اليسر ورفع الحرج
في الشريعة الإسلامية
إعداد
الدكتور مازن مصباح صباح
أستاذ الفقه وأصوله المساعد
جامعة الأزهر - غزة
الحمد لله رب العالمين، كلّف عباده المؤمنين بما يطيقون وبما يستطيعون ووضع عنهم ما هم عنه يعجزون، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد الذي جاء برسالة عنوانها السماحة - صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر الشافع المشفع يوم الحشر .. أما بعد:
إن المتتبع والدارس والقارئ للفقه الإسلامي بدقة وتمعن يجد أنه يتميز بخصائص ومميزات لا يتميز بها غيره، جعلته قابلاً للنماء والثبات والعطاء طيلة أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمن، وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ذلك أن الشريعة الإسلامية -الذي يُعد الفقه جزءاً منها- ذات صفة عالمية ودائمة.
ولما كانت هذه الشريعة آخر شريعة سماوية، كان لابد أن تكون مميزة بخصائص ومميزات تجعلها قابلة للثبات والاستمرار ومواكبة لحياة الإنسان مهما كان، وفي أي عصر كان وفي أي مكان كان.
ومن أهم المميزات التي تميزت بها شريعتنا الغراء رفع الحرج عن المكلفين والتيسير عليهم، وهذه ميزة ميزت الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع الأخرى السابقة التي ضمَّنها الله -عز وجل- من الأعمال الشاقة ما يتناسب وأحوال وأوضاع تلك الأمم التي جاءت لها تلك الشرائع، والأمثلة على ذلك كثيرة منها: اشتراط قتل النفس للتوبة من المعصية، والتخلص من الخطيئة، ويدل على ذلك قوله تعالى: }فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ{([1])، ومثله أيضاً تطهير الثوب بقطع موضع النجاسة منه، وبطلان الصلاة في غير موضع العبادة المخصوص، وغير ذلك من الأمور التي كلّف بها من نزلت عليهم تلك الشرائع السابقة([2]).(1/1)
هذا ولم تسلم شريعة من الشرائع السابقة من المشاق والتشديد والعنت، لذلك علّمنا الله عز وجل دعاءً وهو قوله تعالى: }رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ{([3])، بل إن هذه الأمة قد بشرت بنبيها -محمد- - صلى الله عليه وسلم - الأنبياء الذين سبقوه - صلى الله عليه وسلم - وجاءت صفاته في التوراة والإنجيل والتي منها أنه سيُبعث - صلى الله عليه وسلم - ميسِراً ومخفِفاً عن الأمة التي سيبعث فيها.
قال تعالى: }الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ{([4])، ومعنى قوله -عز وجل- (ويضع عنهم إصرهم والأغلال) أنه - صلى الله عليه وسلم - جاء بالتيسير والسماحة([5]).
الأدلة على رفع الحرج في الشريعة الإسلامية
لمّا كان مبدأ رفع الحرج والتيسير من أهم ميزات الشريعة الإسلامية، فقد تضافرت أدلة عديدة قد بلغت مبلغ القطع للدلالة على هذا المبدأ، وقد جاءت تلك الأدلة في الكتاب والسنة والإجماع.
أولاً: الأدلة من الكتاب الكريم:
جاءت آيات عدة في أكثر من موطن في الكتاب الكريم تشهد لهذا المبدأ ناطقة شاهدة على رسوخه في الشريعة الإسلامية، ومن تلك الآيات:
1- قوله تعالى: }وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ{([6]).
2- قوله تعالى: }يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ{([7]).
3- قوله تعالى: }يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً{([8]).(1/2)
4- قوله تعالى: }لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا{([9]).
وجه الدلالة: هذه الآيات منطوقها واضح صريح في رفع الحرج عن المكلفين والتيسير عليهم، وعدم تكليفهم ما لا يطيقون.
ثانياً: الأدلة من السنة النبوية:
وردت أحاديث عدة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تدل على مبدأ رفع الحرج والتيسير على المكلفين منها:
1- وصيته - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما: (يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا)([10]).
2- قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الدين يسر ولن يشاد هذا الدين أحد إلاّ غلبه فسددوا وقاربوا)([11]).
3- قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن خير دينكم أيسره)([12]).
وجه الدلالة: الأحاديث السابقة تدل بمنطوقها الواضح الصريح على أن من سمات هذا الدين اليسر والسماحة.
ثالثاً: الإجماع: انعقد الإجماع على عدم وقوع المشقة غير المألوفة في التكاليف الشرعية، مما يدل على عدم قصد الشارع إعنات المكلفين أو تكليفهم ما لا تطيقه ومالا تتحمله نفوسهم([13]).
مظاهر التيسير ورفع الحرج في الشريعة الإسلامية
لمّا كان مبدأ رفع الحرج والتيسير على المكلفين من المبادئ الرئيسة في شرعنا الحنيف فقد تجلت مظاهر رفع الحرج والتيسير في شتى مجالات هذه الشريعة الغراء، وفي أحكامها الشرعية التي طلبت من المكلفين. وسأقوم فيما يلي ببيان بعض من تلك المظاهر:
1- قلة التكاليف: إن العبادات التي شرعت في حقنا نجد أنها قليلة في كمها وكيفها إذا ما قيست بالشرائع السابقة، ولعل السبب في ذلك حتى لا يثقل على العباد كثرة تلك التكاليف فلا يطيقون القيام بها ويتركونها فخفف عنهم بقلتها حتى يحصل منهم الامتثال لتلك التكاليف.(1/3)
ففي العبادات نجد أن الله عز وجل تخفيفاً عنا شرع لنا خمس صلوات في اليوم والليلة، وأباح لنا الصلاة في أي مكان أدركتنا فيه الصلاة، وفرض علينا صيام شهر واحد من أشهر السنة، وفرض الحج لمن استطاع إليه سبيلاً مرة واحدة في العمر.
وفي المعاملات لم يأتِ على تفصيل أحكامها بل وضع لنا من القواعد العامة فيها ما يجعلها تطبق في كل زمان ومكان، منها قوله تعالى: }وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا{([14])، وقوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ{([15])، وقوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ{([16]).
وأما في غير العبادات والمعاملات فإننا نجد أن الشارع الحكيم قد نصّ على الحرمات وحددها، ومن ذلك قوله تعالى: }حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ{([17])، وقوله تعالى: }حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ{([18])، وبين إباحة الطيبات في قوله تعالى: }الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ{([19])، ونجد في نفس المقام أن الشارع الحكيم بعد بيانه لما سبق ينكر وبشدة على مَن يشق على المسلمين فيحرم عليهم ما لم يرد به نص على تحريمه فقال تعالى: }وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ{([20])، أي بينه لكم وفصله لكم فلا يمكن أن يأتي شخص ليحرم ما لم ينزل به نص يدل على تحريمه دلالة واضحة لأن في هذا افتراءً على الله عز وجل، وفي نفس الوقت تشديداً على المسلمين وإيقاعهم في حرج ومشقة.
2- ومن مظاهر اليسر ورفع الحرج عن المسلمين أن شرّع لهم الله عز وجل الرخص.
فالرخصة في اللغة هي اليسر والسهولة، وفي الاصطلاح اسم لما أباحه الشارع عند الضرورة تخفيفاً عن المكلين ورفعاً للحرج عنهم([21]).(1/4)
أو هي ما وسع للمكلف في فعله لعذر وعجز عنه مع قيام السبب المحرم([22]).
أو هي ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام المحرم لولا العذر لثبتت الحرمة([23]).
فنلحظ من خلال تلك التعاريف بأن المكلف في الأصل أنه قد شرع في حقه أحكام يجب أن يلتزم بها وهي ما تسمى بالعزيمة وهي الأحكام التي شرعت ابتداءً دون وجود ظروف طارئة يمر بها المكلف، ولكن قد يحدث وأن تمر على المكلف ظروف طارئة، وأعذار تستدعي التخفيف، لولاها لبقي الحكم الأصلي ولكن تخفيفا عن المكلفين ورفعاً للحرج عنهم، ودفعاً للمشقة عنهم شرعت الرخصة والتي هي استثناء جزئي من كلي، وسبب الاستثناء ملاحظة الشارع الضرورات والأعذار، ولذا فإن الأصوليين يعدون تشريع الرخص من باب المصالح الحاجية والتي شرعت لحاجة الناس إليها، والتي لو لم تشرع لوقع الناس في حرج ومشقة وعنت.
والرخصة بهذا المعنى تشمل الأحكام الآتية:
1- ما انتقل فيه الحكم من المنع الذي يقتضيه الدليل إلى الجواز الذي يعم الوجوب كأكل الميتة للمضطر بالقدر الذي يدفع به عن نفسه الهلاك وهذا ثابت بقوله تعالى: }وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ{([24])، ودل عليه قوله تعالى: }فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ{([25])، وهذا على خلاف قوله تعالى: }إنما حرم عليكم الميتة{([26])، كما يعم أيضاً الندب مثاله: كقصر الصلاة الرباعية للمسافر عند مَن يرى بأن ذلك مندوب وهو ثابت بقوله - صلى الله عليه وسلم - (صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)([27]) على خلاف الدليل الموجب للإتمام وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - (وصلوا كما رأيتموني أصلي)([28])، كما يعم الإباحة كرؤية الطبيب المعالج لعورة المرأة -إذا لم توجد الطبيبة المسلمة- فقد كان ممنوعاً محرماً إلاّ أنه أبيح لرفع الحرج وتيسيراً على المكلفين.(1/5)
ويعم أيضاً خلاف الأولى كالفطر في نهار رمضان لمن لا يتأذى من الصوم الثابت بقوله تعالى: }فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ{([29]) وهو على خلاف قوله تعالى: }فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ{([30]) وكان خلاف الأولى لقوله تعالى: }وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ{([31]).
2- ما جاء به النص مخالفاً للقياس كالسلم إذ القياس يقتضي بطلانه لأنه بيع معدوم، وبيع المعدوم من المقرر فقهاً أنه باطل لقوله - صلى الله عليه وسلم - لحكيم بن حزام رضي الله عنه: (لا تبع ما ليس عندك)([32])، ولكن ورد النص بجوازه وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - (مَن أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)([33]).
وما شرعت الإجارة والمضاربة.. وغيرها من العقود التي صححت على خلاف القياس إلاّ من باب التيسير ورفع الحرج عن المكلفين وذلك لحاجتهم الماسة إلى تصحيح تلك العقود التي لو لم تصحح لوقع المكلفون في حرج ومشقة وعنت لا يطيقونه ولا يتحملونه تخفيفاً عنهم شرعت وصححت تلك العقود على خلاف القياس.
3- ما انتقل فيه الحكم من الوجوب الذي يقتضيه الدليل إلى الترك الذي يعم الحرام، ومثاله: كحرمة صوم المريض إذا كان الصوم يؤدي به إلى الهلاك المؤكد.
أقسام الرخصة:
1- رخصة فعل: وهي التي يدعو فيها الشارع بسبب الضرورة أو الحاجة إلى فعل ما نهى عنه المكلف، فقد نهى عن أكل الميتة فرخص فيها عند الحاجة والضرورة الملحة تيسيراً على المكلف.
2- رخصة ترك: وهي التي يدعو الشارع فيها بسبب الضرورة أو الحاجة إلى ترك ما أوجبه، مثاله: كترك الصوم في رمضان للمريض والمسافر.
أنواع الرخصة:(1/6)
1- إباحة المحظورات عند الضرورة فمن أُكره على التلفظ لكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان أبيح له ذلك لقوله تعالى: }إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ{([34])، أو اضطر إلى تناول محرم لضرورة فيباح له ذلك.
- وأما حكم هذا النوع: وجوب العمل بالرخصة إذا تعينت طريقاً لدفع الضرر عن النفس، ولكن في حالة التلفظ بكلمة الكفر فالأولى عند الأحناف عدم الأخذ بالرخصة والأولى الأخذ بالعزيمة لما في ذلك من إغاظة للكفار وإظهار للتمسك بالعقيدة([35])، ولكن إن أخذ بالرخصة أخذه بها مشروع وجائز.
2- إباحة ترك الواجب في حالة وجود عذر يجعل أداءه شاقاً على المكلف فرفعاً للحرج وتيسيراً عليه أبيح له ترك الواجب، ومثال ذلك إباحة الفطر في نهار رمضان للمريض أو المسافر، وذلك لأن المريض متلبس بعذر يجعل أداء ما كلف به صعباً عليه وشاقاً على النفس فلو لم تشرع تلك الرخصة لوقع المكلف في حرج وضيق، فتيسيراً عليه ورفعاً للحرج عنه أبيح له ترك الواجب، وكذا الأمر بالنسبة للمسافر وكذلك يباح للمسافر تيسيراً عليه ورفعاً للحرج عنه أن يقصر من الصلاة الرباعية والتي تؤدى ركعتين بدلاً من أربع([36])، دل على ذلك التخفيف والتيسير قوله تعالى }وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً{([37]).
حكم هذا النوع: عند الجمهور العمل بالعزيمة أفضل من العمل بالرخصة بشرط ألا يترتب على ذلك ضرر بيّن بالمكلف، فإذا ترتب ضرر يلزم حينئذ العمل بالرخصة الذي يكون متحتماً وواجباً لدرء المفسدة ولدفع الضرر الذي يحصل جراء الأخذ بالعزيمة.(1/7)
والذي يدل على ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى إذا بلغ كراع الغميم([38]) وصام الناس معه فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصوم. وإن الناس ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء فشربه والناس ينظرون إليه فأفطر بعضهم وظل البعض الآخر صائماً فقيل له - صلى الله عليه وسلم - إن بعض الناس قد صام فقال عليه الصلاة والسلام: (أولئك العصاة أولئك العصاة)([39]).
فقوله - صلى الله عليه وسلم - أولئك العصاة تنفير من هذا العمل الذي قاموا به وهو بقاؤهم صائمين بالرغم من إفطار الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلو كان فعلهم مشروعاً وجائزاً لما وصفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك الوصف.
3- تصحيح بعض العقود الاستثنائية التي لم تتوافر فيها الشروط العامة لانعقاد العقد وصحته، ولكن جرت بها معاملات الناس وصارت من حاجاتهم حكم هذا النوع: الأخذ بها جائز لأنه يؤدي إلى رفع الحرج والمشقة عن الناس لحاجتهم لتلك المعاملات التي لا تخلو منها حياتهم العملية.
أسباب الرخصة: للرخصة أسباب منها:
1- الضرورة وهذا السبب مبني على أصل تشريعي وهو أن الضرورات تبيح المحظورات([40])، وقد تقدم فيما سبق أمثلة على ذلك تدل على مبدأ رفع الحرج والتيسير على المكلفين.
2- رفع الحرج والضيق والمشقة وهذا السبب مبني على أصل تشريعي وهو أن المشقة تجلب التيسير([41])، ومرّ معنا فيما سبق أمثلة على ذلك.
أسباب التخفيف: أورد الإمام السيوطي -يرحمه الله- في كتابه الأشباه والنظائر سبعة أسباب للتخفيف كلها تدل بمجموعها على أصالة مبدأ رفع الحرج والتيسير على المكلفين، وأنه سمة بارزة وواضحة في شرعنا الحنيف وهي([42]):
1- السفر: ورخصه كثيرة كإباحة الفطر للمسافر، وقصر الصلاة وغير ذلك.
2- المرض: ومن رخصه إباحة التيمم عند مشقة استعمال المريض للماء، والقعود في الصلاة والفطر في نهار رمضان.(1/8)
3- الإكراه. 4- النسيان: ومما يدل على أنهما من أسباب التخفيف قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)([43])، ومن ذلك عدم الاعتداد بأقوال المكره فلا يقع طلاقه مثلاً، ومن النسيان: فمن نسي وهو صائم فلا حرج عليه، ومن نسي صلاة ليعدها ولا حرج عليه.. وغير ذلك من صور التخفيف.
5- الجهل: فمن شرب خمراً جاهلاً بحقيقتها فيعذر ولا حدَّ عليه ولا تعزير عليه وغير ذلك من الأمثلة.
6- العسر وعموم البلوى: كالصلاة مع النجاسة المعفو عنها كمن به دم قروح وطين الشارع وأثر لنجاسة يعسر زوالها، وإباحة النظر عند الخطبة والتعليم والإشهار والمعاملة والمعالجة، ومشروعية الطلاق لما في إبقاء الحياة الزوجية قائمة ومستمرة من المشقة الحاصلة بسبب نفور الزوجين وعدم قدرتهما على الاستمرار في حياتهما الزوجية.
7- النقص: فإنه نوع من المشقة إذ إن النفوس جبلت على الكمال فناسبه التخفيف في التكليفات منها عدم تكليف الصبي ولا المجنون وعدم تكليف النساء بما وجب على الرجال تخفيفاً عنهن كحضور الجماعات وشهود الجمعة والجهاد وغير ذلك.
- بعد ما أوردناه فيما سبق من بيان لأصالة مبدأ رفع الحرج والتيسير في شرعنا الحنيف لابد أن نشير إلى أنه ليس معنى يسر الشريعة وسماحتها أن يركن الإنسان ويهمل التكاليف الشرعية، ويجعل من التيسير ورفع الحرج مدخلاً للهروب مما كلف به الإنسان.
وأيضاً مع سماحة الإسلام ويسره فهو قد وبخ المتشددين الذين يشددون على المسلمين ويغلو الواحد منهم في دينه ويبالغ في ذلك الغلو وحتى كأن السمة البارزة للإسلام هي الغلو، والذي يعد الأخذ به اتباعاً للهوى لأنه مخالف لدين الله الذي من سماته أنه دين اليسر والسماحة ولا يمكن أن يجتمع اليسر والتشدد في آن واحد.(1/9)
وصفة الغلو وبخ الله عز وجل أصحابها من الأمم السالفة وأنكر عليهم غلوهم ونهاهم عن ذلك في موعظة يستفيد منها المسلمون، فقال تعالى: }يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ{([44])، ولما كان الأمر متعلقاً بأمم سبقت هذه الأمة فعلى هذه الأمة الإسلامية أن تتجنب الوقوع بما وقعت يه تلك الأمم من الغلو وأن تبتعد عن أسبابه حتى لا يصيبها ما أصاب تلك الأمم.
ويكفي هنا أن نسوق كلاماً قيماً لابن القيم في كتابه القيم أعلام الموقعين ما يدل دلالة واضحة على سمات بارزة في هذه الشريعة فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه([45]).
المراجع والمصادر
1- فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني.
2- صحيح الإمام البخاري محمد بن إسماعيل البخاري.
3- صحيح الإمام مسلم للإمام مسلم النيسابوري.
4- مسند الإمام أحمد الإمام أحمد بن حنبل
5- المستصفى للإمام الغزالي.
6- التلويح
7- الإحكام في أصول الأحكام لسيف الدين الآمدي.
8- أصول السرخسي للسرخسي.
9- الموافقات للشاطبي.
10- الأشباه والنظائر للسيوطي.
11- سنن أبي داود.
12- سنن ابن ماجه.
13- أعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم.
ملخص
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، كلف عباده المؤمنين بما يطيقون وبما يستطيعون، ووضع عنهم ما هم عنه يعجزون، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد الذي جاء برسالة عنوانها السماحة بعث - صلى الله عليه وسلم - ميسراً ولم يبعث مشدداً، كان مبشراً ولم يكن منفراً صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر الشافع المشفع يوم الحشر.
أما بعد:(1/10)
إن المتتبع والدارس والقارئ للفقه الإسلامي بدقة وتمعن يجد أنه يتميز بخصائص ومميزات لا يتميز بها غيره، جعلته قابلاً للعطاء طيلة أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمن، يستوعب كل جديد ويدلي بالكلمة الفصل فيه إن كان موافقاً لمبادئ الشريعة الإسلامية أخذ به، وإن كان مخالفاً لمبادئ التشريع وروحه رفضه، فالفقه هو الحاكم على الواقع وليس الواقع هو الحاكم عليه.
ومن أهم الميزات التي تميزت بها الشريعة الإسلامية -والفقه جزء منها- السماحة واليسر ورفع الحرج، جعلتها هذه الميزة شريعة مميزة عن باقي الشرائع السماوية السابقة والتي وجد فيها من الأعمال الشاقة ما يتناسب وأحوال وأوضاع تلك الأمم التي جاءت لها تلك الشرائع.
وقد ذكرت -صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - - بأنه ميسر ومبشر ورافع لتلك الأغلال التي كانت على تلك الأمم السالفة.
قال تعالى: }الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ{.
والأدلة على مبدأ التيسير ورفع الحرج كثيرة، منها قوله تعالى: }وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ{ فما نافية، الدين يعم كل الأحكام أي معنى ما سبق أن لا يوجد في ديننا الإسلامي حكم في تطبيقه حرج على المكلفين.
وقوله تعالى: }يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ{ فهي واضحة الدلالة بينة في معناها من أن الله عز وجل يريد أن ييسر علينا، ولا يعسر علينا، ومن التيسير أن يشرع لنا من الأحكام ما يسهل تطبيقها ولا يشق ذلك على المكلفين مطلقاً.(1/11)
بل إننا إذا نظرنا في السُنّة النبوية نجد نبي السماحة والتيسير والرحمة واللين - صلى الله عليه وسلم - يوصي الدعاة من أمته - صلى الله عليه وسلم - من خلال حديثه مع صحابيين جليلين بعثا للدعوة وهما أبوموسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما: (يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا).
فالرسول الأكرم - صلى الله عليه وسلم - بهذا يضع أسساً راسخة لفقه الدعوة إلى الله عز وجل، بدأ وصيته بالأمر بالتيسير على الناس وعدم التعسير عليهم، أوصى أيضاً كل الدعاة بالتبشير وعدم التنفير، فكل الدعاة لابد أن يتمثلوا روح هذا النص النبوي وتتشرب نفوسهم معاني ذلك الحديث وتلك الوصية الجامعة، فالداعي إلى الله عز وجل عليه أن يتذكر أنه على نهج أول الدعاة إلى الله -محمد- خير من دعا إلى الله بحكمة وبموعظة حسنة بأن ييسر ولا يعسر، وأن يبشر وألا ينفر، فإن كان في موطن يقتضي التيسير وعسر على الناس فهو مخالف لسنة أول الدعاة إلى الله وإن نفر في موطن يحتاج إلى تبشير فهو مخالف لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولقد تعددت مظاهر التيسير ورفع الحرج عن المكلفين في الشريعة الإسلامية منها:
1- قلة التكاليف: ففي العبادات شرع لنا الله عز وجل خمس صلوات في اليوم والليلة، وأن نصوم شهراً واحداً في السنة، وأن نحج مرة واحدة في العمر لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وفي المعاملات لم يلزمنا بكيفية معينة لها بل وضع لنا قواعد عامة لها تطبق في كل زمان ومكان، على أن تكون تلك المعاملات في قالب شرعي.
ولذا وجدنا أن العبادات أحكامها ثابتة، أما المعاملات فقواعدها موجودة ينزلها المجتهدون والعلماء على كل واقعة جديدة فإذا كانت هناك معاملة جديدة يتعامل بها الناس إن وافقت تلك القواعد الشرعية أخذنا بها وإلا رفضناها وهذا يه تيسير على المكلفين.(1/12)
2- ومن مظاهر اليسر ورفع الحرج تشريع الرخص: فالمسلم مطالب بالقيام بما وجب عليه القيام به غير أنه ربما يمر بظروف استثنائية كمرض أو سفر أو ما شابه ذلك تخفيفاً عنه شرعت في حقه الرخص والتي ربما يكون الأخذ بها واجباً إذا تعينت سبيلاً لحفظ النفس، بل إن مَن لم يأخذ بها وألقى بنفسه إلى التهلكة فهلك فهو عاصٍ ويدخل في عموم قوله عز وجل }وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً{، أي لا تأخذ بالعزيمة في موطن الأخذ بها يؤدي إلى قتل النفس بل لابد من الأخذ بالرخصة حفاظاً على النفس، ولذا ختم الله هذه الآية (إن الله كان بكم رحيماً) أي رحيماً بتشريعه للرخص في حقكم رفعاً للحرج والمشقة عنهم.
وللدلالة على رسوخ مبدأ التيسير ورفع الحرج اهتم العلماء باستقرار أسباب التخفيف في شرعنا الحنيف وهي سبعة أسباب:
السفر- المرض- الإكراه- الجهل- النسيان- العسر وعموم البلوى- النقص.
وبعد ما سبق إيراده علينا أن نتنبه إلى نقطة إلى أنه لا يعني يسر التشريع وسماحة الدين أن يركن الإنسان ويهمل التكاليف الشرعية ويجعل من التيسير مدخلاً للهروب مما كلف به الإنسان، وفي نفس الوقت ألا يكون هناك ما ينافي هذا المبدأ وهو المغالاة والتشديد، فالغلو أمر نهى عنه الإسلام بل إن الله نهى عنه الأمم السالفة فقال: }يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم{ ونحن مخاطبون بذلك الخطاب الإلهي بأن نتجنب الأسباب المؤدية إلى الغلو والتشدد والتطرف والبعد عن مبدأ التيسير ورفع الحرج، فالغلو إتباع للهوى ومخالف لشرعنا الحنيف، ولذا حينما أراد أحد الصحابة أن يشدد على المسلمين بأن يسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الحج في كل عام، فسكت الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يجب، حتى قال: (لو قلت نعم لوجبت ذروني ما تركتكم إنما أهلك مَن كان قبلكم كثرة اختلافهم على أنبيائهم فما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم منه فانتهوا).(1/13)
بل إننا نجد رسولنا الأكرم محمداً - صلى الله عليه وسلم - لا يريد أن يشق على أمته تخفيفاً عليهم بقوله: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتكم بالسواك عند كل صلاة).
فالدعاة عليهم أن ييسروا ولا يعسروا، يبشروا ولا ينفروا، وأن يأخذوا بوسطية الشريعة الإسلامية فلا إفراط ولا تفريط.
وأختم بكلام قيم لابن القيم في كتابه القيم أعلام الموقعين: فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه.
إذن فالتشديد والتطرف والمغالاة لا تتوافق مع شريعة هي عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه.
---
([1]) سورة البقرة من الآية 54.
([2]) فتح الباري، ابن حجر العسقلاني 1/93.
([3]) سورة البقرة من الآية 286.
([4]) سورة الأعراف آية 157.
([5]) تفسير ابن كثير 2/222.
([6]) سورة الحج من الآية 78.
([7]) سورة البقرة من الآية 185.
([8]) سورة النساء آية 28.
([9]) سورة البقرة من الآية 286
([10]) رواه البخاري في صحيحه كتاب الجهاد باب ما يكره من التنازع والاختلاف 2/259 حديث 3038، رواه مسلم في صحيحه كتاب الجهاد والسير باب في الأمر بالتيسير 3/1359 حديث 1733.
([11]) رواه البخاري في صحيحه كتاب الأيمان باب الدين يسر 1/23 حديث رقم 39.
([12]) رواه أحمد في مسنده 2/32.
([13]) الموافقات - للشاطبي 2/122- 123.
([14]) سورة البقرة من الآية 275.
([15]) سورة النساء من الآية 29.
([16]) سورة المائدة آية 1.
([17]) سورة النساء من الآية 23.
([18]) سورة المائدة آية 3.
([19]) سورة المائدة من الآية 5.
([20]) سورة الأنعام من الآية 119.
([21]) الوجيز في أصول الفقه ، د. عبدالكريم زيدان ، ص50.(1/14)
([22]) المستصفى للغزالي 1/98.
([23]) التلويح 2/127، الإحكام في أصول الأحكام 1/188.
([24]) سورة البقرة آية 195.
([25]) سورة البقرة من الآية 173.
([26]) سورة البقرة آية 173.
([27]) رواه الترمذي في سننه تاب التفسير 5/227 حديث رقم 3034.
([28]) رواه البخاري كتاب الآذان باب الآذان للمسافر إذا كانوا جماعة حديث 631، كما في الفتح 2/111.
([29]) سورة البقرة من الآية 184.
([30]) سورة البقرة من الآية 185.
([31]) سورة البقرة آية 184.
([32]) رواه أبو داود في سننه كتاب البيوع والإجارات باب في الرجل يبيع ما ليس عنده 3/769 حديث 3503.
([33]) رواه البخاري في صحيحه في السلم باب السلم في كيل معلوم 4/428 حديث رقم 2239.
([34]) سورة النحل آية 106.
([35]) أصول السرخسي 1/118.
([36]) أصول السرخسي 1/118.
([37]) سورة النساء آية 101.
([38]) كراع الغميم اسم واد وهو من أموال أعالي المدينة.
([39]) رواه مسلم في صحيحه كتاب الصيام باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان 2/785 حديث رقم 1114.
([40]) الأشباه والنظائر للسيوطي ص157 وما بعدها.
([41]) المرجع السابق ص168.
([42]) المرجع السابق ص158 وما بعدها.
([43]) رواه ابن ماجه في سننه كتاب الطلاق 1/659 حديث رقم 2045.
([44]) سورة النساء من الآية 171.
([45]) أعلام الموقعين 3/14.(1/15)