المنهاج في علم القواعد الفقهية
د. رياض بن منصور الخليفي
متن مختصر في علم القواعد الفقهية
تقريظ فضيلة الشيخ / عبد الرحمن بن عبد الخالق
الحمد لله رب العالمين الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ، والصلاة والسلام على رسوله الأمين ؛ الذي أوتي جوامع الكلم ، وعلى أصحابه الذين كانوا أعمق الناس علما وأبرهم قلوبا وأقلهم تكلفا .
وبعد :
فإني قرأت مختصر الأخ : رياض الخليفي { المنهاج في علم القواعد الفقهية } ، فوجدته مختصرا مفيدا نافعا ؛ قد أُحكمت عباراته إحكاما ، ونُضِّدت مسائله تنضيدا ، وبانت مقاصده وفُصلت قواعده ، وإنه لمختصر خليق بأن يُنشر ويُحفظ ويُدرَّس لطلاب العلم المقبلين على فقه الدين ، والمبتدئين في علم الفقه ، فإن الكليات مقدمة في العلم على الجزئيات .
والله سبحانه وتعالى أسأل أن يجزي مؤلفه خيرا ، وأن يكتب لمختصره هذا النفع والقبول .
وكتبه : عبد الرحمن بن عبد الخالق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
فهذه جمل سنية في علم القواعد الفقهية ، لخصتها تبصرة للمبتدين ، وتذكرة للمنتهين ، وعمدة للحفظة النابهين ، ومن يرد الله به خير يفقهه في الدين ، نظمتها في سلك مبتكر ، ولفظ جامع مختصر ، وسميتها " المنهاج في علم القواعد الفقهية " ، والله أسأل أن يصلح القصد ، ويجزل الأجر ، ويحسن العمل .
* تعريف القواعد الفقهية :
اعلم ـ رحمك الله ـ أن القواعد الفقهية تعرف باعتبارين هما : الوصفية ، والعلمية .
فباعتبار الوصفية : لفظ مؤلف من جزئين : أحدهما : القواعد ، والآخر : الفقهية .
فالقواعد : جمع قاعدة ، وهي لغة : الأساس .
واصطلاحا : قضية كلية منطبقة على جزيئاتها ، وهي أغلبية .
والفقهية : مصدر صناعي للفقه ، والفقه لغة : الفهم مطلقا .
واصطلاحا : العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية .(1/1)
فقولنا : الأحكام : جمع حكم ، وهو لغة : إسناد أمر لآخر إثباتا أو نفيا .
واصطلاحا : خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين ، اقتضاء ، أو تخييرا ، أو وضعا .
والأحكام الشرعية تنقسم إلى قسمين : تكليفية ووضعية .
فالتكليفية : خمسة في الأصح ، وهي : الإيجاب ، والندب ، والإباحة ، والكراهة ، والتحريم .
والوضعية : ثلاثة على الأشهر ، وهي : السبب ، والشرط ، والمانع .
والدليل لغة : المرشد .
واصطلاحا : ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري .
وقيل : ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر .
وباعتبار العلمية على الفن المخصوص فهو : العلم بالأحكام الكلية الفقهية التي تنطبق على جزئيات تُعرف أحكامها منها .
* الفرق بين القواعد الفقهية والضوابط ، والأشباه والنظائر ، والأمثال ، والفروق :
القواعد الفقهية أحكام فقهية كلية تشمل أكثر من باب فقهي .
وأما الضابط ـ عند المتأخرين ـ فهو : ما اختص من القواعد الفقهية بباب معين .
ومثال الضابط في الطهارة : كل نجس محرم ، لا العكس ، ومثاله في الدعاوى والقضاء حديث : " البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر "(1) .
والأشباه والنظائر والأمثال : أوصاف متقاربة لمسائل فرعية ، وقيل : مترادفة .
وضابط الفروع في القواعد الفقهية : ما اتحد صورة وحكما .
وضابط الفروع في الفروق : ما اتحد صورة لا حكما .
* أهمية القواعد الفقهية :
__________
(1) ـ أصله في الصحيحين ، وبوب له البخاري بلفظه ( 9/109 ) ، ولمسلم بلفظ آخر برقم ( 3229 ) ، وصححه بهذا اللفظ الألباني في إرواء الغليل ( 6/357 ) .(1/2)
قال القرافي ـ رحمه الله ـ : ( وهذه القواعد مهمة في الفقه ، عظيمة النفع ، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويشرف ، ويظهر رونق الفقه ويعرف ، وتتضح مناهج الفتاوى وتكشف ... ، ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات ، لاندراجها في الكليات ، واتحد عنده ما تناقص عند غيره وتناسب )(1).
وقال السيوطي ـ رحمه الله ـ : ( اعلم أن فن الأشباه والنظائر فن عظيم ، به يطلع على حقائق الفقه ومداركه ، ومآخذه ، وأسراره ، ويتمهر في فهمه واستحضاره ، ويقتدر على الإلحاق والتخريج ، ومعرفة أحكام المسائل التي ليست بمسطورة ، والحوادث والوقائع التي لا تنقضي على ممر الزمان ، ولهذا قال بعض أصحابنا : الفقه معرفة النظائر )(2).
ووصف ابن نجيم ـ رحمه الله ـ القواعد الفقهية بأنها : ( أصول الفقه في الحقيقة ، وبها يرتقي الفقيه إلى درجة الاجتهاد ) (3) .
* الاستدلال بالقواعد الفقهية :
إن وجد النص على القاعدة الفقهية ، وصح سنده ومعناه ، فالحجة بالنص في كونه قاعدة تخرج عليها الفروع .
وإن عدم النص وصح الاستقراء فالقاعدة الفقهية حجة للاستقراء ، وعملا بالظن الراجح ، ولعموم أدلة القياس .
وإلا فهي في الحكم كفرع فقهي .
* علاقة القواعد الفقهية بالفقه وأصوله :
الفقه علم بمسائل الفروع بأدلتها التفصيلية ، وأصول الفقه علم بأدلة الفقه الإجمالية ، والقواعد الفقهية علم بالأحكام الكلية للفروع الفقهية .
فالقواعد الفقهية أخص من الفقه ، ومن أصوله ، والتباين بينهما في أكثر المبادئ العشرة للعلوم(4)
__________
(1) ـ الفروق للقرافي ( 1/3 ) .
(2) ـ الأشباه والنظائر للسيوطي ص6 .
(3) ـ الأشباه والنظائر لابن نجيم ص6 .
(4) ـ المبادئ في كل علم عشرة هي : ( حد العلم ، وموضوعه ، وثمرته ، وفضله ، ونسبته ، وواضعه ، واسمه ، واستمداده ، وحكمه شرعا ، ومسائله ) .
قال الناظم :
إن مبادئ كل فن عشرة الحد والموضوع ثم الثمرة
وفضله ونسبة والواضع الاسم لاستمداد حكم الشارع
مسائل والبعض بالبعض اكتفى ومن درى الجميع حاز الشرفا(1/3)
.
واستمداد القواعد الفقهية من فروع الفقه وأدلته التفصيلية ، ومتعلقها أفعال المكلفين .
* واضع علم القواعد الفقهية :
وردت طائفة من القواعد الفقهية منثورة في نصوص الشرع نصا أو معنى ، ثم تلقاها الصحابة وعملوا بها قبل تدوينها كعلم مستقل ، فالوجود العملي للعلوم سابق على وجودها التدويني .
وأقدم من جمع القواعد الفقهية ـ فيما بلغنا ـ أبو طاهر الدباس في حادثة مشهورة ، فقد رد مذهب أبي حنيفة إلى سبع عشرة قاعدة ، ثم تبعه الكرخي في أصوله الذي هو أول مصنف في القواعد الفقهية ، وضمنه نحوا من أربعين قاعدة .
* حكم تعلم القواعد الفقهية :
تعلها فرض كفاية ، إذا قام به من يكفي ندب للباقين ، وإلا أثم الجميع .
* أقسام القواعد الفقهية :
تنقسم القواعد الفقهية باعتبار الأصالة والتبعية إلى قسمين :
أصلية : لا يؤول معناها إلى قاعدة أكبر منها كالخمس الكبرى .
وتبعية : كالمتفرعة عنها .
وتنقسم باعتبار الشمول إلى ثلاثة أقسام : كلية كبرى ، وكلية ، وكلية فرعية .
وتنقسم باعتبار الوفاق والخلاف إلى ثلاثة أقسام : متفق عليها مطلقا ، وفي المذهب ، ومختلف فيه .
* القواعد الكلية الكبرى :
وهي خمس ـ على الأشهر ـ :
الأمور بمقاصدها .
اليقين لا يزول بالشك .
المشقة تجلب التيسير .
الضرر يزال .
العادة محكمة .
* القاعدة الكلية الأولى : الأمور بمقاصدها :
أصلها حديث : " إنما الأعمال بالنيات "(1) .
قال الشافعي ـ رحمه الله ـ : ( حديث النية يدخل في سبعين بابا من العلم ) (2) .
وعده العلماء من أصول الإسلام وقواعده التي ترد إليها جميع الأحكام .
والنية لغة : العزم على الشيء .
وشرعا : قصد التعبد لله بالفعل أو الترك .
والقصد بالنية تمييز الأعمال العبادية عن بعضها ، وعن العادية .
وفي كونها ركنا أو شرطا خلاف .
__________
(1) ـ متفق عليه ، أخرجه البخاري برقم ( 1 ) ، ومسلم برقم ( 1907 ) .
(2) ـ الأشباه والنظائر للسيوطي ص 9 .(1/4)
وشروطها أربعة : الإسلام ، والتمييز ، والعلم بالمنوي ، وانتفاء المنافي .
والإخلاص شرط قبول ، ومحلها القلب ، ولا يشترط التلفظ بها ، ولا يكفي وحده .
والأصل اقترانها بالعمل ، وقد تتقدم عليه .
والقواعد المتفرعة عنها :
العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني : كمن باع سلعة بعوض لكن بلفظ الهبة ، فإنما هو عقد بيع لا عقد هبة .
ومن تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه : كقاتل مورثه لا يرث .
الوسائل لها أحكام المقاصد : كالسفر له حكم ما قصد به .
قال ابن سعدي ـ رحمه الله ـ : ( وهذه القاعدة من أنفع القواعد وأعظمها وأكثرها فوائد ، ولعلها يدخل فيها ربع الدين ) (1) .
ويغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد : كالنظر إلى المخطوبة .
وإذا اتحد الأمران جنسا ومقصدا دخل أحدهما في الآخر : كالغسل الواحد بنيات متعددة .
* القاعدة الكبرى الثانية : اليقين لا يزول بالشك :
أصلها الحديث : " فليطرح الشك وليبن على ما استيقن "(2) .
قال النووي ـ رحمه الله ـ : ( وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام ، وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه ، وهي : أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك ، ولا يضر الشك الطارئ عليها )(3) .
وقال السيوطي ـ رحمه الله ـ : ( اعلم أن هذه القاعدة تدخل في جميع أبواب الفقه ، والمسائل المخرجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه وأكثر ) (4) .
ومراتب الإدراك خمس : العلم ، والظن ، والشك ، والوهم ، والجهل .
فالعلم : الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ، ويرادفه اليقين ، لا المعرفة .
والظن : إدراك الطرف الراجح من أمرين جائزين .
والشك : تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر .
__________
(1) ـ رسالة في القواعد الفقهية لابن سعدي ص 31 .
(2) ـ أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري برقم ( 888 ) ( 3/204 ) .
(3) ـ الأشباه والنظائر لابن نجيم ص6 .
(4) ـ الأشباه والنظائر لابن نجيم ص6 .(1/5)
والوهم : إدراك الطرف المرجوح من أمرين جائزين .
والجهل : تصور الشيء على خلاف ما هو به في الواقع ، فإن اعتقد ذلك فهو الجهل المركب ، وإلا فالبسيط ، وهو عدم العلم مطلقا .
والقواعد المتفرعة عنها :
الأصل بقاء ما كان على ما كان ، وبمعناها ( دليل الاستصحاب ) : كاستصحاب الطهارة مع الشك بالحدث ، أو العكس .
والأصل في الذمة البراءة : كالتهمة بالعدوان .
والأصل في الطارئ العدم : كتقديم نفي العامل الربح في المضاربة .
والأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته : كمن رأى منيا لزمه إعادة الصلوات من آخر نومة .
وما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين : كمن شك في طلاق زوجته يحكم بعدم طلاقه ما لم يتيقن .
والأصل في العادات والمعاملات الإباحة ، وكذا في الأعيان مع الطهارة : كالمياه ، والأصل في العبادات التحريم .
والأصل في التعدي على الضروريات الخمسة التحريم .
والضروريات الخمس هي : النفس ، والدين ، والعقل ، والمال ، والعرض .
والشبهات تسقط الحدود لا التعزيرات : وأصلها الخبر الموقوف " ادرءوا الحدود بالشبهات " (1)، وانعقد الإجماع على معناه .
ولا ينسب إلى ساكت قول ، لكن السكوت في موضع الحاجة إلى البيان إقرار وبيان : كسكوت البكر عند استئمارها قبل التزويج .
ولا عبرة بالدلالة في مقابلة التصريح : كنص الواقف يقدم على عرف الواقفين في زمنه .
ولا عبرة بالظن البين خطؤه : كمن ادُّعي عليه دين فصالح المدعي ، ثم بانت براءة ذمته ، فله استرداد العوض .
__________
(1) ـ بوب له البيهقي في السنن الكبرى بلفظه ( 8/238 ) ، وهو مروي بأسانيد موقوفة عن ابن مسعود وعن عائشة رضي الله عنهما ، وأخرجه الترمذي بلفظ : " ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم " ( 5/322 ) برقم ( 1344 ) ، وكذا الحاكم في المستدرك ( 19/41 ) برقم ( 8276 ) .(1/6)
ولا حجة ـ في مقام التهمة ـ مع الاحتمال الناشئ عن دليل : كإقرار الإنسان في مرض موته بالدين لأحد ورثته ، فمع صحة التصرف مجردا ، إلا أنه لا عبرة به مع قرينة التهمة ، وهي قصد حرمان البقية .
والثابت بالبرهان كالثابت بالعيان .
والممتنع عادة كالممتنع حقيقة : كدعوى الفقير أموالا عظيمة على آخر ، ولا بينة له على تملكها .
* القاعدة الكبرى الثالثة : المشقة تجلب التيسير :
أصلها قوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج }(1) .
والمشقة : الحرج في التكليف ، والتيسير : التخفيف والتسهيل .
وللتخفيف أسباب وأنواع : فأسباب التخفيف سبعة ؛ وهي : السفر ، والمرض ، والإكراه ، و النسيان ، والجهل ، والعسر أو عموم البلوى ، والنقص .
وأنواع التخفيف سبعة أيضا ، وهي :
إسقاط : كإسقاط الصلاة عن الحائض .
وتنقيص : كالقصر في السفر .
وإبدال : كالتيمم .
وتقديم وتأخير : كالجمع في السفر .
وترخيص : كلبس الرجل الحرير للحكة .
وتغيير : كصفة صلاة الخوف .
والرخص ترد عليها الأحكام التكليفية الخمسة .
والقواعد المتفرعة عنها :
الضروريات تبيح المحظورات : كالتلفظ بالكفر مكرها ، وأصلها قوله تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه }(2) .
والضرورات تقدر بقدرها .
والضرورات لا تبطل حق الغير : كمن أكل طعاما للغير بغير إذنه اضطرارا فإنه يضمنه .
والحاجة المتحققة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة : كإباحة عقد الإجارة .
والمصالح كالمطالب ثلاثة : ضروري ، وحاجي ، وتحسيني ، وما سواها فزينة وفضول .
ولا واجب مع العجز : كجواز ترك الصوم للعاجز عنه .
وما حرم تحريم الوسائل يباح للحاجة : كبيع العرايا ، وكذا المكروه .
والميسور لا يسقط بالمعسور : كوجوب ستر ما أمكن من العورة للصلاة ، وأصلها حديث : " وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم "(3) .
__________
(1) ـ الحج / 78 .
(2) ـ الأنعام / 119 .
(3) ـ رواه مسلم عن أبي هريرة برقم ( 1337 ) .(1/7)
وإذا خير المكلف بين أمرين اختار أيسرهما ، ما لم يكن إثما ، وأصلها حديث : " ما خير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما ، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه "(1) .
وإذا تعذر الأصل يصار إلى البدل ، وله حكمه : كالتيمم .
وما جاز لعذر بطل بزواله : كمن تيمم لعذر يجب عليه الوضوء متى زال عذره .
والرخص لا تناط بالمعاصي ، والأصح خلافه : كسفر المعصية .
والأجر على قدر المنفعة لا المشقة : وأصلها حديث : " أجركِ على قدر نصبك "(2) .
ومعناها : المشقة ليست مقصودة لذاتها ، لكن إذا احتفت بالعبادة المشروعة عظم الأجر .
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : ( خير الأعمال ما كان لله أطوع ولصاحبه أنفع ، وقد يكون ذلك أيسر العملين ، وقد يكون أشدهما ، فليس كل شديد فاضلا ، ولا كل يسير مفضولا ، بل الشرع إذا أمرنا بأمر شديد فإنما يأمر به لما فيه من المنفعة ، لا لمجرد تعذيب النفس ) (3) .
* القاعدة الكبرى الرابعة : الضرر يزال :
__________
(1) ـ متفق عليه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ ، أخرجه البخاري برقم ( 6288 ) ، ومسلم برقم ( 4295 ) ، واللفظ له .
(2) ـ أصله في الصحيحين عن عائشة ، البخاري برقم ( 1787 ) بلفظ : " على قدر نفقتك أو نصبك " ، وشرحه لابن حجر ( 3/610 ) ،ومسلم برقم ( 2-877 ) ط عيسى الحلبي ، وبلفظه في المستدرك للحاكم رقم ( 1687 ) ( 4/279 ) ، والدارقطني برقم ( 2762 ) ( 7/9 ) .
(3) ـ مجموع الفتاوى لابن تيمية 22/313 ، وانظر أيضا 25/281 .(1/8)
أصلها حديث : " لا ضرر ولا ضرار "(1) .
قال أبو داود ـ رحمه الله ـ : ( الفقه يدور على خمسة أحاديث ) ، وذكر منها هذا الحديث(2) .
وقال ابن النجار ـ رحمه الله ـ : ( وهذه القاعدة فيها من الفقه ما لا حصر له ، ولعلها تتضمن نصفه ، فإن الأحكام إما لجلب المنافع أو لدفع المضار ؛ فيدخل فيها دفع الضروريات الخمسة ؛ التي هي : حفظ الدين ، والنفس ، والنسب ، والمال ، والعرض ) (3) .
فالأصل نفي الضرر وتحريمه مطلقا ، ابتداء أو مقابلة ، عاما أو خاصا ، على النفس أو الغير ، قبل وقوعه أو بعده ، إلا ما أثبته الشرع كالحدود والقصاص .
والقواعد المتفرعة عنها :
الأصل في المضار المنع وفي المنافع الإباحة .
الضرر لا يزال بمثله .
ويدفع بقدر الإمكان .
ولا يكون قديما : فلا يبرر وجود الضرر بالتقادم ، بل تجب إزالته .
__________
(1) ـ أخرجه مالك في الموطأ (5/37 ) برقم ( 1234 ) ، وابن ماجه عن ابن عباس برقم ( 2331 ـ 2332 ) ، وأخرجه أحمد في المسند عنه برقم ( 2719 ) { قال شعيب الأرناؤوط : حسن } ، والحاكم في المستدرك عن أبي سعيد الخدري ( 5/454 ) برقم ( 2305 ) ، وكذا الدارقطني عن أبي سعيد الخدري ( 7/375 ) برقم (3124 ) ، وعنده عن عائشة ( 5/459 ) ، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم ( ص 287 ) : عن أبي عمرو ابن الصلاح قوله : ( هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه ، ومجموعها يقوي الحديث ويحسنه ، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به ، وقول أبي داود أنه من الأحاديث التي يدور عليها الفقه يشعر بكونه غير ضعيف ) ، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة : صحيح ( 1/498 ) برقم ( 250 ) .
(2) ـ وهي : " الأعمال بالنيات " ، و " الحلال بين " ، و " لا ضرر " ، و " ما نهيتكم عنه " ، و " من حسن إسلام المرء " ، وانظر : الأشباه والنظائر للسيوطي ص 9 .
(3) ـ شرح الكوكب المنير للفتوحي المعروف بابن النجار الحنبلي 4/443-444 .(1/9)
ويتحمل الضرر الأخف أو الأخص لدفع الضرر الأشد أو الأعم : كرمي العدو إذا تترس ببعض المسلمين .
* القاعدة الكبرى الخامسة : العادة محكمة :
أصلها قوله تعالى : { خذ العفو وأمر بالعرف } (1)، وحديث : " ما رآه المسلمون حسنا ، فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون سيئا ، فهو عند الله سيء "(2) .
والعادة لغة : من العود ، وهو معاودة الشيء وتكراره ، ويرادفها العرف مطلقا ، وقيل : بل العرف العملي خاصة ، والخلف لفظي .
والعادة في الاصطلاح : ما اشتهر بين الناس وتعارفوا عليه ، ولم يخالف شرعا أو شرطا .
ومحكّمة : من التحكيم : وهو جعل الشيء حكما .
وبمعنى قاعدة ( العادة محكمة ) دليل ( العرف والعادة ) عند الأصوليين .
قال ابن نجيم ـ رحمه الله ـ : ( واعلم أن اعتبار العادة والعرف يرجع إليه في مسائل كثيرة ، حتى جعلوا ذلك أصلا ) (3) .
والحقائق كالمعاني ثلاث : شرعي ، ولغوي ، وعرفي .
وفي المقدم منها عند التعارض تفصيل وخلاف ، والأصل الأصح تقديم الشرع ، فاللغة ، فالعرف .
وما ورد به الشرع يصار إلى ضابطه فيه : كالصلاة ، فإن عدم فاللغة : كاللحية ، إلا فالعرف : كالسفر والقبض والحرز .
القواعد المتفرعة عنها :
استعمال الناس حجة يجب العمل بها .
وإنما تعتبر العادة إذا اطردت لا إذا اضطربت .
__________
(1) ـ الأعراف / 199 .
(2) ـ موقوف على عبد الله بن مسعود بإسناد صححه الحاكم في المستدرك ( 7/453 ) برقم ( 3418 ) ، ووافقه الذهبي ، وأخرجه أحمد (7/453 ) برقم ( 34418 ) ، قال عنه شعيب الأرناؤوط : إسناده حسن برقم ( 3600 ) ، قال العلائي : ( ولم أجده مرفوعا في شيء من كتب الحديث أصلا ، ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال ، وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود موقوفا عليه ) ، وانظر : كشف الخفاء للعجلوني 2/245 ، وأيضا : الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 37 ، وللسيوطي ص 89 .
(3) ـ الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 37 .(1/10)
والعبرة بالعرف الغالب والمقارن ، لا النادر والمتأخر .
والحقيقة قد تترك بدلالة العادة : كلفظ هجر الناس معناه الحقيقي إلى معنى آخر عرفي ، كالدابة : لفظ يطلق على كل ما يدب على الأرض ، وخصصه العرف بالبهيمة .
والكتاب كالخطاب .
والإشارة المعهودة للأخرس كالبيان باللسان .
والمعروف عرفا كالمشروط شرطا : كالدينار إذا أطلق عينه عرف البلد .
والتعيين بالعرف كالتعيين بالنص : كأوسط الطعام واللباس في كفارة اليمين .
ولا ينكر تغير الأحكام بتغير الأحوال : كاختلاف فتوى المجتهد .
* القواعد الكلية :
* القاعدة الكلية : التابع تابع :
معناها : التابع لشيء في الوجود تابع له في الحكم .
القواعد المتفرعة عنها :
التابع لا يفرد بحكم ، ولا يقدم على متبوعه ، ويسقط بسقوطه : كالوكالة تبطل بموت الموكل .
وقد يثبت مع سقوطه : كمن ادعى خلع زوجته فأنكرت ، بانت عليه ولم يستحق مالا .
والساقط لا يعود : كإقرار الورثة الوصية بأكثر من الثلث لأحدهم ، فلا يصح لهم الرجوع بعدها .
وإذا بطل الشيء بطل ما في ضمنه : كبطلان التوارث ببطلان النكاح .
ومن ملك شيئا ملك ما هو من ضروراته : كبيع القفل يتضمن تمليك مفتاحه معه .
ويثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا : كبيع الناقة مع حملها ، وبمعناها : يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها .
والحريم له ما هو حريم له : والحريم للشيء : ما حوله من حقوقه ومرافقه ولوازمه .
والرضا بالشيء رضا بما يتولد منه .
وللأكثر حكم الكل ، وبمعناها : الترجيح بالغالب الأعم .
واختلاف الأسباب بمنزلة اختلاف الأعيان : وأصلها حديث بريرة : " هو عليها صدقة ، وهو منها لنا هدية "(1) .
والجواز الشرعي ينافي الضمان : كمن حفر في ملكه بئرا ، فوقع فيه حيوان لغيره فمات لم يضمنه .
__________
(1) ـ متفق عليه عن عائشة ، البخاري برقم ( 2578 ) ، ومسلم برقم ( 1075 ) .(1/11)
والخراج بالضمان : وأصلها حديث عن عائشة بنصها(1)، كأجرة المبيع مدة الخيار على المشتري ، لأنه يضمن تلفه .
قال الزركشي ـ رحمه الله ـ : ( هو حديث صحيح ، ومعناه : ما خرج من الشيء من عين ومنفعة وغلة فهو للمشتري عوض ما كان عليه من ضمان الملك ، فإنه لو تلف المبيع كان من ضمانه ، فالغلة له ، ليكون الغنم في مقابله الغرم ) (2) .
وبمعناها : الغرم بالغنم : كالعين المرهونة نفقتها على المنتفع بها .
وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه ، وأصلها حديث بنصها(3).
وبمعناها حديث في السنن بلفظ : " الزعيم غارم "(4) ، أي : ضامن .
والفعل يضاف إلى المباشر لا الآمر ، ما لم يكن معذورا .
وليس لعرق ظالم حق : وأصلها حديث أخرجه البخاري معلقا عن عمرو بن عوف بنصها(5) ، ومعناها : الظلم لا يكسب الظالم حقا .
* القاعدة الكلية : إعمال الكلام أولى من إهماله :
معناها : حمل الكلام على إفادة معنى ما أمكن مقدم على إلغاء إفادته وإهمال معناه .
القواعد المتفرعة عنها :
الأصل في الكلام الحقيقة ، فإن تعذرت يصار إلى المجاز ، وإلا أهمل : كالإقرار بجناية لم تقع .
والحقيقة : اللفظ المستعمل فيما اصطلح عليه عند التخاطب .
__________
(1) ـ أخرجه أبو داود برقم ( 779 ) ، والترمذي برقم ( 1285 ) ، وقال : حسن صحيح ، والنسائي برقم ( 4502 ) ، وابن ماجه برقم ( 2242 ) .
(2) ـ المنثور في القواعد للزركشي 2/119 .
(3) ـ أخرجه أبو داود برقم ( 3561 ) ، والترمذي برقم ( 1266 ) ، وقال : حسن صحيح ، وابن ماجه برقم ( 2400 ) .
(4) ـ أخرجه أبو داود برقم ( 3561 ) ، والترمذي برقم ( 1266 ) ، وقال : حسن صحيح ، وابن ماجه برقم ( 2400 ) .
(5) ـ أصله مخرج في البخاري برقم ( 2166 ) ( 8/144 ) ، وأخرجه الترمذي برقم ( 1378 ) ، وقال : حسن غريب ، وصححه الألباني بلفظه في مختصر إرواء الغليل ( 6/6 ) برقم ( 1551 ) ، وانظر أيضا : فتح الباري لابن حجر ( 5/18) السلفية .(1/12)
والمجاز : اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لقرينة .
والبينة حقيقة متعدية ، وإقرار من كان أهلا حجة قاصرة : كمن أقر بدين مشترك لزمه في حق نفسه دون غيره .
والإقرار لا يرتد بالرد .
وذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر كله : كمن طلق زوجته نصف طلقة حسبت عليه طلقة كاملة .
والوصف في الحاضر لغو وفي الغائب معتبر .
والسؤال معاد في الجواب : كمن سئل عن إقرار فرد بالإيجاب لزمه حكم ما أقر به .
والتأسيس أولى من التأكيد .
والأصل حمل المطلق على إطلاقه ، والعام على عمومه ، ما لم يرد المبين .
وإذا تعارض الدليلان قدم الجمع على الترجيح ، وإلا فالتوقف .
* القاعدة الكلية : المشغول لا يشغل :
كالعين المرهونة لا يصح جعلها وقفا ، وكذا العكس .
* القاعدة الكلية : الإيثار في القرب مكروه وفي غيرها محبوب :
كإيثار المصلي غيره بالصف الأول .
* قواعد في المصالح والمفاسد :
القاعدة الكلية : درء المفاسد الراجحة مقدم على جلب المصالح .
القاعدة الكلية : إذا تعارضت المصالح فمع التفاوت يقدم الأعلى أو الأعم ، ومع التساوي يخير .
القاعدة الكلية : إذا تعارضت المفاسد فمع التفاوت يرتكب الأخف أو الأخص ، ومع التساوي يخير .
القاعدة الكلية : وتصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة ، كالولي والوصي .
قواعد في الحلال والحرام
القاعدة الكلية : إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام ،وكذا المانع والمقتضي يغلب المانع .
القاعدة الكلية : وما حرم استعماله حرم اتخاذه ، وحرم إعطاؤه : كالنجاسات .
القاعدة الكلية : وتكره معاملة من أكثر ماله حرام ، ما لم يعرف عينه ، وقيل : تحرم مطلقا .
قواعد في الاجتهاد
القاعدة الكلية : لا عبرة بالاجتهاد في معارضة النص المحكم .
القاعدة الكلية : كل مجتهد في الحق مأجور .
القاعدة الكلية : الاجتهاد لا ينقض بمثله .
القاعدة الكلية : لا إنكار في مسائل الاجتهاد .
القاعدة الكلية : الخروج من الخلاف مستحب .(1/13)
وفيما ذكر من القواعد الفقهية الكلية كفاية ، وثمة قواعد أخرى تركتا اختصارا ، وأما الضوابط الفقهية فهي منثورة في أبوابها الفقهية ، وحصرها يخرج عن مقصود هذا المختصر فتطلب في مظانها .
والله أعلم .. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
وتم الفراغ منه بفضل الله وتوفيقه وإحسانه
الجمعة غرة المحرم عام عشرين وأربعمائة وألف من الهجرة
وكتبه رياض بن منصور الخليفي(1/14)