الوجيز الميسر
في أصول الفقه المالكي
تأليف
محمد عبد الغني الباجقني
الطبعة الأولى 1968 ف
الطبعة الثانية 1983 ف
الطبعة الثالثة 2005 ف
بسم الله الرحمن الرحيم
... الحمد لله الذي هدانا وعلمنا ما لم نكن نعلم ، وشرع لنا من الدين الحنيف ما به صلاحنا في دنيانا وسعادتنا في أُخرانا ، وأرسل إلينا خاتم رسله بآخر شريعة لخير أمة من خلقه ، وجعل لنا فيه أسوة حسنة وفي هديه سنة متبعة ، وأوجب علينا تصديقه في كل ما أخبرنا به إطاعته في كل ما أمرنا به أو نهانا عنه ، ووفق أصحابه وعلماء أمته لحمل شريعته وتبليغها بصدق وأمانة وورع وصيانة كما قال فيهم - صلى الله عليه وسلم - (( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)) رضي الله عنهم ووفقنا لسلوك نهجهم والسير على سنتهم.
... وبعد فإن علم أصول الفقه من أجلّ العلوم وأفضلها لتوقف معرفة أحوال الأدلة الشرعية واستنباط الأحكام الفقهية من مداركها عليها . وقد علمت أن الطلاب العلوم الشرعية يشرعون في دراسته بكتب موسّعة ذات عبارات مطولة واستطرادات كثيرة ، وأنهم بعد إتمام دراستهم يستصعبون تطبيق القواعد على المسائل واستخراج الفروع من الأصول أو عطفها عليها وإضافتها إلى مناطاتها ، لأنهم شُغلوا بالنظر أكثر من التطبيق وبمناقشة الآراء الأصولية أكثر من مناقشة الآراء الفقهية وتخريجات المجتهدين ، فعزمت مستعيناً بالله على تأليف كتاب صغير الحجم ، سهل الفهم ، قريب المأخذ ، خال من الاستطراد المربك والتطويل الممل ، شواهده وأمثلته من الكتاب والسنة وأقوال الفقهاء المخر?جة على قواعد الشريعة ومداركها الفقهية .(1/1)
... وقد وجدت أقرب الكتب الأصولية القديمة إلى الكتاب الذي عزمت على تأليفه (( مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول )) للعلامة المحقق الشريف التلمساني المالكي المتوفى سنة إحدى وسبعين وسبعمئة للهجرة ، فاعتمدته أصلاً لكتابي ، واستعنت في البحوث الأصولية بكتاب (( تنقيح الفصول)) لشهاب الدين القرافي و (( المستصفى)) لأبي حامد الغزالي و (( إرشاد الفحول )) للقاضي محمد بن علي الشوكاني و (( جمع الجوامع )) للسبكي بشرح الجلال المحلي وحاشية عبد الرحمن البناني ، وفي المسائل الفقهية بكتاب (( بداية المجتهد )) للقاضي أبي الوليد محمد بن رشد الحفيد و(( أقرب المسالك )) لأحمد بن محمد الدردير ، وفي تخريج الأحاديث وفقه السنة بـ (( الموطأ )) وشرحه الكبير للقاضي سليمان بن خلف الباجي و (( منتقى الأخبار )) لمجد الدين بن تيمية وشرحه المسمى بـ (( نيل الأوطار )) للقاضي الشركاني و (( شرح الجامع الصغير )) لعبد الرؤوف المناوي ، وفي تفسير آيات الأحكام بتفسير أبي عبد الله القرطبي و (( أحكام القرآن )) لأبي بكر بن العربي .
... فأرجو أن يجد فيه طلاب العلم ما يسهّل عليهم دراسة هذا العلم في كتبه الموسّعة لمن يرغب في ذلك ، والله ولي التوفيق .
... ... ... ... ... ... ... المؤلف
محمد عبد الغني الباجقني
*
توطئة
... أصول الفقه هي القواعد الكلية التي تُعرف بها أحوال الأدلة ووجوه دلالتها على الأحكام الشرعية ، أو هي القوانين المستنبطة من الكتاب والسنة ولغة العرب التي توزن بها الأدلة التفصيلية عند استنباط الأحكام الفرعية من مداركها الشرعية وهي الكتاب والسنة وإجماع الأمة وإجماع أهل المدينة والاستصحاب والقياس والمصلحة المرسلة والاستحسان والعرف وسدّ الذرائع.
... والأصولي هو العارف بها وبطرق استنباط المجتهدين الأحكام منها بالاستناد إلى الأدلة التفصيلية.(1/2)
... وأما الفقه فهوالعلم بالأحكام الشرعية المكتسبُ من أدلتها التفصيلية ، أو هو نفاذ بصيرة الفقيه في تعر?ف المراد من الألفاظ الدالة على الأحكام الشرعية.
... والحكم الشرعي هو مقتضى الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين الخمسة:
الواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح .
...
فالواجب هو مقتضى الخطاب المتعلق بفعل المكلف من حيث أنه مكلف بفعله اقتضاءً جازماً .
... والمندوب هو مقتضى الخطاب المتعلق بفعل المكلف من حيث أنه مكلف بفعله اقتضاءً غير جازم (1) .
... والمحرم هو مقتضى الخطاب المتعلق بفعل المكلف من حيث أنه مكلف بتركه اقتضاءً جازماً .
... والمكروه هو مقتضى الخطاب المتعلق بفعل المكلف من حيث أنه مكلف بتركه اقتضاء غير جازم .
... والمباح هو مقتضى الخطاب المتعلق بفعل المكلف من حيث أنه مخير بين فعله وتركه .
*
الاستدلال عَلى الحكم الشرعي
... يُستدل على الحكم الشرعي إما بدليل أو بمتضمن للدليل .
... الدليل يكون بالكتاب والسنة والاستصحاب والقياس ، والمتضمن للدليل يكون بالإجماع وقول الصحابي والمصلحة المرسلة والاستحسان والعرف وسدّ الذرائع .
... ثم إن الدليل ينقسم إلى أصل وهو الكتاب والسنة والاستصحاب ، وإلى لازم عن أصل أي ناشئ عنه وهو القياس .
... والدليل الأصلي إما أن يكون نقلياً وهو الكتاب والسنة ، وإما أن يكون عقلياً وهو الاستصحاب .
الدليل الأصلي النقلي
... يشترط في الدليل الأصلي النقلي أن يكون صحيح السند إلى الشارع - صلى الله عليه وسلم - متضح الدلالة على الحكم المقصود ، مستمر الحكم غير منسوخ ، راجحاً على كل ما يعارضه . فهذه شروط أربعة يجب اجتماعها فيه ليصح الاستدلال به .
سند الدليل الأصلي النقلي
... إن الدليل الأصلي النقلي - وهو ما كان من الكتاب أو السنة - إما أن يكون نقله بالتواتر أو بخبر الآحاد .
... التواتر
__________
(1) ... وهو ينقسم عند فقهاء المالكية إلى سنة ورغيبة وفضيلة .(1/3)
... التواتر هو خبر جماعة عن جماعة يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب ، وهو شرط في القرآن وليس شرطاً في السنة ، فإن القرآن لا بد من تواتره فإن لم يكن متواتراً فليس بقرآن. لذلك يعترض المالكية على الشافعية في احتجاجهم على أن خمس رضعات هي التي تحر?م وليس أقل? منها بما رواه مالك ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة قالت : (( كان فيما أُنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحر?من ثم نسخن بخمسٍ معلومات فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مما يقرأ من القرآن )) . فيقولون لهم إنه احتجاج بما سُمي قرآناً وهو ليس بقرآن لأنه غير متواتر فلا تقوم به حجة ، فيقول الشافعية إن التواتر شرط في التلاوة لا في الحكم وإننا حين احتججنا بقول عائشة لم نقصد أنه قرآن يتلى بل خبر مرفوع يبين الحد? الأدنى من الرضاع المحر?م الذي جاء مجملاً في القرآن (1) فهو مما نسخت تلاوته وبقي حكمه .
... ومنه استدلال الحنفية على أن كفارة اليمين بصيام ثلاثة أيام من شروطها أن تكون متتابعة فإن فُر?قت لم تجزىء لقراءة عبد الله بن مسعود
((
__________
(1) ... أي في قوله تعالى : (( وأمها تُكم اللاّتي أرضْعنكم وأخواتكمُ من الرضاعة )) والمالكية يعتبرون الإرضاع المحرّم الذي جاء فيه مطلقاً لا مجملاً والأصل في المطلق بقاؤه على إطلاقه فيتحقق ولو بوصول قطرة واحدة إلى الجوف أثناء الحولين وبه قال علي وابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب وعروة والزهري ومالك وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي وعليه عمل أهل المدينة .(1/4)
فصيام ثلاثة أيام متتابعات)) فنقول لهم ليس من شرطها أن تكون متتابعة إذ أن كلمة ((متتابعات)) زائدة ليست من القرآن لأنها غيرمتواترة ، واستدلالهم على أن الفيئة في الإيلاء محلها الأربعة أشهر لا بعدها بقراءة أبيّ بن كعب (( فإن فاؤوا فيهنّ فإن الله غفور رحيم)) فنقول لهم إنما الفيئة بعد تمام الأشهر الأربعة وكلمة ((فيهن)) زائدة ليست من القرآن لأنها لم تتواتر، فيجيبوننا بأن استدلالهم بهاتين الكلمتين الزائدتين لا لأنهما قرآن بل لأنهما من الأخبارالمعتمدة عندهم .
... والتواترشرط في السّنة أيضاً إذا كانت رافعة لمقتضى قرآني كاحتجاج
الجمهور في المسح على الخفين بالأخبار الكثيرة الواردة عن الصحابة فقد نُقل المسح قولاً وفعلاً عن نحو سبعين منهم (1) ، فيقول المخالفون (2) إنها أخبار آحاد فلا ترفع ما اقتضاه القرآن من وجوب غسل الرجلين في الوضوء ، فيجيب الجمهور بأن تلك الأخبار وإن لم يتواتر كل واحد منها منفرداً فإن ما تضمنه مجموعها من جواز المسح على الخفين متواتر وهذا وأمثاله هو المسمى بالتواتر المعنوي كجود حاتم الطائي مثلاً فإنه لم ُينقل ، إليناعنه واقعة معينة متواترة اقتضت وصفه بالجود وإنما نقلت إلينا وقائع متعددة كل واحدة منها بخبر الواحد تضمنت بمجموعها وصفاً مشتركا بينها وهو جود حاتم .
... خبر الآحاد
... خبر الآحاد هو خبر أفراد لم يبلغوا في العدد جماعات المتواتر ؛ ويتعلق الاعتراض على سنده من جهتين : جهة إجمالية ، وجهة تفصيلية .
__________
(1) ... أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أنه قال : (( حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يمسح على الخفين)) ، وقال الحافظ بن حجر في الفتح : ((صرّح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين منهم العشرة)) ، وقال النووي في شرح مسلم : (( روى المسح على الخفين خلائق لا يحصون من الصحابة )) .
(2) ... هم الشيعة الإمامية والخوارج .(1/5)
... الجهة الإجمالية : اختلف الأصوليون في قبول أخبار الآحاد جملة ؛ فإذا استدل المستدل على حكم من الأحكام بخبر الآحاد يعارضه المخالف إما بعدم تسليمه بصحة الخبر ، وإما بوروده فيما تعم به البلوى وتكثر إليه الحاجة ، وإما بغير ذلك من التعليلات الأصولية التي يقول بها المخالف ... كما إذا احتج فقهاؤنا على اشتراط الولي في النكاح بقوله - صلى الله عليه وسلم - (( لا نكاحَ إلا بولي )) (1) وعلى انتقاض الوضوء بمس الذكر بقوله - صلى الله عليه وسلم - (( إذا مس? أحدكم ذكره فليتوضأ )) (2) وعلى تحريم الأنبذة المسكرة بقوله - صلى الله عليه وسلم - (( كل? مُسكر حرام )) (3) ، فيقول المخالفون في هذه المسائل الثلاث : لا نسلم بصحة هذه الأحاديث فقد قال ابن معين : ثلاثة لا يصح فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء (4) : ((
__________
(1) ... حديث (( لا نكاح إلا بولي )) رواه أحمد وأصحاب السنن عن أبي موسى الأشعري وأخرجه الحاكم وصححه وقال قد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي صلي الله عليه وسلم عائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش ثم سرد تمام ثلاثين صحابياً – انظر شرح هذا الحديث في نيل الاوطار للشوكاني .
(2) ... حديث (( إذا مسّ أحدكم ذكره فليتوضأ )) رواه مالك والشافعي وأحمد وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن بُسْرة بنت صفوان ، ورواه ابن ماجه أيضاً عن أم حبيبة ، ورواه كذلك أحمد وابن حبان والبيهقي والطبراني عن أبي هريرة .
(3) ... حديث (( كل مسكر حرام )) أخرجه أحمد والشيخان وغيرهم عن أبي موسى ورواه مالك والشيخان أيضاً عن عائشة بلفظ (( كل شراب أسكر فهو حرام )) .
(4) ... هذا القول المنسوب إلى ابن معين لم يثبت عنه فقد قال الحافظ ابن حجر: (( لا يعرف هذا عن ابن معين )) . وقال ابن الجوزي : (( إن هذا لا يثبت عن ابن معين وقد كان مذهبه انتقاض الوضوء من مس الذكر )) ..(1/6)
لا نكاحَ إلا بولي وإذا مس? أحدُكم ذكره فليتوضأ وكل مسكر حرام )) فنيجيبهم بأن هذا القول على فرض صحة نسبته إلى ابن معين لا يُردّ به الحديث إذا جاء على شروطه لأن سبب الرد لم يبينه ابن معين ولعل له فيه مذهباً خاصاً لا يوافقه عليه غيره من أئمة الحديث والفقه ، وقد رووا هذه الأحاديث الثلاثة بأسانيد صحيحة لا تترك مجالاً للتردد في التسليم بصحتها وقوة الاستدلال بها .
... وكما إذا احتج الشافعية على أن المتبايعين لهما الخيار في إمضاء البيع وفسخه ما داما في المجلس بقوله - صلى الله عليه وسلم - (( البيّعان بالخيار ما لم يفترقا )) (1) ،
فيقول لهم الحنفية هذا خبر واحد فيما تعم به البلوى وتكثر إليه الحاجة فينبغي أن يكثر ناقلوه ويتواتر وما لم يتواتر فهو غير مقبول ، فيقول لهم الشافعية والمالكية أيضاً إن خبر الواحد مقبول عندنا مطلقاً إذا جاء على شروطه وإنما لم نقل نحن المالكية بخيار المجلس لأن الافتراق عندنا يتحقق بالقول أي بالإيجاب والقبول أو بالفعل الدال عليهما كما جرى عليه العمل في المدينة والعمل عندنا مرجح على الخبر .
... الجهة التفصيلية : يشترط لصحة السند أن يكون مقبول الرواة ، ومتصلاً مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) .
... ويشترط لقبول الراوي أن يكون عدلاً وضابطاً .
__________
(1) ... حديث (( البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو حتى يفترقا )) رواه أحمد والشيخان عن حكيم ابن حزام ، ورواه مالك عن ابن عمر بلفظ (( المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار )) .
(2) ... الموقوف على الصحابي أيضاً حجة عندنا سواء كان قولاً أو فعلاً ، وكان إمامنا يأخذ بفتاوى الصحابة وأقضيتهم وقد أثبت كثيراً منها في موطّئه مع الأحاديث المرفوعة لأنه يرى أنهم إما أن يكونوا قد سمعوها أو شاهدوها من النبي صلى الله عليه وسلم أو فهموها من كتاب الله عز وجل .(1/7)
فالعدل هو المسلم البالغ العاقل السالم من أسباب الفسق وخوارم المروءة ، وتثبت عدالته باشتهاره بحسن الحال وبالثناء الجميل عليه أو بتعديل الأئمة له ولو بروايتهم عنه .
... وتقدح في عدالة الراوي أمور بعضها يتعلق به وبعضها يتعلق بالحديث نفسه .
... فمما يتعلق بالراوي الاعتراض على عدالته بأنه متروك الحديث أو وضّاع أو مطعون في دينه أو مجهول العدالة أو بغير ذلك من القوادح ...
... مثال الأول اعتراض الشافعية على استدلالنا برواية خالد بن الياس بإسناده عن أبي هريرة : (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينهض في الصلاة على صدور قدميه )) فقلنا بعدم مشروعية جلسة الاستراحة عند النهوض إلى الركعة الثانية والرابعة وخالد متروك الحديث ؛ فنجيبهم بأن الحديث الذي استدللنا به على عدم مشروعية هذه الهيئة لم نروه من طريق خالد بإسناده عن أبي هريرة بل رويناه بأسانيد أخرى عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وغيرهم كما استدللنا أيضاً على عدم مشروعيتها بما رواه ابن المنذر عن النعمان بن عياش قال : (( أدركت غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان إذا رفع رأسه من السجدة في أول ركعة وفي الثالثة قام كما هو ولم يجلس )) .
... ومثال الثاني اعتراضنا على استدلال الحنفية الذين يعدّون داخل الفم والأنف من ظاهر البدن المفروض غسله على وجوب المضمضة والاستنشاق في الغُسل من الجنابة بما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( المضمضة والاستنشاق فريضتان في الغسل من الجنابة )) لأن هذا الحديث لم يُروَ إلا من طريق بركة بن محمد وهو وضّاع كما قال الدارقطني ، فيجيبوننا بأنهم لم يستدلوا بهذا الخبر بل بما رواه الشيخان وأصحاب السنن(1/8)
عن ميمونة (1) في وصف غسله - صلى الله عليه وسلم - وفيه المضمضة والاستنشاق واعتبروه مبيناً لمجمل قوله تعالى : (( وإن كنتم جنياً فاطّهروا )) فنقول لهم حينئذ أن ذكر المضمضة والاستنشاق في هذا الحديث لا يدل على وجوبهما بل على ندبهما ( سنيتهما ) كما هما في الوضوء المنفرد عن الغسل .
__________
(1) ... قالت ميمونة : (( وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماء يغتسل به فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثاً ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره ثم دلك يده بالأرض ثم مضمض واستنشق ثم غسل وجهه ويديه ثم غسل رأسه ثلاثاً ثم أفرغ على جسده ثم تنحى من مقامه فغسل قدميه قالت فأتيته بخرقة فلم يُرِدْها وجعل ينفض الماء بيده )) .(1/9)
... ومثال الثالث اعتراض الشافعية على استدلالنا بقوله - صلى الله عليه وسلم - (( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة )) فقلنا بسقوط القراءة عن المأموم (1) بأن هذا الحديث لم يروه مرفوعاً إلا جابر الجعفي وهو يقول بالر?جعة (2) فلا يُحتج بما ينفرد بروايته ، فنجيبهم بأننا نروي هذا الحديث من غير طريق جابر الجعفي ، نرويه عن سفيان الثوري وسفيان بن عيينة وشعبة وشَريك وغيرهم من الثقات عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد مرسلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ونحن نأخذ بالحديث المرسل إذا كان مرسله ثقة وليس في سنده علة تضعفه . ونروي أيضاً عن مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل هل يقرأ أحد خلف الإمام قال : إذا صلى أحدكم خلف الإمام فحسبه قراءة الإمام وإذا صلى وحده فليقرأ .
__________
(1) ... لا يجوز عندنا أن يقرأ المأموم فيما يجهر فيه الإمام لثبوت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمره بالانصات أثناء قراءته ولعموم قوله تعالى : (( وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا )) ويندب له أن يقرأ فيما يسرّ فيه الإمام لما رواه مالك في الموطأ أن عروة بن الزبير والقاسم بن محمد ونافع بن جبير بن مطعم كانوا يقرؤون خلف الإمام فيما لا يجهر فيه بالقراءة وقال الأمر عندنا أن يقرأ الرجل وراء الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة .
(2) ... أي بالرجوع إلى الدنيا بعد الموت .(1/10)
... ومثال الرابع احتجاج فقهائنا على جواز استقبال القبلة أثناء قضاء الحاجة عند وجود ساتر بينه وبينها بما روى خالد بن أبي الصلت بإسناده عن عائشة قالت : (( ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن أناساً يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم فقال أوقد فعلوها حولوا مقعدتي قِبلَ القبلة )) (1) ، فيقول الحنفية : خالد بن أبي الصلت مجهول لا يعرف من هو والمجهول لا يحتج بروايته وتبقى حجتنا قائمة على تحريم استقبالها مطلقاً بما جاء في الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :(( إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شر?قوا أو غرّبوا )) ، فنقول لهم إن الحديث الذي رواه خالد بن أبي الصلت بإسناده عن عائشة رواه عنه خالد الحذاء وهو ثقة والثقة لا يروي إلا عن عدل معروف عنده على الأقل (2) وقد روى عن خالد بن أبي الصلت مبارك بن فضالة وواصل مولى أبي عيينة وغيرهما .وأما النهي عن استقبالها واستدبارها الوارد في حديث أبي أيوب فإنه محمول عليهما في الفضاء بلا ساتر ويدل عليه ما رواه أبوداود والحاكم عن مروان الأصفرقال (( رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة يبول إليها فقلت : أبا عبد الرحمن أليس قد نُهي عن ذلك ؟ فقال : بلى إنما نُهي عن هذا في الفضاء فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس )) .
... ومما يتعلق بالحديث نفسه إنكار الأصل وهو المروي عنه روايةَ الفرع أي رواية الراوي كما إذا احتج فقهاؤنا على افتقار النكاح إلى وليّ بقوله - صلى الله عليه وسلم -
((
__________
(1) ... رواه أحمد وابن ماجه وقال النووي في شرح مسلم إسناده حسن ورجاله ثقات معروفون ولكن الذهبي قال حديث منكر– انظر ترجمة خالد بن أبي الصلت في (( ميزان الاعتدال وتهذيب التهذيب )) .
(2) ... قال الدارقطني : تثبت عدالة المجهول برواية ثقتين عنه ، ولكن الأصح عدم ثبوت العدالة له بذلك وإن قبلت روايته .(1/11)
أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل )) (1) ، فيقول الحنفية هذا الحديث يرويه ابن جُريج عن سليمان بن موسى عن ابن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة ، وقد قال ابن جريج سألت عنه ابن شهاب حين لقيته فقال لا أعرفه والراوي إذا أنكر ما روي عنه لم يُحتج به كالشهادة (2) ، فنجيبهم بأن الأصل لم يصرح بتكذيب الفرع فإذا روى عنه العدل وجب قبول ما روى ولا يضر نسيان المروي عنه وإلا لزم تكذيب العدل وفي ذلك من التناقض ما لا يخفى .
... ومنه انفراد العدل بزيادة في الحديث لم ترد في روايات الآخرين كما إذا احتج فقهاؤنا على أن زكاة الحرث يعتبر فيها النصاب بخمسة أوسُق . بما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثَرياً العشر وفيما سُقي بالنضج نصف العشر إذا بلغ خمسة أوسُق )) (3) فيقول الحنفية إن جملة (( إذا بلغ خمسة أوسُق )) زيادة في هذا الحديث لأن الجماعة الذين رووه لم يذكروها فأوجب ذلك شكاً في صحتها ويبقى الحديث علىعمومه فتجب الزكاة في الكثيروالقليل من الحرث دون اعتبارلنصاب ، فيجيبهم فقهاؤنا بأن روايات الجماعة لا تتعارض مع هذه الزيادة حكماً لوجودها في حديث صحيح آخر يخصص عموم حديث الجماعة فقد قال عليه الصلاة والسلام :
((
__________
(1) ... حديث (( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل )) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وصححه ابن ماجه والحاكم وابن حبان .
(2) ... قال المناوي في (( فيض القدير )) أبطل الحاكم هذا الإنكار بأن أبا عاصم وعبد الرزاق ويحيى ابن أيوب وحجاج بن محمد صرحوا بسماعه عن الزهري .
(3) ... حديث (( فيما سقت السماء والعيون .. )) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن ابن عمر دون جملة (( إذا بلغ خمسة أوسق )) وجاء في بعض رواياته ( بعلاً ) بدل (عثرياً) والعثري هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي ( أي بعلي كما يقول العامة ) .(1/12)
ليس فيما دون خمس ذَوْد صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة وليس فيما دون خمسة أوسُق صدقة )) (1) وبذلك ينتفي كل شك في صحتها وفي وجوب الأخذ بها .
... الضابط : هو المتقن للرواية وذلك بأن يثبت في نفسه ما يرويه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء أو يثبته في صحف يصونها ليؤديه منها. ويعرف ضبطه بمقابلة حديثه بحديث الثقات المتقنين .
... والاعتراض يرد عليه من وجهين :
__________
(1) ... حديث (( ليس فيما دون خمس ذود صدقة . . . )) رواه مالك وأحمد والشيخان وأصحاب السنن عن أبي سعيد الخدري )) .(1/13)
... الوجه الأول أن يكون الراوي كثير السهو والغفلة كما إذا احتج فقهاؤنا المغاربة لما رواه ابن القاسم عن الإمام من أن رفع اليدين في الصلاة ليس معروفاً إلا عند افتتاحها (1) بما روي عن علي بن أبي طالب (( أنه كان يرفع إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود )) ، فيقول فقهاؤنا المشارقة الذين أخذوا برواية ابن وهب وأشهب عن الإمام أنهما يرفعان أيضاً عند الركوع وعند الرفع منه : هذا الحديث يرويه يزيد بن أبي زياد الذي قال فيه رجال الحديث لقد ساء حفظه واختلط ذهنه في آخر عمره ، والحديث مع ذلك موقوف غير مرفوع . وقد روى أحمد وأصحاب السنن عن علي (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبّر ورفع يديه حَذْو منكبيه ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وأراد أن يركع ويصنعه إذا رفع رأسه من الركوع )) .
__________
(1) ... جاء في المدونة عن ابن القاسم قال وقال مالك : لا أعرف رفع اليدين في شيء من تكبير الصلاة لا في خفض ولا في رفع إلا في افتتاح الصلاة يرفع يديه شيئاً خفيفاً .(1/14)
وروى أحمد والشيخان عن عبد الله بن عمر قال : (( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا بحذْو منكبيه ثم يكبر فإذا أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضاً وقال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد )) فيجيبهم فقهاؤنا المغاربة بأنهم لم يرووا حديث علي عن يزيد بن أبي زياد بل عن وكيع عن أبي بكر بن عبد الله المنهشلي عن عاصم بن كليب عن أبيه (( أن علياً كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود )) (1) . ويروون أيضاً عن وكيع عن محمد بن أبي ليلى عن عيسى أخيه والحكم عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يرفعهما حتى ينصرف )) (2) . ويروون كذلك عن وكيع عن سفيان الثوري عن عاصم عن عبد الرحمن بن الاسود عن الاسود وعلقمة قالا قال عبد الله بن مسعود : (( ألا أصلي بكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فصلى ولم يرفع يديه إلا مرة )) (3) .
__________
(1) ... هذه الأحاديث الثلاثة من رواية سحنون في المدونة ، وحديث ابن مسعود رواه أيضاً أحمد وأبو داود والترمذي ورواه كذلك ابن عدي والدارقطني والبيهقي بلفظ (( صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلم يرفعوا أيديهم إلا عند الاستفتاح )) وقد حسنه الترمذي وصححه ابن حزم وضعفه آخرون – انظر (( نيل الأوطار )) .
(2) ... راجع الهامش السابق
(3) ... راجع الهامش السابق(1/15)
... الوجه الثاني أن يكون الراوي ممن يزيد برأيه في الحديث فلا يُعلم ما فيه من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما فيه من زيادته إلا إذا رُوي الحديث من طريق آخر ، ومثاله احتجاج الحنفية على أن راتبة الظهر القبلية أربع ركعات لا يُفصل بينها بسلام بما رُوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لهن أبواب السماء )) (1) ، فيقول فقهاؤنا هذا الحديث يرويه عُبيدة بن معتّب الضبّي وقد ضعفه أئمة الحديث حتى لقد قال له يوسف بن خالد السّمتي : هذا الذي ترويه أكله سمعته أم بعضه ؟ فقال بعضه سمعته وبعضه أقيس عليه ! فقال له يوسف : اروِ لنا ما سمعت ودع ما قست فإننا أعلم بالقياس منك . ومن كان هذا شأنه فلا يستدل بروايته لاحتمال أن يكون فيما يرويه شيء من رأيه .
... شروط اتصال السند: ويشترط في اتصال السند بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يكون فيه انقطاع أي بأن لايكون بين الرواة راوٍ محذوف ، وأن لا يكون موقوفاً على الصحابي ، وأن لا يكون مرسلاً بسقوط اسم الصحابي منه إلا أن هذا الشرط الأخير ليس متفقاً عليه فإن مالكاً وأبا حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه وجمهور فقهاء مذاهبهم يأخذون بالحديث المرسل إذا كان مرسله من ثقات التابعين .
... إذاً فالقوادح في اتصال السند بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إما الانقطاع وإما الوقف وإما الإرسال عند البعض .
__________
(1) ... حديث (( أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لهن أبواب السماء )) أخرجه أبو داود في السنن والترمذي في الشمائل وابن خزيمة في الصلاة عن أبي أيوب الأنصاري وقد رمز السيوطي في جامعه الصغير لصحته ولكن يحيى القطان ضعفه – انظر (( فيض القدير )) للمناوي .(1/16)
... مثال الانقطاع احتجاج فقهائنا على أن الخائف من تلف أو حدوث مرض له أن يتيمم بحديث عمرو بن العاص قال : (( احتملت في ليلة باردة شديدة البرد في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكروا ذلك له فقال:(( ياعمرو صليت بأصحابك وأنت جنب )) فقلت : (( ذكرت قول الله عليه تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً . فتيممت ثم صليت . فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئاً (1) )) . فيقول الشافعية هذا الحديث منقطع فإن رواية عبد الرحمن بن جُبير وهو لم يسمع من عمرو بن العاص فلا يحتج بحديثه ، فنقول لهم إنه متصل بواسطة أبي قيس مولى عمرو عن عمرو .
... ومثال الوقف احتجاج فقهائنا على أن الاعتكاف لا يصح دون صوم (2) بما روي عن عائشة قالت : (( السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً ولا يشهدَ جنازة ولا يَمس? امرأة ولا يباشرَها ولا يخرجَ لحاجة إلا لما لا بد? منه ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع )) . فيقول الشافعية هذا الحديث أخرجه أبو داود وقال فيه : غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه قالت (( السّنة ... )) وأخرجه أيضاً النسائي غير مستهل بكلمة (( السنة )) فهو إذاً موقوف على عائشة ، فتجيبهم بأن الحديث وإن روي من بعض طرقه موقوفاً فقد رواه الزهري عن عروة عن عائشة مرفوعاً وإذا ثبت رفعه من طريق فلا يضر وقفه من طريق آخر .
__________
(1) ... حديث عمرو بن العاص هذا رواه أحمد وأبو داود والدارقطني وابن حبان وأخرجه البخاري تعليقاً وقال الحافظ ابن حجر : إسناده قوي .
(2) ... من السلف القائلين بعدم صحة الاعتكاف دون صوم ابن عباس وابن عمر ومولاه نافع والقاسم بن محمد ومالك وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي .(1/17)
... ومثال الإرسال احتجاج فقهائنا على افتقار النكاح إلى الولي بقوله - صلى الله عليه وسلم - (( لا نكاح إلا بولي )) ، فيقول الحنفية هذا الحديث رواه شعبة والثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بردة لم يسمع منه ، فنجيبهم بأن المراسيل مقبولة عندنا كما قدمنا بل وعندكم أيضاً ومع ذلك فقد رواه إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) وقد كانوا يحدثون بالحديث فيرسلونه فإذا قيل لهم عمن رويتموه أسندوه .
... هذا وقد علمتَ من قول عائشة (( السنة على المعتكف ... )) أن قول الصحابي : السّنة كذا أو من السنة كذا أو مضت السنة بكذا يدخله في الحديث المرفوع كقوله : قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكذا أو أمر بكذا أو نهى عن كذا .
*
اتضَاح دَلالة الدّليل الأصلي النّقلي
... يشترط في الدليل الأصلي النقلي بعد ثبوت صحته اتضاحُ دلالته على الحكم المستدل به عليه . واتضاح الدلالة يختلف باختلاف المتن من حيث أنه قول أو فعل أو تقرير .
... القسم الأول من أقسام المتن وهو القول
... القول يدل على الحكم إما بمنطوقه أي بالمعنى الذي يدل عليه اللفظ في محل النطق وهو المعنى الذي استعمل اللفظ فيه حقيقة أو مجازاً ، وإما بمفهومه أي بما يفهم منه في غير محل النطق بل فيما وراءه من فحوى القول ولحنه والمقصود منه .
... دلالة القول بمنطوقه على الحكم
... القول الدال بمنطوقه على الحكم قد يكون أمراً وقد يكون نهياً وقد يكون تخييراً .
... فالأمر هو القول الدال على طلب الفعل ، وصيغته ( افعلْ ) (2) ،
وهي ترد لمعانٍ كثيرة منها :
__________
(1) ... رواه أيضاً مرفوعاً أحمد وأصحاب السنن عن أبي موسى الأشعري – انظر شرح الحديث في نيل الأوطار .
(2) ... المراد بها كل ما يدل على الأمر من سائر صيغه وإنما اختير التعبير بأفعلْ لخفته وكثرة دورانه في الكلام .(1/18)
الأمر المطلق كقوله تعالى : (( أقيموا الصلوة وآتوا الزكوة )) .
والإذن كما في قوله تعالى : (( فإذا قُضيت الصلوة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله )) .
والإشهاد كقوله تعالى : (( وأشهدوا إذا تبايعتم )) .
والتأديب كقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن أبي سلمة : (( كلْ مما يليك )) (1) .
والاعتبار كقوله تعالى : (( انظروا إلى ثمره إذا أثمر ويَنْعِه )) .
والوعيد كقوله تعالى : (( فأذنوا بحرب من الله ورسوله )) .
والإهانة كقوله تعالى : (( ذُقْ إنك أنت العزيز الكريم )) .
والتكذيب كقوله تعالى : (( فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين )) .
والتسوية كقوله تعالى : (( فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم )) .
وعدم الاكتراث كقول السحرة لفرعون : (( فاقضِ ما أنت قاض )) .
والإكرام كقوله تعالى : (( ادخلوا الجنةَ أنتم وأزواجُكم تُحْبَرون )) .
والتكوين كقوله تعالى : (( كونوا قردةً خاسئين )) .
وكمال القدرة كقوله تعالى : (( كنْ فيكون )) .
والمشورة كقول ملكة سبأ للملأ من قومها : (( يأيها الملؤُ أَفتوني في أمري )) .
والدعاء كقولنا : اللهم اغفر لنا وارحمنا .
... وهو أي القول الدال على طلب الفعل حقيقةٌ في الأمر المطلق ومجاز في المعاني الأخرى
__________
(1) ... روى أحمد والشيخان عن عمر بن أبي سلمة قال : (( كنت غلاماً في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصفحة فقال لي : يا غلام سمّ ِ الله وكل بيمينك وكل مما يليك )) .(1/19)
... واختلف الأصوليون في الأمر المطلق هل يقتضي الوجوب ابتداء أو يقتضي الندب أو هو متردد بينهما ولا يحمل على أحدهما إلا بقرينة تصْرفه إليه ؟ فذهب كثير منهم (1) إلى ما ذهب إليه مالك وأصحابه من أن الأمر المطلق يقتضي الوجوب ابتداء ولا يحمل على غيره إلا بقرينة صارفة لأن الشارع حين أمر المكلف أراد منه الإطاعة وإطاعة الشارع واجبة ، وذهب غيرهم إلى أنه يقتضي الندب في الأصل (2) ولا يحمل على غيره إلا بقرينة لأن الشارع لا يأمر إلا بخير والخير مندوب إليه على وجه العموم ، فإذا جاءت قرينة تحمله على الوجوب كان مقتضياً له بها وإلا بقي على أصله ، وذهب آخرون (3) إلى أنه لا يقتضي ابتداء وجوباً ولا ندباً لتردده بين الوجود والندب والإباحة وإنما بعرف اقتضاؤه بما يلابسه من القرائن والاعتبارات المرجحة للمقتضى الذي أراده الشارع من واجب أو مندوب أو مباح .
... وقد ترتب على اختلاف الأصوليين في هذه المسألة الأصولية اختلاف الفقهاء في كثير من الفروع الفقهية كاختلافهم في الإشهاد على المراجعة هل هو واجب أو مندوب ؟ فقال الشافعية بوجوبه محتجين بقوله تعالى : (( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم )) أي على الإمساك وهو المراجعة ، وقال المالكية والحنفية : لما كانت المراجعة لا تتوقف على القبول فلا تتوقف على الإشهاد والأمر بالإشهاد هنا محمول على الندب للتوثق كما في سائر الحقوق المقبوضة .
__________
(1) ... كالإمام فخر الدين الرازي والقاضي أبي الطيب وأبي حامد الأسفراييني وأبي إسحاق الشيرازي وأبي المظفر السمعاني .
(2) ... مذهب ضعيف ذهب إليه أبو هاشم الجبائي وبعض أصحابه من المعتزلة .
(3) ... كأبي حامد الغزالي وسيف الدين الآمدي والقاضي أبي بكر الباقلاني وصرح الإمام الشافعي في كتاب (( أحكام القرآن )) بتردده بين الوجوب والندب .(1/20)
... وكاختلافهم في غسل الإناء من شرب الكلب هل هو واجب أو مندوب لقوله - صلى الله عليه وسلم - (( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسلْه سبع مرات )) (1) فذهب الشافعية والحنفية والحنابلة إلى الوجوب لأنهم رأوا الأمر يقتضيه لنجاسة سؤر الكلب عندهم تبعاً النجاسة لعابه ، وذهب المالكية إلى الندب وإلى أنه تعبدي غير معلل لأن سؤره طاهر عندهم تبعاً لطهارة لعابه وطهارة عينه أيضاً ويستدلون على طهارة لعابه بقوله تعالى : (( فكلوا مما أمسكْنَ عليكم )) ويقولون لو كان لعابه نجساً لتنجس الصيد بمماسته ، وعددُ مرات غسل الإناء يؤيد ما ذهبوا إليه من عدم نجاسة سؤره لأن النجاسات لا يشترط في غسلها العدد .
... هذا ويتعلق بالأمر تسع مسائل رئيسية ينبني عليها كثير من الأحكام الفقهية :
... المسألة الأولى : هل الأمر بالشيء يقتضي المبادرة إليه أم لا يقتضيها ؟
__________
(1) ... حديث (( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات )) رواه مالك وأحمد والشيخان عن أبي هريرة وجاء في بعض رواياته ولغ بدل شرب ومعنى الولوغ الشرب بطرف اللسان شأن الكلاب عادة .(1/21)
... اختلف في ذلك الأصوليون واختلف أيضاً الفقهاء في بعض فروع الفقه المبينة على هذا الأصل كاختلاف الإمامين أبي حنيفة والشافعي في فريضة الحج هل هي على الفور فمن أخرها وهو متمكن من أدائها كان عاصياً وهو مذهب أبي حنيفة ، أو هي على التراخي فمن أخرها وهو متمكن من أدائها لا يكون عاصياً بالتأخير (1) وهو مذهب الشافعي ، وأما عندنا ففيها قولان : قول بأنها على الفور وهو لإمامنا (2) وفقهائنا العراقيين ، وقول بأنها على التراخي وهو لفقهائنا المغاربة ولكن إلى ظن الفوات أو بلوغ الستين من العمر (3) .
... والمحققون من الأصوليين يرون أن الأمر المطلق لا يقتضي فوراً ولا تراخياً إلا بقيد ، لأنه تارة يتقيد بالفورية كما إذا قال السيد لخادمه : سافر الآن فإنه يقتضي الفور ، وتارة يتقيد بالتراخي كما لو قال له : سافر بعد شهر فإنه يقتضي التراخي ، فإذا أمره بأمر مطلق من غير تقييد بفور ولا بتراخ فإنه يكون محتملاً لهما وما كان محتملاً لشيئين فلا يكون مقتضياً لواحد منهما بعينه .
... المسألة الثانية : هل الأمر بالشيء يقتضي تكراره أم لا يقتضيه ؟
... ذهب مالك إلى أن الأمر يقتضي التكرار كما فهم من استقراء كلامه ...
__________
(1) ... ولكن بشرطين : الأول أن لا يخاف فواتها ، والثاني أن يعزم على أدائها فيما بعد وإلا كان آثماً بالتأخير الذي قد يفضي إلى الفوات .
(2) ... قال القرافي في التنقيح : الأمر عند مالك للفور أُخذ ذلك من أمره بتعجيل الحج ومنعه تفرقة الوضوء ومن عدة مسائل في مذهبه .
(3) ... لأن سنّ الستين تنذر بقرب الأجل أو بالعجز غالباً ولأن الله أعذر إلى عبده عند بلوغها فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة )) .(1/22)
لأنه لو لم يكن للتكرار لا متنع ورود النسخ عليه بعد فعله ولأنه ضد النهي وهو للتكرار فوجب أن يكون مثله للتكرار ، وخالفه جمهور فقهاء المذهب فقالوا إنه للمرة الواحدة إلا إذا عُلق على شرط أو وصف فيكون حينئذ للتكرار لأن الشرط سبب والحكم يتكرر بتكرر سببه ولأن الوصف علة أو
كالعلة والحكم يتكرر بتكرار علته . ورأى المحققون من الأصوليين أنه لا يقتضي التكرار ولا المرة بل هو صالح لكل منهما ولا يتعين لأحدهما إلا بمعيّن يصرفه إليه : فقد أمرنا الشارع بصوم رمضان من كل سنة وأمرنا بالحج مرة في العمر ولصلاح الأمر المطلق لكل واحد من القيدين حسن من السامع الاستفهام لما فيه من الإبهام فقد جاء في الصحيح عن أبي هريرة قال : (( خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج? فحجوا . فقال رجل : أكل? عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال : ذروني ما تركتكم )) (1) ولولا أن الأمر المطلق يحتمل التكرار والمرة الواحدة لما سأل الرجل هذا السؤال .
... المسألة الثالثة : هل الأمر المؤقت بوقت موسّع يتعلق بأول الوقت خاصة أو بآخره خاصة أو لا يختص تعلقه بجزء معين منه ؟
__________
(1) ... حديث أبي هريرة هذا رواه أحمد ومسلم والنسائي والرجل هو الأقرع بن حابس كما جاء عن ابن عباس في روايته لهذا الحديث .(1/23)
... اختلف في ذلك الأصوليون واختلف معهم الفقهاء : فبعض الشافعية يرون الأمر المؤقت بوقت موسع متعلقاً بأوله فإن تأخر الفعل عن أول الوقت ووقع في آخره فهو قضاء سد? مسد? الفرض ، والمحققون من الأصوليين يرونه غير متعلق بجزء معين منه لأنه لو تعلق بأوله لكان المؤخر عاصياً بالتأخير ولكان قاضياً لا مؤدياً وحينئذ يجب عليه أن ينوي القضاء وهو خلاف الإجماع ، ولو تعلق بآخره لكان المقدم متطوعاً لا ممتثلاً ولوجب عليه أن ينوي التطوع ولما أجزأه فعله عن الواجب كما لو فعل قبل الوقت ، وهذا أيضاً خلاف الإجماع ، فثبت أن الأمر المؤقت بوقت موسّع لا يختص تعلقه بجزء معين منه بل يتعلق بمجموع أجزاء الزمن الكائنة بين الحدّين وعليه مذهبنا.
... ومما ينبني على هذا الأصل اختلافهم في الصبي إن صلى في أول الوقت ثم بلغ قبل انقضائه فإن القائلين بأن الأمر المؤقت بوقت موسّع يتعلق بأوله يرون صلاته تجزئه ولا إعادة عليه لأنه بلغ بعد انقضاء زمن الوجوب وقد صلاها فيه ، والقائلين بأنه يتعلق بآخره يرون صلاته لا تجزئه لأنه صلاها قبل زمن الوجوب ولما أدركه زمن الوجوب وهو بالغ وجب عليه أن يعيدها فيه ، وأما فقهاؤنا فلبناء تخريجاتهم على أن الأمر المؤقت بوقت موسع لا يختص تعلقه بجزء معين منه يوجبون عليه إعادة صلاته لا لأن وجوبها يتعلق بآخر الوقت بل لأن صلاته تلك كانت منه نافلة غير مفروضة عليه والنافلة لا تسد? مسد? الفريضة .(1/24)
... ومثله اختلافهم في الوقت الأفضل لأداء صلاة الصبح هل التغليس أم الإسفار ؟ فالشافعية يرون التغليس أفضل لأنه وقت الوجوب ، والحنفية يرون الإسفار أفضل لأنه هو وقت الوجوب عندهم ، والمالكية كالشافعية يرون التغليس أفضل ولكن لا لأنه وقت الوجوب بل لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن صلى الصبح مرة فأسفر بها لازم التغليس إلى أن توفي (1) .
... المسألة الرابعة : هل الأمر الذي يسقط بفعل بعض المكلفين عن البعض الآخر يتعلق ابتداء بالجميع ثم يسقط بفعل من فعله عمن لم يفعله أو إنما يتعلق ابتداء ببعض المكلفين ؟
... جمهور العلماء يرون أنه يتعلق ابتداء بالجميع لأن العقاب يعم الجميع إذا تركوه ولا يعم العقاب إلا لعموم الواجب .
... ومما ينبني على هذه المسألة أن الحاضر الصحيح إذا عدم الماء فإنه يتيمم للفرائض المتعينة عليه كالصلوات الخمس ولا يتيمم للنوافل استقلالاً وفي تيممه لصلاة الجنازة خلاف بناء على هذا الأصل : فمن يرى صحة التيمم لها يرى وجوبها يتعلق ابتداء بجميع المكلفين وهذا الرأي عندنا قوي مدركاً وإن لم يشتهر مذهباً ، ومن يرى عدم صحة التيمم لها يرى وجوبها غير متعلق ابتداء بجميع المكلفين فكانت في حقه كالنافلة ما دامت غير متعينة عليه وهذا الرأي عندنا هو المشهور في المذهب وإن كان ضعيفاً في المدرك .
__________
(1) ... أخرج أبو داود عن أبي مسعود الأنصاري : (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح مرة بغلس ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات لم يعد إلى أن يُسْفر )) وأصله في الصحيحين والنسائي وابن ماجه ، وروى مالك وأحمد والشيخان وأصحاب السنن عن عائشة قالت : (( إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن مايُعرَفن من الغلس )) .(1/25)
... المسألة الخامسة : هل الأمر بواحد من أشياء يقتضي واحداً منها لا بعينه أو يقتضيها جميعها وإن كان فعل أحدها مجزِئاً ؟ كالأمر في كفارة اليمين بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، وكالأمر في كفارة صيام بعتق رقبة أو صوم شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً .
... فذهب الجمهور إلى الأول وهو اقتضاء واحد لا بعينه لأن من ترك الجميع إنما يعاقب عقوبة من ترك واجباً واحداً لا عقوبة من ترك واجبات كثيرة (1) .
... ويظهر أثر الخلاف في العبد والمسافر إذا كانا إمامين في صلاة الجمعة هل تصح صلاة المؤتمين بهما أو لا تصح ؟ فابن القاسم لا يراها تصح بناء على أن الواجب في حق العبد والمسافر غير معين لأنهما مخيران بين الجمعة والظهر فالواجب عليهما إحداهما لا بعينها وهما مفترضان في مطلق الصلاة التي هي إحداهما ومتنفلان في خصوص الجمعة ، فإذا اقتدى بهما الحر? الحاضر في الجمعة المعينة عليه كان اقتداؤه كاقتداء مفترض بمتنفل وهو لا يصح (2) ، وأشهب يراها تصح بحجة أن الجمعة كالظهر واجبة على العبد وعلى المسافر بناء على أن الأمر بواحد من مأمورات يقتضي عنده وجوب الجميع وإن أجزأ واحد منها .
... المسألة السادسة : الأمر بالشيء هل يقتضي فعله الإجزاء أم لا ؟ أي أن المكلف إذا فعل ما أُمر به هل يلزم منه انقطاع التكليف عنه فيما فعله أو لا يلزم بل يجوز بقاؤه فيه ؟
... للأصوليين في هذه المسألة قولان أرجحهما الأول وهو اقتضاء الفعل الإجزاءَ وانقطاعَ التكليف فيه ، وقد بنى الفقهاء عليهما فروعاً كثيرة منها :
__________
(1) ... هذا في الواجبات المخيرة وأما في الواجبات المرتبة كما في كفارة الظهار فإنه لا يجوز فيها العدول عن الأول إلا عند تعذره .
(2) ... رأي ابن القاسم في عدم صحة إمامة العبد والمسافر في صلاة الجمعة منقول مثله عن الإمام في المدونة وعليه المذهب .(1/26)
... من لم يجد ماء ولا صعيداً ودخل عليه وقت الصلاة فإننا نأمره بالصلاة قبل خروج وقتها على قول ابن القاسم وأشهب (1) ، ثم إذا صلى هل يقضي تلك الصلاة عند وجود الماء أو الصعيد أو لا يقضيها ؟ أما ابن القاسم فيأمره بقضائها لأنه لا يرى انقطاع التكليف عنه في صلاة أداها بغير طهارة وإن أُمر بها على تلك الحالة حرمة لوقتها ، وأما أشهب فلا يأمره بقضائها لأنه يرى انقطاع التكليف عنه بأدائها كما أُمر والأمر يقتضي الإجزاء ويلزم من الإجزاء سقوط القضاء .
... كذلك من لم يجد ثوباً يستر به عورته فصلى عارياً ثم وجد ثوباً بعد خروج الوقت هل يعيد صلاته أو لا يعيدها بناء على هذا الأصل ؟ الراجح عندنا في المذهب عدم الإعادة .
... ومثله من التبست عليه القبلة في موضع لم يجد فيه عدلاً عارفاً ولا محراباً قائماً فصلى إلى جهة ظن أنها القبلة ثم تبين له بعد خروج الوقت أنها ليست القبلة ففي وجوب الإعادة عليه قولان أرجحهما عدم الوجوب .
... المسألة السابعة : هل يقتضي الأمر الموقوت بوقت قضاء المأمور به بعد فوات وقته أو لا يقتضيه ؟ أي أن العبادة المحدد وقتها إذا لم يفعلها المكلف حتى خرج وقتها هل يجب عليه قضاؤها بالأمر الأول أو لا يجب عليه قضاؤها إلا بأمر جديد كالأمر بوجوب قضاء صلاة خرج وقتها على نائم أو غافل وقضاء صوم رمضان على مريض أو مسافر لم يصمه ؟
__________
(1) ... فاقد الطهورين لا تجب عليه الصلاة ولا تصح منه في مشهور المذهب أخذاً بقول الإمام ولا يقضيها بعد ذلك كالمجنون والمغمى عليه والحائض والنفساء لفقدان شرط من شروط الوجوب وهو التمكن من طهارة الحدث وشرط من شروط الصحة وهو الطهارة من الحدث .(1/27)
... في هذه المسألة قولان للأصوليين : فإن بعضهم يرون أن القضاء واجب بالأمر الأول لأن ترك المأمور به يجعله ديناً عالقاً بالذمة يجب أداؤه ، وبعضهم يرون أن القضاء غير واجب بالأمر الأول وإنما يجب الوقت المحدد له ، ألا ترى أن السيد إذا قال لعبده إفعل كذا يوم الخميس مثلاً فإن أمره هذا لا يتناول الأيام التي بعده .
... وبناء على هذين القولين اختلف الفقهاء في تارك الصلاة متعمداً هل يجب عليه قضاؤها كما وجب على النائم والغافل ؟
... جمهور الفقهاء يوجبون عليه قضاءها بالأمر الأول لأنه بتعمد تركها بقيت ديناً عليه والدين لا يسقط عن المدين إلا بأدائه ودين الله أحق أن يقضى ، وابن حبيب من فقهائنا وداود وابن حزم الظاهريان لا يوجبون عليه قضاءها بعد خروج وقتها لأنه لم يرد أمر بذلك إلا في حق النائم والغافل وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - (( إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلّها إذا ذكرها فإن الله عز وجل يقول أقم الصلاة لذِكْري )) (1) ولم يرد مثله في المتعمد .
... المسألة الثامنة : هل الأمر بالشيء يقتضي وسيلة المأمور به أو لا يقتضيها ؟ أي ما لا يتم الواجب إلا به هل هو واجب أيضاً أم لا ؟ (2)
... جمهور الأصوليين يرون أن الأمر يقتضي جميع ما يتوقف عليه فعل المأمور به لأن الوسيلة لو لم تكن مأموراً بها أيضاً لجاز للمكلف تركها ولو جاز له تركها لجاز ترك الواجب الأصلي لتوقفه عليها .
__________
(1) ... حديث (( إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها )) رواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك ، ورواه عنه أيضاً بلفظ (( من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها )) .
(2) ... قال القرافي في التنقيح : ما لا يتم الواجب المطلق إلا به - وهو مقدور للمكلف - فهو واجب لتوقف الواجب عليه ، ثم شرحه شرحاً شيقاً فاطّلعْ عليه .(1/28)
... وعلى هذا الأصل أوجب الفقهاء طلب الماء للطهارة وقالوا لما كانت الطهارة واجبة ولا يتوصل إليها إلا بطلب الماء فطلب الماء واجب لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ولذلك اتفقوا على أن من وجبت عليه كفارة بالعتق ولم تكن عنده رقبة وعنده ثمنها وجب عليه اشتراؤها لأنه لا يتوصل إلى العتق الواجب عليه إلا باشترائها فاشتراؤها إذاً واجب عليه ، ولذلك أوجبنا اشتراء الماء للوضوء في السفر إذا لم يكن ثمنه مجحفاً .
... المسألة التاسعة : هل الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده ؟
... جمهور الأصوليين والفقهاء يرون أن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده وحجتهم أن الضد إما أن يكون مأموراً به أو مباحاً أو منهياً عنه ، ولا يصح أن يكون مأموراً به لأنه لا يعقل أن يؤمر بفعل الشيء وضده معاً ،
ولا يصح أن يكون مباحاً لأنه لو كان مباحاً لجاز ترك المأمور به ، وترك المأمور به لا يجوز فلم يبق إلا أن يكون ضد? المأمور به منهياً عنه .
... وبعض الأصوليين والفقهاء لا يقولون بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده لأنهم يرون أن قصد الشارع من الأمر إنما هو فعل المأمور به فإذا فعله المأمور حصل ما قصد إليه الشارع .
... ويظهر أثر الخلاف في عبادةٍ جمع فيها المكلف بين المأمور به وضده كأن جلس عمداً في صلاة مفروضة ثم تلافى القيام المأمور به ، فالذين يرون أن الأمر بالشيء نهي عن ضده - وهم الأكثرون - يحكمون على صلاته بالبطلان لتعمده جلوساً فيها منهياً عنه ، والذين لا يرون الأمر بالشيء نهياً عن ضده يعدونها صحيحة لأنه فعل فيها ما أُمر به .
... ومثله لو سجد على مكان نجس وأعاد السجود على مكان طاهر فإن صلاته تعد باطلة عند الجمهور وصحيحة عند الآخرين .
... هذا وكل من يقول بمفهوم المخالفة كإمامنا وأكثر علماء مذهبه والإمام الشافعي وأكثر علماء مذهبه يقولون بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، وأكثر علماء الحنفية لا يقولون به .(1/29)
... والنهي هو القول الدال على طلب الامتناع عن الفعل ، وصيغته ( لا تفعل ) وترد لمعان عدة منها :
... النهي المطلق كقوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل? الله لكم )) .
... والإرشاد كقوله تعالى : (( لا تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم تسؤكم )) .
... والأياس كقوله تعالى : (( لا تعتذروا اليوم )) .
... وبيان الحقارة كقوله تعالى : (( ولا تمدن? عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرةَ الحياة الدنيا لنفتنَهُم فيه )) .
... وبيان العاقبة كقوله تعالى : (( ولا تحسبن? الله غافلاً عما يعملُ الظالمون )) .
... والدعاء كقولنا : اللهم لا تَكِلْنا إلى أنفسنا طرفةَ عين .
... وهو أي القول الدال على طلب الامتناع عن الفعل حقيقةٌ في النهي المطلق ومجاز في المعاني الأخرى ، وأهم ما يتعلق به مسألتان :
... المسألة الأولى : هل النهي يقتضي التحريم أم الكراهة ؟
... الجمهور يرونه مقتضياً للتحريم (1) لأن الصحابة والتابعين كانوا يحتجون به على التحريم ولأن فاعل ما نُهي عنه عاص والعاصي يستحق العقاب وكل فعل يستحق صاحبه العقاب فهو حرام . وينبني على هذا الأصل فروع كثيرة :
__________
(1) ... والبعض ومنهم الغزالي يرونه متردداً بين التحريم والكراهة .(1/30)
... منها الصلاة في المواطن السبعة التي ورد النهي عن الصلاة فيها (1) وهي المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق والحمام وأعطان الإبل وفوق ظهر الكعبة : فإن الفقهاء اختلفوا في حكم الصلاة فيها بين التحريم والكراهة ، وأكثر المحققين من علمائنا يرون أن النهي يدل ابتداء على التحريم ومع ذلك يعدون الصلاة في المواطن المذكورة غير محرمة بل ولا مكروهة إذا أُمنت النجاسة (2) لأنهم يرون حديث النهي عن الصلاة فيها على فرض صحته منسوخاً بقوله - صلى الله عليه وسلم - (( جُعلت لي الأرض مسجداً وَطهوراً فأيّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ )) (3) لأنه من فضائله التي خصّه الله بها وهي لا تنسخ قطعاً .
__________
(1) ... أخرج الترمذي عن ابن عمر : (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن ُيصلى في سبعة مواطن في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي أعطان الإبل وفوق ظهر بيت الله )) وقال : إسناده ليس بالقوي لأن فيه زيد بن جبيرة وهو ضعيف ، وقال النسائي : ليس بثقة ، وقال ابن معين والبخاري : متروك .
(2) ... باستثناء أعطان الإبل فإن الصلاة فيها مكروهة عندنا كراهة تعبدية لقوله صلى الله عليه وسلم : (( صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل )) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه عن أبي هريرة .
(3) ... أخرجه الشيخان عن جابر بن عبد الله قال : (( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اُعطيت خمساً لم ُيعطَهن أحد من الانبياء قبلي ُنصرت بالرعب مسيرة شهر وُجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيتُ الشفاعة وكان النبي ُيبعث إلى قومه خاصة وُبعثت إلى الناس عامة )) قاله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أمام ملأ كبير من أصحابه .(1/31)
... ومنها اختلافهم في استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة هل هو حرام أو مكروه ؟ بناء على ما رواه أبو أيوب الانصاري من قوله - صلى الله عليه وسلم - (( إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبرونها ولكن شرّقوا أو غرّبوا )) (1) .
... أما عند فقهائنا فمحمول على التحريم في الفضاء بلا ساتر كحائط أو صخرة أو شجرة جمعاً بين الحديثين : حديث أبي أيوب هذا وحديث ابن عمر الذي قال فيه : (( رقيت يوماً على بيت حفصة فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة )) (2) فحمل فقهاؤنا حديث أبي أيوب على الفضاء حيث لا ُسترة وحملوا حديث ابن عمر على السترة ،
وأما عند الحنفية فمحمول على التحريم مطلقاً سواء في الفضاء أو في البيوت لعموم النهي في حديث أبي أيوب بعد أن رجحوه على حديث ابن عمر لأنهم رأوا في حديث أبي أيوب نهياً صريحاً وفي حديث ابن عمر موافقة للبراءة الأصلية وهي عدم الحكم مع احتمال تقدمه على حديث النهي .
... المسألة الثانية : هل النهي يدل على فساد المنهي عنه أم لا ؟
... أكثر الأصوليين والفقهاء يرون أن النهي يدل على فساد المنهي عنه إلا ما خرج بدليل منفصل . وحجتهم أن الصحابة والتابعين كانوا يقولون بفساد أنكحة وبيوع لورود النهي عنها ولم ينكر بعضهم على بعض الاستدلال بذلك بل ربما عارض بعضهم بعضاً بأدلة أخرى ، وأن النهي ليس إلا لدرء مفسدة في المنهي عنه سواء كان في العبادات أو في المعاملات والمتضمّن للمفسدة فاسد .
... وعلى هذا الأصل اختلف الفقهاء في نكاح الشِغار هل يفسخ أم لا ؟
__________
(1) ... حديث أبي أيوب هذا أخرجه الشيخان وأحمد وغيرهم .
(2) ... حديث ابن عمر هذا رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن .(1/32)
مع اتفاقهم على نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه (1) . فمن رأى النهي يدل على فساد المنهي عنه حكم بفسخه (2) ، ومن رآه لا يدل على فساده لم يحكم بفسخه.
... واختلفوا في بيع وشرط وفي بيع وسلف بعد ورود النهي عنهما.
... والمعو?ل عليه في مذهبنا أن النهي عن الشيء إن كان لحق الله عز وجل فإنه يفسد المنهي عنه وإن كان لحق العبد فلا يفسده . ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التصرية فقال : (( لاُتصَر?وا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعاً من تَمْر )) (3) فلم يحكم - صلى الله عليه وسلم - بفسخ البيع لأنه ليس بفاسد ولو كان فاسداً لحكم بفسخه ولما جعل للمشتري خياراً في الإمساك لأن الحق فيه للعبد لا لله عز وجل ، ولما نهى الله تعالى عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة فقال : (( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاةِ من يوم الجمعة فاسعوْا إلى ذكر الله وذروا البيع )) كان نهيه عنه لحقه في وجوب سعي عباده المؤمنين لها فقلنا بفساد البيع وقتئذ بالإضافة إلى حرمته وبوجوب فسخه إن تم إذ لا اختيار للعباد في حقوق الله .
__________
(1) ... ثبت النهي عن نكاح الشغار في عدة أحاديث صحيحة أخرجها أحمد والشيخان وأصحاب السنن . ونكاح الشِغار هو البُضع بالبضع من دون صداق ، كأن يقول رجل لآخر أزوجك أختي مقابل تزويجي أختك من دون مهر .
(2) ... عند المالكية يفسخ نكاح الشغار قبل الدخول مطلقاً أي ولو سمي فيه صداق وبعد الدخول وإن طال إن لم يسم? فيه صداق فإن سمي النكاح كأن يقول : زوجتك ابنتي بكذا على أن تزوجني ابنتك بكذا .
(3) ... حديث النهي عن التصرية رواه الشيخان عن أبي هريرة ، والتصرية ربط الضروع .(1/33)
... وهذا هو وجه تفرقة فقهائنا بين ما يفسخ من النكاح المنهي عنه بطلاق وبين ما يفسخ بغير طلاق ، فإنهم قالوا كل نكاح كان للزوج أو للزوجة أو للولي إمضاؤه وفسخه فإنه يفسخ بطلاق لأن النهي فيه لحق من له الخيار والنكاح في نفسه منعقد غير فاسد ، وكل نكاح لا خيار فيه لأحد الثلاثة فإنه يفسخ بغير طلاق لأن الفسخ فيه ليس لحق أحد منهم ولو كان لحق أحد منهم لسقط الفسخ بإسقاطه حقه ولما لم يسقط الفسخ بإسقاط أحدهم علمنا أن الحق فيه لله عز وجل فكان فاسداً غير منعقد من أساسه فلا يحتاج فسخه إلى طلاق لأن الطلاق إنما هو حل عقد قائم فحيث لا عقد فلا حَل ، هذه قاعدة مذهبنا وما خرج عنها فإنما هو لدليل منفصل .
... ثم إن النهي المطلق يقتضي الفور والاستمرار فيجب فيه الانتهاء حالاً ويجب استمرار الانتهاء .
والتخيير هو القول الدال على التخيير بين الفعل والترك ، وهو لا يدل دائماً على استواء الطرفين ، فإن المسافر مثلاً مخير بين الصوم والفطر ، والصوم عندنا أفضل إذا لم يشق عليه والفطر أفضل إذا شق الصوم عليه ، ومخير بين إتمام الصلاة وقصرها والقصر أفضل ، وهو والعبد مخيران بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر وصلاة الجمعة أفضل .
... هذا والذين يرون المندوب مأموراً به والمكروه منهياً عنه وهم الجمهور يجعلون التخيير مختصاً بالإباحة ، والإباحة حكم شرعي لأنه عُرف من جهة الشرع وعند المعتزلة حكم عقلي ثابت بالبراءة الأصلية فيما لم يرد عن الشارع تخيير فيه .
... القول من حيث دلالته على المعنى
... اعلم أن القول إما أن يدل بالوضع على معنى واحد لا يحتمل غيره وإما أن يحتمل معنيين .
... فإن دل بالوضع على معنى واحد فقط فهو النص ، وإن احتمل معنيين ولم يكن راجحاً في أحدهما فهو المجمل ، وإن كان راجحاً في أحدهما من جهة لفظه وضعاً فهو الظاهر ، وإن كان راجحاً في أحدهما بدليل منفصل فهو المؤوّل .
... النص(1/34)
... النص هو اللفظ الذي يدل بالوضع على معنى واحد لا يحتمل غيره كدلالة لفظ ( السبعة ) مثلاً على العدد المعلوم ، وهو لا يقبل الاعتراض من جهة دلالته على ما هو نص فيه بل من جهات أخرى .
... مثاله احتجاج فقهائنا على أن غسل الإناء من شرب الكلب سبع
لا ثلاث بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فلْيغسلْه سبع مرات )) (1) والحنفية يوجبون غسله ثلاث مرات فقط لكنهم لا ينازعوننا في دلالة لفظ السبع على العدد المعلوم بل يقولون كان أبو هريرة يفتي بغسل الإناء ثلاثاً وهو راوي حديث غسله سبعاً فعلمنا بذلك نسخه ، فنقول لهم قد أفتى أيضاً بغسله سبعاً ورواية فتواه الموافقة لحديثه المرفوع المتفق على صحته أرجح سنداً ونظراً من رواية فتواه المخالفة .
__________
(1) ... حديث (( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات )) رواه مالك وأحمد والشيخان عن أبي هريرة .(1/35)
... واحتجاج فقهائنا أيضاً على أن الإمام مخير في الأسرى بين المن والفداء بقوله تعالى : (( حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاقَ فإمّا منّا بعد وإما فداءً حتى تضعَ الحربُ أوزارَها ... )) وهذا نص في التخيير ، فيقول فقهاء الحنفية هذا وإن كان نصاً في التخيير إلا أنه مغيّى بغاية مجهولة في قوله : (( حتى تضعَ الحربُ أوزارَها )) فوضْعُ الحرب أوزارها مجهول لأنه يحتمل أن يكون المراد منه حتى يقف القتال وتنتهي الحرب ويحتمل أن يكون المراد حتى لا يبقى كفار فيقف الجهاد ويحتمل غير ذلك وبالاختصار يحتمل أن الغاية قد وجدت فيرتفع التخيير ويحتمل أنها لا تزال فيبقى التخيير مستمراً وإذا كان كذلك فالآية ليست نصاً في مدلولها بل مجملة ، فيجيبهم فقهاؤنا بأن مجاهداً وغيره من أثمة التفسير رووا عن ابن عباس تفسيرها بحتى ينزل عيسى عليه السلام وحتى لا يبقى على الأرض مشرك (1) .
__________
(1) ... انظر ما نقله القرطبي وابن كثير عن أئمة التفسير حول هذه الآية وما استنبطه منها أبو بكر ابن العربي في كتابه (( أحكام القرآن )) .(1/36)
... هذا وقد يتعين المعنى ويكون اللفظ نصاً فيه لا من جهة الوضع بل من القرينة والمناسبة الملابسة له ، ومثاله ما احتج به فقهاؤنا على عدم جواز اشتراء التمر بالرطب بقوله - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن ذلك : (( أينقص الرطب إذا يبس فقالوا نعم فقال فلا إذاً )) ، فيقول المعارضون قوله (( فلا إذاً )) لا يتم إلا بتقدير محذوف قد يكون (( فلا يجوز إذاً )) وقد يكون (( فلا بأس إذاً )) وبهذا الاحتمال يضعف الاستدلال ، فنقول لهم إن جوابه - صلى الله عليه وسلم - إنما يطابق سؤال السائل ويكون التقدير حينئذ (( فلا يجوز إذاً )) لأنه سأل عن الجواز ولأن قرينة التعليل بالنقص تدل على عدم جواز اشتراء التمر بالرطب ، ويؤيد ما قطعنا به التصريح بالنهي في رواية مالك وأحمد وأصحاب السنن عن سعد بن أبي وقاص قال : (( سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسأل عن اشتراء التمر بالرطب فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أينقص الرطب إذا يبس فقالوا نعم فنهى عن ذلك )) .
... المجمل
... المجمل هو اللفظ الذي يحتمل معنيين غير راجح في أحدهما ، وهو غير متضح الدلالة إذ لو كان متضح الدلالة لما كان مجملاً يفتقر إلى بيان يرجحه في أحد المعنيين ، وينحصر الكلام عنه في موضوعين :
أ- ... الموضوع الأول في أنواعه وهي خمسة :
... النوع الأول احتمال اللفظ المفرد نفسه لمعنيين بسبب اشتراكه بينهما ، ومثاله استدلال فقهائنا على أن الاعتداد بالأطهار لا باِلحيَض بقوله تعالى : (( والمطلقاتُ يتربصْنَ بأنفسهن ثلاثةَ قروء )) والقرء في اللغة الطهر كما
جاء في قول الأعشى :
وفي كل عام أنت جاشمُ غزوة ... ... تشد? لأقصاها عزيمَ عزائكا (1)
مور?ثةٍ عزاً وفي الحيّ رفعةً ... ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
__________
(1) ... الجاشم : المتكلف . عزيم عزائك : تصميم صبرك .(1/37)
... أي من أطهارهن بسبب تغيبك في الغزو ، فيقول فقهاء الحنفية لفظ القرء يحتمل الحيض بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في المستحاضة : (( تدعُ الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة )) (1) . والمراد بها هنا أيام الحيض قطعاً والدليل على ثبوت الاشتراك بين المعنيين لغة اختلاف الصحابة في ذلك وهم أهل اللغة وأعرف بها ممن جاء بعدهم والمستدلون بالآية على الاعتداد بالأطهار مطالَبون بإثبات أن لفظ القرء أرجح في الطهر ، فنقول لهم إن القرء وهو مفرد يحتمل الطهر والحيض فإن جمع على أقراء فالمراد به الحيض كما جاء في حديث المستحاضة : (( تدع الصلاة أيام أقرائها )) وإن جمع على قروء فالمراد به الطهر كما جاء في قول الشاعر : (( لما ضاع فيه قروء نسائكا )) ولما جمع في الآية على قروء علمنا أن المراد به الطهر لا الحيض ، ولكنهم يقدحون في قولنا هذا فيقولون لو كان ادعاؤكم صحيحاً لما اختلف الصحابة فيه وهم أهل اللغة كما ذكرنا واختلافهم يدل على بقاء الاحتمال في حالة الجمع كما كان في حالة
الإفراد وقد قال الشاعر :
يا رُب? ذي ِضغن علي? فارض ... ... له قروء كقروء الحائض (2)
__________
(1) ... حديث المستحاضة أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده وهو حديث ضعيف لأن الذي رواه عن عدي بن ثابت أبو اليقظان عثمان بن عمير وهو متروك الحديث ومنكره وقال ابن حبان : اختلط حتى لا يدري ما يقول .
(2) ... الضغن كالضغينة : الحقد . الفرض : الضخم .(1/38)
... النوع الثاني احتمال اللفظ المفرد لمعنيين تبعاً لصيغته ، ومثاله احتجاج جمهور فقهائنا على أن رضاع الولد حق له لا لوالدته بقوله تعالى : (( لا تُضارّ والدة بولدها )) فنهى الوالدة عن الإضرار بولدها بالامتناع عن إرضاعه ، فيقول المخالفون يحتمل أن يكون أصل (( تُضار )) تُضارِر بكسر الراء فيصح الاستدلال ويحتمل أن يكون أصله تُضارَر بفتحها فلا يصح الاستدلال إذ يكون المعنى حينئذ لا تمنع الوالدة من حقها في إرضاع ولدها ، فيجيبهم الجمهور بأن الاحتمال الأول أقوى وأحكم لأن الخطاب فيه يتعلق بمعيّن وفي الاحتمال الثاني يتعلق بمبهم والمتوجه عليه الأمر والنهي من شرطه أن يكون معيّناً لا مبهماً .
... النوع الثالث احتمال اللفظ المفرد لمعنيين تبعاً لصورته ، ومثاله احتجاج فقهائنا على منع بيع ذهب وعَرَض بذهب بحديث فَضالة بن عُبيد قال : (( اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً فيها ذهب وخرز ففصّلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( لا تباع حتى تُفصّل )) (1) ، فنهى عن البيع مجملاً وأمر بالتفصيل بين الذهب والخرز فدل ذلك على عدم جواز بيع ذهب وعَرض بذهب ، فيقول فقهاء الحنفية قد ورد هذا الحديث في رواية أخرى حتى تفضُل بالضاد المعجمة المخففة أي حتى يكون في الذهب الذي اشتريت به فضل على مقدار الذهب المضاف إلى الخرز ولما كانت المسألة واحدة علمنا أن اللفظين معاً
__________
(1) ... حديث فَضالة بن عبيد أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي .(1/39)
لم يتلفظ بهما النبي - صلى الله عليه وسلم - لاختلاف حروفهما وتنافي معنييهما وأن اللفظ الذي نطق به - صلى الله عليه وسلم - متردد بينهما فلا يصح الاحتجاج به ، فيجيبهم فقهاؤنا بأن رواية الصاد المهملة أصح عند المحدثين ويعضدها ما رواه أبو داود من طريق آخر أنه قال : (( لا حتى تميز بينهما )) فيجب أن تكون إحدى الروايتين مفسرة للأخرى وبذلك يزول الاحتمال .
... النوع الرابع احتمال اللفظ المركب لمعنيين لاشتراكه بينهما ، ومثاله احتجاج فقهائنا على أن لأب الزوجة أن يسقط نصف الصداق المفروض على الزوج إذا طلقها قبل المسيس بقوله تعالى : (( أو يعفوَ الذي بيده عقدة النكاح )) لأنه هو الذي بيده عقدة النكاح في ابنته ، فيقول الحنفية والشافعية هذا اللفظ مشترك بين الزوج ووليّ الزوجة لأن الزوج أيضاً يصدق عليه كون عقدة النكاح بيده ، فيجيبهم فقهاؤنا بأن الزوج بعد أن طلق لم تبق بيده عقدة النكاح وبأن العفو إسقاط حتى ولا يتصور إسقاطه إلا من صاحبه الذي يملكه وهو المطلقة إن كانت تملك أمر نفسها أو من وليها إن كانت في حجره ولأن الله تعالى وهو يخاطب الأزواج لو عناهم لقال (( أو تعفون )) فلما عدل عن خطابهم إلى خطاب الغائب علمنا أنه عنى الوليّ لا الزوج (1) .
__________
(1) ... هذه المسألة من المسائل المعضلة التي اختلف فيها العلماء وتعدد فيها التأويل والاستدلال فارجع فيها إن شئت إلى (( تفسير القرطبي )) و (( أحكام القرآن )) لأبي بكر بن العربي .(1/40)
... النوع الخامس احتمال اللفظ المركب لمعنيين يصح أحدهما باعتبار ويصح الآخر باعتبار آخر ، ومثاله احتجاج الإمام أبي حنيفة وبعض أصحابه على جواز الوضوء في السفر بنبيذ التمر بقوله - صلى الله عليه وسلم - عنه : (( تَمْرة طيبة وماء طَهور )) كما جاء في حديث أبي رافع مولى ابن عمر عن عبد الله ابن مسعود ، فيقول فقهاؤنا إن المعنى المقصود من هذا اللفظ أنه مجموع من تمرة طيبة ومن ماء طهور لا أنه بعد الجمع والنقع يصدق عليه أنه تمرة طيبة وماء َطهور ، فيجيبونهم بأن فعله - صلى الله عليه وسلم - يؤيد احتجاجهم فقد روى ابن عباس عن ابن مسعود (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ليلة الجن بالنبيذ )) . فيقول لهم فقهاؤنا هذا الحديث غير مقبول من أساسه لضعفه ، ولثبوت عدم وجود ابن مسعود ليلة الجن مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - (1) ولقوله تعالى : (( فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً )) فلم يجعل بين الماء والصعيد وسطاً طهوراً لا نبيذاً ولا غيره .
... واحتجاج فقهائنا على أن الاقتصار في الوضوء على مسح الناصية لا يجزئ وأن المسح على العمامة وحدها لا يجزئ بما صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح بناصيته وعلى العمامة معاً ولو كان المسح على الناصية وحدها كافياً لا قتصر عليه ولو كان المسح على العمامة وحدها كافياً لا قتصر عليه ، فيقول الحنابلة يحتمل أن يكون هذا في وضوء واحد ويحتمل أن يكون في وضوءين مسح بناصيته في وضوء ومسح على عمامته في وضوء آخر ، فيجيبهم فقهاؤنا بأن راوي الحديث وهو المغيرة بن شعبة قال :
ــــــــــــــ(1/41)
1- روى الدارقطني عن أبي محمد بن صاعد عن أبي الأشعث عن بشر بن المفضل عن داود ابن أبي هند عن عامر الشعبي عن علقمة بن قيس قال : (( قلت لعبد الله بن مسعود أشهد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أحد منكم ليلة أتاه داعي الجن ؟ فقال لا )) ثم قال الدارقطني : هذا إسناد صحيح لا يختلف في عدالة رواته . وقال البيهقي : الأحاديث الصحاح تدل على أن ابن مسعود لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن وإنما سار معه حين انطلق به يريه آثار الجن وآثار نيرانهم .
(( توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمسح بناصيته وعلى العمامة وعلى الخفين )) (1) وهذا يفيد أنه في وضوء واحد .
ب- ... الموضوع الثاني في القرائن المرجحة وهي إما لفظية وإما سياقية وإما خارجية .
... فالقرينة اللفظية مثالها ما قدمناه في قوله تعالى : (( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثةَ قروء )) وهو أن القرء إذا جمع على قروء كما جاء في الآية كان المراد به الطهر لا الحيض إذ لو كان المراد به الحيض لجمع على أقراء كما جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم - (( تدَعُ الصلاة أيام أقرائها )) فإن الجمع قد يختلف باختلاف معنى المفرد وإن كان لفظه مشتركاً كلفظ ( الأمر ) المشترك بين الطلب وجمعُه حينئذ أوامر وبين الفعل والشأن والشيء وجمعُه إذ ذاك أمور ، ثم إن اقتران عدد القروء في الآية بالتاء قرينة لفظية أخرى ترجح معنى الأطهار على معنى الِحيَض لأن الأطهار مذكرة فيقترن عددها بالتاء فيقال ثلاث حِيَض ولما جاء عدد القروء مقترناً بالتاء علمنا أن المراد بها الأطهار وإن كان الحنفية يجيبون عن هذا التعليل بأن اقتران عدد القروء بالتاء ملاحظ فيه لفظ القرء لا معناه ولفظه مذكر .(1/42)
... والقرينة السياقية مثالها احتجاج الحنفية على جواز انعقاد النكاح بلفظ الهبة بقوله تعالى : (( وامرأةّ إن وهبت نفسها للنبي )) وإذا جاز انعقاد النكاح للنبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ الهبة جاز انعقاده به لأمته قياساً عليه ، فيقول الشافعية لما قال الله تعالى : (( خالصةً لك من دون المؤمنين )) دل هذا على اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بشيء دون المؤمنين وذلك الشيء يحتمل أن يكون جواز
ــــــــــــــ
1- حديث المغيرة أخرجه مسلم في صحيحه والترمذي في جامعه .
النكاح بمجرد الهبة من غير صداق ويحتمل أن يكون جوازه بلفظ الهبة مع الصَداق وإذا كان اللفظ محتملاً للمعنيين فلا يصح القياس عليه حتى يترجح أن المراد بالاختصاص جواز النكاح له من غير َصداق لا جوازه بلفظ الهبة ، فيجيبهم الحنفية بأن سياق الآية يرجح أن المراد جوازه له من غير صداق وذلك لأن الآية سيقت لبيان شرفه - صلى الله عليه وسلم - على أمته ونفي الحرج عنه فقال تعالى : (( قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانُهم لكيلا يكونَ عليك حرج )) والشرف لا يحصل بإباحة لفظ مجرد له وحجره على غيره من أمته بل يحصل بإسقاط الصداق عنه حتى يكون ربه الحفيّ به قد ذكر له ثلاثة أنواع من الإحلالات : إحلالاً بصَداق وهو قوله تعالى : (( إنا أحللنا لك أزواجَك اللائي آتيت أجورهن )) ، وإحلالاً بملك يمين وهو قوله تعالى : (( وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك )) ، وإحلالاً بلا َصداق بل بمطلق الوهب وهو قوله تعالى : (( وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصةً لك من دون المؤمنين )) والخلوص الذي ُمنحه وحده - صلى الله عليه وسلم - هو نكاحها إن أراده من غير صَداق (1) .
... والقرينة الخارجية هي موافقة أحد المعنيين لدليل منفصل من نص أو قياس أو عمل .(1/43)
... مثال الأول موافقة ما ذهب إليه فقهاؤنا من أن المراد بالقروء الأطهار لقوله تعالى : (( يا أيها النبي? إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن )) فإنه أمر في هذه الآية عند إرادة الطلاق أن يطلّقن طلاقاً تعقبه عدتهن فلا تتراخى
ــــــــــــــ
1- المالكية يتفقون مع الحنفية في أن سياق الآية يرجح تخصصه صلى الله عليه وسلم بجواز النكاح له بالهبة من غير صداق ولكن لا يتفقون معهم في جوازه لأمته إلا مع ذكر الصداق تحديداً أو تفويضاً .
عنه ولا يكون ذلك إلا في الطهر لأن الطلاق في الحيض حرام ، والذين ذهبوا إلى أن المراد بالقروء الِحيَض وهم الحنفية يرجحون أيضاً ما ذهبوا إليه لموافقته قوله تعالى : (( واللائي لم يحضْنَ )) فجعل الأشهر بدلاً من الِحيَض لا من الأطهار ودل على أن الحيض هو الأصل في العدة .
... ومثال الثاني وهو موافقة القياس قول الحنفية المقصود من العدة استبراء الرحم والعلامة الدالة على براءته في العادة إنما هي الحيض لا الطهر فإن الطهر تشترك فيه الحامل والحائل والحيض مختص غالباً بالحائل ولذلك كان الاستبراء بالحيض لا بالطهر وإذا كان كذلك تعين حمل القروء على الِحيَض لا على الأطهار .
... ومثال الثالث وهو موافقة العمل أي عمل الصحابة اتفاق جمهور الفقهاء على وجوب غسل الرجلين في الوضوء بقوله تعالى : (( وأرجلَكم )) بالنصب عطفاً على (( وجوهَكم وأيديَكم )) لفظاً ومعنى وبالجر? أيضاً عطفاً على اللفظ دون المعنى للمجاورة (1) إذ لم ُينقل عن جمهور الصحابة إلا الغسل ولم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح رجليه إلا على الخفين وإنما كان يغسلهما ويتوعد من يمسح رجليه ولا يستوعبهما بالغسل في أحاديث صحاح كثيرة (2) . فكان ذلك دليلاً على أن المراد بقوله تعالى
ــــــــــــــ(1/44)
1- جاء هذا النوع من العطف اللفظي في القرآن وفي كلام العرب قال الله تعالى : (( ُيرَسل عليكما َشواظ من نار ونحاس )) بالجرّ في قراءة أبي عمرو وابن كثير ، وقال زهير :
... لعب الزمان بها وغيّرها ... بعدي سوافي المُور والقطرِ
2- منها حديث عبد الله بن عمرو المتفق عليه قال : (( تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة فأدركَنا وقد أرهقنا العصر فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثاً )) .
(( وأرجلكم )) غسلها لا مسحها سواء بقراءة النصب أو بقراءة الجر (1) .
...
... الظاهر
... الظاهر هو اللفظ الذي يحتمل معنيين راجحاً في أحدهما من جهة لفظه وضعاً فكان أظهر فيه ولذلك كان متضح الدلالة . ولا تّضاح الدلالة من جهة الوضع ثمانية أسباب :
... السبب الأول : الحقيقة ويقابلها المجاز .
... فالحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له كاستعمال لفظ الأسد في الحيوان المفترس المعلوم ، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بينه وبين ما وضع له كإطلاق لفظ الأسد على الرجل الشجاع .
... فإذا كان اللفظ يحتمل حقيقته ومجازه فإنه َيعد? راجحاً في حقيقته لأنها هي الأصل في الوضع .
... والحقيقة تنقسم إلى ثلاثة أقسام : حقيقة لغوية ويقابلها مجاز لغوي ، وحقيقة شرعية ويقابلها مجاز شرعي ، وحقيقة عرفية ويقابلها مجاز عرفي .
... أما الحقيقة اللغوية فمثالها احتجاج الشافعية وابن حبيب من فقهائنا على مشروعية خيار المجلس بقوله - صلى الله عليه وسلم - (( المتبايعان كل واحد منهما
ــــــــــــــ(1/45)
1- قراءتها بالنصب لنافع وابن عامر والكسائي وحفص وبالجر للآخرين ، وأصح ما قيل في توجيه قراءة الجهر أنها لعطف الأرجل على الرؤوس لفظاً للجوار لا حكماً ، وخالف محمد بن جرير الطبري الجمهور فاعتبرها لعطف الأرجل على الرؤوس لفظاً وحكماً وقال بالتخيير بين غسلها ومسحها جاعلاً القراءتين كالروايتين في الحديث يعمل بهما إذا لم يتناقضا ، وقال أبو زيد الأنصاري وغيره من أئمة اللغة المسح في كلام العرب يطلق على الغسل الخفيف وعلى المسح أي أنه لفظ مشترك بينهما ، ولما كانت السنة الصحيحة قد بينت بالعمل وبالقول أيضاً المرادَ منهما وهو الغسل فقد زال الإشكال .
بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا )) (1) ، فيقول فقهاؤنا المراد بالمتبايعين المتساومان وتفرقهما إنما هو بالقول أي أنهما في حال تساومهما بالخيار ما لم
يبرما العقد ويمضياه فإذا أمضياه فقد تفرقا ولزمهما العقد وإن لم يفارقا المجلس إذ قد يطلق اسم الشيء على ما يقاربه كقوله - صلى الله عليه وسلم - (( لا يبع الرجل على بيع أخيه )) (2) وإنما المراد بالبيع هنا السوم لأنه وسيلة للبيع ، فيجيب الشافعية بأن إطلاق المتبايعين على المتساومين مجاز (3) وإطلاق التفرق على إبرام العقد وإمضائه مجاز أيضاً والحقيقة مرجحة على المجاز .
... وأما الحقيقة الشرعية فقد أثبت جمهور الأصوليين وجودها محتجين عليه بالاستقراء ، فإنه لما استقرئت ألفاظ الصلاة والزكاة والصيام والحج وجدت مستعملة في لسان الشرع للعبادات الشرعية المسماة بها ، وبالاستناد إليها احتج فقهاؤنا على أن المحْرم لا يتزوج في حال إحرامه بقوله - صلى الله عليه وسلم -
ــــــــــــــ
1- هذه رواية ابن عمر كما جاءت في الموطأ ، ورواية حكيم بن حزام كما جاءت في الصحيحين (( البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو حتى يفترقا )) والتفرق والافتراق معناهما واحد على الصحيح .(1/46)
2- حديث (( لا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته إلا أن يأذن له )) رواه أحمد ومسلم عن ابن عمر .
3- لكن فقهاءنا لا يسلمون بأن إطلاق المتبايعين على المتساومين مجاز بل يقولون بما ذهب إليه الإمام من أن وصف المتساومين بالمتبايعين حقيقة حين مباشرة البيع ومحاولته ، ويقولون أن ترجيحنا معنى التفرق بالأقوال على معناه بالأبدان يستند إلى دليلين : الأول أن البيع عقد معاوضة لم يثبت فيه خيار المجلس كالنكاح ، والثاني عمل أهل المدينة المعارض لخيار المجلس وإن احتمله الحديث .
(( لا ينكِح المحْرِم ولا يُنكَح ولا يخطُب )) (1) ، فيقول الحنفية يحتمل أنه أراد بالنكاح هنا الوطء وبهذا الاحتمال يكون الحديث دليلاً على حرمة الوطء على المحرم لا على حرمة العقد ويرجحه قول ابن عباس : (( تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو ُمحْرم )) (2) ، فيجيبهم فقهاؤنا بأن إطلاق لفظ النكاح على الوطء مجاز شرعي وعلى العقد حقيقة شرعية وحمل اللفظ الشرعي على حقيقته الشرعية أولى من حمله على مجازه الشرعي ، ويؤيد ما ذهبنا إليه قول ميمونة نفسها وهي صاحبة الواقعة : (( تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن حلالان بسَرِف )) (3) .
... وأما الحقيقة العرفية فمثالها ما ذا قال الزوج لزوجته ( أنت طالق ) وقال إنما أردت طلاقها من وثاق والطلاق بهذا المعنى حقيقة لغوية (4) ، فيقال له هذا اللفظ صار حقيقة عرفية في حل عصمة النكاح على حقيقته اللغوية العامة (5) .
... ومثالها من كلام الشارع ما احتج به فقهاؤنا على أن البكر يجبرها أبوها على النكاح من قوله - صلى الله عليه وسلم - (( تُستأمر اليتيمة في نفسها (6) واليتيمة هي التي لا أب لها فمفهومه أن غيراليتيمة وهي ذات الأب تزوج من غير استئمار،
ــــــــــــــ
1- حديث (( لاينكِح المحرم ولا ُينكح ولا يخطب )) رواه مالك وأحمد ومسلم وأصحاب السنن عن عثمان بن عفان .(1/47)
2- حديث ابن عباس أخرجه أحمد والشيخان وأصحاب السنن .
3- حديث ميمونة أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم .
4- يقال طلَقت الناقة تطلُق طلوقاً إذا انحل وثاقها فهي طالق .
5- العرف عندنا يخصص العام ويقيد المطلق ويفسر الألفاظ في العقود وكنايات الطلاق وسائر الألفاظ المصطلح على مفاهيمها .
6- رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( نستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها )) .
فيقول المخالفون اليتم في أصل اللغة هو الانفراد مطلقاً ولذلك يقال للفرد من كل شيء حتى البيت المنفرد من الشعر يقال له يتيم والدرة التي لا نظير لها يقال لها يتيمة وعلى هذا قد يكون المراد باليتيمة التي لا زوج لها كما جاء في قول القائل :
... إن القبور تنكِحُ الأيامى ... النسوةَ الأراملَ اليتامى
... فيقول فقهاؤنا إن اليتيمة حقيقة عرفية في التي لا أب لها ، قال الله تعالى : (( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم )) وإطلاقها على غيرها مجاز عرفي وإذا كان كذلك كان حمل اللفظ على حقيقته العرفية أولى من حمله على مجازه العرفي (1) .
... السبب الثاني : الانفراد في الوضع بمعنى واحد ويقابله الاشتراك .
... انفراد اللفظ بمعني واحد هو الأصل واشتراكه بين معنيين فأكثر خلاف الأصل ، ومثاله احتجاج جمهور العلماء على أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - محمول على الوجوب بقوله تعالى : (( فلْيحذر الذين يخالفون عن أمره أن تُصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم )) ، فيقول المخالفون يحتمل أن يراد بأمره في الآية القول الطلبي ويحتمل أن يراد به الحال والشأن كما في قوله تعالى : (( وما أمر فرعون برشيد )) وإذا صح إطلاق الأمر على غير القول الطلبي لزم اشتراكه بين المعنيين ومع الاشتراك يضعف الاستدلال ، فيقول
ــــــــــــــ(1/48)
1- فيحتج المخالفون حينئذ بما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن ابن عباس (( أن جارية بكراً أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم )) . ويقولون أن مفهون قوله صلى الله عليه وسلم (( تستأمر اليتيمة في نفسها )) لا ينتهض للاحتجاج به تلقاء المنطوق – انظر باب موجبات صحة النكاح في (( بداية المجتهد )) تجد فيه دراسة نفسية لهذه المسألة ونظراً فقهياً دقيقاً لابن رشد .
الجمهور : الأصل في الألفاظ الانفراد بالمعاني وذلك يقتضي انفراد لفظ الأمر بأحد المعنيين في الوضع وأن تكون دلالته على المعنى الآخر بالمجاز وقد أجمعنا على أنه حقيقة في القول الطلبي فتعين كونه مجازاً في غيره واللفظ يجب حمله على حقيقته قبل حمله على مجازه .
السبب الثالث : التباين ويقابله الترادف .
... الأصل في الألفاظ أن تكون متباينة في مدلولاتها لا مترادفة ، ومثاله ما احتج به فقهاؤنا على أن التيمم يصح بكل ما صعد من الأرض على وجهها لأن الصعيد مشتق من الصعود فيعم كل ما صعد على وجه الأرض منها ، فيقول الشافعية إن الصعيد مرادف للتراب كما نص عليه أهل اللغة وأكده الإمام الشافعي نفسه إذ قال الصعيد لا يقع إلا على التراب ، فيجيب فقهاؤنا بأن الصعيد إذا سمي به التراب فإما أن تكون التسمية اشتقاقية من الصعود فيعم كل ما صعد من الأرض على وجهها وإما أن تكون ارتجالية فيلزم الترادف وهو خلاف الأصل ، لذلك رجحنا مباينة لفظ الصعيد للفظ التراب واشتقاقَه من الصعود فعم كل ما صعد من الأرض سواء كان تراباً أو حجراً أو غيرهما .
... السبب الرابع : الاكتفاء ويقابله التقدير .
... الأصل في اللفظ أن يكون مكتفياً بذاته فلا يتوقف معناه على تقدير ، ومثاله ما احتج به بعض فقهائنا (1) على تحريم أكل السباع وهو
ــــــــــــــ(1/49)
1- هم المدنيون من أصحاب الإمام وقد رووا عنه القول بتحريم لحوم السباع العادية كالأسد والنمر والفهد والدب والكلب إذ قال في الموطأ بعد أن ذكر هذا الحديث بروايته عن أبي ثعلبة الخُشَني وعن أبي هريرة : وهو الأمر عندنا .
قوله - صلى الله عليه وسلم - (( أكل ذي ناب من السباع حرام )) ، فيقول الآخرون من فقهائنا (1) إنما أراد - صلى الله عليه وسلم - ما أكلته السباع حرام أكله لا أن السباع نفسها لا تؤكل ويكون الحديث مطابقاً لقوله تعالى : (( وما أكل السبع إلا ما ذكيتم )) ، فيجيبهم الأولون بأن حمل الكلام على ما يوافق الآية يلزم عنه التقدير ويكون كأنه قال مأكول كل ذي ناب من السباع حرام وبهذا التأويل لا يكون الكلام في الحديث مكتفياً بذاته والأصل في الكلام الاكتفاء .
... السبب الخامس : التأسيس وهو إفادة اللفظ معنى لم يكن حاصلاً من قبل ويقابله التأكيد وهو تقرير معنى حاصل وتقويته .
... مثاله استدلال فقهائنا على أن التمتيع غير واجب على من طلق امرأته قبل المسيس ولم يكن قد فرض لها صداقاً مسمّى بقوله تعالى :(( ومتعوهن على الموسِع قدْرُه وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين )) وقوله تعالى : ((وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين )) لأن الواجب لا يختص بالمحسنين ولا بالمتقين بل يعم المحسن وغير المحسن والمتقي وغير المتقي ، فيقول المخالفون وهم الحنفية إنما قال تعالى (( حقاً )) تأكيداً للوجوب أي يحق ذلك عليهم حقاً وأما قوله ((على المحسنين)) و ((على المتقين)) فمعناه على المؤمنين لأن الناس جميعهم مأمورون بأن يكونوا محسنين ومتقين فيحسنون بأداء ما فرض الله عليهم ويتقون باجتناب ما نهاهم عنه وذكّر الله المطلقين بهاتين الصفتين الحميدتين ليعملوا بما أمرهم من التمتيع رجاء أن يتصفوا
ــــــــــــــ(1/50)
1- هم العراقيون من المالكيين وابن القاسم فقد رووا عن الإمام القول بكراهتها لا بتحريمها وهو المعول عليه المشهور في المذهب . انظر شرح الباجي للحديث في الموطأ وتفسير القرطبي لقوله تعالى : (( قل لا أجد في ما أوحي محرماً على طاعم يطعمه )) وباب الأطعمة في (( بداية المجتهد )) .
بهما ، فيجيبهم فقهاؤنا بأن الأصل في الكلام التأسيس والتأكيد خلاف الأصل .
... السبب السادس : الترتيب ويقابله التقديم والتأخير .
... مثاله ما احتج به الجمهور على أن العود في الظهار شرط في وجوب الكفارة (1) بقوله تعالى : (( والذين يُظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحريرُ رقبة من قبل أن يتماسّا )) ، فيقول المخالفون الذين يرون رأي مجاهد وطاوس إن في الآية تقديماً وتأخيراً وتقديرها (( والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا ثم يعودون لما قالوا )) أي من حرم زوجته بالظهار فعليه الكفارة أولاً ثم يعود إلى وطئها سالماً من الإثم وذلك أن الظهار في ذاته منكر من القول وزور فكان مجرد التلفظ به موجباً للكفارة ، فيجيب الجمهور بأن الأصل في الكلام بقاؤه على ترتيبه الذي جاء عليه والتقديم والتأخير خلاف الأصل .
... السبب السابع : الإطلاق ويقابله التقييد .
... فاللفظ إذا كان شائعاً في جنسه يقال له مُطْلَق (2) والأصل فيه بقاؤه على إطلاقه ، ومثاله احتجاج الحنفية على إجزاء الرقبة الكافرة في كفارة
ــــــــــــــ(1/51)
1- العود عند مالك كما قال في الموطأ أن ُيجمع بعد الظهار على إمساكها وإصابتها أي أن يعزم على إمساكها ووطئها معاً على ما فهمه ابن رشد من قوله أو على أحدهما على ما فهمه الباجي ، وعند أبي حنيفة وأحمد وأصحاب مالك بروايتهم عنه أن يعزم على وطئها وهي المرجحة في المذهب ، وعند الشافعي أن يمسكها بعد الظهار وهو قادر على طلاقها ، وتأول الجميع معنى اللام في الآية بمعنى (في) ، وتمسك أبو داود وأصحابه وابن حزم بظاهر اللفظ فقالوا لا يكون العود إلا بتكرار لفظ الظهار فإن لم يكرر فلا عود ولا كفارة .
2- سيأتي بيان تقييد المطلق عند الكلام على المؤول .
اليمين بقوله تعالى : (( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تُطعمون أهليكم أو كسوُتهم أو تحريرُ رقبة )) وفي كفارة الظهار بقوله تعالى : (( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة )) ، فيقول فقهاؤنا المراد بالرقبة في الآيتين الرقبة المؤمنة كما ُصرح بها في كفارة قتل الخطأ (1) ، فيجيب الحنفية بأن هذا تقييد للفظ المطلق والأصل بقاؤه على إطلاقه ، فنقول لهم إننا نسلم بأن بقاء اللفظ المطلق على إطلاقه هو الأصل ولكن لما كانت الكفارة في الآيتين قربة واجبة لم نر الكافر محلاً لها كالزكاة (2) .
... السبب الثامن : العموم وهو شمول اللفظ كل? ما يصلح له ويقابله الخصوص وهو اقتصار اللفظ على بعض ما يصلح له (3) .
... والعموم في اللفظ إما أن يكون من جهة اللغة ، وإما أن يكون من جهة العرف ، وإما أن يكون من جهة العقل .
... فالعموم اللغوي هو العموم الذي دل عليه اللفظ من الجهة اللغوية ، واللفظ الدال على العموم من هذه الجهة إما أن يكون عمومه من نفسه وإما أن يكون من لفظ آخر يدل على العموم فيه .
ــــــــــــــ
1- إذ قال تعالى : (( ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة )) .(1/52)
2- يقوي ما ذهبنا إليه أن الأحاديث المرغّبة في العتق مصرح في أكثرها بالرقبة المسلمة منها قوله صلى الله عليه وسلم : (( من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار )) متفق عليه ، وقوله : (( أيما امرىء مسلم أعتق امرأ مسلماً كان َفكاكه من النار ُيجزى كلّ عضو منه عضواً منه )) أخرجه الترمذي وصححه ، وقوله : أيما رجل مسلم أعتق رجلاً مسلماً فإن الله تعالى (( جاعل وقاء كل عظم من عظامه عظماً من عظام محرره من النار ... )) أخرجه أبو داود وابن حبان . وهذا العتق المرغب فيه قربة غير واجبة فبالأولى إذا كان قربة واجبة . قال مالك في الموطأ : أما الرقاب الواجبة التي ذكرها الله في الكتاب فإنه لا يعتق فيها إلا رقبة مؤمنة .
3- سيأتي بحث التخصيص عنه الكلام على المؤول .
... فأما اللفظ العام بنفسه فهو ثلاثة أنواع : أسماء الشرط وأسماء الاستفهام والأسماء الموصولة .
... النوع الأول أسماء الشرط وهي تفيد العموم في كل ما تصلح له ، ومن أمثلتها احتجاج الجمهور على أن كل ما فضل من ذوي السهام فهو للعَصَبة بقوله - صلى الله عليه وسلم - (( ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأوْ لى رجل ذكر (1) )) أي لأقرب رجل من العَصَبة ، واحتجاجهم على قتل كل مرتد رجلاً كان أو امرأة بقوله - صلى الله عليه وسلم - (( من بدّل دينه فاقتلوه )) (2) ، واحتجاج بعض فقهائنا تبعاً لابن القاسم على أن الذمي أيضاً يملك الأرض إذا أحياها بقوله - صلى الله عليه وسلم - (( من أحيا أرضاً ميتة فهي له )) (3) لأن الذمي مندرج تحت هذا العموم .(1/53)
... النوع الثاني أسماء الاستفهام وهي أيضاً تفيد العموم في كل ما تصلح له ، ومن أمثلتها احتجاج فقهائنا على حل كل استمتاع بما فوق الإزار من بدن الحائض وحرمة الاستمتاع بما تحته بما رواه مالك عن زيد بن أسلم (( أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ما يحل لي من امرأتي وهي حائض فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشد? عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها )) .
... النوع الثالث الأسماء الموصولة وهي كذلك تفيد العموم في كل ما تصلح له ، ومن أمثلتها احتجاج بعض فقهائنا على حكاية جميع ألفاظ
ــــــــــــــ
1- حديث (( الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأوْ لى رجل ذكر )) رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن ابن عباس .
2- حديث (( من بدل دينه فاقتلوه )) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن ابن عباس ورواه مالك عن زيد بن أسلم بلفظ (( من غير دينه فاضربوا عنقه )) .
3- حديث (( من أحيا أرضاً ميتة فهي به )) رواه أحمد والترمذي وصححه عن جابر ورواه أيضاً أحمد والترمذي وأبو داود عن سعيد بن زيد ورواه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه .
الأذان بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا سمعتم النداء فقولوا مثلَ ما يقول المؤذن )) (1) .
... وأما اللفظ العام بلفظ آخر فإما أن يكون ذلك اللفظ الآخر قبل اللفظ العام أو بعده .
... وأما اللفظ الذي يكون قبله ويفيده العموم فـ( أي ) الشرطية و ( أي ) الاستفهامية و ( لا ) النافية للنكرات و ( كل ) و ( الـ ) الداخلة على غير معهود سواء كان مفرداً أو جمعاً فإنها تفيد العموم فيما تدخل عليه .(1/54)
... مثال ( أي ) الشرطية احتجاج فقهائنا على أن كل امرأة ولو كانت عاقلة بالغة إذا تزوجت بغير إذن وليها فإن زواجها باطل بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحُها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل )) (2) ، واحتجاج بعض فقهائنا على أن جلد الميتة يطهره الدباغ بحديث ابن عباس قال : (( سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول أيما إهاب دُبغ فقد طهر )) (3) .
ــــــــــــــ
1- حديث (( إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن )) رواه مالك وأحمد والشيخان وأصحاب السنن عن أبي سعيد الخدري ، وأخذ ابن حبيب وغيره من فقهائنا بالجمع بين حديث أبي سعيد هذا وبين حديث عمر بن الخطاب الذي رواه مسلم وأبو داود وأخرج البخاري نحوه عن معاوية وفيه أن السامع يقول عند ( حيّ على الصلاة ) وعند ( حيّ على الفلاح ) لا حول ولا قوة إلا بالله .
2- حديث (( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل )) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وابن حبان وصححه عن عائشة .
3- حديث (( أيما إهاب دبغ فقد طهر )) رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه ورواه مالك أيضاً بلفظ (( إذا دبغ الإهاب فقد طهر )) . ولكن أكثر فقهائنا يقولون بعدم طهارته وإن دبغ عملاً بما رواه أحمد وأصحاب السنن عن عبد الله بن ُعكيم قال : (( كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب )) ويعدون حديث ابن عباس منسوخاً أو محمولاً على الطهارة اللغوية ، والقائلون بطهارته الشرعية بالدباغ يقولون إن حديث ابن ُعكيم منقطع ومضطرب ، وحمل ألفاظ الشارع على الحقائق الشرعية أولى من حملها على الحقائق اللغوية – انظر (( نيل الأوطار )) للشوكاني و (( شرح الموطأ )) للباجي .(1/55)
ومثال ( أي ) الاستفهامية احتجاج ابن القاسم على أن عتق الكافر إذا كان أكثر ثمناً أفضلُ من عتق المسلم إذا كان أقل منه في الثمن بما رواه الشيخان عن أبي ذر قال : (( قلت يا رسول الله أي? الأعمال أفضل قال : الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله قلت : أي الرقاب أفضل قال : أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً )) (1) .
... ومثال ( لا ) النافية للنكرات احتجاج فقهائنا على أن المستفاد من غير ربح المال الأصلي لا يُضم إليه ولا تجب فيه الزكاة حتى يحول عليه الحول بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول )) (2) ، وكاحتجاجهم على وجوب تبييت الصيام في صوم التطوع أيضاً بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( من لم ُيجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له )) (3) لأن النكرة المنفية تعم .
... ومثال لفظ ( كل ) احتجاج فقهائنا على تحريم كل الأنبذة المسكرة
ــــــــــــــ
1- قال أصبغ وأكثر أصحاب الإمام المراد بقوله صلى الله عليه وسلم (( أكثرها ثمناً )) أي من بين الرقاب المسلمة . ويؤيد هذا المراد ترغيبه في إعتاق الرقبة المسلمة وعدم مصلحة المسلمين في تفضيل تحرير رقاب كافرة على تحرير رقاب مسلمة .
2- حديث (( لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول )) رواه أبو داود عن علي بسند جيد ورواه ابن ماجه عن عائشة والدارقطني عن أنس .
3- حديث (( من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له )) رواه أحمد وأصحاب السنن عن ابن عمر عن أخته حفصة .
بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( كل مسكر حرام )) (1) و (( كل شراب أسكر فهو حرام )) (2) .
... ومثال ( الـ ) الداخلة على غير معهود احتجاج الشافعية وأكثر فقهائنا على تحريم بيع كلب الصيد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرم ثمن الكلب (3) ولفظ الكلب عام لأنه معرف بـ ( الـ ) التي ليست للعهد فيعم كل أنواعه .(1/56)
... وأما اللفظ الذي يكون بعد اللفظ العام ويفيده العموم فهو المضاف إليه المعرفة فإنه يفيد العموم في المضاف سواء كان المضاف مفرداً أو جمعاً .
... ومثاله في المضاف المفرد احتجاج فقهائنا على أن صلاة الجماعة لا تتفاضل بكثرة عدد المصلين لقوله بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( صلاةُ الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة )) (4) فإن لفظ الجماعة يعم كل جماعة مهما كان عدد أفرادها لذلك فإن صلاة كل جماعة تفضل صلاة كل فذ بهذا العدد ولا يكون ذلك إلا إذا كانت الجماعات كلها في درجة واحدة من الفضل ،
ــــــــــــــ
1- حديث (( كل مسكر حرام )) رواه أحمد والشيخان وغيرهم عن أبي موسى الأشعري ورُوي أيضاً عن غيره من الصحابة كأبي هريرة وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله .
2- حديث (( كل شراب أسكر فهو حرام )) رواه مالك وأحمد والشيخان عن عائشة .
3- قال أبو ُجحيفة : (( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي )) رواه أحمد والشيخان ، وروى مالك وأحمد والشيخان وأصحاب السنن عن أبي مسعود الأنصاري : (( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن )) . ولكن الحنفية وبعض فقهائنا كسحنون أجازوا بيع كلب الصيد والماشية والزرع لما رواه مسلم وغيره من أئمة الحديث عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من اقتنى كلباً إلا كلب زرع أو غنم أو صيد ينقص من أجره كل يوم قيراط )) فأباح بقوله هذا اتخاذ ما استثناه منها وما أبيح اتخاذه جاز بيعه كسائر الحيوان المأذون في اتخاذه للانتفاع به .
4- حديث (( صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة )) رواه أحمد ومالك والشيخان عن عبد الله بن عمر .(1/57)
فيحتج مخالفونا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى )) (1) ، فنجيبهم بأن فضل الأكثر عدداً المنوه به في هذا الحديث محمول على غير جماعات المساجد وقوله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الرجل مع الرجل وصلاته مع الرجلين يشعر بذلك .
... ومثاله في المضاف الجمع احتجاج فقهائنا على أن من دخل في نافلة يرتبط أولها بآخرها كالصلاة والصيام والحج والطواف لا يجوز له قطعها بقوله تعالى : (( ولا تُبطلوا أعمالَكم )) والنافلة عمل فاندرجت تحت هذا العموم ، واحتجاج الإمام الشافعي على وجوب الكفارة في اليمين الغموس بقوله تعالى : (( ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم )) واليمين الغموس مندرجة في عموم الأيمان .
... والعموم العرفي هو عموم اللفظ المحذوف الذي عينه العرف ، ومثاله قوله تعالى : (( ُحرمت عليكم أمهاتكم )) فإنه لما عين العرف ( الاستمتاع ) للمحذوف لزم تعليق التحريم بجميع أنواع الاستمتاع ، ولكن إذا لم يكن عرف في محذوف معيّن فإن من العلماء من يرى العموم في جميع المقدرات ، ومنهم من يرى وجوب قصره على واحد منها يعيّن الحكمَ الأشبه بمراد الشارع أو الأكثرَ انطباقاً على القياس .
... مثال الأول ما احتج به فقهاؤنا على تحريم الانتفاع بشيء من الميتة مطلقاً بقوله تعالى : (( حُر?مت عليكم الميْتة )) فإنه لما تعذر تعليق التحريم بالميتة نفسها وجب التقدير ولما لم يتعين شيء بعينه وجب تقدير
ــــــــــــــ
1- حديث (( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ... )) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبيّ بن كعب .
كل ما يصح تقديره ووجب تعليق التحريم به كله .(1/58)
... ومثال الثاني ما احتج به الشافعية والحنفية على سقوط القضاء عمن أفطر ناسياً في رمضان بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه )) (1) فإن كلاً منها لما لم يرتفع بنفسه ُعلم أن في الكلام حذفاً يجب تقديره لتعيين الحكم والقضاءُ مما يصح تقديره وهو الأشبه بمراد الشارع فكان مرفوعاً عمن أفطر ناسياً ، فيقول المالكية والإثم مما يصح تقديره بل هو الأجدر بالتقدير لأنه هو المجمع على ارتفاعه عن المخطئ والناسي وهو الأقيس لشَبَه ناسي الصوم بناسي الصلاة وبذلك يبقى القضاء واجباً وجوب قضاء الصلاة المنسية على أن تقدير القضاء مع التسليم بارتفاع الإثم يلزم منه التعميم في غير محل الضرورة .
... والعموم العقلي منه عموم الحكم لعموم علته كما في القياس ، ومنه عموم المفعولات التي يقتضيها الفعل المنفي كما إذا قلت ( والله لا آكل ) فإنك تحنث بكل مأكول لأنك لم تصرح بالمفعول فكان عموماً عقلياً إذ الأكل يستدعي بالضرورة مأكولاً مهما كان نوعه ، ولكنك لو صرحت بالمفعول فقل مثلاً ( والله لا آكل لحماً ) ونويت لحم الغنم دون غيره من اللحوم الأخرى
ــــــــــــــ
1- حديث (( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )) أخرجه الطبراني في (( الكبير )) عن ثوبان وهو حديث ضعيف فلا تقوم به حجة على سقوط القضاء عمن أفطر ناسياً وإنما تقوم الحجة بما رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال : (( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما الله أطعمه وسقاه )) ولكن المالكية يحملونه على صوم التطوع لعدم ذكر رمضان فيه ويرد عليهم مخالفوهم بأن ( من ) الشرطية تفيد العموم – فتأمل .
نفعتك نيتك عندنا (1) فلا تحنث بأكل غير ما نويت لأن العموم فيه لغوي لا عقلي .(1/59)
... هذا واعلم أن دلالة العام على أقل الجمع قطعية وعلى كل فرد بخصوصه ظنية لاحتماله الخصوص وإن لم يظهر مخصص . وأقل الجمع مختلف فيه فقيل ثلاثة وقيل اثنان ، وعليه اختلف علماء الصحابة في أقل مدلول لكلمة ( إخوة ) من قوله تعالى : (( فإن كان له إخوة فلأمه السدس )) فقال زيد وعلي وعثمان وابن مسعود : ُتحجب الأم من الثلث إلى السدس بالأخوين فأكثر ، وقال ابن عباس : بل بالثلاثة فأكثر .
... واختلف فقهاؤنا في المقرّ لغيره بدراهم ، فقال الإمام وجمهور أصحابه يلزمه ثلاثة دراهم ، وقال ابن الماجشون يلزمه درهمان فقط بناء على اختلافهم في أقل الجمع .
... المؤوّل
... المؤول هو اللفظ الذي يحتمل معنيين راجحاً في أحدهما بدليل منفصل ، وهو متضح الدلالة في المعنى الذي تؤول فيه لرجحانه فيه ، إلا أن رجحانه لما كان بدليل منفصل لم يكن في اتضاح دلالته كالظاهر الراجح في أحد معنييه من جهة لفظه وضعاً ، ويدخل في هذا البحث سبعة تأويلات :
... التأويل الأول : المجاز – وهو حمل اللفظ على مجازه لا على حقيقته، وقد قدمنا أن الحقيقة لغوية وشرعية وعرفية ويقابل كل حقيقة مجازها.
ــــــــــــــ
1- نية الحالف عندنا تختص العام وتقيد المطلق وتبين المجمل إذا لم يتعلق الِحلف بحق الغير فإن تعلق بحق الغير اعتبرت نية صاحب الحق .(1/60)
... أما المجار اللغوي فمثاله احتجاج فقهائنا على أن من وجد متاعه عند مشتريه المفلس ولم يقبض من ثمنه شيئاً فهو أولى به من سائر الغرماء بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( من أدرك ماله بعينه عند رجل أفلس فهو أحق به من غيره )) (1) ، فيقول الحنفية صاحب المتاع حقيقة في مشتريه الحائز عليه وهو المفلس ومجاز في الذي كان بيده والحقيقة أرجح من المجاز ، فيقول لهم فقهاؤنا لقد دل الدليل هنا على ترجيح المجاز ألا ترون أن جملة ( فهو أحق به من غيره ) هي خبر ( من ) الشرطية الدالة على صاحب المتاع قطعاً ثم الأحاديث الأخرى الواردة في هذه القضية فإنها تدل بصراحة على أن الأحق بالمتاع صاحبه الأول الذي باعه (2) .
... وأما المجاز الشرعي فمثاله احتجاج الحنفية على أن الزنا يوجب حرمة المصاهرة بقوله تعالى : (( ولا تَنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً )) فإن المراد بالنكاح الوطء أي لا تطؤوا من وطِئهن آباؤكم ومن زنا بها الأب فقد وطئها فحرم على ابنه وطؤها ، فيقول فقهاء الشافعية وجمهور فقهائنا إنما المراد بالنكاح العقد لأنه حقيقة شرعية فيه وأما في الوطء فمجاز شرعي والحقيقة الشرعية أرجح من المجاز الشرعي وعليه فالزنا لا يوجب حرمة المصاهرة ، فيقول الحنفية بل المراد بالنكاح في الآية الوطء لقوله تعالى : (( إلا ما قد سلف )) فإن عرب الجاهلية الذين كانوا يخلفون آباءهم في نسائهم إنما كانوا يخلفونهم
ــــــــــــــ
1- حديث (( من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره )) رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن أبي هريرة .
2- منها ما رواه مالك في الموطأ : (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه منه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئاً فوجده بعينه فهو أحق به وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء )) .(1/61)
في الوطء لا في العقد لأنهم لم يكونوا يجددون عليهن عقداً بل كانوا يأخذونهن بالإرث ولقوله تعالى : (( إنه كان فاحشة ومقتاً )) والفاحشة هي الفعل المتناهي في القبح وتطلق على الوطء المحرم لا على العقد الباطل غير المقرون بالوطء ، والمقت أشد? البغض وإذا كان الزنا في ذاته فاحشة كما جاء في قوله تعالى : (( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً )) فإن وطء موطوءة الأب فاحشة ومقت أيضاً لإغراقه في القبح المبغوض أشد البغض .
... وأما المجاز العرفي فمثاله احتجاج فقهائنا على أن الظهار يلزم السيد في أَمَته التي يحل له وطؤها بقوله تعالى : (( والذين يظاهرون من نسائهم )) لأن الأمَة من نسائنا ، فيقول مخالونا من فقهاء المذاهب الثلاثة هذا اللفظ خاص في العرف الشرعي بالزوجات فقد قال تعالى : (( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر )) وقال : (( يا أيها الني قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين ُيدْنين عليهن من جلابيبهن )) والمراد بالنساء في هاتين الآيتين الزوجات بالاتفاق ، فيجيبهم فقهاؤنا بأن التعبير في الآية الظهار بلفظ النساء جارٍ مجرى الغالب ولما كان الظهار في الجاهلية طلاقاً كان خاصاًً بالزوجات ، ثم لما نسخ رجع إلى تحريم الاستمتاع ولما كان الاستمتاع عاماً في الزوجات والإماء شمل حكم الظهار الأمَة فحرم الاستمتاع بها كما حرم بالزوجة قبل التكفير .(1/62)
... التأويل الثاني : التقدير – ومثاله احتجاج الشافعية على جواز مرور الجنب في المسجد للعبور بقوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم ُسكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل )) إذ المراد لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد وأنتم جنب إلا عابري أي مجتازين غير لابثين ولا مترددين ، فيقول لهم المالكية إن هذا فيه تقدير والأصل عدمه وقوله تعالى : (( حتى تعلموا ما تقولون )) يدل على أن المراد لا تفعلوا الصلاة أي لا تصلوا وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا تصلّوا في المسجد أو في غير المسجد ، وإن كنتم لا تزالون بالتيمم جنباً لأن التيمم لا يرفع الجنابة بل يبيح الصلاة ما دام العذر الموجب له قائماً .
... التأويل الثالث : الترادف - ومثاله احتجاج جمهور فقهائنا على تحريم الانتفاع بجلد الميتة وإن دبغ بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عَصَب )) (1) ، فيقول المخالفون من فقهائنا : الإهاب اسم خاص بالجلد غير المدبوغ كما قال أهل اللغة ولم يوضع للجلد غير المدبوغ اسم يخصه غير الإهاب فإن جعلناه مرادفاً للجلد مطلقاً لزم منه مخالفة أصل الوضع ، فيجيبهم الجمهور بأن الخليل بن أحمد قال : الإهاب الجلد ، ولم يقيده بأنه غير مدبوغ وهو أعرف باللغة وأقرب إلى أهلها الأوَل .(1/63)
... التأويل الرابع : التأكيد - ومثاله احتجاج فقهائنا على وجوب مسح كل الرأس في الوضوء بقوله تعالى : (( وامسحوا برؤوسكم )) أي امسحوا رؤوسكم والباء زائدة لتأكيد المسح كتأكيدها لمسح الوجه في التيمم ، فيقول الشافعية الباء هنا للتبعيض لا للتأكيد لأن التأكيد خلاف الأصل لعدم توقف المعنى عليه وأما التبعيض فلا يفهم إلا بما يدل عليه كالباء في (( وامسحوا برؤوسكم )) ويؤيده مسح النبي - صلى الله عليه وسلم - بناصيته دون سائر شعر رأسه كما جاء في حديث المغيرة ، فيقول لهم فقهاؤنا إن زيادة الباء للتأكيد كثيرة الورود
ــــــــــــــ
1- رواه أحمد وأصحاب السنن عن عبد الله بن ُعكيم قال : (( كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب )) إلا أن فيه انقطاعاً واضطراباً وحديث ابن عباس الذي رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه وقال فيه : (( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أيما إهاب دبغ فقد طهر )) أصح منه – انظر (( نيل الأوطار )) للشوكاني و (( شرح الموطأ )) للباجي تجد فيهما التفصيل والتحقيق .(1/64)
والاستعمال ، قال الله تعالى : (( وهُزي إليك بجِذع النخلة )) أي جذعَ النخلة وقال : (( ومَن يردْ فيه بإلحاد بظلم )) أي إلحاداً وقال في الآية التيمم : (( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم )) أي وجوهَكم وأيدَيكم ، وإنكم تتفقون معنا على وجوب مسح الوجه كله في التيمم ولا توافقوننا على وجوب مسح الرأس كله في الوضوء ! ويؤيد ما ذهبنا إليه أن كل الذين وصفوا وضوءه - صلى الله عليه وسلم - قالوا إنه مسح الرأس كله وأما مسحُه بناصيته الذي جاء في حديث المغيرة فإنه حجة لنا لا لكم إذ قال المغيرة : (( توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمسح بناصيته وعلى العمامة )) (1) فكان مسحه على العمامة بعد مسح ما أدرك من رأسه إكمالاً لمسح الرأس كله ولو كان مسح ما أدرك من رأسه مجزئاً لما أكمله بالمسح على العمامة (2) التي كانت حائلاً بينه وبين باقي الرأس فأجراها مجرى العصابة بنقل فرض المسح إليها (3) .
... التأويل الخامس : التقديم والتأخير - ومثاله تأويل الحنفية قوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن سَمُرة : (( إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير )) (4) بأن فيه تقديماً وتأخيراً أن
ــــــــــــــ
1- حديث المغيرة أخرجه مسلم في صحيحه والترمذي في جامعه .
2- قال ابن القيم : لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة ولكن كان إذا مسح بناصيته أكمل على العمامة .
3- يغلب على الظن أن مسحه صلى الله عليه وسلم على عمامته كان لعذر اضطره إلى عدم نزعها ويقوي هذا الظن ما رواه أحمد وأبو داود عن ثوبان قال : (( بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه ما أصابهم من البرد فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين )) أي على العمائم والخفاف حتى لا يؤذيهم البرد .(1/65)
4- حديث (( إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير )) رواه أحمد والشيخان ورووه أيضاً بلفظ : (( إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك )) .
التكفير رافع للحنث فلا يجزئ إلا بعد وقوعه ، فيقول فقهاؤنا وغيرهم ممن احتجوا بهذا الحديث على جواز التكفير قبل الحنث إن الأصل عدم التقديم والتأخير وبقاء الترتيب على حاله وإذا كان التكفير بعد الحنث رافعاً له فإنه قبل الحنث مانع له ويحصل به مقصود الشارع ، فيجيب الحنفية بأن إبقاء الحديث على ترتيبه يلزم عنه وجوب تقديم الكفارة على الحنث بدلالة ( ثم ) التي وردت في روايتي النسائي وأبي داود هكذا : (( إذا حلفت على يمين فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير )) ولا قائل بوجوب تقديمها ، فيقول لهم فقهاؤنا لم ترد ( ثم ) إلا في بعض الروايات ووردت الواو في أكثرها وهي لا تفيد ترتيباً ولا تعقيباً وفي بعض روايات الواو جاء الأمر بالتكفير قبل الأمر بإتيان الذي هو خير وفي بعضها بالعكس ولذلك رأينا التكفير جائزاً قبل الحنث وبعده وإن كان بعده أولى ليقع الحق بعد موجبه .
... التأويل السادس : تقييد المطلق - اعلم أن صورة التقييد إما أن تتحد مع صورة الإطلاق في السبب والحكم معاً ، وإما أن تتحد معها في الحكم وتختلف عنها في السبب ، وإما أن تتحد معها في السبب وتختلف عنها في الحكم ، وإما أن تختلف الصورتان في السبب وفي الحكم كليهما .
... فإن اتحدت صورة التقييد مع صورة الإطلاق في السبب وفي الحكم حمل المطلق على المقيد بلا خلاف كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا نكاح إلا بولي وشاهدين )) (1) وقوله : (( لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل )) (2) فوجب
ــــــــــــــ
1- حديث (( لا نكاح إلا بولي وشاهدين )) أخرجه الطبراني عن أبي موسى الأشعري ورمز السيوطي في جامعه الصغير لحسنه .(1/66)
2- حديث (( لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدل )) أخرجه البيهقي عن عمران بن حصين وعن عائشة وقال الذهبي في (( المهذب )) : إسناده صحيح ، وأخرجه الدارقطني عن ابن عباس وقال : رجاله ثقات .
تقييد الشهود هنا بالعدالة لأن السبب وهو ثبوت النكاح واحد في الصورتين
ولأن الحكم وهو وجوب الإشهاد فيه واحد أيضاً في الصورتين ، وإنما لم يشترط الإمام أبو حنيفة عدالة الشاهدين في عقد النكاح لأن الحديث الثاني الذي يقيد الشاهدين بالعدالة لم يثبت عنده لذلك بقي على رأيه في أن المقصود بالإشهاد في العقد إعلانه وهو لا يتوقف على عدالة شهوده .
... وإذا كان اللفظ المطلق من القرآن واللفظ المقيّد من أخبار الآحاد فإنه يتقيد به عندنا ولا يتقيد به عند أبي حنيفة لأنه يرى اللفظ الثابت بخبر الآحاد زيادة على اللفظ القرآني الثابت بالتواتر ويرى الزيادة عليه نسخاً له ونسخ القرآن لا يجوز بخبر الآحاد ، ونحن لا نرى أخبار الآحاد زيادة على الألفاظ القرآنية بل بياناً لها ومثاله تقييد قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ... وتحريمها التكبير ... )) (1) لقوله تعالى : (( وذكرَ اسمَ ربه فصلى )) فإن اللفظ القرآني يقتضي بإطلاقه صحة الدخول في الصلاة بأي ذِكْر لله وقد أخذ به الإمام أبو حنيفة ، والخبر يقيد مطلق الذِكْر بالتكبير وبه أخذ الأئمة الثلاثة .
... وإن اتحدت صورة التقييد مع صورة الإطلاق في الحكم واختلفت عنها في السبب حمل المطْلق على المقيد عندنا ومثاله احتجاجنا بقوله تعالى في كفارة القتل الخطأ : (( ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة )) على اعتبار الإيمان في كفارتي الظهار واليمين فإن الكفارة في آية القتل مقيدة فحملنا عليها كفارتي الظهار واليمين المطْلقتين ، فيقول مخالفونا وهم الحنفية لا يجب أن ــــــــــــــ(1/67)
1- قال صلى الله عليه وسلم : (( مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم )) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن علي ، وقال الترمذي : هو أصح شيء في هذا الباب وأحسنه ، وقال الشركاني في (( نيل الأوطار )) بعد أن ذكر طرقه الكثيرة وما قيل فيها : وهذه الطرق يقوي بعضها بعضاً فيصلح الحديث للاحتجاج به .
تحمل كفارتا الظهار واليمين على كفارة القتل لاختلاف السبب وإن اتحد الحكم ، فنقول لهم إن الجميع كفارة وتحرير رقبة العبد صدقة عليه ومن شرط القابض للصدقات الواجبة الإيمان كالزكاة فإنه لا تجزئ إلا بدفعها لمؤمن وهذه هي علة اعتبار الإيمان في كفارة القتل وهي بعينها موجودة في كفارتي الظهار واليمين فوجب اعتبار الإيمان فيهما .
... وإن أتحدث صورة التقييد مع صورة الإطلاق في السبب واختلفت عنها في الحكم لا يحمل المطلق على المقيد عند الجمهور ، ومثاله قوله تعالى في كفارة اليمين : (( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة )) فقيّد الإطعام بالأوسط وأطلق الكسوة فلم يقيدها ، ولما كان حكم الكسوة المطْلقة غير حكم الإطعام المقيد أبقاها الجمهور على إطلاقها فلم يقولوا بوجوبها من أوسط كسوة الأهل (1) .
... وإن اختلفت صورة التقييد وصورة الإطلاق معاً فلا يحمل المطلق على القيد اتفاقاً ، ومثاله قوله تعالى : (( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما )) وقوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديَكم إلى المرافق )) فإن الأيدي في الآية الأولى مطْلقة وفي الآية الثانية مقيدة ولما كان سبب ذكر الأيدي المطلقة مختلفاً عن سبب ذكر الأيدي المقيدة وكان الحكم المحكوم به على الأولى مختلفاً عن الحكم المحكوم به على الثانية امتنع حمل المطلقة على المقيدة ووجب إبقاء الأولى على إطلاقها والثانية على تقييدها بلا خلاف .
ــــــــــــــ(1/68)
1- ذهب الإمامان مالك وأحمد إلى أن الواجب المجزئ من الكسوة للرجل ثوب يستر بدنه وللمرأة درع سابغ وخمار . وذهب الإمامان أبو حنيفة والشافعي إلى أن الواجب المجزئ منها أقل ما ينطلق عليه اسم الكسوة كقميص أو رداء ساترين مع إضافة خمار للمرأة .
... التأويل السابع : التخصيص – أي قصر اللفظ على بعض ما يصلح له ، وهو إما أن يكون مخصص متصل أو بمخصص منفصل .
... وأما التخصيص بالمتصل فيكون بالاستثناء ويكون بغيره كالشرط والغاية والصفة مما يذكر في مفهوم المخالفة .
... والتخصيص بالاستثناء تتعلق به مسألتان رئيستان :
... المسألة الأولى : اختلافهم في مقتضى الاستثناء ، فقال الإمام الشافعي وأكثر فقهائنا إنه يقتضي نقيض حكم صدر الجملة في المستثنى أي نفي حكم الصدر المستثنى منه عن المستثنى فإذا قال قائل مثلاً ( عندي عشرة إلا ثلاثة ) فإن العشرة مقصودة كلها ابتداء ثم أُخرج منها المستثنى بمعارضة الاستثناء الذي اقتضى نفي حكم الصدر عن المستثنى ، وقال الحنفية وبعض فقهائنا إن الاستثناء كتكلم بالباقي من المستثنى منه وسكوت عن حكم المستثنى فإذا قال القائل ( عندي عشرة إلا ثلاثة ) فكأنه قال عندي سبعة وسكت عن الثلاثة ، وعلى ذلك اختلف فقهاؤنا فيمن قال لزوجته ( أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً إلا واحدة ) فعلى الأول وهو مشهور المذهب تقع عليه طلقتان لأنه لما قال إلا ثلاثاً صار ذلك كالمعارض للصدر المستثنى منه ولما استغرقه بطل لبطلان الاستثناء المستغرِق فوجب أن ُيلغى ويردّ الاستثناء الآخر إلى الصدر الأول فكأنه قال أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة فوقعت عليه طلقتان ، وعلى الثاني تقع عليه طلقة واحدة فقط لأنه لما قال في المستثنى ثلاثاً إلا واحدة فكأنه تكلم باثنتين فقال أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين فوقعت عليه واحدة وممن قالوا بهذا ابن الحاجب وابن عرفة .
... المسألة الثانية : إذا جاء الاستثناء بعد جمل معطوفة بالواو فإنه(1/69)
يقتصر على الجملة الأخيرة اتفاقاً وفي شموله ما قبلها خلاف (1) ، وعلى ذلك اختلفوا في قبول شهادة المحدود في القذف بعد التوبة : فالجمهور يقبلونها والحنفية لا يقبلونها . وسبب الخلاف توجيه الاستثناء في قوله تعالى : (( ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا )) فالجمهور يوجهونه على الجملتين والحنفية يقصرونه على الأخيرة منهما ويبقى قوله تعالى : (( ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً )) على عمومه . والأشبه بالحق في هذه الآية توجيهه على الجملتين كلتيهما لأن رد? الشهادة من علة الفسق فإذا زال الفسق بالتوبة زال رد? الشهادة (2) .
... وأما التخصيص بالمنفصل فأهم أنواعه تخصيص عموم الكتاب بالكتاب كتخصيص قوله تعالى : (( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ))
قوله تعالى : (( والذين ُيتوفّوْن منكم ويذرون أزواجاً يتربصْنَ بأنفسهن أربعةَ أشهر وعشْراً )) الشاملين لأولات الأحمال بقوله تعالى : (( وأولاتُ الأحمال أجلهن أن يضعْنَ حملَهن )) ، وتخصيص عموم السنة بالسنة كتخصيص قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثَرياً العشر (3) بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ليس فيما دون خمسة أوسُق
ــــــــــــــ
1- بعد أن ذكر الغزالي قول القائلين بالشمول والقائلين بالاقتصار وحججهم رجّح الاحتمال والتوقف إلى أن يقوم دليل وقال : والذي يدل على أن التوقف أولى أنه ورد في القرآن الأقسام كلها من الشمول والاقتصار على الأخير والرجوع إلى بعض الجمل السابقة – انظر فصل تعقب الجمل بالاستثناء في (( المستصفى )) .
2- اطّلعْ على أقوال العلماء في تأويل هذه الآية في (( تفسير القرطبي )) و (( أحكام القرآن )) لابن العربي .(1/70)
3- حديث (( فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر )) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن عبد الله بن عمر جاء في بعض رواياته ( بعلاً ) بدل ( عثرياً ) والعثري هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي .
صدقة )) (1) ، وتخصيص عموم السنة بالكتاب كتخصيص قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ما ُقطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة )) (2) قوله تعالى : (( ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين )) ، وتخصيص عموم الكتاب بالسنة وإن لم تكن متواترة عند الجمهور خلافاً للذين يشترطون في تخصيصه بغير المتواترة أن يكون مخصصاً بشيء آخر حتى تضعف دلالته على العموم فيجوز حينئذ تخصيصه بخبر الواحد ومثاله احتجاج فقهائنا على حل? ميتة البحر بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( هو الطّهور ماؤه الحِل? مَيْتته )) (3) ، فيقول الحنفية هذا معارَض بقوله تعالى : (( ُحرمت عليكم الميتة )) ولما لم يخصّص بشيء آخر لم يجز تخصيصه بهذا الخبر ، فيجيبهم فقهاؤنا بأن خبر الواحد يخصص عموم القرآن لأن عمومه ظاهر في أفراده وليس بنص فيها فتخصيصه به جمع بين الدليلين .
... هذا ويجوز تخصيص العموم بالمفهوم عند القائلين به ، ومثاله احتجاج فقهائنا على أن الحُرّ القادر على التزوج بحرة مؤمنة لا يحل له أن يتزوج أمَة بقوله تعالى : (( ومن لم يستطع منكم َطوْلاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات )) فإن مفهومه يقتضي تحريم نكاح الإماء على واجدي الطّوْل أي القدرة على نكاح الحرائر ، فيقول مخالفوهم ــــــــــــــ
1- حديث (( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة )) رواه مالك وأحمد والشيخان وأصحاب السنن عن أبي سعيد الخدري .
2- حديث (( ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة )) رواه أحمد وأبو داود ولترمذي عن أبي واقد الليثي وابن ماجه والطبراني عن ابن عمر والحاكم عن أبي سعيد الخدري .(1/71)
3- روى مالك وأحمد وأصحاب السنن عن أبي هريرة قال : (( جاء رجل إلى رسول الله صلىالله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ من ماء البحر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته )) .
هذا معارَض بقوله تعالى : (( فانكحوا ما طاب لكم من النساء )) ، فيجيبهم فقهاؤنا بأننا نقول بتخصيص العموم بالمفهوم لما فيه من الجمع بين الدليلين وبأن معنى قوله تعالى : (( فانكحوا ما طاب لكم من النساء )) تزوجوا ما حل? لكم منهن ولا نرى كلمة النساء هنا تشمل الأمَة لواجد الطول لأن الأمَة خرجت منهن بمفهوم الآية الأولى .
... ثم إن العام إذا ورد على سبب خاص فإنه لا ُيقصَر عليه بل ُيعطي للسبب ما يخصه ويبقى العموم على عمومه فيما عداه ، ومثاله احتجاج الشافعية على وجوب الترتيب بين الأعضاء الأربعة في الوضوء بقوله صلى الله عليه وسلم : (( نبدأ بما بدأ الله به )) (1) و ( ما ) من ألفاظ العموم لأنها من الأسماء الموصولة فاندرج الوضوء فيها لذلك وجب الابتداء بغسل الوجه فاليدين إلى آخر الأعضاء الأربعة على الترتيب الذي جاء في قوله تعالى : (( يا أَيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين )) فيقول الحنفية أن قوله صلى الله عليه وسلم : (( نبدأ بما بدأ الله به )) وبدأ بالصفا والعام? إذا ورد على سبب خاص لا ُيقتصَرُ على سببه بل ُيحمل على عمومه لأن المقتضي للعموم قائم والسبب لا يجب أن يكون مانعاً له فيعطي للسبب ما يخصه ويبقى حكم
ــــــــــــــ
1- حديث (( نبدأ بما بدأ الله به )) رواه مالك وأحمد وأصحاب السنن هكذا بنون المضارعة ، ورواه مسلم (( أبدأُ )) بهمزة المضارعة ، ورواه النسائي أيضاً (( فابدؤوا )) بصيغة الأمر وكلهم عن جابر بن عبد الله .
العموم جارياً على سائر أفراد العام (1) .(1/72)
... دلالة القول بمفهومه على الحكم
... اعلم أن المراد بالمفهوم هنا ما فهم من القول في غير محل النطق بل فيما وراء ذلك من فحواه ولحنه والمقصود منه . والقول الدال بمفهومه على الحكم إما أن تكون دلالته عليه بمفهوم الموافقة وإما أن تكون بمفهوم المخالفة .
... فمفهوم الموافقة هو ما يفهم منه أن المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به ويسمى ( فحوى الخطاب ) أو أنه مساوٍ له ويسمى ( لحن الخطاب ) .
... مثال الأول قوله تعالى في وجوب إحسان معاملة الوالدين : (( فلا تقل لهما أُفّ ٍ ولا تنهرهما )) فإنه لما حرّم التأفف منهما ونهرهما كان تحريم ضربهما أولى ، وقوله تعالى : (( فمن يعملْ مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره )) فإنه يفهم منه أن من يعمل أكثر من مثقال ذرة يراه بالأولى ، وقوله تعالى : (( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤد?ه إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً )) فإنه يفهم منه أن من لا يؤدي الدينار إذا اؤتمن عليه لا يؤدي الأكثر منه بالأولى .
ــــــــــــــ
1- الاصوليون من المالكية أيضاً يقولون بهذا إلا أن المعول عليه عند جمهور فقهاء المذهب أن الترتيب في غسل أعضاء الوضوء الأربعة ليس بواجب بل هو سنة ويرون أن واو العطف كما يعطف بها الأشياء المرتب بعضها على بعض يعطف بها أيضاً الأشياء غير المرتبة وأن الأعضاء الأربعة في الوضوء كأعضاء الجسد كله في الغسل من الجنابة أمر الله تعالى بغسلها وسنّ رسوله صلى الله عليه وسلم بفعله الترتيب بينها .
ومثال الثاني قوله تعالى في تحريم أكل أموال اليتامى ظلماً : (( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً )) فإنه يفهم منه أيضاً تحريم إتلافها وهو مساوٍ لتحريم أكلها ظلماً لمساواة إتلافها لأكلها في إضاعتها على أصحابها .(1/73)
... ثم اعلم أن مفهوم الموافقة ، منه الجلي كما مثلنا له ، ومنه الخفي الذي للنظر والاحتمال فيه مجال فتعرضت مسائله للخلاف ، ومن أمثلته قول الجمهور بوجوب قضاء الصلاة المكتوبة على من تركها متعمداً بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله عز وجل يقول أقم الصلوات لذِكْري )) (1) ولما وجب قضاؤها على الراقد والغافل وهما غير مخاطبين بها وقتئذ كان وجوب قضائها على متعمد تفويتها بالأولى ، فيقول المخالفون وهم ابن حبيب من فقهائنا وأبو داود وابن حزم الظاهريان لا يلزم من وجوب قضائها على الراقد والغافل وجوبه على المتعمد لأن القضاء جبر وفوائت المتعمد أعظم من أن تجبر (2) .
... ومنها إيجاب الشافعية الكفارة في اليمين الغموس (3) بقوله تعالى :
ــــــــــــــ
1- حديث (( إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها ... )) رواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك ، ورواه عنه أيضاً بلفظ (( من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها )) .
2- ولأنهم يرونها كسائر العبادات الموقوفة لا يجب قضاؤها بعد فوات وقتها إلا بأمر جديد – راجع المسألة السابعة من مسائل الأمر .
3- قيد الشافعية وجوب الكفارة في اليمين الغموس بالتي لم يقتطع بها حق الغير وأما التي يقتطع بها حق الغير فلا كفارة لها لقوله عيه الصلاة والسلام (( من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان )) وقوله (( من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار )) ولأنها جمعت الحنث والظلم فلا ترفعهما الكفارة معاً ولا ترفع الحنث دون الظلم لأن رفع الحنث بالكفارة إنما هو من باب التوبة والتوبة لا تتبعض في الذنب الواحد .
(((1/74)
لايؤاخِذُكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان فكفّارتُه إطعام عشرة مساكين )) فقالوا أن اليمين الغموس من الأيمان المعقودة وإذا كانت الكفارة واجبة على الحانث غير الآثم فوجوبها على الحانث الآثم أولى وآكد ، ولكن فقهاء المذاهب الثلاثة الأخرى لا يرون في اليمين الغموس كفارة لورود أحاديث التكفير في الأيمان المعقودة على المستقبل لا على الماضي ويرونها أي الأحاديث مبينة للمراد من الآية .
... ومفهوم المخالفة هو ما يفهم منه أن حكم المسكوت عنه مخالف لحكم المنطوق به ويُسمّى أيضاً ( دليل الخطاب ) وقد اختلفت فيه آراء العلماء : فقال به الأئمة مالك والشافعي وأحمد وأكثر علماء مذاهبهم ولم يقل به الإمام أبو حنيفة وأكثر علماء مذهبه ، ومثاله قوله - صلى الله عليه وسلم - (( مَطْل الغني ظلم )) (1) فإن مفهومه مطل غير الغني ليس ظلماً والله تعالى يقول : (( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة )) . ومن شروطه عند القائلين به :
... أن لا يكون المنطوق به مذكوراً على وفق الغالب كقوله تعالى : (( وربائبُكم اللائي في حجوركم )) فإن مفهومه أن الربيبة التي ليست في حجر زوج أمها بأن كانت في بلد آخر مثلاً وفارق الزوج أمها بعد الدخول فله أن يتزوج بها على ما ذهب إليه الظاهرية ، فنقول لهم إنما ذكر هذا القيد وفاقاً لغالب ما يكن? عليه لا شرطاً في تحريمهن وبهذا سقط المفهوم وبقي التحريم على إطلاقه في المدخول بأمهاتهن سواء كنّ في الحجور أم لم يكن? فيها ، وكقوله تعالى : (( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصّناً )) فإن مفهومه إباحة إكراههن عليه إن لم يردن تحصناً ولكن لما جاء هذا القيد وفاقاً
ــــــــــــــ
1- حديث (( مطل الغني ظلم )) رواه مالك وأحمد والشيخان وأصحاب السنن عن أبي هريرة .(1/75)
للغالب سقط المفهوم لأن من لم ترد التحصن من الفتيات أي الإماء فمن شأنها أن لا تحتاج إلى إكراه إذ لا يتصور فيها الإكراه على الزنا وهي تريده .
... وأن لا يأتي جواباً عن سؤال معين كقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( صلاة الليل مثنى مثنى )) فإن هذا الحديث كان جواباً عن سؤال السائل عن صلاة الليل فقد جاء عن ابن عمر : (( أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الليل مثنى مثنى فإن خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى )) (1) ولما كان الحديث خاصاً بصلاة الليل المعينة في السؤال لم يكن له مفهوم في صلاة النهار .
... وأن لا يكون قصد الشارع تعظيم شأن الحكم والتنويه بحميد فعله كما في قوله تعالى : (( ومتعوهن? على الموسِع قدْرُه وعلى المقتر قدْرُه متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين )) وقوله تعالى : (( وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين )) فإن ُمتعة المطلقات وإن كانت حقاً على المتصفين بالإحسان والتقوى فلا يفهم منه أنها ليست حقاً على غيرهم إذ حكمها يعم جميع المؤمنين وما قصد الشارع من تسميتها حقاً على المحسنين وعلى المتقين إلا تعظيم شأنها والتنويه بحميد فعلها لا سقوطها عن غيرهم .
... وأن لا يكون الشارع بذكره عدداً محدوداً أراد القياس عليه لا المخالفة بينه وبين غيره كأمره - صلى الله عليه وسلم - (( بقتل خمس فواسق في الحل والحرم : الغُراب والحِدَأة والعقرب والفأرة والكلب العقور )) (2) فإن مفهوم هذا العدد أن لا يقل ما سواهن ولكن الشارع إنما ذكرهن لننظر إلى إيذائهن فنلحق بهن ما في
ــــــــــــــ
1- حديث ابن عمر هذا رواه مالك وأحمد والشيخان وأصحاب السنن .
2- حديث أمره صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل والحرام رواه أحمد والشيخان
عن عائشة .(1/76)
معناهن كالحية والرتيلاء والسباع العادية والحشرات المؤذية ، ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( اجتنبوا السبع الموبقات : الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات )) (1) فإنه لم يقصد حصر الكبائر فيهن وإنما ذكرهن لنلحق بهن ما في معناهن من المعاصي المهلكات .
... هذا وأهم مفاهيم المخالفة مفهوم الصفة ومفهوم الشرط ومفهوم الغاية ومفهوم العدد .
... مثال مفهوم الصفة احتجاج فقهائنا على أن ثمر النخل التي لم ُتؤبّر للمبتاع أي للمشتري بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( من باع نخلاً قد أُبّرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع )) (2) فإن مفهوم هذه الصفة أن النخل المبيعة إن لم تكن قد أُبّرت فثمرتها للمشتري ، واحتجاجهم أيضاً على أن البكر تجبر على النكاح بعد البلوغ قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( الثيب أحق بنفسها من وليّها )) (3) فإن مفهومه أن غير الثيب ليست أحق بنفسها فيكون وليّها أحق منها بها وإذا كان كذلك فله إجبارها .
ــــــــــــــ
1- حديث (( اجتنبوا السبع الموبقات )) رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة .
2- حديث (( من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع )) رواه مالك في موطئه عن ابن عمر . يطلق العامة على تأبير النخل ( تدكيره ) .(1/77)
3- رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن ابن عباس قال : (( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها )) ، فيقول المخالفون وهم الحنفية أن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه (( والبكر تستأذن في نفسها )) يوجب بعمومه استئذان كل بكر والعموم أقوى من المفهوم وإن ما جاء في رواية لمسلم وأبي داود والنسائي (( والبكر يستأمرها أبوها )) وما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن ابن عباس (( أن جارية بكراً أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه =
... ومثال مفهوم الشرط ما تقدم من احتجاج فقهائنا على أن الحر القادر على التزوج بحرة مؤمنة لا يحل له أن يتزوج أَمَة بقوله تعالى : (( ومن لم يستطع منكم َطوْلاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات )) فإن مفهوم هذا الشرط يقتضي تحريم نكاح الإماء على واجدي الطّوْل أي القدرة على نكاح الحرائر .
... ومثال مفهوم الغاية احتجاج فقهائنا على أن الغسل يجزئ عن الوضوء بقوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا )) فإن مفهومه إن اغتسلتم فلكم أن تقربوا الصلاة .
... ومثال مفهوم العدد احتجاج الشافعية على أن النجاسة إذا أصابت ما دون القلتين من الماء نجّسته قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث )) (1) فإن مفهومه ما دون القلتين يحمل الخبث .
ــــــــــــــ(1/78)
= وسلم )) نص في وجوب استئمار الأب ابنته البكر عند تزويجها وفي منعه من إكراهها ، فيجيب فقهاؤنا بأن العمل في المدينة كان يجري على حق الآباء في إجباربناتهم الأبكار فقد قال مالك في الموطأ : (( بلغني أن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار كانوا يقولون في البكر يزوجها أبوها بغير إذنها إن ذلك لازم لها وأن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله كانا ُينكحان بناتهما الأبكار ولا يستأمرانهن وذلك الأمر عندنا في نكاح الأبكار )) وعليه ُيحمل استئذان الأب ابنته أو استئمارها على الاستحباب ويحمل تخيير البكر التي زوجها أبوها وهي كارهة على ضرر أصابها من ذلك الزواج اقتضى تخييرها .
1- حديث (( إذا كان الماء ُقلتين لم يحمل الخبث )) أخرجه الشافعي وأحمد وأصحاب السنن عن عبد الله بن عمر ولكن ابن عبد البر قال في الاستذكار : حديث معلول رده اسماعيل القاضي وتكلم فيه وقال في التمهيد : ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين ضعيف من جهة النظر غير ثابت من جهة الأثر لأنه حديث تكلم فيه جماعة من أهل العلم ولأن القلتين لم يوقف على مبلغهما في أثر ثابت ، وقال الطحاوي : إنا لم نقل به لأن مقدار القلتين لم يثبت – انظر شرح هذا الحديث في (( نيل الأوطار )) .
... القسم الثاني من أقسام المتن وهو الفعل
... بعد أن فرغنا من الكلام على القسم الأول من أقسام المتن وهو القول ننتقل إلى الكلام على القسم الثاني وهو الفعل ونعني به فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو إما واجب أو مندوب أو مباح .
... فإن كان بياناً لما ثبتت مشروعيته فإن حكمه يتبع ما هو بيان له وجوباً أو ندباً كفعله في الصلاة والحج إذ أمرنا أن نصلي كما رأيناه يصلي فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) (1) ، وأمرنا أن نأخذ مناسك الحج من أدائه لها فقال : (( خذوا عني مناسككم )) (2) ، وأفعال الصلاة والحج منها الواجب ومنها المندوب .(1/79)
... وإن كان بقصد القربة إلى الله عز وجل فهو مندوب كاعتكافه العشر الأواخر من رمضان (3) لأن ظهور قصد القربة فيه مع عدم وجود دليل على الوجوب يرجح الفعل على الترك وهذا هو معنى الندب .
... وإن لم يكن بقصد القربة بأن كان جبلّياً من الطبيعة البشرية وصفاتها الاختيارية كحبه لبعض الأطعمة وكرهه لبعضها وهيئة مشيه وجلوسه واتكائه
ــــــــــــــ
1- حديث (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) رواه أحمد والبخاري عن مالك بن الحويرث .
2- حديث (( خذوا عني مناسككم )) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر قال : (( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول : لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه )) . قال النووي : لام لتأخذوا هي لام الأمر ومعناه خذوا ، وقال القرطبي : روايتنا لهذا الحديث بلام الجرّ المفتوحة والنون التي هي مع الألف ضمير أي (( ويقول لنا خذوا عني مناسككم ... )) .
3- حديث اعتكافه صلى الله عليه وسلم العشر الأواخر من رمضان رواه أحمد والشيخان عن عائشة وعن ابن عمر .
فهو محمول على الإباحة لأن صدوره منه دليل على الإذن فيه مع عدم وجود دليل على قصد القربة وهذا هو معنى الإباحة .
... وهناك أفعال خاصة به - صلى الله عليه وسلم - لها حكمها الخاص به دون أن يشمل أُمته كقيام الليل فإنه كان واجباً عليه ولم يجب على أُمته ، وكالوصال في الصوم فإنه كان مندوباً له ولم يندب لأمته ، وكالزيادة على أربع زوجات فإنها أبيحت له دون أمته .
... هذا ويُلحق بالفعل في الدلالة التركُ فإنه كما يستدل بفعله على عدم التحريم يستدل بتركه على عدم الوجوب ، ومثاله احتجاج الجمهور على عدم وجوب الوضوء مما مسّت النار بما ثبت (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل من كتف شاة ثم قام فصلى ولم يتوضأ )) (1) .
... القسم الثالث من أقسام المتن وهو التقرير(1/80)
... لا يقر? النبي - صلى الله عليه وسلم - أحداً على معصية لأن التقرير على فعل المعصية معصية والعاصم له من فعل المعصية عاصم له من التقرير عليها . ويشترط في التقرير الذي هو حجة أن يعلم - صلى الله عليه وسلم - بالفعل ، وأن يكون قادراً على إنكاره ، وأن لا يكون قد بيّن حكمه من قبل بياناً ُيسقط عنه وجوب إنكاره . والفعل إما أن يكون قد وقع في حضرته ، وإما أن يكون قد وقع في زمانه وإن لم يكن في حضرته .
... مثال الفعل الذي وقع في حضرته ما احتج به الشافعية على قضاء فوائت النوافل في الأوقات المنهي عن التنفل فيها بما روى (( أن رسول
ــــــــــــــ
1- رواه الشيخان عن ميمونة وابن عباس وعمرو بن أمية الضمري ، وروى أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان عن جابر قال : (( كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار )) .
الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين فقال : صلاة الصبح ركعتان ، فقال الرجل : إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما فصليتهما الآن فسكت )) (1) .
... ومثال الفعل الذي وقع في زمانه ما احتج به الشافعية على جواز إقتداء المفترَض بالمتنفل بما رواه أحمد والشيخان عن جابر (( أن معاذاً كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عشاء الآخرة ثم رجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة )) ورواه الشافعي والدارقطني والبيهقي بزيادة (( هي له تطوع ولهم مكتوبة العشاء )) .
*
ــــــــــــــ(1/81)
1- رواه أبو داود وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي عن يحيي بن سعيد عن أبيه عن جده قيس . وذهب المالكية إلى أن النوافل من حيث هي لا تقضى بعد فوات وقتها إلا ركعتي الفجر وأن قضاءها في الأوقات المنهي عن أدائها فيها أشد كراهة من أدائها فيها . وأما ركعتا الفجر فقد ورد الأمر بقضائهما بعد طلوع الشمس أي عند حل النافلة قال صلى الله عليه وسلم : (( من لم يصل? ركعتي الفجر فليصلهما بعدما تطلع الشمس )) رواه الترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة ، وأما ما ثبت في الصحيح من صلاته صلى الله عليه وسلم في بيته ركعتين بعد العصر قضاء أو أداء فإنه محمول على أنه من خصائصه كمواصلة الصوم والدليل عليه ما رواه أبو داود عن عائشة (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد العصر وينهى عنها ويواصل وينهى عن الوصال )) .
اسْتمرار حكم الدّليل الأصلي النقلي
... يشترط في الدليل الأصلي النقلي بعد ثبوت صحته واتضاح دلالته استمرار حكمه دون أن يعتريه نسخ . والنسخ هو رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر عنه (1) ، ويُعلم بوجوه منها :
... صراحة النبي - صلى الله عليه وسلم - به كقوله : (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكراً )) (2) .
... وصراحة الراوي به أو بما في معناه كقول سلمة بن الأكوع : (( لما نزلت هذه الآية - وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين - كان من أراد أن
يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها )) (1) يعني قوله تعالى :
(( فمن شهد منكم الشهر فليصمه )) ، وكقول أُبيّ بن كعب : (( إنما كان الماءُ
ــــــــــــــ
1- يتعين التأخر بمعرفة وقت نزول الآية أو ورود الحديث بالاستناد إلى السّنة أو الهجرة أو الغزوة أو الفتح أو غير ذلك من الأحداث التاريخية .(1/82)
2- حديث (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها .. )) رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن بريدة .
من الماء رخصةً في أول الإسلام ثم ُنهي عنها )) (2) ، وكقول جابر بن عبد الله : (( كان آخرالأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار)) (3).
... وتأخر إسلام راوي الخبر المعارض لخبر روي قبل إسلامه كحديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه سِتر فقد وجب عليه الوضوء)) (4) المعارض لحديث طَلْق بن علي عنه - صلى الله عليه وسلم - : (( وهل هو إلا بَضعة منك )) (5) فإن إسلام أبي هريرة كان عام خيبر في السنة السابعة من الهجرة وإسلام طَلْق كان عند بناء مسجد المدينة في السنة الأولى منها ، وكخبر أبي محذورة في تثنية تكبير الأذان وتربيع شهادتيه (6) المعارض لخبر عبد الله بن زيد في تربيع التكبير وتثنية الشهادتين (7) فإن أبا محذورة ممن
ــــــــــــــ
1- حديث سلمة بن الأكوع رواه الشيخان وأصحاب السنن .
2- حديث أُبي بن كعب رواه بهذا اللفظ الترمذي وصححه ورواه أيضاً أحمد وأبو داود بلفظ (( إن الفتيا التي كانوا يقولون الماء من الماء رخصة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بها في أول الإسلام ثم أمرنا بالاغتسال بعدها )) .
3- حديث جابر رواه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان .
4- حديث أبي هريرة رواه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه وقال : حديث صحيح سنده عدول نقلته ، وروى مالك والشافعي وأحمد أيضاً وأصحاب السنن عن بسرة بنت صفوان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا مس? أحدكم ذكره فليتوضأ )) وقال البخاري : هو أصح شيء في هذا الباب .(1/83)
5- حديث طَلْق رواه أصحاب السنن وأحمد والدارقطني قال : (( قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل كأنه بدوي فقال : يا رسول الله ما ترى في مسّ الرجل ذكره بعد أن يتوضأ فقال : وهل هو إلا بضعة منك )) أو (( إنما هو بَضعة منك )) كما جاء في بعض الروايات .
6- خبر أبي محذورة من رواية مسلم في صحيحه وسحنون في مدونته .
7- خبر عبد الله بن زيد من رواية أحمد وأبي داود والحاكم .
أسلموا بعد الفتح في السنة الثامنة وعبد الله كان مسلماً من قبل تشريع الأذان.
... وانعقاد الإجماع على خلاف حكم سابق يتضمن النسخ وإن لم يعرف الناسخ ، ومثاله الإجماع على جلد شارب الخمر دون قتله مهما تكرر شربه لها مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد أمر بعد أن يجلد أولاً وثانياً وثالثاً بقتله إذا شرب الرابعة (1) .
... وعمل أهل المدينة ونعني بهم فقهاءها الذين تلقوا فقههم العلمي والعملي من علماء الصحابة الذين كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته يسمعون آخر أقواله ويشاهدون آخر أفعاله فإن اتفاقهم على قول أو عمل عارضه حديث صحيح يتضمن عندنا نسخ حكم ذلك الحديث لأنهم أبصر وأعلم بما استقر الأمر عليه وانتهى إليه .
... هذا والزيادة على النص المطلق إذا لم ترفع حكماً تقدم فيها ليست بنسخ إلا عند الحنفية .
... فقراءة الفاتحة فرض في الصلاة عندنا وعند الشافعية والحنابلة لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب )) (2) وقوله : (( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداج )) (3) ، والطمأنينة أيضاً فرض عندنا في
ــــــــــــــ
1- جاء في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه عن معاوية (( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا شربوا الخمر فاجلدوهم ثم إذا شربوا فاجلدوهم ثم إذا شربوا الرابعة فاقتلوهم )) وقال الترمذي : إنما كان هذا في أول الأمر ثم نسخ بعد .(1/84)
2- حديث (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت .
3- حديث (( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج )) رواه مالك وأحمد ومسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة . خِداج هنا معناها ناقصة ، وخَدَج وخَديجة هي المولود أو المولودة قبل إتمام تسعة أشهر في رحم الوالدة .
جميع أركانها على ما صححه ابن الحاجب (1) وعند الشافعية والحنابلة كذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي لم يحسِن الصلاة : (( إذا قمت للصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم افعل ذلك في الصلاة كلها )) (2) . والطهارتان شرط في صحة الطواف عندنا وعند الشافعية والحنابلة لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( الطواف صلاة فأقلّوا فيه الكلام )) (3) ولأنه طاف بعد أن توضأ (4) ، وتغريب الزاني بعد جلده واجب عندنا وعند الشافعية والحنابلة لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( جلد مئة وتغريب عام )) (5) .
... وعند الحنفية ما تيسر من القرآن هو المفروض قراءته في الصلاة لقوله تعالى : (( فاقرءوا ما تيسّر منه )) وأما قراءة الفاتحة فزيادة ، والركوع المطلق والسجود المطلق هو المفروض من قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا )) والطمأنينة فيهما زيادة ، والطواف المطلق هو المفروض من قوله تعالى : (( ولْيطو?فوا بالبيت العتيق )) والطهارة
ــــــــــــــ
1- ولكن المشهور في المذهب أنها سنة ولذلك قالوا من تركها أعاد الصلاة إذا لم يخرج وقتها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الأعرابي بإعادة صلواته السابقة .
2- حديث الأعرابي الذي لم يحسِن الصلاة رواه أحمد والشيخان عن أبي هريرة .(1/85)
3- حديث (( الطواف صلاة فأقلوا فيه الكلام )) رواه الطبراني عن ابن عباس وجزم الحافظ ابن حجر بصحته ورواه الشافعي أيضاً بلفظ (( أقلوا الكلام في الطواف فإنما أنتم في صلاة )) .
4- جاء في المسند والصحيحين عن عائشة : (( أن أول ما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت )) وفعله في الحج بيان لقوله (( خذوا عني مناسككم )) .
5- قوله صلى الله عليه وسلم : (( جلد مئة وتغريب عام )) جاء في حديث طويل رواه مالك وأحمد والشيخان وأصحاب السنن عن أبي هريرة وزيد بن خالد فارجع إليه وإلى شرحه للباجي في (( الموطأ )) وللشوكاني في (( نيل الأوطار )) .
فيه زيادة ، وجلد الزاني هو المأمور به في قوله تعالى : (( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مِئة جلدة )) والتغريب زيادة ، ويقولون لو فرضت هذه الزيادات لكانت نسخاً لأحكام قطعية ثبتت بنصوص قرآنية مطلقة ، والأخبار المستدل بها على فرضيتها أخبار آحاد وأخبار الآحاد ظنية فلا تنسخ الأحكام القطعية .
... فيقول الجمهور لا نرى في هذه الزيادات وأمثالها نسخاً لأحكام النصوص القرآنية حتى نضطر إلى ردها أو تضعيفها لكونها ظنية وردت على قطعية بل نراها قيوداً مزيدة على نصوص مطلقة ، وإذا وجب القيد كان وجوبه مضافاً إلى وجوب الأصل لا رافعاً له كعبادة زيدت على عبادة فلا تكون الثانية ناسخة للأولى .(1/86)
... هذا وقد ثبت نسخ بعض القرآن تلاوة وحكماً ، روى مالك ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة قالت : كان فيما أنزل من القرآن (( عشر رضعات معلومات يحرّمن ثم نسخن بخمس معلومات )) (1) . وتلاوة لا حكماً فقد جاء عن زيد بن ثابت قال : كنا نقرأ (( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة )) (2) ، وحكماً لا تلاوة كنسخ اعتداد المتوفى عنها زوجها حولاً الذي جاء في قوله تعالى : (( والذين ُيتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج )) بقوله تعالى : (( يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعَشْراً )) وكنسخ وجوب صدقة النجوى الذي جاء في
ــــــــــــــ
1- ثم نسخت الخمس أيضاً تلاوة وحكماً عند مالك وتلاوة لا حكماً عند الشافعي .
2- رواه النسائي والحافظ أبو يعلى الموصلي ، وأخرج أحمد والطبراني من حديث أبي أمامة ابن سهل عن خالته العجماء (( أن فيما أنزل الله من القرآن : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة )) ، وأخرج ابن حبان في صحيحه من حديث أُبيّ بن كعب أن آية الرجم كانت في سورة الأحزاب .
قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة )) بقوله تعالى : (( فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله )) .
... ثم إن نسخ بعض أحكام القرآن متفق على جوازه ووقوعه (1) ومنه ما ذكرناه من نسخ اعتداد المتوفّى عنها زوجها حولاً (2) ونسخ وجوب صدقة النجوى ، ومنه أيضاً ما كان من التخيير بين صوم رمضان وإخراج فدية الذي جاء في قوله تعالى : (( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين )) (3) ، ومن مصابرة الواحد منا للعشرة من الكفار والمائة منا للألف منهم الذي جاء في قوله تعالى : (( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا )) (4) .(1/87)
... وبالخبر المتواتر عند مالك وأكثر العلماء لمساواته القرآن في الطريق العلمي أي من حيث إن كلاً منهما قطعي الثبوت وإنه من عند الله عز وجل وإن جاء الخبر على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا ينسخ حكماً لربه من تلقاء نفسه
ــــــــــــــ
1- خالف أبو مسلم الأصفهاني من المعتزلة فنفى النسخ في القرآن ورده إلى التخصيص وتكلّف له التأويل .
2- قال ابن عبد البر : لم يختلف العلماء في أن العدة بالحول نسخت إلى أربعة أشهر وعشر ، وقال ابن العربي : كانت عدة الوفاة في صدر الإسلام حولاً كما كانت في الجاهلية ثم نسخ الله تعالى ذلك بأربعة أشهر وعشر .
3- نسخ بقوله تعالى : (( فمن شهد منكم الشهر فليصمه )) .
4- نسخ بقوله تعالى : (( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين )) وهو من نسخ الأثقل بالأخف .
بل بوحي منه إلا أنه بغير نظم القرآن وذلك كنسخ حكم الإمساك في البيوت الذي جاء في قوله تعالى : (( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهنّ الموت أو يجعلَ الله لهن سبيلاً )) بالرجم الثابت بالسنة المتواترة (1) .
... وأما أخبار الآحاد فينفي الجمهور نسخ الأحكام القرآنية بها لعدم مساواتها القرآن في الطريق العلمي لأن القرآن قطعي فلا ينسخ شيء منه بأخبار ظنية (2) .
*
ــــــــــــــ
1- هذا إذا كان المراد من النساء في الآية الأزواج كما ذهب إليه الكثيرون وأما إذا كان المراد الجنس كما ذهب إليه غيرهم من المحققين فإن حكم الرجم الذي ثبت بالسنة المتواترة يتوجه على الثيبات منهن كما بينته السنة نفسها إذ الناسخ لإمساك الأبكار آية الجلد بمصاحبة السنة .
2- لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع - راجع كتاب (( مناهل العرفان )) لمحمد عبد العظيم الزرقاني .(1/88)
رجحان الدّليل الأصلي النقلي
... اعلم أن الرجحان في الدليل الأصلي النقلي إما أن يأتي من جهة السند وإما أن يأتي من جهة المتن .
... مرجحات السند
... يرجّح الدليل الأصلي النقلي على ما يعارضه بمرجحات من جهة سنده أهمها عشرة .
... المرجح الأول كبر الراوي فإن الكبير أثبت وأضبط لما يرويه من الصغير ، مثاله احتجاج فقهائنا على أن الإفراد بالحج أفضل بحديث ابن
وحجاً )) (1) ، فيجيبهم فقهاؤنا بأن أنساً كان في حجة الوداع صغيراً
ــــــــــــــ
1- حديث ابن عمر رواه مسلم في صحيحه . ورواه عنه أيضاً بلفظ (( أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفرداً )) .
وكان ابن عمر كبيراً فكان أثبت وأضبط لذلك رجحنا روايته على رواية أنس (2) .
... المرجح الثاني أن يكون الراوي لأحد الحديثين أفقه وأعلم من راوي الحديث الآخر ، ومثاله احتجاج فقهائنا على أن الإفراد بالحج أفضل بحديث عائشة التي قالت فيه : (( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع عمر الذي قال فيه : (( إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل? بالحج مفردِاً )) (1) ، فيقول الحنفية حديث ابن عمر هذا يعارضه حديث أنس الذي قال فيه : (( سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي بالحج والعمرة جميعاً يقول لبيك عمرة
فمنا مَن أهل? بعمرة ومنا من أهل بحجة وعمرة ومنا من أهل بالحج وحده ، وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج )) (3) فإذا عورض بحديث أنس المذكور قلنا في الجواب أن عائشة أفقه وأعلم منه لهذا فحديثها مرجح على حديثه.(1/89)
... المرجح الثالث أن يكون أحد الراويين أكثر صحبة من الآخر فيكون أعلم منه بما دام من الأحكام والسنن وبما لم يدم ، ومثاله ترجيح فقهائنا حديث عائشة وأم سلمة (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام في رمضان ثم يصوم )) (4) على حديثي أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إذا نودي للصلاة صلاة الصبح وأحدكم جنب فلا يصمْ حينئذ )) وأنه - صلى الله عليه وسلم - (( كان يأمرنا بالفطر إذا أصبح الرجل
ــــــــــــــ
1- حديث أنس رواه أحمد في مسنده والشيخان في صحيحيهما .
2- يمكن الجمع بين الحديثين بأنه صلى الله عليه وسلم أهل? بالحج مفرداً ثم أردف عليه العمرة إلا أن مالكاً لا يرى لمن أهل بحج مفرد أن يردف عليه عمرة ويقول في (( الموطأ )) : وذلك الذي أدركت عليه أهل العلم عندنا .
3- حديث عائشة عن إهلاله صلى الله عليه وسلم بالحج مفرداً رواه مالك وأحمد والشيخان .
4- حديث عائشة وأم سلمة رواه أيضاً مالك وأحمد والشيخان .
جنباً )) (1) لأن زوجتيه بكثرة صحبتهما له وعيشهما معه إلى آخر حياته كانتا أعلم من أبي هريرة بآخر أفعاله وبما دام من سننه .
... المرجح الرابع أن يكون أحدهما أقرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الآخر كترجيح فقهائنا حديث ابن عمر في إفراده الحج على حديث أنس ، فإن ابن عمر حين قيل له إن أنساً يقول : (( سمعته يلبّي بالحج والعمرة جميعاً )) قال : (( إن أنساً كان صغيراً يوكل على النساء وهن منكشفات الرؤوس وكنت تحت ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسّني لعابها أسمعه يلبّي )) .(1/90)
... المرجح الخامس أن يكون أحد الراويين مباشراً للواقعة بنفسه فتكون روايته عنها أرجح من رواية غيره لأن المباشر للواقعة ألصق بها وأعرف وأثبت ، ومثاله ترجيح فقهائنا رواية أبي رافع على رواية ابن عباس عن زواج ميمونة أم المؤمنين فقد قال أبو رافع : (( تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة حلالاً وبنى بها حلالاً وكنت الرسول بينهما )) (2) وقال ابن عباس : (( تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو ُمحْرم )) (3) ولما كان أبو رافع مباشراً للواقعة كان أعرف وأثبت فتكون روايته أرجح .
... المرجح السادس أن يكون أحد الراويين صاحب الواقعة فيكون أعرف بها وروايته أقوى وأرجح ، ومثاله ترجيح فقهائنا حديث ميمونة
ــــــــــــــ
1- حديث أبي هريرة الأول من رواية أحمد وابن حبان والثاني من رواية النسائي والطبراني في مسند الشاميين وقد ثبت أن أبا هريرة حين بلغه حديث عائشة وأم سلمة سلّم به وقال : هما أعلم ، ورد ما كان يقول في ذلك إلى الفضل بن عباس – انظر (( فتح الباري )) .
2- حديث أبي رافع رواه أحمد والترمذي وحسنه .
3- حديث ابن عباس رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن ، وروى أبو داود أن سعيد بن المسيب قال وَهِمَ ابن عباس في قوله تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو ُمحْرم .
إذ قالت : (( تزوجني رسول - صلى الله عليه وسلم - ونحن حلالان بسَرِف )) (1) على رواية ابن عباس المذكورة آنفاً .
...
... المرجح السابع سماع الحديث مواجهة من غير حجاب فإنه أقوى وأرجح من معارضه الذي ُسمع من وراء حجاب ، ومثاله حديث القاسم وعروة عن عائشة (( أن بَريرة أُعتقت وكان زوجها عبداً )) (2) فإنه مرجح على رواية الأسود عن عائشة (( أن زوج بريرة كان حراً )) (3) .
...(1/91)
... المرجح الثامن أن يكون أحد الراويين متأخراً في إسلامه عن الآخر فإن حديثه حينئذ يكون أقل احتمالاً للنسخ فيرجح على ما هو أكثر احتمالاً له ، ومثاله ترجيح فقهائنا حديث أبي هريرة وحديث بُسرة بنت صفوان في إيجاب الوضوء من مسّ الذكر على حديث طَلْق بن علي لتأخر إسلام أبي هريرة وبُسرة عن إسلام طلق ، وترجيحهم حديث أبي محذورة في تثنية تكبير الأذان وتربيع شهادتيه على حديث عبد الله بن زيد في تربيع التكبير وتثنية الشهادتين لتأخر إسلام
ــــــــــــــ
1- حديث ميمونة رواه أحمد ومسلم والترمذي وأبو داود واللفظ له .
2- حديث القاسم رواه أحمد والدارقطني عن عمته عائشة قالت : (( إن بريرة كانت تحت عبد فلما أعتقتها قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : اختاري فإن شئت أن تمكثي تحت هذا العبد وإن شئت أن تفارقيه )) ، وجاء عنه في صحيح مسلم وسنن أبي داود عن عائشة (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرها وكان زوجها عبداً )) ، وحديث عروة رواه عنه أحمد ومسلم والترمذي وأبو داود عن خالته عائشة (( أن بريرة أُعتقت وكان زوجها عبداً فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها ولو كان حراً لم يخيرها )) .
3- حديث الأسود رواه أحمد وأصحاب السنن عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت : (( كان زوج بريرة حراً فلما أعتقت خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها )) .
أبي محذورة عن إسلام عبد الله بن زيد ، وقد مر? ذكر هذه الأحاديث في بيان وجوه معرفة النسخ لأن تأخر إسلام راوي الحديث والمعارض لحديث سابق مرويٍ قبل إسلامه فكما يعدّ وجهاً من الوجوه التي يعرف بها النسخ يعد? سبباً من أسباب الترجيح في حال عدم الاتفاق على النسخ .(1/92)
... المرجح التاسع اتفاق الرواية عن أحد الراويين واختلافها عن الآخر ، ومثاله ترجيح رواية أنس أن أبا بكر كتب لهم : (( ... فإذا زادت - أي الإبل – على عشرين ومئة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حِقة )) (1) على رواية عمرو بن حزم : (( ... فإذا زادت على عشرين ومئة استؤنفت الفريضة )) فإنه قد روي عنه أيضاً مثل رواية أنس )) (2) .
... المرجح العاشر كثرة رواة أحد الحديثين ، ومثاله ترجيح فقهائنا حديث إيجاب الوضوء من مسّ الذكر على حديث َطلْق بن علي فإن حديث إيجاب الوضوء منه رواه كثير من الصحابة منهم أبو هريرة وبسرة بنت صفوان وأروى بنت أُنيس وأم حبيبة وأم سلمة وعائشة وسعد بن أبي وقاص وجابر بن عبد الله وزيد بن خالد وعبد الله بن عباس وعبد الله بن ُعمر وعبد الله بن َعمرو وغيرهم ، وما كان أكثر رواة كان أثبت وأرجح .
ــــــــــــــ
1- حديث أنس هو بعض حديث طويل في فرائض الصدقة رواه أحمد والنسائي وأبو داود والبيهقي والحاكم والدارقطني وقال : إسناده صحيح ورواته كلهم ثقات ، وقال أبو محمد بن حزم : هذا كتاب في نهاية الصحة عمل به الصديق بحضرة العلماء ولم يخالفه أحد .
2- رواية عمرو بن حزم المتفقة مع رواية أنس أخرجها النسائي وأبو داود وابن حبان والدارقطني .
مرجحات المتن
... يرجح الدليل الأصلي النقلي على ما يعارضه بمرجحات من جهة متنه أهمها سبعة .
... المرجح الأول أن يكون أحد المتنين قولاً والآخر فعلاً فيرجح القول على الفعل لأنه أقوى على الأصح ، ومثاله ترجيح فقهائنا حديث عثمان بن عفان (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا ينكِح المُحْرم ولا يُنكَح ولا يخطُب )) (1) على حديث ابن عباس : (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو ُمحْرم )) (2) وذلك أن فعله يحتمل الخصوص به ولا يدل على استمرار الحكم وأما قوله فينفي هذا الاحتمال ويدل على استمرار الحكم إذا لم يأت بعده قول آخر يرفع حكم الأول .(1/93)
... المرجح الثاني أن يكون أحد المتنين دالاً على الحكم بمنطوقه والآخر دالاً عليه بمفهومه فإن الدال بمنطوقه أرجح من الدال بمفهومه ، ومثاله ترجيح الحنفية قوله - صلى الله عليه وسلم - (( الجارأحق بشفعة جاره)) (3) على مفهوم (( قضائه بالشفعة في كل ما لم ُيقسم )) (4) فقالوا بحق الجار في الشفعة وإن لم يكن شريكاً ، ولكن إذا كان مع المفهوم منطوق انعكس الأمر حينئذ فصار هو الأرجح
ــــــــــــــ
1- حديث عثمان رواه مالك وأحمد ومسلم وأصحاب السنن .
2- حديث ابن عباس رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن .
3- حديث (( الجار أحق بشفعة جاره )) رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه عن جابر وقد تكلم فيه كثير من أهل الحديث وضعّفوه ولكن الترمذي حسّنه .
4- حديث قضائه صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم ُيقسم رواه أحمد والبخاري عن جابر قال : (( قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم ُيقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة )) .
لحصول الدلالة فيه بوجهتين كترجيح فقهائنا (( قضاءه - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة فيما لم ُيقسم بين الشركاء فإذا وقعت الحدود بينهم فلا شفعة فيه )) (1) فهذا يدل بمنطوقه وبمفهومه على أن لا شفعة للجار بل للشريك قبل القسمة وتعيين الحدود .(1/94)
... المرجح الثالث أن يكون أحد المتنين وارداً في حكم والآخر ليس وارداً فيه . فإن ما ورد في حكم أرجح في الحكم مما لم يرد فيه كترجيح فقهائنا حديث جبريل الذي جاء فيه (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله )) (2) على الحديث الذي تمسك به الإمام أبو حنيفة من أن أول وقت العصر أن يصير ظل كل شيء مثليه وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوماً لأصحابه : (( إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أُوتي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى إذا انتصف النهار عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً ثم أُوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين فقال أهل الكتابين أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطاً قيراطاً ونحن كنا أكثر عملاً قال الله هل ظلمتكم من أجركم من شيء قالوا لا قال فهو فضلي أوتيه من أشاء )) (3) فذهب أو حنيفة إلى مفهوم ظاهر هذا الحديث
ــــــــــــــ
1- حديث (( قضائه صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم بين الشركاء )) رواه مالك عن بن شهاب الزهري عن سعيد بن المسيب وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وقال : وعلى ذلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا .
2- حديث جبريل رواه بطوله أحمد والنسائي والترمذي بنحوه عن جابر بن عبد الله وقال البخاري : هو أصح شيء في المواقيت .
3- حديث (( إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم )) رواه البخاري في صحيحه عن ابن عمر .(1/95)
وهو أن ما بين العصر والمغرب أقل مما بين انتصاف النهار والعصر ولا يصح ذلك إلا إذا كان أول وقت العصر أن يصير ظل كل شيء مثليه ، ورأى فقهاؤنا أن هذا الحديث إنما ورد للتنويه بفضل الله تبارك وتعالى على أمتنا ولم يرد في تشريع حكم يستدل به عليه ، وأما حديث جبريل فإنه ورد في حكم أراد الشارع بيانه به وهو تحديد أوقات الصلوات الخمس فاقتضى أخذه منه لا من مفهوم حديث لم يرد فيه .
... المرجح الرابع أن يكون أحد المتنين وارداً على سبب والآخر وارداً على غير سبب فإن الوارد على سبب أرجح في سببه والوارد على غير سبب أرجح في غير السبب ، ومثاله ترجيح قوله - صلى الله عليه وسلم - حين مر بشاة ميتة كان أعطاها مولاة لزوجه ميمونة (( أفلا انتفعتم بجلدها )) (1) على قوله : (( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب )) (2) فإن الحديث الأول أرجح في جلد ما يؤكل لحمه لأنه كالنص فيه إذ هو السبب ، والحديث الثاني أرجح في جلد ما لا يؤكل لحمه فلا ينتفع به وإن دبغ لأنه عام ورد على غير سبب.
... المرجح الخامس أن يكون أحد المتنين ظاهراً والآخر مؤولاً فيرجح الظاهر لاتضاح دلالته من جهة لفظه على المؤول لاتضاح دلالته بدليل منفصل لأن الدليل من جهة اللفظ ذاتي فكان أقوى من الدليل المنفصل ولأن الظاهر هو الأصل وأمثلته هي التي سبق التمثيل بها لأسباب ظهوره ، ولكن قد يرجح المؤول لاعتبار قوي اقتضى ترجيح دليله على
ــــــــــــــ
1- رواه مالك وأحمد والشيخان وغيرهم من أئمة الحديث عن ابن عباس قال : (( مر? رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة ميتة كان أعطاها مولاة لميمونة فقال : أفلا انتفعتم بجلدها فقالوا : يا رسول الله إنها ميتة فقال صلى الله عليه وسلم : إنما حرم أكلها )) .
2- حديث (( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب )) رواه أحمد وأصحاب السنن عن عبد الله بن عكيم وفيه انقطاع واضطراب فارجع إليه في (( نيل الأوطار )) إن شئت .(1/96)
دليل الظاهر كما رأيت في الأمثلة التي سبق التمثيل بها لأسباب التأويل .
... المرجح السادس أن يكون أحد المتنين واضح الدلالة والآخر مجملاً فيُرجح الأول لاتضاح دلالته ويعد? مفسراً للمجمل ، ومثاله ترجيح فقهائنا قوله - صلى الله عليه وسلم - (( لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن ُغمّ عليكم فأكملوا العدد ثلاثين )) (1) على رواية من روى : (( الشهر تسعة وعشرون يوماً فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن ُغمّ عليكم فأقدروا له )) (2) فإن الحديث الأول نص في عدد الأيام التي يجب إكمالها إذا غم الهلال وبذلك يرجح على الحديث الثاني ويكون مفسراً لما فيه من التقدير المطلوب هكذا : فإن غم عليكم فقدّروا أول الشهر وأكملوا الثلاثين يوماً .
... المرجح السابع أن يكون أحد المتنين مثبتاً والآخر نافياً فإن المثبت يرجح على النافي ، ومثاله ترجيح فقهائنا قول بلال (3) : (( إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ــــــــــــــ
1- قوله صلى الله عليه وسلم : (( لا تصوموا حتى تروا الهلال ... )) رواه مالك عن ابن عباس .
2- قوله صلى الله عليه وسلم : (( الشهر تسعة وعشرون يوماً ... )) رواه مالك وأحمد ومسلم عن عبد الله بن عمر وهو تنبيه لنا على احتمال ترائي الهلال لتسع وعشرين من شعبان وتسع وعشرين من رمضان ومع ذلك فلا نصوم لتسع وعشرين حتى نراه ولا نفطر لتسع وعشرين حتى نراه فإن غم علينا فنقدر له ونكمل الثلاثين يوماً كما جاء التصريح به في حديث ابن عباس وأكثر أحاديث هذا الباب .
3- قول بلال هذا جاء في حديث لابن عمر قال : (( دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم الباب فلما فتحوه كنت أول من ولج فلقيت بلالاً فسألته : هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نعم بين العمودين اليمانيين )) رواه أحمد والشيخان .(1/97)
صلى في البيت بين العمودين اليمانيين )) على قول أسامة (1) : (( إنه دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه )) ، فقول بلال لا يحتمل الشك في حصول الصلاة فعلاً لأنه رآه يصلي وعيّن المكان الذي صلى فيه فقال بين العمودين اليمانيين ، وأما قول أسامة فيحتمل الشك لأنه قد لا يكون رآه أثناء الصلاة لسبب ما فقال دعا ولم يصل (2) .
*
ــــــــــــــ
1- قول أسامة هذا جاء في حديث لابن عباس قال : (( أخبرني أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج فلما خرج ركع في قِبل البيت ركعتين وقال هذه القبلة )) رواه مسلم في صحيحه .
2- قال النووي وغيره : يمكن الجمع بين إثبات بلال ونفي أسامة بأنهم لما دخلوا الكعبة اشتغلوا بالدعاء فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فاشتغل بالدعاء في ناحية والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية ولما صلى رآه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لاشتغاله بالدعاء في ناحية والضوء ضعيف لأن البيت كان مغلقاً .
الاسْتِصحَاب
... بعد أن فرغنا من الكلام على الدليل الأصلي النقلي الذي هو الكتاب والسنة ننتقل إلى الكلام على الدليل الأصلي العقلي وهو الاستصحاب ويراد به استمرار الأمر على ما هو عليه إلى أن يقوم الدليل على تغيره عما كان عليه كطهارة الماء فإنها تستمر مصاحبة له إلى أن يثبت تغيره بنجس ينقله عما كان عليه من الطهارة ، وكشغل ذمة المدين بالدين فإنه يستمر إلى أن يثبت أداؤه للدين أو إبراؤه منه . وهو وإن عدّ دليلاً عقلياً فإن الأخذ به شرعي إذ قد ثبت بالاستقراء للأحكام الشرعية أنها تبقى على ما قام الدليل عليه إلى أن يقوم دليل آخر على التغير فيتغير الحكم بحسبه .
... والاستصحاب بالإجمال نوعان : استصحاب أمر عقلي ، واستصحاب حكم شرعي .(1/98)
... أما الأول فهو ما قضت غلبة الظن باستمراره على ما هو عليه إلى أن يثبت تغيره كحياة من علمت حياته في زمن معين فإنه يغلب على الظن استمرارها إلى أن تثبت وفاته . وهذا النوع كثيراً ما يعارَض باستصحاب آخر أو بوجود ناقل له عن الحالة الأولى .
... مثال ما يعارَض باستصحاب آخر استدلال بعض فقهائنا على أن السلعة الغائبة إذا بيعت على العلم بها أو على وصفها وهلكت قبل أن يستلمها المشتري ثم حدث النزاع بين المتبايعين هل كان هلاكها قبل عقد البيع أو بعده ؟ فإن ضمانها أي غرمها على المشتري إذ يقول البائع لقد كانت السلعة موجودة سالمة قبل العقد فلزم أن تستمر سلامتها إلى زمن طروء هلاكها وقد طرأ بعد العقد إن لم يقم دليل على طروئه قبله فتعين هلاكها على ضمان المشتري ، فيعارضهم الأكثرون من فقهائنا بأن ذمة المشتري كانت بريئة من الضمان فلزم استمرار تلك البراءة ما دامت السلعة غائبة وعليه فلا ضمان على المشتري .
... ومثال ما يعارض بادعاء وجود ناقل عن الحالة الأولى احتجاج فقهائنا على أن سؤر الكلب طاهر بسلامته من المخالطة للنجاسة قبل الولوغ فلزم استمرار طهارته إلى أن تتحقق مخالطته للنجاسة ، فيقول المخالفون أن هذا الاستصحاب يتم لو لم يوجد ناقل لتلك السلامة وهو الولوغ فإنه مظنة المخالطة للنجاسة لأنها غالب أحوال الكلاب ، فيجيبهم فقهاؤنا بأن احتمال المخالطة للنجاسة ظني فلا يلزم منه الانتقال عن الحالة الأصلية وهي الطهارة ولما كان ظنياً قلنا بكراهة استعمال سؤر الكلب وإن كان طاهراً مراعاة لهذا الظن .
... وأما الثاني وهو استصحاب حكم شرعي فإننا نجده في كل ما أباحه الشارع أو حرمه : فإباحة كل مباح تستمر إلى أن يقوم الدليل على تحريمه كإباحة عصير العنب فإنها تستمر إلى أن تتغير أوصافه وتعرض له صفة الإسكار فيحرم حينئذ ، وكتحريم النبيذ المسكر فإنه يستمر إلى أن تتغير أوصافه وتزول عنه صفة الإسكار فيحل حينئذ .(1/99)
... وهذا النوع من الاستصحاب كثيراً ما يختلف الفقهاء في انطباقه على
المسائل الجزئية التي تندرج تحته كاحتجاج فقهائنا على أن الرعاف لا ينقض الوضوء بقولهم إننا مجمعون على أن المتوضئ متطهر قبل الرعاف فلزم استصحاب وضوئه بعده إلى أن يدل دليل على انتقاضه ، فيقول الحنفية إننا نرد صحة الاستصحاب في هذه المسألة لأن دليل الحكم فيه هو الإجماع والإجماع بعد الرعاف ليس كما كان قبله فكيف يستمر حكم بعد فقدان دليله لاسيما وقد قام الدليل على انتقاض الوضوء بالرعاف وهو قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( من أصابه قيء أو رُعاف أو قَلْس أو مذي فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم )) (1) .
*
ــــــــــــــ
1- رواه ابن ماجه والدارقطني عن عائشة وضعّفه ابن معين وغيره من رجال الحديث ، وقد ذهب ابن عباس وابن أبي أوفى وأبو هريرة وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب ومكحول وربيعة إلى عدم انتقاض الوضوء من الدم ، وذهب أبو حنيفة وأصحابه وأحمد إلى انتقاضه بالدم السائل . القلس : هو ما يخرج من الحلق ولو لم يتبعه قيء .
القيَاس
... القياس هو إلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر آخر منصوص على حكمه لاشتراك بينهما في علة الحكم طرداً أو عكساً . وهو دليل شرعي ُترد به الأحكام إلى الأصل الذي هو الكتاب والسنة ولذلك يعد لازماً عن أصل ، أي ناشئاً عنه وملحقاً به وراجعاً إليه . والحكم الذي يدل عليه القياس إما أن يكون مماثلاً لحكم الأصل أو مناقضاً له : فإن كان مماثلاً لحكم الأصل عرف قياسه بقياس الطرد ، وإن كان مناقضاً لحكم الأصل عرف بقياس العكس .
... قياس الطرد(1/100)
... قياس الطرد هو حمل فرع مجهول الحكم على أصل معلوم الحكم لمساواته له في العلة بغية إثبات حكم للفرع مماثل لحكم الأصل كقياسنا النبيذ المجهول الحكم على الخمر (1) المعلوم الحكم . فالخمر هو الأصل المقيس عليه ، والنبيذ هو الفرع المقيس ، والعلة التي تساويا فيها هي الإسكار ، ــــــــــــــ
1- الخمر عند الجمهور كل شراب مسكر سواء صنع من العنب أو غيره ، والنبيذ كل شراب اتخذ من عصارة قابلة للتخمر فإذا تخمرت وأسكرت صارت خمراً – أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عمر قال : (( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل مسكر خمر وكل مسكر حرام )) ، وعند أبي حنيفة والثوري وبعض فقهاء الكوفة : الخمر ما أسكر من عصير العنب خاصة والنبيذ ما اعتصر من غيره .
والحكم المطلوب إثباته في الفرع هو التحريم الثابت مثله في الأصل .
... فقياس الطرد إذاً هو إثبات حكم للفرع كحكم الأصل لمساواته له في العلة ويقوم على أربعة أركان : الأصل والعلة والفرع والحكم .
... الركن الأول : يشترط فيه ثلاثة شروط أساسية :
... الشرط الأول أن يكون الحكم ثابتاً فيه فإنه إن لم يكن ثابتاً فيه فلا يتوجه عليه القياس لأن المقصود إثبات مثله في الفرع ، وإثبات مثله في الفرع متوقف على ثبوته في الأصل ولو كان ثبوته في الأصل بالقياس عند أكثر فقهائنا على ما فهموه من مسائل الإمام وأصحابه ، وذلك بأن كان فرعاً قيس على أصل من الكتاب أو السنة فأعطي حكمه وبثبوت الحكم له يصير أصلاً فيجوز القياس عليه عند تعذر قياس الفرع الثاني على الأصل من الكتاب والسنة (1) .(1/101)
... الشرط الثاني أن يكون حكمه مستمراً غير منسوخ لأنه إذا نسخ حكم الأصل وبقيت علته لم يبق لها اعتبار لإثمار حكم مماثل في فرع لأصل منسوخ الحكم ، ولكن قد ينسخ حكم من أحكام الأصل فيتوهم سريان النسخ إلى الحكم الذي يطلب مثله في الفرع ، ومثاله قول الحنفية بأن تبييت الصوم غير واجب في صوم رمضان قياساً على صوم عاشوراء فإنه لا يجب فيه التبييت لحديث سلمة بن الأكوع قال : (( أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من أسلم أن أذ?نْ في الناس أن من أكل فليصم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم فإن اليوم يوم عاشوراء )) (2) ، فيقول فقهاؤنا لقد نسخ حكم الأصل وهو وجوب
ــــــــــــــ
1- راجع في هذا الموضوع (( المقدمات الممهدات )) لابن رشد الكبير .
2- حديث سلمة بن الأكوع رواه أحمد والشيخان .
صوم عاشوراء بوجوب صوم رمضان ومن شروط الأصل المقيس عليه أن لا يكون منسوخاً ، فيجيب الحنفية بأننا لم نقس الفرع على الأصل في الحكم المنسوخ بل في حكم آخر وهو عدم وجوب تبييت الصوم لأنه لا يلزم من نسخ حكم وجوب الصوم نسخ عدم وجوب تبييته المقيس عليه .
... الشرط الثالث أن لا يكون الأصل مخصوصاً بالحكم فإنه إذا كان مخصوصاً بالحكم امتنع حمل غيره عليه وإلا بطل الخصوص ، وهذا الشرط يتفرع إلى نوعين : نوع نص الشارع على الخصوص فيه أو انعقد الإجماع عليه ، ونوع لم ينص الشارع على الخصوص فيه إلا أنه لم يعقل معناه فتعذر حمل غيره عليه للجهل بالمعنى الذي لأجله شرع الحكم في الأصل .(1/102)
... أما النوع الأول وهو الذي نص الشارع على الخصوص فيه أو انعقد الإجماع عليه فمثاله قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة في التضحية بجدَعة من المعز : (( إذبحها ولا تصلح لغيرك )) (1) وقبولُه لشهادة خزيمة وحده (2) فقد خصه - صلى الله عليه وسلم - بذلك دون سائر الصحابة ولو حمل عليه غيره لجرى القياس عليه في كل شاهد واحد ولبطل اعتبار تعدد الشهود . ومن هذا النوع جميع ما اختص به - صلى الله عليه وسلم - من الأحكام فلا يقاس عليها وإن كان هناك اختلاف في جملة من الفروع هل هي مما اختص به أم لا ؟ كاختلافهم في صحة
عقد النكاح بلفظ الهبة فإن الشافعية لا يجيزونه لأنهم يرونه مختصاً ــــــــــــــ
1- روى أحمد والشيخان عن البراء بن عازب قال : (( ضحّى خال لي يقال له أبو بردة قبل الصلاة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : شاتك شاة لحم فقال : يا رسول الله إن عندي جذَعة من المعز قال : اذبحها ولا تصلح لغيرك )) . والجذعة من الشياه من بلغت ثمانية أشهر أو تسعة .
2- قبوله صلى الله عليه وسلم لشهادة خزيمة وحده جاء في حديث أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود وفيه : (( فجعل شهادة خزيمة شهادة رجلين )) وفي رواية قال : (( من شهد له خزيمة فحسبه )) .(1/103)
بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بدليل قوله تعالى : (( وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصةً لك من دون المؤمنين )) ، والحنفية يجيزونه لأنهم يردون الاختصاص إلى سقوط الصداق الذي به يظهر الشرف ورفع الحرج لا باللفظ المجرد الذي يوجد ما يقوم مقامه من الألفاظ ، والشافعية يرون اختصاصه باللفظ تابعاً لاختصاصه بمعناه ، وأما نحن المالكية فنتفق مع الحنفية في اختصاصه بجواز النكاح له بالهبة من غير صداق لأن الآية سيقت لبيان شرفه على أُمته ونفي الحرج عنه في ذلك كما قدمنا في الكلام على الترجيح بالقرينة السياقية ، ولكننا لا نتفق معهم في قياس أُمته عليه لمانع الاختصاص وإنما نجيز النكاح بلفظ الهبة إذا كان مصحوباً بذكر الصداق لا بالقياس بل لأن لفظ الهبة من الألفاظ التي تقتضي البقاء مدى الحياة كالإعطاء والمنح والتمليك فينعقد بها النكاح إذا ذكر معها الصداق تحديداً أو تفويضاً لتتم بذكره دلالتها على النكاح دون غيره . أما إذا حصل الخلاف في كون الأصل مخصوصاً أو غير مخصوص ثابتاً بنص أو إجماع كاختلافهم في الشهيد هل يغسل ويصلى عليه أم لا ؟ وقد ورد في شهداء أُحد (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل? عليهم )) (1) فذهب المالكية والشافعية إلى أنه عام يشمل كل شهيد من شهداء أي معترك بين المسلمين وأعدائهم ، وذهب الحنفية إلى أنه مخصوص بشهداء أُحد فلا يشمل غيرهم .
... وأما النوع الثاني وهو الذي لم ينص الشارع على الخصوص فيه ولكن
ــــــــــــــ
1- (( أمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفن قتلى أُحد في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل? عليهم )) رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه عن جابر . وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن أنس (( أن شهداء أُحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل? عليهم )) .(1/104)
لم يعقل معناه فمثاله معظم التقديرات فإنها غير معقولة المعنى كسائر الأعمال التعبدية التي لم نعقل معناها فلا يقاس عليها لجهلنا بالمعنى الذي لأجله شرع الحكم فيها . فإن قيل لنا لقد قستم تقدير أقل الصداق على تقدير أقل نصاب السرقة وهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم ، وقستم تحديد اليد بالكوع في التيمم على تحديدها في القطع بالسرقة ! قلنا ليس ذلك قياساً وإنما هو استشهاد على الأقل ما هو معتبر ، وذلك أن الشارع أوجب المال في النكاح فقال : (( أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين )) إظهاراً لشرف النكاح وقدره والشرف لا يحصل بأقل ما يسمى مالاً فإن الدرهم الواحد مثلاً يسمى مالاً ولكن ضآلة قيمته لا ترفعه إلى مستوى شرف النكاح وقدْره فوجب تعيين أقل مقدار من المال يكون له بال ولما كان ذلك مختلفاً شرعاً وعرفاً وجب الرجوع فيه إلى الشرع لأنه هو الموجب لأصل المال في النكاح تشريعاً له فوجب اعتبار أقل الأموال التي جعل الشرع لها بالاً ولم نجد أقل من نصاب السرقة فإن اليد ذات قدْر ولما قطعت في ربع دينار دل ذلك على أن ربع الدينار له بال فاعتبرناه الحد الأدنى للصداق ، وأما تحديد اليد بالكوع في التيمم فإننا لم نقسه على تحديدها في القطع بالسرقة بل لأن اليد إذا أُطلقت فإنها أظهر استعمالاً في الكف إذ هي حقيقة في الكف ومجاز في ما وراءها من الساعد والعضد واللفظ إذا احتمل الحقيقة والمجاز عُد? راجحاً في حقيقته لأنها هي الأصل ولأن الشارع أمرنا في الوضوء بغسل الأيدي إلى المرافق ولم يأمرنا في التيمم بمسحها إلى المرافق ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين علّم عماراً التيمم قال له : (( إنما يكفيك هكذا ،
ــــــــــــــ(1/105)
1- حديث عمار بن ياسر وحديث أبي الجهيم الآتي هما أصح الأحاديث الواردة في صفة التيمم وكان عمار يفتي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتصار على مسح الوجه والكفين وهو من علماء الصحابة وأعرف بالمراد مما رواه .
وضرب بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه )) رواه أحمد والشيخان .
... الركن الثاني – العلة : وهي مَناط الحكم الذي أضاف الشارع الحكم إليه وناطه به والوصف الجامع بين الأصل والفرع كالإسكار الجامع بين الخمر الذي هو الأصل وبين النبيذ الذي هو الفرع ، ولها شروط تتوقف حقيقتها على وجودها ، ولها مسالك وهي الأدلة التي تدل على أن الوصف علة في الحكم .
... أما شروطها فنوجزها في ثلاث مسائل رئيسية :
... المسألة الأولى : يجوز بالاتفاق تعليل الحكم الوجودي بالوصف الوجودي والحكم العدمي بالوصف العدمي وذلك كتعليل وجوب الزكاة بملك النصاب وتعليل عدم صحة التصرف بعدم العقل ، وأما تعليل الحكم الوجودي بالوصف العدمي ففيه خلاف بين الأصوليين ومثاله قياس الجمهور الحاضر الصحيح في وجوب التيمم عليه عند فقده الماء على المسافر فاقد الماء ، فيقول المخالفون فقدان الماء ليس علة في وجوب التيمم لأنه وصف عدمي والوصف العدمي لا يكون علة في الحكم الوجودي فإن العلة لابد أن تشتمل في نفسها على حكمة أي على جلب مصلحة أو على درء مفسدة والعدم في نفسه لا يشتمل على حكمه (1) .
ــــــــــــــ(1/106)
1- لم يستند الجمهور إلى القياس وحده في وجوب التيمم على الحاضر الصحيح عند فقده الماء بل استدلوا قبل ذلك بالكتاب والسنة : استدلوا بقوله تعالى : (( وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً )) مرجحين عودة ضمير (( فلم تجدوا ماء )) على أصناف المحدِثين المسافرين والحاضرين لا على المسافرين وحدهم ، واستدلوا بما رواه أحمد والشيخان عن أبي جهيم الأنصاري قال : (( أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام )) .(1/107)
... المسألة الثانية : يجب أن يكون الوصف المعلّلُ الحكم به ظاهراً غير خفي لأنه إذا كان خفياً كان أشبه بالمغيب فلا يصح التعليل به وبناء القياس عليه ، ومثاله تعليل القصاص بالقتل العمد فيقول المعترض العمد قصد نفسي وهو خفي فلا يصح التعليل به ولكن يصح بدلاً منه ما يظن وجوده عنده وإن كان بطبعه خفياً ويُسمّى (( مِظنة )) كتعليلنا نقل الملك في العِوَضين بالتراضي بين المتبايعين وقد قال تعالى : (( إلا أن يكون تجارةً عن تراض منكم )) فإن الرضا وصف خفي لأنه من أحوال النفوس فلا يصح اعتباره علة بالاستقلال ولكن يعتبر بأمور ظاهرة تدل عليه كالإيجاب والقبول فإن قول البائع بعتُ دليل على رضاه بخروج المبيع من ملكه لقاء دخول الثمن في ماله وقول المشتري قبلتُ دليل على رضاه بخروج الثمن من ماله لقاء دخول المشترَى في ملكه ، ولما كان المعتبر عندنا وجود ما يدل على الرضا الذي هو المقصود في الأصل وكان الفعل أيضاً يدل على الرضا مثل دلالة القول عليه كالمعاطاة التي تحصل بين المتبايعين ذهب فقهاؤنا إلى أن البيع ليس من شروطه الصيغة اللفظية خلافاً للشافعية الذين لا يحكمون بانعقاد البيع إلا بالصيغة اللفظية الدالة على الإيجاب والقبول وأما الحنفية فيفرقون بين الأشياء المبيعة فيشترطون في النفيسة الصيغة اللفظية ويكتفون في الحقيرة بالمعاطاة وهذا عندهم من الاستحسان ، ووجهه أن الصيغة أدل على الرضا من المعاطاة فيحسن أن يعتبر في الأشياء النفيسة ما هو أدل عليه صوناً للبيع من التعرض لإنكار حصول الرضا فيه .
... المسألة الثالثة : يجب أن يكون الوصف منضبطاً غير مضطرب أي أن الأشياء التي تتفاوت في نفسها كالمشقة تضعف وتقوى لذلك وجب ضبطها ليتأتى بناء الحكم عليها كالسفر مثلاً فإن الشارع رخص للمسافر في قصر الصلاة لمشقة السفر ، ولكن المشقة المعتبرة في السفر غير منضبطة لأنها تتفاوت بطول السفر وقصره وكثرة الجهد وقلته(1/108)
فلا يتأتى بناء الحكم عليها إلا إذا ُضبطت ، فعيّن الشرع ما يضبطها وهو السفر مسافة يوم وليلة بسير الإبل المحملة وحددت هذه المسافة بثمانية وأربعين ميلاً (2) ولذلك لم يحمل على السفر غيره من الأعمال المتعبة .
... وأما مسالك العلة وهي الأدلة التي تدل على أن الوصف علة في الحكم فإنها ستة مسالك : الصراحة والإيمان والإجماع والمناسبة والدوران والشّبَه .
... المسلك الأول : الصراحة – وهي أن يرد في الوصف لفظ التعليل صريحاً كما في قوله تعالى : (( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم )) وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - (( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض? للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )) (2) .
... المسلك الثاني : الإيماء – وهو أن يذكر مع الحكم ما يبعد أن يكون لغير التعليل كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الهرة : (( إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات )) (3) فلو لم يكن التطواف علة لنفي النجاسة لم يكن لذكره مع هذا الحكم فائدة لأنه معلوم أنها من الطوافات فكان في ذكره إيماء بأنه علة الحكم .
ــــــــــــــ
1- تقدر هذه الأميال بثمانين كيلو متراً .
2- حديث (( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج )) رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن ابن مسعود .
3- قوله صلى الله عليه وسلم في الهرة : (( إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات )) رواه مالك وأحمد وأصحاب السنن عن كبشة بنت كعب بن مالك عن حميها أبي قتادة .
ومنه قوله تعالى في بيان تعليل تحريم الخمر والميسر : (( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة )) وهو إيماء إلى تعليل يطّرد في كل مسكر وفي كل نوع من أنواع الميسر .(1/109)
... ومنه سؤاله - صلى الله عليه وسلم - عن وصف يعلمه ليبني عليه جواب ما سئل عنه ولو لم يكن الوصف للتعليل لكان سؤاله عنه وهو يعلمه خالياً من الفائدة كقوله حين سئل عن اشتراء التمر بالرطب : (( أَينقص الرطب إذا يبس فقالوا : نعم ، فنهى عن ذلك )) (1) .
... ومنه أن يذكر - صلى الله عليه وسلم - حكماً عقب علمه بواقعة حديث فنعلم أن تلك الواقعة تتضمن على ذلك الحكم كما ثبت (( أن رجلاً أفطر في رمضان فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكفّر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكين )) (2) فكأنه قال من أفطر في رمضان عامداً فليكفّر بعتق رقبة أو بصيام شهرين متتابعين أو بإطعام ستين مسكيناً . وعلمنا أن العلة في وجوب إحدى هذه الكفارات الثلاث هي انتهاك حرمة صوم رمضان بالإفطار فيه عمداً ، وقد خصه الشافعية بالوقاع الذي جاء صريحاً في الروايات الأخرى وقالوا إنه وحده العلة في وجوب الكفارة فلم يوجبوها بالأكل أو الشرب المتعمّد ، وأما الحنفية فناطوا وجوب الكفارة بمعنى يتضمنه الوقاع وهو اقتضاء شهوة يجب الإمساك
ــــــــــــــ
1- حديث عدم جواز اشتراء التمر بالرطب رواه مالك وأحمد وأصحاب السنن عن سعد بن أبي وقاص قال : (( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن اشتراء التمر بالرطب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أينقص الرطب إذا يبس فقالوا : نعم ، فنهى عن ذلك )) .
2- حديث الرجل الذي أفطر في رمضان رواه مالك عن أبي هريرة ورواه عنه أيضاً أحمد والشيخان وأصحاب السنن وفيه أن الرجل أفطر بمواقعة امرأته .(1/110)
عنها فإن الصيام هو الإمساك عن اقتضاء شهوة البطن والفرج لذلك أوجبوا الكفارة على من أكل أو شرب عامداً في رمضان لما فيه من اقتضاء الشهوة المنافي للصيام ولم يوجبوها فيما لا تقتضيه الشهوة كابتلاع حصاة أو نواة ، وأما المالكية فلم يعتبروا الشهوة مَناطاً للحكم لذلك لم يوجبوا الكفارة على مقتضى الشهوة بل على انتهاك حرمة الصوم بتعمد إفساده بأي مفسد له ولو مما لا يشتهى كابتلاع نواة أو حصاة وهذا مما يسمّى عند الأصوليين بتنقيح المناط وهو أن يحذف من محل الحكم ما لا مدخل له فيه ويبقى ما له فيه مدخل واعتبار .
... المسلك الثالث : الإجماع – وهو أن يثبت كون الوصف علة في حكم الأصل بالإجماع كالقرابة في استحقاق الإرث ، ومثاله إذا كان للمرأة أخوان أحدهما شقيق فإنه أولى بعقد نكاحها من الأخ لأب لأن زيادة القرابة من جهة الأم سبب تقديم الأخ الشقيق في الميراث بالإجماع فوجب تقديمه في ولاية النكاح بالقياس عليه .
... المسلك الرابع : المناسبة – وهي أن يكون في المحكوم عليه وصف يناسب الحكم كالخمر مثلاً فإن فيها وصفاً يناسب أن تحرم لأجله وهو الإسكار المذهب للعقل الذي هو مناط التكليف وسبب الحصول على السعادتين المعاشية والمعادية ، والمناسب هو ما جاء على مقتضى المصالح بحيث إذا أضيف الحكم إليه انتظم كإضافة تحريم الخمر إلى إسكارها المذهب للعقل وهو إما أن يكون قد نص الشرع على اعتباره أو لا .
... أما الذي نص الشرع على اعتباره فينقسم إلى مؤثر وملائم .
... فالمناسب المؤثر هو الذي يكون عينه معتبراً في عين الحكم كما في قوله تعالى : (( والسارق والسارقة فاقطعوا أيدَيهما )) فإن عين السرقة معتبر في عين القطع وهو كثير ...
... والمناسب الملائم هو الذي يكون عينه معتبراً في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم أو جنسه في جنس الحكم .(1/111)
... فمثال الأول القول بإجبار الثيب الصغيرة على النكاح لأن الصغر علة في إقامة الولاية عليها في المال فيكون علة في إقامة الولاية عليها في النكاح أيضاً لأن عين الصغر معتبر في جنس الولاية .
... ومثال الثاني تعليل فقهائنا الجمع بين الصلاتين في الحضر بالمطر للحرج الذي هو علة في الجمع بينهما في السفر فإن جنس الحرج معتبر في عين الجمع .
... ومثال الثالث تعليل القصاص في الأطراف بالجناية التي هي معتبرة في القصاص في النفس فإن جنس الجناية معتبر في جنس القصاص .
... وأما المناسب الذي لم ينص الشارع على اعتباره فيقاس به إذا ثبت الحكم على وفقه في صورة من الصور وهو المسمّى بالغريب كقياس فقهائنا المطلقة ثلاثاً في مرض الموت في استحقاقها الميراث على القاتل في حرمانه الميراث بجامع التوصل إلى الغرض الفاسد بينهما فيناسب أن يعامل بنقيض قصده فإن التوصل إلى الغرض الفاسد لم ينص الشارع على اعتباره أصلاً ولكنه رتب الحكم على وفقه في صورة القاتل ، أما إذا لم يثبت الحكم على وفقه في صورة من الصور فلا يقاس به (1) ويسمّى مرسلاً .
... المسلك الخامس : الدوران – وهو أن يوجد الحكم عند وجود
ــــــــــــــ
1- شذ اللخمي من فقهائنا فقاس به وقال يجوز الاقتراع على إلقاء بعض أهل السفينة المشرفة على الغرق للتخفيف من ثقلهم عليها فقد رآه مناسباً لأن فيه نجاة بقيتهم ولكن الجمهور لا يقولون بجوازه لأن الأرواح أكرم من أن يقترع عليها وما جرى ليونس عليه السلام فإنه كان خاصاً به ليريه ربه عز وجل من قدرته وحكمته ما يزيده علماً وإنابة وتسليماً .
الوصف ويعدم عند عدمه فيعلم أن ذلك الوصف علة ذلك الحكم ، ومثاله أن عصير العنب قبل أن يطرأ عليه الإسكار لم يكن محر?ماً فلما حدث فيه الإسكار صار محرماً فإذا ذهب عنه الإسكار ذهب عنه التحريم ولما دار التحريم مع الإسكار وجوداً وعدماً علمنا أن الإسكار علة التحريم .(1/112)
... ومنه احتجاج فقهائنا على طهارة عين الكلب والخنزير قياساً على الشاة بجامع الحياة بين الثلاثة ، ودليلنا على أن الحياة على الطهارة هو أن الشاة إذا ماتت وفي بطنها جنين حيّ صارت نجسة وبقي جنينها الحي طاهراً . ولما دارت الطهارة مع الحياة وجوداً وعدماً علمنا أن الحياة علة الطهارة .
... المسلك السادس : الشّبَه - وهو أن يتردد المسلك بين أصلين مختلفين في الحكم فيغلّب شبهه بأحدهما على شبهه بالآخر كالوضوء مثلاً فإنه متردد بين التيمم وبين إزالة النجاسة فيشبه التيمم من حيث أن المزال بهما وهو الحدث حكمي ويشبه إزالة النجاسة في أن المزال بهما حسي ، فالمالكية والشافعية يوجبون النية في الوضوء تغليباً لشبهه بالتيمم ، والحنفية لا يوجبون النية فيه تغليباً لشبهه بإزالة النجاسة .
... وكالعبد فإنه متردد بين الحر والدابة فيشبه الحر لأنه مثله في الآدمية وفي أصل التكليف ويشبه الدابة لأنه مثلها يباع ويشترى وتتفاوت قيمته بتفاوت أوصافه كسائر الأموال ، فالذين غلّبوا شبهه بالحر أعطوه حق التملك والذين غلّبوا شبهه بالدابة لم يعطوه هذا الحق ، وقد رأى الأولون شبهه بالحر أقوى من شبهه بالمال لأن الشبه في الآدمية أصلي والشبه بالمال عرضي والأصلي أقوى من العرضي ، ورأى الآخرون شبهه بالمال أقوى لإيجاب القيمة بقتله بالغة ما بلغت على قاتله الحر وقالوا لو كان شبهه بالحر أقوى لوجب على قاتله القصاص لا القيمة .(1/113)
... الركن الثالث : الفرع - ويشترط أن لا يكون فيه نص يثبت حكمه لأن القياس إنما يصار إليه عند خلوّ الفرع من الحكم الثابت له بالتنصيص وأما الاستدلال بالقياس في مسألة ثبت حكمها بالنص فإنما هو لإقناع المخالف بصحة الحكم عند طعنه في النص بما يراه مضعفاً للاستدلال به لا لأن القياس هو الدليل فيها ، وأن تكون العلة موجودة فيه لأنها هي الوصف الجامع بينه وبين الأصل فإذا لم تكن موجودة في الفرع امتنع كونه فرعاً له ولأن المقصود وهو ثبوت مثل حكم الأصل متوقف على ثبوت علته فيه كما في قياس فقهائنا عظام الميتة على لحمها في النجاسة لأن الحياة تحلها بدليل قوله تعالى : (( قال من يُحيي العظامَ وهي رميم قل يُحييها الذي أنشأها أولَ مرة )) وما تحله الحياة يحله الموت .
... الركن الرابع : الحكم - ويشترط فيه أن يكون شرعياً لأن القياس دليل شرعي فلا يستدل به إلا على حكم شرعي وعلى هذا فلا يجوز القياس في إثبات الأحكام العقلية ولا في إثبات الأسماء اللغوية على الأصح ، وأن يكون معللاً لأنه إذا لم يكن معللاً فلا يكون اشتراك بين الفرع والأصل لفقدان الوصف الذي يجمع بينهما لذلك امتنع القياس على ما لم يعقل معناه كمعظم التقديرات والأعمال التعبدية لخفاء المعنى الذي لأجله شرع الحكم فيها (1) .
... هذا وقد يُعترض على القياس بنفي الحكم في الأصل ، أو بنفي وجود الوصف فيه ، أو بنفي كون الوصف علة ، أو بمعارضته بوصف آخر في الفرع يقتضي نقيض حكم الأصل إلى غير ذلك من الاعتراضات التي يمكن رد القياس بها ...
ــــــــــــــ
1- راجع الشرط الثالث من شروط الأصل .(1/114)
... مثال الاعتراض بنفي الحكم في الأصل احتجاج الشافعية على غسل الإناء سبع مرات من شرب الخنزير بالقياس على شرب الكلب ، فينفي الحنفية الحكم في الأصل بتحديد مرات الغسل بالسبع محتجين بإفتاء أبي هريرة بغسل الإناء من شرب الكلب ثلاث مرات (1) وهو الراوي لحديث غسله سبع مرات لأنهم يرجحون العمل بتأويل الراوي ، ولكن الشافعية يرون الحكم بغسله سبع مرات ثابتاً في الأصل بالنص وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - (( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات )) (2) ، وأما نحن المالكية فإننا نوافق الشافعية على ثبوت الحكم في الأصل بالنص إلا أننا لا نوافقهم على القياس عليه لاعتبار آخر وهو أننا نرى الأمر بغسل الإناء سبع مرات من شرب الكلب تعبدياً فهو من باب الأصل المخصوص بالحكم وإن لم ينص الشارع على الخصوص فيه ولكن لم يعقل معناه فتعذر حمل غيره عليه .
... ومثال الاعتراض بنفي وجود الوصف في الأصل احتجاج الشافعية على وجوب الترتيب في الوضوء بقولهم هو عبادة يبطلها الحدث كما يبطل الصلاة لذلك فإن الترتيب فيه واجب بالقياس على وجوبه في الصلاة ، فيقول الجمهور من فقهائنا لا نسلم بوجود الوصف الذي هو إبطال الحدث في الأصل الذي هوالصلاة لأن الحدث عندنا لا يبطل الصلاة وإنما يبطل الوضوء ، وببطلان الوضوء تبطل الصلاة لأنه من شروط صحتها فيثبت الشافعية إبطال الحدث للصلاة بقولهم من لم يجد ماء ولا تراباً إذا صلى ــــــــــــــ
1- إفتاء أبي هريرة بغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاث مرات رواه الطحاوي والدارقطني ، ولكن ثبت أيضاً أنه أفتى بغسله سبعاً كما جاء في الحديث المرفوع وقد رجحت الرواية الموافقة للحديث على الرواية المخالفة له إسناداً ونظراً - انظر (( فتح الباري )) و (( نيل الأوطار )) .
2- حديث (( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات )) رواه مالك وأحمد والشيخان عن أبي هريرة .
وأحدث في صلاته بطلت صلاته مع أنه ليس بمتوضئ .(1/115)
... ومثال الاعتراض بنفي كون الوصف علة احتجاج الحنفية على أن المعتقة تحت حرّ لها الخيار بين البقاء في عصمته وبين مفارقته كالمعتقة تحت عبد لأنها ملكت نفسها بالعتق ، فينفي الجمهور كون ملكها نفسها بالعتق هو العلة ويقولون إنها لا تملك حق الخيار إلا إذا أُعتقت وهي تحت عبد وتكون العلة حينئذ عدم الكفاءة لأنها لما صارت حرة وزوجها عبد لم يبق كفؤاً لها فملكت عندئذ حق الخيار ، فيقول الحنفية لقد روينا عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة (( أن زوج بريرة كان حراً فلما أعتقت خيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاختارت نفسها )) (1) ، فيجيبهم الجمهور بأن روايتي القاسم وعروة عنها (( أن زوجها كان عبداً (2) أرجح من رواية الأسود لأنهما اثنان وسمعا منها مواجهة دون حجاب مقابل واحد سمع من وراء حجاب وروايته معلولة بالانقطاع كما قال البخاري ، يضاف إليهما قول ابن عباس : (( كان زوج بريرة عبداً أسود يقال له مغيث )) كما جاء في صحيح البخاري .
... ومثال المعارضة بوصف آخر في الفرع يقتضي نقيض حكم الأصل احتجاج الشافعية على أن المديان تجب عليه الزكاة قياساً على غير المديان بجامع ملك النصاب ، فيقول فقهاؤنا وفقهاء الحنفية لقد عارضَنا في الفرع معارض وهو الد?ينْ المستهلك للنصاب فاقتضى نقيض حكم الأصل الذي هو وجوب الزكاة بسبب تعلق حقوق الغرماء بالمال ، فيجيب الشافعية بأن الد?ينْ لا يصلح للمعارضة لأنه متعلق بذمة المديان لا بعين ــــــــــــــ
1- حديث الأسود عن عائشة رواه أحمد وأصحاب السنن .
2- رواية القاسم عن عائشة لأحمد ومسلم وأبي داود والدارقطني ، ورواية عروة لأحمد ومسلم وأبي داود والترمذي .
المال إذ لو هلك بسببه أو بغير سببه لم يسقط الدين عنه ، وأما الزكاة فهي متعلقة بعين المال لا بالذمة إذ لو هلك المال بغير سببه لسقطت الزكاة عنه .
... قياس العكس(1/116)
... قياس العكس هو إثبات عكس حكم الأصل في الفرع لتعاكسهما في العلة ، ومثاله قوله - صلى الله عليه وسلم - حين قيل له : أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ (( أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر )) (1) .
... فحكم الأصل هنا ثبوت الوزر بوضع الشهوة في الحرام وحكم الفرع ثبوت الأجر بوضعها في الحلال وهما متعاكسان ، وعلة ثبوت الوزر وضعها في الحرام وعلة ثبوت الأجر وضعها في الحلال وهما متعاكستان وتعاكسهما هو الذي اقتضى تعاكس الحكمين لأن كلاً من الحكمين مترتب على علته فلما عاكست علة الفرع الأصل ثبت للفرع عكس حكم الأصل .
... الاستدلال
... اعلم أن الاستدلال قياس منطقي يستند إلى تلازم بين الحكمين أو إلى
ــــــــــــــ
1- روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر (( أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال : أوَ ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ، إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال : أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر )) .
إلى تنافٍ بينهما .
... والأول ثلاثة أنواع : استدلال بالعلة على المعلول ، واستدلال بالمعلول على العلة ، واستدلال بأحد المعلولين على الآخر .
... والثاني أيضاً ثلاثة أنواع : استدلال بالتنافي بين الحكمين وجوداً وعدماً ، واستدلال بالتنافي بينهما وجوداً فقط ، واستدلال بالتنافي بينهما عدماً فقط .(1/117)
... مثال الاستدلال بالعلة على المعلول احتجاج فقهائنا على أن بيع الغائب صحيح بأنه حلال لدخوله في مدلول قوله تعالى : (( وأحل الله البيع وحرم الربا )) ولما كان حلالاً كان صحيحاً لأن الحل على الصحة .
... ومثال الاستدلال بالمعلول على العلة استدلال فقهائنا على أن صلاة الوتر نافلة بأنه يجوز للمسافر أن يؤديها على الراحلة (1) وما يجوز أن يؤدى على الراحلة فهو نافلة فصلاة الوتر إذاً نافلة وذلك أن جواز أداء الصلاة على الراحلة معلول من معلولات النوافل التي يترخص فيها بما لا يترخص في الفرائض ولذلك لا يصح أداء الفرائض على الراحلة .
... ومثال الاستدلال بأحد المعلولين على الآخر احتجاج الشافعية على وجوب الزكاة على المديان في النقدين بوجوبها عليه في الحرث والماشية إذ هما معلولان لعلة واحدة وهي ملك النصاب ، واحتجاج فقهائنا على أن المكره على القتل يقتل بأن المكره على القتل يحرم عليه القتل ويعد? عاصياً به إجماعاً وأن العصيان بالقتل ووجوب القصاص به معلولان لعلة
ــــــــــــــ
1- جاء في صحيح مسلم عن ابن عمر قال : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على الراحلة قِبَل أي وجه توجه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة )) .
واحدة وهي أهلية القاتل للخطاب .
... ومثال الاستدلال بالتنافي بين الحكمين وجوداً وعدماً احتجاج فقهائنا على أن المديان لا تجب عليه الزكاة بأن أخذ الزكاة وإعطاءها متنافيان وجوداً وعدماً ، لأنه إما أن يعتبر غنياً وإما أن يعتبر فقيراً وعلى كلا الاعتبارين يتعين أحد الحكمين ويمتنع الآخر ، فإن اعتبر غنياً وجب عليه إعطاء الزكاة وحرم عليه أخذها ، وإن اعتبر فقيراً جاز له أخذها وسقط عنه إعطاؤها ، وإذا ثبت التنافي بين الحكمين وجوداً وعدماً وجب بوجود أحدهما عدم الآخر ، ولما ثبت هنا أحدهما وهو جواز أخذه للزكاة إجماعاً وجب عدم الآخر وهو وجوبها عليه .(1/118)
... ومثال الاستدلال بالتنافي بين الحكمين وجوداً فقط احتجاج الشافعية والحنابلة على عدم نجاسة المني بأن نجاسته وجواز الصلاة به متنافيان ولما كانت الصلاة به جائزة فهو ليس بنجس ، ومستندهم في جواز الصلاة به حديث عائشة قالت : (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلت المني من ثوبه بعرق الإذْخِر ثم يصلي فيه ويحته من ثوبه يابساً ثم يصلي فيه )) (1) .
ــــــــــــــ
1- حديث عائشة هذا رواه أحمد في مسنده وجاء في روايات أخرى لمسلم وأصحاب السنن أنها كانت تفركه من ثوبه ويصلي فيه ، ولكن المالكية رجحوا رواية الشيخين التي فيها أنها كانت تغسله فقد جاء في صحيح البخاري أنها قالت : (( ... كنت أغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاة وأثر الغسل في ثوبه بقع الماء )) وجاء في صحيح مسلم عنها (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغسل المني ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه )) فذهبوا إلى أنه نجس وأنه بالأحداث الخارجة من البدن أشبه منه بالفضلات الطاهرة لخروجه من مخرج البول . وأما الحنفية فإنهم اتفقوا مع المالكية على نجاسته إلا أنهم قالوا تزول بالفرك إذا كان يابساً جمعاً بين رواية الغسل ورواية الفرك .
... ومثال الاستدلال بالتنافي بين الحكمين عدماً فقط احتجاج فقهائنا على طهارة مَيْتة البحر بعدم تحريم أكلها فإن الطهارة وحرمة الأكل لا يتفقان لأن كل ما ليس بطاهر فهو محر?م الأكل وكل ما ليس بمحرم الآكل فهو طاهر ولما كانت ميتة البحر ليست بمحرمة الأكل (1) وجب أن تكون ميتة طاهرة .
*
ــــــــــــــ
1- لقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن التوضؤ من ماء البحر : (( هو الطهور ماؤه الحل ميتته )) رواه مالك وأحمد وأصحاب السنن عن أبي هريرة .
المتضمن للدليل(1/119)
... علمنا أن الاستدلال على الحكم الشرعي إما أن يكون بدليل أصلي من الكتاب أو السنة أو الاستصحاب أو القياس وقد تقدم الكلام عليه والتمثيل لكل نوع منه ، وإما أن يكون بمتضمن للدليل من إجماع أو قول صحابي أو مصلحة مرسلة أو استحسان أو عرف أو سدّ للذرائع .
... وإنما كان الإجماع متضمناً للدليل المعتبر شرعاً لامتناع إجماع مجتهدي الأمة على حكم من غير استناد فيه إلى دليل شرعي وإن خفي علينا في بعض ما انعقد إجماعهم عليه .
... كذلك قول الصحابي فإنه أيضاً متضمن للدليل لأن الصحابة كلهم عدول لثناء الله ورسوله عليهم فلا يُظن بأي منهم الإقدام على قول في الدين دون استناد إلى دليل شرعي .
... ثم المصلحة المرسلة والاستحسان والعرف وسدّ الذرائع فإنها أيضاً من المدارك الشرعية والأصول الفقهية التي تبنى عليها الأحكام في المسائل المتصلة بها .
... الإجماع
... الإجماع هو اتفاق مجتهدي الأمة بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عصر ( طال أو قصر ) على حكم شرعي .(1/120)
... وهو حجة قطعية وتحرم مخالفته لقوله تعالى : (( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبعْ غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً )) فمن اتبع غير سبيل المؤمنين اندرج في هذا الوعيد الشديد لأن ما أجمعوا عليه من قول أو فعل لا شك في أنه سبيلهم ولا شك في أنه سبيل هدى لأنهم لا يجتمعون على ضلالة وكل سبيل غيره سبيل ضلال لا يتبعه إلا ضال منشق عن جماعة المؤمنين ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - (( إن أمتي لا تجتمع على ضلالة )) (1) وقوله : (( يد الله مع الجماعة ومن شذ? شذ? إلى النار )) (2) وقوله : (( إن الله أجاركم من ثلاث خِلال أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعاً وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق وأن لا تجتمعوا على ضلالة )) (3) ولأحاديث أخرى متواترة المعنى تتضمن عصمة الأمة المحمدية من الضلال ومن الخطأ فيما تجتمع عليه رواها كبار الصحابة كعمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وحذيفة بن اليمان.
ــــــــــــــ
1- حديث (( إن أمتي لا تجتمع على ضلالة )) رواه ابن ماجه عن أنس بن مالك ورواه عنه الدارقطني في (( الافراد )) وقال السخاوي في (( المقاصد الحسنة )) بعد كلام طويل : وبالجملة فهو حديث مشهور المتن ذو أسانيد كثيرة وشواهد متعددة .
2- حديث (( لا تجتمع أمتي على ضلالة ويد الله مع الجماعة ومن شذ شذ إلى النار )) رواه الترمذي عن ابن عباس .
3- حديث (( إن الله أجاركم من ثلاث خلال ... )) رواه أبو داود والطبراني عن أبي مالك الأشعري .
... هذا ويتعلق بالإجماع عشر مسائل رئيسية نوجزها فيما يلي :(1/121)
... المسألة الأولى : كل إجماع لا بد أن يكون مستنداً إلى دليل شرعي من الكتاب أو السنة أو القياس كالإجماع على تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير لقوله تعالى : (( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير)) والإجماع على وجوب قضاء الصلاة على النائم والغافل لقوله - صلى الله عليه وسلم - (( إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها )) (1) ، والإجماع على تحريم شحم الخنزير بالقياس على لحمه ، والإجماع على تنجس الزيت إذا ماتت فيه فأرة بالقياس على السمن المائع .
... المسألة الثانية : الإجماع لا يختص بالصحابة خلافاً للظاهرية (2) وإجماعهم يشمل المجتهدين من التابعين الذين كانوا معهم وقت إجماعهم لأنهم يعتبرون من عصرهم .
... المسألة الثالثة : إذا أجمع التابعون على أحد قولين للصحابة اعتبر إجماعاً لهم كإجماعهم على تحريم بيع أم الولد : فإن بعض الصحابة ومنهم عمر وعثمان حرموا بيعها ، وبعضهم كأبي بكر وعلي وجابر وأبي سعيد وابن عباس أجازوه وبه أخذ الظاهرية (3) .
ــــــــــــــ
1- حديث (( إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها )) رواه مسلم عن أنس بن مالك ورواه عنه أيضاً بلفظ (( من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها )) .
2- وللمشهور عن الإمام أحمد الذي يرى تعذر ضبط اتفاق من بعدهم لكثرتهم وتباعد مواطنهم .
3- يقول الظاهرية لما انعقد الإجماع على أنها مملوكة قبل الولادة وجب أن تبقى على ذلك بعدها إلى أن يدل الدليل على غيره ، فيردّ عليهم الجمهور بدعوى مماثلة إذ يقولون لما انعقد الإجماع على تحريم بيعها وهي حامل وجب استمرار مقتضى هذا الإجماع بعد وضعها حملها .(1/122)
... المسألة الرابعة : لابد في الإجماع من اتفاق كل مجتهدي العصر فلا ينعقد إذا خالف بعضهم ولو كان واحداً إذا ما خالف فيه مما يسوغ فيه الاجتهاد لعدم ورود نص فيه (1) ولكن يبقى حجة لرجحانه على ما ذهب إليه المخالف كاحتجاج الجمهور على العول في الفرائض باتفاق الصحابة مع مخالفة ابن عباس ، واحتجاجهم على انتقاض الوضوء بالنوم المستغرق باتفاق الصحابة أيضاً مع مخالفة أبي موسى .
... المسألة الخامسة : لا يعتبر في الإجماع وفاق القدرية والخوارج والرافضة وسائر الفرق المنشقة عن أهل السنة ولا يعتدّ بخلاف من أنكر القياس وتمسك بالظاهر وحده (2) .
... المسألة السادسة : لا إجماع يناقض إجماعاً سابقاً لأن ذلك يستلزم تعارض دليلين قطعيين بناء على أن الإجماع دليل قطعي وتعارض دليلين قطعيين محال .
... المسألة السابعة : يثبت الإجماع عندنا برواية الآحاد له ، ولا يثبت بها عند الأكثرين باعتباره قطعياً ورواية الآحاد ظنية ولا يصح عندهم ثبوت القطعي بالظني ثم لا يعدونه في هذه الحالة حجة لعدم تسليمهم بثبوته (3) وإن كانوا لا يقطعون ببطلان مذهب المتمسكين به في العمل خاصة.
ــــــــــــــ
1- وأما ما ورد فيه نص كربا الفضل فلا يسوغ فيه الاجتهاد ولذلك لم يعتبر القول المنسوب إلى ابن عباس بجواز ربا الفضل مؤثّراً في إجماع الصحابة للأحاديث الصحيحة التي نصت على تحريمه .
2- قال النووي في شرح مسلم : مخالفة داود الظاهري لا تقدح في انعقاد الإجماع على المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون .
3- وقد عد?ه البعض حجة لثبوته بالظن الكافي في العمل ومنهم إمام الحرمين والآمدي والماوردي .
... المسألة الثامنة : الإجماع السكوتي حجة على الصحيح وإن اختلف في تسميته إجماعاً دون تقييده بالسكوتي ، وهو أن ينطق بعض المجتهدين بحكم ويسكت الباقون عنه بعد علمهم به لأن سكوتهم المجرد عن أمارة الاستنكار موافقة وإن لم ينطقوا بها (1) .(1/123)
... المسألة التاسعة : إجماع أهل المدينة حجة عندنا في كل ما اجتمع عليه علماؤها : الفقهاء السبعة (2) وأمثالهم كنافع مولى ابن عمر ومحمد بن شهاب الزهري وربيعة بن عبد الرحمن التيمي وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبان بن عثمان بن عفان . ويرى مالك وقد تفقه بفقههم وجمعه وجوبَ أتباعهم فيما اجتمعوا عليه ويرجحه على الحديث إذا عملوا بخلافه لأنه كان يرى عملهم من عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخذوه عن آبائهم وغير آبائهم من أصحابه الذين لازموه إلى أن توفي بينهم فكانوا أبصر وأعلم بما كان عليه آخر أمره فعملوا به وأخذه عنهم أبناؤهم وأحفادهم الفقهاء السبعة وغيرهم من كبار علماء المدينة وأماثل أهلها فقهاً وورعاً وحرصاً على السنة وتوثقاً في الفتيا .
... هذا وإجماع أهل المدينة نوعان : نوع طريقة النقل المتواتر سواء كان المنقول قولاً كالأذان والإقامة أو فعلاً كصفة صلاته وحجة - صلى الله عليه وسلم - أو ــــــــــــــ
1- ُنسب إلى الإمام الشافعي عدم اعتبار الإجماع السكوتي حجة لعدم اعتباره إياه إجماعاً وقيل هو معني قوله : ( لا ينسب إلى ساكت قول ) وإذا لم يكن إجماعاً فلا يكون حجة لأن قول بعض مجتهدي الأمة ليس بحجة ، ولكن النووي قال في شرح الوسيط : الصحيح من مذهب الشافعي أنه حجة وإجماع ولا ينافيه قوله لا ينسب إلى ساكت قول لأنه محمول عند المحققين على نفي الإجماع القطعي فلا ينافي كونه إجماعاً ظنياً ويكون مراده بقوله لا ينسب إلى ساكت قول نفي نسبة القول صريحاً لا نفي الموافقة كما يسمى سكوت البكر عند استئذانها إذناً ولا يسمى قولاً .
2- هم سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن أبي بكر وسالم بن عبد الله بن عمر وخارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري وسليمان بن يسار الهلالي وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف .(1/124)
إقراراً لما شاهده من أصحابه أو تركاً لأمور ظاهرة لم يدخلها في حكم أشبهها كتركه أخذ الزكاة عن البقول مع كثرتها في بساتين المدينة ، ونوع طريقة الاجتهاد سواء كان فتاوى أم أقضية .
... أما النوع الذي طريقه النقل المتواتر فهو عندنا حجة موجبة للعلم القطعي وملزمة للأخذ به ولترك ما خالفه من خبر أو قياس لا يحصل بهما سوى الظن .
... وأما النوع الثاني الذي طريقه الاجتهاد فإن بعض فقهائنا ومنهم أكثر علماء المغرب يعتبرونه حجة ويعزونه إلى الإمام لتمسكه به وتصريحه في رسالته إلى الليث بن سعد بوجوب اتباع أهل المدينة والتحذير من مخالفتهم ولكنهم لا يرفعون حجيته إلى مستوى حجية النوع الأول الموجبة للعلم القطعي والتي تُضعّف بها الأخبار المعارضة ويرد? العمل بها مع ثبوت صحتها ، وبعضهم لا يعتبرونه حجة ولكن يرجحونه على اجتهاد فقهاء الامصارالأخرى.
... المسألة العاشرة : جاحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة والصيام وحرمة الزنا ولحم الخنزير كافر قطعاً لأن جحده يستلزم تكذيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذا جاحد المشهور المنصوص عليه كحل البيع وحرمة الربا على الأصح .
... قول الصحابي
... كان الإمام مالك يأخذ بفتاوى الصحابة ويرى الأخذ بها واجباً ويعتبرها شعبة من شعب السّنة (1) ومصدراً من مصادر الفقه ، لذلك دو?ن
ــــــــــــــ
1- قال ابن القيم في أعلام الموقعين : فتلك الفتوى التي يفتي بها أحدهم لا تخرج عن ستة أوجه :
الأول : أن يكون سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أن يكون سمعها ممن سمعها منه صلى الله عليه وسلم . =(1/125)
في (( موطئه )) كثيراً منها إلى جانب الأحاديث النبوية وتلقاها أصحابه بالقبول واحتجوا بها كاحتجاجهم على وجوب كفارة واحدة على من كان له عدة زوجات فظاهر منهن معاً بظهار واحد بقول عمر بن الخطاب (( إذا كان تحت الرجل أربع نسوة فظاهر منهن تجزيه كفارة واحدة )) (1) ، وذهب أبو حنيفة إلى أن قول الصحابي إذا خالف القياس كان حجة لأنه لا مدخل للرأي فيه فلا يكون إلا بتوقيف وإذا وافق القياس لم يكن حجة لاحتمال الرأي فيه .
... فمثال ما خالف القياس قول عائشة (( أكثر ما يبقى الولد في بطن أمه سنتان )) فإن هذا التحديد لا يُهدى إليه بقياس ، ومثال ما وافق القياس قول ابن عباس (( الأخوان ليس إخوة )) فإن هذا يؤخذ من القياس .
... المصلحة المرسلة
... لما كان المراد من الشريعة صلاح العباد وقيام مصالحهم الدينية ــــــــــــــ
= الثالث : أن يكون فهمها من آية من كتاب الله فهماً خفي علينا .
الرابع : أن يكون قد اتفق عليها ملؤهم ولم ينقل إلينا إلا قول المفتي بها وحده .
الخامس: أن يكون لكمال علمه باللغة ودلالة اللفظ على الوجه الذي انفرد به عنا أو لقرائن حالية اقترنت بالخطاب أو لمجموع أمور فهمها على طول الزمان من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ومشاهدة أفعاله وسيرته وسماع كلامه والعلم بمقاصده وشهود نزول الوحي ومشاهدة تأويله بالفعل يكون له من الفهم ما لا نفهمه نحن وعلى هذه التقارير الخمسة تكون فتواه حجة علينا .
السادس : أن يكون فهم ما لم يرده النبي صلى الله عليه وسلم وأخطأ في فهمه وعلى هذا التقدير لا يكون قوله حجة ، ومعلوم قطعاً أن وقوع احتمال من خمسة أغلب على الظن من وقوع احتمال واحد معين ولذلك يفيد ظناً غالباً قوياً وليس المطلوب إلا الظن الغالب والعمل به متعين .(1/126)
1- رواه الدارقطني وروى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال في رجل تظاهر من أربع نسوة له بكلمة واحدة ( ليس عليه إلا كفارة واحدة ) وروى مثله عن ربيعة بن عبد الرحمن وقال : وعلى ذلك الأمر عندنا .
والدنيوية على الوجه الذي شرعه الله لهم من الواجب فيما لم يرد فيه نص أو أصل يقاس عليه ملاحظة مقاصد الشريعة ومراعاة مصالح الأفراد والجماعات بالمحافظة على حقوقهم ودفع الضرر عنهم .
... وقد بُدئ بالمصلحة منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم فإنهم أحدثوا أموراً لم يتقدم لها شاهد بالاعتبار ولا بعدمه ، منها تدوين عمر الدّواوين وسك النقود واتخاذ السجون ، وكتابة عثمان المصاحف وهدمه الأوقاف التي كانت بإزاء المسجد وتوسعته بها وزيادته الأذان الأول على الزوراء يوم الجمعة حين كثر الناس واتسعت المدينة .
... ولما كانت المصالح الواجب مراعاتها في استنباط الأحكام لا تعرف إلا بتعريف الشرع لها ولا تقدر إلا بميزانه قسمت من هذه الوجهة إلى ثلاثة أقسام : مصالح معتبرة من الشارع قد عُرف اعتباره لها بالقياس المعتبر شرعاً ، ومصالح غير معتبرة من الشارع قد عُرف عدم اعتباره لها كالمنع من غرس شجر العنب لئلا يعصر خمراً ، ومصالح لم يرد لها في الشرع اعتبار ولا عدمه بل تركت مرسلة أي مطلقة دون شهادة لها بشيء وهذه هي التي سُميت بالمصالح المرسلة وتكثر في المعاملات وسياسة الرعية وتُعد? عندنا من مدارك الشريعة وأصولها التي تبنى عليها الأحكام كما تبنى على القياس ولكن بشروط ثلاثة :
... الأول : أن تكون ملائمة لمقاصد الشرع الضرورية لقيام مصالح العباد ، تلك المقاصد التي إذا أُهملت لم تسِر حياتهم في دنياهم على استقامة ونظام وإنصاف بل على عوج واضطراب وعدوان وهي ( حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال ) وذلك بأن لا تنافي أصلاً من أصول الشريعة ولا دليلاً من أدلتها القطعية .
... الثاني : أن تكون معقولة في ذاتها أي جارية على الأوصاف المناسبة(1/127)
المعقولة التي إذا عُرضت على العقول تلقتها بالقبول .
... الثالث : أن يكون في الأخذ بها حفظ أمر ضروري أو دفع ضرر بيّن أو رفع حرج شاق .
... وذلك كجواز بيعة المفضول مع وجود الفاضل الأولى بالخلافة درءاً للفتنة والفساد واضطراب الأحوال ، وتوظيف الإمام على الأغنياء ما يكفي لحاجة الجند وسدّ الثغور وإقامة السبل والمرافق العامة إذا لم يكن في بيت المال ما يكفي لذلك ، وجواز قتل الجماعة بالواحد إذا اشتركوا في قتله ولم يتبين من حصل الموت من فعله لأن القتيل معصوم الدم وإهدار دمه يحمل على خرم أصل القصاص وعلى اتخاذ الاستعانة ذريعة للقتل إذا عُلم عدم القصاص فيه ، وجواز بتر عضو من مريض يتوقف على بتره شفاؤه وحفظ حياته لأن من مصلحته تحمل ألم بتره وضرر فقدانه في سبيل شفائه وحفظ حياته ، وهكذا سائر الجراحات التي يتوقف عليها شفاء المرضى ، ومثلها كل حالة تنحصر بين ضررين متفاوتين فإن من المصلحة إتيان الأخف منهما درءاً للأشد .
... الاستحسان
... الاستحسان مدرك من مدارك الشريعة في مذهبنا قال به إمامنا (1) في عدة مسائل خر?ج عليها فقهاؤنا كثيراً من النظائر والأشياء ، وهو الترخص في مخالفة مقتضى الدليل لمعارضة دليل آخر له في بعض مقتضياته من مراعاة لمقتضى الضرورة وجلب التيسير ورفع الحرج ودفع الضرر إلى غير ذلك من الأسباب المعتبرة شرعاً كالترخيص لقاضي بلدة ليس فيها ــــــــــــــ
1- وقال به أيضاً الإمام أبو حنيفة .(1/128)
من تنطبق عليه شروط العدالة في قبول شهادة أقربهم إلى الخير والصدق حتى لا تتعطل مصالحهم ، والترخيص في الاطلاع على العورات عند الضرورة للمداواة والتمريض ، وتضمين أصحاب الطواحين وحاملي الأطعمة ما يهلك عندهم إذا لم يقيموا البينة على هلاكه من غير سبب منهم ، وتضمين الصناع المنتصبين للناس (1) ما يد?عون هلاكه وذلك منعاً للتهاون في حفظ أموال الناس مع أن الأصل عدم التضمين في غير التعمد ، وعدم إلزام الزوجة الشريفة بالإرضاع إذا كان يلحقها به تعيير أو انتقاص استثناءً من قوله تعالى : (( والوالدات يرضعن أولادهن )) ، والمطلقة يرتفع حيضها بلا سبب يكفيها انتظار تسعة أشهر ( مدة الحمل غالباً ) وثلاثة أشهر ( عِد?ة ) ثم تتزوج مع أنها ليست من ذوات الأشهر لأنها لو بقيت دون زواج منتظرة معاودة الحيض أو بلوغ سن اليأس لتضررت وتعرضت للزلل ولأن المقصود من العدة وهو تحقيق البراءة من الحمل يتحقق بانقضاء المدة الغالبة له فتتحول إلى الاعتداد بالأشهر .
... هذا ولم يقل بعض علمائنا بالاستحسان وردوا هذه المسائل وأشباهها إلى القياس أو المصلحة أو العرف .
... العرف
... العرف هو ما اعتاده فريق من الناس في أقوالهم وأفعالهم ومجاري حياتهم . ونحن نأخذ به (2) إذا لم يخالف نصاً قطعياً ونعتبره أصلاً من الأصول الفقهية المعينة على تعيين الأحكام الشرعية المطلوبة للوقائع التي
ــــــــــــــ
1- الصناع من هؤلاء يعرف بالمشترك . والذي لا ينتصب للناس يعرف بالخاص وهو غير ضامن وعند غيرنا الصانع الخاص هو الذي يعمل في منزل المستأجر له .
2- والحنفية أيضاً يأخذون به .
تتصل بها أو تجرى بحسبه . وهو عندنا يخصص العام ويقيد المطلق ويفسر الألفاظ في العقود والأيمان وكنايات الطلاق وسائر الألفاظ المتعارف على مفاهيمها ، وهو تابع للتبدل وبحسب تبدله يكون الإفتاء والقضاء (1) .
... سدّ الذرائع(1/129)
... الذرائع هي الوسائل المؤدية إلى مصالح أو مفاسد ، وحكمها كحكم ما تؤدي إليه من حلال أو حرام أو غيرهما ، والأصل في اعتبارها هو النظر في نتائج الأفعال وما تؤدي إليه لا في نية فاعلها وإن كان للنية اعتبارها عند الله الذي له وحده حق محاسبته عليها .
... والمراد بسدّ الذرائع منع الوسائل المؤدية إلى مفاسد وتنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية :
... الأول : ما يكون أداؤه إلى المفسدة يقينياً كحفر بئر غير مسو?رة في مكان يمر منه الناس ليلاً ، وكالخلوة بشابة أجنبية ، ومصاحبة أهل الدعارة والفجور ، وهذا حرام يجب منعه لأدائه القطعي إلى المفسدة .
... الثاني : ما يكون أداؤه إلى المفسدة راجحاً كحفر بئر غير مسو?رة في مكان لا يمر منه الناس ليلاً وكبيع العنب لخمار وكشف الشابة الجميلة وجهها للأجانب ، وهذا شبيه بالحرام يجب منعه لرجحان أدائه إلى المفسدة .
... الثالث : ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادراً كحفر بئر في مكان غير مطروق وكبيع مبيد للحشرات قاتل للإنسان وكشف المرأة المسنة أو
ــــــــــــــ
1- انظر (( الفروق )) للقرافي .
...
الدميمة وجهها للأجانب ، وهذا مباح لندرة أدائه إلى الضرر مع قيام المصلحة وأصل الإذن .
... وأما الذرائع المؤدية إلى مصالح فلا يجوز سد?ها ولا سيما إذا كانت المصالح متوقفة عليها وتكون حينئذ واجبة أو مندوبة أو مباحة بحسب حكم المصلحة نفسها كالسعي لصلاة الجمعة والسفر للاستزادة من العلم والتنقل بين البلدان للتعرف عليها .
... هذا والذرائع أصل من الأصول الفقهية عندنا والأخذ بها ثابت في المذاهب الأربعة وإن لم يصرح به في بعضها ، وقد اعتمد عليه مالك وأحمد أكثر من الشافعي وأبي حنيفة اللذين لم يعتبراه أصلاً قائماً بذاته بل مندرجاً في الأصول الأخرى المقررة عندهما .
*
الاجتهَاد(1/130)
... الاجتهاد هو بذل الفقيه ما في وسعه من جهد لاستنباط الأحكام الشرعية من مداركها الفقهية . وهو مقصور على استنباط الأحكام ذات الأدلة الظنية لأن الأحكام الثابتة بأدلة قطعية لا تدخل في دائرته إلا ما كان من متعلقها وهو المحكوم عليه أي المكلف والمحكوم فيه أي الفعل وما له من صفات وشروط وقيود وغيرها ...
... ولا يعد? الفقيه مجتهداً إلا إذا كان جامعاً لشروط الاجتهاد من معرفة باللغة العربية وبلاغتها وبأصول الفقه ومدارك الأحكام ومتعلقها من كتاب وسنة وإجماع وأسباب نزول وورود وناسخ ومنسوخ ونص ومجمل وظاهر ومؤول وعام وخاص وسائر أوجه الدلالات حتى اكتسب بذلك قدرة على فهم النصوص الشرعية ومراميها كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد والليث بن سعد وسفيان الثوري وعبد الرحمن الاوزاعي ومحمد بن جرير الطبري ... فكل من هؤلاء الفقهاء الأئمة مجتهد مطلق له أصوله وقواعده ونهجه في الاستدلال واستنباط الأحكام .
... ويأتي بعد المجتهد المطلق مجتهد المذهب وهو الفقيه المتضلع القادر على الاستدلال واستنباط الأحكام من مداركها على نهج إمامه وأصوله وأقواله في المسائل دون أن يلتزم موافقته في كل اجتهاداته ، فقد يخالفه في بعضها لظهور ما يوجب عليه ذلك من دليل وجده أصح أو فهمه له رآه أصوب كعبد الرحمن بن القاسم وعبد الله بن وهب وأشهب بن عبد العزيز في مذهب مالك ، والربيع بن سليمان المرادي وإسماعيل بن يحيي المزني ويوسف بن يحيي البويطي في مذهب الشافعي ، وأبي يوسف بن إبراهيم الأنصاري ومحمد بن الحسن الشيباني وزفر بن الهذيل الكوفي في مذهب أبي حنيفة ، وأبي بكر الأثرم وإسحاق بن راهويه المروزي وأحمد بن محمد ابن الحجاج المروزي في مذهب أحمد .(1/131)
... ويأتي بعد مجتهد المذهب مجتهد الترجيح وهوالفقيه المتبحر في مذهب إمامه أصولاً وفروعاً ، المتمكن من ترجيح قول على آخر وتمييز أصح الأقوال من غيرها بالاستناد إلى الأدلة ومرجحاتها وأصول الإمام ومسائله وما روي عنه وعن أصحابه وما دُو?ن من فتاويهم ولآرائهم الفقهية . وهذا النوع من الاجتهاد قد يتجزأ فيُعنى بعض الفقهاء بالتخصص في بعض أبواب الفقه كالعبادات أو المواريث والوصايا أو النكاح والطلاق والتزاماتهما ، أو البيوع والعقود في الرجوع إلى مداركها واستقراء مسائلها وأدلتها وعلل أحكامها إلى أن يبلغوا فيها مرتبة الترجيح .
... ويلي هذه الطبقة فقهاء مقلدون اقتصروا على دراسة ما تيسر لهم من مؤلفات مَن قبلهم فحفظوه كما هو وعلّموه لغيرهم كما تعلموه دون أن يكون لهم أثر فيه غير التلخيص والشرح والتعليق والإشارة إلى ما اختُلف فيه من الفروع وما استقر المذهب عليه ، وهؤلاء فريقان :
... فريق أخذوا مع الأقوال مستنداتها ووجوهها ومع الأحكام أدلتها وعللها ولكن دون أن تكون لهم آراء ذاتية في تلك الأقوال أو موازنة بين الأدلة ترفعهم إلى مرتبة المرجحين فبقوا مقلدين ولكن على بصيرة لاطلاعهم على أصول إمامهم ومدارك فقهه والأدلة التي استند إليها في استنباطاته والمسائل التي رويت عنه وعن أصحابه وما خر?جه كبار الفقهاء عليها من الفروع في كل باب من أبواب الفقه وفصوله وتحقيق المرجحين فيما اختلفوا فيه منها ، وهؤلاء أحرياء لأن يعتبروا فقهاء متبعين لا علماء مقلدين .(1/132)
... وفريق أخذوا الأقوال مجردة عن مستنداتها والأحكام عارية عن أدلتها واكتفوا بمعرفة الفروع الفقهية المبوبة والفتاوي المدونة دون الرجوع إلى أصولها وشواهدها ، وهؤلاء أكثر عدداً ولكنهم أدنى مرتبة من الفريق الأول وأشد? منهم تقيداً بالتقليد وتعصباً له لقصْر علمهم عليه ، وحصر أنفسهم في فلكه ، لا يستشفون ما وراءه من أضواء شموس الأدلة التي تكشف عن مدارك الأحكام ومناطاتها وتنير سبيل الوصول إلى الفقه الأمثل بالعلم الأكمل .
... والأئمة المجتهدون كلهم على هدى من ربهم لأنهم بذلوا في اجتهادهم أقصى ما في وسعهم من جهد على ما عُرف عنهم ودلت عليه آثارهم ، وكانوا حائزين على شروط الاجتهاد مطلعين على مدارك الشريعة وأدلتها ومقاصدها ، مع ما أوتوا من بصيرة نافذة ورأي فقهي مسد?د في استنباط الأحكام وتعليلها وحرص شديد على ارتياد الحق وتحري الصواب .
... هذا وقد اجتهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما لم يوحَ إليه وأذن به العلماء من أصحابه كمعاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن وقال له : (( كيف
تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال : أقضي بما في كتاب الله . قال : فإن لم يكن في كتاب الله ؟ قال : فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فإن لم يكن في سنة رسول الله ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو . فضرب - صلى الله عليه وسلم - بيده في صدره وقال : الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضاه رسولُ الله )) . وإقراره اجتهاد عمرو بن العاص في الصلاة بأصحابه بالتيمم وهو جنب إشفاقاً على نفسه من الهلاك بالبرد إن اغتسل (1) ، وإقراره اجتهاد أصحابه الذين صلوا العصر قبل وصولهم إلى بني قريظة تخوفاً من فوات وقتها ، واجتهاد الذين لم يصلّوها إلا عند وصولهم كما أمرهم فلم يلُم هؤلاء ولا هؤلاء .(1/133)
... واجتهد عمر بن الخطاب وأمر شُريحاً بالاجتهاد حين ولا?ه قضاء الكوفة فكتب إليه : إذا أتاك أمر فاقضِ بما فيه في كتاب الله فإن أتاك ما ليس في كتاب الله فاقضِ بما سن? فيه رسول الله فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسنّ رسول الله فاقضِ بما أجمع عليه الناس فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسّن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يتكلم فيه أحد فأي? الأمرين شئت فخذ به . وكتب إلى أبي موسى الأشعري يقول له : إن القضاء فريضة مُحْكمة وسُنّة متبعة ... الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك بنظائرها واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق ...
ــــــــــــــ
1- روى أحمد وأبو داود وابن حبان والدارقطني والبخاري تعليقاً عن عمرو بن العاص قال : (( احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فقال : يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب فقلت ذكرت قول الله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً ، فتيممت ثم صليت ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً )) .(1/134)
... واجتهد غير عمر ومعاذ وأبي موسى كثير من علماء الصحابة كعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت إلا أن عمر كان أرسخهم فيه قدماً لما أوتي من عمق في النظر وسداد في الرأي وجرأة في قول الحق لم يُعرف مثلها لغيره من الأصحاب حتى لقد كانت بعض آرائه في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينزل القرآن بها ، ولم يكن يقتصر في اجتهاده على ظواهر النصوص بل كان ينظر أيضاً إلى روحها ومعانيها الخفية وإلى مقاصد الشريعة في حفظها لمصالح الأمة وتنظيم شؤونها : فقد أفتى بأن المطلقة إذا كانت من ذات الاقراء وارتفع حيضها لغير سبب من حمل أو رضاع أو مرض تنتظر تسعة أشهر ( مدة الحمل غالباً ) وثلاثة أشهر ( عدة ) ثم لها أن تتزوج مع أنها ليست من ذوات الأشهر ناظراً إلى المقصود من العدة وهو تحقيق البراءة من الحمل ، وإلى مصلحة المطلقة بإبعادها عن الضرر وخطر الزلل إذا بقيت دون زواج منتظرة معاودة الحيض أو بلوغ سنّ اليأس (1) ، وأشرك الإخوة الأشقاء مع الإخوة لأم إذا لم يبق للأشقاء شيء بعد أخذ ذوي الفروض فروضهم لأنه رأى الجميع يدلون إلى مورثهم بأمهم ولأن في حرمان الأقوى إدلاء إليه باستئثار الأضعف إدلاء بما فرض له ضرراً على الأقوى (2) ، ووقف أراضي العراق والشام ومصر التي فتحت عنوة على جميع المسلمين ليصرف خراجها في مصالحهم في توفير الأسلحة والأرزاق للمجاهدين وبناء الجسور والمساجد وغيرها من المرافق العامة ، وذلك حين رأى الدولة الإسلامية ومدنها وتخومها قد اتسعت بالفتوح وعظمت نفقاتها ووافقه
ــــــــــــــ
1- وروي أيضاً عن ابن عباس وأخذ به مالك .
2- ووافقه على اجتهاده في هذه المسألة من الأصحاب زيد وعثمان وأخذ به من الأئمة مالك
والشافعي .
شيوخ المهاجرين والأنصار على اجتهاده هذا بعد أن أقنعهم بصوابه (1) .(1/135)
... هذا وأن اختلاف المجتهدين رحمة من الله بعبادة إذ أراد بهم اليسر ولم يرد بهم العسر ولم يجعل عليهم في الدين من حرج وإن كان المصيب فيما اختلفوا فيه واحداً منهم والآخرون مخطئون غير آثمين بل مأجورون لأنهم بذلوا ما في وسعهم من جهد لتحصيل الحكم الأشبه بالحق في كل مسألة ليس فيها نص قطعي يعيّن حكمها بدليل قطعي . هذا مذهب الجمهور ومنهم إسماعيل بن إسحاق والقرافي وابن الحاجب وابن فورك وسيف الدين الآمدي وفخر الدين الرازي وإسحاق بن راهويه وأبو إسحاق الاسفرارييني ونقل عن مالك والليث وأبي حنيفة والشافعي . قال أشهب : سمعت مالكاً يقول ما الحق إلا واحد قولان مختلفان لا يكونان صواباً معاً . وقال القرافي في (( تنقيح الفصول )) : إن الله شرع الشرائع لتحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة ودرء المفاسد الخالصة أو الراجحة ويستحيل وجودها في النقيضين فيتحد الحكم .
... وقد اختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض المسائل وخطّأ بعضهم أقوال بعض ، وقال - صلى الله عليه وسلم - (( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر )) (2) أي إذا أراد الحاكم الحكم فاجتهد فحكم ... الخ ، فبيّن أن الاجتهاد فيه الخطأ كما فيه الصواب .
ــــــــــــــ
1- وأخذ به مالك والمراد من وقفها هنا تركها غير مقسومة لا الوقف المصطلح عليه .
2- حديث (( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ... )) رواه أحمد والشيخان وأصحاب
السنن عن عمرو بن العاص وعن أبي هريرة .
... وذهب بعض الفقهاء إلى أن كل مجتهد مصيب وقالوا ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معين بل الحكم فيها يتبع الاجتهاد وحكم الله تعالى على كل مجتهد ما أد?ى إليه اجتهاده (1) .
*
ــــــــــــــ(1/136)
1- لمزيد من الاطلاع على حجج كل من فريقي التصويب والتخطئة ومناقشتها يراجع كتاب (( المستصفى )) للغوالي الذي يقول بالتصويب وينتصر له ، وفي (( تنقيح الفصول )) للقرافي و (( إرشاد الفحول )) للشوكاني اللذين يقولان بالتخطئة وينتصران لها .
التقْليدُ والاتبَاع
... قال السبكي في (( جمع الجوامع )) : التقليد هو أخذ القول من غير معرفة دليله ويلزم غير المجتهد .
... وقال الغزالي في (( المستصفى)) : التقليد هو قبول قول بلا حجة وليس ذلك طريقاً إلى العلم لا في الأصول ولا في الفروع .
... وقال إمام الحرمين في (( الورقات )) : التقليد هو قبول قول القائل بلا حجة يذكرها وليس للعالمِ أن يقلد غيره لتمكنه بالقوة من الاجتهاد .
... وقال ابن عبد البر في (( جامع بيان العلم وفضله )) : الاتباع هو أن تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه ، والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرفه ولا تعرف وجه القول ولا معناه وتأبى من سواه أو أن يتبين لك خطأه فتتبعه مهابة خلافه وهذا محرم في دين الله عز وجل . وقال أيضاً : القول لا يصح لفضل قائله وإنما يصح بدلالة الدليل عليه ، وقال نقلاً عن ابن خُويز مِنَداد : كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك لدليل يوجبه عليك فأنت مقلده وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه والاتباع في الدين مسو?غ وأما
التقليد فممنوع ... ثم قال : لم يختلف العلماء في وجوب تقليد العامة علماءَها وأنهم هم المرادون بقول الله عز وجل : (( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )) .(1/137)
... وقال القرافي في (( تنقيح الفصول )) نقلاً عن ابن القصار قال مالك : يجب على العوام تقليد المجتهدين في الأحكام كما يجب على المجتهدين الاجتهاد في أعيان الأدلة . وقال مالك أيضاً : ليس كلما قال رجل قولاً وإن كان له فضل يُتبع عليه فإن الله تعالى يقول : (( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب )) وقال أيضاً : إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم لقد أدركت سبعين رجلاً ممن يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند هذه الأساطين - وأشار إلى المسجد - فما أخذت عنهم وإن أحدهم لو اؤتمن على بيت مال لكان أميناً إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن ( يعني الحديث والفتيا ) . وقال أيضاً أدركت بهذا البلد أقواماً لو استُقي بهم المطر لسُقوا قد سمعوا العلم والحديث كثيراً ، ما حدثت عن أحد منهم شيئاً لأنهم كانوا ألزموا أنفسهم خوف الله وهذا الشأن يحتاج إلى رجل معه تقى وورع وصيانة وإتقان وعلم وفهم ما يخرج من رأسه وما يصل إليه .(1/138)
... هذه جملة من أقوالهم في التقليد والاتباع بسطتها لك لتتدبرها وأنت تدرس أصول الفقه وفروعه فتعمل على تحرير نفسك من دائرة التقليد المغلقة إلى ساحة الاتباع المستنيرة بأنوار الأدلة فإنها أجدر بطلب العلم وأوجب إذ لا ينبغي لمن يعلم أن يبقى في مستوى من لا يعلم ولا يجوز له أن يلتزم التقليد المحض وهو قادر على الاتباع بعطف الفروع على الأصول وقرنها بأدلتها من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وسائر المدارك الفقهية وما ذلك بعسير على من يجد? في الطلب ويثابر عليه . ولا ترجئ الدخول في ساحة الاتباع المشرقة إلى أن تحيط علماً بالفروع والأصول بل اعمل له وأنت تدرس واجعله بغيتك التي تطلبها وهدفك الذي ترمي إليه ، فيقوّي هذا الطموحُ جدك في الطلب وحرصك على ربط الفروع بأصولها والمسائل بأدلتها ، إلى أن تفرغ بهذه الطريقة من دراسة جميع أبواب الفقه وما يعرض لك فيها من المسائل فتجد في نفسك حينئذ الميل إلى التوسع والاستقصاء في الأمهات من كتب الفقه والفتيا والأصول وفي آيات الأحكام وأحاديتها من كتب التفسير والسنة ، وإلى الاطلاع على فهم الأئمة لها وطرق استنباطهم الأحكام منها وما اتفقوا عليه واختلفوا فيه ، وإلى تحري أسباب الخلاف وعوامل الترجيح والموازنة بين الأدلة والمرجحات بالاستناد إلى ما كسبته من ملكة فقهية نيرة ، وإلى التمحيص العلمي العميق والله المستعان وهو ولي التوفيق .
- انتهى والحمد لله -
المحْتَوى
الموضوع ... ... ... ... ... ... الصفحة
المقدمة ........................................................ ... 5
توطئة ......................................................... ... 7
الاستدلال على الحكم الشرعي.................................. ... 9
التواتر....................................................... ... 10
خبر الآحاد..................................................... ... 11(1/139)
اتضاح دلالة الدليل الأصلي النقلي ............................. ... 23
القسم الأول من أقسام المتن وهو القول ......................... ... 23
دلالة القول بمنطوقه – الأمر والنهي والتخيير................... ... 23
القول من حيث دلالته على المعنى.............................. ... 39
النص ....................................................... ... 40
المجمل وأنواعه والقرائن المرجحة لأحد الاحتمالين ............ ... 42
الظاهر وأسباب اتضاح دلالته ................................. ... 49
المؤول وأدلة رجحانه في المعاني التي تؤول فيها .............. ... 63
دلالة القول بمفهومه ........................................... ... 75
القسم الثاني من أقسام المتن وهو الفعل ........................ ... 81
القسم الثالث من أقسام المتن وهو التقرير....................... ... 82
استمرار حكم الدليل الأصلي النقلي – النسخ ................... ... 85
رجحان الدليل الأصلي النقلي .................................. ... 93
مرجحات السند ............................................... ... 93
مرجحات المتن ............................................... ... 98 ...
الاستصحاب .................................................. ... 103
القياس .................................................... ... 107
قياس الطرد وأركانه الأربعة .................................. ... 107
الأصل ...................................................... ... 108
العلة ...................................................... ... 112
الفرع ....................................................... ... 119
الحكم ....................................................... ... 120
قياس العكس .................................................. ... 122
الاستدلال المنطقي ............................................ ... 122(1/140)
المتضمن للدليل ............................................... ... 127
الإجماع ................................................ ... 128
إجماع أهل المدينة ............................................ ... 130
قول الصحابي ................................................ ... 132
المصلحة المرسلة ............................................ ... 133
الاستحسان ................................................... ... 135
العرف ..................................................... ... 136
سد الذرائع ................................................... ... 137
الاجتهاد وشروطه ............................................ ... 139
التقليد والاتباع ................................................ ... 147
? * *
الوجيز الميسر
في أصول الفقه المالكي
تأليف
محمد عبد الغني الباجقني
الطبعة الأولى 1968 ف
الطبعة الثانية 1983 ف
الطبعة الثالثة 2005 ف(1/141)