المقدمة في الأصول
للإمام أبي الحسين علي بن عمر بن القصار المالكي
المتوفى سنة 397
بسم الله الرحمن الرحيم
وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
قال القاضي الجليل أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد المالكي البغدادي رحمه الله .
سألتموني ـ أرشدكم الله ـ أن اجمع لكم ما وقع إلي من الأدلة في مسائل الخلاف بين مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ وبين من خالفه من فقهاء الأمصار ـ رحمة الله عليهم ـ وأن أبين ما علمته من الحجج في ذلك .
وأنا أذكر لكم جملة من ذلك بمشيئة الله وعونه ، لتعلموا أن مالكا ـ رحمه الله ـ كان موفقا في مذهبه ، متبعا لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم [3]
وإجماع الأمة والنظر الصحيح ، وأن الله خصه بحسن الاختيار ولطيف الحكمة ، وجودة الاعتبار ، والله تعالى يوفقني وإياكم لما يقرب إليه ، ويزلف لديه .
وقد رأيت أن أقدم لكم بين يدي المسائل جملة من الأصول التي وقفت عليها من مذهبه ، وما يليق به مذهبه ، وأن أذكر لكل أصل نكتة ليجمع لكم الأمران جميعا ، أعني : علم أصوله ومسائل الخلاف من فروعه ، إن شاء الله تعالى .[4]
باب
الكلام في اختلاف وجوه الدلائل
اعلم أن للعلوم طرقا منها جلي وخفي ، وذلك أن الله تبارك وتعالى لما أراد أن يمتحن عباده وأن يبتليهم فرق بين طرق العلم وجعل منها ظاهرا جليا ، وباطنا خفيا ، ليرفع الذين أويوا العلم كما قال عز وجل : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [ المجادلة : 11] .
والدليل علىأن ذلك كذلك : هو ان الدلائل لو كانت كلها جلية ظاهرة ، لم يقع التنازع وارتفع الخلاف ، ولم يحتج إلى تدبر ، ولا اعتبار ولا تفكر ، ولبطل الابتلاء ولم يحصل الامتحان ، ولا كان للشبهة [ 5] مدخل ولا وقع شك ولا حسبان ولا ظن ، ولا وجد جهول ؛ لأن العلم كان يكون طبعا ، وهذا فاسد ، فبطل أن تكون العلوم كلها جلية .(1/1)
ولو كانت كلها خفية لم يتوصلغلى معرفة شيء منها ، إذ الخفي لا يعلم بنفسه ؛ لأنه لو علم بنفسه لكان جليا ، وهذا فاسد أيضا ، فبطل أن تكون كلها خفية .
وقد قال الله عز وجل : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } ... إلى قوله : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } [ أل عمران : 7 ] .
وقال عز وجل : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [ النساء " 83] .
وإذا بطل أن يكون العلم كله جليا ، وبطل أن يكون كله خفيا ، ثبت أن منه جليا ومنه خفيا ، وبالله التوفيق . [6] .
باب
الكلام في وجوب النظر
وجوب النظر والاستدلال هو مذهب مالك ـ رحمه الله ـ في سائر أهل العلم ، لأنه قد استدل في مسائل باستدلالات ، واحتج بقيالسات ، ومن الناس من ينفيه .
والدليل على وجوبه أنه إذا ثبت أن في الدلائل جليا [7] وخفيا ، فلا بد من النظر ؛ لأن في تركه امتناعا من الوصول إلى معرفة الخفي منها ، وذلك غير جائز ، فدل على وجوبه .
وقد دل الله تعالى على وجوب النظر والاستدلال والتفكر ولاعتبار في آيات كثيرة من كتابه فقال عز وجل : { أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } [ الغاشية : 17] .
وقال عز وجل : { أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } [ الأنبياء : 44]
وقـ ال تبـ ارك وتعـ الى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } . [غافر: 81] .
وقال عز وجل : { إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ } .[سبأ : 46].(1/2)
وقال عز وجل محتجا على من أنكر البعث والإعادة : { قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } [يس :77 ـ80] .
ومثال ذلك في آيات كثيرة ، وفي هذا وجوب النظر وصحته ، والله أعلم .[9]
باب
الكلام في إبطال
التقليد من العالم للعالم
ومذهب مالك ت رحمه الله ـ إبطال التقليد من العالم للعالم ، وهو قول جماعة من الفقهاء ، وأجازه بعضهم .[10]
والدليل على منعه : أنه إذا ثبت النظر ، ووجب الرجوع إلى الاستدلالات ، ففيه فساد تقليد من لا يعلم حقيقة قوله ، ووجب الرجوع إلى الأصول وما أودع فيها من المعاني التي تدل على الفروع وهي : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، قال الله تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [ النساء :59] ، يريد إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلم يردهم عند التنازع إلى غير ذلك .
ويدل على إبطال التقليد من غير حجة ما قال الله تعالى حكاية [11] عن قوم على طريق الذم لهم والإنكار عليهم { إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ } [الزخرف : 23 ـ 24] .
وقال عز وجل : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } [البقرة : 170].(1/3)
فذم الله تعالى على ترك اتباع الحجة والتقليد بغير حجة ، فدل على صحة ما قلناه والله أعلم .[12]
باب
القول فيما يجوز فيه التقليد
فمما يجوز عند مالك ـ رحمه الله ـ في مثله التقليد للعامي مما ليس للعالم فيه فيه طريق إلا أن يكون من اهله ، يجوز عند مالك ـ رحمه الله ـ أن يقلد القائف في إلحاق الولد بمن يلحقه إذا كان القائف عدلا في دينه بصيرا بالقيافة ؛ لأنه علم قد خصهم اله عز وجل به [14] . والدليل على ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة مجزز المدلجي وقوله لما رأى أقدام زيد وأسامة : إن بعض هذه الأقدام من بعض ، فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكره لعائشة ـ رضي الله عنها ـ ؛ والنبي صلى الله عليه وسلم لا يسر إلا بالحق .
وقد روى ابن نافع عن مالك أنه لا يقبل إلا من عدلين قائفين ذكرين .[15]
ويجوز تقليد التجار في تقويم المتلفات ، ويكفي في ذلك واحد إلا أن تتعلق القيمة بحد ، فلا بد من اثنين لمعرفتهم بذلك وطول دربتهم به .
قال القاضي ـ رحمه الله ـ وقد وجدت في موضع أنه لا يجوز في كل تقويم إلا اثنان وإنما جاز تقليده في ذلك لأنه علم يختصون به ، والضرورة تدعو إليه ، فجاز قبول قولهم فيه .
ويجوز تقليد القاسم إذا قسم شيئا بين اثنين على ما رواه ابن نافع [ 16] عن مالك مالك رحمه الله وهذا كما يقلد المقوم في أوروش الجنايات لمعرفته بذلك .
قال القاضي أبو الحسن : وكان الشيخ أبو بكر بن صالح الأبهري ـ رحمه الله ـ قال لي قديما : يجب أن يكونا نفسين ، ثم رجع عن ذلك .
وروى ابن القاسم عن مالك أنه لا يقبل قول القاسم فيما قسم [18] وإن كان معه آخر ، قال : لأنه يشهد على فعل نفسه كالحاكم ، إلا أن يكون الحاكم أرسلهما فيقبل شهادتهما .
ويجوز تقليد الخارص فيما يخرصه ويكفي في ذلك واحد ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث ابن رواحة على الخرص وحده .[ 19](1/4)
ويجوز تقليد الراوي فيما يرويه إذا كان عدلا ، لأن الراوي لا يلحقه نهمة فيما يرويه ، كما يلزم ذلك الراوي نفسه ، وكذلك الشاهد فيما يشهد به ، إلا أن الشهادة باثنين عدلين ، والأخبار يقبل فيها الواحد العدل ، حرا كان أو عبدا ، ذكرا كان أو أنثى .
ويجوز تقليد الطبيب فيما يرد إليه من علم الجراح وغيرها مما لا يعلم إلا من جهته للضرورة إلى ذلك .
ويجوز تقليد الملاح إذا خفيت الدلائل في جهة القبلة على الذين يركبون معه إذا كان عدلا وكانت عادته جارية بمسيره في الماء والبحار ، للضرورة إليه .
وكذلك كل من كانت عادته في الصحراء يجوز تقليدهم في القبلة لمعرفتهم بها وأنه لا يمكن كل أحد تعاطيه ولا معرفته .[20]
وكذلك من هو في البادية يجوز تقليده في القبلة إذا كان عارفا بالصلاة وكان عدلا في دينه لمداومتهم مشاهدة جهة القبلة ودلائلها ، والضرورة إليهم في ذلك عند خفاء دلائلها .[21]
باب
القول في تقليد العامي للعالم
قال القاضي ـ رحمه الله ـ : فأما تقليد العامي للعالم فجائز عند مالك ـ رحمه الله ـ في الجملة والأصل فيه قول الله عز وجل : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [الأنبياء :7] . [21].
وأيضا قوله تعالى : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [ النساء : 83] .
وهذا ما لا خلاف فيه نعلمه ، والله أعلم. [22]
باب
القول في تقليد العامي للعامي
عند مالك ـ رحمه الله ـ : ليس للعامي أن يقلد عاميا بوجه ، إلا في أشياء منها :
رؤية الهلال إذا اراد به علم التاريخ ؛ فإنه يقبل قوله وحده لأنه خبر .
وإن كان مما يتعلق به فرض عليه في دينه مثل : صوم شهر رمضان والفطر منه ، فلا بد من اثنين عدلين ؛ لأنه من باب الشهادات وفي كلا الأمرين ـ الإخبار والشهادات ـ لا بد من العدالة . [23] .(1/5)
ومن ذلك قبول الهدية بالرسول الواحد ، والإذن بالواحد لعرف الناس واستعمالهم وجري عادتهم به ، فهو يقبل من البالغ وغير البالغ والذكر والأنثى ، والمسلم والكافر ، والواحد ، والاثنين ، والحر والعبد .
ويقبل قول القصاب في الذكاة ؛ لأن الإنسان يشتريه على الظاهر أنه ذكي ، فلو لم يخبره لما ضره ، فهو يقبل من الذكر والأنثى ومن مثله يذبح ، والمسلم والكتابي ، والله أعلم . [24] .
باب
القول فيما يلزم المستفتي العامي
يجب عند مالك ـ رحمه الله ـ على العامي إذا أراد أن يستفتي ضرب من الاجتهاد ، وهوأن يقصد إلى أهل العلم الذي يريد ان يسأل عنه ولا يسأل جميع من يلقاه ، ولكنه إذا أرشد إلى فقيه نظر إلى هيئته وحذقه بصنعته ، وسأل عن مبلغ علمه وأمانته ، فمن كان أعلى رتبة في ذلك استفتاه وقبل قوله وفتواه ؛ لأن هذا أوثق لدينه وأحوط لما [26] يقدم عليه من أمر شريعته ، ويصير هذا بمنزلة الخبرين والقياسين إذا تعارضا عند العالم واحتاج إلى الترجيح بينهما ويرجح بينهما ، وكذلك العامي في المعنيين ، والله أعلم . [27].
باب
القول فيما يلزم فيه الاجتهاد وما لا يلزم
ومذهب مالك ـ رحمه الله ـ أنه إذا دخل رجل إلى قرية خراب لا أحد فيها ، وحضر وقت الصلاة ، فإن كان من أهل الاجتهاد ، ولم تخف عليه دلائل القبلة ، يرجعإلى ذلك ، ولم يلتفت إلى محاريب يشاهدها في آثار مساجد قد خربت ، فإن خفيت عليه الدلائل أو لم يكن من أهل الاجتهاد ، وكانت القرية للمسلمين ؛ فإنه يصلي إلى مصلى تلك المحاريب ؛ لأن الظاهر من بلاد المسلمين أن مساجدهم وآثارهم لا تخفى ، وأن قبلتهم وحاربهم على ما توجبه الشريعة .(1/6)
وأما إذا طانت المحاريب منصوبة في بلاد المسلمين العامرة [28] وفي المساجد التي تكثر فيها الصلوات وتتكرر ، ويعلم أن إماما للمسلمين بناها ، أو اجتمع أهل البلد على بنائها ، فإن العالم والعامي يصليان إلى تلك القبلة ، ولا يحتاجان في ذلك إلى الاجتهاد ؛ لأنه معلوم أنها لم تبن إلا بعد اجتهاد العلماء في ذلك .
وأما المساجد التي لا تجري هذا المجرى ، فإن العالم إذا كان من أهل الاجتهاد ، فسبيله أن يستدل على الجهة ، فإن خفيت عليه الدلائل صلى إلى ذلك املحراب إذا كان بلدا للمسلمين عامرا ؛ لأن هذا أقوى من اجتهاده مع خفاء الدلائل عليه .
فأما العامي فيصلي في سائر المساجد ، إذ ليس من أهل الاجتهاد ، والله أعلم . [29].
باب
القول فيما يجوز فيه التقليد وما لا يجوز
ولا يجوز عند مالك ـ رحمه الله ـ لعالم ولا عامي أن يقلد في زوال الشمس ؛ لأنه أمر يشاهد ، ويصل كل واحد منهم إلى معرفته ، بل العامي يقلد العالم في أن وقت الظهر هو إذا زالت الشمس ، ويقلده في أوقات الصلوات أنها هي أوقات التي وقتها [30] رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن هذا أمر يعلمه أهل العلم بالتوقيف ، وليس مما يشاهد ،فإن كان في عامة من يخفى عليه علم الزوال ولا يتمكن من إدراكه ، جاز أن يقلد فيه كما يقلد في سائر ما لا معرفة له به ، والله أعلم . [31] .
باب
القول في استعمال العامي ما يفتى له
يحتمل مذهب مالك إذا استفتى العامي العالم في نازلة فأفتاه ، ثم نزلت مثل تلك النازلة بالعامي مرة أخرى ، فيحتمل أن يقال إنه يستعمل تلك الفتوى ولا يحتاج إلى أن يسأل ثانية ؛ لأنه على الظاهر قد ساغ له ، ولو كلف ذلك لشق عليه ، وهذا إذا كانت المسألة الأولى بعينها ، وما لا إشكال فيه على أحد .(1/7)
ويحتمل أن يقال إن عليه أن يسأل ، ولعله الأصح ؛ لأنه إنما [32] يعمل باجتهاد ذلك الفقيه ، ولعل اجتهاده في وقت إفتائه قد تغير قد تغير عما كان أفتاه به في ذلك الوقت ، وهذا مثل من يجتهد في القبلة فيصلى ، ثم يريد صلاة صلاة أخرى ، فإنه يجتهد ثانية ، ولا يعمل على الاجتهاد الأول . [33] .
باب
القول في تقليد من مات من العلماء
إذا حكي للعامي عن مالك ـ رحمه الله ـ أو عن عن غيره من العلماء ـ وهو في غير عصره ـ فتوى في مسألة ؛ فإنه يجوز للعامي أن يقلد أن يقلد مالكا بعد موته ، وكذلك غيره من العلماء الذين اشتهرت إمامتهم ، لأن العامي إذا جاز له أن يعمل على اجتهاد بعض أصحاب مالك ، وكان عمله على اجتهاد مالك أولى ، فإن لم يكن أولى منه فهو مثله ، ويكون مالك كأنه باق ؛ لأن قوله بمنزلته وهو حي ، وتصير منزلة العامي مع مالك كمنزلة مالك مع الصحابي في أنه يرجع على قوله وإن كان ميتا ، ويكون قول الصحابي أولى من أهل عصر مالك ـ رحمة الله عليهم ـ [34] .
باب
القول فيما يوجد في كتب العلماء
قال القاضي ـ رحمه الله ـ :
إذا وجد الرجل كتابا مترجما بكتاب ((موطأ مالكا أو ((كتاب الثوري)) أو ((الأوزاعي)) أو ((الشافعي)) ، فهل يجوز له أن يقول [35] .في شيئ يجده فيه : قال مالك ، وقال الثوري ، وقال الأوزاعي ، وقال الشافعي ؟ .
قال القاضي ـ رحمه الله ـ :
فهذا سبيله أن ينظر ، فإن كان من الكتب التي قد اشتهر ذكرها مثل ((الموطأ)) لمالك ـ رحمه الله ـ و ((جامع)) الثوري و((كتاب)) الربيع ، جاز أن يعزى ذلك إلى المترجم عنه إذا كان الكتاب صحيحا مقروءا على العلماء ، ومعارضا بكتبهم من [36] الكتب التي لم يشتهر وينتشر ذكرها ، لم يجز ذلك حتى يروي ما فيها عمن تنسب إليه بروايات الثقات عنه ، والله أعلم .[37] .
باب
القول في الترجمة عن المعنى(1/8)
مذهب مالك ـ رحمه الله ـ إذا كان الفقيه عربي اللسان ولا يسحن الفارسية أو غيرها من الألسن ، وكان المستفتي عجميا لا يحسن العربية ، فجاء رجل يحسن لسان العرب والعجم وهو عامي فترجم للفقيه عن الأعجمي ما قاله ، وترجم عن الفقيه للأعجمي ما قاله وأفتاه به ، فيجوز ذلك ويصير طريقه طريق الخبر .
ويجب أن يكون الترجمان عدلا كما نقول في نقل الخبر [ 38] ، ويكون معبرا للفتوى بلسانه على حسب ما قاله الفقيه من غير تغيير له عن معناه .
وكذلك إذا بعث الرجل بسؤاله إلى الفقيه ، فأجابه الفقيه بالخط على سؤاله في رقعة ، فيجب أن يكون الرسول ثقة ؛ لأن هذا من الأمور التي جرت العادة بها في كل عصر وزمان ، وإلى الناس ضرورة إليها ، والله أعلم . [39] .
باب
الكلام في وجوب أدلة السمع
قال اقاضي ـ رحمه الله ـ :
قد بينا قول مالك ـ رحمه الله ـ في بطلان التقليد ، ووجوب الرجوع إلى الأصول ومعانيها ، فمن الأصول السمعية عند مالك : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والاستدلالات منها والقياس عليها . [40]
فصل
في الكتاب
وكتاب الله عز وجل هو الذي كما وصفه الله تعالى فقال : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت : 41ـ 42] .
وقال تعالى : { لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } [البقرة:2 ] .
وقال تعالى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [الأنعام : 38 ] .
وقال تعالى : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [القيامة : 17 ـ 18] .
وقال عز وجل : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [الإسراء : 88] .
أي معاونا .[41](1/9)
فقطع عذر الخلق به وبإعجازه ، وظهر عجزهم على أن يأتوا بسورة من مثله ، فثبتت آياته ، ولزمت حجته . [42] .
فصل
في السنة
وأم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأصل ذلك في كتاب الله عز وجل ، قال الله تعالى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [النساء :80] .
وقال عز وجل : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } [ المائدة : 92] .
وقال تعالى : { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ... } إلى قوله : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } الآية [ النور : 63] .
وقال تعالى : { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [الحشر:7] .
وقال عز وجل : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [ النساء : 59] [43]
وقال تعالى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... } إلى قوله { تَسْلِيمًا } [ النساء : 65] .
فأوجب الله عز وجل علينا طاعة رسوله ، كما أوجب علينا طاعة نفسه سبحانه ، وقرن طاعته بطاعته، وامر بأخذ ما أتى به ، والانتهاء عما نهى عنه .
وأخبر أنه ولاَّه بيان ما أنزل إليه فقال عز وجل : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل :44] .
وقال : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [النجم:3 ـ 4].
إلى آيات كثيرة تدلعلى وجوب السنة كوجوب الكتاب .[44]
فصل
في الإجماع(1/10)
وأما الإجماع فأصله في كتاب الله عز وجل أيضا ، قال الله تعالى : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [النساء : 115] [45]. وقال تعالى : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } [النساء : 59] .
وقال تعالى : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء :83].
فأمر تعالى باتباع سبيل المؤمنين ، وحذر من ترك اتباعهم ، كما حذر من ترك اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأمر بطاعة أولي الأمر منهم وجعلها مقرونة بطاعة الله رسوله عليه السلام . [46] .
فقيل في أولي الأمر منهم : إنهم العلماء.
وقيل : أمراء السرايا ، وهو من العلماء أيضا .
فيحتمل أن تكون الآية عامة في العلماء وأمراء السرايا ، على أن [47] أمراء السرايا من جملة العلماء ؛ لأنه لم يكن يولي عليهم إلا علماء الصحابة وفقهاؤهم ، فأمر الله تعالى يالرد إليهم واتباع سبيلهم فصح أنهم حجة لا يجوز خلافهم .
فهذه أصول السمع ، وأصلها كلها في الكتاب كما رأيت ، وهي كلها مضافة إلى بيان الكتاب لقوله تعالى : { تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى } [النحل :89] .
وقوله: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [الأنعام : 38] .
وعلى هذا إضافة ما جمع عليه مما لا يوجد له في الكتاب نص ولا في السنة ذكر ؛ لأن الكتاب أمر بقبول ذلك كله ، فوجبت حجة جميعه ، وهكذا تقليد من لزم تقليده من أولى الأمر وهو العلماء كما ذكرنا .[48]
فصل
في الاستدلال والقياس
ثم دل الكتاب على الاستنباط والاستدلال في غير موضع ، قال الله عز وجل : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } [الحشر:2] .(1/11)
وقال تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } [النساء :58][49]
فكان في ذلك دليل على الانتزاع من الأصول ، وألحاق المسكوت عنه بالمذكور على وجه الاعتبار ، وهذا هو باب القياس والاجتهاد ، وأًله في الكتاب ، وهو أيضا مضاف إلى بيانه .
وليس شيء من الأحكام يخرج عن الكتاب نصا ، وعن السنة والاجماع والقياس ، وقد انطوى تحت بيان الكتاب ذلك كله ، وفي ذلك بيان معنى قوله تعالى : { تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى } [النحل :89] .
وقوله : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [الأنعام : 38] .
وقوله : { وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ } [يونس :57] .
والله أعلم . [50]
فصل
في القياس
ومذهب مالك ـ رحمه الله ـ القول بالقياس ، وقد بينا الحجة له .
والدليل أيضا على صحة القياس ، وهو إجماع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على تسويغ بعضهم لبعض القول بالقياس والاستعمال له في الحوادث ، حتى أن بعضهم شبه بالشجرة ، وبعضهم شبه بالنهر في مسائل الجد والإخوة ، ويقول ابن عباس ؛ (( لو لم يعتبر الإنسان [51] في العقل إلا بالأصابع )) وغيرذلك مما يطول ذكره مما هو مشهور عنهم ، ولم ينكر أحد منهم على الآخر ما ذهب إليه من جهة القياس ، فدل على إجماعهم على القول بالقياس وعلى صحته وأنه مما يتوصل به إلى علم الحوادث مع ما ذكرناه من دلائل الكتاب والسنة والاجماع على صحته ووجوب القول به ، وبالله التوفيق . [52]
باب
القول في الخصوص والعموم
قال اقاضي ـ رحمه الله ـ :
من مذهب مالك ـ رحمه الله ـ القول بالعموم ، وقد نص عليه في كتابه في مسائله ، حيث يقول محتجا لإيجابه اللعان بين كل زوجين لعموم إيجاب الله عز وجل ذلك بين الأزواج .(1/12)
وكذلك قال وقد سئل عن عدة الصغيرة من الوفاة ، واحتج بقوله [53] تعالى : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } [البقرة:32] .
وقد احتج لقوله : إن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد سواء كان جامعا أو غيره بقوله تعالى : { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [البقرة : 187].
قا لمالك : (( فعم الله الله سبحانه المساجد كلها ولم يخص مسجدا من مسجد )) .
وحكم هذا الباب عنده أن الخطاب إذا ورد باللفظ العام نظر ، فإن وجد دليل يخص اللفظ كان اللفظ كان مقصورا عليه ، وإن لم يوجد دليل يخصه أجري الكلام على عمومه . [54] .
ووجه ذلك : أن فطرة اللسان في العام الذي وصفته ، احتمال الخصوص ، إذ لم يكن محتملا لذلك لكانت عينه توجب أن يجري حكمه على جميع ما اشتمل عليه ، ولو كانت عينه توجب ذلك لم يجز أن يوجد في الخطاب لفظ عام اريد به الخصوص ، ولا جاز أن يقوم دليل على خصوص لفظ عام ، وفي وجونا الأمر بخلاف ذلك دليل على أن عين اللفظ لا يوجب العموم ، وإذا كان ذلك كذلك علم احتماله ، ومتى علم أنه محتمل لم يجز الإقدام على الحكم به دون البحث والنظر في المراد به والمعنى الذي يخرج عليه ؛ لأن الله عز وجل [55] أمرنا باتباع كتابه وسنة رسوله عليه السلام ، والاعتبار بهما والرد إليهما ، وذلك كله كالآية الواحدة فلا يجوز ترك شيء من ذلك مع القدرة عليه .
وإذا لم يجز ذلك وجب أن ننظر ولا نهجم بالتنفيذ قبل التأمل ، كما لا نبادر في الكلام التصل إلى أن ينتهى على آخره فننظر هل يتبعه استثناء ام لا ؟ .(1/13)
وكذلك الكتاب والسنة والأصول كلها كالآية الواحدة ، ولا يجوز أن نبادر إلى التنفيذ حتى نتدبر وننظر ، فإن وجدنا دليلا يخص حملنا الخطاب عليه ، وإن لم نجد فقد حصل الأمر ، والمراد به التنفيذ ، وإنما جعلت الأسماء دلائل على المسميات ، وقد ورد اللفظ مشتملا [56] على مسميات فليس بعضها أولى من بعض فيقدم عليه ، فهو على عمومه ، والحكم جار على جميع ما انطوى عليه ؛ لأن قضية العقول : أن كل متساويين فحكمها واحد من حيث تساويا إلا بأن يخص أحدهما بمعنى يوجب غفراده عن صاحبه ، فإذا عدم دليل الإفراد فلا حكم إلا التسوية ، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر ، وإذا كان هذا ، صح ما قلناه في العموم والخصوص ، وبالله التوفيق . [57].
باب
الكلام في الأوامر والنواهي
عند مالك ـ رحمه الله ـ أن الأوامر على الوجوب إذا وردت [58]من مفروض الطاعة .
وقد احتج ـ حيث سئل عن تتميم ما يدخل فيه من القرب ـ بقوله عز وجل : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة : 196] .
وبقوله تعالى : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } [البقرة: 187] [59].
والدليل على صحة ذلك : هو أن المفروض الطاعة اذا قال لمن تلزمه طاعته :(( افعل )) لم يعقل منه (( لا تفعل )) ولا ما في معناه ولا (( توقف )) ولا ما في معناه ، ولا(( أنت مخير )) ولا في ما معناه ، فلم يبق إلا إيجاب الفعل وإنجازه من المأمور به فدل على أن الأوامر على الوجوب إذا تجردت عن القرائن التي تدل على الندب وغيره ، والله أعلم . [60] .
باب
القول في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم
ومذهب مالك ـ رحمه الله ـ أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم على [61] الوجوب ، وقد قال في مواضع كثيرة محتجا بقوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب :21] .
وسواء كان ذلك حظرا أو إباحة ، حتى يتبين أنه عليه السلام مخصوص بذلك دوننا .(1/14)
وقد أسقط مالك ـ رضي الله عنه ـ زكاة الخضروات اقتداء بأنها لم يأخذها النبي صلى الله عليه وسلم ، فدل على أن أفعاله صلى الله عليه وسلم عنده على الوجوب. [63] .
وقال الله تعالى : { nqمèخ7¨?$$sù } [الأنعام : 155] والأمر على الوجوب ، فوجب اتباعه عليه السلام في قوله وفعله .
وكذلك قال عمر ـ رضي الله عنه ـ لما قبل الحجر : (( لإني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك )) .
وكذلك خلعت الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ نعالهم لدخول الكعبة وقالوا : (( رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلع نعليه لدخولها )) . [63] .
فدل على ان أفعاله صلى الله عليه وسلم كانت عندهم على الوجوب إلا أن يقوم دليل الخصوص ، والله أعلم . [64] .
باب
الكلام في الأخبار والقول في خبر التواتر
ومذهب مالك ـ رحمه الله ـ قبول الخبر الذي قد اشتهر واستغني عن ذكر عدد ناقليه لكثرتهم ، كمواقيت الصلاة ، وأركان الحج التي لا يتم إلا بها ، وتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، وأشباه ذلك من الشرائع التي تواترت الأخبار بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا هو الخبر المتواتر الذي يوجب العلم ، ويقطع العذر ، ويشهد على مخبره بالصدق ، ويرتفع معه الريب ، وهذا مما لا خلاف فيه بين فقهاء الأمصار وسائر الأمة ، ولا ينكره إلا من خرج عن الجماعة ، ومرق من الدين ، وخالف ما عليه جميع المسلمين .
ولأن بمثله تعرف أخبار الأنبياء والرسل والممالك والدول والأيام والأسلاف ، وما لم نشاهد من البلدان مثل : الصين ، وخرسان .
فمن [65] أنكر ذلك لزمه أن يتوقف عن معرفة هذه الأشياء ، ومن توقف عن هذا بان عوار مذهبه ، وقبح طريقته ، وعناده ومكابرته ، وخروجه عما عليه جميع العقلاء ، وكفى بهذا بطلانا وفسادا ، وبالله التوفيق . [66] .
باب
القول في خبر الواحد العدل(1/15)
ومذهب مالك ـ رحمه الله ـ قبول خبر الواحد العدل وأنه يوجب العمل دون القطع على غيبه ، وبه قال جميع الفقهاء .
وقد احتج مالك لذلك في المتبايعين بالخيار ما لم [67] يفترقا ، وكذلك في غسل الإناء من ولوغ الكلب ، وفي مواضع كثيرة .
والدليل على وجوب العمل به قوله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات:6] .
فدل على أن العدل لا يتثبت في خبره ، إذ لو كان الفاسق والعدل سواء ، لم يكن لتخصيص الفاسق بالذكر فائدة . [68] .
وإنما لم يقطع على غيبه ؛ العلم لا يحصل من جهته ، إذ لم كان يحصل من جهته العلم لوجب أن يستوي فيه كل من سمعه كما يستوون في العلم بمخبر خبر التواتر ، فلما كنا نجد أنفسنا غير عالمين بصحة مخبره ، دل على أنه لا يقطع على مغيبه ، وأنه بخلاف خبر التواتر ، فصار خبر الواحد بمنزلة الشاهد الذي قد أمرنا بقبول شهادته ، وإن كنا لا نقطع على صدقه .
فإن قيل بأن في سياق الآية ما يوجب التوقف عن خبره ، وهو قوله عز وجل : { أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ } [الحجرات:6] والجهالة قد تدخل في خبر العدل من حيث كان خبره لا يقطع على مغيبه ، من حيث كان السهو والغلط والكذب جائزا عليه .
قيل : الجهالة في هذا الموضع هي السفاهة ، وفعل ما لا يجوز فعله مما يقع التوبيخ والذم عليه ، وقد جاز التوبيخ على الجهل في بعض المواضع ولو كانت الجاهلة لا تكون إلا بمعنى الغلط ، لقبح الذم والتوبيخ على فعلها .(1/16)
والدليل على صحة هذا التأويل قوله عز وجل : { فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات:6] . والندم إنما يكون على ارتكاب المنهي [69] والدليل أيضا على ذلك هو أنه لوكانت العلة في وجوب التوقف عنه في الجهل لخبره لم يجز قبول خبر الشاهدين لهذه العلة ، فلما أجاز الله سبحانه ذلك وأمر بقبوله ، دل على فساد قول من رد خبر الواحد بذلك ، والله أعلم . [70].
باب
القول في الخبر المرسل
ومذهب مالك ـ رحمه الله ـ قبول الخبر المرسل إذا كان مرسله عدلا عارفا بما أرسل ، كما يقبل المسند [71] .
وقد احتج به في مواضع كثيرة حيث أرسل الخبر في اليمين مع الشاهد وعمل به .
وكذلك أرسل الحديث في الشفعة للشريك وعمل به . [72] .
وكذلك أرسل الخبر في ناقة البراء وسائر جنايات المواشي ، وعمل بذلك .
والحجة له قول : أن المرسل إذا كان عدلا متيقظا فقد أسقط عنا بعدالته وتيقظه تعدل ما لم يذكره لنا ممن روى عنه ، وناب منابنا وكفانا اتماس عدالة من نقل عنه ، فوجب لمن وجب تقليده في عدالته أن يقلده في أنه لايروي عن غير عدل ثقة ، وقد علم أنه إذا صرح بالذكر من روى عنه فقد وكل الاجتهاد إلينا لنعتبر حاله بأنفسنا ، وأنه إذا أضرب عن ذكره [73] قد استبد بعلم من خفي علينا من عدالته ، ولن يعمل على ذلك من كان مرضيا عندنا ضابطا متيقظا إلا وقد بالغ في الثقة ممن روى عنه ، ولن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من حيث يصح عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ، ولم يزل أصحاب رسول اله صلى الله عليه وسلم يرسلون ويخبر بعضهم بعضا فيذكرون من أخبرهم تارة ، ويستغنون عن ذكره أخرى ، وكذلك التابعون بعدهم وتابعوهم ، فدل على صحة ما قلناه وأنه إجماع من الفقهاء ، والمحدثون يستعملونه في كل عصر وزمان فوجب أنه جهة معمول به ، والله أعلم .[74] .
باب
الكلام في إجناع أهل المدينة وعلمهم(1/17)
قد تقدم أن مذهب مالك ـ رحمه الله ـ وسائر العلماء القول بإجماع الأمة ، ومن مذهب مالك ـ رحمه الله ـ العلم على إجماع أهل المدينة فيما طريقه التوقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو أن يكون الغالب منه أنه عن توقيف منه عليه الصلاة والسلام كإسقاط زكاة [75] الخضروات ؛ لأنه معلوم أنها قد كانت في وقت النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أنه أخذ منهاالزكاة ، وإجماع أهل المدينة على ذلك ، فعمل عليه وإن خالفهم غيرهم .
وقد احتج مالك ـ رحمه الله ـ بذلك في مسائل يكثر تعدادها حيث يقول : (( الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا )) ، وهذا من خبر التواتر الذي قد بينا أنه مذهبه .
وحجته في أنهم أولى من غيرهم فيما طريقه النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم [76] أن الرسول عليه السلام كانت هجرته إلى المدينة ، ومقامه بها ، ونزول الوحي عليه فيها ، واستقرار الأحكام والشرائع بها ، وأهلها مشاهدون لذلك كله عالمون به ، لا يخفى عنهم شيء منه ، وكانت حاله صلى الله عليه وسلم معهم إلى أن قبض على أوجه :
1 ـ إما أن يأمرهم بالأمر فيفعلونه .
2 ـ أو يفعل الأمر فيتبعونه .
3 ـ أو يشاهدهم على أمر فيقرهم عليه .
فلما كانت هذه المنزلة منه عليه الصلاة والسلام حتى اقطع التنزبل ، وقبض من بينهم صلى الله عليه وسلم فمحال أن يذهب عليهم وهم مع هذه الصفة ما يستدركه غيرهم ؛ لأن غيرهم ممن ظعن منهم إلى المواضع هم الأقل ، فالأخبار عنهم أخبار آحاد ؛ لأن عددهم مضبوط ، وأخبار أهل المدينة أخبار تواتر فكانت أولى من أخبار الآحاد . [77]
فإن قيل : فقد نقلت إلى أهل المدينة أشياء كانت من النبي صلى الله عليه وسلم في مغازيه لم يكونوا علموها قبل ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ .
قيل : الذين نقلوا إليهم ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم هم من أهل المدينة ، فلم يخرج النقل عنهم .
فإن قيل : قفد كانت منه صلى الله عليه وسلم أشياء بمكة لما حج لم تكن بالمدينة ؟ .(1/18)
قيل : قد معه أهل المدينة في حجته ، فهم شاهدوه أيضا بمكة ونقلوا عنه ما كان منه في حجه وغيره . [78].
فإن قيل : فإن اتفق لأهل مكة مثل خبر أهل المدينة في إجماعهم لأنهم قد شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم كما شاهده أهل المدينة فإذا اتفقوا على شيء من توقيف أو ما الغالب منه أن يكون على توقيف ، فهل يجب أن يقبل ذلك منهم ؟ .
قيل : إن اتفق لهم ذلك كانوا هم وأهل المدينة سواء فيما نقلوه عنه صلى الله عليه وسلم ، ولكن لا يكاد أن ينفق هذا لغير أهل المدينة في أن يكون خبرهم طرفاه كوسطه لا يتخلله أخبار الآحاد ؛ لأن أخبار غيرهم وإن نقلها جماعة يتخللها أخبار الآحاد في طرفيها أو في وسطها فخرجت بذلك عن أن تكون تواترا . وأهل المدينة يحصل لهم في فعلهم صفة التواتر ، فلهذا كان خبرهم مقدما على خبر غيرهم ، والله أعلم . [79] .
باب
القول في دليل الخطاب
ومن مذهب مالك ـ رحمه الله ـ أن دليل الخطاب محكوم به ، وقد احتج بذلك في مواضع منها حيث قا ل : (( إن من نحر هديه بالليل لم يجزه ، لقوله عز وجل : { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } [الحج : 26] ))
دليله : أنه لا يجزيه إذا نحره بالليل . [81] .
وكقوله : (( من دخل الدار فاعطه درهما )) .
دليله : من لم يدخل فلا تعطه شيئا .
وهذا نص منه في القول بدليل الخطاب .
والوجه فيه أن ينظر ـ عند ورود الخطاب بالشرط أو الصفة ـ إلى سياق الكلام وما تقدمه وما خرج عليه الخطاب ، فإن وجد دليل يدل على المسكوت عنه وبين المذكور ، صير إليه ، وإن لم [82] يوجد دليل أمضي الحكم على ما ذكر ، ثم ينظر في حكم المسكوت على سبيل ما ينظر في الحوادث التي لا نصوص فيها ، فقد يقع السؤال عن شيء على صفة فيخرج الجواب مقيدا به ، ولا يكون في ذلك دليل على مخالفة المسكوت عنه للمذكور ، كمن أقر لرجل بألف درهم ،فقيل له : إن كان له عليك ألف درهم فأخرج له منها .(1/19)
وكالعالم إذا سئل عن رجل قتل ابنه ؟ فيقول العالم : (( من قتل ابنه فلا قود عليه )) فيكون ذلك شرط في الأب وحده ؛ ولإنه لا ينفي القود في غيره .
وهذا كما نقول : إن سائلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المسح على الخفين ، هل يمسح المسافر ثلاثة أيام ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (( يسمح المسافر ثلاثة أيام )) ولا يكون مقصورا على السؤال .[83] .
وكذلك يخرج ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( في سائمة الغنم الزكاة )) أنه سؤال سائل عن هذا وما أشبهه ، فلا يكون مقصورا على السؤال لقيام الدلي على أن العاملة كالسائمة في وجوب الزكاة فيها .
وقد يرد الحكم في شيء مذكور ببعض أوصافه فيكون فيما سكت عنه ما قد يساوي المذكور في حكمه ، ويكون منه ما يخالف ، ألا ترى إلى قوله عز وجل : { وَحَلَائِلُ مNà6ح !$oYِ/r& الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ } [النساء : 23] .كيف اشترط في التحريم حلائل أبناء الأصلاب فكان في ذلك نفي [84] لتحريم حلائل البنين ، ولم يكن فيه نفي لتحريم حلائل أبناء الرضاع ، واستوى حكم حلائل أبناء الأصلاب وحلائل أبناء الرضاع في التحريم ، ولم يكن أيضا في ذكر أبناء الحلائل من يخالف فيمن وطئه الأبناء بملك اليمين بل التحريم واحد .
وقد يرد الخطاب على وجوه ، والظاهر منه إذا تجرد دل على أن ما عداه بخلافه إلا أن يقوم دليل .
والحجة لقوله بدليل الخطاب إذا تجرد ، هو أن ذلك لغة العرب ؛ لأن الخطاب إنما يقع باللسان العربي ، وبه يحصل البيان ، ووجدنا أهل اللسان يفرقون بين المطلق والمقيد ، وبين المبهم وما يعلق بالشرط ، فإذا قال القائل : (( من دخل الدار من بني تميم فأعطه درها )) [ 85]عقل منه خلاف ما يعقل من قوله : (( من دخل الدار فأعطه درهما )) ، وعقل منه خلاف ما يعقل من قوله : (( من لم يدخل الدار فأعطه درهما )) .(1/20)
ولذلك سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القصر للصلاة إذا أمنوا لما سمعوا قوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ } [النساء : 101] .
فكان عندهم أن ما عدا الخوف من الأمن بخلافه ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( صدقة تصدق الله عز وجل بها عليكم فاقبلوا صدقته )) ، ولم يرد عليهم ما ظنوه ، ولا خاطبهم فيما قدروه ، فدل على أن ذلك لغته ولغتهم ـ رضي الله عنهم ـ ، فدل على صحة القول بدليل الخطاب ، والله أعلم . [86] .
باب
القول في الأسباب
الوارد عليها الخطاب
ومذهب مالك ـ رحمه الله ـ قصر الحكم على السبب الذي خرج اللفظ عليه متى خلا مما يدل على اشتراك ما تناوله اللفظ معه .
وحكي عن القاضي إسماعيل بن إسحاق ـ رحمه الله ـ أن [88] الحكم للفظ دون السبب ، قال : وذلك نحو ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن بئر بضاعة وما يلقى فيها من الكلاب فقال : (( خلق الله عز وجل الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غيره )) .
فحكم للماء بأنه طهور جنسه دون الماء الذي سئل عنه ، فدل على أن كل ماء وصفه ما ذكره ، لأن اللفظ يقتضي ذلك .
والحجة له أنه لما كان الموجب للحكم هو اللفظ دون السبب ، وجب أن يكون هو المراعى دونه . [89].
والحجة للوجه الآخر ـ وهو قول مالك ـ رحمه الله ـ هو أن السؤال يفتقر إلى الجواب ، والجواب سببه السؤال ، فقد صار كل واحد منها سببا لصاحبه لا بد له منه ، فلما كان السئال مقصورا على سببه كان الجواب كذلك [90] ، والله أعلم [91] .
باب
القول في الزائد من الأخبار
من مذهب مالك ـ رحمه الله ـ قبول الزائد من الأخبار ، وصورته :(1/21)
أن يروي أحد الراويين خبرا يفيد معنى من المعاني ، ويروي آخر ذلك الخبر بزيادة لفظة فيه ؛ لأن تلك اللفظة تدل على زيادة معنى آخر في الحديث ، وتكون اللفظة الزائدة لو انفردت لاستفيد منها معنى ، فيصير الخبر مع زيادته كالخبرين ، فمن قبل خبر الواحد لزمه قبول ذلك ؛ لأن [92] الزيادة كخبر آخر، فقبولها واجب ، والله أعلم .[93] .
باب
القول فيما يخص به العموم
مذهب مالك ـ رحمه الله ـ أن الآية العامة إذا كان في العقل تخصيصها خصت به ، وإذا لم يكن في العقل تخصيصها فإنه يجوز أن يخص بالآية الخاصة ، وكذلك بالسنة المتواترة ، وبالاجماع ، [94] وخبر الواحد ، وبالقياس . [95] .
فصل
فمما خص بالكتاب قوله عز وجل : { إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } [المؤمنون:6] ، فكان عاما في الجمع بين الأختين بملك اليمين ، ثم خصه قوله تعالى : { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } [النساء: 23] .
وكذلك خص قوله عز وجل : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } [البقرة:228]، بقوله تعالى : { وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ ِ/ن3ح !$|،خpS إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } ... الآية [الطلاق:4] .[96]
فدل ذلك على أن قوله تعالى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [النساء:3] إلا أن تكونا اختين فلا تجمعوا بينهما في الوطء .
وكذلك عدتهن الأقراء لإذا كن من أهل المحيض ، وأشباه ذلك كثير في الكتاب . [97]
فصل
ومما خص من الكتاب بالسنة قوله عز وجل : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا } [النساء:40] .(1/22)
وهذا عموم ن فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد من ذلك من سرق ربع دينار فصاعدا ، وبين الرسول عليه السلام أن السرقة من غير حرز لا قطع فيها .[98]
وكذلك قوله عز وجل : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } [التوبة:5]، عام ، بين النبي صلى الله عليه وسلم من يجوز قتله ممن لا يجوز من أهل العهد والذمة ، وغير ذلك مما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بسنته من عموم الكتاب مما يطول ذكره .
وقال الله سبحانه في نبيه صلى الله عليه وسلم: { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل :44].
وقال : { nqمèخ7¨?$$sù } [الأنعام:155] .
وقال : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } [النور:61] . [99] .
فصل
ومما خص من الكتاب بالاجماع قوله عز وجل : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } ... الآية كلها [النساء:11] .
وأجمعوا أن العبد لا يرث .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قاتل العمد : (( إنه لا يرث )) ، واجمعوا على ذلك . وقال عليه السلام : (( لا يتوارث أهل ملتين )) .
فقد دل الإجماع على تخصييص بعض ، والسنة على تخصيص بعض ، وغير ذلك مما خص بالإجماع كثير ، وقد ذكرنا الدليل على وجوب حجة الإجماع . [101] .
فصل
ومما خص بالقياس قوله عز وجل : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } [النور:2] .
وقوله في الإماء : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } [النساء:25] .(1/23)
فدلت هذه الآية على أن الأمة لم تدخل في عموم من أمر بجلدها مئة من النساء ، ثم قيس العبد على الأمة فجعل حده خمسين كحدها فكانت الأمة مخصوصة بالآية ، والعبد مخصوصا من [102] قوله تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } [النور:2] بالقياس على الأمة ، وقد ذكرنا الدليل على صحة القياس ، وبالله التوفيق .
فصل
ويجوز عند مالك تخصيص الظاهر بقول الصحابي الواحد إذا لم يعلم له مخالف وظهر قوله ؛ لأن قوله يلزم ، فيجب التخصيص به ؛ لأنه يجري مجرى الإجماع ، جميع ذلك مذهبه في تخصيص الآي . [104]
فصل
وكذلك مذهب مالك ـ رحمه الله ـ في السنة إذا كان اللفظ بها عاما ، يخصها مثل ما ذكرنا مما يخص به الكتاب فتخص السنة بالكتاب ، وبالسنة ، [105] وبالإجماع ، وبالقياس ، وبقول الصحابي ، وأصل هذا الباب في البيان بالكتاب والسنة والإجماع والقياس .
والدليل عليه : أن الدليل لما قام على أن الخاص يبين معنى العام ، وجب بذلك أن يبين الخاص من الكتاب العام منه ، وإذا وجب ذلك في الآية بالآية ؛ وجب مثله في الآية والسنة ، وفي الآية والإجماع ؛ لأن هذه كلها أصول قد لزم العمل بها فهي كالآية الواحدة وكالأصل الواحد ، ومتى تعلق متعلق بظاهر الآية ، تعلق الآخر بخصوص السنة فتجابذاه ، فإن رامأحدهما طرح ما يتعلق به صاحبه عارضه صاحبه بمثل ذلك فيما تعلق به ، فإذا تعارضا فالحجة تلزم بهما وبكل واحد منها وصار كالآيتين ، ووجب الجمع بينهما على ما يؤدي إلى استعمالهما ، وبالله التوفيق . [106]
باب
القول في الأخبار إذا اختلفت(1/24)
ومذهب مالك ـ رحمه الله ـ التخيير في فعل ما اختلفت الأخبار فيه مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول الإمام ، آمين ، وتركه . [107] وما روي عنه من رفع اليدين في الصلاة عند الركوع والرفع منه وتركه . والتسبيح في الركوع وأشباه ذلك مما اختلفت الأخبار فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم تقم الدلالة على قوة أحدهما على الآخر ، ولا ما أوجب إسقاطهما ولا إسقاط أحدهما . [108]
والحجة في ذلك : أن الخبرين إذا ثبتا جميعا ، ليس أحدهما أولى من صاحبه ، ولا طريق إلى إسقاطهما ، ولا إلى إسقاط أحدهما ، وقد تساويا وتقاوما ، وما أمكن الاستعمال ، فلم يبق إلا التخيير فيهما ، وأن يكون كل واحد منها يسد مسد الآخر ، وصار بمزلة الكفارة التي قد دخلها التخيير ، والله أعلم . [109]
باب
القول في خبر الواحد والقياس يجتمعان
ومذهب مالك ـ رحمه الله ـ أن خبر الواحد إذا اجتمع مع القياس ولم يكن استعمالهما جميعا قدم القياس عند بعض أصحابنا .
والحجة له هي أن خبر الواحد لما جاز عليه النسخ ، والغلط ، والسهو ، والكذب ، والتخصيص ، ولم يجز على القياس من الفساد إلا [110] وجه واحد ، وهو أن هذا الأصل معلول بهذه العلة أو لا ؛ وصار أقوى من خبر الواحد فوجب أن يقدم .
وقد اختلف في ذلك :
فقيل : خبر الواحد أولى من القايس في هذا الذي ذكرناه .
وقيل : القياس أولى لما ذكرناه. واختلف فيه أًحابنا ، والله أعلم .[111]
باب
القول في أن الحق واحد
من أقوال المجتهدين
قال القاضي ـ رحمه الله ـ :
ومذهب مالك ـ رحمه الله ـ أن الحق واحد من أقاويل المجتهدين ، وذلك أنه قال ـ لما سئل عن اختلاف أصحاب [112] رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ليس فيه سعة [113] إنما هو خطأ أوصواب )) .
وكذلك قال الليث لما سئل عن ذلك .
وقال مالك ـ رحمه الله ـ (( قولان مختلفان لا يكونان جميعا حقا ، وما الحق إلا واحد )) .(1/25)
وأجمع مالك وسائر الفقهاء أن الإثم في الخطأ في مسائل الاجتهاد موضوع ، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إذا اجتهد [114] الحاكم فأصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر )) .
وهذا نص في أن في مسائل الاجتهاد ما هو عن خطأ ، فدل على أن الحق في واحد لا في جميعها ، وجعل له الأجر وإن أخطأ على اجتهاده ورفع عنه إثم خطئه .
وهو أيضا إجماع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لأنهم اختلفوا في مسائل الاجتهاد . وأنكر بعضهم على بعض ، ودعا بعضهم بعضا إلى المباهلة ، وأنكر بعضهم على بعض بأغلظ نكير ، وسوغ بعضهم لبعض الرد على صاحبه ، ولم يقل بعضهم لبعض : الحق معي ومعك ، فلو كان [115] كل واحد منهم مصيبا ، لم يكن لاختلافهم معنى ، فدل ذلك على ما قلناه ، وبالله التوفيق . [116]
باب
القول في تأخير البيان
وليس يختلف مالك ـ رحمه الله ـ وسائر الفقهاء في أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، إنما الخلاف هل يجوز أن يتأخر عن وقت النزول إلى وقت الحاجة ؟
وليس عند مالك ـ رحمه الله ـ في ذلك نص قول ، ولا لأصحابه المتقدمين .
وكان ابن بكير يقول : (( إن البيان يجوزأن يتأخر عن وقت ورود الخطاب إلى وقت الحاجة )) . ويذكر أن مالكا ـ رحمه الله ـ قد أشار على ذلك حيث قال ـ وقد ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( من قتل قتيلا فله سلبه )) ـ : أن ذلك له إذا رآه الإمام ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان قبل ذلك قسم أسلابا كثيرة ، ولم يبلغني أنه قال ذلك إلا يوم حنين . [118]
قال ابن بكير : وقد كان قال مالك : (( لا يجوز أن يتأخر البيان عن وقت الحاجة )) ، فهذا يدل على أنه كان يجوز تأخيره عن وقت النزول . وكان شيخنا أبو بكر بن صالح الأبهري ـ رحمه الله ـ يمنع من ذلك ويقول : (( لا يجوز أن يتأخر البيان عن وقت ورود الخطاب )) .(1/26)
والحجة لمن جوز تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذا أن يعلم أهل اليمن أن عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم ، فأعلمهم معاذ ذلك ، ثم كان بيان شرائع [119] الزكاة ووجوهها يقع لهم على مقدار الحاجة ، حتى سألوه عن وقص البقر ، فأخبرهم أنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيئا .
ولا معنى لمن ينكره ؛ لأن ذلك لو كان ممتنعا غير جائز لم يخل أن يكون ممتنعا بالعقل ، أو بالشرع ، ولسنا نعلم في العقل امتناعه ، ولا في الشرع أيضا ما يمنعه .
والحجة لمن منع من ذلك : هو أن المخاطب لا يدري ما يعتقد فيه قبل ورود البيان له ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان البيان يجري على يديه ، فلا يجوز أن تخترمه المنية قبل التبيين ، وقال تعالى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل :44] . [120]
وألأول أصح ، وبالله التوفيق . [121] .
باب
القول في خطاب الواحد
هل يكون خطابا للجميع
قال القاضي ـ رحمه الله ـ :
إذا خاطب النبي صلى الله عليه وسلم العين الواحدة هل يكون خطابا للجميع مع المشاركة في الجنس أم لا ؟.
إنا لا نعرف عن مالك ـ رحمه الله ـ نصا في ذلك والذي يدل عليه في ذلك مذهبه ، هو أن الخطاب خطاب الله تعالى ، أو خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعين من الأعيان خطاب للجميع ، وذلك [122] أن مالكا ـ رحمه الله ـ روى حديثا عن أبي هريرة في الموطأ أن رجلا أفطر في رمضان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلمأن يعتق رقبة ، أو يطعم ستسن مسكينا ؛ أو يصوم شهرين متتابعين ... الحديث ، فاحتج بذلك فيمن أكل في شهر رمضان متعمدا لغير عذر ان عليه الكفارة ، فهذا يدل على أن مذهبه ما قلناه .(1/27)
ومما يوضح ذلك أيضا : أنه روى حديث فاطمة بنت أبي حبيش أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : (( إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي )) .
فأوجب مالك ـ رحمه الله ـ أن يكون الحكم في النساء كلهن [123] مثل الحكم فيها ، وعول على الحكم في الحيض على هذا الحديث .
والحجة لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( خطابي للواحد خطابي لجميع )) .
وهذا نص فيما ذكرناه ، فوجب الحكم به ، وبالله التوفيق .
باب
القول في العموم يخص بعضه
مذهب مالك ـ رحمه الله ـ في العموم إذا خص بعضه ، هل يكون ما بقي على عمومه ، أو يتوقف عنه حتى يقوم دليل يدل على خصوص أو عموم ؟.
ليس يختلف أصحابنا في أن ما بقي بعد قيام الدليل على خصوصه أنه على العموم .
والدليل على ذلك : أن الله عز وجل خاطبه بلغة العرب ووجدناهم يقولون إذا أمروا من تلزمه طاعتهم وامتثال أوامرهم : (( أعط بني تميم كذا وكذا )) أنه يلزم المأمور أن يعطيهم ما أمر به ، فإذا قال له بعد ذلك : (( لا تعط شيوخ بني تميم شيئا )) لا يكون في ذلك [125] منع لإعطاء من بقي من الشبان ؛ لأن عطية الكل ثابتة بالأمر ، فخروج البعض من الجملة لا يدل على إبطال الكل ، وذلك معقول عندهم ، ومشهور في لسانهم ، فوجب ألا يخرج عن ذلك ، وبالله التوفيق .
باب
القول في القياس على المخصوص
مذهب مالك ـ رحمه اله ـ هل يجوز أن يقاس على المخصوص أم لا ـ أن المخصوص إذا عرفت علته جاز القياس عليه ، وإلى هذا ذهب القاضي إسماعيل بن إسحاق ـ رحمه الله ـ . [127]
والحجة لذلك : هو أن الحكم للعلة ، فإذا وجدت علق عليها الحكم ، وذلك مثل قول الله عز وجل : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } [النور:3] .(1/28)
فكانلك عاما في كل زانية وزان ، وسواءكان عبدا أو حرا ، ثم خص من ذلك الإماء بقوله عز وجل : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } [النساء:25] .
ثم ألحق العبيد بالإماء في الاقتصار على نصف حد الحر من طريق القياس ، وكانت العلة الجامعة بين الإماء والعبيد وجود الزنا مع الرق ن فثبت بذلك جواز القياس على المخصوص ، وبالله التوفيق . [128]
باب
القول في الاستثناء عقيب الجملة
عند مالك ـ رحمه الله ـ الاستثناء والشرط إذا ذكر عقيب جملة من الخطاب ، هل يكون رجوعهما إلى جميع ما تقدم ، أو يكونان راجعين إلى أقرب المذكورين ، وهو الذي يليهما ؟ .
والذي يدل عليه مذهب مالك ـ رحمه الله ـ أن يكون الاستثناء [129] راجعا إلى ما تقدم إلا أن تقوم دلالة على المنع ، وذلك أنه قال : (( شهادة القف مقبولة متى تاب لقوله عز وجل : { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } [النور:4ـ5] .
فجعل الاستثناء راجعا على جميع ما تقدم من الفسق وقبول الشهادة .
والدليل على صحة ذلك : هو أن الاستثناء رفع لحكم كلام متقدم قد نيط بعضه ببعض حتى صار كالكلمة الواحدة ، فوجب أن يكون راجعا إلى جميعه ، إذ ليس بعضه بالرجوع إليه أولى من بعض . [130]
ومما يبين ذلك أن الله عز وجل قال : { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا } [العنكبوت :14] .
فكان الاستثناء عاما في جميع ما تقدم ، إذ لم يكن بعض السنسن برجوع ذلك إليه أولى من بعض ؛ لأن جميع ذلك مرتبط بعضه ببعض ، والله أعلم . [131]
باب
القول في الأوامر هل هي على الفور أو التراخي
ليس عن مالك ـ رحمه الله ـ في ذلك نص ، ولكن مذهبه يدل على أنها على الفور ؛ لأن الحج عنده على الفور ، ولم يكن ذلك كذلك إلا لأن الأمر اقتضاه . [132](1/29)
والحجة له ، قوله تعالى : { # qممح'$y™ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } [آل عمران:133] . قال المفسرون : إلى الأعمال لبتي بها تغفر ذنوبكم .
وهذا عام في كل عمل ، فأمرنا بالمسارعة ، والتراخي ضد المسارعة ، فدل على أن الأوامر على الفور دون التراخي .
فإن قيل : قوله عز وجل : { # qممح'$y™ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } يدل [133] على وجوب المبادرة إلى ما يسقط الذنوب ، ويوجب غفرانها ؛ لأن المغفرة إنما تكون للذنب ، وليس في ظاهر الآية إلا وجوب التوبة وما يوجب التكفير للذنوب التي يستحق عليها العقاب ، وهذا ما لا خلاف في وجوب المبادرة إليه ، فمن زعم أن غيره من الأفعال بمنزلته ، فعله إقامة الدليل .
قيل له : سائر الإعال الطاعات والحسنات تغفر بها السيئات ، قال الله تعالى : { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } [هود :114] .
والمبادرة على فعل ما أمر الله به من الطاعات والشرائع مما تغفر به السيئات ، فثبت ما قلناه ، والله أعلم . [134]
باب
قال في الأوامر هل تقتضي
تكرار المأمور به أم لا ؟
قال القاضي ـ رحمه الله ـ
الأمر بالفعل إذا تجرد هل يقتضي تكراره ، أم لا يقتضي ذلك إلا بدليل ؟.
ليس عن مالك ـ رحمه الله ـ فيه نص ، ولكن مذهبه عندي يدل على تكراره إلا أن يقوم دليل [136] والحجة لذلك حديث سراقة لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أحجتنا هذه لعامنا أم للأبد ؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( اتركوني ما تركتكم )) .
وقيل في خبر : (( بل للأبد )) .
وسراقة عربي ، فلولا أن حكم الخطاب في اللغة يوجب ذلك ، وإلا فما وجه مسألته عن ذلك ؛ لأن الأمر لو كان لا يعقل منه إلا مرة واحدة لم يسأل سراقة عن الأبد ، ولا سوغه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، ولكان يقول له : إذا أمرت بأمر معروف فمعناه في لغتك فلم تسأل عما تعقله من الأمر ؟.(1/30)
فإن قال قائل : هذا ينقلب عليكم ؛ لأنه لو كانت الأمر يوجب التكرار لما كان لسؤاله معنى ، ولقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قد أمرت بأمر مفهوم معقول في لسانك أنه للتكرار ، فلم تسأل عما تعقله بالأمر ؟ .
قيل له : فائدة سؤاله ها هنا هو أنه لما رأى الصلوات والصيام يتكرران ، وكانت المشقة العظيمة تلحق في الحج ، ولا يكون مثلها في سائر العبادات ، ثم ورد عليه الأمر الذي يوجب التكرار ، خاف أن يكون بمنزلة سائر العبادات التي تتكرر ، فحينئذ سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو كان الأمر يوجب فعل مرة واحدة لما كان لسؤاله معنى ؛ لأنه ليس بخالف أن يتكرر فيسأل عنه .
قال القاضي ـ رحمه الله ـ :
وعندي أن الصحيح ، هو أن الأمر إذا أطلق يقتضي فعل [138] مرة وتكراره يحتاج إلى دليل .
والدليل على ذلك : أن معنى قوله : (( صلوا )) المراد منه فيما توجبه اللغة : افعلوا صلاة .
وقوله : (( صلوا ، ثم صلوا )) يقتضي فعل صلاصتين .
وكذلك لو قال : (( صلوا عشر صلوات )) أو (( عشرة أيام )) اقتضى عددا أكثر من ذلك .
وكذلك إذا قال : (( صلوا أبدا )) ، وهذه ألفاظ قد وضعها أهل اللغة للتكرار ، فإذا ورد الأمر مجردا منها لم يدل بمجرد قوله : (( صلوا )) إلا على فعل مرة واحدة ، والله أعلم .[139]
باب
القول في نسخ القرآن بالسنة
ليس يعرف عن مالك ـ رضي الله عنه ـ في هذا نص .
واستدل أبو الفرج القاضي المالكي على أن مذهب مالك ـ رحمه الله ـ : أن ذلك يجوز . [141]
قال : لأن مذهبه أن (( لا وصية لوارث )) ، وهذا من مذهبه يدل على أن نسخ القرآن بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وذهب على أبي الفرج أن مالكا ـ رحمه الله ـ قال في الموطأ : (( نسخت آية المواريث الوصية للوارث )) .
والأمر محتمل ، وقد اختلف في ذلك :(1/31)
فمن ذهب إلى أنه يجوز ، فحجته : أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت صدقه ، وهو الأصل فيما جاءنا به عن الله عز وجل ، فلا فرق إذا وردت آية [142] .
عامة بين أن يبين لنا أنه أريد بها بعض الأعيان دون بعض ، وبين أن يبين لنا أنه أريد بها زمان دون زمان ؛ لأن هذا تخصيص للأعيان ، وهذا تخصيص للأزمان ، فإذا جاز أن يخص النبي صلى الله عليه وسلم ببيانه الأعيان بالتفاق ، جاز أن يخص النبي صلى الله عليه وسلم ببيانه الأزمان قياسا عليه لأنه مثله .
ومن امتنع من ذلك ، فعلى وجهين :
أحدهما : أنه لم توجد سنة نسخت قرآنا . [143]
والوجه الآخر : أنه لا يجوز أن توجد
واستدل بقوله عز وجل : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [البقرة 105] قال : فقوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } يريد آية خيرا منها ؛ لأن قائل لو قال لعبده : (( ما آخذ منك ثوبا إلا أعطيتك خيرا منه )) يريد ثوبا خيرا منه لا ثوبا مثله ، هذا مفهوم [144] من كلام العرب ، فأخبر الله ع زوجل أنه يأتي بخير منها أو مثلها ، فلو كان يجوز أن يأتي بغيره مما ليس بقرآن لذكره ، والله أعلم . [145]
باب القول في الزيادة على النص هل يكون نسخا أو لا ؟
الذي يدل عليه مذهب مالك رحمه الله أن الزيادة على النص لا تكون نسخا بل تكون زيادة حكم آخر .
والمخالفون من أهل العراق قالوا : الزيادة على النص نسخ له .
فيقال لهم : إذا كان من أصلكم الانتزاع من دليل الخطاب [146] وكان قول الله عز وجل: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } [النور: 2]
يتضمن معنيين :
أحدهما: أن الزاني يجلد مائة .
والآخر : أن ما عدا المائة على ما كان عليه في الأصل .
فإذا قالوا : نعم ، ولابد من ذلك .(1/32)
قيل لهم : إذا كانت المائة حكمها باقي بحاله وماعداها حكمه حكم المائة قبل ورود السمع بوجوبها ، ووجدنا المائة لم يؤثر النفي فيها شيئا لا بأن أبطلها ولا أبطل شيئا منها وكان ماعداها لا يصح أن يكون منسوخا ، كما لا يكون استئناف الشرع بالوجوب ناسخا لما لم يكن في العقل وجوبه [147] فلم يبق شيء يصح أن يكون منسوخا ، وبالله التوفيق.[148] .
باب الكلام في شرائع من كان قبلنا من الأنبياء
اختلف فيه :
هل يلزمنا اتباع من كان في شرائع من كان قبل نبينا صلى الله عليه وسلم من الأنبياء عليهم السلام ، إذا لم يكن في شرعنا ما ينسخه أم لا ؟
فقيل : يلزمنا ، إلا أن يمنع منه دليل .
ومذهب مالك رحمه الله يدل على أن علينا اتباعهم ، لأنه [149] احتج بقوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [المائدة: 45] .
وهذا خطاب لأهل التوراة بشريعة موسى عليه السلام .
والحجة في ذلك قوله تعالى: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [الأنعام: 90].
فأمر نبينا صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهدي الأنبياء عليهم السلام ممن قبله. [150] وكذلك قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } [النحل: 123].
فدل على أن علينا اتباعهم .
ومن قال ليس علينا اتباعهم فحجته قوله عز وجل : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [المائدة: 48].
فمن زعم أن شرائع من كان قبلنا يلزمنا العمل بها أو ببعضها فقد جعل الشرع لنا ولهم والمنهاج واحدا ، والله تعالى جعل لكل منهم شرعة ومنهاجا .
وهذا إنما يقع في الشرائع والعبادات التي يجوز فيها النسخ والنقل والتبديل ، فأما التوحيد وما يتعلق به فلا خلاف فيه بين شرائع الأنبياء عليهم السلام وكلهم فيه على منهاج واحد ، لأنه لا يجوز أن يقع فيه اختلاف ، وبالله التوفيق.[151]
باب
الكلام في الحظر والإباحة(1/33)
ليس عن مالك رحمه الله في الحظر والإباحة في الأطعمة والأشربة ، وما جرت العادة بأن الجسم لابد له منه نص في ذلك .
وذهب القاضي أبو الفرج المالكي إلى أنها على الإباحة في الأصل حتى يقوم دليل بالحظر .
وغيره من أصحابنا يقول : هي على الحظر حتى يقوم دليل الإباحة [153].
ومنهم من قال هي على الوقف حتى يقوم دليل الحظر أو الإباحة .
فحجة من قال : إنها على الإباحة : هي أنها لا تخلو أن يكون الله عز وجل خلقها لينتفع هو بها - تعالى الله عن ذلك - أو لننتفع نحن وهو بها ، أو ننتفع نحن دونه تعالى بها ، أو خلقها لا لينتفع هو ولا نحن بها .
فخلقها لينتفع هو بها تعالى محال ، لأنه عز وجلّ لا تجوز عليه المنافع ولا المضار .
وخلقها أيضا له ولنا محال لا يجوز ؛ لأن المنفعة والمضرة عليه لا تجوز [154]
وخلقها لا لينتفع هو بها ولا نحن عبث لا يجوز عليه ـ سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ـ .
فلم يبق إلا خلقها لننتفع نحن بها ، وإذا ثبت ذلك صارت هذه الدلالة تقوم مقام الإذن منه تعالى لنا فيالانتفاع بها .
وأما من قال : هي عنده على الحظر في الأصل ، فحجته أنه قد ثبت أن الأشياء كلها ملك لمالك واحد وهو الله سبحانه وتعالى ، ولا يجوز الإقدام على ملك أحد إلا بإذنه ؛ لأنه لا يؤمن أن يكون في الإقدام عليها من غير إذنه منه ضرر في العاقبة .
ومن قال هي على الوقف ، فحجته تعارض المعنيين وتقابلهما في الحظر والإباحة ، فوجب الوقف وطلب الدليل المميز ، وأن لا يقدم أحد على أحد القولين إلا بحجة ؛ ولأن الحظر يقتضي حاظرا ، وأن الإباحة تقتضي مبيحا ، فوجب التوقف حتى يعلم ذلك . [155]
وعلى أن الكلام في هذه المسألة تكلف ؛ لأنه لا يعقل الناس حالا قبل الرسل والشرائع ؛ لأن الرسل بعد آدم عليه السلام ، فقد تقررت الشرائع في جميع الأشياء بالرسل عليهم السلام ، والله أعلم . [156]
باب
الكلام في استصحاب الحال(1/34)
ليس عند مالك ـ رحمه الله ـ في ذلك نص ، ولكن مذهبه يدل عليه ؛ لأنه احتج في أشياء كثيرة سئل عنها ، فقال : (( لم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، ولا الصحابة رحمة الله عليهم )) ،و كذالكة يقول : (( ما رأيت أحدا فعله )) ، وهذا يدل على أن السمع إذا لم يرد بإيجاب شيء لم يجب ، وكان على ما كان عليه من البراءة الذمة . [157]
والأصل في ذلك أن الله ع زوجل قد احتج على عباده في العبادات بالعقل والسمع ، فما كان له حكم في العقل ولم يرد سمع بخلافه ، فأمره موقوف على ورود السمع ، فإن ورد بمثل ما كان في العقل كان مؤكدا ، وإن ورد بخلافه ، فقد نقل الأمر عما كان عليه ، وإن لم يرد سمع بشيء من ذلك ، فهو على أصل حكمه في العقل ، والله أعلم . [158]
باب
القول في الإجماع بعد الخلاف
إذا اختلفت الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على قولين ، وانقرضوا على ذلك ، ثم أجمع التابعون على أحد القولين ، فهل يسقط الخلاف؟ أم هل هو باق ؟ .
ليس عن مالك ـ رحمه الله ـ في ذلك نص ، واختلف أصحابه في ذلك :
فقال بعضهم : ينقطع الخلاف ، ولا يجوز مخالفة إجماع التابعين بعدهم .
وقال بعضهم : بل الخلاف باق ولا ينقطع .
قال اقاضي ـ رحمه الله ـ :
والجيد ـ وهو الذي يختاره شيخنا أبو بكر بن صالح الأبهري [159] ـ رحمه الله ـ ـ أن الخلاف باق ، وذلك أن تقدير المسألة أن يكون قول الصحابي المخالف بمنزلة حضوره مع التابعين ، وكونه حيا معهم وكونه ميتا لا يسقط خلافه لهم بإجماعهم على خلافه ، وأحسن أحوال التابعين معه : أن يكونوا بمنزلة الصحابة معه في أن مخالفة الصحابة له من طريق الاجتهادلا يسقط خلافه ، وكذلك كون التابعين وإجماعهم على خلافه من طريق الاجتهاد لا يسقط خلافه لهم ؛ ولأن قوله بمنزلة أن لو كان حيا معهم ، ويصير إجماعهم كطائفة انضافت إلى أحد الخبرين من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وبالله التوفيق . [160]
باب
في الكلام على إجماع الأعصار(1/35)
مذهب مالك ـ رحمه الله ـ وغيره من الفقهاء : أن إجماع الأعصار حجة .
وأنكر قوم أن يكون إجماع الأعصار حجة ، إلا للصحابة ـ رضي الله عنهم ـ والدليل على أن إجماع الأعصار حجة ، هو أن الله عز وجل أثنى على هذه الأمة ، وبين فضلها ، ونبه عليه وعلى وجوب الحجة بقولها ، ولقوله تعالى في القرآن في مواضع كثيرة مثل قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ . . . } الآية [آل عمران :110] .
وقوله عز وجل أيضا : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا [162]uن!#y‰pkà عَلَى النَّاسِ } [البقرة:143] .
وغير ذلك .
ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( أمتي لا تجتمع على ضلالة )) .
وقوله عليه السلام : [163] (( لا تجتمع أمتي على خطأ )) .
وقوله صلى الله عليه وسلم أيضا : (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة )) .
ومن حجة العقل الدال على عصمتها ، أنه لا يخلو أن يكون المراد بذلك جميع الأمة كلها من أولها إلى آخرها ، أو يكون المراد بذلك بعضهم دون بعض ، ويستحيل أن يكون المراد بذلك الأمة كلها أولها وآخرها من جهتين :
إحداهما : أنهم لا يكونون حجة على أنفسهم . [164]
والأخرى : أنهم لو كانوا كذلك ، أو جاز أن يكونوا بأجمعهم حجة لم يجز أن يدرك الحكم من جهتهم إلا من أدرك أولهم وآخرهم .(1/36)
وهذا أيضا بين الفساد ، فثبت أن الحجة متعلقة ببعضهم ، ولا يخلو ذلك البعض من أن يكون حجة على أهل عصره ، أو لا يكون حجة غلا على أهل العصر الذي بعده ، فبطل القسم الأول لاتفاق الجميع على أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ليس بعضهم حجة على بعض ، فلم يبق إلا أنهم حجة على من بعدهم لأجل تقدمهم ، وكان تقدم العصر الثاني للثالث ، كتقدم عصر الصحابة للتابعين ، وكانت حاجة العصر الثالث إلى الثاني كحاجة الثاني إلى الأول في العوارض من إرسال الرسل عليهم السلام ، إذ الرسل قد انقطعت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه جعل خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ، وجعلت الأمة عوضا عنها ، فوجب حجة الأعصر متقديمهم على متأخرهم ، كوجوب حجة عصر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على من بعدهم ، ولأن الحق لا يجوز أن يخرج عن كل عصر ، فثبت أن إجماع كل عصر حجة ، والله أعلم . [165]
باب
الكلام على العلة والمعلول
قال القاضي الجليل أبو الحسن ـ رضي الله عنه ـ :
العلة عند مالك والفقهاء هي : الصفة التي يتعلق الحكم الشرعي بها .
والعلة في مواضعة اللغة تفيد ما يتغير الحكم بوجوده ، ولهذا سمي المرض علة لما تغيرت الحال عما كانت عليه بوجوده ، و يصفونا ماله فعل الفعل أو لم يفعل علة ، فيقولون : ((جئتك لعلة كذا و كذا )) و ((لم آتك لعلة كيت و كيت )) .
و استعملها المتكلمون في غير ذلك .
فأما العلة عند مالك و الفقهاء فهي : ((الصفة التي يتعلق الحكم الشرعي بها )) كما قلنا .
و من حكم العلة العقلية و حقها :
1- أن تكون موجبة لمعلولها .
2- أن يستغني في إيجابها عن مقارنة غيرها لها .
3- و أن لاتقف في إيجابها على شرط . [168]
4- و أن لا تختص بإيجابها لما توجبه لبعض الأعيان دون بعض ، أو لبعض الزمان دون بعض .(1/37)
و العلة الشرعية تفارقها في جميع هذه الوجوه بلا خلاف بين القائسين ، إلا في اختصاصها ببعض الأحيان ، فإن من يمتنع من جواز تخصيص العلة الشرعية يسوي بينها وين العلل العقليات في هذا الوجه الواحد ، دون من يرى تخصيص العلة الشرعية منهم .
و طريق معرفة العلة العقلية دليل العقل ، و طريق معرفة العلة الشرعية دليل السمع . [169]
فصل
و أما المعلول فهو الحكم الذي العلة علة فيه ، و هو تحريم الربا أبدا لا أنه نفس البر و الأرز على ما يظنه بعضهم ، و كيف يجوز ذلك في المعلول و هو الذي من حقه أن تؤثر العلة فيه و يتبعها و يزول بزوالها ، و هذا كله لا يتأتى في البر نفسه ، فثبت أن المعلول هو الحكم الذي العلة علة فيه ، و الله أعلم . [170]
باب
القول فيما يدل على صحة العلة
اختلف الناس فيما يدل على صحة العلة ، و هل تصح بالجريان و الطرد في معلولاتها ، أو تعلم صحتها بغير ذلك ؟ .
فمنهم من يقول : علامة صحتها جريانها في معلولاتها ، و أن لا يدمجها أصل . [171]
و منهم من قال : يحتاج أن يثبت أولا أنها علة ، ثم جريانها بعد ذلك مرتبة أخرى .
قالو : لأن من يعلل بالطرد و الجريان لوقيل له :
لما علقت الحكم بها ؟
لكان من حقه أن يقول : لأنها علة .
فإذا قيل له : لم صارت علة ؟ .
قال : لأن الحكم يتعلق بها أينما وجدت ، و هذا يؤدي الى التناقض .
قال القاضي ـ رحمه الله ـ :
و الذي يقوى في نفس الوجه الأول من الطرد و الجريان ، و أنه يكون دليلا على صحتها .
والأصل في ذلك : أن الله تعال قال : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [النساء82] [173](1/38)
فدل على أن المنتفق من عنده ، لما اتفق بالصيغة والنظم ، أثبت بالصيغة والنظم ، وأن المختلف ليس من عنده ، فلو جاز وجود مختلف من عنده لم يكن عدم الاختلاف في القرآن دليلا على أنه من عنده ، ولو جاز أيضا وجود متفق لا من عنده لم نأمن أن يكون القرآن متفقا لا من عنده ، وفي استدعاء المخاطيبن إلى التدبر بهذه الآية دليل على أن المتفق لا يوجد إلا من جهته ، وأن المختلف لا يوجد منه .
فإن قيل : على هذا فإن الاختلاف في القرآن موجود ، لأننا نجد فيه الخاص والعام ، والناسخ والمنسوخ ، والخاص والذي أريد به العام ، والعام الذي أريد به الخاص .
قيل : إنما أريد بنفي الاختلاف الذي من جهته صار القرآن [174] حجة وهو عدم الاختلاف في الإعجاز ، وهو في الإعجاز متفق .
وأيضا فإننا قد أمرنا بالرجوع إلى الأصول في الحوادث ، كما أمرنا بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيها ، فإذا عرض عليه نوع من أنواع المقايسة ، فلم يرده وسكت عنه ، كان ذلك دليلا على صحته ، وكذلك الأصول إذا عرضت العلة عليها ، فلم يردها أصل منها ، دل ذلك على صحتها .
وأيضا : فإن الله عز وجل طالب المشركين بإجراء العلة فيما اعتمدوه علة ، فقال تعالى : { قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ } [الأنعام : 143].
أي : إن كان المعنى للذكورة والأنوثة ، أو الجميع فالتزموه إن كنتم صادقين ، وإلا فأنتم مناقضون .
وأيضا : فإن المتفق من الفتوى حجة ، فكذلك المتفق من المعنى ؛ لأنه في الجريان والطرد اتفاق المعنى ، ولا يلزم ما ذكروه من السؤال في أن الحكم وجب لعلة . [175]
فإذا قيل : لما صارت علة ؟
قيل : لأن الحكم يتعلق بها أينما وجدت ، وذلك أنه إذا قيل له : لم وجب الحكم ؟ فقال : للعلة ، فإنما هو مدع للعلة بلا برهان .
فإذا قيل له : ولم صارت هذه علة ؟(1/39)
فإنما عليه أن يدل على صحتها ، فإذا دل على صحتها بالجريان والطرد ، فقد أقام البرهان على كونها علة ، وفي الأولى سمها علة بدعوى ، والله أعلم . [176]
باب
القول في العلة التي لا تتعدى
واختلف الناس في العلة التي لا تتعدى ، هل تكون صحيحة أم لا ؟ .
فعندنا وعند غيرنا من الفقهاء أنها تكون علة صحيحة .[177]
وقال أهل العراق : هي باطلة ؛ لأنها لا تفيد إلا ما قد أفاده النص ، فلا معنى لطلب علة لا تفيد غير ما أفاده النص .
والدليل على أنها تصح : أن الغرض من العلة أن يعلم أن الحكم إنما وجب لأهلها ، فإذا صح ذلك ، صح أن تكون متعدية وغير متعدية .
وأيضا : فإنها تفيد أن الأصل الذي اقتضيت العلة منه أصل لا يجوز القياس عليه ، فقد حصلت الفائدة فيها من هذا الوجه أيضا . [178]
باب
الكلام في تخصيص العلة
عند مالك ـ رحمه الله ـ وغيره من أهل العلم : لا يجوز تخصيص العلة العقلية ، ولا خلاف في ذلك .
واختلف الناس في تخصيص العلة الشرعية المنصوص عليها ، والمستدل عليها ، إذا كانتا شرعيتين :
فعندنا وعند غيرنا من الفقهاء : لا يجوز تخصيصها .
وقال أهل العراق : يجوز تخصيصها ، ويجعلونها كالعموم [180] المشتمل على مسميات ، يصح أن يخص في بعض المسميات ، فكذلك هي ، لأنها علامة وأمارة .
وذهب غيرهم إلى جواز تخصيص العلة المنصوص عليها مثل قوله تعالى : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) } [المائدة: 32] .
وكقوله تعالى : { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } [الحشر:7] . [181] .
وكقول النبي صلى الله عليه وسلم في الهرة : (( إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات )) .
وامتنع من تخصيص العلة المستنبطة كعلة الربا في البر .
وعندنا أنه لا يجوز تخصيصها جميعا . [182](1/40)
والأصل في ذلك : هو أن العلة إنما هي أمارة صحتها الجريان ، بما قدمناه من الدلائل ، والتخصيص يمنع جريانها ، ويبطل أن يكون الجريان دليلا على صحتها ، وإذا كان الجريان دليلا على صحتها ، وتخصيصها إذا باطل ؛ لأنه يرفع أصلا ثابتا ، وما أدى إلى رفع الأصل الثابت المستقر فهو مرفوع .
وأيضا : فإن الله تعالى أخذ المشركين بالنفور عليهم ، فقال سبحانه : { وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } [التوبة: 81] .
فلولا أن المساواة في المعنى توجب المساواة في الحكم ، لم تلزمهم هذا ، بل كانو يتخلصون منه بأن يقولوا : قام دليله فخصصنا العلة .
و كذلك قال عنهم تعالى : { قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [آل عمران : 183] [183] .
فلم يقولوا قام دليله خصصناه .
و أيضا : فإنه لولم يؤثر التخصيص في صحتها ، لم تؤثر المعارضة ؛ لأن االتخصيص هو غاية المناقضة التي لا ترتضيها العامة في أخلاقها ، فضلا عن أن تكون من أفعال الحكماء ، ألا ترى أن تاجرا سوقيا لوقيل له : سامح في هذا الثوب ، فقال : لا أسامح فيه لأنه كتان ، ثم سمح في ثوب كتان مثله لِلَّهِ لقيل له : قد ناقضت ، و لكان هذا مما لا يخفى على عوام الناس رده على قائله و أنه تناقض بذلك ، فبطل جواز التخصيص في العلة .(1/41)
و أيضا فإن العلة لو جاز وجودها مع ارتفاع الحكم و لا يمنع ذلك من صحتها ، لاحتيج في تعليق الحكم بها في كل فرع إلى استئناف دلالة ؛ لأنما دل على أنها علة في الأصل ، لم يوجب تعليق الحكم بها أينما وجدت على هذا القول ، و إذا لم يوجب ذلك فيجب الرجوع في تعليق الحكم بها في كل فرع بعينه الى دليل مستأنف ، و في ذلك إخراج لها عن أن تكون علة . [184]
يبين ذلك : أن العلم المعجزة الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يقتض صدق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يقوله و ما يؤديه ، لاحتاج في كل ما أخبر به إلى معجز ، فكذلك القول في العلل .
فإن قيل : فإن العلة في تعليق الحكم بها كالاسم العام في ذلك ، فكما أن وجود الاسم مع ارتفاع الحكم مما لايبطل كون العموم دلالة لا تجب الحاجة في تعليق الحكم بكل اسم الى دليل مستأنف ، فكذلك العلة .
قيل : إن العموم إنما يدل على إرادة المخاطب وإرادته تدل على الحكم لا نفس الحكم ، فإن قرن إلى العموم ما يدل على أنه لم يرد جميعه ، علمنا أن ما عداه مراد ، ولم تجعل الدلالة مخصوصة ، إذ الدلالة هي الإرادة ، والدلالة على الإرادة هي العموم مع القرينة ؛ لأن البيان لا يتأخر ةليس كذلك العلة ؛ لأنها إن كانت هي في نفسها علة ، [185] فيجب ألا يسوغ تخصيصها ؛ لأنها لا تختص في الوجود بعين دون عين ، وإن كانت تدل على الإرادة للجاعل لها علة . فيجب أن يقرن بها ما يخرجها عن أن تكون بإطلاقها علة ، وعلى أن العلة التي توجد في كل فرع في الحكم في خمن النص على كل فرع ، فكما أن التخصيص في ذلك لا يسوغ ؛ فكذلك القول في العلة ؛ لأنها ليست بمنزلة العموم الذي يدخله المجاز ؛ لأن التعليل لا يدخله المجاز ، فهو كالنص فيما ذكرناه ، والله أعلم . [186] .
باب
الكلام في القول بالعلتين
اختلف الناس في القول بالعلتين في أصل واحد ، إحداهما تقتضي حمل الفرع عليه ، والأخرى تمنع من حمل الفرع عليه ؟ .(1/42)
فمنهم من قال : لا تتنافيان ؛ لأن العلة المقصورة على الأصل لا تمنع رد الفرع إذا كانت هناك علة أخرى تقتضي الرد ، كما أن العموم الشامل لمئة شيء ، لا يمنع من شمول غير ذلك لألف شيء ولا ينافيه .
ومنهم من قال : إنهما تتنافيان . [187] .
قال القاضي الجليل :
وغلى هذا أذهب في المعنى ؛ لأن ما له ثبت الحكم في الأصل إما أن تكون العلة المقصورة عليه أو المتعدية ، فإن كانت المتعدية هي الصحيحة ، صح القياس على الأصل ، وإن تكن المقصورة هي الصحيحة ، امتنع القياس عليه ؛ لأننا استفدنا بها أن الأصل مما لا يجوز القياس عليه ، فقد حصل التنافي في المعنى ، و ذلك نحو تعليل الذهب بالوزن الذي يتعدى ، و بكونه ثمنا لايتعدى و ماشبه ذلك .
وهذه المسألة من فروع ماتقدم من أن العلة إذا لم تتعد ، هل تحص أم لا ؟ فيجب بناؤها عليه ، و الله أعلم . [188]
باب
القول في العلتين
احداهما أكثر فروعا من الأخرى
قال القاضي الجليل :
و أما تعليل الأصل بعلة توجد في عشرة فروع ، وتعليله بعلة توجد فيه و في واحد من تلك الفروع ، فإني أقول فيه أيضا : أنهما يتنافيان في المعنى ، و إن كان بعض من يمتنع من القول بالعلتين لا يمتنع هاهنا ويقول : إنهما لايتنافيان .
و وجه التنافي فيهما هو أن الأصل إذا علل بعلة تتعدى إلى عشرة فروع ، فليس يعلم أن هذه العلة إلا بعد أن يسبر الأصل ، [189] و يستقرأ جميع ما يصلح أن يكون علة ، فإن جميعها و صحت هي و سلمت ، و صارت في التقدير علة ، و كأن الله عز وجل نص عليها و قال : إنما حرمت ذلك لهذه العلة دون ما سواها ، فتبطل كل علة سوى العلة التي ثبت أن الحكم لأجلها وجب .
فإن قيل : يجوز أن يصبر الأصل فيعلم أنه معلول بعلتين ، إحداهما تتعدى إلى شيء ، و إلى ما زاد عليه .(1/43)
قيل : هما كالعلة التي لا تتعدى مع المتعدية ؛ لأن العلة التي تتعدى الى عشرة فروع يتبين بها أن الأصل يقاس عليه عشرة فروع ، و العلة الأخرى كشفت لنا أن هذا الأصل يقاس عليه ثمانية فروع لا غير ، فهو كما ينكشف بالعلة التي لا تتعدى أن [190] الأصل مما لايجوز القياس عليه ، وأي شيء تنافى أكثر من أن العلتين تصطحبان الى فرع ، ثم تقف إحداهما الى غيره و الأخرى تتجاوزه كالتي لا تتعدى مع المتعدية ، و تصير العلة المتعدية الى فروع كثيرة أكثر مما تتعدت اليه الأخرى بمنزلة الآيتين و الخبرين ، إن قلنا بالواحد منهما ، سقط الحكم الآخر ، و إن كانت إحدى العلتين تتعدى الى فرع آخر غير الفروع التي تعدت إليها العلة الأخرى ، فهذا ربما لم يتناف ، و فيه نظر ، و الله أعلم . [191]
باب
القول في جواز كون الاسم علة
و اختلف الناس في كون الاسم علة :
فذهبت طائفة إلى جوازه .
و منعت منه طائفة .
قال القاضي ـ رحمه الله ـ :
و عند أنه يجوز ، و عليه يدل مذهب مالك ـ رحمه الله ـ .
و الأصل فيه : أن الله عز وجل أمر بالاعتبار و هو ر الشيء الى نظيره ، و لم يفرق بين أن يرد باسم أو وصف . [192]
و أيضا : فإن الاسم سمة للمسمى يميز به بينه و بين غيره ، و كذلك الصفة صفة يميز بها بينه و بين غيره ، فإذا جاز أن تكون الصفة علة جاز في الاسم .
و أيضا : فإن الاسم يتوصل به الى الحكم كالصفة ، فيجب أن يجوز كونه علة كالصفة .
و أيضا فإذا كان النص يوجب الأحكام تارة بالاسم ، و تارة بالصفة ، فكل واحد منهما كصاحبه في جواز جعله علة ، و بمثل هذه العلل يعتد في جواز جعل الحكم علة لحكم آخر .
و إن شئت قلت إن الأحكام تدرك بالشرع كالمعاني ، فإذا جاز جعل المعنى علة فكذلك الاسم ، و الله أعلم [193] .
باب
القول في أخذ الاسم قياسا
عند مالك ـ رحمه الله ـ يجوز أن تؤخذ الأسماء من جهة القياس .
و أبى ذلك قوم أن تؤخذ الأسماء قياسا .(1/44)
و الأصل فيه : أن الله عز وجل قال : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } [الحشر:2] [194]
فهو على العموم في الاسامي و الأحكام .
و أيضا فإنه يجوز أخذ الأحكام قياسا ، فكذلك الاسماء ؛ لأنهما في الحالين جاءا بالجائز في العقول السائغ فيها .
و أيضا : فإن المعاني أعلام للإحكام و أدلة عليها ، و الأسماء كذلك ، ثم من الجائز التنبيه على المعنى تارة بالشرع ، و تارة بلا شرع ، و كذلك الاسماء ؛ لأن الجميع من الحجج و الأعلام التي يجوز به الهجوم على الحلال و الحرام .
وأيضا : فإن القول على الشيء بأن كذا اسم له على مشاكلة القول عليه بأن كذا حكم له ، فلما جاز أن يصدر أحدهما من جهة الشرع ؛ فكذلك الثاني . [195]
وأيضا : فإن الوجود شاهد لنا ، وهو أن الشريعة سمت أسماء لم تعرف بها قبل الشرع مثل : الإيمان والإسلام والملة ، والحج ، والصوم ، والصلاة ، والزكاة ، والسنة ، والتطوع ، فوجودها يغني عن الدلالة عليها .
وأيضا : فإن من قضايا العقول أن كل متماثبين فحكمهما واحد من حيث تماثلا ، فإذا وجدنا الخمر كسبت هذا الاسم لحدوث الشدة المخصوصة ، وترتفع بارتفاع الشدة المطربة ، وسلم ذلك على السبر والامتحان ، ورأيناها في النبيذ موجودة وجب أن نعطيه اسم الخمر .
فإن قيل : فقد قال الله عز وجل : { وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } [البقرة: 31] . [196]
فأخبر أنه علمه الكل ، والقياس ممتنع .
قيل : كذلك نقول : إن الله تعالى علم آدم الأسماء كلها ، إلا أنه نص على بعضها ونبه على بعض ، وسبيل ذلك سبيل قوله تعالى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [الأنعام : 38 ] .
وقال تعالى : { تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى } [النحل :89] .
ثم كان وجه البيان منها على ضروب ، منها نص ، ومنها تنبيه ، كذلك هذا على أنه دليل لنا ، وذلك أنه لما ثبت أن الله تعالى علم آدم الأسماء كلها ثبت أن مآخذ الأسماء من جهة الشرع .(1/45)
وقد قيل : إنه علمه أسماء الأجناس دون التفصيل ، والله أعلم . [197]
باب
القول في الحدود
هل تؤخذ من جهة القياس
الذي عليه مذهب مالك ـ رحمه الله ـ جواز أن تؤخذ الحدود والكفارات والمقدرات من جهة القاياس .
واختلف القائلون بالقياس : هل يجوز أن تؤخذ الحدود والكفارات والمقدرات من طريق القياس ؟ .
فعندناأنه جائز ، ومنع منه بعض أصحاب أبي حنيفة ، [199] وبعض أصحاب الشافعي ، وجوزه بعضهم .
قال اقاضي ـ رحمه الله ـ :
وهو عندي جائز .
والأصل فيه : قوله عز وجل : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } [الحشر:2] . [200] .
فأمر الاعتبار عموما ، ولم يفرق بين الأحكام في المقدارت والحدود والكفارات وغيرها ، فهو على عمومه في جميعها حتى يقوم دليل يمنع منه ، ولم يقم دليل يمنع منه ، فهو جائز .
وقال أيضا : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [الأنعام : 38 ] .
وقال : { تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } [النحل :89] .
فخرج النص المستغني عن البيان وبقي الباقي ، وعدمنا كونه تبيانا لجميع الأشياء كلها لفظا ونصا على كل شيء منها ، فثبت أنه تبيان لها بالنص والتنبيه ، والقياس على المعنى من جملة التنبيه .
وأيضا : فإنما جاز إثباته بالخبر الذي يصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من جهة الآحاد من أحكام الشريعة ، جاز إثباته بالقياس ، دليل ذلك غير الحدود المقدرات ، وكذلك الحدود والمقدرات . [201]
وأيضا : فإن الحوادث على ضربين : مقدر ، وغير مقدر ، ثم جاز أخذ ما ليس بمقدر قياسا ، فكذلك المقدر ، لأنه أحد ركني الحوادث ، ولإن في استعماله من طريق اللفظ والنعنى تكثير الفوائد فهو أولى .
وأيضا : فإن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ حين استشارهم ، حتى قال على ـ رضيالله عنه ـ وغيره من الصحابة : (( إذا سكر هذى وإذا افترى ، فنرى أن نحده حد المفتري ثمانين )) . [202 ](1/46)
فقبل عمر ـ رضي الله عنه ـ ذلك منه واتفقوا عليه ، فلما أخذوا ذلك من جهة القياس والاستنباط دل على أن للقياس مدخلا في ذلك بإجماع الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ فثبت ذلك وصح لإجماع الصحابة على ترك النكير على عمر وعلي ـ رضي الله عنهما ـ ، ولأنهم سوغوا ما قال وعملوا به جميعا .
فإن قيل : فقد النبي صلى الله عليه وسلم : (( ادرؤوا الحدود بالشبهات )) . [203]
والقياس محتمل فهو شبهة ؟ .
قيل له : ليس يعتبر فيه الاحتمال ، ألا ترى أنه يجوز أخذه من جهة العموم وخبر الواحد ، وشهادة الشهود ، وفي جميع ذلك من الاحتمال ما في القياس ، ولم تكن شبهة فسط ما ذكروا .
فإن قيل : فإن العقوبات مختلفة متفاونة مع اشتراكها في المعنى ، وأخذ ذلك قياسا لا يجوز .
قيل : لو وجب ذلك فيها لوجب في الخارجات من الإنسان لاشتراك جميعها في الخروج من البدن واختلافها في الأحكام ، على أن أصحاب أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ قد ناقضوا في هذا الأصل ، وعملوا في إيجاب الحدود بالمحتمل فقالوا فيمن شهد عليه أربعة بالزنا في أربع [204] زوايا : إنه يجب عليه الحد ، وأقاموا الدلالة في الصيد مقام القتل في إيجاب الجزاء الذي هو مقدر ، ووافقونا على قياس قتل المرأة على الرجل في إيجاب الكفارة ، وكذلك في إيجاب الكفارة عليها إذا جمعت في شهر رمضان طائعة ، وقاسوا الأكل في شهر رمضان لغير عذر على المجامع ، وهذا كله نقض لأصلهم ، وبالله التوفيق والتسديد . [205]
قال القاضي أبو الحسن علي بن عمر :
هذه مقدمة من الأصول في الفقه ذكرنتها في مسائل الخلاف ليفهمها أصحابنا ، ولم أستقص الحجج عليها ، لأنه لم يكن مقصودي ذلك . [206 ] .(1/47)