزالي .. دار الكتب العلمية –
بيروت 1403 هـ .
* مُسَلَّم الثبوت لابن عبد الشكور .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* المُسَوَّدة في أصول الفقه لآل تيمية .. دار الكتاب العربي – بيروت .
* المعالم في علم أصول الفقه لِلرازي .. دار عالَم المعرفة – القاهرة
1414 هـ .
* المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري .. دار الكتب العلمية –
بيروت 1403 هـ .
* معراج المنهاج لِلجزري .. مكتبة الحسين الإسلامية – القاهرة
1413 هـ .
* مفتاح الأصول في بناء الفروع على الأصول لِلشريف التلمساني ..
مكتبة السعادة – القاهرة 1401 هـ .
* المنار لِلنسفي .. دار الكتب العلمية – بيروت 1406 هـ .
* منتهى السول في عِلْم الأصول لِلآمدي .. مكتبة محمد علي صبيح –
القاهرة .
* منهاج الوصول إلى عِلم الأصول لِلبيضاوي .. مكتبة صبيح - القاهرة .
* الموافقات في أصول الأحكام لِلشاطبي .. دار الفكر – بيروت .
* ميزان الأصول لِلسَّمرقنديّ .. مكتبة الدوحة الحديثة – قطر 1404 هـ .
* نشْر البنود على مراقي السعود لِعبد الله الشنقيطي .. دار الكتب العلمية(1/248)
بيروت 1409 هـ .
* نهاية السول في شرح منهاج الوصول لِلإسنوي .. دار الكتب العلمية –
بيروت 1405 هـ .
* الوجيز في أصول الفقه د./ عبد الكريم زيدان .. مؤسسة الرسالة –
بيروت .
* الورقات لإمام الحرمين الجويني .. مكتبة محمد علي صبيح – القاهرة .
* الوصول إلى الأصول لابن برهان .. مكتبة المعارف – الرياض
1404 هـ .
رابعاً : الفقه وقواعده ورجاله
* الأُمّ لِلإمام الشافعي .. دار الشعب – القاهرة .
* بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد .. دار المعرفة – بيروت
1401 هـ .
* روضة الطالبين وعمدة المتقين لِلنووي .. المكتب الإسلامي - بيروت
1405 هـ .
* الشرح الكبير لأبي البركات الدردير .. دار الفكر العربي – القاهرة .
* الكافي في فقه الإمام أحمد لابن قدامة المقدسي .. المكتب الإسلامي -
بيروت 1408 هـ .
* معجم الاصطلاحات والألفاظ الفقهيّة لِمحمود عبد الرحمن .. دار
الفضيلة - القاهرة .
* المغني لابن قدامة المقدسي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج لِلخطيب الشربيني ..
مكتبة الحلبي - القاهرة 1377 هـ .
* المهذب في فقه الإمام الشافعي لِلشيرازي .. دار القلم – دمشق
1412 هـ .
خامساً : العقيدة وأصول الدين
* الفرق بين الفِرَق لِلبغدادي .. دار الآفاق الجديدة – بيروت 1393 هـ .
* المِلَل والنِّحَل لِلشهرستاني .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
سادساً : علوم عربية ومنطقية وغيرها
* الكُلِّيّات لأبي البقاء الكفوي .. مؤسسة الرسالة – بيروت 1412 هـ .
* لسان العرب لابن منظور .. دار الفكر – بيروت .
* مختار الصحاح لِزين الدين الرازي .. مكتبة الحلبي – القاهرة .
* المصباح المنير لِلفيومي .. المكتبة العلمية – بيروت .
سابعاً : التراجم والتاريخ وغيرها
* الاستيعاب في معرفة الأصحاب لأبي عُمَر بن عبد البرّ .. دار الجيل -
بيروت .
* أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الجزري .. مكتبة الحياة – بيروت .(1/249)
* الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني .. مكتبة المثنى –
بغداد .
* الأعلام لِلزركلي .. دار العلم لِلملايين – بيروت 1384 هـ .
* البداية والنهاية لابن كثير .. مكتبة المعارف – بيروت 1985 م .
* تاريخ بغداد لِلخطيب البغدادي .. دار الكتب العلمية - بيروت .
* التاريخ الكبير لِلإمام البخاري .. دار الكتب العلمية - بيروت .
* تذكرة الحُفّاظ لِلذهبي .. دار الكتب العلمية - بيروت .
* الجواهر المضيئة في طبقات الحنفيّة لِعبد القادر بن محمد القرشي
الحنفي .. دار هجر - القاهرة .
* حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني .. دار الكتب
العلميّة - بيروت .
* الدُّرَر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حَجَر العسقلاني .. حيدرآباد
الهند .
* الديباج المُذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون المالكي ..
دار التراث - القاهرة .
* سِيَر أعلام النبلاء لِلذهبي .. مؤسسة الرسالة – بيروت .
* شجرة النور الزكية في طبقات المالكية لِلشيخ محمد حسنين مخلوف ..
دار الفكر – بيروت .
* شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب لابن العماد الحنبلي .. دار المسيرة
بيروت .
* الضوء اللامع لأهْل القَرْن التاسع لِلسخاوي .. دار الكتاب الإسلامي .
* طبقات الحُفّاظ لِلسيوطي .. دار الكتب العلميّة - بيروت .
* طبقات الحنابلة أبي يعلى .. دار إحياء الكتب العربية - القاهرة .
* طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي .. دار إحياء الكتب العربية -
القاهرة .
* الطبقات الكبرى لابن سعْد .. دار الفكر - بيروت .
* طبقات المُفَسِّرين لِشمْس الدين الدّاودي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* معجم المؤلِّفين لِعُمَر رضا كحالة .. دار إحياء التراث العربي -
بيروت .
* النجوم الزاهرة في ملوك مِصْر والقاهرة لابن تغربردي .. دار المعرفة
بيروت .
* وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان .. دار صادر –
بيروت .
فهرس
الموضوع ... ص(1/250)
المقدمة......................................................... ... 3
الفصل الأول : تعريف العامّ ومدلوله وصيغه : ... 11
التمهيد في : موقع العامّ عند الأصوليّين......................... ... 13
المبحث الأول : تعريف العامّ ومدلوله ودلالته : ... 17
المطلب الأول : تعريف العامّ لغةً واصطلاحا..................... ... 18
المطلب الثاني : الفَرْق بيْن العامّ وغيْره.......................... ... 29
المطلب الثالث : العموم مِن عوارض الألفاظ أم داخِل في حقيقتها. ... 34
المطلب الرابع : مدلول العامّ ودلالته ومعياره : ... 39
أوّلاً : مدلول العامّ............................................... ... 39
ثانياً : دلالة العامّ................................................ ... 41
ثالثاً : معيار العامّ............................................... ... 48
المبحث الثاني : صيغ العموم وألفاظه : ... 51
المطلب الأول : صيغ العموم..................................... ... 52
المطلب الثاني : صيغ العموم حقيقة في العموم أم لا ؟ ........... ... 59
المطلب الثالث : ألفاظ العموم.................................... ... 70
المطلب الرابع : الجَمْع المعرَّف بالألِف واللام أو الإضافة والجَمْع المُنَكَّر وأَقَلّ الجَمْع :
أوّلاً : الجَمْع المعرَّف بالألِف واللام أو الإضافة.................. ... 74
74
الموضوع ... ص
ثانياً : الجَمْع المُنَكَّر............................................. ... 79
ثالثاً : أَقَلّ الجَمْع................................................ ... 88
المطلب الخامس : المفرَد المحلَّى بالألِف واللام والأسماء المبهمة : ... 93
أوّلاً : المُفْرَد المُحَلَّى بألِف واللام................................ ... 93
ثانياً : الأسماء المبهمة........................................... ... 99
المطلب السادس : النكرة في سياق النفي والأسماء المؤكدة وألفاظ معناها العموم :(1/251)
أوّلاً : النكرة في سياق النفي..................................... ... 103
ثانياً : الأسماء المؤكّدة........................................... ... 103
ثالثاً : ألفاظ معناها الجَمْع........................................ ... 109
الفصل الثاني : تمييز ما يُمكِن دَعْوَى العموم فيه : ... 112
التمهيد في : تمييز ما يمكن دعوى العموم فيه................... ... 115
المبحث الأول : عموم اللفظ ، والمقتضى ، والمفهوم ، والمشترك ، والجَمْع المضاف : ... 117
المطلب الأول : العِبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب..........
المطلب الثاني : عموم المقتضى................................. ... 119
المطلب الثالث : عموم المفهوم................................... ... 120
المطلب الرابع : عموم المشترك................................. ... 127
المطلب الخامس : الجَمْع المضاف إلى جَمْع...................... ... 133
المبحث الثاني : الفعل المتعدِّي ، والمثبت ، والحُكْم المعلَّق على علّة ، والعطف على العامّ : ... 135
141
145
الموضوع ... ص
المطلب الأول : الفعل المتعدِّي في سياق النفي أو الشرط.......... ... 146
المطلب الثاني : الفعل المثبت.................................... ... 149
المطلب الثالث : قول الصّحابيّ : نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَن كذا.......... ... 155
المطلب الرابع : الحُكْم المُعَلَّق على عِلّة.......................... ... 160
المطلب الخامس : العطف على العامّ............................. ... 164
المبحث الثالث : تَرْك الاستفصال ونَفْي المساواة وسوْق العامّ لِغرض آخَر :
المطلب الأول : تَرْك الاستفصال في حكاية الحال................. ... 169
المطلب الثاني : نَفْي المساواة بيْن الشيئيْن........................ ... 170
المطلب الثالث : سَوْق العامّ لِغرض آخَر كالمدح والذّمّ............ ... 175
الفصل الثالث : الخطاب العامّ وتَعارُض العموميْن والعامّ بعْد تخصيصه : ... 179(1/252)
المبحث الأول : الخطاب العامّ المختلَف في عمومه :
تمهيد........................................................... ... 185
المطلب الأول : خطاب الله تعالى نبيّه - صلى الله عليه وسلم - ........................ ... 187
المطلب الثاني : خطاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لِواحد مِن أُمّته................. ... 188
المطلب الثالث : خطاب الأُمَّة هل يدخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عمومه ؟ ... 190
المطلب الرابع : المخاطِب هل يدخل في عموم خطابه ؟.......... ... 197
المطلب الخامس : الخطاب العامّ هل يدخل فيه العَبِيد ؟........... ... 202
المطلب السادس : الخطاب العامّ لِجَمْع المذكَّر هل يعمّ الإناث ؟.. ... 207
المطلب السابع : الخطاب الشّفاهيّ هل يعمّ الغائب والمعدوم ؟.... ... 212
217
222
الموضوع ... ص
المطلب الثامن : خطاب أهْل الكتاب هل يعمّ الأُمَّة ؟.............. ... 226
المطلب التاسع : خطاب العامّ هل يعمّ الكفار ؟................... ... 228
المبحث الثاني : تَعارُض العموميْن : ... 233
المطلب الأول : القاعدة في دفْع تَعارُض العموميْن................ ... 234
المطلب الثاني : الترجيح بيْن صِيَغ العموم المتعارضة............ ... 242
المطلب الثالث : تَعارُض العامّ والخاصّ.......................... ... 246
المبحث الثالث : العامّ بَعْد تخصيصه وحُجِّيّة العامّ المخصّص : ... 255
المطلب الأول : العامّ بَعْد تخصيصه.............................. ... 256
المطلب الثاني : حُجّية العامّ المخصَّص.......................... ... 267
المطلب الثالث : الاستدلال بالعامّ قَبْل البحث عن المخصّص...... ... 274
المطلب الرابع : أَقَلّ العامّ الباقي بَعْد التخصيص.................. ... 287
الفصل الرابع : أثر العامّ في الأحكام : ... 293
التمهيد في : أثر القواعد الأصوليّة في الأحكام الشَّرعيَّة.......... ... 295
الفرع الأول : نِصَاب زكاة الزروع والثمار...................... ... 298(1/253)
الفرع الثاني : التسمية عند الذبح................................. ... 304
الفرع الثالث : قتْل المرأة المرتَدّة................................ ... 312
الفرع الرابع : قيام الليل......................................... ... 316
الفرع الخامس : قتْل المسلِم بالذِّمِّيّ.............................. ... 319
الخاتمة.......................................................... ... 323
أهمّ المَراجع..................................................... ... 333
الفهرس......................................................... ... 343
رقم الإيداع بِدار الكتب
11303/2003
الترقيم الدّولي
977 - 5899 - 24 - 9(1/254)