محمود عبد الهادي فاعور
المقاصد
عند
الإمام الشاطبي
دراسة أصولية فقهية
الطبعة الأولى
1427هـ - 2006م
بسيوني للطباعة
تلفون: 836014/03
صيدا - لبنان
بسم الله الرحمن الرحيم
المقَدِّ مَة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وشهد على الأمة وأشهد الله على ذلك. فقال: "ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، فقال: اللهم فاشهد"، ثلاث مرات يقولون: نعم، يشهدون على أنفسهم، ويشهد - صلى الله عليه وسلم - عليهم، ثم يشهد الله تعالى على ذلك، ثم التحق - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى، فحمل الصحابة من بعده الأمانة، وقاموا بحقها خير القيام، وأدوها إلى من بعدهم، وظهر الحق وزهق الباطل، فساد الإسلام وانقشع الظلام.
ثم خلف من بعدهم خلف ضيَّعوا الأمانة فضاعوا، استبدلوا النار بالنور، فاحترقوا ولم يستضيئوا، نسوا الله فنسيهم، وأنساهم أنفسهم، فصاروا صماً وهم السماعون، أبصارهم ترى ولكنهم عميٌ لا يبصرون، لهم قلوب يهوون بها ولكنهم لا يفقهون، وتضيق بها الصدور، قل إن هدى الله هو الهدى، ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليَّاً مرشداً. أما بعد،(1/1)
فإن الله - تعالى - نزّل أحسن الحديث كتاباً، يهدي للتي هي أقوم، يهدي به من اتبع رضوانه سبل السلام، فبيَّن وعرَّف سبيل الحق والإيمان وسبل الضلال والشيطان وأمر باتباع صفيه وخليله فقال: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ سح_yèt6¨?$#ج } (1)، ونهى عن اتباع الشيطان وحذَّر فقال: { وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } (2)، وأمر بمعاداته ومحاربته فقال: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } (3)، وأمر تعالى بأن يُعبد هو وحده ولا يعبد سواه، فما حسَّنه فهو حسن، وما قبحه فهو قبيح، ولا معقِّب لحكمه. { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } (4)، { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (5). فالأمانة التي شهد الله ورسوله علينا بحملها هي أن نعبد الله وحده، وأن نُعبِّد الناس له تعالى، وأن نشهد بذلك على الناس، فنبلغهم إياها ونخضعهم لها، { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (6).
ولكن، شاء الله - سبحانه وتعالى - أن يكون الحال هو الحال، وهو أبلغ من كل مقال، عند من عرف معنى الرسالة ومعنى الأمانة ومعنى الشهادة، ومعنى أن الله أمر، وأن الله نهى، وأن الله قال. سبحانه وتعالى.
__________
(1) سورة يوسف، 108.
(2) سورة البقرة، 168.
(3) سورة فاطر، 6.
(4) سورة يوسف، 40.
(5) سورة الأحزاب، 36.
(6) سورة البقرة، 143.(1/2)
وإنه لمما يزيد الانحطاط غوراً، والتيه ضلالاً، والضلال بعداً، أن تنبهر العيون بضوءِ النار، وأن تعمى القلوب التي في الصدور، فيتوهَّمُ الداء دواءً، والسم ترياقاً، وأن يصدق الكاذب، ويكذَّب الصادق، ويخوَّن الأمين، ويؤتمن الخائن، وأن يستمع إلى الرويبضة، وأن يعمى العالمون عن الضياء، ويغذوا السير خلف من قال: هذي النار نور وذاك النور نار.
وذلك أنه بعد أن أُقصِيَ الحكم بالإسلام عن الحياة، واستبدل حكم الطاغوت به، نبتت نابتة تبدل وتحرف، وتضفي على أحكام الكفر صفة الشرعية، شرعية الإسلام، تفرِّغ الإسلام من مضمونه وتحشوه شيئاً آخر، جديداً، وتتذرَّع بالتجديد، وتُؤَوِّل وتُغَيِّر لتوفِّق بين أحكام الإسلام وأحكام الكفر، وتتذرع بالتطوير، أو بحجة اللحاق بالركب أو المحافظة على ما بقي.
ويقول قائلهم: لا يَرِفَّنَّ لكم جفن أيها المسلمون! فالإسلام مرن، وصالح لكل زمان ومكان، وبهذين وغيرهما يخلو الإسلام باسم الإسلام من حقيقته وجوهره، ويصبح شيئاً آخر.(1/3)
وقد وجد المحرفون باسم التجديد والتطوير فكرة المصالح والمقاصد، فاتكأوا عليها، فالشريعة إنما جاءت لمصالح العباد، فقلبوا الحقيقة، وبدل أن تكون: المصلحة حيث الشرع، زعموا أن الشرع حيث المصلحة. وصارت مقاصد الشريعة بديلاً عن الشريعة. وإذا قيل: يا قوم، الشريعةَ الشريعةَ! قال الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً - في أحسن الحالات -: دعوكم من هؤلاء، فإنهم جامدون، لا يتطورون، ولا يجددون، ولا يفقهون الواقع، وإن في الشريعة أسراراً وفي الدين أولويات وموازنات، وإذا واجهت هؤلاء نصوص القرآن والسنة، حاروا وداروا، وبحثوا ونقَّبوا، ثم اجتزأوا وقالوا. فكان مما قالوا: المصالح والمقاصد، الشاطبي وموافقات الشاطبي، الموافقات: رائعة الشاطبي، شيخ المقاصد. اجتزأوا ثم اجترأوا فقالوا: هؤلاء الذين يواجهوننا بالنصوص ما زالت تحكمهم عقدة النص، وأوهموا أنهم أهل فقه وأن غيرهم ظاهرية. أي جرأة هذه! وأي فقه هذا! وفيمن يسارعون!
نظر الباحث في هذه الأقوال والآراء.
المصالح، والمصالح المرسلة! لا بأس، فليكن، ولكن هذا الذي أتيتم به ليس مصالح، ولا مصالح مرسلة، إنها - في المصطلح الأصولي - مصالح ملغاة، منقوضة بالنصوص، فهي إذاً مفاسد.
المقاصد، مقاصد الشريعة! نعم، فليكن، ولكن هذا الذي أتيتم به ليس مقاصد الشريعة، إنها مقاصدكم، أو مقاصد مرضى القلوب. فأين في مقاصد الشريعة أن يصبح حفظ الدين هو حرية العقيدة، وحق تبديل الدين. وأين في مقاصد الشريعة إلغاء الشريعة، فتصبح الردة حقاً من حقوق الإنسان، ويصبح قتل المرتد جريمة. وهل في مقاصد الشريعة أن يكون النص: { وَحَرَّمَ الرِّبَا } (1) ويكون المقصد: الربا حلال، والزمان والمكان بذلك كفيلان!
وأين في مقاصد الشريعة أن يصبح حفظ المال معناه حرية الملكية، وحفظ العقل معناه حرية الرأي، وهل هذا في ديننا، نحن المسلمين؟
__________
(1) سورة البقرة، 275.(1/4)
قالوا: الشاطبي وجديد الشاطبي، الموافقات وما أحوجنا إلى ما فيها!
وهل الشاطبي ينحر الدين على مشارف مقاصده، ويبقر بطن الشريعة على أعتاب المصلحة؟
نظر الباحث في (الموافقات)، ودرسه، من أوله إلى آخره، ومن آخره إلى أوله. فيه عمق، وصاحبه صاحب قصد، ويحتاج إلى نظر وإعادة نظر، فليكن، انكب عليه الباحث وأنعم فيه النظر. فكانت النتيجة أن الشاطبي مفترىً عليه من فريق وغير مفهوم من فريق آخر.
والحاصل أن الشاطبي بريء مما ينسب إليه في المصالح والمقاصد. وتابع الباحث دراسة الشاطبي عبر (الاعتصام)، فوجد أن هؤلاء الذين يتخذونه ستارة يختبئون خلفها هم مبتدعة بنظره.
إن الموافقات لا توافق هؤلاء، والشاطبي يحذر منهم ويحمل عليهم وعلى منهجهم. ومن هنا نشأت دوافع بحث هذا الموضوع، وهي باختصار:
1 ـ إن الدين تكليف، وأمانة في عنق كل من وعاها. وقد رأى الباحث أن مِن واجبه بيان أن مقاصد الشريعة لا تنقض الشريعة، ولا تبطل أحكامها، فإذا كانت المقاصد مقاصد الشريعة، فهي فرع لها، والشريعة هي الأصل، ولا يصح أن يرجع الفرع على الأصل بالإبطال. ولا بد من مواجهة كل فكر أو طرح يدعو إلى إهدار الشريعة أو تعدي حدودها، وخاصة إذا كان ذلك باسم الإسلام.
2 ـ لما تمسَّك البعض بالشاطبي وموافقاته، ونسبوا إليه ما لا يقوله، بل ما دأب على التحذير منه، كان لا بد من بيان حقيقة هذا الأمر، وأنه لا مستمسك بالشاطبي أو بالموافقات لمن أراد أن يبدِّل أو يغير في أحكام الشريعة بحجة مقاصدها، سواء بحسن نية وقصد أو بسوئهما.
3 ـ لما كثر الحديث عن الشاطبي وفكرته في المقاصد أو نظريته فيها، وعن جديده في كيفية فهم الشريعة، وطرحت أبحاث في ذلك وحوله، في كتب، وعلى صفحات المجلات والجرائد، وعلى شاشات الفضائيات، ووجد الباحث أنها كلها بعيدة عن الشاطبي وعن فكرته أو منهجه أو جديده، شعر بأنه عليه أن يبيِّن ما يراه الصواب في هذا الشأن.(1/5)
وإن الباحث ليرى أن هذا العمل هو من أعمال حمل الدعوة، ومن أعمال الحوار أو الصراع الفكري، وهو يسأل الله تعالى أن يكتب لهذا العمل القبول عنده، وأن يجزل له فيه الأجر والثواب.
ولقد أردت من هذا الكتاب أن يكون بحثاً عن حقيقة فكرة المقاصد عند الشاطبي، لذلك فقد جاء موضوعه دراسة تحليلية لأفكار الشاطبي، ولما سطَّره في كتاب الموافقات على وجه الخصوص. فهذا الكتاب دراسة تحليلية لنصوص الموافقات.
وقد اعتمدت في هذه الدراسة على الطبعة التي هي بتحقيق الشيخين محمد الخضر حسين التونسي ومحمد حسنين مخلوف، وهي أربعة أجزاء في مجلدين، حيث حقق الأول الجزأين الأول والثاني، وحقق الثاني الجزأين الثالث والرابع، فحيثما أَحلتُ أو رجعت إلى الموافقات فقد رجعت إلى هذه الطبعة، وإذا أحلتُ إلى غيرها نوهت إلى ذلك.
ولم أترجم للأعلام في هذا الكتاب إلا باختصار وحيث وجدت لزوماً لذلك، كالأعلام الذين كثر الاستشهاد بهم.
وقد قمت بتخريج جميع الآيات التي وردت في الكتاب. وكذلك خرجت جميع الأحاديث الواردة فيه تخريجاً مختصراً معتمداً على القرص المضغوط (CD) لبرنامج موسوعة الأحاديث الشريفة، إنتاج شركة صخر، الإصدار الثاني، وهو يحتوي على كتب الأحاديث التسعة (مذكورة في قائمة المصادر والمراجع)، ويعتمد على ترقيم العالمية. وحيثما لم أكتف بما وجدته في هذا البرنامج، فقد أشرت إلى الكتاب أو الكتب التي أخذته منها، بذكر اسم الكتاب وطبعته ورقم الحديث فيه والجزء والصفحة.
ولم أورد قولاً أو رأياً للشاطبي إلا ووثقته بنص أو نصوص من عنده، ولو كان هذا الرأي قد تبين في فصل سابق، وذلك نزوعاً إلى اكتمال وحدة الفصل واستقلاليته ما أمكن. وغالباً ما أتيت بأكثر من نص للدلالة على موقف الشاطبي أو رأيه، وذلك منعاً لتفسير أقواله بما لا يقصده.(1/6)
وقد جعلت هذا الكتاب أو هذه الدراسة في مقدمة ثم تعريف بالشاطبي وعصره ثم عشرة فصول وخاتمة مختصرة، يلي ذلك فهارس للآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، والمصادر والمراجع، ثم محتويات الكتاب.
الفصل الأول: التمهيد لنشوء فكرة مقاصد الشريعة. وهو يحتوي على مقدمة في نشأة علم أصول الفقه وتطوره، وعلى ثلاثة مباحث: الأول في القياس، والثاني في مسالك العلة وشروطها، والثالث في مسلك الإخالة والمناسبة، وهي مما يلزم للدخول إلى مباحث أصول الفقه والقياس والتعليل. وعلى وجه الخصوص مسلك الإخالة والمناسبة كتمهيد لفكرة مقاصد الشريعة.
الفصل الثاني: نشأة فكرة مقاصد الشريعة. وهو يحتوي على عرض موجز لنشأة الفكرة، ثم ثلاثة مباحث في كيفية نشأتها وتطورها عند أئمة الأصول ما قبل الشاطبي، مما يشكل تمهيداً لفكرة المقاصد عند الشاطبي.
الفصل الثالث: ضوابط المقاصد عند الشاطبي. وهو يحتوي على ثلاثة مباحث، الأول والثاني في المقدمات والضوابط، ثم المستندات والأصول التي جعلها الشاطبي لازمةً لفهم كتابه (الموافقات)، والمبحث الثالث في النتائج ومفهوم المصلحة والمفسدة عند الشاطبي.
الفصل الرابع: قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءً وفي وضعها للإفهام. وهو في بيان أنواع مقاصد الشارع وهي أربعة، وأقوال الشاطبي ومنهجه في فهم النوعين: الأول وهو وضع الشريعة ابتداءً، والثاني: وهو وضعها للإفهام.
الفصل الخامس: قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها وفي دخول المكلف تحت أحكامها. وهو في بيان أقوال الشاطبي ومنهجه في فهم النوعين: الثالث: وهو وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها، والرابع: وهو دخول المكلف تحت أحكام الشريعة.
الفصل السادس: مقاصد المكلف. ويحتوي على تمهيد وثلاثة مباحث في بيان أثر النية أو المقصد في فعل المكلف، وأثر الموافقة أو المخالفة بين قصد الشارع وقصد المكلف في الفعل، وفي بيان الحيل وموقف الشاطبي منها.(1/7)
الفصل السابع: منهج الشاطبي في فهم الشريعة. ويحتوي على ثلاثة مباحث في بيان منهج الشاطبي في تقرير القواعد والأصول عبر الاستقراء فقط. ومنهجه في فهم الشريعة واستنباط الأحكام عموماً، ومنهجه وآرائه في فهم القرآن وفي فهم السنة. وهو من أهم تطبيقات أفكاره في المقاصد.
الفصل الثامن: الاجتهاد والتقليد. وهو في بيان آراء الشاطبي في الاجتهاد والتقليد والفتوى وضوابط كل منها، والمجتهد المعتبر وشروطه. وهو مثل الفصل السابق من حيث أهميته لجهة كونه من نتائج فكرته في المقاصد، وفيه مبحث لأصل مآلات الأفعال عنده.
الفصل التاسع: في تطبيق الفكرة: ثلاث قواعد كليَّة. وهو في بيان تطبيق فكرته في الاستقراء وتقرير الأصول من خلال بحث ثلاث قواعد كلية في ثلاثة مباحث. الأول: في قاعدة المصالح المرسلة، والثاني في قاعدة الاستحسان، والثالث في قاعدة سَدِّ الذرائع، وضمن ذلك بحث لقاعدة الضرر.
الفصل العاشر: فكرة المقاصد عند الشاطبي: عرض ومناقشة. ويحتوي على ثلاثة مباحث، الأول في عرض فكرته وإبراز أساسها وأركانها باختصار. والمبحثان الثاني والثالث في مناقشة فكرة الشاطبي ومنهجه من خلال مناقشة أساسها وأركانها.
تعريف بالشاطبي وعصره
التعريف بالشاطبي:
هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي، المعروف بالشاطبي(1)، من علماء المالكية في الأندلس.
اشتهر بالشاطبي نسبةً إلى شاطبة موطن آبائه، وقد لجأت أسرته إلى غرناطة بعد سقوط شاطبة بيد النصارى.
عاش الشاطبي حياته كلها في غرناطة في القرن الثامن الهجري. وقد اختلف في مولده وفي وفاته، والمعتمد في وفاته أنها كانت سنة 790هـ - 1388م. وذلك أن أحد تلاميذه، أبا يحيى بن محمد بن عاصم، نظم كتاب الموافقات في ستة آلاف بيت ذكر فيها تاريخ وفاته فقال (الرجز):
__________
(1) أحمد بابا التنبكتي، نيل الابتهاج بتطريز الديباج، ص: 46، بهامش الديباج لابن فرحون، ط1، مكتبة السعادة، مصر، 1329هـ.(1/8)
حتّى غَدَت حياتُهُ مُنْقَضِيَة ... في عامِ تِسْعينَ إلى سَبْعِمائة(1)
وقال أحمد بابا التنبكتي: "توفي يوم الثلاثاء من شعبان سنة تسعين وسبعمائة، ولم أقف على مولده رحمه الله"(2).
أما مولده فليس فيه قول موثق. فالتنبكتي الذي يعد كتابه أحد أدق المراجع في ترجمته يصرح بأنه لم يقف على تاريخ مولده.
وقد رجح الدكتور حمادي العبيدي أن يكون مولده قريباً من 730 هـ بناءً على أنه كان صديقاً نداً للوزير ابن زمرك الذي ولد سنة 733 هـ وبناء على فهمٍ له بأن الشاطبي كان صغير السن سنة 756(3).
أما الأستاذ محمد أبو الأجفان فقد رجح في مقدمته لكتاب فتاوى الشاطبي(4)، أن تكون ولادة الشاطبي قبل سنة 720 هـ بناء على أن وفاة أسبق شيوخه أبي جعفر أحمد بن الزيات كانت سنة 728 هـ. فلا بد على أقل تقدير أن يكون الشاطبي في هذا التاريخ يافعاً، وقد أشار إلى هذا الأمر في مقدمته على كتاب الإفادات والإنشادات(5).
__________
(1) محمد أبو الأجفان، تحقيق وتعليق على كتاب الإفادات والإنشادات للشاطبي، ص: 32، ط2، 1406هـ، 1986م، مؤسسة الرسالة، بيروت.
(2) التنبكتي، نيل الابتهاج، ص: 46.
(3) حمادي العبيدي، الشاطبي ومقاصد الشريعة، ص: 12، ط1، 1412هـ - 1992م، دار قتيبة، بيروت ودمشق.
(4) هذا الكتاب ليس للشاطبي، وإنما أصدره الأستاذ محمد أبو الأجفان وقد جمعت فيه فتاوى الشاطبي من كتابيه: الموافقات والاعتصام.
(5) أنظر: محمد أبو الأجفان، تعليقه على الإفادات والإنشادات للشاطبي، ص: 17، هامش رقم 2.(1/9)
والأرجح ما ذهب إليه الأستاذ محمد أبو الأجفان، وحجته في ذلك وجيهة. أما قول الدكتور العبيدي فلا حجة فيه. فصداقة ابن زمرك والشاطبي لا تمنع أن يكبر أحدهما الآخر بعشرين سنة أو أكثر. وكذلك فإنه لا يوجد دليل على أن الشاطبي كان صغير السن سنة 756 هـ. وهذا القول هو خلط بين إفادتيه رقم 66 ورقم 67، حيث ذكر في إحداهما تاريخ وفاة أسبق شيوخه، وفي الأخرى أنه كان صغير السن، ولكن الإفادتين مختلفتان ولا علاقة لإحداهما بالأخرى(1).
عصره:
عاش الشاطبي في مدينة غرناطة(2) في عهد ملوك بني الأحمر، في دولة بني نصر، التي لم تكن تتمتع آنذاك بالاستقرار، ويرجع السبب الرئيس في ذلك إلى محاولات النصارى القضاء على الإسلام في الأندلس. ولبيان أحوال العصر الذي عاش فيه الشاطبي، ولإلقاء الضوء على ملامح هذا العصر، من المفيد الإشارة إلى محطات تاريخية في حياة المسلمين في الأندلس.
فقد أسس الدولة الإسلامية في الأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الملقب صقر قريش. وقد عرف باسم عبد الرحمن الداخل لأنه أول من دخل الأندلس من أمراء الأمويين بعد أن فر ونجا من العباسيين(3). دخل قرطبة سنة 139هـ، دخول الفاتحين، ثم قام بتوطيد دعائم الدولة، مستقلة عن دولة الخلافة، ولكنه لم يسم نفسه خليفة.
حاول العباسيون استرداد الأندلس سنة 149 هـ فعجزوا.
__________
(1) أنظر: الشاطبي، الإفادات والإنشادات، إفادة رقم 66، وإفادة رقم 67، ص: 143 وهو المصدر المذكور سابقاً بتحقيق الأستاذ محمد أبو الأجفان.
(2) قال الفيروز أبادي في القاموس المحيط: غرناطة: "والصواب: أغرناطة. ومعناها: الرمانة، بالأندلسية"، ص: 877، مؤسسة الرسالة ودار المؤيد، إشراف: محمد نعيم العرقسوسي، 1415هـ - 1994م.
(3) إبراهيم الشريفي، التاريخ الإسلامي، ص: 149، ط 2، مؤسسة نوفل - بيروت، 1391هـ - 1971م.(1/10)
حاول شارلمان ملك الفرنجة بالتعاون مع حكام المدن الإسبانية القضاء على إمارة عبد الرحمن ولكنه فشل.
قام عبد الرحمن بإعمار إمارته وتطويرها، وبتشجيع العلوم والفنون، والزراعة والصناعة، فأصبحت قرطبة عاصمة الأندلس. وتجلت فيها المظاهر المدنية والعمرانية من خلال مساجدها ومعاهدها وقصورها وحدائقها. واستمر التطور بعده، فتجلت حضارة الأندلس من خلال الحركة الفكرية والثقافية الناشطة. وحظيت قرطبة بعناية خاصة على صعيد العمران، والجمال، وبناء المستشفيات ودور العلم ودور العبادة، وانتشرت العلوم والمعارف، وعقدت الندوات والمناقشات الفكرية والفلسفية، ونشطت الترجمة، وازدهرت الأندلس، وسادها الأمن والاستقرار، ودخل كثير من الإسبان الإسلام، ونبغ منهم أدباء ساهموا في نشر اللغة العربية(1).
ثم تعاقب على الحكم أمراء ضعفاء، ودب الضعف في جسم الدولة لمدة اثنين وستين سنة، حتى تولى الحكم عبد الرحمن الناصر سنة 300 هـ. وفي عهده بلغت الأندلس عصرها الذهبي، وعمها الرخاء وتحققت فيها مشاريع عمرانية وزراعية وصناعية، بالإضافة إلى ما أنشيء فيها من مساجد ومدارس ومستشفيات، وأنشئت القصور، وأضيئت الشوارع بالقناديل، وانتشرت الحدائق الغنّاء، وأمَّ الطلاب من سائر الأنحاء الأندلس للدراسة في معاهدها وجامعاتها، وازدادت ثروة البلاد، وتضاعفت موارد الدولة. وأُنفِقَ الكثير وادُّخر الكثير. ودام حكم عبد الرحمن الناصر خمسين سنة 300 - 350 هـ وسمى نفسه خليفة(2).
وخلف عبد الرحمن الناصر ابنه الحكم، الذي حكم لمدة 16 عاماً قضاها في عمران البلاد. ثم خلفه حكام ضعاف أسلموا الحكم لغيرهم فأضاعوه، وانقض الطامعون عليهم وسقطت الخلافة سنة 417 هـ. وقامت دويلات صغيرة في المدن عرف حكامها باسم ملوك الطوائف.
__________
(1) إبراهيم الشريفي، التاريخ الإسلامي، ص 153.
(2) أنظر: المرجع نفسه: ص 154 - 155.(1/11)
هذه الأوضاع من انقسام وضعف وتناحر وأطماع شجعت الإمارات النصرانية في الشمال على الانقضاض على المسلمين.
وعندما اشتد الخطر على الأندلس وعجز ملوك الطوائف عن صد هجوم الممالك النصرانية التي توحدت في شمال أسبانيا، استنجد المعتمد بن عباد ملك إشبيلية بالمرابطين حكام المغرب. فعبرت قواتهم الأندلس وهزمت جيوش الممالك النصرانية هزيمة نكراء في موقعة الزلاقة سنة 479 هـ - 1086م. وكان لمساعدة المرابطين وانتصارهم الساحق الفضل في إنقاذ الأندلس وإبقاء الوجود الإسلامي فيها.
ولما زال الخطر عاد أمراء المسلمين إلى التناحر والتنازع على السلطة، وانتقلت العدوى إلى حكام المغرب، فدب الشقاق بينهم وضعف سلطانهم فاغتنم الفرصة السانحة حكام الإمارات النصرانية في شمال أسبانيا وجهزوا الجيوش لغزو دويلات الجنوب فسقطت جميعها باستثناء غرناطة التي ظلت صامدة كالطود الشامخ. وكان سقوط قرطبة سنة 634 هـ - 1236م، وإشبيلية سنة 646 هـ - 1248م(1).
__________
(1) أنظر، إبراهيم الشريفي، ص: 157.(1/12)
في هذه الأثناء ظهر أحد ملوك الطوائف وهو أبو عبد الله محمد بن هود الذي لقب أمير المسلمين سيف الدولة، المتوكل على الله، وسيطر على مجموعة من المدن الأندلسية الهامة ومنها قرطبة وغرناطة. وفي سنة 635 هـ - 1238م توفي ابن هود وظهر أبو عبد الله محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر(1)، مؤسس دولة بني الأحمر، وأعلن نفسه أميراً على جنوب الأندلس، وجعل غرناطة عاصمة لدولته. وكان هذا عام 635 هـ - 1238م(2).
وتميز عهد محمد بن الأحمر بتقوية دولته وتنمية ثروتها. وقد وقف بنو نصر بوجه جيوش الشمال النصرانية، وصدوها بعزم وإيمان. وأصبحت غرناطة حاضرة المسلمين وقاعدتهم الكبرى في الأندلس بعد أن سقطت الممالك والدويلات أمام هجمات ملوك النصارى الذين توحدوا للقضاء على الإسلام. فأُجلي المسلمون عن بلادهم ودفعوا الجزية للكفار، إلا أن الوجود الإسلامي في الأندلس استمر لما يزيد على قرنين ونصف بعد أن تمكن محمد بن يوسف بن نصر (محمد بن الأحمر) الملقب بالشيخ الغالب بالله من تأسيس وتقوية دولته في جنوب الأندلس(3).
__________
(1) ويرجع نسب ابن الأحمر إلى سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي أحد الصحابة. أنظر: تاريخ المغرب والأندلس، مذكور سابقاً بإحالته على صبح الأعشى في صناعة الإنشا للقلقشندي، 5/260.
(2) أنظر: تاريخ المغرب والأندلس من القرن السادس الهجري حتى القرن العاشر الهجري، تأليف: د. أحمد عودات، د. شحادة الناطور، د. جميل بيضون، أ. محمد محاسنة. دار الأمل للنشر والتوزيع إربد، ط1، 1410هـ - 1990م.
(3) أنظر: إبراهيم الشريفي، التاريخ الإسلامي، ص: 157. وتاريخ المغرب والأندلس، ص: 2.(1/13)
إلا أن هذه الدولة لم تستطع حماية المسلمين في الأندلس، فسقطت المدن والحصون، مما أثار أطماع النصارى الذين حاولوا القضاء على غرناطة، فلم يستطيعوا وازدادت غرناطة قوة(1).وصارت مدينة غرناطة ملجأً للمسلمين الفارين من زحف النصارى منذ تأسست بها دولة بني الأحمر. يقول المقري: "ولما استولى الفرنج على معظم بلاد الأندلس انتقل أهلها إليها فصارت المصر المقصود"(2).
وخلال عهد غرناطة كانت هناك ثلاث ممالك نصرانية قوية هي البرتغال وأرغون وقشتالة والأخيرة هي أقوى هذه الممالك. وكانت كل واحدة من هذه الممالك لوحدها أقوى من غرناطة. فاتحدت هذه القوى واستعانت بغيرها، وقامت بحملات صليبية على غرناطة، واستطاعت أن تحقق بعض الانتصارات إلا أنها لم تحقق أهدافها.
ثم تجمعت القوى الصليبية وهاجمت غرناطة، وطلب المسلمون الغوث من المغرب، وجرت أحداث وحروب حقق المسلمون فيها نصراً هائلاً سنة 674 هـ.
واستمر الصراع، وفي سنة 718 هـ هاجم القشتاليون غرناطة وزحفوا عليها بمساعدة الإنجليز، واستنجد المسلمون ببني مرين في المغرب فأجابوهم، وتمكن المسلمون من تحقيق النصر وهزيمة الإفرنج في معركة قرب غرناطة(3).
واستمرت المواجهات بين المسلمين والإسبان, وهزم المسلمون في معركة بحرية سنة 740 هـ - 1339م اشتركت فيها قوات من أرغون وقشتالة والبرتغال، ووقعت معركة سنة 741 هـ، هي معركة طريف، استعمل فيها المسلمون المدافع التي تقذف النيران لأول مرة إلا أنهم خسروا المعركة، وكان الصليبيون إذا انتصروا في معركة ارتكبوا أبشع المنكرات في المسلمين(4).
__________
(1) أنظر: تاريخ المغرب والأندلس، المرجع السابق، ص: 162.
(2) أبو العباس أحمد المقري، نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب، 1/148، 7 أجزاء، تحقيق: إحسان عباس، ط1، دار صادر - بيروت.
(3) أنظر: تاريخ المغرب والأندلس، ص: 165.
(4) أنظر: تاريخ المغرب والأندلس، ص: 169.(1/14)
وأخذ الإسبان يعيثون فساداً وتخريباً في أراضي الأندلس. ورغم كل ذلك فقد ظلت غرناطة قوية، وعقدت معاهدات صلح بين المسلمين والإسبان منها معاهدة صلح مع بيدرو الرابع سنة 736 - 789 هـ، 1336 - 1387م، فساد الأمن والسلام ربوع مملكة غرناطة وازدهرت، ورغم محاولات الإسبان اقتسام أملاك غرناطة فقد فشلوا(1).
وفي سنة 867 هـ سقطت جبل طارق بيد القشتاليين، فكان ذلك ضربةً قوية للمسلمين، وتوقف وصول الإمدادات من المغرب إلى الأندلس(2).
وتولى حكم غرناطة سنة 887 هـ - 1482م محمد بن علي الملقب بأبي عبد الله الصغير، الذي وافق على تسليم غرناطة سنة 897 هـ - 1492م لملكي قشتالة وأرغون، ورحل إلى المغرب. وهكذا قضي على الدولة الإسلامية في الأندلس، ولأبي عبد الله الصغير هذا قيل (الخفيف):
إِبْكِ مِثلَ النِّساءِ مُلكاً مُضاعاً ... لَم تُحافظْ عليهِ مِثلَ الرِّجالِ
الحالة السياسية:
كانت هذه إشارة إلى محطات تاريخية وأحداث مرت بمسلمي الأندلس. وتفسر هذه الأحداث هجرة أسرة الشاطبي إلى غرناطة. وتفسر أيضاً الحالة السياسية لعصر الشاطبي، إلا أن ثمة أحداثاً تلقي ضوءاً أكبر على الحالة السياسية لعصر الشاطبي أي للقرن الثامن الهجري.
__________
(1) أنظر: المرجع نفسه، ص: 172.
(2) أنظر: المرجع نفسه، ص: 172 - 174.(1/15)
قال لسان الدين ابن الخطيب(1): "وَلِيَ بعد الغالب بأمر الله، مؤسس الدولة، ولده وسميه السلطان أبو عبد الله، وطالت مدته إلى أن توفي عام 701 هـ. وولي بعده ولده وسميه أبو عبد الله محمد، وخلع يوم الفطر من عام 708 هـ، وتوفي في شوال عام 711. وولي بعده خالعه أخوه نصر أبو الجيوش، وارتبك أمره، وطلب الأمر من ابن عم أبيه السلطان أبو الوليد إسماعيل فتغلب على دار الإمارة في ثاني ذي القعدة من عام 713 هـ، وانتقل نصر مخلوعاً إلى مدينة وادي آش، وتوفي عام 722 هـ، وتمادى ملك السلطان أبي الوليد إلى 23 من رجب عام 725، ووثب على ابن عمه في طائفة من قرابته فقتلوه ببابه وخاب فيما أملوه سعيهم فقتلوا كلهم يومئذٍ، وتولى أمره ولده محمد واستمر إلى ذي الحجة من عام 734، وقتل بظاهر جبل الفتح بأيدي جنده من المغاربة، وتولى الأمر بعده أخوه أبو الحجاج يوسف ودام ملكه إلى يوم عيد الفطر من عام 755"(2)، وقد قتل أثناء صلاته(3).
__________
(1) كان وزيراً في دولة بني الأحمر.
(2) حمادي العبيدي، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص: 31. بإحالته على: لسان الدين بن الخطيب، اللمحة البدرية، ص: 33، 34، تحقيق محي الدين الخطيب، ط1، المطبعة السلفية، القاهرة، 1374هـ.
(3) الموضع نفسه.(1/16)
"ثم تقلد الإمارة السلطان محمد الخامس الملقب بالغني بالله فاستمر من 755 هـ إلى 793 هـ. تعرض حكمه خلالها لأحداث دامية. فقد تعرض لانقلاب سنة 760 فرَّ على إثره إلى المغرب ثم عاد سنة 763. وقد تعرضت غرناطة خلال هذه السنوات الثلاث لثلاثة انقلابات متوالية: الأول في شهر رمضان سنة 760، وانتهى بفرار السلطان الغني بالله إلى المغرب وتولي أخيه إسماعيل الثاني مكانه. والانقلاب الثاني في شعبان سنة 761 قتل فيه إسماعيل الثاني وتولى الملك قاتله وزوج شقيقته أبو سعيد البرميخو، والانقلاب الثالث في جمادى الثانية سنة 763 أفضى الأمر فيه إلى عودة الغني بالله إلى عرشه، وقتل البرميخو على يد ملك قشتالة"(1).
ومما تشير إليه بعض المصادر أن البرميخو كان مدمناً على الحشيش، فانتشرت هذه الآفة بين الناس جهاراً وقيلت فيها الأشعار(2).
__________
(1) المرجع نفسه، ص: 31.
(2) المرجع نفسه، ص: 32.(1/17)
ويتحدث لسان الدين ابن الخطيب عن البرميخو وطغيانه، وأكله أموال الناس فيقول: "وكان حرفوشاً(1)، فالتهم الخلا والكلا، وأعدم بإعدام الغلة أسباب الرخا، وفتح أبواب البلاء، وسمح ببعض المكوس(2) فأعطى قليلاً ثم أكدى(3)، ولم تمر الأيام إلا وقد عاد في قينه(4) وأضاق الرعايا بشؤمه، وكلفهم ارتباط الأفراس بعد إغراقهم أرزاق جنده"(5).
الحالة الاقتصادية:
يتبين مما سبق تقدم ثم هبوط وانحدار في دولة الأندلس، ويظهر هذا في نشأة ونمو الدولة ثم انحدارها وسقوطها. وكذلك يظهر في نمو الثروة وكثرة الإنفاق والادخار ثم في تفاقم الحاجة، وهذا ما شهده عصر الشاطبي.
يقول الأستاذ محمد أبو الأجفان: "ونستفيد من نص موجه إلى الشاطبي أن المسلمين احتاجوا إلى بعض الموارد الضرورية ومنهم من تساءل: هل تبيح لهم هذه الحاجة أن يبيعوا للكفار ما كان منعوا بيعه لهم لأنه يقويهم. ونص السؤال: هل يباح لأهل الأندلس بيع الأشياء التي منع العلماء بيعها من أهل الحرب كالسلاح وغيره، لكونهم محتاجين إلى الضرورة في أشياء أخرى من المأكول والملبوس وغير ذلك، أم لا فرق بين أهل الأندلس وغيرهم من أرض الإسلام؟"(6).
__________
(1) كلمة عامية مصرية تطلق على الرعاع الذين يعيشون على النهب، أنظر: حمادي العبيدي، مقاصد الشريعة الإسلامية. هامش، ص: 32.
(2) مَكَسَ في البيع يمكس: إذا جبى مالاً، والمكس: النقص، والظلم، ودراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق في الجاهلية، الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ص: 742.
(3) أَكَدَّ واكتَدَّ: أمسك. وبئر كدود: لم ينل ماؤها إلا بجهد. المصدر نفسه، ص: 402.
(4) القين: العبد، والقينة: الأمة. والتقين: التزين. المرجع نفسه، ص: 1582.
(5) حمادي العبيدي، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص: 32. بإحالته على: نفاضة الجراب في علالة الاغتراب، 2/183.
(6) محمد أبو الأجفان، تحقيق وتعليق على الإفادات والإنشادات للشاطبي، ص: 13.(1/18)
ويشير إلى نقص الغذاء فيقول: "كما يفيد نص استفتاء آخر أن نقص الغذاء دفعهم إلى استغلال المورد البحري، ولكن عقد إجارة السفن كان يتم دون أن يكون الأجر معلوماً عند التعاقد. فتساءلوا: كيف والقطر الأندلسي لا يخفى حاله أو الحاجة فيه إلى الطعام، وجل طعامه الآن من البحر، وكثير من أهل القطر يروم التسبب في إنشاء سفينة أو شرائها، ويمنعه من ذلك كراؤها على الوجه المذكور، والحال في الوطن لا يخفى والضرورة فيها ظاهرة"(1).
ومما يشير إلى الضعف الاقتصادي عدم قدرة الدولة على القيام بحاجات الناس، واحتياجها إلى فرض ضرائب. ويظهر هذا في اختلاف العلماء في فتاواهم، فبسبب الأوضاع السياسية والحروب الخارجية حلت ضائقة مالية بالدولة. فاستفتت حكومة غرناطة الفقهاء في جواز فرض ضرائب زائدة على أهل المملكة لمواجهة التعبئة للقتال، فامتنعوا من ذلك ولكن الشاطبي خرج من إجماعهم وأفتى بالجواز قائلاً: "إنا إذا قررنا إماماً مطاعاً، مفتقراً إلى تكثير الجنود لسد الثغور، وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافياً لهم في المال إلى أن يظهر مال بيت المال، ثم له النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار وغير ذلك كيلا يؤدي تخصيص الناس به إلى إيحاش القلوب وذلك يقع قليلاً في كثير بحيث لا يجحف بأحد ويحصل المقصود"(2).
__________
(1) المرجع نفسه، ص: 14.
(2) الشاطبي، الاعتصام، 2/380. تحقيق: عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي، ط2، 1418هـ - 1998م.(1/19)
إن الأخبار التي تشير إلى فقدان الثروة والمدخرات في الأندلس كثيرة، وهذا الحال الذي آل إليه الوضع الاقتصادي يدل على تراجع وانحدار ولا يدل على مجاعة، ولذلك فلا تمنع هذه الأوضاع من وجود الثراء والترف في المجتمع. يقول الأستاذ أبو الأجفان: "ومع هذا الوضع المضطرب فإن لوناً من البذخ ينتشر، وإقبالاً على المجوهرات عند الأغنياء المترفين، وتفنناً في الزينة والتماجن في أشكال الحلي عند النسوة، وولوعاً بالغناء يفشو حتى بالدكاكين التي تجمع الشباب"(1).
الحالة العلمية:
المستوى العلمي والمناخ الثقافي السائد في غرناطة في حياة الشاطبي كان جيداً ومزدهراً ولم يهبط بشكل كبير ومفاجئ إلا بانهيار غرناطة وخضوعها لعدوها. إلا أن الملاحظ أن هذا المستوى كان يهبط تدريجياً تبعاً للحالة السياسية. فكلما كانت نظرة الحكام وسياستهم نظرة توسع ونشر للإسلام كان يتبع هذا انتشار وتوسع للعلوم الإسلامية وما يتبع ذلك من حركةٍ ثقافية. وحيثما كان الحكام يبذلون الجهد للمحافظة على الاستقرار أو على الوضع القائم ضمن حدودهم، والمحافظة على مستوى ثابت من التأثير والتأثر، كانت تتبع هذه الحالة حالة جمود. أي أن حركة الإنتاج العلمي والحركة الثقافية في المجتمع تكون مستقرةً على حال. وهذا كان حال غرناطة لولا أنها صارت مقصداً ومجمعاً للعلماء الوافدين من سائر أنحاء الأندلس، الأمر الذي أدى إلى تفاعل أثر على النشاط العلمي والفكري والثقافي والصناعي والفني.
__________
(1) محمد أبو الأجفان، تحقيق وتعليق على الإفادات والإنشادات للشاطبي، ص: 14، 15. بإحالته على اللمحة البدرية لابن الخطيب، ص: 28، 29.(1/20)
قال الأستاذ محمد أبو الأجفان: "أما المناخ الثقافي الذي تعرفه غرناطة في حياة الشاطبي فهو مزدهر نسبياً، إذ تتواصل فيه سنة الاهتمام العلمي ويقبل فيه العلماء على إثراء رصيد المعرفة بمؤلفاتهم وأبحاثهم، ويستمر سند الحديث ورواية كتب العلم وتدوين برامج(1) الشيوخ"(2).
وقد كان التعليم والتأليف ناشطين، وقامت في غرناطة مؤسستان علميتان ضخمتان، هما الجامع الأعظم والمدرسة النصرية، وتناول التأليف شتى فروع العلم التجريبية والشرعية والفلسفية. يقول الأستاذ أبو الأجفان: "وهكذا كانت الحركة العلمية إلى أواخر القرن الثامن مزدهرةً دالة على قوةٍ استطاعت أن تقاوم فترة ما داء الانحطاط الذي كان يتسرب إلى الأندلس ويدفعه إلى المصير المحتوم. ولقد كان لمفكري الأندلس وعلمائه في هذا العهد المضطرب محاولات للإصلاح ورأب الصدع، ودعوة إلى الجهاد وبث لروح العزم في النفوس، وتبصير بالخطر المحدق"(3).
__________
(1) البرامج: "نوع من المدونات تضم شيوخ مؤلفيها وما أخذوه عنهم من الروايات، وما قرأوه عليهم من الكتب، أو تضم شيوخ عالم معين تعهد غيره بجمعهم، وذكر ما أخذ عنهم"، أنظر: محمد أبو الأجفان، تحقيقه لكتاب برنامج المجاري، ص: 59، والكتاب لأبي عبد الله محمد المجاري الأندلسي المتوفى سنة 862 هـ، ط1، 1984م، دار الغرب الإسلامي، بيروت - لبنان.
(2) أنظر: محمد أبو الأجفان، تحقيقه على الإفادات والإنشادات للشاطبي، ص: 15.
(3) المرجع نفسه، ص: 17.(1/21)
وقال أيضاً: "وقد ازدهرت في هذه المملكة صناعات كان السكان يحذقونها ويرثونها عن أجدادهم الذين شيدوا أروع حضارةٍ في الجزيرة الأندلسية، فمن ذلك أنهم كانوا يصنعون الأسلحة والأقمشة الحريرية والصوفية والأواني الخزفية وأنواع الورق والجلود، وكان تصدير الصناعات يوفر دخلاً وينشط الحركة التجارية، وكان للجنوبيين وغيرهم من الأمم ذات الصلات الاقتصادية الوثيقة بالأندلس منشآت تجارية في غرناطة، وعقدت غرناطة مع جمهورية جنوة ومع مملكة أراغون معاهدات تجارية"(1).
ولقد شهد هذا الجو إقبالاً على طلب العلم وعلى الحوار والنقاش العلمي والفقهي، وظهرت نتائجه في الإقبال على التأليف والبحث، ولمعت أسماء العلماء واشتهرت المؤلفات. وكان على رأس كل علم أعلام كبار كأمثال ابن الفخار البيري في علوم اللغة، وابن الصائغ وأبي حيان في علم النحو خاصة، وأبي إسحاق الشاطبي في علم الأصول، وابن جزي وابن عاصم في الفقه وابن الخطيب وابن زمرك في الأدب والسياسة، وابن هذيل الحكيم في الفلسفة، وغير هؤلاء كثير(2).
__________
(1) محمد أبو الأجفان، في تحقيقه لبرنامج المجاري، ص: 15، بإحالته على نهاية الأندلس، محمد عبد الله عنان، ط1، مصر، 1949م.
(2) حمادي العبيدي، الشاطبي ومقاصد الشريعة، ص: 47 - 50، بإحالته على: محمد الطاهر بن عاشور، أليس الصبح بقريب، ص: 79، ط1، الشركة التونسية للتوزيع.(1/22)
إلا أن ثمة أمراً تنبغي الإشارة إليه، وهو أن هذا الازدهار من الناحية العلمية والثقافية لا يدل ضرورةً على عافية وعلى استمرار التقدم، إذ إن الأندلس قد مرت في فترات ازدهار علمي وثقافي، مدني وحضاري، وهذا الحال في القرن الثامن هو من بقايا ذلك الازدهار، فهو عيشٌ على التقدم القديم، بدليل أن غرناطة سقطت قبل نهاية القرن التاسع، وأن المسلمين في الأندلس كانوا يفقدون سلطانهم وقوتهم تدريجياً، ولذلك يلاحظ أن هذه الحالة العلمية والثقافية المتقدمة مقتصرة على بيان وحفظ ما هو موجود من العلوم، وبدليل الجمود وعدم التفاعل مع ما هو خارج الحدود، فالمؤلفات الجديدة لم تكن سوى شروح واختصارات، والمستوى العلمي الرفيع هو مستوى نسبي، وهو نتيجة للمقارنة بمستوى البلاد المحيطة سواء في أوروبا أو في المغرب العربي، ولكنه بالمقارنة مع ما كان عليه الحال في القرنين الرابع والخامس الهجريين يدل على ثباتٍ وجمود في الناحية التشريعية. ومما يؤكد هذه الأوضاع عدم وجود أي مذهب في غرناطة سوى المذهب المالكي. قال الشاطبي: "إذ كتب الحنفية كالمعدومة في بلاد المغرب، وكذلك كتب الشافعية وغيرهم من أهل المذاهب"(1).
مناخ المجتمع الثقافي:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/273.(1/23)
إذاً، كان يشهد مجتمع غرناطة انتشاراً للعلوم والمعارف، وكثرةً في العلماء، وهذه حالة متقدمة نسبياً، إلا أن الفارق المهم هو اتجاه المجتمع في حركته الثقافية والعلمية، وليس المستوى الذي يقف عليه، وقد كان اتجاه تخلفٍ وانحدار. هذا الوضع هو الذي أدى إلى ما بينه الشاطبي من انتشار البدع والانغلاق، بحيث لا يقبل الرأي المخالف أو غير السائد ولو نهضت له الأدلة الشرعية، ومن إصدار الفتاوى بناءً على تقليد أعمى، وتطبيق لأقوال الفقهاء أو للقواعد المقررة في المذهب من غير غوص إلى أصولها. ولذلك يصور الشاطبي ما آلت إليه الأمور من خلال الحديث الشريف: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء"(1)، ويتحدث عن شيوخ الجهل والتعصب المذهبي والغلو في تعظيم غير الله. ويحمل تبعة هذا الجهل للعلماء الذين يفتون للحاكم بما يريد، أو لأقربائهم أو مقلديهم، والذين يغيرون الأحكام بحجة التيسير أو الضرورات. وفيما يلي جملة من الأقوال تصوِّر شيئاً من هذه الأوضاع:
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان. رقم: (370)، أنظر: شرح مسلم للنووي، 2/354، تحقيق الشيخ خليل مأمون شيحا، ط1، 1414هـ - 1994م، دار المعرفة - بيروت، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن: (3986)، والترمذي: (2630).(1/24)
يقول الشاطبي: "فلما أردت الاستقامة على الطريق وجدت نفسي غريباً مع جمهور أهل الوقت"(1). ويقول: "فتردد النظر بين أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس... فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئاً... فقامت عليَّ القيامة، وتواترت عليَّ الملامة، وفوَّق(2) إليَّ العتاب سهامه ونسبت إلى البدعة والضلالة، وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة... وتارةً نسبت إلى معاداة أولياء الله... وتارةً نسبت إلى مخالفة السنة والجماعة"(3).
__________
(1) الشاطبي، الاعتصام، 1/18.
(2) فوَّق: رشق. قال الفيروز أبادي: "رمينا فُوقاً: رِشقاً" القاموس المحيط، ص: 1187.
(3) الشاطبي، الاعتصام، 1/ 18 ـ 21.(1/25)
ويقول: "ولقد زلَّ بسبب الإعراض عن الدليل، والاعتماد على الرجال أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم فضلوا عن سواء السبيل"(1). وذكر لهذا أمثلة منها: "رأي المقلدة لمذهب إمام يزعمون أن إمامهم هو الشريعة بحيث يأنفون أن تنسب إلى أحد من العلماء فضيلة دون إمامهم حتى إذا جاءهم من بلغ درجة الاجتهاد وتكلم في المسائل ولم يرتبط إلى إمامهم رموه بالنكير وفوقوا إليه سهام النقد وعدوه من الخارجين على الجادة(2)، والمفارقين للجماعة من غير استدلال منهم بدليل، بل بمجرد الاعتياد العامي. وقد لقي الإمام بقيٌّ بن مخلد حين دخل الأندلس آتياً من المشرق من هذا الصنف الأمرين حتى أصاروه مهجور الفناء مهتضم الجانب... ومنها رأي نابتةٍ في هذه الأزمنة أعرضوا عن النظر في العلم الذي هم أرادوا الكلام فيه والعمل بحسبه، ثم رجعوا إلى تقليد بعض الشيوخ الذين أخذوا عنهم في زمان الصبا الذي هو مظنة لعدم التثبت من الآخذ أو التغافل من المأخوذ منه، ثم جعلوا أولئك الشيوخ في أعلى درجات الكمال ونسبوا إليهم ما نسبوا به من الخطأ، أو فهموا عنهم على غير تثبت ولا سؤال على تحقيق المسألة المروية، وردوا جميع ما نقل من الأولين مما هو الحق والصواب... فتأملوا يا أولي الألباب كيف حال الاعتقاد في الفتوى على الرجل من غير تحرٍّ للدليل الشرعي، بل لمجرد الغرض العاجل عافانا الله من ذلك بفضله"(3).
__________
(1) المصدر نفسه، 1/537.
(2) الجادَّة: معظم الطريق. أنظر: الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ص: 347.
(3) الشاطبي، الاعتصام، 2/538 ـ 542.(1/26)
وقال في الموافقات: "صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال اتباعاً لغرضه وشهوته أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق"(1). وقال: "وربما استجاز هذا بعضهم في مواطن يدَّعي فيها الضرورة وإلجاء الحاجة بناءً على أن الضرورات تبيح المحظورات فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض"(2).
وقد أسس موقف الشاطبي هذا من هذه الأوضاع لخصومة بينه وبين علماء عصره حتى رمي بالتهم المذكورة آنفاً وغيرها، وقد عبر عن ذلك كما تبين، ومن ذلك أيضاً قوله (البسيط):
بُليتُ يا قومُ والبَلْوى مُنوَّعةٌ ... بمَن أُداريهِ حتّى كادَ يُرْديني
دَفْعَ المضرّةِ لا جلباً لمصْلحةٍ ... فحسبِيَ اللهُ في عَقلِي وفي دِيني(3)
يقول الدكتور حمادي العبيدي: "كانت بين الشاطبي وبين هؤلاء الفقهاء الذين يتوجه إليهم بالنقد ويحذر الناس منهم مصادمات عنيفة، فكان إذا أفتى بالجواز في مسألة أفتوا هم بالمنع، وإذا أفتى بالمنع أفتوا هم بالجواز"(4).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/73.
(2) المصدر نفسه، 4/81.
(3) أنظر: التنبكتي، نيل الابتهاج، ص: 49.
(4) حمادي العبيدي، الشاطبي ومقاصد الشريعة، ص: 38.(1/27)
ولقد تزعم خصومة الشاطبي أحد شيوخه وهو أبو سعيد بن لب(1)، الذي عرف عنه تساهله في الفتوى، ولقد أشار الشاطبي إلى هذا في إحدى إفاداته، وقد عدَّ التساهل حينذاك مما يتعلمه الطالب من شيخه. قال: "وقال(2): أردت أن أنبهكم على قاعدةٍ في الفتوى وهي نافعة جداً ومعلومة من سنن العلماء وهي أنهم ما كانوا يشددون على السائل في الواقع إذا جاء مستفتياً"(3). ثم قال: "وكنت قبل هذا المجلس تترادف عليَّ وجوه الإشكالات في أقوال مالك وأصحابه، فلما كان بعد ذلك المجلس شرح الله بنور ذلك الكلام صدري، فارتفعت ظلمات تلك الإشكالات دفعة واحدة، لله الحمد على ذلك"(4). إلا أنه عاد وغير موقفه من التساهل ومن فتاوى شيخه، فكانت الخصومة، وكانت الهجمة العنيفة عليه، والاتهامات الكثيرة التي وجهت إليه. وعلى سبيل المثال هذا القول للمُواق(5): "أنظر تسفيه هذا الشاطبي وإنكاره على شيخ الشيوخ ابن لب الذي نحن على فتاويه في الاعتقاد، والحلال والحرام، وعلى مذهبه في الأيمان اللازمة وغيرها من أحكام الدماء والأنكحة والطلاق"(6).
لقد كان لهذا المناخ أثر كبير على فكر الشاطبي وعلى دعوته، فكان كتابه الاعتصام بياناً لهذه الأفكار وأمثالها، ورداً عليها. وكان الموافقات وَضْعَ أصول لضبط منهجية التفكير والاستنباط.
__________
(1) سيأتي ذكره عند الحديث عن شيوخ الشاطبي.
(2) أي: الشيخ أبو سعيد بن لب.
(3) أنظر: الشاطبي، الإفادات والإنشادات، ص: 152، إفادة رقم: 75.
(4) الموضع نفسه.
(5) هو محمد بن يوسف بن أبي القاسم الشهير بالمواق الأندلسي الغرناطي، توفي سنة 897 هـ عن سن عالية. أنظر ترجمته في نيل الابتهاج للتنبكتي، ص: 324.
(6) حمادي العبيدي، الشاطبي ومقاصد الشريعة، ص: 21، بإحالته على: (سنن المهتدين) للمُواق مخطوط رقم 7785، دار الكتب الوطنية، تونس.(1/28)
وإن هذه الصورة لعصر الشاطبي: اضطرابات سياسية وانقلابات في الداخل، وهجمات عسكرية وتهديد صليبي من الخارج، وحروب مستمرة وتساقط المدن الإسلامية، ولجوء المسلمين إلى غرناطة بعد فرارهم من بلادهم وإجلائهم عنها، والاستعانة الدائمة بالمسلمين في المغرب مع المحافظة على التجزئة والتقسيم على شكل دويلات، تنبئ بالمصير الأسود للمسلمين في تلك البلاد، ويؤكد هذا المصير انعدام أو ضعف التفكير السياسي، وعدم اهتمام العلماء بالسياسة، وعلى سبيل المثال، لا يوجد في كتب الشاطبي على سعتها وأهميتها وكثرة موضوعاتها ما يدل على اهتمامه بالأوضاع السياسية إلا من باب الفتاوى للناس بأن لا يبيعوا للكافر ما يتقوى به. أو من جواز فرض الضرائب على الناس للضرورة، ولذلك فعندما عجز النصارى عن السيطرة على غرناطة بسبب استعانة هذه الأخيرة بالدولة المرينية في المغرب، فإنهم خططوا للأمر وسيطروا على جبل طارق المنفذ الوحيد لإمداد المسلمين، وكان ذلك سنة 867 هـ - 1462م(1)، فسهل عليهم حينئذٍ القضاء على المسلمين في غرناطة، ومن ثم القضاء على المسلمين كلياً في الأندلس سنة 897 هـ - 1492م. وهذا يدل على الافتقار إلى التفكير السياسي، وهو دليل انحطاط وانحدار مهما كان المستوى العلمي والاقتصادي للدولة.
__________
(1) كان ينبغي أن يبذل المسلمون كل ما يستطيعون لاستعادة جبل طارق، إذ خروجه من أيديهم هو مقدمة خروجهم من الأندلس كلها. وهم في الأصل لم يدخلوها إلا عبر جبل طارق. ولكن لأي حكام تقول؟ وما أشبه اليوم بالبارحة!.(1/29)
فالافتقار إلى التفكير السياسي نذير بنهاية أي دولة والقضاء على أي أمة مهما كانت قوتها(1). وغني عن البيان أنه لا يمكن أن يوجد التفكير السياسي ما لم يوجد الفكر السياسي والنظام والتشريع الذي يقوم على أساسه هذا الفكر وهذا التفكير، ولكن، وإن وجدت الأحكام والأنظمة والتشريعات - كما هو الحال - فما لم يوجد التفكير بالمسؤولية عن الأمة وقضاياها ورعاية شؤونها على أساس هذه الأحكام والتشريعات - وهذا هو التفكير السياسي - فسيان وجودها وعدمه.
شيوخ الشاطبي:
استفاد أبو إسحاق الشاطبي من أعلام كانوا من خيرة المراكز العلمية ببلاد المغرب العربي في عصره، وكان من هؤلاء الأعلام المستقرون بغرناطة باعتبارهم من أهلها، ومنهم من وفد عليها من عدوة المغرب ليستوطنها أو ليؤدي بها بعض المهمات(2).
ومن شيوخه الغرناطيين:
__________
(1) وليس أدل على ذلك من انهيار الخلافة الإسلامية، وهي دولة مترامية الأطراف، ودولة إسلامية تمتلك العقيدة الصحيحة، وأعظم فكر في العالم، والمسلمون أكثر الناس استعداداً للتضحية، وأرضهم أرض الخصب والمال والجمال، وكذلك ها هي الدول الغنية في الخليج، سرعان ما فقدت ثروتها لصالح عدوها، وصارت دويلات هزيلة لا تستطيع أن تحرك ساكناً بغير إذن من عدوها. وها هي الأمة الإسلامية بكل شعوبها في حال يُرثى لها من التخلف رغم الثروات الهائلة في بطن الأرض وعلى ظهرها، ورغم الأعداد الهائلة من حملة الشهادات في شتى ميادين العلم والمعرفة، ورغم عددها الكبير، والتضحيات الضخمة التي تقدمها.
(2) أنظر: محمد أبو الأجفان، في تحقيقه لكتاب الإفادات والإنشادات للشاطبي، ص: 20.(1/30)
1 ـ أبو عبد الله محمد بن الفخار البيري، المتوفى سنة 754 هـ. يقول عنه تلميذه ابن الخطيب: "الإمام المجمع على إمامته في فن العربية، المفتوح عليه من الله تعالى فيها حفظاً واطلاعاً واضطلاعاً ونقلاً وتوجيهاً بما لا مطمع فيه لسواه، وكان من أحسن قراء الأندلس تلاوةً وأداءً. وكان الشاطبي يحلي شيخه هذا بـ (شيخنا الأستاذ الكبير العلم الخطير) (1)" (2).
2 ـ أبو جعفر أحمد الشقوري، الفقيه النحوي الفرضي الذي كان يدرس بغرناطة كتاب سيبويه وقوانين ابن أبي الربيع وتلخيص ابن البناء وألفية ابن مالك وفرائض التلقين والمدونة الكبرى(3).
3 ـ أبو سعيد فرج بن قاسم بن أحمد بن لُب التغلبي المتوفى سنة 782 هـ. ومفتي غرناطة وخطيب جامعها، والمدرس بمدرستها النصرية(4). عرض عليه الشاطبي مختصر أبي عمرو بن الحاجب في مجلس واحد وأجاز له أن يرويه عنه(5). وقد تقدم ذكر شيء من خصومته مع الشاطبي.
4 ـ أبو عبد الله محمد بن علي البلنسي الأوسي المتوفى سنة 782 هـ. وهو مؤلف تفسيرٍ وكتابٍ في مبهمات القرآن(6).
5 ـ أبو عبد الله محمد بن أبي الحجاج يوسف بن عبد الله بن محمد اليحصبي المعروف باللوشي وقد أجاز الشاطبي إجازة عامة بشرطها(7).
ومن شيوخه الوافدين:
__________
(1) أنظر: محمد أبو الأجفان، في تحقيقه لكتاب الإفادات والإنشادات للشاطبي، ص: 20 وانظر: التنبكتي، نيل الابتهاج، ص: 46.
(2) أنظر: محمد أبو الأجفان، المرجع نفسه، ص: 21، وانظر الشاطبي، الإفادات والإنشادات، ص: 98، إفادة رقم: 17.
(3) الموضع نفسه.
(4) الموضع نفسه.
(5) الموضع نفسه، وأنظر: المجاري، برنامج المجاري، ص: 118.
(6) الموضع نفسه.
(7) الموضع نفسه، وأنظر: المجاري، برنامج المجاري، ص: 119.(1/31)
1 ـ أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المُقرِّي (الجدّ) المعروف بالمقري الكبير المتوفى سنة 759 هـ. وكان الشاطبي يحضر دروسه بالجامع الأعظم والتي كان يلقيها بمحضر وجوه طلبة غرناطة وعلمائها سنة 757 هـ. وهو تاريخ قدومه الأندلس سفيراً(1).
2 ـ أبو القاسم محمد بن أحمد الشريفي الحسيني السبتي، قاضي الجماعة المتوفى بغرناطة سنة 760 هـ. رئيس العلوم اللسانية وشارح مقصورة حازم القرطاجني(2).
3 ـ أبو عبد الله محمد بن أحمد الشريفي التلمساني أعلم أهل وقته(3).
4 ـ أبو علي منصور بن علي بن عبد الله الزواوي، وهو فقيه نظَّار، قرأ عليه الشاطبي مختصر منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل للإمام أبي عمرو ابن الحاجب، وكل ذلك قراءة تفقه ونظر، وأجازه إجازةً عامةً بشرطها(4).
5 ـ شمس الأئمة أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق الخطيب التلمساني المتوفى بالقاهرة سنة 781 هـ. سمع عليه الشاطبي في مجالس بالمدرسة النصرية والجامع الأعظم كتابي الجامع الصحيح للإمام البخاري، وموطأ الإمام مالك بن أنس برواية يحيى بن يحيى، وأجازه بهذين الكتابين وبجميع ما يحمل إجازةً عامةً بشرطها(5).
6 ـ أبو جعفر بن الزيات وهو من شيوخ الصوفية، وغيرهم من الذين اجتمع بهم واستفاد منهم(6).
تلاميذه:
__________
(1) محمد أبو الأجفان، في تحقيقه لكتاب الإفادات والإنشادات للشاطبي، ص: 22، وانظر: المجاري، برنامج المجاري، ص: 119 - 122.
(2) محمد أبو الأجفان، في تحقيقه لكتاب الإفادات والإنشادات للشاطبي، ص: 23.
(3) أنظر الهامش رقم 1.
(4) أنظر الهامش رقم 2.
(5) الموضع نفسه.
(6) أنظر: المرجع نفسه، ص: 24 - 26.(1/32)
من أهم تلاميذه ثلاثة أعلام هم: أبو يحيى محمد بن عاصم، وأخوه أبو بكر القاضي، وأبو عبد الله محمد البياني، والأخوان المذكوران من أسرة علمية شهيرة بغرناطة. وقد كان أبو يحيى عالماً خطيباً، كاتباً أديباً، وارثاً لخطة شيخه الشاطبي، وكان من أبطال الجهاد وفي ساحاته الشريفة استشهد سنة 813 هـ.
وكان القاضي أبو بكر فقيهاً أصولياً محدثاً يرجع إليه في الفتوى، ومن تآليفه تحفة الحكام التي وقع الإقبال عليها شرحاً وتعليقاً ودراسةً. وله أراجيز في أصول الفقه والنحو والفرائض والقراءات. وقد اختصر كتاب الموافقات لشيخه الشاطبي، وسمى مختصره بـ "نيل المنى في اختصار الموافقات"(1). توفي سنة 829 هـ (2).
ومن تلاميذه أيضاً أبو جعفر أحمد القصار الأندلسي الغرناطي. وقد كان الشاطبي يطالع تلميذه هذا ببعض المسائل عند تصنيفه لكتاب الموافقات، ويباحثه فيها ثم يدونها(3).
ومن تلاميذه أبو عبد الله محمد بن محمد بن علي بن عبد الواحد المجاري الأندلسي المتوفى سنة 862 هـ، صاحب البرنامج. وقد ذكر في برنامجه الشاطبي من شيوخه، وقال: "عرضت عليه ألفية ابن مالك عن ظهر قلب وحدثني بها عن شيخه الإمام العلامة أبي عبد الله البيري"، وذكر أنه أخذ عنه كتاب سيبويه ومختصر ابن الحاجب، وموطأ الإمام مالك مع سرد أسانيده إلى مؤلفيها(4)، وسمع عليه بعض الموافقات(5).
مكانته العلمية:
__________
(1) محمد أبو الأجفان، في تحقيقه لكتاب الإفادات والإنشادات للشاطبي، ص: 26.
(2) أنظر: حمادي العبيدي، الشاطبي ومقاصد الشريعة، ص: 108، بإحالته على: نفح الطيب للمقري، 5/21.
(3) محمد أبو الأجفان، في تحقيقه للإفادات والإنشادات للشاطبي، ص: 26.
(4) أنظر: المجاري، برنامج المجاري، ص: 116 - 122.
(5) الموضع نفسه.(1/33)
كان الشاطبي أحد العلماء المبرزين في عصره، ويتميز برفضه للتعصب والجمود والتقليد، كما أنه متمسك برأيه، ذكي، ورع، واسع العلم، وهذا مما يدل على استقلالية شخصيته، وعلى عمقه الفكري، وهذا ما جلب له عداء الجامدين وأثار عليه الحفظة المقلدين في عصره.
ولقد ذاع صيت الشاطبي في حياته وتجاوز حدود الأندلس، وتشير كتبه إلى سعة علمه في كل فرع من فروع العلوم، سواء في الفلسفة وأصول الدين، أو في المنطق وأصول الفقه، أو في علوم اللغة وعلوم الشريعة وشتى فروعها. وقد أشار هو إلى هذا فقال: "لم أزل منذ أن فتق للفهم عقلي، ووجه شطر العلم طلبي، أنظر في عقلياته وشرعياته، وأصوله وفروعه، لم أقتصر منه على علم دون علم، ولا أفردت عن أنواعه نوعاً دون آخر... بل خضت في لججه خوض المحسن للسباحة، وأقدمت في ميادينه إقدام الجريء... غائباً عن مقال القائل وعذل العاذل، ومعرضاً عن صد الصاد ولوم اللائم إلى أن من عليَّ الرب الكريم، الرؤوف الرحيم، فشرح لي من معاني الشريعة ما لم يكن في حسابي... فمن هناك قويت نفسي على المشي في طريقه بمقدار ما يسر الله فيه، فابتدأت بأصول الدين عملاً واعتقاداً، ثم بفروعه المبنية على تلك الأصول"(1).
__________
(1) الشاطبي، الاعتصام، 1/17.(1/34)
قال عنه تلميذه المجاري: "الشيخ الإمام العلامة الشهير، نسيج وحده وفريد عصره"(1). وقال عنه الإمام ابن مرزوق الحفيد: "الشيخ الأستاذ الفقيه الإمام المحقق العلامة الصالح"(2). وترجم له أحمد بابا التنبكتي في نيل الابتهاج فحلاه بـ: "الإمام العلامة المحقق القدوة الحافظ الجليل المجتهد"(3). وقال: "كان أصولياً، مفسراً، فقيهاً، محدثاً، لغوياً، بيانياً، نظاراً ثبتاً، ورعاً، صالحاً، زاهداً، سنياً. إماماً مطلقاً، بحاثاً مدققاً، جدلياً بارعاً في العلوم، من أفراد العلماء المحققين الأثبات، وأكابر الأئمة المتفننين الثقات، له القدم الراسخ والإمامة العظمى في الفنون فقهاً وأصولاً وتفسيراً وحديثاً وعربيةً وغيرها مع التحري والتحقيق... على قدمٍ راسخٍ من الصلاح والفقه والتحري والورع"(4).
مؤلفاته:
للشاطبي مؤلفات جليلة أهمها اثنان: الموافقات والاعتصام، وهما مطبوعان، وبعض مؤلفاته لم تصلنا، وتدل مؤلفاته على سعة علم وإحاطة، وعلى دقة ونباهة، وعلى ثقةٍ بالنفس واستقلالية، وعلى قدرةٍ على الاستقصاء والتحري، وعلى تعقُّب النوادر والشوارد، وعلى ونزاهةٍ في التماس الحق والصواب، وفي النأي عن التعصب والجمود، وعلى محاولة تجديد وإحياء للفكر الإسلامي، وإطراح ما علق فيه من شوائب، وتقويم ما طرأ عليه من انحراف. ومؤلفات الشاطبي هي:
__________
(1) المجاري، برنامج المجاري، ص: 116.
(2) التنبكتي، نيل الابتهاج، ص: 47.
(3) المصدر نفسه، ص: 47.
(4) الموضع نفسه.(1/35)
1 ـ الموافقات. وهو أشهر كتبه وأكثرها عمقاً. وقد سماه: "عنوان التعريف بأسرار التكليف"، ثم درج على الإشارة إليه باسم "الموافقات". حاول من خلاله وضع منهج لتقرير الأصول واستنباط الفروع. لذلك فهو كتاب في الأصول. وإذا اعتُمد مقصود الشاطبي بلفظ الأصل أو الأصول، فالأصح أن يقال إن الكتاب هو في أصول الأصول، وهذا ما سيتبيَّن - إن شاء الله تعالى - في شرح فكرته في المقاصد، وهو موضوع هذه الكتاب.
ولقد قيل في الموافقات الكثير، ولا يصح فيه من هذا الكثير إلا القليل، وفيه من الغموض ما لا يحل أو لا يوقف على حقيقة المراد منه إلا بكثرة المراجعة والربط بين النصوص في مواضع مختلفة.
والكتاب متوفر بعدة طبعات وتوفر عليه عدة محققين أبرزهم الدكتور عبد الله دراز. وهو مطبوع في أربعة أجزاء. وقد جعله الشاطبي خمسة أقسام: الأول في المقدمات العلمية المحتاج إليها تمهيداً لسائر الأقسام، والثاني في الأحكام وما يتعلق بها سواء كانت من خطاب التكليف أو خطاب الوضع، والثالث في المقاصد؛ مقاصد الشارع ومقاصد المكلف، والرابع في الأدلة الشرعية وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس، والخامس في أحكام الاجتهاد والتقليد والفتوى وفي أحوال المفتي والمستفتي.(1/36)
لم تظهر عناية بالكتاب أو بمضمونه بما يفي ببعض ما يقال فيه من إشادة وتقريظ منذ عصر الشاطبي إلى الآن. أما في عصر الشاطبي وتلاميذه، فجل الأمر أن بعض تلاميذه سمع بعضه منه أو عنده. وأن أحد تلاميذه وهو القاضي أبو بكر ابن عاصم قد لخص الكتاب وسمى ملخصه: "نيل المنى في اختصار الموافقات"(1). وأن أخاه أبا يحيى بن عاصم قد نظمه في ستة آلاف بيت وسمى نظمه: "نيل المنى من الموافقات"(2). أما التلخيص فلم أقع على ذكر لوجوده اليوم. وأما النظم فتوجد منه نسخة خطية بدير الإسكوريال تحت رقم 1164. وقد صدر نظمه بقوله (الرّجَزْ):
الحَمْدُ للهِ الَّذي مِنْ نِعْمَتِهِ ... أَنْ بَثَّ في المشْروعِ سِرَّ حِكْمَتِهِ
وَهَيَّأَ العُقولَ للتَّصْرِيفِ ... بمُقْتَضَى الخِطابِ وَالتَّكْلِيفِ
ثم قال:
فَالعِلْمُ أَوْلى ما اقْتَضَى بهِ الزَّمَنُ ... وَكُتبُهُ هِيَ الجَلِيسُ المؤْتَمَنُ
وَالموْرِدُ المسْتَعْذَبُ الفُرَاتُ ... وَمِنْ أَجَلِّهَا (المُوافَقَاتُ)
لِشَيْخِنَا العَلاَّمَةِ المُراقِبِ ... ذاكَ أَبُو إِسْحاقَ نَجْلِ الشَّاطِبي
فَهْوَ كِتَابٌ حَسَنُ المقَاصِدِ ... مَا بَعْدَهُ مِنْ غَايَةٍ لِقاصِدِ
وَكانَ قَدْ سَمّاهُ بالعُنْوَانِ ... وَاخْتارَ، مِنْ رُؤْيا، ذاكَ الاسْمَ الثَّانِي
وَقَدْ سَمِعْتُ بَعْضَهُ لَدَيْهِ ... وَمِنْهُ في تَرَدُّدِي عَلَيْهِ
لَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ اخْتِلافي ... إِلاَّ يَسيرَ القَدْرِ غَيْرَ كَافي
إلى أن قال:
وَجَاعِلاً لَهُ مِنَ السِّمَاتِ ... (نَيْلَ المُنَى مِنَ الموافَقَاتِ)
فَعَدُّه لم يَعْدُ في المسْطورِ ... سِتَّةَ آلافٍ مِنَ المشْطُورِ
وَها أَنَا بمَا قَصَدْتُ آتِي ... مُقَدِّماً حُكْمَ المُقَدِّماتِ
__________
(1) أنظر: حمادي العبيدي، الشاطبي ومقاصد الشريعة، ص: 108.
(2) أنظر: الموضع نفسه، وأنظر: محمد أبو الأجفان، في تحقيقه للإفادات والإنشادات للشاطبي، ص: 31، 32.(1/37)
وَأَسْأَلُ التَّوْفِيقَ وَالإِعانَهْ ... في شَأْنِهِ مِنْ رَبِّنَا سُبْحَانَهْ
وقد كان هذا النظم سنة 820 هـ(1). ولم يذكر الناظم اسمه، ولذلك فنسبته إلى أبي يحيى غير أكيدة(2).
ومما يلفت النظر إلى قلة العناية، أن هذا النظم ما زال مخطوطاً لم يطبع بشكل كامل.
أما عناية المعاصرين بكتاب (الموافقات)، فقد ذكر أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان في مقدمته على تعليقه على (الموافقات)، أنه وقف على ثلاثة اختصارات للكتاب:
الأول هو: (المرافق على الموافق) لمصطفى بن محمد فاضل بن مامين المتوفى سنة 1328 هـ - 1910م. وهو نظم مع شرح باختصار شديد، وقد طبع هذا النظم مع شرحه سنة 1324 هـ في تونس(3).
الثاني هو: (اختصار الموافقات) لإبراهيم بن طاهر بن أسعد العظم (المتوفى سنة 1377 هـ - 1957م). وهو مخطوط في جزأين عند أسرة المؤلف(4).
الثالث هو: "توضيح المشكلات في اختصار الموافقات" لمحمد يحيى بن عمر المختار بن الطالب عبد الله الولاتي الشنقيطي، المتوفى سنة 1330 هـ - 1912م(5).
__________
(1) أنظر: حمادي العبيدي، الشاطبي ومقاصد الشريعة، ص: 31، 32.
(2) أبو عبيدة، تعليقه على الموافقات، 1/31.
(3) المصدر نفسه، 1/33.
(4) أبو عبيدة، تعليقه على الموافقات، 1/35، 36، بإحالته على الأعلام للزركلي، 1/44.
(5) المرجع نفسه، 1/36.(1/38)
وهناك وجه آخر للعناية بالكتاب وهو طباعته والتعليق عليه. وقد أشار أبو عبيدة المذكور آنفاً إلى خمس طبعات(1). الأولى سنة 1302 هـ - 1884م بمطبعة الدولة التونسية. والثانية سنة 1327 هـ - 1909م حيث طبع الجزء الأول منه بمدينة قازان في عاصمة جمهورية التتار بروسيا. والثالثة سنة 1341 هـ - 1922م في مصر، وهي بتعليق الشيخين محمد الخضر حسين، ومحمد حسنين مخلوف، حيث علق الأول على الجزأين الأول والثاني، وعلق الثاني على الجزأين الثالث والرابع. والرابعة في مصر بتعليق وتحقيق الشيخ عبد الله دراز. والخامسة في مصر بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. وبهذا تكون الطبعة التي بتحقيق أبي عبيدة نفسه هي الطبعة السادسة.
هذا بالإضافة إلى ظهور كتب ومقالات تتحدث عن كتاب الموافقات وعن المقاصد وعن الشاطبي(2). وأكثرها يظهر في هذا الكتاب من خلال الإحالة عليها أو مناقشتها.
2 ـ الاعتصام. ألفه الشاطبي بعد الموافقات، ولم ينهه، يقع في جزأين، موضوعه البدع، ولم يكتب مثله فيها - والله أعلم - والناس في هذا الموضوع عيال عليه حتى يومنا هذا. تأتي أهمية هذا الكتاب من عدة جهات، منها شموليته لأنواع البدع، ومنها القدرة الهائلة عند الشاطبي على النفاذ إلى أعماق النفس وفهم دوافعها، ومنها العمق والتدقيق الذي يمكن من التمييز بين الأشياء المتشابهة أو المتداخلة، كالتمييز بين المصالح المرسلة والاستحسان، وكتمييز كل منها عن البدع.
__________
(1) المرجع نفسه، 1/57، 58.
(2) رغم كل هذه الطبعات والتعليقات، والكتب والمقالات لم يعثر الباحث على تعليق أو بحث في حقيقة فكرة الشاطبي في المقاصد، أو على جديده وابتكاره في الموضوع.(1/39)
وتظهر جدية الشاطبي في الكتابين المذكورين في دقته وفي توضيحه للمعنى المراد بأي لفظ يستعمله، وفي استقصائه وتفصيله لهذا المعنى، ومن ذلك المراد بالبدعة وتتبعه للفِرق. والمراد بالمباح، ووضعه الضوابط والحدود لما هو ضروري أو حاجي أو تحسيني أو من المكملات، وتوسعه في بيان ما هو رخصة وما هو ليس كذلك.
ويظهر في كتاب الاعتصام، في كثير من المواضع، تطبيقه لما سبق وقرره من قواعد في الموافقات.
3 ـ كتاب المجالس. وهو شرح لكتاب البيوع من صحيح البخاري. يقول عنه التنبكتي إن فيه من الفوائد والتحقيقات ما لا يعلمه إلا الله سبحانه(1).
4 ـ شرح الخلاصة. وهو كتاب في النحو، شرح فيه ألفية ابن مالك في أربعة أجزاء كبيرة الحجم. قال فيه التنبكتي: "لم يؤلف عليها مثله بحثاً وتحقيقاً فيما أعلم"(2).
5 ـ عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق. قال الدكتور حمادي العبيدي: "هو كتاب كما يدل عنوانه في علم الصرف وفقه اللغة، ولعله شبيه بكتاب الخصائص لابن جني، وقد اتخذه من مراجعه في شرحه لألفية ابن مالك، وتذكر بعض المراجع أن هذا الكتاب ضاع والمؤلف ما يزال على قيد الحياة"(3).
6 ـ أصول النحو. قال الدكتور العبيدي: "هو كتاب في قواعد اللغة من نحو وصرف اقتصر فيه على القواعد الأصلية التي لا غنى عنها، وجعله لطلاب هذا العلم، ويقال إنه ضاع أيضاً"(4).
7 ـ الإفادات والإنشادات. وهو كتاب يذكر فيه مؤلفه بعض الأخبار والأحداث التي حصلت معه أو عرفها مما قد يكون في ذكره فائدة. ويذكر فيه أيضاً بعض الأحداث التي يحصل فيها إنشاد الشعر. هذا الكتاب مطبوع بتحقيق الأستاذ محمد أبو الأجفان.
__________
(1) التنبكتي، نيل الابتهاج، ص: 48.
(2) الموضع نفسه.
(3) حمادي العبيدي، الشاطبي ومقاصد الشريعة، ص: 98.
(4) المرجع نفسه، ص: 99.(1/40)
وقد ظهر أيضاً كتاب اسمه: (فتاوى الشاطبي) وهو ليس من مؤلفاته، وإنما هو من إعداد بعض المحققين جمعوا فيه جملة من فتاوى وآراء الشاطبي المبثوثة في كتابَيِ الموافقات والاعتصام(1).
الفصل الأول
التمهيد لنشوء فكرة
مقاصد الشريعة
ويحتوي على مقدمة وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: القياس.
المبحث الثاني: مسالك العلة وشروطها.
المبحث الثالث: مسلك الإخالة والمناسبة.
الفصل الأول
التمهيد لنشوء فكرة مقاصد الشريعة
مقدمة في نشأة علم أصول الفقه وتطوره:
يُعد الإمام الشافعي - رحمه الله - أول من حَدَّ أصول الاستنباط وضبطها في قواعد عامة وكلية. قال الزركشي: "الشافعي رضي الله عنه أول من صنف في أصول الفقه. صنّف فيه كتاب الرسالة، وكتاب أحكام القرآن، واختلاف الحديث، وإبطال الاستحسان، وكتاب جماع العلم، وكتاب القياس"(2).
وقال الشيخ محمد أبو زهرة: "ولقد كان الشافعي جديراً بأن يكون أول من يدون ضوابط الاستنباط"(3).
وقد كان الفقهاء قبل الشافعي يجتهدون من غير أن يكون بين أيديهم حدود مرسومة للاستنباط، بل كانوا يعتمدون على فهمهم لمعاني النصوص الشرعية وعللها وما تومىء إليه نصوصها ومقاصدها.
__________
(1) أنظر: المرجع نفسه، ص: 99 ـ 100.
(2) أنظر: الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه. 1/7. وانظر: تقي الدين النبهاني، الشخصية الإسلامية 1/364 - 371، ط5، 1418هـ - 1997م - دار الأمة للطباعة والنشر والتوزيع.
(3) محمد أبو زهرة، أصول الفقه، ص:13 - 16.(1/41)
ثم توالت بعد الإمام الشافعي التآليف في هذا العلم، فاختلف معه البعض في الأصول، واختلف معه البعض في تفريعات ومتعلقات بهذه الأصول دون خلاف في الأصول، واتفق معه البعض وتابعوه في أصوله وتفريعاته وما يتعلق بها. والمراد بالأصول هنا مصادر التشريع أو أدلته الإجمالية وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس. يقول الشيخ محمد أبو زهرة: "وفي الحق إن فقهاء المذاهب الأربعة لم يخالفوا الشافعي في الأدلة التي قررها وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وهذه الأصول مجمع عليها، والزيادة عليها موضع خلاف بينه وبين أكثرهم"(1).
أما الذين خالفوه فهم الظاهرية والشيعة، فالظاهرية يرفضون القياس كله(2)، ولا يعتمدون إلا على ظاهر النصوص، والشيعة خالفوا مخالفةً كبيرة فجعلوا أقوال الأئمة دليلاً شرعياً كالكتاب والسنة. وكلام الأئمة عندهم مخصص للنصوص الشرعية(3).
أما الأحناف والمالكية والحنابلة فإن أصولهم تتفق مع أصول الشافعي مع اختلاف في التفصيلات(4)، وأما الذين ساروا على نهج الشافعي في أصوله وتفصيلاته، واحتضنوا آراءه فهم أتباعه الذين نشطوا في علم أصول الفقه وأكثروا من التأليف فيه.
__________
(1) المصدر نفسه، ص:17.
(2) أنظر: ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، 8/515، تأليف أبي محمد علي بن أحمد ابن علي بن حزم الظاهري. 384 هـ - 456 هـ. دار الكتب العلمية. بيروت. ط1.
(3) أنظر: تقي الدين النبهاني، الشخصية الإسلامية. 1/369 - 370.
(4) المرجع نفسه، ص: 367 - 368، ومحمد أبو زهرة، أصول الفقه. ص: 16.(1/42)
وقد ألفت على طريقة الشافعي قي أصول الفقه كتب كانت ولا زالت عماد هذا العلم ودعامته. وأعظم ما عرف للأقدمين ثلاثة كتب هي (المعتمد) لأبي الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي المتوفى سنة 436 هـ. وثانيها كتاب (البرهان) لعبد الملك بن عبدالله الجويني المتوفى سنة 478 هـ. وثالثها كتاب (المستصفى) لأبي حامد الغزالي المتوفى سنة 505 هـ. ثم جاء بعدهم أبو الحسين علي المعروف بالآمدي المتوفى سنة 631 هـ. فجمع هذه الكتب وزاد عليها قي كتابه (الإحكام في أصول الأحكام)، ومثله فعل الإمام فخر الدين الرازي المتوفى سنه 606 هـ. فجمع هذه الكتب وزاد عليها في كتابه (المحصول). وجاء بعد هؤلاء الزركشي المتوفى سنة 784 هـ. وقد اجتمعت لديه هذه الكتب المذكورة أعلاه وغيرها من مصنفات الأقدمين ما يربو على المائتين(1) فجمع هذه الكتب وزاد عليها في كتابه (البحر المحيط في أصول الفقه).
ومن أعظم كتب الأصول عند الحنفية (أصول البزدوي) لفخر الإسلام علي ابن محمد البزودي المتوفى سنة 482 هـ و(أصول السرخسي) للإمام أبي بكر محمد ابن أحمد بن أبي سهل السرخسي المتوفى سنة 490 هـ.
وبتطور علم الأصول من الشافعي إلى هؤلاء العلماء فإنه يلاحظ أمران:
الأول: نمو هذا العلم وتشعبه، وظهور التفريعات والتفصيلات والتقييدات والاستثناءات للأصول والقواعد.
الثاني: تأثير علم الكلام والمنطق في هذه التفريعات، وبروز السير المنطقي في إقامة الحجج والأمثلة والاستدلال. فظهر فيها الاتجاه النظري الذي يسعى إلى تقرير القواعد، وإلى تفصيل وتفسير أصول المذهب لنصرته ولو لم يكن لذلك اثر على الاجتهاد والاستنباط(2).
__________
(1) أنظر: الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه. 1/40.
(2) أنظر: مقدمة الدكتور محمد حسن هيتو على تحقيقه لكتاب: (المنخول من تعليقات الأصول) لحجة الاسلام الغزالي ص: 1 - 12. دار الفكر، دمشق، ط2، 1400هـ - 1980م.(1/43)
وقد تميز علماء الأصول من الأحناف بأنهم لم يقوموا لنصرة مذهب في الأصول وانما قاموا ينصرون مذهباً في الفروع. ومن هنا قيل بتشعب طرق الأصول إلى طريقتين:
الأولى: طريقة الفقهاء ويقصد بها طريقة الحنفية.
الثانية: طريقة المتكلمين ويقصد بها طريقة الشافعية والمالكية والحنبلية.
ثم نشأ بعد ذلك ما سمي بطريقة المتأخرين والمقصود بها منهج العلماء الذين جمعوا في كتبهم بين الطريقتين. يقول الدكتور محمد حسن هيتو: "وكانت هذه "الرسالة" هي أول كتاب صنِّف في أصول الفقه، ومن ثم توالى الأئمة والعلماء على شرحها والاستضاءة بنورها"(1). ثم يقول: "فألفت فيه المؤلفات، وحررت المصنفات، وتشعبت طرق الباحثين فيه إلى طريقتين:
الطريقة الأولى وهي التي تعرف بطريقة المتكلمين وهم الشافعية والجمهور.
والطريقة الثانية وهي التي تعرف بطريقة الفقهاء وهم الحنفية"(2).
ثم قال: "طريقة المتكلمين: وهذه كانت تهتم بتحرير المسائل، وتقرير القواعد وتميل إلى الاستدلال العقلي ما أمكن مجرِّدة للمسائل الأصولية عن الفروع الفقهية، شأنها في ذلك شأن علماء الكلام"(3). ثم قال: طريقة الفقهاء: وهي أَمَسُّ بالفقه وأليق بالفروع الفقهية، تقرر القواعد الأصولية على مقتضى ما نُقل من الفروع عن أئمتهم، زاعمةً أنها هي القواعد التي لاحظها أولئك الأئمة عندما فرعوا تلك الفروع.."(4). وبعد ذلك يذكر الدكتور هيتو بعض أهم الكتب التي جمعت بين الطريقتين، وذلك كَ(جمع الجوامع) للإمام تاج الدين السبكي، و(مُسَلَّم الثبوت) للعلامة محب الدين بن عبد الشكور(5).
__________
(1) المرجع نفسه، ص6.
(2) الموضع نفسه.
(3) الموضع نفسه.
(4) المرجع نفسه ص7.
(5) أنظر: المرجع نفسه، ص12.(1/44)
ولم تكن طريقة المتأخرين - فيما أرى - إلا تأثراً من أتباع طريقة الفقهاء بطريقة المتكلمين، من خلال اعتماد قواعد المنطق وعلم الكلام في المباحث الأصولية. فلم تكن طريقة ثالثة بقدر ما كانت انجراراً إلى الوسائل المنطقية والكلامية في المجادلات والردود، وبقدر ما كانت محاولات للإحاطة بمختلف الأقوال المتفقة والمتقاربة والمتعارضة في كتب جامعة، في عصور لم يعرف علم أصول الفقه فيها إبداعاً إلا في الجمع والشرح والاختصار والتحشية والترتيب والتبويب، وظل الحال فيها جامداً إلى أن جاء الشاطبي ونظر في هذا الإرث الكبير وقام بمحاولته الإصلاحية التوفيقية بين الطريقتين، طريقة الفقهاء وطريقة المتكلمين.
وأكثر ما يظهر فيه هذا الاختلاف بين الطريقتين في مباحثِ أصول الفقه، هو مباحثُ القياس والتعليل ومسالك العلة.
وسيتجلى هذا الاختلاف بوضوح في الفصلين الأول والثاني من هذا الكتاب. كما سيظهر كيف انبثقت - نتيجة هذا الاختلاف - فكرة مقاصد الشريعة على يد الإمام الجويني - رحمه الله - ثم صارت بعد ذلك جزءاً من مباحث علم أصول الفقه.
و تقوم فكرة مقاصد الشريعة على أن الشريعة إنما وضعت لأجل مصالح العباد في الدارين، الدنيا والآخرة. ومصالح الآخرة هي نوال رضا الرحمن والفوز بالنعيم والجنان والنجاة من العذاب والنيران.
أما مصالح الدنيا فهي ما يسعى الإنسان لتحصيله أو المحافظة عليه أو لدرئه واتقائه لأجل عيشه وذلك بحسب ما خلق الله فيه وقدر من خصائص وحاجات.
وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن مصالح الدنيا ترجع إلى خمسة أمور هي بمثابة الأصول أو الضروريّات التي ترجع إليها كل المصالح وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وأحكام الشريعة تؤدي إلى حفظ هذه المصالح.(1/45)
ولما كانت هذه المصالح نتائج للشريعة أو مقصودة بها، فقد ذهب بعض العلماء إلى أن هذه المصالح هي علل للشريعة. وذهب غيرهم إلى أنها مقاصد وليست عللاً. وكان لهذا الاختلاف أثره في الأبحاث الأصولية عند أئمة أصول الفقه، كما كان له أثره في فكرة مقاصد الشريعة عند الإمام أبي أسحق الشاطبي.
لقد ذهب الشاطبي - رحمه الله - إلى أن مقاصد الشريعة هي عللها، إلا أن ثبوت كون المقصد مقصداً شرعياً يحتاج إلى دليل شرعي. وقد كان للشاطبي منهج في هذا الأمر تميز به عن سابقيه، سعى من خلاله إلى التوفيق بين المختلفين، ومن هنا جاء اسم كتابه: الموافقات.
ولأجل الوقوف على حقيقة هذا الاختلاف في مسألة التعليل بالمصلحة، وعلى الاختلاف في كيف تُعدُّ المصلحة مصلحةً شرعية، أو المقصد مقصداً شرعياً وبالتالي كيف يُعَدُّ الوصف أو المعنى علة، لأجل ذلك لزم بيان معنى العلة في الشرع وكيف تثبت، وشروطها ومسالكها.
وتعليل الحكم الشرعي بمصلحة يرى المجتهد أنها مقصودة بالحكم هو تعليل بمعنىً أو وصف يراه مناسباً أو صالحاً ليكون مقصوداً للشارع. ومن هنا برز الاختلاف بين الأئمة في مسألة التعليل بالوصف المناسب. فهل كون الوصف مناسباً دليل على كونه علة، أي هل المناسبة مسلك من مسالك العلة؟ والجواب على هذا السؤال هو أصل اختلاف الآراء بين الأئمة.
لذلك لزم أيضاً معرفة معنى المناسبة، وهل هي دليل على العلة؟ أو هي شرط لها؟ أو لا هذا ولا ذاك؟ وما الفرق بين الأمرين؟
وكون الوصف مناسباً ليكون علة للحكم أو مقصداً قصده الشارع به يختلف باختلاف النظار والمجتهدين. فما يدعيه مجتهدٌ أنه مناسب قد يعارضه آخر فيقول إنه ليس مناسباً. وهذا بناءً على اختلاف أفهام الناس ومداركهم وعقولهم. لذلك كان لا بد من ضابط شرعي للدلالة على كون الوصف مناسباً أو غير مناسب.(1/46)
وادعاء مناسبة الوصف بدون دليل شرعي على مناسبته هو مجرد تَخَيُّل. لذلك أُطلق على المناسبة اسم الإخالة. وقال عنه البعض إنه خيال باطن، أي إنه شعور داخلي خاص بالشخص وهذا ليس دليلاً شرعياً. وسيتبين هذا في موضعه لاحقاً.
وإذا ثبت بَعْدَ النظر الشرعي أن الوصف المناسب عقلاً أو خيالاً وصفٌ مردود شرعاً فحينئذٍ يسقط ويُسمّى مُلغىً. وإذا ثبت أنه مقبول شرعاً، حينئذٍ يُسمّى معتبراً، أي يثبت أنه معتبر شرعاً.
إلا أن كيفية ثبوت الاعتبار للوصف أو المعنى ليكون مناسباً معتبراً ولكي يصلح للتعليل، وبتعبير آخر ليكون مصلحةً معتبرة شرعاً لتعليل الحكم بها، هذه الكيفية ظلت موضع تنازع بين العلماء. والاختلاف في المناسبة كمسلك للتعليل هو في حقيقته اختلاف في كيفية اعتبار الوصف. فإن كان معنى الاعتبار هو أن يدل الدليل الشرعي على أمر ما فيكون شرعياً بناء على ذلك فهذا لا خلاف فيه. أما الاعتبار المختلف فيه والذي هو لب الاختلاف فهو بمعنى أن يأتي الحكم موافقاً لمصلحة ما أو لوصفٍ مناسب فَيُدَّعَى علة. لذلك لزم لأجل فهم فكرة التعليل بالمصلحة وفكرة المقاصد عند الشاطبي بيان معنى الاعتبار أو معنى موافقة الحكم للوصف المناسب في المصطلح الأصولي. خاصة وأن الشاطبي جاء ليقف بين الفريقين، فيؤكد فكرة التعليل بالمناسب المعتبر بعد أن يضع له شروطاً قد تجعله مقبولاً لدى الرادين للتعليل به. وهذا ما سيتبيّن بالتفصيل عند الحديث عن منهجه.
إن الرادين للتعليل بالوصف المناسب يعتمدون على أن التعليل يحتاج إلى دليل، فالوصف لا يثبت علة إلا إذا جاء في أحد المسالك الشرعية للعلة، وهذا ليس موضع خلاف. ولكنهم يرون أن المناسبة ليست مسلكاً للعلة، أي ليست دليلاً عليها وإنما هي شرط لها. والوصف المناسب إن لم يدل دليل شرعي على اعتباره أو إلغائه فهو مرسل ولا حجة فيه.(1/47)
أما المعللون بالوصف المناسب فيعتمدون على أن المناسبة بحد ذاتها مسلك للعلة. فكون الوصف مناسباً دليلٌ على عليته بشرط أن لا يدل دليل على أنه ملغى. ولأن هذا القول بحاجة إلى دليل، فقد عمد أصحابه إلى إثبات أن الأصل في الأحكام التعليل، وإلى جعل هذا القول قاعدةً أصولية. فإذا دل دليل شرعي على عِلِّيَّة وصف ما فهو العلة. وإذا لم نجد دليلاً على ذلك، فحينئذٍ يلزم التعليل بوصف ما وإن لم يأتِ في مسلك، وذلك بناءً على تلك القاعدة. فعدم التعليل مخالفٌ للأصل. ومن هنا تأتي شرعية التعليل بالوصف المناسب وتصبح إلاخالة والمناسبة مسلكاً للعلة.
وهنا انتقل الخلاف إلى خلاف في هذه القاعدة، حيث أخذ بها وبنى عليها المعللون بالمناسب المعتبر. وردها الرادون للتعليل بالمناسب وردوا الاعتبار الذي قال به المعللون.
ومن هنا جاء الشاطبي ليثبت أصل التعليل إثباتاً قطعياً، وليضع منهجاً جديداً لكيفية اعتبار الوصف، وبالتالي لكيفية عدِّ الوصف مقصداً وعلة. وذلك هو منهج الاستقراء المفيد للقطع - عنده - وسيتبين موثقاً ومفصَّلاً في موضعه.(1/48)
أضف إلى ذلك مسألةً أخرى، وهي أن عَدَّ وصفٍ ما مصلحة وبالتالي مقصداً شرعياً وعلةً للتشريع إنما هو لأجل بناء التشريع على ذلك، والعلة هي أحد أركان القياس، والقياس له أركان أخرى منها الأصل، أي الحكم الشرعي المعلل. فوجود الحكم ووجود علته يؤدي إلى إعطاء الحكم نفسه لواقعة أخرى ليس فيها نص وذلك بناء على تلك العلة أو المصلحة. ولكن في مسألة التعليل بالمصلحة، قد يرى القائلون بالمصلحة مصالح أو مفاسد في وقائع معينة تحتاج إلى حكم، ولكن من غير أن يجدوا أصلاً أو حكماً يقاس عليه. فإعطاء الحكم هنا بناء على المصلحة أو المفسدة الموجودة في الواقعة من غير وجدان أصل يقاس عليه، هل هو من قبيل القياس أو هو شيء آخر؟ إن وجود الأصل ركن من أركان القياس وعدم وجوده مبطل لعملية القياس. وهذه مسألة أخرى وقفت عائقاً أمام الذين يقولون بالتعليل بالمصالح. وهنا نشأ اختلاف بين المعللين بالمصالح فمنهم من سمى هذا الأمر قياساً بناء على أن المصلحة المعينة إن لم يكن لها أصل يقاس عليه فهناك أصول لجنس المصلحة. ومنهم من لم يعدَّ هذا الأمر قياساً وإنما سمَّوه: الاستدلال. وسيتبين هذا الأمر أيضاً بالتفصيل في موضعه.
والغالب عند الأصوليين أن هذا ليس قياساً وإنما هو استدلال، وبوجه أخص هو استصلاح أو مصلحة مرسلة. ولفظ الاستدلال أعم من المصالح المرسلة إذ يطلق أيضاً على الاستحسان والاستصحاب وغيرهما مما ليس فيه دليل خاص أو مباشر على المسألة، وإنما يَعتمد على قاعدة ليست خاصة بالمسألة مثلما يعتمد المعللون بالمناسب على قاعدة الأصل في الأحكام التعليل، ومثلما يُعتمد أيضاً في بعض المسائل الفقهية على قاعدة الاستصحاب.(1/49)
وليس من موضوع هذه المقدمة شرح وبيان هذه المصطلحات الأصولية، التي سيأتي بيانها في تمام هذا الفصل والذي يليه. وإنما المراد منها بيان أنه لأجل استيفاء إدراك فكرة المقاصد عند الشاطبي لا بد من إدراك نشأة فكرة المقاصد عند الأصوليين الذين سبقوه ولا بدَّ من الوقوف على معاني بعض الألفاظ والمصطلحات الأصولية المتعلقة بالقياس ومباحثه. وإذا كان من هذه المصطلحات ما يكفي فيه بعض الإلمام، فإن منها ما يلزم الغوص فيه والتعمق.
لأجل ذلك كان هذا الفصل ليكون مدخلاً إلى فكرة المقاصد عموماً، وبعد ذلك إلى فكرة المقاصد عند الشاطبي خصوصاً. ولذلك كانت أبحاث هذا الفصل للتعريف بالقياس وبالعلة وأركانها وشروطها ومسالكها. وللتفصيل في مسلك المناسبة. وفي معنى موافقة الحكم للمصلحة أو للوصف، وهو الاعتبار وأقسامه. ولبيان معنى الاستدلال ومعنى المصلحة المرسلة. وأثناء ذلك وبعده بيان اختلاف الأصوليين في هذه المسائل مما يوثق ما ذكر آنفاً ويبين كيف نشأت فكرة المقاصد، وكيف جاءت فكرة الشاطبي في المقاصد وبأي شيء كانت جديدة ومختلفة عما سبقها.
المبحث الأول
القياس
مفهوم القياس ومباحثه:
القياس في اللغة التقدير. فيقال قاس الشيء بالشيء إذا قدَّره به، كتقدير المسافة بالأمتار إذا قاسها بها، أو الوزن بالرطل إذا قاسه به. قال في لسان العرب: "قاس الشيء بالشيء يقيسه قيساً وقياساً واقتاسه وقيَّسه إذا قدَّره على مثاله"(1)، وقال: "وقاس الشيء يقوسه قوساً لغة في قاسه يقيسه. ويقال قِسته وقُسته أقوسه قوساً وقياساً"(2)، وقال: "ويقال: قايست بين شيئيين إذا قادرت بينهما"(3).
__________
(1) ابن منظور، لسان العرب 6/187، دار صادر، بيروت
(2) الموضع نفسه.
(3) الموضع نفسه.(1/50)
أما في الاصطلاح الشرعي فقد ذكر في تعريف القياس عبارات كثيرة من أشهرها قول أبي الحسين البصري: "القياس تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد"(1).
وقد ذكر الآمدي تعريف القاضي أبي بكر الباقلاني: "القياس حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما"(2).
وهذه التعريفات وغيرها لم يسلم أيٌّ منها من الاعتراض وسهام النقد. وقد ذكر بعض أئمة الأصول من الشافعية أن أسدَّها هو تعريف القاضي المذكور أعلاه. قال الزركشي(3): "واختاره المحققون منا"(4).
غير أن الآمدي ذكر تعريفاً للقياس بأنه: "عبارة عن الاستواء بين الفرع والأصل في العلة المستنبطة من حكم الأصل"(5)، وعقَّب قائلاً: "وهذه العبارة جامعة مانعة وافية بالغرض لغيرها"(6).
__________
(1) أبو الحسين البصري، المعتزلي، المعتمد في أصول الفقه، 2/195، تقديم الشيخ خليل الميس، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1403هـ - 1983م.
(2) الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام 3/167. دار الكتب العلمية، بيروت، تحقيق الشيخ إبراهيم العجوز.
(3) الزركشي: هو محمد بن عبد الله بدر الدين الزركشي، مصري المولد والوفاة 745 - 794هـ. دفن بالقرافة الصغرى. أصله من الأتراك، ينتسب إلى مذهب الشافعي، لقب بالزركشي لأنه تعلم الزركش في صغره، ولقب أيضاً بالمنهاجي لأنه حفظ منهاج الطالبين للإمام النووي. أنظر في ترجمته: مقدمة التحقيق لكتابه المذكور، ج 1.
(4) الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه 4/6، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1421 هـ - 2000م، تحقيق الدكتور محمد محمد تامر.
(5) الآمدي، الإحكام 3/171.
(6) الموضع نفسه.(1/51)
وتتشعب مباحث القياس في أمهات كتب الأصول إلى إثباته كأصل ومصدر من مصادر التشريع، ثم الرد على منكريه ودحض حججهم وشبههم، ثم تعريفه وتقاسيمه وبيان أركانه، وتفصيل البحث في كل ركن من هذه الأركان من حيث شروطه وصحة اعتباره. ومن أهم مباحثه العلة وشروطها ومسالكها وإثباتها والاعتراضات الواردة عليها. يقول الجويني(1): "القياس مناط الاجتهاد وأصل الرأي ومنه يتشعب الفقه وأساليب الشريعة... ومن عرف مآخذه وتقاسيمه وصحيحه وفاسده وما يصح من الاعتراضات عليها وما يفسد منها، وأحاط بمراتبها جلاءً وخفاءً وعرف مجاريها ومواقعها فقد احتوى على مجامع الفقه"(2).
والقياس أنواع بحسب جلائه أو خفائه، أو بحسب نوع علته من حيث دليلها أو مسلكها إن كان نصاً، أو تنبيهاً وإيماءً، أو استنباطاً.
حجيَّته:
يعد القياس من مصادر التشريع المتفق عليها وإن أنكره البعض. قال الزركشي: "قال صاحب (القواطع): ذهب كافة الأئمة من الصحابة والتابعين وجمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أن القياس الشرعي أصل من أصول الشرع يستدل به على الأحكام التي لم يرد بها السمع"(3).
__________
(1) الجويني: هو الإمام عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن عبد الله بن حيويه الجويني النيسابوري أبو المعالي، وقد لقب بإمام الحرمين، شافعي المذهب. 417 - 478هـ، وردت ترجمته في مصادر عديدة. أنظر: توطئة المحقق لكتاب البرهان، ص: 23 - 35 بإحالته على: وفيات الأعيان 2/341، وطبقات الشافعية 5/165.
(2) أنظر: الجويني، البرهان في أصول الفقه 2/485، فقرة: 676 - 677، تحقيق: عبد العظيم محمود الديب، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، المنصورة، ط3، 1412هـ - 1992م.
(3) الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه 4/14.(1/52)
والمنكرون له قالوا ببعض أنواعه، ولكن لم يعدوها قياساً. قال الزركشي: "وقال أبو بكر الصيرفي في أصوله: والمنكرون للقياس كأنهم أنكروا التسمية وإلا فهم يعترفون به"(1).
وقال الشوكاني: "ثم اعلم أن نفاة القياس لم يقولوا بإهدار كل ما يسمى قياساً وإن كان منصوصاً على علّته أو مقطوعاً فيه بنفي الفارق، بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلولاً عليه بدليل الأصل مشمولاً به مندرجاً تحته"(2).
وقال الآمدي: "وبه قال السلف من الصحابة والتابعين والشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وأكثر الفقهاء المتكلمين، وقالت الشيعة والنظام وجماعة من معتزلة بغداد كيحيى الإسكافي وجعفر بن مبشِّر وجعفر بن حرب بإحالة ورود التعبد به عقلاً"(3). كما أنكره الظاهرية وعبر عن هذا الاتجاه بوضوح ابن حزم في كتابه: (الإحكام في أصول الأحكام) في الجزء الثامن منه(4).
__________
(1) المصدر نفسه، ص 17.
(2) أنظر: الشوكاني محمد بن علي بن محمد، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، ص: 204، دار الفكر ـ بيروت.
(3) أنظر: الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، 3/272.
(4) ومما قاله الشيخ تقي الدين النبهاني في هذا الشأن: "أما الظاهرية فإنهم يرفضون القياس كله ولا يعتمدون إلا على ظاهر النصوص. حتى إن ما يُسمَّى بالقياس الجلي لا يعتبرونه من القياس، وإنما يعتبرونه نصاً. واعتبارهم للنص اعتبار لظاهر النص ليس غير. وإمام هذا المذهب هو أبو سليمان داود بن خلف الأصفهاني المتوفى سنة 270 هجرية، وكان من الشافعية وتلقى علومه على أصحاب الشافعي، ثم ترك مذهب الشافعي، واختار لنفسه مذهباً خاصاً لا يعتمد فيه إلا على النص، وسمي بالمذهب الظاهري. ومنهم الإمام ابن حزم وقد روَّج له بعض الناس وأعطوا صورة مشرقة عنه حتى صار إقبال على كتبه، مع أنها دون كتب الفقه والأصول الأخرى من حيث البحث الفقهي ووجه الاستدلال" أنظر: الشخصية الإسلامية، 1/369.(1/53)
وقد احتج مثبتو القياس بأدلة من القرآن والسنة وبإجماع الصحابة على حجية القياس وعلى كونه مصدراً من مصادر التشريع، وهي مبثوثة في أمهات كتب الأصول وليس من موضوعنا التعرض لها(1).
أركان القياس:
وله أركان لا يصح إلا بها، هي الأصل المقيس عليه، وحكم الأصل الذي دل عليه الشرع والفرع الذي يقاس على الأصل، وعلة حكم الأصل التي هي وصف موجود في الأصل وبوجودها في الفرع يمكن تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع.
قال الآمدي: "وإذا عُرِفَ معنى القياس فهو يشتمل على أربعة أركان: الأصل والفرع وحكم الأصل والوصف الجامع"(2). فلا بد من توفر الأركان الأربعة حتى يصح القياس. وقال الزركشي: "الأصل والفرع والعلة وحكم الأصل ولا بد من ذكر هذه الأربعة في القياس"(3).
شروطه:
وله شروط لا يصح إلا بها، وشروطه هي شروط أركانه. وليس الغرض هنا تفصيل مباحث القياس، وإنما ذكر بعض هذه الشروط كأمثلة على هذه المباحث، وزيادة التفصيل في العلة وشروطها التي تمس الحاجة إليها في البحث.
فمن شروط الأصل - مثلاً - أن لا يكون مقيساً على غيره، أي أن لا يكون فرعاً في قياسٍ آخر. فإذا كان فرعاً فهو ليس أولى من أصله بالقياس عليه(4).
ومن شروط الفرع أن تكون العلة الموجودة فيه مشاركة لعلة الأصل، وإلا فلا يمكن تعدية حكم الأصل إلى الفرع(5).
ومن شروطه أن لا يكون حكمه منصوصاً عليه، إذ لا قياس في حكم مع ورود النص فيه(6).
__________
(1) أنظر مثلاً: البرهان للجويني، ج 2، الإحكام للآمدي ج 3، البحر المحيط للزركشي، ج 4، المحصول للرازي ج 5، وغيرها.
(2) الآمدي، الإحكام 3/171.
(3) الزركشي، البحر المحيط 4/67.
(4) الآمدي، الإحكام 3/174 وقد ذكر الآمدي هذا الشرط ضمن شروط حكم الأصل.
(5) المصدر نفسه، ص 219.
(6) المصدر نفسه، ص 221.(1/54)
ومن شروط حكم الأصل أن يكون حكماً شرعياً لأن الغرض من القياس على الأصل هو معرفة الحكم الشرعي(1)، ولأن الموضوع هو القياس الشرعي وليس القياس المنطقي أو العقلي، لأن هذا الأخير هو أحد وسائل المعرفة في العقليات، وهو ليس طريقاً لمعرفة حكم الشرع لا علماً ولا ظناً. والمبحوث عنه هو حكم الله تعالى، وهذا لا طريق إليه إلا الأدلة النقلية.
ومن شروطه أن يكون دليل ثبوت حكم الأصل دليلاً شرعياً(2).
ومن شروطه أيضاً أن لا يكون معدولاً به عن سنن القياس وذلك كأعداد الركعات وتقدير نصب الزكوات ومقادير الحدود والكفارات فإنها غير معقولة المعنى، ومثل قبول شهادة خزيمة وحده فإنه مستثنى من القاعدة(3)، وكذلك مثل رخص السفر والمسح على الخفين(4).
ومن شروطه أيضاً ثبوت العلة فيه بأحد الأدلة الدالة عليها، وهي ما يسمى مسالك العلة(5).
أما شروط العلة فسنتعرض لها في المبحث الثاني من هذا الفصل.
العلة:
__________
(1) الآمدي، الإحكام، ص 173.
(2) المصدر نفسه، ص 174.
(3) قال الإمام جلال الدين السيوطي في كتاب (الإتقان في علوم القرآن): "أخرج ابن أشتة في المصاحف عن الليث بن سعد قال: أول من جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد وكان الناس يأتون زيد بن ثابت فكان لا يكتب آية إلا بشاهدي عدل وإن آخر سورة براءة لم توجد ألا مع خزيمة بن أبي ثابت فقال: اكتبوها فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل شهادته بشهادة رجلين، فكتب" 1/60، دار الفكر ـ بيروت.
(4) أنظر الآمدي، الإحكام 3/175 - 176، ولمزيد من التفصيل في هذه الشروط أنظر: الإحكام للآمدي، ج 3، والمحصول للرازي، ج 5، والمستصفى للغزالي، ج 2، وإرشاد الفحول للشوكاني، والبحر المحيط للزركشي، ج 4.
(5) أنظر: الهامش السابق.(1/55)
العلة ركن من أركان القياس فلا يصح إلا بها. وهي الوصف الجامع بين الأصل والفرع والذي يمكن من تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع. قال الزركشي: "العلة: وهي شرط في صحة القياس للجمع بها بين الأصل والفرع"(1)، وقال: "وذهب جمهور القياسين من الفقهاء والمتكلمين إلى أن العلة لا بد منها في القياس وهي ركن في القياس لا يقوم القياس إلا بها"(2). وهذه هي العلة الشرعية. ولفظ العلة لفظ مشترك بين العلة العقلية والعلة الشرعية، ولها دلالات لغوية واصطلاحية.
أما في اللغة فقد جاء في لسان العرب: "العلُّ والعَلَل: الشربة الثانية، وقيل: الشرب بعد الشرب تباعاً، يقال: علل بعد نهل"(3)، وجاء أيضاً: "علَّ الرجل يَعِلُّ من المرض، وعلَّ يعلُّ من علل الشراب"(4).
وقال الزركشي: "والعلة في اللغة قيل: هي اسم لما يتغير حكم الشيء بحصوله مأخوذ من العلة التي هي المرض لأن تأثيرها في الحكم كأثر العلة في ذات المريض"(5)، وقال: "وقيل: لأنها ناقلة بحكم الأصل إلى الفرع كالانتقال بالعلة من الصحة إلى المرض"(6). وقال: "وقيل: إنها مأخوذة من العلل بعد النهل، وهو معاودة الماء للشرب مرة بعد مرة لأن المجتهد في استخراجها يعاود النظر بعد النظر، ولأن الحكم يتكرر بتكرار وجودها"(7).
وأما في الاصطلاح الشرعي، أي علة القياس الشرعي ففيها خمسة أقوال:
"أحدها: أنها المعرِّف للحكم، أي جعلت علماً على الحكم إن وجد المعنى وجد الحكم"(8).
"الثاني: أنها الموجب للحكم على معنى أن الشارع جعلها موجبةً لذاتها"(9).
__________
(1) الزركشي، البحر المحيط 4/101.
(2) الزركشي، البحر المحيط 4/101.
(3) ابن منظور، لسان العرب 11/467.
(4) الموضع نفسه.
(5) الزركشي، البحر المحيط 4/101.
(6) الموضع نفسه.
(7) الموضع نفسه.
(8) الموضع نفسه.
(9) المصدر نفسه، 4/102(1/56)
"الثالث: أنها الموجبة للحكم بذاتها لا بجعل الله، وهو قول المعتزلة بناءً على قاعدتهم في التحسين والتقبيح العقلي"(1).
"الرابع: أنها الموجبة بالعادة واختاره الإمام فخر الدين الرازي"(2).
والقول الخامس إنها: "الباعث على التشريع بمعنى أنه لا بد أن يكون الوصف مشتملاً على مصلحة صالحةٍ أن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم"(3).
أما القول الأول: وهو أنها المعرف أي علامة على الحكم فلا شك أن العلة معرف للحكم وعلامة عليه، إذ هي وصف موجود في الأصل ولكن هذا ليس كافياً للتعريف أو للإعمال، وسيتبين عند ذكر شروط العلة أن العلة التي هي ركن في القياس لا يكفي فيها أن تكون علامة أو أمارة مجردة، فلا بد من أن يكون في هذه العلامة أو الأمارة أو الوصف ما يجعلها صالحة للتعليل أو مشعرة به. فعلى سبيل المثال: رائحة الخمر علامة عليه ولكنها لا تصلح للتعليل بها، بخلاف الإسكار إذ فيه شيء إضافي يجعله صالحاً للتعليل به، إذا توفرت له سائر شروط العلة.
فالآمدي - على سبيل المثال - يستعمل لفظ الأمارة في العلة، ولكنه لا يقصد الأمارة المجردة. يقول: "العلة العقلية مقتضية للحكم بذاتها لا بوضع، بخلاف العلة الشرعية فإنها بمعنى الأمارة والعلامة أو بمعنى الباعث"(4). ويقول: "اختلفوا في جواز كون العلة في الأصل بمعنى الأمارة المجردة والمختار أنه لا بد وأن تكون العلة في الأصل بمعنى الباعث أي مشتملةً على حكمةٍ صالحةٍ أن تكون مقصودةً للشارع من شرع الحكم، وإلا فلو كانت وصفاً طردياً لا حكمة فيه بل أمارة مجردة فالتعليل بها في الأصل ممتنع"(5).
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) الزركشي، البحر المحيط، 4/102.
(3) الموضع نفسه، ومعنى المصلحة الصالحة هو أن يكون الوصف مناسباً مشعراً بالتعليل.
(4) الآمدي، الإحكام 4/283 - 284.
(5) الموضع نفسه، 3/180.(1/57)
وأما القول الثاني: وهو أنها الموجب لذاتها على معنى أن الشارع جعلها موجبة لذاتها، فلا أراه يختلف عن معنى الباعث. فالقول إن الشارع جعلها موجبة يعني أنها جاءت في مسلك شرعي أو دل عليها دليل شرعي، والقول إنها الموجب لذاتها، يعني: أنها تشتمل على ما يجعلها صالحة للتعليل. وهومعنى الباعث نفسه كما عُرِّف. وحيثما ورد في كلام الأئمة أنها بهذا المعنى تكون أمارة، فالمقصود أنها أمارة باستعمال الكلاميين وليس الفقهاء، إذ المعلوم أن الأدلة الشرعية من نصوص القرآن والسنة هي عند الكلاميين والأصوليين أمارات على الأحكام، بينما هي عند الفقهاء أدلة عليها. وبهذا المعنى قول الآمدي: "العلة العقلية مقتضية للحكم بذاتها لا بوضع، بخلاف الشرعية فإنها بمعنى الأمارة والعلامة أو بمعنى الباعث"(1). وقال الزركشي: "وهي تنقسم إلى عقلية: وهي لا تصير علة بجعل جاعل بل بنفسها وهي موجبة لا تتغير بالأزمان كحركة المتحرك، وشرعية: وهي التي صارت علة بجعل جاعل"(2). ثم قال: "وإنما تسمى العلل الشرعية علةً مجازاً أو اتساعاً، وإلا ففي الحقيقة العلة ما أوجب الحكم بنفسه، وهي العلة العقلية، وأما التي توجبه بغيرها فليست بعلة في وضع المتكلمين وإنما هي أمارة على الحكم"(3).
وأما القول الثالث: وهو أنها الموجبة للحكم بذاتها لا بجعل الله، فهو قول المعتزلة وهو جارٍ على مذهبهم في التحسين والتقبيح العقلي، وفي أن الله يجب عليه فعل الأصلح وتشريع الأصلح. قال الزركشي: "وتحجر المعتزلة ومن وافقهم من الفقهاء واسعاً فزعموا أن تصرفه تعالى مقيد بالحكمة مضيَّق بوجه المصلحة"(4).
__________
(1) الآمدي،الإحكام، 4/283 - 284.
(2) الزركشي، البحر المحيط 4/103.
(3) الموضع نفسه.
(4) المصدر نفسه، 4/112.(1/58)
وأما القول الرابع: وهو أنها الموجبة بالعادة فهو قول الإمام فخر الدين الرازي في (المحصول) ومفاده أن أفعال الله تعالى وأحكامه لا تعلل وذلك بناء على مقدمات كلامية وبناء على أن التعليل يعني أن الله مُسْتَكْمَلٌ بالغرض، وهذا مردود قطعاً، وعلى ذلك فالعلة عنده لا تصح بمعنى الموجبة لذاتها ولا بمعنى الباعث. ومعنى الموجبة بالعادة هو أن الله أجرى الأشياء هكذا كلما حصل كذا حصل كذا، كأن نقول كلما حصل الأكل حصل الشبع، أو كلما حصل القصاص حصل الحفظ، فوجب الظن بحصول الشبع عند الأكل أو بحصول الحفظ عند القصاص. وهذا الظن ليس من باب التعليل وإنما من باب جريان العادة بذلك. وسيأتي موثقاً في المبحث الثالث من الفصل الثالث.
ويرد هذا الكلام لأن التعليل في القياس ليس بمعنى تعليل أفعال الله بما يتعلق بذاته وإنما هو تعليل للحكم الشرعي بما جعله الشارع علة، قال الزركشي: "واعلم أن مذهب أهل السنة أن أحكامه تعالى غير معللةٍ، بمعنى أنه لا يفعل شيئاً لغرض، ولا يبعثه شيء على فعل شيء، بل هو الله تعالى قادر على إيجاد المصلحة بدون أسبابها وإعدام المضار بدون دوافعها"(1).
وقال أيضاً: "وقال بعض المتأخرين: اشتهر عند المتكلمين أن أحكام الله تعالى لا تعلل، واشتهر عند الفقهاء التعليل وأن العلة بمعنى الباعث، ويتوهم كثير من الناس أنها الباعث للشرع فيتناقض كلام الفقهاء وكلام المتكلمين وليس كذلك ولا تناقض بل المراد أن العلة باعثة على فعل المكلف. مثاله حفظ النفوس فإنه باعث على القصاص الذي هو فعل المكلف المحكوم به من جهة الشرع، فحكم الشرع لا علة له ولا باعث عليه"(2)، ثم قال: "وأجرى الله العادة أن القصاص سبب للحفظ"(3).
__________
(1) الزركشي، البحر المحيط 4/112.
(2) المصدر نفسه، 4/113.
(3) الموضع نفسه.(1/59)
وأما القول الخامس: وهو أنها الباعث على التشريع، فمعناه أن الوصف المعلل به، إضافة إلى كونه أمارة أو علامة على الحكم، فهو ليس علامة مجردة عن أي معنى، فهو يشتمل على مصلحة تصلح أن يكون الشارع قد شرع الحكم لأجلها، والقول بأنها مصلحة تصلح للتعليل لا يعني أنها صارت علة منفردة بذاتها، ولكن يعني أنها صالحة لتكون علة إذا توفرت لها شروطها الأخرى، وأول هذه الشروط أن تأتي في أحد مسالك العلة(1).
هذا هو مفهوم العلة في الاصطلاح الشرعي. ويطلق لفظ العلة في اصطلاح النحويين على ما يسمى علة في اللغة وهو ليس علة في القياس. ومثاله لام التعليل في اللغة فإن العلة التي تليها ليست علة في أصل القياس.
قال الرازي: "إنه تعالى قال: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ } (2)، وبالاتفاق لا يجوز أن يكون ذلك غرضاً... كقول الشاعر: لِدوا للموت وابنوا للخراب، وليست اللام هنا للغرض... قلت: أهل اللغة صرحوا بأن اللام للتعليل وقولهم حجة، وإذا ثبت ذلك وجب القول بأنها مجاز في هذه الصور"(3).
ويطلق لفظ العلة - أحياناً - على بعض المعاني من قبيل المجاز، وهي ليست عللاً في القياس كالسبب والمناط وغيرها. قال الشوكاني: "وللعلة أسماء تختلف باختلاف الاصطلاحات فيقال لها السبب والأمارة والداعي والمستدعي والباعث والحامل والمناط والدليل والمقتضي والموجب والمؤثر وقد ذهب المحققون إلى أنه لا بد من دليل على العلة"(4).
__________
(1) مسالك التعليل: سيأتي بحثها في المبحث التالي.
(2) سورة الأعراف، 179.
(3) فخر الدين الرازي، المحصول في أصول الفقه 5/140، تحقيق: طه جابر العلواني، مؤسسة الرسالة، ط2، 1412هـ - 1992م.
(4) الشوكاني، إرشاد الفحول، ص 207.(1/60)
لذلك لزم لأجل تحرير معنى العلة التي هي ركن في القياس التعريف بالألفاظ التي يكثر استعمالها في كتب الأصول بمعنى العلة أو بلفظ العلة مجازاً، وهي ليست كذلك أصلاً فيتوهم أنها علة القياس خطأ وذلك مثل لفظ السبب ولفظ المناط.
السبب:
قال في لسان العرب: "السبب كل شيء يتوصل به إلى غيره، وفي نسخةٍ، كل شيء يتوسَّل به إلى غيره، وقد تسبب إليه، والجمع أسباب، وكل شيء يتوصل به إلى الشئ فهو سبب، وجعلت فلاناً لي سبباً إلى فلان في حاجتي ووَدَجاً أي وصلةً وذريعة"(1). هذا هو المعنى اللغوي.
أما في الاصطلاح الشرعي، فهو علامة أو أمارة معرِّفة على وجود الحكم الشرعي، قال الزركشي: "وفي الشرع، قال الأكثرون: هو الوصف الظاهر المنضبط الذي دل دليل السمع على كونه معرفاً للحكم الشرعي"(2)، وعقب قائلاً: "كجعل دلوك الشمس معرَّفاً لوجوب الصلاة... كالدلوك للصلاة ورؤية الهلال في رمضان لوجوب الصوم وكالنصاب للزكاة"(3).
وكون السبب معرفاً للحكم الشرعي، يعني أن الحكم يوجد عند وجوده وليس بوجوده، فوجود الشمس في قبة السماء علامة تعرِّف على دخول وقت الظهر وعلى وجود حكم صلاة الظهر وهو الوجوب، ومثل ذلك هلال رمضان، فهو علامة تعرف على دخول شهر رمضان وعلى وجود الحكم الشرعي وهو وجوب الصيام، وكذلك هلال شوال يعرِّف على وجود العيد ووجوب الإفطار، وكذلك وجود النصاب للزكاة فهو علامة على وجود الحكم وهو وجوب الزكاة.
وهذه كلها علامات أو أمارات مجردة ولا تحتوي على معنى معقول أي يصلح للتعليل به، فالشمس في السماء تصلح للتعريف على وجود الحكم ولا تصلح لتعليل حكم الصلاة، وكذلك يقال في سائر الأمثلة.
__________
(1) ابن منظور، لسان العرب 1/458.
(2) الزركشي، البحر المحيط 1/264.
(3) الموضع نفسه.(1/61)
وكون الوصف معرفاً على وجود الحكم، أي كون السبب سبباً، هو أمر شرعي يحتاج إلى دليل من الشرع. لذلك جاء في التعريف: "دل دليل السمع على كونه معرفاً للحكم الشرعي".
والعلة يتوفر لها ما يتوفر للسبب، فهي أيضاً علامة أو أمارة تعرِّف على وجود الحكم، إلا أنها أكثر من ذلك فهي تشتمل على معنى معقول. لذلك تكون العلة سبباً، وليس كل سبب علة. مثال ذلك السرقة، فهي علامة معرِّفة على وجود الحكم وهو وجوب القطع، والزنا علامة معرِّفة على وجود الحكم وهو الجلد أو الرجم. فكانت السرقة سبباً، وكان الزنا سبباً، إلا أن ترتيب العقوبة على الفعل يشتمل على حكمة تصلح للتعليل بها، فلم يكن الوصف علامةً مجردةً عن معنى معقولٍ، فلم يكن مجرد سبب وإنما كان علة(1).
__________
(1) تجدر الإشارة هنا إلى أن السرقة والزنا وسائر الحدود، وإن كانت عللاً فإنها لا يحصل القياس بها لأن العلة هنا ليست وصفاً في المحل الذي جاء الحكم له، أي ليست جزءاً من المحل، وإنما هي المحل كله. فإذا أردنا تعدية حكم السرقة أو الزنا إلى محل آخر (أي إلى فرع) فهو لا يتعدى إلا إلى سرقة أو زنا. والحكم يؤخذ حينئذٍ بعموم النص وليس قياساً. والواقعة التي تعطى الحكم نفسه تكون أصلاً لا فرعاً. وتسمى هذه العلل عللاً قاصرة لأنها لا تتعدى إلى فرع. وإنما سميت عللاً لأنها وجد فيها معنى العلة.(1/62)
لذلك، فالسبب يكون أحياناً علة، إلا أنه يجب التنبيه إلى الفرق بينهما في المصطلح الأصولي، فالسبب يوجد الحكم عنده لا به، أما العلة فيوجد الحكم عندها وبها. وكلاهما يكون كذلك (أي سبباً أو علة) بجعل الشارع له كذلك. وإذا أطلق لفظ العلة على السبب من غير أن يكون علة، أي ركن القياس، فهذا من قبيل المجاز اللغوي وليس من قبيل أنها علة تعلل بها الأحكام، قال الآمدي: "والمختار أنه لا بد أن تكون العلة في الأصل بمعنى الباعث أي مشتملة على حكمةٍ صالحةٍ أن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم، وإلا فلو كانت وصفاً لا حكمة فيه، بل أمارةً مجردة، فالتعليل بها في الأصل ممتنع"(1). وقال: "وما ذكروه من امتناع التعليل بالوصف الطردي إنما يصح لو قيل إن التعليل بالوصف الطردي بمعنى الباعث"(2). والربط بين قولي الآمدي أعلاه يشير إلى أنه يستجيز إطلاق لفظ العلة على الأمارة المجردة وإن لم تكن ركن قياس.
ومما ينبغي التنبيه إليه بعد التفريق بين العلة والسبب في المصطلح الشرعي، هو أن العلة في المصطلح الشرعي هي سبب بالمعنى اللغوي. إذ كون العلة هي الباعث على الحكم أو الموجب للحكم، يعني أنها يتوصل بها إلى الحكم وهو معنى اشتمال الحكم على معنى معقول، أو على معنى صالحٍ لأن يكون مقصوداً للشارع بشرع الحكم(3).
المناط:
المناط في اللغة اسم مكان الإناطة، والإناطة: التعليق، قال في لسان العرب: "ناط الشيء ينوطه نوطاً: علَّقه. والنوط: ما عُلِّق"(4). وقال: "ويقال: نيط عليه الشيء علِّق عليه. قال رقاع بن قيس الأسدي (الطويل):
__________
(1) الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام 3/80.
(2) الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام 3/80.
(3) وانظر في التفريق بين العلة والسبب ما ذكره الزركشي في البحر المحيط 4/104 - 105.
(4) ابن منظور، لسان العرب 7/418.(1/63)
بلادٌ بهَا نِيطَتْ عَلَيَّ تَمائِمِي وَأَوَّلُ أَرْضٍ مَسَّ جِلْدِي تُرَابَهَا"(1)
وقد استعمل لفظ المناط في مباحث أصول الفقه بالمعنى اللغوي نفسه.
قال الشيخ جمال الدين الأسنوي(2): "والمناط اسم مكان الإناطة، والإناطة: التعليق والإلصاق. قال حبيب الطائي:
بلادٌ بهَا نِيطَتْ عَلَيَّ تَمائِمِي وَأَوَّلُ أَرْضٍ مَسَّ جِلْدِي تُرَابَهَا
أي علقت عليَّ الحروز بها. فلما رُبط الحكم بالعلة وعلق عليها سميت مناطاً"(3).
والعلة التي هي ركن القياس ليست هي المناط، ولا المناط هو العلة، ولكن لما ربط الحكم المعلل بعلته وعلق عليها سميت مناطاً، وهي تسمية مجازية، قال الزركشي: "والمناط هو العلة، قال ابن دقيق العيد: وتعبيرهم بالمناط عن العلة من باب المجاز اللغوي، لأن الحكم لما علق بها كان كالشيء المحسوس الذي تعلق بغيره فهو مجاز من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، وصار ذلك في اصطلاح الفقهاء بحيث لا يفهم عند الإطلاق غيره"(4).
__________
(1) الموضع نفسه. وقد نسب البيت المذكور إلى رقاع بن قيس الأسدي، بينما نسبه الشيخ جمال الدين الأسنوي إلى حبيب الطائي كما هو مبين أدناه.
(2) هو: جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن إبراهيم القرشي الأموي الشافعي الأسنوي. شيخ الإسلام وأستاذ الأئمة الأعلام رئيس الشافعية بالديار المصرية. فقيه أصولي عروضي نحوي. ولد بأسنا بلدة بصعيد مصر الأعلى سنة 704هـ وتوفي بالقاهرة سنة 772هـ. وصلي عليه ثلاث مرات لكثرة المشيعين. أنظر: ترجمته في بداية الجزء الأول من نهاية السول في شرح منهاج الأصول، بهامشه شرح نهاية السول للشيخ محمد بخيت المطيعي، عالم الكتب.
(3) الأسنوي: نهاية السول 4/138.
(4) الزركشي، البحر المحيط 4/227.(1/64)
فمناط الحكم بناء على ما سبق هو مُتعلَّق الحكم أي المحل أو الواقع الذي جاء له الحكم. مثلاً: البيع مباح والربا حرام. فكون الفعل بيعاً هو محل الإباحة أو مناط الإباحة في هذا الفعل، وكون الفعل رباً هو محل التحريم أو مناطه. وكذلك الغنم حلال والخنزير حرام، فكون الشيء غنماً هو مناط الإباحة وكونه خنزيراً هو مناط التحريم.
والمناط في الأمثلة المذكورة أعلاه ليس هو العلة، والأحكام المذكورة غير معللة أصلاً.
وفي الأحكام المعللة، لمَّا كان الحكم مرتبطاً بعلته، أطلق لفظ المناط على العلة مجازاً مما قد يوهم بأن العلة هي المناط حقيقة، لذلك لزم هذا التنبيه. وقد اختلف الأصوليون في تعليل الأحكام، فذهب البعض إلى أن الأصل في الأحكام التعليل، وإلى أن التعليل جار في كل الأحكام، إلا أن بعض الأحكام يتوقف فيها عن التعليل بسبب العجز عند المجتهد عن إدراك العلة مثل أعداد الركعات وتقدير الأنصبة والفرائض والكفارات وغيرها. وذهب غيرهم إلى رد هذا التعليل، وقالوا إنه لا يعلل حكم إلا بأن تثبت علته بالأدلة الشرعية(1).
والذين ذهبوا إلى أصل التعليل في الأحكام هم الذين استعملوا لفظ المناط بمعنى العلة، مثال ذلك النص المذكور عن الزركشي آنفاً. وبما أن كل الأحكام لها علل عند هذا الفريق صار مناط الحكم هو علة الحكم عندهم. أي أنه لا بد أن يبحث في مناط الحكم عن وصفٍ فيه مناسبٍ للتعليل، ليربط الحكم به. ويكون هذا الوصف هو علة الحكم ومناطاً له، ومن هنا نشأت عند هذا الفريق تعابير مثل تنقيح المناط وتخريج المناط إضافة إلى تعبير تحقيق المناط.
تحقيق المناط:
__________
(1) هذا الخلاف والجدل فيه سنتعرض له لاحقاً بالتفصيل والتوثيق.(1/65)
قال الآمدي: "ولما كانت العلة متعلق الحكم ومناطه فالنظر والاجتهاد فيه إما في تحقيق المناط أو تنقيحه أو تخريجه. أما تحقيق العلة فهو النظر في معرفة وجود العلة في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها... كما في جهة القبلة فإنها مناط وجوب استقبالها... وكون هذه الجهة هي جهة القبلة في حال الاشتباه فمظنون بالاجتهاد والنظر في الأمارات"(1)، وقال: "كالعدالة فإنها مناط وجود قبول الشهادة... أما كون هذا الشاهد عدلاً فمظنون بالاجتهاد"(2). وقال: "كالشدَّة المطربة فإنها مناط تحريم الشرب في الخمر، فالنظر في معرفتها في النبيذ هو تحقيق المناط"(3).
وعلى ذلك فتحقيق المناط هو عملية التحقق من الواقع هل هو الواقع الذي جاء له الحكم أولا. فالحكم وجوب استقبال القبلة، ومتعلَّق الوجوب هو استقبال القبلة. والتحقق من جهة القبلة هو تحقيق المناط، ومعلوم أن جهة القبلة ليست علة للحكم أي للوجوب. وكذلك وصف العدالة في الشاهد، فالشارع اشترط في الشاهد أن يكون عدلاً، والتحقق من عدالته لأجل قبول شهادته أو ردها هو تحقيق المناط، وكذلك الشدة المطربة إن كانت هي الإسكار، فالإسكار هو مناط التحريم والتحقق من كون الشيء مسكراً أو غير مسكر هو تحقيق المناط.
تنقيح المناط:
قال الآمدي: "وأما تنقيح المناط فهو النظر والاجتهاد في تعيين ما دلَّ النص على كونه علة من غير تعيين، بحذف ما لا مدخل له في الاعتبار مما اقترن به من الأوصاف"(4).
__________
(1) الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام 3/264 - 265.
(2) الموضع نفسه.
(3) الموضع نفسه.
(4) الموضع نفسه.(1/66)
فبما أن مناط الحكم هو الواقع أو المحل الذي جاء له الحكم، وبما أن الأحكام معللة - عند من يقول بأنه الأصل في الأحكام - فلا بد من وصف في المحل يصلح للتعليل به ولأجله جاء الحكم، وتكون سائر الأوصاف الأخرى في المحل لا تأثير لها في الحكم. مثال ذلك: تحريم الخمر. فكون الشيء خمراً هو مناط التحريم. وعلى اعتبار أن الأصل في الأحكام التعليل، فلا بد من علة للحكم هي أحد أوصاف الخمر، أي هي وصف في المناط، فإذا نظرنا إلى أوصاف مثل الميوعة أو اللون أو الرائحة نجد أنها غير مناسبة للتحريم، وإذا نظرنا إلى وصف الإسكار نجده مناسباً للتحريم فيصلح علة - عندهم -.
وعملية إثبات أن الأوصاف الأخرى لا أثر لها في الحكم تسمى تنقيح المناط. وهو معنى نص الآمدي أعلاه. وقال الأسنوي: "تنقيح المناط أي تخليص ما أناط الشارع الحكم به أي ربطه به وعلَّقه عليه وهو العلة"(1).
تخريج المناط:
قال الآمدي: "وأما تخريج المناط فهو النظر والاجتهاد في إثبات علة الحكم الذي دل عليه النص أو الإجماع دون عليته، وذلك كالاجتهاد في إثبات كون الشدة المطربة هي علة لتحريم شراب الخمر"(2).
وقال الزركشي: "وأما تخريج المناط فهو الاجتهاد في استخراج علة الحكم الذي دل النص أو الإجماع عليه من غير تعرض لبيان علته أصلاً"(3). فهو عملية إثبات أو تعيين للوصف الموجود في مناط الحكم والذي هو علة للحكم. وهذا بخلاف التنقيح الذي هو إثبات عدم صلاحية الأوصاف للتعليل ليبقى وصف واحد، فيكون علة من غير إثبات له، ولكن بناء على أن الأصل التعليل بوصف، ولا يوجد سواه فيكون هو العلة.
المبحث الثاني
مسالك العلة وشروطها
تمهيد:
__________
(1) الأسنوي، نهاية السول 4/138. وانظر: الزركشي: البحر المحيط 4/227.
(2) الآمدي، الإحكام 3/265.
(3) الزركشي، البحر المحيط 4/227.(1/67)
العلة وصف جامع بين الأصل والفرع. والأوصاف الجامعة كثيرة. وليس كل وصفٍ جامعٍ صالحاً للتعليل. فلا بد من دليل شرعي لاعتبار الوصف في التعليل. وكذلك فإن المراد بالعلة هو العلة الشرعية. ولا يكون شيء شرعياً إلا إذا جاء في طريق شرعي، أي دلَّ عليه الشرع. وعلى ذلك فالمراد بمسالك العلة هو أدلتها، أي الأدلة الشرعية الدالة على كون الوصف علة. قال الزركشي: "مسالك العلة: أي الطرق الدالة على العلة"(1). وقال: "إعلم أنه لا يُكتفى في القياس بمجرد وجود الجامع في الأصل والفرع. بل لا بد من دليل يشهد له في الاعتبار. والأدلة ثلاثة أنواع: إجماع ونص واستنباط"(2). وقال الشوكاني: "وقد ذهب المحققون إلى أنه لا بدّ من دليل على العلة"(3) وقال أبو الحسين البصري: "طريق العلة الشرعية الشرعُ فقط، إنما قلنا ذلك لأن طريق العلة الشرعية هو كيفية ثبوت حكمها وتأثيرها فيه. نحو أن يثبت حكمها معها في الأصل وينتفي بانتفائها ومعلوم أن ذلك موقوف على الشرع لأن حكمها وكيفية ثبوتها بحسب العلة حاصلان بالشرع فقط"(4).
__________
(1) الزركشي، البحر المحيط، 4/165.
(2) الموضع نفسه.
(3) الشوكاني، إرشاد الفحول. ص:207.
(4) أبو الحسن البصري، المعتمد في أصول الفقه. 3/249.(1/68)
وكذلك قد يأتي الوصف في أحد مسالك التعليل، إلا أنه لا يصلح لتعدية الحكم به، لأنه لا بد للوصف من شروط ليصلح عده علة، أو لتعدية الحكم به(1). فمثلاً: قوله تعالى: { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } (2)، وقوله تعالى: { (#rك‰ygô±uٹد9 مَنَافِعَ لَهُمْ } (3)، اللام في النصين للتعليل، ومسلك التعليل هنا هو النص. إلا أن الأوصاف التي جاءت بعد اللام لا تصلح علة للقياس، فدلوك الشمس في الآية الأولى هو أمارة مجردة، فهو سبب وليس علة لوجوب الصلاة. وشهادة المنافع في الحج نتيجة قد تحصل وقد لا تحصل، ولا تصلح علة لوجوب الحج. فالوصفان في الآيتين ليسا بمعنى الباعث. فكون الوصف باعثاً، أي يشتمل على حكمة صالحة لتكون مقصودة للشارع من تشريع الحكم هو أحد شروط العلة. لذلك فإن العلة وإن جاءت في أحد مسالك التعليل، فإنها لا تعد كذلك حتى تتوفر لها شروط. قال الشوكاني: "ولها أربعة وعشرون شرطاً"(4). وذكر الآمدي تحت عنوان "في شروط علة الأصل" عشرين مسألة(5). وكتب الأصول حافلة بذكرها ومناقشتها.
وفيما يلي ذكر بعض مسالك العلة وشروطها بالقدر الذي يلزم لإدراك فكرة مقاصد الشريعة عند الشاطبي بناءً على ما تبين في مقدمة هذا الفصل من أن مقاصد الشريعة عنده هي عللها.
مسالك العلة:
المسلك الأول: الإجماع. وذلك كإجماع الصحابة على كون الصغر علة لثبوت الولاية على الصغير في ثبوت ولاية النكاح قياسا ً على ولاية المال.(6)
__________
(1) أنظر: الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام. 3/179.
(2) سورة الإسراء، 78.
(3) سورة الحج، 28.
(4) الشوكاني إرشاد الفحول، ص 207. وقد توسع الزركشي في ذكر هذه الشروط الأربعة والعشرين في كتابه البحر المحيط، 4/119 - 140.
(5) أنظر: الآمدي، الإحكام، 3/179.
(6) أنظر: المرجع نفسه، 3/222.(1/69)
المسلك الثاني: النص الصريح(1). وهو أن يذكر دليل من الكتاب والسنة على التعليل بلفظ موضوع له في اللغة من غير احتياج فيه إلى نظرٍ واستدلال. وهو قسمان:
القسم الأوَّل: ما صُرِّح فيه بكون الوصف علةً للحكم، وذلك كأن يذكر صراحةً أن علة الحكم كذا، أو أن سبب تشريعه كذا(2)، أو أن يذكر صراحةً ما يفيد ذلك بحسب وضع اللغة كقوله - صلى الله عليه وسلم - : "كنت نهيتكم عن ادِّخار لحوم الأضاحي لأجل الدافَّة".(3) وكقوله - صلى الله عليه وسلم - : "إنما جعل الاستئذان من أجل البصر"(4). وكقوله تعالى: { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) } (5). فاللفظ (لأجل كذا) أو (من أجل كذا) صريح في ذكر العلة.
__________
(1) أنظر: الموضع نفسه.
(2) أنظر: الآمدي، الإحكام، 3/222.
(3) رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها في كتاب الأضاحي، باب ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي، (3643)، وأبو داود (2429)، والنسائي (4355)، ومالك في الموطأ (918)، وأحمد في المسند (23115).
(4) رواه البخاري (5772)، والترمذي (2633)، وأحمد (21737).
(5) سورة المائدة، 32.(1/70)
القسم الثاني: ما ورد فيه حرف من حروف التعليل كاللام وكي وإن والباء. فاللام، كقوله تعالى: { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } (1). وذلك يدل على التعليل بالوصف الذي دخلت عليه اللام لتصريح أهل اللغة بأنها للتعليل. وأما (كي) فكقوله تعالى: { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } (2). وأما (إن) فكقوله - صلى الله عليه وسلم - في قتلى أحد: "زملِّوهم بكلومهم فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً، اللون لون الدم والريح ريح المسك"(3). وأما (الباء) فكقوله تعالى: { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (4).
قال الآمدي: "فهذه هي الصيغ الصريحة في التعليل وعند ورودها يجب اعتقاد التعليل إلا أن يدل الدليل على أنه لم يقصد بها التعليل فتكون مجازاً فيما قصد بها وذلك في اللام كما لو قيل: "لِمَ فعلتَ كذا؟" فقال: "لأني قصدت أن أفعل". وكما في قول القائل: "أصلي لله" وقول الشاعر: "لِدوا للموتِ وابنوا للخراب" فقصد الفعل لا يصلح أن يكون علةً للفعل وغرضاً له. وكذلك ذات الله تعالى لا تصلح أن تكون علة للصلاة ولا الموت علةً للولادة ولا الخراب علة البناء. بل علة الفعل ما يكون باعثاً على الفعل وهي الأشياء التي تصلح أن تكون بواعث"(5). أي أن التعليل بما دخل عليه حرف التعليل يشترط فيه أن يكون وصفاً مناسباً.
__________
(1) سورة النساء، 165.
(2) سورة الحشر، 7.
(3) أخرجه النسائي (1975).
(4) سورة السجدة، 17. وسورة الاحقاف، 14. وسورة الواقعة، 24.
(5) الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، 3/224. أما قوله في النص: "يجب اعتقاد التعليل" فلا أراه دقيقاً، والأصح حذف كلمة اعتقاد، ليصبح النص يجب التعليل أو يجب تعليل الحكم، فالمسألة مسألة أحكام شرعية ظنية وترجيح اجتهادي.(1/71)
"المسلك الثالث: ما يدل على العليَّة بالتنبيه والإيماء"(1). وهو ما دل عليه الدليل دلالةً وليس صراحةً. أي أن النص يدل على العلة بمفهومه وليس بمنطوقه. وهو قسمان:
الأول: أن يكون المفهوم دالاً على التعليل سواء كان مفهوم موافقة أو مفهوم مخالفة. وذلك كقوله تعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ ِNهkو5qè=è%ج } (2) الآية. فالمفهوم أن من لم يكن من هؤلاء المذكورين لا حقَّ له بالزكاة، وهذه الأوصاف تصلح للتعليل فهي مناسِبَة، لذلك تكون عللاً. فتأليف القلوب علة لإعطاء الزكاة، وإذا ارتفعت هذه الصفة زال الحق بالزكاة. وكذلك يقال في كونهم فقراء أو مساكين أو عاملين عليها.
وهذا القسم يقابل القسم الأوَّل من قسمي دلالة النص الصريح على التعليل، ولكن ذلك من المنطوق وهذا من المفهوم.
الثاني: "أن يكون التعليل لازماً من مدلول اللفظ وضعاً لا أن يكون اللفظ دالاً بوضعه على التعليل"(3).
فالنص في هذه الحالة قد لا يكون له مفهوم موافقة أو مخالفة، وقد يكون له مفهوم ولكنه لا يدل على التعليل. ولكنَّ وجود لفظٍ ما أو حالٍ ما، يجعل التعليل لازماً من هذا الوضع، أي من الاقتران بهذا اللفظ أو الحال، وله عدة حالات:
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) سورة التوبة، 60.
(3) الأمدي، الإحكام، 3/224.(1/72)
منها: ترتيب الحكم على الوصف بفاء التعقيب والتسبيب في كلام الله أو رسوله أو الراوي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - : أما في كلام الله تعالى فكما في قوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } (1). وأما في كلام رسوله فكقوله عليه الصلاة والسلام: "من أحيا أرضاً ميتة ً فهي له"(2). وقوله: "ملكت نفسك فاختاري"(3). وأما في كلام الراوي فكما في قوله: "سها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة فسجد"(4). قال الآمدي: "وذلك في جميع هذه الصور يدل على أن ما رتب عليه الحكم بالفاء يكون علةً للحكم لكون الفاء في اللغة ظاهرة في التعقيب"(5). فالفاء لا تفيد التعليل لغةً. ولكن وجودها أفاد أن الحكم يوجد عقب الوصف، وترتيب الحكم عقب الوصف فيه تنبيه على أن الوصف كان سبباً للحكم، أي سبباً لتشريعه فيكون علة. فالتعليل لازم لهذا الوضع، أي لترتيب الحكم على الوصف بالفاء، وهو ما أفاد مفهوماً مناسباً للتعليل.
__________
(1) سورة المائدة، 38.
(2) رواه البخاري، باب من أحيا أرضاً مواتاً فهي له، وأخرجه أبو داود (2671)، ومالك (1230)، وأحمد (13753).
(3) وهو عن عائشة رضي الله عنها في قصة بريرة. وفي هذا المعنى روايات عند أحمد ومسلم وأبي داود والترمذي وغيرهم. أنظر: الشوكاني، نيل الأوطار، 6/153، دار القلم ـ بيروت.
(4) أخرجه الترمذي (361)، وقال: هذا حديث حسن غريب، والنسائي (1219)، وأبو داود (875)، وأحمد (4128).
(5) الآمدي، الإحكام. 3/224.(1/73)
ومنها: أن يفرِّق الشارع بين أمرين في الحكم بذكر صفة، فإن ذلك يفيد أن تلك الصفة هي علة التفرقة، لأنها لو لم تُذكر لما وجدت التفرقة، ولَشَمِلَ الحكم الأمرين. وذلك كقوله تعالى: { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } (1)، فتفريق الشارع بين الأمرين، الطهر والحيض في جواز إتيانهن دل على علة النهي وهي الحيض. وقد ترتب هذا التفريق على لفظ الغاية (حتى). وكقوله - صلى الله عليه وسلم - : "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد"(2). فتفريق الشارع بين أمرين هما اتحاد الجنسين واختلافهما في جواز أو تحريم بيع هذه الأصناف دل على علة التحريم وهي اتحاد الجنسين.
__________
(1) سورة البقرة، 222.
(2) رواه مسلم عن عبادة بن الصامت، كتاب المساقاة، باب الصرف (2969)، (2970)، والترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في أن الحنطة بالحنطة مثلاً بمثل (1161)، والنسائي في كتاب البيوع، باب بيع البر بالبر (4484)، وأبو داود في كتاب البيوع، باب الصرف (2907)، وأحمد في كتاب سند المكثرين، باب مسند أبي سعيد الخدري (11040). أما البخاري فقد ذكر أربعة أصناف، كتاب البيوع، باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة، وباب بيع الشعير بالشعير، ولم يذكر الفضة ولا الملح، (1190) و(2028). وجاء عند مسلم رواية عن أبي سعيد الخدري: "... فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء" (2971).(1/74)
ومن أمثلة هذا المسلك "أن يذكر الشارع مع الحكم وصفاً مناسباً كقوله عليه السلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"(1). فإنه يشعر بكون الغضب علة مانعة من القضاء لما فيه من تشويش الفكر واضطراب الحال"(2). فالقاضي عمله القضاء، وإنما كان جلوسه لأجل القضاء، فإذا منع من القضاء في حالة ما، دل ذلك على أن تلك الحالة هي علة المنع.
وهذا القسم يقابل القسم الثاني من قِسْمَي دلالة النص الصريح على التعليل، ولكن ذلك من المنطوق وهذا من المفهوم.
وهذه المسالك الثلاثة: الإجماع، والنص، والتنبيه والإيماء متفق عليها بين القائسين. أما ما سيلي من مسالك، فمختلف فيها، يأخذ بها ويدافع عنها أصحاب طريقة المتكلمين من الأصوليين، أي أئمة الشافعية على وجه الخصوص. ويردها أصحاب طريقة الفقهاء من الأصوليين أي الأحناف.
ويشير أئمة الشافعية إلى العلل التي تأتي بهذه المسالك الثلاثة باسم العلل المنصوصة، أما العلل التي تأتي بسائر المسالك التي ستلي فيشيرون إليها باسم العلل المستنبطة. أما الأئمة الأحناف فيقصدون بالعلل المستنبطة العلل التي تأتي بمسلك التنبيه والإيماء على وجه الخصوص، والمنصوصة عندهم هي التي تأتي بمسلكي الإجماع والنص.
المسلك الرابع: السبر والتقسيم. قال به بعض الأصوليين. وهو مبني على أن الأصل في الأحكام التعليل. ومعناه أن يستقصي الناظر كل الأوصاف التي يحتمل أن تكون علة للحكم ـ بناء على أنه لا بد للحكم من علة ـ وهذا هو السبر، ثم ينظر في هذه الأوصاف المحتملة واحداً واحداً ويثبت أنها ليست علة للحكم إلا واحداً منها وهذا هو التقسيم. فيكون الوصف الذي بقي هو العلة.
__________
(1) أخرجه البخاري، باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان (6625)، ومسلم في باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان (3241)، والترمذي (1254) وقال حسن صحيح، والنسائي (5326).
(2) أنظر: الآمدي، الإحكام. 3/230.(1/75)
فهذا المسلك يثبت العلة عن طريق نفي ما سواها وليس بالنظر فيها.
قال الزركشي: "وهو لغة الاختبار ومنه الميل الذي يختبر به الجرح الذي يقال له المسبار، وسمي هذا به لأن الناظر في العلة يقسم الصفات ويختبر كل واحد منها في أنه هل يصلح للعلية أم لا؟"(1).
وقد اختلف الذين يقولون بأن الأصل في الأحكام التعليل في صحة هذا المسلك. أما الذين يردون هذا القول فلا يأخذون بهذا المسلك. قال السرخسي: "الدليل على أن بقيام دليل الفساد في سائر الأوصاف لا تثبت صحة الوصف الذي ادعاه المعلل قي الشرعيات أن من أحكام الشرع ما هو غير معلول أصلاً. فبقيام الدليل على فساد سائر الأوصاف لا ينعدم احتمال قيام الدليل على فساد هذا الوصف"(2).
وقال الزركشي: "ونقل ابن الحاجب في الكلام على السبر والتقسيم إجماع الفقهاء على أنه لا بد للحكم من علة"(3).
المسلك الخامس: المناسبة والإخالة. وهو أيضاً مبني على أن الأصل في الأحكام التعليل. ولهذا المسلك وتفصيلاته وبخاصة معنى الاعتبار وأنواعه علاقة جوهرية بفكرة المقاصد عند الشاطبي، لذلك سيكون له - إن شاء الله - بحث منفصل.
__________
(1) الزركشي، البحر المحيط. 4/200. وانظر أيضاً: الإحكام للآمدي. 3/233. والمحصول للرازي. 5/217. وإرشاد الفحول للشوكاني، ص:213.
(2) السرخسي، محمد بن أحمد بن أبي سهل، أصول السرخسي. 2/232، دار المعرفة، بيروت، بتحقيق أبي الوفا الأفغاني.
(3) الزركشي، البحر المحيط. 4/111.(1/76)
المسلك السادس: مسلك الشَبَه. وقد اختلفت تعريفاته، وكثر الكلام فيه. قال الشوكاني: "الشبه ويسميه بعض الفقهاء الاستدلال... وقال ابن الأنباري: لست أرى في مسائل الأصول مسألة ً أغمض منه. وقد اختلفوا في تعريفه، فقال الجويني: لا يمكن تحديده. وقال غيره: يمكن تحديده"(1). وقال الغزالي: "ومعنى التشبيه: الجمع بين الأصل والفرع بوصف، مع الاعتراف بأن ذلك الوصف ليس علةً للحكم، بخلاف قياس العلة فإنه جمع بما هو علة الحكم، فإن لم يرد الأصوليون بقياس الشبه هذا الجنس، فلست أدري ما الذي أرادوه، وبِمَ فصلوه عن الطرد(2) المحض وعن المناسبة"(3). وقال الجويني: "الشبه لا يناسب الحكم مناسبة الإخالة، وهو متميز عن الطرد فإن الطرد تحكم محض ولا يعضده معنى ولا شبه"(4). ثم فصّل وقال ما خلاصته "إن قياس الشبه هو مشابهة الفرع للأصل مشابهة ً تغلِّبُ على الظن إلحاق الفرع بالأصل دون ظهور علة توجب الإلحاق. مثال ذلك: إلحاق الوضوء بالتيمم في اشتراط النية، فليس في الوضوء أو التيمم معنى مناسب يوجب إلحاق أحدهما بالآخر، ومع ذلك فالناظر يجد في نفسه شعوراً قوياً بصحة الإلحاق، وميلاً إليه وإن لم تسعفه العبارة عن علة القياس، وعليه فقياس الشبه ليس تحكّماً وإنما هو اتباع ظن. وأورد الجويني تعبير الشافعي لمسألة إلحاق الوضوء بالتيمم قاصداً بذلك أن الشافعي اعتمد على الشبه دون أن يسعفه بيان العلة فقال: "طهارتان فكيف تفترقان"(5). وعد قول القائل: "من نفذ طلاقه نفذ ظهاره" قياس شبه.
__________
(1) الشوكاني، إرشاد الفحول. ص:220. وأنظر: المحصول للرازي ج5.
(2) الطرد: أي كلما وُجد الوصف وُجد الحكم.
(3) الغزالي، المستصفى. 2/311.
(4) الجويني البرهان. 2/527. فقرة: 725.
(5) الجويني البرهان. 2/527. فقرة: 725.(1/77)
وأورد الآمدي رأياً للقاضي أبي بكر الباقلاّني فقال: "وقد ذهب القاضي أبو بكر إلى تفسيره بقياس الدلالة وهو الجمع بين الأصل والفرع بما لا يناسب الحكم ولكن يستلزم ما يناسب الحكم"(1) ثم اختار معنى آخر وهو ما كان دون المناسب وفوق الطردي وقال: "ولعلَّ المستند في تسميته شبهاً هو هذا المعنى"(2). وقال: "ومثاله قول الشافعي في مسألة إزالة النجاسة:طهارة تراد لأجل الصلاة فلا تجوز بغير الماء، فإن الجامع هو الطهارة ومناسبتها لتعيين الماء فيها بعد البحث غير ظاهرة"(3). وقال إن هذا ما ذهب إليه اكثر المحققين(4).
المسلك السابع: الطرد والعكس. وهو مبنيٌ على أصل التعليل. والطرد هو وجود الحكم في جميع الصور التي يوجد فيها الوصف بشرط أن لا يكون الوصف مناسباً ولا شبهياً(5). لأنه إذا كان مناسباً يرجع إلى مسلك الإخالة والمناسبة. وإذا كان شبهياً يرجع إلى مسلك الشبه.
والعكس هو انتفاء الحكم بانتفاء الوصف، ويقال للطرد والعكس معاً الدوران، أي أن يدور الحكم مع الوصف وجوداً وعدماً(6). قال الآمدي: "وقد اختلف فيه فذهب جماعة من الأصوليين إلى أنه يدل على كون الوصف علة... والذي عليه المحققون من أصحابنا وغيرهم أنه لا يفيد العلية لا قطعاً ولا ظناً وهو المختار"(7) وقد عده الجويني مسلكاً وعدَّ العكس شرطاً في الوصف الطردي(8).
__________
(1) الآمدي، الإحكام. 3/258.
(2) الموضع نفسه.
(3) الموضع نفسه.
(4) الموضع نفسه.
(5) أنظر: الشوكاني، إرشاد الفحول. ص: 220. وانظر المحصول للرازي ج 5.
(6) المصدر نفسه، ص: 219. وللتفصيل في هذا المسلك. أنظر: إرشاد الفحول. والبرهان للجويني ج 2.
(7) الآمدي، الإحكام. 3/260.
(8) أنظر: الجويني، البرهان. 2/548، فقرة: 800 وما بعدها.(1/78)
المسلك الثامن: الطرد وقد ذهب بعض الأصوليين إلى أن الطرد من غير اشتراط العكس علة. وبذلك يكون الطرد مسلكاً عندهم. قال به الرازي في المحصول. قال: "المراد منه (أي الطرد)(1) الوصف الذي لم يعلم كونه مناسباً ولا مستلزماً للمناسب إذا كان حاصلاً مع الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع، وهذا هو المراد من الاطراد والجريان"(2). وقد ردَّه الجويني.
والذين ردوا مسلك الطرد والعكس ردوا مسلك الطرد إذ هو أولى بذلك. قال الآمدي: "وإذا عرف أن الطرد والعكس لا يصلح دليلاً على العلية، فالاطِّراد بانفراده أولى أن لا يكون دليلاً"(3). وقال الزركشي: "الطرد:وليس المراد به كون العلة لا تنتقض فذاك مقال العكس، بل المراد أن لا تكون علته مناسبة ً ولا مؤثرةً(4)... والقائلون بأن الطرد والعكس ليس بحجه، ففي كون الطرد ليس بحجة من طريق الأولى... والمعتبرون من النظَّار على أن التمسُّك به باطل لأنه من باب الهذيان قال إمام الحرمين: وتناهى القاضي في تغليظ من يعتقد ربط حكم الله عز وجل به"(5). وقال: "قال ابن السمعاني: وسمى أبو زيد الذين يجعلون الطرد حجةً، والاطراد دليلاً على صحة العلية "حشوية أهل القياس" قال: ولا يعد هؤلاء من جملة الفقهاء"(6).
وقال الغزالي: "الطرد ويجب أن يرده كل قائس"(7)، هذا قوله في المستصفى أما في شفاء الغليل فقوله مختلف(8).
في شروط العلة:
__________
(1) ما بين القوسين من الباحث.
(2) الرازي، المحصول. 5/221.
(3) الآمدي، الأحكام. 3/263.
(4) سيأتي لاحقاً بيان معنى التأثير.
(5) الزركشي، البحر المحيط. 4/221 - 222. وأنظر: إرشاد الفحول. ص:221.
(6) الموضع نفسه.
(7) أنظر: الغزالي، المستصفى. 2/318.
(8) أنظر: أبو حامد محمد الغزالي، شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل ص 306 - 310، تحقيق: حمد الكبيسي، مطبعة الإرشاد - بغداد، ط1، 1390هـ - 1971م.(1/79)
1-اتفقوا على أن العلة يجب أن يدل عليها الشرع. وذلك بأن تأتي في أحد مسالك التعليل. وقد تبين هذا الأمر فيما تقدم.
2-أن تكون العلة بمعنى الباعث وليس أمارة مجردة. قال الآمدي: "اختلفوا في جواز كون العلة في الأصل بمعنى الأمارة المجردة والمختار أنه لا بد وأن تكون العلة في الأصل بمعنى الباعث أي مشتملة على حكمةٍ صالحةٍ أن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم، وإلا فلو كانت وصفاً طردياً لا حكمة فيه بل أمارة مجردة فالتعليل بها في الأصل ممتنع"(1). وقد تبين هذا الأمر سابقاً في بيان معاني العلة.
3-أن تكون العلة مؤثرة في الحكم. قال الزركشي: "في ذكر شروط العلة: الأول: أن يكون مؤثراً في الحكم، فإن لم يؤثر فيه لم يجز أن يكون علة... هكذا ذكره الماوردي والروياني ومرادهما بالتأثير: المناسبة. وأحسن من عبارتهم قول الأستاذ أبي منصور: أن يكون وصفها مما يصح تعليق الحكم بها"(2).
وقال أيضاً: "وأجاز بعضهم التعليل بمجرد الأمارة الطردية. والحق خلافه وأنه لا بد أن يشتمل على حكم يبعث المكلف على الامتثال ويصح شاهداً لإناطة الحكم بها"(3).
وقال: "وقال القاضي في (التقريب): معنى كون العلة مؤثرة في الحكم هو الحكم بأن يغلب على ظن المجتهد أن الحكم حاصل عند ثبوتها لأجلها دون شيء سواها"(4). وفي شرط التأثير ومعناه خلاف هام بين الشافعية والحنفية أذكره في موضعه إن شاء الله.
__________
(1) الآمدي، الإحكام. 3/180.
(2) الزركشي، البحر المحيط. 4/119.
(3) الموضع نفسه.
(4) الموضع نفسه.(1/80)
4-أن تكون وصفاً ظاهراً منضبطاً. والظهور والانضباط نقيضا الإبهام والخفاء. والخفي المضطرب لا يمكن التعليل به. مثال ذلك: مشقة السفر فهي غير منضبطة، ولذلك لم تعتبر بها مشقة الحمال والفران في الحضر فكان السفر وصفاً منضبطاً مشتملاً على الحكمة المضطربة وهي المشقة. ولذلك لم يصح التعليل بالمشقة وصح عدُّ السفر سبباً مشتملاً على العلة. قال الآمدي: "ذهب الاكثرون إلى امتناع تعليل الحكم بالحكمة المجردة عن الضابط وجوزه الأقلّون"(1). وقال: "إنا نعلم أن الشارع إنما قضى بالترخص في السفر الطويل دفعاً للمشقة المضبوطة بالسفر الطويل إلى مقصد معين ولم يعلِّقها بنفس المشقة لما كانت مما يضطرب ويختلف. ولهذا فإنه لم يرخص للحمّال المشقوق عليه في الحضر، وإن ظُنَّ أن مشقته تزيد على مشقة المسافر في كل يوم فرسخ، وإن كان في غاية الرفاهية والدعة لما كان ذلك مما يختلف ويضطرب"(2).
5-أن تكون سالمة. ومعنى ذلك أن لا يردها دليل شرعي. قال الزركشي: "أن تكون سالمة بشرطها أي بحيث لا يردها نص ولا إجماع، لأن القياس فرع لها لا يستعمل إلا عند عدمها فلم يجز أن يكون رافعا ً لها، فإذا رده أحدهما بطل"(3).
6-أن تكون العلة مطردة. قال الزركشي: "أن تكون مطردةً أي كلما وجدت وجد الحكم"(4) فإذا وجدت ولم يوجد الحكم فمعناه أنها ليست علة.
__________
(1) الآمدي، الإحكام. 3/180.
(2) الآمدي، الإحكام، ص:181.
(3) الزركشي، البحر المحيط. 4/122.
(4) الموضع نفسه.(1/81)
7-أن تكون العلة متعدية. أي أن الحكم يتعدى بها من الأصل إلى الفرع. وقد اتفق الكل على صحة هذا الشرط لأجل صحة القياس. ولكن اختلفوا في صحة العلة إذا لم تكن متعدية. فمن الأصوليين من يعد الوصف علة للأصل وإن كان لا يمكن تعديه الحكم إلى فرعٍ قياساً. ومنهم من منع من جعلها علة على أساس أن لا فائدة من التعليل بها. إذ فائدة العلة تعدية الحكم بها من الأصل إلى الفرع. قال الآمدي: "اتفق الكل على أن تعدية العلة شرط في صحة القياس، وعلى صحة العلة القاصرة(1)، كانت منصوصة أو مجمعاً عليها، وإنما اختفلوا في صحة العلة القاصرة إذا لم تكن منصوصة ولا مجمعاً عليها، وذلك كتعليل أصحاب الشافعي حرمة الربا في النقدين بجوهرية الثمنية(2)"(3).
وقال شمس الأئمة السرخسي: "الاختلاف في شرط التعدية، والمذهب عندنا أن تعليل النص بما لا يتعدى لا يجوز أصلاً. وعند الشافعي هذا التعليل جائز ولكنه لا يكون مقايسةً، وعلى هذا جوَّز هو تعليل نص الربا في الذهب والفضة بالثمنية وإن كانت لا تتعدى، فنحن لا نجوِّز ذلك، والمذهب عندنا أن حكم التعليل هو تعدية حكم الأصل إلى الفروع"(4).
__________
(1) المراد بالعلة القاصرة الوصف الذي ثبت كونه علةً لحكم الأصل، ولا يمكن تعديته إلى فرع، وذلك كالسرقة علة للقطع، فالنص دل على تعليل حكم الأصل بها. ولكن لا يوجد فرع يتعدى إليه الحكم قياساً بجامع العلة. وتطبيق حكم القطع في محل آخر هو بدلالة النص أي بعموم النص وليس قياساً. ومما يتعلق بخلاف القائسين هنا خلاف آخر، وهو أن الحكم المعلل هل دليله العلة أو دليله الخطاب الذي دل عليه وعلى العلة ؟ ذهب الشافعية والمتكلمون إلى الأول. وذهب الأحناف إلى الثاني.
(2) أنظر: هامش رقم 4 ص 61 من هذا الكتاب.
(3) الآمدي، الإحكام. 3/192.
(4) السرخسي، أصول السرخسي. 2/158 - 159.(1/82)
8-أن لا يكون للحكم الواحد في صورة واحدة علتان معاً. قال الآمدي: "واختلفوا في جواز تعليل الحكم الواحد في صورة واحدة بعلتين معاً، فمنهم من منع من ذلك مطلقاً... ومنهم من جوَّز ذلك مطلقاً... ومنهم من فصَّل بين العلل المنصوصة والمستنبطة فجوَّزه في المنصوصة، ومنع منه في المستنبطة... والمختار إنما هو المذهب الأول"(1).
وقال الزركشي: "يجوز تعليل الحكم الواحد بالنوع المختلف بالجنس لشخص واحد بعلل مختلفة بالاتفاق، كتعليل إباحة قتل زيد بردته، وعمرو بالقصاص، وخالد بالزنى"(2). وقال: "وقد صرح النبي بعلل مختلفة كل منها مستقل في إباحة الدم كقوله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان أو قتل مؤمن بغير حق"(3)"(4).
والظاهر من نصوص الأئمة المنع من تعليل الحكم بعلتين والاتفاق المنقول كما ذكر الزركشي ليس على العلة التي يحصل القياس بها. فالعلل المذكورة في الحديث كلها علل قاصرة، فلا يقاس فرع على أصل بواسطتها، وتطبيق الحكم في أي محل إنما هو بدلالة النص وليس قياساً. أو أن يكون التعليل بمعنى الأمارة وليس بمعنى الباعث. قال الزركشي عند إيراده الأقوال المختلفة حول التعليل بأكثر من علة: "الجواز مطلقاً وهو الصحيح وقول الجمهور كما قال القاضي في التقريب، ثم قال: وبهذا نقول بناء على أن العلل علامات وأمارات على الأحكام لا موجبة لها"(5).
__________
(1) الآمدي، الإحكام. 3/208.
(2) الزركشي، البحر المحيط. 4/156.
(3) أخرجه مسلم (3175)، والبخاري (6370)، وأخرجه أبو داود في كتاب الديات (3903)، والترمذي في كتاب الفتن (2084)، والنسائي (3953)، وأحمد (1328).
(4) الزركشي، البحر المحيط. 4/156.
(5) المصدر نفسه، 4/157.(1/83)
أما التفريق بين العلة المنصوصة والعلة المستنبطة فبناء ًعلى أن المنصوصة، كما في الحديث أعلاه تسمى علة وإن كانت علة لحكم الأصل فقط أي أنها علة قاصرة، والمنع في المستنبطة، فذلك لأن المستنبطة مبنية على أصل التعليل، وليس بدلالة النصوص أو الإجماع، وعلى ذلك فثبوت علة ثانية يعد نقضا ً للعلة الأولى.
9-ومما اختلفوا فيه جواز تخصيص العلة. قال الآمدي: "اختلفوا في جواز تخصيص العلة المستنبطة فجوَّزه أكثر أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل، ومنع من ذلك أكثر أصحاب الشافعي. وقد قيل إنه منقول عن الشافعي، ثم القائلون بجواز تخصيصها اتفقوا على جواز تخصيص العلة المنصوصة، واختلفوا في جواز تخصيص العلة المستنبطة إذا لم يوجد في محل التخلف مانع ولا فوات شرط، فمنع منه الأكثرون وجوَّزه الأقلّون، والقائلون بالمنع في تخصيص العلة المستنبطة اختلفوا في جواز تخصيص العلة المنصوصة"(1).
والعامل الأهم في هذا الاختلاف عموماً، هو اختلاف الاصطلاحات، في معنى المنصوصة ومعنى المستنبطة. فالذين يعدُّون المنصوصة هي الآتية بأحد مسلكي النص أو الإجماع يجيزون تخصيص العلة المنصوصة ويعدون ذلك من قبيل تخصيص سائر النصوص. وهؤلاء يعدون العلة المستنبطة هي الآتية بمسلك التنبيه والإيماء ويختلفون في جواز تخصيصها، وهؤلاء يردون سائر المسالك الأخرى.
__________
(1) الآمدي، الإحكام. 3/194.(1/84)
أما الذين يلحقون العلة الآتية بمسلك التنبيه والإيماء بالعلل المنصوصة كتلك الاتية بمسلك النص أو الإجماع، فهم يقولون بالاختلاف في جواز تخصيص المنصوصة وذلك بسبب الاختلاف في تخصيص الآتية بمسلك التنبيه والإيماء. والعلة المستنبطة عند هذا الفريق هي العلة الآتية بسائر المسالك الأخرى كالطرد والعكس، والسبر والتقسيم، والمناسبة والشبه، وهذه لا يجيزون تخصيصها، فيقولون بعدم جواز تخصيص المستنبطة، وذلك لأن تخلف اعتبار الوصف المعلل به بهذه المسالك هو بمثابة إبطال للوصف أو من قبيل عدم ثبوته أصلاً. وذلك بسبب ضعف الثقة بهذه المسالك أصلاً. فتشعب الاختلاف في هذه المسألة والاضطراب في النقل عن الأئمة يرجع إلى اختلاف المقصود بالاصطلاحات، وهذا مما ينبغي التنبُّه إليه عند دراسة كتب أئمة الأصول فيما يتعلق بالقياس والعلة.
قال الزركشي: "واعلم أن العلة إما عقلية أو سمعية. فالعقلية يمتنع تخصيصها بإجماع أهل النظر... وانما اختلفوا في الشرعية، وهي إما أن تكون مستنبطة أو منصوصة، فان كانت مستنبطة فجزم الماوردي والروياني بامتناع تخصيصها على معنى أن العلة لا تبقى حجة فيما وراء الحكم المخصوص لبطلان الوثوق بها" (1).
10-ومن شروط العلة المستنبطة أن لا تعود على أصلها بالإبطال، وهذا شرط في المستنبطة فقط دون المنصوصة. قال الآمدي: "يجب أن لا تكون العلة المستنبطة من الحكم المعلل بها مما ترجع على الحكم الذي استنبطت منه بالإبطال. وذلك كتعليل وجوب الشاة في باب الزكاة بدفع حاجة الفقراء، لما فيه من رفع وجوب الشاة، وأن ارتفاع الأصل المستنبط منه يوجب إبطال العلة المستنبطة منه ضرورة توقف عليتها على اعتبارها به"(2).
__________
(1) الزركشي، البحر المحيط. 4/122.
(2) الآمدي، الإحكام. 3/215.(1/85)
وكون هذا الشرط شرطاً في المستنبطة فقط، يعني أنه يجوز للعلة المنصوصة أن ترجع على الأصل بالإبطال، بل إن هذا هو معنى التعليل أصلاً. فالعلة هي ما جاء الحكم لأجله وارتفاعها يعني ارتفاع الحكم وهذا معنى الإبطال هنا. لذلك فان الاتفاق على هذا الشرط في المستنبطة يشير إلى ضعف الثقة بالتعليل بها، وما ذلك إلا لأن كل مسالك المستنبطة مبنية على أن الأصل في الأحكام التعليل، وهذا بدوره يؤدي بالفقيه إلى البحث عن علة قوية بنظره، فإذا وجد أن التعليل بهذه العلة النظرية يؤدي إلى زوال الحكم بزوال العلة، رجع عن التعليل بها. ومثال الآمدي أعلاه بيِّن في هذا، فتعليل وجوب الزكاة بدفع حجة الفقراء، مؤداه الغاء وجوب الزكاة إذا لم يكن ثم فقراء، وهذا رفع لأصل وجوب الزكاة، لذلك يسقط التعليل بهذا الوصف.
وقال الزركشي: "إن كانت مستنبطة فالشرط أن لا يرجع على الأصل بإبطاله أو إبطال بعضه، لئلا يفضي إلى ترك الراجح إلى المرجوح، إذ الظن المستفاد من النص أقوى من المستفاد من الاستنباط، لأنه فرع لهذا الحكم، والفرع لا يرجع على إبطال أصله، وإلا لزم أن يرجع إلى نفسه بالإبطال"(1).
11-ومن شروط العلة أن لا تكون هي محل حكم الأصل، فلو كانت كذلك لا يكون تطبيق الحكم في المحال الأخرى قياساً ولا تكون هذه المحال فروعاً. وإنما يكون تطبيقاً للنص، وتكون هذه المحال هي مناط الحكم. وتكون علة الأصل قاصرة.
__________
(1) الزركشي، البحر المحيط. 4/137. والشوكاني، ارشاد الفحول. ص: 208.(1/86)
قال الآمدي: "ذهب الأكثرون إلى أن شرط علة الأصل أن لا يكون محل حكم الأصل ولا جزءاً من محله. وذهب آخرون إلى جوازه، والمختار إنما هو التفصيل، وهو امتناع ذلك في الأصل دون الجزء"(1). وقال: "فلو كانت العلة فيه هي محل حكم الأصل بخصوصه لكانت العلة قاصرة... نعم إنما يمكن ذلك فيما إذا لم تكن علة حكم الأصل متعدية"(2). وقال: "وأما الجزء فلا يمتنع التعليل به لاحتمال عموم الأصل والفرع"(3).
وقال الزركشي: "إن كانت متعدية أي توجد في غير الأصل فيشترط فيها أن لا يكون التعليل في المحل إلا جزءاً منه. ولا يتصور تعديتها بخلاف القاصرة فإنه يجوز فيها ذلك"(4).
المبحث الثالث
مسلك الاخالة والمناسبة
تمهيد:
ورد - فيما سبق - ذكر المناسبة كشرط من شروط العلة التي هي ركن في القياس. ومن الأصوليين من جعلها مسلكاً من مسالك العلة قائماً بذاته وجعل لها شروطها. وفيما يلي موضوع المناسبة وشروطها وأقسامها.
إن التعليل بالوصف المناسب يقوم على أساس أن الأصل في الأحكام التعليل، فإذا دلَّ الشرع على العلة بالنص الصريح أو غير الصريح أو بالاجماع أو استنباطاً بدلالة التنبيه والإيماء فبها، وإذا لم يدل يجب البحث عن أصلح وصف للتعليل. وأصلحه هو أكثره مناسبة بشرط أن لا يدل الشرع على ردِّه أو إلغائه. والوصف المناسب هو الذي يترتب عليه مصلحة أو مفسدة بحسب كون الحكم طلباً للفعل أو نهياً عنه.
إلا أن تعيين الوصف المصلحي المناسب في الحكم يتأثر بنظرة المجتهد إلى ما هو مصلحة وما هو مفسدة، وبنظرته إلى مسألة الحسن أو القبح في الأفعال، فقد يتخيل مصلحة ثم يظهر بعد السبر والبحث أنها مفسدة والعكس صحيح، أو أن الشرع قد ألغاها أو أهدرها، أو أن هناك ما هو أصلح منها وأكثر مناسبة للتعليل.
__________
(1) الآمدي، الاحكام. 3/179.
(2) الموضع نفسه.
(3) الموضع نفسه.
(4) الزركشي، البحر المحيط. 4/140.(1/87)
وهذا ما أدى إلى تفصيلات وقيود في تعريف المناسب وشروطه عند الأصوليين فظهرت تعابير مثل المصلحة المعتبرة والمصلحة الملغاة والمصلحة المرسلة، والمصلحة المرتضاة شرعاً، ومقاصد الخلق ومقاصد الشارع. وكذلك حصل تقسيم المناسب إلى حقيقي عقلي وخيالي اقناعي، "الأول: هو الذي كلما ازداد البحث والسبر فيه تثبت مناسبته، والثاني: هو الذي يُتخيل في الابتداء مناسبته وإذا سُلّط عليه البحث والنظر تسقط مناسبة وينكشف عن غير طائل"(1). وكذلك حصل تقسيمه إلى ضروري وحاجي وتحسيني. قال الزركشي: "أقسام المناسب من حيث الحقيقة والإقناع: أنه ينقسم إلى حقيقي وإقناعي. والحقيقي ينقسم إلى ما هو واقع في محل الضرورة، ومحل الحاجة ومحل التحسين"(2). ثم قال: "أما الإقناعي فهو الذي يظهر فيه في بادئ الأمر انه مناسب، لكن إذا بحث عنه حق البحث ظهر بخلافه"(3).
تحقيق معنى الإخالة والمناسبة:
يلاحظ في سياق نصوص الأئمة الأصوليين أن منهم من يستعمل لفظي الإخالة والمناسبة بمعنى واحد ومنهم من يفرق بينهما. يقول الآمدي: "المسلك الخامس في إثبات العلة: الإخالة والمناسبة"(4)، ويقول الشوكاني: "المناسبة: ويعبر عنها بالإخالة وبالمصلحة وبالاستدلال وبرعاية المقاصد ويسمى استخراجها تخريج المناط وهي عمدة كتاب القياس ومحل غموضه ووضوحه. ومعنى المناسبة هي تعيين العلة بمجرد إبداء المناسبة مع السلامة عن القوادح لا بنص ولا غيره والمناسبة في اللغة الملاءمة والمناسب الملائم"(5).
__________
(1) أنظر: الغزالي، شفاء الغليل، ص: 132.
(2) الزركشي، البحر المحيط. 4/188.
(3) المصدر نفسه، 4/192.
(4) الآمدي، الاحكام. 3/236.
(5) الشوكاني، إرشاد الفحول. ص:214. وانظر: الزركشي، البحر المحيط. 4/186.(1/88)
أما إمام الحرمين الجويني فيفرق بينهما. فالإخالة عنده هي وصف مصلحي يمكن أن يتخيله الناظر سبباً لمجيء الحكم. والمناسبة هي ثبوت كون الوصف يؤدي إلى المصلحة أو إلى ما يقصده الشارع. فالإخالة هي إدعاء الوصف الذي يؤدي مجيء الحكم على وفقه إلى المصلحة، والمناسبة هي ظهور وثبوت العلاقة السببية بين الوصف والمصلحة المترتبة عليه، إذ الأوصاف هي علامات وأمارات على الحكم، والأحكام جاءت لأجل المصالح، فثبوت العلاقة بين الوصف والحكم يجعل الوصف باعثاً.(1/89)
يقول: "إذا ثبت حكم في أصل متفقٍ عليه وادعى المستنبط أنه معلل بوصفٍ أبداه فهو مطالب بتصحيح دعواه في الأصل... فإذا ادعى مدّعٍ أن المعنى الذي أبداه علة للحكم فهذه دعوى عرية عن البرهان من جهة أن التحكم بنصب العلل غير سائغ كما سبق في الرد على الطاردين، فلا بد من ظهور وجهٍ في ظن المستنبط يوجب تخيل معنى مخصوص في انتصابه علما ً وهو مطالب بإبدائه"(1) ثم قال: "فما اعتمده المحققون وارتضاه الأستاذ أبو إسحق إثبات علة الأصل بتقدير إخالته ومناسبته الحكم مع سلامته عن العوارض والمبطلات ومطابقته الأصول"(2). وقال: "فإن قيل: إذا أبدى المعلِّل وجهاً مرتضىً في الإخالة قُبل، وقيل له: ليس كل مُخيل علماً وليس كل استصلاح وجهاً مرتضىً في الأحكام، فمن أين زعمت أن ما أبديته من قبيل ما يعتمد عليه؟ إذ الإخالات منقسمة ووجوه الاستصلاح منتفية والشرع لا يرى تعلق الحكم بجميعها ولم تضبط الرواة مسالك الظنون للصحابة وأنحائهم، فإذا بطل دعوى التعلق بكل مصلحة ولم يتبين لنا ما اعتمده الأولون فكيف تدل نفس الإخالة"(3)، ثم قال: "فإذا ظهرت الإخالة وسلم المعنى عن المبطلات وغلب الظن كان ذلك من قبيل ما يتعلق به الأولون قطعاً"(4). ثم قال: "فإن قيل: فالإخالة مع السلامة هي الدالة إذاً. قلنا: لا، ولكن إذا ثبتت الإخالة ولاحت المناسبة واندفعت المبطلات التحق ذلك بمسلك نظر الصحابة رضي الله عنهم"(5).
__________
(1) الجويني، البرهان. 2/524. فقرة: 756.
(2) الجويني، البرهان، ص: 526. فقرة: 759.
(3) المصدر نفسه، 2/527. فقرة: 759.
(4) الموضع نفسه.
(5) المصدر نفسه، ص: 528. فقرة: 762.(1/90)
والناظر في هذه الأقوال يتبين له المراد بالإخالة وبالمناسبة. فالإخالة تعني إدعاء وصف ما علة. ولكن هذا - كما قال - دعوى لا بد من إثباتها، وطريق إثباتها ظهور مناسبة الوصف واندفاع المبطلات. فقوله: "الإخالات منقسمة" يعني أن الأوصاف التي يمكن أن تدَّعى كثيرة ومتعددة منها ما هو معتبر ومنها ما هو ملغى، فلا يصلح هذا وحده. وإن قيل إن هذا الوصف فيه مصلحة فهذا أيضاً لا يكفي. فقوله: "ووجوه الاستصلاح منتفية" وقوله: "ليس كل استصلاحٍ وجها مرتضى" يعني أن مجرد كون الوصف مصلحة أو مشتملاً على مصلحة لا يكفي لإثبات صلاحيته للتعليل. ومن هنا يفهم مراده بالمناسبة وهو أنَّ الوصف المخيل ـ وهو وصف مصلحي ـ تكون المصلحة التي فيه مرتضاة شرعاً. أو أن ترتب الحكم على ذلك الوصف يلزم فيه عقلاً تحقق تلك المصلحة. أما الأول وهو أن تكون المصلحة مرتضاة شرعاً فهو مراده بلفظ "اندفاع المبطلات". فلم يبق أن يكون المراد بالمناسبة إلا لزوم أو ثبوت تحقق المصلحة من ترتيب الحكم على الوصف. وهذا الثبوت يحصل بغلبة الظن ولا يحتاج إلى القطع. ويؤكد هذا المعنى قوله: "فإذا ظهرت الإخالة وسلم المعنى عن المبطلات وغلب الظن كان ذلك من قبيل ما يتعلق به الأولون قطعاً"(1).
وقال الرازي: "الناس ذكروا في تعريف المناسب شيئين: الأول: أنه الذي يفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيلاً وإبقاءً وقد يعبر عن التحصيل بجلب المنفعة وعن الإبقاء بدفع المضرة... الثاني: أنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات. فإنه يقال: هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة، أي الجمع بينهما في سلك واحد متلائم، وهذه الجبة تناسب هذه العمامة، أي الجمع بينهما متلائم"(2). ثم قال: "والتعريف الأول قول من يعلل أحكام الله تعالى بالحكم والمصالح والتعريف الثاني قول من يأباه"(3).
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 527. فقرة: 759.
(2) الرازي، المحصول. 5/157 - 158.
(3) الموضع نفسه.(1/91)
ولو دققنا في التعريفين لوجدناهما متلازمين عملياً. فالثاني يعني ترتب المصلحة على الحكم في العادة، فتكون المصلحة مترتبة على الحكم بحسب العلاقة بين السبب والمسبب ويكون هذا الترتب سببا ً لتعليل الحكم بالوصف(1). وهذا ليس تعليلاً لأفعال الله بينما التعريف الأول يعني - بنظره - تعليل أفعال الله فهو يأباه(2).
وقال الغزالي: "إثبات العلة بإبداء مناسبتها للحكم والاكتفاء بمجرد المناسبة في إثبات الحكم مختلف فيه وينشأ منه أن المراد بالمناسب ما هو على منهاج المصالح بحيث إذا أضيف إليه انتظم. مثاله: قولنا: حرمت الخمر لانها تزيل العقل الذي هو مناط التكليف وهو مناسب. لا كقولنا: لأنها تقذف بالزبد أو لأنها تحفظ في الدّنّ فإن ذلك لا يناسب"(3).
وقال: "أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم. لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم. فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة. وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعه مصلحة. وإذا أطلقنا المعنى المخيل والمناسب في كتاب القياس أردنا به هذا الجنس"(4). وهذا يبين مراده بالمصلحة وهو ما ثبت اعتباره شرعاً. وهو يوافق ما عند الجويني. ويوافق ما عند الآمدي في تعريف المناسب كما سيأتي.
__________
(1) ولكن تنبغي الاشارة أن الرازي يرفض القول بالسبب والمسبب لان هذا بنظره تعليل لافعال الله. ولكنه يقول ما مفاده أن الله اجرى الشيء عند الشيء. وكذلك جعل المصالح مقارنة للأفعال، وليس أحدهما سبباً للآخر. أو أن المصالح مقارنة للاحكام. وسيأتي قوله مفصلاً في المبحث الثالث من الفصل الثاني.
(2) الرازي، المحصول. 5/157 - 158.
(3) الغزالي، المستصفى. 2/297.
(4) الغزالي، المستصفى، 1/286.(1/92)
يقول الآمدي: "قال أبو زيد: "المناسب عبارة عما لو عرض على العقول تلقته بالقبول"(1) لكنه رأى أن هذا التعريف وان كان موافقاً من حيث الوضع اللغوي فهو غير كافٍ في مجال إثبات العلة. قال: "فلا طريق للمناظر إلى إثباته على خصمه في مقام النظر لإمكان أن يقول الخصم: هذا مما لم يتلقه عقلي بالقبول فلا يكون مناسباً بالنسبة إليَّ وإن تلقاه عقل غيري بالقبول"(2). وهذا إشارة إلى اختلاف مفاهيم الناس فيما هو مناسب وما هو غير مناسب. ولذلك جاء تعريف الآمدي مشتملاً على ما فصله الجويني من لزوم إثبات ترتب المصلحة على ربط الحكم بالوصف، وأن تكون المصلحة مرتضاة شرعاً أو مما يصلح أن يكون مقصوداً للشارع وهذا قيد يمنع الاختلاف في النظر إلى ما هو مصلحة وما هو مفسدة. قال: "والحق من ذلك أن يقال المناسب عبارة عن وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع ذلك الحكم وسواء كان ذلك الحكم نفياً أو إثباتا وسواء كان ذلك المقصود جلب مصلحة أو درء مفسدة"(3).
ونقل الزركشي عن ابن الحاجب المالكي: "المناسب وصف ظاهر منضبط يحصل عقلاً من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً من حصول مصلحة ودفع مفسدة. فإن كان الوصف خفياً أو غير منضبط اعتبر ملازمه وهو المظنة لأن الغيب لا يعرِّف الغيب كالسفر للمشقة"(4).
وقال ابن قدامة المقدسي: "ومعناه أن يكون إثبات الحكم عقيبه مصلحة"(5).
وقال القرافي: "المناسبة ما تضمن تحصيل مصلحة ودرء مفسدة"(6).
__________
(1) الآمدي، الاحكام. 3/237.
(2) الموضع نفسه.
(3) الموضع نفسه.
(4) أنظر: الزركشي، البحر المحيط. 4/187.
(5) ابن قدامة المقدسي، روضة الناظر وجنة المناظر. ص: 268، تحقيق: سيف الدين الكاتب، دار الكتاب العربي ـ بيروت، ط1، 1401هـ - 1981م.
(6) شهاب الدين القرافي، شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول. ص: 391. دار الفكر، القاهرة.(1/93)
والتعريفات الأخرى في سائر كتب الاصول لا تخرج عن المذكور أعلاه.
ويلاحظ على هذه التعريفات أن الركن الأساس فيها هو أن يلزم عقلاً من ربط الحكم بالوصف حصول مصلحة أو درء مفسدة. وقد أضاف بعضهم، وخاصة علماء الأصول من الشافعية أن يكون جلب المصلحة أو درء مفسدة مما يصلح أن يكون مقصوداً للشارع. وهذا يُبعدُ أن يكون المناسب مصلحة عقلية محضة، أي مصلحة لا يشهد لها حكم شرعي، إضافة إلى إشتراط الكل أن تكون سالمة ً عن المبطلات.
أما التعريفات التي قيدت الوصف المناسب بكونه ظاهراً ومنضبطاً. فهذا لأجل صلاحيته للتعليل إذ من شروط العلة ان تكون وصفاً ظاهراً منضبطاً بأي مسلك أتت.
أقسام المناسب:
وللوصف المناسب تقسيمات بحسب قوة المناسبة وضعفها وبحسب الاعتبار وعدمه. أما بحسب قوة المناسبة وضعفها فهو قسمان: خيالي إقناعي وحقيقي عقلي. الأول هو الوصف الذي كلما ازداد النظر فيه ازداد ضعفا ً فتسقط مناسبته. والثاني هو الوصف الذي كلما ازداد البحث فيه ازداد قوةً وجلاءً وله ثلاث مراتب: الضروريات والحاجيات والتحسينيات. ويلحق بكل واحدة من هذه المراتب مكملاتها(1).
ومن جهة الاعتبار وعدمه ينقسم المناسب إلى معتبر ومرسل وملغى. قال الشوكاني: "أعلم أن المناسب ينقسم باعتبار شهادة الشرع له بالملاءمة والتأثير وعدمها إلى ثلاثة أقسام لأنه إما أن يعلم أن الشرع اعتبره أو يعلم أنه ألغاه أولا يعلم واحد منهما"(2).
1- المعتبر:
يطلق لفظ المعتبر إزاء معنيين: الأول: هو الوصف أو المعنى الذي دل عليه دليل شرعي فهذا الوصف أو المعنى شهد له نص أو دليل شرعي فيكون معتبراً. وهذا متفق على التعليل به بين القائسين.
__________
(1) أنظر: المحصول للرازي، 5/159، وما بعدها، وارشاد الفحول للشوكاني، ص: 215، وشفاء الغليل للغزالي، ص: 132، والبحر المحيط للزركشي، 4/192.
(2) الشوكاني، ارشاد الفحول، ص: 217.(1/94)
الثاني: المعتبر هو الوصف الذي شهد له حكم ولم يشهد له نص أو دليل. وبتعبير آخر: المعتبر هو ما جاء على وفقه حكم أو أحكام. وبتعبير ثالث هو الوصف الذي يمكن تخيله في حكم من الأحكام الثابتة بدليل شرعي. وهذا المعنى هو المقصود هنا.
قال الآمدي: "الوصف أما أن يكون معتبراً في نظر الشارع أو لا يكون معتبراً، فإن كان معتبراً فاعتباره إما أن يكون بنص أو إجماع أو بترتيب الحكم على وفقه في صورة بنص أو إجماع"(1) وقال الشوكاني: "المراد بالاعتبار إيراد الحكم على وفقه لا التنصيص عليه ولا الإيماء إليه وإلا لم تكن العلة مستفادةً من المناسبة وهو المراد بقولهم شهد له أصل معين. قال الغزالي في شفاء الغليل: المعني بشهادة أصل معين للوصف أنه مستنبط منه من حيث إن الحكم أثبت شرعاً على وفقه"(2). فمثلاً: في حكم عدم توريث القاتل، يلاحظ معنى المعاملة بنقيض المقصود، فبناءً على أن القاتل بقتله لمورِّثه يقصد الحصول على الميراث أو استعجاله، ومعاملته بنقيض قصده معنى موجود في الحكم، يكون هذا المعنى (المعاملة بنقيض المقصود) معنًى معتبراً. ويكون الحكم الشرعي هو الشاهد على هذا المعنى، أو يقال إن هذا المعنى الذي لم يدل عليه نص أو إجماع قد جاء حكم على وفقه. هذا هو معنى الاعتبار، وهو مختلف عن الاعتبار الذي هو أن يدل نص أو إجماع على الوصف أو المعنى. وهذا الأخير لا خلاف فيه، بخلاف شهادة الحكم للوصف أو مجيء حكم وفق الوصف، ففي قبول هذا الاعتبار خلاف كبير.
أنواع الاعتبار:
إذا كان الاعتبار هو لعين الوصف الموجود في الحكم أو في مناطه فهو اعتبار لعين الوصف أو لخصوصه في الحكم. وإذا كان الاعتبار هو لوصف أعم من الوصف الموجود في الحكم أو في مناطه فهو اعتبار لعموم الوصف أو لجنسه في الحكم.
__________
(1) الآمدي، الاحكام. 3/246.
(2) الشوكاني، ارشاد الفحول. ص: 217.(1/95)
مثال ذلك تحريم الخمر. فالحكم يشهد لوصف الإسكار فإذا اتجه الاعتبار إلى وصف الإسكار فهو اعتبار لعين الوصف في التحريم، فلا يقاس عليه إذهاب العقل بالمخدرات لأنه ليس إسكاراً، ويقاس عليه بالنبيذ لأنه إسكار.
وإذا اتجه الاعتبار إلى وصف أو معنى إذهاب العقل، فهو أعم من الإسكار ويشمل إذهاب العقل بالخمر وبالمخدرات وبغير ذلك. فهو اعتبار لعموم الوصف أو لجنسه، ويقاس عليه تناول المخدرات. وهذا هو اعتبار جنس الوصف في الحكم. قال الآمدي: "وذلك كمعنى الاسكار فإنه يناسب تحريم النبيذ وقد ثبت اعتبار عينه في عين التحريم في الخمر، ولم يظهر تأثير جنسه في عينه"(1)
ومثاله أيضاً، وصف المشقة في رخصة السفر، فهو وصف مناسب تشهد له أحكام القصر والجمع والإفطار في السفر. فان كان الاعتبار في هذه الرخص هو لمشقة السفر فهو اعتبار لعين الوصف أو لخصوصه في الحكم. وإن كان الاعتبار هو لعموم المشقة أو الإجهاد أو الحرج فهو اعتبار لعموم الوصف أو لجنسه لأن المشقة أنواع كمشقة السفر ومشقة العمل ومشقة الجهاد ومشقة الحيض وغيرها.
أما إن كان الاعتبار هو لحكم أعم من الحكم الذي شهد للوصف فهو اعتبار للوصف في عموم الحكم أو في جنسه. مثاله: اعتبار وصف الأخوة لأب وأم في التقديم في الميراث على الأخوَّة لأب. فالحكم هنا هو ولاية الميراث. والوصف هو تقديم الأخوة لأب وأم على الأخوة لأب. فاعتبار هذا الوصف في ولاية الميراث هو اعتبار للوصف في عين الحكم. واعتبار الوصف في عموم الولاية يفضي إلى قياس ولاية النكاح على ولاية الميراث. فيقدم الأخوة لأب وأم في ولاية النكاح. وعموم الولاية جنس يعمُّ ولاية الميراث وولاية النكاح. فهذا اعتبار للوصف في عموم الحكم.
__________
(1) الآمدي، الإحكام. 3/246.(1/96)
وإن كان الاعتبار هو لوصف أعم من الوصف الذي شهد له الحكم، ولحكم أعم من الحكم الذي شهد للوصف فهو اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم. ومن أمثلة هذا النوع ما ذكره الآمدي: "اعتبار جنس المشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في جنس التخفيف فإن عين مشقة الحائض ليست عين مشقة المسافر بل من جنسها، وعين التخفيف عن المسافر بإسقاط الركعتين ليس عين التخفيف عن الحائض بإسقاط الصلاة بل من جنسها"(1).
وعلى ذلك فالاعتبار في شهادة الحكم للوصف أربعة أنواع(2):
1- اعتبار عين الوصف في عين الحكم.
2- اعتبار جنس الوصف في عين الحكم.
3- اعتبار عين الوصف في جنس الحكم.
4- اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم.
أقسام المعتبر:
__________
(1) المصدر نفسه، 3/247 - 248.
(2) أنظر: الإحكام للآمدي. 3/246 - 249. والبحر المحيط للزركشي. 4/193 - 194 وغيرها من أمهات كتب الأصول.(1/97)
إذا كان الاعتبار هو لعين الوصف في عين الحكم فهو المؤثر وله تفصيل. أما الأقسام الثلاثة وهي اعتبار العين في الجنس والجنس في العين والجنس في الجنس فإن كان بوجود نظائر تشهد للوصف، أي أحكام أخرى يظهر فيها اعتبار الوصف فيسمى الوصف ملائماً. وإن كان لا يوجد نظائر، أي لا يشهد للوصف إلا حكم واحد فيسمى الغريب. قال الغزالي: "المناسب ينقسم إلى ما يلائم معاني الشرع ويجانس تصرفاته في ملاحظة المعاني، وإلى ما يكون غريباً لا يلفى له جنس"(1). وقال: "أما الملائم فنعني أنه عهد جنسه مؤثراً في ذلك الحكم وإن لم يعهد عينه في عين ذلك الحكم في محل آخر"(2).
وعلى ذلك فالمناسب المعتبر ثلاثة أقسام: مؤثر وملائم وغريب.
أ - المؤثر:
__________
(1) الغزالي، شفاء الغليل. ص: 148.
(2) المصدر نفسه: ص: 149. وقال في المستصفى: "والظن على مراتب واقواه المؤثر... ودونه الملائم ودونه المناسب الذي لا يلائم. وهو أيضاً درجات وان كان على ضعف، ولكنه يختلف بحسب قوة المناسبة، وربما يورث الظن المجتهدين في بعض المواضع، فلا يقطع ببطلانه، ولا يمكن ضبط درجات المناسبة اصلاً. بل لكل مسألة ذوقٌ آخر ينبغي ان ينظر فيه المجتهد". 2/305. وقوة المناسبة أو ضعفها ادت إلى تقسيم المناسب إلى حقيقي وعقلي، وإلى جعل الوصف في مراتب أقواه الضروري يليه الحاجي ثم التحسيني.
ويقول الشوكاني: "إن المناسب إما مؤثر أو غير مؤثر. وغير المؤثر إما ملائم أو غير ملائم. إما غريب أو مرسل أو ملغى" ارشاد الفحول. ص: 218.(1/98)
قال الغزالي: "المناسب ينقسم إلى مؤثر وملائم وغريب... ومعنى كونه مؤثرا أنه ظهر تأثيره في الحكم بالإجماع أو النص فلا يحتاج إلى المناسبة"(1) وقال الآمدي: "فإن كان معتبراً بنص أو إجماع فهو المؤثر"(2)، وهذا معناه عدم اشتراط المناسبة - عند الغزالي - للوصف الذي يثبت تأثيره أو عليته بالنص أو الإجماع. ويعد التعليل بالمؤثر من أقوى أنواع القياس. قال الغزالي: "القياس أربعة أنواع: المؤثر ثم المناسب ثم الشبه ثم الطرد. أدناها الطرد ويجب أن ينكره كل قائل بالقياس. أعلاها المؤثر ويجب أن يقول به كل منكر للقياس"(3).
وقال الشوكاني: "المؤثر: وهو أن يدل النص أو الإجماع على كونه علة تدل على تأثير عين الوصف في عين الحكم أو نوعه في نوعه"(4).
فالمؤثر هو الوصف الذي ثبت بالدليل تأثيره في الحكم فاعتباره هو ليس من قبيل مجيء الحكم على وفقه فحسب، أو شهادة الحكم له فحسب وإنما اعتباره هو من قبيل شهادة النص أو الإجماع.
__________
(1) أبو حامد محمد الغزالي، المستصفى في علم أصول الفقه، 2/297، المطبعة الأميرية ببولاق مصر المحمية، 1322هـ.
(2) الآمدي، الاحكام. 3/247.
(3) الغزالي، المستصفى. 2/318.
(4) الشوكاني، ارشاد الفحول. ص: 218.(1/99)
والمؤثر عند الأصوليين من الشافعية وفي أصول المتكلمين عموماً هو قسيم للملائم والغريب بخلاف الأصوليين من الحنفية. فهؤلاء جعلوا التأثير شرطاً من شروط العلة، ولذلك فلا يأخذون بمسلك المناسبة أصلاً، وإنما المناسبة عندهم شرط للتعليل بالوصف. ولذلك لا يقبلون الإكتفاء بكون الوصف معتبراً بمعنى شهادة الحكم له وإنما يشترطون شهادة النص، وهو ما يسمونه العدالة، أي عدالة الوصف وصلاحيته للتعليل. ولفظ الملائم في نصوصهم لا يعنون به ما يقصده غيرهم من المتكلمين، وإنما يقصدون به عين ما يقصده غيرهم بلفظ المناسب. قال الغزالي: "أعلم أن المؤثر مقبول باتفاق القائلين بالقياس، وقصر أبو زيد الدبوسي القياس عليه قال: لا يقبل إلا مؤثر، ولكنه أورد للمؤثر أمثلةً عرف بها أنه قبل الملائم ولكنه سماه أيضا مؤثراً"(1). والمراد بهذا النص أن الأحناف لا يقبلون إلا المؤثر.
__________
(1) الغزالي المستصفى. 2/299. وهذا القول للغزالي وهو أن الدبوسي يقبل الملائم ويسميه مؤثراً يراد به أن الحنفية يعللون بالملائم، وهو ما يرده أئمة الأصول الأحناف بشدة.(1/100)
قال البزدوي: "العدالة عندنا هي الأثر. ونعني بالأثر ما جعل له أثر في الشرع"(1). وقال شارح أصول البزدوي في كشف الأسرار: "وفسر الشيخ في بعض مصنفاته بهذه العبارة: ونعني بالتأثير أن يكون لجنس ذلك الوصف تأثير في إثبات جنس ذلك الحكم في مورد الحكم إما مدلولاً عليه بالكتاب أو بالسنة أو بالإجماع. أي يثبت أثر هذا الوصف بهذه الحجج. وذكر بعض الأصوليين أن أعلى أنواع القياس المؤثر"(2). فهو يورد قول إن المؤثر أعلى أنواع القياس منسوباً إلى بعض الأصوليون وليس إلى نفسه. ويقول إن المؤثر أربعة أقسام وهي العين في العين والعين في الجنس والجنس في العين والجنس في الجنس(3). في حين يقول الغزالي للتمييز بين المؤثر والملائم: "الفرق بينهما أن المؤثر هو الذي ظهر تأثير عينه في عين الحكم المتنازع فيه بالإجماع أو النص في محل النزاع أو غير محل النزاع... وأما الملائم فنعني به أنه عهد جنسه مؤثرا في جنس ذلك الحكم"(4). فعلى هذا، المؤثر عند البزدوي ينقسم إلى هذه الأقسام الأربعة، بينما عند الغزالي المؤثر هو أحد الأقسام الأربعة. وهذا الخلاف ينطبق على أئمة الأصول من الشافعية والحنفية.
ب - الملائم:
__________
(1) فخر الإسلام البزدوي، أصول فخر الإسلام البزدوي. 3/512، تحقيق: عبد الله محمود محمد عمر، دار الكتب العلمية ـ بيروت، ط1، 1418هـ - 1997م، مطبوع مع شرحه: كشف الأسرار، لعلاء الدين البخاري.
(2) علاء الدين البخاري، كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، 3/512، أنظر: الهامش السابق.
(3) علاء الدين البخاري، كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، ص: 513.
(4) الغزالي، شفاء الغليل، ص: 148 - 149.(1/101)
وهو وصف مناسب شهدت له أحكام كثيره، أو على الأقل حكمان، حكم يظهر فيه اعتبار الوصف المعين في الحكم المعين، وحكم أو أحكام أخرى يستفاد منها أن الوصف قد عهد اعتبار جنسه في الحكم أو اعتباره في جنس الحكم أو اعتبار جنسه في جنس الحكم.
إلا أنه تنبغي الاشاره هنا إلى الفرق بين أئمة الأحناف وغيرهم، وجميعهم ذكروا هذه الأنواع. وهو أن الأحناف لم يجيزوا تعميم الوصف أو الحكم من مجرد وجود شواهد له في أحكام أخرى، وإنما اشترطوا لثبوت أثر الوصف أو جنسه أن يكون الثبوت بالدليل الشرعي وليس من مجيء الحكم على وفقه. فكما اشترطوا لثبوت العين في العين أن يكون مؤثراً، فقد اشترطوا التأثير في سائر أنواع الاعتبار. وكما لم يروا في مجيء الحكم وفق الوصف دلالة على التعليل، فإنهم لم يروا - أيضاً - أي دلالة على التعميم أو التجنيس في كثرة الشواهد. قال البزدوي: "العدالة عندنا هي الأثر"(1)، وقال الشارح في كشف الأسرار: "وأما العرض على الأصول فلا يقع به التعديل وأقصى ما في الباب أن تكون النصوص موافقة للوصف فيحصل به كثرة النظائر وبكثرة النظائر لا تحصل قوة في الوصف"(2) وقال: "لأن كون الوصف علة وضع شرعي كما أن الحكم كذلك فلم يمكن إثباته إلا بالدليل الشرعي"(3).
وعليه فالملائم هو ما ثبت فيه اعتبار جنس الوصف في عين الحكم أو في جنسه، أو عين الوصف في جنسه. والخلاف فيه هو في ثبوت الاعتبار. فإن كان الثبوت بالدليل فهو متفق عليه بين القائسين، وإن كان بطريق شهادة الحكم للوصف ووجود نظائر له، فمختلف فيه كثيراً.
__________
(1) البزدوي، أصول البزدوي. 3/512.
(2) علاء الدين البخاري، كشف الأسرار، 3/513، والمراد بالعرض على الأصول عرض الوصف المشهود له في حكم على أحكام أخرى تشهد له، فيقال بناء على ذلك انه قد عهد اعتباره أو اعتبار جنسه في الشرع.
(3) المصدر، نفسه. ص: 509 - 510.(1/102)
ومن أمثلته جواز الجمع بين المكتوبتين بوصف الحرج. فحكم جواز الجمع في السفر يشهد لوصف الحرج وجواز الجمع بينهما في الحضر مع المطر يشهد لوصف الحرج. فحرج المطر وحرج السفر نوعان من الحرج يشملهما جنس الحرج واعتبار الحرج هنا هو اعتبار لجنس الوصف بغير دليل وانما فقط باستقراء الأحكام. وقد قيل إن هذا المثل فيه ما فيه(1).
وَمُثلَ له أيضاً بإسقاط الركعتين الساقطتين عن المسافر بوصف المشقة. وإسقاط القضاء عن الحائض بوصف المشقة. فاعتبار عموم المشقة هنا هو اعتبار لجنس الوصف. وهذا المثل أيضاً فيه ما فيه(2).
جـ - الغريب:
وهو وصف مناسب، ظهر اعتباره في حكم واحد. قال علماء الأصول من الشافعية بصلاحيته للتعليل، ورده الأحناف. قال الآمدي: "أن يكون الشارع قد اعتبر خصوص الوصف في خصوص الحكم من غير أن يظهر اعتبار عينه في جنس ذلك الحكم في اصل آخر متفق عليه ولا جنسه في عين ذلك الحكم ولا جنسه في جنسه ولا دلَّ على كونه علة نص ولا إجماع لا بصريحه ولا بإيمائه، وذلك كمعنى الإسكار"(3). ثم قال: "فلو قدَّرنا انتفاء النصوص الدالة على كون الاسكار علة فلا يكون معتبراً بنص أيضاً، وهذا هو المناسب الغريب وهو مختلف فيه بين القياسيين وقد أنكره بعضهم وإنكاره غير متجه لأنه يفيد الظن بالتعليل"(4).
__________
(1) أنظر: الأنصاري، عبد العلي محمد بن نظام الدين، فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت، 2/265، مطبوع مع المستصفى للغزالي، المطبعة الأميرية ببولاق، مصر المحمية، سنة 1322هـ.
(2) أنظر: الشوكاني، ارشاد الفحول، ص: 217. وانظر: الغزالي، شفاء الغليل، ص: 149.
(3) الآمدي، الاحكام. 3/247.
(4) الموضع نفسه.(1/103)
وقال الغزالي: "وأما الغريب الذي لم يظهر تأثيره ولا ملاءمته لجنس تصرفات الشارع فمثاله: قولنا: إن الخمر إنما حرمت لكونها مسكرة ففي معناه كل مسكر، ولم يظهر أثر السكر في موضع آخر لكنه مناسب. وهذا مثال الغريب لو لم يُقدَّر التنبيه بقوله: { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ } (1). ومثاله أيضاً قولنا: أن المطلقة ثلاثاً في مرض الموت ترث لأن الزوج قصد الفرار من ميراثها فيعارض بنقيض قصده قياساً على القاتل فإنه لا يرث لأنه يستعجل الميراث فعورض بنقيض قصده. فإن تعليل حرمان القاتل تعليل بمناسب لا يلائم جنس تصرفات الشرع لأنا لا نرى الشرع في موضع ٍ آخر التفت إلى جنسه فتبقى مناسبته مجردة غريبة. ولو علل الحرمان بكونه متعدياً بالقتل وجعل هذا جزاءً على العدوان كان تعليلاً بمناسب ملائم ليس بمؤثر لأن الجناية بعينها وإن ظهر تأثيرها في العقوبات فلم يظهر تأثيرها في الحرمان من الميراث"(2).
والجدير بالذكر هنا أن واقع المناسب الغريب وأمثلته عند الذين يقولون به كالآمدي والغزالي كما تبين، هو نفس واقع وأمثلة المناسب المرسل عند الذين يقولون به كما سيتبين. وقد ذكر الآمدي كمثال على المناسب الغريب: "اعتبار جنس المشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في جنس التخفيف، فإن عين مشقة الحائض ليست عين مشقة المسافر بل من جنسها، وعين التخفيف عن المسافر بإسقاط الركعتين ليس عين التخفيف عن الحائض بإسقاط الصلاة بل من جنسها"(3).
__________
(1) سورة المائدة، 91.
(2) الغزالي، المستصفى. 2/298. وهذا النص مفيد - إذا دقِّقَ فيه - للتفريق بين كل من المؤثر والملائم والغريب.
(3) الآمدي، الإحكام. 3/247 - 248.(1/104)
وذكر الشوكاني مثلاً للغريب قال: "اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم وذلك كتعليل كون حد الشرب ثمانين بأنه مظنة القذف لكونه مظنة الافتراء فوجب أن يقام مقامه قياساً على الخلوة فانها لما كانت مظنة الوطء أقيمت مقامه"(1).
وقد قال علماء الأصول من الشافعية بصلاحية المناسب الغريب للتعليل. قال الآمدي: "وقد أنكره بعضهم وإنكاره غير متجه لأنه يفيد الظن بالتعليل"(2). وقال الغزالي: "وأما المناسب الغريب فهذا في محل الاجتهاد ولا يبعد عندي أن يغلب ذلك على ظن بعض المجتهدين ولا يدل دليل قاطع على بطلان اجتهاده"(3).
أما الأحناف فقد ردوه وردوا كل مسلك المناسبة أصلاً. وهذا جنس أقوال أئمتهم: "وأما الخيال... فأمر باطل لأنه عبارة عن مجرد الظن لأن الخيال والظن واحد، والظن لا يغني من الحق شيئاً، ولا يقال: الظن معتبر في الشرع في وجوب العمل به كخبر الواحد والقياس، لأنا نقول: المعتبر هو الذي قام دليل قطعي على اعتباره في وجوب العمل لا مطلق الظن، ولم يقم ههنا دليل على اعتباره شرعاً فوجب إهداره"(4).
2- الملغى:
__________
(1) الشوكاني، إرشاد الفحول. ص: 218. وهذا المثال نفسه ذكره الرازي كمثال على المناسب المرسل.
(2) الآمدي، الإحكام.3/247.
(3) الغزالي، المستصفى. 3/247.
(4) علاء الدين البخاري، كشف الأسرار، 3/518.(1/105)
وهو وصف لم يشهد له حكم بالاعتبار، وظهر الاعتبار لعكسه. قال الأسنوي: "الوصف المناسب على ثلاثة أقسام: أحدها أن يلغيه الشارع أي يورد الفروع على عكسه فلا إشكال في أنه لا يجوز التعليل به"(1). ثم قال: "وذلك كإيجاب صوم شهرين في كفارة الجماع في نهار رمضان على الملك وإن كان أبلغ في ردعه من العتق لكن الشارع ألغاه بإيجابه الإعتاق ابتداءً فلا يجوز اعتباره"(2).
وقال الآمدي: "المناسب الذي لم يشهد له أصل بالاعتبار بوجه من الوجوه وظهر مع ذلك إلغاؤه وإعراض الشارع عنه في صورة، فهذا مما اتفق على إبطاله وامتناع التمسك به"(3). ثم أورد المثال نفسه المذكور أعلاه عن الأسنوي.
وقال الشاطبي: "ما شهد الشرع بردِّه فلا سبيل إلى قبوله إذ المناسبة لا تقتضي الحكم لذاتها وإنما ذلك مذهب أهل التحسين العقلي"(4). ثم أورد المثال نفسه المذكورأعلاه منسوباً إلى الغزالي، وقال: "فهذا مناسب لأن الكفارة مقصود الشرع منها الزجر والملك لا يزجره الإعتاق ويزجره الصيام وهذه الفتيا باطلة"(5).
3- المرسل(6):
__________
(1) الأسنوي، نهاية السول 4/91.
(2) الموضع نفسه، وإيجاب الإعتاق مأخوذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي قال له: واقعت أهلي في رمضان، قال له: "أعتق رقبة، قال: لا أجدها. قال: صم شهرين متتابعين. قال: لا أطيق. قال: أطعم ستين مسكيناً" البخاري (1801)، (2410)، مسلم (1870)، (1871)، الترمذي (656) وقال: حسن صحيح، وأحمد (10270).
(3) الآمدي، الإحكام 3/249.
(4) الشاطبي، الاعتصام 2/374.
(5) الموضع نفسه.
(6) المعنى اللغوي الأقرب للفظ المرسل هنا هو ما جاء في لسان العرب: أرسل الشيء أطلقه وأهمله. 11/285. ولكن المقصود هنا هو ليس المعنى اللغوي وإنما المعنى الاصطلاحي في أصول الفقه.(1/106)
هو وصف مناسب لا يعلم اعتباره ولا إلغاؤه. وقد أطلق عليه اسم المصلحة المرسلة، والاستدلال المرسل والاستصلاح. وجعله بعض الأصوليين من مباحث الاستدلال. قال الزركشي: "قد مر الكلام في القياس، في المناسب الذي اعتبره الشارع أو ألغاه. والكلام فيما جهل، أي سكت الشارع عن اعتباره واهداره، وهو المعبر عنه بالمصالح المرسلة ويلقب بالاستدلال المرسل. ولهذا سميت مرسلة، أي لم تعتبر ولم تلغ، وأطلق إمام الحرمين وابن السمعاني عليه اسم الاستدلال، وعبَّر عنه الخوارزمي في الكافي بالاستصلاح. قال والمراد بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق. وفسره الإمام والغزالي بأن يوجد معنى يشعر بالحكم مناسب له عقلاً، ولا يوجد أصل متفق عليه والتعليل المصور جار فيه. وفسره ابن برهان في الأوسط بان لا يستند إلى أصل كلي ولا جزئي، وفيه مذاهب"(1). وقد اختلف المراد بالمناسب المرسل عند الأصوليين، وتعارضت الآراء في أخذه ورده. والأكثرون على أنه لا يصلح الاستدلال به. قال الدكتور مصطفى البغا: "تكاد كلمة الأصوليين تلتقي على أن القول بالاستصلاح أمر مختلف فيه وأن الراجح من الآراء أنه لا يصلح الاستدلال به إذ لا دليل على اعتباره وأنه لم يذهب إلى القول به إلا الإمام مالك رحمه الله تعالى"(2).
__________
(1) الزركشي، البحر المحيط، 4/377. وانظر: ارشاد الفحول، ص: 241، والمستصفى، 1/284، والاحكام، 4/361.
(2) مصطفى ديب البغا، أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي، ص: 43، دار الإمام البخاري ـ دمشق.(1/107)
ولقد أدى نقل أقوال العلماء فيه من غير تحقيق للمعنى للمراد عند كل منهم إلى تضارب النقول. قال الدكتور محمد حسن هيتو: "إعلم أن مسألة الاستدلال المرسل قد وقع فيها خبط كثير فتضاربت فيها النقول وتشعبت الآراء"(1). واشتهرت نسبة القول بها إلى الإمام مالك رضي الله عنه ونُسب إليه في ذلك استرسال غير منضبط. ونسبها البعض إلى الشافعية والحنفية وغيرهم إلى الشافعية دون الحنفية، وذهب البعض إلى وجودها في كل المذاهب، وذهب آخرون إلى الاتفاق على ردها وأنكر نسبتها إلى مالك رحمه الله. وفيما يلي بعض تلك النقول:
قال الجويني: "ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبى حنيفة إلى اعتماد الاستدلال وإن لم يستند إلى حكم متفقٍ عليه في أصل"(2)، في حين ذهب الآمدي إلى نقيض ذلك فقال: "المناسب المرسل... وقد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك به وهو الحق"(3). وقال القرافي: "والذي جهل أمره هو المصلحة المرسلة التي نحن نقول بها، وعند التحقيق هي عامة في المذاهب"(4). وقد أشكلت المنقولات عن الغزالي حيث قال: "من استصلح فقد شرَّع كما أن من استحسن فقد شرع"(5). وقال: "كل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي عُلِم كونه مقصوداً بالكتاب والسنة والإجماع فليس خارجاً عن هذه الأصول لكنه لا يسمى قياساً بل مصلحةً مرسلة... وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجة للخلاف منها، بل يجب القطع بكونها حجة"(6).
__________
(1) محمد حسن هيتو، تعليقه على المنخول من تعليقات الأصول لأبي حامد الغزالي.
(2) الجويني، البرهان 2/721. فقرة: 1130.
(3) الآمدي، الإحكام. 4/394.
(4) القرافي، شرح تنقيح الوصول. ص: 394.
(5) الغزالي، المستصفى، 1/286.
(6) المصدر نفسه، 1/315.(1/108)
وتعارضت المنقولات فيها عن الإمام مالك رضي الله عنه. فقال الشاطبي: "فإنه استرسل فيه استرسال المدل العريق في فهم المعاني المصلحية نعم مع مراعاة مقصود الشارع أن لا يخرج عنه ولا يناقض أصلاً من أصوله، حتى لقد استشنع العلماء كثيراً من وجوه استرساله زاعمين أنه خلع الربقة، وفتح باب التشريع، وهيهات ما أبعده من ذلك! رحمه الله"(1). وقال عنه الجويني: "فرُئيَ يثبت مصالح بعيدة عن المصالح المألوفة والمعاني المعروفة في الشريعة وجره ذلك إلى استحداث القتل واخذ المال بمصالح تقتضيها في غالب الظن وان لم يجد لتلك المصالح مستنداً إلى أصول، ثم لا وقوف عنده بل الرأي رأيه ما استدَّ نظره فيه وانتقض عن أوضار التهم والأغراض"(2). وقال ابن قدامة المقدسي: "كما حُكيَ أن مالكاً قال: يجوز قتل الثلث من الخلق لاستصلاح الثلثين"(3). وفي مقابل هذه الأقوال هناك من ينكر ذلك عن الإمام مالك. قال الشوكاني: "وقد أنكر جماعة من المالكية ما نسب إلى مالك من القول بها ومنهم القرطبي وقال: ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبى حنيفة إلى عدم الاعتماد عليها وهو مذهب مالك، قال: وقد اجترأ إمام الحرمين فيما نسب إلى مالك من الإفراط في هذا الأصل، وهذا لا يوجد في كتب مالك ولا في شيء من كتب أصحابه"(4). وقال الآمدي: "المناسب المرسل... وقد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك به، وهو الحق، إلا ما نقل عن مالك أنه يقول به مع إنكار أصحابه لذلك عنه. ولعل النقل ان صح عنه فالأشبه أنه لم يقل بذلك في كل مصلحة، بل فيما كان من المصالح الضرورية الكلية الحاصلة قطعاً"(5)،
__________
(1) الشاطبي، الاعتصام، 2/388.
(2) الجويني، البرهان، 2/721. فقرة: 1128.
(3) ابن قدامة المقدسي، روضة الناظر وجنة المناظر، ص: 150.
(4) الشوكاني، إرشاد الفحول، ص: 242.
(5) الآمدي، الأحكام. 4/394..(1/109)
ويقول الدكتور هيتو: "وأما نسبة القول إلى مالك بهذا النوع من الإستدلال المرسل فهي نسبة غير متفقٍ عليها"(1). وقد اثبت الدكتور هيتو خطأ نسبة كثير من الأقوال إلى الإمام مالك رحمه الله(2).
إن هذا المقدار من التضارب يرجع إلى اختلاف معنى المرسل عند المتعارضين وعند الناقلين. فقد استعمل لفظ المرسل بمعنى ما لم يُعلم إلغاؤه أو اعتباره إطلاقاً. أي لم يشهد أي حكم له. واستعمل أيضاً بمعنى الملائم أو الغريب.
أما المعنى الأول: فقد اتفق الكل على رده. وهو المراد بنفي نسبته إلى الشافعية والحنفية وبإنكاره عن مالك.
وأما المعنى الثاني: فرده الجمهور، واشترط القائلون به أن يكون ملائماً، ونقل الاتفاق على رده إن كان غريباً، وقال البعض بإمكانية قبوله وفيما يلي التفصيل:
أما أن كان مرسلاً بإطلاق فهذه بعض الأقوال فيه:
قال الآمدي: "إن المصالح تنقسم باعتبار شهادة الشرع إلى معتبرة وإلى ملغاة وإلى ما لم يشهد لها باعتبار ولا إلغاء وهذا الأخير هو المعبر عنه بالمناسب المرسل... وهذا القسم مترددٌ بين ذينك القسمين وليس إلحاقه بأحدهما بأولى من الآخر. فامتنع الاحتجاج به دون شاهد بالاعتبار يعرف انه من قبيل المعتبر دون الملغى"(3).
وقال عز الدين بن عبد السلام: "وكذلك لا حكم إلا له (أي لله) فأحكامه مستفادة من الكتاب والسنة والإجماع والأقيسة الصحيحة والاستدلالات المعتبرة، فليس لأحد أن يستحسن ولا أن يستعمل مصلحة مرسلة، ولا أن يقلد أحداً لم يؤمر بتقليده"(4).
__________
(1) هيتو، مقدمته على المنخول من تعليقات الأصول، الهامش. ص: 354 - 365.
(2) الموضع نفسه.
(3) الآمدي، الإحكام، 4/160.
(4) عز الدين بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ص: 304، مؤسسة الريان ـ بيروت، 1410هـ ـ 1990م، طبعة جديدة منقحة.(1/110)
وقال الغزالي: "الاستصلاح ليس أصلاً خامساً برأسه، بل من استصلح فقد شرَّع كما ان من استحسن فقد شرَّع"(1). وقال: "هذا من الأصول الموهومة إذ من ظن انه اصل خامس فقد اخطأ لأنا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنة والإجماع وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع فهي باطلة مطروحة ومن صار إليها فقد شرع كما ان من استحسن فقد شرع"(2).
وكذلك اشتهر عن الأحناف رده ورد كل مسلك المناسبة أصلا. فيردون المناسب ولو كان معتبراً إذ يشترطون التأثير. قال ابن همام الدين الإسكندري الحنفي: "هذا القسم المسمى بالمصالح المرسلة، والمختار رده، إذ لا دليل على الاعتبار، وهو دليل شرعي، فوجب رده"(3).
وقد اشتهر عن أئمتهم قول: لا دليل فلا اعتبار. وقال الأنصاري: "المصالح المرسلة حجة عند مالك رحمة الله تعالى، والمختار عند الجمهور من أهل الأصول والفقهاء رده. لنا: لا دليل بدون الاعتبار من الشارع وان كان على سنن العقل وهذا لا يتأتى ممن يقول بالإخالة"(4).
وقال ابن قدامة المقدسي: "يسمى ذلك مصلحة مرسلة ولا نسميه قياساً لان القياس يرجع إلى اصل معين والصحيح ان ذلك ليس بحجة لأنه ما عرف من الشارع المحافظة على الدماء بكل طريق، ولذلك لم يشرع المثلة وان كانت ابلغ الردع والزجر، ولم يشرع القتل في السرقة وشرب الخمر، فإذا أثبت حكماً لمصلحة من هذه المصالح لم يعلم أن الشرع حافظ على تلك المصلحة بإثبات ذلك الحكم كان وضعاً للشرع بالرأي وحكماً بالعقل المجرد"(5).
__________
(1) الغزالي، المستصفى، 1/315.
(2) المصدر نفسه، 1/310.
(3) ابن همام الإسكندري، مطبوع مع شرحه تيسير التحرير لأمير بادشاه، دار الكتب العلمية - بيروت، 3/315.
(4) الأنصاري، فواتح الرحموت. 2/266.
(5) ابن قدامة المقدسي، روضة الناظر وجنة المناظر. ص: 150.(1/111)
وقال مجد الدين بن تيمية: "المصالح المرسلة لا يجوز بناء الأحكام عليها. قاله الباقلاني وجماعة المتكلمين"(1).
وقال ابن الحاجب المالكي: "المصالح المرسلة مصالح لا يشهد لها اصل بالاعتبار في الشرع وإن كانت على سنن المصالح وتلقتها العقول بالقبول"(2). ثم قال: "لنا ان لا دليل فوجب الرد كما في الاستحسان"(3).
وكذلك ردها الفخر الرازي إن كانت بهذا المعنى، وقال إنها مردودة بالإجماع مع انه من الآخذين بالمصالح المرسلة، مما يدل على انه لا يعني بالمرسل ما كان مرسلاً بإطلاق. قال: "مناسب لا يلائم ولا يشهد له اصل معين فهذا مردود بالإجماع ومثاله حرمان القاتل من الميراث معارضة له بنقيض قصده لو قدَّرنا انه لم يرد فيه نص"(4).
ونجد الأمر نفسه عند الشاطبي إذا كان بمعنى المرسل بإطلاق، فهو يبين أن ما كان كذلك فهو باطل وتشريع بالعقل وينقل أن هذا المرسل مردود بالإتفاق. يقول: "المناسبة لا تقتضي الحكم لنفسها وإنما ذلك مذهب أهل التحسين العقلي، بل إذا ظهر المعنى وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام فحينئذ نقبله فإن المراد بالمصلحة عندنا ما فهم رعايته في حق الخلق من المصالح ودرء المفاسد على وجه لا يستقل العقل بدركه، فإن لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى، بل برده كان مردوداً باتفاق المسلمين"(5).
__________
(1) آل تيمية، المسوَّدة، ص: 450. تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الكتاب العربي - بيروت.
(2) ابن الحاجب، حاشيتا التفتازاني والجرجاني على مختصر المنتهى الاصولي. 2/389. دار الكتب العلمية - بيروت
(3) الموضع نفسه.
(4) الرازي، المحصول. 5/167.
(5) الشاطبي، الاعتصام. 2/374.(1/112)
وقال: "كتعليل منع القتل للميراث. فالمعاملة بنقيض المقصود تقدير إن لم يرد نص على وفقه فإن هذه العلة لا عهد بها في تصرفات الشرع بالفرض ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر، فلا يصح التعليل بها ولا بناء الحكم عليها باتفاق، ومثل هذا تشريع من القائل به فلا يمكن قبوله"(1).
بناء على هذه النصوص وخاصة من الآخذين بالمصالح المرسلة يتبين أن الاستدلال بالمرسل لا يعني الاستدلال بالمصلحة فهذا يعني جعل العقل مشرعاً، وهذا مردود اتفاقاً. فلم يبق ان يكون معنى المرسل عند الآخذين به إلا بمعنى الملائم أو الغريب.
ويؤكد هذا الأمر ما نجده عند بعض أئمة الأصول من تقسيم المرسل نفسه إلى ملغى وغريب وملائم، وهذا يعني ان المرسل الممكن قبوله أو وقوع الخلاف فيه هو ما كان غريباً أو ملائماً. قال الأنصاري: "المرسل وينقسم إلى ما علم إلغاؤه بنص أو إجماع... وإلى ما لم يعلم، فإن لم يعلم فيه أحد اعتبارات الملائم من اعتبار نوعه أو جنسه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم، لكن لم يعلم إلغاؤه أيضا فهو الغريب من المرسل، وهو المسمى المصالح المرسلة، وإن علم فيه أحد اعتبارات الملائم فهو المرسل الملائم"(2).
وقال الغزالي: "وإنما اختلاف القائسين في المناسب الغريب: الذي لا يلائم، والمناسب الملائم: الذي لم يشهد له أصل معين وهو الذي يلقب - في لسان الفقهاء - بالاستدلال المرسل، يعنى به الاعتماد على المعنى المناسب المصلحي الذي يظهر في الفرع بغير استشهاد بأصل معين"(3). وقال: "فأما المناسب الغريب - الذي لا يلائم ولا يشهد له أصل معين - فهذا مردود: لا يعرف فيه خلاف"(4).
__________
(1) الموضع نفسه، ص: 375.
(2) الأنصاري، فواتح الرحموت. 2/301.
(3) الغزالي، شفاء الغليل: ص 188.
(4) الموضع نفسه.(1/113)
وقال الشوكاني: "قال ابن الحاجب في مختصر المنتهى: وغير المعتبر هو المرسل فإن كان غريباً أو ثبت إلغاؤه فمردود اتفاقاً. وإن كان ملائماً فقد صرح الإمام الغزالي بقبوله وذكر عن مالك والشافعي، والمختار رده، وشرط الغزالي فيه أن تكون المصلحة ضرورية قطعياً كلية"(1). وقال أيضاً: "الغريب غير الملائم وهو مردود بالاتفاق"(2). ونَقْلُ الاتفاق على رد الغريب يتعارض مع المنقول سابقاً عن الغزالي والآمدي حيث قال الغزالي: "المناسب الغريب فهذا في محل الاجتهاد"(3). وقال الآمدي: "وقد أنكره بعضهم وإنكاره غير متجه لأنه يفيد الظن بالتعليل"(4). وتعارض الأقوال في الغريب يرجع إلى اختلاف معناه. بل إن الغزالي نفسه الذي قال بإمكانية قبوله هو الذي نقل رده بلا خلاف. ولكنه بين مقصوده في كل مرة، فقد رده إذا كان بمعنى المرسل، وقال بإمكانية قبوله إذا كان بمعنى أنه شهد له حكم.
__________
(1) الشوكاني، إرشاد الفحول، ص: 218.
(2) الموضع نفسه.
(3) وقد تبيَّن هذا سابقاً تحت عنوان: الغريب ص: 85 - 87 من هذا الكتاب.
(4) الموضع نفسه من هذا الكتاب.(1/114)
قال الرازي: "مناسب ملائم لا يشهد له أصل معين بالاعتبار، يعني أنه اعتبر جنسه في جنسه، لكنه لم يوجد له أصل يدل على اعتبار عينه في عينه، وهذا هو المصالح المرسلة"(1). ثم قال: "مثال تأثير الجنس في الجنس تعليل الأحكام بالحكم التي لا تشهد لها أصول معينة مثل أن علياً رضي الله عنه أقام الشرب مقام القذف إقامة لمظنة الشيء مقامه قياساً على إقامة الخلوة بالمرأة مقام وطئها في الحرمة(2). وهذا المثال عينه ذكره الشوكاني كمثال على المناسب الغريب(3).
إذن، المرسل عند الذين يأخذون به هو الغريب أو الملائم، فهو لم يشهد له أصل معين، وليس لم يشهد له أصل أبداً. أما ما كان مرسلاً بإطلاق فمردود بلا خلاف.
والمناسب الغريب مردود عند الشاطبي. فهو لا يكتفي بشهادة أصل واحد أو بضعة أصول ليقول باعتبار الجنس، وإنما يشترط أن تشهد له أصول كثيرةٌ كثرةً تصل حد القطع بنظره، يقول: "أن يلائم تصرفات الشرع، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع بالجملة بغير دليل معين وهو الاستدلال المرسل المسمى بالمصالح المرسلة"(4). ويقول: "كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين وكان ملائما ً لتصرفات الشرع ومأخوذاً معناه من أدلته فهو صحيح يُبنى عليه ويُرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعاً به... ويدخل تحت هذا الاستدلال المرسل الذي اعتمده مالك والشافعي"(5).
__________
(1) الرازي، المحصول. 5/167.
(2) الموضع نفسه.
(3) أنظر ص: 86 من هذا الكتاب. وهذا المثال أيضاً يتعارض مع ما نقل من الاتفاق على رد المناسب الغريب. وتفسيره بأن الرازي لا يعد هذا المثال من قبيل الغريب وإنما هو عنده من الملائم. وله في ذلك حجة ليست محل بحثنا.
(4) الشاطبي، الاعتصام. 2/375.
(5) المصدر نفسه، 1/16.(1/115)
أما ما نُقل سابقاً عن القرافي: "عند التحقيق هي عامة في المذاهب". فإن كان مراده بالمصلحة المرسلة أو المناسب المرسل المعنى الذي نبحثه فالأقوال المذكورة أعلاه تنقض قوله بكشل قاطع.
وتنبغي الإشارة هنا - وإن كان هذا ليس من موضوعنا - إلى أن المصلحة المرسلة التي هي عامة في المذاهب ومقبولة بالاتفاق هي ليست التي لم يشهد لها حكم بعينها، وإنما هي التي لم يشهد لها نص بعينها، وشهد لها الدليل العام أو الكلي باندراجها تحت أفراده أو أجزائه من غير نص عليها. وهي بهذا المعنى يندرج تحتها مثلاً جمع القرآن الذي فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه ونسخه الذي فعله عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتدوين الدواوين الذي فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه(1). فهذه الأمور وأمثالها تندرج تحت أدلة كلية أو عامة مثل: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ومثل: لا ضرر ولا ضرار، ومثل: الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم وغيرها. فهذه الأعمال كلها مرسلة من الدليل الخاص أو الجزئي الذي ينص على الواقعة بعينها، ولكنها مشمولة بالدليل العام أو الكلي. وهذا المعنى هو مراد الشاطبي كما بيَّنه في الاعتصام وفي الموافقات(2).
شروط الوصف المناسب:
لقد وضع القائلون بمسلك المناسبة شرطين للتعليل بالوصف المناسب:
الأول: أن يكون الوصف معتبراً. أي أن الحكم الذي يجري تعليله يجب أن يكون ذلك الوصف موجوداً فيه. أي جرى الحكم على وفقه.
__________
(1) أنظر: الأنصاري، فواتح الرحموت. 2/301.
(2) وسنفرد لاحقاً- إن شاء الله - بحثا ً لمراد الشاطبي بالمصالح المرسلة.(1/116)
الثاني: أن يكون سالماً عن المعارضة والبطلان. أي أن لا يكون الوصف ملغىً. والبطلان هو النص على إلغاء الوصف كما في فتوى صيام شهرين متتابعين للسلطان الذي واقع في شهر رمضان. أما المعارضة فهي أن يكون هناك حكم أو أحكام أخرى جرت وفق نقيض الوصف أو خلافه. وذلك مثل رخصة الافطار والجمع بين المكتوبتين في السفر للملك المترفِّه. فقد عارضت هذه الأحكام وصف المشقة.
ولذلك اشترط المعللون بالمناسب عرض الوصف على الأصول، أي على الأحكام ليتبيَّن عدم معارضته. قال البزدوي: "العدالة عندنا هي الأثر... وقال بعض أصحاب الشافعي: عدالته بكونه مخيلاً ثم العرض على الأصول احتياطاً سلامته عن المناقضة والمعارضة. وقال بعض أصحابه بل عدالته بالعرض على الأصول فإذا لم يرده أصل مناقضاً ولا معارضاً صار معدلاً. وإنما يعرض على أصلين فصاعداً. فعلى الأول يصح العمل به قبل العرض وعلى الثاني لا يصح لأنه به يصير حجة. وعلى القول الأول صار حجةً بكونه مخيلاً"(1). ثم قال: "وأما العرض على الأصول فلا يحصل به التعديل"(2) أي عنده.
وقال الشارح في كشف الأسرار: "إن مناقضة الوصف: إبطال نفسه بأثر أو نص أو إجماع يرد على خلافه أو إيراد صورة تخلِّف الحكم فيها عن الوصف. ومعارضة الوصف: إيراد وصف آخر يوجب خلاف ما أوجبه ذلك له من غير تعرض لنفس الوصف. ثم معنى عرض الوصف على الأصول أن يقابل بقوانين الشرع فإن طابقها وسلم عن المبطلات والعوارض فقد شهدت الأصول لصحته وصار حجة"(3).
الفصل الثاني
نشأة فكرة مقاصد الشريعة
ويحتوي على عرض موجز لنشأة الفكرة، وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: المحاججات التي أدت إلى فكرة المقاصد.
المبحث الثاني: انبثاق فكرة مقاصد الشريعة.
المبحث الثالث: المدخل إلى فكرة المقاصد عند الإمام الشاطبي.
الفصل الثاني
__________
(1) البزدوي، أصول البزدوي. 4/513.
(2) الموضع نفسه، ص:519.
(3) علاء الدين البخاري، كشف الأسرار. 3/514.(1/117)
نشأة فكرة مقاصد الشريعة
عرض موجز لنشأة الفكرة:
وسأقدم فيما يلي عرضاً موجزاً لنشأة الفكرة، يعقبه البيان بالتفصيل والتوثيق من أقوال الأئمة ومحاججاتهم، مبتدئاً من حيث انتهيت في الفصل السابق، أي من الخلاف في المناسبة، هل هي مسلك للتعليل أو لا.
وقد تبين - فيما سبق - معنى المناسبة وأن من الأئمة من اتخذها مسلكاً من مسالك العلة - قائماً بذاته - وجعل لها شروطاً، وبذلك كانت المناسبة أقساماً، ومنهم من ردَّ كونها مسلكاً،وجعلها شرطاً لصلاحية التعليل بالوصف بأي مسلك أتى. ومنهم من جعلها شرطاً في بعض المسالك دون غيرها.
فعلماء الشافعية يقولون إن الوصف المناسب في الحكم هو مما يتعلق الظن بكونه علة، والظن معمول به في الشرعيات، وعليه فيجب العمل بمسلك المناسبة، وأئمة الأحناف يردون هذا بأن ليس كل ظن شرعياً، ويشترطون لقبول التعليل ان يكون الوصف مؤثراً.
فلو أخذنا أحكاماً مثل تحريم الربا أو وجوب الزكاة في أموال دون غيرها، أو تحريم لبس الذهب والحرير على الرجال دون النساء، أو تحريم استعمال آنية الذهب والفضة في الطعام. فإن العقل يبحث عن الأوصاف المناسبة في هذه الأحكام أو عن الحِكَم فيها. فالقائلون بمسلك المناسبة يذهبون إلى التعليل بهذه الحكم. والرادون له يعدُّون هذا التعليل تحكُّماً بغير دليل، ومن قبيل الرأي. ويشترطون لقبول هذا التعليل أن يكون الوصف مؤثراً، أي أن يثبت أثره بدليل.
وقد ذهب الآخذون بهذا المسلك إلى التعمق في أبحاثهم، والتطويل فيها دفاعاً عنه وعن غيره أيضا، كمسلك الشبه. واحتدم الجدل، وكان أكثر احتداماً في موضوع المناسب المرسل أو الاستدلال.(1/118)
بنتيجة هذا الجدال خرج الجويني بفكرة مقاصد الشريعة التي تشكل ضوابط الوصف المناسب، فالقول بمقصد أو مقاصد للشريعة والحاق الوصف أو المعنى المناسب بهذا المقصد يقوِّي التعليل بالوصف، إذ يحصل بذلك جريان الوصف المناسب بحسب مقاصد الشريعة، أو كما عبَّر عنها - فيما بعد - تلميذه الغزالي ان تكون المصلحة على منهاج المصالح المعتبرة وهي الكليات الخمس.
إلا أن هذه الفكرة لم تؤثر - سلباً ولا إيجاباً - على أصول من يردُّ هذا المسلك وَهُمُ السادة الأحناف، ولذلك نجدهم يذكرونها بقولهم: وقالوا.
وقد استدعت فكرة مقاصد الشريعة والتعليل بالمناسب بحثاً آخر. وهو أن الأصل في الأحكام الشرعية التعليل. ولذلك فما لا تثبت علته بالمسالك المتفق عليها عند أكثر القائسين كالنص والإجماع والإيماء والتنبيه، فلا بد من إثبات علةٍ له إن أمكن، فإذا احتمل الحكم التعليل وجب تعليله.
وقد أسهب في بيان هذا الأصل، والخلاف فيه، وفي بيان أدلة كل فريق، الآمدي في الإحكام، والرازي في المحصول، حيث أثبت الآمدي أصل التعليل، وقطع الرازي ببطلانه مع أنه يقول بالقياس وبالعلة ويقول بمسلك المناسبة. وتحقيق الأمر - كما سيتبين - هو أن المقطوع ببطلانه عند الرازي هو التعليل فيما يتعلق بذات الله وقد أشرت إلى معنى العلة عنده في الفصل السابق(1).
ثم جاء الشاطبي بموافقاته، فأشار في كتاب المقاصد - من كتابه الموافقات - إلى موقف الرازي ورده، وأثبت التعليل لأفعال الله وأحكامه - سبحانه وتعالى - وأنَّ ذلك على سبيل القطع، فقال: "أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراءً لا ينازع فيه الرازي ولا غيره... وإذا دل الاستقراء على هذا وكان في مثل هذه القضية مفيداً للعلم فنحن نقطع بأن الامر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة"(2).
__________
(1) أنظر ص: 51.
(2) الشاطبي، الموافقات. 2/2 - 3.(1/119)
وهذا المقدار من الخلاف، كالذي بين الرازي والشاطبي، حيث يقطع الأول ببطلان أصل التعليل، ويقطع الثاني بصحته وبوجوده في جميع تفاصيل الشريعة ويقطع بخطأ الرازي بقوله: "استقراءً لا ينازع فيه الرازي ولا غيره" يؤكد على أهمية أصل التعليل وأهميته لمسلك المناسبة وللاستدلال المرسل. لذلك يلزم التعرض لهذا الأصل بما يكفي من التفصيل.
وتنبغي الإشارة إلى أن ثمة فرقاً كبيراً بين منهجي الآمدي والشاطبي في التعليل. وبين مفهوم الشاطبي للمصالح والمفاسد ومفهوم من سبقه ممن قال بالتعليل بالمصالح والمفاسد. وفيما يلي بيان وتوثيق ما قدّمناه.
المبحث الأول
المحاججات التي أدت إلى فكرة المقاصد
تطور الجدل من مسلك المناسبة إلى الاستدلال:
عرضنا فيما سبق للمناسبة كمسلك من مسالك العلة. ولأقسام الوصف المناسب وشروطه وللخلاف في ذلك. والوصف المناسب عند القائلين به يجب أن يكون معتبراً شرعاً واعتباره هو بمجيء حكم على وفقه. وبذلك يكون الحكم الذي شهد للوصف بمثابة أصل والوصف هو العلة ويكون التعليل بالمناسب من قبيل القياس.(1/120)
ولما كان هذا الوصف المناسب وصفاً متخيلاً ولا دليل من الشرع على كونه علة، ردَّ الذين لا يأخذون بمسلك المناسبة التعليلَ بالمناسب جملة، ورد المعللون بالمناسب أو أكثرهم التعليل بالمرسل وبالغريب، وقالوا بالملائم: وهو الذي شهدت له أحكام كثيرة، وعلى الأقل حكمان. ومن وجود شواهد للوصف وكثرتها قالوا إن قوة الوصف المناسب آتية من جهة أن أحكام الشريعة جرت على وفقه، أو شهدت له، أو أن هذا الوصف أو المعنى يجري على منهاج المصالح الشرعية. وبهذا نشأت مسألة جديدة، وهي أن اعتبار هذا الوصف في التعليل لا يرجع إلى أصل معين، وبالتالي فهو ليس من القياس لأن وجود الأصل ركن في القياس، والأصل مفقود ههنا، ومن هنا تأتي تعابير المصلحة المرسلة والاستدلال المرسل، وهو المعنى الذي لم يشهد له أصل معين ولكن معناه جارٍ في أصول الشريعة(1).
ومما يشير إلى هذا الأمر ما ذكره الجويني في أنواع القياس حيث قال: "النظر الشرعي، ومجامعه(2):
__________
(1) من ذلك مثلاً قول الشاطبي: "كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين وكان ملائماً لتصرفات الشرع ومأخوذاً معناه من أدلته فهو صحيح يبنى عليه ويرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعاً به" ثم قوله: "ويدخل تحت هذا ضرب الاستدلال المرسل الذي اعتمده مالك والشافعي فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين فقد شهد له أصل كلي" الموافقات 1/16. أما قوله بأن الشاهد هو أصل كلي مقطوع به فهو إشارة بأنه لا يكتفي بمجرد كثرة الشواهد وإنما يشترط الكثرة المفيدة للقطع.
(2) الأرقام: 1، 2، 3، 4، من الباحث، ويشير ذلك إلى أن القياس بهذا التقسيم أربعة أقسام.(1/121)
1 ـ إلحاق الشيء المسكوت عنه بالمنصوص عليه والمختلف بالمتفق لكونه في معناه(1).
2 ـ أو تعليق حكم بمعنى مخيل به، مناسب له في وضع الشرع مع رده إلى أصل ثبت الحكم فيه على وفق نظر.
3 ـ وربط حكم كما ذكرناه(2)، من غير أن يجد الناظر أصلاً متفق الحكم يشهد عليه وهذا هو المسمى: الاستدلال.
4 ـ وتشبيه الشيء لأشباه خاصة تشتمل عليها من غير التزام كونها مخيلة مناسبة، وهو المسمى قياس الشبه(3)، فهذه وجوه النظر في الشرع"(4).
والشاهد هنا القسمان الثاني والثالث، حيث يشير الثاني إلى مسلك المناسبة، فقال فيه: "مع ردِّه إلى أصل ثبت الحكم فيه على وفق نظر"، أما الثالث فقال فيه: "من غير أن يجد الناظر أصلاً متفق الحكم يشهد عليه" وأطلق عليه اسم الاستدلال. والاستدلال وإن كان ليس قياساً إذ لا تتوفر له كل أركانه إلا أن ثمة قرباً بينهما من حيث أن الاستدلال هو ربط حكم بمعنى حسب قول الجويني أعلاه، لذلك ألحقه بأقسام القياس، وذلك مثلما عد القسم الأول من أقسام القياس لكونه إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه.
__________
(1) هذا القسم لا يسلم بتسميته قياساً، إذ لا يحصل فيه قياس لفرع على أصل، وإنما يأخذ المسكوت عنه حكم المنطوق بدلالة اللفظ وليس قياساً. وذلك من قبيل المفهوم: وهو ما فهم من اللفظ في غير محل النطق. أنظر: الآمدي، الإحكام 3/63. وذلك كقوله تعالى: { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } [الإسراء 23] فيحرم الضرب لأنه أولى بالتحريم من التأفيف لهما، فهذا من المفهوم لأنه فهم من الخطاب وهو ليس من منطوق الخطاب. وهذا ليس قياساً للضرب على التأفيف وإنما هو أولى بالحكم من التأفيف، وهو من دلالات اللغة. أنظر: الآمدي، الإحكام 3/64.
(2) كما ذكرناه: أي كما ذكرناه في البند السابق، أي: بمعنى مخيل به مناسب له في وضع الشرع ولكنه يفتقد الأصل.
(3) ذكرنا هذا القسم في بحث مسالك العلة. ص: 65 - 66.
(4) الجويني، البرهان. 2/514. فقرة: 730.(1/122)
معنى الاستدلال:(1)
وكما تبين فليس المراد بالاستدلال هنا مدلوله اللغوي، وإنما هو مصطلح يقابل الاستنباط نشأ موضوعه وأثر في علم أصول الفقه وأدرج في أبحاثه بتأثير المنطق وعلم الكلام، والمستدِل - بهذا المعنى - لا يستنبط الحكم اعتماداً على دلالة النصوص، وإنما يتخيل معانيَ معينة يراها مناسبة ويقترحها معتمداً على إمكانية قبول الشرع لها بنظره وعلى عدم وجود دليل ينفيها، ولذلك نجد الجويني فرق بين القسمين الثاني والثالث المذكورين آنفاً فقال في الأول منهما: "مع رده إلى أصل ثبت الحكم فيه على وفق نظر" وقال في الثاني: "من غير أن يجد الناظر أصلاً متفق الحكم يشهد عليه وهذا هو المسمى: الاستدلال".
__________
(1) جاء في لسان العرب لابن منظور: "والدليل: ما يستدل به. والدليل: الدال - وقد دلَّه على الطريق يدله دَلالةً ودِلالةً ودُلولةً، والفتح أعلى" 11/248.(1/123)
وقال الشوكاني في التعريف بالاستدلال: "وهو في اصطلاحهم ما ليس بنص ولا إجماع ولا قياس"(1)، ثم قال: "واختلفوا في أنواعه فقيل هي ثلاثة: التلازم بين الحكمين من غير تعيين علة وإلا كان قياساً. الثاني: استصحاب الحال. الثالث: شرع من قبلنا. قالت الحنفية. ومن أنواعه نوع رابع هو الاستحسان. وقالت المالكية: ومن أنواعه نوع خامس وهو المصالح المرسلة"(2). وقال: "المصالح المرسلة... ذكرها جماعة من أهل الأصول في مباحث الاستدلال، ولهذا سماها بعضهم بالاستدلال المرسل وأطلق إمام الحرمين وابن السمعاني عليها اسم الاستدلال"(3). وقال الآمدي: "أما معناه في اللغة فهو استفعال من طلب الدليل والطريق المرشد إلى المطلوب، وأما في اصطلاح الفقهاء فإنه يطلق تارة بمعنى ذكر الدليل وسواء كان الدليل نصاً أو إجماعاً أو قياساً أو غيره، ويطلق تارة على نوع خاص من أنواع الأدلة... وهو عبارة عن دليل لا يكون نصاً ولا إجماعاً ولا قياساً... وهو على أنواع"(4). ثم ذكر فيه أنواعاً كلها من قبيل المنطق وكيفية ترتيب المقدمات والخروج بالنتائج(5).
وعلى ذلك فالاستدلال نوع من الأدلة وهو ليس نصاً ولا إجماعاً ولا قياساً. والمقصود به هنا هو المصالح المرسلة وهو يشبه القياس ومسلك المناسبة من جهة أنه ربط حكم بمعنى مناسب، وهو ليس قياساً ويفارق المناسبة من جهة عدم وجود أصل يشهد للمعنى، ولكن المعنى موجود في فروع شرعية كثيرة.
__________
(1) الشوكاني، إرشاد الفحول، ص: 236.
(2) الموضع نفسه.
(3) المصدر نفسه، ص: 241.
(4) الآمدي، الإحكام، 4/361.
(5) المصدر نفسه، 4/361 - 366.(1/124)
ولقد تبين فيما سبق أن المناسب المرسل في مسلك المناسبة ليس مرسلاً بإطلاق وإنما هو يرجع إلى المعتبر، فلماذا التفريق بينهما وعدم عد الاستدلال من قبيل القياس؟ بتعبير آخر، كيف يقال عن المعنى المناسب المعتبر في الاستدلال والذي يربط الحكم به، إنه لا يشهد له أصل، بينما يقال إنه أي المعنى جارٍ في أحكام كثيرة، ألا يمكن أن يعد واحدٌ من هذه الأحكام أصلاً، ويعد الوصف أو المعنى المناسب فيه علة، ويكون الأمر من قبيل القياس؟
والجواب: نعم إن الاستدلال يقوم على التعليل بوصف مناسب، ولكنه يختلف عن مسلك المناسبة في أن هذا المعنى ليس مأخوذاً من حكم محدد بعينه. فلو ارجعناه إلى حكم معين لكان قياساً. ولكن عند ادعائه وصفاً مناسباً في حكم معين لا يثبت، فقد يكون هناك في الحكم أوصاف أكثر مناسبة منه، فلا يصح تعليل الحكم بهذا المعنى وترك ما هو أكثر منه مناسبةً، وهكذا في سائر الأحكام. ولهذا قيل: لم يشهد له أصل بعينه. بينما المعنى المعتبر في الاستدلال، وإن كان وجوده أو قوة مناسبته أضعف من غيره في كل حكم على حدة، فإن كثرة وجوده في الأحكام تؤدي الى قوة في اعتباره، وقد تجعله أصلاً أو قاعدة في التشريع، وليس مجرد علة في الحكم. فعند النظر في أحكام عديدة، يلاحظ أنه غير موجود بعينه في واحدٍ معينٍ منها، ولكن يشعر الناظر بكونه أصلاً أو متحققاً في هذه المعاني بتضافرها. لهذا لم يرجع الاستدلال إلى القياس أو إلى مسلك المناسبة، وإن كان يقوم على التعليل لأنه فقد أحد أركان القياس وهو الأصل.(1/125)
وقد يرجع المعنى المناسب في الاستدلال إلى حكم معين في أصل، فيكون قياساً، ولكن وجود أحكام أخرى تخدم ذلك المعنى، يجعله أصلاً في التشريع، وهذا - بنظر الآخذين به - أقوى من القياس. ولهذا قال الشاطبي: "إن كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين وكان ملائماً لتصرفات الشرع ومأخوذاً معناه من أدلته فهو صحيح يبنى عليه ويرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعاً به. لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها كما تقدم. لأن ذلك كالمتعذر. ويدخل تحت هذا الاستدلال المرسل الذي اعتمده مالك والشافعي فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين فقد شهد له أصل كلي والأصل الكلي إذا كان قطعياً قد يساوي الأصل المعين وقد يربى عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه"(1). وقال الجويني: "أتخذ تلك العلل معتصمي وأجعل الاستدلالات قريبةً منها، وإن لم تكن أعيانها حتى كأنها مثلاً أصول. والاستدلال معتبر بها. واعتبار المعنى بالمعنى تقريباً أولى من اعتبار صورةٍ بصورةٍ بمعنى جامع"(2).
ولذلك قال الآخذون به ردا ً على الذين ردوه وقالوا إنه يؤدي إلى الاحتكام إلى العقل وإلى حكمة الحكماء، قالوا: إنه وإن لم يشهد له أصل، فإنه يؤدي إلى الاحتكام إلى العقل وإلى حكمة الحكماء إذا استرسلنا فيه استرسالاً غير منضبط. فإذا كان منضبطاً بضوابط شرعية فهو شرعي. فهذه المعاني المصلحية وإن لم تشهد لها المعاني المعتبرة فهي قريبة منها أو شبيهة بها. وإن لم تشهد لها أصول معينة فإنها تستند إلى أحكام ثابتة الأصول، وإن لم تكن تلك المعاني ثابتة فأصولها ثابتة.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/16، واشتراط الشاطبي القطع لأجل اعتبار المعنى، ولكي يعد أصلاً، خاص به وبمنهجه.
(2) الجويني، البرهان. 2/726، فقرة: 1142.(1/126)
قال الجويني: "ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنهما إلى اعتماد الاستدلال وإن لم يستند إلى حكم متفق عليه في اصل ولكنه لا يستجيز النأي والبعد والإفراط وإنما يسوّغ تعليق الأحكام بمصالح يراها شبيهة بالمصالح المعتبرة وفاقاً وبالمصالح المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول قارة في الشريعة"(1).
وقال الغزالي: "كل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي عُلم كونه مقصوداً بالكتاب والسنة والإجماع فليس خارجاً عن هذه الأصول لكنه لا يسمى قياساً بل مصلحة مرسلة. إذ القياس أصل معين وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا بدليل واحد بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات تسمى لذلك مصلحة مرسلة، وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف فيها، بل يجب القطع بكونها حجة"(2).
وكمثال على ذلك فإن معنى حفظ المال وإن لم يشهد لعينه حكم معين - عند بعض الناظرين - فهناك أحكام كثيرة ترجع معانيها إلى عموم هذا المعنى. فالنهي عن السرقة، والقطع فيها، والنهي عن النهب والاختلاس والغش، وعن الخيانة في عمل الشركاء، وعن الإسراف والتبذير والحجر على السفيه، والنهي عن الغلول وعن أكل المال بالباطل، والحث على أداء الأمانات وعلى تعريف اللقطة وغير ذلك، كله يمكن أن يدل على هذا المعنى العام وعلى كونه معتبراً في هذه الأحكام. وهذا أقوى من الاستناد على حكم تحريم السرقة - مثلاً - للقول بحفظ المال علة من قبيل الإخالة والمناسبة في مسلك المناسبة. ولذلك جعلوا حفظ المال أصلاً يلاحظ ويستند إليه في التشريع. وفيما يلي بيان حجج كل من الفريقين على القول بالمناسب وبالاستدلال، وعلى ردهما.
أدلة القائلين بالمناسبة وبالاستدلال:
__________
(1) المصدر نفسه، 2/721. فقرة: 1130.
(2) الغزالي، المستصفى. 1/311.(1/127)
إن احتدام الجدال بين الآخذين والرادين لمسلك المناسبة وللاستدلال قد أدى إلى بروز فكرة مقاصد الشريعة وإلى بلورتها. وألخص فيما يلي أدلة القائلين بهما ثم أوثقها من نصوص الأئمة وأبين بعد ذلك ردود الرادين ليتبين كيف خرجت فكرة المقاصد. وفيما يلي أدلتهم بإجمال:
1 ـ قالوا بعدم كفاية النصوص ومعانيها للمسائل والوقائع. وأنه لا تخلو واقعة عن حكمٍ لله تعالى معزوٍّ إلى شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - . ولذلك يجب تعليل الأحكام، ولذلك فالأصل في الأحكام التعليل، وهذا يلزم بالتعليل بالمناسب، ويلزم بالاسترسال المنضبط في تتبع المعاني. فما لا تثبت علته بمسالك النص والإجماع والتنبيه والإيماء، فإذا لاح فيه المعنى المناسب وجب التعليل به ما لم يُلغَ أو يُعَارض.
2 ـ قالوا بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسترسلون في فهم المعاني المصلحية، وتبعهم في ذلك مَن بعدهم، من غير وضع ضوابط لما يُتَّبَع ولما لا يُتَّبَع من المعاني. فدل هذا على حجية هذا الاسترسال، شريطة أن تكون هذه المعاني والمصالح متلقاةً من موارد الشريعة. فالدلالة قائمة في فعل الصحابة.
3 ـ وقالوا بأن الأوصاف والمعاني المناسبة، وما في معناها، أو القريبة منها، هي مما يتعلق الظن بعليتها. والأحكام الشرعية إنما تؤخذ بالظن، فيكون التعليل بالمناسب شرعياً، وكذلك الاستدلال. وفيما يلي النصوص الدالة على ذلك:
قال الجويني: "وأما الشافعي فقال: إنا نعلم قطعاً أنه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى"(1). وقال: "إن الأئمة السابقين لم يُخْلوا واقعةً على كثرة المسائل وازدحام الأقضية والفتاوى عن حكم الله تعالى... وعلى هذا علمنا بأنهم - رضي الله عنهم - استرسلوا في بناء الأحكام استرسالَ واثقٍ بانبساطها على الوقائع متصدٍّ لاثباتها فيما يعنٌ ويسنح متشوِّفٍ إلى ما سيقع"(2).
__________
(1) الجويني، البرهان. 2/723، فقرة: 1133.
(2) الجويني، البرهان. 2/723، فقرة: 1133.(1/128)
وقال: "لو انحصرت مآخذ الأدلة في المنصوصات والمعاني المستثارة منها، لما اتَّسع باب الاجتهاد، فإن المنصوصات ومعانيها المعزوَّة اليها لا تقع من متَّسع الشريعة غرفة ً من بحر، ولو لم يتمسَّك الماضون بمعانٍ في وقائع لم يعهدوا أمثالها لكان وقوفهم عن الحكم يزيد على جريانهم، وهذا إذا صادف تقريراً لم يُبق لمنكري الاستدلال مضطرباً"(1). وقال: "ثم عضد الشافعي هذا بأن قال: من سبر أحوال الصحابة رضي الله عنهم وهم القدوة والأسوة في النظر لم يَرَ لواحدٍ منهم في مجالس الاشتوار تمهيدَ أصل واستثارة معنى ثم بناء الواقعة عليها، ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفاتٍ إلى الأصول كانت أم لم تكن، فإذا ثبت اتساع الاجتهاد، واستحال حصر ما اتسع منه في المنصوصات، وانضم إليه عدم احتفال علماء الصحابة بتطلب الأصول أرشد مجموع ذلك إلى القول بالاستدلال"(2).
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) المصدر نفسه، 2/723 - 724. فقرة: 1134.(1/129)
وقال: "قد تبين لنا أنهم - رضي الله عنهم - في الأزمان المتطاولة والآماد المتمادية ما كانوا ينتهون إلى وجوه مضبوطة، بل كانوا يسترسلون في الاعتبار استرسال من لا يرى لوجوه الرأي انتهاءً، ويرون طرق النظر غير محصورة، ثم كان اللاحقون يتبعون السابقين ولا يعتنون بذكر وجوه في الحصر لا تُتَعَدى، فعلمنا بضرورة العقل أنهم كانوا يتلقون معاني ومصالح من موارد الشريعة يعتمدونها في الوقائع التي لا نصوص فيها، فإذا ظنوها ولم يُناقَض رأيهم فيها بأصل من أصول الشريعة أجرَوْها واستبان أنهم كانوا لا يبغون العلم اليقين وإنما كانوا يكتفون بأن يظنوا شيئاً عَلَماً"(1). وقال الغزالي: "ولا سبيل إلى الإقتصار على المؤثر لأن المطلوب غَلَبَهُ الظن ومن استقرأ أقيسة الصحابة - رضي الله عنهم - واجتهاداتهم عَلِمَ أنهم لم يشترطوا في كل قياس كون العلة معلومةً بالنص والاجماع"(2). وقال: "لم يظهر لنا من إجماع الصحابة رضي الله عنهم إلا اتباع الرأي الأغلب، وإلا فلم يضبطوا أجناس غلبة الظن ولم يميزوا جنساً عن جنس"(3).
وقال الآمدي: "وإذا ثبت أن الأحكام إنما شرعت لمصالح العباد، فإذا رأينا حكماً مشروعاً مستلزماً لأمر مصلحي فلا يخلو إما أن يكون ذلك هو الغرض من شرع الحكم، أو ما لم يظهر لنا. لا يمكن أن يكون ما لم يظهر لنا وإلا كان شرع الحكم تعبداً وهو خلاف الأصل(4) لما سبق تقريره. فلم يبقَ إلا أن يكون مشروعاً لما ظهر. وإذا كان ذلك مظنوناً فيجب العمل به لأن الظن واجب الاتباع في الشرع"(5).
وقال الرازي: "نقول: المناسبة تفيد ظن العِّليَّة، والظنُّ واجبٌ العمل به"(6).
ردود مبطلي مسلك المناسبة والاستدلال:
__________
(1) المصدر نفسه،2/527، فقرة: 760.
(2) الغزالي، المستصفى. 2/299.
(3) الغزالي، المستصفى، ص:301.
(4) وهو أن الأصل في الأحكام والتعليل.
(5) الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام 3/250.
(6) الرازي، المحصول. 5/172.(1/130)
ردَّ الأحناف مسلك المناسبة فضلاً عن الاستدلال، وعدوه باطلاً لا يورث أثراً من الظن المقبول شرعاً. وفيما يلي بعض النصوص التي يردون بها الادلة المذكورة آنفاً:
أما أن النصوص ومعانيها لا تفي بالمسائل والوقائع إذ النصوص متناهية والوقائع لا متناهية، والأولى لا تقع من الثانية غرفة من بحر، فقال الشيخ محب الله ابن عبد الشكور: "وهو المسمى بالمصالح المرسلة حجة عند مالك، والمختار عند الجمهور رده. لنا: لا دليل بدون الاعتبار وإن كان على سنن العقل. قالوا:
أولاً: لو لم تعتبر لخلت الوقائع. قلنا: نمنع الملازمة لأن العمومات والاقيسة عامة. وأيضاً عدم المدرك مدرك للإباحة(1).
ثانياً: الصحابة كانوا يقنعون برعاية المصالح قلنا: بل إنما اعتبروا ما اطلعوا على اعتبار نوعه أو جنسه"(2).
وقال شارح (التحرير) لابن همام الاسكندري الحنفي: "وهذا القسم المسمى بالمصالح المرسلة. والمختار رده. اذ لا دليل على الاعتبار فوجب رده. قالوا: فتخلو وقائع كثيرة. قلنا: نمنع الملازمة، أي لا نسلِّم انه يلزم من عدم اعتبار ما ذكر ان تخلو الوقائع من الحكم لان العمومات والاقيسة شاملة، وبتقدير عدمه فنفي كل مدرك خاصٍّ حكمُهُ الإباحة الأصلية، أي إذا انتفى في حادثةٍ وجود مأخذ من الأدلة الأربعة فَيُعمل بموجب اصل كلي مقرر في الشرع اتفاقاً وهو الإباحة الأصلية فإنه الأصل في الأشياء"(3).
__________
(1) أي الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم.
(2) الأنصاري، فواتح الرحموت. 2/266.
(3) أمير بادشاه، تيسير التحرير على التحرير، 3/315، دار الكتب العلمية - بيروت.(1/131)
وأما ما قالوه من ان الأصل في الأحكام التعليل، فإذا لم تثبت علة بالنص أو الإجماع أو الإيماء والتنبيه، ولاحت المناسبة فيجب التعليل. فقد رده الأحناف أيضاً. قال الإمام علاء الدين البخاري: "ودليل التمييز شرط عندنا كما هو شرط عندهم. إلا ان عندهم دليل التمييز الاخالة، وعندنا التأثير... ولكنا نحتاج قبل ذلك أي قبل بيان التمييز والشروع في التعليل إلى إقامة الدليل على كون الأصل الذي يريد تعليله شاهداً، أي معللاً في الحال وليس بمقتصر على مورده، بل يعدى حكمه إلى غيره كالحكم الثابت بالخارج من السبيلين تعدى إلى مثقوب السرة بالإجماع فيجوز تعليله بعد بوصف قام الدليل على كونه علة، لأن الأصل في النصوص وإن كان هو التعليل إلا أنه ثابت من طريق الظاهر وقد وجدنا من النصوص ما هو غير معلول بالاتفاق، واحتمل ان يكون هذا النص المعين من تلك الجملة، فلا يجوز التمسك بذلك الأصل والإلزام على الغير مع هذا الاحتمال"(1). وقال البزدوي: "فلا يُسمع منا الاستدلال بالأصل وهو أن التعليل أصل في النصوص بل لا بد من إقامة الدليل على أن هذا النص بعينه معلول"(2).
وأما قولهم بأن الصحابة - رضي الله عنهم - قد عللوا بالأوصاف المناسبة والمعاني المصلحية وأنهم بنوا الأحكام على المعاني القريبة من المعاني المصلحية. فقد ردوه. قال الأنصاري: "وقالوا ثانياً: الصحابة كانوا يقنعون برعاية المصالح ولم ينكر عليهم فصار إجماعاً. قلنا: كونهم قانعين عليها ممنوع. بل إنما اعتبروا من العلل ما اطلعوا على اعتبار نوعه أو جنسه في نوع الحكم أو جنسه. هذا وعليك بالاستقراء حتى يظهر لك جلية الحال"(3).
__________
(1) علاء الدين البخاري، كشف الأسرار. 3/436.
(2) البزدوي، أصول البزدوري. 3/438.
(3) الأنصاري، فواتح الرحموت، 2/266.(1/132)
وأما قولهم إن الوصف المناسب أو الاستدلال يورث ظناً والظن معمول به في الشرعيات. فردوه أيضاً. قال البزدوي: "وأما الخيال فأمر باطل لأنه ظن لا حقيقة له، ولأنه باطن لا يصلح دليلاً على الخصم ولا دليلاً شرعياً"(1).
وقال في كشف الاسرار: "وأما الخيال.. فأمر باطل لانه عبارة عن مجرد الظن لان الخيال والظن واحد، والظن لا يغني من الحق شيئاً، ولا يقال: الظن معتبر في الشرع في وجوب العمل به كخبر الواحد والقياس، لأنا نقول: المعتبر هو الذي قام دليل قطعي على اعتباره في وجوب العمل لا مطلق الظن، ولم يقم ههنا دليل على اعتباره شرعاً فوجب إهداره"(2).
قال الأنصاري: "خلافاً للحنفية فإنهم لا يقبلون الإخالة أصلاً، لأنها وإن كانت مفيدةً للظن لكنها ليست ملزومةً لوضع الشارع علية ما قامت به... وإذا لم يورث ظن اعتبار الشارع لم يكن حجة شرعية وإنما هي من هوسات العقل فلا تعتبر. ولعل هذا هو مراد النسفي أنه مجرد ظن، يعني أنه ليس ظن اعتبار الشارع فهو لا يغني من الحق شيئاً. فإن قلت: الإخالة تفيد الظن البتة والإجماع انعقد على اعتبار الظن قال: والإجماع على العمل بالظن انما هو على تقدير كونه - أي الظن - شرعياً حاصلاً من جهة الشرع، وظناً لاعتبار الشارع هذا" (3). وقال أيضاً نقلاً عن الإمام النسفي: "كون الوصف مخيلاً أي موقعاً في القلب خيال الصحة: وهو لا يغني من الحق شيئاً وغايته أن يجعل مثل الإلهام. وهو لا يصلح حجة"(4).
المبحث الثاني
انبثاق فكرة مقاصد الشريعة
احتدام الجدل:
__________
(1) البزدوي، أصول البزدوي. 3/518.
(2) علاء الدين البخاري، كشف الأسرار 3/518.
(3) الأنصاري، فواتح الرحموت، 2/301.
(4) الموضع نفسه.(1/133)
هذا الجدال بين الفريقين، هذا يأتي بالأدلة وذاك يبطلها، أضعف موقف الآخذين بمسلك المناسبة وبالاستدلال. ويختصر ضعف موقفهم بنقطة واحدة، وهي أن الاعتبار لوصف معين في حكم معين وادعاءه علة هو تحكم بغير دليل. وعليه فهو احتكام إلى الظن العقلي، وهو ليس ظناً شرعياً. وينبني عليه ضعف موقفهم في الاستدلال إذ هو مبني على اعتبار أوصاف مناسبة في أحكام عديدة. فقال الرادون: "وأقصى ما في الباب أن تكون النصوص موافقة للوصف فيحصل به كثرة النظائر وبكثرة النظائر لا تحصل قوة في الوصف"(1).
__________
(1) علاء الدين البخاري، كشف الأسرار. 3/513.(1/134)
فأدى هذا الجدال إلى مزيد من البحث والنظر والتعمق، وقام الجويني - رحمه الله - بالدفاع عن مسلك المناسبة وعن الاستدلال فاتّهم من ردهما بالتقصير في فهم هذه الأصول. ورد القول إنها تحكم بغير دليل وتحكيم للعقل، وقال بأن هذا إنما يلزم من لم يسلك مسلك الشافعي في ذلك. فقال في ابي حنيفة وأصحابه: "وبالجملة ليس معهم من علم الأصول قليل ولا كثير، وإن أقام واحد منهم لقب مسألةٍ فسننقضها في تفصيل الفروع، فإن صاحبهم ما بنى مسائله على أصول، وإنما أرسلها على ما تأتَّى له، فمن أراد من أصحابه ضبط مسائله بأصل تناقض عليه القول في تفصيل الفروع"(1). وقال أيضاً: "وأما أبو حنيفة فلا ننكر اتقاد فظنته وجودة قريحته في درك عرف المعاملات ومراتب الحكومات، فهو في هذا الفن واستمكانه من وضع المسائل بحسنه على النهاية، ولكنه غير خبير بأصول الشريعة وهي في حقه منقسمة إلى أصل جهله أو أغفله وذهل عنه، وإلى آخر تمسك به وما رعاه وما عقله، وانتهض لتبويب الأبواب انتهاض من لم يستمد من القواعد، ومن عجيب أمره أنه لم يعتن بجمع الأخبار والآثار ليبني عليها مسائله، ولكنه يوصل الفروع بناءً على ما يراه ثم يستأنس بما يبلغه وفاقاً"(2).
__________
(1) الجويني، البرهان. 2/587. فقرة: 784.
(2) الجويني - البرهان. ص: 2/748. فقرة: 1180. ولا يعد هذا القول من الجويني - رحمه الله - إلا تجنياً على أبي حنيفة - رحمه الله - وعلى أصحابه، وليس غايتي هنا بحث هذا الاتهام إلا أنني أشير بسرعة إلى تهافته. فهو منقوض بالنص نفسه الذي يؤكد على اتّقاد فطنة الإمام الأعظم وجودة قريحته. كما أنا لم نجد ما زعم الجويني من أن أصحاب أبي حنيفة ليس معهم من علم الأصول قليل ولا كثير، بل وجدناهم مثل غيرهم أئمة وأعلاماً وهم الذين سُمُّوا الفقهاء في مقابل الكلاميين، وأما القول إن أبا حنيفة غير خبير بالأصول ... إلخ..فيرده ثبات المذهب وتلقي الأمة له عبر مئات السنين ولولا أن المذهب يستند إلى قواعد وأصول وتفكير اجتهادي منهجي لاندرس ولما ثبت جيلاً واحداً. أما كون علم أصول الفقه لم يوجد بقواعده وحدوده وشروطه إلا مع الإمام الشافعي وبعده، فليس ذلك مما يضير أبا حنيفة - رحمه الله - ولو كان ذلك ضائراً له لكان ضائراً للصحابة والتابعين وسائر الأئمة قبله، وليس الأمر كذلك. ولا نظن سبباً لهذا التجني من الجويني إلا احتدام الجدل وقوة حجج المعارضين لما يذهب إليه الجويني، مما ضيق صدره وسد سبل حججه، وما حدا به إلى الهجوم على خصومه في الرأي، لذلك رأيناه يقول ما يقول في أبي حنيفة وأصحابه - رضي الله عنهم - وسنرى منه شيئاً من ذلك في مالك وأصحابه - رضي الله عنهم - وسنرى منه مديحاً كبيراً في الشافعي رضي الله عنه.
وربما كانت الحجج القوية لأصحاب مذهب أبي حنيفة - رضي الله عنهم - هي التي أدت بالجويني إلى مزيد من البحث والتعمق حتى أخرج فكرة مقاصد الشريعة بالشكل الذي سنبينه، ولذلك كان الظن بأنه أول من قال بها بهذا الشكل.(1/135)
ويناقش الجويني القول بأن الاستدلال تحكيم للرأي في الشرع فيقول: "وأما ما ذكره القاضي(1) من خروج الأمر عن الضبط والمصير إلى انحلال ورد الأمر إلى آراء ذوي الأحلام فهذا انما يلزم مالكاً - رضي الله عنه - ورهطه إن صح ما روي عنه"(2).
وقال عن مالك - رحمه الله -: "فرئي يثبت مصالح بعيدة عن المصالح المألوفة والمعاني المعروفة في الشريعة وجره ذلك إلى استحداث القتل وأخذ المال بمصالح تقتضيها في غالب الظن، وإن لم يجد لتلك المصالح مستنداً إلى أصول، ثم لا وقوف عنده،بل الرأي رأيه ما استدَّ نظره فيه وانتقض عن أوضار التهم والأغراض"(3).
ثم قال: "فنقول لمالك رحمه الله: أتجوز التعلق بكل رأي؟ فإن أبَى لم نجد مرجعاً نقر عنده إلا التقريب الذي ارتضاه الشافعي - رضي الله عنه -، وإن لم يذكر ضبطاً وصرح بأن ما لا نص فيه ولا أصل له فهذا مردود إلى الرأي المرسل واستصواب ذوي العقول فهذا الآن اقتحام عظيم وخروج عن الضبط"(4). ثم قال: "وهذا مركب صعب لا يجترئ عليه متدين ومساقه رد الأمر إلى عقول العقلاء وأحكام الحكماء، ونحن على قطع نعلم أن الأمر بخلاف ذلك.. ولو ساغ ما قاله مالك رضي الله عنه - إن صح عنه - لاتخذ العقلاء أيام كسرى أنو شروان في العدل والإيالة(5) معتبرهم وهذا يجر خبالاً لا استقلال به، وإن أخذ مالك - رحمة الله - واتباعه يقربون وجه الرأي من القواعد الثابتة في الشريعة فالذي جاءوا به مذهب الشافعي رحمه الله"(6).
__________
(1) القاضي: أبو بكر الباقلاني.
(2) الجويني، البرهان. 2/725، فقرة: 1138.
(3) الموضع نفسه، ص: 721، فقرة: 1128.
(4) الجويني البرهان، 2/725 - 726، فقرة: 1139 - 1141.
(5) الإيالة: آل الملِك رعيته إيالاً: ساسهم. وآل على القوم أولاً وإيالاً وإيالةً: وَلِيَ. وآل المال: أصلحه وساسه. الفيروز أبادي، القاموس المحيط ص: 1244.
(6) الجويني، البرهان، 2/725 - 726. فقرة:1139 - 1141.(1/136)
وعليه فإن الجويني يحمل على من يرد الاستدلال، ويحمل على الاسترسال فيه ويشترط التقريب من القواعد الثابتة في الشريعة، قال: "وأما الشافعي فإنه أعرف خلق الله بأصول الشريعة وأضبطهم لها، وأشدهم كيساً واتقاداً في مآخذها وتنزيلها منازلها وترتيبها على مراتبها... ولكن لم تتنفس مدته ولم تتسع مهلته... واخترم وقد نيَّف على الخمسين، وكان ذلك الأمد لا يتسع لأكثر من ضبط الأصول فيها، فهان على أصحابه البناء عليها"(1). وقال: "فإن قيل: فما معنى التقريب الذي نسبتموه إلى الشافعي؟ قلنا: هذا مَحزُّ الكلام ونحن نقول: قد ثبتت أصول معللة اتفق القايسون على عللها فقال الشافعي: أتخذ تلك العلل معتصمي وأجعل الاستدلالات قريبة منها وإن لم تكن أعيانها حتى كأنها مثلاً أصول والاستدلال معتبر بها، واعتبار المعنى بالمعنى تقريباً أولى من اعتبار صورة بصورة بمعنى جامع"(2). وقال: "ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبى حنيفة - رضي الله عنهما - إلى اعتماد الاستدلال وإن لم يستند إلى حكم متفق عليه في أصل ولكنه لا يستجيز النأي والبعد والإفراط وإنما يسوغ تعليق الأحكام بمصالح يراها شبيهة بالمصالح المعتبرة وفاقاً وبالمصالح المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول قارة في الشريعة"(3).
وقال أيضاً: "ليس كل استصلاح وجهاً مرتضى"(4).
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 749، فقرة: 1182.
(2) المصدر نفسه، ص: 726، فقرة: 1142.
(3) المصدر نفسه،2/721، فقرة: 1130.
(4) المصدر نفسه، ص: 527، فقرة: 760.(1/137)
ومن هذا القبيل قول تلميذه الغزالي: "أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب المنفعة ودفع المضرة ولسنا نعني به ذلك. فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم. لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهي أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم. فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مفسدة ودفعه مصلحة وإذا أطلقنا معنى المخيل والمناسب في كتاب القياس اردنا به هذا الجنس"(1). وقال: "وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا بدليل واحد بل بأدلة كثيرة لا حصر لها... واذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف فيها بل يجب القطع بكونها حجة"(2).
هذا الانتصار لمسلك المناسبة ولفكرة الاستدلال هو الذي ادى إلى ظهور فكرة مقاصد الشريعة على يد الجويني. وإلى بلورتها - فيما بعد - على يد تلميذه الغزالي استناداً إلى نصوص مثل: "اعتبار المعنى بالمعنى تقريباً"، "مصالح شبيهة بالمصالح المعتبرة وفاقاً"، "مصالح مستندة إلى أحكام ثابتة الأصول قارة في الشريعة"، "معاني مقصودة عرفت لا بدليل واحد بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة"(3).
تقسيم الأحكام بحسب مآلاتها أو مقاصدها المصلحية:
ويقوم القول بهذه المقاصد على عرض الشريعة، أي أحكامها، بالشكل الذي يبرز رعايتها للمصالح، وبتعبير آخر يقوم على تكييف الشريعة بالشكل الذي يخدم القول بصلاحية اعتبار المناسب سواء كان مخيلاً معيناً في حكم أو مرسلاً.
__________
(1) الغزالي، المستصفى. 1/286.
(2) المصدر نفسه، 1/311.
(3) أنظر النصوص التي وردت أعلاه للجويني والغزالي.(1/138)
ومن نافلة القول بعدما تبين أن نذكر أن إمام الحرمين الجويني - رحمه الله - هو أول من حاول إثبات صحة التعليل بالوصف المناسب بطريق تكييف الشريعة لأجل النظر فيها من خلال مقاصدها المصلحية - والله أعلم - حيث قسَّم الأحكام من حيث غاياتها أو مقاصدها أو معانيها إلى خمسة أقسام. وقد آل الأمر فيها فيما بعد على يد أنصار هذا المنهج إلى أن تكون ثلاثة أقسام مع مكملاتها وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات مع مكملات كل منها. فقال تحت عنوان: (في تقاسيم العلل والأصول): "وهذا الذي ذكره هؤلاء أصول الشريعة(1). ونحن نقسمه خمسة أقسام:
"أحدها: ما يُعْقَلُ وهو أصل. ويؤول المعنى المعقول منه إلي أمر ضروري لا بد منه وهذا بمنزلة قضاء الشرع بوجوب القصاص في أوانه فهو معلل بتحقيق العصمة في الدماء المحقونة والزجر عن التهجم عليها. فإذا وضح للناظر المستنبط ذلك في أصل القصاص تصرف فيه وعدّاه إلى حيث يتحقق أصل هذا المعنى فيه، وهو الذي يسهل تعليل أصله... ثم قد تمهد في الشريعة أن الأصول إذا ثبتت قواعدها فلا نظر إلى طلب تحقيق معناها في آحاد النوع"(2).
وقال في هذا القسم: "وهو ما يستند إلى الضرورة"(3).
وهذا القسم هو الذي سمي فيما بعد بالضروريات ويراد بها الكليات الضرورية وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
__________
(1) المراد بلفظ أصول الشريعة هنا: الأحكام الشرعية اذ الحكم الشرعي اذا كان معللاً فهو أصل يقاس عليه، وهوأحد أركان القياس. وكذلك إذا كان موضع بحث ونظر لمعرفة المقصد منه أو علته.
(2) الجويني، البرهان. 2/602، فقرة: 901.
(3) المصدر نفسه، ص: 604، فقرة: 906.(1/139)
"والضرب الثاني: ما يتعلق بالحاجة العامة ولا ينتهي إلى حد الضرورة، وهذا مثل تصحيح الإجارة فإنها مبنية على مسيس الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها وضِنَّةِ ملاكها بها على سبيل العارية، فهذه حاجة ظاهرة غير بالغة مبلغ الضرورة المفروضة في البيع وغيره"(1). وقد أرجع الجويني البيع إلى الضرب الأول.
وهذا القسم هو الذي سُميِّ بمرتبة الحاجيات.
"والضرب الثالث: ما لا يتعلق بضرورة حاقة ولا حاجةٍ عامة، ولكنه يلوح فيه غرض في جلب مكرمة أو في نفي نقيض لها، ويجوز أن يلتحق بهذا الجنس طهارة الحدث وإزالة الخبث"(2). وهذا القسم هو الذي سُميِّ بالتحسينيات.
"والضرب الرابع: ما لا يستند إلى حاجة وضرورة وتحصيل المقصود فيه مندوب اليه تصريحاً ابتداءً"(3). وهذا القسم يشبه الثالث من حيث عدم استناده إلى ضرورةٍ أو حاجة عامة، ومن حيث كونه مندوباً. ويختلف عنه في ان الثالث معضود بالدواعي الجبلية كالتنظف، وليس في تحصيله خروج عن الضربين الأول والثاني وذلك مثل مكاتبة الكاتب عبده، ومقابلته ملكه بملكه، وهذا خارج عن اصل أن العبد مملوك للسيد(4).
__________
(1) المصدر نفسه، 2/ 602، فقرة: 902.
(2) المصدر نفسه، ص: 602، فقرة: 901.
(3) الجويني، البرهان، ص: 603، فقرة: 904.
(4) المصدر نفسه، فقرة: 904، وانظر ص: 616، فقرة: 931.(1/140)
"والضرب الخامس: ما لا يلوح فيه للمستنبط معنى أصلاً، ولا مقتضى من ضرورة أو حاجة أو استحثاث على مكرمة. وهذا يندر تصويره جداً. فإنه إن امتنع استنباط معنى جزئي فلا يمتنع تخيله كلياً. ومثال هذا القسم العبادات البدنية المحضة. فإنه لا يتعلق بها أغراض دفعية ولا نفعية. ولكن لا يبعد أن يقال: تواصل الوظائف يديم مرون العباد على حكم الانقياد، وتجديد العهد بذكر الله تعالى نهيٌ عن الفحشاء والمنكر. وهذا يقع على الجملة،ثم إذا انتهى الكلام في هذا القسم إلى تقديرات كأعداد الركعات وما في معناها لم يطمع القايس في استنباط معنى يقتضي التقدير فيما لا ينقاس أصله"(1). وقد أشار الرازي في المحصول إلى هذا التقسيم عند الجويني وتابعه فيه(2).
ثم درج العلماء بعد الجويني على تقسيم مقاصد الشريعة إلى ثلاثة أقسام: ضرورية وحاجية وتحسينية. ويتعلق بكل قسم تتمات له أو مكملات. ولا يعني هذا إلغاء بعض الأقسام الخمسة التي ذكرها الجويني وإنما يعني اندراجها في الثلاثة.
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 604، فقرة: 905.
(2) الرازي، المحصول 5/ 159 - 162.(1/141)
قال الآمدي: "المقصود من شرع الحكم... لا يخلو أن يكون من قبيل المقاصد الضرورية أو لا من قبيل المقاصد الضرورية، فإن كان من قبيل المقاصد الضرورية، فإما ان يكون أصلاً أو لا يكون أصلاً، فإن كان أصلا ً فهو الراجع إلى المقاصد الخمسة التي لم تخلُ من رعايتها ملة من الملل ولا شريعة من الشرائع، وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. فإن حفظ هذه المقاصد الخمسة من الضروريات وهي أعلى مراتب المناسبات. والحصر في هذه الخمسة الأنواع إنما كان نظراً إلى الواقع والعلم بانتفاء مقصد ضروري خارج عنها في العادة... وأما إن لم يكن أصلاً فهو التابع المكمل للمقصود الضروري وذلك كالمبالغة في حفظ العقل بتحريم شرب القليل من المسكر الداعي إلى الكثير... وأما إن لم يكن المقصود من المقاصد الضرورية فإما أن يكون من قبيل ما تدعو حاجة الناس إليه، أو لا تدعو إليه الحاجة، فان كان من قبيل ما تدعو إليه الحاجة، فإما أن يكون أصلاً أو لا يكون أصلا ً فان كان أصلا ً فهو القسم الثاني الراجع إلى الحاجات الزائدة وذلك كتسليط الولي على تزويج الصغيرة لا لضرورة الجأت بل لحاجة... وإن لم يكن أصلاً فهو التابع الجاري مجرى التتمة والتكملة للقسم الثاني، وذلك كرعاية الكفاءة ومهر المثل في تزويج الصغيرة فانه أفضى إلى دوام النكاح وتكميل مقاصده... وأما إن كان المقصود ليس من قبيل الحاجات الزائدة فهو القسم الثالث وهو ما يقع موقع التحسين والتزيين ورعاية أحسن المناهج من العادات والمعاملات وذلك كسلب العبيد أهلية الشهادة من حيث أن العبد نازل القدر والمنزلة لكونه مستسخراً للمالك مشغولاً بخدمته فلا يليق به منصب الشهادة لشرفها وعظم خطرها جرياً للناس على ما ألِفوه وعدُّوه من محاسن العادات"(1).
ومثل هذا التقسيم لمقاصد الأحكام ينبنى على أمرين:
__________
(1) الآمدي، الاحكام. 3/240 - 241.(1/142)
الأول: واقع الناس كأفراد وكجماعة. فإن الإنسان محتاج، وحاجاته يمكن تقسيمها إلى هذه الأقسام. فمنها ما لا بد من تأمينه أو سدِّه واشباعه، وإذا لم يُشبع أدى إلى الموت أو إلى فساد الحياة والعلاقات فساداً كبيراً. ومنها ما إذا لم يشبع عانى الإنسان من الحرج والمشقات والضنك. ومنها ما إذا لم يُشبع لم يؤد إلى هذا ولا إلى ذاك إلا أنه مما تميل إليه النفس أو يتطلبه البدن. وبناء على هذا الواقع يندفع الإنسان إلى إشباع هذه الحاجات وسدها. ويزداد هذا الاندفاع ويقوى بحسب شدة الحاجة. وبما أن الإنسان كائن اجتماعي، والكل يندفع إلى تحقيق الإشباع ويحرص عليه، فهو بحاجة إلى نظام أو قانون ينظم العلاقات بين الناس وكيفيات الإشباع، ويبين لكل منهم حقوقه وصلاحياته وقيوده وواجباته.
والإنسان بطبعه ينظر إلى ما يسد حاجاته أو يشبع غرائزه، أو ما يؤدي إلى ذلك على انه منفعة أو مصلحة، وينظر إلى ما يفسد عليه سد حاجاته وإشباع غرائزه أو يمنعه من ذلك، وإلى ما يؤلمه أو ما يؤدي إلى ذلك على أنه مفسدة ومضرَّة.
الثاني: استقراء أحكام الإسلام وأحوال المجتمعات التي طبق فيها الإسلام يُري أن الإسلام جاء بأوامر ونواه تؤدي إلى إشباع هذه الحاجات باختلاف مراتبها مما يؤدي إلى أمن الفرد وطمأنينته وإلى أمن المجتمع وازدهاره ورقيِّه.(1/143)
إلا أن هذا العرض للشريعة يفيد في الاشارة إلى ما يؤول اليه تطبيق الشريعة على الفرد والمجتمع، ويفيد أن جلب المصالح ودرء المفاسد هي نتائج أو من نتائج تطبيق الشريعة، لذلك فإن الاعتراض والرد على الآخذين بمسلك المناسبة وبالاستدلال وبهذا المنهج في اعتبار الوصف أو المعنى المصلحي ظل هو هو، بل ربما وفر لهم هذا الاحتجاج مزيداً من حجج الرد. إذ ينبغي عند الأحناف إثبات أن هذه النتائج أو المصالح مقصودة للشارع، ولا يثبت ذلك إلا بدليل شرعي. أضف إلى ذلك أن مقصد الشارع من الحكم هو نتيجة لتطبيقه، فهل نتيجة الحكم أو مسببه علة له؟ لذلك ظل الأمر موضع تجاذب وجدل كبير. قال ابن قدامة المقدسي: "والصحيح ان ذلك ليس بحجة لانه ما عرف من الشارع المحافظة على الدماء بكل طريق، ولذلك لم يشرع المثلة وان كانت ابلغ الردع والزجر، ولم يشرع القتل في السرقة وشرب الخمر، فإذا اثبت حكماً لمصلحةٍ من هذه المصالح لم يعلم ان الشرع حافظ على تلك المصلحة بإثبات ذلك الحكم، كان وضعاً للشرع بالرأي وحكماً بالعقل المجرد"(1).
فمثلاً قطع السارق يؤول إلى رفع السرقة أو التقليل منها، ويؤول إلى حفظ المال وهو من المقاصد الضرورية. ولكن هذا المقصد وهو حفظ المال لا يصلح علة ً لقطع السارق، لأن الغاصب والمختلس والغاش لم يقطعهم الشرع، مع ان هذا المقصد موجود في تحريم الاختلاس والغصب والغش.
__________
(1) ابن قدامة المقدسي، روضة الناظر وجنة المناظر. ص: 150.(1/144)
ولذلك فإن هذه الفكرة - فكرة المقاصد - لم تؤثر سلباً أو إيجابا ًعلى أصول الحنفية، قال الأنصاري: "الحنفية لا يقبلون الإخالة أصلاً لأنها وإن كانت مفيدة للظن ولكنها ليست ملزومةً للشارع علية ما دلت عليه، ولا يظن أيضاً بوضعه للتخلف كثيراً كما في المناسب معلوم الإلغاء كالصنائع الشاقة فإنها مناسبة للتخفيف أشد مناسبة من مشقة السفر لكن الشارع اعتبر الأولى وأهدر الثانية، والمصالح المرسلة فإنها أيضاً مناسبة، ولكنها لم تعتبر شرعاً، وإذا لم تورث ظن اعتبار الشارع لم تكن حجة شرعية وإنما هي من هوسات العقل فلا تعتبر، ولعل هذا هو مراد النسفي أنه ليس ظن اعتبار الشارع فهو لا يغني من الحق شيئاً. فإن قلت: الإخالة تفيد الظن البتة والإجماع انعقد على اعتبار الظن قال: الإجماع على العمل بالظن إنما هو على تقدير كونه - أي الظن - شرعياً حاصلاً من جهة الشرع وظناً باعتبار الشارع هذا"(1).
أما ما قاله المحتجون بالاستدلال وما بني عليه وهو فكرة المقاصد أن المعنى جرت على وفقه أحكام كثيرة فهو يكون أقوى من القياس ويكون بمثابة أصل التشريع، وقد أطلقوا على شهادة الأحكام له لفظ العرض على الأصول أو موافقة الأصول فقد رده الأحناف أيضاً، قال شارح أصول البزدوي: "أما أن تكون النصوص موافقة للوصف فيحصل به كثرة النظائر وبكثرة النظائر لا تحصل قوة في الوصف"(2).
__________
(1) الأنصاري، فواتح الرحموت 2/301.
(2) علاء الدين البخاري، كشف الأسرار 3/512، والمراد بالتعديل: ثبوت تأثير الوصف.(1/145)
وهكذا ظل الخلاف على حاله، يرجع إلى الخلاف في كيفية اعتبار الحكمة أو المصلحة أو المقصد. فالرادون للتعليل بالوصف المناسب يرون أن هذا الاعتبار خيالي قلبي أو هوس عقلي وظن لا يشهد له الشرع فلا اعتبار له. ومن هنا ظهر في حجج المعللين بالمقاصد قولهم بلزوم التعليل شرعاً وأنه الأصل في الأحكام، وعليه فالتعليل بالمعاني المصلحية ليس تحكماً وإنما هو ظن شرعي لأنه الأصل وإلا كان الحكم تعبداً وهذا خلاف الأصل. وهذا هو موضوع المبحث التالي.
المبحث الثالث
المدخل إلى فكرة المقاصد عند الشاطبي
عرض موجز لهذا المبحث:
الموضوع الرئيس لهذا المبحث هو أصل التعليل، أي القول بأن الأصل في الأحكام التعليل. فقد اعتمد بعض الأصوليين على أن الشريعة معللة بجلب المصالح ودرء المفاسد لأجل إثبات بعض المسالك في التعليل وعلى وجه الخصوص مسلك المناسبة. واقتضى إثبات هذا التعليل إثبات عدة قضايا:
الأولى: ... إثبات أن الله سبحانه وتعالى لا يفعل إلا لغرض أو حكمة، وشرعه من فعله، وبذلك يثبت أن الأحكام الشرعية معللة، وبما أن من الأحكام الشرعية ما لا يُطمع بالوقوف على عللها، كالأعداد والمقادير والأنصبة مثلاً، لذلك لا يقال: الأحكام تعلل، وإنما يقال: الأصل في الأحكام التعليل.
الثانية: ... إن الحكمة لا بد أن تكون مصلحة لا مفسدة، والمصلحة إما أن ترجع إلى الله - سبحانه وتعالى - أو إلى العبد. والله - سبحانه وتعالى - منزه عن المصالح والمفاسد، فلا بد أن تكون المصلحة راجعة إلى العبد.
الثالثة: ... إذا وجدنا حكماً شرعياً مستلزماً لمصلحة ما، فالقول بأن الله - سبحانه وتعالى - شرع هذا الحكم لهذه المصلحة، هو ظن، والله قد تعبَّدنا بالظن، فيكون هذا الظن شرعياً، والتعليل بهذه المصلحة تعليل شرعي.(1/146)
وقد أدت المجادلات في القضيتين الأولى والثانية إلى أبحاث كلامية متعلقة بخلق الأفعال وبالصفات. فذهب البعض كالآمدي مثلاً إلى أن الأحكام معللة بمصالح العباد وأن هذا بطريق الوقوع والاتفاق. وذهب المعتزلة إلى ذلك وأنه بطريق الوجوب. ورد الرازي بشكل قاطع القول بتعليل أفعال الله وأحكامه، وأثبت علِّيَّة المصالح للأحكام من غير احتياج لأصل التعليل. ثم جاء الشاطبي، ورد قول الرازي وأثبت تعليل الأفعال والأحكام بشكل قاطع في كل تفاصيل الشريعة، ولكن بطريقة مختلفة عما اعتمده سابقوه لأجل إثبات هذا الأصل.
وعلى ذلك فنحن أمام ثلاث طرق مختلفة في إثبات تعليل الأحكام بالحِكَم والمصالح: الأولى للآمدي والثانية للرازي والثالثة للشاطبي. أما طريقة المعتزلة فليس موضوعها القياس ولا المقاصد، وإنما هو وجوب فعل الأصلح في حق الله تعالى، وهو قول مردود لأن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وفعله وحكمه هو المقياس ولا يقاس بشيء.
أما القضية الثالثة، وهي أن الله - سبحانه وتعالى - تعبدنا بالظن، وكون هذا الحكم شرع لهذه المصلحة هو ظن شرعي أو غير شرعي فقد تبيّنت الأقوال فيها في المبحث السابق، وسيُشار إليها فيما يلي بمقدار ما يقتضي البحث.
أدلة القائلين بأصل التعليل:(1/147)
ذهب فريق من أئمة الأصول بعد تقسيم مقاصد الشريعة إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات إلى إقامة الدلالة على هذا التعليل. فقال الآمدي تحت عنوان (إقامة الدلالة على أن المناسبة والاعتبار دليل كون الوصف علة): "الأحكام إنما شرعت لمصالح العباد، أما أنها شرعت لمقاصد وحكم فيدل عليه الإجماع والمعقول، أما الإجماع فهو أن أئمة الفقه مجمعة على أن أحكام الله تعالى لا تخلو عن حكمة ومقصود وإن اختلفوا في كون ذلك بطريق الوجوب كما قالت المعتزلة، أو بحكم الاتفاق والوقوع من غير وجوب كقول أصحابنا. وأما المعقول فهو أن الله تعالى حكيم في صنعه، فرعاية الغرض في صنعه إما أن يكون واجباً، أو لا يكون واجباً: فإن كان واجباً فلم يخل عن المقصود، وإن لم يكن واجباً ففعله للمقصود يكون أقرب إلى موافقة المعقول من فعله بغير مقصود، فكان المقصود لازماً من فعله ظناً، وإذا كان المقصود لازماً في صنعه فالأحكام من صنعه، فكانت لغرض ومقصود. والغرض إما أن يكون عائداً إلى الله تعالى، أو إلى العباد، ولا سبيل إلى الأول لتعاليه عن الضرر والانتفاع، ولأنه على خلاف الإجماع، فلم يبقَ سوى الثاني"(1).
__________
(1) الآمدي، الإحكام 3/250، ومما يلاحظ في هذا النص وأمثاله أن إثبات أصل التعليل، قد مال ببحث العلة من معنى ما جعله الشارع علة للحكم إلى أبحاث متعلقة بذات الله.(1/148)
ثم قال: "وأيضاً فإن الأحكام مما جاء بها الرسول، فكانت رحمة للعالمين لقوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (1)، فلو خلت الأحكام عن حكمة عائدة إلى العالمين، ما كان رحمة بل نقمة لكون التكليف بها محض تعب ونصب وأيضاً قوله تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } (2). فلو كان شرع الأحكام في حق العباد لا لحكمة. لكانت نقمة، لا رحمة لما سبق، وأيضاً قوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"(3)، فلو كان التكليف بالأحكام لا لحكمة عائدة إلى العباد، لكان شرعها ضرراً محضاً، وكان ذلك بسبب الإسلام وهو خلاف النص"(4).
ثم خلص الآمدي إلى النتيجة فقال: "وإذا ثبت أن الأحكام إنما شرعت لمصالح العباد، فإذا رأينا حكماً مشروعاً مستلزماً لأمر مصلحي، فلا يخلو إما أن يكون ذلك هو الغرض من شرع الحكم، أو ما لم يظهر لنا، لا يمكن أن يكون الغرض ما لم يظهر لنا، وإلا كان شرع الحكم تعبداً، وهو خلاف الأصل، لما سبق تقريره، فلم يبق إلا أن يكون مشروعاً لما ظهر وإذا كان ذلك مظنوناً فيجب العمل به، لأن الظن واجب الاتباع في الشرع ويدل على ذلك إجماع الصحابة على العمل بالظن ووجوب اتباعه في الأحكام الشرعية"(5).
__________
(1) الأنبياء، 107.
(2) الأعراف، 156.
(3) الحديث: "لا ضرر ولا ضرار" رواه ابن ماجه (2331) و(2332)، وأحمد في المسند (2719)، ومالك في الموطأ (1234)، وهو صحيح بكثرة شواهده، وزيادة في "الإسلام" هي من رواية الطبراني في الأوسط، أنظر: نصب الراية للزيلعي، 4/386.
(4) الآمدي، الإحكام 3/250.
(5) الموضع نفسه.(1/149)
وبعد ذلك شرع الآمدي في الرد على الاعتراضات التي ترد على هذا النهج في التعليل وعلى القضايا التي أوردها ضمن ذلك، وعلى وجه الخصوص قوله إن الله لا يشرع إلا لغرض ومقصود، ثم بعد ذلك، وعلى فرض التسليم بأن الله لا يشرع إلا لغرض ومقصود، فكيف يثبت أن هذه الحكمة المظنونة للمجتهد هي عينها مقصود الشارع بالحكم.، قال: "فإن قيل: لا نسلم استلزام شرع الأحكام للحكم والمصالح، وذلك لأن شرع الأحكام من صنع الله تعالى، وصنعه إما أن يستلزم الحكمة والمقصود، أو لا يستلزم، والأول ممتنع لسبعة عشر وجهاً"(1)، ثم أورد وجوه الاعتراض على استلزام الأحكام للحكم والمقاصد وردها واحداً واحداً(2). والجدال في هذه القضايا كله خارج عن إطار أصول الفقه، وداخل في مجال المنطق والكلام، وفيما يلي أمثلة من هذه الاعتراضات والردود عليها:
الاعتراض الأول كما أورده الآمدي: "إن القائل قائلان: قائل يقول بأن أفعال العبيد مخلوقة لله تعالى، وقائل إنها مخلوقة للعبيد. فمن قال إنها مخلوقة لله تعالى فيلزمه من ذلك أن يكون خالقاً للكفر والمعاصي وأنواع الشرور، مع أنه لا حكمة ولا مقصود في خلق هذه الأشياء، ومن قال إنها مخلوقة للعبيد فإنما كانت مخلوقة لهم بواسطة خلق الله تعالى القدرة لهم على ذلك، فخلقه للقدرة الموجبة لهذه الأمور لا يكون أيضاً لحكمة"(3).
والاعتراض الثاني: "إنه لو استلزم فعله للحكمة ما أمات الأنبياء وأنظر إبليس وما أوجب تخليد أهل النار في النار، لعدم الحكمة في ذلك"(4).
__________
(1) المصدر نفسه، 3/251.
(2) المصدر نفسه، 3/251 - 256.
(3) الآمدي، الإحكام، 3/251 - 256.
(4) الموضع نفسه.(1/150)
وجواب الآمدي على هذين الاعتراضين: "من ثلاثة أوجه: الأول: إن القدرة إنما تتعلق بالحدوث والوجود لا غير والكفر وأنواع المعاصي والشرور راجعة إلى مخالفة نهي الشارع وليس ذلك من متعلق القدرة في شيء. الثاني: وإن سلمنا أن جميع ذلك مخلوق لله تعالى، فنحن لا ندعي ملازمة الحكمة لأفعاله مطلقاً، حتى يطرد ذلك في كل مخلوق، بل إنما ندَّعي ذلك فيما يمكن مراعاة الحكمة فيه، وذلك ممكن فيما عدا أنواع الشرور والمعاصي، ولا ندعي ذلك قطعاً بل ظاهراً، الثالث: وإن سلمنا لزوم الحكمة لأفعاله مطلقاً، ولكن لا نسلم امتناع ذلك فيما ذكروه من الصور قطعاً، لجواز أن يكون لازمها حكم لا يعلمها سوى الرب تعالى"(1).
ومن أمثلة هذه الاعتراضات: "السادس عشر: أن الحكمة إنما تطلب في حق من تميل نفسه في صنعه إلى جلب نفع أو دفع ضر، والرب تعالى منزه عن ذلك.
السابع عشر: أن الحكمة إنما تطلب في فعل من لو خلا فعله عن الحكمة لحقه الذم وكان عابثاً. والرب يتعالى عن ذلك، لكونه متصرفاً في ملكه بحسب ما يشاء ويختار من غير سؤال عما يفعل. على ما قال تعالى: { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } (2)، وإن لم يكن فعله مستلزماً للحكمة فهو المطلوب"(3).
وأجاب الآمدي على هذين الاعتراضين الأخيرين: "عن السادسة عشرة بمنع ما ذكروه في رعاية الحكمة، بل الحكمة إنما تطلب في فعل من لو وجدت الحكمة في فعله لما كان ممتنعاً، بل واقعاً في الغالب.
وعن السابعة عشرة أن ما ذكروه، إنما يلزم في حق من تجب مراعاة الحكمة في فعله والباري تعالى ليس كذلك على ما مقتضاه في كتبنا الكلامية"(4).
أدلة الرادين:
__________
(1) المصدر نفسه، 3/254.
(2) الأنبياء، 23.
(3) الآمدي، الإحكام 3/254.
(4) الآمدي، الإحكام، 3/256.(1/151)
وهكذا، فإن إثبات أصل التعليل عند هذا الفريق لم يكن إلا بأبحاث كلامية في ذات الله، ولذلك رأينا فريقاً آخر يرد هذا الأصل بشكل قاطع مع أنه يقول بالقياس وبالعلة وبالاستدلال وبمسلك المناسبة. ومن أشهر هؤلاء فخر الدين الرازي. ومما قاله: "المناسبة تفيد ظن العلية والظن و(3) العمل به"(1). وقال: "فثبت أن المناسبة تفيد العلية مع القطع بأن أفعال الله تعالى لا تعلل"(2).
وقد حاول الرازي إثبات التعليل بمسلك المناسبة، فذكر في ذلك طريقتين، أما الأولى فهي الطريقة أو الأدلة التي أوردها الآمدي. فقد ذكرها ثم عاد عليها وأبطلها. أما الثانية فقد أثبتها وقال بها.
قال: "المناسبة تفيد ظن العلية، والظن واجب العمل به، بيان الأول(3) من وجهين: الأول(4): أن الله - تعالى - شرع الأحكام لمصلحة العباد، وهذه مصلحة، فيحصل ظن أن الله - تعالى - إنما شرعه لهذه المصلحة، فهذه مقدمات ثلاث لا بد من إثباتها بالدليل، أما المقدمة الأولى. فالدليل عليها وجوه"(5). والمراد بقوله: (أما المقدمة الأولى) هو قوله: إن الله - تعالى - شرع الأحكام لمصلحة العباد وهي المراد بها أصل التعليل. ثم أورد ستة وجوه في إثبات هذه المقدمة، وهي لا تخرج عما قدمه الآمدي، ولكن بشكل أكثر تفصيلاً(6).
__________
(1) الرازي، المحصول، 5/172.
(2) المصدر نفسه، 5/178.
(3) الأول: أي المقدمة الأولى وهي أن المناسبة تفيد ظن العلية.
(4) أي: هناك طريقان لإثبات أن المناسبة تفيد ظن العلية، وفيما يلي سيذكر الطريق الأول وتجدر الملاحظة أنه يذكر هذا الطريق ثم ينقضه.
(5) الرازي، المحصول 5/172.
(6) المصدر نفسه، 5/172 - 175.(1/152)
قال: "فهذه الوجوه الستة دالة على أنه تعالى ما شرع الأحكام إلا لمصلحة العباد، ثم اختلف الناس بعد ذلك: أما المعتزلة، فقد صرحوا بحقيقة هذا المقام وكشفوا الغطاء عنه وقالوا: إنه يقبح من الله تعالى فعل القبيح، وفعل العبث بل يجب أن يكون فعله مشتملاً على جهة مصلحة وغرض. وأما الفقهاء، فإنهم يصرحون بأنه تعالى إنما شرع الحكم لهذا المعنى، ولأجل هذه الحكمة، ولو سمعوا لفظ "الغرض"، لكفّروا قائله مع أنه لا معنى لتلك "اللام" إلا الغرض، وأيضاً فإنهم يقولون: "إنه وإن كان لا يجب على الله - تعالى - رعاية المصالح إلا أنه تعالى لا يفعل إلا ما يكون مصلحة لعباده تفضلاً منه وإحساناً لا وجوباً" فهذا هو الكلام في تقرير هذه المقدمة"(1).
أما نقض الرازي لأصل التعليل بالحكم والمصالح، فيأتي في كلام طويل نذكر بعضه. قال: "قوله: تخصيص الصورة المعينة بالحكم المعين لا بد وأن يكون لمرجِّح، وذلك المرجِّح يمتنع أن يكون عائداً إلى الله - تعالى - فلا بد أن يكون عائداً إلى العبد، قلنا: إما أن تدَّعي أن التخصيص لا بد له من مخصص أو لا تدعي ذلك، وعلى التقديرين لا يمكنك القول بتعليل أحكام الله - تعالى - بالمصالح"(2). ثم أورد كلاماً طويلاً لنقض القول بتعليل أحكام الله، وكل ذلك بحث متعلق بذات الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) الرازي، المحصول، 5/176.
(2) المصدرنفسه، ص: 180.(1/153)
وخلص إلى قول: "فثبت أن تعليل أحكام الله - تعالى - بالمصالح باطل. وهذا الكلام كما أنه اعتراض على ما قالوه، فهو دلالة قاطعة ابتداءً من المسألة. وبه يظهر فساد سائر الوجوه التي عولوا عليها، لأنها أدلة ظنية، وما ذكرناه برهان قاطع، ثم نقول: إن دل ما ذكرتموه على أن تعليل أفعال الله تعالى بالمصالح واقع، فمعنا أدلة قاطعة مانعة منه وهي من وجوه:" (1)، ثم ذكر هذه الوجوه وكلها متعلقة بذات الله، ولا دخل لها بعلم أصول الفقه. ومن هذه الوجوه التي ذكرها:
"الأول: أنه خالق أفعال العباد، وذلك منع من القول بأنه - تعالى - يراعي المصالح"(2).
"الدليل الثاني: على أنه لا يجوز تعليل أفعال الله - تعالى - وأحكامه بالمصالح، أن القادر على الكفر، إن لم يقدر على الإيمان لزم الجبر، وذلك يقدح في رعاية المصالح"(3).
"الدليل الثالث: أنه قد وقع التكليف بما لا يطاق وذلك يمنع من القول برعاية المصالح"(4).
وهكذا كل الوجوه أو الأدلة التي أوردها إلى آخرها وهو الثامن حيث قال: "أما الإله - سبحانه وتعالى - لما كان منزهاً عن المصالح والمفاسد بالكلية. ثم رأينا أن الغالب في أفعاله ما لا يكون مصلحة للخلق، كيف يغلب على الظن كون أفعاله وأحكامه معللة بالمصالح؟!" (5).
__________
(1) المصدر نفسه، 5/182.
(2) الموضع نفسه.
(3) الرازي، المحصول، 5/186.
(4) الموضع نفسه.
(5) المصدر نفسه 5/193. وقد أردت من إيراد الحجج والاعتراضات لكل من الآمدي والرازي بيان أن مثل هذا البحث هو بحث منطقي كلامي خارج عن إطار أصول الفقه وغايتِهِ، وأن حشره في أصول الفقه لا مبرر له، وإنما يلجأ إليه من ضعفت حجته.(1/154)
ومع أن الرازي قد رد أصل التعليل، فهو أثبت مسلك المناسبة بطريقة مختلفة، فقال بعد أن ذكر الوجه الأول في بيان أن المناسبة تفيد ظن العلية، وهو الذي ذكره ونقضه، قال: "الوجه الثاني في بيان أن المناسبة تفيد ظن العلية: أن نسلِّم أن أفعال الله، وأحكامه، يمتنع أن تكون معللة بالدواعي والأغراض، ومع هذا فندعي أن المناسبة تفيد ظن العلية، وبيانه: أن مذهب المسلمين، أن دوران الأفلاك وطلوع الكواكب وغروبها وبقاءها على أشكالها وأنوارها غير واجب، ولكن الله - تعالى - لما أجرى عادته بإبقائها على حالة واحدة، لا جرم يحصل أنها تبقى غداً، وبعد غد على هذه الصفات، وكذلك نزول المطر عند الغيم الرطب، وحصول الشبع عقيب الأكل، والري عقيب الشرب، والاحتراق عند مماسة النار، غير واجب، لكن العادة لما اطردت بذلك، لا جرم حصل ظن يقارب اليقين باستمرارها على مناهجها، والحاصل، أن تكرير الشيء مراراً كثيرة، يقتضي ظن أنه متى حصل لا يحصل إلا على ذلك الوجه. إذا ثبت هذا فنقول: إنا لما تأملنا الشرائع وجدنا الأحكام والمصالح متقارنين، لا ينفك أحدهما عن الآخر وذلك معلوم بعد استقرار أوضاع الشرائع، وإذا كان كذلك، كان العلم بحصول هذا مقتضياً ظن حصول الآخر وبالعكس، من غير أن يكون أحدهما مؤثراً في الآخر وداعياً إليه(1). فثبت أن المناسبة دليل العلية، مع القطع بأن أحكام الله - تعالى - لا تعلل بالأغراض"(2).
وهكذا فإنه رغم اختلاف هذين الفريقين في أصل التعليل، فهما متفقان على التعليل بالوصف المناسب، وهذا في مقابل من يرد مسلك المناسبة.
هل يُلزِم أصل التعليل بمسلك المناسبة؟
__________
(1) وهذا ما يؤكد ما ذكر سابقاً عن معنى العلة عنده، أنظر: ص: 51 وص: 99.
(2) الرازي، المحصول 5/179.(1/155)
إن الفريق الذي لا يأخذ بمسلك المناسبة لا يجعل هذا المسلك لازماً لأصل التعليل وذلك من خلال حجج تبينت سابقاً عند بيان ردهم لمسلك المناسبة، ومن ذلك أنه إن ثبت أن هذه مصلحة، فثبوت أن الحكم قد شرعه الله لأجل هذه المصلحة يحتاج إلى دليل، وبغير ذلك فالظن المدعى ههنا ليس هو الظن الشرعي المعمول به في الشرعيات، وهو ما أطلقوا عليه أنه من خيالات القلوب وهوسات العقول. ومن ذلك أيضاً، أن أصل التعليل وإن ثبت، فقد ثبت أيضاً أن من الأحكام ما هو غير معلل، وقد يكون الحكم، موضع النظر، من هذا القسم، أي غير المعلل، فلا يقال بتعليله إلا بشاهد عليه، قال علاء الدين البخاري: "لأن الأصل في النصوص وإن كان هو التعليل إلا أنه ثابت من طريق الظاهر، وقد وجدنا من النصوص ما هو غير معلول بالاتفاق، واحتمل أن يكون هذا النص المعين من تلك الجملة، فلا يجوز التمسك بذلك الأصل والإلزام على الغير مع هذا الاحتمال"(1). وقال البزدوي: "فلا يسمع منا الاستدلال بالأصل وهو أن التعليل أصل في النصوص بل لا بد من إقامة الدليل على أن هذا النص بعينه معلول"(2).
__________
(1) علاء الدين البخاري، كشف الأسرار، 3/436.
(2) البزدوي، أصول البزدوي 3/438.(1/156)
وقد أورد الغزالي شيئاً من هذه المحاجات حول هذا الأمر فقال: "وأما المناسب الغريب فهذا في محل الاجتهاد ولا يبعد عندي أن يغلب على ظن بعض المجتهدين، ولا يدل دليل قاطع على بطلان اجتهاده، فإن قيل: يدل على بطلانه أنه متحكم بالتعليل من غير دليل يشهد لإضافة الحكم إلى علته، قلنا: إثبات الحكم على وفقه يشهد لملاحظة الشرع له ويغلب على الظن، فإن قيل: قولكم إثبات الحكم على وفقه تلبيس إذ معناه أنه تقاضى الحكم بمناسبة وبعث الشارع على الحكم فأجاب باعثه وانبعث على وفق بعثه، وهذا تحكم لأنه يحتمل أن يكون حكم الشرع بتحريم الخمر تعبداً أو تحكماً كتحريم الخنزير والميتة والدم والحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير مع تحليل الضبع والثعلب على بعض المذاهب وهي تحكمات، ولكن اتفق معنى الإسكار في الخمر فظن أنه لأجل الإسكار ولم يتفق مثله في الميتة والخنزير فقيل إنه تحكم وهذا على تقدير عدم التنبيه في القرآن بذكر العداوة والبغضاء، ويحتمل أن يكون بمعنى آخر مناسب لم يظهر لنا، ويحتمل أن يكون للإسكار، فهذه ثلاثة احتمالات، فالحكم بواحد من هذه الثلاثة تحكم بغير دليل، وإلا فبم يترجح هذا الاحتمال، وهذا لا ينقلب في المؤثر، فإنه عُرف كونه علة بإضافة الحكم إليه نصاً أو إجماعاً كالصغر وتقديم الأخ للأب والأم. والجواب: إنا نرجح هذا الاحتمال على احتمال التحكم بما رددنا به مذهب منكري القياس"(1). ثم قال: "وأما قولهم لعل فيه معنى آخر مناسباً هو الباعث ولم يظهر لنا، وإنما مالت أنفسنا إلى المعنى الذي ظهر لعدم ظهور الآخر لا لدليل دل عليه فهو وهم محض، فنقول: غلبة الظنون في كل موضع تستند إلى مثل هذا الوهم وتعتمد انتفاء الظهور في معنى آخر لو ظهر لبطلت غلبة الظن، ولو فتح هذا الباب لم يستقم قياس"(2).
موقف الشاطبي بإيجاز:
__________
(1) الغزالي، المستصفى، 2/300 ـ 301.
(2) الموضع نفسه.(1/157)
هذا التطويل والقطع من الرازي بعدم تعليل الأفعال والأحكام اعترض عليه الشاطبي، ولكنه لم يدخل معه في سجال كلامي، وإنما قال بتعليل الأحكام والأفعال بطريق غير ذلك الذي اعتمده الآمدي ورده الرازي، فاعتمد في ذلك منهجاً جديداً، وهو الاستقراء المفيد للقطع بنظره، ولذلك خرج بنتيجة قاطعة هي أن أفعال الله - سبحانه وتعالى - وأحكامه معللة بمصالح العباد. قال: "وزعم الرازي أن أحكام الله تعالى ليست معللة بعلة البتة، كما أن أفعاله كذلك"(1). ثم قال: "والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراءً لا ينازع فيه الرازي ولا غيره"(2).
ثم ذكر الشاطبي نصوصاً كثيرة من القرآن، وأشار إلى غيرها من السنة، وكلها مذكور فيها غايات للفعل أو الحكم. وبكثرة هذه النصوص يثبت الاستقراء - لديه - أن أفعال الله وأحكامه معللة بغاياتها.
وهكذا ظهرت فكرة المقاصد عند الشاطبي، بمنهجه الجديد في إثبات العلل والأصول وهو الاستقراء المفيد للقطع.
وأما الاختلاف في الظن بالمصلحة وأنها علة للحكم، هل هو ظن شرعي أو هو مجرد وهم، فلم يأخذ الشاطبي بأي من القولين كما أنه لم يرد أياً منهما، وإنما عمد إلى التوفيق بينهما، فلم يكتف بمثل هذا الظن على اعتبار أنه لم يدل عليه دليل وإنما هو مما يسرح به العقل أن هذا الحكم كان لأجل هذه المصلحة، وكذلك لم يرد هذا الظن على اعتبار أن الأحكام إنما شرعت لأجل مصالح العباد، وقد تكون هذه المصلحة مقصودة للشارع بهذا الحكم، ولكنه اشترط أن تكثر الأحكام التي يحصل الظن بأنها شرعت لأجل تلك المصلحة، وبذلك يحصل الاستقراء المفيد للقطع، فيحصل القطع بعلية هذه المصلحة في التشريع وبهذا - أيضاً - يظهر كيف نشأت هذه الفكرة عند الشاطبي في كيفية اعتبار المصالح والمفاسد.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/2.
(2) الموضع نفسه.(1/158)
ومما ينبغي التنبيه إليه أن اتخاذ الوصف المناسب أو المصلحة علة للحكم هو من قبيل التعليل بالأمارات التي لم يثبت فيها كونها باعثاً، ولذلك ينتفي التعليل بها إذا وجد وصف أكثر مناسبة، أو إذا لم تطرد، قال الشاطبي: "إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً، وهذه دعوى لا بد من إقامة البرهان عليها صحةً أو فساداً، وليس هذا موضع ذلك وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام"(1). ثم قال: "ولما اضطر في علم أصول الفقه إلى إثبات العلل للأحكام خاصة أثبتت على أنها الأمارات، ولا حاجة إلى تحقيق الأمر في هذه المسألة"(2). لذلك فكون هذه المصالح أو العلل بمعنى العلامات المعرفة، وليس الباعث فهي لا تصلح للقياس وتعليل الحكم بها، لذلك عمد المعللون بها إلى إثبات أصل التعليل، إذ بذلك تصبح بمعنى الباعث وتفيد في القياس. أما الشاطبي فإنه لم يكتف بثبوت أصل التعليل، وهو الثابت لديه بالاستقراء، وإنما اشترط أيضاً حصول الاستقراء للعلة نفسها أو العلامة نفسها، وبذلك تصبح هذه العلة مشهوداً لها بعينها وهو شرط الأحناف فتكون باعثاً للتشريع وأصلاً له، وهذا ما سيتبين خلال بيان وتفصيل فكرة المقاصد عنده.
معنى المقاصد عند الشاطبي:
المقاصد لغةً: جمع مقصد، وهو الشيء الذي يُقصد. قال في لسان العرب: "قال ابن جني: أصل (ق ص د) ومواقعها في كلام العرب: الاعتزام والتوجه، والنهوض نحو الشيء على اعتدال كان ذلك أم جور، هذا أصله في الحقيقة وإن كان قد يخص في بعض المواضع بقصد الاستقامة دون الميل، ألا ترى أنك تقصد الجور تارةً كما تقصد العدل أخرى، فالاعتزام والتوجه شامل لها"(3).
وقال في القاموس المحيط: "القصد: استقامة الطريق، والاعتماد، والأَمّ، قصده، وله، وإليه، يقصده"(4).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات 2/2.
(2) الموضع نفسه.
(3) ابن منظور، لسان العرب.
(4) الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ص: 396.(1/159)
أما اصطلاحاً فلا يوجد تعريف متفق عليه أو معتمد. والمعتمد في الاصطلاح هو المقدار اللغوي الموجود في اللفظة. ولا يمكن وضع تعريف اصطلاحي للمقاصد إلا بعد معرفة المراد بها، إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
ولم يقدم الشاطبي تعريفاً اصطلاحياً للمقاصد، ولكن ما جاء في كتابه (الموافقات)، وخصوصاً الجزء الثاني منه هو التعريف بمراده بالمقاصد. ولا ضير في هذا، بل وليس هناك كبير فائدة من تقديم نص لا يفيد قارئه في معرفة الواقع المعرَّف. إذ لا يدرك أو يفقه مثل هذه التعريفات إلا من سبق له أن أدرك واقعها. لذلك فالتعريف بمعنى الحد لا يفيده بشيء، بل هو يحاكم التعريف بحسب مفهومه للمعرَّف. وقد حاول بعض المتأخرين وضع تعريف للمقاصد، فقصروها على مقاصد الشريعة، وربما أشار بعضهم إلى مقاصد للشريعة ومقاصد للناس. ولكنهم لم ينبهوا إلى التفريق بين مقاصد الشريعة ومقاصد الشارع. فالشيخ محمد الطاهر ابن عاشور - رحمه الله - قال بمقاصد عامة ومقاصد خاصة، وعرف كلاًَ منهما. قال: "مقاصد التشريع العامة هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضاً معانٍ من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها"(1). وقال في المقاصد الخاصة: "الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة كي لا يعود سعيهم في مصالحهم الخاصة بإبطال ما أسس لهم من تحصيل مصالحهم العامة"(2).
__________
(1) محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص: 50: الشركة التونسية للتوزيع، تونس، ط3، ديسمبر 1988م.
(2) محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص: 146.(1/160)
أما الأستاذ علال الفاسي فقال: "المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها"(1).
وقد أشار الدكتور أحمد الريسوني إلى هذه التعريفات وغيرها، وقال: "وبناءً على مختلف الاستعمالات والبيانات الواردة عند العلماء الذين تحدثوا في موضوع المقاصد يمكن القول: إن مقاصد الشريعة هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد"(2).
وقد أشار إلى هذه التعريفات الكاتب السعودي خالد بن صالح السيف في مقال له ابتدأه بسؤال: ما المقاصد؟ (3).
ويشير الدكتور حمادي العبيدي إلى تعريف الشيخ محمد الطاهر بن عاشور قائلاً: "إن هذا في الواقع ليس تعريفاً للمقاصد لأن التعريفات لا تكون بهذا الأسلوب، وإنما هو بيان وتفصيل للمواطن التي تلتمس فيها المقاصد من الشريعة، والأقرب أن نقتصر في التعريف على القول: "إن المقاصد هي الحكم المقصودة للشارع في جميع أحوال التشريع"(4).
والواقع أن هذه التعريفات كلها قاصرة عن إفادة المطلوب. وذلك أن معنى المقاصد عند الشاطبي مختلف عن معناها عند غيره من الذين سبقوه، أو من المعاصرين الذين يتحدثون في المقاصد. وهذه التعريفات كلها، إذا صحت، فإنما تصح على المعنى الذي في أذهان المعرِّفين. وهي كلها بعيدة عن التدقيق في مراد الشاطبي.
__________
(1) علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص: 3، مكتبة الوحدة العربية، الدار البيضاء.
(2) أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص: 119، ط 4، 1416هـ - 1995م، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الدار العالمية للكتاب الإسلامي.
(3) جريدة الحياة، العدد: 12615، 13 أيلول 1997، ص: 21.
(4) حمادي العبيدي، الشاطبي ومقاصد الشريعة، ص: 119.(1/161)
ولا بد من الإشارة هنا أن البحث ليس عن كلمة قصد أو مشتقاتها، أين وردت ومتى وردت، فهي كلمة عربية مستعملة ترد في كلام العرب قديماً وحديثاً، وإنما البحث هو عن المقاصد بمعنى معين، وهو المعنى أو المعاني التي أرادها علماء الأصول. إن أول من تحدث عن المقاصد هو الإمام الجويني - والله أعلم - وهو والعلماء الذين أتوا بعده - عدا الشاطبي - يشيرون إلى معنى واحد للمقاصد، وهو مقاصد الشريعة الضرورية والحاجية والتحسينية، وهذه يمكن تعريفها عندهم، بأنها الغايات أو المصالح التي وضعت الشريعة لأجلها.
أما عند الشاطبي، فالأمر يستغرق هذا التعريف ويتجاوزه، إذ المقاصد عنده، هي مقاصد الشارع ومقاصد المكلف. ومقاصد المكلف يمكن تعريفها بأنها الغايات أو المصالح التي يريد المكلف تحقيقها سواء كانت دنيوية أو أخروية.
أما مقاصد الشارع فهي أشمل من مقاصد الشريعة، ومقاصد الشريعة ليست إلا مقاصد للشارع قصدها بالتشريع ولكنها ليست كل مقاصد الشارع. فالله سبحانه وتعالى خلق الأشياء وله بذلك مقصد، بحسب الشاطبي، وهذا المقصد هو مقصده من الخلق وليس من التشريع، إذ الخلق ليس تشريعاً. يقول تعالى: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } (1)، ويقول: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (2)، فالابتلاء والعبادة هنا مقاصد للشارع وليسا مقاصد للشريعة.
__________
(1) سورة الملك، 2.
(2) سورة الذاريات، 56.(1/162)
وإذا اقتصرت هذه المقاصد عند غير الشاطبي على مقاصد الشريعة، فإن مقاصد الشارع، بحسب الشاطبي، أربعة أنواع، أحدها مقاصد الشريعة. يقول: "والمقاصد التي ينظر فيها قسمان: أحدها يرجع إلى قصد الشارع، والآخر يرجع إلى قصد المكلف. فالاول يعتبر من جهة قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءً ومن جهة قصده في وضعها للإفهام، ومن جهة قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها، ومن جهة قصده في دخول المكلف تحت حكمها، فهذه أربعة أنواع"(1).
والذي تدور حوله التعريفات المذكورة هو مقاصد الشريعة الضرورية والحاجية والتحسينية، وهي النوع الأول فقط، أي قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءً. هذا أحد أوجه القصور في محاولات تعريف المقاصد، وثمة أمر آخر في هذه التعريفات مناقض لمراد الشاطبي بهذا النوع من المقاصد.
وذلك أن كل هذه التعريفات تذهب إلى أن المقاصد هي المصالح والحكم، أي أنها المعاني المناسبة التي يتلقاها العقل بالقبول. وهذا الفهم، مرةً أخرى، إذا صح على ما عند غير الشاطبي، فلا يصح على ما عند الشاطبي. فمثلاً الشيخ ابن عاشور جعلها مقاصد لتحقيق مقاصد الناس النافعة أو لحفظ مصالحهم العامة. وتعريف الدكتور الريسوني: هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد. وتعريف الدكتور العبيدي: هي الحكم. أما الأستاذ علال الفاسي فقصرها على غايات الأحكام.
بينما المقاصد عند الشاطبي هي ما يثبت كونه مقصوداً للشارع بصرف النظر عن كونه مصلحة في الاعتياد، أو عن كونه مما تتلقاه العقول بالقبول، أو عن كونه مناسباً أو غير مناسب.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/2.(1/163)
والمقاصد، عنده لا تقتصر على غايات الأحكام، بل إن الأحكام نفسها هي من المقاصد، إذ إن الأحكام مقصودة للشارع بالنصوص. والتعريفات كلها تدور حول مقاصد الأحكام، وهو النوع الأول عند الشاطبي، بينما من أكثر ما ركز عليه الشاطبي مقاصد الشارع في كيفية فهم الأوامر والنواهي إضافة إلى قصد التعبد والامتثال. فما تذكره هذه التعريفات هو الغايات من التشريع، وهي نتائج أو مسببات له، والشريعة أو الأحكام هي وسائل لتحقيق الغايات أو أسباب لها.
وعليه، فإن هذه التعريفات، إلى جانب قصورها فإنها لا تصح للتعريف بمراد الشاطبي، ولا بالنوع الأول من مقاصد الشارع عنده. وعلى سبيل المثال لا يصح تعريف الدكتور الريسوني: "هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد" بسبب التقييد بمصلحة العباد. فإذا حذف هذا القيد يصبح التعريف: "هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها" صحيحاً لمراد الشاطبي بمقاصد الشريعة وليس بمقاصد الشارع.
أضف إلى ذلك أن ما أشار إليه البعض من تقسيم للمقاصد إلى خاصة وعامة وجزئية لا وجود له عند الشاطبي، ولم يؤت له بما يدل عليه من نصوصه. بل إن نصوصه تنقض هذا القول. وسيتبين هذا عند التفصيل، وهو من صلب فكرة المقاصد عند الشاطبي. فالمقاصد عند الشاطبي هي أصول كلية، وهي عامة في كل الأحوال، وفي كل الأزمان، وفي كل المكلفين، أما الجزئيات فهي ليست مقاصد لأن المقاصد أصول كلية، وإنما الجزئيات قد تكون فروعاً خادمةً للمقاصد، أو راجعةً إليها.
وكذلك فإن المقاصد، عند الشاطبي، هي أصول قطعية وليست حكماً مظنونة. وهذا من أهم أركان فكرة المقاصد عند الشاطبي، وهو ما لم تلحظه أي من التعريفات المذكورة أو الأبحاث المنشورة حول المقاصد عند الشاطبي.
وستتبين هذه الأمور بالتحليل والتحقيق والتوثيق في الفصول القادمة في هذه الرسالة. ولكنني أشير هنا إلى ما يلزم من ذلك، وذلك لتمام هذا الموضوع.(1/164)
يقول الشاطبي: "تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها أن تكون ضرورية، والثاني أن تكون حاجية والثالث أن تكون تحسينية"(1). وأي مقصد في أي قسم من هذه الأقسام لا يثبت إلا إذا كان عاماً وقطعياً، أي كلياً، وليس جزئياً ولا ظنياً، يقول: "إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية، والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة وما كان كذلك فهو قطعي"(2). ويقول في الموضع نفسه: "وأعني بالكليات هنا الضروريات والحاجيات والتحسينيات".
وبيانه لمراده بالكليات، واشتراطه القطع لها، يؤكد اشتراط القطع بالمقاصد عنده. وهو يصرف النظر عن توهم أن الأصول التي يشترط لها القطع هي الأدلة الإجمالية: القرآن والسنة والإجماع والقياس، بل هو يقول إن هذه الأصول القطعية راجعة إلى المقاصد الكلية التي هي ضروريات أو حاجيات أو تحسينيات.
وعليه فإن هذه التعريفات للمقاصد قاصرة، ومجانبة للصواب. والأدق - والله أعلم - أن يقال: "إن المقاصد هي الغايات، ومقاصد الشارع عند الشاطبي هي الغايات التي تدل الأفعال والنصوص والأحكام على كونها مطلوبة الوقوع". فيكون للأفعال وللأوامر التكوينية غايات معينة، ويكون للنصوص الشرعية أو للخطاب بها غايات هي الإفهام والتكليف. ويكون للأحكام غايات هي التقيد بها وعدم التقيد بغيرها، وبعض - وليس كل - ما يؤول إليه هذا التقيد.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/3، 4.
(2) المصدر نفسه، 1/10.(1/165)
وتكون هذه الأفعال والنصوص والأحكام بمثابة الوسائل في مقابلة المقاصد، أو الأسباب في مقابلة المآلات أو المسببات. ولا بد من الإشارة هنا إلى أنه ليس كل مسبب عن السبب مقصوداً للشارع. فليس كون الشيء نتيجةً دليلاً على كونه غايةً أو مقصداً. فمثلاً: نكاح المطلقة ثلاثاً يؤول إلى تحليلها للأول إذا طلقها الثاني، وليس التحليل غاية أو مقصداً للشارع، بحسب الشاطبي، إذ إن النكاح بهذا القصد منهيٌ عنه. فالغاية نتيجة ومسبب، وليس كل نتيجة أو مسبب غايةً أو مقصداً. وهذا من صلب أفكار الشاطبي، وسيتبين في موضعه إن شاء الله تعالى.
الفصل الثالث
ضوابط المقاصد عند الشاطبي
ويحتوي على تعريف موجز بموضوع هذا الفصل وعلى ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: ... في المقدمات.
المبحث الثاني: ... في المستندات.
المبحث الثالث: ... في النتائج ومفهوم المصلحة
والمفسدة عند الشاطبي.
الفصل الثالث
ضوابط المقاصد عند الشاطبي
موضوع هذا الفصل:
لقد خصص الشاطبي الجزء الثاني من كتابه الموافقات لموضوع المقاصد، وجعل المقاصد قسمين: مقاصد الشارع ومقاصد المكلف. أما الجزء الأول من الموافقات فقد سماه كتاب الأحكام، وبحث فيه الأحكام الشرعية، أحكام التكليف وأحكام الوضع.
والموضوعات التي أبرزها في كتاب الأحكام، بحثها أئمة الأصول قبله، ومنها ما هو جديد، والجديد فيها هو النظر إلى هذه الأحكام، سواء الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام، أو السبب والشرط والمانع والعزيمة والرخصة والصحة والفساد والبطلان، النظر إليها بالشكل الذي يخدم فكرة مقاصد الشارع، وبالشكل الذي يدفع عنها أي اعتراض أو نقض، وبذلك فهو يضع قواعد في النظر إلى هذه الأحكام وإلى معانيها أو مقاصدها. أضف إلى ذلك أنه قبل أن يبدأ كتاب الأحكام، فإنه يضع ثلاث عشرة مقدمة، يعدها لازمةً لفهم كتابه.
وفي الحقيقة فإنه ما من أصل بحثه في كتابه الموافقات إلا وفيه نصيب من تلك المقدمات.(1/166)
لأجل هذه المقدمات والقواعد كان هذا الفصل، وقد جعلته في ثلاثة مباحث. الأول في المقدمات اللازمة لفكرة المقاصد والثاني في المستندات أو القواعد التي أبرزها في بحثه للأحكام، والثالث فيما ينبني على هذه القواعد والمقدمات من نتائج ومعانٍ ويأتي ضمنه بحث لمعنى المصلحة والمفسدة عند الشاطبي. وهو ضروري لفهم منهج الشاطبي.
المبحث الأول
في المقدمات
موضوع هذا المبحث:
قسم الشاطبي كتابه (الموافقات) إلى خمسة أقسام. وبدأه بذكر المقدمات التي يعدها لازمةً للنظر في كتابه. قال: "فصار كتاباً منحصراً في خمسة أقسام، الأول في المقدمات العلمية المحتاج إليها في تمهيد المقصود"(1). ثم مهد بثلاث عشرة مقدمة. ولأجل إبراز ما يلزم من هذه المقدمات لبيان منهجه أو فكرته كان هذا المبحث.
أصول الفقه قطعية:
قال الشاطبي في مقدمته الأولى: "إن أصول الفقه في الدين قطعيه لا ظنية، والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة وما كان كذلك فهو قطعي"(2). ثم أقام برهانه على هذه المقدمة ومما قاله: "لو جاز تعلق الظن بكليات الشريعة لجاز تعلقه بأصل الشريعة(3) لأنه الكلي الأول. وذلك غير جائز عادةً، وأعني بالكليات هنا الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وأيضاً لو جاز تعلق الظن بأصل الشريعة لجاز تعلق الشك بها وهي لا شك بها، ولجاز تغييرها وتبديلها وذلك خلاف ما ضمن الله عز وجل من حفظها"(4) وقال: "لو جاز جعل الظني أصلاً في أصول الفقه لجاز جعله أصلاً في أصول الدين وليس كذلك باتفاق"(5).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 1/7. من خطبة الكتاب.
(2) المصدر نفسه، 1/10 من المقدمة الأولى.
(3) مراده بأصل الشريعة: القرآن الكريم. والله أعلم.
(4) الشاطبي، الموافقات. 1/10.
(5) الموضع نفسه.(1/167)
وقال: "إن الأصل على كل تقدير لا بد أن يكون مقطوعاً به لأنه إن كان مظنوناً تطرَّق إليه احتمال الاختلاف ومثل هذا لا يجعل أصلاً في الدين عملاً بالاستقراء"(1).
وختم هذه المقدمة بقوله: "المظنونات لا تجعل أصولاً وهذا كاف في اطّراح الظنيات من الأصول بإطلاق، فما جرى فيها مما ليس بقطعي فمبني على القطعي تفريعاً عليه"(2).
وقوله في النص أعلاه: "وأعني بالكليات هنا الضروريات والحاجيات والتحسينيات" يشير إلى أنه لا يقصر شرط القطع بأصول الفقه على مصادر التشريع كالقرآن والسنة والإجماع والقياس.
ويقول في المقدمة الثانية: "إن المقدمات المستعملة في هذا العلم(3)، والأدلة المعتمدة فيه لا تكون إلا قطعيةً، لأنها لو كانت ظنية لم تفد القطع في المطالب المختصة به، وهذا بَيِّن"(4). وهذا لأن المقدمات هي الأسس أو الضوابط التي بالربط فيما بينها، أو بالبناء عليها يتوصل إلى الأصول. وبما أن الأصول يجب أن تكون قطعية وجب أن تكون مقدماتها قطعية.
الاستقراء فقط هو طريق القطع:
__________
(1) المصدر نفسه، 1/12.
(2) الشاطبي، الموافقات، 1/12.
(3) أي: علم الأصول الفقه.
(4) الشاطبي، الموافقات. 1/12.(1/168)
ومن أهم المقدمات لمنهج الشاطبي مقدمته الثالثة حيث يقول: "المعتمد بالقصد الأول(1) الأدلة الشرعية، ووجود القطع فيها على الاستعمال المشهور معدوم، أو في غاية الندور، أعني في آحاد الأدلة، فإنها إن كانت من أخبار الآحاد فعدم إفادتها القطع ظاهر، وإن كانت متواترة فإفادتها القطع موقوفة على مقدمات جميعها أو غالبها ظني. والموقوف على الظني لا بد أن يكون ظنياً. فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو وعدم الاشتراك، وعدم المجاز والنقل الشرعي أو العادي، والإضمار والتخصيص للعموم والتقييد للمطلق، وعدم الناسخ والتقديم والتأخير والمعارض العقلي. وإفادة القطع مع اعتبار هذه الأمور متعذر"(2). وعلى ذلك فالشاطبي ينفي وجود الدلالة القطعية لآحاد النصوص ولو كانت من نصوص القرآن الكريم أو الأحاديث المتواترة. وإذا علمنا إشتراطه القطع بأصول الفقه، ينشأ السؤال: كيف سيحصل هذا القطع عنده؟. يقول: "إفادة القطع مع اعتبار هذه الأمور متعذر، وقد اعتصم من قال بوجودها بأنها ظنية في أنفسها لكن إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة فقد تفيد اليقين وهذا كله نادر أو متعذر. وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق ولأجله أفاد التواتر القطع وهذا نوع منه، فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم(3) فهو الدليل المطلوب وهو شبيه بالتواتر المعنوي بل هو كالعلم بشجاعة علي رضي الله عنه وجود حاتم المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما"(4).
__________
(1) القصد الأول: أي إذا جاء الطلب أو النهي من الشارع. فايقاع الفعل هو القصد الأول من الأمر والامتناع عنه هو القصد الأول من النهي.
(2) الشاطبي، الموافقات. 1/14.
(3) يفيد العلم: أي يفيد العلم القطعي. والعلم يقابله الظن.
(4) الشاطبي، الموافقات 1/14.(1/169)
وعليه، فالشاطبي لا يعتمد في إثبات القطع في الشرعيات إلا على الاستقراء، وهذا من جديده، اعتمده في كتابه وعدَّه السبيل الوحيد للقطع وصرح بأنه خاصية لكتابه، قال مشيراً إلى مقدمته الثالثة هذه: "ومرَّ أيضاً بيان كيفية اقتناص القطع من الظنيات وهي خاصية هذا الكتاب والحمد لله"(1).
والاستقراء هو أن تكثر الأدلة الدالة على معنى معين، أو الأحكام التي يُظَنُّ لها حكمة أو نتيجة معينة. فدلالة الدليل ظنية، وكون الشارع قاصداً لمعنىً معين أو لحكمة معينة أمر ظني، ولا يصح اتخاذ الظني أصلاً في الفقه أو التشريع ولا البناء عليه، فإذا كثرت وتضافرت الأدلة أو الأحكام على معنىً معين، يحصل الاستقراء المفيد للقطع، وتصبح هذه المعاني أصولاً. قال: "إذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضد بعضها بعضاً، فصارت بمجموعها مفيدة للقطع، فكذلك الأمر في مآخذ الأدلة في هذا الكتاب وهي مآخذ الأصول"(2). وأضاف: "إلا أن المتقدمين من الأصوليين ربما تركوا ذكر هذا المعنى والتنبيه عليه فحصل إغفاله من بعض المتأخرين"(3). ونَبَّه إلى انه بهذا الإغفال لا يحصل لنا القطع بحكم شرعي البتة، وأن دلالة الإجماع على الأحكام الشرعية لا تثبت(4).
__________
(1) المصدر نفسه، 4/194.
(2) المصدر نفسه، 1/15.
(3) الموضع نفسه.
(4) الموضع نفسه.(1/170)
وقد أورد الشاطبي في كتابه أمثلة كثيرة تدل على منهجه الاستقرائي في القطع، فيما يلي أحدها: يقول: "فقد اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس وهي: الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين، ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد، ولو استندت إلى شيء معين لوجب عادة تعيينه، وأن يرجع أهل الإجماع إليه، وليس كذلك. لأن كل واحد منها بانفراده ظني، ولأنه لا يتعين في التواتر المعنوي أو غيره أن يكون المفيد للعلم خبر واحد دون سائر الاخبار، كذلك لا يتعين هنا لاستواء جميع الأدلة في إفادة الظن على فرض الانفراد"(1).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/15.(1/171)
فإثبات حفظ الدين مثلاً، كأصل ضروري، يتطلب ـ عنده ـ اثبات القواعد الخمس كالصلاة والزكاة وغيرهما إثباتاً قطعياً بالإستقراء. يقول: "ومن هذا الطريق ثبت وجوب القواعد الخمس كالصلاة والزكاة وغيرهما قطعاً. وإلا فلو استدل مستدل على وجوب الصلاة بقوله تعالى: { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ } (1) أو ما شابه ذلك لكان في الاستدلال بمجرده نظر من أوجه، لكن حف بذلك من الأدلة الخارجية والأحكام المترتبة ما صار به فرض الصلاة ضرورياً في الدين لا يشك فيه إلا شاكٌّ في أصل الدين"(2). وقال: "فنحن إذا نظرنا في الصلاة فجاء فيها { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ } . على وجوه، وجاء مدح المتصفين بإقامتها وذم التاركين لها وإجبار المكلفين على فعلها وإقامتها قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم وقتال من تركها أو عاند في تركها إلى غير ذلك مما في هذا المعنى. وكذلك النفس نهى عن قتلها، وجعل قتلها موجباً للقصاص متوعداً عليه ومن كبائر الذنوب المقرونة بالشرك كما كانت الصلاة مقرونةً بالإيمان، ووجب سد رمق المضطر، ووجبت الزكاة والمواساة والقيام على من لا يقدر على إصلاح نفسه وأقيمت الحكام والقضاة والملوك لذلك، ورتبت الأجناد لقتال من رام قتل النفس، ووجب على الخائف من الموت سد رمقه بكل حلالٍ وحرام من الميتة والدم ولحم الخنزير إلى سائر ما ينضاف لهذا المعنى، علمنا يقيناً وجوب الصلاة وتحريم القتل وهكذا سائر الأدلة في قواعد الشريعة. وبهذا امتازت الأصول عن الفروع إذ كانت الفروع مستندة إلى آحاد الأدلة وإلى مآخذ معينه فبقيت على أصلها من الاستناد إلى الظن بخلاف الأصول فإنها مأخوذة من استقراء مقتضيات الأدلة بإطلاق لا من آحادها على الخصوص"(3).
__________
(1) سورة البقرة، 43.
(2) الشاطبي، الموافقات. 1/14.
(3) الشاطبي، الموافقات، 1/15 - 16.(1/172)
هذه النصوص أعلاه تبين مراده بالاستقراء، وأن الاستقراء هو الطريق الوحيد للقطع في الشرعيات، وأن الاستقراء هو ليس للأدلة التي هي النصوص، وإنما لمعانيها، ومعانيها هي دلالاتها اللغوية وحكمها ونتائجها، وهذه كلها ظنية إذا اعتمد فيها على آحاد النصوص، فلا تعتمد في التشريع إلا إذا تواترت، فالتواتر المقصود هو تواتر المعاني، ولذلك رأيناه يقول: "وهو شبيه بالتواتر المعنوي"(1)، وانظر إلى قوله في النص السابق: "بخلاف الأصول فإنها مأخوذة من استقراء مقتضيات الأدلة بإطلاق" فهو لم يقل: "من استقراء الأدلة". وإنما: "من استقراء مقتضياتها"، ومقتضياتها هي دلالاتها أو معانيها. ثم قوله: "بإطلاق"، فهو لا يقصر المعاني على الدلالات اللغوية وإنما تشمل أيضاً حكمها أو مقاصدها أو مسبباتها.
__________
(1) انظر: ص: 139 من هذا البحث.(1/173)
وينبني على هذه المقدمة أحد أهم الأصول عند الشاطبي، أصل بمثابة الروح لكل منهجه. يقول: "وينبني على هذه المقدمة معنى آخر وهو: إن كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين وكان ملائماً لتصرفات الشرع(1)، ومأخوذاً معناه من أدلته فهو صحيح يبنى عليه، ويُرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعاً به، لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها كما تقدم، لأن ذلك كالمتعذر، ويدخل تحت هذا ضرب الاستدلال المرسل الذي اعتمده مالك والشافعي(2)،
__________
(1) تبيّن في الفصل الأول معنى الملاءمة لتصرفات الشرع وهو أن يشهد للوصف المناسب أكثر من حكم. وكما يلاحظ في نصوص الشاطبي فهو لا يكتفي بإطلاق لفظ "أكثر" وإنما يشترط أن تكون الكثرة محصلة لإستقراء مفيد للقطع، وليس بالضرورة - عنده - أن يكون الملائم مناسباً، وسيتبين هذا في موضعه إن شاء الله.
(2) ذكر في الفصل الأول تضارب المنقولات عن الإمام مالك رحمه الله في قوله بالمناسب المرسل، أو بالاستدلال، وكذلك تعارض آراء أئمة الشافعية في القول بالمرسل أو بالاستدلال، وكذلك اختلافهم فيما ينسب إلى الإمام الشافعي رحمه الله. وبَيَّنَّا بعد ذلك اختلاف المقصود بالمرسل عند الأئمة، واختلاف المواقف بناء على ذلك. والنص أعلاه ينسب إلى الإمامين رحمهما الله القول بالاستدلال المرسل، إلا أنه يقيد ذلك بما هو ثابت على وجه القطع، وبما هو متفق مع منهجه. وهذا يوقع في النفس أن هذا المنهج الاستقرائي في القطع والاعتماد على نتائجه معمول به عند الأئمة، وربما كان هذا هو بعض مراده بقوله: "إلا أن المتقدمين من الأصوليين ربما تركوا ذكر هذا المعنى والتنبيه عليه فحصل إغفاله من بعض المتأخرين" 1/15..وكذلك ما جاء في خطبة كتابه رداً لإنكار من قد ينكر ما جاء في منهجه: "فإنه بحمد الله أمر قررته الآيات والأخبار وشد معاقده السلف الاخيار ورسم معالمه العلماء الأحبار، وشيد أركانه انظار النظار، وإذا وضح السبيل لم يجب الإنكار ووجب قبول ما حواه" خطبة الكتاب. ص: 9.(1/174)
فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين فقد شهد له أصل كلي، والأصل الكلي إذا كان قطعياً قد يساوي الأصل المعين وقد يربى عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه... كذلك أصل الاستحسان(1) على رأي مالك ينبني على هذا الأصل"(2). ونلاحظ في هذا النص أن الأصل الكلي (المعنوي) أقوى من النص في دلالته وذلك لأن الأصل الكلي قطعي في معناه، أما النص فالقطع بمعناه متعذر أو نادر إن وجد.
المقاصد الأول والمقاصد التابعة:
يقول الشاطبي في مقدمته السابعة: "كل علمٍ شرعي فطلب الشارع له إنما يكون من حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى لا من جهةٍ أخرى. فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى فبالتبع والقصد الثاني لا بالقصد الأول"(3). وذلك أن الأمر أو النهي إذا جاء من الشارع فقصد الشارع إيقاع المأمور به وعدم إيقاع المنهي عنه، وهذا هو القصد الأول. بتعبير آخر القصد الأول هو الطاعة من غير التفات إلى النتائج أو المصالح ولذلك فالعلم الشرعي هو ما يفيد في معرفة أمر الله - سبحانه وتعالى - ونهيه، لأجل معرفة كيف يطاع وكيف يعبد، وذلك معنى قوله: "وسيلة إلى التعبد".
__________
(1) ينسب إلى الإمام مالك رحمه الله قوله: "الاستحسان تسعة أعشار العلم". ومراد الشاطبي بالاستحسان تقديم معنى أو أصل قطعي على القياس، أو تخصيص القياس بمعنى كلي. وسنفرد له بحثاً إن شاء الله.
(2) الشاطبي، الموافقات. 1/16.
(3) المصدر نفسه، 1/30.(1/175)
فإذا ظهر أن في إيقاع ذاك الفعل أو في منعه مصلحة دنيوية للمكلف، فإذا كانت هذه المصلحة قد ثبت كونها معنىً كلياً قطعياً قصده الشارع بتشريع ذلك الحكم، تكون حينئذٍ أصلاً قطعياً، وهي مثل النص وتحصيلها بنية الطاعة هو بمثابة القصد الأول. وإذا كانت تلك المصلحة المتوقعة ـ قطعاً أو ظناً ـ لم يثبت قطعاً كونها مقصداً للشارع بتشريع ذلك الحكم، فهو المقصد الثاني أو المقصد التابع. أي التابع للمقصد الأول، والمعنى بناءً على ما يقرر الشاطبي في مقدماته، أن هذا المعنى الثاني ظني، فلا يُعَدُّ أصلاً، ولا اعتبار له في التشريع. ولكن لا يمكن نفيه البتة، إذ قد يتيسر له استقراء يجعله قطعياً. ولذلك ينظر فيه فإن كان مما يقوِّي التمسك بالقصد الأول فإنه يُعتبر، وإن كان مما يضعف أو يضاد القصد الأول يُرَدّ. والقصد الأول هو التعبد فيكون القصد الثاني معتبراً إذا كان وسيلة للقصد الأول. ولذلك سُمِّيَ تبعياً أو إضافياً. فمثلاً: القصد الأول من طلب العلم والتعلم هو العمل. قال: "كل علم لا يفيد عملاً فليس في الشرع ما يدل على استحسانه"(1). وقال: "إن الشرع إنما جاء بالتعبد وهو المقصود من بعثة الأنبياء عليهم السلام"(2). وقال: "بل أدلة التوحيد هكذا جاء مساق القرآن فيها: { إِلَّا تَذْكِرَةً } (3)، إلا كذا، وهو واضح في أن التعبد لله هو المقصود من العلم، والآيات في هذا المعنى لا تحصى"(4). وقال: "روح العلم هو العمل وإلا فالعلم عارية وغير منتفع به"(5). ثم قال: "ولا ينكِر فضلَ العلم في الجملة إلا جاهل، لكن له قصد أصلي وقصد تابع، فالقصد الأصلي ما تقدم ذكرُه، وأما التابع فهو الذي يذكره الجمهور من كون صاحبه شريفاً وإن لم يكن في الأصل كذلك. وأن الجاهل دنيء وإن كان في أصله شريفاً...
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/30.
(2) المصدر نفسه، 1/31.
(3) من الآية 3 من سورة طه.
(4) الشاطبي، الموافقات. 1/31.
(5) الموضع نفسه.(1/176)
وأن العلم جمال ومال ورتبة لا توازيها رتبة"(1).
ثم قال: "فقد يطلب العلم للتفكه به والتلذذ بمحادثته ولا سيما العلوم التي للعقول فيها مجال وللنظر في أطرافها متسع ولاستنباط المعلوم من المجهول فيها طريق متَّسع، ولكن كل تابع من هذه التوابع إما أن يكون خادماً للقصد الأصلي أو لا، فإن كان خادماً له فالقصد إليه ابتداء صحيح...، وإن كان غير خادم له فالقصد إليه ابتداء غير صحيح كتعلمه رياءً أو ليماري به السفهاء أو يباهي به العلماء، أو يستميل به قلوب العباد، أو لينال من دنياهم"(2). وقال أيضاً: "المقاصد الشرعية ضربان: مقاصد أصلية ومقاصد تابعية، فأما المقاصد الأصلية فهي التي لا حظ فيها للمكلف"(3). وقال: "وأما المقاصد التابعة فهي التي روعي فيها حظ المكلف فمن جهتها يحصل له مقتضى ما جُبلَ عليه من نيل الشهوات والاستمتاع بالمباحات وسد الخلات"(4).
فالشاطبي يطلق المقاصد التابعية على ما تؤول إليه الأحكام مما يميل إليه العبد بطبعه وفطرته، وهذه يعتمد اعتبارها أو ردها على كونها وسيلة إلى المقصد الأول أو ليست كذلك. فإن كانت وسيلة إلى المقصد الأول أو خادماً له فهي مقصد شرعي تابع، وإن لم تكن كذلك فهي ليست مقصداً للشارع، وربما تكون مقصداً للمكلف، فإن كانت مضادة للقصد الأول فهي حرام.
خواص الكليات:
__________
(1) المصدر نفسه، 1/35.
(2) المصدر نفسه، 1/36.
(3) المصدر نفسه، 2/120.
(4) الشاطبي، الموافقات، 2/124.(1/177)
يقول الشاطبي في مقدمته التاسعة إن العلوم الشرعية تجاري العلوم العقلية من حيث إمكانية القطع بها أو استفادة القطع منها. وكما أن الحقائق الشرعية هي وضعية أي بجعل الشارع لها كذلك فحقائق الوجود والاشياء هي أيضاً وضعية بجعل الخالق لها كذلك يقول: "فالوضعيات قد تجاري العقليات في إفادة العلم القطعي. وعلم الشريعة من جملتها، إذ العلم بها مستفاد من الاستقراء العام الناظم لاشتات أفرادها حتى تصير في العقل مجموعةً في كليات: مطردة عامة، ثابتة غير زائلة ولا متبدلة ولا محكوم عليها، وهذه خواص الكليات العقليات، وأيضاً فإن الكليات العقلية مقتبسة من الوجود، وهو أمر وضعي لا عقلي فاستوت مع الكليات الشرعية بهذا الاعتبار وارتفع الفرق بينهما"(1). وعلى ذلك فللكليات الشرعية ثلاث خواص: إحداها العموم والإطراد،... والثانية الثبوت من غير زوال،... والثالثة كون العلم حاكماً لا محكوماً عليه(2).
معنى الخاصية الأولى أن الأحكام الشرعية تجري في أفعال المكلفين على الإطلاق، فما من فعل إلا محكوم عليه بكلية شرعية، وإن فُرض فعلٌ ليس محكوماً عليه بكلية ما، فهو محكوم عليه بكليةٍ غيرها(3).
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 44.
(2) المصدر نفسه، ص: 44 - 45.
(3) أنظر: المقدمة التاسعة. 1/43 - 44.(1/178)
ومعنى الخاصية الثانية أن الكليات لا تنسخ ولا تخصص ولا تقيد، ولا تتغير بحسب زمان أو مكان، بل إن ما نستفيده من مقارنة الشاطبي للكليات الشرعية بالكليات العقلية أن الكليات الشرعية ليست مجرد حقائق قطعية وإنما هي حقائق قطعية مطلقة، فلا تختص بزمان دون زمان ولا بمكان دون مكان ولا بمكلف دون مكلف. يقول: "فلا تجد فيها بعد كمالها نسخاً، ولا تخصيصاً لعمومها، ولا تقييداً لإطلاقها ولا رفعاً لحكم من احكامها، لا بحسب عموم المكلفين ولا بحسب خصوص بعضهم ولا بحسب زمان دون زمان ولا حال دون حال، بل ما أثبت سبباً فهو سبب أبداً لا يرتفع، وما كان شرطاً فهو أبداً شرط، وما كان واجباً فهو واجب أبداً أو مندوباً فمندوب وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبدل، ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك"(1)، ومعنى الخاصية الثالثة أنه لا يوجد في العلوم الشرعية شيء تنقضه الحقائق سواء الشرعية أو العقلية، أو تعارضه بحيث يضطر إلى تأويله تأويلاً لا يحتمله النص، لأنه يصير إذ ذاك محكوماً وليس حاكماً(2).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/45.
(2) وعلى ذلك فالكليات سواء كانت عقلية أو شرعية هي حقائق مطلقة، والحقائق الشرعية هي حقائق عقلية أيضاً، لأنها مبنية على الثبوت العقلي القطعي لنبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى القطع بصدق رسالته وخبره. فالقطع بكون القرآن من عند الله طريقه العقل أساساً. وعلى ذلك فالأخبار الشرعية وكل ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما لا مجال للعقل في بحثه مبني على العقل من حيث أن صدق الخبر مقطوع به عقلاً.(1/179)
ويبين الشاطبي أن هذه الكليات هي الأصل في علوم الشريعة وهي مآخذ الأحكام. والمعتمد في التشريع هو ما كان كلياً أو راجعاً إلى كلي فما كان كذلك فهو من صلب العلم، وما لم يكن كذلك فلا اعتبار له على منهجه. يقول: "من العلم ما هو من صلب العلم ومنه ما هو من ملح العلم لا من صلبه ومنه ما ليس من صلبه ولا من ملحه فهذه ثلاثة أقسام. القسم الأول هو الأصل والمعتمد والذي عليه مدار الطلب وإليه تنتهي مقاصد الراسخين، وذلك ما كان قطعياً أو راجعاً إلى أصل قطعي"(1). وقال: "والقسم الثاني وهو المعدود في ملح العلم لا في صلبه: ما لم يكن قطعياً ولا راجعاً إلى أصل قطعي، بل إلى ظني أو كان راجعاً إلى أصل قطعي، إلا أنه تخلَّف عنه خاصة من تلك الخواص، أو أكثر من خاصة واحدة، فهو مُخيل(2)، ومما يستفز العقل ببادئ الرأي والنظر الأول من غير أن يكون فيه إخلال بأصله ولا بمعنى غيره"(3). وهذا القسم مطرح عند الشاطبي(4).
__________
(1) الموافقات. 1/43. وسنبين بعد قليل مراد الشاطبي بالرجوع إلى أصل قطعي.
(2) أي: يوقع في القلب خيال الصحة، فهو مما تتلقاه العقول بالقبول أو تستملحه النفوس. وفي هذا القسم تقع - عند الشاطبي - المعاني أو الأوصاف التي تأتي في مسلكي المناسبة والشبه، أو بطريق الاستدلال ما لم تكن قطعية.
(3) الشاطبي، الموافقات. 1/45.
(4) موقف الشاطبي من المعاني الواقعة في هذا القسم يشبه موقف السادة الأحناف من مسلك المناسبة، إذ هو ظني ولا يرجع إلى أصل قطعي، والظن فيه هو ليس من قبيل الظن المعمول به في الشرعيات وإنما هو ظن عقلي محض. ولذلك فهذا القسم غير معتبر، وقد تتوفر للمعاني أدلة تستكمل بها خواصها الثلاث فتعد من المعتبر، وقد يتوفر لها ما تعد به من القسم الثالث لجنايته على الشريعة. أنظر: 1/46 - 50.(1/180)
والقسم الثالث وهو ما ليس من الصُلَب ولا من المِلَح، وهو ما لم يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني، وإنما شأنه أن يكرَّ على أصله أو على غيره بالإبطال مما صح كونه من العلوم المعتبرة والقواعد المرجوع إليها في الأعمال والاعتقادات أو ما كان منهضاً إلى إبطال الحق وإحقاق الباطل فهذا ليس بعلم لأنه يرجع على أصله بالإبطال، فهو غير ثابت ولا حاكم ولا مطرد أيضاً، ولا هو من ملحه، لأن الملح هي التي تستحسنها العقول وتستملحها النفوس"(1). وقال عن هذا القسم: "وإن مال بقوم فاستحسنوه وطلبوه فلشبه عارضه واشتباه بينه وبين ما قبله فربما عده الأغبياء مبنياً على أصل، فمالوا إليه من ذلك الوجه، وحقيقة أصله وهم وتخييل لا حقيقة له مع ما ينضاف إلى ذلك من الأغراض والأهواء"(2).
وهذه النصوص عن الشاطبي تشير أو تؤسس لموقفه من مسلك الإخالة والمناسبة، أو كيفية اعتبار المصلحة، والبحث التالي يبين بشكل أوضح موقفه هذا في كيفية اعتبار المصالح أو الحِكَم في التشريع.
معنى الرجوع إلى أصل قطعي:
قال الشاطبي إن الأصل والمعتمد والذي عليه مدار الطلب ما كان قطعياً أو راجعاً إلى أصل قطعي(3).جاء في مقدمته الأولى قوله: "واعني بالكليات هنا الضروريات والحاجيات والتحسينيات"(4). وجاء في مقدمته التاسعة: "الضروريات والحاجيات والتحسينيات وما هو مكمل لها ومتمم لأطرافها وهي أصول الشريعة وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها وسائر الفروع مستندة إليها"(5).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 1/51.
(2) الموضع نفسه.
(3) أنظر الصفحة السابقة.
(4) أنظر ص: 137 من هذا البحث.
(5) الشاطبي، الموافقات. 1/44.(1/181)
واشتراط القطع بأصول الفقه معروف ومشهور عند الأصوليين، وقد أشار إلى ذلك الشاطبي في مقدمته الأولى. ومراد الأصوليين بالأصول التي يجب أن تكون قطعية الأدلةُ الإجماليةُ أو المصادرُ الكلية للتشريع وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس. أما غير ذلك من مباحث الأصول مثل مسالك العلة وشروطها، ومثل مباحث العموم والخصوص والمطلق والمقيد وشروط الرواية والرواة فهذه لا يشترط فيها القطع ويُكتفى فيها بغلبة الظن.
قال الجويني: "فإن قيل: فما الفقه؟ قلنا: هو في اصطلاح علماء الشريعة العلم بأحكام التكليف. فإن قيل: معظم متضمَّن مسائل الشريعة ظنون. قلنا: ليست الظنون فقهاً، وإنما الفقه العلم(1) بوجوب العمل عند قيام الظنون، ولذلك قال المحققون: أخبار الآحاد وأقيسة الفقه لا توجب عملاً لذواتها، وإنما يجب العمل بما يجب به العلم بالعمل وهي الأدلة القاطعة على وجوب العمل عند رواية أخبار الآحاد وإجراء الأقيسة. فإن قيل: فما أصول الفقه؟ قلنا: هي أدلته، وأدلة الفقه هي الأدلة السمعية وأقسامها نص الكتاب، ونص السنة المتواترة، والإجماع ومستند جميعها قول الله تعالى. ومن هذه الجهة تستمد أصول الفقه من الكلام. فإن قيل: تفصيل أخبار الآحاد والأقيسة لا يُلفى إلا في الأصول وليست قواطع. قلنا: حظ الأصولي إبانة القاطع في العمل بها ولكن لا بد من ذكرها ليتبين المدلول ويرتبط الدليل به"(2).
__________
(1) أي العلم القطعي بوجوب العمل بموجب الاخبار الظنية في ثبوتها أو دلالتها أو كليهما.
(2) الجويني، البرهان في أصول الفقه. 1/78 - 79. فقرة: 4 - 5 - 6.(1/182)
وقال الإمام جمال الدين عبد الرحيم الأسنوي: "وأما بالآحاد فهو باطل لأن رواية الآحاد إن أفادت فإنما تفيد الظن، والشارع إنما أجاز الظن في المسائل العملية وهي الفروع دون العلمية كقواعد أصول الدين وكذلك قواعد أصول الفقه كما نقله الانباري شارح البرهان عن العلماء قاطبةً"(1).
وقال البيضاوي: "أصول الفقه معرفة دلائل الفقه إجمالاً وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد"(2).
وقال الأسنوي في شرحه للنص أعلاه: "والمراد بمعرفة الأدلة أن يعرف أن الكتاب والسنة والإجماع، والقياس أدلة يحتج بها... واعلم أن التعبير بالأدلة مخرج لكثير من أصول الفقه كالعمومات وأخبار الآحاد والقياس والاستصحاب وغير ذلك فإن الأصوليين وإن سلموا العمل بها فليست عندهم أدلة للفقه بل أمارات له فإن الدليل عندهم لا يطلق إلا على المقطوع به"(3).
__________
(1) جمال الدين عبد الرحيم الأسنوي، نهاية السول في شرح منهاج الأصول، 2/270. وعلى ذلك فالظن يُعمل به إذا كان مبنياً على أصل ثابت قطعاً أنه من مصادر التشريع. فالحديث المنسوب للنبي - صلى الله عليه وسلم - العمل به واجب وإن لم يكن قطعي الثبوت، لأنه ثابت قطعاً أن السنة من مصادر التشريع أي أنها وحي.
(2) القاضي ناصر الدين بن عمر البيضاوي، منهاج الوصول إلى علم الأصول، 1/5. ومعه نهاية السول للأسنوي، عالم الكتب - بيروت.
(3) الأسنوي، نهاية السول في شرح منهاج الأصول. 1/9 - 11.(1/183)
وعلى ذلك فمراد الأصوليين، قبل الشاطبي، بأصول الفقه التي يجب أن تكون قطعية هو القرآن والسنة وما يرشدان إليه من مصادر إجمالية وهي الإجماع والقياس. أما الشاطبي فهو لا يقصر اشتراط القطع على هذه المصادر، إذ الكليات عنده هي الضروريات والحاجيات والتحسينات وما هو مكمل لها. فإذا علمنا أن الضروريات عنده هي حفظ الدين والعقل والنفس والنسل والمال، فهذا يدل أن هذه المقاصد يجب أن تكون قطعية كي تعتبر، فلا يكتفي فيها بالظن وبكونها مستندة إلى أصول قطعية كالقرآن والسنة. وكذلك إذا علمنا أن مشروعية النكاح، ورفع الضرر، وعدم التكليف بالمشقات المعنتة هي من المقاصد الحاجيَّة عنده فهذا يعني انها يجب أن تثبت على سبيل القطع كي تعتبر. وكذلك يقال في مرتبة التحسينيات وفي المكمِّلات. فإذا ثبتت هذه المعاني تصبح أصولاً أي مصادر للتشريع عنده، يستدل بها كما يستدل بالنصوص الشرعية.
وإذا لم تثبت المعاني ثبوتاً قطعياً بطريق الاستقراء فإما أن ترجع إلى أصل قطعي وإما أن لا ترجع. فإن رجعت إلى أصل قطعي فلا إشكال في إعمالها في التشريع. وإن لم ترجع ففي الأمر تفصيل يذكر في موضعه إن شاء الله. قال: "كل دليل شرعي إما أن يكون قطعياً أو ظنياً. فإن كان قطعياً فلا إشكال في اعتباره... وإن كان ظنياً فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أو لا، فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر أيضاً، وإن لم يرجع وجب التثبت فيه ولم يصح اطلاق القول بقبوله"(1).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 3/7.(1/184)
أما معنى الرجوع إلى أصل قطعي، فمثاله: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لا ضرر ولا ضرار"(1)، فهو خبر آحاد غير قطعي، ولذلك فهو ـ على منهج الشاطبي ـ جزئية، وليس أصلاً قطعياً كلياً، فلا يصح إعماله حتى يثبت رجوعه إلى أصل قطعي، ولا يقال هنا إنه من السنة وهي مصدر قطعي أو أصل كلي، إذ ليس هذا معنى الرجوع إلى أصل قطعي عند الشاطبي، وإنما المعنى هو أن يكون معنى الحديث موافقاً لمعنى شرعي قطعي أي لمعنى كلي، ثبت كونه كلياً باستقراء أدلة كثيرة (جزئيات) تضافرت على هذا المعنى. يقول الشاطبي: "قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى فإن الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة في وقائع جزئيات وقواعد كليات كقوله تعالى: { وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا } (2)، { وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ } (3)، { لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } (4) الآية، ومنه النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض، وعن الغصب والظلم، وكل ما هو في المعنى إضرار أو ضرار، ويدخل تحته الجناية على النفس أو العقل أو النسل أو المال، فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك"(5).
والإكثار من النصوص والشواهد التي يستدل بها إنما هو ليتم الاستقراء ومن ثم القطع. وبهذا يصير معنى رفع الضرر أصلاً كلياً، والمعنى الذي يتضمنه الحديث، وافق الأصل الكلي، وهو جزئية، وبذلك يقال إنه راجع إلى أصل كلي فيكون معتبراً.
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) سورة البقرة، 231.
(3) سورة الطلاق، 6.
(4) سورة البقرة، 233.
(5) الشاطبي، الموافقات. 3/8.(1/185)
وبهذا يتأكد مقصود الشاطبي بلفظ الأصول، وبمنهج تقريرها وهو الاستقراء وبمعنى الرجوع إلى أصل قطعي، وهو من بعض جديده الذي يقفنا على بعض ضوابط أو قواعد منهجه. وقد أشار هو - رحمه الله - إلى هذا الاختلاف بينه وبين الأصوليين قبله. قال: "واعلم أن المقصود بالرجوع إلى الأصل القطعي ليس بإقامة الدليل على صحة العمل به كالدليل على أن العمل بخبر الواحد أو بالقياس واجب مثلاً. بل المراد ما هو أخص من ذلك كما تقدم في حديث "لا ضرر ولا ضرار" والمسائل المذكورة معه وهي معنى مخالف للمعنى الذي قصده الأصوليون والله أعلم"(1).
الجزئي والفرع والفرق بينهما:
تبيّن فيما سبق أن أصول الفقه هي كليات مأخذها الجزئيات. وأن هذه الجزئيات هي دلالات ومعاني النصوص الشرعية. وإن هذه الجزئيات ظنية فلا تعتبر إلا إذا كانت راجعةً إلى الكليات. ومعاني النصوص الشرعية هي دلالاتها اللغوية، والأوصاف المخيلة أو المناسبة للأحكام، ومآلات ونتائج ومسببات الأحكام، فهذه وإن كانت ظنية تدل عليها النصوص، أو لا تدل عليها وإنما هي مظنة أن تكون مقصودة للشارع، فهذه جزئيات.
فإذا رجع أحد هذه المعاني - وهو جزئي - إلى أصل كلي، يُسمَّى حينئذٍ فرعاً. وعلى هذا فكل فرعٍ جزئيٌ وليس كل جزئي فرعاً. وعدم رجوع الجزئي إلى كلي فرقٌ يميِّز الجزئي عن الفرع.
يتبين هذا الفرق من التتبع التحليلي لنصوص الشاطبي حيث يستعمل هذين اللفظين وفيما يلي توثيق ما ذكرناه:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 3/12.(1/186)
قال الشاطبي في مقدمته الأولى: "الحفظ المضمون في قوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (1) إنما المراد به حفظ أصوله الكلية المنصوصة وهو المراد بقوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (2) أيضاً. لا أن المراد المسائل الجزئية إذ لو كان كذلك لم يتخلف عن الحفظ جزئي من جزئيات الشريعة، وليس كذلك لأنا نقطع بالجواز ويؤيده الوقوع لتفاوت الظنون وتطرق الاحتمالات في النصوص الجزئية ووقوع الخطأ فيها قطعاً. فقد وجد الخطأ في أخبار الآحاد، وفي معاني الآيات، فدل على أن المراد بالذكر المحفوظ ما كان منه كلياً"(3).
وقال في مقدمته التاسعة: "ما كان قطعياً أو راجعاً إلى أصل قطعي، والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه، ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها كما قال تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ، لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين، وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات وما هو مكمل لها ومتمم لأطرافها، وهي أصول الشريعة، وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها وسائر الفروع مستندة إليها، فلا إشكال في أنها علمٌ، أصلٌ، راسخ الأساس، ثابت الأركان"(4).
__________
(1) سورة الحجر، 9.
(2) سورة المائدة، 3.
(3) الشاطبي، الموافقات، 1/13.
(4) الشاطبي، الموافقات، 1/43 - 44.(1/187)
فالنص الأول أعلاه يقول بأن الجزئيات لا تدخل في معنى الحفظ المقصود بالآية الكريمة، والنص الثاني يقول بأن الفروع محفوظة بدليل الآية نفسها. وبمعرفة أن الجزئيات هي مأخذ الكليات، ومعنى الرجوع إلى القطعي، يتأكد الفرق المذكور آنفاً(1).
وبهذا يتبيّن أن الشاطبي لا يأخذ بمسلك الإخالة والمناسبة بالشكل الذي يقوله علماء الشافعية، وهو أيضا، لا يطرحه كما فعل علماء الحنفية، وإنما هو يشترط للمعنى أو الوصف المقترح للتعليل أن يكون راجعاً إلى قطعي، وبغير ذلك فهو لا يأخذه. وكذلك لا يرده إذ قد تتوفر له جزئيات تتضافر معه لتشكل معنى قطعياً. وهذا مما يجب التنبه إليه لإدراك منهج الشاطبي.
المبحث الثاني
في المستندات
تمهيد:
__________
(1) وبناء على هذا يمكن القول إن ما ذهب إليه محققو كتاب الموافقات كالشيخ محمد الخضر حسين التونسي والدكتور عبد الله دراز وأبو عبيده مشهور بن حسن آل سلمان في تعليقاتهم على مقدمات الكتاب وخاصة الأولى والثانية والثالثة والتاسعة، بعيد عن حقيقة مبتغى الشاطبي من هذه المقدمات. وكذلك غيرهم من المعلقين الذين أوردهم الأخير. أنظر: الموافقات، 1/17 - 18. وما بعدها. المجلد الأول بتحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، ط1. 1421هـ. دار ابن عفان جمهورية حمصر العربية. وهو في 6 مجلدات.
وقد نسبوا التناقض إلى الشاطبي حيث قال إن الجزئيات غير مشمولة بالحفظ والفروع محفوظة. وهذا خطأ آخر عندهم يدل على عدم تفريقهم بين الجزئي والفرع في منهج الشاطبي. أنظر: الموافقات، 1/12 و1/44 من تحقيق الشيخ التونسي. و1/32 من تحقيق الدكتور دراز. و1/22 و1/107 من تحقيق أبي عبيدة.(1/188)
خصَّص الشاطبي القسم الثاني من كتاب الموافقات لبحث الأحكام الشرعية والأحكام الشرعية ترجع إما إلى خطاب التكليف وإما إلى خطاب الوضع. وخطاب التكليف خمسة أنواع: الواجب أو الفرض، والمندوب، والمباح، والمكروه، والحرام. وخطاب الوضع خمسة وهي: السبب،والشرط، والمانع، والصحة والفساد والبطلان، والرخصة والعزيمة.
وقد تحدث الشاطبي في كتاب الأحكام(1) عن هذه الأنواع، وأكثر ما فصّل فيه فيما يتعلق بخطاب التكليف بحثه في المباح، وفيما يتعلق بخطاب الوضع بحثه في السبب وفي الرخصة والعزيمة.
ويعود ذلك الى ما لهذه الأحكام من تأثير في فكرة المقاصد عنده. فإذا علمنا أن فكرته تقوم على أن كل الأحكام الشرعية ترجع إلى أصول كلية مصلحية، فإن المباح وهو حكم شرعي من أحكام التكليف، ومعناه ما خيَّر الشارع فيه بين الفعل والترك، يتناقض مع هذا الأصل وينقض فكرته التي هي - بنظره - أصل قطعي كلي. فالاذن بالفعل يعني أن هناك مصلحةً يقصد الشارع وجودها، والاذن بالترك يعني ان الشارع لا يقصد وجود تلك المصلحة، وهذا تناقض وينقض فكرة أن الأحكام كلها لها غايات أو مقاصد.
ولهذا فإن الشاطبي يوجِّه النظر إلى المباح بطريقة مختلفة. فيقول إن التخيير في المباح هو من حيث كونه جزئياً، وهذا لا ينقض الفكرة لأن الغايات المصلحية تنطبق على الأصول الكلية وليس على الجزئيات، وفي الكليات لا يوجد تخيير. إذ المباح هو مباح بالجزء ولكنه مطلوب الفعل أو مطلوب الترك بالكل. وينطبق القول نفسه على الرخصة والعزيمة، إذ حكم الأخذ بالرخصة أو تركها الإباحة، فإذا كان إتيان الرخصة وإتيان العزيمة مباحَيْن فأين المصلحة، أهي في الأخذ بالرخصة أم في الأخذ بالعزيمة؟ لهذا يطول بحث الشاطبي في المباح وفي الرخصة، وذلك كي يحافظ على صحة فكرته.
__________
(1) الموافقات. 1/68 وما بعدها.(1/189)
أما بحث السبب فهو أساس مهم لفكرته، إذ هي تقوم على أن الأحكام الشرعية لها مقاصد، وإنما كانت الشريعة لأجل تحقيق هذه المقاصد، فهذه المقاصد هي مسببات أو نتائج، أسبابها هي الأحكام الشرعية. فالحكم الشرعي سببٌ لمسبَّب، والفعل المطلوب له غاية تنتج عنه، ومثلما قصد الشارع إيقاع الفعل المطلوب، فهو قصد أيضاً حصول الغاية منه، والفعل المنهي عنه له غاية أو نتيجة قصد الشارع عدم وقوعها، ومثلما قصد الشارع عدم وقوع الفعل، فهو قصد أيضاً عدم وقوع نتيجته، لذلك فإن بحث الأسباب والمسببات هو الأساس الذي تستند إليه فكرة المقاصد عند الشاطبي.
المباح:
ربما يستغرب قارئ بحث المباح عند الشاطبي تطويله وتفصيله في هذا البحث، واختلاف تقريراته عن غيره من الأصوليين، بحيث يكاد يكون بحثه في الأحكام التكليفية بحثاً في المباح فقط، وبحثه في سائر الأحكام الأخرى وهي الواجب والمندوب والمكروه والحرام تقتصر على جمل أو فقرات قليلة.
إلا أن دراسة هذه الأبحاث، بعد الوقوف على فكرته في المقاصد، تلقي أضواءً تبرِّر هذا المنهج، وذلك أن الشاطبي يجعل ما تأصل لديه من قواعد كلية، ومن علاقة هذه القواعد فيما بينها أساساً لآرائه وتقريراته في المباح. وهذا يقتضي عرض بعض أصول أو قواعد فكرة المقاصد عنده.
يقطع الشاطبي - استقراءً - أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد، وهذه المصالح هي مقاصد التشريع، وهي لا تعدو أن تكون ثلاثة أقسام: ضرورية وحاجية وتحسينية، ولكل ِّ من هذه الأقسام مكملاته.
وكل مقصد يجب أن يكون كلياً قطعياً، ويجب أن يعود بالخدمة والتأكيد على المقاصد الضرورية وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. والتحسينيات خادمة للحاجيات، وكلتاهما تخدمان الضروريات.(1/190)
والأحكام الشرعية يجب أن ترجع إلى أحد الأصول التحسينية أو الحاجية أو الضرورية، بمعنى أنه يجب أن يكون مقصد كل حكم مؤيداً أو خادماً لمصلحةٍ ثبتت بالاستقراء كليةً قطعية في إحدى المراتب الثلاث. وإن لم يظهر رجوع الحكم إلى أصلٍ ما فإما أن يكون مردوداً وإما أن يُتَوَقَّف فيه.
ومعنى أن الشريعة جاءت لمصالح العباد، أنه لا يوجد حكم لا يعود بالمصلحة على العباد، حتى ولو لم يكن عائداً بالضرر، وتصور وجود هكذا حكم يعني أنه عبث، والشريعة ليس فيها عبث.
والفعل المطلوب شرعاً، سواء كان واجباً أو مندوباً، هو خادمٌ لأصل كلي أو أكثر من الأصول التي هي مقاصد الشريعة.
والفعل المنهي عنه شرعاً، سواء كان حراماً أو مكروهاً، يهدم أو يخدم هدم أصلي كلي أو أكثر من الأصول التي هي المقاصد أو المصالح.
بهذه الأصول أو القواعد لفكرة المقاصد يتوجه بحث المباح عند الشاطبي.
فإذا قيل إن المباح هو ما خيَّر الشارع فيه بين الفعل والترك، أو هو ما لا يُذَمُ ولا يُمدَحُ فاعله ولا يُذم ولا يُمدح تاركُه، أو هو ما يستوي طرفا الفعل والترك فيه عند الشارع، أو ما دل الدليل السمعي على خطاب الشارع بالتخيير فيه بين الفعل والترك، أو ما شابه هذه الأقوال، فإن هذا مشكلٌ على تلك القواعد، إذ إن الفعل له حكمة وتركه يفوِّت الحكمة، وإذا كانت الحكمة المقصودة هي بترك الفعل فالقيام به يفوِّتها. وإذا كانت الأحكام لم تشرع إلا لمصلحة العباد، فلا بد من ترجيح أحد الطرفين على الآخر، أو أن يُدَّعى وجود مرتبةٍ رابعة دون التحسينيات تتصف بأنها لا تخدم أياً من المراتب الثلاث ولا تهدم أياً منها. ولكن هذه الدعوى تتناقض مع فكرة الشاطبي وهي عدم خلو أي حكم شرعي عن مقصد أما بجلب مصلحة أو درء مفسدة. فكيف يحل الشاطبي هذا الإشكال؟.
تصوير الجزئية والكلية في الأحكام:
يعالج الشاطبي هذا الإشكال بقوله إن للأحكام نظرين، نظراً من حيث هي جزئية ونظراً من حيث هي كلية.(1/191)
ويرد على الذين قالوا: إن المباح مطلوب الترك لأن من فعل مباحاً فقد تلهى به عما هو مطلوب الفعل، ويرد على من قال: إنه مطلوب الفعل لأن من فعل مباحاً فقد ترك حراماً، فيقول: "إن المباح عند الشارع هو المخير فيه بين الفعل والترك من غير مدح ٍ ولا ذمٍ لا على الفعل ولا على الترك"(1). ويقول: "المباح من حيث هو مباح لا يكون مطلوب الفعل ولا مطلوب الإجتناب"(2) وهو هنا، أي من حيث هو مباح، يُنظر إليه على أنه جزئية، أما إن نُظِر إليه على أنه مطلوب الفعل أو مطلوب الترك، فذلك من جهة يكون فيها خادماً أو هادماً لكلي.
فالمباح ينظر إليه من حيث هو جزئي ومن حيث هو كلِّي، أما من حيث هو كلِّي فليس هناك ما هو مخيرٌ فيه لأنه يكون عبثاً. وأما من حيث هو جزئي، أي حكم شرعي معين لفعل معين، فإذا كان مخيراً فيه فهذا يعني تعريته عن الحكمة أو المقصد، وهذا لا ينقض فكرة المقاصد عند الشاطبي لأنه يطبقها على الكليات دون الجزئيات. يقول: "إن المصالح المعتبرة هي الكليات دون الجزئيات"(3).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/68.
(2) الموضع نفسه.
(3) المصدر نفسه، 1/91.(1/192)
أما النظر إلى المباح من حيث الكلية، فهو يجعل المباح مباحاً بالجزء مطلوباً بالكل، قد يكون مندوباً بالكل وقد يكون واجباً بالكل، أو مباحاً بالجزء منهياً عنه بالكل، قد يكون مكروهاً بالكل وقد يكون حراماً بالكل. يقول: "إن الإباحة بحسب الجزئية والكلية يتجاذبها الاحكام البواقي. فالمباح يكون مباحاً بالجزء مطلوباً بالكل على جهة الندب أو الوجوب، ومباحاً بالجزء منهياً عنه بالكل على جهة الكراهة أو المنع. فهذه أربعة أقسام: فالأول: كالتمتع بالطيبات من المأكل والمشرب والمركب والملبس... فلو تُرِكَ بعض الأوقات مع القدرة عليه لكان جائزاً كما لو فُعِل. فلو ترك جملةً لكان على خلاف ما ندب الشرع إليه... وهكذا لو ترك الناس كلهم ذلك لكان مكروهاً. والثاني: كالأكل والشرب ووطء الزوجات والبيع والشراء ووجوب الاكتسابات الجائزة... كل هذه الأشياء مباحة بالجزء، أي إذا اختار أحد هذه الأشياء على ما سواها فذلك جائز. وإن تركها الرجل في بعض الأحوال أو الأزمان، أو تركها بعض الناس لم يقدح ذلك، فلو فرضنا ترك الناس كلهم ذلك لكان تركهم لما هو من الضروريات المأمور بها. فكان الدخول فيها واجباً بالكل. والثالث: كالتنزه في البساتين وسماع تغريد الحمام، والغناء المباح واللعب المباح بالحمام أو غيرها، فمثل هذا مباح بالجزء، فإذا فُعِلَ يوماً أو في حالة ما فلا حرجَ فيه. فإذا فعل َ دائماً كان مكروهاً، ونُسِبَ صاحبه إلى قلة العقل وإلى خلاف محاسن العادات وإلى الإسراف في فعل ذلك المباح. والرابع: كالمباحات التي تقدح في العدالة المداومة عليها وإن كانت مباحة"(1).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/85. ولا بد أن أشير هنا إلى أنني أقوم بعرض أفكار الشاطبي واستقصاءاته لإكمال أي نقص أو لرتق أي فتق في فكرته، ولست في معرض مناقشتها..وإلا فإن السؤال يظل قائماً: أليس المباح بالجزء حكماً شرعياً، وهو مخير فيه، أَوَلا يظل هذا ناقضاً لتمام صحة فكرته، فيظل الإشكال قائماً؟(1/193)
وهكذا تم إضفاء صفة الكلية على المباح لأجل المحافظة على أساس فكرة المقاصد، فتكون المصالح مقصودةً بالمباح وإن كان مستوي الطرفين.
وبعد تصوير الكلية والجزئية في المباح، يثبت الشاطبي - أيضاً - أن ما كان مندوباً بالجزء كان واجباً بالكل، وما كان مكروهاً بالجزء كان ممنوعاً بالكل، وما كان واجباً بالجزء كان واجباً بالكل. وكذلك يقال في الممنوعات. ثم يقول: "إذا تقرر تصوير الكلية والجزئية في الأحكام الخمسة، فقد يطلب الدليل على صحتها والأمر فيها واضح مع تأمل ما تقدم في أثناء التقرير، بل هي في اعتبار الشريعة بالغة مبلغ القطع لمن استقرأ الشريعة في مواردها"(1). ثم قال: "وتقرر في هذه المسائل ان المصالح المعتبرة هي الكليات دون الجزئيات"(2).
إلا أن الناظر في هذا التصوير للكلية والجزئية في الأحكام قد يعترض على ما ورد في المباح في القسمين الثالث والرابع(3). المباح بالجزء المطلوب الترك بالكل، إذ إن الفعل المطلوب الترك بالكل يخدم هدم الكليات؛ فكيف يكون مخيراً فيه، أو متساوي الطرفين؟ فهذا إشكال آخر يستقصيه الشاطبي، فكيف يعالجه؟
المباح قسمان:
__________
(1) المصدر نفسه، 1/90.
(2) المصدر نفسه، 1/91.
(3) أنظر الصفحة السابقة.(1/194)
يقسم الشاطبي المباح إلى قسمين: الأول بمعنى التخيير، والثاني بمعنى رفع الحرج، وما كان بمعنى التخيير فهو الذي يكون مباحاً بالجزء مطلوب الفعل بالكل. وما كان بمعنى رفع الحرج يكون مباحاً بالجزء مطلوب الترك بالكل. ولذلك يلاحظ في النص المذكور في الصفحة السابقة ذكره لفظ "جائز" إزاء ما كان مندوباً بالكل، وكذلك إزاء ما كان واجباً بالكل. وأما القسم الثالث وهو ما كان مباحاً بالجزء مكروهاً بالكل، فلم يذكر لفظ "جائز" وإنما قال: "لا حرج فيه"(1). ويقول: "المباح يطلق باطلاقين: أحدهما من حيث هو مخير فيه بين الفعل والترك، والآخر من حيث يقال: لا حرج فيه"(2).
__________
(1) أنظر ص: 155. وأنظر: الموافقات. 1/85.
(2) الشاطبي، الموافقات. 1/92.(1/195)
ويقول: "إذا قيل في المباح انه لا حرج فيه فليس بداخل تحت التخيير بين الفعل والترك"(1). ثم قال: "فالقسم المطلوب الفعل بالكل هو الذي جاء التخيير فيه بين الفعل والترك كقوله: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } (2)، وقوله: { وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا } (3)... فهذا تخيير حقيقةً... وأما القسم المطلوب الترك بالكل فلا نعلم في الشريعة ما يدل على حقيقة التخيير فيه نصاً، بل هو مسكوت عنه أو مشار إلى بعضه بعبارةٍ تخرجه عن حكم التخيير الصريح كتسمية الدنيا لعباً ولهواً في معرض الذم لمن ركن إليها فإنها مشعرة بأن اللهو غير مخير فيه"(4). وقال: "وعلى الجملة فهو (أي المباح) على أربعة أقسام: أحدها: أن يكون خادماً لأمر مطلوب الفعل، والثاني: ان يكون خادماً لأمر مطلوب الترك، والثالث: أن يكون خادماً لمخيِّر فيه. والرابع: أن لا يكون فيه شيء من ذلك"(5).
__________
(1) المصدر نفسه، 1/94.
(2) سورة البقرة، 223.
(3) سورة البقرة، 35.
(4) الشاطبي، الموافقات. 1/93 - 94. ولنا أن نتساءل عند هذا التقسيم للمباح وهذا التمييز بين القسمين إن كان ثمة ارتباك عند الشاطبي. وقد أوردنا نصه في تعريف المباح كما ورد في الجزء الأول ص: 68 "إن المباح عند الشارع هو المخير فيه بين الفعل والترك" وها هو يذكر أن من المباح ما هو ليس مخيراً فيه !!.
(5) المصدر نفسه، 1/92 - 93.(1/196)
أما القسم الأول فقد مرَّ معنا وهو المباح المخير فيه. وأما الثاني فقد مرَّ معنا أيضاً وهو المباح بمعنى رفع الحرج. وأما الرابع فلما كان غير خادم لشيء، فهو بمعنى أنه لا يخدم ولا يهدم أي أصل ضروري أو حاجي أو تحسيني، إذ هو لا يعود بالمصلحة على العباد، ولا يدرأ عنهم مفسدةً، فصار من حيث الكلية متناقضاً مع وجوب كونه لمصلحة العباد، ولذلك أرجعه الشاطبي إلى ما هو مطلوب الترك فقال: "وأما الرابع فلما كان غير خادمٍ لشيء يُعْتَدُّ به كان عبثاً أو كالعبث عند العقلاء فصار مطلوب الترك أيضاً لأنه صار خادماً لقطع الزمان في غير مصلحة دين ولا دنيا فهو اذن خادم لمطلوب الترك فصار مطلوب الترك بالكل"(1).
أما القسم الثالث، وهو المباح بالجزء الخادم لمخَيَّرٍ فيه. فلا بد من التنبه هنا أن هذا المخيَّر فيه مخدوم، وبالتالي فهو أصل كلي، والأصل الكلي لا يمكن ان يكون مخيراً فيه حسب فكرة الشاطبي، وإلا فهو يهدمها. وأصلاً، تصوير الكلية والجزئية في المباح إنما كان لمنع وجود المباح أو المخير فيه في الكليات، ولذلك فبعدما تحدث الشاطبي عن القسم الرابع عاد إلى هذا القسم الثالث ليقول: "والقسم الثالث مثله أيضاً لأنه خادم له فصار مطلوب الترك أيضاً"(2).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/93 - 94.
(2) الموافقات، 1/93. ويلاحظ هنا أنه تحدث عن الأقسام الأربعة كالتالي: الأول فالثاني فالرابع فالثالث. فهو جعل رأيه في الرابع تمهيداً لرأيه في الثالث.(1/197)
وهكذا، فإن المباح قسمان، مباح بمعنى التخيير بين الفعل والترك وهو مطلوب الفعل بالكل ومباح بمعنى رفع الحرج وهو مطلوب الترك بالكل. إلا أن كونه مباحاً يظل يتردد على أصل فكرة المقاصد أو غائية الأحكام بالتشكيك، ويستقصي الشاطبي ما يمكن ان يشكك بفكرته، فيقول إن المباح بمعنى التخيير هو من جهة كونه جزئياً، وهذا وجوده نظري، وأما عملياً فهو مطلوب الفعل. وأما المباح بمعنى رفع الحرج، فالمصلحة في تركه لأنه مطلوب الترك بالكل، فكيف يكون مأذوناً فيه، وفعله يفوِّت المصلحة. وهنا يعمد الشاطبي إلى القول بإمكانية وجود مرتبة سادسة للأحكام هي مرتبة العفو، وهذه المرتبة كأنها تحل إشكالية الجزئيات التي لا تخدم فكرة المقاصد.(1/198)
أما المباح الذي هو بمعنى التخيير، فيرى الشاطبي أن الفعل من حيث هو فعل له معقولية في الذهن، وله واقع مختلف عن معقوليته، فهو عندما يقع، لا يقع مجرداً عن ملابسات أو عوارض. فمثلاً:المشي مباح والنظر مباح والأكل مباح والاضطجاع مباح، ولكن هذا الحكم هو للفعل من حيث هو فعل، أي من حيث هو مشي أو نظر أو أكل أو اضطجاع. أما في الواقع فالمشي قد يكون إلى عبادة أو إلى معصية، والنظر كذلك، والأكل قد يكون لمباح أو لحرام، وقد يكون في ضرورة أو في غير ضرورة. والاضطجاع يختلف واقعه بحسب العوارض. والأفعال في الواقع لا تحصل بغير العوارض، فهل ينظر إلى الفعل من جهة معقوليته أم من جهة العوارض. يختار الثاني، ويقول: "المقصود من وضع الأدلة تنزيل أفعال المكلفين على حسبها، وهذا لا نزاع فيه، إلا ان أفعال المكلفين لها اعتباران اعتبار من جهة معقوليتها واعتبار من جهة وقوعها في الخارج"(1) ثم يقول: "وإذا كان كذلك فالاعتبار فيها بما وقع في الخارج وليس إلا أفعالاً موصوفة بأمور خاصة لازمة وأمور على خلاف ذلك. وكل مكلف مخاطب في خاصة نفسه بها فهو إذاً مخاطب بما يصح له ان يحصل في الخارج، فلا يمكن ذلك إلا باللوازم الخارجية فهو إذاً مخاطب بها لا بغيرها"(2).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 3/17.
(2) المصدر نفسه، 3/19.(1/199)
ويصبح المباح المخير فيه كأنه بمعنى الواجب المخيَّر كخصال الكفّارة. يقول: "وتلخَّص أن كل مباح ليس بمباح ٍ بإطلاق، وإنما هو مباح بالجزء خاصة، وأما بالكل فهو إما مطلوب الفعل أو مطلوب الترك، فإن قيل أفلا يكون هذا التقرير نقضاً لما تقدم من أن المباح هو المتساوي الطرفين، فالجواب أن لا، لأن ذلك الذي تقدم هو من حيث النظر إليه في نفسه، من غير اعتبار أمر ٍ خارج، وهذا النظر من حيث اعتباره بالأمور الخارجة عنه. فإذا نظرت إليه في نفسه فهو الذي سمي هنا المباح بالجزء. وإذا نظرت إليه بحسب الأمور الخارجة فهو المسمى المطلوب بالكل. فأنت ترى أن هذا الثوب الحسن مثلاً مباح اللبس، قد استوى في نظر الشرع فعله وتركه، فلا قصد له في أحد الأمرين، وهذا معقول واقع بهذا الاعتبار المُقْتَصر به على ذات المباح من حيث هو كذلك. وهو من جهة ما هو وقاية للحر والبرد وموارٍ للسوأة وجمال في النظر مطلوب الفعل. وهذا النظر غير مختص بهذا الثوب المعين ولا بهذا الوقت المعين فهو نظر بالكل لا بالجزء"(1).
__________
(1) المصدر نفسه، 1/93.(1/200)
أما المباح بمعنى رفع الحرج فهو مطلوب الترك بالكل، والإذن فيه يخرم الكليات أو ينقضها ولذلك يقول الشاطبي: "وأما قسم ما لا حرج فيه فيكاد يكون شبيهاً باتباع الهوى المذموم، ألا ترى أنه كالمضاد لقصد الشارع في طلب النهي الكلي على الجملة، لكنه لقلته وعدم دوامه ومشاركته للخادم المطلوب الفعل بالعرض حسبما هو مذكور في موضعه لم يُحفل به"(1). ثم يذكر الشاطبي أن الجزئيات وإن عارضت الكليات، فإنها لا تؤثر عليها لأن الكليات ثبتت قطعية، والجزئيات المعارضة للمقاصد المصلحية لا تبلغ أن تكون كليات، ولذلك فهي لا تنقض أصل فكرة المقاصد. يقول: "الجزئي منه(2) لا يخرم أصلاًمطلوباً(3)، وإن كان فتحاً لبابه في الجملة فهو غير مؤثر من حيث هو جزئي، حتى يجتمع مع غيره من جنسه، والاجتماع مُقَوٍّ(4)، ومن هنالك يلتئم الكلي المنهي عنه وهو المضاد للمطلوب فعله"(5). فإذا التأمت هذه الجزئيات في كلي ينتظمها وترجع إليه، فلن تظل حينئذٍ مأذوناً فيها من قبيل المباح، ولكن ستكون من قبيل المطلوب الترك جزئياً وكلياً، ولكن واقعها - حسب رأي الشاطبي - أنها جزئية ولا ترجع إلى كلي، وفي الوقت نفسه تخدم هدم فكرة المقاصد.
__________
(1) المصدر نفسه، 1/96.
(2) أي: من المباح الداخل تحت قسم رفع الحرج.
(3) سيأتي في بحثنا للمقاصد أن الجزئي لا يخرم الكلي وإن عارضه، لأن الجزئي إن لم يرجع إلى كلي يمكن تأويله أو رده.
(4) أي أنه لا يؤثر حتى يتضافر مع غيره ويفيد تواتراً معنوياً حينئذ ٍ يصبح كلياً ويجب اعتباره في تخصيص الكليات، أما قبل ذلك فلا يعتبر وإن كان يفتح الباب للاعتبار.
(5) الشاطبي، الموافقات. 1/96.(1/201)
وبناءً على هذا الفهم لمراد الشاطبي من بحثه للمباح وتفصيلاته فيه، يمكن الحكم بأن معظم شروح وحواشي المعلقين على كتاب الموافقات في هذا الموضوع، بعيدة عن الصواب، بل ولا صلة لها بمقصود الشاطبي، فضلاً عن أن بعضها لا يخلو من الاضطراب والكلام الذي لا طائل تحته(1).
مرتبة العفو:
هذا ما يدفع الشاطبي إلى الظن بنوع سادسٍ للأحكام، ينطبق على هذه الأحكام الجزئية وعلى غيرها مما يشبهها من حيث كونها جزئيات لا تخدم الكليات، يقول: "يصح أن يقع بين الحلال والحرام مرتبة العفو فلا يحكم عليه بأنه واحد من الخمسة"(2).
ويدخل في هذه المرتبة قسم ما لا حرج فيه، والرخص، والأفعال العرية عن القصد وغيرها. يقول: "وسواء علينا أفرضنا تلك الأفعال مأموراً بها أو منهياً عنها أم لا، لأنها إن لم تكن منهياً عنها، ولا مأموراً بها ولا مخيراً فيها فقد رجعت إلى قسم ما لا حكم له في الشرع، وهو معنى العفو، وإن تعلق بها الأمر والنهي، فمن شرط المؤاخذة به ذكر الأمر والنهي والقدرة على الامتثال، وذلك في المخطئ والغافل والناسي محال، ومثل ذلك النائم والمجنون... ومنها الخطأ في الاجتهاد... فإن حاصل ذلك أن تركه لما ترك وفعله لما فعل لا حرج عليه فيه، ومنها الرخص على اختلافها، فإن النصوص دلت على ذلك حيث نص على رفع الجناح ورفع الحرج وحصول المغفرة"(3).
__________
(1) أنظر مثلاً: الموافقات. 1/226. هامش رقم 1. تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان. الطبعة الأولى. 1421هـ. دار ابن عفان، جمهورية مصر العربية. 6 مجلدات. وقد جمع في الحاشية تعليقات العديد من الشراح المعلقين على كتاب الموافقات.
(2) الشاطبي، الموافقات، 1/107.
(3) الشاطبي، الموافقات، 1/109 - 110.(1/202)
إلا أن الشاطبي لا يقرر إذا كانت مرتبة العفو حكماً أو لا. يقول: "إلا أنه بقي النظر في العفو هل هو حكم أم لا، وإذا قيل حكم فهل يرجع إلى خطاب التكليف أم إلى خطاب الوضع، هذا كله محتمل ولكن لما لم يكن مما ينبني عليه حكم عملي لم يتأكد البيان فيه فكان الأولى تركه والله الموفق للصواب"(1).
الرخصة والعزيمة:
ينطبق على الرخصة، على منهج الشاطبي، ما ينطبق على المباح. يقول: "حكم الرخصة الإباحة مطلقا من حيث هي رخصة"(2). ويقول: "الإباحة المنسوبة إلى الرخصة هل هي من قبيل الإباحة بمعنى رفع الحرج أم من قبيل الإباحة بمعنى التخيير بين الفعل والترك، فالذي يظهر من نصوص الرخص أنها بمعنى رفع الحرج لا بالمعنى الآخر"(3).
__________
(1) المصدر نفسه، 1/119. وللمتابع هنا ان يتساءل، إن لم يكن هذا مما ينبني عليه حكم، أفلا ينبني عليه خرم فكرة المقاصد، وإن قلنا بعدم الانخرام، ألا يضطرنا ذلك إلى القول بأن هذا القسم من المباحات والرخص مطلوب الاجتناب ولا ينطبق عليه تعريف المباح؟
(2) المصدر نفسه. 1/214.
(3) المصدر نفسه، 1/221.(1/203)
ولذلك فالإشكال الموجود في المباح بالنسبة لفكرة المقاصد موجود نفسه في الرخصة. ولذلك فالرخص عنده لا ترجع إلى أصول كلية ولا تخدم الكليات، فهي جزئية فقط بعكس العزيمة. يقول: "العزيمة: ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء، ومعنى كونها كلية أنها لا تختص ببعض المكلفين من حيث هم مكلفون دون بعض، ولا ببعض الأحوال دون بعض كالصلاة مثلا فإنها مشروعة على الاطلاق والعموم في كل شخص وفي كل حال وكذلك الصوم والزكاة والحج والجهاد وسائر شعائر الإسلام"(1). ويقول: "وأما الرخصة: فما شرع لعذر شاق، استثناءً من أصل كلي يقتضي المنع، مع الإقتصار على مواضع الحاجة فيه. فكونه مشروعا لعذر هو الخاصة التي ذكرها علماء الأصول. وكونه شاقا فإنه قد يكون العذر مجرد الحاجة من غير مشقة موجودة فلا يسمى ذلك رخصة كشرعية القراض مثلاً"(2). وقال: "إن العزيمة راجعة إلى أصل كلي ابتدائي، والرخصة راجعة إلى جزئي مستثنى من ذلك الأصل الكلي"(3) وهذه التعريفات والأقوال تشير إلى الإشكال المذكور، الذي يظهر هنا مرة أخرى حيث قال إن العزيمة كلية لا تختص ببعض المكلفين أو الاحوال، ثم قال إن الرخصة استثناء من ذلك الكلي، وهذا معناه إن العزيمة قد اختصت.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/209.
(2) المصدر نفسه، 1/210.
(3) المصدر نفسه، 1/11.(1/204)
ولا يقال هنا إن هذا الإستثناء هو من قبيل تخصيص العام، المعروف في علم الاصول، فإن هذا التخصيص ينقض فكرة الكليات وخواصها التي ذكرها الشاطبي، ومنها قوله: "فلا تجد فيها بعد كمالها نسخاً ولا تخصيصا لعمومها، ولا تقييدا لاطلاقها ولا رفعا لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان، ولا حال دون حال"(1) وسيتبين في بحث العموم والخصوص، أن التخصيص بمعنى استثناء أو رفع بعض ما يتناوله النص مردود عند الشاطبي وإنما التخصيص عنده بيان لمعنى النص أي لما يتناوله اللفظ العام. وعلى ذلك فالرخص لا تنتمي إلى أصول كلية. قال: "وكون هذا المشروع لعذر مستثنى من أصل كلي يبين لك ان الرخص ليست بمشروعة ابتداء فلذلك لم تكن كليات وإن عرض لها ذلك فبالعرض"(2).
ورب قائل يقول: إن الرخص تعود على الإنسان بالمصلحة، إذ هي معللة بالمشقة، وهي إعمال لأصل كلي وهو أصل رفع الحرج، كالمشقة للمسافر،أو لأصل حفظ النفس، كأكل الميتة للمضطر، أو لأصل تكميلي كصلاة المأمومين جلوساً إذا صلى الإمام جالساً، أو غير ذلك من الأصول الكلية(3).
__________
(1) المصدر نفسه، 1/46. وأنظر ص: 144 من هذا الكتاب.
(2) المصدر نفسه، 1/211.
(3) رفع الحرج، وعدم التكليف بالمشقات المعنته من الأصول الكلية وتنتمي إلى مرتبة الحاجيات. وحفظ النفس أصل كلي ينتمي إلى مرتبة الضروريات. وصلاة المأمومين جلوساً بسبب صلاة الإمام جالساً يرجع إلى أصل كلي من مكملات الضروريات. الموافقات، 1/209 - 211.(1/205)
والجواب: إن الشاطبي يتجنب هذا الجواب ويرده، لأنه إن ظهر بادئ الرأي أنه يرتق فتقا في المنهج فإنه في الحقيقة يهدم أكثر مما يبني. لأنا إذا وجدنا مصلحة في الرخصة وزعمنا أنها تخدم أصلا كليا، فقد نص الشرع على أن العزيمة خير منها: { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } (1). والشاطبي يرى أن الأخذ بالعزائم أفضل من الأخذ بالرخص. قال في معرض استدلاله على أن الرخص هي من قبيل الإباحة بمعنى رفع الحرج لا بمعنى التخيير: "والدليل على أن التخيير غير مراد في هذه الأمور أن الجمهور أو الجميع يقولون: من لم يتكلم بكلمة الكفر مع الإكراه مأجور وفي أعلى الدرجات"(2).
__________
(1) سورة البقرة، 184.
(2) الشاطبي، الموافقات. 1/222.(1/206)
أضف إلى ذلك على سبيل المثال: ألصلاة والصيام يرجعان إلى أصل حفظ الدين من الضروريات فكيف يباح الإفطار والجمع والقصر في سفر مشقته لا تكاد تذكر، أو لملك مترفِّه؟ أما إذا كان في السفر حرج ومشقة معنتة، فهذا على منهج الشاطبي، يُخرِج الرخصة عن كونها مجرد رخصة وتصبح من قبيل المطلوب الفعل، المندوب أو الواجب، ويخدم أصولاً كلية، مثل أصل رفع الحرج أو عدم التكليف بما فيه مشقة معنته، أو أصل حفظ النفس فمثلاً: أكل الميتة للمضطر يخدم أصل الضروريات وهو حفظ النفس وهذا عزيمة وليس رخصة وهو واجب وليس مباحاً. وكذلك صلاة المأمومين جلوساً خلف الإمام الجالس، ليس رخصة وإنما هي واجب وعزيمة من قبيل المكمل للضروريات، بعكس صلاة الإمام جالساً فهي رخصة إذا كانت مع القدرة على القيام بمشقة، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فلو سلمنا بإرجاع الرخص إلى أصول كلية، فهذا ينقض فكرة أن الأصول الكلية يخدم ويعضد بعضها بعضاً، وأن الأحكام والأصول كلها تخدم وتعود بالحفظ على الضروريات وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. ففي قوله تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } (1). وفي قوله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ } (2) الرخص لم تخدم الأصول، بل خرمتها. إذ حفظ الدين مقدم على حفظ النفس ومع ذلك التلفظ بكلمة الكفر في هذه الحالة مشروع، وكذلك القصر في سفر لا حرج فيه ولا مشقة لا يخدم أصل حفظ الدين، أي لا يخدم كونه كلياً. وهذا يؤدي إلى ان الأصول لا يخدم بعضها بعضاً.
__________
(1) سورة النحل، 106.
(2) سورة النساء، 101.(1/207)
وإذا كان الشاطبي أرجع المباح المخير فيه إلى أصل كلي حيث وجَّه النظر فيه إلى كونه مطلوباً بالكل، فإن الرخصة والمباح بمعنى رفع الحرج لم يرجعا عنده الى أصول كلية، ولذلك فقد اقترح لهما كما بينا في البحث السابق مرتبة العفو، وقال إن الأحكام الجزئية لا تخرم الأصول الكلية. فكذلك قال بشأن الرخص بعد أن أكد انها لا تنتمي إلى أصول كلية. قال: "والحاجيات لا تسمى عند العلماء باسم الرخصة"(1). وقال: "إن شرعية الرخص جزئية يقتصر فيها على موضع الحاجة فإن المصلي إذا انقطع سفره وجب عليه الرجوع إلى الأصل من إتمام الصلاة وإلزام الصوم. والمريض إذا قدر على القيام في الصلاة لم يصل قاعداً وإذا قدر على مس الماء لم يتيمَّم وكذلك سائر الرخص بخلاف القرض والقراض والمساقاة ونحو ذلك مما هو يشبه الرخصة فإنه ليس برخصة في حقيقة هذا الإصطلاح"(2).
والحاصل أن الرخص جزئيات لا ترجع إلى كليات، وهي وإن كانت كذلك ولم تتماش مع منهجه أو فكرة المقاصد عنده فلن يخرب العالم، يقول: "إن العزيمة راجعة إلى أصل في التكليف كلي لأنه مطلق عام على الأصالة في جميع المكلفين، والرخصة راجعة إلى جزئي بحسب بعض المكلفين ممن له عذر، وبحسب بعض الأحوال، وبعض الأوقات في أهل الأعذار، لا في كل حالة ولا في كل وقت ولا لكل أحد، فهو كالعارض الطارئ على الكلي. والقاعدة المقررة في موضعها أنه إذا تعارض أمر كلي وأمر جزئي، فالكلي مقدم لأن الجزئي يقتضي مصلحة جزئية والكلي يقتضي مصلحة كلية، ولا ينخرم نظام في العالم بانخرام المصلحة الجزئية"(3) ثم قال: "والرخصة إنما مشروعيتها أن تكون جزئية"(4).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 1/21.
(2) المصدر نفسه، 1/28.
(3) الشاطبي الموافقات، 1/224.
(4) الموضع نفسه.(1/208)
ومن نافلة القول بعد بيان آرائه في الرخصة والعزيمة أن نشير إلى رأيه أن الوقوف مع العزيمة أفضل شرعاً من الاخذ بالرخصة. وكذلك أن الرخص ليس لها قانون كلي وبالتالي فإن مواضعها منحصرة بالمواضع التي ذكرتها النصوص، فلا يقاس عليها. أما ما يخضع لقواعد كلية مثل عدم التكليف بما لا يطاق، والمشقات المعنته، ورفع الحرج، فإنه يكون من قبيل العزائم وليس الرخص(1).
الأسباب والمسببات:
السبب من أحكام الوضع. وهو في اصطلاح الأصوليين: وصف ظاهر منضبط دل الدليل السمعي على كونه معرفاً لوجود الحكم(2). وذلك كهلال رمضان سبب في وجود حكم الصيام، والبيع سبب في الملك وحلية الإنتفاع بالعين. والعلاقة بين السبب والحكم في الأحكام الشرعية هي غيرها بين السبب والمسبب في العقليات. فمثلاً شرب الخمر سبب السكر، فشرب الخمر يوجد به السكر. بينما في الشرع هلال رمضان لا يوجد به حكم الصيام، وإنما يوجد عنده، أي عند وجوده، ليس بسبب علاقة مادية بين سبب ومسبب، وإنما بخبر من الشارع الذي جعل الوصف أمارةً أو علامةً مُعَرِّفَةً على وجود الحكم. هذا هو الفهم المعهود عند الأصوليين للعلاقة بين السبب والحكم في الاصطلاح الشرعي.
__________
(1) ويظل السؤال قائماً في الرخص كما في المباح، ألا تخرم إباحتها فكرة المقاصد. وهل القول بأنها جزئية وليست كلية يلغي التساؤل؟
(2) أنظر ص: 53 من الفصل الأول.(1/209)
ولكن الشاطبي يؤسس لفهم جديد، وهو يرى أن الكليات الشرعية وإن كانت جعلية أو وضعية أي بوضع الشارع لها كذلك، فهي تستوي مع الكليات العقلية، لأن هذه أيضاً هي من وضع الشارع. يقول: "الوضعيات قد تجاري العقليات في إفادة العلم القطعي، وعلم الشريعة من جملتها"(1). ويقول: "وأيضاً فإن الكليات العقلية مقتبسة من الوجود، وهو أمر وضعي لا عقلي، فاستوت مع الكليات الشرعية بهذا الإعتبار وارتفع الفرق بينهما"(2).
وبما أن للأسباب مسبباتها، ومن يقصد إيقاع أمر يعمد إلى إيقاع أسبابه، وفاعل السبب يعد كفاعل المسبب، فإن الأحكام الشرعية تعد أسباباً لمسبباتٍ تقصد بها. قال الشاطبي: "إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبَّب قصد ذلك المسبِّب أو لا. لأنه لما جعل مسبباً عنه في مجرى العادات عد كأنه فاعل له مباشرةً. ويشهد لهذا قاعدة مجاري العادات إذ أُجْرِيَ فيها نسبة المسببات إلى أسبابها كنسبة الشبع إلى الطعام، والإرواء إلى الماء والإحراق إلى النار، والإسهال إلى السقمونيا(3) وسائر المسببات إلى أسبابها، فكذلك الأفعال التي تَتَسَبَّبُ عن كسبنا منسوبة الينا وإن لم تكن من كسبنا، وإذا كان هذا معهوداً معلوماً جرى عرف الشرع في الأسباب الشرعية مع مسبباتها على ذلك الوزان"(4).
__________
(1) الشاطبي الموافقات 1/44. وانظر ص: 144 من هذا الكتاب.
(2) الشاطبي الموافقات، 1/44.
(3) السقمونيا: نبات يستخرج من تجاويفه رطوبة دَبِقَة وتجفف وتدعى باسم نباتها أيضاً، مضادتها للمعدة والأحشاء أكثر من جميع المسهلات. الفيروز آبادي، القاموس المحيط. ص: 1447.
(4) الشاطبي الموافقات، 1/148.(1/210)
لذلك فالأمر الذي يجب الالتفات إليه في بحث الأسباب عند الشاطبي هو أن الأحكام الشرعية هي أسباب لنتائج مقصودة بها. هذه النتائج هي مسببات الأحكام أو الحكم أو المصالح المقصودة بها، والأحكام هي الطريق الموصلة إليها. ومثلما قصد الشارع بالأوامر والنواهي إيقاع المأمور به ومنع المنهي عنه، فكذلك قصد حصول نتائج معينة للفعل المأمور به، ومنع حصول نتائج معينة للفعل المنهي عنه. وهذه قاعدة فكرة المقاصد عند الشاطبي. لهذا السبب بحث الشاطبي في الأسباب والمسببات بتفصيل وإسهاب قبل أن يبدأ كتابه في المقاصد.
إلا أن التكليف بالأسباب، وهي الأحكام، وإن كانت المسببات مقصودة للشارع به، فهو لا يعني التكليف بالمسببات، فهي ليست مقدورة للمكلف ولا راجعة إليه، وإنما المقدور له هو السبب الذي كلفه الشارع به. وحصول المسبب يحصل ضمن ذلك. قال: "والدليل على ذلك ما ثبت في الكلام من أن الذي للمكلف تعاطي الأسباب، وإنما المسببات من فعل الله تعالى وحكمه, لا كسب فيه للمكلف"(1)، وقال: "فإذاً لا يتعلق التكليف وخطابه إلا بمكتسب فخرجت المسببات عن خطاب التكليف لأنها ليست في مقدورهم، ولو تعلق بها لكان تكليفاً بما لا يطاق وهو غير واقع"(2).
وكذلك فكون المسبب مقصوداً للشارع بشرع السبب، فهو لا يعني جواز القصد إلى إيقاع المسبب بغير طريقه المشروع وهو السبب، إذ كما أن المسبب مقصود، فالمقصود الأول هو السبب لأن الخطاب دل عليه والتكليف وقع عليه، ولم يفهم المسبب إلا بواسطته. قال: "إن كون الشارع لم يشرع هذا السبب لهذا المسبب المعين دليل على أن في ذلك التسبب مفسدة لا مصلحة"(3). وسنبين هذا الأمر بمزيد من التفصيل والتوثيق في المبحث الثالث من الفصل الخامس.
المبحث الثالث
في النتائج ومفهوم المصلحة والمفسدة عند الشاطبي
تعريف بموضوع البحث:
__________
(1) المصدر نفسه، 1/131.
(2) الشاطبي الموافقات، 1/148.
(3) المصدر نفسه، ص: 173.(1/211)
تبيّن في مبحثي المقدمات والمستندات بعض قواعد أو أصول منهج الشاطبي في تقرير المقاصد. وتعد المقاصد أو الأصول التي يتوصل إليها نتيجةً لإعمال هذا المنهج. والمراد بهذا المبحث ما يبنى على تلك المقدمات والمستندات من أفكار وتعريفات أو مفاهيم يجب اعتبارها واعتمادها عند تطبيق المنهج لأجل الوصول إلى القواعد والأصول الكلية.
وبناء على ذلك فهذا المبحث هو للتعريف ببعض الألفاظ أو المصطلحات الأصولية التي يستعملها الشاطبي، وإدراك معانيها ضروري لادراك منهجه، وعلى وجه الخصوص لفظا المصلحة والمفسدة إضافة إلى ألفاظ السبب والمسبب والحكمة والعلة ومعاني الأحكام.
السبب:
أما السبب فقد تبين المراد به في المبحث السابق. وهو ما جعله الشارع سبباً لمسبب سواء في الشرعيات أو في العقليات. والمراد للتطبيق في المقاصد الشرعية ما كان سبباً شرعياً. قال عند تقريره لأحد الأصول: "ما تقدم في هذا الأصل نظر في مسببات الأسباب من حيث كانت الأسباب مشروعة أو غير مشروعة أي من جهة ما هي داخلة تحت نظر الشرع لا من جهة ما هي أسباب عادية لمسببات عادية"(1).
وكما تبين فإن الأسباب هي الأحكام الشرعية التي بيَّنَها الشارع أمراً كانت أو نهياً، وهي دلالات النصوص. وبما أن الشارع له في التشريع مقاصد، فقد شرع الأحكام لتكون هذه المقاصد مسبباتٍ للالتزام بها، فتكون الأحكام الشرعية أسباباً. والنتائج المقصودة بها حكماً أو مسببات أو مصالح أو عللاً، ولكن وفق نهج معين سيتبين فيما يلي.
الحكمة:
وهي مظنة أن يكون قد شرع الحكم لأجلها أو لأجل تحصيلها فهي مسبب. ولكن قبل أن يثبت - قطعاً - كونها مقصودةً للشارع، يمكن أن تكون وصفاً مخيلاً أو وصفاً مناسباً، فتكون مقصود الشارع ظناً لا قطعاً، وهذه لا اعتبار لها شرعاً. فالحِكَمُ قد تكون عند الناظر معلومةً وقد تكون مظنونة وقد تكون محتملة متوهمةً.
__________
(1) الموافقات. 1/171.(1/212)
أضف إلى ذلك أن من الحِكَم ما قد لا يدركه أو لا يتوقعه الإنسان مع انه قد يكون المقصود الأهم للشارع. ومن النتائج ما قد يشعر الإنسان بكونه مصلحة دنيوية له ويميل إليه بطبعه، وهذا ما يطلق عليه الشاطبي اسم الغرض أو الحظ. ولذلك فلا اعتبار لمظنة الحكمة التي يسرح فيها العقل حتى يثبت ذلك بطريق الشرع. يقول: "إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط ان يتقدم النقل فيكون متبوعاً ويتأخر العقل فيكون تابعاً فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يُسرِحه النقل"(1).
ويقول: "إنا إذا فهمنا بالاقتضاء أو التخيير حكمة مستقلة في شرع الحكم فلا يلزم من ذلك أن لا يكون ثَمَّ حكمة أخرى ومصلحة ثانية وثالثة وأكثر، وغايتنا أنا فهمنا مصلحة دنيوية تصلح أن تستقل بشرع الحكم فاعتبرناها بحكم الإذن الشرعي ولم نعلم حصر المصلحة والحِكَم بمقتضياتها في ذلك الذي ظهر وإذا لم يحصل لنا بذلك علم ولا ظن لم يصح لنا القطع بأن لا مصلحة إلا ما ظهر لنا. إذ هو قطع على غيب بلا دليل"(2).
والظاهر من هذا النص أنه رد على من يقول بتقرير العلة أو الحكمة أو المصلحة، بناءً على كونها محتملة وإن كان يمكن أن يكون غيرها مما لم يظهر لنا أقوى في الظن، وكأنه رد مباشر على الآمدي حيث قال: "وإذا ثبت أن الأحكام إنما شرعت لمصالح العباد، فإذا رأينا حكماً مستلزماً لأمر مصلحي فلا يخلو إما أن يكون ذلك هو الغرض من شرع الحكم أو ما لم يظهر لنا. لا يمكن ان يكون ما لم يظهر لنا وإلا كان شرع الحكم تعبداً، وهو خلاف الأصل لما سبق تقريره، فلم يبق إلا ان يكون مشروعاً لما ظهر، وإذا كان ذلك مظنوناً فيجب العمل به"(3).
__________
(1) الموافقات. 1/53.
(2) المصدر نفسه، 2/216.
(3) الآمدي، الأحكام في أصول الأحكام. 3/250.(1/213)
وردُّ الشاطبي على هذا القول يعني أنه لا يكتفي بالحكمة المظنونة. ولذلك قال: "وذلك غير جائز فقد بقي لنا إمكان حكمةٍ أخرى شُرع لها الحكم فصرنا من تلك الجهة واقفين مع التعبد"(1)، وقال: "إذا ظهر لنا علة تصلح للاستقلال بشرعية الحكم ولم نكلف ان ننفي ما عداها فإن الأصوليين مما يجوزون كون العلة خلاف ما ظهر لهم"(2).
ومما يؤكد هذا في منهجه اعتباره ان الحكمة مسبَّب. قال: "أما السبب فالمراد به ما وضع شرعاً لِحُكمٍ لحكمةٍ يقتضيها ذلك الحكم"(3). وقال: "حِكَمُ الأسباب وهي المسببات"(4).
المسبَّب:
هو حكمة قصدها الشارع بتشريع السبب. فهو نتيجة للفعل المأمور به يقصد الشارع حصولها بحصول الفعل، وهو نتيجة للفعل المنهي عنه يقصد الشارع عدم حصولها بعدم الفعل المتسبب بها.
ولكن ليس كل ما يمكن ان ينتج عن الفعل أو عن ترك الفعل مسبب للسبب، ولذلك فالمسبب هو ما يثبت كونه مقصوداً للشارع عن طريق الاستقراء المفيد للقطع. ولا يكفي فيه أن يكون مما يمكن ان ينتج عن الفعل.
العلة:
العلة هي المسبب أو النتيجة التي قصدها الشارع بتشريع الحكم. وبالتالي فهي المقصد والحكمة.
وقد يقال كيف تكون العلة هي المسبب، والأقرب في المعنى ان تكون سبباً لا مسبباً؟. والجواب: إنه في الاصطلاح المعهود عند الأصوليين العلة ليست سبباً ولا مسبباً، فالعلة هي الباعث على التشريع. وقد تبيَّن هذا في الفصل السابق. أما عند الشاطبي فالأمر مختلف، والعلة هي المسبب على منهجه.
وبيان ذلك أن الشارع إنما شرع الأحكام لتحقيق مقاصد والمقاصد هي مسببات للأحكام. وإذا أردنا ان نعرف مقصد الشارع فإنما ننظر في هذه الأحكام ومسبباتها ومآلاتها المقصودة، وما يثبت كذلك يعد أصلاً من أصول التشريع.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 2/217.
(2) الموضع نفسه.
(3) المصدر نفسه، 1/185.
(4) المصدر نفسه، 1/175.(1/214)
وإذا كانت هذه المقاصد إنما شرعت الأحكام لأجلها، فتكون الأحكام إنما شرعت بناء عليها، فتكون عللاً للتشريع. والمجتهد لا سبيل له لمعرفة علل الأحكام إلا من خلال تتبع واستقراء مسبباتها. ولهذا قيل إن مقاصد الشريعة هي جلب المصالح ودرء المفاسد، وقيل أيضاً إن الشريعة معللة بجلب المصالح ودرء المفاسد.
وبناء على ذلك فإنه ينطبق على العلة ما ينطبق على المسبب وعلى الحكمة مما ذكر آنفاً. قال الشاطبي: "أما العلة فالمراد بها الحِكَمُ والمصالح التي تعلقت بها الأوامر أو الإباحة، أو المفاسد التي تعلقت بها النواهي"(1). وينبني على ذلك أن العلة يجب ان تكون قطعية: فتكون المصلحةَ نفسَها أو المفسدة َ نفسَها لا مظنَّتها. قال: "فعلى الجملة العلة هي المصلحةُ نفسُها، أو المفسدة لا مظنَّتها، كانت ظاهرة أو غير ظاهرة. منضبطة أو غير منضبطة"(2). وقال: "والعلة إما أن تكون معلومةً أَوْ لا، فإن كانت معلومة اتبعت فحيث وُجِدت وُجِدَ مقتضى الأمر والنهي من القصد أو عدمه كالنكاح لمصلحة التناسل والبيع لمصلحة الانتفاع بالمعقود عليه، والحدود لمصلحة الازدجار، وتعرف العلة هنا بمسالكها المعلومة في أصول الفقه، فإذا تعيَّنت عُلم أن مقصود الشارع ما اقتضته تلك العلل من الفعل أو عدمه، ومن التسبب أو عدمه، وإن كانت غير معلومة فلا بد من التوقف عن القطع على الشارع أنه قصد كذا وكذا"(3). ثم قال: "ويحكم به علماً أو ظناً بأنه غير مقصود له (للشارع). إذ لو كان مقصوداً لنصب عليه دليلاً(4)"(5).
معاني الأحكام:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 1/185.
(2) الموضع نفسه.
(3) المصدر نفسه: 2/276-277.
(4) أي: دليلاً قطعياً، وليس أمارة ظنية، لأن أدلة القطعيات يجب ان تكون قطعية.
(5) الشاطبي، الموافقات: 2/276-277.(1/215)
معاني الأحكام هي نفسها المسببات أو الحِكَم المقصودة للشارع، كحفظ الدين وحفظ النفس، فهي معانٍ استفيدت من الأحكام الشرعية التي تؤدي إلى هذه النتائج. قال: "لا بد من الالتفات إلى المعاني التي شُرِعت لها الأحكام، والمعاني هي مسبَّبات الأحكام"(1). وقال: "الأعمال الشرعية ليست مقصودةٌ لأنفسها وإنما قُصِدَ بها أمورٌ أُخَر هي معانيها وهي المصالح التي شرعت لأجلها"(2).
المصلحة والمفسدة:
يتبين مما سبق أن جلب المصالح ودرء المفاسد هو غايات الأحكام ومآلاتُها. وهو عللها ومقاصدها ومسبباتها ومعانيها.
إلا أن ما يجب ذكره أن ثمة فرقاً جوهرياً بين معنى كل من المصلحة والمفسدة عند الشاطبي وبين معانيهما عند من سبقه من الأصوليين الذين يقولون بعلية جلب المصالح ودرء المفاسد.
فعند السابقين المصالح والمفاسد هي ما كان كذلك بحكم العقلاء والحكماء، أي هي ما يعود على المكلفين بما يتفق مع فِطرهم وميولهم ويوافق حظوظهم وأغراضهم، ولذلك فهي معانٍ أو أوصاف مناسبة. ولذلك فالمصالح المعتبرة عندهم هي الأوصاف المناسبة إذا جاء وفقاً لها حكم أو أحكام(3).
أما عند الشاطبي فالمصلحة هي ما يثبت كونه مقصوداً للشارع، بغض النظر عن كونه مناسباً أو غير مناسب. ويتم ذلك باستقراء معنى أو وصف في الأحكام بغض النظر عن كونه مصلحة أو مفسدة بحسب المكلفين وعاداتهم، فإذا استقرئ المعنى استقراءً يفيد ما يشبه التواتر المعنوي كان معنى كلياً مقصوداً للشارع، ويعد مصلحة إذا كان مسبباً لما طلبه الشرع ويعد مفسدةً إذا كان مسبباً لما نهى عنه الشرع. وهذا المفهوم للمصلحة والمفسدة عنده يُعَدُّ انقلاباً على المعنى المعهود عند الأصوليين، ويؤدي عدم التنبه لهذا المعنى إلى عدم فهم فكرة المقاصد عنده، أو إلى تحميل الشاطبي آراءً وأفكاراً تناقض حقيقة آرائه وأفكاره.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/138.
(2) المصدر نفسه، 2/268.
(3) وقد تبين هذا في الفصل الأول.(1/216)
وبما أن المصالح والمفاسد جلباً ودرءاً هي العلل وهي المقاصد وهي المسببات وهي معاني الأحكام، وهي كثيرة التردد والاستعمال عند الشاطبي، فإن عدم التحقق من حقيقة مراد الشاطبي بالمصلحة والمفسدة يوقع الباحث في كتاب الموافقات في تناقضات ويحرفه عن فهم منهج الشاطبي. لذلك لزم بحث وإثبات مفهوم الشاطبي للمصالح والمفاسد بشكل مفصل ومنفصل.
مفهوم الشاطبي لكل من المصلحة والمفسدة:
يظهر مفهوم الشاطبي للمصالح والمفاسد في نصوص كثيرة له, كما أنه يظهر من خلال الكيفية التي أثبت بها أن الشريعة معللة بالمصالح والمفاسد.
فلقد حاول الشاطبي إثبات هذا الأمر في مقدمته لكتاب المقاصد، فردَّ على الرازي الذي أنكر تعليل الشريعة بالمصالح والمفاسد وقطع بذلك. فأتى بنصوص يظهر فيها أن أحكام الله سبحانه وأفعاله معللة، وذلك من خلال النص الشرعي على ان الله حكم بذلك لأجل كذا، وفعل كذا لأجل كذا، وذلك كقوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ، { لِيَبْلُوَكُمْ } ، { لِيَعْبُدُونِ } ... وبما أن منهج الشاطبي في إثبات القواعد والأصول هو الاستقراء المفيد للقطع، فقد أتى بنصوص كثيرة فيها النص على ان الحكم أو الفعل كان لأجل غاية. وأشار الى وجود نصوص لا حصر لها تدل على أن الأحكام والأفعال لها غايات. وبناء على حصول الاستقراء يثبت عنده أصل كلي لا يتخلّف وهو أن أفعال الله وأحكامه لها مقاصد وغايات. وبهذا يرى الشاطبي أنه أثبت على سبيل القطع أن الشريعة معللة بالمصالح والمفاسد. وبالنظر في هذه النصوص التي استدل بها الشاطبي نجد ان غالبيتها ليس فيها ما يدل على قصد الشارع لما هو مصلحة أو رفع مفسدة بمعنى ما يوافق أغراض أو حظوظ الناس أو ما يحكم به العقلاء أو الحكماء أنه مصلحة للناس، بل إن غالبيتها ليس فيها معنى معقول أو مناسب يقال ان فيه جلب مصلحة أو درء مفسدة.(1/217)
بل إن قصارى ما تدل عليه هذا النصوص، وهو ما قصده الشاطبي بالاستدلال بها، هو أن الأحكام والأفعال لها مقاصد أو غايات. وبما ان هذه الأفعال والأحكام هي من الشارع فتكون مقاصدها شرعية. وبما أنها مقاصد شرعية فإنها تسمى مصالح أو مفاسد بحسب مشروعية الأفعال أو عدم مشروعيتها.
ولإثبات ان هذا هو مفهوم الشاطبي للمصالح والمفاسد، سنناقش الأدلة التي أتى بها لإثبات ان الشريعة معللة بالمصالح، واحداً واحداً.
مناقشة تحليلية لاستدلالات الشاطبي:
قال الشاطبي: "إن وضع الشرائع انما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً"(1). وقال: "وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللةً بعلةٍ البتة كما ان أفعاله كذلك، وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين، ولما اضطر في علم أصول الفقه إلى إثبات العلل للأحكام الشرعية أثبت ذلك على أن العلل بمعنى العلامات المعرفة للأحكام خاصة"(2).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 2/2.
(2) المصدر نفسه، 2/2 - 3.(1/218)
وهذا القول يفيد انه لما كان القول بتعليل الشريعة بالمصالح قول أكثر الفقهاء المتأخرين فإنه لزم إقامة البرهان على ذلك، وأن البرهان الذي يصح على هذه المسألة هو على العلل إذا كانت بمعنى علامات معرفة، أي مجردة عن حكمةٍ يجدها الفقيه. فهذه إشارة إلى مراده بالمصالح، وهذا مخالف كلياً لمنهج التعليل الذي اعتمده الفقهاء قبله الذين يعللون الشريعة بالمصالح. ثم قال: "والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراءً لا ينازع فيه الرازي ولا غيره"(1)، ثم ذكر استدلالاً على ذلك اثني عشر نصاً على سبيل المثال لا الحصر. قال: "فإن الله تعالى يقول في بعثة الرسل وهو الأصل: { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } (2)، { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (3)، وقال في أصل الخلقة: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } (4)، { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (5)، { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } (6). وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من ان تحصى، كقوله بعد آية الوضوء { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } (7)،
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) سورة النساء، 165.
(3) سورة الأنبياء، 107.
(4) سورة هود، 7.
(5) سورة الذاريات، 56.
(6) سورة الملك، 2.
(7) سورة المائدة، 6..(1/219)
وقال في الصيام: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (1)، وفي الصلاة: { إِن الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } (2)، وقال في القبلة: { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } (3)، وفي الجهاد: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } (4)، وفي القصاص: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } (5)، وفي التقرير على التوحيد: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } (6)، والمقصود التنبيه، وإذا دل الاستقراء على هذا وكان في مثل هذه القضية مفيداً للعلم فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة"(7).
بهذا يرى الشاطبي أنه قد أقام الدليل القاطع على أن الأحكام الشرعية معللة بالمصالح وسننظر - فيما يلي - في هذا النص نظرةً تحليلية لفهم مراده بالتعليل بالمصالح. فلنأخذ - إذاً - النصوص التي استدل بها وكان كل واحد منها مفيداً للتعليل بمصلحة، والتي شكلت كثرتها استقراءً يفيد ما يشبه التواتر المعنوي.
دليله الأول: قوله: "فإن الله تعالى يقول في بعثة الرسل: { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } (8).
__________
(1) سورة البقرة، 183.
(2) سورة العنكبوت، 45.
(3) سورة البقرة، 150.
(4) سورة الحج، 39.
(5) سورة البفرة، 179.
(6) سورة الأعراف، 172.
(7) الشاطبي، الموافقات. 2/3.
(8) سورة النساء، 165.(1/220)
هذا النص يعده الشاطبي حكماً أو فعلاً لله سبحانه وتعالى معللاً بمصلحة. وبإنعام النظر فيه نجده دالاً على غاية - من الغايات - من إرسال الرسل، أو على نتيجة يقصد حصولها. فالفعل هو إرسال الرسل مبشرين ومنذرين، والنتيجة هي إقامة الحجة على الناس بأنهم قد بُشِّروا وأُنذروا، فلا يقولون يوم القيامة: لم يأتنا نذير، ولا يقولون: كيف نحاسب على قيامنا بفعل لم نُنْه َ عنه، وعلى تركنا لفعل لم نؤمر به. فكل ما يريده الشاطبي هنا هو أن يثبت أن أفعال الله سبحانه وتعالى وأحكامه لها غايات أو مآلات لأجلها فعل أو شرَّع. فقطع حجة العباد يوم القيامة هو غاية أو نتيجة لإرسال الرسل يقصد الشارع حصولها. وهي ليست علة بمعنى العلة التي هي ركن في القياس، فانقطاع حجة العباد يوم القيامة ليس علة لحكم شرعي وليس في هذا النص حكمٌ محلٌ للقياس. وكون الشاطبي يسمى الغاية أو النتيجة أو المآل أو المسبَّب علةً يدفعنا لتحديد معاني هذه الألفاظ لديه كي لا نوقعها غير مواقعها.(1/221)
أما كون هذه العلة مصلحة، فهذا من باب التجوز وليس من باب إدراك ان هذا الأمر مصلحة ثم ملاحظة ان الشرع أمر أو قرر ما يدرك الإنسان انه مصلحة. نعم، ليس من هذا الباب، والمقصود بالتجوز أن كل ما يأمر به الله نسميه مصلحةً أو حقاً أو عدلاً، وكل ما ينهى عنه سبحانه وتعالى نسميه مفسدةً أو ظلماً أو باطلاً. هذا هو مراد الشاطبي، ولإدراك الأمر فلننظر في النص أعلاه، فهل في هذه الغاية وهي عدم امتلاك الناس يوم القيامة لحجة ينجون بها من الحساب والعقاب مصلحةٌ أو وجهٌ من وجوه المصلحة؟ لو لم يأتهم بشير ونذير لكانوا من أهل الفترة ولنجوْا من العذاب { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } (1)، فأين المصلحة هنا أو المعنى المناسب الذي لو عرض على العقول لتلقته بالقبول؟ إن قطع حجة العباد يوم القيامة لا يدخل في مصلحة العباد. وبناء على ذلك فإن استدلال الشاطبي بهذا النص على التعليل بالمصلحة يدل على أن مراده بالمصلحة هو ما ثبت كونه مراداً لله سبحانه وتعالى بغض النظر عن كونه معقول المعنى أو ليس كذلك.
دليله الثاني: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (2).
__________
(1) سورة الإسراء، 15.
(2) سورة الأنبياء، 107.(1/222)
لهذا النص وجهان من الدلالة في موضوع تعليل الشريعة بالمصالح. الأول وهو الذي اعتمده العلماء الذين قالوا بتعليل الشريعة، فقالوا: بما انها رحمة فإنها يجب أن تعود على العباد بالمصالح وتدرأ عنهم الضرر والمفاسد، وبذلك يكون جلب المصالح ودرء المفاسد علة للأحكام. وليس هذا وجه استدلال الشاطبي، فقد علمنا ان الشاطبي لا يكتفي بنص واحد أو بآحاد النصوص لتقرير المعنى. ومقصود الشاطبي باستدلاله بهذا النص هو الوجه الثاني وهو أن أفعال الله وأحكامه معللة. وهذا النص هو أحد الجزئيات الخادمة لهذا المعنى. بتعبير آخر إن الله سبحانه وتعالى فَعَلَ فِعْلَ الإرسال، والنص دل على أن فعله له مقصد وهو الرحمة. وبذلك يكون هذا المعنى وهو تعليل الأفعال والأحكام متحققاً في هذه الجزئية. وهذا هو المعنى المقصود في سائر استدلالاته الاثني عشر، ولو كان مقصوده بهذا النص الوجه الأول لما كان مقوياً لسائر النصوص الأخرى.
ولذلك فإنه بهذا النص يثبت ان إرسال الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان لغاية.
وبما ان الشاطبي جعل هذا النص دليلاً على التعليل بالمصلحة، فهذا يدل على أنه يطلق لفظ العلة على الغاية. أما كون هذه العلة مصلحة، فيمكن أن يقال إن الرحمة مصلحة للعباد ولذلك قصدها الشارع، وليس هذا مراد الشاطبي، وإنما مراده أن رحمة العالمين هي غاية للشارع ولذلك فهي مصلحة. فهذا النص لا يفيد أن ما يعده الإنسان مصلحة جاءت الشريعة لتدل عليه، لأن مدلول النص ان الرسالة رحمة للعباد، بغض النظر عما فيها من أوامر ونواه، فهي مصلحة للعالمين بما فيها من أوامر ونواهٍ كيفما كانت.
دليله الثالث: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } (1).
__________
(1) سورة هود، 7.(1/223)
هذا النص أتى به الشاطبي هنا لأنه ينص على غاية أو نتيجة للخلق وهي { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } وهو يضاف إلى أدلته الأخرى لتحقيق الاستقراء. والمعنى الواحد أو المشترك الذي تتضافر عليه هذه النصوص هو النص على غاية أو نتيجة للفعل. والاستدلال بهذا النص على التعليل دليل على تسمية الشاطبي للغاية أو النتيجة المقصودة علةً. ولو نظرنا إلى ما يسميه الشاطبي علة هنا لأدركنا الفرق بينها وبين علة القياس. فالابتلاء ليس علة قياس. وليس ثمة حكم في هذا النص يحكم به على واقعةٍ ما قياساً بجامع الابتلاء. وكل ما تفيده هذه النصوص التي يستدل بها الشاطبي هو إثبات وجود غايات للأفعال.
أما كون هذه الغاية مصلحة، فلا جدال في أنه من باب إنه لا يصح في حق الله سبحانه وتعالى أن يقال عن أفعاله وأوامره ونواهيه سوى إنها مصلحة وحق وعدل، وليس من باب ما يشعر به العبد إنه مصلحة أو وصف مناسب أو حكمة بنظر العقلاء والحكماء. بل يكاد يكون الأمر على العكس من ذلك، إذ هذا النص يدل على التحكم من الخالق بمخلوقاته. إذ أين هي المصلحة التي يشعر بها الإنسان أو يدركها العقل في أن يخلق الإنسان ليُبتلى، فإما إلى جنةٍ وإما إلى نار؟ والإنسان قبل أن يخلق كيف يعقل أو يدرك القول بأن خلقه وابتلاءه مصلحة له؟ هذا مما لا يدرك فيه وجه للمصلحة، ويثبت بهذا ان الشاطبي يطلق لفظ المصلحة على ما ثبت انه مقصود للشارع ولو لم يكن معقول المعنى.(1/224)
دليله الرابع: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (1). وهذا أيضاً ينطبق عليه ما قيل سابقاً فهو قد ساقه لإثبات الغاية أو النتيجة المقصودة للشارع من الخلق { لِيَعْبُدُونِ } ، ويؤكد أيضاً المذكور أعلاه من مفهوم الشاطبي للفظ المصلحة. ولو كان مراده بهذا اللفظ الوصف أو المعنى المناسب الذي يدركه العقلاء والحكماء لكان هذا النص ناقضاً لمبتغاه. فهذا النص يستدل به من يرد التعليل بالمصالح. وأين هي مصلحة المعدوم في خلقه للتكليف؟ ليس هناك مصلحة معقولة، وهذا يؤكد الوارد أعلاه من مراد الشاطبي بلفظ المصلحة.
دليله الخامس: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } (2) وهذا هو دليله الثالث نفسه. وقد سيق لتكثير الأدلة. ويقال فيه ما قيل في ما سبقه.
دليله السادس: { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } (3) وهذا أيضاً يلاحظ فيه انه استدل به لأنه يتضمن ذكر النتيجة التي يمكن أن تحصل من هذا التكليف { لِيَجْعَلَ } ، { لِيُطَهِّرَكُمْ } ، { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ } . حتى لو أدرك الإنسان المصلحة في النظافة أو التطهير، فإنه لا يستطيع نمطاً من النظافة مكان النمط المشروع. وعدُّ هذه الغايات مصالح يدل على انها عدَّت كذلك لأنها مقصودة للشارع، لا أن الله سبحانه وتعالى شرع ما يدرك العباد إنه مصلحة.
__________
(1) سورة الذاريات، 56.
(2) سورة الملك، 2.
(3) سورة المائدة، 6.(1/225)
دليله السابع: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (1). الشاهد في هذا الدليل هو في { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } . والشاطبي يثبت به أن التكليف هو لأجل غايات معينة وكونها مقصودة للشارع يجعلها مصلحة. وليس في هذا النص معنى مناسب يشار إليه. وإذا قيل إن التقوى مصلحة، فهذا ينقض أصل الفكرة ولا يخدم القول بالتعليل بالمصالح، لأن التقوى هي الطاعة. فهذا النص مثل النص: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } في دلالته على هذا الأمر.
دليله الثامن: { إِن الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } (2) وهنا أيضاً يستدل الشاطبي بالنص لإثبات نتيجة أو مآل للحكم، وان هذا المآل مقصود للشارع، وبذلك فهو مصلحة. وهذا الدليل مثل سابقه.
دليله التاسع: { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ ؤ¨$Y=د9 عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } (3). فالتكليف هو لأجل حصول نتيجة { لِئَلَّا يَكُونَ } ، فتكون النتيجة مقصداً للتكليف. ولا وجه لتسمية هذا المقصد مصلحة إلا لأنه مقصود للشارع.
دليله العاشر: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } (4).
يستدل الشاطبي بهذا النص لإثبات أن الحكم الذي شرعه الله وهو الإذن بالقتال هو لغاية رفع الظلم الذي وقع عليهم، فتكون هذه الغاية مقصودة للشارع بالحكم، وبهذا فالإذن بالقتال له غاية.ومثل هذا دليله التالي.
دليله الحادي عشر: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } (5).
__________
(1) سورة البقرة، 183.
(2) سورة العنكبوت، 45.
(3) سورة البقرة، 150.
(4) سورة الحج، 39.
(5) سورة البقرة، 179.(1/226)
وهو يثبت بهذا الاستدلال أن تشريع القصاص هو لأجل غاية أو نتيجة، وهي رفع القتل العمد العدوان أو الجنايات أو التقليل منها، فتكون هذه النتيجة مقصودة للشارع ويثبت ان أفعال أو أحكام الشارع معللة بغاياتها، وكون الغايات مقصودة للشارع فهي مصالح.
وهذا النص والذي قبله يمكن أن يقال فيهما إن غايتهما مصلحة بحكم الحس والطبع أو بحسب العقلاء، وهذا صحيح، ولكن ليس هذا وجه استدلال الشاطبي، لأنه لا ينسجم مع سائر أدلته، وإنما مقصوده الذي تتضافر سائر استدلالاته عليه هو إثبات وجود غاية للحكم أو الفعل بغض النظر عن كونها معقولة أو غير معقولة. ودليله التالي والأخير يزيد الأمر وضوحاً وتأكيداً.
دليله الثاني عشر: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } (1).
والنص بتمامه: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } (2) الآية. فهذا ما ساقه الشاطبي لإثبات أن للأفعال غايات. والغاية هنا أن يقيم الحجة على بني آدم ويقطع عليهم طريق الإعتذار يوم القيامة. ووجود الغاية للفعل أو للحكم، وثبوت الأمر في أفعال وأحكام كثيرة، يثبت عند الشاطبي أن أفعال الله وأحكامه لها غايات. وإذا ثبت هذا وكان ثمة حكم لا يوجد نص على غايته أو على مقصد الشارع منه، فيجب البحث عن مقصد أو غاية يقصدها الشارع منه.
__________
(1) سورة الأعراف، 172.
(2) سورة الأعراف، 172.(1/227)
هذا هو قصارى قصد الشاطبي من هذه الاستدلالات. وفي هذا النص الأخير لا نلمس مصلحة معقولة، فالشاطبي استدل بهذا النص الأخير وعده دليلاً على التعليل بالمصلحة. والمصلحة هي كي لا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. والفعل المعلل هو إشهاد الله للناس على أنفسهم بعد أخذهم من ظهور بني آدم. والإنسان لا يملك إزاء هذا النص إلا أن يقرره ويؤمن به وبما فيه. وهو وإن كان يستطيع أن يعقل وجوب هذا الإقرار إلا انه لا يستطيع أن يفهم بما أوتى من قدرة عقلية كيفية ترتب إقامة هذه الحجة على هذا الإشهاد. وأين هي مصلحة العباد بانقطاع حجتهم؟ وبناء على شهادتهم على أنفسهم شهادة لا حول لهم فيها ولا قوة؟ وعلى ذلك فهذه الآية لا تدل على مصلحة للعباد لا من قريب ولا من بعيد. وليس فيها شاهد في هذا الموضع إلا على أن فعل الله سبحانه وتعالى له غاية أو نتيجة مقصودة. وهذا الفعل لله غايته اوالمقصود منه قطع حجة العباد يوم القيامة.
وبما أن الشاطبي سماها علة وسماها مصلحة. فهذا يعني أنه يسمي مقاصد الشارع عللاً ومصالح. وبناءً على ما سبق فإن الذين يستدلون ببعض نصوص الشاطبي، ويعتمدون على أقواله قاصدين بها غير ما قصد ويقررون الأحكام بناء على المصالح والأغراض والحظوظ الدنيوية مستدلين باسم كتابه أو بمنهجه - حسب زعمهم - هؤلاء لم يكلفوا أنفسهم عناء النظر والتفكير اليسير باستدلالاته.
ولو كان مراد الشاطبي بالتعليل بالمصالح، ما كان مصلحة بحسب الحس والطبع أو العقل والنظر، لكان منهجه ساقطاً من أوله، لأن هذه الاستدلالات التي اتى به لا تحتمل هذه الدلالة، بل أكثرها ينقضها.(1/228)
أحد المهتمين بموضوع مقاصد الشريعة الإسلامية، والقائلين بان المقاصد هي المصالح ـ بهذا المعنى المخالف لما عند الشاطبي ـ وهو الشيخ محمد الطاهر بن عاشور يقول: "واستقراء أدلة كثيرة من القرآن والسنة الصحيحة يوجب لنا اليقين بان أحكام الشريعة الإسلامية منوطة بحكم وعلل راجعة للصلاح العام للمجتمع والأفراد"(1).
هذا الشيخ - رحمه الله - لم يتنبَّه لمراد الشاطبي بالمصلحة، ولكنه تنبه لمعاني هذه الأدلة، ولذلك ذهب إلى عدم صلاحيتها في هذا الاستدلال. قال: "وقد ذكر أبو اسحق الشاطبي في مقدمة كتاب المقاصد من كتابه عنوان التعريف(2) أدلةً الصالحُ منها عقب آية الوضوء: { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } وقوله تعالى: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } "(3).
إذن، هو اعتبر اثنين فقط من أدلة الشاطبي وردَّ عشرةً رآها لا تصلح للاستدلال، ولو صح ما قاله الشيخ لكان إبطالاً لما زعمه الشاطبي من تحصيل الاستقراء في هذه القضية ولهدم منهجه من أوله. والصواب ليس رد استدلالات الشاطبي من هذه الجهة(4)، وإنما فهم مراده بكلمة مصلحة بالمعنى الذي أوردناه. والله أعلم.
وفيما يلي بعض النصوص الصريحة في بيان مراده بالمصلحة والمفسدة.
بعض النصوص في مراد الشاطبي بالمصلحة والمفسدة:
__________
(1) محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية. ص:14، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، ط 3، ديسمبر 1988.
(2) وهو كتاب الموافقات، وقد أشار الشاطبي في خطبة الكتاب إلى تسميته بـ(عنوان التعريف بأسرار التكليف).
(3) محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية. ص:16.
(4) قد يصح رد استدلالاته من جهة أخرى وهي زعم تحصيل الاستقراء المفيد للقطع، وزعم أن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة.(1/229)
يقول: "إن وضع الشريعة إذا سُلِّم أنها لمصالح العباد فهي عائدة عليهم بحسب أمر الشارع وعلى الحد الذي حدّه لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم، لذلك كانت التكاليف الشرعية ثقيلة على النفوس، والحس والعادة والتجربة شاهدة بذلك. فالأوامر والنواهي مخرجة له عن دواعي طبعه واسترسال أغراضه حتى ياخذها من تحت الحد المشروع... أما أن مصالح التكليف عائدة على المكلف في العاجل والآجل فصحيح ولا يلزم من ذلك ان يكون نيله لها خارجاً عن حدود الشرع ولا ان يكون متناولاً لها بنفسه دون ان يناولها إياه الشرع وهو ظاهر"(1). ويقول: "طلب الحظوظ والأغراض لا ينافي وضع الشريعة من هذه الجهة لأن الشريعة موضوعة أيضاً لمصالح العباد فإذا جعل الحظ تابعاً فلا ضرر على العامل إلا أن هنا شرطاً معتبراً وهو أن يكون ذلك الوجه الذي حصل أو يحصل به غرضه مما يتبيَّن أن الشارع شرعه لتحصيل مثل ذلك وإلا فليس السابق فيه أمر الشارع"(2).
ويقول: "إن الأفعال والتروك من حيث هي أفعال أو تروك متماثلة عقلاً بالنسبة إلى ما يقصد بها إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح، فإذا جاء الشارع بتعيين أحد المتماثلين للمصلحة وتعيين الآخر للمفسدة فقد بين الوجه الذي تحصل منه المصلحة فأمر به أو أذن فيه، وبيَّن الوجه الذي به تحصل المفسدة فنهى عنه رحمةً بالعباد. فإذا قصد المكلف عين ما قصد الشارع بالإذن فقد قصد وجه المصلحة على أتم وجوهه فهو جدير بأن تحصل له، وإن قصد غير ما قصده الشارع وذلك يكون في الغالب لتوهم أن المصلحة فيما قصد لأن العاقل لا يقصد وجه المفسدة كفاحاً، فقد جعل ما قصد الشارع مهمل الاعتبار، وما أهمل الشارع مقصوداً معتبراً، وذلك مضادة للشريعة ظاهرة"(3).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/117.
(2) المصدر نفسه، 2/119.
(3) الشاطبي، الموافقات، 2/231.(1/230)
ويقول: "إن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم والمفسدة مفسدة كذلك مما يختص بالشارع لا مجال للعقل فيه بناء على قاعدة نفي التحسين والتقبيح. فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما فهو الواضع لها مصلحةً، وإلا فكان يمكن عقلاً أن لا تكون كذلك، إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح، فإذاً كون المصلحة مصلحة هو من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس. فالمصالح من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات وما انبنى على التعبديات لا يكون إلا تعبدياً"(1).
وقد يقال: يلاحظ في كثير من الأحكام مراعاة الشريعة لمصالح العباد بمعنى ما يميلون إليه بحسب الحس والطبع والعادة، أو أن لكثير من الأحكام غايات تتفق مع أغراض العباد ومقاصدهم. وجواب الشاطبي هنا هو أن المصلحة هي ما طلبه الشارع أو ما كان مقصوداً له، فإذا اتفق ذلك مع المصالح الدنيوية للعباد فبالعرض لا بالأصل. وذلك منَّةٌ من الله سبحانه وتعالى ليكون أدعى إلى الطاعة والتعبد. يقول: "لا تخلو أحكام الشرع من الخمسة، أمَّا الوجوب والتحريم فظاهرٌ مصادمتهما لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار، إذ يقال: افعل كذا كان لك فيه غرض أم لا. ولا تفعل كذا كان لك فيه غرض أم لا. فإن اتفق للمكلف فيه غرضٌ موافقٌ وهوىً باعثٌ على مقتضى الأمر أو النهي فبالعرض لا بالأصل. وأما سائر الأقسام وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرة المكلف فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره، فهي راجعة إلى إخراجها عن اختياره"(2).
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 219.
(2) المصدر نفسه، 2/ 216.(1/231)
وقال: "ولو شاء الله لكلف بها مع الإعراض عن الحظوظ أو لكلف بها مع سلب الدواعي المجبول عليها لكنه امتن على عباده بما جعله وسيلة إلى ما أراده من عمارة الدنيا للآخرة، وجعل الاكتساب لهذه الحظوظ مباحاً لا ممنوعاً لكن على قوانين شرعية هي أبلغ في المصلحة وأجرى على الدوام مما يعده العبد مصلحة { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (1)، ولو شاء لمنعنا في الاكتساب الاخروي القصد إلى الحظوظ فإنه المالك وله الحجة البالغة ولكنه رغبنا في القيام بحقوقه الواجبة علينا بوعد حظي لنا وعجل لنا من ذلك حظوظاً كثيرة نتمتع بها في طريق ما كلفنا به"(2).
وعلى ذلك فإن مفهوم الشاطبي للمصالح والمفاسد هو أن الأحكام الشرعية إنما شرعت لأجل غايات معينة، فالفعل المطلوب شرعاً له غاية أو غايات مطلوبة، والفعل المنهي عنه يكون له نتائج مطلوب عدم وجودها، وغايات الأحكام هذه هي مقاصد للشارع، وبما أنها مقاصد للشارع، فالمطلوب منها يسمى مصلحة، والمقصود عدم وقوعه يسمى مفسدة، مناسباً كان ذلك أم غير مناسب.
هذا، ومن الألفاظ التي ينبغي التنبه إلى معانيها عند الشاطبي، ألفاظ الجزئي والفرع، ومعنى الرجوع إلى القطعي، وذلك لاختلاف معانيها عنده عما قد يتبادر إلى ذهن القارئ. وقد تبيّنت معاني هذه الألفاظ عنده في المبحث الأول من هذا الفصل.
الفصل الرابع
قصد الشارع
في وضع الشريعة ابتداءً
وفي وضعها للإفهام
... ويحتوي على تمهيد وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: ... قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءً.
المبحث الثاني: ... عصمة الشريعة.
المبحث الثالث:قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام.
الفصل الرابع
قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءً
وفي وضعها للإفهام
تمهيد:
__________
(1) سورة البقرة، 216.
(2) الشاطبي، الموافقات. 2/123.(1/232)
بناءً على ما جاء في الفصل السابق من ضوابط يضعها الشاطبي للعلل أو المقاصد، فإنه يقرر أمراً جديداً ويعده توفيقاً بين المختلفين في مسألة تعليل الأحكام بالأوصاف المناسبة أو المعاني الحكمية أو غيرها مما عده البعض مسالك للتعليل.
فعلى سبيل المثال: الخلاف في مسألة تعليل تحريم الخمر بالإسكار، حيث قال المعللون إن الإسكار علة وإن لم يكن ذلك منصوصاً أو مفهوماً من الخطاب، بناءً على أصل التعليل وعلى كون الوصف مناسباً، وحيث قال الرادون لهذا التعليل بأنه لم تدل عليه الشريعة ولا يفهم من الخطاب وإنما هو مما يميل إليه المعلل ويقع في قلبه خيال صحته فهو من هوسات العقل وليس من دلالات الشريعة. جاء الشاطبي بمنهجه أو ضوابطه للعلل ليقول إن هذا التعليل أو هذا الوصف من حيث هو، لا يدل عليه الخطاب الشرعي، ولذلك فالتعليل به هو من قبيل التحسين والتقبيح. إلا أنه لما ثبت أن التشريع إنما كان لأجل غايات أو علل أو مقاصد أو حكم، فقد ثبت أنه يصح للمجتهد أن يبحث عن حكمة تحريم الخمر. وباشتراط الشاطبي للقطع بالعلة أو المقصد أو بكونها راجعة إلى قطعي، فإن العلة التي يقررها المجتهد لا يُكتفى فيها بأن تكون وصفاً مناسباً، ولا يشترط لها ذلك أصلاً، وإنما يشترط لها أن تكون مقطوعاً بها عن طريق الاستقراء أو راجعة إلى أصل أو معنى مقطوع به بذلك الطريق. وعلى ذلك فإن ادعاء علِّيَّة الإسكار، إن لم يكن هذا المعنى قطعياً فلا قيمة له في الشرع، ولكن لما كان حفظ العقل معنى ثبت قصد الشارع إلى حصوله ثبوتاً قطعياً وقد صار أصلاً راسخاً معتمداً في الدين، ولما كان التعليل بالإسكار يرجع في معناه إلى هذا الأصل القطعي - وهو حفظ العقل - لذلك فإن التعليل بالإسكار يصح.(1/233)
وبهذا يتبين أنه يوافق الأحناف مثلاً في أن مجرد وجود المعنى في حكم أو في بعض الأحكام لا يفيد في التعليل، ويوافق الشافعية في صحة التعليل أو البحث عن المعاني المقصودة للشارع، ويخالف الأحناف في ردهم لهذا التعليل، ويخالف الشافعية في الاكتفاء بكون المعنى مظنة أن يكون مقصوداً للشارع والاكتفاء ببضعة شواهد باعتبار المعنى كما في الملائم أو بشاهد واحد كما في الغريب أو بمجرد وجوده في الحكم كما في المرسل، وقد بينا هذا الأمر بالتفصيل في الفصل الأول.
بهذه الضوابط يدخل الشاطبي إلى بحث المقاصد، وقد شرح هذه الضوابط في الجزء الأول من كتابه وجعلها في قسمين: الأول هو المقدمات التي عدها لازمة لفهم كتابه، والثاني هو كتاب الأحكام. أما المقاصد فقد جعلها القسم الثالث من كتابه واستغرقت الجزء الثاني منه. أما الجزءان الثالث والرابع، وهما تمام كتابه الموافقات فقد ضمنهما القسمين الرابع والخامس وهما تطبيق لفكرته في المقاصد، أو ولمنهجه في تقرير الأصول على علوم القرآن والسنة.
إن فكرة مقاصد الشريعة وتقسيمها إلى ثلاث مراتب ضرورية وحاجية وتحسينية، وإلحاق تتمات لكل مرتبة هو ليس من جديد الشاطبي، فقد ظهر هذا أول ما ظهر على يد إمام الحرمين الجويني والله أعلم، وتابع في هذا الأمر علماء كثيرون بعده، وإنما جديد الشاطبي في هذا الأمر هو اشتراطه القطع ليكون المقصد شرعياً، واشتراطه الاستقراء سبيلاً لذلك، ومفهومه للمصالح والمفاسد، ثم إن بحثه في المقاصد يتميز بتفصيل وترتيب وتقسيم لا وجود له عند سابقيه.
فالمقاصد عنده قسمان: مقاصد الشارع ومقاصد المكلَّف. ومقاصد الشارع أربعة أنواع: الأول: قصده في وضع الشريعة ابتداءً، وهذا النوع هو الذي أشار إليه الأصوليون قبله، وفيه يقع تقسيم المقاصد إلى ضرورية وحاجية وتحسينية.(1/234)
الثاني: قصده في وضع الشريعة للإفهام. الثالث: قصده في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها، والرابع: قصده في امتثال المكلف وخضوعه لحكمها. يقول الشاطبي: "المقاصد التي يُنظر فيها قسمان: أحدها: يرجع إلى قصد الشارع، والآخر: يرجع إلى قصد المكلف. فالأول يعتبر من جهة قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءً. ومن جهة قصده في وضعها للإفهام. ومن جهة قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها. ومن جهة قصده في دخول المكلف تحت حكمها، فهذه أربعة أنواع"(1).
وموضوع هذا الفصل هو النوعان الأول والثاني. أما النوعان الثالث والرابع فهما موضوع الفصل الذي يليه - إن شاء الله -.
المبحث الأول
قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءً
معنى هذا النوع:
وضع الشريعة ابتداءً هو التكليف بها، أي الأوامر والنواهي وهذا النوع هو مقاصد الشارع من التكاليف، بحيث تكون التكاليف هي الأسباب لمسبباتها التي هي مقاصد الشارع بها، فيصح أن يطلق على هذا النوع اسم مقاصد الشريعة.
المقاصد ثلاثة أقسام:
وهذه المقاصد تفهم من الخطاب الشرعي، ومن التكاليف الشرعية. يقول الشاطبي: "تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو أن تكون ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون ضرورية، والثاني: أن تكون حاجية، والثالث أن تكون تحسينية"(2) ثم يعرِّف حدود كلٍ من هذه الأقسام الثلاثة، ويبين أن قصد الشارع إلى حفظها ظاهر في كل تكاليف الشريعة فتكاليف الشريعة هي أحكام العبادات والعادات والمعاملات والجنايات. وهذه الأربعة يظهر فيها قصد الشارع إلى حفظ الضروريات الحاجيات والتحسينات.
التعريف بهذه الأقسام الثلاثة:
__________
(1) الموافقات: 2/2.
(2) الشاطبي، الموافقات: 2/3 - 4.(1/235)
قال: "فأما الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجرِ مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين"(1) وبهذا الوصف تتحدد الضروريات بأعيانها. يقول: "ومجموع الضروريات خمسة وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل وقد قالوا إنها مراعاة في كل ملة"(2) وقال: "وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تُراعَ دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة". والمصالح العامة أي الضروريات، وبناءً على هذا التعريف يكون عدم التكليف بما لا يطاق، ورفع الحرج من الأصول أو القواعد الحاجية.
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) المصدر نفسه، 2/4.(1/236)
وقال: "وأما التحسينات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق"(1). وقال فيها: "ليس فقدانها بمخل بأمر ضروري ولا حاجي، وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين"(2) ولزيادة البيان لحدود كل من هذه المراتب يقول: "فإن الحاجيات دائرة على الضروريات وكذلك التحسينات"(3). ويقول: "ومن تشوف إلى مزيد فإن دوران الحاجيات على التوسعة والتيسير ورفع الحرج والرفق. فبالنسبة إلى الدين يظهر في مواضع شرعية الرخص في الطهارة كالتيمم، ورفع حكم النجاسة فيما إذا عسر إزالتها، وفي الصلاة بالقصر ورفع القضاء بالإغماء، والصلاة قاعداً وعلى جنب، وفي الصوم بالفطر في السفر والمرض"(4). ويقول: "وقسم التحسينيات جارٍ أيضاً كجريان الحاجيات فإنها راجعة إلى العمل بمكارم الأخلاق وما يحسن في مجاري العادات كالطهارات بالنسبة إلى الصلوات على رأي من رأى أنها من هذا القسم(5)، وأخذ الزينة من اللباس ومحاسن الهيئات والطيب وما أشبه ذلك، وانتخاب الأطيب والأعلى في الزكوات والإنفاقات وآداب الرفق في الصيام، وبالنسبة إلى النفوس كالرفق والإحسان وآداب الأكل والشرب ونحو ذلك وبالنسبة إلى النسل كالإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان"(6). وفي كتابه مزيد أمثلة لمن أراد الاستيضاح أكثر(7).
جريان هذه المقاصد في كل تكاليف الشريعة:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/5.
(2) الموضع نفسه.
(3) المصدر نفسه، 4/16.
(4) المصدر نفسه، 4/17.
(5) الطهارة تتردد بين أن تكون من التحسينيات، أو من المكملات لأصل حفظ الدين من الضروريات، وهو الأولى على منهجه. إلا إذا كانت بمعنى النظافة ورفع النجاسات وما ينفر منه الطبع، فطلب الشرع له يجعله من التحسينيات على منهجه.
(6) الشاطبي، الموافقات، 4/17.
(7) المصدر نفسه، 4/18، 2/5.(1/237)
أما بالنسبة للضروريات فيقول: "فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود كالإيمان والنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبه ذلك. والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضاً كتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات وما أشبه ذلك. والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود... والجنايات ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ترجع إلى حفظ الجميع من جانب العدم"(1).
وبالنسبة للحاجيات يقول: "وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات ففي العبادات كالرخص المخففة بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض والسفر(2) وفي العادات كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال مأكلاً ومشرباً وملبساً ومسكناً ومركباً وما أشبه ذلك. وفي المعاملات كالقراض والمساقاة والسلم... وفي الجنايات كالحكم باللوث والتدمية والقسامة وضرب الدية على العاقلة وتضمين الصنَّاع وما أشبه ذلك"(3).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/4.
(2) تبيّن في الفصل السابق أن الرخص جزئية ولا ترجع إلى أصول كلية، وها هو هنا يأتي بها مثالاً على الحاجيات وهي مقاصد كلية. وبيان ذلك أن الرخص الشرعية منها ما لا يلاحظ فيه وجود المشقة أو الحرج، كسفر من لا تلحقه المشقة. ومنها ما تظهر فيه المشقة، فما تظهر فيه المشقة المعنتة يلحق بالحاجيات ليس بسبب وجود الرخص الشرعية، وإنما لأن عدم التكليف بالمشقات المعنته سواء كان فيها رخصة أو لم يكن، هو من الأصول الحاجية عند الشاطبي. ولذلك لم يقل "كالرخص المخففة" وإنما قيدها بقوله: "بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض أو السفر".
(3) الشاطبي، الموافقات، 2/5.(1/238)
وبالنسبة للتحسينات يقول: "وهي جارية فيما جرت فيه الأوليان"(1) أي الضروريات والحاجيات. "ففي العبادات كإزالة النجاسة، وبالجملة الطهارات كلها وستر العورة وأخذ الزينة والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات والقربات وأشباه ذلك، وفي العادات كآداب الأكل والشرب ومجانبة المآكل النجسات والمشارب المستخبثات والإسراف والإقتار في المتناولات، وفي المعاملات كالمنع من بيع النجاسات وفضل الماء والكلأ وسلب العبد منصب الشهادة والإمامة، وسلب المرأة منصب الإمامة وإنكاح نفسها... وفي الجنايات كمنع قتل الحر بالعبد أو قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد"(2).
مكملات أو تتمات المقاصد:
وكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة ينضم إليه ما هو كالتتمة أو التكملة. ومعنى ذلك أنه لو فُقد لم يخل بالمقصد أو بالأصل، فالقصاص مثلاً في حفظ النفس من الضروريات والتماثل فيه تكميلي. وحرمة الخمر في حفظ العقل من الضروريات، وتحريم القليل منه الذي لا يسكر تكميلي. والبيع مثلاً من الضروريات الراجعة إلى حفظ المال والإشهاد والرهن فيه تكميليان. والطهارة مثلاً من التحسينيات، ومندوبات الطهارة تكميلية. والقصر في السفر الذي فيه مشقة من الحاجيات والجمع بين الصلاتين فيه تكميلي(3).
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) الشاطبي، الموافقات، 2/5. ويتبين من الأمثلة التي أتى بها الشاطبي على الأقسام الثلاثة أن منها ما قد تميل إليه الطباع والفطر السليمة، أو على حد تعبيره عند تعريفه بالتحسينيات "العقول الراجحات" مما قد يوهم القارئ بأن هذه المقاصد أو المصالح هي كذلك بحسب العقلاء والحكماء، وليس الأمر كذلك حسبما تبيّن مفهومه للمصالح والمفاسد. ولكن وقوع المقاصد أحياناً بحسب ما تتطلبه الخصائص الإنسانية وتتطلع إليه الفطر والطباع السليمة أو على حد تعبيره "العقول الراجحات" فذلك يقع بالعرض تفضلاً من الله ليكون أدعى إلى الطاعات.
(3) أنظر: المصدر نفسه، 2/5 - 6.(1/239)
والتكملة من حيث هي تكملة لأصل ضروري أو حاجي أو تحسيني فلاعتبارها شرط وهو أن لا تعود على الأصل بالإبطال، ففي إبطال الأصل إبطال التكملة، ويضرب الشاطبي أمثلة على ذلك منها الجهاد، وهو من الضروريات في أصل حفظ الدين، يقول: "فالجهاد ضروري والوالي فيه ضروري، والعدالة فيه مكملة للضرورة. والمكمل إذا عاد للأصل بالإبطال لم يعتبر، ولذلك جاء الأمر بالجهاد مع ولاة الجور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك ما جاء من الأمر بالصلاة خلف الولاة السوء فإن في ترك ذلك ترك سنة الجماعة، والجماعة من شعائر الدين المطلوبة، والعدالة مكملة لذلك المطلوب، ولا يبطل الأصل بالتكملة"(1).
وببطلان الأصل تبطل التكملة، بينما ببطلان التكملة لا يبطل الأصل وإن كان قد يختل بوجه ما. ويعد الشاطبي التحسينيات كالتكملة للحاجيات، وكلتاهما كالتكملة للضروريات. وعلى ذلك فالشريعة مبنية على المحافظة على الضروريات. يقول: "إن مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة على الأمور الخمسة... فلو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى، ولو عدم المكلف لعدم من يتدين، ولو عدم العقل لارتفع التدين، ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء، ولو عدم المال لم يبقَ عيش"(2) أي أن انعدام الضروريات يؤدي إلى انعدام الحاجيات والتحسينيات. والضروريات مع غيرها كالموصوف مع الصفة لا بقاء لها بغيره، وهو يبقى بغيرها.
تفاوت مراتب المقاصد:
__________
(1) المصدر نفسه، 2/7.
(2) الشاطبي، الموافقات، 2/7 - 8.(1/240)
أي كيف يعرف المقصد إن كان من مرتبة الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات؟ ولقد بينا فيما مضى حدود كل مرتبة وأمثلة عليها، ومع ذلك، فللقارئ أن يتساءل ما الذي جعل الحج أو الصلاة أو الجهاد من الضروريات فهل هي مما إذا لم يُراعَ تفسد الحياة ويحصل التهارج وتفوت الحياة؟ وها هي مجتمعات كبيرة في العالم لا تراعي هذه الأمور ولم يحصل هذا الذي يخشى منه. وها هي دول ومجتمعات تبيح الزنا والربا وشرب الخمور مع أن منعها من الضروريات في حفظ النسل والمال والعقل. وما الذي جعل مثلاً تحريم الخنزير والميتة من التحسينيات، أو بعض الحيوانات نجساً أو الخمر نجساً، وتجنب النجاسات من التحسينيات، ومع ذلك فمن الناس من يأكل الخنزير والميتة، ويعيش في مكان وأحد مع الكلاب، ويعاقر الخمر ويتطيب بالكحول وهي خمر، ولا يجد أن ذلك مما تأنفه العقول الراجحة أو تنفر منه النفوس.
وكذلك كيف يكون الصيام من الضروريات، ورفع التكليف بالمشقات أو بما ليس في الوسع من الحاجيات، لماذا لا يكون الأمر معكوساً؟
إن جواب الشاطبي على هذا الأمر هو أنه شرعي لا عقلي، فكما أن المقصد لا يكون كذلك إلا إذا دل الشرع عليه بالاستقراء المفيد للقطع، فإن مرتبة المقصد هي أيضاً بدلالة الشرع، وسيتبيّن هذا بنصوص من عنده. إلا أنه ثمة رؤية خاطئة في النظر إلى هذه المقاصد، وهي رؤية تقوم على تعيين المقاصد أو المصالح بناءً على المفاهيم السائدة في المجتمع، أو بناءً على المفاهيم التي يحملها أهل النظر، أو المعرفة والخبرة، أو القرار في المجتمع وقد تكون هذه المفاهيم متأثرة بالأحكام الشرعية وقد لا تكون، وبهذا الاعتبار تكون هذه المقاصدُ مصالح وتعد شرعية، فيبنى التشريع عليها، ويعدُ المؤدي إليها والخادم لها شرعياً، والهادم لها مفسدةً وممنوعاً أو حراماً. وقد نقض الشاطبي هذا الفهم مراراً وتكراراً في موافقاته، ومع ذلك فهناك من يقول به وينسبه إلى الشرع وإلى الشاطبي.(1/241)
ومثل هذا التقسيم للمقاصد يتأتى من جهتين:
الأولى: المشاهد المحسوس في الإنسان أنه يحتاج، وتتعدد حاجاته في الحياة، وتتفاوت في درجة الاحتياج إليها، فمنها ما لا غناء للإنسان عنه وفقده يؤدي إلى الموت، ومنها ما لا غناء له أو للجماعة عنه وفقده يؤدي إلى التهارج والتقاتل، ومنها ما يؤدي إلى الاضطراب والضنك، ومنها ما هو دون ذلك، وهكذا. فكان طبيعياً لدى الإنسان عندما يشرع، أو عندما يحاول أن يفهم فلسفة التشريع، أي تشريع، أن يلحظ ما يدركه من هذه الحاجات ودرجة الاحتياج إليها. وأن يضع تشريعاته حسب ما يراه محققاً للنتائج الأفضل حسب مفاهيمه، وكان طبيعياً أن يدخل في حساباته مفاضلاته بين المصالح فيما بينها والمفاسد فيما بينها حسب مفاهيمه وعلى ذلك فقد يعد الإنسان بعض الحاجات ضرورية وغيرها كمالية، وأخرى ما بين ذلك. وذلك كله بناءً على ما يدركه ويجده في نفسه. ويختلف الناس في ذلك باختلاف مفاهيمهم، فقد يرى البعض حرية العقيدة وحرية الرأي والحق بتبديل الدين حقاً من حقوق الإنسان وحاجة ضرورية، وعلى ذلك فحق الردة ضرورة، وقد يرى غيرهم أن هذا من أعظم المفاسد وأن الضرورة هي قتل المرتد بعد استتابته إن لم يرجع وهي من ضرورات حفظ الدين. وقد يرى البعض أن الزنا مفسدة تنقض أصل حفظ النسل من الضروريات، ويراها غيرهم حرية شخصية ومصلحة. ويرى البعض الربا حاجة للمجتمع وللمعاملات، بمرتبة الضروريات، ويراها غيرهم بمرتبة الحاجيات، ويراها غيرهم من أعظم المفاسد.(1/242)
وتعيين الإنسان للمصالح والمفاسد والمفاضلة بينها يرجع إلى أمرين: أحدهما خصائصه وفطرته كإنسان التي تجعله يقصد الحصول على الطعام والشراب والسكن والمال، والفخر والثناء والأمن والرخاء، وتجعله يقصد المحافظة على حياته وإشباع رغباته، والمحافظة على أبنائه وأسرته و...، فيشعر بأن هذه الأشياء مصالح أو خير، وفقدها مفاسد أو شر، والثاني: ما يتكون لدى الإنسان من مفاهيم سواء نتيجة الفكر والاقتناع كمن يقتنع أن القمار أو الغش حرام فيكون مفسدة بنظره مع أن التملك مصلحة في النفس، أو أن الزنا حرام فيحكم عليه بأنه مفسدة، أو كمن لا يؤمن بالإسلام أو بالبعث والحساب فيرى القمار أو الربا أو الزنا مصلحة. أو ليس نتيجة الفكر والاقتناع وإنما نتيجة التربية والنشأة كمن يعيش بين المسلمين فينشأ لديه المحافظة على العرض واستقباح الزنا، واشمئزاز النفس من الخنزير أو الميتة... أو كمن يعيش بين الكفار فينشأ لديه تقديس الصنم والشعور بأن هدمه مفسدة أو لا يشمئز من تقبيل الكلاب أو لا يستقبح الزنا...
بناءً على هذا تتباين نظرة الناس إلى المصالح والمفاسد، ويتناقضون ويختلفون في المفاضلات.
والجهة الثانية التي يتأتى منها تقسيم المقاصد وتعيين مراتبها ما يدركه من اهتدى إلى الإسلام وأدرك أنه عبد لله، وأن الإسلام شريعة الله للناس كافةً، وأنه لا حكم إلا لله، وأنه ما كان لمؤمن ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، وأن كل تشريع من عند غير الله فهو طاغوت، فانطلق يفهم عن الله مقاصده في التشريع، فجعل يحسِّن ما جعلته الشريعة حسناً، ويقبِّح ما جعلته قبيحاً، ويكبِّر ما دلت الشريعة على أنه كبير ويصغر ما دلت على أنه صغير، وهكذا. فيصبح الحكم على ما هو مصلحة وما هو مفسدة راجعاً إلى الشرع، فيتعين ما هو مصلحة وما هو مفسدة ويتعين ما هو معروف وما هو منكر وما هو حسن وما هو قبيح وما هو خير وما هو شر.(1/243)
وكذلك الأمر بالنسبة لمراتب المقاصد، فالضروريات هي ما طلبه الشارع وكرر طلبه أو شدد في ذلك إلى درجة معينة، والحاجيات هي ما طلبه الشارع وأكَّد عليه إلى درجة معينة دون الأولى، وكذلك فيما طلبه الشارع طلباً جعله في مرتبة دون ذلك سميت التحسينات.
من هذه الجهة، الثانية، جاء تقسيم الشاطبي للمقاصد إلى ثلاثة أقسام ضرورية وحاجية وتحسينية. وهذه بضعة نصوص له واضحة وقاطعة في بيان منهجه في هذا الأمر لبيان مرتبة المقصد في هذه الأقسام أو مرتبته ضمن القسم الواحد.
يقول: "فلقد كنا قبل شروق هذا النور(1)، نخبط خبط العشواء، وتجري عقولنا في اقتناص مصالحنا على غير السواء، لضعفها عن حمل هذه الأعباء، ومشاركة عاجلات الأهواء... فنضع السموم على الأدواء موضع الدواء(2)... ونستنتج القياس العقيم، ونطلب آثار الصحة من الجسم السقيم، ونمشي إكباباً على الوجوه ونظن أنا نمشي على الصراط المستقيم، حتى ظهر محض الإجبار في عين الأقدار وارتفعت حقيقة أيدي الاضطرار إلى الواحد القهار" (3).
__________
(1) هذا النور أي الإسلام.
(2) أي نعد المصلحة مفسدة والمفسدة مصلحةً.
(3) الشاطبي، الموافقات، 1/2. أي جاء الإسلام وعين المصالح والمفاسد، وظهرت حقيقة العجز عند البشر وحاجتهم لمن يعين لهم ذلك وأنه الله وحده.(1/244)
ويقول: "إن تلك المراتب الثلاث يخدم بعضها بعضاً، ويخصص بعضها بعضاً، فإذا كان كذلك فلا بد من اعتبار الكل في مواردها وبحسب أحوالها، وأيضاً فقد يعتبر الشارع من ذلك ما لا تدركه العقول إلا بالنص عليه وهو أكثر ما دلت عليه الشريعة في الجزئيات لأن العقلاء في الفترات قد كانوا يحافظون على تلك الأشياء بمقتضى أنظار عقولهم، لكن على وجه لم يهتدوا به إلى العدل في الخلق والمناصفة بينهم، بل كان مع ذلك الهرج واقعاً والمصلحة تفوت مصلحةً أخرى وتهدم قاعدةً أخرى أو قواعد فجاء الشارع باعتبار المصلحة والنصفة المطلقة في كل حين، وبيَّن من المصالح ما يَطَّرِد، وما يعارضه وجه آخر من المصلحة"(1).
ومعنى هذا النص أنه في زمان الفترة حيث تندرس أحكام الشريعة ولا يبقى إلا الكليات أو بعضها، يسعى العقلاء للمحافظة على هذا الباقي بوضع أحكام أو جزئيات من عندهم يرونها ـ بأنظار عقولهم ـ محققة للمحافظة على تلك الكليات، ولكنهم كانوا إذا حفظوا مصلحة هدموا غيرها، أي أنهم كانوا يرون المفاسد مصالح حتى جاء الشرع وبين ما يعد من المصالح وما لا يعد كذلك.
__________
(1) المصدر نفسه، 3/15.(1/245)
وقال: "المفهوم من وضع الشارع أن الطاعة أو المعصية تعظم بحسب عظم المصلحة أو المفسدة الناشئة عنها وقد عُلم من الشريعة جريان الأمور الضرورية الخمسة المعتبرة في كل ملة، وإن أعظم المفاسد ما يكر بالإخلال عليها، والدليل على ذلك ما جاء من الوعيد على الإخلال بها كما في الكفر وقتل النفس وما يرجع إليه، والزنى والسرقة وشرب الخمر، وما يرجع إلى ذلك مما وضع له حد أو وعيد، بخلاف ما كان راجعاً إلى حاجي أو تكميلي فإنه لم يختص بوعيد في نفسه ولا بحد معلوم يخصه، فإن كان كذلك فهو راجع إلى أمر ضروري والاستقراء يبين ذلك"(1) وهكذا فالضروريات هي ما اختصته الشريعة بوعيد أو حد معلوم لحفظه من جانب العدم وقال: "إن كل واحدة من هذه المراتب لما كانت مختلفةً في تأكد الاعتبار فالضروريات آكدها تليها الحاجيات والتحسينيات"(2).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/9.
(2) المصدر نفسه، 2/12 - 13.(1/246)
وقال: "إن الأوامر في الشريعة لا تجري في التأكيد مجرى واحداً وإنها لا تدخل تحت قصد واحد، فإن الأوامر المتعلقة بالأمور الضرورية ليست كالأوامر المتعلقة بالأمور الحاجية ولا التحسينية، ولا الأمور المكملة للضروريات كالضروريات أنفسها، بل بينهما تفاوت معلوم، بل الأمور الضرورية ليست في الطلب على وزان واحد، كالطلب المتعلق بأصل الدين ليس في التأكيد كالنفس ولا النفس كالعقل إلى سائر أصناف الضروريات(1) والحاجيات كذلك... وكذلك التحسينيات حرفاً بحرف... فالضابط في ذلك أن ينظر في كل أمر هل هو مطلوب فيها بالقصد الأول أم بالقصد الثاني، فإن كان مطلوباً بالقصد الأول فهو في أعلى المراتب في ذلك النوع(2)، وإن كان من المطلوب بالقصد الثاني(3) نظر هل يصح إقامة الضروري في الوجود بدونه حتى يطلق على العمل اسم ذلك الضروري أم لا. فإن لم يصح فذلك المطلوب قائم مقام الركن والجزء المقام لأصل الضروري وإن صح أن يطلق عليه الاسم بدونه فذلك المطلوب ليس بركن ولكنه مكمل ومتمم، إما من الحاجيات وإما من التحسينات فينظر في مراتبه على الترتيب المذكور أو نحوه بحسب ما يؤدي إليه الاستقراء في الشرع في كل جزء منها"(4).
__________
(1) وهذا يعني أن ترتيب الضروريات هو كالتالي من الأعلى إلى الأدنى: الدين فالنفس فالعقل فالنسل فالمال.
(2) أي من الأنواع الضرورية الخمسة.
(3) سبق بيان معنى المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة في الفصل السابق. والمقصد الثاني هو مقصد تابع ثبت كونه خادماً للمقصد الأصلى الذي هو الأول.
(4) الموافقات: 3/120 - 121.(1/247)
ومما يعنيه هذا النص أن الضروريات الخمسة هي المقاصد الأول. والمقاصد الأخرى ينظر فيها. فإن كانت مما لا يقوم الضروري إلا بها فهي من الضروريات في ذلك النوع الذي لا يقوم إلا بها، فالجهاد لا يحفظ الدين بفقده، لذلك فهو من الضروريات في حفظ الدين، وكذلك الأركان الخمسة وكذلك قتل المرتد، وكذلك الإمامة العظمى، وحرمة القتل والقصاص لا يقوم الضروري وهو حفظ النفس إلا بها فهي من الضرويات في هذا النوع، أي حفظ النفس، وهكذا في سائر الأنواع أما إن كان ذلك النوع من الضرويات لا ينتقض أو يفقد بفقد مقصد ما، فإن هذا المقصد لا يكون من الضروريات وإنما يكون من مكملاتها، أي قد يكون من الحاجيات أو التحسينيات. وذلك كالنظافة في العبادات فإنها لا تخل بأصل حفظ الدين، وكالقصر أو الفطر في السفر. وكشرب قطرة من الخمر فإنها لا تنقض أصل حفظ العقل، فلا تكون من قسم الضروريات، وهكذا يطبق الأمر في مكملات الضروريات لمعرفة قسمها من الحاجيات أو التحسينيات أو المكملات لأي منهما، وكل ذلك إنما يكون باستقراء النصوص الشرعية ومعانيها، فما يتم له الاستقراء يعد مقصداً، وما لا يتم له ذلك فإما أن يكون خادماً لمقصد فيكون فرعاً راجعاً إلى مقصد، وإما أن ينقض مقصداً فيرد، وإما أن لا ينقض ولا يخدم فيتوقف فيه، ولا يعد فرعاً وإنما يعد جزئية. وإنعام النظر في هذا النص السابق يلخص هذا الأمر من منهجه.(1/248)
ويقول أيضاً مؤكداً لهذا المعنى ولكون مراتب المقاصد راجعة إلى الشرع: "الفعل يعتبر شرعاً بما يكون عنه من المصالح والمفاسد، وقد بين الشرع ذلك ومَيَّزَ بين ما يعظم من الأفعال مصلحته فجعله ركناً أو مفسدته فجعله كبيرة، وبين ما ليس كذلك فسماه في المصالح إحساناً، وفي المفاسد صغيرة، وبهذه الطريقة يتميز ما هو من أركان الدين وأصوله، وما هو من فروعه وفصوله، ويعرف ما هو من الذنوب كبائر وما منها صغائر، فما عظمه الشرع في المأمورات فهو من أصول الدين وما جعله دون ذلك فمن فروعه وتكميلاته، وما عظم أمره في المنهيات فهو من الكبائر وما كان دون ذلك فهو من الصغائر، وذلك على مقدار المصلحة والمفسدة"(1).
ومن النصين السابقين نستنتج أن الشاطبي يسمي الضروريات، وهي الخمسة أو ما لا تقوم هذه الخمسة إلا به يسميها أركان الدين او أصوله، وما دونها يسميه التكميلات أو فروع الدين. ومخالفة الضروريات فهو من الكبائر في المفاسد أو الذنوب.
ولا يعني هذا التفاوت في مراتب المقاصد تفويت مقصدٍ ما بذريعة المحافظة على ما هو آكد منه، ولا مخالفة الأحكام أو تغييرها بحجة المقاصد، لأن هذه المقاصد إنما تقرر كونها مقاصد من استقراء الأحكام ومعانيها. فالأحكام هي بمثابة الأصول للمقاصد، والمقاصد مبنية عليها. وبإبطال الأصل يبطل ما انبنى عليه. وعلى ذلك فالمقاصد هي مقاصد الشريعة، والشريعة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل. ولا يصح التذرع بالمقاصد لأجل ذلك. وهذا ما يتضمنه قول الشاطبي إن الشريعة معصومة وهو موضوع المبحث التالي.
المبحث الثاني
عصمة الشريعة
معنى هذا التعبير:
__________
(1) الموافقات: 1/149 - 150.(1/249)
ومعنى ذلك أن أحكام الشريعة محفوظة من التغيير والتبديل أو النسخ والتحريف، وقد تكفل الله بحفظها، فلن يقع فيها شيء من ذلك، بخلاف ما تقدمها من شرائع، وأدلة ذلك من وجهين: الأول: النصوص الشرعية كقوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (1)، ويشمل هذا الحفظ السنَّة وإن لم تشملها النصوص(2). والوجه الثاني في الدلالة هو الواقع من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الآن حيث أن الله سبحانه وتعالى قد قيض لهذه الشريعة من يحفظها على يديه ويذب عنها ويناضل دونها في كل علمٍ توقف فهم الشريعة عليه. قال الشاطبي: "إن هذه الشريعة المباركة معصومة كما أن صاحبها - صلى الله عليه وسلم - معصوم، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة"(3) ومن هؤلاء الذين قيضهم الله لحفظ دينه العلماء الذين فهموا مقاصد الشريعة من الكتاب والسنة. يقول: "وبعث الله من هؤلاء سادةً فهموا عن الله وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاستنبطوا أحكاماً فهموا معانيها من أغراض الشريعة في الكتاب والسنة، تارة من نفس القول، وتارةً من معناه، وتارةً من علة الحكم، حتى نزَّلوا الوقائع التي لم تذكر على ما ذُكر وسهَّلوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك، وهكذا جرى الأمر في كل علمٍ توقف فهم الشريعة عليه، وهو عين الحفظ الذي تضمنته الأدلة المنقولة وبالله التوفيق"(4).
__________
(1) سورة الحجر، 9.
(2) تبين في الفصل الثالث رأي الشاطبي وهو أن الحفظ المضمون بالآية هو للكليات وليس للجزئيات. ويتبع الكليات الفروع، وهي الجزئيات الراجعة إلى كليات، ولذلك قال في السنة: "والسنة وإن لم تذكر (أي في الحفظ المضمون) فإنها مبينة له (أي للكتاب) ودائرة حوله فهي منه، وإليه ترجع في معانيها، فكل واحد من الكتاب والسنة يعضد بعضه بعضاً" الموافقات. 2/38.
(3) الموافقات. 2/38.
(4) المصدر نفسه، 2/40.(1/250)
ومما ينبني على ذلك أن الجزئيات من نصوص ظنية الثبوت أو معانٍ ظنية، ستظل هي مآخذ الكليات، وهي موضع الاستقراء، ولا يصح أن يزعم المحافظة على الكليات بأي طريق، فالكليات ليس لها طريق إلا هذه الجزئيات. وكما أن الإخلال بالكليات لا يجوز، فإن الإخلال بالجزئيات مثل ذلك. ومن جهة أخرى فإن الإخلال بالجزئيات إخلال بالكليات. يقول: "إذا ثبت في الشريعة قاعدة كلية في هذه الثلاثة(1) أو في آحادها فلا بد من المحافظة عليها بالنسبة إلى ما يقوم به الكلي، وذلك الجزئيات، فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي أن يتخلف الكلي فتتخلف مصلحته المقصودة بالتشريع"(2) ثم أورد أدلة على ذلك وقال: "وحين كان ذلك كذلك دل على أن الجزئيات داخلة مدخل الكليات في الطلب والمحافظة عليها"(3). وقال: "إن الجزئيات لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكلي لم يصح الأمر بالكلي من أصله لأن الكلي من حيث هو كلي لا يصح القصد في التكليف إليه"(4).
__________
(1) الثلاثة: أي الضروريات والحاجيات والتحسينيات.
(2) الشاطبي، الموافقات. 2/41.
(3) الموضع نفسه.
(4) وذلك لأن هذه الكليات هي مقاصد بمعنى نتائج أو مسببات، والتكليف إنما يقع على الأسباب لا على المسببات، لأنها إلى الله وليست إلى العبد، والتكليف بها خارج عن قدرة العبد.(1/251)
وعلى ذلك فلا يجوز إهدار أو إهمال الجزئيات بحجة الكليات، ولا يصح الإعتراض هنا بما قرره سابقاً من أن تخلف آحاد الجزئيات لا يقدح في ثبوت الكليات. يقول: "لا شك في انحتام القصد إلى الجزئي"(1) ويقول: "إن تخلف الجزئي هنالك إنما هو من جهة المحافظة على الجزئي في كلِّيهِ من جهة أخرى، كما نقول إن حفظ النفوس مشروع وهذا كلي مقطوع بقصد الشارع إليه، ثم شرع القصاص حفظاً للنفوس، فقتل النفس في القصاص محافظة عليها بالقصد، ويلزم من ذلك تخلف جزئي من جزئيات الكلي المحافظ عليه وهو إتلاف هذه النفس لعارض عرض وهو الجناية على النفس. فإهمال هذا الجزئي في كُلِّيِّه من جهة المحافظة على جزئي في كُلِّيِّه أيضاً وهو النفس المجني عليها... فعلى هذا، تخلف آحاد الجزئيات عن مقتضى الكلي إن كان لغير عارض فلا يصح شرعاً، وإن كان لعارض فذلك راجع إلى المحافظة على الكلي من جهةٍ أخرى أو على كلي آخر، فالأول يكون تخلفه قادحاً في الكلي، والثاني لا يكون تخلفه قادحاً"(2).
لا يجوز مخالفة الأحكام بحجة المقاصد:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/42.
(2) الموضع نفسه.(1/252)
إن القول بمقاصد للشريعة، وبتفاوت مراتب هذه المقاصد لا يبرر مخالفة أو تغيير بعض الأحكام بحجة المحافظة على مقاصدها، كما لا يبرر تفويت بعض المقاصد لأجل تحصيل ما هو أعلى منها مرتبةً. وذلك أن الكليات لا يحافظ عليها بكل طريق، وإنما بما شرع الله لها، فكانت مخالفة الأحكام تفوت المقاصد وإن لم يظهر ذلك. والجزئيات والمكملات في الشريعة إنما شرعت لأجل المحافظة على الضروريات وهي خادمة لها. فلا يتأتى المحافظة على الضروريات إلا بها، وعلى ذلك فما يأتي به البعض أحياناً من آراء أو فتاوى تهدر النصوص الشرعية بحجة المحافظة على المقاصد وتقول بجواز تطوير أو تغيير الأحكام الشرعية بناء على ذلك هي أقوال مناقضة لفكرة المقاصد عند الشاطبي، وقد مرّ آنفاً قوله إن الذين كانوا يسعون للمحافظة على الكليات بمقتضى أنظار عقولهم عجزوا عن ذلك وكانوا يفوتون المصالح ويهدمون قواعدها، ويقول أيضاً: "إن كل حاجي وتحسيني إنما هو خادم للأصل الضروري ومؤنس ومحسِّن لصورته الخاصة... وعلى كل تقدير فهو يدور بالخدمة حواليه فهو أحرى أن يتأدى به الضروري على أحسن حالاته"(1) ويقول "إن كل واحدة من هذه المراتب لما كانت مختلفة في تأكد الإعتبار فالضروريات آكدها تليها الحاجيات والتحسينيات، وكانت مرتبطاً بعضها ببعض، كان في إبطال الأخف جرأةٌ على ما هو آكد منه ومدخل للإخلال به، فصار الأخف كأنه حمى للآكد، والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه"(2). ويقول: "إذا كان الضروري قد يختل باختلال مكملاته كانت المحافظة عليها لأجله مطلوبة"(3).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/42.
(2) المصدر نفسه، 2/12 - 13.
(3) المصدر نفسه، 2/15.(1/253)
ويقول بشأن تغيير الأحكام بحجة المصالح أو المقاصد: "فإنها (أي المصالح) لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تخل أحكامها لم يكن التشريع موضوعاً لها(1). إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد، لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبدياً وكلياً وعاماً في جميع أنواع التكليف والمكلفين وجميع الأحوال، وكذلك وجدنا الأمر فيها والحمد لله"(2).
تفسير لبعض نصوص الشاطبي:
ذهب كثير من المعاصرين إلى قراءة نصوص من (الموافقات) من غير تنبه إلى حقيقة معانيها، فنسبوا إلى الشاطبي آراء لا يقول بها، وإنما يبطلها ويبين فسادها. والواقع أن كثيراً من نصوص الشاطبي إذا لم ينظر إليها على أساس ما وضعه من مقدمات، وما قرره من أصول، وبحيث يبنى اللاحق منها على السابق فإن هذا سيوقع في التباسات ويُشعر بتناقضات بين بعض النصوص.
ولقد خرج بعض كتاب الأصول بتقريرات لا قيمة لها شرعاً متوهمين أنهم يستندون إلى فكرة مقاصد الشريعة كمن يطلق القول بأنه حيثما تكون المصلحة فثم شرع الله، أو بأن الطريق إلى المباح مباح، أو كمن يقول بان الله حرَّم علينا ما تدرك عقولنا ضرره وأباح لنا ما تدرك عقولنا نفعه أو ما شابه ذلك.
وإذا كان البعض يفعل هذا زاعماً الإستناد إلى الشاطبي، فهناك من تنبَّه إلى عدم إنطباق أفكار الشاطبي على هذه المعاني، فالشيخ محمد الطاهر بن عاشور - مثلاً - يشير، في معرض تقريره أن الشريعة معللة بمصالح العباد، إلى أن معظم استدلالات الشاطبي على هذا الأمر غير صالحة، وهذا مبعثه أن المستَدَلَّ عليه عند الشاطبي مختلف عما عند الشيخ(3).
ولذلك رأى الدكتور عبد الله دراز تناقضاً بين بعض نصوص الشاطبي.
__________
(1) أي لأجل تحقيقها لأنها غايات، والأحكام الشرعية هي الطريق إليها، أو الأحكام أسباب والمصالح مسببات.
(2) الشاطبي، الموافقات، 2/25.
(3) انظر ص: 181 من هذا الكتاب.(1/254)
يقول الشاطبي في المسألة الخامسة من مسائل النوع الأول من مقاصد الشريعة: "المصالح المبثوثة في هذه الدار يُنظَرُ فيها من جهتين: من جهة مواقع الوجود ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها. فأما النظر الأول: فإن المصالح الدنيوية من حيث هي موجودة هنا لا يتخلص كونها مصالح محضة، وأعني بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان وتمام عيشه ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق حتى يكون منعماً على الإطلاق وهذا في مجرد الإعتياد لا يكون لأن تلك المصالح مشوبةٌ بتكاليف ومشاق قلت أو كثرت، وتقترن بها أو تسبقها أو تلحقها كالأكل والشرب واللبس والسكنى والركوب والنكاح وغير ذلك، فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكدٍّ وتعب، كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود، إذ ما من مفسده تفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها من الرفق واللطف ونيل اللذات كثير، فإذا كان كذلك فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب، فإذا كان الغالب جهة مصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفاً، وإذا غلب الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عرفاً ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوباً إلى الجهة الراجحة... على ما جرت به العادات في مثله... وأما النظر الثاني فيها من حيث تعلق الخطاب بها شرعاً، فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الإعتياد، فهي المقصودة شرعاً، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد... فإن تبعها مفسدة أو مشقة فليست بمقصودةٍ في شرعية ذلك الفعل وطلبه. وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد، فرفعها هو المقصود شرعاً، ولأجله وقع النهي... فإن تبعتها مصلحة أو لذة فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل، بل المقصود ما غلب في المحل"(1).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 2/15 - 16 - 17.(1/255)
ويقول في المسألة الثامنة من مسائل النوع الأول من مقاصد الشريعة: "المصالح المجتلبة شرعاً والمفاسد المستدفعة شرعاً إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية"(1).
هذان النصان للشاطبي في المسألة الخامسة والمسألة الثامنة رأى الدكتور درَّاز أنهما متناقضان، ولذلك علق على النص الأول بقوله: "سيأتي تقييد هذا النظر في المسألة الثامنة"(2). وعلق على النص الثاني بقوله: "يلزم أن تقيّد المسألة الخامسة بهذا حتى لا يتنافى مع ظاهر الكلام هناك... فقد بنى المصلحة والمفسدة على ما غلب منهما باعتبار قيام الحياة ونيل الشهوات التي تقتضيها أوصاف الإنسان الشهوانية فجعلها مما ينبني عليها كونها مصلحةً تطلب أو مفسدة تدفع وهنا يقول إن مجرد كونها مصلحة في نظر الشخص لا تعتبر، والمعتبر أن تكون بحيث تقوم الحياة الدنيا للآخرة وذلك طبعاً لا يكون إلا تبعاً لرسم الشرع الذي يعلم المصلحة من هذه الحيثية موفقاً بينها وبين ما أجراه في سنة الوجود"(3). وقال أيضاً تعليقاً على نص آخر للشاطبي في الموضوع نفسه: "مجرد هذا لا يفيد بعدما اعتبر سابقاً أن ما غلبت فيه جهة المنفعة فهو المصلحة وما ترجحت فيه المضرة فهو المفسدة... ولذا قلنا إنه يلزم لصحة الكلام تقييد ما سبق بهذا" (4).
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 25.
(2) المصدر نفسه، 2/26 طبعة دار المعرفة - بيروت بتعليق الدكتور عبد الله دراز.
(3) الشاطبي، الموافقات، ص: 38.
(4) الموضع نفسه.(1/256)
بهذا يكون قد تم عرض الإشكال في هذه المسألة، وقبل بيان حله وإزالته أشير إلى أن الدكتور دراز لم يقف على حقيقة مراد الشاطبي بألفاظ المصلحة والمفسدة، ويفهمهما عند الشاطبي بمعنى المنفعة والمضرة، ولذلك نسب إلى الشاطبي القول بأن ما غلبت فيه جهة المنفعة فهو المصلحة، وما ترجَّحت فيه المضرة فهو المفسدة. وهذا غير صحيح، ولم يكن هذا قول الشاطبي، وإنما قال: إن ما غلبت فيه جهة المصلحة فهو المصلحة المفهومة عرفاً، وكذلك بالنسبة للمفسدة. والأمران مختلفان. فالمصلحة عند الشاطبي هي ما ثبت قطعاً كونه مقصوداً للشارع، والمفسدة ما ثبت قطعاً كونه ممنوع الوقوع شرعاً. أما المنافع والمضار فهي راجعة إلى حظوظ العبد وما يحب وما يكره، ولذلك فبعض المنافع محرمة وبعض المضار جائزة، ولذلك اعترض الشاطبي على الرازي فقال بعد أن قرر أن المصالح والمفاسد تعتبر من حيث تقوم الحياة الدنيا للحياة الأخرى: "إنه لا يستمر إطلاق القول بأن الأصل في المنافع الأذن وفي المضار المنع كما قرره الفخر الرازي إذ لا يكاد يوجد انتفاع حقيقي أو ضرر حقيقي وإنما عامتها أن تكون إضافية"(1)، ويضيف: "والمصالح والمفاسد إذا كانت راجعة إلى خطاب الشارع... فكيف يسوغ إطلاق هذه العبارة أن الأصل في المنافع الأذن وفي المضار المنع"(2) ويضاف إلى هذا خطأ آخر، وهو عدم التمييز بين مراد الشاطبي في المسألة الخامسة ومراده في المسألة الثامنة. وقد بنى الدكتور درار اعتراضه على قول الشاطبي في المسألة الخامسة: "واعني بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان وتمام عيشه ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق حتى يكون منعماً على الإطلاق".
__________
(1) المصدر نفسه، 2/27.
(2) الموضع نفسه.(1/257)
ولبيان الفرق بين المسألتين أقول: إن الشاطبي لم يَسُق المسألة الخامسة لتعريف المصالح والمفاسد، وإنما لبيان أنها لا تتمحض في الوجود، وأنها تتمحض في الشرع. أما النص الذي بنى عليه الدكتور دراز اعتراضه، والمثير للإشكال فمعناه أن ما جاءت به الشريعة من أوامر ونواهي، وتقرر بناء عليه ما هو مصلحة وما هو مفسدة، فإنه هو الذي يعود على الإنسان بما يحفظ عليه حياته وتمام عيشه من طعام وسكن وغير ذلك مما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية من أمن وعز وتملك وغير ذلك من ملذات الحياة، وهذه لا تحصل إلا بما يؤدي إليها وهي أحكام الشريعة، ولذلك فإن نص الشاطبي لا يقول: "وأعني بالمصالح قيام حياة الإنسان ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية"، وإنما يقول: "وأعني بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان..." وهذا المعنى جليٌّ في كتاب الشاطبي لمن تأمله، وسيتفصل القول فيه عند الحديث عن النوع الرابع من مقاصد الشريعة وهو وضعها للامتثال. ونصوصه في هذا الأمر كثيرة أذكر منها هنا نصاً يفي بالغرض. يقول: "إن وضع الشريعة إذا سلم أنها لمصالح العباد فهي عائدة عليهم بحسب أمر الشارع وعلى الحد الذي حده لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم... أما أن مصالح التكليف عائدة على المكلف في العاجل والآجل فصحيح، ولا يلزم من ذلك أن يكون نيله لها خارجاً عن حدود الشرع، ولا أن يكون متناولاً لها بنفسه دون أن يناولها إياه الشرع وهو ظاهر، وبه يتبيَّن أن لا تعارض بين هذا وبين ما تقدم لأن ما تقدم نظرٌ من حيث ثبوت الحظ والغرض من حيث أثبته الشارع لا من حيث اقتضاه الهوى والشهوة"(1).
إن معنى النص الذي بنى عليه الدكتور دراز اعتراضه هو أن المصالح التي دلت عليها الشريعة بالاستقراء هي التي تؤدي إلى أن ينال الإنسان حظوظه وأغراضه وليس أن المصالح تفهم بحسب ما يعود على الناس بذلك بمقتضى ميولهم وأنظارهم.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/172 - 118.(1/258)
أما النصوص الأخرى التي رأى الدكتور دراز أنها متعارضة، فما ورد في المسألة الخامسة ليس المراد فيه التعريف بالمصالح والمفاسد، وإنما المراد من المسألة أن المصالح والمفاسد ينظر إليها من جهتين. الأولى: من حيث هي موجودة في الواقع، وهي هنا لا تتمحض، فالمصالح تشوبها المفاسد، والعكس صحيح. أي أن الفعل المأمور به لأجل غاية يقصدها الشارع، فإن هذه الغاية مصلحة شرعية تنتج عن الفعل، ولكن ينتج عن الفعل أمور أخرى قد تكون غير مقصودة بذلك الأمر، أي قد تكون مفاسد، والعكس صحيح، وذلك لأن المفاسد والمصالح لا تتمحض في الواقع. فالجهاد مثلاً مصلحة، وينتج عنه مصالح يقصدها الشارع مثل بسط سلطان الإسلام وإعزازه ودخول الناس فيه، وينتج عنه أيضاً فوات الأرواح وإنفاق الأموال والمشقات، فهل هذه الأخيرة هي قصد الشارع بالجهاد؟ كلا. بل هذه مفاسد شرعاً. وعلى هذا الأساس يفهم قول الشاطبي: "فإذا كان كذلك فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب". أي ينظر إلى المصالح ومقدارها ودرجة توقعها. فهل النصر متوقع أَوْ لا، ودرجة الظن بذلك، وينظر إلى تكاليفه من الأنفس والأموال، والنتائج المتوقعة وذلك بحسب أهل النظر والخبرة، ولذلك قال: "فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفاً".(1/259)
ومثال ذلك أيضاً: "الأكل والشرب والسكنى والركوب والنكاح فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكدٍّ وتعب". وكما قال: "تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشقات" فإن كانت هذه مصالح مقصودة الوقوع، فإن المشقات مفاسد مطلوبة الرفع بحسب الشاطبي. قال: "إذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل فالقصد إلى المشقة باطل فهو إذاً من قبيل ما ينهى عنه"(1). وقال: "فقد علم من الشارع أن المشقة ينهى عنها فإذا أمر بما تلزم عنه فلم يقصدها"(2).
فإذا كانت المصالح لا تنال إلا بكدٍّ وتعب وهذه مفاسد، فهذا معناه أن المصالح والمفاسد الدنيوية من حيث وجودها في الواقع لا تتمحض، والحكم على الفعل يكون بحسب ما يغلب في المحل. قال: "فالحق الذي جاءت به الشريعة هو الجمع بين هذين الأمرين تحت نظر العدل، فيأخذ في الحظوظ ما لم يخل بواجب ويترك الحظوظ ما لم يؤدِّ الترك إلى محظور، ويبقى في المندوب والمكروه على توازن"(3). وهذا يدل على مراده بقوله: "وإذا غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عرفاً" وبقوله: "على ما جرت العادات في مثله". وشرح مثل هذه النصوص سيتبين بشكل آكد وأوضح في مبحث النوع الثالث من مقاصد الشريعة، إلا أني أورد له هنا نصاً يوضح مراده بألفاظ مثل "المفسدة أو المصلحة المفهومة عرفاً" ومثل "ما جرت العادات في مثله" ومراده بتغليب إحدى الجهتين على الأخرى اعتماداً على العرف والعادة.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/86.
(2) المصدر نفسه، 2/58.
(3) المصدر نفسه، 2/99.(1/260)
يقول إن شراء العنب أو السلاح أو الأَمَة - مثلاً - قد يكون لمقصد شرعي وقد يكون لحرام. وهو في الأول مصلحة وفي الثاني مفسدة. فكيف يحكم بتغليب إحدى الجهتين على الأخرى مع أن مقصد الفاعل خفي على الآخرين؟ بهذا المعنى يقول الشاطبي بتحكيم العرف والعادة إلا إذا عرف مقصد بخلاف ذلك لفاعل معين على الخصوص. يقول: "أن يكون بعض المنافع حلالاً وبعضها حراماً فههنا معظم نظر المسألة... أن يكون أحد الجانبين هو المقصود بالأصالة عرفاً والجانب الآخر تابع غير مقصود بالعادة إلا أن يقصد على الخصوص وعلى خلاف العادة، فلا إشكال في أن الحكم لما هو مقصود بالأصالة والعرف، والآخر لا حكم له لأنا لو اعتبرنا الجانب التابع لم يصح لنا تملك عين من الأعيان ولا عقد عليه لأن فيه منافع محرمة... ومثاله في أصالة المنافع المحللة شراء الأمة بقصد إسلامها للبغاء كسباً به، وشراء الغلام للفجور به، وشراء العنب ليعصر خمراً والسلاح لقطع الطريق... وفي أصالة المنافع المحرمة شراء الكلب للصيد... وشراء الخمر للتخليل وشراء شحم الميتة لتطلى به السفن أو يستصبح به الناس... فإن صار التابع غالباً في القصد وسابقاً في عرف بعض الأزمنة حتى يعود ما كان بالأصالة كالمعدوم المطرح فحينئذٍ ينقلب الحكم، وما أظن هذا يتفق هكذا بإطلاق، ولكن إن فرض إتفاقه انقلب الحكم"(1). وسيأتي تفصيل أكثر لهذا الأمر عند الحديث عن قاعدة الأصل والغالب ضمن الحديث عن قاعدة سد الذرائع في الفصل التاسع.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 3/107 - 108 - 109.(1/261)
هذه هي الجهة الأولى من النظر إلى المصالح والمفاسد، وهي أنها في الواقع لا تتمحض، أما الجانب الثاني وهو جهة تعلق الخطاب الشرعي بها، فهي هنا مصالح محضه أو مفاسد محضة على الدوام، فإذا وقع الطلب الشرعي على فعل فلأجل مصلحة يقصدها الشارع، فإن كان هذا الفعل مما يسبقه أو يقترن به أو يلحقه مفاسد، أي ما هو مفاسد بحكم الشرع، فهذا راجع إلى كون المصالح والمفاسد لا تتمحض في الواقع، لكن هذه المفاسد غير مقصودة للشارع بذلك الطلب، وكونها متعلقة بذلك الطلب لا يفيد في كونها مقبولة أو مغتفرة شرعاً، إذ وجود نتائج معينة لأحكام معينة لا يكفي للدلالة على كونها مصالح أو مفاسد، فلا بد لاعتبار المصلحة أو المفسدة من الإستقراء لعدد كبير من الأحكام. ولذلك فإن المصلحة الثابتة شرعاً تظل مصلحة، وكذلك بالنسبة للمفسدة. وكون المفاسد تتعلق بفعل مطلوب، والمصالح تتعلق بفعل منهي عنه لا يغيِّر شيئاً في كون المصلحة مصلحة والمفسدة مفسدة، ولا يدل على أن المصالح قد نهى عنها أو أن المفاسد قد تصبح مطلوبة، ومعنى هذا أنها، أي المصالح والمفاسد متمحضة في الشرع وإن لم تكن متمحضة من حيث الوجود في الواقع. ولذلك يقول الشاطبي: "فالحاصل من ذلك أن المصالح المعتبرة شرعاً أو المفاسد المعتبرة شرعاً هي خالصة غير مشوبة بشيء من المفاسد لا قليلاً ولا كثيراً، وإن تُوُهِّمَ أنها مشوبة فليست في الحقيقة الشرعية كذلك"(1). وأمثلة ذلك العمل وطلب قوت العيال فإنه مصلحة وفيه كد وتعب، وقد قصد الشارع ما فيه من مصالح ولم يقصد الكد والتعب. والخروج إلى الصلوات أو إلى طلب العلم أو ما شابه ذلك، مع أن في الطريق منكرات تسمع وتشاهد، فهذا لا يغير شيئاً في ما هو مصلحة وما هو مفسدة. ولا يغير شيئاً في الأحكام الشرعية، ويجب التحرز من المنكرات قدر الإستطاعة.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/17.(1/262)
يقول: "الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا أكتنفها من خارج أمورٌ لا ترضي شرعاً فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الإستطاعة من غير حرج، كالنكاح الذي يلزمه قوت العيال مع ضيق طرق الحلال واتساع أوجه الحرام والشبهات... ولو اعتبر مثل هذا في النكاح في زماننا لأدى إلى إبطال أصله وذلك غير صحيح، وكذلك طلب العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها وشهود الجنائز وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضى، فلا يُخرج هذا العارض تلك الأمور عن أصولها لأنها أصول الدين وقواعد المصالح"(1).
أما استعمال الشاطبي للفظ "الدنيوية" عند قوله المصالح والمفاسد الدنيوية. فذلك في مقابلة لفظ المصالح والمفاسد الأخروية، التي هي نعيم الجنان وعذاب النيران، وذلك أن المصالح والمفاسد الدنيوية إن كانت لا تتمحض من حيث الوجود في الواقع، فإن المصالح الأخروية مصالح خالصة، أي متمحضه غير مشوبة بمفاسد أي بعذاب. والمفاسد، أي العذاب فهو خالص غير مشوب بمصلحة للمخلدين في النار، وهو ممتزج برحمة للموحدين الذين يرجعون إلى الجنة، ومن هذا الامتزاج أن النار لا تنال منهم مواضع السجود ومحل الإيمان(2).
__________
(1) المصدر نفسه، 4/119.
(2) الشاطبي، الموافقات، 2/20 - 21 - 22.(1/263)
بهذا يظهر أن موضوع المسألة الخامسة متفق ومتساوق مع ما ورد في المسألة الثامنة بل إنها تمهيد لها، ويؤكد ذلك بيان الشاطبي لكيفية التغليب والترجيح بين الجهتين اللتين تتعارض فيهما المصالح والمفاسد من حيث الوجود حيث يقول: "وبالجملة كل ما تعارضت فيه الأدلة فلا يخلو أن تتساوى الجهتان أو تترجح إحداهما على الأخرى فإن تساوتا فلا حكم من جهة المكلف بأحد الطرفين دون الآخر إذا ظهر التساوي بمقتضى الأدلة، ولعل هذا غير واقع في الشريعة، وإن فرض وقوعه فلا ترجيح إلا بالتشهي من غير دليل وذلك في الشرعيات باطل باتفاق"(1).
أما المسألة الثامنة فهي منسجمة مع المسألة الخامسة، إلا أن فهم الدكتور دراز للمصالح والمفاسد بمعنى المنافع والمضار، وبأنها تكون كذلك بحسب العادة والعرف وبمقتضى أنظار العقلاء، جعله يرى تنافياً لا خروج منه، فصدرت منه تعليقات كالتالي: "مجرد هذا لا يفيد بعدما اعتبر سابقاً أن ما غلب فيه جهة المنفعة فهو المصلحة وما ترجحت فيه المضرة فهو المفسدة"، وقال: "إذا كان محط الاستدلال هو أن العقلاء اتفقوا على أن المعتبر هو الأمر الأعظم وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا بقطع النظر عن أهواء النفوس فذلك يصح أن يكون دليلاً ولكن لا حاجة إلى توسيط المقدمات السالفة قبله"، فهذا يدل على انه لم يدرك مراد الشاطبي من المسألة الخامسة.
__________
(1) المصدر نفسه، 2/20.(1/264)
أما بيان التكامل بين المسألتين فيتأكد من هذا النص - مثلاً - المأخوذ من المسألة الثامنة، يقول: "المصالح المجتلبة شرعاً والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية، والدليل على ذلك أمور: أحدها: { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } (1). والثاني: ما تقدم معناه من أن المنافع الحاصلة للمكلف مشوبة بالمضار عادةً كما أن المضار محفوفة بالمنافع، كما نقول إن النفوس محترمة محفوظة ومطلوبة الإحياء بحيث إذا دار الأمر بين إحيائها وإتلاف المال عليها كان إحياؤها أولى، فإن عارض إحياؤها إماتة الدين، كان إحياء الدين أولى وإن أدى إلى إماتتها كما في جهاد الكفار وقتل المرتد وغير ذلك، وكما إذا عارض إحياءُ نفسٍ واحدةٍ إماتة نفوس كثيرة في المحارب مثلاً، كان إحياء النفوس الكثيرة أولى، وكذلك إذا قلنا الأكل والشرب فيه إحياء النفوس وفيه منفعة ظاهرة مع أن فيه من المشاق والآلام في تحصيله ابتداءً وفي استعماله حالاً وفي لوازمه وتوابعه انتهاءً كثيراً. ومع ذلك فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا لا من حيث أهواء النفوس"(2).
مناقشة الشاطبي لبعض الأقوال في المصالح والمفاسد:
__________
(1) سورة المؤمنون، 71.
(2) الشاطبي، الموافقات، 2/25 - 26.(1/265)
لقد أوضح الشاطبي مفهومه للمصلحة والمفسدة بشكل جلي، وهو أنها تابعة للشرع وليست متبوعة، وليس هذا ما عليه السابقون من المعتبرين للمصالح والمفاسد، وإن كان الغزالي قد نبَّه إلى هذا المعنى حيث قال: "أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة ودرء مضرة، ولسنا نعني به ذلك فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم. لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعه مصلحة"(1)، فهو بأخذه بمسلك المناسبة وبالمناسب الغريب والمرسل، يخالف ما يقرره الشاطبي، ويُعدّ أنه يعلل بالمصلحة بالمعنى الذي قال في هذا النص إنه لا يعنيه. وذلك بعد إدخال هذا المعنى في جملة مقاصد الشارع.
وينطبق ما ذكرناه عن الغزالي على غيره من الأصوليين المعتبرين للمصالح كالجويني والآمدي والرازي والقرافي وعز الدين بن عبد السلام وغيرهم.
وهذا المعنى يجعل المصلحة - ولو نظرياً - متبوعة للشرع لا تابعة، وهذا يؤدي إلى إشكالات في فكرة التعليل بالمصالح. ومن هذا الباب يُعَدُّ الشاطبي، أنه بعمله في الموافقات، قصد إلى غربلة علم أصول الفقه.
لذلك فهو بعدما قرر ان المصالح والمفاسد تعتبر من حيث تقوم الحياة الدنيا للحياة الأخرى، وأنها راجعة إلى التحسين والتقبيح، عمد إلى نقد أو رد بعض الأقوال في هذا المجال. فقد رد قول الرازي بأن الأصل في المنافع الأذن وفي المضار المنع كما تبيّن في الصفحات السابقة.
__________
(1) الغزالي، المستصفى. 1/286.(1/266)
ويرد كذلك على القرافي حيث أنه قد أورد إشكالاً يُعَدُّ ناقضاً لفكرة التعليل بالمصالح، ويعد لازماً لجميع المعتبرين للمصالح والمفاسد، يقول الشاطبي: "إن القرافي أورد إشكالاً في المصالح والمفاسد ولم يُجب عنه وهو عنده لازم لجميع العلماء المعتبرين للمصالح والمفاسد"(1). وأثبت القرافي ورود هذا الإشكال على الجميع، المعتزلة وغيرهم فقال (والقول للقرافي): "لأن العدول عن أصل المصلحة والمفسدة تأباه قواعد الاعتزال فإنه سفه ولا يمكنهم أن يقولوا إن ضابط ذلك أن كل مصلحةٍ توعد الله على تركها وكل مفسدةٍ توعد الله على فعلها هي المقصودة، وما أهمله الله تعالى غير داخلٍ في مقصودنا"(2). ومراد القرافي بهذا أن وجود أحكام لا تتبع قاعدة المصالح والمفاسد ينقض الفكرة، ويضيف (القرافي): "لأنا نقول الوعيد عندكم والتكليف تابع للمصلحة والمفسدة، ويجب عندكم بالعقل أن يتوعد الله على ترك المصالح وفعل المفاسد، فلو استفدتم المصالح والمفاسد المعتبرة من الوعيد لَزِمَ الدور، ولو صحت الاستفادة في(3) المصالح والمفاسد للزمكم أن تجوزوا أن يرد التكليف بترك المصالح وفعل المفاسد وتنعكس الحقائق حينئذٍ، فإن المعتبر هو التكليف فأي شيء كلف الله به كان مصحلة وهذا يبطل أصلكم"(4). أما غير المعتزلة من الذين يقولون بعلية جلب المصالح ودرء المفاسد، فيورد عليهم القرافي الإشكال التالي: "وأما حظ أصحابنا من هذا الإشكال فهو أنه يتعذر عليهم أن يقولوا: إن الله تعالى راعى مطلق المصلحة ومطلق المفسدة... بل سبيلهم استقراء المواقع فقط، وهذا وإن كان يخل بنمطٍ من الإطلاع على بعض أسرار الفقه غير أنهم يقولون: يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، ويعتبر الله ما يشاء ويترك ما يشاء لا غير"(5)
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/28.
(2) الموضع نفسه.
(3) هكذا النص. وربما كان الأصح أن تكون: من.
(4) الشاطبي، الموافقات، ص:29.
(5) الموضع نفسه..(1/267)
والواقع أن هذا الإشكالات قائمة في وجه المعتبرين للمصالح والمفاسد إذا كانت بمعنى المنافع والمضار، أو الحِكَم وما تقتضيه الأوصاف الإنسانية. ولذلك فإن القرافي أورد هذه الإشكالات ولم يجب عنها.
والشاطبي رد هذه الإشكالات، ورده إنما يصح على منهجه هو في اعتبار المصالح والمفاسد، ولذلك يُعَدُّ إثباته لفكرة التعليل بالمصلحة تصحيحاً لمفهوم هذه الفكرة، ولكل من المصلحة والمفسدة. يقول: "أما على مذهب الأشاعرة فإن استقراء الشريعة دل على ما هو المعتبر مما ليس بمعتبر" (1) وهكذا فهو يوجه الاعتبار إلى الاستقراء المفيد للقطع باعتبار المصلحة المعينة، ويقول: "وأما على مذهب المعتزلة فكذلك، لأنهم إنما يعتبرون المصالح والمفاسد بحسب ما أداهم إليه العقل في زعمهم وهو الوجه الذي يتم به صلاح العالم على الجملة والتفصيل في المصالح أو ينخرم في المفاسد، وقد جعلوا الشرع كاشفاً لمقتضى ما أدعاه العقل عندهم بلا زيادة ولا نقصان، فلا فرق بينهم وبين الأشاعرة في محصول المسألة"(2). أي أنهم لا يحكمون العقل في تقرير المصالح المفاسد، وإنما يحكمون الشرع، وعلى ذلك فلا إشكال بحسب منهج الشاطبي لأن تقرير المصلحة أو المفسدة راجع إلى الشرع. وينقد الشاطبي قول الإمام عز الدين بن عبد السلام حيث قال: "ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل وذلك معظم الشرائع"(3)، وحيث قال: "وأما مصالح الآخرة ومفاسدها فلا تعرف إلا بالنقل"(4)،
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، ص:29.
(2) الموضع نفسه.
(3) عز الدين بن عبد السلام, قواعد الأحكام في مصالح الأنام. 1/7.
(4) المصدر نفسه، 1/9..(1/268)
وقال: "وأما مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدها فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح، وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته، ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد راجحهما ومرجوحهما فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به، ثم يبني عليه الأحكام فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبد الله به عباده ولم يقفهم على مصلحته ومفسدته"(1).
__________
(1) المصدر نفسه، 1/10.(1/269)
يقول الشاطبي معترضاً على أقوال ابن عبد السلام هذه: "إن بعض الناس قال إن مصالح الدار الآخرة لا تعرف إلا بالشرع، وأما الدنيوية فتعرف بالضرورات والتجارب والعادات والظنون الخ"(1)، ثم يقول: "أما أن ما يتعلق بالآخرة لا يعرف إلا بالشرع فكما قال. وأما ما قال في الدينوية فليس كما قال من كل وجه، ولو كان الأمر على ما قال لم يُحْتَجْ في الشرع إلا إلى بث مصالح الدار الآخرة خاصة وذلك لم يكن... فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل اللهم إلا أن يريد هذا القائل أن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها بعد وضع الشرع أصولها، فذلك لا نزاع فيه"(2).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/30 - 31.
(2) الموضع نفسه. وهذه الأقوال التي أوردها الشاطبي لابن عبد السلام توحي بأن هذا الأخير معتزلي، خاصة وأن الشاطبي لم يذكر اسم القائل. وقد علق الدكتور دراز على تلك الأقوال بقوله: "أشبه بمذهب المعتزلة" أنظر تعليق الدكتور دراز 2/48 من الموافقات طبعة دار المعرفة. ولكن من قول ابن عبد السلام: "إن الله عز وجل لا يجب عليه جلب مصالح الحسن ولا درء مفاسد القبيح، كما لا يجب عليه خلق ولا رزق ولا تكليف ولا إثابة ولا عقوبة. وإنما يجلب مصالح الحسن ويدرأ مفاسد القبيح طولا منه على عباده وتفضلاً، ولو عكس الأمر لم يكن قبيحاً إذ لا حجر لأحد عليه" قواعد الأحكام، 1/10 ومما قاله ابن عبد السلام: "وقد أمر الله تعالى بإقامة مصالح متجانسة وأخرج بعضها عن الأمر. وزجر عن مفاسد متماثلة وأخرج بعضها عن الزجر" قواعد الأحكام. 1/6 وهذا يؤكد وجود الإشكال الذي ذكره تلميذه القرافي.(1/270)
ومما يناقشه الشاطبي اختلاف المجتهدين في الأحكام. فإذا قال أحدهم إن الفعل جائز، وقال آخر إنه حرام، فعلى اعتبار المصالح والمفاسد إذا كان الفعل مفسدة فكيف جاز عند الأول، وإذا كان مصلحةً فكيف حرَّمه الآخر؟ فهذا مشكل عند المعتبرين للمصالح والمفاسد.
يقول الشاطبي إنه لا إشكال هنا، فإذا كان جائزاً عند الأول فهذا يعني أن مصلحته راجحة عنده في ظنه، وإذا كان حراماً عند الثاني فهذا يعني أنه مفسدة عنده في ظنه، وهكذا فإن اعتبار المصالح والمفاسد يختلف عند المجتهدين، ولا إشكال. قال: "وقد زعم بعض المتأخرين - وهو القرافي - أن القول بالمصالح إنما يستمر على القول إن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد، لأن القاعدة العقلية أن الراجح يستحيل أن يكون هو الشيء والنقيض، بل متى كان أحدهما راجحاً كان الآخر مرجوحاً، وهذا يقتضي أن يكون المصيب واحداً وهو المفتى بالراجح، وغيره يتعين أن يكون مخطئاً لأنه مفتٍ بالمرجوح، فتتناقض قاعدة المصوبين مع القائلين بالقياس وإن الشرائع تابعة للمصالح. هذا ما قال، ونقل عن شيخه ابن عبد السلام في الجواب إنه يتعين على هؤلاء أن يقولوا إن هذه القاعدة لا تكون إلا في الأحكام الإجماعية"(1). ثم رد هذا القول فقال: "المصالح أو المفاسد في مسائل الخلاف ثابتة بحسب ما في نفس الأمر عند المجتهد وفي ظنه، ولا فرق هنا بين المخطئة والمصوبة، فإذا غلب على ظن المالكي أن ربا الفضل في الخضر والفواكه الرطبة جائز فجهة المصلحة عنده هي الراجحة وهي كذلك في نفس الأمر في ظنه"(2). أي إن الفعل جائز شرعاً وبالتالي فهو مصلحة عنده. "وإذا غلب على ظن الشافعي أن الربا فيها غير جائز، فهي عنده داخله تحت حكم الربا المحرَّم، وجهة المصلحة عنده هي المرجوحة لا الراجحة وهي كذلك في نفس الأمر على ما ظنه"(3).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 2/36.
(2) الموضع نفسه.
(3) المصدر نفسه، 2/37.(1/271)
أي أن الفعل حرام وبالتالي فإن المصلحة الحاصلة به مرجوحة، فهو مفسدة عنده. ثم قال: "وإنما يكون التناقض واقعاً إذا عُدَّ الراجح مرجوحاً من ناظرٍ واحد، بل هو من ناظِرَين ظن كل واحد منهما العلة التي بنى عليها الحكم موجودة في المحل بحسب ما في نفس الأمر عنده وفي ظنه"(1).
إن هذه النصوص والآراء عند الشاطبي تؤكد على اختلاف مفهومه للمصلحة والمفسدة مع المفهوم السائد عند غيره كما أنه يؤكد أن المعنى المقصود لديه، هو أن المصلحة هي ما ثبت كونه مقصوداً للشارع بغض النظر عن كونه مناسباً أو غير مناسب.
المبحث الثالث
قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام
معنى هذا النوع:
يناقش الشاطبي تحت هذا النوع من مقاصد الشارع خمس مسائل متعلقة باللغة العربية يقرر فيها الأصول التي يجب اتباعها لأجل فهم الشريعة من مصادرها، أي من النصوص الشرعية، فيبين كيف تؤخذ الدلالات من الألفاظ والتراكيب، وما هي الدلالات التي تعتبر، والدلالات التي لا تعتبر.
كما يناقش هل إن معاني الأحكام هي من دلالات النصوص أو لا. ومعاني الأحكام هي المعاني التابعة التي تؤخذ منها المقاصد الشرعية.
الشريعة عربية اللسان والأسلوب:
__________
(1) الموضع نفسه.(1/272)
لقد وضعت الشريعة لتحقيق مقاصد الشارع في الخلق. فوجب لأجل ذلك فهم الشريعة وفهم مقاصد الشارع. لذلك خاطب الشارع الناس خطاباً يفهمونه، فخاطبهم باللغة العربية، بألفاظ عربية، وتراكيب عربية، وأساليب عربية. وألزمهم بفهم الأخبار والأحكام بحسب دلالات النصوص عند العرب. يقول الشاطبي: "إن هذه الشريعة المباركة عربية لا مدخل فيها للألسن العجمية"(1). وليس مراد الشاطبي بهذا بحث أن القرآن ليس فيه ألفاظ أعجمية، فهذا قد تكفل به الأصوليون وإنما مراده هو أنه "نزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها، وأنها فيما فُطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه، والعام يراد به الخاص، وظاهر يراد به غير الظاهر، وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره أو آخره عن أوله" (2). ثم قال: "لا يمكن فهم لسان العرب من جهة فهم لسان العجم لاختلاف الأوضاع والأساليب"(3).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 2/42.
(2) أنظر: المصدر نفسه، 2/43 - 44.
(3) الشاطبي، الموافقات، 2/44. وقد ذكر الشافعي هذا الأمر في أكثر من موضع من كتابة (الرسالة) ربما كان أبرزها ما جاء في الصفحات 51 - 52 - 53. ومما قاله: "فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها، وأن فطرته أن تخاطب بالشيء منه عاماً ظاهراً يراد به العام الظاهر، ويُستغنى بأول هذا عن آخره، وعاماً ظاهراً يراد به العام ويدخله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه. وعاماً ظاهراً يراد به الخاص وظاهراً يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره. وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول لفظها فيه عن آخره، وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظها فيه عن أوله..وتتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ كما تُعَرِّفُ الإشارة ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها لإنفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها (أنظر: الرسالة، الفقرات 175.174.173. ومما قاله الشافعي: "ولسان العرب أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع ألفاظه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجوداً فيها من يعرفه" الرسالة، ص 42، فقرة: 139. وفي (الرسالة) أبواب بالعناوين التالية: بيان ما نزل من الكتاب عاماً يراد به العام ويدخله الخصوص، بيان ما أنزل من الكتاب عام الظاهر وهو يجمع العام والخاص، بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص. أنظر. ص: 53 - 62.(1/273)
وأشار إلى أن الذي نبه إلى هذا الأمر هو الإمام الشافعي في الرسالة، ولكن كثيراُ ممن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ(1).
وعلى ذلك فإنه يستحيل ترجمة القرآن، ونقله إلى لسان غير عربي، لأن الألفاظ ومعاني العبارات إن كان يمكن نقلها إلى لغة أخرى، فإن للأسلوب أثراً على المعاني، وهو ما لا يمكن ترجمته، ولكن يصح تفسير القرآن للعامة، ولمن لا يقوى على فهم معانيه، ويصح ترجمة الألفاظ والعبارات، وليس ذلك إلا نقلاً لمعانيها من غير المحافظة على أثر الأسلوب، وما يعطيه من معانٍ خادمة لمعاني الألفاظ والعبارات(2).
أمية الشريعة:
يقول الشاطبي: "الأمي منسوب إلى الأم، وهو الباقي على أصل ولادة الأم، لم يتعلم كتاباً ولا غيره فهو على أصل خلقته التي ولد عليها"(3). ويقول: "هذه الشريعة أمية لأن أهلها كذلك، أما أن أهلها كذلك فقطعي لقوله تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ } (4) وقوله: { فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ } (5)، وفي الحديث: "بعثت إلى أمة أمية"(6)، وأيضاً "نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب"(7)"(8) وغير ذلك من الأدلة.
__________
(1) المصدر نفسه، 2/42.
(2) المصدر نفسه، 2/44 - 46.
(3) الموضع نفسه.
(4) سورة الجمعة، 2.
(5) سورة الأعراف، 158.
(6) أخرجه أحمد (22308) بلفظ: "إني أرسلت إلى أمةٍ أمية".
(7) أخرجه النسائي (2112) باللفظ نفسه. والبخاري (1780) ومسلم (1806) والنسائي (2111) وأبو داود (1975) وأحمد (4775) بتقديم نكتب على نحسب.
(8) ... أنظر: الشاطبي، الموافقات، 2/44 - 46.(1/274)
ومراد الشاطبي بذلك أن النصوص الشرعية يجب أن تؤخذ دلالاتها على هذا الأساس، فهي قد أنزلت على أناس ليفهموها، وخاطبتهم بحسب ما هم عليه من معارف وعلوم، ولو خاطبتهم بما لا عهد لهم به أو بمثله لما فهموه ولما كان معجزاً لهم. يقول: "لو لم يكن على ما يعهدون لم يكن عندهم معجزاً، ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز بقولهم: هذا على غير ما عهدنا إذ ليس لنا عهد بمثل هذا الكلام"(1) وذلك كما لو نزل القرآن أعجمياً.
وإذا كان عند العرب الذين نزل فيهم القرآن بعض علوم، فهي تعتبر لأجل فهم الخطاب الشرعي لأنهم إنما خوطبوا بحسب ما هم عليه من أوصاف أو علوم أو معارف، وعلى ذلك فإذا جدَّت علوم أو معانٍ جديدة لا عهد لهم بها، فلا تعد مقصودة بعينها بخطاب الشارع، وإن كانت مما تحتملها الألفاظ، وكذلك الأمر إذا جدَّت معانٍ جديدة لألفاظ كانوا يستعملونها. لذلك تُفَسَّر الألفاظ بالمعاني التي كانت تستعمل يوم نزولها. يقول: "لا بد في فهم الشريعة من إتباع معهود الأميين وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عرفٌ مستمر فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثم عرفٌ فلا يصح أن يجري في فهمها على ما لا تعرفه، وهذا جارٍ في المعاني والألفاظ والأساليب"(2).
__________
(1) المصدر نفسه، 2/47.
(2) المصدر نفسه، ص:53.(1/275)
ومما ينبني على هذا أن الدلالات التي تفهم من النصوص هي التي يدركها عموم الناس وليس خاصتهم فقط، وينبني عليها أيضاً أن المعاني المعتبرة للنصوص في التكاليف الاعتقادية والعملية هي ما يفهمه عموم الناس الذين نزل فيهم القرآن، فلا يصح أن يلزم لفهمها مقدمات فلسفية ومنطقية أو علوم لا تتوفر إلا لدى الخاصة. يقول: "إنما يصح في مسلك الأفهام والفهم ما يكون عاماً لجميع العرب فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه بحسب الألفاظ والمعاني، فإن الناس في الفهم وتأتي التكليف فيه ليسوا على وزانٍ واحد ولا متقارب إلا أنهم يتقاربون في الأمور الجمهورية"(1).
ويقول: "أن تكون التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تعقلها ليسعه الدخول تحت حكمها"(2). ويقول: "لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص لم تكن الشريعة عامة، ولم تكن أمية، وقد ثبت كونها كذلك، فلا بد أن تكون المعاني المطلوب علمها واعتقادها سهلة المأخذ، وأيضاً فلو لم تكن كذلك لزم بالنسبة إلى الجمهور تكليف ما لا يطاق وهو غير واقع كما هو مذكور في الأصول"(3).
ويشير الشاطبي إلى أنه لا يقصد بذلك أن يسمح للعوام باستنباط الأحكام وتقرير الحقائق الشرعية، وإنما قصده أن المعانيَ المحتملةَ للنصوص، المعتبرُ منها هو ما كان جارياً ذلك المجرى، والذي يقوم بالاستنباط وتقرير المعاني والحقائق الشرعية هو المجتهد المؤهل لذلك. وسيتفصل هذا الأمر في بحث الاجتهاد.
__________
(1) الشاطبي الموافقات، 2/56.
(2) المصدر نفسه، 2/58.
(3) الموضع نفسه.(1/276)
ولذلك فإن الشاطبي يصرف النظر عن الخوض في أبحاث صفات الله، بما لا يسع العبد تعقله، ويوجه النظر في النصوص التي هي مثار اختلاف ونزاع في هذا الأمر إلى ما ينبني عليه عمل. ويعد التعمق في البحث فيها خروجاً عن مقتضى وضع الشريعة. يقول: "ولذلك تجد الشريعة لم تعرف من الأمور الإلهية إلا بما يسع فهمه وأرجت غير ذلك فعرفته بمقتضى الأسماء والصفات وحضت على النظر في المخلوقات إلى أشباه ذلك، وأحالت فيما يقع فيه الإشتباه على قاعدةٍ عامة وهو قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (1)" (2). ويقول: "إن الصحابة رضي الله عنهم لم يبلغنا عنهم من الخوض في هذه الأمور ما يكون أصلاً للباحثين والمتكلفين، كما لم يأت ذلك عن صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام وكذلك التابعون المقتدى بهم"(3). وقال: "فالتعمق في البحث فيها وتطلب ما لا يشترك الجهور في فهمه خروج عن مقتضى وضع الشريعة الأمية، فإنه ربما جمحت النفس إلى طلب ما لا يطلب منها، فوقعت في ظلمةٍ لا انفكاك لها منها"(4).
وبناءً على ذلك - أيضاً - فإنه يرد الزعم بأن القرآن يحتوي على كل العلوم ومن ذلك الطبيعيات والمنطق وغير ذلك استدلالاً بقوله تعالى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } (5)، وبقوله تعالى: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (6)، فإن مثل هذه المعاني لا عهد بها، ولم يدَّعها أحد ممن تقدم فلا تثبت. ولا يجوز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه، ويجب الإقتصار في الإستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إلى العرب، ومن ذلك معاني الألفاظ والتراكيب، وأساليبها(7).
المعاني هي المقصود الأعظم للنصوص:
__________
(1) سورة الشورى، 11.
(2) الشاطبي الموافقات. 2/58.
(3) الشاطبي الموافقات، 2/59.
(4) الموضع نفسه.
(5) سورة النحل، 89.
(6) سورة الأنعام، 38.
(7) الشاطبي الموافقات. 2/22.(1/277)
وهذا مما لا شك فيه ولا خلاف. فإنما كان الكلام وكانت النصوص لقصد معين هو معانيها. ولذلك كانت العناية بمعاني الألفاظ ودلالاتها، وبدلالات التراكيب، وبمعاني الحروف. ولذلك كانت عناية الفقهاء والأصوليين بعلوم اللغة ودلالاتها. يقول الشاطبي: "أن يكون الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية، فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى هو المقصود، ولا أيضاً كل المعاني فإن المعنى الإفرادي قد لا يُعبأ به، إذا كان المعنى التركيبي مفهوماً دونه"(1). والمراد بالمعنى الإفرادي كألفاظ يد وعين ويداه وأعيننا ومعكم وغيرها في الآيات التي أثيرت فيها مباحث الصفات، وكلفظ أبّا في قوله تعالى: { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } (2)، يقول: "ما في جامع الإسماعيلي المخرج على صحيح البخاري عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } قال ما الأبّ ثم قال ما كُلفنا هذا أو قال ما أمرنا بهذا، وفيه أيضاً عن أنس أن رجلاً سأل عمر بن الخطاب عن قوله { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } ما الأب فقال عمر نُهينا عن التعمق والتكلف، ومن المشهور تأديبه لضُبيع حين كان يكثر السؤال عن المرسلات والعاصفات ونحوهما. وظاهر هذا كله أنه إنما نهى عنه لأن المعنى التركيبي معلوم على الجملة، ولا يُبني على فعل هذه الأشياء حكم تكليفي... فلو كان فهم اللفظ الإفرادي يتوقف عليه فهم التركيبي لم يكن تكلفاً بل هو مضطر إليه كما روي عن عمر نفسه في قوله تعالى: { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ } (3) فإنه سئل عنه على المنبر فقال له رجل من هذيل: التخوُّف عندنا التَنَقُّص ثم أنشده (البسيط):
__________
(1) المصدر نفسه 2/57.
(2) سورة عبس، 31.
(3) سورة النحل، 47.(1/278)
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنها تامِكاً قَرِداً ... ... كما تَخَوَّفَ عودَ النَّبعَةِ السَّفَنُ(1)
فقال عمر: أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم فإن فيه تفسير كتابكم... فإن كان الأمر هكذا فاللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب"(2).
هذا إذا كانت المعاني هي معاني الألفاظ والنصوص، أما إذا كان المراد بالمعاني معاني الأحكام، أي الحكم أو المصالح المظنونة لها، والتي إذا ثبتت عن طريق الاستقراء تصبح مصالح ومقاصد شرعية قطعية، وإذا لم تثبت كذلك تعامل بحسب خدمتها أو هدمها لمقاصد ثابتة، فتعتبر أو تُرد بناءً على ذلك، فبهذا المعنى للفظ المعاني، يناقش الشاطبي إن كان هذا من دلالات اللغة أو مما وضع لأجله الكلام أو لا، ويخلص إلى أنه ليس من دلالات اللغة، وسيتبين هذا فيما يلي.
المعاني الأصلية والمعاني التابعة:
__________
(1) قال الفيروزآبادي: "تخوّف الشيء: تنقّصه". القاموس المحيط ص: 1046.
التامك: السنام ما كان، والناقة العظيمة السنام" ص: 1207.
"القَرَد: ما تمعَّط من الوبر والصوف، أو نفايته... وقَرِدَ الشعر كفَرِحَ: تجعّد". ص 396.
"سفنه يسفنه: قشّره... والسفَن محركة: جلد خشن وحجر ينحت به ويُليَّن، أو كل ما ينحت به الشيء". ص: 1556. "العود: الخشب"، ص: 386.
"النبع: شجر للقسيَ والسهام" ص: 988.
(2) الشاطبي، الموافقات. 2/57 - 58. وقال القرطبي في تفسير الآية: "قال ابن الأعرابي: أي على تنقص من الأموال والأنفس والثمرات حتى أهلكهم كلّهم". وقال: "تَمِكَ السنام يتمك تمكاً، أي طال وارتفع فهو تامك. والسفن والمسفن ما ينجرُ به الخشب" الجامع لأحكام القرآن 10/110، دار الكتاب العربي، بيروت.(1/279)
يقول الشاطبي: "لِلُّغة العربية من حيث هي ألفاظٌ دالة على معانٍ نظران: أحدهما من جهة كونها ألفاظاً وعباراتٍ مطلقة دالة على معانٍ مطلقة وهي الدلالة الأصلية، والثاني: من جهة كونها ألفاظاً وعباراتٍ مقيدة دالةً على معانٍ خادمة وهي الدلالة التابعة"(1). ويقول: "أما جهة المعنى الأصلي فلا إشكال في صحة اعتبارها في الدلالة على الأحكام بإطلاق، ولا يسع فيه خلاف على حال وذلك مثل صيغ الأوامر والنواهي والعمومات والخصوصات... أما جهة المعنى التبعي فهل يصح اعتبارها في الدلالة على الأحكام من حيث يفهم منها معانٍ زائدة على المعنى الأصلي أم لا؟"(2).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/44.
(2) المصدر نفسه، 2/63.(1/280)
ولتوضيح مراد الشاطبي بالمعنى التبعي أورد المثال الذي أورده. قال: "فإنه إذا حصل في الوجود فعل لزيد كالقيام ثم أراد كل صاحب لسان الإخبار عن زيد بالقيام تأتى له ما أراد من غير كلفة"(1). والمعنى المفهوم من الخبر هنا هو المعنى الأصلي. ثم قال: "وأما الجهة الثانية فهي التي يختص بها لسان العرب في تلك الحكاية وذلك الإخبار فإن كل خبر يقتضي في هذه الجهة أموراً خادمةً لذلك الإخبار"(2). ثم قال: "وذلك أنك تقول في ابتداء الإخبار قام زيد إن لم تكن ثم عناية بالمخبر عنه بل بالخبر، فإن كانت العناية بالمخبر عنه قلت زيد قام. وفي جواب السؤال وما هو منزل تلك المنزلة إن زيداً قام، وفي جواب المنكر لقيامه والله إن زيداً قام"(3). ثم قال: "وجميع ذلك دائر حول الإخبار بالقيام عن زيد فمثل هذه التصرفات التي يختلف معنى الكلام الواحد بحسبها ليست هي المقصود الأصلي. ولكن من مكملاته ومتمماته"(4). وبناء على هذا فلو اعتبر هذا الاختلاف في الإخبار من المعاني الأصلية، فإنه لا يمكن ترجمة أي كلام من الكلام العربي بكلام العجم فضلاً عن أن يترجم القرآن(5).
__________
(1) المصدر نفسه، 2/44.
(2) المصدر نفسه، 2/44.
(3) الموضع نفسه.
(4) المصدر نفسه، 2/44 - 54.
(5) الشاطبي، الموافقات، 2/54.(1/281)
ويمكن بناءً على توضيحات الشاطبي تعريف المعنى التبعي بأنه معنى خادم للمعنى الأصلي ولكنه ليس من دلالات الكلام. ويتبين المعنى بشكل أوضح عندما يرد الشاطبي على الذين يصححون القول بأن المعنى التبعي من دلالات الكلام. يورد قولهم فيقول: "استدلوا على أن أكثر مدة الحيض خمسة عشر يوماً بقوله عليه السلام "تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي"(1)، والمقصود الإخبار بنقصان الدين لا الإخبار بأقصى المدة ولكن المبالغة اقتضت ذكر ذلك ولو ذكرت الزيادة لتعرض لها. واستدل الشافعي على تنجيس الماء القليل بنجاسة لا تغيره بقوله عليه السلام: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها"(2)"(3). ثم قال: "وكاستدلالهم على تقدير أقل مدة الحمل ستة أشهر أخذاً من قوله تعالى { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } (4)، مع قوله: { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } (5)"(6). ثم قال: "وقالوا في قوله تعالى: { فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ } (7)، إلى قوله تعالى: { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ } ،(8) الآية.
__________
(1) البيهقي (9271)، 5/400. ونصه: "تمكث إحداكن ما شاء الله أن تمكث.." وسنن الترمذي (2538)، 5/10 ونصه "تمكث إحداكن الثلاث والأربع.." وقال: صحيح غريب حسن من هذا الوجه. وفي مسند أحمد (8849)، 2/373، بنحو نص البيهقي.
(2) أخرجه مسلم (416)، وزاد ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده. والترمذي (24) وقال: حسن صحيح. والنسائي (1) وأبو داود (95) وأحمد (9491) وابن ماجة (388).
(3) الشاطبي الموافقات، 2/46.
(4) سورة الأحقاف، 15.
(5) سورة لقمان، 14.
(6) الشاطبي الموافقات، 2/64.
(7) سورة البقرة، 187.
(8) سورة البقرة، 187.(1/282)
أنه يدل على جواز الإصباح جنباً وصحة الصيام لأن إباحة المباشرة إلى طلوع الفجر تقتضي ذلك وإن لم يكن مقصود البيان لأنه لازم من القصد إلى بيان إباحة المباشرة والأكل والشرب"(1).
فيقول الشاطبي في رده على هذا القول عند إيراده لأدلة المانعين لأن يكون المعنى التبعي من دلالة اللفظ: "فأما مدة الحيض فلا يسلم أن الحديث دل عليها وفيه النزاع. ولذلك يقول الحنفية إن أكثرها عشرة أيام، وإن سلم فليس ذلك من جهة دلالة اللفظ بالوضع وفيه الكلام، ومسألة الشافعي في نجاسة الماء من باب القياس أو غيره. وأقل مدة الحمل مأخوذة من الجهة الأولى لا من الجهة الثانية. وكذلك مسألة الإصباح جنباً"(2).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/65.
(2) الشاطبي، الموافقات، 2/76.(1/283)
وبناءً على ذلك فإن ما جاء في نصوص شرعية كقوله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } (1) الآية، وكقوله تعالى: { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } (2) الآية. وكقوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } (3) الآية، وكقوله تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } (4) الآية، فإن تحريم المذكور من الميتة والدم والخنزير والخمر... وتحريم السرقة والزنا هي من المعاني الأصلية ومن الدلالات الأصلية للكلام. أما ما قد تعلل به هذه الأحكام أو يتخذ حكمة لها من غير وجود لفظ يدل على ذلك أو نصوص يستنبط منها ذلك استنباطاً، كأن يقال إن العلة أو الحكمة هي الضرر الذي تسببه الميتة أو الدم أو الخنزير، أو الإسكار الذي يسببه الخمر، أو أن حفظ النفس وحفظ العقل وحفظ المال وحفظ النسل هو معنى هذه الأحكام أو هو مقصود الشارع بها، فإنه، ليس من دلالات النصوص، إذ لو كان منها لكان من المعاني الأصلية، بل كونها مقصودة للشارع هو ظن لا يعضده دليل شرعي، وهي زائدة على المعاني الأصلية. فهل يمكن أن تؤخذ منها أو أن تبنى عليها أحكام شرعية؟
لا حكم للدلالة التابعة:
يورد الشاطبي نقاشاً لهذه المسألة، فيورد أدلة المجيبين بالإيجاب، ويورد أدلة المانعين الذين يخلصون إلى قول: "فالحاصل أن الاستدلال بالجهة الثانية على الأحكام لا يثبت فلا يصح إعماله البتة"(5).
__________
(1) سورة المائدة، 3.
(2) سورة المائدة، 90.
(3) سورة المائدة، 38.
(4) سورة النور، 2.
(5) الشاطبي الموافقات. 2/68.(1/284)
ثم يقول: "قد تبين تعارض الأدلة في المسألة وظهر أن الأقوى من الجهتين جهة المانعين، فاقتضى الحال أن الجهة الثانية وهي الدالة على المعنى التبعي لا دلالة لها على حكم شرعي زائد البتة"(1).
وخلاصة أدلة المانعين هي أن هذه المعاني التبعية إما أن تكون دل عليها النص وإما أن لا تكون كذلك، فإن كانت كذلك فهي من المعاني الأصلية وتكون معتبَرة ويستدل بها على الأحكام لأنها من دلالات اللغة. وإن لم تكن كذلك فالقائل بها مطالب بالدليل الشرعي، فإن لم يكن ثم نص شرعي يدل عليها بأي نوع من أنواع دلالات اللغة، فهي ظنون وتحكمات لا يصح أن تنسب إلى الشرع. والواقع أن هذا الخلاف الذي يورده الشاطبي ويبين موقفه فيه، هو الخلاف المذكور في الفصل الثاني بين القائلين بالتعليل بالحكمة المظنونة، وبناء الأحكام عليها بحجة أنها ظنون، والظن في الشرعيات مقبول، وبين الرادين لاعتبار هذه المعاني والحكم بناءً على أنها لا دليل عليها فلا اعتبار لها، وحيث وصفوها بأنها من خيالات القلب أو هوسات العقل.
ومن هنا كان دخول منهج الشاطبي في هذه المسألة، بأن هذه المعاني لا اعتبار لها في التشريع إذ هي حكم مظنونة ليس ثمة ما يمنع أن تكون الحكمة المقصودة غيرها. وليس ثمة ما يمنع أن تكون نقيضاً للحكمة المقصودة للشارع، ولكن الإنسان قد يحسن القبيح أو يقبح الحسن.
ومن هنا دخل اشتراط الشاطبي للاستقراء المفيد للقطع لاعتبار هذه المعاني مقاصد شرعية، إذ بهذا يثبت عنده كون هذا المعنى ملائما لتصرفات الشرع(2).
ولكن يبقى لقارئ الشاطبي أن يتساءل هل أن ما يقرره الشاطبي من أن مثل هذا الاستقراء يفيد في اعتبار هذه المعاني على سبيل القطع هل هو صحيح؟
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) الآن، يمكن للقارئ أن يرجع إلى قراءة المقدمة الثالثة من مقدمات الشاطبي، فيزداد وثوقاً بما قدمناه له من منهجه، ويزداد إدراكاً لأهمية تلك المقدمة وما فيها لمنهجه.(1/285)
فإذا كانت المعاني التبعية في آحاد النصوص لا تعتبر، فمن أين سينشاً الاعتبار إذا كثرت النصوص؟ بتعبير آخر إذا كان اعتبار المعنى يرجع إلى تضافر الأدلة على المعنى فمن أين سينشأ الاعتبار إذا لم يكن لأي من هذه الأدلة أي دلالة على هذا المعنى؟ وهذا حسب قوله "فاقتضى الحال أن الجهة الثانية وهي الدالة على المعنى التبعي لا دلالة لها على حكم شرعي زائد البتة".
ومن أقوال الشاطبي في المبالغة في رد اعتبار المعاني التي قد يزعم أنها مقصودة للشارع من غير أن يدل عليها الدليل إما بالدلالة الأصلية وإما بثبوت الاستقراء لها قوله: "فما يؤمننا من سؤال الله تعالى لنا يوم القيامة: من أين فهمتم عني أني قصدت التجنيس الفلاني بما أنزلت من قولي: { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } (1) أو قولي: { قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ } (2)؟ فإن في دعوى مثل هذا على القرآن وأنه مقصود للمتكلم به خطراً، بل هو راجع إلى معنى قوله تعالى: { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } (3) وإلى أنه قول في كتاب الله بالرأي"(4).
الفصل الخامس
قصد الشارع في وضع
الشريعة للتكليف بمقتضاها
وفي دخول المكلف تحت أحكامها
ويحتوي على تمهيد وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: ... قصد التكليف بمقتضى الشريعة.
المبحث الثاني: ... قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة.
__________
(1) سورة الكهف، 104.
(2) سورة الشعراء، 168.
(3) سورة النور، 15.
(4) الشاطبي الموافقات. 3/248. أي أن من يجد الجناس في القرآن الكريم كما في الآيتين أعلاه، فمن اين له أن يزعم أنه مقصود لله تعالى فيهما؟ وقد عدَّ مثل هذا الزعم مذموماً إذ هو قائم على شك أو ظن، وليس على علم؛ أي قطع. وهو من قبيل الإفك.(1/286)
المبحث الثالث: ... بين الشريعة ومقاصدها أو بين التعبد واتباع المعاني.
الفصل الخامس
قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها
وفي دخول المكلف تحت أحكامها
تمهيد:
هذا الفصل هو لبحث النوعين الثالث والرابع من مقاصد الشارع. ومما يستوقف هنا تعبير الشاطبي في النوع الثالث: (للتكليف بمقتضاها) خاصة إذا نظرنا إلى عنوان النوع الرابع: (دخول المكلف تحت أحكام الشريعة)، فما هو الفرق بين النوعين ؟
يمكن إدراك الفرق بينهما إذا أطلقنا على النوع الرابع اسم قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بها، وهذا يعني قصد التعبد والامتثال. أما النوع الثالث فهو التكليف بمقتضاها، أي مقتضى التعبد والامتثال، وهو الكلفة والمشقة. وقد علم من الشارع القصد إلى مصلحة العباد، وإلى التيسير، وهذا بخلاف المشقة والألم، فالشارع يقصد بالشريعة رفع المشقة، فهل ثمة تنافٍ هنا؟ وهل يرتفع التكليف بالمشقة، وهل ثمة مقدار لمشقة يرتفع بها التكليف، وكيف التوفيق بين أصل وقصد التعبد والامتثال وأصل وقصد المصلحة ورفع المشقة.
هذا هو موضوع الفصل، وقد جعلته في ثلاثة مباحث، الأول لأجل بيان مراد الشاطبي ومنهجه في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها والثاني والثالث لأجل بيان منهجه في بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة.
المبحث الأول
قصد التكليف بمقتضى الشريعة
معنى هذا النوع:
وموضوع هذا النوع هو أن الشارع لا يكلف بما ليس مقدوراً للمكلف، ولا بما يلزم عنه مشقة معنتة، لأن من مقاصد الشارع ابتداءً رفع المشقة ورفع الحرج، إلا أن مطلق المشقة لا يمكن الخروج عنها فهي ملابسة لكل تكليف، فما هو ضابط المشقة التي لا يكلف الله بما تلزم له، والمشقة التي يكلف الله سبحانه وتعالى بالأفعال التي يلازمها مثلها.(1/287)
وقد ورد عند الحديث عن مقدمته الثالثة قوله: "بخلاف الأصول فإنها مأخوذة من استقراء مقتضيات الأدلة بإطلاق لا من آحادها على الخصوص"(1). وذلك أن مقتضيات الأدلة هي معاني النصوص ومعاني الأحكام. أي هي الدلالات اللغوية، ومسببات الأحكام. والمعاني الشرعية هي المعاني المستقرأة سواء للنصوص أو للأحكام، وهي الكليات أو الأصول القطعية للشريعة. هذه الكليات يجب إعمالها عند النظر في النصوص، أي يجب توجيه معاني النصوص بحيث لا يخل المعنى المأخوذ منها بالأصول، والمعنى الذي يخل بأصل يُرد، وهو معنى إعمال الكليات مع الجزئيات. فإذا جاء قوله تعالى: { وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (2)، فإن النص يحتمل أكثر من معنى، وقد ثبت في الأصول عدم التكليف بما ليس في الوسع، فالمعنى الذي يتناقض مع هذا الأصل يُرَد، لذلك ينصرف المعنى عن التكليف بعدم الموت إلى مقتضياته.
والتكليف بما يلزم عنه مشقة ينظر فيه، فقد ثبت قصد الشارع لرفع المشقة وثبت قصده إلى إيقاع المأمور به، فهذان أصلان يظهر منهما التعارض وهما من مقتضيات الشريعة، أي من أصولها الكلية، فما الذي تقتضيه الشريعة في هذه الحالة؟
هذا هو سبب اختيار الشاطبي لهذا العنوان. أما لفظ: (التكليف) في العنوان فهو يحمل معنى الكلفة والمشقة. والمراد من ذلك أنه ما من عمل إلا وفيه كلفة، والتزام المكلف بأوامر الشريعة يقتضي مشقةً ولا بد، بغض النظر عن مقدارها، فهل يقصد الشارع رفع كل مشقة؟ يجيب الشاطبي بالنفي. وهذا يفتح الباب على موضوع شائك، أو قل يحتاج إلى فقه في الشرع وفي سياسة الشرع، وهو تقدير المشقة التي يرتفع بها التكليف.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/16.
(2) سورة آل عمران، 102.(1/288)
وفي الشريعة قواعد مشهورة مثل: الضرورات تبيح المحظورات، المشقة تجلب التيسير، إذا ضاق الأمر اتسع، الحاجة تنزل منزلة الضرورة، أو غير ذلك مما قد يصح أو لا يصح. ويستعمل بعض المعاصرين مثل هذه القواعد في أعذارهم وتبريراتهم أو فتاويهم. فهل تؤخذ مثل هذه القواعد على إطلاقها؟ فيشرع المحظور بأي ضرورة أو بمجرد الحاجة، وتتخذ المشقة دليلاً على الترخص؟ كلا، ولم يقل بهذا أحد. فما هي الضوابط؟ هذا هو جوهر هذا النوع من مقاصد الشارع.
إن القواعد والأصول التي دأب الشاطبي على تحريها، وسعى إلى إثباتها وتقريرها، إنما هي لحل إشكالات من هذا النوع بالدرجة الأولى، أي وضع الأصول والقواعد التي تحكم على الجزئيات والمعاني عندما تكون باعثاً على الشك والحيرة أو على الخلاف وتشعب النظر.
ومن الجدير بالذكر ان الأصول التي يقررها الشاطبي في هذا النوع من المقاصد مثل عدم التكليف بما لا يطاق، وعدم التكليف بالمشقات المعنته أو غير العادية، ورفع الحرج هي أصول حاجية، لأنها دائرة على التيسير والتخفيف والرفق بالمكلف وذلك هو تعريف الحاجيات.
التكليف والوسع:(1/289)
لقد ثبت في الأصول أن الله سبحانه وتعالى لا يكلف العبد بما هو فوق طاقته، ولذلك فإن الشاطبي يمر بها سريعاً، ولكنه يناقش ما ينبني عليها، يقول: "ثبت في الأصول أن شرط التكليف أو سببه القدرة على المكلف به، فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعاً وإن جاز عقلاً(1)... ونقول: إذا ظهر من الشارع في بادئ الرأي القصد إلى التكليف بما لا يدخل تحت قدرة العبد فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه، فقول الله تعالى: { وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (2)، وقوله في الحديث: "كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل"(3)، وقوله: "لا تمت وأنت ظالم"(4) وما كان نحو ذلك ليس المطلوب منه إلا ما يدخل تحت القدرة وهو الإسلام وترك الظلم والكف عن القتل والتسليم لأمر الله، وكذلك سائر ما كان من هذا القبيل"(5).
__________
(1) بخلاف المعتزلة، وبخلاف اللازم للتحسين والتقبيح العقلي، أو لتقرير المصالح والمفاسد بالعقل وهذا على فرض قدرة العقل على ذلك.
(2) سورة آل عمران، 102.
(3) أخرجه أحمد في المسند (21461).
(4) لم أجده.
(5) الشاطبي، الموافقات، 2/72.(1/290)
وعلى ذلك فالإنسان لا يكلف بما لا يقع تحت كسبه، ومن ذلك الأوصاف التي جُبل عليها، كالجوع والعطش وما شابه ذلك، فلا يطالب برفعها، ولكن يطلب منه هنا قهر النفس عن الجنوح إلى ما لا يحل. وما كان من الأوصاف مشتبهاً أمره كالحب والبغض والغضب وغيرها فإنه ينظر فيه، فإما أن يتوجه الطلب إلى سوابقها أو إلى لواحقها، يقول: "فإن ما في فطرة الإنسان من الأوصاف يتبعها بلا بد أفعال اكتسابية فالطلب وارد على تلك الأفعال لا على ما نشأت عنه"(1) وذلك كالمحبة، فالطلب ينصرف إلى الأسباب، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : "تهادوا تحابّوا"(2) وكشهوة الوقاع المحرم، فهو مسبب يطالب الإنسان برفع سببه وهو النظر المثير له(3). أما الغضب مثلاً، فالإنسان يطالب بلواحقه كعدم الانتقام. يقول: "وإن لم يكن المثير لها داخلاً تحت كسبه فالطلب يرد على اللواحق كالغضب المثير لشهوة الانتقام كما يثير النظر شهوة الوقاع"(4).
ويخلص إلى القول: "وإذا كانت على هذا الترتيب لم يصح التكليف بها أنفسها وإن جاء في الظاهر ما يظهر منه ذلك فمصروف إلى غير ذلك مما يتقدمها أو يتأخر عنها أو يقارنها والله أعلم"(5).
وصرف مقتضى الطلب إلى اللواحق أو السوابق أو القرائن إعمالاً لهذا الأصل، يقتضي إعمال أصول أخرى لتعيين ما الذي ينصرف إليه الطلب، والمعنى المصروف إليه لا يصح اعتباره إلا بعد ثبوت معناه بالاستقراء.
التكليف والمشقة:
تختلف الأحكام أو القواعد الشرعية المتعلقة بالمشقات بحسب اختلاف هذه الأخيرة، ويقتضي هذا الاختلاف بيان معانٍ للمشقة، وبحسب واقعها يرى الشاطبي أربعة معانٍ لها:
__________
(1) المصدر نفسه، 2/74.
(2) الموطأ (1413)، وهو قطعة من حديث: تصافحوا يذهب الغل وتهادَوا تحابوا وتذهب الشحناء.
(3) الشاطبي، الموافقات، 2/74.
(4) الموضع نفسه.
(5) المصدر نفسه، 2/75.(1/291)
الأول: أن يكون المراد بها عاماً في غير المقدور عليه وفي المقدور عليه إذا كان لا يطاق كالمقعد إذا تكلف القيام، والإنسان إذا تكلف الطيران من حيث أنه عناء لا يجدي فهذا حكمه حكم غير المقدور عليه وقد تبين.
الثاني: أن يكون المراد بها المشقة المعنتة، أي الخارجة عن المعتاد، وهي التي يؤدي تكلفها، أو الدوام عليها إلى دَخَلٍ في العقل أو النفس، أو يلجيء إلى ترك الواجبات أو فعل المحرمات. فهذه المشقة لا يقع الطلب على ما يستلزمها، وهي محل الترخص(1).
الثالث: أن يكون المراد بها المشقة العادية، أي غير المعنتة، الملازمة للأعمال العادية، وما تستلزمه هذه الأعمال من تعب وكلفة. فمثل هذه المشقات لا أثر لها على التكليف.
الرابع: أن يكون المراد بالمشقة مخالفة الهوى، من حيث أن التكليف يخرج المكلف عن الاسترسال مع هواه، ومثل هذه المشقة لا أثر لها على التكليف(2). والشارع ليس قاصداً لرفعها.
أصل عدم التكليف بالمشقات المعنتة:
__________
(1) سيأتي بيان معنى الرخصة المقصودة هنا.
(2) أنظر: الموافقات. 2/80.(1/292)
يقول الشاطبي: "فإن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالمشاق الإعنات فيه"(1) وأورد أدلة على سبيل الاستقراء المفيد للقطع، منها قوله تعالى: { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } (2) وقوله: { رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } (3) الآية وقوله: { لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا } (4)، وقوله: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (5)، وقوله: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (6)، وقوله: { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } (7)، { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } (8)، وفي الحديث: "بعثت بالحنيفية السمحة"(9)، و"ما خير بين شيئين ألا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً"(10)، وأدلةً أخرى(11). وقال: "ولو كان قاصداً للمشقة لما كان مريداً لليسر ولا للتخفيف ولكان مريداً للحرج والعسر وذلك باطل"(12)،
__________
(1) المصدر نفسه، 2/81.
(2) سورة الأعراف، 157.
(3) سورة البقرة، 286.
(4) سورة البقرة، 233.
(5) سورة البقرة، 185.
(6) سورة الحج، 78.
(7) سورة النساء، 28.
(8) سورة المائدة، 6.
(9) أخرجه أحمد (23710) بلفظ: إني أرسلت، بدل بعثت، وأخرج: "إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة"، برقم (21260).
(10) البخاري (3296)، ومسلم (4294)، وأبو داود (4153)، وأحمد (23702) وللحديث تكملة: فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه.
(11) أنظر: الشاطبي، الموافقات. 2/80.
(12) المصدر نفسه، 2/91..(1/293)
وقال: "فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد الإعنات والمشقة وقد ثبت أنها موضوعة على قصد الرفق والتيسير كان الجمع بينهما تناقضاً واختلافاً وهي منزهة عن ذلك"(1).
المشقات مفاسد:
وعلى ذلك فإن الشارع قاصد للرفق والتيسير بالمكلف، وقاصد لرفع المشقات، وبحسب منهجه تكون المشقات مفاسد، يجب رفعها ويحرم على المكلف أن يقصدها لذاتها، يقول: "المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظراً إلى عظم أجرها وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته"(2). وقال: "فلا يصلح منها (أي من مقاصد المكلف) إلا ما وافق قصد الشارع فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل، فالقصد إلى المشقة باطل، فهو إذاً من قبيل ما ينهى عنه، وما ينهى عنه لا ثواب فيه، بل فيه الإثم إن ارتفع النهي عنه إلى درجة التحريم، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض"(3). وقال: "ونهيه عن التشديد شهير في الشريعة بحيث صار أصلاً فيها قطعياً، فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس، كان قصد الملكف إليه مضاداً لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به، فإذا خالف قصده قصد الشارع بطل ولم يصح وهذا واضح وبالله التوفيق"(4)، وقال: "فقد عُلِمَ من الشارع أن المشقة ينهى عنها"(5). إلا أن هذا يثير مسألة، وهي أن المشقات ملازمة لأفعال الناس، وما من تكليف إلا وفيه مشقة، فكيف ينتظم كون الشارع قاصداً لرفع المشقة وللالتزام بالتكاليف معاً؟ الجواب من الشاطبي وبحسب منهجه، أن قصد الشارع لرفع المشقات أصل كلي، فلا يتخلف.
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) المصدر نفسه، 2/86.
(3) الشاطبي، الموافقات، 2/89.
(4) الموضع نفسه.
(5) المصدر نفسه، 2/85.(1/294)
ولما ثبت التكليف بما يلزم عنه مشقة، فالمخرج هو أنه ليس كل ما يسمى مشقة هو مشقة في الشرع، أي ليست هذه المشقات هي المعنى الذي وقع عليه أصل رفع المشقات، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإذا وقع التكليف على ما يلزم منه مشقة مما قصد الشارع رفعها، فهنا يتعارض أصلان؛ أصل الامتثال وأصل رفع المشقة، وهنا يتم الترجيح بين المصالح والمفاسد، ويكون الحكم لما يغلب في المحل، أي يجب الترجيح بين طلب الفعل لما فيه من مصلحة الامتثال، وطلب الترك لما فيه من مفسدة المشقة.
المشقة المعتادة لا تسمى مشقة:(1/295)
... ثبت بالاستقراء أن كل تكليف فيه مشقة مهما قلَّت، وهذا يفيد أصلاً كلياً قطعياً بأن الشارع يكلف بما فيه مشقة. وهنا يتعارض أصلان؛ أصل رفع المشقات، وأصل العمل بما يلزم عنه مشقة. وهنا رأى الشاطبي المخرج بأن ليس كل مشقة تعد مشقة في الشرع. فما هو الضابط لما يعد مما لا يعد؟ يقول الشاطبي: "فإنه لا ينازع في أن الشارع قاصد للتكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما، ولكن لا تسمى في العادة المستمرة مشقة كما لا يسمى في العادة مشقةً طلبُ المعاش بالتحرف وسائر الصنائع لأنه ممكن معتاد لا يقطع ما فيه من الكلفة عن العمل في الغالب المعتاد، بل أهل العقول وأرباب العادات يعدون المنقطع عنه كسلان ويذمونه بذلك. فكذلك المعتاد في التكاليف"(1)، ويضيف في بيان الضابط المطلوب: "وإلى هذا المعنى يرجع الفرق بين المشقة التي لا تعد مشقة عادة والتي تعد مشقة، وهو أنه إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه أو عن بعضه، أو إلى وقوع خلل في صاحبه في نفسه أو ماله أو حال من أحواله فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد، وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب فلا يعد في العادة مشقة وإن سميت كلفة"(2). ثم قال: "فعلى هذا ينبغي أن يفهم التكليف وما تضمن من المشقة"(3). ثم ذهب أبعد من ذلك، فرفض أن تسمى المشقات المعتادة مشقة، وبذلك يرتفع التعارض بين الأصلين، قال: "لا يسمى ما يلزم عن الأعمال العاديات مشقة عادة. وتحصيله أن التكليف بالمعتادات وما هو من جنسها لا مشقة فيه كما تقدم، فما يلزم عن التكليف لا يسمى مشقة"(4).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/82 - 83.
(2) الموضع نفسه.
(3) الموضع نفسه.
(4) المصدر نفسه، 2/85.(1/296)
وقال: "إذا لم تكن خارجةً عن المعتاد وإنما وقعت على نحو ما تقع المشقة في مثلها في الأعمال العادية، فالشارع وإن لم يقصد وقوعها فليس بقاصد لرفعها أيضاً، والدليل على ذلك أنه لو كان قاصداً لرفعها لم يكن بقاء التكليف معها لأن كل عمل عادي أو غير عادي يستلزم تعباً وتكليفاً على قدره قل أو جل"(1).
... ويلتحق بهذه المشقات مشقة مخالفة الهوى، فلا اعتبار لها في التكليف لأن من مقاصد الشارع إخراج المكلف عن إتباع الهوى إلى الامتثال. قال: "مخالفة ما تهوى الأنفس شاق عليها، وصعب خروجها عنه"(2). وقال: "ولكن الشارع إنما قصد بوضع الشريعة إخراج المكلف عن اتباع هواه حتى يكون عبداً لله. فإذاً مخالفة الهوى ليست من المشقات المعتبرة في التكليف وأن كانت شاقة في مجاري العادات، إذ لو كانت معتبرة حتى يشرع التخفيف لأجل ذلك لكان ذلك نقضاً لما وضعت الشريعة له، وذلك باطل"(3).
__________
(1) المصدر نفسه، 2/105.
(2) المصدر نفسه، 2/103.
(3) الموضع نفسه.(1/297)
... ويندرج تحت اتباع الهوى كثير من المواقف أو الفتاوى أو الأعمال التي يتذرع أصحابها بجلب المصالح ودرء المفاسد، وبعنوان مقاصد الشريعة، وتعيين المصالح والمفاسد بناء على الهوى، أو المنافع أو الأضرار التي قد تلحق بالشخص، فيباح لأجل ذلك فعل المحرمات أو ترك الواجبات، بحجة المحافظة على المنصب أو الوظيفة أو المال، أو طلب العلم، ويسمون التضحيات أو المشقات أو الأذى الذي قد يتعرضون له مفاسد. مع أن هذا المنهج في التفكير لا أصل له في الدين، حيث يجعل ما طلبه الشارع مفسدةً، وما نهى عنه مصلحة. وتعظم الفرية عندما يتمسك أصحاب مثل هذه المزاعم بالشاطبي ومنهجه، وهو إنما قام ينعي على هذا المنهج ويسمى هذه الاعتبارات هوى، وقد استشهد في معرض حديثه عن مشقة مخالفة الهوى بقوله تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } (1) وبقوله تعالى: { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ } (2)، وبقوله: { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } (3)، ثم قال: "كما أن المشقة تكون دنيوية كذلك تكون أخروية، فإن الأعمال إذا كان الدخول فيها يؤدي إلى تعطيل واجب أو فعل محرم فهو أشد مشقةً باعتبار الشرع من المشقة الدنيوية التي هي غير مخلة بدين. واعتبار الدين مقدمٌ على اعتبار النفس وغيرها في نظر الشرع"(4).
المشقات المعتبرة أو المقصود رفعها:
__________
(1) سورة الجاثية، 23.
(2) سورة النجم، 23.
(3) سورة محمد، 14.
(4) الشاطبي، الموافقات، 2/104.(1/298)
... تبين معنى المشقات التي قصد الشارع إلى رفعها، وعلى ذلك يحرم على العبد أن يقصدها. وهي المشقة الخارجة عن المعتاد، وهي المشقات التي تؤدي إلى الانقطاع عن الأعمال المطلوبة أو عن بعضها أو التي تؤدي إلى خلل في الإنسان. ومثل ذلك الحرج. فهو مقصود الرفع شرعاً. ومن الحرج أن يحمل المكلف نفسه أعمالاً تحمله بنوعها أو بكثرتها على التقصير بواجباته. يقول: "إعلم أن الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين: أحدهما: الخوف من الانقطاع من الطريق وبغض العبادة وكراهة التكليف وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله. والثاني: خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع، مثل قيامه على أهله وولده إلى تكاليف أخر تأتي في الطريق، فربما كان التوغل في بعض الأعمال شاغلاً عنها وقاطعاً بالمكلف دونها، وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الإستقصاء فانقطع عنهما"(1). وهنا يقع التعارض بين أصل الامتثال وأصل رفع المشقة، وهي مشقة حقيقية مما يقع عليها شرعاً اسم المشقة، أي مما قصد الشارع رفعها.
... لمثل هذه المشقات يشرع التخفيف في التكليف أو الترخص فتكون هذه المشقات أسباباً للرخص. ولكن تنبغي ملاحظة أن من المشقات العادية ما قد يكون معنتاً لبعض المكلفين، ومن المشقات المعنتة لعموم الناس ما هو عادي لبعضهم. وكذلك فإن في الشريعة مواضع للرخصة وليس ثمة مشقة مؤثرة، أو معنتة. فما هو معنى الرخصة، وكيف يكون التخفيف في التكليف أو رفعه إذا وجد سببه؟
معنى الرخصة:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/91.(1/299)
... تطلق الرخصة بأكثر من معنى، إلا أن المعنى المقصود والغالب هو ما يقابل العزيمة في أحكام الوضع، وهو الذي يفرِّع عليه الأصوليون، وهو الذي استعمله الشاطبي في بحثه للرخصة والعزيمة من أنواع أحكام الوضع، وبهذا المعنى فهي: "ما شرع لعذر شاق استثناءً من اصلٍ كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه"(1).
وقد تطلق بمعان أخرى يذكرها الشاطبي(2)، نذكر منها هنا ما يعنينا. يقول: "وقد يطلق لفظ الرخصة على ما وُضع عن هذه الأمة من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة التي دل عليها قوله تعالى: { رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } (3)" (4). وذكر من الأدلة بعض ما دل على أصل رفع المشقات. وبهذا المعنى يكون الترخص راجعاً إلى أصل قطعي كلي من الأصول الحاجية، وليس بالمعنى الذي درج عليه الأصوليون.
... والتعريف الاصطلاحي الأول يعني الرخص التي نصَّ عليها الشرع، فيباح استعمالها بمجرد وجود سببها ولو فقدت المشقة، كرخصة القصر أو الجمع عند السفر، وهذه الرخص جزئية ولذلك قال فيها"استثناءً من أصل كلي"، ولذلك لا يقاس عليها ويقتصر فيها على مواضعها المنصوصة.
... أما التعريف الثاني فهو مقصود الشاطبي بالترخص أو التخفيف عند وجود الحرج أو المشقات المعنتة.
__________
(1) المصدر نفسه، 1/290.
(2) الموضع نفسه.
(3) سورة البقرة، 286.
(4) الشاطبي، الموفقات. 1/212.(1/300)
... وفي الحالتين المشقة المعنتة هي العلة الموضوعة شرعاً للرخصة، إلا أنه لما كانت المشقات إضافية، أي تختلف باختلاف المكلفين، ولا تنضبط، فقد جعل الشارع للعلل المنصوصة أسباباً تعرف بها. فإذا وجد السبب يجوز العمل بالرخصة ولو لم توجد المشقة المعنتة وذلك لأن الرخصة منصوصة، وإذا وجد السبب ووجدت معه المشقة المعنتة، كأن يكون في السفر مشقة معنتة، فإنه يجب الخروج عن المشقة وجوباً، وذلك كالمضطر إذا شارف على الهلاك يجب عليه أكل الميتة مثلاً، وإنما يسمى الأمر رخصة لأنه وقع عليه حد الرخصة.(1/301)
... يقول: "والمشقة الحقيقية هي العلة الموضوعة للرخصة، فإذا لم توجد كان الحكم غير لازم، إلا إذا قامت المظنة، وهي السبب، مقام الحكمة، فحينئذٍ يكون السبب منتهضاً على الجواز لا على اللزوم"(1). ويقول: "فليس للمشقة المعتبرة في التخفيفات ضابط مخصوص ولا حد محدود يطرد في جميع الناس، ولذلك أقام الشرع في جملة منها السبب مقام العلة لأنه أقرب مظان وجود المشقة وترك كل مكلف على ما يجد... وترك كثيراً منها موكولاً إلى الاجتهاد"(2) ولنتنبه إلى قوله: "في جملة منها"، فالمقصود هو الرخص المنصوصة، وهذا يعني أن منها ما لم يقم الشرع له سبباً يقوم مقام العلة، وعلى ذلك نعمل العلة نفسها للتخفيف، وهي المشقة الحقيقية، وهنا يدخل الترخص بالمعنى الثاني، وهو عند وجود المشقة الحقيقية، أي المعنتة، وقوله: "وترك كل مكلف على ما يجد..." فذلك أن من الأعمال ما يشق على البعض ويسهل على غيرهم، لذلك فهذه الرخص إضافية كما أن المشقات إضافية. يقول: "إن الرخصة إضافية لا أصلية بمعنى أن كل أحد في الأخذ بها فقيه نفسه ما لم يُحَدَّ فيها حد شرعي يوقف عنده"(3). وقال: "فرب رجل ضرى على قطع المهامه حتى صار له ذلك عادةً لا يحرج بها ولا يتألم بسببها... وربَّ رجل بخلاف ذلك"(4). وقال: "وكثير من الناس يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الرجلين دون الآخر، وهذا لا مرية فيه"(5).
أسباب الرخص:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/233.
(2) المصدر نفسه، 2/218 - 219.
(3) الشاطبي، الموافقات، 2/218 - 219.
(4) الموضع نفسه.
(5) الموضع نفسه.(1/302)
... تقدّم أن المشقة الحقيقية هي علة الرخصة. إلا أن المشقة لما كانت إضافية، والناس متفاوتون في التحمل، فقد نص الشرع على جملةٍ من الرخص توجد بوجود أسبابها، كرخص القصر والجمع والإفطار في السفر، وهذه الرخص حكمها الإباحة مطلقاً عند الشاطبي. إلا أنه إن وجدت مشقة معنتة، يصبح الأخذ بالرخصة واجباً، وإن ظل اسمها رخصة، قال: "ولا كلام أن الرخصة ههنا جارية مجرى العزائم ولأجله قال العلماء بوجوب أكل الميتة خوف التلف وإن لم يفعل ذلك فمات دخل النار"(1) والمشقة قسمان: معتادة وغير معتادة، فالأولى غير مقصودة الرفع شرعاً، والثانية يجب الترخص عندها. قال: "حيث تكون المشقة الواقعة بالمكلف في التكليف خارجة عن معتاد المشقات في الأعمال العادية حتى يحصل بها فساد ديني أو دنيوي فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة"(2). ويكون الفعل الذي يسبب هذه المشقة منهياً عنه، فإما أن يرتفع من أصله وإما أن يحصل فيه التخفيف.
__________
(1) المصدر نفسه، 2/223.
(2) المصدر نفسه. 2/105.(1/303)
... واختلاف المشقات باختلاف الناس يجعل الترخص مختلفاً بحسب ما يتحملون، وذلك أن الرخصة معللة بالمشقة المعنتة أو غير المعتادة: والحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً. يقول: "إن النهي لعلة معقولة المعنى مقصودة للشارع(1) وإذا كان كذلك فالنهي دائر مع العلة وجوداً وعدماً. فإذا وجد ما علل به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان النهي متوجهاً ومتجهاً وإذا لم توجد(2) فالنهي مفقود إذ الناس في هذا الميدان على ضربين"(3). ثم ذكر صنفين من الناس، صنف يتسبب لهم العمل بمشقة زائدة على المعتاد فتؤثر فيهم أو في غيرهم، وهؤلاء هم غالب المكلفين، فقال فيهم: "فمثل هذا لا ينبغي أن يرتكب من الأعمال ما فيه ذلك بل يترخص فيه"(4). وأشار إلى أن الترخص إنما يكون بحسب الشرع فقال: "يترخص فيه بحسب ما شرع له في الترخص إن كان مما لا يجوز تركه أو يتركه إن كان مما له تركه وهو مقتضى التعليل"(5).
... والصنف الثاني هم الزهاد أو العباد الأتقياء أو الصوفيون أو أرباب الأحوال كما يسميهم في مواضع عديدة من كتابه، فهولاء يستطيعون ما لا يستطيعه غيرهم لأن حب الله زهدهم في حظوظهم ومنافعهم وشهواتهم ولو كانت مشروعة، فصاروا قادرين على أن يملأوا وقتهم بمزيد من الوظائف الشرعية، فهولاء لا يجب عليهم الترخص لأن العلة منتفية في حقهم(6).
... وثمة صنف آخر من الناس يذكره الشاطبي في مواضع أخرى من كتابه، وهم أرباب الحظوظ في مقابلة أرباب الأحوال، فهؤلاء قد يكون تركهم للمكروه وفعلهم للمندوب موقعاً في مكروه أشد أو في حرام، أو مؤدياً إلى ترك مندوب أعظم أو واجب، فهؤلاء في هذه الحالة، يكون تركهم للمندوب أولى، أو فعلهم للمكروه أولى.
__________
(1) وهي رفع المشقة أو الحرج أو الاضطرار.
(2) أي العلة.
(3) الشاطبي، الموافقات، 2/105.
(4) الموضع نفسه.
(5) الموضع نفسه.
(6) المصدر نفسه، 2/93 - 94 - 95.(1/304)
... ولكن لا يتغير في حقهم حكم الحلال والحرام، وهؤلاء - أرباب الحظوظ - يجب عليهم الترخص في مواضع الرخصة، يقول: "هؤلاء لا بد لهم من استيفاء حظوظهم المأذون لهم فيها شرعاً لكن بحيث لا يخل بواجب عليهم ولا يضر بحظوظهم فقد وجدنا عدم الترخص في مواضع الترخص بالنسبة إليهم موقعاً في مفسدة أو مفاسد يعظم موقعها شرعاً" (1).
شروط الترخص:
... إن عدم التكليف بما لا يطاق، وعدم التكليف بالمشقات المعنتة هو أمر شرعي لا دور للعقل فيه، وكذلك فإن مواضع الرخصة ونوع الرخصة هو أمر شرعي، ولذلك فللرخصة شروط. وقد ظهر فيما سبق بعض هذه الشروط، وذلك أن تكون المشقة معنتة، وفيما يلي ذكر هذه الشروط من باب تمام البحث.
... يقول: "المشقة إذا أدت إلى الإخلال بأصل كلي لزم أن لا يعتبر فيه أصل العزيمة إذ قد صار إكمال العبادة هنا والإتيان بها على وجهها يؤدي إلى رفعها من أصلها، فالإتيان بما قدر عليه منها، وهو مقتضى الرخصة هو المطلوب"(2). ويلحق بهذه المشقة الحرج يقول: "إنما الحرج في حق من يلحقه الحرج حتى يصده عن ضروراته وحاجاته"(3) وكذلك الاضطرار يقول: "حالة الاضطرار قد تبين أنه الذي يخاف معه فوت الروح وذلك لا يكون إلا بعد العجز عن العبادات والعادات، وهو في نفسه عذر أيضاً"(4) فهذه التعريفات تبين شرطاً من شروط المشقات وهو الإخلال بأصل كلي. وهو يسميها كما تبيّن معنتة أو حقيقيةً.
__________
(1) المصدر نفسه، 2/98 - 99.
(2) الشاطبي، الموافقات، 1/233.
(3) المصدر نفسه، 1/219.
(4) المصدر نفسه، 1/218.(1/305)
... ومن الشروط أو تكون المشقة واقعةً أو محققة الوقوع، ولا يكفي أن تكون مبنيَّة على الظنون والتقديرات غير المحققة، فإن هذا توهم لا اعتبار له. يقول: "إن الظنون والتقديرات غير المحققة راجعة إلى قسم التوهمات وهي مختلفة. وكذلك أهواء النفوس فإنها تقدر أشياء لا حقيقة لها، فالصواب الوقوف مع أصل العزيمة إلا في المشقة المِخلَّة الفادحة، فإن الصبر أولى ما لم يؤدِّ ذلك إلى دخل في عقل الإنسان أو دينه، وحقيقة ذلك أن لا يقدر على الصبر، لأنه لم يؤمر بالصبر إلا من يطيقه، فأنت ترى بالاستقراء أن المشقة الفادحة لا يلحق بها توهمها، بل حكمها أضعف بناء على أن التوهم غير صادق في كثير من الأحوال، فإذاً ليست المشقة بحقيقية... والأحرى البقاء مع الأصل"(1). أي مع العزيمة، أما إن كان وقوع هذه المشقة متردداً بين التحقق والظن، والغالب وقوعها بحسب مجاري العادات، فإن هذا مجال للمجتهدين.
... ومن الشروط أن لا يكون تقرير المشقة مسايرةً للهوى، يقول: "إن مراسم الشريعة مضادة للهوى... وكثيراً ما تدخل المشقات وتتزايد من جهة مخالفة الهوى واتباع الهوى ضد اتباع الشريعة والمتبع للهوى يشق عليه كل شيء سواءٌ كان في نفسه شاقاً أو لم يكن"(2).
__________
(1) المصدر نفسه، 1/233.
(2) المصدر نفسه، 1/230.(1/306)
ومن شروطها أن يكون الحكم بكونها معنتةً أو خارجةً عن المعتاد راجعاً إلى الشرع وقد يقال بأن هذا راجع إلى الشرطين السابقين. إلا أنه يختلف عنهما من جهة أنه قد تكون المشقة مخلةً بأصل كلي، ومع ذلك فلا رخصة(1) وذلك كمشاق الجهاد. يقول: "وكونه شاقاً على بعض الناس أو في بعض الأحوال لا يخرجه عن أن يكون مقصوداً له"(2) أي لله تعالى. ويقول: "إن المشقة قد تبلغ في الأعمال المعتادة ما يظن أنه غير معتاد، ولكنه في الحقيقة معتاد، ومشقته في مثلها ما يعتاد، إذ المشقة في العمل الواحد لها طرفان وواسطة، طرف أعلى... وطرف أدنى... وواسطة هي الغالب والأكثر"(3). وعلى ذلك فالمشقة قد تزداد فيظن أنها صارت من غير المعتاد، بينما هي للعارفين بمجاري العادات، أي بما جرت عليه عادة الشرع في التكليف، ما تزال في الوسط. وقد علم من مقاصد الشارع في التكليف أن المشقات تقع للعباد ابتلاءً واختباراً. وإذا كان كذلك فإنه يلزم للحكم على المشقة بأنها من المعتاد أو غير المعتاد أن يكون ذلك راجعاً إلى الشرع وإلا بطل الاختبار والابتلاء. قال: "العوارض الطارئة تقع للعباد ابتلاءً واختباراً لإيمان المؤمنين وتردد المترددين حتى يظهر للعيان من آمن بربه على بينة ممن هو في شك، ولو كانت التكاليف كلها يخرم كلياتها كل مشقة عرضت لانخرمت الكليات كما تقدم ولم يظهر لنا من ذلك شيء ولم يتميز الخبيث من الطيب"(4).
__________
(1) وذلك أن مقدار المشقة المعتبرة شرعاً تختلف باختلاف الأعمال وسيتبين هذا بعد قليل عند الحديث عن وسطية الشريعة.
(2) الشاطبي، الموافقات، 1/227.
(3) المصدر نفسه، 2/106.
(4) المصدر نفسه، 1/228.(1/307)
... ومن شروط الترخص أن تكون الرخصة بحسب الشرع، فلا يخرج من المشقة التي جعل له الشرع أن يخرج منها إلا بواسطة الشرع، فيأخذ ما أعطاه الشرع من تخفيف ولا يحكم هواه، فهذا الأمر راجع إلى التحسين والتقبيح، ولا مجال للعقل فيه. قال: "كل أمر شاق جعل فيه الشارع للمكلف مخرجاً، فقصد الشارع بذلك المخرج أن يتحراه المكلف إن شاء، كما جاء في الرخص شرعية المخرج من المشاق، فإذا توخى المكلف الخروج من ذلك على الوجه الذي شرع كان ممتثلاً لأمر الشارع آخذاً بالحزم في أمره، وإن لم يفعل ذلك وقع في محظورين: أحدهما مخالفته لقصد الشارع، كانت تلك المخالفة في واجب أو مندوب أو مباح، والثاني سد أبواب التيسير عليه، وفقد المخرج عن ذلك الأمر الشاق الذي طلب الخروج عنه بما لم يشرع له"(1).
... وقال: "المكلف في طلب التخفيف مأمور أن يطلبه من وجهه المشروع، لأن ما يطلب من التخفيف حاصل فيه حالاً ومآلاً على القطع في الجملة، فلو طلب ذلك من غير هذا الطريق لم يكن ما طلب من التخفيف مقطوعاً به ولا مظنوناً، لا حالاً ولا مآلاً، لا على الجملة ولا على التفصيل" (2). وقال: "فالرجوع إلى الوجه الذي وضعه الشارع رجوع إلى وجه حصول المصلحة والتخفيف على الكمال، بخلاف الرجوع إلى ما خالفه"(3).
وسطية الشريعة:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/240.
(2) المصدر نفسه، 1/243.
(3) الموضع نفسه.(1/308)
... "الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقةٍ عليه ولا انحلال"(1) بهذا المعنى يختم الشاطبي هذا النوع من مقاصد الشارع، وهذا المعنى قد تبين فيما سبق، ولا حاجة لإعادة التأكيد له ولقصد الشاطبي منه، لولا ما يتردد أحياناً من معانٍ لا واقع لها حول الوسط والوسطية أو وسطية الشريعة. فمفهوم الوسط، هو الأمر الواقع بين طرفين بحيث يكون أحدهما بمعنى التشدد والآخر بمعنى الانحلال أو أحدهما بمعنى الإفراط والآخر بمعنى التفريط، أو ما قد يتخيل من طرفين على جانبي الوسط. وعلى ذلك يطلق لفظ الوسط بمعنى أو بقصد التحسين أو التجميل أو القبول لما يقع بين طرفين. ومثل ذلك قد يقال عن العدل. يقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في معرض إيراده أدلة على مراعاة الشريعة للمصالح: "قوله تعالى: { * إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (2). وحقيقة العدل بين شيئين أو شخصين المعادلة والموازنة بينهما في أمر ما، فالمقصود به إذاً مراعاة التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في كل شيء، وليس حقيقة انتظام مصالح الناس وتناسقها مع بعض إلاَّ خطاً مستقيماً يفصل بين طرفي الإفراط والتفريط في شؤونهم، وهما طرفان ينتهيان بالمفسدة لا محالة"(3).
__________
(1) المصدر نفسه، 2/110.
(2) سورة النحل، 90.
(3) محمد سعيد رمضان البوطي، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، ص:71. ط 5، مؤسسة الرسالة، الدار المتحدة، 141هـ - 1990م.(1/309)
والواقع أن ألفاظ العدل والوسط لها وقع حسن على النفس، إلا أنها وغيرها كألفاظ الظلم والإفراط والتفريط لا يصح أن يفهم منها شيء إذا لم ترتبط بأساس تفهم بناءً عليه. فالشرائع الوضعية والمحرفة عندها ما تسميه العدل والظلم أو المنكر، وعندها ما تسميه الحق والباطل، ولو نظرنا إلى ما فيها من عدل وقسناه على شريعتنا لوجدناه عين الظلم، ولوجدنا الحق فيها باطلاً والإحسان منكراً... فهذه الألفاظ لا تفهم إلا من خلال ما تدل عليه، أي من خلال ما جاءت الشريعة لتعرفنا أنه عدل أو ظلم أو إحسان أو غير ذلك. بتعبير آخر، إن القول: الشريعة عدل أو الشريعة وسط إذا كان المراد منه أننا نعرف العدل ونعرف الوسط، والشريعة تأمرنا بهذا الذي نعرفه فهو خطأ. والمعنى الذي يصح هو أن الشريعة جاءت بأوامر ونواهي، وما أمرت به هو العدل وهو الوسط، وبمعرفته يعرف ما هو العدل والوسط، وما هو بخلاف ذلك، وعلى ذلك فالقول إن العدل هو الخط المستقيم بين طرفي الإفراط والتفريط هو كلام لا مفهوم له. وحتى يصبح لهذا الكلام واقعٌ يُدرك يجب معرفة ما هو الإفراط وما هو التفريط. أليس قد يكون ما يراه الإنسان إفراطاً هو الوسط والعدل أو هو التفريط. وما يراه تفريطاً هو العدل والوسط أو هو الإفراط. وما يراه عدلاً أو وسطاً هو الإفراط أو التفريط. أوليس هذا أيضاً متلازماً مع القول بأن التحسين والتقبيح شرعيان لا عقليان. لهذا لزمت الإشارة إلى ما يتردد من قراءات خاطئة للشاطبي في هذا الأمر. وإلى أن ترويج مثل هذه الكلمات: الوسط أو الوسطية أو وسطية الشريعة بدون تعيين أساس لتجسيد هذه الألفاظ في معانٍ هو من السطحية في الفكر والإدراك. والشاطبي لا يعرف الوسط بناءً على الشعور بما هو إفراط أو تفريط، وإنما هو يعرف الإفراط والتفريط بالميل عن الوسط.(1/310)
يقول: "والتوسط يعرف بالشرع، وقد يعرف بالعوائد وما يشهد به معظم العقلاء كما في الإسراف والإقتار في النفقات"(1). فهو عندما يجعل الحق مع التوسط يعرف التوسط بأنه ما دل عليه الشرع، أو قُل ما دل عليه الشرع فهو التوسط أو الوسط. أما قوله: "وما يشهد به معظم العقلاء" فقد جعل ذلك في الأمور التي جعل الشرع الفصل فيها للعرف أو لأهل المعرفة والخبرة كمهر المثل وأجر المثل ونفقة المثل. وكتعريف الغني والفقير والبطر والتقتير فإن هذه الأمور كلها إضافية.
بهذا المعنى جاء قول الشاطبي أن الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل. ثم يقول بأنه إذا جاء في تكاليف الشريعة ما فيه ميل إلى جهة أحد الطرفين، فذلك من سياسة الشرع في التشديد أو التخفيف بحسب ميل المكلف إلى الطرف الآخر. يقول: "فإذا نظرت في كليةٍ شرعيةٍ فتأملها تجدها حاملةً على التوسط فإن رأيت ميلاً إلى جهة طرف من الأطراف، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر... وعلى هذا إذا رأيت في النقل من المعتبرين في الدين من مال عن التوسط فاعلم أن ذلك مراعاةً منه لطرف واقع أو متوقع في الجهة الأخرى"(2).
اختلاف مقدار المشقة المعتادة باختلاف الأعمال:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 2/114.
(2) الشاطبي، الموافقات، 2/113 - 114.(1/311)
وهذا مما يزيد البيان لما ذُكر أعلاه، وهو أن المشقة التي تعد خارجة عن المعتاد في عمل ما، قد لا تعد كذلك في عمل آخر وإن كانت أثقل أو أشد. وبذلك فالوسطية تختلف باختلاف الأعمال. يقول: "التعب والمشقة في الأعمال المعتادة مختلفة باختلاف تلك الأعمال... ولكن كل عمل في نفسه له مشقة معتادة فيه توازي مشقة مثله من الأعمال العادية"(1). ويقول: "المشقة في العمل الواحد لها طرفان وواسطة"(2). فقوله: "في العمل الواحد" يدل على هذا المعنى وعلى ذلك فالمشقة المعتادة والمشقة غير المعتادة تعرفان بالشرع، وفي كل عمل على حدة. فقد يعد الشرع المشقة غير معتادة في عمل وهي أخف على المكلف مما يعده معتاداً في عمل آخر. يقول: "فكثير مما يظهر ببادئ الرأي من المشقات أنها خارجة عن المعتاد ولا يكون كذلك لمن كان عارفاً بمجاري العادات، وإذا لم تخرج عن المعتاد لم يكن للشارع قصد في رفعها كسائر المشقات المعتادة"(3). وقال: "فحيث قال الله تعالى: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } (4) ثم قال: { إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } (5) كان هذا موضع شدة لأنه يقتضي أن لا رخصة أصلاً في التخلف إلا أنه بمقتضى الأدلة على رفع الحرج محمول على أقصى الثقل في الأعمال المعتادة بحيث يتأتى النفير ويمكن الخروج"(6). أي إن المشقة هنا وإن كانت ثقيلة فالشرع يعدها من المعتاد في مثل هذا العمل، ولا تخضع لأصل التكليف بما لا يطاق أو ما لا يتأتى للإنسان القيام به. وقال: "وأصل الحرج الضيق فما كان من معتادات المشقات في الأعمال المعتاد مثلها فليس بحرج لغةً ولا شرعاً، كيف وهذا النوع من الحرج وضع لحكمةٍ شرعية وهي التمحيص والاختبار" (7).
__________
(1) المصدر نفسه، 2/105.
(2) المصدر نفسه، 2/106.
(3) الموضع نفسه.
(4) سورة التوبة، 41.
(5) سورة التوبة، 39.
(6) الشاطبي، الموافقات. 2/106 - 107.
(7) المصدر نفسه، 2/107.(1/312)
المبحث الثاني
قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة
تمهيد لهذا النوع:
... هذا هو النوع الرابع من مقاصد الشارع، وهو أهمها عند الشاطبي، والأنواع الثلاثة السابقة إنما هي خادمة له. فالنوع الأول وهو أن التكاليف ترجع إلى حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات يبين غايات وعلل الشريعة لتكون أصولاً تتوجه بها وتبنى عليها الجزئيات والفروع، والنوع الثاني وهو وضع الشريعة للإفهام يبين أصول فهم معاني الألفاظ والتراكيب والنصوص وذلك لمعرفة المعاني والأحكام والنوع الثالث وهو وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها فهو يبين كيفية إعمال النصوص مع المحافظة على الأصول أو الكليات وهو يرجع في معناه إلى إعمال الكليات والجزئيات معاً وعدم إهمال أي منهما، وذلك لأجل استنباط الأحكام الفروعية. فالأنواع الثلاثة تخدم عملية التوصل إلى الحكم الشرعي. وموضوع النوع الرابع، دخول المكلف تحت أحكام الشريعة، هو الامتثال، فإذا جاء الأمر أو النهي من الشارع وجبت الطاعة ولا يجوز الإفتاء بغير ذلك أو الخروج عنه لأي سبب من الأسباب. وإذا كان ثمة استثناء أو رخصة في حالة ما، فإن الطلب الشرعي أصلاً لا يتناول تلك الحالة.
... وإذا كان النوعان الثاني والثالث لا يثيران خلافات فقهية أو أصولية ذات تأثير منهجي في التعليل والاستنباط، فإن النوعين الأول والرابع يثيران جدلاً كبيراً.(1/313)
... فالعلماء الذين سبقوا الشاطبي وقالوا بالنوع الأول من مقاصد الشريعة، قالوا بتعليل الأحكام بالحِكَم، على أساس أن هذه الحِكَم هي المعاني المصلحية أو الأوصاف المناسبة وهي ما لو عرض على العقول تلقته بالقبول. أما الشاطبي فقد اختلف عنده مفهوم المصلحة عمن سبقه. والفرق بين الاثنين هو كالفرق بين قولهم: ما حصل الظن به عقلاً أو وقع في القلب كونه مصلحة أو حكمة مقصودة بالحكم فهو علة، وقوله: ما ثبت قطعاً عن طريق استقراء الأحكام كونه غايةً أو مقصوداً للشارع فهو علة ومصلحة. بتعبير آخر، يقولون: المصلحة علة. ويقول: العلة مصلحة.
... وبين المنهجين اختلاف يقلب الأمور رأساً على عقب. وهو اختلاف لا يقتصر على ما تبين من مفهومه للمصالح والمفاسد، وإنما يتجاوزه إلى أمور أخرى(1).
__________
(1) ولقد شاعت في عصرنا فكرة التعليل بالمصلحة أو التشريع بناءً عليها، وصدر بناءً على ذلك آراء وفتاوى واضحة البطلان. وتذرع البعض في سبيل ذلك بأفكار ينسبونها إلى الشرع مثل جلب المصالح ودرء المفاسد والضرورة والتيسير ومرونة الشريعة وجواز تغير الأحكام بتغير الزمان. ولم يأخذ هؤلاء بالشروط التي قال بها الأئمة الذين يقولون بالمصالح. ومن هذه الشروط أن لا يؤدي هذا التعليل إلى إبطال الحكم المعلل، ومنها أن لا يكون الوصف المصلحي الذي يعلل به منقوضاً بنص أو معارضاً بمعنى مصلحي يعلل به حكم آخر. ولقد ذهب بعض المعاصرين إلى ضرورة توسيع دائرة الحلال عن طريق ما أسموه الاستحسان الواسع والقياس الواسع، بمعنى عدم التقيد بشروط صحة القياس أو صحة الاستحسان بسبب أن تلك الشروط دخلت إلى علم أصول الفقه عن طريق المنطق الإغريقي. ذهب إلى هذا الدكتور حسن الترابي في كتابه تجديد أصول الفقه.
وقد دعا في كتابه إلى منهج يدعو إلى عدم الالتزام بآحاد النصوص، وإنما إلى الاعتماد على جملة من النصوص يؤخذ منها المعنى العام أو جنس المصلحة، ثم يكون التشريع بناءً على المعنى العام. ولا يحتفل حينئذٍ بمخالفة التشريعات الجديدة لآحاد النصوص. وقد تابعه في هذا المنهج الشيخ راشد الغنوشي في كتابه (الحريات العامة في الدولة الإسلامية). وفي مقابلة صحفية مع مجلة الشراع اللبنانية قال الشيخ الغنوشي رداً على أن أفكاره مستغربة بمقياس الإسلام قال: "مازالت تحكمنا عقدة النص" وقال: "الترابي أستاذ جيل أنا واحد منه". وصارت الأحكام تُعطى في عصرنا بحسب أهواء المتنفذين، حتى نُسب إلى البعض قوله: عليك الرأي وعليَّ الدليل. وإلى غيره قوله قدم لي ما ينفع الناس أقدم لك الدليل.. أنظر: مقالة بعنوان (رد افتراءات على الشاطبي)، لمحمود عبد الكريم حسن، مجلة الوعي، العدد: 88، ربيع الأول 1415هـ - 1994م. وانظر: الموافقات بتحقيق أبي عبيدة، في مقدمته على الكتاب، ج1، الهامش، ص 42.(1/314)
... لذلك تراه في كثير من المواضع في الموافقات يحمل على الفتاوى التي تصدر متذرعةً بالمصلحة أو بالحاجة، ويحمل على الترخص من غير رخصة، ويحمل على المفتين الذين يأتون بمثل هذه الآراء مستندين إلى أن شريعة الإسلام حنيفية سمحة، فيقول مثلاً: "إن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيداً بما هو جار على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها"(1)، ويقول: "تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى... وربما استجاز هذا بعضهم في مواطن يدعي فيها الضرورة وإلجاء الحاجة بناءً على أن الضرورات تبيح المحظورات، فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض... فهذا أيضاً من ذلك الطراز المتقدم فإن حاصله الأخذ بما يوافق الهوى الحاضر، ومحالُّ الضرورة معلومة من الشريعة"(2)، ثم يقول: "قلَّ الورع والديانة في كثير ممن ينتصب لبث العلم والفتوى"(3) وسنناقش هذا الأمر بالتفصيل - إن شاء الله - في فصل الاجتهاد والتقليد.
... لهذا وجدنا الشاطبي في هذا النوع من المقاصد متتبعاً مستقصياً، يناقش مسألة كون التشريع لمصالح العباد، ويردها إلى أصل الامتثال والعبودية لله، ويناقش مسألة التغير في عادات الناس باختلاف الأزمنة والأمكنة ويبين أن لا أثر لذلك على الأحكام الشرعية، ويناقش مسألة الوقوف على النص أو اتباع المعاني، ويبين أن اتباع المعاني يجب أن لا يخرج عن النص بحالة من الأحوال.
... ولقد بلغ حجم مباحث الشاطبي في هذا النوع من المقاصد مجموع مباحثه في الثلاثة الأنواع السابقة، واستغرق - تقريباً - نصف الجزء الثاني من كتاب الموافقات.
أصل الامتثال أو التعبد:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 4/81.
(2) الشاطبي، الموافقات. 4/81.
(3) المصدر نفسه، 4/82.(1/315)
... يركز الشاطبي على أن التقيد بالأوامر والنواهي أصل في الشريعة، وعلى أن العبودية لله يجب أن تكون في كل عمل من أعمال المكلف، وكل عمل ليس فيه تعبد لله فهو اتباع للهوى. ويركز على أن تقرير المصلحة والمفسدة راجع إلى وضع الشارع، وأن اتباع المصلحة إذا كان بحسب نظر العبد من غير اعتبار لحكم الشرع في تلك المصلحة فهو اتباع للهوى بإطلاق، وما كان كذلك فهو باطل بإطلاق.(1/316)
... يقول: "المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبدٌ لله اضطراراً"(1). ثم يأتي بأدلة على ذلك تفيد استقراءً قاطعاً على منهجه. يقول: "والدليل على ذلك أمورٌ: أحدها: النص الصريح الدال على أن العباد خلقوا للتعبد لله والدخول تحت أمره ونهيه كقوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } (2). وقوله تعالى: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ } (3). وقوله: ج { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (4)... إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالعبادة على الإطلاق وبتفاصيلها على العموم فذلك كله راجع إلى الرجوع إلى الله في جميع الأحوال والانقياد إلى أحكامه على كل حال وهو معنى التعبد لله... والثاني: ما دل على ذم مخالفة هذا القصد من النهي أولاً عن مخالفة أمر الله وذم من أعرض عن الله... وأصل ذلك اتباع الهوى والانقياد إلى طاعة الأغراض العاجلة والشهوات الزائلة... والثالث: ما علم بالتجارب والعادات من أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى والمشي مع الأغراض"(5). وبناءً على ذلك فما من عمل للعبد إلا ويدخله التعبد لله، فيجب أن تصاحبه نية الامتثال، ولا يكون ذلك إلا بإذن من الشارع. وذلك أن التحسين والتقبيح أو المصلحة والمفسدة يعرفان بالشرع، وإذا لم يكن للشرع ثمة مدخل للتعريف بذلك فالمتبع هو الهوى، إذ الأمر محصور بين الشرع والهوى ولا ثالث لهما.
__________
(1) المصدر نفسه، 2/141.
(2) سورة الذاريات، 56 - 57.
(3) سورة طه، 132.
(4) سورة البقرة، 21.
(5) الشاطبي، الموافقات. 2/114 - 115.(1/317)
يقول: "فقد جعل الله اتباع الهوى مضاداً للحق وجعله قسيماً له... فقد حصر الأمر في شيئين الوحي وهو الشريعة، والهوى، فلا ثالث لهما، وإذا كان كذلك فهما متضادان وحين تعين الحق في الوحي توجه للهوى ضده... فهذا كله واضح في أن قصد الشارع الخروج عن اتباع الهوى والدخول تحت التعبد للمولى"(1).
... وهو بجعله الوحي والهوى قسيمين ينفي وجود حكم للعقل، وما يتوهم أنه حكم للعقل مقابل حكم الشرع إنما هو هوى. وعلى ذلك فإن ما يقال بأنه حكمة أو مصلحة بحسب العقلاء والحكماء، إذا لم يكن ذلك بتقرير الوحي فهوهوى. وقد بنى على ذلك قواعد فقال: "فإذا تقرر هذا انبنى عليه قواعد منها أن كل عمل كان المتبع فيه الهوى بإطلاق من غير التفات إلى الأمر أو النهي أو التخيير فهو باطل بإطلاق لأنه لا بد للعمل من حامل يحمل عليه وداعٍ يدعو إليه فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة، وما كان كذلك فهو باطل بإطلاق لأنه خلاف الحق بإطلاق"(2) ومن هذه القواعد: "إن اتباع الهوى طريق إلى المذموم وإن جاء في ضمن المحمود(3) لأنه إذا تبين أنه مضاد بوضعه لوضع الشريعة فحيثما زاحم مقتضاها في العمل كان مخوفاً... فإنه سبب تعطيل الأوامر وارتكاب النواهي"(4).
__________
(1) المصدر نفسه، 2/115.
(2) المصدر نفسه، 2/118.
(3) وإن جاء في ضمن المحمود أي كأن تكون الغاية شرعية أو النية سليمة، وذلك كمن يقصد تنمية مال اليتيم فيقرضه بالربا. أو كمن يفتي بجواز الربا بحجة المصلحة. أو من كمن يفتي ويشارك بالحكم بغير ما أنزل الله قاصدا مصالح المسلمين في زعمه، وفي ذلك كله تعطيل للأوامر وارتكاب للنواهي كقوله تعالى: { وَحَرَّمَ الرِّبَا } البقرة، 275 وقوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } المائدة، 45 وغيرها.
(4) الشاطبي، الموافقات 2/119.(1/318)
... ومنها: "أن اتباع الهوى في الأحكام الشرعية مظنة لأن يحتال بها على أغراضه فتصير كالآلة المعدة لا قتناص أغراضه كالمرائي يتخذ الأعمال الصالحة سلماً لما في أيدي الناس"(1).
... ويؤكد الشاطبي على أصل الامتثال وعلى وجوده في كل فعل من أفعال العباد، ولا يُعارضُ هذا الأصل بكون الشريعة غايتها حفظ مصالح العباد، وبكون الأحكام تراعي فطرة الإنسان وأغراضه وأوصافه الشهوانية، وذلك أن هذا المقصد هو غاية ونتيجة، أي مسبب عن الأسباب، والأسباب هي الامتثال، فالشريعة موضوعة على مقتضى التعبد والامتثال، { ج$tBur خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا بbrك‰ç7÷èuد9ج } ، وليس على مقتضى تشهي العباد وأغراضهم، وهذا ما تقتضيه أنواع الحكم الشرعي، يقول: "لم يصح لأحد أن يدعي على الشريعة أنها وضعت على مقتضى تشهي العباد وأغراضهم إذ لا تخلو أحكام الشرع من الخمسة، أما الوجوب والتحريم فظاهر مصادمتهما لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار، إذ يقال له: إفعل كذا كان لك فيه غرض أم لا، ولا تفعل كذا كان لك فيه غرض أم لا، فإن اتفق للمكلف فيه غرض موافق وهوى باعث على مقتضى الأمر أو النهي فبالعرض لا بالأصل. وأما سائر الأقسام وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرة المكلف، فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره، فهي راجعة إلى إخراجها عن اختياره"(2). ثم يقول: "فإذاً، إباحة المباح مثلاً لا توجب دخوله بإطلاق تحت اختيار المكلف من حيث كان قضاءً من الشارع، وإذ ذاك يكون اختياره تابعاً لوضع الشارع، وغرضُه مأخوذاً من تحت الأذن الشرعي، لا بالاسترسال الطبيعي وهذا هو عين إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله"(3) (4).
__________
(1) المصدر نفسه، 2/120.
(2) المصدر نفسه، 2/116.
(3) الشاطبي، الموافقات، 2/116.
(4) وفي هذه الأقوال ما ينفي عن الإسلام الفكرة الغربية القائلة بالحريات العامة. إذ إن هذه الفكرة منبثقة من فكرة فصل الدين عن الحياة..وأن الإنسان حر لا يقيد بأي قانون أو نظام، إلا ما يختاره هو بنفسه. ومن هنا قالوا بحكم الشعب وهو ما اقتضى فكرة الديمقراطية في النظم الغربية. ومفهوم الحريات العامة هو غير معنى الحرية الذي يقابل الرق، وهو مفهوم كفر لأنه يعني أن لا حكم لله، ولا تشريع إلا للشعب. وكذلك مفهوم المباح في الإسلام فهو ليس من قبيل الحرية وإنما هو مبني على فكرة العبودية لله الذي له وحده حق الأمر والنهي والأذن والمنع، فالإباحة هي تخيير من قبل الشارع، والعبد مقيد بقبول هذا التخيير، وليس حراً فلا يمنع مباحاً ولا يوجبه ولذلك فإن القول بفكرة الحريات العامة في الإسلام هو قول خاطيء تنقضه الأصول الشرعية، والأخطاء الأكبر هي ما يأتي في ثنايا تفصيلات هذه الفكرة. فعلى سبيل المثال ذهب الشيخ راشد الغنوشي في كتابه (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) إلى أن مقصد حفظ العقل من الضروريات في الشريعة معناه حرية العقيدة وحرية الرأي، مع أن هذه الحريات تتناقض مع كليات وجزئيات في الإسلام لا تقتصر على أصل حفظ الدين أو على وجوب الحكم بما أنزل الله ووجوب قتل المرتد وغير ذلك. أنظر: الموافقات، بتحقيق أبي عبيدة. في مقدمته على الكتاب، ج1، الهامش، ص 42 - 53. وانظر: أيضاً: مقالات بعنوان (دمج الجاليات الإسلامية في المجتمعات الغربية) لمحمود عبد الكريم حسن، مجلة الوعي، الأعداد: 115، 116، 117، 118. لسنة 1417هـ، 1997م.(1/319)
المصالح والمفاسد تعرف بالشرع فقط:
... هذا المقصد للشارع من وضع الشريعة وهو عبودية الإنسان لله قطعي ولا خلاف فيه، وإن ظهر فيه أي خلاف فمرده إلى اختلاف في معاني الألفاظ والعبارات وليس إلى حقيقة معناه. وإذا اعتبرنا المصلحة في التعليل بالمصالح بحسب نظر العقلاء وأهل النظر، فهذا من قبيل التحسين والتقبيح العقليين، وهو يتعارض مع هذا المقصد وهو الامتثال، وهذا ما يثير إشكالات على القائلين بالمصالح، وقد مر ذكر بعضها على لسان القرافي وعز الدين بن عبد السلام. ومر أيضاً رد الشاطبي عليها وأنها لا وجود لها على منهجه لأن له مفهوماً مختلفاً للمصالح والمفاسد. ويؤكد الشاطبي بعد إثباته لأصل الإمتثال أن تقرير المصالح والمفاسد أمر شرعي يرجع إلى التحسين والتقبيح، فلذلك يجب أن يرجع إلى أصل الامتثال، فإذا لاح في النظر حكمة تصلح لتعليل الحكم، فلا يصح اعتبارها قبل حصول الاستقراء القاطع إذ قد يكون ثَمَّ حِكَمٌ غيرها، وقد لا تثبت عند الاستقراء فيكون اعتبارها تحكماً بغير دليل وتقصيداً للشارع لما لم يقصد. يقول: "إن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم والمفسدة مفسدة كذلك مما يختص بالشارع لا مجال للعقل فيه بناء على قاعدة نفي التحسين والتقبيح العقليين، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما فهو الواضع لها مصلحة وإلا فكان يمكن عقلاً أن لا تكون كذلك إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح، فإذاً، كون المصلحة مصلحةً هو من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس، فالمصالح من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات وما انبنى على التعبدي لا يكون إلا تعبدياً"(1).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/219. وأنظر المسألة التاسعة عشرة من مسائل النوع الرابع في قصد الشارع.(1/320)
وإذا اعتبرنا رأي الشاطبي الذي ورد في النوع الثاني من مقاصد الشارع وهو وضعها للإفهام حيث قال إن النصوص لا دلالة لها على المعاني التبعية، إضافة إلى أن المصلحة هي ما ثبت قطعاً بالاستقراء، فكأن الشاطبي يرد مسلك التعليل بالوصف المناسب، ويرد تعليل الشريعة بجلب المصالح ودرء المفاسد بالمعنى المعهود عند القائلين به.
... وهذا ما جعل الشيخ محمد الطاهر بن عاشور يرى أن معظم استدلالات الشاطبي على تعليل الشريعة غير صالحة(1). وهو نفسه ما أثار الدكتور أحمد الريسوني وجعله يطلق على هذا الرأي للشاطبي بأنه من الآثار السلبية لعلم الكلام، وأن سبب هذا الموقف الذي اتخذه الشاطبي هو تأثره بالنظرة الأشعرية. يقول الدكتور الريسوني تحت عنوان: (إدراك المصالح بالعقل): "المسألة المعروفة في علم الكلام وفي علم أصول الفقه بمسألة التحسين والتقبيح. ... لأن الشاطبي نفسه لم ينجُ من بعض الآثار السلبية لها، وأعني بالذات تأثره بالنظرة الأشعرية إلى الموضوع. بل أن هذه النظرة الأشعرية ما زالت رائجةً - إن لم تكن سائدةً - اليوم"(2).
__________
(1) أنظر: ص: 181 من هذا الكتاب.
(2) أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص:263.(1/321)
... ولإثبات أشعرية الشاطبي، يذكر الريسوني ما يسميه جوهر النظرية الأشعرية، وبعض نصوص الشاطبي. يقول: "فليس عندهم شيء حسن إلا بتحسين الشرع له، أما بدون تحسين الشرع وتقبيحه فلا حسن ولا قبح، وكل الأمور على حد سواء، وهذا بالضبط ما يردِّده الشاطبي"(1). ويقول: "فإن التأثير الأشعري بادٍ على كلامه، فهو يتضمن إنكار حسن الأفعال وقبحها أي كونها - ذاتها - مصلحة أو مفسدة، إذ الأفعال والتروك - في العقل - "متساوية مماثلة"، وإذن، فلا تحسين للعقل ولا تقبيح، وهذا هو جوهر النظرية الأشعرية"(2). ثم يدافع عن فكرة أن الحسن والقبح في الأفعال ذاتيان وأن العقل يستطيع، وله الحق، أن يحسن ويقبح، ويرى أن من العلماء من تورَّع عن هذا القول كي لا ينسب إلى الاعتزال، وليس لأنهم يرونه خطأ، ويذكر من هؤلاء أبا المعالي الجويني والغزالي على سبيل المثال. فيقول: "ويبدو لي أن أبا المعالي... قد خرج عن طوق النظرية الأشعرية"(3). ويقول: "ولئن كان أمام الحرمين قد اضطر اضطراراً إلى هذا القدر من الاعتراف بالتحسين والتقبيح". ويقول: "ومن غريب ما تصنعه الخصومات والصراعات أن تجد الإمام الغزالي - وهو عملاق الفكر الإسلامي - يخشى ويحذر أن ينسب إليه ما نسب إلى هؤلاء من التأثر بالمعتزلة، فقد هم أن يصرح بإدراك العقول للمصالح"(4). ثم يحاول الدكتور الريسوني إثبات صحة القول بتحسين العقل وتقبيحه(5).
إن المراد من هذه الأقوال للدكتور الريسوني هو الإشارة إلى التعارض بين منهج الشاطبي وغيره في قضية التعليل بالمصالح والمفاسد، بل إن القول بعلية جلب المصالح ودرء المفاسد للأحكام الشرعية يلزم منه القول بالتحسين والتقبيح بالعقل.
__________
(1) أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص: 264.
(2) المرجع نفسه، ص: 265.
(3) المرجع نفسه، ص: 267.
(4) المرجع نفسه، ص: 274.
(5) المرجع نفسه، ص: 276 - 293.(1/322)
وتنبغي الإشارة هنا إلى أن مسألة أن التحسين والتقبيح شرعيان لا عقليان مسألة قطعية، أما الخلاف في قدرة العقل على التحسين والتقبيح، فلا يعني عند من يقول بقدرته، أنه يضفي شرعيةً على المحسن عقلاً. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فلا الجويني ولا الغزالي يميل أي منهما إلى صحة التحسين والتقبيح العقليين. يقول الجويني: "فليس الحكم المضاف إلى متعلقه صفةً فيه ثابتة، فإذا قلنا: شرب الخمر محرم، لم يكن التحريم صفةً ذاتيةً للشرب. وإذا أوجبنا الشرب عند الضرورة فهو كالشرب المحرم عند الاختيار. والمعني بكونه محرماً أنه متعلق النهي، وبكونه واجباً متعلق الأمر"(1). ويقول: "ثم من أحكام الشرع التحسين والتقبيح وهما راجعان إلى الأمر والنهي، فلا يقبح شيء في حكم الله تعالى لعينه، كما لا يحسن شيء لعينه"(2).
ويقول الغزالي: "إن لم يوجد هذا الخطاب من الشارع فلا حكم، فلهذا قلنا: العقل لا يحسن ولا يقبح ولا يوجب شكر المنعم ولا حكم للأفعال قبل ورود الشرع"(3).
وتتبع كلام الإمامين، الجويني والغزالي، لا يدع مجالاً لما توهمه الدكتور الريسوني.
والذين يعللون بالمصالح لا يرون أن هذا تشريع بالعقل، وإنما يرونه بموجب الأمر الشرعي بخلاف معارضيهم، فإذا أشكل أمر هذا التعليل واقتضى تحسيناً أو تقبيحاً عقليًا فإنه يرد بلا تردد، وإذا رأى الدكتور الريسوني أن حل الإشكال يكون بالقول بشرعية التحسين والتقبيح بالعقل فإنه يكون قد شطح بعيداً.
التعارض بين التعليل بالمصالح وحاكمية الشرع:
__________
(1) الجويني، البرهان، 1/79، فقرة: 8.
(2) الموضع نفسه، فقرة: 9.
(3) الغزالي، المستصفى، 1/55.(1/323)
... ليس ثمة تعارض بين هذين الأصلين على منهج الشاطبي، إذ إن المصالح والمفاسد لا تتقرر عنده إلا بالشرع، أي إن كون الشيء مصلحة أو مفسدة هو من قبيل التحسين والتقبيح. ولكن التعارض قائم إذا اعتبرت المصلحة بحسب نظر العقلاء وأهل النظر وتقريرهم للمناسب أو لما هو مصلحة وما هو مفسدة. وللقائلين بهذا أدلتهم على التعليل بالمصالح فهل تتعارض أدلتهم مع أصل التعبد والامتثال؟(1/324)
... والجواب على منهج الشاطبي: إنها، نعم، تتعارض. لذلك فهو يحاول نفي هذا التعارض بشكل يقلب الأمور رأساً على عقب. فهو بعد أن أنهى إثبات وتقرير أصل الامتثال كمقصد قطعي للشارع، عمد إلى ما اعتمده أساساً لتعليل الشريعة بجلب المصالح ودرء المفاسد، وأعاد تكييفه بطريقةٍ أخرى. قال: "فإن قيل: وضع الشرائع إما أن يكون عبثاً أو لحكمة، فالأول باطل باتفاق، وقد قال تعالى: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا } (1)، وقال: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا } (2)، { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ } (3). وإن كان لحكمةٍ ومصلحةٍ، فالمصلحة إما أن تكون راجعة إلى الله تعالى أو إلى العباد، ورجوعها إلى الله محال لأنه غني ويستحيل عليه عود المصالح إليه حسبما تبين في علم الكلام، فلم يبقَ إلا رجوعها إلى العباد وذلك مقتضى أغراضهم لأن كل عاملٍ إنما يطلب مصلحة نفسه وما يوافق دنياه وأخراه، والشريعة تكفلت له بهذا المطلب في ضمن التكليف، فكيف ينفى أن توضع الشريعة على وفق أغراض العباد ودواعي أهوائهم، وأيضاً فقد تقدم بيان أن الشريعة جاءت على وفق أغراض العباد وثبتت لهم حظوظهم تفضلاً من الله على ما يقوله المحققون، أو وجوباً على ما يزعمه المعتزلة وإذا ثبت هذا من مقاصد الشارع حقاً كان ما ينافيه باطلاً"(4). هذا النص يَرِدُ اعتراضاً على الشاطبي في كيفية تقريره للمصالح، والشاطبي يجيب على هذا النص ليس بنفيه أو رده، بل بتأكيده ولكن يوجه معناه أو تفسيره توجيهاً مختلفاً عن المعهود أو المتبادر إلى الذهن.
__________
(1) سورة المؤمنون، 115.
(2) سورة ص، 27.
(3) سورة الدخان، 38 - 39.
(4) الشاطبي، الموافقات. 2/117.(1/325)
يقول: "فالجواب أن وضع الشريعة إذا سلم أنها لمصالح العباد فهي عائدة عليهم بحسب أمر الشارع وعلى الحد الذي حده لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم، ولذا كانت التكاليف الشرعية ثقيلة على النفوس... فالأوامر والنواهي مخرجة له عن دواعي طبعه واسترسال أغراضه حتى يأخذها من تحت الحد المشروع وهذا هو عين المراد، وهو عين مخالفة الأهواء والأغراض. أما أن مصالح التكليف عائدة على المكلف في العاجل والآجل فصحيح، ولا يلزم من ذلك أن يكون نيله لها خارجاً عن حدود الشرع، ولا أن يكون متناولاً لها بنفسه دون أن يناولها إياه الشرع، وهو ظاهر، وبه يتبين أن لا تعارض بين هذا الكلام وبين ما تقدم لأن ما تقدم نظر في ثبوت الحظ والغرض من حيث أثبته الشارع لا من حيث اقتضاه الهوى والشهوة"(1).
إن ما يلاحظ في هذا النص، وفي سائر كتاب الموافقات، أن مراد الشاطبي بلفظ المصلحة المعتبرة شرعاً هو غير المعنى المعهود عند غيره. أما المعنى المعهود فهو يستعمل له ألفاظاً أخرى مثل الحظ والغرض والمنفعة والهوى.
__________
(1) المصدر نفسه، 2/117 - 118.(1/326)
... ومراد الشاطبي في رفعه للتعارض أن حظوظ العباد وأغراضهم وشهواتهم لا تتحقق ولا يحصلون عليها باتباعهم لها، وإنما تتحقق بامتثالهم لأحكام الشريعة، والعبد قد يرى تحقق منفعته أو غرضه أو إشباع حاجته بطريق ما، فإذا اتَّبعه، فإن ذلك هو إتباع الهوى، ولو كان يظن أن هذه مصلحة والشرع إنما جاء لأجل المصالح. فإن هذا الظن غير شرعي، وهذه ليست مصلحة عند الشاطبي. وإذا كان تحقيق المنافع والأغراض وإشباع الحاجات مشروعاً، فليس كل طريق إلى ذلك مشروعاً، فقد يكون الغرض مشروعاً كالتملك، ولكن طريقه حرام كالقمار والغش والربا والسرقة، فإذا كان التملك مباحاً، فلا يملك إلا بالطريق المباح، وهذا معنى كلامه: "فالأوامر والنواهي مخرجة له عن دواعي طبعه واسترسال أغراضه حتى يأخذها من تحت الحد المشروع"، وقوله: "ولا أن يكون متناولاً لها بنفسه دون أن يناولها إياه الشرع".
... وهكذا فإن الشاطبي يقول بأن الشريعة إنما وضعت لأجل مصالح المكلفين في الدارين، ولكن المصالح لا تعرف إلا بالشرع، ولا يصح للمكلف أن يتناول حظه إلا بالطريق الذي عينه له الشرع، وينتهي المعنى عنده إلى أن لا فرق بين أن يقول إن الشريعة وضعت لأجل العباد، وبين أن يقول إن العباد خلقوا لأجل الشريعة، وهو مدلول قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (1).
__________
(1) سورة الذاريات، 56.(1/327)
... فإذا كانت أغراض العباد ومنافعهم وشهواتهم موجودة في سد حاجات الجوع والعطش والبرد والحر، والملك والأمن والنساء والرئاسة وغير ذلك، فهل جاءت الشريعة على أقوم نظام لتضمن للناس إشباع حاجاتهم الحقيقية، وبالتالي كانت الشريعة لأجلهم؟ أم أن الشريعة هي أوامر ونواه من الله يجب على الناس الامتثال لها، فخلق الله في الناس ما خلق فيهم من حاجات وشهوات وغرائز، تدفعهم إلى الطاعات، فالشريعة تأمر بعبادة الله والخضوع والتذلل له، فخلق الله في الناس فطرة التدين والتعبد لطفاً بهم وعوناً لهم على الطاعة، وأمرهم بحفظ النفس وبالنكاح ورعاية الأسرة وبالنفقة، وخلق فيهم شهوة وعاطفة تعينهم على ذلك؟ أي الأمرين هو التفسير الصحيح؟ إن الإجابة على هذا تحتاج إلى دليل، عقلياً كان أو نقلياً، وإذا كانت حجج القائلين بعلية المصالح بمعنى الحظوظ والمنافع تقوم على التفسير الأول، فإن الشاطبي يأخذ بالتفسير الثاني. يقول: "إن حكمة الحكيم الخبير حكمت أن قيام الدين والدنيا إنما يصلح ويستمر بدواع من الإنسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره فخلق له شهوة الطعام والشراب إذا مسه الجوع والعطش ليحركه ذلك الباعث إلى التسبب في سد هذه الخلة بما أمكنه، وكذلك خلق له الشهوة إلى النساء لتحركه إلى اكتساب الأسباب الموصلة إليها، وكذلك خلق له الإستضرار بالحر والبرد والطوارق العارضة فكان ذلك داعية إلى اكتساب اللباس والسكن، ثم خلق الجنة والنار وأرسل الرسل مبينةً أن الاستقرار ليس ههنا، وإنما هذه الدنيا مزرعة لدار أخرى وأن السعادة الأبدية والشقاوة الأبدية هنالك، لكنها تكتسب أسبابها هنا بالرجوع إلى ما حده الشارع أو بالخروج عنه...(1/328)
ولو شاء الله لكلَّف بها مع الإعراض عن الحظوط، أو لكلف بها مع سلب الدواعلي المجبول عليها لكنه أمتن على عبادة بما جعله وسيلةً إلى ما أراده من عمارة الدنيا للآخرة وجعل الاكتساب لهذه الحظوظ مباحاً لا ممنوعاً لكن على قوانين شرعية هي أبلغ في المصلحة وأجرى على الدوام مما يعده العبد مصلحة { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (1) ولو شاء لمنعنا في الاكتساب الأخروي القصد إلى الحظوظ فإنه المالك وله الحجة البالغة، ولكنه رغبنا في القيام بحقوقه الواجبة علينا بوعد حظي لنا وعجل لنا من ذلك حظوظاً كثيرة نتمتع بها في طريق ما كلفنا به"(2).
... فهل أثبت الشاطبي فكرة التعليل بجلب المصالح ودرء المفاسد، أم أنه نقصها؟! يعتمد ذلك على معنى المصلحة ومعنى المفسدة، أي على مفهوم كل منهما، والواضح أنه قد نقضها إذا كانت بالمعنى المعهود عند الأصوليين قبله، أو بالمعنى الشائع اليوم.
المقاصد الشرعية ضربان أصلية وتابعية:
... تحصل إذاً أن الشريعة تراعي حظوظ العباد وأغراضهم وأوصافهم، ولكن هذه المراعاة لا تعني اتباعها في التشريع، وإنما يعني اتباع الأحكام الشرعية لأن الحظوظ تحصل بها. فحفظ الدين والنفس والمال وغيرها من المقاصد الشرعية هي أيضاً حظوظ ومقاصد للعباد.
وحظوظ العباد ومنافعهم متغيرة متبدلة، وأحكام الشريعة ثابتة. ولذلك فإن الشاطبي يرد قول الرازي: إن الأصل في المنافع الأذن وفي المضار المنع. وكذلك يقول: "كم من صاحب هوى يود لو كان المباح الفلاني ممنوعاً حتى أنه لو وكل إليه تشريعة لحرمه"(3)، ويقول: "حتى لو فُرض جعل ذلك إليه لأوجبه، ثم قد يصير الأمر في ذلك المباح بعينه على العكس، فيحب الآن ما يكره غداً وبالعكس، فلا يستتب في قضية حكم على الإطلاق"(4).
__________
(1) سورة البقرة، 216.
(2) الشاطبي، الموافقات. 2/122.
(3) الشاطبي، الموافقات، 2/116.
(4) الموضع نفسه.(1/329)
إلا أن حظوظ العباد قد تلتقي مع مقاصد الشريعة، أي قد تكون خادمة لها، كالاندفاع إلى العمل للتكسب، وكالنكاح، وقضاء الشهوات والاستجابة للفطرة، فهل هذه المقاصد مقاصد شرعية. أي قصد الحظوظ هل هو من مقاصد الشريعة؟ يقول: "المقاصد الشرعية ضربان مقاصد أصلية ومقاصد تابعية، فأما الأصلية فهي التي لاحظ فيها للمكلف وهي الضروريات المعتبرة في كل ملة"(1)، ثم قال: "وأما المقاصد التابعة فهي التي روعي فيها حظ المكلف فمن جهتها يحصل له مقتضى ما جُبل عليه من نيل الشهوات والاستمتاع بالمباحات وسد الخلات"(2).
__________
(1) المصدر نفسه، 2/120.
(2) المصدر نفسه، 2/122.(1/330)
أما قوله إن الضروريات لاحظ فيها للمكلف، مع أنه يقرر في مواضع عديدة أن كل تكاليف الشريعة ترجع على الإنسان بحظوظه العاجلة أو الآجلة، فمثلاً يقول: "إن الضروريات ضربان: أحدهما: ما كان للمكلف فيه حظ عاجل مقصود لقيام الإنسان بمصالح نفسه وعياله في الإقتيات واتخاذ السكن والمسكن واللباس وما يلحق بها من البيوع والإجارات والأنكحة وغيرها من وجوه الاكتساب التي تقوم بها الهياكل الإنسانية، والثاني: ما ليس فيه حظ عاجل مقصود كان من فروض الأعيان كالعبادات البدنية والمالية من الطهارة والصلاة والصيام والزكاة والحج وما أشبه ذلك، أو من فروض الكفايات كالولايات العامة من الخلافة والوزارة والنقابة والعرافة والقضاء والصلوات والجهاد والتعليم وغير ذلك من الأمور التي شرعت عامةً لمصالح عامة"(1)، فإن قوله ذلك: "لا حظ فيها للمكلف" هو من جهة كونها أوامر ونواهٍ يجب الالتزام بها بناءً على أصل الامتثال بغض النظر عما تؤول إليه من نتائج. نعم، إنها تؤول إلى حظ العبد. ولكنها من حيث كونها ضرورية، أي مصالح ثابتة شرعاً، يجب الالتزام بها لأنها شرعية، وليس لأنها تؤول إلى الحظوظ، فالحظوظ غير ثابتة، ونظر العبد إلى حظوظه متقلب، أما هذه الضروريات فهي ثابتة. يقول: "وإنما قلنا إنها لاحظ فيها للعبد من حيث هي ضرورية لأنها قيام بمصالح عامة مطلقة لا تختص بحال دون حال ولا بصورة دون صورة. ولا بوقت دون وقت" (2) ويقول: "ويدل على ذلك أنه لو فرض اختيار العبد خلاف هذه الأمور(3) لحجر عليه وحيل بينه وبين اختياره، فمن هنا صار فيها مسلوب الحظ محكوماً عليه في نفسه. وإن صار له فيها حظ فمن جهة أخرى تابعة لهذا المقصد الأصلي"(4).
__________
(1) المصدر نفسه، 2/123.
(2) الشاطبي، الموافقات، 2/120.
(3) هذه الأمور هي، حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
(4) الشاطبي، الموافقات. 2/121.(1/331)
إن الشاطبي يركز على إثبات أن المقاصد الضرورية هي التي لاحظ فيها للمكلف، وذلك دفعاً لأي اعتراض على رأيه السالف في قصد الامتثال، ومفهومه للمصلحة والتعليل بها، لذلك يرشح في ثنايا أبحاثه فكرة مهمة لمنهجه، وتبرر قوله بأنه لاحظ للمكلف في الضروريات. وهي أن مقاصد الشريعة وإن كانت ترجع على المكلف بإثبات حظوظه، فإنها في طريق ذلك ترجع بإثبات حظوظ غيره، سواء كان له حظ في حظوظ غيره، كالزوجة والابن أو غيرهم ممن يهوى استيفاءهم لأغراضهم، أو لم يكن له حظ في حظوظهم كما في الإجارات والبيوع وغيرها من المعاملات، فهو يستوفي حظه بالسكن وغيره يستوفي حظه بملك الأجرة، وإن لم يكن له هوى أو رغبة أصلاً باستيفاء الآخر لحظه.(1/332)
فهو يقول إن المقاصد الأصلية تنقسم إلى عينية وكفائية، وأما كونها عينية فعلى كل مكلف في نفسه، فهو مأمور بحفظ دينه ونفسه وعقله ونسله وماله، وأما كونها كفائية: "فمن حيث كانت منوطة بالغير أن يقوم بها على العموم في جميع المكلفين لتستقيم الأحوال العامة التي لا تستقيم الخاصة إلا بها"(1). ويقول بشأن الأعمال التي فيها استيفاء للحظوظ بطرق مشروعة: "إن هذا الضرب قسمان: قسم يكون القيام بالمصالح فيه بغير واسطة كقيامه بمصالح نفسه مباشرة(2) وقسم يكون القيام بالمصالح فيه بواسطة الحظ في الغير كالقيام بوظائف الزوجات والأولاد والاكتساب بما للغير فيه مصلحة كالإجارات والكراء والتجارة وسائر وجوه الصنائع والإكتسابات، فالجميع يطلب الإنسان بها حظه فيقوم بذلك حظ الغير خدمةً دائرةً بين الخلق كخدمة بعض أعضاء الإنسان بعضاً حتى تحصل المصلحة للجميع"(3). أي أن الحظوظ التي تستوفى والمنافع التي تحصل نتيجةً لأحكام الشريعة، لها نتائج تدور بين الخلق، أي أنها ذات علاقة بنظام عام في المجتمع وبشبكة من العلاقات والمصالح العامة، وليس كل هذا مُدْرَكٌ للناظر فإن أدركت منافع أو حكم، فثم غيرها لم يُدرك، يقول: "إنا إذا فهمنا بالاقتضاء أو التخيير حكمةً مستقلة في شرع الحكم فلا يلزم من ذلك أن لا يكون ثم حكمة أخرى ومصلحة ثانية وثالثة وأكثر من ذلك، وغايتنا أنا فهمنا مصلحة دنيوية تصلح أن تستقل بشرعية الحكم فاعتبرناها بحكم الإذن الشرعي ولم نعلم حصر المصلحة والحكم بمقتضاها في ذلك الذي ظهر، وإذا لم يحصل لنا بذلك علم ولا ظن، لم يصح لنا القطع بأن لا مصلحة للحكم إلا ما ظهر لنا، إذ هو قطع على غيب بلا دليل، وذلك غير جائز، فقد يقع لنا إمكان حكمة أخرى شرع لها الحكم فصرنا من تلك الحِكَم واقفين مع التعبد"(4)
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) وذلك كالعبادات لحفظ الدين، وكحفظ نفسه وعقله.
(3) الشاطبي، الموافقات. 2/124.
(4) المصدر نفسه، 2/219..(1/333)
لذلك فإن النظر إلى الضروريات على أنها لا حظ فيها للمكلف، هو لكي لا يصير الحظ الذي قد تؤول إليه هو المقصود الشرعي، لأن ذلك يضيع حظوظاً أخرى كثيرة، واتخاذ هذه الحظوظ أو المنافع كمقاصد بحجة أن الشرع قد قصد إلى استيفائها له آثاره على شبكة العلاقات والمصالح العامة في المجتمع إضافةً إلى ما قد يؤدي إليه ذلك من تضييع للأوامر والنواهي.(1/334)
... وكمثال على هذا حكمُ قتل المرتد، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من بَدَّل دينه فاقتلوه"(1)، وأجمع الصحابة على هذا الحكم وفعلوه. وهو من الضروريات في أصل حفظ الدين. وقد يذكر الباحثون حكماً له، كقولهم أن الردة تضعف شوكة الإسلام، وتشوش على ضعفاء المسلمين، وتؤثر على غيرهم إذ تمنع أو تؤخر دخولهم فيه وغير ذلك، وقتل المرتد يمنع كل ذلك. لذلك فهذا الحكم له منافع للمجتمع والأفراد، وقد وجد في عصرنا من يقول بعدم قتل المرتد متذرعاً بأن المخاطر قد زالت، وأن الإسلام والمسلمين اليوم لا يؤثر عليهم مثل هذا العمل فالفرق شاسع بين واقع المسلمين في المدينة وواقعهم اليوم. وبتطبيق معنى المقاصد الأصلية عند الشاطبي، فإنه يجب أن ينظر إلى حكم المرتد على أنه أصل ضروري معرىً عن الحظ، فلا يرتفع ولو تبدلت الأحوال، وهذه الحكم المذكورة، والتي قد تذكر ليست هي كل الحكم، وفوق ذلك فإن عدم تطبيق النص نقض للتعبد، حتى ولو ثبتت بعض هذه الحكم ثبوتاً قطعياً وصارت بذلك مصالح أي أصولاً، فإنها لا تلغي النص، لأن الالتزام به أصل أيضاً إذ هو يرجع إلى معنى قطعي وهو حفظ الدين. ومن جهة أخرى فإن أي حكمة متوهمة تؤول إلى ترك معنى النص، تكون مردودة، لأن معاني الأحكام لا تثبت إلا بالاستقراء، والاستقراء هنا يفيد مناقضتها للأصول، فترد قطعاً، وهذا جرياً على منهج الشاطبي نفسه.
__________
(1) البخاري، باب لا يعذب بعذاب الله (2794)، (6411)، الترمذي، باب ما جاء في المرتد (1378) وقال: حسن صحيح والعمل على هذا. والنسائي (3991) - (3997). أبو داود (3787) وابن ماجة (2526) وأحمد (1775).(1/335)
... أما مراعاة الحظوظ وهو ما سماه المقاصد التابعية، فذلك أن الأحكام الشرعية ترجع على المكلف بالحفظ والأمن والرعاية ونيل ما تقتضيه أوصافه الشهوانية، وقد دل الاستقراء على هذا فصار نيل هذه الحظوظ مقصوداً شرعياً، فيصح للمكلف أن يقصد بأعماله إشباع هذه الحاجات ونيل هذه الشهوات، وأن تكون أعماله بقصد نيل الحظوظ. إلا أنه مع ذلك سماها مقاصد تابعية في مقابلة المقاصد الأصلية، ومراده بذلك أنه يصح له أن يقصدها، ولكن فقط من تحت الحد المشروع أي لا يصح أن يقوم في سبيل ذلك إلا بالأعمال المأذون بها شرعاً. ففي هذه الحالة يكون قصد الحظوظ مقوياً لفكرة التعبد، وقد تقدم هذا في مقدمته السابعة حيث قال: "كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون من حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى لا من جهة أخرى، فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى فبالتبع والقصد الثاني لا بالقصد الأول"(1)، وذكر في هذه المقدمة أدلته ومنها: "أن الشرع إنما جاء بالتعبد وهو المقصود من بعثة الأنبياء عليهم السلام"(2). وقال: "كل تابع من هذه التوابع إما أن يكون خادماً للقصد الأصلي أو لا. فإن كان خادماً له، فالقصد إليه ابتداء صحيح... وإن كان غير خادم له فالقصد إليه ابتداء غير صحيح"(3).
... فالمقاصد التابعة هي مقاصد شرعية وهي في الوقت نفسه يقصدها المكلف لأنها تنسجم مع فطرته وأوصافه، إلا أنه لا يصح القصد إليها إذا كان ذلك بواسطة انتهاك الأحكام أو النصوص الشرعية. قال بشأن الذين يأخذون حظوظهم من غير خضوع للأمر والنهي: "تحرزاً ممن يأخذها غير ملاحظٍ للأمر والنهي، وهذا هو الحظ المذموم، إذ لم يقف دون ما حُدَّ له بل تجرأ كالبهيمة لا تعرف غير المشي في شهواتها"(4).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 1/30.
(2) المصدر نفسه، 1/31.
(3) المصدر نفسه، 1/35 - 36.
(4) الشاطبي، الموافقات، 1/133.(1/336)
... وإذا كان من طبع الإنسان أن يقصد حظوظه، فإن من هذه الحظوظ ما هو شرعي أي من المقاصد التابعة، ومنها ما هو غير ذلك. وقد يتخذ المكلف لمقصده طريقاً شرعياً أو غير شرعي. وكذلك قد يقوم المكلف بالعمل بقصد الحظ وقد يقوم به بقصد الامتثال، أو بالقصدين معاً.
هذه الحالات كلها سيتم بحثها بالتفصيل - إن شاء الله - في الفصل التالي، فصل مقاصد المكلف.
المبحث الثالث
بين الشريعة ومقاصدها
أو بين التعبد واتباع المعاني
موضوع هذا المبحث:
تبين في النوع الأول من مقاصد الشارع أن الشريعة وضعت لحفظ مصالح العباد. فأحكام الشريعة لها غايات تنتج عن التزام أحكامها، وقد قصدها الشارع بتشريع الأحكام. وتبين في النوع الرابع أن من مقاصد الشارع التقيد بالأوامر والنواهي.
وبين هذين النوعين تنشأ تساؤلات. فإذا شرعت الأحكام لمصالح العباد، فهل الأحكام وسيلة للمصالح، فيمكن تغيير الأحكام لأجل الحفاظ على غاياتها؟ وإذا ثبتت غايات معينة للأحكام قصدها الشارع بها، فهل يكون المكلف مكلفاً بالغايات أي بمسببات الأحكام كما هو مكلف بالأحكام؟ وهل يصح أن يقصد المكلف بالأحكام غايات غير ما قصد الشارع بها؟
وإذا كان قصد الشارع الامتثال والتعبد، فهل يصح للمكلف الامتثال من غير نظر إلى الغايات المقصودة للشارع؟ وهل كل ما تتسبب به الأحكام أو ينشأ عنها يعد مصالح أو مقاصد للشارع؟ وكيف يعرف ما هو مقصود له - تعالى - مما هو ليس كذلك؟ وهل تتغير المصالح والمفاسد بتغير الأعراف تبعاً لتغير الأزمنة والأمكنة؟ وهل لذلك أثر على الأحكام؟
لمثل هذه الأسئلة وما شاكلها كان هذا المبحث، وستأتي ضمنه الإجابة عليها - إن شاء الله - بحسب منهج الشاطبي.
عموم الشريعة وثباتها:(1/337)
... يؤكد الشاطبي ضمن مقصد التعبد والامتثال على عموم الشريعة وثباتها. فهي عامة في جميع المكلفين لا يخرج عنها مكلف البتة، وعامة في جميع الأفعال، فما من فعلٍ إلا وتجد الشريعة حاكمةً عليه. ولا يخرج مكلف في فعل ما عن الحكم العام إلا بنص شرعي خاص لا يتعدى حكمه المكلف، ولا يقدح ذلك بالأصل وهو عموم الشريعة.
... ومما يقتضيه عموم الشريعة ثبات أحكامها في كل زمان ومكان وإلا لما كانت عامةً في المكلفين فالتنزيل قد توقف بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلا نسخ إذاً، ولا ينقلب الحسن قبيحاً ولا القبيح حسناً.
... وإذا كانت بعض الأحكام تتغير، فذلك تبعاً لتغير مناطاتها، كأن يكون الشارع قد ربط الحكم بعلة فيتغير الحكم تبعاً لوجود العلة أو عدمها. أو يكون قد رتب الأحكام على أوصاف معينة، فيتغير الحكم بحسب الوصف، كالبلوغ مثلاً في التكليف، قد يختلف من مكان إلى مكان أو بين شخص وشخص. فيقع التكليف على شخص في الحادية عشرة مثلاً وعلى غيره في الخامسة عشرة. فالتغير بهذا المعنى ليس تغيراً في أصل الخطاب، بل هو ثبات إذ أن شرط البلوغ في التكليف ثابت لا يتغير.
... وكذلك الأحكام التي تؤثر فيها نية المكلف أو مقصده، كالسجود لله تعالى أو لصنم أو كالنطق بالشهادتين إيماناً أو نفاقاً يعتمد ذلك على نية الفاعل، فالنية أو المقصد هنا هو من مناط الحكم، أي هو جزء من الفعل، والحكم هو حكم لفعل يتغير بتغيره حسب الخطاب.(1/338)
... ومثل ذلك الأحكام التي جعلت الألفاظ أسباباً لها مثل النكاح والطلاق والعتاق، فإن هذه الأفعال تقع بوقوع الألفاظ الدالة عليها، وقد تتغير دلالة الألفاظ، فيتعارف الناس على ألفاظٍ لمعانٍ أو على معانٍ لألفاظٍ، ويختلف عرف جماعة عن جماعة، فيتغير الحكم المبني على تلك الألفاظ تبعاً لذلك. ولا يؤثر هذا في كون الألفاظ أسباباً، فإن الألفاظ إنما وضعت لأجل معانيها، فإذا تغيرت مدلولات الألفاظ تكون العبرة بالمدلولات أو المعاني والألفاظ الدالة عليها.
... وكذلك الأحكام التي ربطها الشارع بالعرف، والمقصود بالعرف هنا الاصطلاحات أو المقادير المتعارف عليها، كقولك: هذه السلعة بألف. هل هي ألف ليرة أو دولار أو دينار. أو بدينار، هل هو دينار عراقي أو أردني أو ذهبي. ومثل معاني الألفاظ المستعملة في العقود والتصرفات. ومثل تقدير النفقة أو تقدير الأجرة أو المهر أو الثمن. فهذه الأشياء قد تتغير بحسب الأمكنة أو الأزمنة أو الأشخاص أو الأحوال، وتنبني على هذه الاصطلاحات والتقديرات أحكام. فهذا، وإن قيل إنه تغير في الإحكام، فهو ليس تغيراً بحسب الزمان أو المكان، وإنما هو تغير في الواقع والأحوال، فإذا فرض الشرع للمطلقة مثلاً نفقة المثل، فإن الذي يتغير هو مقدار النفقة، وهو يعتمد على حال المطلقة، وهذا ليس تغيراً في الحكم، إذ إن الحكم هو أن لها نفقة مثلها وهذا ثابت.
... وعلى سبيل المثال أيضاً: حرمة الميتة في الأحوال العادية، وإباحتها في حالة الاضطرار، ليس تغيرا في الأحكام إذ حرمتها ثابتة في تلك الحالة، وإباحتها ثابتة في الحالة الأخرى. وكذلك يقال في الخمر: حرام، فإذا انقلب خلاً حل، فهذا ليس تغيراً أو انقلاباً في الأحكام، بل حرمة الخمر ثابتة وحل الخل ثابت، وعلى ذلك فالأحكام الشرعية ثابتة دائمية.(1/339)
... وبناءً عليه، لا يصح القول: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان(1). وإذا قيد التغير بالمعاني المذكورة أعلاه، يصبح حينئذٍ راجعاً إلى مناطات الأحكام أي إلى تغير في الوقائع أو الأحوال التي هي جزء من الفعل الذي جاء الحكم له.
__________
(1) أنظر مثلاً: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي للدكتور أحمد الريسوني. ص: 288، حيث يقول: "ولكن أيضاَ لا يمكن إنكار أن هناك مصالح كثيرة - ومفاسد - تتأثر باختلاف الأحوال والظروف، فتتغير أوضاعها وسلم أولوياتها، ويتغير نفعها وضررها... مما يستدعي نظراً جديداً وتقديراً مناسباً، وكل هذا يؤثر على الأحكام تأثيراً ما". ويقول: "وعلى كل حال فلست أريد الآن الخوض في موضوع تغير المصالح، وتغير الأحكام بتغير الأزمان والأحوال، وإنما أردت فقط أن أنبه على مجال واسع من المجالات التي تحتاج إلى نوع من تحسين العقل وتقبيحه من خلال تقديره للمصالح والمفاسد المتغيره والمتجددة وما تتطلبه من أحكام مناسبة" ص: 288.(1/340)
... إن تركيز الشاطبي على مسألة عموم الشريعة وثباتها وذكره لهذا الأمر ضمن مقصد التعبد والامتثال يؤكد مفهومه للمصالح والمفاسد ويرد القول بتطور الشريعة ومرونتها وجواز تغيير أحكامها، يقول: إن من خواص الشريعة "العموم والاطراد، فلذلك جرت الأحكام الشرعية في أفعال المكلفين على الإطلاق، وإن كانت آحادها الخاصة لا تتناهى، فلا عمل يفرض ولا حركة ولا سكون يدَّعي إلا والشريعة عليه حاكمة إفراداً وتركيباً، وهو معنى كونها عامة" (1). ومن خواصها أيضاً "الثبوت من غير زوال فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخاً ولا تخصيصاً لعمومها، ولا تقييداً لإطلاقها، ولا رفعاً لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم. ولا بحسب حال دون حال، بل ما أثبت سبباً فهو سبب أبداً لا يرتفع، وما كان شرطاً فهو أبداً شرط، وما كان واجباً فهو واجب أبداً أو مندوباً فمندوب وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبدل، ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك"(2).
... ويقول: "إذا ثبت أن الشارع قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية وذلك على وجه لا يختل لها به نظام لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء، وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات فإنها لو كانت موضوعةً بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تُخلَّ أحكامها، لم يكن التشريع موضوعاً لها، إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد، لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبدياً وكلياً وعاماً في جميع أنواع التكليف والمكلفين وجميع الأحوال، وكذلك وجدنا الأمر فيها والحمد لله"(3).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 1/44.
(2) الشاطبي، الموافقات، 1/45.
(3) المصدر نفسه، 2/25.(1/341)
... وعلى ذلك فالمصالح والمفاسد على - منهج الشاطبي - ثابتة لا تتغير، وهي ما جعله الشارع عللاً للشريعة. ومفهوم المصالح والمفاسد ليس هو المنافع والمضار، إذ هذه الأخيرة إضافية غير ثابتة. والأحكام غير معللة بها. يقول: "المنافع والمضار عامتها أن تكون إضافية لا حقيقية، ومعنى كونها إضافية أنها منافع أو مضار في حال دون حال، وبالنسبة إلى شخص دون شخص أو وقت دون وقت"(1).
... ويقول: "لا يستمر إطلاق القول بأن الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع كما قرره الفخر الرازي، إذ لا يكاد يوجد انتفاع حقيقي ولا ضرر حقيقي(2)، وإنما عامتها أن تكون إضافية، والمصالح والمفاسد إذا كانت راجعة إلى خطاب الشارع وقد علمنا من خطابه أنه يتوجه بحسب الأحوال والأشخاص والأوقات، حتى يكون الانتفاع المعين مأذوناً فيه في وقت أو حال أو بحسب شخص وغير مأذون فيه إذا كان على غير ذلك فكيف يسوغ إطلاق هذه العبارة إن الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع" (3).
... ومعنى قوله إن الشريعة تتوجه بحسب الأحوال والأشخاص والأوقات هو أن أحكام الشريعة بعمومها وكليتها قد شملت كل الأفعال لكل المكلفين في كل وقت، فمثلاً: بينت الشريعة أحكام الميتة والدم ولحم الخنزير في الأحوال العادية، وبينتها أيضاً في حال الضرورة. وبينت - مثلاً - حكم الجهاد على المكلفين في حال القدرة، وبينته أيضاً في حال العجز أو المرض أو العرج.
العرف ومدى اعتباره عند الشاطبي:
__________
(1) المصدر نفسه، 1/26.
(2) أي أن ما يكون منفعة لشخص ما قد يكون مضرة له في حالة مختلفة أو في وقت آخر أو لشخص غيره. وهذا بخلاف المصلحة التي تثبت بالشرع، فهي حقيقية، فتكون مصلحة لكل شخص في كل حالٍ وفي كل وقت. وعلى ذلك فلا يصح أن يحل محل كلمة انتفاع حقيقي أو ضرر حقيقي كلمة انتفاع محض أو ضرر محض.
(3) الشاطبي، الموافقات، 1/27.(1/342)
... العرف ليس أصلاً أو مصدراً للتشريع، بل إن الشريعة حاكمة على الأعراف، فبما أن الشريعة عامة وكلية فقد أعطت لكل فعل حكماً. وقد ينشأ من بين الأفعال المباحة أفعال معينة يعتادها الناس، أو أفعال يهجرها الناس، أو أفعال تختص بمناسبات أو أوقات معينة، فيصبح ترك الفعل المعتاد أو القيام بالفعل المهجور أو القيام بالأفعال التي اختصت بمناسبات معينة، لافتاً للنظر ومستدعياً للتفسيرات. أو يصبح هذا الفعل بمثابة الاصطلاح أو الكناية عن معنى معين او قصد معين.
... مثال ذلك: اللباس الأبيض الكامل أو اللباس الأسود الكامل للمرأة، فالأول صار في العرف الحالي دالاً على الزفاف، والثاني على الحداد، وهناك ألبسة معينة صارت في العرف - العام أو الخاص - تدل على مهنة لابسها.
مثال آخر: أشكال معينة من اللباس أو من أغطية الرؤوس أو الأحذية، هي في الأصل مباحة للرجال والنساء. ولكن اختصت - في العرف - أشكال معينة منها بالرجال، وأخرى بالنساء. فصار في عرف الناس، لبس النساء لما اختص بالرجال تشبهاً منهن بهم أو قلة حياء ودين. ولبس الرجال لما اختص بالنساء تشبهاً منهم بهن وقلة حياء ودين.
مثال آخر: عورة الرجل هي ما بين السرة والركبة، والأصل أن إظهار ما سوى ذلك أو ستره مباح، فإذا اعتاد الناس على ستر ما هو أكثر من العورة، صار خروج الرجل إلى الحياة العامة ساتراً ما هو عورة فقط مخالفاً للعرف ودالاً على قلة حياء أو نقصٍ في المروءة أو غير ذلك.
ومثل ذلك: كشف الرجل رأسه جائز وكذلك تغطيته، وقد يتكون لدى بعض الناس عرف في ذلك.
... هذه أمثلة لما يقصد بالعرف. وقد يستعمل لفظ العرف بمعنى ما يتعارف عليه الناس في إطلاق بعض الألفاظ على بعض المعاني بحيث تصبح دلالة اللفظ على المعنى من قبيل الحقيقة العرفية، وهذا من قبيل الاصطلاح. وقد يستعمل بمعنى ما يتعارف عليه الناس من تقديرات للأجور والأثمان والمهور وقيم السلع...(1/343)
... والمقصود هنا العرف بالمعنى الذي ورد في الأمثلة المذكورة أعلاه. وهذا ليس مصدراً للأحكام، وإنما هو يحتاج إلى حكم الشريعة، فإن الشريعة جاءت لتحكم على أفعال العباد وعلى عاداتهم وأعرافهم، ولذلك فإذا صار في العرف عدم استقباح أن تكشف المرأة عنقها أو شعرها أو ساقيها، فهذا لا قيمة له شرعاً وتظل هذه الأشياء عورة وكشفها قبيح.
... ولذلك فالعرف الذي يجب اعتباره هو ما دل الشرع على أنه مأذون فيه، ثم صار عند الناس أمارةً أو ذا دلالةٍ على شيء آخر كما في الأمثلة أعلاه. وهذا لا يغير الأحكام. فمثلاً إذا صار لفعل معين دلالة على أمر قبيح شرعاً، يصبح هذا الفعل قبيحاً بدلالة الشرع. فمثلاً خروج الرجل ساتراً العورة فقط كاشفاً ما سوى ذلك، إذا صار في عرف الناس قبيحاً، فإن حرمته في الشرع لا تعني أن العورة قد تغيرت، وإنما الحرمة هي من جهة مناقضة الحياء. فالشرع قد أمر بالحياء. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "والحياء شعبة من الإيمان"(1) ولا شك أن مثل هذا الفعل فيه مناقضة للحياء.
... أما إذا كان الفعل غير مأذونٍ فيه فلا يصح أن يصبح عرفاً مقبولاً، ومخالفة مثل هذا العرف أمر مطلوب شرعاً. هذا هو العرف ومدى اعتباره عند الشاطبي. وفيما يلي بعض نصوصه توثيقاً لما ذكرناه.
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان، (8)، ومسلم في الإيمان (50) و(51)، وابن ماجة (56) و(57) والنسائي (4918)، وأبو داود (4056)، أحمد (9333).(1/344)
... يقول: "العوائد المستمرة ضربان: أحدهما: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجاباً أو ندباً أو نهى عنها كراهة أو تحريماً أو أذن فيها فعلاً أو تركاً. والضرب الثاني: هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي. فأما الأول فثابت أبداً كسائر الأمور الشرعية... إما حسنة عند الشارع أو قبيحة، فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع فلا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين فيها، فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحاً ولا القبيح حسناً حتى يقال مثلاً... إن كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح فليجزه أو غير ذلك، إذ لو صح مثل هذا لكان نسخاً للأحكام المستقرة المستمرة، والنسخ بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - باطل فرفع العوائد الشرعية باطل"(1) يتابع الشاطبي: "وأما الثاني: فقد تكون العوائد ثابتة وقد تتبدل، ومع ذلك فهي أسباب لأحكام تترتب عليها، فالثابتة كوجود شهوة الطعام والشراب والوقاع... وإذا كانت أسباباً لمسببات حكم بها الشارع فلا إشكال في اعتبارها والبناء عليها والحكم على وفقها دائماً. والمتبدلة: منها ما يكون متبدلاً في العادة من حسن إلى قبح وبالعكس مثل كشف الرأس فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع، فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية غير قبيح في البلاد المغربية، فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحاً في العدالة وعند أهل المغرب غير قادح. ومنها: ما يختلف في التعبير عن المقاصد فتنصرف العبارة عن معنى إلى عبارة آخرى... كاختلاف العبارات بحسب اصطلاح أرباب الصنائع... أو بالنسبة إلى غلبة الإستعمال في بعض المعاني، حتى صار ذلك اللفظ إنما يسبق منه إلى الفهم معنى ما وقد كان يفهم منه قبل ذلك شيء آخر، أو كان مشتركاً فاختص...
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 2/197 - 198 - 199.(1/345)
وهذا يجري كثيراً في الأيمان والعقود والطلاق كنايةً وتصريحاً... ومنها ما يختلف بحسب أمورٍ خارجة عن المكلف كالبلوغ فإنه يعتبر فيه عوائد الناس من الاحتلام أو الحيض أو بلوغ سن من يحتلم أو من تحيض" (1).
... ثم يؤكد الشاطبي على ثبات الأحكام فيقول: "واعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب، لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية، والتكليف كذلك لم يحتج في الشرع إلى مزيد، وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادةٍ إلى أصل شرعي يُحكم به عليها، كما في البلوغ مثلاً فإن الخطاب التكليفي مرتفع عن الصبي ما كان قبل البلوغ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف... وهكذا سائر الأمثلة فالأحكام ثابتة تتبع أسبابها حيث كانت بإطلاق والله أعلم"(2).
التكليف بالأحكام ليس تكليفاً بمقاصدها:
يقول الشاطبي إن الحكم الشرعي متعلق بفعل العبد، والفعل سبب لمسبب، ولما كانت المسببات ليست من أفعال العبد، وليست في مقدوره، لم يقع التكليف عليها. فإذا جاء الأمر بفعل فهو ليس أمراً بنتيجته.
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) الشاطبي، الموافقات. 2/199 - 200.(1/346)
ولما كان إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب في الشرعيات وفي العقليات، كانت مشروعية السبب دالة على مشروعية المسبب. والنهي عن السبب دالاً على عدم مشروعية مسبَّبه. وبهذا يكون طلب الفعل دالاً على أن مآله مصلحة، والنهي عن الفعل دالاً على أن مآله مفسدة، إلا أن التكليف يقع على السبب ولا يقع على المسبب. والمطلوب شرعاً هو القيام بالفعل أو ترك الفعل، وليس قصد تحصيل المصلحة أو درء المفسدة، لأن التحصيل أو الدرء هو مسبب، وليس إلى المكلف إيقاعه أو رفعه من حيث هو مسبب، والتكليف به تكليف بما ليس في الوسع. وبإيجاز: الأمر بالسبب يدل على مشروعية مسببه ولا يدل على الأمر بالمسبب. وإن قيل: قد تتعدد مسببات السبب، فينتج عن الفعل المطلوب أو المأذون به ما هو مقصود الحصول شرعاً، وينتج عنه أيضاً ما هو غير مقصود أو ما هو مطلوب الرفع. وكذلك يقال في حالة النهي عن الفعل، وهذا بناءً على أن المصالح والمفاسد الدنيوية لا تَتَمَحَّض، يجيب الشاطبي بأن مشروعية الفعل تدل على مشروعية مسببه، ولكنها لا تستلزم مشروعية كل ما يتسبب أو ينتج عنه. فقد ينتج عن الفعل المطلوب ما هو مطلوب الرفع، وينعدم بالكف عن المنهي عنه ما هو مطلوب أو مشروع الوجود. يقول: "مشروعية الأسباب لا تستلزم مشروعية المسببات وإن صح التلازم بينهما عادةً، ومعنى ذلك أن الأسباب إذا تعلق بها حكم شرعي من إباحة أو منع أو غيرهما من أحكام التكليف فلا يلزم أن تتعلق الأحكام بمسبباتها فإذا أمر بالسبب لم يستلزم الأمر بالمسبب، وإذا نهى عنه لم يستلزم النهي عن المسبب وإذا خيِّر فيه لم يلزم أن يخير في مسببه"(1).
ثم قال: "والدليل على ذلك ما ثبت في الكلام من أن الذي للمكلف تعاطي الأسباب، وإنما المسببات من فعل الله تعالى وحكمه، لا كسب فيه للمكلف"(2).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/130.
(2) المصدر نفسه، 1/131.(1/347)
ثم قال: "واستقراء هذا المعنى في الشريعة مقطوع به، وإذا كان كذلك دخلت الأسباب المكلف بها في مقتضى هذا العموم الذي دل عليه العقل والسمع، فصارت الأسباب هي التي تعلقت بها مكاسب العباد دون المسببات. فإذاً لا يتعلق التكليف وخطابه إلا بمكتسب، فخرجت المسببات عن خطاب التكليف لأنها ليست في مقدورهم، ولو تعلق بها لكان تكليفاً بما لا يطاق وهو غير واقع"(1).
وعلى ذلك فالمقصود الأول من الأمر والنهي هو إيقاع المأمور به وترك المنهي عنه بغض النظر عن المسببات والمآلات، لأنها ليست بيد المكلف وإنما هي بيد الشارع. فعلى المكلف عند القيام بالعمل أن ينظر في حكمه ويلتزم ذلك الحكم، لا أن ينظر في مسببه إن كان مصلحة أو مفسدة(2). يقول: "لا يلزم في تعاطي الأسباب من جهة المكلف الالتفات إلى المسببات ولا القصد إليها، بل المقصود منه الجريان تحت الأحكام الموضوعة لا غير، أسباباً كانت أو غير أسباب، معللةً كانت أو غير معللة، والدليل على ذلك ما تقدم من أن المسببات راجعة إلى الحاكم المسبِّب، وأنها ليست من مقدور المكلف، فإذا لم تكن كذلك فمراعاته ما هو راجع لكسبه هو اللازم، وما سواه غير لازم وهو المطلوب(3) وأيضاً فإن من المطلوبات الشرعية ما يكون للنفس فيه حظ، وإلى جهته ميل، فيمنع من الدخول تحت مقتضى الطلب(4)"(5).
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) النظر في مآلات الأفعال ومسبباتها واجب على المجتهد الناظر لمعرفة حكم الفعل، وليس على من يتعاطى الحكم، وسيأتي تفصيل لهذا الأمر عند عرض قاعدة مآلات الأفعال.
(3) أي: وهو المطلوب إثباته.
(4) أي: الطلب الشرعي.
(5) الشاطبي، الموافقات. 1/133.(1/348)
إذاً، المسببات مقصودة بأسبابها، وهي مقصودة عند من وضع الأسباب أسباباً، فهي مقصودة للشارع وليس للمكلف، وتحصيلها يكون بهذه الأسباب، فعلى المكلف الالتزام بالأسباب أي بالأحكام الشرعية، وليس عليه النظر أو مراعاة المسببات وهي المصالح والمفاسد.
قال: "وضع الأسباب يستلزم قصد الواضع إلى المسبَّبات أعني الشارع"(1). ثم قال: "لزم من القصد إلى وضعها أسباباً القصد إلى ما ينشأ عنها من المسببات"(2). ثم قال: "الأحكام الشرعية إنما شرعت لجلب المصالح أو درء المفاسد وهي مسبباتها قطعاً"(3). ثم قال: "إن المسببات لو لم تقصد بالأسباب لم يكن وضعها على أنها أسباب لكنها فرضت كذلك، فهي ولا بد موضوعة على أنها أسباب، ولا تكون أسباباً إلا لمسببات، فواضع الأسباب قاصد لوقوع المسببات من جهتها(4)، وإذا ثبت هذا وكانت الأسباب مقصودة الوضع للشارع لزم أن تكون المسببات كذلك"(5).
إذاً، مقصود الشارع بالشريعة جلب المصالح ودرء المفاسد، وهذا يحصل بما شرعه، وليس على المكلف النظر إلى المصالح والمفاسد المقصودة، وإنما عليه الالتزام بما شُرِعَ له. ولكن، هل يصح له أن ينظر إلى النتائج، وان يسعى في تحصيلها؟ يقول الشاطبي: "ليس في الشرع دليل ناصٌّ على طلب القصد إلى المسبَّب"(6). وقال: "فإن قيل لك: إن الشارع أمر ونهى لأجل المصالح. قلتَ نعم، وذلك إلى الله لا إليَّ، فإن الذي إليَّ التسبب، وحصول المسببات ليس إليَّ، فأصرف قصدي إلى ما جُعِلَ إليَّ وأَكِلُ ما ليس إليَّ إلى من هو له"(7).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 1/133.
(2) المصدر نفسه، 1/134.
(3) المصدر نفسه. 1/135.
(4) من جهتها، أي: لا يصح للمكلف أن يقصده إلا من خلال الفعل الذي جعله الشارع سبباً له.
(5) الشاطبي، الموافقات. 1/135.
(6) المصدر نفسه. 1/136.
(7) الموضع نفسه.(1/349)
ثم قال: "إذا ثبت انه لا يلزم القصد إلى المسبب فللمكلف ترك القصد إليه بإطلاق وله القصد إليه"(1).
أما ترك القصد إلى المسبب فقد مر الحديث عنه. وأما جواز القصد إليه، فليس معناه تجويز الفعل أو تحريمه بناءً على نتيجته المتوخاة مصلحةً كانت أو مفسدة، حيث يصار إلى تجويز بعض المحرمات، أو تحريم بعض المباحات أو المندوبات أو الواجبات بناءً على ما يتسبب عنها من نتائج. وإنما العكس هو المقصود، وهو أنه يصح للمكلف أن ينظر في المسببات إذا كان ذلك مما يقوي التمسك بالسبب ويدفع إلى مزيد من الالتزام به، أما إذا كان يضعف التمسك بالسبب أي بالحكم الشرعي فهذا نفسه مفسدة فلا يصح. ويقدم الشاطبي بضعة أمثلة على ذلك. وذلك كمن يكتسب ليقوم على نفسه وأهله، فإن النظر في المسببات قد يدفعه إلى مزيد من العمل لأجل مزيد من الكسب ورعاية أفضل لأهله. وكمن يطيع الله ليرضيه ويدخل جنته، فإن النظر في هذه الغايات يدفعه إلى المزيد من التضحية والبذل والصبر والبر والجهاد والالتزام، فهو يعود على السبب بالتقوية. فههنا يصح للمكلف النظر إلى المسببات. يقول: "فهذا القصد إذا قارن التسبب صحيح لأنه التفات إلى العادات الجارية. وقد قال تعالى: { * اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } (2)"(3). ثم قال: "فإنما محصول هذا أن يبتغي ما يهيئ الله له بهذا السبب فهو راجع إلى الاعتماد على الله واللجأ إليه"(4). ثم قال: "وإذا كان كذلك فالالتفات إلى المسببات والقصد إليها معتبر في العاديات ولا سيما في المجتهد"(5)
__________
(1) المصدر نفسه، 1/135.
(2) سورة الجاثية، 12.
(3) الشاطبي، الموافقات. 1/137.
(4) المصدر نفسه، 1/137 - 138.
(5) المصدر نفسه، 1/138..(1/350)
وقال: "ضابطه أنه إن كان الالتفات إلى المسبَّب من شانه التقوية للسبب والتكملة له والتحريض على المبالغة في إكماله فهو الذي يجلب المصلحة وإن كان من شأنه أن يكرَّ على السبب بالإبطال أو بالإضعاف أو بالتهاون فهو الذي يجلب المفسدة"(1).
وخلص إلى أنَّ: "تارك النظر في المسببات أعلى مرتبةً وأزكى عملاً إذا كان عاملاً في العبادات، وأوفر أجراً في العادات"(2).
وبناء على أن المصالح والمفاسد لا تتمحض من حيث الوجود، فالسبب يؤدي إلى مسبباته المقصودة، ويرافق ذلك ما ليس مقصوداً للشارع، بل ما هو مقصود الرفع. يقول: "مثال ذلك: الأمر بالمعروف والنهي المنكر فإنه مشروع لأنه سبب لإقامة الدين وإظهار شعائر الإسلام وإخماد الباطل على أي وجه كان، وليس بسبب في الوضع الشرعي لإتلاف مال أو نفس وإن أدى إلى ذلك في الطريق... وإقامة الحدود والقصاص مشروع لمصلحة الزجر عن الفساد وإن أدى إلى إتلاف النفوس وإهراق الدماء وهو في نفسه مفسدة... وأما في الأسباب المنوعة كالأنكحة الفاسدة ممنوعة وإن أدت إلى إلحاق الولد وثبوت الميراث وغير ذلك من الأحكام وهي مصالح"(3).
ثم قال: "لا سبب مشروعاً إلا وفيه مصلحة لأجلها شرع فإن رأيته وقد انبنى عليه مفسدة فاعلم أنها ليست بناشئة عن السبب المشروع. وأيضاً فلا سبب ممنوعاً إلا وفيه مفسدة لأجلها منع فإن رأيته وقد انبنى عليه مصلحة فيما يظهر فاعلم أنها ليست بناشئة عن السبب الممنوع، وإنما ينشأ عن كل واحد منها ما وضع له في الشرع"(4).
__________
(1) المصدر نفسه، 1/166.
(2) المصدر نفسه، 1/159.
(3) الشاطبي، الموافقات، 1/167.
(4) المصدر نفسه، ص:168.(1/351)
وهكذا فليس كل ما ينبني على السبب أو يلاحظ فيه من أوصاف أو حكم أو معاني مما يرتضيه العقلاء يأخذ حكم المسبب. وهذا يؤدي إلى تساؤل حول كيفية التمييز بين هذه النتائج لمعرفة ما هو مقصود شرعاً فيكون مقصداً وغاية وما هو ليس كذلك فيطرح، والإجابة تكمن في منهج الاستقراء لهذه الأوصاف أو المعاني.
فإذا كان ثمة معنى أو نتيجة متخيلة مظنونة في حكم أو أحكام قليلة، فهذا معنى أو مسبب غير مقطوع بكونه مقصوداً للشارع فلا يعتبر وإن كان مسبباً عن هذه الأحكام فلا تعد هذه الأحكام سبباً شرعياً له. أما إن وجدت هذه النتيجة في أحكام كثيرة تفوق الحصر، فحينئذ ٍ يكون قد توفر لهذه النتيجة أو المعنى التواترُ الذي قال عنه الشاطبي إنه يشبه التواتر المعنوي. وحينئذ ٍ تكون هذه النتيجة مسبباً وتكون الأحكام التي تعاضدت على هذا المعنى سبباً شرعياً. أي أنها مشروعة لهذا المسبب. وبهذا يحصل التمييز بين النتائج أو المسببات الشرعية وغير الشرعية أو التي هي مقصودة للشارع بالحكم والتي لا يثبت كونها مقصودة للشارع.
وإذا كان حكم شرع لمصالح معينة ثبتت بالاستقراء، وينتج عن هذا الحكم مفسدة فلا يعني كون تلك المفسدة مسبباً للحكم أنها مقصودة للشارع بالحكم. وإنما يكون ذلك لأن المصالح والمفاسد لا تتمحض. وتعرف تلك النتيجة بأنها مفسدة من استقرائها في أحكام أخرى كثيرة، حيث يتوفر لها الاستقراء المفيد للقطع بأن الشارع قصد رفعها. فيكون قصد الشارع إلى رفعها أصلاً قطعياً، ووجود الوهم أو الظن في نتائج أو مآلات أو مسببات بأنها مقصودة للشارع هو احتمال أو ظن لا قيمة له شرعاً. إذ المقاصد أو المصالح والمفاسد هي كليات أو أصول كلية لا تثبت كذلك إلا بالقطع المستفاد من الاستقراء.(1/352)
فالمسببات الشرعية أي المقصودة للشارع هي ما ثبت كذلك على سبيل القطع وقد سبق بيان هذا الأمر. قال: "الأحكام الشرعية إنما شرعت لجلب المصالح ودرء المفاسد وهي مسبباتها قطعاً"(1).
ويقرر الشاطبي أن: "الأسباب الممنوعة أسباب للمفاسد لا للمصالح، كما أن الأسباب المشروعة أسباب للمصالح لا للمفاسد"(2). ثم يقول: "والمقصود أن الأسباب المشروعة لا تكون أسباباً للمفاسد، والأسباب الممنوعة لا تكون أسباباً للمصالح إذ لا يصح ذلك بحال"(3).
وما يعنيه هذا القول أن المسبب الذي يثبت كونه مقصود الوقوع بالسبب المشروع يكون مصلحةً ولا يكون مفسدةً بغض النظر عن ملاءمته للفطرة والحس والطبع. وما يثبت كونه مقصود الرفع بالسبب الممنوع يكون مفسدةً ولا يكون مصلحة، ولو كان مما يميل إليه الطبع بحكم الفطرة أو العادة، أو كان مما يميل إليه العقلاء والحكماء.
التلازم الشرعي بين السبب ومسبَّبه:
لا يصح أن يُقصَد بالحكم الشرعي غير ما قصد الشارع به، ولا يصح تحصيل أو قصد ما قصده الشارع بغير الحكم الذي شُرِع لأجله. يقول الشاطبي: "الأسباب من حيث هي أسباب شرعية لمسببات إنما شرعت لتحصيل مسبباتها وهي المصالح المجتلبة أو المفاسد المستدفعة"(4). ويقول: "والمسببات بالنظر إلى أسبابها ضربان: أحدهما: ما شرعت الأسباب لأجلها إما بالقصد الأول وهي متعلق المقاصد الأصلية أو المقاصد الأُول أيضاً، وأما بالقصد الثاني وهي متعلق المقاصد التابعة... والثاني: ما سوى ذلك مما يُعلم أو يُظن أن الأسباب لم تشرع لها، أو لا يعلم ولا يظن أنها شرعت لها أو لم تشرع، فتجيء الأقسام ثلاثةً:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/135.
(2) المصدر نفسه، 1/167.
(3) المصدر نفسه، 1/168.
(4) المصدر نفسه، 1/171.(1/353)
أحدها: ما يُعلمُ أو يُظن أن السبب شرع لأجله فَتَسَبُّبُ المُتَسَبِّبِ فيه صحيح لأنه أتى الأمر من بابه وتوسل إليه بما أذن الشارع في التوسل به إلى ما أذن أيضاً في التوسل إليه. لأنا فرضنا أن الشارع قصد بالنكاح مثلاً التناسل أولاً، ثم يتبعه اتخاذ السكن ومصاهرة أهل المرأة لشرفهم أو دينهم أو نحو ذلك، أو الخدمة أو القيام على مصالحه أو التمتع بما أحل الله من النساء، أو التجمل بمال المرأة أو الرغبة في جمالها أو الغبطة بدينها أو التعفف عما حرم الله، أو نحو ذلك حسبما دلَّت عليه الشريعة، فصار إذاً ما قصده هذا المتسبب مقصود الشارع على الجملة"(1).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/171 - 172.(1/354)
"والثاني: ما يُعلم أو يُظن أن السبب لم يشرع لأجله ابتداءً، فالدليل يقتضي أن ذلك التسبب غير صحيح لأن السبب لم يشرع أولاً لهذا المسبَّب المفروض، وإذا لم يشرع له فلا يتسبب عنه حكمته في جلب مصلحة ولا دفع مفسدة بالنسبة إلى ما قصد بالسبب فهو إذاً باطل. هذا وجه، ووجه ثانٍ وهو أن هذا السبب بالنسبة إلى هذا المقصود المفروض غير مشروع فصار كالسبب الذي لم يشرع أصلاً. وإذا كان التسبب غير المشروع أصلاً لا يصح، فكذلك ما شُرِعَ إذا أُخِذَ لما لم يشرع له. ووجه ثالث: إن كون الشارع لم يشرع هذا السبب لهذا المسبب المعين دليل على أن في ذلك التسبب مفسدة لا مصلحة، أو أن المصلحة المشروع لها السبب منتفية بذلك المسبَِّب فيصير السبب بالنسبة إليه عبثاً"(1). "الثالث: وهو أن يقصد بالسبب مسبباً لا يعلم ولا يُظَنُ أنه مقصود للشارع أو غير مقصود له. وهذا موضع نظر وهو محل إشكالٍ واشتباه. وذلك أنا لو تسببنا لأمكن أن يكون ذلك السبب غير موضوع لهذا المسبَّب المفروض، كما أنه يمكن أن يكون موضوعاً له ولغيره، فعلى الأول يكون التسبب غير مشروع. وعلى الثاني يكون مشروعاً. وإذا دار العمل بين أن يكون مشروعاً أو غير مشروع كان الإقدام على التسبب غير مشروع"(2).
__________
(1) المصدر نفسه، 1/173.
(2) المصدر نفسه، 1/181. وأنظر: 1/171 - 182.(1/355)
ثم قال: إن السبب "إنما فُرض مشروعاً بالنسبة إلى شيءٍ معين ٍ مفروض ٍ معلومٍ لا مطلقاً"(1). وقال: "بل علمنا أن كثيراً من الأسباب شرعت لأمورٍ تنشأ عنها ولم تشرع لأمورٍ وإن كانت تنشأ عنها وتترتب عليها... فلما علمنا أنه مشروع لأمور مخصوصة، كان ما جُهِلَ كونه مشروعاً له مجهولَ الحكم فلا تصح مشروعية الإقدام حتى يعرف الحكم"(2) ثم قال: "فإذا ثبت هذا وتبين تسبُّبٌ لا ندري أهو مما قصده الشارع بالتسبب المشروع أو مما لم يقصده وجب التوقف حتى يعرف الحكم فيه ولهذا قاعدة يتبين بها ما هو مقصود الشارع من مسببات الأسباب وما ليس بمشروع وهي مذكورة في كتاب المقاصد"(3). وعلى ذلك فالشاطبي يرى أن تحقيق الغاية الشرعية لا يصح إلا بالطريقة الشرعية التي وضعها الشارع طريقة لها. والطريقة وإن كانت شرعية فلا يصح أن تتخذ أو يتوسل بها لتحقيق غاية شرعية إلا إذا كان الشارع قد وضع تلك الطريقة لهذه الغاية. فلا يصح لمنع السرقة إلا قطع اليد، ولا تستبدل العقوبة بغيرها. ولا يصح قطع اليد إلا لما شرع له. وكذلك لا يصح تطبيق الجهاد لغير ما شرع له. ولا يصح لأجل إقامة الحكم بما أنزل الله وهو غاية شرعية أن تتخذ أسباب أو طرق لم توضع له شرعاً، كالمؤسسات الخيرية مثلاً وإن كانت مشروعةً فهي ليست مشروعة لهذه الغاية. أو كالمشاركة في الحكم بالكفر، فهذا لم يوضع لأجل هذه الغاية، فضلاً عن انه ممنوع شرعاً.
العادات والعبادات بين اتباع المعاني والتعبد:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/181 - 182.
(2) المصدر نفسه، 1/181. وانظر: 1/171 - 182.
(3) المصدر نفسه، 1/181 - 182.(1/356)
... إذا ثبت أن للأحكام غاياتها التي قصدها الشارع، وهي المصالح أو العلل، فإن من الأحكام ما لا يوقف له على علة تصلح لتعدية الحكم بها، وإن كان يعرف لها علة تتصف بالعموم الذي لا يمكن معه إجراء القياس، وذلك مثل تعليل العبادات بالتعبد والامتثال، لذلك فمن الأحكام ما يجب أن لا يبحث لها عن علة ومن الأحكام ما يجب أن يعلل أو أن تتبع المعاني فيها لأجل الوقوف على عللها.
معنى اتباع المعاني:
... إن العلل أو المصالح لا تعتبر إلا إذا ثبتت قطعاً عن طريق الاستقراء. وطريق الاستقراء هو النظر في الأحكام والخروج بالمعاني والحكم التي تترتب عليها. وإن ما يسرح فيه العقل، عادةً، عند النظر، هو المعاني المعقولة أو الأوصاف المناسبة، إلا أن وجود معنىً معين في بضعة نصوص لا يكفي لاعتباره، إذ لا بد من وجود عدد كبير من الأحكام التي يوجد فيها ذلك المعنى ليصح اعتباره، وهو ما يشبه التواتر المعنوي في مصطلح علم الحديث. لذلك فإن تخيل معنىً صالحٍ في بضعة أحكام لا يكفي لاعتباره، ولا بد لأجل اعتباره من إثباته في أحكام كثيرة تفوق الحصر، وهذا الإثبات أو البحث عن المعنى أو تتبعه في الأحكام هو اتباع المعاني. وليس مراد الشاطبي باتباع المعاني إعمال المعنى لمجرد وجود رابطة متخيلة أو مظنونة بينه وبين الحكم.(1/357)
... ولا يقتصر اتباع المعاني على الأوصاف المناسبة أو التي يُدرك العقل وجه الحكمة فيها. فكل معنى يثبت بالإستقراء يحصل القطع باعتباره شرعاً لمجرد وجود رابطة سببية بينه وبين الأحكام التي استقرئ فيها، إلا ان أكثر ما علل به الشارع الأحكام هو المناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول، لذلك فالعبرة في تتبع المعاني هو اعتبار الأحكام أولاً، ثم النظر في مسبباتها أو معانيها بغض النظر عن كونها مناسبة أو غير مناسبة. مع أن الواقع أن أكثر التعليلات في الشرع جاءت بأوصاف مناسبة أو معاني معقولة، يقول الشاطبي: "إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعاً ويتأخر العقل فيكون تابعاً، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بمقدار ما يسرحه النقل"(1). وقال: "إن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات... وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول"(2).
ويقابل اتباعَ المعاني التعبُدُ، أي عدم البحث عن أي معنى أو مصلحة مقصودة بالحكم - أي علة -، سوى مصلحة الطاعة والامتثال.
العبادات لا تُعَلَّل:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 1/53.
(2) المصدر نفسه، 2/213.(1/358)
... يقول الشاطبي: "الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني"(1) أي أن الأصل أن لا يبحث لها عن علة، وقوله: الأصل، يعني أن هناك حالات نادرة أو قليلة يصح تتبع معنى معين ليرى إن كان يثبت أَوْ لا، ويستدل الشاطبي على ذلك بأمور: "منها الاستقراء فإنا وجدنا الطهارة تتعدى محل موجبها، وكذلك الصلوات خصت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة إن خرجت عنها لم تكن عبادات... وهكذا سائر العبادات كالصوم والحج وغيرهما، وإنما فهمنا من حكمة التعبد العامة الانقياد لأوامر الله تعالى وأفراده بالخضوع والتعظيم لجلاله والتوجه إليه، وهذا المقدار لا يعطي علة خاصة يفهم منها حكم خاص"(2). ولا داعي لذكر سائر أدلته على هذا الأمر، ومراد الشاطبي أن العبادات لا تعلل ولا يصح أن يبحث لها عن علة، وإن وُجد في بعض أحكام العبادات ما يمكن تحميله معانٍ معينة قد تكون مناسبة جداً وتهجم على الفكر، فيجب إهدارها وعدم الالتفات إليها، لأن كون العبادات لا تعلل أصل قطعي ثبت بالاستقراء وبأمور أخرى، فلا يصح متابعة هذا المعنى في أحكام أخرى لإثباته عن طريق الاستقراء. يقول: "فيجب أن يؤخذ في هذا الضرب التعبد دون الالتفات إلى المعاني أصلاً يبنى عليه وركناً يلجأ إليه"(3) أما الحالات النادرة التي يصح فيها - ولا يجب - اتباع المعنى، فهي إذا دل نص أو إجماع على معنى معين، فهذا المعنى من معاني الأدلة وليس من معاني الأحكام. يقول: "إلا أن يتبين بنص أو إجماع معنىً مرادٌ في بعض الصور فلا لوم على من اتبعه، لكن ذلك قليل فليس بأصل وإنما الأصل ما عم في الباب وغلب في الموضع"(4) أما كون المعنى المراد بنص أو إجماع يختلف عن غيره فلأنه من دلالات النصوص أو معانيها، وليس من دلالات الأحكام.
__________
(1) المصدر نفسه، 2/211.
(2) الشاطبي، الموافقات، 2/212.
(3) المصدر نفسه، 2/213.
(4) المصدر نفسه، 2/212.(1/359)
أما كونه يصح اتباع المعنى فيه وليس بواجب فذلك لأن هذا المعنى ظني ولا يصح اعتباره إلا إذا كان راجعاً إلى أصل قطعي، وهذا لا يثبت إلا بالاستقراء، واتباع المعنى قد يثبته وقد يلغيه، فإذا ألغاه، فقد تأكد الوقوف مع التعبد، وإذا أثبته، فإن أصل التعبد ثابت أيضاً بنفس الطريق، أي بالاستقراء، ولذلك فلا تأثير له على العبادات لا بإنشاء ولا بإلغاء، يقول: "ما هو حق لله خالصاً كالعبادات وأصله التعبد راجع إلى عدم معقولية المعنى وبحيث لا يصح فيه إجراء القياس، وإذا لم يعقل معناه دل على أن قصد الشارع فيه الوقوف عند ما حده لا يتعدى"(1). وأما المعنى المعقول وقد ثبت كونه مقصوداً للشارع، فإنه يجب إعماله في غير العبادات. أضف إلى ذلك أن العبادات، وإن جاء في بعضها ما يدل على التعليل أو يُشعر بالمناسبة، فان شروط العلة مفقودة أو غير مكتملة فيها. لذلك فان مثل هذه الأوصاف أو المعاني لا تعدى بها الأحكام، وذلك مثل السرقة علة للقطع والزنا علة للرجم، ولكن لا يحصل القياس هنا ولا يتعدى الحكم محله، وذلك أقوى في العبادات كما في السهو علة للسجود. فنحن نقول سرق فقطع، وزنا فرجم وسها فسجد. فهذه العلل وان كانت مفهومة الجنس ولكنها غير مفهومة الخصوص، فالمفهوم هو عموم الجناية أو المعصية وعموم العقوبة أو الاعتذار. ولكن تخصيص هذا بهذا غير مفهوم، إذ كان يمكن عقلاً أن يقال، سرق فسجن، أو سها فأعاد أو غير ذلك. وكذلك يقال في التعليل بالمشقة في القصر والإفطار والجمع. يقول: "وأيضاً فان المناسب فيها (أي العبادات) معدود عندهم فيما لا نظير له كالمشقة في قصر المسافر وإفطاره والجمع بين الصلاتين وما أشبه ذلك. والى هذا فأكثر العلل المفهومة الجنس في أبواب العبادات غير مفهومة الخصوص كقوله: "سها فسجد"(2)،
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/221.
(2) تقدم تخريجه..(1/360)
وقوله: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"(1)، ونهيه عن الصلاة طرفي النهار وعلل ذلك بأن الشمس تطلع وتغرب بين قرني الشيطان(2)، وكذلك ما يستعمله الخلافيون في قياس الوضوء على التميم في جوب النية... وما أشبه ذلك مما لا يدل على معنى ظاهر منضبط مناسب يصلح لترتيب الحكم عليه من غير نزاع، بل هو المسمى شبها، بحيث لا يتفق على القول به القائلون، وإنما يقيس به من يقيس بعد أن لا يجد سواه، فإذا لم يتحقق لنا علة ظاهرة تشهد لها المسالك الظاهرة، فالركن الوثيق الذي ينبغي الالتجاء إليه الوقوف عند ما حُد دون التعدي إلى غيره، لأنا وجدنا الشريعة حين استقريناها تدور على التعبد في باب العبادات، فكان أصلا فيها"(3) وعلى ذلك فالعبادات لا تعلل ولا قياس فيها.
الأصل في العادات التعليل:
__________
(1) البخاري، باب: في الصلاة (6440)، ومسلم: باب وجوب الطهارة للصلاة (225)، والترمذي (71)، وقال: حسن صحيح. وابو داود (55) وأحمد (7875).
(2) البخاري (3032) ومسلم (966) و(987) والترمذي (148) وقال: حسن صحيح والنسائي (507).
(3) الشاطبي، المواققات، 2/211.(1/361)
... ذكر الشاطبي العادات، في أول كتاب المقاصد وجعلها أحد أربعة أقسام: العبادات والعادات والمعاملات والجنايات، ومثل لها بتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات(1). أما في هذا البحث فهو يذكرها كأحد قسمين: العبادات والعادات. ولذلك فهي تعني هنا ما سوى العبادات من الأحكام. يقول: "أصل العادات الالتفات إلى المعاني"(2)، ويستدل على ذلك بأمور أولها الاستقراء. يقول: "فإنا وجدنا الشارع قاصداً لمصالح العباد، والأحكام العادية تدور معه حيثما دار فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة فإذا كان فيه مصلحة جاز كالدرهم بالدرهم إلى اجل يمتنع في المبايعة ويجوز في القرض... ولم نجد هذا في باب العبادات مفهوماً كما فهمناه في العادات. وقال تعالى: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } (3)، وقال: { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } (4)، وفي الحديث: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"(5)، وقال: "لا ضرر ولا ضرار"(6)، وقال: "القاتل لا يرث"(7)"(8) ثم قال: "إلى غير ذلك مما لا يُحصى وجميعه يشير بل يصرح باعتبار المصالح للعباد وأن الإذن دائر معها أينما دارت حسبما بينته مسالك العلة فدل ذلك على أن العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني"(9).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/5.
(2) المصدر نفسه، 2/211.
(3) سورة البقرة، 179.
(4) سورة البقرة، 188.
(5) تقدم تخريجه.
(6) تقدم تخريجه.
(7) تقدم تخريجه.
(8) الشاطبي، الموافقات، 2/213.
(9) الموضع نفسه.(1/362)
... وهذه المعاني وإن كانت ليست من دلالات النصوص، فهي بمثابة أصول أو علل قطعية، تنزلت الأحكام بناء عليها. أي أن هذه الأحكام صدرت على أساس تطبيق تلك الأصول. فهذه الأحكام جزئيات بالنسبة لها، ومعنى الأصول متمثل فيها. هذا معنى تنزل الكليات للجزئيات، ولذلك يجب الالتفات إلى المعاني، أي إلى معنى معين أو معانٍ موجودة في الحكم، ثم تتبع هذا المعنى لتحصيل الاستقراء له والذي به يصير أصلاً كلياً وعلة ومصلحة. فمثلاً في حديث "القاتل لا يرث" يمكن تخيل معنى المعاملة بنقيض المقصود كعقوبة، أو من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه. فهل هذه المعاني أصول أو قواعد في الشريعة تتنزل الأحكام على أساسها؟ إن هذه المعاني ليست ثابتة من أصول الشريعة وإن كان يمكن تخيلها في الحكم، ولذلك يجب تتبع هذا المعنى وملاحظة وجوده أو عدم وجوده في أحكام أخرى كثيرة، وملاحظة تخلفه أو عدم تخلفه حيث يمكن تطبيقه، وبذلك يحصل الاستقراء المثبت أو النافي للمعنى. هذا الالتفات إلى المعاني يجب أن يحصل في العادات بناء على أصل أن الشريعة جاءت لأجل مصالح العباد فهذه المصالح هي الأصول التي تنزلت على أساسها الشريعة وهذه المصالح لا بد أن تكون موجودة في الأحكام، إلا أن الأحكام لما كان يمكن أن يتخيل فيها معانٍ أو حكم كثيرة ولا يمكن الحكم أن هذا المعنى هو الذي قصده الشارع أو على أساسه شرع الحكم كان لا بد من الاستقراء لهذا المعنى، لأنه بكثرة الأحكام يزداد المعنى قوة وبخروجها عن الحصر يصبح قطعياً ومقصوداً للشارع ومصلحة. يقول: "إن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما تقدم تمثيله وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول، ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها إتباع المعاني لا الوقوف على النصوص بخلاف باب العبادات فإن المعلوم فيه خلاف ذلك"(1).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 2/213.(1/363)
... إلا أن الشاطبى يستثني هنا بعض الحالات النادرة كما استثنى في شأن العبادات. وذلك أن العبادات لا تتبع فيها المعاني إلا إذا دل نص أو إجماع على معنى معين وكذلك في العادات تتبع فيها المعاني إلا إذا وجد فيها التعبد فلا بد من الوقوف مع النصوص، يقول: "فإذا تقرر هذا وأن الغالب في العادات الالتفات إلى المعاني، فإذا وجد فيها التعبد فلا بد من التسليم والوقوف مع النصوص كطلب الصداق في النكاح والذبح في المحل المخصوص في الحيوان المأكول والفروض المقدرة في المواريث وعدد الأشهر في العِدَد الطلاقية والوفوية وما أشبه ذلك من الأمور التي لا مجال للعقول في فهم مصالحها الجزئية حتى يقاس عليها غيرها"(1).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/214.(1/364)
... وهذه العاديات والعبادات، وإن كان لا يصح الالتفات إلى المعاني فيها بمعنى أنه لا يجري القياس فيها أو عليها، فهي لها معنى مفهوم، وإن كان ليس من المعاني التي تصلح للقياس، وذلك إضافةً إلى المعنى العام وهو التعبد، يقول: "فإن قيل هل توجد لهذه الأمور التعبديات(1) علة يفهم منها قصد الشارع على الخصوص أم لا؟ فالجواب أن يقال: أما أمور التعبدات فعلتها المطلوبة مجرد الانقياد من غير زيادة ولا نقصان، ولذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة قالت للسائلة: "أحرووية أنت!" إنكاراً عليها أن يسأل عن مثل هذا إذ لم يوضع التعبد أن تفهم علته الخاصة. ثم قالت: "كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة"(2). وهذا يرجح التعبد على التعليل بالمشقة، وقول ابن المسيب في مسألة تسوية الشارع بين الأصابع: "هي السنة يا ابن أخي"(3) وهو كثير ومعنى هذا التعليل أن لا علة. أما العاديات وبعض العبادات أيضاً فلها معنى مفهوم وهو ضبط وجوه المصالح... فجعل الشارع للحدود مقادير معلومة لا تتعدى كالثمانين في القذف والمائة وتغريب العام فى الزنا على غير إحصان وخص قطع اليد بالكوع وفي النصاب المعين" (4).
لا بد من اعتبار التعبد في العادات:
__________
(1) أي العبادات، والعادات المستثناة من أصل الالتفات إلى المعنى.
(2) أخرجه مسلم في باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة (506)، (508)، والترمذي (120) وقال: حسن صحيح. والنسائي (379) وأحمد (22908).
(3) الموطَّأ، باب ما جاء في عقل الأصابع (1355).
(4) الشاطبي، الموافقات، 2/213.(1/365)
... ولا يعنى - بحال من الأحوال - أن المعاني المعتبرة في أحكام العادات، أي التي ثبتت بالاستقراء، وبتعبير آخر: المصالح، يمكن إلغاء الأحكام بناء عليها، وهذا يعود إلى لزوم إعمال الكليات والجزئيات معاً وذلك لان هذه الأحكام هي التي جعلها الشارع طريقا" إلى المصالح فلا يجوز إلغاؤها بحجة أن القصد أو المعنى قد أدرك وبالتالي يمكن تغيير الأحكام مع المحافظة على المقاصد والمعاني. وذلك لأن التعبد موجود في كل الأحكام سواء كانت من العبادات أو العادات يقول: "كل ما ثبت فيه اعتبار التعبد فلا تفريع فيه وكل ما ثبت فيه اعتبار المعاني فلا بد فيه من اعتبار التعبد"(1) ويورد أدلة كثيرة على هذا الأمر منها أن إدراك مقصد أو مصلحة من الحكم لا يعنى إدراك كل المصالح المقصودة به ومنها أن الطريق الأمثل لتحقيق المقصود هو الطريق المشروع ومنها مقصد الامتثال وغير ذلك. ويبني على ذلك أمراً وهو: "إن كل حكم شرعي ليس بخالٍ عن حق الله تعالى وهو جهة التعبد"(2). وهو ما سنتعرض له بتفصيل أكبر في الفصل التالي، فصل مقاصد المكلف.
الفصل السادس
مقاصد المكلَّف
... ويحتوي على تمهيد وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: المقاصد والنوايا.
المبحث الثاني: أعمال المكلف ومقاصده.
المبحث الثالث: الحِيَل.
الفصل السادس
مقاصد المكلَّف
تمهيد:
قال الشاطبي: "المقاصد التي يُنظرُ فيها قسمان: أحدهما: يرجع إلى قصد الشارع والآخر يرجع إلى قصد المكلَّف"(3). وقد تبيَّن فيما سبق القسم الأول من المقاصد وهو ما يرجع إلى قصد الشارع. وسيتبيّن - إن شاء الله - في هذا الفصل القسم الثاني، وهو مقاصد المكلَّف.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/214.
(2) المصدر نفسه، 2/221.
(3) الشاطبي، الموافقات، 2/1.(1/366)
كما تبيَّن أن المقاصد هي نتائج أو مسببات. والأسباب هي الأعمال التي يقوم بها المكلف وتؤول إلى تلك المسببات، فهي بمثابة الوسائل لأجل المقاصد. والأعمال التي يقوم بها المكلف قد تكون مأموراً بها شرعاً أو منهياً عنها أو مأذوناً بها.
ومقاصد المكلف من أعماله قد تكون امتثال أمر الشارع، أي قد تكون مقاصد أخروية من غير نظر إلى مقصدٍ دنيوي. وقد تكون دنيوية أي تحصيل الأغراض والحظوظ، بحسب ما ركب الله في الإنسان من خصائص وشهوات(1). وقد تكون جامعةً بين القصدين: قصد الامتثال وقصد طلب الحظ.
فما هو أثر قصد المكلف أو نيته على صحة العمل، سواء من حيث الثواب أو العقاب عليه في الآخرة، أو من حيث وقوعه وترتب آثاره عليه في الدنيا؟ وهل يصح للمكلف أن يقصد حظوظه وأغراضه ومنافعه مع قصده الامتثال؟ وهل يصح له أن يقصد بالأعمال المشروعة نتائج لم يشرع الله تلك الأعمال لأجلها؟ وهل يصح له أن يقصد مقاصد مشروعة بأعمال غير مشروعة؟ وما حكم الأعمال التي تقع من المكلَّف عريَّةً عن أي قصد له؟
__________
(1) وقد دلت كثير من النصوص على هذه الخصائص، كما يدل على ذلك أيضاً واقع الإنسان قال تعالى: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ } المائدة، 14.
... وقال: { وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا } الفجر، 19 - 20.
... وقال: { * إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) } المعارج، 19-20- 21.(1/367)
وهل يصح للمكلَّف أن يُنشئَ أعمالاً بقصد جعل مقاصده غير الشرعية شرعية؟ وهو ما عُرف باسم الحِيَل. كمن يتصدق ببعض ماله أو ينفقه فراراً من الزكاة، أو كمن ينشئ سفراً للترخص بالإفطار مثلاً، أو كمن ينكح المطلقة ثلاثاً لكي يطلقها بقصد تحليلها لمطلقها الأول.
لمثل هذه الأعمال، ولمثل هذه المقاصد وما ينبني عليها أو يتفرَّع عنها جاء قسم مقاصد المكلف عند الشاطبي. ولبيان موقف الشاطبي من هذه المسائل كان هذا الفصل.
ولأن القصد والنية وأثر ذلك في عمل المكلف من المسائل المبحوثة باستفاضة عند الأئمة، وقد جاءت أقوال الشاطبي متفقة مع بعضها ومختلفة مع بعضها، فسيتم التعرض لأقوالهم وآرائهم في ذلك قبل بيان أقوال الشاطبي فيها.
المبحث الأول
المقاصد والنوايا
النية والقصد والفرق بينهما:
قال الغزالي: "إعلم أن النية والإرادة والقصد عبارات متواردة على معنى واحد وهو حالة وصفة للقلب يكتنفها أمران: علم وعمل، العلم يقدمه لأنه أصله وشرطه، والعمل يتبعه لأنه ثمرته وفرعه"(1). وقال: إن النية "وهي الإرادة وانبعاث النفس بحكم الرغبة والمَيْل إلى ما هو موافق للغرض إما في الحال وإما في المآل، فالمحرك الأول هو الغرض المطلوب وهو الباعث، والغرض الباعث هو المقصد المنوي، والانبعاث هو القصد والنيَّة، وانتهاض القدرة لخدمة الإرادة بتحريك الأعضاء هو العمل"(2).
وقال ابن نُجَيْم الحنفي: "فهي في اللغة: كما في القاموس: نوى الشيء ينويه نيةً وتُشدَّد وتُخَفَّف: قصده. وفي الشرع كما في التلويح: قصد الطاعة والتقرب إلى الله في إيجاد الفعل"(3).
__________
(1) الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، إحياء علوم الدين، 4/365، دار المعرفة - بيروت.
(2) الموضع نفسه.
(3) ابن نجيم الحنفي، زين الدين بن إبراهيم، المتوفى سنة 970هـ، الأشباه والنظائر، ص: 24، ط2، 1442هـ - 1999م، تحقيق الدكتور محمد مطيع الحافظ، دار الفكر المعاصر - بيروت، دار الفكر - دمشق.(1/368)
وقال: "وعرَّفها القاضي البيضاوي بأنها شرعاً الإرادة المتوجهة نحو الفعل ابتغاءً لوجه الله تعالى وامتثالاً لحكمه. ولغةً: انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لغرضٍ من جلب نفعٍ أو دفع ضرٍ، حالاً أو مآلاً"(1).
وقال السيوطي: "محلها القلب في كل موضع لأن حقيقتها القصد مطلقاً، وقيل: المقارن للفعل وذلك عبارة عن فعل القلب. قال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه من جلب نفعٍ أو دفع ضرٍ حالاً أو مآلاً. والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله تعالى وامتثال حكمه"(2).
وقال ابن رجب الحنبلي: "واعلم أن النية في اللغة: نوع من القصد والإرادة وإن كان قد فُرِّقَ بين هذه الألفاظ"(3). ثم ذكر ما مفاده رفض هذا التفريق كما سيتبين. ويتبين من النصوص السابقة للعلماء في النية والقصد أنهما يتواردان في اللغة على معنى واحد مع اعتبار أن لفظ القصد أعم من لفظ النية، وذلك ما يشير إليه قول السيوطي: "حقيقتها القصد مطلقاً"، وقول ابن رجب: "النية في اللغة: نوع من القصد والإرادة".
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر المتوفى سنة 911 هـ، الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، ص: 76، ط2، 1414هـ - 1993م، تحقيق وتعليق الدكتور محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي - بيروت.
(3) ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، ص: 16، تحقيق فؤاد ابن علي حافظ، ط2، 1421هـ - 2000م، مؤسسة الريان بيروت.(1/369)
أما التفريق بين القصد والنية، فكما ظهر أن القصد أعم والنية أخص، وكما يظهر بالتدقيق في النصوص الواردة آنفاً، وهو أن النية تطلق عند وجود الفعل، فلا يكفي وجود القصد أو الإرادة في القلب، وإنما يجب أن يقارن ذلك التوجهُ إلى إحداث الفعل، لذلك جاء في تعريف البيضاوي قوله: "بأنها الإرادة المتوجهة نحو الفعل"، وفي قول السيوطي: "وقيل: المقارن للفعل" أما قوله: "وذلك عبارة عن فعل القلب" فذلك للتأكيد أنها نوع من القصد فمحلها القلب مثله. وقال ابن رجب الحنبلي: "وإنما فرَّق من فرَّق بين النية وبين الإرادة والقصد ونحوها لظنهم اختصاص النية بالمعنى الأول الذي يذكره الفقهاء فمنهم من قال: النية تختص بفعل الناوي، والإرادة لا تختص بذلك، كما يريد الإنسان من الله أن يغفر له ولا ينوي ذلك"(1).
__________
(1) ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، ص: 16 - 17.(1/370)
وعند التدقيق نلاحظ تفريقاً في الاستعمال اللغوي لجهة أن لفظ القصد أعم من لفظ النية، فقد لاحظنا قول العلماء مثلاً: مقصد الشارع ومقاصد الشارع ومقاصد الشريعة، ولم يقولوا نية الشارع أو نواياه أو نوايا الشريعة، وكذلك لم يقولوا إرادة الشريعة(1).
__________
(1) لفظ الإرادة حيث ورد في نصوص العلماء بمعنى القصد والنية، جاء في نصوص شرعية كثيرة، قال تعالى: { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ } [آل عمران: 152]، وقال: { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ } [الأنفال: 67]، وقال: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } [هود: 15]، وقال: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ } [الشورى: 20]، وقال: { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [الأنعام: 52]، وقال: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [الكهف: 28]، وقال: { وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } [الروم: 39]، وقد يُعبَّر عنها في القرآن بلفظ الابتغاء كما في قوله تعالى: { إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } [الليل: 20]، وقوله: { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [البقرة:265]، وقوله: { وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ } [البقرة: 272]، وانظر جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي، ص: 17.(1/371)
وأما التفريق الذي أشار إليه ابن رجب في النص السابق بقوله: "لظنهم اختصاص النية بالمعنى الأول الذي يذكره الفقهاء..." فهو إشارة إلى أن من العلماء من جعل للنية معنى شرعياً ومعنى لغوياً، أما المعنى اللغوي فهو القصد مطلقاً وبذلك يكون القصد أعم من النية، وأما الشرعي، فهو تخصيص النية بمعنى قصد امتثال أمر الشارع أو قصد القُربة، وهو ما يشير إليه نص ابن نجيم ونص السيوطي وهو ما نقلاه عن البيضاوي. وهذا بخلاف الغزالي وابن رجب مثلاً، فلم يشيرا إلا إلى المعنى اللغوي.
وينبني على هذا التخصيص لمعنى النية بمعنىً شرعي استعمال لفظ النية لأعمال العبادات. أما في العادات فيكون فقط عندما يكون قصد المكلف التقرب إلى الله وامتثال الأمر. ويصح استعمال لفظة القصد هنا لأنها عامة، أما عندما يكون قصد المكلف هو أغراضه وحظوظه كقصد التملك أو إشباع الشهوات فما جرى عليه الأمر هو استعمال لفظ القصد ولذلك قالوا إن النيات تُصَيِّرُ العادات عبادات. وقال ابن نجيم الحنفي: "لا ثواب إلا بالنية"(1). وقال الغزالي: "وما من شيء من المباحات إلا ويحتمل نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات وينال بها معالي الدرجات، فما أعظم خسران من يغفل عنها"(2).
أثر النيَّة في الأعمال(3):
__________
(1) ابن نجيم الحنفي، الأشباه والنظائر، ص: 14.
(2) الغزالي، إحياء علوم الدين، 4/371.
(3) أي من حيث صحة الأعمال أو بطلانها وترتب الثواب أو العقاب عليها في الآخرة، أو من حيث إجزاؤها وترتب آثارها عليها في الدنيا. قال ابن نُجيم الحنفي: "وهو نوعان أخروي: وهو الثواب واستحقاق العقاب، ودنيوي: وهو الصحة والفساد" وذهب إلى اعتبار الأعمال بالنية بالنظر إلى الآخرة، ونفى اعتبارها بالنظر إلى الصحة والفساد في الدنيا، قال: "وقد أريد الأخروي بالإجماع للإجماع على أنه لا ثواب ولا عقاب إلا بالنية فانتفى الآخر أن يكون مراداً" الأشباه والنظائر، ص: 14.(1/372)
روى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الأعمال بالنية، ولكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه"(1). وعند مسلم بلفظ: "إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئٍ ما نوى..."(2).
ونقل السيوطي التواتر عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث(3). وكذلك الحافظ العسقلاني حيث قال: "وقد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث، قال أبو عبد الله: ليس في أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث"(4). ونقل عن كثير من الأئمة منهم الشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما أنه ثلث الإسلام. وعن الشافعي أنه يدخل في سبعين باباً من أبواب الفقه(5).
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي (1)، والإيمان (52)، والعتق (6439). ومناقب الأنصار (3609) والنكاح (5070) والأيمان والنذور (6195) والحيل (6439) ومسلم (3530)، وأخرجه أبو داود في كتاب الطلاق (2201). والترمذي في كتاب فضائل الجهاد (1571)، وأخرجه النسائي في كتاب الطهارة (74)، والطلاق (3383) والأيمان والنذور (3734)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد (4217)، ورواه أيضاً أحمد في مسنده (4567).
(2) أنظر: صحيح مسلم بشرح الإمام محيي الدين النووي، المسمى المنهاج شرح صحيح مسلم ابن الحجاج 13/55، تحقيق الشيخ خليل مأمون شيحا، دار المعرفة ـ بيروت، ط1، 1414هـ 1994م.
(3) السيوطي، الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، ص: 40.
(4) العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر 773 - 852 هـ. فتح الباري بشرح صحيح البخاري 1/11 بتصحيح وتحقيق عبد العزيز بن عبد الله بن باز، دار المعرفة - بيروت.
(5) أنظر: المراجع المذكورة في الهوامش: 2 و3 و4 أعلاه، وانظر أيضاً: جامع العلوم والحكم ص: 13ـ14.(1/373)
وفيما يتعلق بمعنى الحديث، فالأعمال قسمان: عبادات وعادات. والذين قالوا إن النية بمعنى القصد ولم يخصصوا النية بمعنى شرعي وهو قصد رضا الله وامتثال حكمه، فقد حملوا المعنى على تقدير الصحة في الأعمال سواء كانت عبادات أو عادات بناء على صحة النية وهو ابتغاء رضا الله. فإذا افتقرت الأعمال إلى هذه النية تكون النية فاسدة فتكون الأعمال فاسدة لأن الأعمال بالنيات. قال الحافظ بن حجر العسقلاني: "والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي"(1)، وقال: "التقدير: لا عمل إلا بالنية، فليس المراد نفي ذات العمل لأنه قد يوجد بغير نية، بل المراد نفي أحكامها كالصحة والكمال ولكن الحمل على نفي الصحة أولى"(2). وقال ابن رجب الحنبلي عند شرحه للحديث: "وبه صدَّر البخاري كتابه (الصحيح) مقام الخطبة له، إشارة منه إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة"(3). فقوله: كل عمل، أي سواء كان من العبادات أو من العادات وهو ما ذهب إليه الغزالي كما سيتبين.
__________
(1) العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 1/13.
(2) الموضع نفسه.
(3) ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، ص: 13.(1/374)
أما الذين خصصوا النية بالمعنى الشرعي الخاص، فقد فرَّقوا في الأعمال بين العبادات والعادات، فأعمال العادات تكون صحيحة، وإن لم تكن بقصد الامتثال للشارع ولكن لا يترتب عليها ثواب. أما العبادات فالنية شرط في صحتها. قال ابن رجب الحنبلي: "وقد اختُلِفَ في تقدير قوله: "الأعمال بالنيات"، فكثير من المتأخرين يزعم أن تقديره: الأعمال صحيحة أو معتبرة أو مقبولة بالنيات، وعلى هذا فالأعمال إنما أريد بها الأعمال الشرعية المفتقرة إلى النية. أما ما لا يفتقر إلى نية كالعادات من الأكل والشرب واللبس وغيرها، أو مثل رد الأمانات والمضمونات، كالودائع والغصوب فلا يحتاج شيء من ذلك إلى نية فيُخص هذا كله من عموم الأعمال المذكورة ههنا. وقال آخرون: بل الأعمال ههنا على عمومها لا يختص منها شيء"(1).
وحاصل هذا الخلاف يرجع إلى وفاق فيما يتعلق بأعمال العبادات، إذ لا خلاف في أن صحة العبادات تفتقر إلى النية. أما العادات فهي محل الخلاف والتفصيل، والذين يقصرون معنى الحديث "الأعمال بالنية" على أعمال العبادات يؤكدون على أن أعمال العادات تؤثر فيها مقاصد العامل، لذلك وضعوا قاعدة "شرعية" أعمَّ من حديث النية، بنوها على الحديث وعلى غيره من النصوص الشرعية هي قاعدة: الأمور بمقاصدها.
__________
(1) المصدر نفسه، ص: 15، والقول الأول هو ما يقوله الشاطبي كما سيتبين.(1/375)
قاعدة الأمور بمقاصدها(1):
__________
(1) تذكر بعض كتب الأشباه والنظائر عن بعض الفقهاء إرجاع بعض المذاهب الفقهية إلى بضع عشرة قاعدة. أنظر في ذلك كتاب الأشباه والنظائر للسيوطي ص: 35 - 38. وكتاب الأشباه والنظائر للإمام تاج الدين السبكي ص: 10 - 12. وقد ذكر السيوطي رد جميع مذهب الشافعي إلى أربع قواعد: الأولى: اليقين لا يزال بالشك، والثانية: المشقة تجلب التيسير، والثالثة: الضرر يزال، والرابعة: العادة محكمة. ومما قاله: "قال بعض المتأخرين: في كون هذه الأربع دعائم للفقه نظر، فإن غالبه لا يرجع إليها إلا بواسطة وتكلف، وضم بعض الفقهاء إلى هذه قاعدة خامسة وهي: "الأمور بمقاصدها" لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "إنما الأعمال بالنيات". وقال: "بني الإسلام على خمس" [الحديث أخرجه البخاري في الإيمان رقم (7)، (4153) ومسلم في باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام رقم (16)، (20)، (21)، وأحمد رقم (4567)، والترمذي (2534) وقال: حسن صحيح والنسائي (4915)]. والفقه على خمس، قال العلائي: وهو حسن جداً فقد قال الإمام الشافعي: يدخل في هذا الحديث ثلث العلم" ص: 37.
... ... وقال الإمام السبكي: "اعلم أن القاضي حسيناً ذكر أن مبنى الفقه على أربع قواعد" ثم ذكر الأربع المذكورة أعلاه". وقال: "وزعم من يدعي التحقيق أنه أهمل خامسة وهي أن الأمور بمقاصدها، وقال: بني الإسلام على خمس والفقه على خمس". وأضاف السبكي: "والتحقيق عندي أنه إن أريد رجوع الفقه إلى الخمس بتعسف وتكلف وقول جُمَلي فالخامسة داخلة في الأولى وفي الثانية أيضاً. بل رجَّع شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام الفقه كله إلى اعتبار المصالح ودرء المفاسد، ولو ضايقه مضايق لقال: أرجع الكل إلى اعتبار المصالح فإن درء المفاسد من جملتها. ويقول على هذا: واحدة من هذه الخمس كافية والأشبه أنها الثانية، وإن أريد الرجوع بوضوح فإنها تربو إلى الخمسين بل على المائتين" ص: 12. أما العلامة ابن نجيم الحنفي فقد عدها ستاً رتبها كالتالي: لا ثواب إلا بالنية، الأمور بمقاصدها، اليقين لا يزول بالشك، المشقة تجلب التيسير، الضرر يزال، العادة محكمة. أنظر: الأشباه والنظائر، ص: 1 - 3.(1/376)
قال السيوطي: "الأصل في هذه القاعدة قوله - صلى الله عليه وسلم - : "إنما الأعمال بالنيات". وهذا حديث صحيح مشهور أخرجه الأئمة الستة وغيرهم عن عمر بن الخطاب"(1).
وهي بهذا النص شاملة للعبادات والعادات معاً. قال ابن نجيم الحنفي تحت عنوان: الأمور بمقاصدها: "إن بيع العصير ممن يتخذه خمراً إن قصد به التجارة فلا يحرم وإن قصد به لأجل التخمير حرم، وكذا غرس الكرم على هذا. وعلى هذا عصير العنب بقصد الخلِّية أو الخمرية، والهجر فوق ثلاث دائر مع القصد فإن قصد هجر المسلم حرم وإلا لا"(2)، والأمثلة المذكورة في النص أعلاه ليست من العبادات.
ولذلك قالوا إن النية شرعت لتمييز العبادات عن العادات ولتمييز رتب العبادات بعضها عن بعض، أما العادات فلا تشترط لها النية وإنما شرطها أن يكون القصد مشروعاً. وهذا فضلاً عن أن يكون العمل نفسه مشروعاً.
قال ابن السبكي: "ويدخل فيها(3) أيضاً قاعدة: النية لتمييز العبادات عن العادات ولتمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض فالأول: كالجلوس في المسجد يتردد بين الجلوس للاعتكاف والجلوس للاستراحة، وكالوضوء والغسل يتردد بين التبرد والتنظيف والقربة فلولا النية لما تميزت العبادة عن غيرها ولا حصلت"(4). وقال: "وأما الثاني: وهو قولهم: ولتمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض فكتمييز صلاة النفل عن الفرض"(5).
__________
(1) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص: 38.
(2) ابن نجيم الحنفي، الأشباه والنظائر، ص: 22.
(3) فيها: أي في قاعدة الأمور بمقاصدها.
(4) ابن السبكي، الأشباه والنظائر، ص: 57.
(5) المصدر نفسه، ص: 59.(1/377)
ومثله قال السيوطي: "فيم شرعت النية لأجله: المقصود الأهم فيها تمييز العبادات من العادات وتمييز رتب العبادات بعضها عن بعض... والإمساك عن المفطرات قد يكون للحمية والتداوي أو لعدم الحاجة إليه... ودفع المال للغير قد يكون هبةً أو وصلةً لغرض دنيوي وقد يكون قربةً كالزكاة والصدقة والكفارة... وكل من الوضوء والغسل والصلاة والصوم قد يكون فرضاً ونذراً ونفلاً، والتيمم قد يكون عن الحدث أو الجنابة وصورته واحدة"(1).
وكذلك قال ابن نجيم الحنفي: "قالوا: إن المقصود فيها تمييز العبادات من العادات، وتمييز بعض العبادات عن بعض"(2).
الإخلاص والتشريك في المقاصد:
قال الغزالي: "إعلم أن كل شيء يتصور أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه وخلص عنه سُمِّيَ خالصاً، ويسمى الفعل المصفى المخلص: إخلاصاً"(3). وقال: "فمهما كان الباعث واحداً على التجرد سمي الفعل الصادر عنه إخلاصاً بالنسبة إلى المنوي، فمن تصدق وغرضه محض الرياء فهو مخلص، ومن كان غرضه محض التقرب إلى الله تعالى فهو مخلص، ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الإخلاص بتجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب"(4).
أما التشريك فهو ضد الإخلاص، قال الغزالي: "والإخلاص يضاده الإشراك فمن ليس مخلصاً فهو مشرك. إلا أن الشرك درجات، فالإخلاص في التوحيد يضاده التشريك في الإلهية"(5). وقال: "والإخلاص وضده يتواردان على القلب فمحله القلب وإنما يكون ذلك في القصود والنيات"(6).
__________
(1) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص: 46 - 47.
(2) ابن نجيم الحنفي، الأشباه والنظائر، ص: 24.
(3) الغزالي، إحياء علوم الدين. 4/379.
(4) الغزالي، إحياء علوم الدين. 4/379.
(5) الموضع نفسه.
(6) الموضع نفسه.(1/378)
والتشريك في المقاصد هو التشريك بين قصد الامتثال لأمر الشارع أو التقرب إليه وقصد حظوظ النفس. وحظوظ النفس منها ما هو رياء ومنها من هو ليس رياء فالرياء هو أن يعمل ليراه الناس، وذلك كمن يعمل ليراه الأمير أو غيره ليعظم في نفوسهم لأن هؤلاء يَرَوْن. أما من يعمل بقصد الربح أو الغنيمة أو التنعم بالطيبات فهذا قصد لحظ النفس وليس رياءً. قال القرافي: "أن يعمل العمل المأمور به والمتقرب به إلى الله تعالى ويقصد به وجه الله تعالى وأن يعظمه الناس أو يعظم في قلوبهم فيصل إليه نفعهم أو يندفع عنه ضررهم فهذا هو قاعدة أحد قسمي الرياء، والقسم الآخر: أن يعمل العمل لا يريد به وجه الله تعالى البتة، بل الناس فقط، ويسمى هذا القسم: رياء الإخلاص، والقسم الأول رياء الشرك، لأن هذا لا تشريك فيه بل خالص للخلق والأول للخلق ولله تعالى"(1). وقال أيضاً: "وأما مطلق التشريك كمن جاهد ليحصل طاعة الله بالجهاد وليحصل المال من الغنيمة فهذا لا يضره، ولا يحرم عليه بالإجماع لأن الله تعالى جعل له هذا في هذه العبادة ففرق بين جهاده ليقول الناس إنه شجاع أو ليعظمه الإمام فيكثر عطاؤه من بيت المال فهذا ونحوه رياء حرام وبين أن يجاهد ليحصل السبايا والكراع والسلاح من جهة أموال العدو فهذا لا يضره مع أنه قد شرَّك ولا يقال لهذا رياء بسبب أن الرياء ليعمل أن يراه(2) غير الله تعالى من خلقه والرؤية لا تصح إلا من الخلق فمن لا يرى ولا يبصر لا يقال في العمل بالنسبة إليه رياء، والمال المأخوذ من الغنيمة ونحوه لا يقال إنه يرى أو يبصر فلا يصدق على هذه الأغراض لفظ الرياء لعدم الرؤية فيها"(3).
بناء على ما سبق يمكن التفصيل في حكم التشريك بين قصد الامتثال وقصد الحظ.
__________
(1) القرافي شهاب الدين، الفروق: 3/22، الفرق: 122.
(2) هكذا النص. وربما أصله: أن يعمل ليراه...
(3) القرافي شهاب الدين، الفروق: الفرق 122، 3/22 - 23.(1/379)
أما قصد الامتثال والتقرب المجرد عن أي قصد آخر فهذا أعلى الأعمال مرتبة وأزكاها. وأما قصد الحظ فإن كان من الرياء فهو مذموم(1) سواء في العبادات أو العادات، وسواء رياء التشريك أو الرياء المجرد. قال القرافي: "إعلم أن الرياء في العبادات شرك وتشريك مع الله تعالى في طاعته وهو موجب للمعصية والإثم والبطلان"(2). وقال: "وأغراض الرياء ثلاثة: التعظيم وجلب المصالح الدنيوية ودرء المضار الدنيوية، والأخيران يتفرعان عن الأول فإنه إذا عظم انجلبت إليه المصالح واندفعت عنه المفاسد فهو الغرض الكلي في الحقيقة فهذه قاعدة الرياء المبطلة للأعمال المحرمة بالإجماع"(3). وقال الغزالي: "ومن كان باعثه مجرد الرياء فهو معرض للهلاك"(4).
أما إن كان قصد حظ النفس من غير الرياء، فإن كان مجرداً عن قصد الامتثال، فهو في العبادات غير صحيح لأن العبادات - كما تبين سابقاً - تفتقر إلى النية، قال الغزالي: "الطاعات: وهي مرتبطة بالنيات في أصل صحتها وفي تضاعف فضلها"(5).
__________
(1) وللعلماء تفصيل في هذا الأمر، إذ قد يقوم العامل بعمله بقصد الطاعة أو غيرها ابتداءً فيحصل للنفس رياء يهجم عليها ويصعب الخروج عنه. وسنذكره عند تفصيل رأي الشاطبي في التشريك بين المقاصد.
(2) القرافي شهاب الدين، الفروق، 4/22 - 23. الفرق: 122.
(3) الموضع نفسه.
(4) الغزالي، إحياء علوم الدين. 4/379.
(5) المصدر نفسه، 4/370.(1/380)
وإن كان في العادات، فبحسب القصد. فإن كان القصد مشروعاً فالعمل صحيح، وإن كان القصد غير مشروع فهو غير صحيح(1). قال ابن نُجَيْم الحنفي: "بيع العصير ممن يتخذه خمراً إن قصد به التجارة فلا يحرم، وإن قصد به لأجل التخمير حرم، وكذا غرس الكرم على هذا. وعلى هذا عصير العنب بقصد الخلية أو الخمرية. والهجر فرق ثلاث دائر مع القصد، فإن قصد هجر المسلم حرم وإلا فلا، والإحداد للمرأة على ميت غير زوجها فوق ثلاثة دائر مع القصد، فإن قصدت ترك الزينة والتطيب لأجل الميت حرم عليها وإلا فلا"(2). إلا أنه وإن كان قصد الحظ مشروعاً فالتجرد عن قصد الامتثال والتقرب يجعل العمل بلا ثواب إذ لا ثواب إلا بالنية.
__________
(1) حديثنا محصور في الصحة والبطلان من حيث ترتب الإثم أو الثواب، وليس قضاءً في الدنيا.
(2) ابن نجيم الحنفي، الأشباه والنظائر، ص: 22.(1/381)
أما إن كان قصد حظ النفس ممتزجاً بقصد الامتثال والتقرب، فههنا موضع الخلاف والتفصيل. فالقرافي - كما تبين - فرق بين الرياء وغيره من حظوظ النفس وجعل الأول حراماً ومبطلاً للأعمال. أما الغزالي فإنه وإن فرق بينهما في الحرمة والإباحة، فإنه لم يفرق بينهما من حيث أثرهما على العمل الذي امتزجت فيه المقاصد. قال: "التلذذ والتنعم فإن ذلك ليس بمعصية إلا أنه يسأل عنه ومن نوقش الحساب عذب، ومن أتى شيئاً من مباح الدنيا لم يعذب عليه في الآخرة، ولكن ينقص من نعيم الآخرة له بقدره وناهيك خسراناً بأن يستعجل ما يفنى ويخسر زيادة نعيم لا يفنى"(1). وقال: "نتكلم الآن فيمن انبعث لقصد التقرب ولكن امتزج بهذا الباعث باعث آخر، إما من الرياء أو من غيره من حظوظ النفس، ومثال ذلك أن يصوم لينتفع بالحمية الحاصلة بالصوم مع قصد التقرب، أو يعتق عبداً ليتخلص من مؤنته وسوء خلقه، أو يحج ليصح مزاجه بحركة السفر، أو يتخلص من شر يعرض له في بلده"(2)، ثم قال: "وهذه الحظوظ إن كانت هي الباعثة وحدها فلا يخفى شدة الأمر على صاحبه فيها، وإنما نظرنا فيما إذا كان القصد الأصلي هو التقرب وانضافت إليه هذه الأمور"(3). وقال: "فإما أن يكون الباعث النفسي مثل الباعث الديني أو أقوى منه أو أضعف"(4).
__________
(1) الغزالي، إحياء علوم الدين، 4/371 - 372.
(2) المصدر نفسه، 4/379.
(3) المصدر نفسه، 4/380.
(4) الموضع نفسه.(1/382)
ثم قال: "إعلم أن العمل إذا لم يكن خالصاً لوجه الله تعالى بل اقترن به شوب من الرياء أو حظوظ النفس، فقد اختلف الناس في أن ذلك هل يقتضي ثواباً أم يقتضي عقاباً أم لا يقتضي شيئاً أصلاً فلا يكون له ولا عليه؟ أما الذي لم يرد به إلا الرياء فهو عليه قطعاً وهو سبب المقت والعقاب وأما الخالص لله تعالى فهو سبب الثواب وإنما النظر في المشوب، وظاهر الأخبار تدل على أنه لا ثواب له، وليس تخلو الأخبار عن تعارض فيه، والذي ينقدح لما فيه - والعلم عند الله - أن ينظر إلى قدر قوة الباعث، فإن كان الباعث الديني مساوياً للباعث النفسي تقاوما وتساقطا وصار العمل لا له ولا عليه، وإن كان باعث الرياء أغلب وأقوى فهو ليس بنافع وهو مع ذلك مضر ومفضٍ للعقاب. نعم العقاب الذي فيه أخف من عقاب العمل الذي تجرد للرياء ولم يمتزج به شائبة التقرب، وإن كان قصد التقرب أغلب بالإضافة إلى الباعث الآخر فله ثواب بقدر ما فضل من قوة الباعث الديني"(1). وذهب إلى أن طلب الدنيا ليس حراماً ولكن طلبها بأعمال الدين حرام لما فيه من الرياء وتغيير العبادة عن موضعها(2).
__________
(1) الغزالي، إحياء علوم الدين، 4/384.
(2) المصدر نفسه، 4/385.(1/383)
وقد عارضه في ذلك القرافي والشاطبي. أما القرافي فقال: "وكذلك من حج وشرك في حجه غرض المتجر بأن يكون جل مقصوده أو كله السفر للتجارة خاصة ويكون الحج إما مقصوداً مع ذلك أو غير مقصود، ويقع تابعاً اتفاقاً فهذا أيضاً لا يقدح في صحة الحج ولا يوجب إثماً ولا معصيةً، وكذلك من صام ليصح جسده أو ليحصل له زوال مرضٍ من الأمراض التي ينافيها الصيام ويكون التداوي هو مقصوده أو بعض مقصوده وأوقع الصوم مع هذه المقاصد لا تقدح هذه المقاصد في صومه بل أمر بها صاحب الشرع في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"(1) أي قاطع فأمر بالصوم لهذا الغرض فلو كان ذلك قادحاً لم يأمر به عليه الصلاة والسلام في العبادات وما معها ومن ذلك أن يجدد وضوءه وينوي التبرد أو التنظيف وجميع هذه الأغراض لا يدخل فيها تعظيم الخلق"(2). ثم قال: "نعم، لا يمنع أن هذه الأغراض المخالطة للعبادة قد تنقص الأجر وأن العبادة إذا تجردت عنه زاد الأجر وعظم الثواب، أما الإثم والبطلان فلا سبيل إليه"(3).
__________
(1) البخاري (4637)، 5/1950. ومسلم (2485)، و(2486)، وابن ماجة (1835). وفيه: فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج. وله روايات بدون: يا معشر الشباب.
(2) القرافي شهاب الدين، الفروق، الفرق 122، 3/23.
(3) الموضع نفسه.(1/384)
أما الشاطبي فسيتبيّن رأيه بالتفصيل فيما يلي إلا أنه ينبغي التنبه إلى أمرين: الأول: أن الأعمال العَرِيَّة عن القصد مطلقاً سواء قصد الامتثال أو غيره، كأعمال المكره والناسي والنائم والمجنون والصبي وما شاكلها خارجة عن محل البحث هنا. الثاني: أن الأعمال التي تتبع النية في صحتها وفي رجاء الثواب عليها في الآخرة، أو في صحتها وقبولها في الدنيا إنما هي الأعمال المشروعة أصلاً، فإن كان العمل غير مشروع فلا يصححه صحة النية أو صلاح القصد. قال الغزالي: "المعاصي: وهي لا تتغير عن موضعها بالنية، فلا ينبغي أن يفهم الجاهل ذلك من عموم قوله عليه السلام "إنما الأعمال بالنيات" فيظن أن المعصية تنقلب طاعة بالنية، كالذي يغتاب إنساناً مراعاةً لقلب غيره، أو يطعم فقيراً من مال غيره، أو يبني مدرسة أو مسجداً أو رباطاً بمالٍ حرام وقصده الخير. فهذا كله جهل، والنية لا تؤثر في إخراجه عن كونه ظلماً وعدواناً ومعصيةً، بل قصده الخير بالشر على خلاف مقتضى الشرع شرٌ آخر، فإن عرفه فهو معاند للشرع. وإن جهله فهو عاصٍ بجهله إذ طلب العلم فريضة على كل مسلم. والخيرات إنما يعرف كونها خيرات بالشرع، فكيف يمكن أن يكون الشر خيراً؟ هيهات"(1).
__________
(1) الغزالي، إحياء علوم الدين، 4/368 - 369.(1/385)
وقال ابن رجب الحنبلي: "فإن الدين كله يرجع إلى فعل المأمورات وترك المحظورات والتوقف على الشبهات"(1)، ثم قال: "وإنما يتم ذلك بأمرين: أحدهما أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السنة وهذا هو الذي يتضمنه حديث عائشة: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"(2)، والثاني: أن يكون العمل في باطنه يقصد به وجه الله كما تضمنه حديث عمر: "الأعمال بالنيات". وقال الفضيل في قوله تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } (3)، قال: أخلصه وأصوبه، وقال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً وصواباً، قال: والخالص إذا كان لله عز وجل، والصواب إذا كان على السنة"(4).
المبحث الثاني
أعمال المكلف ومقاصده
أثر مقاصد المكلف في الأعمال عند الشاطبي:
الأعمال نوعان: أعمال مشروعة وأعمال غير مشروعة، والمقصود بهذا البحث الآن الأعمال المشروعة. أما الأعمال غير المشروعة فهي موضوع البحث اللاحق.
__________
(1) ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، ص: 20.
(2) أخرجه البخاري في الصلح (2499)، وأخرج البخاري في كتاب العلم في باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول من غير علم فحكمه مردود: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، ومسلم في الأقضية في باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1718)، وأبو داود (1406)، وابن ماجه (14). وأحمد (24840) و(24995)، وفي بعض الروايات: فيه بدل منه.
(3) سورة الملك، 2. وهود، 7.
(4) ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، ص: 20.(1/386)
وقاعدة: "الأمور بمقاصدها" معتبرة عند الشاطبي بالمعنى نفسه المذكور عند الفقهاء في المبحث السابق، وإن لم يذكرها بنصها. قال: "إن الأعمال بالنيات والمقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات والأدلة على هذا المعنى لا تنحصر، ويكفيك منها أن المقاصد تفرق بين ما هو عادة وما هو عبادة، وفي العبادات بين ما هو واجب وغير واجب، وفي العادات بين الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحرم والصحيح والفاسد وغير ذلك من الأحكام. والعمل الواحد يقصد به أمر فيكون عبادة، ويقصد به شيء آخر فلا يكون كذلك، بل يقصد به شيء فيكون إيماناً، ويقصد به شيء آخر فيكون كفراً، كالسجود لله أو للصنم. وأيضاً فالعمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية وإذا عري عن القصد لم يتعلق به شيء منها كفعل النائم والغافل والمجنون"(1)، وقال: "فإن الأعمال كلها الداخلة تحت الاختيار لا تصير تعبدية إلا مع القصد إلى ذلك. أما ما وضع على التعبد كالصلاة والحج وغيرها فلا إشكال فيه، وأما العاديات فلا تصير تعبديات إلا بالنيات"(2).
والأعمال المشروعة إما أن يقصد المكلف من قيامه بها الامتثال فقط، وهي المقاصد الأصلية. وإما أن يقصد حظوظه فقط وهي المقاصد التابعة. وإما أن يقصد الأمرين معاً.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/225.
(2) المصدر نفسه، 2/228.(1/387)
فإذ كان قاصداً للامتثال غير ناظر إلى ما يعود به ذلك عليه من حظوظ دنيوية فذلك هو أزكى الأعمال وأعلاها مرتبةً. ومع ذلك فإن حظوظه تحصل ضمن ذلك. وإذا راعى حظوظه وقصدها بعمله، ولكنه قصد الامتثال فلم يسعَ إلى حظوظه إلا من طريقها المشروع فعمله شرعي ولا إشكال في صحته. يقول: "العمل إذا وقع على وَفق المقاصد الشرعية، فإما على المقاصد الأصلية أو المقاصد التابعة"(1). وقال: "فإذا وقع على مقتضى المقاصد الأصلية بحيث راعاها في العمل فلا إشكال في صحته وسلامته مطلقاً فيما كان بريئاً من الحظ وفيما روعي فيه الحظ لأنه مطابق لقصد الشارع في أصل التشريع"(2).
وقال: "المقصد الأول إذا تحراه المكلف يتضمن القصد إلى كل ما قصده الشارع في العمل من حصول مصلحة أو درء مفسدة. فإن العامل به إنما قصده تلبية أمر الشارع، إما بعد فهم ما قصد وإما لمجرد امتثال الأمر، وعلى كل تقدير فهو قاصد ما قصده الشارع، وإذا ثبت أن قصد الشارع أعم المقاصد وأولها وأولاها، وأنه نور صرف لا يشوبه غرض ولا حظ كان المتلقي له على هذا الوجه آخذاً له زكياً وافياً كاملاً غير مشوب ولا قاصر عن مراد الشارع... وأما القصد التابع فلا يترتب عليه ذلك كله، لأن آخذ الأمر والنهي بالحظ قد قصره قصد الحظ عن إطلاقه وخص عمومه فلا ينهض نهوض الأول"(3). ولذلك يقول: "إن العمل على المقاصد الأصلية يصير الطاعة أعظم، وإذا خولفت كانت معصيتها أعظم"(4).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/134.
(2) الموضع نفسه.
(3) المصدر نفسه، 2/225.
(4) المصدر نفسه، 1/141.(1/388)
ويعود هذا إلى منهجه في الأسباب والمسببات. أما إذا كان العمل موافقاً لمقاصد الشريعة، إلا أن موافقته كانت بالعرض أو اضطراراً أي عن غير قصدٍ للموافقة، فإن العمل يكون صحيحاً بمعنىً وباطلاً بمعنىً آخر. فهو صحيح بمعنى أنه تترتب عليه آثاره في الدنيا، فهو مبرئ للذمة ومحصل للأملاك واستباحة الأبضاع، ومسقط للقضاء فيما فيه قضاء. وهو باطل بمعنى عدم ترتيب الثواب عليه. وربما لحق الفاعل ذم وإثم، حسب القصد والنية قال - صلى الله عليه وسلم - : "إنما الأعمال بالنيات" وتختلف أحكام العبادات في هذا الأمر عن أحكام العادات. وللشاطبي في هذا استقصاء ونقاش مطول أشير إليه بإيجاز. يقول: "إن ما تُعُبِّدَ العباد به على ضربين: أحدهما العبادات... والثاني العادات. أما الأول: فلا يخلو أن يكون الحظ المطلوب دنيوياً أو أخروياً، فإن كان أخروياً فهذا حظ قد أثبته الشرع(1)... وإذا ثبت شرعاً فطلبه من حيث أثبته صحيح... وإن كان الحظ المطلوب بالعبادات ما في الدنيا فهو قسمان: قسم يرجع إلى صلاح الهيئة وحسن الظن عند الناس واعتقاد الفضيلة للعامل بعمله، وقسم يرجع إلى نيل حظه في الدنيا وهذا ضربان أحدهما يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه مع الغفلة عن مراءاة الناس بالعمل، والآخر يرجع إلى المراءاة لينال بذلك مالاً أو جاهاً أو غير ذلك فهذه ثلاثة أقسام: أحدها يرجع إلى تحسين الظن عند الناس واعتقاد الفضيلة، فإن كان هذا القصد متبوعاً فلا إشكال في أنه رياء لأنه إنما يبعثه على العبادة قصدُ الحمد وأن يُظن به الخير وينجرُّ مع ذلك كونه يصلي فرضه أو نفله وهذا بيِّن، وإن كان تابعاً فهو محل نظر واجتهاد واختلف العلماء في هذا الأصل"(2)، ويميل الشاطبي إلى تصحيح العبادة في هذه الحالة وهي فيما لو كان طلب حسن الظن به تابعاً وليس متبوعاً.
__________
(1) وذلك جنان النعيم وما فيها.
(2) الشاطبي، الموافقات، 2/147 - 150.(1/389)
يقول: "في الرجل الذي يصلي لله ثم يقع في نفسه أنه يحب أن يُعلم ويحب أن يُلقي في طريق المسجد ويكره أن يلقى في طريق غيره... أي إن الشيطان يأتي للإنسان إذا سره مرأى الناس له على الخير ويقوله له: إنك لمراءٍ وليس كذلك وإنما هو أمر يقع في قلبه لا يُملك"(1)، ثم يأتي بحججه على ذلك، ثم يتابع ذكر الأقسام الثلاثة، يقول: "والثاني ما يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه مع الغفلة عن مراءاة الغير، وله أمثلة أحدها: الصلاة في المسجد للأنس بالجيران، أو الصلاة بالليل لمراقبة أو مراصدة أو مطالعة أحوال، والثاني: الصوم توفيراً للمال أو استراحة من عمل الطعام وطبخه أو احتماءً لألم يجده أو مرض يتوقعه أو بطنةٍ تقدمت له، الثالث: الصدقة للذة السخاء والتفضل على الناس... السابع: الوضوء تبرداً، الثامن: الاعتكاف فراراً من الكراء... الحادي عشر: الحج ماشياً ليتوفر له الكراء وهذا الموضع أيضاً محل اختلاف إذا كان القصد المذكور تابعاً لقصد العبادة"(2)، وذهب الشاطبي إلى تصحيح العبادة هنا وإن كان الأولى إفراد قصد العبادة عن قصد الأمور الدنيوية. أما القسم الثالث فيقول فيه: "والثالث ما يرجع إلى المراءاة... فهو الرياء المذموم شرعاً وأدهى ما فيه فعل المنافقين الداخلين في الإسلام ظاهراً بقصد إحراز دمائهم وأموالهم"(3).
هذا بالنسبة للقسم الأول المتعلق بالعبادات، أما القسم الثاني المتعلق بالعادات فيقول فيه: "وأما الثاني وهو أن يكون العمل إصلاحاً للعادات الجارية بين العباد كالنكاح والبيع والإجارة... فهو حظ أيضاً قد أثبته الشارع وراعاه في الأوامر والنواهي وعلم ذلك من قصده بالقوانين الموضوعة له، وإذا عُلم ذلك بإطلاق فطلبه من ذلك الوجه غير مخالف لقصد الشارع فكان حقاً وصحيحاً..." (4).
__________
(1) المصدر نفسه، 1/150.
(2) المصدر نفسه، 1/151 - 153.
(3) الشاطبي، الموافقات، 2/153.
(4) الموضع نفسه.(1/390)
ويقول: "طالب الحظ إذا لم يقصد الامتثال على حال وإنما طلب حظه مجرداً بحيث لو تأتى له على غير الوجه المشروع لأخذ به، لكنه لم يقدر عليه إلا بالوجه المشروع فهل يكون القصد الأول في حقه موجوداً...؟ فالجواب إنه موجود... لأنه إذا لم يكن له سبيل إلى الوصول إلى حظه على غير المشروع فرجوعه إلى الوجه المشروع قصد إليه، وقصد الوجه المشروع يتضمن امتثال الأمر أو العمل بمقتضى الإذن، وهو القصد الأول الأصلي وإن لم يشعر به على التفصيل"(1).
ويقول: "أن يفعل مع استشعار الموافقة اضطراراًَ كالقاصد لنيل لذته من المرأة الفلانية ولما لم يمكنه بالزنى لامتناعها أو لمنع أهلها عقد عليها عقد نكاح ليكون موصلاً له إلى ما قصد، فهذا أيضاً باطل بالإطلاق الثاني لأنه لم يرجع إلى حكم الموافقة إلا مضطراً ومن حيث كان موصلاً إلى غرضه لا من حيث إباحة الشرع وإن كان غير باطل بالإطلاق الأول، ومثل ذلك الزكاة المأخوذة كرهاً فإنها صحيحة على الإطلاق الأول إذا كانت مسقطة للقضاء ومبرئة للذمة وباطلة على هذا الإطلاق الثاني"(2)، والمراد بالنصين أعلاه أن العمل نفسه في النكاح أو الزكاة، لا إثم عليه في الأول ومبرئ للذمة في الثاني، فالعمل ذاته صحيح، أما البطلان، وربما يلحقه فيه الإثم فهو لعمل آخر هو نيته وقصده للمخالفة وهو من أعمال القلوب.
__________
(1) المصدر نفسه، 2/155 - 156.
(2) المصدر نفسه، 1/207.(1/391)
ولبيان موقف الشاطبي هنا بدقة لا بد من الإشارة إلى تفريقه بين القيام بالفعل الموافق لقصد الشارع بقصد الموافقة اضطراراً كما في النكاح المذكور أعلاه، وبين القيام بالفعل نفسه من غير اكتراث بالموافقة والمخالفة، وإنما وقعت الموافقة اتفاقاً أي من غير قصد إليها من المكلف، وبين القيام بالفعل نفسه ولكن بقصد المخالفة، وإنما حصلت الموافقة خطأً. أما الأول فقد تبين. وأما الثاني فحكمه عدم الصحة في العبادات، وفي العادات الصحة(1). وأما الثالث فحكمه كالثاني... وفي كل الحالات فإن الإثم يلحق من يقصد المخالفة لقصد الشارع أو من لا يكترث له. يقول: "إذا قصد مخالفة أمر الشارع فسواء في العبادات وافق أو خالف لا اعتبار بما خالف فيه لأنه مخالف القصد بإطلاق، وفي العادات الأصل اعتبار ما وافق دون ما خالف لأن ما لا تشترط النية في صحته من الأعمال لا اعتبار بموافقته في القصد الشرعي ولا مخالفته كمن عقد عقداً يقصد أنه فاسد فكان صحيحاً أو شرب جلاباً يظنه خمراً إلا أن عليه في قصد المخالفة درك الإثم، وأما إذا لم يقصد موافقةً ولا مخالفةً فهو العمل على مجرد الحظ أو الغفلة، وحكمه في العبادات عدم الصحة لعدم نية الامتثال، وفي العادات الصحة إن وافق قصد الشارع"(2).
أي أن نية الامتثال شرط في صحة العبادات، أما العادات فلا، ولا تبطل أو تفسد أعمال العادات بعدم قصد الامتثال، ولا إذا لم يخطر قصد الامتثال بالبال.
قال: "العمل إذا وقع على وفق المقاصد التابعة فلا يخلو أن تصاحبه المقاصد الأصلية أو لا. أما الأول فعمل بالامتثال بلا إشكال وإن كان سعياً في حظ النفس وأما الثاني فعمل بالحظ والهوى مجرداً"(3).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/156 - 157.
(2) الموضع نفسه.
(3) المصدر نفسه، 2/142.(1/392)
ثم فسر الشاطبي مراده بالمصاحبة وبالهوى، فقال: "والمصاحبة إما بالفعل ومثاله أن يقول مثلاً: هذا المأكول أو هذا الملبوس، أو هذا الملموس أباح لي الشرع الاستمتاع به فأنا أستمتع بالمباح وأعمل باستجلابه لأنه مأذون فيه. وإما بالقوة ومثاله أن يدخل في التسبب إلى ذلك المباح من الوجه المأذون فيه، ولكن نفس الإذن لم يخطر بباله، وإنما خطر له أن هذا يُتَوَصَّل إليه من الطريق الفلاني، فإذا توصل إليه منه فهذا في الحكم كالأول إذا كان الطريق التي توصل إلى المباح من جهته مباحاً إلا أن المصاحبة بالفعل أعلى"(1). وبذلك فإن الشاطبي يخالف بل يناقض الغزالي في هذه المسألة بشكل كبير. وخاصة في موضوع الإخلاص والتشريك في المقاصد. يقول: "فإن قيل: كيف يتأتى قصد الشارع للإخلاص في الأعمال العادية وعدم التشريك فيها؟ قيل: معنى ذلك أن تكون معمولة على مقتضى المشروع. لا يقصد بها عمل جاهلي، ولا اختراع شيطاني، ولا تشبه بغير أهل الملة كشرب الماء أو العسل في صورة شرب الخمر، وأكل ما صنع لتعظيم أعياد اليهود أو النصارى وإن صنعه المسلم، أو ما ذبح على مضاهاة الجاهلية، وما أشبه ذلك مما هو نوع من تعظيم الشرك"(2)، وهذا هو تفصيل ما قاله في كتاب الأحكام حيث قال: "إن الأمور العادية إنما يعتبر في صحتها أن لا تكون مناقضة لقصد الشارع، ولا يشترط ظهور الموافقة"(3).
الموافقة والمخالفة لقصد الشارع:
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) الشاطبي، الموافقات، 2/143.
(3) المصدر نفسه، 1/181.(1/393)
تبين سابقاً أن مقاصد الشارع ضربان: أصلية وتابعة، أما الأصلية فهي التي لا حظ فيها للمكلف. وهي تعني إيقاع الفعل أو الكف عنه بناء على الأمر أو النهي من غير نظر إلى الحظوظ أو النتائج، والحظوظ إنما تحصل ضمن التزام التكليف. أما المقاصد التابعة، فهي مقاصد شرعية روعي فيها حظ المكلف كالملك والاستمتاع وما إلى ذلك. وهذه مقاصد يصح للمكلف أن يقصدها بأعماله، وقد شرع الله - سبحانه وتعالى - أحكاماً لأجلها. فكانت الأحكام أسباباً لها، وكانت هذه الحظوظ مقاصد شرعية، فيصح للمكلف أن يقصدها بهذه الأسباب، كما يصح له أن لا يقصدها، وإنما يقصد بتلك الأسباب الامتثال فقط.
وحسب القسمة العقلية فإن أعمال المكلف قد تكون موافقة للأمر والنهي، فتكون صورة الفعل شرعية، ولكن مقصد العامل من عمله قد يكون شرعياً وقد يكون غير شرعي، أي قد يكون موافقاً وقد يكون مخالفاً.
وكذلك يمكن أن يكون العمل مخالفاً للأمر أو النهي، فتكون صورة الفعل غير شرعية، ولكن مقصد العامل قد يكون شرعياً وقد يكون غير شرعي.
فهذه أربعة أقسام فصَّلها الشاطبي. وإن سبقت الإشارة إلى شيء من ذلك في البحث السابق فذلك من حيث الموافقة أو عدم الموافقة لقصد الشارع وليس من حيث المخالفة لقصد الشارع.
وثمة قسم خامس سيشار إليه بعد بيان هذه الأقسام الأربعة وهو إذا ما كان الفعل شرعياً والقصد شرعياً ولكن الفعل لم يشرع لهذا القصد وإنما لغيره، وكذلك الحظ أو القصد عموماً لم يكن مقصوداً للشارع بهذا الفعل، وإنما بغيره. وذلك كقطع اليد، فهو فعل شرعي، وقصد الزجر فهو قصد شرعي. ولكن قطع يد المرتد أو الزاني ليس شرعياً. لأن قطع اليد وهو شرعي لم يوضع لزجر المرتد أو الزاني وإن كان زجرهما شرعياً.(1/394)
أما الأقسام الأربعة فيقول فيها الشاطبي: "فاعل الفعل أو تاركه إما أن يكون فعله أو تركه موافقاً أو مخالفاً، وعلى كلا التقديرين إما أن يكون قصده موافقة الشارع أو مخالفته فالجميع أربعة أقسام. أحدها: أن يكون موافقاً وقصده الموافقة كالصلاة والصيام والصدقة والحج وغيرها يقصد بها امتثال أمر الله تعالى وأداء ما وجب عليه أو ندب إليه وكذلك ترك الزنا والخمر وسائر المنكرات يقصد بذلك الامتثال، فلا إشكال في صحة هذا العمل. والثاني: أن يكون مخالفاً وقصده المخالفة كترك الواجبات وفعل المحرمات قاصداً لذلك، فهذا أيضاً ظاهر الحكم. والثالث: أن يكون الفعل أو الترك موافقاً وقصده المخالفة وهو ضربان: أحدهما: أن لا يعلم بكون الفعل أو الترك موافقاً. والآخر: أن يعلم بذلك. فالأول كواطئ زوجته ظاناً أنها أجنبية وشارب الجلاب ظاناً أنه خمر وتارك الصلاة يعتقد أنها باقية في ذمته وكان قد أوقعها وبرئ منها في نفس الأمر فهذا الضرب قد حصل فيه قصد العصيان بالمخالفة"(1). قال: "وإذا نظرنا إلى قصده وجدناه منتهكاً حرمة الأمر والنهي فهو عاصٍ بمجرد القصد غير عاصٍ بمجرد العمل وتحقيقه أنه آثم من جهة حق الله غير آثم من جهة حق الآدمي، كالغاصب لما يظنه أنه متاع المغصوب منه فإذا هو متاع الغاصب نفسه، فلا طلب عليه لمن قصد الغصب منه وعليه الطلب من جهة حرمة الأمر والنهي. والقاعدة أن كل تكليف مشتمل على حق الله وحق العبد"(2).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/234.
(2) المصدر نفسه، 2/ 235، وسنتحدث في بحث منفصل في هذا الفصل عن حق الله وحق العبد.(1/395)
أما الضرب الثاني فقال فيه: "والثاني: أن يكون الفعل أو الترك موافقاً إلا انه عالم بالموافقة ومع ذلك فقصده المخالفة. ومثاله أن يصلي رياءً لينال دنيا أو تعظيماً عند الناس أو ليدرأ عن نفسه القتل وما أشبه ذلك. فهذا القسم أشد من الذي قبله وحاصله أن هذا العامل قد جعل الموضوعات الشرعية التي جعلت مقاصد وسائل لأمورٍ أخر لم يقصد الشارع جعلها لها، فيدخل تحته النفاق والرياء والحيل على أحكام الله تعالى وذلك كله باطل لأن القصد مخالف لقصد الشارع عيناً فلا يصح جملةً"(1).
أما القسم الرابع وهو أن يكون الفعل أو الترك مخالفاً والقصد موافقاً، فالشاطبي يستقصي فيه ويتوسع. يقول: "والقسم الرابع أن يكون الفعل أو الترك مخالفاً والقصد موافقاً، فهو أيضاً ضربان. أحدهما: أن يكون مع العلم بالمخالفة، والآخر: أن يكون مع الجهل بذلك. فإن كان مع العلم بالمخالفة فهذا هو الابتداع كإنشاء العبادات المستأنفة والزيادات على ما شرع، ولكن الغالب أن لا يتجرأ عليه إلا بنوع تأويل ومع ذلك فهو مذموم حسبما جاء في القرآن والسنة"(2).
وأما إن كان العمل مخالفاً للأمر أو النهي مع الجهل بالمخالفة، ولكن القصد موافق لقصد الشارع والعامل قاصد للموافقة، فهذا موضع نظر واجتهاد وخلاف وليس في الحكم فيه قاعدة واحدة. وقد أشار الشاطبي إلى أنها مسألة شائكة. وذلك أنها لا يمكن الحكم فيها بالبطلان إذ صحة القصد في العمل مؤثر في الحكم فيه، ولا يمكن الحكم بالصحة إذ مخالفة الأمر والنهي مؤثر فيه أيضاً.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/236.
(2) الموضع نفسه.(1/396)
قال: "وإن كان العمل المخالف مع الجهل بالمخالفة فله وجهان. أحدهما: كون القصد موافقاً فليس بمخالف من هذا الوجه. والعمل وإن كان مخالفاً فالأعمال بالنيات ونية هذا العامل على الموافقة، لكن الجهل أوقعه في المخالفة، ومن لا يقصد مخالفة الشارع كفاحاً لا يجري مجرى المخالفة بالقصد والعمل معاً. فعمله بهذا النظر منظور فيه على الجملة لا مطرح على الإطلاق. والثاني: كون العمل مخالفاً فإن قصد الشارع بالأمر والنهي الامتثال فإذا لم يمتثل فقد خولف قصده، ولا يعارض المخالفة موافقة القصد الباعث على العمل لأنه لم يحصل قصد الشارع في ذلك العمل على وجه، ولا طابق القصد العمل فصار المجموع مخالفاً كما لو خولف فيهما معاً فلا يحصل الامتثال"(1). ثم قال: "وكلا الوجهين يعارض الآخر في نفسه ويعارضه في الترجيح لأنك إن رجحت أحدها عارضك في الآخر وجه مرجح فيتعارضان أيضاً. ولذلك صار هذا المحل غامضاً في الشريعة"(2).
__________
(1) المصدر نفسه، 2/238.
(2) الشاطبي، الموافقات، 2/238.(1/397)
فعدم حصول الامتثال يؤدي إلى الحكم بالبطلان، إلا أن صحة القصد مع الجهل بالمخالفة يوجب الاستدراك بأن الجهل قد يقع في الشريعة موقع النسيان أو الخطأ الذي لا مؤاخذة فيه(1). لذلك فقد تصحح بعض هذه الأعمال. ولكنه لم يبين قاعدة في ذلك. قال: "فإن قيل: قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات" يبين أن هذه الأعمال وإن خالفت قد تُعتبر فإن المقاصد أرواح الأعمال، فقد صار العمل ذا روحٍ على الجملة. وإذا كان كذلك اعتُبِر، بخلاف ما إذا خالف القصد ووافق العمل أو خالفهما معاً فإنه جسد بلا روح فلا يصدق عليه مقتضى قوله: "الأعمال بالنيات" لعدم النية في العمل، قيل: إن سُلم فمعارضٌ بقوله عليه الصلاة والسلام: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد"(2)، وهذا العمل ليس بموافق لأمره عليه الصلاة والسلام، فلم يكن معتبراً بل كان مردوداً وأيضاً فإذا لم ينتفع بجسدٍ بلا روح كذلك لا ينتفع بروحٍ في غير جسد"(3)، ثم قال: "فكانت المسألة مشكلةً جداً"(4).
وهكذا، فهل يعتبر جانب القصد الموافق فيصحح العمل أو يعتبر جانب العمل المخالف فيبطل العمل، أو يعتبر الجانبان؟ (5).
__________
(1) وهذا بخلاف ما أوردناه عن الغزالي في المبحث السابق من هذا الفصل.
(2) تقدم تخريجه عند حديث: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".
(3) الشاطبي، الموافقات، 2/239.
(4) الموضع نفسه.
(5) نذكر هنا أن المخالفة هي مع الجهل بالمخالفة، أي مع توهم أنها غير مخالفة.(1/398)
يذهب الشاطبي إلى وجوب إعمال الجانبين، فما يمكن تصحيحه يصحح كالسهو في الصلاة. وما يمكن تلافيه يُتلافى كما في مسألة المفقود إذا تزوجت زوجته ثم قدم. فيتلافى الخطأ بأن يكون الأول أولى بها. أو أن يكون الأول أولى بها إذا قدم قبل نكاحها. وما لا يمكن تلافيه يهمل. وعبارة الشاطبي في ذلك: "وأهمل ما يجب أن يهمل مما لا تلافي فيه"(1). ومثال ذلك: الأكل ناسياً في رمضان، وفي مسألة المفقود إذا تزوجت امرأته وقدم بعد نكاحها فهي للثاني(2).
ومن أقوال الشاطبي في إعمال الجانبين قوله: "فأعمل مقتضى الموافقة في إسقاط الحد والعقوبة، وأعمل مقتضى المخالفة في عدم البناء على ذلك الفعل وعدم الاعتماد عليه، حتى صحح ما يجب أن يصحح مما فيه تلافٍ ميلاً إلى جهة القصد أيضاً، وأهمل ما يجب أن يهمل مما لا تلافي فيه"(3). وقال: "فعدُّوا من خالف في الأفعال والأقوال جهلاً على حكم الناسي"(4)، قال: "وهو بيِّن في الطهارات والصلاة والصيام والحج وغير ذلك من العبادات، وكذلك في كثير من العادات كالنكاح والطلاق والأطعمة والأشربة ومما استدل به الأدلة الدالة على رفع المؤاخذة في الخطأ والنسيان.
أما في الخطأ في الأمور المالية، فإنه يعتبر فيها جانب القصد بالنسبة للآخرة، ويعتبر جانب العمل بالنسبة لحق الغير في الدنيا ولذلك فإنها تضمن ويكون الجهل فيها كالعلم أو العمد. قال: "في الأمور المالية فإنها تضمن في الجهل والعمد لأنا نقول: الحكم في التضمين في الأموال آخر لأن الخطأ فيها مساوٍ للعمد في ترتب الغرمِ في إتلافها"(5).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/240.
(2) الموضع نفسه وفي المسألة تفصيل لسنا بصدده.
(3) الشاطبي، الموافقات، 2/240.
(4) الموضع نفسه.
(5) المصدر نفسه، 2/241.(1/399)
ومن المتفق عليه أن الخطأ في العمل إذا لم يكن بقصد المخالفة، أو إذا كان مع قصد الموافقة لقصد الشارع، فإن المؤاخذة الأخروية عليه مرفوعة، وكذلك من المتفق عليه أن هذه المؤاخذة ليست مرفوعة بإطلاق أي في الدنيا والآخرة، قال الشاطبي: "وفي الحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"(1)، وهو معنى متفق عليه في الجملة لا مخالف فيه وإن اختلفوا فيما تعلق به رفع المؤاخذة هل ذلك مختص بالمؤاخذة الأخروية خاصة أم لا فلم يختلفوا أيضاً أن رفع المؤاخذة بإطلاق لا يصح"(2)(3).
أما القسم الخامس وهو أن يكون الفعل شرعياً والمقصد شرعياً ولكن الفعل لم يوضع شرعاً لهذا المقصد، أو لم يوضع في الشرع سبباً لهذا المسبب فقد تبين ضمن النوع الرابع من مقاصد الشارع تحت عنوان التلازم الشرعي بين السبب والمسبب، وفيما يلي بيانه كما جاء عند الشاطبي في قسم مقاصد المكلف.
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في باب طلاق المكره والناسي (2033) و(2034) بلفظ: إن الله تجاوز بدل رفع. و(2035) بلفظ وضع.
(2) الشاطبي، الموافقات، 2/241.
(3) قال السيوطي: "إعلم أن قاعدة الفقه: "إن النسيان والجهل مسقط للإثم مطلقاً" وأما الحكم فإن وقعا في ترك مأمور لم يسقط بل يجب تداركه ولا يحصل الثواب المترتب عليه لعدم الائتمار، أو فعل منهي ليس من باب الإتلاف فلا شيء فيه، أو فيه إتلاف لم يسقط الضمان فإن كان يوجب عقوبةً كان شبهةً في إسقاطها" الأشباه والنظائر، ص: 239 - 240. وانظر القول في الجاهل والناسي والمكره، ص: 337 - 374 من الكتاب نفسه.(1/400)
قال: "قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقاً لقصده في التشريع"(1)، أي أن المكلف وإن قام بالفعل بقصد الامتثال موافقاً للأمر والنهي، أي بحسب المقاصد الأصلية، فيجب أيضاً أن تكون النتائج المقصودة، إن وجدت لدى المكلف(2) موافقة للمقاصد التابعة. فإذا قصد المكلف من العمل مصلحةً أو حظاً أو نتيجةً، فيجب أن تكون هذه النتيجة قد قصد الشارع حصولها بهذا العمل. وإلا فقصدها بهذا العمل أو بهذا الطريق يعني مخالفة قصد الشارع. والمقاصد من التشريع، وضع لها الشارع أعمالاً فإذا قصد المكلف بهذه الأعمال مقاصد غيرَها ففي هذا مخالفة من جهة أن المكلف قد جعل هذه المقاصد وسائل لغيرها وهي ليست كذلك في الشرع، ومخالفة أيضاً من جهة أن المقاصد الشرعية التي قصدها المكلف قد جعل لها الشارع أعمالاً فاتخاذ أعمال غير ما جعله الشارع هو إهمال لما شرع الله. قال الشاطبي: "كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في تكاليف الشريعة ما لم تشرع له فعمله باطل"(3). وقال: "فإذا قصد المكلف عين ما قصد الشارع بالإذن فقد قصد وجه المصلحة على أتم وجوهه فهو جدير بأن تحصل له، وإن قصد غير ما قصده الشارع وذلك إنما يكون في الغالب لتوهم أن المصلحة فيما قصد لأن العاقل لا يقصد وجه المفسدة كفاحاً، فقد جعل ما قصد الشارع مهمل الاعتبار، وما أهمل الشارع مقصوداً معتبراً، وذلك مضادة للشريعة ظاهرة"(4).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/230.
(2) مر معنا أن المكلف يمكن له أن يقصد حظوظه بالأعمال الشرعية إلى جانب قصده الامتثال ويمكن له أن لا يقصدها، ولهذا قلنا: إن وجدت لدى المكلف. وهو إن لم يقصدها وقصد الامتثال فقط، فهي تحصل له ضمن امتثاله، وهذا العمل أزكى وأعلى مرتبةً.
(3) الشاطبي، الموافقات، 2/231.
(4) الموضع نفسه.(1/401)
وقال: "إن المكلف إنما كلف بالأعمال من جهة قصد الشارع بها في الأمر والنهي، فإذا قصد بها غير ذلك كانت بفرض القاصد وسائل لما قَصَدَ لا مقاصد إذ لم يقصد بها قصد الشارع فتكون مقصودةً، بل قصد قصداً آخر جعل الفعل أو الترك وسيلة له فصار ما هو عند الشارع مقصود وسيلة عنده، وما كان شأنه هذا نقض لإبرام الشارع وهدم لما بناه"(1).
وقال: "إن الآخذ بالمشروع من حيث لم يقصد به الشارع ذلك المقصد آخذ في غير مشروع حقيقة لأن الشارع إنما شرعه لأمر معلوم بالفرض فإذا أخذ بالقصد إلى غير ذلك الأمر المعلوم فلم يأت بذلك المشروع أصلاً، وإذا لم يأتِ به ناقض الشارع في ذلك الأخذ من حيث صار كالفاعل لغير ما أمر به والتارك لما أمر به"(2).
المبحث الثالث
الحِيَل
تعريفها:
قال الشاطبي في تعريف الحيل: "فإن حقيقتها تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر"(3). وقال: "كالواهب ماله عند رأس الحول فراراً من الزكاة. فإن أصل الهبة على الجواز ولو منع الزكاة من غير هبةٍ لكان ممنوعاً"(4).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/232.
(2) الموضع نفسه.
(3) الشاطبي، الموافقات، 4/114، وقال ابن نجيم الحنفي في كتابه الأشباه والنظائر: "فن الحيل جمع حيلة وهي الحذق في تدبير الأمور. وهي تقليب الفكر حتى يهتدي إلى الأمور". وقال: "واختلف مشايخنا رحمهم الله في التعبير عن ذلك، فاختار كثير التعبير بكتاب الحيل، واختار كثير كتاب المخارج"، ص: 477.
(4) الموضع نفسه.(1/402)
والأحكام التي يمكن أن تنقلب إنما هي الأحكام التي توجد أو ترتفع بحسب أسباب أو شروط أو موانع، بحيث يكون للمكلف يد في إيجاد أو رفع هذه الأسباب أو الشروط أو الموانع، فإن لم يكن له يد فيها بأن كانت خارجةً عن مقدوره فلا تدخلها الحيل، لأن الحيلة هي عمل من المكلف. قال الشاطبي: "الأفعال الواقعة في الوجود المقتضية لأمور تشرع لأجلها أو توضع فتقتضيها على الجملة ضربان. أحدهما خارج عن مقدور المكلف والآخر ما يصح دخوله تحت مقدوره، فالأول قد يكون سبباً ويكون شرطاً ويكون مانعاً"(1). فالسبب مثل كون الاضطرار سبباً في إباحة الميتة، وخوف العنت سبباً في إباحة نكاح الإماء، والسلس سبباً في إسقاط وجوب الوضوء لكل صلاة مع وجود الخارج، وزوال الشمس أو غروبها أو طلوع الفجر سبباً في إيجاب تلك الصلوات وما أشبه ذلك. والشروط ككون الحول شرطاً في إيجاب الزكاة والبلوغ شرطاً في التكليف مطلقاً، والقدرة على التسليم شرطاً في صحة البيع والرشد شرطاً في دفع مال اليتيم، وإرسال الرسل شرطاً في الثواب والعقاب وما كان نحو ذلك. والمانع ككون الحيض مانعاً من الوطء والطلاق والطواف بالبيت ووجوب الصلوات وأداء الصيام والجنون مانعاً من القيام بالعبادات وإطلاق التصرفات وما أشبه ذلك.
__________
(1) المصدر نفسه، 1/128 - 129.(1/403)
أما الضرب الثاني فهو المقدور للمكلف. فيقدر على إيجاد السبب أو الشرط أو المانع أو يقدر على رفعه فيتسبب بتغيير الحكم الشرعي. ومن أمثلته: "أما السبب فمثل كون النكاح سبباً في حصول التوارث بين الزوجين، وتحريم المصاهرة وحلية الاستمتاع، والذكاة سبباً لحلية الاستمتاع بالأكل، والسفر سبباً في إباحة القصر والفطر، والقتل والجرح سبباً للقصاص، والزنى وشرب الخمر والسرقة والقذف أسباباً لحصول تلك العقوبات وما أشبه ذلك"(1). ومن أمثلة الشرط كون النكاح شرطاً في وقوع الطلاق أو في حل مراجعة المطلقة ثلاثاً والإحصان شرطاً في رجم الزاني، والطهارة شرطاً في صحة الصلاة، والنية شرطاً في العبادات"(2). ومن أمثلة المانع "ككون نكاح الأخت مانعاً من نكاح الأخرى، ونكاح المرأة مانعاً من نكاح عمتها وخالتها، والإيمان مانعاً من القصاص للكافر، والكفر مانعاً من قبول الطاعات"(3).
فهذا، الضرب الثاني يستطيع المكلف فيه أن يأتي بهذه الأعمال التي هي أسباب أو شروط أو موانع لغيرها فيتسبب في تغيير الحكم الشرعي. وهو قد يقوم بهذه الأعمال بقصد امتثال أمر الشارع فيها أو تحصيل مقاصدها الشرعية، أو بقصد تغيير الأحكام. فإن كان بقصد تغيير الأحكام فهو الحيل. ولذلك كرر الشاطبي ذكر الحيل عند بحثه لهذه الثلاثة من أحكام الوضع: السبب والشرط والمانع(4).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/129.
(2) المصدر نفسه، 1/130.
(3) المصدر نفسه، 1/130.
(4) المصدر نفسه، 1/ كتاب الأحكام.(1/404)
وقال الشاطبي في زيادة شرحٍ للحيل لأجل النظر في حكم الشرع فيها: "وقبل النظر في الصحة أو عدمها لا بد من شرح هذا الاحتيال، وذلك أن الله تعالى أوجب أشياء وحرَّم أشياء إما مطلقاً من غير قيدٍ ولا ترتيب على سبب كما أوجب الصلاة والصيام والحج وأشباه ذلك، وكما حرم الزنا والربا والقتل ونحوها. وأوجب أيضاً أشياء مرتبةً على أسباب. وحرَّم أُخَر كذلك كإيجاب الزكاة والكفارات والوفاء بالنذور والشفعة للشريك وكتحريم المطلقة والانتفاع بالمغصوب أو المسروق وما أشبه ذلك، فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه أو في إباحة ذلك المحرم عليه بوجه من وجوه التسبب حتى يصير ذلك الواجب غير واجب في الظاهر أو المحرم حلالاً في الظاهر أيضاً، فهذا التسبب يسمى حيلةً أو تحيلاً كما لو دخل وقت الصلاة عليه في الحضر فإنها تجب عليه أربعاً فأراد أن يتسّبب بإسقاطها كلها بشرب الخمر أو دواء مسبتٍ حتى يخرج وقتها وهو فاقد لعقله كالمغمى عليه، أو قصرِها فأنشأ سفراً ليقصر الصلاة، وكذلك من أظله شهر رمضان فسافر ليأكل، أو كان له مال يقدر على الحج به فوهبه أو أتلفه بوجه من وجوه الإتلاف كي لا يجب عليه الحج، وكما لو أراد وطء جارية الغير فغصبها وزعم أنها ماتت فقضي عليه بقيمتها فوطئها بذلك، أو أقام شهود زورٍ على تزويج بكر برضاها فقضى الحاكم بذلك، أو أراد بيع عشرة دراهم بعشرين إلى أجل فجعل العشرة ثمناً لثوب ثم باع الثوب من البائع الأول بعشرين إلى أجل، أو أراد قتل فلان فوضع له في طريقه سبباً مجهزاً كإشراع الرمح وحفر البئر ونحو ذلك، وكالفرار من وجوب الزكاة بهبة المال أو إتلافه أو جمع متفرقه أو تفريق مجتمعه وهكذا سائر الأمثلة في تحليل الحرام وإسقاط الواجب"(1).
حكم الشرع في الحيل عند الشاطبي:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/265 - 266.(1/405)
ذهب الشاطبي إلى أن الحيل في الدين غير مشروعة في الجملة، وهذا يعني أن هناك حالات قليلةً تشرع فيها الحيل. إذن، يحتاج الأمر إلى ضابط يتبين به الحالات التي تشرع فيها الحيل. والحيل هي أفعال يقوم بها المكلف بقصد تغيير الحكم الشرعي، وهذا مناقضة لقصد الشارع، فما هي الحالات التي تصح فيها هذه المناقضة؟ جواب الشاطبي هو أنه إذا كانت هذه المناقضة هي بقصد المناقضة أي بقصد هدم مقاصد الشارع فهي محرمة، أما إذا كانت هذه المناقضة هي بقصد حفظ مقاصد الشريعة فحينئذٍ تصح.
قال: "الحيل في الدين بالمعنى المذكور غير مشروعةٍ في الجملة"(1). وقد تقدم أن الحيل تكون في الأسباب وفي الشروط وفي الموانع. ومن أمثلتها في الأسباب كما قال: "ففي المذهب أن من حلف بالطلاق أن يقضي فلاناً حقه إلى زمان كذا ثم خاف الحنث بعدم القضاء فخالع زوجته حتى انقضى الأجل ووقع الحنث وليست بزوجة أن الحنث لا يقع عليه وإن كان قصده مذموماً وفعله مذموماً لأنه احتال بحيلةٍ أبطلت حقاً، فكانت المخالفة ممنوعةً وإن أثمرت عدم الحنث"(2). ومن أمثلتها أيضاً: "حيل أهل العينة في جعل السلعة واسطةً في بيع الدينار بالدينارين إلى أجل"(3).
__________
(1) المصدر نفسه، 2/266.
(2) الشاطبي، الموافقات، 1/170.
(3) الموضع نفسه.(1/406)
ومن أمثلتها في الشروط، قال: "إن كان فعله أو تركه من جهة كونه شرطاً قصداً لإسقاط حكم الاقتضاء في السبب أن لا يترتب عليه أثره، فهذا عمل غير صحيح وسعي باطل"(1). وقال: "إن هذا العمل يصيِّر ما انعقد سبباً لحكم شرعي جلباً لمصلحةٍ أو دفعاً لمفسدةٍ عبثاً لا حكم له ولا منفعة به. وهذا مناقض لما ثبت في قاعدة المصالح وأنها معتبرة في الأحكام وأيضاً فإنه مضاد لقصد الشارع من جهة أن السبب لما انعقد وحصل في الوجود وصار مقتضياً شرعاً لمسببه لكنه توقف على حصول شرط هو تكميل للسبب فصار هذا العامل أو التارك بقصد رفع حكم السبب قاصداً لمضادة الشارع في وضعه سبباً وقد تبين أن مضادة قصد الشارع باطلة فهذا العمل باطل"(2).
وعلى ذلك فإذا قام المكلف بالعمل بقصد إبطال الحكم ففعله مذموم لأنه مضاد لقصد الشارع، أما إذا قام به لمعنىً من معاني الانتفاع المشروعة، فإنه جائز وإن كان ينتج عنه إبطال سبب أو تغيير حكم، وهذا لا يدخل في الحيل أصلاً.
وقال رداً على من يقول بجواز التحيل كمن ينفق ماله أو بعض ماله قبل الحول لدفع وجوب الزكاة: "إن هذا المعنى إنما يجري فيما إذا لم يقصد رفع حكم السبب أما مع القصد إلى ذلك فهو معنىً غير معتبر لأن الشرع شهد له بالإلغاء على القطع"(3)، ثم قال: "وما ذاك إلا لأنه أتى بشرط أو رفع شرطاً يرفع عنه ما اقتضاه السبب الأول، فكذلك المنفق نصابه بقصد رفع ما اقتضاه من وجوب الإخراج"(4)، ثم قال: "فعلى هذا الإتيان بالشروط أو رفعها بذلك القصد هو المنهي عنه، وإذا كان منهياً عنه كان مضاداً لقصد الشارع فيكون باطلاً"(5).
__________
(1) المصدر نفسه، 2/192.
(2) المصدر نفسه، 2/193، وانظر: الموافقات، ج1، المسائل 11، 12، 13، 14 من بحث الأسباب في القسم الثاني من قسمي كتاب الأحكام.
(3) المصدر نفسه، 1/193.
(4) المصدر نفسه، 1/ 194.
(5) الموضع نفسه.(1/407)
ومن أمثلته في المانع الرجل عنده نصاب الزكاة ولكنه يستدين فالدين مانع من أداء الزكاة فإن كان استدان لحاجته إلى ذلك فهذا لا شيء فيه، وإن كان استدان لكي لا يترتب عليه وجوب الزكاة فهذا عمل غير صحيح. قال: "وإن كان الثاني وهو أن يفعله مثلاً من جهة كونه مانعاً لإسقاط حكم السبب المقتضي أن لا يترتب عليه ما اقتضاه فهو عمل غير صحيح"(1).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/201.(1/408)
هذا هو موقف الشاطبي من الحيل وهو أنها غير مشروعة بناء على أنها مضادة لقصد الشارع. أما قوله: "غير مشروعة في الجملة" فمعناه أن ثمة حالات تكون الحيل فيها مشروعة. والفيصل في ذلك هو قصد المكلف فإن كان قصده من رفع الحكم أو تغييره مناقضاً لقصد الشارع فهو حيلة مذمومة، وإن كان قصده من الحيلة أي من تغيير الحكم حفظ قصد الشارع فهو حيلة مشروعة. ومثال الحيلة المشروعة عنده نطق المؤمن بكلمة الكفر إكراهاً عليها بقصد حفظ النفس. يقول: "فإذا ثبت هذا فالحيل التي تقدم إبطالها وذمها والنهي عنها هي ما هدم أصلاً شرعياً وناقض مصلحة شرعية، فإن فرضنا أن الحيلة لا تهدم أصلاً شرعياً ولا تناقض مصلحةً شهد الشرع باعتبارها فغير داخلةٍ في النهي ولا هي باطلة"(1)، هذا هو الضابط أو الأصل عنده في جواز أو بطلان الحيل. وبناء على ذلك فإن الحيل من حيث حكمُها ثلاثة أقسام. قال: "مرجع الأمر فيها إلى أنها على ثلاثة أقسام: أحدها لا خلاف في بطلانه كحيل المنافقين والمرائين، والثاني لا خلاف في جوازه كالنطق بكلمة الكفر إكراهاً عليها، فإن نسبة التحيل بها في إحراز الدم بالقصد الأول من غير اعتقادٍ لمقتضاها كنسبة التحيل بكلمة الإسلام في إحراز الدم بالقصد الأول كذلك. إلا أن هذا مأذون فيه لكونه مصلحة دنيوية لا مفسدة فيها بإطلاق لا في الدنيا ولا في الآخرة، بخلاف الأول فإنه غير مأذون فيه لكونه مفسدة أخروية بإطلاق. والمصالح والمفاسد الأخروية مقدمة في الاعتبار على المصالح والمفاسد الدنيوية باتفاق، إذ لا يصح اعتبار مصلحة دنيوية تخل بمصالح الآخرة، فمعلوم أن ما يخل بمصالح الآخرة غير موافق لمقصود الشارع فكان باطلاً، ومن هنا جاء في ذم النفاق وأهله ما جاء. وهكذا سائر ما يجري مجراه. وكلا القسمين بالغ مبلغ القطع.
__________
(1) المصدر نفسه، 2/270.(1/409)
وأما الثالث فهو محل الإشكال والغموض وفيه اضطربت أنظار النظار من جهة أنه لم يتبين فيه بدليل واضح قطعي لحاقه بالقسم الأول أو الثاني ولا تبين فيه للشارع مقصد يتفق على أنه مقصود له ولا ظهر على أنه على خلاف المصلحة التي وضعت لها الشريعة بحسب المسألة المفروضة فيه، فصار هذا القسم من هذا الوجه متنازعاً فيه شهادة من المتنازعين بأنه غير مخالف للمصلحة فالتحيل جائز أو مخالف فالتحيل ممنوع. ولا يصح أن يقال إن من أجاز التحيل في بعض المسائل مقر بأنه خالف في ذلك قصد الشارع بل إنما أجازه بناء على تحري قصده، وأن مسألته لاحقة بقسم التحيل الجائز الذي علم قصد الشارع إليه"(1).
ومعلوم أن القول بجواز الحيل منسوب إلى الحنفية، لذلك فإن تقسيم الشاطبي للحيل إلى ثلاثة أقسام هو قاعدة لإرجاع الخلاف في حكم الحيل إلى اتفاق، وهو الاتفاق على اعتبار القاعدة أو الأصل بأن حكم الحيلة إنما يرجع إلى كونها تهدم أصلاً شرعياً أو تناقض مصلحة شرعية أو لا. وأن مسائل التحيل التي حصل الخلاف فيها ترجع إلى هذا الأصل. وقد ذكر من هذه المسائل مثالين. أحدهما النكاح الذي يتحيل فيه لتحليل المطلقة لمطلقها ثلاثاً. والثاني بيوع الآجال التي يتحيل فيها إلى بيع درهم نقداً بدرهمين إلى أجل وذكر في ذلك حجج المجيزين لهذه الحيل وحجج المانعين لها. وبيّن أثناء بيان القولين أنهما يرجعان إلى تحري موافقة قصد الشارع وعدم مخالفته، وموافقة المصالح الشرعية التي شهد الشرع باعتبارها وعدم مناقضتها. ثم قال: "ولنكتف بهذين المثالين فهما من أشهر المسائل في باب الحيل ويقاس على النظر فيهما النظر فيما سواهما"(2).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/270 - 271.
(2) المصدر نفسه، 2/273. وانظر 2/270 - 273.(1/410)
ومما يجدر ذكره هنا هو أن مسائل الحيل تختلط بمسائل الذرائع إذ إن الحيلة نفسها هي ذريعة. وكما جعل الشاطبي الحيل ثلاثة أقسام فالذرائع أيضاً ثلاثة أقسام. قال عند حديثه عن الحيل المختلف في حكمها: "وقول القائل إن هذا مبني على قاعدة القول بالذرائع غير مفيد هنا فإن الذرائع على ثلاثة أقسام: منها: ما يسد باتفاق ... ومنها ما لا يسد باتفاق ... ومنها ما هو مختلف فيه"(1).
وكذلك فإن القاعدة في حكم الحيل مبنية على أصل مآلات الأفعال. قال: "ومنها(2) قاعدة الحيل فإن حقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع"(3). ثم قال: "ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية ومن أجاز الحيل كأبي حنيفة فإنه اعتبر المآل أيضاً"(4).
ثم قال: "لكن هذا بشرط أن لا يقصد إبطال الحكم فإن هذا القصد بخصوصه ممنوع لأنه عناد للشارع كما إذا امتنع من أداء الزكاة، فلا يخالف أبو حنيفة في أن قصد إبطال الأحكام صراحاً ممنوع. وأما إبطالها ضمناً فلا وإلا امتنعت الهبة عند رأس الحول مطلقاً ولا يقول بهذا واحد منهم. ولذلك اتفقوا على تحريم القصد بالإيمان والصلاة وغيرها إلى مجرد إحراز النفس والمال كالمنافقين والمرائين وما أشبه ذلك. وبهذا يظهر أن التحيل على الأحكام الشرعية باطل على الجملة نظراً إلى المآل"(5).
__________
(1) المصدر نفسه، 2/273.
(2) أي: ومن القواعد المبنية على أصل مآلات الأفعال.
(3) الشاطبي، الموافقات، 4/114.
(4) الموضع نفسه.
(5) الموضع نفسه.(1/411)
قال: "وكذلك القول في الحيل عند من قال بها مطلقاً فإنما قال بها بناء على أن للشارع قصداً في استجلاب المصالح ودرء المفاسد، بل الشريعة لهذا وضعت فإذا صحح مثلاً نكاح المحلل فإنما صححه على فرض أنه غلب على ظنه من قصد الشارع الإذن في استجلاب مصلحة الزوجين فيه وكذلك سائر المسائل بدليل صحته في النطق بكلمة الكفر خوف القتل أو التعذيب وفي سائر المصالح العامة والخاصة، إذ لا يمكن إقامة دليل في الشريعة على إبطال كل حيلة كما أنه لا يقوم دليل على تصحيح كل حيلة فإنما يبطل منها ما كان مضاداً لقصد الشارع خاصة وهو الذي يتفق عليه جميع أهل الإسلام ويقع الاختلاف في المسائل التي تتعارض فيها الأدلة"(1).
الحكم فيما ينبني على الحيل:
إذا كان ما بيناه هو الحكم في الحيل، فما هو حكم ما يترتب على الحيل في الدنيا؟ يذكر الشاطبي أن العمل في الحيلة قسمان، فهي إما أن تعد موجودة وتترتب عليها نتائج، وإما أن تعد غير موجودة، أما إن كان وجودها معتبراً، ففي المسألة خلاف. وأما إن عدت غير موجودة، فلا يترتب عليها شيء مما يقصده المكلف، يقول: "فالحكم الذي اقتضاه السبب على حاله قبل هذا العمل، والعمل باطل ضائع لا فائدة فيه ولا حكم له مثل أن يكون وهب المال قبل الحول لمن راوضه على أن يرده عليه بعد الحول بهبة أو غيرها. وكالجامع بين المفترق ريثما يأتي الساعي ثم ترد إلى التفرقة، أو المفرق بين المجتمع كذلك ثم يردها إلى ما كانت عليه"(2). فالعمل الذي هو حيلة في هذه الحالة هو في حكم غير الواقع أو غير الحاصل. أما إن كان العمل يُعَدُّ موجوداً ففي المسألة ثلاثة أقوال:
__________
(1) المصدر نفسه، 2/234.
(2) الشاطبي، الموافقات، 1/194.(1/412)
الأول: هو أن العمل باطل لأنه مناقض لقصد الشارع، فلا تنبني عليه آثاره وهو يلتحق بما يعد غير موجود من حيث آثاره. والفرق بينهما هو أن هذا لم يحصل فيه الاتفاق على الرجوع بالهبة، أو لم يرجع فيه إلى الجمع بعد التفرقة أو إلى التفريق بعد الجمع. قال: "إن القصد فيه قد صار غير شرعي فصار العمل فيه مخالفاً لقصد الشارع فهو في حكم ما لم يعمل فيه واتحد مع القسم الأول(1) في الحكم فلا يترتب على هذا العمل حكم ومثال ذلك إذا أنفق النصاب قبل الحول في منافعه أو وهبه هبةً لم يرجع فيها، أو جمع بين المفترق أو فرق بين المجتمع وكل ذلك بقصد الفرار من الزكاة لكنه لم يعد إلى ما كان عليه قبل الحول"(2). ثم قال: "فكان كالمعدوم باطلاً والتحق بالقسم الأول"(3).
الثاني: وهو أن هذا العمل بهذا القصد غير شرعي ويتضمن العصيان إلا أنه تترتب عليه آثاره. فقاصد السفر لأجل الإفطار والقصر يحصل له ذلك، ونكاح المطلقة ثلاثاً بقصد تحليلها لمطلقها يقع به التحليل بطلاقها، قال: "وعلى هذا الأصل ينبني صحة ما يقوله اللخمي فيمن تصدق بجزء من ماله لتسقط عنه الزكاة أو سافر في رمضان قصداً للإفطار أو أخر صلاة حضرٍ عن وقتها الاختياري ليصليها في السفر ركعتين. أو أخرت امرأة صلاة بعد دخول وقتها رجاء أن تحيض فتسقط عنها. قال: فجميع ذلك مكروه ولا يجب على هذا في السفر صيام ولا أن يصلي أربعاً ولا على الحائض قضاؤها"(4).
__________
(1) القسم الأول هو المذكور أعلاه حيث يعد العمل كأنه غير موجود.
(2) الشاطبي، الموافقات، 1/195.
(3) الموضع نفسه.
(4) المصدر نفسه، 1/196.(1/413)
الثالث: التفريق في الأعمال بين حقوق الله وحقوق الآدميين. وحقوق الآدميين أي حق العبد نفسه الذي يقوم بالعمل الذي هو حيلة. فتنبني على العمل آثاره إن كان من حق العبد. وتبطل آثاره إن كان من حق الله. ومثال حق العبد كالسفر ليقصر أو يفطر. ومثال حق الله الفرق بين المجتمع والجمع بين المفترق في الزكاة. قال: "والثالث أن يفرق بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين"(1). أما إذا اجتمع الحقان في عمل واحد، حق الله سبحانه وتعالى، وحق العبد، فيكون الأمر محل نظر واجتهاد لتغليب أحد الطرفين، ويكون الحكم للطرف الغالب عند المجتهد. قال: "ويبقى بعدُ ما إذا اجتمع الحقان محل نظر واجتهاد فيغلب أحد الطرفين بحسب ما يظهر للمجتهد والله أعلم"(2).
حق الله وحق العبد:
يستعمل هذان التعبيران للإشارة إلى ما لا خيرة فيه للمكلف وهو حق الله، وإلى ما له فيه خيرة وهو حق العبد.
ومعنى حق العبد أنه مخير شرعاً فله أن يستوفي حقه وله أن يسقطه. أما حق الله فليس للعبد أن يسقطه. ويدخل في حق الله حق الغير من العباد، فليس للعبد أن يسقط حق غيره. قال الشاطبي: "كل ما كان من حقوق الله فلا خيرة فيه للمكلف على حال، وأما ما كان من حق العبد في نفسه فله فيه الخيرة. أما حقوق الله تعالى فالدلائل على أنها غير ساقطة ولا ترجع لاختيار المكلف كثيرة وأعلاها الاستقراء التام في موارد الشريعة ومصادرها كالطهارة على أنواعها والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أعلاه الجهاد وما يتعلق بذلك من الكفارات والمعاملات والأكل والشرب واللباس وغير ذلك من العبادات والعادات التي ثبت فيها حق الله تعالى أو حق الغير من العبادات وكذلك الجنايات كلها على هذا الوزان جميعها لا يصح إسقاط حق الله فيها البتة"(3).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/196.
(2) المصدر نفسه، 1/196.
(3) المصدر نفسه، 2/262.(1/414)
وحق العبد ليس حقاً له بالأصالة، وإنما هو بجعل الله - سبحانه وتعالى - له هذا الحق. وكذلك فإن حق العبد فيه حق لله. قال الشاطبي: "ومن هنا يقول العلماء إن من التكاليف ما هو حق لله خاصة وهو راجع إلى التعبد، وما هو حق للعبد. ويقولون في هذا الثاني إن فيه حقاً لله كما في قاتل العمد إذا عفي عنه ضرب مائةً وسجن عاماً" (1). ثم قال: "فقد صار إذاً كل تكليف حقاً لله، فإن ما هو لله فهو لله وما كان للعبد فراجع إلى الله من جهة حق الله فيه ومن جهة كون حق العبد من حقوق الله إذ كان لله أن لا يجعل للعبد حقاً أصلاً"(2).
وبناءً عليه فإن حق العبد لا يتمحض، فإن كل تكليف فيه حق لله.
وحق الله قسمان. الأول: ما كان حقاً لله خالصاً فلا يسقط وذلك كالعبادات. والثاني: حق الغير، فليس للعبد أن يسقط حق غيره، ولكن يملك هذا الغير أن يسقط حقه بخلاف العبادات من القسم الأول فلا تسقط. وحق الغير كالبيوع والمعاوضات والنفقات فعلى العبد أن يؤدي الحق الذي عليه إلى من هو له. فإذا أسقط هذا الأخير حقه فذلك له.
وحق الغير على العبد، هو من حقوق عباد آخرين، لذلك فهو لا يتمحض، وفيه حق لله. فإذا أسقط الغير حقه يسقط ويبقى حق الله وذلك "كما في قاتل العمد إذا عفي عنه ضرب مائةً وسجن عاماً، وفي القاتل غيلةً أنه لا عفو فيه وفي الحدود إذا بلغت السلطان فيما سوى القصاص كالقذف والسرقة لا عفو فيه وإن عفا من له الحق" (3).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/219.
(2) المصدر نفسه، 2/219.
(3) الموضع نفسه.(1/415)
وحق العبد يظهر في ناحيتين. الأولى: ما اشتمل على حق الله وحق العبد ولكن حق العبد فيه هو المغلَّب وهو ما جعل الله فيه للعبد حق الاختيار، كما في اختياره في أنواع المتناولات من المأكولات والمشروبات والملبوسات وغيرها مما هو حلال له، وفي أنواع البيوع والمعاملات والمطالبات بالحقوق فله إسقاطها وله الاعتياض منها والتصرف فيما بيده من غير حجر عليه إذا كان تصرفه على ما ألف من محاسن العادات(1). ولكنه لا يجوز تفويت حق الله فلا يصح للمكلف أن يتناول ما حرم الله من المأكولات أو المشروبات أو الملبوسات، ولا أن يقدم على ما حرم الله تعالى من تصرفات في البيوع والمعاملات أو فيما بيده.
والثانية: ما اشتمل على حق الله وحق العبد وحق الله هو المغلَّب، ولكن حق الله قد سقط فلم يبق إلا الحق الذي جعله الله للعبد. ومثال ذلك أن حفظ النفس والعقل وغيرها هي من حق الله تعالى في العباد لا من حقوق العباد والدليل على ذلك أن الله لم يجعل ذلك إلى اختيارهم، فإذا أكمل الله تعالى على عبد حياته وجسمه وعقله فلا يصح للعبد إسقاطه. اللهم إلا أن يُبتلى المكلف بشيء من ذلك من غير كسبه ولا تسببه وفات بسبب ذلك نفسه أو عقله أو عضو من أعضائه فهنالك يتمحض حق العبد، إذ إن حق الله قد فات حيث إن ما وقع لا يمكن رفعه، وصار ما بقي من حق العبد حقاً عند الغير كدينٍ من الديون إن شاء استوفاه وإن شاء تركه(2). ومثال ذلك القصاص والدية فهي جبر لما فات المجني عليه من مصالح نفسه أو جسده، فإن حق الله قد فات ولا جبر له، وكذلك ما وقع مما يمكن رفعه كالأمراض إذا كان التطبب غير واجب.
فهنا قد سقط حق الله تعالى لأنه فات ولا يمكن استيفاؤه وبقي حق العبد الذي جعل له الشرع الحق في أن يستوفيه أو أن يسقطه.
__________
(1) المصدر نفسه، 2/264.
(2) الشاطبي، الموافقات، 2/263.(1/416)
وبناءً على منهج الشاطبي وهو أن كل التكاليف إنما هي لمصالح العباد في العاجل أو الآجل، فإن كل التكاليف فيها حق للعباد عاجلاً أو آجلاً. قال: "كما أن كل حكم شرعي ففيه حق للعباد إما عاجلاً وإما آجلاً بناء على أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد"(1). أما ما كان عائداً على العبد من مصالح دنيوية فهو يدخل في حق العبد. وأما ما كان عائداً عليه في الآخرة فهو حق الله. قال: "وحق العبد ما كان راجعاً إلى مصالحه في الدنيا، فإن كان من المصالح الأخروية فهو من جملة ما يطلق عليه أنه حق الله"(2). وحق العبد أو حظوظه التي تعود عليه بسبب حق الله هي ما يسمى بالمقاصد التابعة، ويجوز للعبد أن يسقط حقه، كأن يسقط حقه في الميراث أو في غنيمة الجهاد أو في الدية أو في القصاص أو كأن تسقط المرأة حقها في النفقة وما شاكل ذلك.
وبناءً على ما سبق فإن الأفعال بالنسبة إلى حق الله وحق العبد ثلاثة أقسام. يقول الشاطبي: "فالأفعال بالنسبة إلى حق الله وحق الآدمي ثلاثة أقسام: أحدها ما هو حق لله خالصاً كالعبادات وأصله التعبد كما تقدم فإذا طابق الفعل الأمر صح وإلا فلا"(3). ثم يقول: "والثاني ما هو مشتمل على حق الله وحق العبد والمغلب فيه حق الله وحكمه راجع إلى الأول(4)، لأن حق العبد إذا صار مطرحاً شرعاً فهو كغير المعتبر إذ لو اعتبر لكان هو المعتبر والفرض خلافه كقتل النفس إذ ليس للعبد خيرة في إسلام نفسه للقتل لغير ضرورة كالفتن ونحوها"(5). ثم يقول: "والثالث ما اشترك فيه الحقان وحق العبد هو المغلب"(6).
أثر النية في ما كان حقاً لله أو حقاً للعبد:
__________
(1) المصدر نفسه، 2/221.
(2) الموضع نفسه.
(3) الشاطبي، الموافقات، 2/221.
(4) أي أنه يعد حقاً لله فإذا طابق الفعل الأمر صح وإلا فلا.
(5) الشاطبي، الموافقات، 2/222.
(6) المصدر نفسه، 2/223.(1/417)
وقد تبين هذا بالتفصيل فيما تقدم من هذا الفصل، إلا أنني أذكره هنا من حيث تقسيم الأفعال إلى حقٍ لله وحق للعبد.
فما كان من التكاليف حقاً لله أو حق الله فيه هو المغلََّب فلا يصح إلا بنية أي بقصد الطاعة والامتثال. وما كان حق العبد فيه هو المغلَََّب فهو يصح بغير نية، ولكنه إذا فُعِلَ بغير نية فلا ثواب فيه، وإذا فعل بنية ففيه ثواب. إذ بذلك يكون المكلف قد قام بالفعل لأجل حق الله الذي فيه. قال الشاطبي: "فقد ثبت أن كل تكليف لا يخلو عن التعبد، وإذا لم يخلُ فهو مما يفتقر إلى نية كالطهارات وسائر العبادات. إلا أن التكاليف التي فيها حق العبد منها ما يصح بدون نية وهي التي فهمنا من الشارع فيها تغليب جانب العبد كردِّ الودائع والغصوب والنفقات الواجبة. ومنها ما لا يصح إلا بنية وذلك ما فهمنا فيه تغليب حق الله كالزكاة والذبائح والصيد. والتي تصح بدون نية إذا فعلت بغير نية لا يثاب عليها، فإذا فعلها بنية الامتثال وهي نية التعبد أثيب عليها. وكذلك التروك إذا تركت بنية. وهذا متفق عليه"(1). وقال: "وما غلب فيه جهة العبد فحق العبد يحصل بغير نية فيصح العمل هنا من غير نية ولا يكون عبادةً لله، فإن راعى جهة الأمر فهو من تلك الجهة عبادة فلا بد فيه من نية أي لا يصير عبادة إلا بالنية لا أنه يلزم فيه النية أو يفتقر إليها بل بمعنى أن النية في الامتثال صيرته عبادة كما إذا أقرض امتثالاً للأمر بالتوسعة على المسلم أو إذا أقرض لقصد دنيوي، وكذلك البيع والشراء والأكل والشرب والنكاح والطلاق وغيرها"(2).
الفصل السابع
منهج الشاطبي في فهم الشريعة
ويحتوي على تمهيد وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: منهج الشاطبي في فهم الشريعة.
المبحث الثاني: منهج الشاطبي في فهم القرآن.
المبحث الثالث: منهج الشاطبي في فهم السنة.
الفصل السابع
منهج الشاطبي في فهم الشريعة
تمهيد:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/220.
(2) المصدر نفسه.(1/418)
إن الحديث عن منهج الشاطبي في فهم الشريعة هو حديث عن جديده في ذلك، وعمّا أثاره وأبرزه مما يتميز به عن سابقيه من أئمة الأصول في قواعد وأصول الفهم والاستنباط.
إن مصادر التشريع هي القرآن والسنة والإجماع والقياس، ومنهج فهم الشريعة هو كيفية فهم ما جاءت به هذه المصادر. والقواعد التي تعتمد لأجل ذلك منها ما يتعلق بهذه المصادر جميعها، ومنها ما يتعلق بكل منها على حدة.
وسيتبَيَّن في هذا الفصل منهج الشاطبي في هذا الأمر في ثلاثة مباحث. يتناول الأول القواعد العامة في ذلك. أي التي تتعلق بالمصادر جميعها. ويتناول الثاني قواعد فهم القرآن أما الثالث فيتناول قواعد فهم السنة.
أما الإجماع والقياس فهما يرجعان إلى القرآن والسنة، ولذلك لم يبحثهما الشاطبي بحثاً منفصلاً، وإنما أشار إليهما إشارات متناثرة في ثنايا كتابه. قال: "كتاب الأدلة الشرعية: والنظر فيه فيما يتعلق بها على الجملة، وفيما يتعلق بكل واحد منها على التفصيل وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس"(1). وقال: "الطرف الثاني: في الأدلة على التفصيل وهي الكتاب والسنة والإجماع والرأي. ولما كان الكتاب والسنة هما الأصل لما سواهما اقتصرنا على النظر فيهما"(2).
والقواعد التي يبحثها الشاطبي مما يتعلق بمصادر التشريع على الجملة هي قواعد تتعلق بالمصادر الأربعة، وتلك التي تتعلق بالقرآن وبالسنة مبنية عليها ومفصلة لها. لذلك أطلقت على المبحث الأول اسم منهج الشاطبي في فهم الشريعة، وهو عنوان الفصل نفسه. وعلى المبحث الثاني اسم منهج الشاطبي في فهم القرآن، وعلى المبحث الثالث اسم منهج الشاطبي في فهم السنة.
المبحث الأول
منهج الشاطبي في فهم الشريعة
موضوع هذا المبحث:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 3/2.
(2) المصدر نفسه، 3/200.(1/419)
مرّ في التمهيد لهذا الفصل أن هذا المبحث يتناول القواعد التي تتعلق بمصادر التشريع عموماً. أي تتعلق بها جميعها، وهذه القواعد قسمان: الأول يتعلق بكيفية إعمال النصوص الشرعية من القرآن والسنة أي كيفية تنزيل معاني النصوص على الوقائع والأفعال، وينطبق الأمر نفسه على كيفية تطبيق دلالات القياس وما حصل فيه الإجماع. والثاني يتعلق بالعوارض اللاحقة للنصوص من حيث الإحكام والتشابه، والنسخ، والإجمال والبيان، والأوامر والنواهي، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد. فالأول يرجع إلى كيفية إنزال المعاني وهي معانٍ كلية ومعانٍ جزئية. والثاني يرجع إلى كيفية تعيين هذه المعاني إذ يدخلها التشابه من إجمال أو تشابه أو نسخ أو تخصيص أو تقييد.
ولا بد من الإشارة إلى أن تناول هذين القسمين هنا هو فقط من جهة علاقته بمنهج الشاطبي خصوصاً، أي بجديده كنهج أصولي.
نظرة الشاطبي إلى دلالات النصوص الشرعية:
يرى الشاطبي أن دلالة آحاد النصوص على المعاني هي دلالة ظنية. فهو ينفي وجود دلالة قطعية للنص على المعنى. أما دلالة الأحكام على غاياتها أو حكمها، فالشاطبي ينفي اعتبارها بالكلية إذا كان الاعتماد فيها على آحاد الأحكام.(1/420)
أما نفيه للدلالة القطعية فيدل عليه قوله: "فالمعتمد بالقصد الأول الأدلة الشرعية ووجود القطع فيها على الاستعمال المشهور معدوم، أو في غاية الندور أعني في آحاد الأدلة. فإنها إن كانت من أخبار الآحاد فعدم إفادتها القطع ظاهر. وإن كانت متواترة، فإفادتها القطع موقوفة على مقدمات جميعها أو غالبها ظني. والموقوف على الظني لا بد أن يكون ظنياً، فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو وعدم الاشتراك وعدم المجاز والنقل الشرعي أو العادي والإضمار والتخصيص للعموم والتقييد للمطلق وعدم الناسخ والتقديم والتأخير والمعارض العقلي، وإفادة القطع مع اعتبار هذه الأمور متعذر"(1).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/13. وله نص آخر مثله. أنظر: 2/32.(1/421)
وما لم يكن المعنى قطعياً فلا يصح إعماله. إذ يشترط الشاطبي لإعمال الدليل أن يكون قطعياً أو راجعاً إلى معنى قطعي(1). يقول: "كل دليل شرعي إما أن يكون قطعياً أو ظنياً، فإن كان قطعياً فلا إشكال في اعتباره كأدلة وجوب الطهارة من الحدث والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتماع الكلمة والعدل وأشباه ذلك، وإن كان ظنياً فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أو لا. فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر أيضاً، وإن لم يرجع وجب التثبت فيه ولم يصح إطلاق القول بقبوله. ولكنه قسمان: قسم يضادُّ أصلاً، وقسم لا يضاده ولا يوافقه. فالجميع أربعة أقسام. فأما الأول فلا يفتقر إلى بيان، وأما الثاني الراجع إلى أصل قطعي فإعماله أيضاً ظاهر وعليه عامة أخبار الآحاد فإنها بيان للكتاب"(2). ثم قال: "وأما الثالث وهو المعارض لأصل قطعي ولا يشهد له أصل قطعي فمردود بلا إشكال. ومن الدليل على ذلك أمران: أحدهما أنه مخالف لأصول الشريعة، ومخالف أصول الشريعة لا يصح لأنه ليس منها، وما ليس منها كيف يعد منها. والثاني أنه ليس له ما يشهد لصحته وما هو كذلك ساقط الاعتبار"(3). ولنتنبه هنا إلى الأمر الثاني في الدلالة على الرد. فهو أنه ليس له ما يشهد لصحته. فهو يدل على جديدٍ عند الشاطبي وهو أن المعنى الشرعي أو الدليل الشرعي يحتاج إلى معنى يشهد له حتى يقبل. ويتبين في سياق النص بأكمله أن الشاهد يجب أن يكون معنى قطعياً. ثم يقول: "وأما الرابع وهو الظني الذي لا يشهد له أصل قطعي ولا يعارض أصلاً قطعياً فهو في محل النظر. وبابه باب المناسب الغريب. فقد يقال لا يُقبل لأنه إثبات شرع على غير ما عُهد في مثله.
__________
(1) وقد تبين هذا سابقاً. أنظر: المبحث الأول من الفصل الثالث.
(2) الشاطبي، الموافقات، 3/7.
(3) المصدر نفسه، 3/8.(1/422)
والاستقراء يدل على أنه غير موجود وهذان يوهنان التمسك به على الإطلاق لأنه في محل الريبة فلا يبقى مع ذلك ظن ثبوته. ولأنه من حيث لم يشهد له أصل قطعي معارض لأصول الشرع إذ كان عدم الموافقة مخالفة، وكل ما خالف أصلاً قطعياً مردود فهذا مردود"(1). ولننظر في هذا النص. فالدليل الشرعي يعد مخالفاً ولا يمكن إطلاق القول بقبوله ولو لم يكن معارضاً لأصل قطعي، والسبب في ذلك أنه لا يعضده أصل قطعي، مع أن هذا الدليل نص شرعي من القرآن أو السنة. ومع ذلك فقد قال إنه في محل النظر.
ثم يتابع: "ولقائل أن يوجه الإعمال بأن العمل بالظن على الجملة ثابت في تفاصيل الشريعة، وهذا فرد من أفراده وهو وإن لم يكن موافقاً لأصل، فلا مخالفة فيه أيضاً، فإن عضد الرد عدم الموافقة عضد القبول عدم المخالفة فيتعارضان. ويسلم أصل العمل بالظن. وقد وُجِدَ منه في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: "القاتل لا يرث"(2). وقد أعمل العلماء المناسب الغريب في أبواب القياس. وإن كان قليلاً في بابه فذلك غير ضائر إذا دل الدليل على صحته"(3).
إن هذا النص هام في بيان نظرة الشاطبي إلى النصوص الشرعية وكيفية الاستدلال بها على معانيها. فهو لا يأخذ المعنى إلا إذا كان معضوداً بمعنى قطعي أو مندرجاً تحته. أما قوله: "ولقائل أن يوجه الإعمال بأن العمل بالظن ثابت على الجملة"، فهو ليس رأياً له، ولذلك ختم الجملة بقوله: "وإن كان ذلك قليلاً في بابه فذلك غير ضائر إذا دلّ الدليل على صحته". إضافة إلى قوله السابق: "والاستقراء يدل على أنه غير موجود".
__________
(1) المصدر نفسه، 3/12.
(2) تقدم تخريجه.
(3) الشاطبي، الموافقات. 3/12.(1/423)
ومما ينبغي الإشارة إليه استشهاده بالحديث: "القاتل لا يرث"، فإن خلاف علماء الأصول هو في اعتبار معنى المعاملة بنقيض المقصود الذي يوافقه الحديث، وهذا المعنى ليس من دلالات نص الحديث، بينما الشاطبي يتحدث عن إعمال الحديث نفسه، ومقصوده أن فكرة المعاملة بنقيض المقصود إذا ثبتت بشكل قطعي فحينئذٍ يصح إعمال الحديث لأنه يكون حينذاك راجعاً إلى معنى قطعي. ونلاحظ أيضاً أنه يجعل هذا الحديث من المناسب الغريب، وقد بينا سابقاً، أن علماء الأصول الذين يعللون بالمناسب يعدون الغريب الوصف الذي يُلاحظ في حكم واحد وليس له شاهد، أو له شاهد واحد، ولفظ شاهد يعني حكماً يوافق المعنى(1). وهو هنا جعل الحديث غريباً، ويحتاج إلى شاهد قطعي، أي أن يثبت معنى المعاملة بنقيض المقصود ثبوتاً قطعياً، لذلك وجدناه في موضع آخر يذكر قاعدة المعاملة بنقيض المقصود بشكل تساؤل مع ميل إلى قبولها، إذ أنها توفرت لها جزئيات شاهدة، ولكنها لم يتوفر لها الاستقراء المفيد للقطع. يقول: "ولكن يبقى النظر هل يعتبر في ذلك التسببُ من كونه مناقضاً في القصد لقصد الشارع عيناً حتى لا يترتب عليه ما قصده المتسبب فتنشأ من هنا قاعدة المعاملة بنقيض المقصود ويطلق الحكم باعتبارها إذا تعين ذلك القصد المفروض، وهو مقتضى الحديث في حرمان القاتل الميراث، ومقتضى الفقه في حديث المنع من جمع المفترق وتفريق المجتمع خشية الصدقة. وكذلك ميراث المبتوتة في المرض، أو تأبيد التحريم على من نكح في العدة إلى كثير من هذا"(2). ولو كانت المعاملة بنقيض المقصود أصلاً كلياً يشهد لمعنى حديث "القاتل لا يرث" لما صح إيراد الشاطبي للحديث كمثال على القسم الرابع الذي لا يشهد له أصل كلي.
__________
(1) انظر: الفصل الأول، ص 85.
(2) الشاطبي، الموافقات. 1/184.(1/424)
ومما يؤكد ما ذكرناه قوله: "إن خبر الواحد إذا استند إلى قاعدة مقطوع بها فهو في العمل مقبول وإلا فالتوقف. وكونه مستنداً إلى مقطوع به راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآني كلي"(1). وقوله بالتوقف يعني عدم إعمال الحديث وعدم رده، إذ قد يتوفّر له استقراء يجعل معناه راجعاً إلى معنى قطعي. وقوله: "راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآني كلي". يعني بيان السنة للكتاب، وكل معنى ليس له أصل في الكتاب لا يؤخذ(2). ولكن مراد الشاطبي أبعد من ذلك، إذ هو يشترط في أي معنى لأي نص أن يكون راجعاً إلى معنى قطعي، ولو كان نص قرآن.
لذلك ينبغي ملاحظة قوله أعلاه: "تحت معنى قرآني كلي". وليس: "تحت معنى قرآني". وإذا جمعنا بين قضايا يقول بها الشاطبي وهي أن المعنى يجب أن يكون كلياً أي قطعياً، وأن آحاد الأدلة لا تفيد القطع ومنها نصوص القرآن، مع العلم بأن نصوص القرآن كلها إعمالها واجب، تنشأ مسألة وهي كيف يتم القطع بمعاني القرآن؟ وهذه المسألة سنعالجها في المبحث التالي - إن شاء الله - وهو منهج الشاطبي في فهم القرآن. والمراد هنا إثبات موقف الشاطبي من دلالات النصوص على معانيها وهو أنها لا تؤخذ أو تعتبر إلا إذا كانت راجعة إلى معنى قطعي. فهذه المعاني جزئيات وكذلك معاني الأحكام وهي الحِكَم. وهي جزئيات إلا أن عدم اعتبارها لا يعني ردها إلا إذا كانت معارضة لأصل قطعي أو كلي. وإن لم تكن معارضة لأصل كلي قد يتوفر لها جزئيات كثيرة توافقها وتعضدها في المعنى فيصبح المعنى أصلاً قطعياً، وتصبح هذه الجزئيات فروعاً له راجعةً إليه.
وقد مرَّ سابقاً قوله إن خاصية كتابه (الموافقات) هي كيفية اقتناص الكيات من الجزئيات(3).
يجب إعمال الجزئيات والكليات معاً:
__________
(1) المصدر نفسه، 4/5.
(2) وسيأتي بيان رأي الشاطبي أن السنة لا تستقل بالتشريع.
(3) أنظر: المبحث الأول من الفصل الثالث. وانظر: الموافقات. 4/194.(1/425)
يقتضي استنباط الأحكام الشرعية إعمال الجزئيات والكليات معاً، وإن كانت الكليات إنما تقررت باستقراء الجزئيات، فإنه لا يصح إعمال الكلي وإهمال الجزئي. فمثلاً: "إن عُلم أن الحفظ على الضروريات معتبر فلم يحصل العلم بجهة الحفظ المعينة، فإن للحفظ وجوهاً قد يدركها العقل وقد لا يدركها، وإذا أدركها فقد يدركها بالنسبة إلى حال دون حال أو زمانٍ دون زمان"(1). ومثال ذلك أن العلم بأصل حفظ المال مثلاً لا يكفي لبيان حكم السارق هل يسجن أو يقتل أو يقطع أو غير ذلك، وكله متفق مع الأصل، ولا يكفي للتفريق بين الغاش والغاصب والسارق في الحكم. والعلم بالجزئيات يحتاج إلى العلم بالكليات لأجل صحة الاستنباط، فالجزئيات تحتمل معانٍ، والمعنى الصحيح هو الذي يرجع إلى كلي، وإذا ناقض كلياً فقد ناقض قطعياً وهذا لا يصح، ونقض الكليات هو نقض للجزئيات أيضاً.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 3/5.(1/426)
يقول الشاطبي: "وإذا كان كذلك وكانت الجزئيات(1) وهي أصول الشريعة فما تحتها مستمدة من تلك الأصول الكلية شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات، فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، إذ محال أن تكون تلك الجزئيات مستغنية عن كلياتها. فمن أخذ بنصٍ مثلاً في جزئي معرضاً عن كليه فقد أخطأ، وكما أن من أخذها لجزئيٍ معرضاً عن كليه فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضاً عن جزئيه. وبيان ذلك أن تلقي العلم بالكلي إنما هو من عرض الجزئيات واستقرائها، فالكلي من حيث هو كلي غير معلومٍ لنا قبل العلم بالجزئيات، ولأنه ليس بموجود في الخارج وإنما هو مضمن في الجزئيات حسبما تقرر في المعقولات، فإذاً، الوقوف مع الكلي مع الإعراض عن الجزئي وقوف مع شيءٍ لم يتقرر العلم به بعد دون العلم بالجزئي. والجزئي هو مظهر العلم به، وأيضاً فإن الجزئي لم يوضع جزئياً إلا لكون الكلي فيه على التمام وبه قوامه، فالإعراض عن الجزئي من حيث هو جزئي إعراض عن الكلي نفسه في الحقيقة وذلك تناقض"(2). فلغاية حفظ النفس مثلاً وهي أصل كلي لا بد من إعمال الجزئيات التي تدل على إباحة تناول الخنزير أو الميتة عند الاضطرار أو التلفظ بالكفر في حالة الإكراه الملجئ، وعلى جواز افتداء النفس بالمال، وعدم جواز افتدائها بحياة مسلم آخر أو بإفشاء أسرار وخطط تعرض المسلمين للهزيمة والاستئصال.
__________
(1) تسمية الجزئيات بالأصول ينطبق على ما كان جزئياً بالإضافة، ولكنه أصل كلي، وذلك كوجوب الصلاة والزكاة وسائر القواعد الخمسة في الدين، فكلها عند الشاطبي أصول قطعية، ولكنها جزئية بالنسبة لأصل حفظ الدين، وما تحتها هو الجزئيات التي هي مآخذ لهذه القواعد.
(2) الشاطبي، الموافقات، 3/3.(1/427)
وهكذا فلا استغناء بالكليات عن الجزئيات. وكذلك لا استغناء بالجزئيات عن الكليات، فمثلاً: قوله تعالى: { * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا } (1)، الآية. النص يحتمل معانٍ منها التكليف ومنها التيئيس، ولكن امتناع التكليف بما لا طاقة به أو بالمحال أصل كلي، وحمل النص على التكليف ينقض الكلي، فوجب إعمال الكلي وحمل النص على معنى آخر وهو التيئيس، وكذلك في قوله تعالى: { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } (2) الآية. يجب المحافظة على الأصل الكلي، وهو عدم التكليف بما لا يطاق، فينصرف المعنى من التكليف إلى التحدي الذي يراد منه التعجيز، وكذلك يقال في قوله تعالى: { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } (3)، حيث ينصرف المعنى من الوجوب أو غيره إلى الإهانة، وفي قوله تعالى: { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } (4)، فإن النص يحتمل معنى الإخبار ومعنى التكليف، ولكن الأصل الكلي وهو ضرورة صدق المخبر يصرف المعنى عن الإخبار إلى التكليف وهو التحريم، هذا هو معنى قول الشاطبي: "فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس".
الكلي لا ينخرم بمعارضة آحاد الجزئيات له:
__________
(1) سورة الإسراء، 50.
(2) سورة البقرة، 23.
(3) سورة الدخان، 49.
(4) سورة النساء، 141.(1/428)
وهذه مسألة هامة في منهج الشاطبي، وهي أنه إذا تقرر المعنى أصلاً كلياً ثم وجد في الجزئيات ما يتناقض معه، فهل هذا ينقض تمام الاستقراء فينقض الأصل الكلي ويلغيه؟ وذلك كالقتل قصاصاً أو في الجهاد، وإنفاق الأموال في ذلك، وكأحكام الفيء والغنائم وقد عرف في الضروريات حفظ النفس وحفظ المال. يقول الشاطبي إن هذا لا يخرم الأصل لأنه ثبت كلياً قطعياً، يقول: "هذه الكليات الثلاث إذا كانت قد شرعت للمصالح الخاصة بها فلا يرفعها تخلف آحاد الجزئيات، ولذلك أمثلة: أما في الضروريات فإن العقوبات مشروعة للازدجار مع أنا نجد من يعاقب فلا يزدجر عما عوقب عليه"(1). "وأما في الحاجيات فالقصر في السفر مشروع للتخفيف وللحوق المشقة والملك المترفة لا مشقة له والقصر في حقه مشروع، والقرض أجيز للرفق بالمحتاج مع أنه جائز أيضاً مع عدم الحاجة، وأما في التحسينيات فإن الطهارة مشروعة للنظافة على الجملة مع أن بعضها على خلاف النظافة كالتيمم فكل هذا غير قادح في أصل المشروعية لأن الأصل الكلي إذا ثبت كلياً فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كلياً. وأيضاً فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت"(2). ثم قال: "فالجزئيات المتخلفة قد يكون تخلفها لحكم خارجة عن مقتضى الكلي فلا تكون داخلة تحته أصلاً، أو تكون داخلة لكن لم يظهر لنا دخولها، أو داخلة عندنا لكن عارضها على الخصوص ما هي به أولى، فالملك المترفة قد يقال إن المشقة تلحقه لكنا لا نحكم عليه بذلك لخفائها أو نقول في العقوبات التي لم يزدجر صاحبها إن المصلحة ليست للازدجار فقط"(3). ثم قال: "فعلى كل تقدير لا اعتبار بمعارضة الجزئيات في صحة وضع الكليات للمصالح"(4).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/35.
(2) الموضع نفسه.
(3) الموضع نفسه.
(4) الشاطبي، الموافقات، 2/35.(1/429)
وإذا كان الكلي لا يلغى ولا يخرم فهل يلغى الجزئي؟ لهذا تفصيل ولكنه في الجملة لا يلغى لأنه راجع إلى أصل كلي آخر. فإلغاؤه إخلال بكلي، يقول: "القيام في الصلاة مثلاً وسائر الرخص الهادمة لعزائم الأوامر والنواهي إعمالاً لقاعدة الحاجيات في الضروريات، ومثل ذلك المستثنيات من القواعد المانعة كالعرايا والقراض والمساقاة والسلم وأشباه ذلك، فلو اعتبرنا الضروريات كلها لأخل ذلك بالحاجيات أو بالضروريات أيضاً. فأما إذا اعتبرنا في كل رتبةٍ جزئياتها كان ذلك محافظة على تلك الرتبة وعلى غيرها من الكليات، فإن تلك المراتب الثلاث يخدم بعضها بعضاً ويخصص بعضها بعضاً"(1).
وعليه فالشاطبي لا يرى إلغاء أيٍّ من الكلي أو الجزئي عند ظهور التعارض، لأنه تعارض من جهةٍ دون جهة أو في حالٍ دون حال أو محل دون محل، فهو تعارض ظاهري، قال: "ويعتبر الكلي في تخصيصه للعام الجزئي أو تقييده لمطلقة وما أشبه ذلك بحيث لا يكون إخلالاً بالجزئي على الإطلاق"(2).
أما إذا كان التعارض بين الجزئي والكلي من كل جهة ولا مخرج منه فيجب إلغاء الجزئي، قال: "ولا يقال إن هذا تناقض لأنه يؤدي إلى الجزئي وعدم اعتباره معاً، لأنا نقول إن ذلك من جهتين، ولأنه لا يعتبر كل جزئي وفي كل حال"(3).
الإحكام والتشابه:
__________
(1) المصدر نفسه، 3/5.
(2) المصدر نفسه، 3/6.
(3) المصدر نفسه، 3/6، ويمكن للقارئ أن يلاحظ أن التناقض الذي حاول الشاطبي أن يرفعه واقع لا محالة، فهو اضطر أن يقول بإمكان إهمال الجزئي، فهذان الأصلان - عنده - لا يستقيمان أو يستمران معاً، وهما إعمال الكليات والجزئيات معاً وعدم انخرام الكلي بمعارضة آحاد الجزئيات، إذ في الحالات التي لا يرتفع فيها التعارض بين الكلي والجزئي لا بد من نقض أحد هذين الأصلين، وسنناقش هذه المسألة في الفصل العاشر.(1/430)
والمراد من إدراج هذا البحث هنا، هو بيان منهج الشاطبي في كيفية تعيين معنى النص الشرعي إذا كان متشابهاً. لذلك سنبين أولاً مراد الشاطبي بالمحكم والمتشابه.
يقول: "المحكم يطلق بإطلاقين عام وخاص. فأما الخاص فالذي يراد به خلاف المنسوخ"(1). ثم قال: "وأما العام فالذي يُعنى به البيّن الواضح الذي لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره. فالمتشابه بالإطلاق الأول هو المنسوخ، وبالإطلاق الثاني الذي لا يتبين المراد به من لفظه كان مما يدرك مثله بالبحث والنظر أم لا"(2).
والمعنى المراد هنا هو الثاني، أي أن المحكم هو البيّن الواضح، والمتشابه هو الذي لا يتبين المراد به من لفظه. قال: "وإذا تؤمِّل هذا الإطلاق وُجد المنسوخ والمجمل والظاهر والعام والمطلق قبل معرفة مبيِّناتها داخلة تحت معنى المتشابه، كما أن الناسخ وما ثبت حكمه والمبيّن والمؤوّل والمخصَّص والمقيّد داخله تحت معنى المحكم"(3).
ويُبيِّن الشاطبي أن أكثر أحكام الشريعة محكم. وأن التشابه قليل يقول: "التشابه قد علم أنه واقع في الشرعيات لكن النظر في مقدار الواقع منه هل هو قليل أم كثير، والثابت من ذلك القلة لا الكثرة"(4). وقال: "لولا أن الدليل أثبت أن فيه متشابهاً لم يصح القول به"(5).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 3/50.
(2) المصدر نفسه، 3/51.
(3) الموضع نفسه.
(4) الموضع نفسه.
(5) المصدر نفسه، 3/52.(1/431)
ويرد الشاطبي القول بأن المتشابه في الشريعة كثير بناء على أن فيها المنسوخ والمجمل والعام والمطلق، وهو كثير الوقوع في الشريعة، يرده بناء على أن الناسخ مع المنسوخ والبيان مع المجمل والمخصص مع العام والمقيد مع المطلق، كل ذلك بيان، يقول: "وعلى ذلك يدل قول ابن عباس: "لا عام إلا مخصص"، فأي تشابه فيه وقد حصل بيانه، ومثله سائر الأنواع. وإنما يكون متشابهاً عند عدم بيانه"(1). ويقول: "وإذا ثبت هذا فالبيان مقترن بالمبين، فإذا أخذ المبين من غير بيان صار متشابهاً، وليس بمتشابه في نفسه شرعاً"(2).
__________
(1) المصدر نفسه، 3/54.
(2) الموضع نفسه.(1/432)
ويقسم الشاطبي التشابه في النصوص إلى قسمين: حقيقي وإضافي. وثم قسم ثالث لا يرجع إلى النصوص وإنما إلى المناط. يقول: "التشابه الواقع في الشريعة على ضربين: أحدهما حقيقي والآخر إضافي، وهذا فيما يختص بها في نفسها. وثم ضرب آخر راجع إلى المناط الذي تتنزل عليه الأحكام، فالأول هو المراد بالآية(1)، ومعناه راجع إلى أنه لم يُجعل لنا سبيل إلى فهم معناه ولا نُصب لنا دليل على المراد منه"(2). ثم قال في الثاني وهو الإضافي: "قد حصل بيانه في نفس الأمر ولكن الناظر قصر في الاجتهاد أو زاغ عن طريق البيان اتباعاً للهوى فلا يصح أن ينسب الاشتباه إلى الأدلة، وإنما ينسب إلى الناظرين التقصير أو الجهل"(3). أما القسم الثالث فقال فيه: "وأما الثالث فالتشابه ليس بعائد على الأدلة وإنما هو عائد على مناط الأدلة فالنهي عن أكل الميتة واضح، والإذن في أكل الذكية كذلك. فإذا اختلطت الميتة بالذكية حصل الاشتباه في المأكول لا في الدليل على تحليله أو تحريمه"(4).
والتشابه لا يقع في الكليات لأن هذه معان قطعية(5).
ومن أمثلة التشابه الحقيقي: "كمسائل الاستواء والنزول والضحك واليد والقدم وأشباه ذلك"(6).
تأويل المتشابه:
__________
(1) الآية: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } سورة آل عمران، 7.
(2) الشاطبي، الموافقات. 3/54 - 55.
(3) االمصدر نفسه، 3/55 - 56.
(4) المصدر نفسه، 3/56.
(5) أنظر:المصدر نفسه، 3/58.
(6) المصدر نفسه، 3/57.(1/433)
إذا كان التشابه حقيقياً فلا يصح تأويله. وابتغاء تأويله هو عمل الزائغين. أما إذا كان إضافياً فينبغي تأويله. يقول: "تسليط التأويل على التشابه فيه تفصيل فلا يخلو أن يكون من المتشابه الحقيقي أو من الإضافي. فإن كان من الإضافي فلا بد منه إذا تعيّن بالدليل كما يُبيَّن العام بالخاص والمطلق بالمقيد والضروري بالحاجي وما أشبه ذلك لأن مجموعهما هو المحكم، وقد مر بيانه. وأما إن كان من الحقيقي فغير لازم تأويله"(1).
وقال: "وأيضاً فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المقتدين بهم لم يعرضوا لهذه الأشياء ولا تكلموا فيها بما يقتضي تعيين تأويل من غير دليل، وهم الأسوة والقدوة وإلى ذلك فالآية مشيرة إلى ذلك بقوله تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } (2) الآية"(3). وإذا كان المتشابه مما ينبغي تأويله، أي تعيين معناه، فإن المعنى المؤول به له ثلاثة شروط. يقول: "إذا تسلط التأويل على المتشابه فيراعي في المؤوَّل به أوصاف ثلاثة: أن يرجع إلى معنى صحيح في الاعتبار، متفقٍ عليه في الجملة بين المختلفين، ويكون اللفظ المؤوَّل قابلاً له"(4).
__________
(1) المصدر نفسه، 3/59.
(2) سورة آل عمران، 7.
(3) الشاطبي، الموافقات، 3/59.
(4) المصدر نفسه، 3/60.(1/434)
أما الشرط الأول فيرجع إلى ما سبق ذكره من أن الدليل الشرعي يجب أن يكون قطعياً أو راجعاً إلى قطعي كي يصح إعماله. وهو هنا لم يشترط الرجوع إلى قطعي، وإنما إلى معنى صحيح في الاعتبار. فإذا كان راجعاً إلى معنى قطعي فلا شك أنه صحيح في الاعتبار. إذ قد يكون المعنى المؤول به ممكن القبول أي لا يعارض أصلاً، فإن كان لا يصح إعماله فلا يصح رده، بل إنه يخضع للاستقراء أي لملاحظة هذا المعنى في مواضع أخرى، فلا يشترط أن يكون قد بلغ القطع حتى يُقبل، بل لا بد من اعتباره قبل بلوغ القطع، وينطبق هذا على غيره مما يشترك معه في المعنى، وذلك لكي تتوفر إمكانية وجود استقراء مفيد للقطع. أما شرطه الثالث وهو أن يكون اللفظ المؤول قابلاً للمعنى فواضح. وأما الشرط الثاني وهو أن يكون المعنى المؤول به متفقاً عليه في الجملة بين المختلفين، ولم يقل بالإجماع، إذ الإجماع على معنى من بين معانٍ محتملة متعذر أو نادر. ولهذا فهذا الشرط المراد به أن لا يكون المعنى المؤوَّل به مطروحاً في الجملة، إذ إن هذا يدل على مرجوحيته وأن هناك معارضاً أقوى منه(1).
النسخ:
مر عند تعريف المحكم والمتشابه أن المحكم له إطلاقان عام وخاص. فهو يقابل المتشابه بالإطلاق العام ويقابل المنسوخ بالإطلاق الخاص. وقد قال الشاطبي في تعريف النسخ: "قالوا في حد النسخ: إنه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر"(2).
وكما لا يقع التشابه في الكليات، فلا يقع فيها النسخ أيضاً. قال: "والقواعد الكلية من الضروريات الحاجيات والتحسينيات لم يقع فيها نسخ، وإنما وقع النسخ في أمور جزئية بدليل الاستقراء"(3).
__________
(1) المصدر نفسه، 3/61.
(2) المصدر نفسه، 3/64.
(3) الشاطبي، الموافقات، 3/70.(1/435)
والنسخ لا يكون إلا في جزئيات راجعة إلى كليات، أي في فروع، لأنها إذا لم تكن راجعة إلى كليات فإن إعمالها لم يثبت، وما لم يثبت لا يتصور له نسخ. وكذلك فإن المنسوخ بالنسبة إلى المحكم في الشريعة قليل. قال: "فإن الاستقراء يبين أن الجزئيات الفرعية التي وقع فيها الناسخ والمنسوخ بالنسبة إلى ما بقي محكماً قليلة"(1). ويلاحظ في هذا النص استعماله تعبير "الجزئيات الفرعية".
ومثلما أن المنسوخ يجب أن يكون تحقق ثبوته في الشرع، فكذلك الناسخ، وثبوته بأن يكون راجعاً إلى معنى قطعي. قال: "إن الأحكام إذا ثبتت على المكلف فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق لأن ثبوتها على المكلف أولاً محقق، فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق"(2).
وبما أن النازل في الشريعة في مكة هو الكليات، وما كان من الفروع فقليل، لذلك فعند الاجتهاد والاستنباط يجب أن يكون الميل إلى استبعاد النسخ فيما نزل بمكة. ثم عمم هذا القول على سائر الأحكام مكية كانت أو مدنيَّة. قال: "فاقتضى هذا أن ما كان من الأحكام المكية يدّعى نسخه لا ينبغي قبول تلك الدعوى فيه إلا مع قاطع بالنسخ بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين ولا دعوى الإحكام فيهما"(3). ثم قال: "وهكذا يقال في سائر الأحكام مكية كانت أو مدنية"(4).
الأوامر والنواهي:
__________
(1) المصدر نفسه، 3/63.
(2) المصدر نفسه، 3/64.
(3) الموضع نفسه.
(4) الموضع نفسه.(1/436)
الأوامر والنواهي من مباحث القرآن والسنة. والمراد ببحثها هنا الإشارة إلى منهج الشاطبي في تعيين معاني النصوص أو الصيغ. فقد تأتي الصيغة ظاهرها التكليف والمراد بها غير ذلك. وقد يراد منها التكليف أمراً أو نهياً، ولكن ينبغي تعيين المراد بالأمر هل هو الوجوب أو الندب أو الإباحة، والمراد بالنهي هل هو التحريم أو الكراهة. وكذلك يأتي اللفظ ويحتاج الناظر إلى تعيين معناه، هل هو على الحقيقة أو مجاز أو فيه إضمار أو غير ذلك. وكذلك فإن للأحكام مقاصد، فهل هذه المقاصد معتبرة في الأمر والنهي. ومن هذه الدلالات ما أشير إليه سابقاً، خاصة في مبحث قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام(1). ومنها ما سيأتي في مبحث قاعدة سد الذرائع(2). وما سنتحدث عنه هنا هو منهج الشاطبي عموماً في تعيين معاني صيغ الأمر والنهي.
إن الأمر يقتضي إيقاع الفعل، والنهي يقتضي الكف عن الفعل، وهذا بغض النظر عن المقصود بالفعل أو الكف. فالفعل أو الكف عنه هو أول مقاصد الشارع من الأمر والنهي(3). قال: "إن معنى الأمر والنهي اقتضاء الفعل واقتضاء الترك. ومعنى الاقتضاء الطلب، والطلب يستلزم مطلوباً، والقصد لإيقاع ذلك المطلوب، ولا معنى للطلب إلا هذا"(4). إلى أن قال: "والأمر في هذا أوضح من أن يستدل عليه"(5).
__________
(1) أنظر: المبحث الثالث من الفصل الرابع.
(2) المبحث الثالث من الفصل التاسع.
(3) وقد تبين هذا معنا في المبحث الأول من الفصل الخامس. وهو قصد التعبد والامتثال.
(4) الشاطبي، الموافقات. 3/73.
(5) الموضع نفسه.(1/437)
فإذا جاءت الأوامر والنواهي بما لا يقع تحت القدرة كقوله تعالى: { وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (1)، أو { * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا } (2). أو بما علمنا أن التكليف به لا يقع في شريعتنا كقوله تعالى: { وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } (3)، أو { قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا } (4)، فهذا لا يعني إلغاء التكليف أو عدم إعمال النصوص، أو إهمال الصيغ. وإنما أن الأمر لم يكن تكليفاً في الأصل، والصيغ والنصوص لم يكن من معانيها التكليف، وإنما كان التهديد أو التيئيس أو التعجيز، وهذا من معاني الصيغ أنفسها، وهو من قبيل إعمال الجزئيات والكليات معاً لأجل تعيين المعنى المراد(5). قال: "وأما أمر التعجيز والتهديد فليس في الحقيقة بأمر وإن قيل إنه أمر بالمجاز فعلى ما تقدم، إذ الأمر وإن كان مجازياً فيستلزم قصداً، به يكون أمراً فيتصور وجه المجاز وإلا فلا يكون أمراً دون قصد إلى إيقاع المأمور به بوجه"(6).
والأوامر والنواهي تفيد دلالاتها، أي مقتضياتها وهي الأحكام، والأحكام لها مقاصدها وهي المصالح. ولكن هذه الأخيرة لا تقع إلا ضمن إيقاع ما طلب إيقاعه والكف عما طلب الكف عنه. إذ إن الحكم الشرعي بالنسبة للمقصود به كالأصل بالنسبة للفرع. ولا يصح أن يعود الفرع على الأصل بالإبطال.
__________
(1) سورة آل عمران، 102.
(2) سورة الإسراء، 50.
(3) سورة الكهف، 29.
(4) سورة الإسراء، 107.
(5) وقد تحدثنا عن هذا الأمر في المبحث الأول من الفصل الخامس.
(6) الشاطبي، الموافقات. 3/74.(1/438)
وإذا ظُنَّ في الأوامر والنواهي ما قصد فيه الشارع المحافظة على الحكمة أو المصلحة ولو أدى ذلك إلى إهمال صيغة الأمر أو النهي، فليس الأمر كذلك، وإنما ذلك يرجع إلى أن الصيغ منها ما يكون معناه مقصوراً على الحقيقة ومنها ما يكون مجازياً. وإعمال المجاز بدل الحقيقة ليس إهمالاً للنص أو الصيغة وإنما هو عين إعمالها. ولكن الذي ينبغي الاهتمام به هو كيفية تعيين المقصود: الحقيقة أم المجاز. وهذا يكون بإعمال الجزئيات والكليات معاً، وبالقرائن الحالية والمقالية.
يقول: "الأوامر والنواهي ضربان: صريح وغير صريح. فأما الصريح فله نظران: أحدهما من حيث مجرده لا يعتبر فيه علة مصلحية وهذا نظر من يجري مع مجرد الصيغة مجرى التعبد المحض من غير تعليل فلا فرق عند صاحب هذا النظر بين أمر وأمر ولا بين نهي ونهي"(1).
__________
(1) المصدر نفسه، 3/85.(1/439)
وقال: "لا يخلو أن نعتبر في الأوامر والنواهي المصالح أو لا. فإن لم نعتبرها فذلك أحرى في الوقوف مع مجردها وإن اعتبرناها فلم يحصل لنا من معقولها أمر يتحصل عندنا دون اعتبار الأوامر والنواهي. فإن المصلحة وإن علمناها على الجملة فنحن جاهلون بها على التفصيل. فقد علمنا أن حد الزنى مثلاً لمعنى الزجر بكونه في المحصن الرجم دون ضرب العنق أو الجلد إلى الموت أو إلى عدد معلوم أو السجن أو الصوم أو بذل مال كالكفارات، وفي غير المحصن جلد مائةٍ وتغريب عام دون الرجم أو القتل أو زيادة عدد الجلد على المائة أو نقصانه عنها إلى غير ذلك من وجوه الزجر الممكنة في العقل. هذا كله لم نقف على تحقيق المصلحة فيما حد فيه على الخصوص دون غيره. وإذا لم نعقل ذلك ولا يمكن ذلك للعقول دل على أن فيما حُدّ من ذلك مصلحة لا نعلمها، وهكذا يجري الحكم في سائر ما يعقل معناه. أما التعبدات فهي أحرى بذلك. فلم يبق لنا إذاً وزر دون الوقوف مع مجرد الأوامر والنواهي. وكثيراً ما يظهر لنا ببادئ الرأي للأمر والنهي معنى مصلحي ويكون في نفس الأمر بخلاف ذلك يبينه نص آخر يعارضه فلا بد من الرجوع إلى ذلك النص دون اعتبار ذلك المعنى. وأيضاً فقد مَرّ في كتاب المقاصد أن كل أمر ونهي لا بد فيه من معنى تعبدي، وإذا ثبت هذا لم يكن لإهماله سبيل فكل معنى يؤدي إلى عدم اعتبار مجرد الأمر والنهي لا سبيل إلى الرجوع إليه. فإذاً، المعنى المفهوم للأمر والنهي إن كَرّ عليه بالإهمال فلا سبيل إليه، وإلا فالحاصل الرجوع إلى الأمر والنهي دونه، فآل الأمر في القول باعتبار المصالح إنه لا سبيل إلى اعتبارها مع الأمر والنهي وهو المطلوب"(1).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 3/86 - 87.(1/440)
ويذْكُر الشاطبي حالات قد يُعْتَرَضُ بها على قوله أعلاه حيث يُظَن أن المصالح أو المعاني المقصودة بالأحكام أولى من ظاهر النص أو الصيغة. يقول: "ولا يُقال إن عدم الالتفات إلى المعاني إعراض عن مقاصد الشارع المعلومة كما في قول القائل لا يجوز الوضوء بالماء الذي بالَ فيه الإنسان، فإن كان قد بال في إناء ثم صبه في الماء جاز الوضوء به"(1)، وذلك لأن النهي هنا عن الأمر الثاني ليس آتياً من اتباع المعاني، أي معاني الأحكام، وإنما هو من دلالة الصيغة نفسها، فهذا نوع من أنواع الدلالة اللغوية(2). قال: "فاتباع أنفس الصيغ التي هي الأصل واجب لأنها مع المعاني كالأصل مع الفرع. ولا يصح اتباع الفرع مع إلغاء الأصل"(3). ولكن معنى الصيغة هو الذي يجب النظر فيه، فدلالتها ليست قطعية، لذلك يجب أن تفهم بحسب أمور أخرى يُستعان بها، قال: "والثاني من النظرين هو من حيث يفهم من الأوامر والنواهي قصد شرعي بحسب الاستقراء وما يقترن بها من القرائن الحالية أو المقالية الدالة على أعيان المصالح في المأمورات والمفاسد في المنهيات"(4). وقال: "كما أنه قد يفهم من مغزى الأمر والنهي الإباحة وإن كانت الصيغة لا تقتضي بوضعها الأصلي ذلك. كقوله تعالى: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } (5)، {
__________
(1) المصدر نفسه، 3/87.
(2) وذلك كما في قوله تعالى: { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } الإسراء، 23، فهو يتضمن نهياً عن الضرب وهذا تنبيه بالأدنى على الأعلى فهو من دلالات اللغة. وكذلك كما في قوله تعالى: { وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا } النساء، 20، فهو تنبيه بالأعلى على الأدنى، وكذلك قوله تعالى: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } الزلزلة 7، فالدلالة على ما لم يذكر هي من دلالات الصيغة.
(3) الشاطبي، الموافقات، 3/87.
(4) المصدر نفسه، 3/88.
(5) سورة المائدة، 2..(1/441)
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ } (1). إذ عُلِمَ قطعاً أن مقصود الشارع ليس ملابسة الاصطياد عند الإحلال ولا الانتشار عند انقضاء الصلاة، وإنما مقصوده أن سبب المنع من هذه الأشياء قد زال وهو انقضاء الصلاة وزوال حكم الإحرام، فهذا النظر يعضده الاستقراء أيضاً"(2).
أي أن الصيغة "اصطادوا" و"انتشروا" هي صيغة الأمر، ولكن المقصود بالنص ليس الأمر وإنما الإباحة، وهذا ليس من اتباع معاني الأحكام أو المصالح وإنما هو معنى النص. أي بناء على مقصود الشارع بالخطاب وليس بالتشريع.
لذلك لا بد من كيفية لفهم الأوامر والنواهي، ومنهج الشاطبي في ذلك هو إرجاع الجزئيات إلى معانٍ قطعية وإعمال الجزئيات والكليات معاً والاستقراء للمعاني، والاستعانة بالقرائن الحالية والمقالية.
وقال: "بل نقول: كلام العرب على الإطلاق لا بد فيه من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ وإلا صار ضحكةً وهزأةً، ألا ترى إلى قولهم فلان أسد أو حمار أو عظيم الرماد أو جبان الكلب، وفلانة بعيدة مهوى القرط وما لا ينحصر من الأمثلة، لو اعتبر اللفظ بمجرده لم يكن له معنى معقول، فما ظنك بكلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى هذا المساق يجري التفريق بين البول في الماء الدائم وصبه من الإناء فيه"(3).
العموم والخصوص:
يختلف مفهوم العموم والخصوص عند الشاطبي عن المعهود في علم أصول الفقه بشكل كبير، وهو وإن استعمل هذين التعبيرين في كتابه، فله قصد مختلف عن سائر علماء الأصول.
فالعموم عنده هو من خواص الكليات، والكليات لا تستفاد إلا بالاستقراء، والكليات جاريةٌ باطراد في الجزئيات ولا تتخلف. لذلك فالكليات لا تخصص. فإذا استعمل الشاطبي هذين اللفظين كما في قوله مثلاً إن الضرورات تخصصها الحاجيات فبمعنىً سيتبين.
__________
(1) سورة الجمعة، 10.
(2) الشاطبي، الموافقات، 3/88.
(3) المصدر نفسه، 3/90 - 91.(1/442)
وعلى ذلك فإن مسألة صيغ العموم وهل أن للعموم صيغة أو لا ليست أمراً ذا بالٍ عند الشاطبي لأن العموم هو عموم المعنى الكلي، وهذا قطعي، والصيغ إن أفادت عموماً بحسب الوضع اللغوي، فإن الدلالات القطعية لا تثبت بآحاد النصوص عنده. يقول: "ولا بد من مقدمةٍ تبين المقصود من العموم والخصوص ههنا، والمراد العموم المعنوي كان له صيغة مخصوصة أو لا، فإذا قلنا في وجوب الصلاة أو غيرها من الواجبات وفي تحريم الظلم أو غيره إنه عام فإنما معنى ذلك أن ذلك ثابت على الإطلاق والعموم بدليل فيه صيغة عموم أو لا بناءً على أن الأدلة المستعملة هنا إنما هي الاستقرائية المحصلة بمجموعها القطع بالحكم حسبما تبين في المقدمات، والخصوص بخلاف العموم"(1).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 3/149.(1/443)
وبما أن العام معناه أنه ثابت على الإطلاق والعموم اعتماداً على الاستقراء المفيد للقطع، فهذا يعني هنا أن العام قطعي، وأنه يجري في كل جزئياته، وأنه لا يحصل نسخ له، ولا لبعضه، فالكليات لا نسخ فيها كما تبيّن سابقاً. والتخصيص بمعنى رفع الحكم عن بعض الجزئيات أو في بعض الحالات يعد نقضاً للاستقراء، لذلك فلا وجود للتخصيص بهذا المعنى، يقول: "إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة فلا تؤثر فيها قضايا الأعيان ولا حكايات الأحوال، والدليل على ذلك أمور: أحدها: أن القاعدة مقطوع بها بالفرض لأنا نتكلم في الأصول القطعية الكلية، وقضايا الأعيان مظنونة أو متوهمة، والمظنون لا يقف للقطعي ولا يعارضه، والثاني: أن القاعدة غير محتملة لاستنادها إلى الأدلة القطعية، وقضايا الأعيان محتملة لإمكان أن تكون على غير ظاهرها أو على ظاهرها وهي مقتطعة ومستثناة من ذلك الأصل فلا يمكن والحالة هذه إبطال كلية القاعدة بما هذا شأنه. والثالث: أن قضايا الأعيان جزئية والقواعد المطردة كليات ولا تنهض الجزئيات أن تنقض الكليات"(1). ثم قال: "والرابع: أنها لو عارضتها فإما أن يعملا معاً أو يهملا، أو يعمل بأحدهما دون الآخر، أعني في محل المعارضة. فإعمالهما معاً باطل. وكذلك إهمالهما لأنه إعمال للمعارضة فيما بين الظني والقطعي، وإعمال الجزئي دون الكلي ترجيح له على الكلي وهو خلاف القاعدة فلم يبق إلا الوجه الرابع وهو إعمال الكلي دون الجزئي وهو المطلوب"(2).
__________
(1) المصدر نفسه، 3/150.
(2) الشاطبي، الموافقات، 3/150.(1/444)
لذلك يطرح الجزئي لأنه عارض كلياً، وقد تبيّن سابقاً أن الجزئي لا يعمل به إلا إذا كان راجعاً إلى معنى قطعي، أي إلى كلي، وفي ما نحن فيه من معارضة الجزئي للعام، فإذا لم يكن الجزئي راجعاً إلى قطعي، فليس ثمة إشكال، أما إن كان الجزئي راجعاً إلى قطعي، فالتعارض هنا هو من قبيل تعارض الكليات أي القطعيات، وهذا الأمر لا يقع. فلم يبق أن يكون رفع التعارض هنا إلا بالتخصيص، وذلك بأن يستثنى من العام المواضع أو الحالات التي جاء لها الجزئي، أو أن يكون للتخصيص معنىً آخر، وبما أن رفع تطبيق العام عن بعض المواضع أو في بعض الحالات يعد نقضاً للكلي، فلم يبق إلا المعنى الآخر. لذلك نجد الشاطبي يستعمل التخصيص، ولكنه لا يقصد به ما قصده الأصوليون، وإنما يقول إن التخصيص مجازي لا حقيقي. يقول: "عمومات العزائم وإن ظهر بادئ الرأي أن الرخص تخصصها فليست بمخصصة لها في الحقيقة، بل العزائم باقية على عمومها وإن أطلق عليها أن الرخص خصصتها فإطلاق مجازي لا حقيقي"(1). والرخص المقصودة هنا هي الرخص الراجعة إلى كليات من قسم الحاجيات مثل رفع الحرج أو الضرر أو ما لا يطاق، فالترخص هنا هو من قبيل العزيمة، وليس من قبيل المسمى الآخر للرخصة الذي هو المواضع المنصوصة والتي لا ترجع إلى كليات(2). لذلك فالتخصيص المذكور أعلاه هو تخصيص العزائم برخص من قبيل ما لا يطاق، كقيام من لا يستطيع القيام في الصلاة.
__________
(1) المصدر نفسه، 3/165.
(2) أنظر: الفصل الخامس، المبحث الأول، ص: 236.(1/445)
فنحن هنا أمام كليين ظاهرهما التعارض، والتوفيق بينهما بأن يخصص أحدهما أو كل واحد منهما الآخر ممنوع عند الشاطبي. وجواب الشاطبي هو أن حقيقة هذا التخصيص أنه بيان، أي أن العام القطعي لم يكن في الأساس متناولاً لتلك الجزئية ولا منطبقاً عليها، والجزئي المعارض في الظاهر ليس بمعارض حقيقةً، لأنه في الأساس ليس مندرجاً تحت ذلك العام، لذلك فمعارضته للعام ليست استثناءً لبعض ما دل عليه العام، وإنما هو بيان لما دل عليه العام، أي أن العموم لم يتناوله أصلاً، ومن هذا الجزئي يزيد البيان والتوضيح لحدود ذلك العموم. لذلك قال: "فأحكام تلك العزائم متوجهة على عمومها من غير تخصيص وإن أطلق عليها أن الأعذار خصصتها فعلى المجاز لا على الحقيقة"(1).
ويورد الشاطبي أمثلة لتأكيد رأيه، وفيما يلي واحدٌ منها للتوضيح:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 3/167.(1/446)
قال: "ومثل ذلك أنه لما نزلت: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } (1)، قال بعض الكفار: فقد عبدت الملائكة وعبد المسيح. فنزل: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } (2)، الآية"(3). يشير الشاطبي بهذا إلى من يعترض عليه ويقول إن التخصيص بمعنى رفع بعض ما يتناوله اللفظ العام واقع في الشريعة بدليل أن النص الأول دل على تعذيب من يُعبد من دون الله، وأن النص الثاني جاء ليستثني بعض المعبودين من التعذيب كالملائكة والمسيح، فيرد الشاطبي هذا القول ويؤكد رأيه، يقول: "وأما قوله: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } الآية، فقد أجاب الناس عن اعتراض ابن الزبعرى فيها بجهله بموقعها، وما روي في الموضع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "ما أجهلك بلغة قومك يا غلام"(4)، لأنه جاء في الآية: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } ، وما لما لا يعقل فكيف تشمل الملائكة والمسيح"(5). وهكذا فإن النص أصلاً لا يدخل في معناه الملائكة ولا المسيح.
__________
(1) سورة الأنبياء، 98.
(2) سورة، الأنبياء، 101.
(3) الشاطبي، الموافقات، 3/156.
(4) لم أجده لا بنصه ولا بمعناه. والمعنى الذي يرد هنا هو عكس ما ذهب إليه الشاطبي، فعلى سبيل المثال، يقول القرطبي: "هذه الآية أصل في القول بالعموم، وأن له صيغاً مخصوصة، خلافاً لمن قال: ليست له صيغة موضوعه للدلالة عليه، وهو باطل بما دلت عليه هذه الآية وغيرها، فهذا عبد الله بن الزبعرى قد فهم "ما" في جاهليته جميع من عُبِدَ، ووافقه على ذلك قريش وهم العرب الفصحاء، واللسن البلغاء، ولو لم تكن للعموم لما صح أن يستثني منها، وقد وجد ذلك فهي للعموم وهذا واضح" الجامع لأحكام القرآن، 11/343. عند تفسير قوله تعالى { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } الآية.
(5) الشاطبي، الموافقات، 3/158.(1/447)
لذلك فمجيء النص الثاني: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } هو بيان ومزيد توضيح، وليس رفعاً أو نسخاً لبعض ما تناوله اللفظ.
وعلى ذلك فالشاطبي يرد التخصيص الذي يقول به علماء الأصول، سواء كان تخصيصاً بالمتصل أو بالمنفصل، يقول: "وإذا تقرر ما تقدم فالتخصيص إما بالمنفصل أو بالمتصل، فإن كان بالمتصل كالاستثناء والصفة والغاية وبدل البعض واشباه ذلك فليس في الحقيقة بإخراجٍ لشيء بل هو بيان لقصد المتكلم في عموم اللفظ أن لا يتوهم السامع منه غير ما قصد وهو ينظر إلى قول سيبويه زيد الأحمر عند من لا يعرفه كزيد وحده عند من يعرفه"(1). ثم قال: "وأما التخصيص بالمنفصل فإنه كذلك أيضاً راجع إلى بيان المقصود في عموم الصيغ حسبما تقدم في رأس المسألة لا أنه على حقيقة التخصيص الذي يذكره الأصوليون"(2).
ولأجل تأكيد رأيه، فإنه يعمد إلى بيان أمر، وهو أن الصيغ الموضوعة للعموم في اللغة، قد يفهم منها البعض عموماً بحسب الوضع اللغوي، فإذا وجد نصاً شرعياً معارضاً، يتوهم أن هذا تخصيص بمعنى رفع لبعض المدلول اللغوي، فيبين أن المعتمد في دلالات الألفاظ والتراكيب هو المعنى الاستعمالي وليس المعنى الوضعي، وقد تبيّن هذا في المبحث الثالث من الفصل الرابع.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 3/162.
(2) المصدر نفسه، 3/163.(1/448)
ويبين الشاطبي أن هذا هو أحد أسباب الخلاف بينه وبين الأصوليين في معنى التخصيص، يقول: "لا كلام في أن للعموم صيغاً وضعيةً"(1). ثم يقول: "وذلك أن للعموم الذي تدل عليه الصيغ بحسب الوضع نظرين: أحدهما باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أصل وضعها على الإطلاق وإلى هذا النظر قصد الأصوليون، فلذلك يقع التخصيص عندهم بالعقل والحس وسائر المخصصات المنفصلة، والثاني بحسب المقاصد الاستعمالية التي تقضي العوائد بالقصد إليها وإن كان أصل الوضع على خلاف ذلك. وهذا الاعتبار استعمالي، والأول قياسي"(2). وعقب قائلاً: "والقاعدة في الأصول العربية أن الأصل الاستعمالي إذا عارض الأصل القياسي كان الحكم للاستعمالي"(3). وفهم المعنى الاستعمالي يحتاج إلى فهم أسباب النزول والقرائن الحالية والمقالية، وأساليب العرب في التعبير وفي فهم الألفاظ والتراكيب. وحينذاك فإن ما يورده البعض اعتراضاً على رده للتخصيص، يرده هو بناء على أن العموم الذي فهموه غير موجود أصلاً. وفي المثال المذكور سابقاً عند قوله تعالى: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } يضيف إلى ما قاله من أن ما هي لغير العاقل فلا تشمل الملائكة والمسيح، يضيف: "والذي يجري على أصل مسألتنا أن الخطاب ظاهره أنه لكفار قريش ولم يكونوا يعبدون الملائكة ولا المسيح، وإنما كانوا يعبدون الأصنام، فقوله: { وَمَا تَعْبُدُونَ } عام في الأصنام التي كانوا يعبدون فلم يدخل في العموم الاستعمالي غير ذلك، فكان اعتراض المعترض جهلاً منه بالمساق وغفلة عما قصد في الآيات"(4).
__________
(1) المصدر نفسه، 3/153.
(2) الموضع نفسه.
(3) الموضع نفسه.
(4) الشاطبي، الموافقات، 3/158.(1/449)
ومن أقوال الشاطبي في هذا الأمر: "إن العرب تطلق ألفاظ العموم بحسب ما قصدت تعميمه مما يدل عليه معنى الكلام خاصة دون ما تدل عليه تلك الألفاظ بحسب الوضع الإفرادي، كما أنها تطلقها وتقصد بها تعميم ما تدل عليه في أصل الوضع وكل ذلك مما يدل عليه مقتضى الحال"(1).
ومن أمثلة التخصيص الذي يرده هنا، التخصيص بالعقل في قوله تعالى: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } (2). فالعقل يحيل أن تكون ذاته أو شيء من صفاته سبحانه وتعالى مخلوقاً، لذلك فالعقل يخصص عموم لفظ كل. والشاطبي يرد هذا القول، فيرى أن لفظ كل في هذا السياق لا يتناول ذات الباري أو شيئاً في صفاته تعالى، فيقول: "فإن المتكلم فد يأتي بلفظ عموم مما يشمل بحسب الوضع نفسه وغيره، وهو لا يريد نفسه ولا يريد أنه داخل في مقتضى العموم"(3). ويقول: "فكذلك لا يدخل شيء من صفات الباري تعالى تحت الإخبار في نحو قوله تعالى: { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } لأن العرب لا تقصد ذلك ولا تنويه"(4).
__________
(1) المصدر نفسه، 3/153 - 154.
(2) سورة الزمر، 62.
(3) الشاطبي، الموافقات، 3/154.
(4) الموضع نفسه.(1/450)
ويؤكد الشاطبي أنه يعارض الأصوليين قبله في قوله بالتخصص ويعترض عليهم. يقول: "فإن قيل: وهكذا يقول الأصوليون إن التخصيص بيان المقصود بالصيغ المذكورة فإنه رفع لتوهم دخول المخصوص تحت عموم الصيغة في فهم السامع وليس بمراد الدخول تحتها وإلا كان التخصيص نسخاً"(1). إلى أن يقول: "فكيف تفرق بين ما ذكرت وبين ما يذكره الأصوليون؟" (2). يجيب الشاطبي: "فالجواب أن الفرق بينهما ظاهر، وذلك أن ما ذكر هنا راجع إلى بيان وضع الصيغ العمومية في أصل الاستعمال العربي أو الشرعي. وما ذكره الأصوليون يرجع إلى بيان خروج الصيغة عن وضعها من العموم إلى الخصوص. فنحن بينا أنه بيان لوضع اللفظ، وهم قالوا إنه بيان لخروج اللفظ عن وضعه، وبينهما فرق"(3).
وقال: "فإن قيل: حاصل ما مر أنه بحث في عبارة والمعنى متفق عليه، ومثله لا ينبني عليه حكم. فالجواب أن لا بل هو بحث فيما ينبني عليه أحكام"(4). وقال في منهج الأصوليين في التخصيص إنه شنيع. قال: "ولقد أدى إشكال هذا الموضع إلى شناعةٍ أخرى(5)، وهي أن عمومات القرآن ليس فيها ما هو معتد به في حقيقته من العموم وإن قيل بأنه حجة بعد التخصيص، وفيه ما يقتضي إبطال الكليات القرآنية وإبطال الاستدلال به جملة إلا بجهة من التساهل وتحسين الظن لا على تحقيق النظر والقطع بالحكم، وفي هذا إذا تؤمِّل توهين الأدلة الشرعية، وتضعيف الاستناد إليها"(6). ثم خلص إلى القول: "فالحق في صيغ العموم إذا وردت أنها على عمومها في الأصل الاستعمالي بحيث يفهم محل عمومها العربي الفهم المطلع على مقاصد الشرع"(7).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 3/163.
(2) الموضع نفسه.
(3) الموضع نفسه.
(4) الموضع نفسه.
(5) والشناعة الأولى - بنظره - هي اختلافهم في العام إذا خص هل يبقى حجة بعد التخصيص أَوْ لا.
(6) الشاطبي، الموافقات، 3/164 - 165.
(7) المصدر نفسه، 3/165.(1/451)
وعلى هذا ينبني موقف الشاطبي، هل يصح العمل بالعام قبل البحث عن مخصص أو لا، إذ قد تكون المسألة الواقعة تحت النظر مما خص، فيرى أن العموم إذا وصل حد القطع، فلا حاجة للبحث عن مخصص، إذ العموم إذا ثبت ـ على منهجه ـ فهذا يكون بالاستقراء المفيد للقطع فلا يعارض ولا يرتفع معناه في موضع أو حال. أما إذا كانت النصوص المفيدة للعموم لم تتضافر تضافراً يفيد القطع، فإن المعنى مما يحتاج إلى مزيد من البحث والاستقراء، وهذا البحث يعني البحث عما يوافق أو يعارض، ليصل إلى المعنى القطعي وإلى حدود ما يتناوله هذا المعنى. يقول: "العمومات إذا اتحد معناها وانتشرت في أبواب الشريعة أو تكررت في مواطن بحسب الحاجة من غير تخصيص فهي مجراة على عمومها على كل حال وإن قلنا بجواز التخصيص بالمنفصل"(1). وقوله هنا: "وإن قلنا بجواز التخصيص بالمنفصل"، المقصود به هو قبل أن يتكرر المعنى ويثبت، وسيتبين هذا فيما يلي. يقول: "وعلى الجملة فكل أصل تكرر تقريره وتأكد أمره وفهم ذلك من مجاري الكلام فهو مأخوذ على حسب عمومه"(2). ثم قال: "فأما إن لم يكن العموم مكرراً ولا مؤكداً ولا منتشراً في أبواب الفقه فالتمسك بمجرده فيه نظر، فلا بد من البحث عما يعارضه أو يخصصه، وإنما حصلت التفرقة بين الصنفين لأن ما حصل فيه التكرار والتأكيد والانتشار صار ظاهره باحتفاف القرائن به إلى منزلة النص القاطع الذي لا احتمال فيه بخلاف ما لم يكن كذلك فإنه معرض لاحتمالات فيجب التوقف في القطع بمقتضاه حتى يعرض على غيره ويبحث عن وجود معارض فيه"(3).
وما ذكر هنا عن العموم والخصوص ينطبق عنده على الإطلاق والتقييد، لأن الكليات من خواصها الإطلاق والعموم.
البيان والإجمال:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 3/174.
(2) الموضع نفسه.
(3) الموضع نفسه.(1/452)
ويُغني هنا عن معظم هذا البحث ما ذُكر سابقاً تحت عنوان: (الإحكام والتشابه)، إذ المجمل متشابه، والمحكم هو المعنى المتعين والثابت والمبيَّن.
وبناءً على ذلك فإن الشريعة بعد كمال الدين وتمام النعمة ليس فيها مجمل مما ينبني عليه تكليف. يقول: "الإجمال إما متعلق بما لا ينبني عليه تكليف وإما غير واقع في الشريعة"(1)، وليس مقصوده أنه ليس في الشريعة مجمل مبين، ولكن ليس فيها بعد كمالها مجمل، وإن وجد فليس فيه تكليف. قال: "فإن وجد في الشريعة مجمل أو مبهم المعنى أو ما لا يفهم فلا يصح أن يكلف بمقتضاه لأنه تكليف بالمحال وطلب ما لا ينال، وإنما يظهر هذا الإجمال في المتشابه الذي قال الله تعالى فيه: { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } ، ولما بين الله تعالى أن في القرآن متشابهاً بين أيضاً أنه ليس فيه تكليف إلا الإيمان به على المعنى المراد منه لا على ما يفهم المكلف منه"(2).
والقرآن يحتوي على الشريعة كلها(3)، وإنما كانت السنة بياناً لما في القرآن، ليس فيها تشريع زائد على ما فيه، وكذلك يحصل البيان بما أجمع عليه الصحابة رضوان الله عليهم. وإجماع الصحابة ليس من قبيل الاتفاق العقلي، أو غيره فيما بينهم على شيء يرونه وليس له أصل في الشرع، إذ لا شيء مما يحتاج إلى حكم إلا وله أصل في الشرع، ولكن الإجماع هو اتفاقهم على أن ما جاء في الشرع هو كذا، أي إن الإجماع يكشف عن دليل. قال الشاطبي: "بيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيان صحيح لا إشكال في صحته لأنه لذلك بعث، قال تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } (4)، ولا خلاف فيه، وأما بيان الصحابة فإن أجمعوا على ما بينوه فلا إشكال في صحته أيضاً"(5).
__________
(1) المصدر نفسه، 3/197.
(2) الشاطبي، الموافقات، 3/198.
(3) وهذا ما سيتبين في المبحث التالي.
(4) سورة النحل، 44.
(5) الموافقات، 3/195.(1/453)
وذلك أن فهم الصحابة أتم من فهم غيرهم وأحرى بالتقديم، وقد شاهدوا من أسباب التنزيل ومن قرائن الأحوال ما لم يشاهد غيرهم، وهم العرب الفصحاء.
قال: "يترجح الاعتماد عليهم في البيان من وجهين: أحدهما: معرفتهم باللسان العربي فإنهم عرب فصحاء لم تتغير ألسنتهم، ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم فهم أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم"(1). ثم قال: "والثاني: مباشرتهم للوقائع والنوازل وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة، فهم أقعد في فهم القرائن الحالية، وأعرف بأسباب التنزيل ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك. والشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات أو تخصيص بعض العمومات فالعمل عليه صواب، هذا إن لم ينقل عن أحد منهم خلاف في المسألة، فإن خالف بعضهم فالمسألة اجتهادية"(2). ثم قال: "أما إذا علم أن الموضع موضع اجتهاد لا يفتقر إلى ذينك الأمرين فهم ومن سواهم فيه شرع سواء"(3).
المبحث الثاني
منهج الشاطبي في فهم القرآن
موضوع هذا المبحث:
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) الموضع نفسه.
(3) المصدر نفسه، 3/197.(1/454)
للشاطبي رأي خاص أو جديد في كيفية تقرير المعاني الشرعية، ومن ذلك كيفية تعيين معاني نصوص القرآن الكريم، وهذا بناء على رأيه الذي بيناه سابقاً وهو أن الدليل الشرعي يجب أن يكون قطعياً أو راجعاً إلى قطعي، ومعنى ذلك أن المعنى المرجوع إليه يجب أن يكون قطعياً، وقد سبق بيان رأيه أيضاً في عدم أو تعذر وجود دلالة قطعية للنص، وهذا ما ينبني عليه تساؤل حول كيفية استدلال الشاطبي بنصوص القرآن الكريم. فكون الدلالة ليست قطعية يعني أن المعاني محتملة، وتعيين معنى دون آخر من غير مرجح أو شاهد بالاعتبار لهذا المعنى دون غيره لا يصح، بل إن هذا المعنى المحتمل أو الظاهر بحسب معاني الألفاظ والتركيب لا يصح اعتباره ما لم يكن راجعاً إلى معنى قطعي ثابت بالاستقراء. وبما أنه لا بد من إعمال النصوص ولا بد من الاجتهاد واستنباط الأحكام لأجل تحقيق عبودية البشر لخالقهم، لذلك لا بد من منهج صحيح لأجل تعيين معاني نصوص القرآن الكريم، ولذلك لا بد من ضوابط للتفسير ومن وسائل تساعد فيه. لأجل بيان هذه الضوابط وهذه الوسائل وهذا المنهج عند الشاطبي كان هذا المبحث.
القرآن فيه بيان كل شيء من الشريعة:(1/455)
ذهب الشاطبي إلى أن القرآن جامع لكل أحكام الشريعة، فما من مسألة إلا ويستفاد حكمها من القرآن، وذهب إلى أن ما عداه من مصادر للشريعة إنما هو بيان وشرح لما فيه مما قد يخفى على من لم يبلغ درجة التحقيق في العلم، أو مما قد يشتبه على النظار والمجتهدين، فليس في غيره زيادة عليه، قال: "القرآن فيه بيان كل شيء على ذلك الترتيب المتقدم(1)، فالعالم به على التحقيق عالم بجملة الشريعة ولا يعوزه منها شيء. والدليل على ذلك أمور ومنها النصوص القرآنية من قوله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (2) الآية، وقوله: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } (3)، وقوله: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (4)، وقوله: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } (5)، يعني الطريقة المستقيمة، ولو لم يكمل فيه جميع معانيها لما صح إطلاق هذا المعنى عليه حقيقة. وأشباه ذلك من الآيات الدالة على أنه هدى وشفاء لما في الصدور، ولا يكون شفاء لما في جميع الصدور إلا وفيه تبيان كل شيء"(6). وقال: "فالعالم بالقرآن عالم بجملة الشريعة"(7). وقال: "فلا تجد في السنة أمراً إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية"(8). وقال: "لأن الله جعل القرآن تبياناً لكل شيء فيلزم من ذلك أن تكون السنة حاصلة فيه في الجملة"(9).
__________
(1) الترتيب المتقدم: سيتبين المراد به خلال هذا المبحث.
(2) سورة المائدة، 3.
(3) سورة النحل، 89.
(4) سورة الأنعام، 38.
(5) سورة الإسراء، 9.
(6) الشاطبي، الموافقات، 3/218.
(7) المصدر نفسه، 3/219.
(8) المصدر نفسه، 4/6.
(9) الموضع نفسه.(1/456)
وقال بعد أن ذكر أقوالاً في هذا الأمر لبعض الصحابة والعلماء: "لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن في مسألة إلا وجد لها فيه أصلاً، وأقرب الطوائف من إعواز المسائل النازلة أهل الظواهر الذين ينكرون القياس ولم يثبت عنهم أنهم عجزوا عن الدليل في مسألة من المسائل، وقال ابن حزم الظاهري: كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في الكتاب والسنة(1) نعلمه والحمد لله حاش القراض فما وجدنا له أصلاً فيهما البتة إلى آخر ما قال. وأنت تعلم أن القراض نوع من أنواع الإجارة وأصل الإجارة في القرآن ثابت، وبين ذلك إقراره عليه الصلاة والسلام وعمل الصحابة به"(2).
وإذا كان القرآن فيه بيان كل شيء من الشريعة، فهو جامع لها مع أن نصوصه متناهية، لذلك فإن تعريفه بالأحكام الشرعية ليس نصاً على أعيان المسائل والوقائع وإنما هو تعريف بقواعد كلية. قال: "فالقرآن على اختصاره جامع ولا يكون جامعاً إلا والمجموع فيه أمور كليات لأن الشريعة تمت بتمام نزوله لقوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (3)، وأنت تعلم أن الصلاة والزكاة والجهاد وأشباه ذلك لم يتبين جميع أحكامها في القرآن وإنما بينتها السنة، وكذلك العاديات من الأنكحة والعقود والقصاص والحدود وغيرها. وأيضاً فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية، وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات، ومكمل كل واحد منها، وهذا كله ظاهر أيضاً"(4).
الحاجة إلى تفسير القرآن بالرأي:
__________
(1) ومذهب الشاطبي هو أن يقول: إلا وله أصل في الكتاب، دون عطف السنة.
(2) المصدر نفسه، 3/219.
(3) سورة المائدة، 3.
(4) الشاطبي، الموافقات، 3/217.(1/457)
القرآن هو المصدر الأول للتشريع.وهو يحتوي على الشريعة بجملتها، وفيه بيان كل شيء منها. والناس مكلفون بالخضوع لأحكامه إلى يوم القيامة، والوقائع والأفعال متجددة، ولم يأتِ بيان كل الأحكام لكل الوقائع عمن تقدم من المجتهدين، لذلك لا بد من استنباط المعاني من القرآن، ولا بد من الاجتهاد والقول فيه بالرأي. قال الشاطبي: "إن الكتاب لا بد من القول فيه ببيان معنى واستنباط حكم وتفسير لفظ وفهم مراد، ولم يأت جميع ذلك عمن تقدم، فإما أن يتوقف ذلك فتتعطل الأحكام كلها أو أكثرها، وذلك غير ممكن فلا بد من القول فيه بما يليق"(1).
وتفسير القرآن بالرأي يعني فهم مراد الله من نص القرآن حيث لم يتبيّن ذلك بتوقيف من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا بلغنا عن الصحابة رضي الله عنهم.
وهذا يحتاج إلى شروط يجب توفرها في صاحب الرأي وفي الرأي نفسه. وليس الكلام هنا في المجتهد أو المفسر وشروطه، وسيأتي هذا في فصل لاحق، وإنما الحديث هنا هو في الرأي نفسه.
قال الشاطبي: "إعمال الرأي في القرآن جاء ذمه وجاء أيضاً ما يقتضي إعماله"(2). ثم قال: "إن الرأي ضربان: أحدهما جارٍ على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما"(3). ثم قال: "وأما الرأي غير الجاري على موافقة العربية أو الجاري على الأدلة الشرعية فهذا هو الرأي المذموم من غير إشكال"(4).
__________
(1) المصدر نفسه، 3/255.
(2) المصدر نفسه، 3/254.
(3) المصدر نفسه، 3/254 - 255.
(4) الشاطبي، الموافقات، 3/255.(1/458)
ولكن تفسير القرآن عمل جليل وخطير، فينبغي أن لا يقدم عليه إلا من كان أهلاً له، ومن كان كذلك فعليه أن لا يقول إلا عن علمٍ وبينه، مع الحذر من الخطأ فإن القول هو في بيان مراد الله تعالى. قال: "التحفظ من القول في كتاب الله تعالى إلا على بينة فإن الناس في العلم بالأدوات المحتاج إليها في التفسير على ثلاث طبقات: أحدها من بلغ في ذلك مبلغ الراسخين كالصحابة والتابعين ومن يليهم، وهؤلاء قالوا مع التوقي والتحفظ والهيبة والخوف من الهجوم فنحن أولى بذلك منهم إن ظننا أننا في العلم مثلهم وهيهات"(1).
__________
(1) المصدر نفسه، 3/254.(1/459)
وقال: "القول في القرآن يرجع إلى أن الله أراد كذا أو عنى كذا بكلامه المنزل وهذا عظيم الخطر"(1). وقال: "أن يكون على بالٍ من الناظر والمفسر والمتكلّم عليه أن ما يقوله تقصيد منه للمتكلم والقرآن كلام الله، فهو يقول بلسان بيانه هذا مراد الله من هذا الكلام فليتثبّت أن يسأله الله من أين قلت عني هذا؟" (2). لذلك فإذا لم يتثبّت المفسر من صحة قوله فلا يصح له القول به، وإنما يكون ذك بأن يكون التفسير جارياً على موافقة كلام العرب أي أن يكون مما يحتمله النص، وأن يكون موافقاً للقرآن والسنة أي أن يكون راجعاً إلى معنى مقطوع به. فإن كان النص يحتمل أكثر من معنى، وكانت المعاني المحتملة يرجع كل منها إلى معنى مقطوع به، فلا بد حينئذ من شاهدٍ لترجيح معنى على غيره، وبغير ذلك تكون المعاني محتملة، فلا يصح له الجزم بمعنى أو ترجيحه ويصح له أن يقول: يحتمل أن يكون المعنى كذا أو كذا، قال: "فليتثبت أن يسأله الله تعالى من أين قلت عني هذا؟ فلا يصح له ذلك إلا ببيان الشواهد، وإلا فمجرد الاحتمال يكفي بأن يقول يحتمل أن يكون المعنى كذا وكذا، بناء أيضاً على صحة تلك الاحتمالات في صلب العلم، وإلا فالاحتمالات التي لا ترجع إلى أصل غير معتبرة. فعلى كل تقدير لا بد في كل قول يجزم به أو يحمّل من شاهد يشهد لأصله وإلا كان باطلاً ودخل صاحبه تحت أهل الرأي المذموم والله أعلم"(3).
وعلى ذلك فالرأي المقبول في التفسير له شرطان. الأول: أن يكون جارياً على موافقة كلام العرب. والثاني: أن يكون موافقاً للكتاب والسنة. والقول المستوفي للشرط الأول يسميه الشاطبي الظاهر. أما القول المستوفي للشرطين معاً فيسميه الباطن، وهو الذي ينبغي التوصل إليه في التفسير، كما سيتبين.
للقرآن ظاهر وباطن:
__________
(1) المصدر نفسه، 3/257.
(2) الموضع نفسه.
(3) الشاطبي، الموافقات، 3/257.(1/460)
قال الشاطبي: "من الناس من زعم أن للقرآن ظاهراً وباطناً"(1). وذهب إلى أن هذا القول يصح بمعنى معين ولا يصح بغيره، وهو أن الظاهر هو ظاهر التلاوة أو الكلام نفسه ومعنى ألفاظه. أما الباطن فهو مراد الله تعالى من الخطاب قال: "والظاهر هو ظاهر التلاوة، والباطن هو الفهم عن الله لمراده"(2). وقال: "إن المراد بالظاهر هو المفهوم العربي والباطن هو مراد الله تعالى من كلامه وخطابه. فإن كان مراد من أطلق هذه العبارة ما فُسِّر فصحيح ولا نزاع فيه، وإن أرادوا غير ذلك فهو إثبات أمر زائد على ما كان معلوماً عند الصحابة ومن بعدهم فلا بد من دليل قطعي يثبت هذه الدعوى لأنها أصل يحكم به على الكتاب فلا يكون ظنياً"(3).
__________
(1) المصدر نفسه، 3/227، وانظر: الغزالي، مشكاة الأنوار.
(2) المصدر نفسه، 3/227.
(3) المصدر نفسه، 3/228. والظاهر بهذا المعنى هو الذي ينسب إلى الظاهرية الوقوف عنده. أما ما يتحاشاه من معنى للباطن فهو ما يأتي به من يسمّون بالباطنية، ولهم في التفسير مزاعم وخيالات لا ينهض لها دليل. وسنذكر بعضاً من ذلك.(1/461)
لذلك فإن تفسير القرآن وفهم معاني نصوصه إنما هو بفهم الباطن بالمعنى المذكور، وليس بالوقوف عند ظواهر النصوص، لأن فهم الظاهر ميسور. قال: "لأن الله تعالى قال: { فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } (1)، والمعنى لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب ولم يُرد أنهم لا يفهمون نفس الكلام، كيف وهو منزل بلسانهم ولكن لم يحظوا بفهم مراد الله من الكلام"(2). ويبيّن الشاطبي مراده بالباطن بأمثلة منها تفسير ابن عباس لقوله تعالى: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } (3) بقوله: إنما هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه إياه. وقول عمر رضي الله عنه: والله ما أعلم منها إلا ما تعلم(4). قال الشاطبي: "فظاهر هذه السورة أن الله أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يسبّح بحمد ربه ويستغفره إذ نصره الله وفتح عليه وباطنها أن الله نعى إليه نفسه"(5). وقال: "ولما نزل قوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (6) الآية فرح الصحابة وبكى عمر وقال: ما بعد الكمال إلا النقصان مستشعراً نعيه عليه الصلاة والسلام، فما عاش بعدها إلا أحداً وثمانين يوماً"(7).
__________
(1) سورة النساء، 78.
(2) الشاطبي، الموافقات، 3/227.
(3) سورة النصر، 1.
(4) الشاطبي، الموافقات، 3/228.
(5) المصدر نفسه، 3/228.
(6) سورة، المائدة، 3.
(7) الشاطبي، الموافقات، 3/228.(1/462)
وقال: "فكل ما كان من المعاني العربية التي لا ينبني فهم القرآن إلا عليها فهو داخل تحت الظاهر، فالمسائل البيانية والمنازع البلاغية لا معدل بها من ظاهر القرآن"(1). وقال: "وكل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب بوصف العبودية والإقرار لله بالربوبية هو الباطن المراد والمقصود والذي أنزل القرآن لأجله"(2). ثم قال: "وعلى الجملة فكل من زاغ ومال عن الصراط المستقيم فبمقدار ما فاته من باطن القرآن فهماً وعلماً. وكل من أصاب الحق وصادف الصواب فعلى مقدار ما حصل له من فهم باطنه"(3).
وفهم المعنى المراد،أي الباطن لا يكون إلا بعد فهم الظاهر. ومراد الله بالخطاب، وإن كان غير قطعي عند المفسر إلا انه لا بد أن يكون مما يحتمله الظاهر أو يقتضيه. قال: "كون الظاهر هو المفهوم العربي مجرداً لا إشكال فيه لأن الموالف والمخالف اتفقوا على أنه منزل بلسان عربي مبين"(4). وقال: "كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي فليس من علوم القرآن في شيء لا مما يستفاد منه ولا مما يستفاد به"(5).
__________
(1) المصدر نفسه، 3/230.
(2) المصدر نفسه، 3/231.
(3) المصدر نفسه، 3/234.
(4) المصدر نفسه، 3/233.
(5) الموضع نفسه.(1/463)
وبما أن فهم الباطن لا يتحقق إلى بعد فهم الظاهر، فلإدراك منهج الشاطبي في تفسير القرآن لا بد من إدراك منهجه في فهم الظاهر ومنهجه في فهم الباطن. مع التنبه دائماً إلى ما يشترطه لأجل إعمال الأدلة وهو أن يكون الدليل إما قطعياً أو راجعاً إلى معنى قطعي، والمعنى هنا هو أن يكون الباطن إما قطعياً وإما راجعاً إلى قطعي. قال: "لا بد في كل مسألة يُراد تحصيل علمها على أكمل الوجوه أن يلتفت إلى أصلها في القرآن فإن وجدت منصوصاً على عينها أو ذكر نوعها أو جنسها فذاك، وإلا فمراتب النظر فيها متعددة"(1). ثم قال: "وقد تقدم في القسم الأول من كتاب الأدلة قبل هذا أن كل دليل شرعي فإما مقطوع به أو راجع إلى مقطوع به، وأعلى مراجع المقطوع به القرآن الكريم فهو أول مرجوع إليه"(2).
كيفية فهم الظاهر:
نصوص القرآن عربية في ألفاظها وتراكيبها وأساليبها، وفهم دلالاتها مقيَّد بذلك. وهي وإن كانت غير قطعية الدلالة، فإن دلالاتها المحتملة محصورة بظواهر النصوص، وهو ما تبين قبل قليل. وقال: "وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر أيضاً مما تقدم في المسألة قبلها ولكن يشترط فيه شرطان. أحدهما: أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب ويجري على المقاصد العربية"(3). وقال إن هذا "ظاهر من قاعدة كون القرآن عربياً فإنه لو كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب لم يوصف بكونه عربياً بإطلاق ولأنه مفهوم يلصق بالقرآن ليس في ألفاظه ولا في معانيه ما يدل عليه. وما كان كذلك فلا يصح أن ينسب إليه أصلاً إذ ليست نسبته إليه على أنه مدلوله أولى من نسبة ضده إليه ولا مرجح يدل على أحدهما فإثبات أحدهما تحكم وتقول على القرآن ظاهر، وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم من قال في كتاب الله بغير علم، والأدلة المذكورة في أن القرآن عربي جارية هنا"(4).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 3/221.
(2) الموضع نفسه.
(3) المصدر نفسه، 3/235.
(4) الموضع نفسه.(1/464)
ولتحقيق هذا الشرط وهو فهم الظاهر أي مدلول النص من حيث كونه كلاماً عربياً يجب معرفة أسباب التنزيل، وما تتضمنه من معرفة قرائن الأحوال والأقوال، إذ يختلف المعنى بحسب المخاطبين، ويحتمل الأمر أن يكون للوجوب أو الندب أو الإباحة، أو أن يكون من قبيل التكليف أو التهديد أو التعجيز أو غير ذلك، وقد يأتي الأمر عاماً يراد به الخاص، وقد يأتي بلفظ أو عبارة لها في الوضع دلالة، ولها في الاستعمال دلالة أخرى، وقد يكون اللفظ مشتركاً أو مجازياً أو له معنى في أصل الوضع ومعنى في الشرع ومعنى في العرف، وبالجملة فإن النصوص تنزل بمناسبات ومعها من قرائن الأحوال والأقوال ما يؤثر في المعنى. قال: "معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن"(1). وقال: "علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلاً عن معرفة مقاصد كلام العرب إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِب أو المخاطَب أو الجميع"(2). وقال: "كالاستفهام لفظ واحد ويدخله معانٍ أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك. وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة. وعمدتها مقتضيات الأحوال وليس كل حالٍ ينقل ولا كل قرينةٍ تقترن بنفس الكلام المنقول وإذا فات بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة أو فهم شيء منه، وفهم الأسباب رافعة لكل شكل في هذا النمط فهي من المهمات في فهم الكلام بلا بد، ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال"(3).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 3/201.
(2) الموضع نفسه.
(3) الموضع نفسه.(1/465)
ويضرب الشاطبي أمثلة لذلك منها أن قدامة بن مظعون وهو من الصحابة رضي الله عنهم شرب الخمر فسكر، وقامت عليه البينة في ذلك. قال الشاطبي: "فقال عمر: يا قدامة إني جالدك قال: والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني، قال عمر: لِمَ؟ قال: لأن الله يقول: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ } (1) إلخ فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله"(2). وقال: "فقال عمر: ألا تردون عليه قوله. فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذراً للماضين وحجة على الباقين، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر وحجة على الباقين لأن الله يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } (3) ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى. فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر. قال عمر: صدقت"(4).
وذكر الشاطبي حادثة مماثلة ثم قال: "ففي الحديثين بيان أن الغفلة عن أسباب التنزيل تؤدي إلى الخروج عن المقصود من الآيات"(5).
كيفية فهم الباطن:
__________
(1) سورة المائدة، 93، والآية بتمامها: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } .
(2) الشاطبي، الموافقات، 3/203.
(3) سورة المائدة، 9، والآية بتمامها: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
(4) الشاطبي، الموافقات، 3/203.
(5) الموضع نفسه.(1/466)
إن الشرط الأول لفهم الباطن هو فهم الظاهر، ودلالات النصوص على معانيها غير قطعية عند الشاطبي، ولكنها محصورة بظواهر النصوص، وإذا اكتملت شروط فهم الظاهر كما تبين أعلاه، فثم شروط غيرها ليتقرر المعنى المراد بالنص، أي الباطن، سواء على سبيل الجزم أو الترجيح. فإذا توفرت هذه الشروط حصل الفهم المقبول شرعاً.
فالنص يحتمل أكثر من معنى بحسب الظاهر، والظاهر المحتمل له شروط حتى يقبل أولها حسبما تبين سابقاً أن يكون المعنى راجعاً إلى معنى قطعي ثابت بالاستقراء وذلك بأن يكون متضمناً فيه أو خادماً له. فإن كان هذا المعنى الظاهر المحتمل معارضاً لأصل كلي في الشريعة وجب العدول عنه وطرحه.
ومن شروط قبول المعنى الظاهر المحتمل أن يكون له شاهد يرجحه على غيره من المعاني المحتملة. وذلك أن المعاني المحتملة لظاهر النص - وهي المعاني التي توفرت فيها شروط الظاهر - قد يتوفر لأكثر من واحد منها أصل كلي بمعناها، وتعيين واحد منها دون غيره ترجيح من غير مرجح وهذا لا يصح إذ هو قول في الشرع وفي القرآن بغير بينة، والشرط الأخير أن لا يكون هناك معارض للمعنى، إذ المعارض هو قرينة على مرجوحيته.(1/467)
قال في بيان شروط المراد من الخطاب وهو الباطن: "ولكن يشترط فيه شرطان أحدهما: أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب ويجري على المقاصد العربية. والثاني: أن يكون له شاهد نصاً أو ظاهراً في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض"(1). أما الشرط الأول فقد مرَّ الحديث عنه عند الحديث عن كيفية فهم الظاهر، أما الثاني فقال فيه: "وأما الثاني فلأنه إن لم يكن له شاهد في محل آخر أو كان له معارض صار من جملة الدعاوى التي تدعى على القرآن والدعوى المجردة غير مقبولة باتفاق العلماء"(2). أما عدم ذكره هنا لشرط الرجوع إلى قطعي، فلأن هذا الشرط عام في كل دليل، وقد حصل تأكيد هذا الأمر سابقاً، وحديثه هنا خاص في شروط تفسير نصوص القرآن، لذلك فهذا الشرط معتبر ضمناً.
إشكالات على منهج الشاطبي في فهم معاني القرآن:
هذا هو منهج الشاطبي في تفسير القرآن أو في تقرير المعاني، إلا أن ثمة تفسيرات لبعض النصوص قال بها الصحابة أو التابعون أو أئمة معتبرون لا تتفق مع ما ذكره بشكل كامل، لذلك فهو يستشكلها ويحاول تبريرها أو إعادتها إلى منهجه إن أمكن. يقول: "تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي، وحيث جاء جزئياً فمأخذه على الكلية إما بالاعتبار أو بمعنى الأصل إلا ما خصه الدليل مثل خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - "(3).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 3/235.
(2) المصدر نفسه، 3/236.
(3) المصدر نفسه، 3/216.(1/468)
أما أن تعريف القرآن بالأحكام كلي لا جزئي، فقد سبق بيانه وهو أن القرآن الكريم فيه بيان كل شيء، فهو مع اختصاره جامع، ولا يكون كذلك إلا إذا كان المجموع فيه قواعد كلية تنطبق على ما يندرج تحتها من جزئيات كثيرة وإن لم ينص عليها عيناً. ولا يعني هذا أن لا ينص على جزئيات(1). ولذلك قال: "أكثره كلي". ولكن هذه الجزئيات التي نص عليها القرآن لا بد أن تكون قطعية أو راجعة إلى أصول قطعية، ولا تكون قطعية إلا إذا تضافرت معها جزئيات كثيرة في معناها وهذا يؤدي إلى أن تكون كلية، وهذا بخلاف قوله إنها جزئيات، لذلك فهي جزئيات ويجب أن تكون راجعة إلى أصول كلية، لذلك قال: "فمأخذه على الكلية" وذلك كما يرجع تحريم الخمر إلى حفظ العقل، وكما يرجع النهي عن عبادة الأصنام أو أصنام بعينها كاللات والعزى إلى عبادة الله وحده، وهذا معنى قوله: "فمأخذه على الكلية بمعنى الأصل". أما قوله: "فمأخذه على الكلية بالاعتبار" فهو بسبب ما يستشكله من تفسيرات أو استدلالات كما سيتبين.
ومراده بالاعتبار هو أن يكون المعنى المأخوذ أو المفسَّر به موافقاً للمعنى الصحيح الجاري بحسب شروط الظاهر والراجع إلى أصل، أي أن يكون موافقاً له وليس هو هو، وهو معنى الاعتبار كما تبين في الفصل الأول. لذلك فالإشكال يأتي من جهتين. الأولى: ظاهر النص، إذ قد يأتي التفسير على غير المعهود من كلام العرب وأساليبهم، ومع ذلك فالشاطبي يقول بقبوله. والجهة الثانية للإشكال هي جهة الباطن، كأن لا يكون المعنى راجعاً إلى أصل قطعي، وليس له شاهد بالاعتبار، ومع أن منهج الشاطبي رده أو التوقف فيه، فإنه قال بإمكانية قبوله في حالات إذا وجدت فهي قليلة. وفيما يلي أمثلة للتوضيح.
__________
(1) كما نص على الخمر والخنزير والميسر وما شابه ذلك.(1/469)
أما ما لم يجر بحسب الظاهر، فقد أورد الشاطبي أمثلة عليه، منها قوله: "وقد وقعت في القرآن تفاسير مشكلة يمكن أن تكون من هذا القبيل(1) أو من قبيل الباطن الصحيح وهي منسوبة لأناس من أهل العلم، وربما نسب منها إلى السلف الصالح. فمن ذلك فواتح السور نحو { الم } و { المص } و { حم } "(2). قال: "فينقلون عن ابن عباس أن { الم } أن ألف الله ولام جبريل وميم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا إن صح في النقل فمشكل لأن هذا النمط من التصرف لم يثبت في كلام العرب هكذا مطلقاً، وإنما أتى مثله إذا دل عليه الدليل اللفظي أو الحالي"(3). وقال: "كما أنه نقل أن هذه الفواتح أسرار لا يعلم تأويلها إلا الله وهي أظهر الأقوال فهي من قبيل المتشابهات"(4) ومن أمثلته أيضاً ما جاء في تفسير قوله تعالى: { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } (5) أي أضداداً، حيث قيل، وأكبر الأنداد النفس الأمارة بالسوء(6). وهذا مشكل عند الشاطبي، لأن الظاهر بحسب شروطه من أسباب النزول ومقتضى القرائن أن الأنداد هي الأصنام وليست النفس.
__________
(1) من هذا القبيل: أي من قبيل ما أتى به الباطنية مما هو مخالف للباطن والظاهر معاً. كقولهم: الكعبة النبي، والباب علي، والصفا هو النبي والمروة علي. وكقولهم: عصا موسى حجته التي تلقفت شبه السحرة، وانفلاق البحر علم موسى عليه السلام فيهم، والبحر هو العالم، وكقولهم: تسبيح الجبال رجال شداد في الدين. والجن الذين ملكهم سليمان باطنية ذلك الزمان، والشياطين هم الظاهرية الذين كلفوا الأعمال الشاقة. وغير ذلك. أنظر: الموافقات 3/236.
(2) الشاطبي، الموافقات، 3/237.
(3) الموضع نفسه.
(4) الموضع نفسه.
(5) سورة، البقرة، 22.
(6) الشاطبي، الموافقات، 3/238.(1/470)
قال: "وهذا مشكل الظاهر جداً إذ كان مساق الآية ومحصول القرائن فيها يدل على أن الأندادَ الأصنامُ أو غيرها مما كانوا يعبدون ولم يكونوا يعبدون أنفسهم ولا يتخذونها أرباباً"(1). وعقب قائلاً: "ولكن له وجه جارٍ على الصحة وذلك أنه لم يقل إن هذا هو تفسير الآية، ولكن أتى بما هو ند في الاعتبار الشرعي الذي شهد له القرآن من جهتين. إحداهما: أن الناظر قد يأخذ من معنى الآية معنى من باب الاعتبار فيجريه فيما لم تنزل فيه لأنه يجامعه في القصد أو يقاربه، لأن حقيقة الند أنه المضاد لنده الجاري على مناقضته والنفس الأمارة هذا شأنها"(2).
إذاً، معنى الاعتبار في قوله: "فمأخذه على الكلية بالاعتبار" هو إجراء معنى الآية في شيء يشترك في القصد مع الشيء الذي نزلت فيه أو يقاربه، هذا من جهة الظاهر أما الإشكال من جهة الباطن فليس موجوداً في هذا المثال. وهو أن يكون المعنى الذي توفرت فيه شروط الظاهر لا يرجع إلى أصل كلي أو ليس له شاهد بالاعتبار، ولا يمكن القول بالتوقف وعدم إعمال النص، لأنه نص قرآن ومما ينبني عليه تكليف، فإعماله واجب وإهماله لا يصح.
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) المصدر نفسه، 3/238 - 239.(1/471)
والذي يقوله الشاطبي في هذه الحالة هو أنها فرضية لا وجود لها، وإن وجدت فوجودها نادر لا يضير المنهج، يقول: "الظني الذي لا يشهد له أصل قطعي ولا يعارض أصلاً قطعياً فهو في محل النظر. وبابه باب المناسب الغريب، فقد يقال: لا يقبل لأنه إثبات شيء على غير ما عهد في مثله، والاستقراء يدل على أنه غير موجود، وهذان يوهنان التمسك به على الإطلاق لأنه في محل الريبة"(1). وهكذا فمثل هذه الحالة لم تقع والاستقراء يؤكد هذا، فإذا افترض وقوعها فما العمل؟ يقول: "وقد أعمل العلماء المناسب الغريب في أبواب القياس، وإن كان قليلاً فذلك غير ضائر إذا دل الدليل على صحته"(2). ويتلخص حل الإشكال في هذه الحالة بأن القرآن جاء بالكليات وكان نزوله بحيث يكون اللاحق فيه بياناً للسابق، وكذلك السنة جاءت بياناً للقرآن، وكذلك ما جاء عن السلف الصالح الذين هم أعرف باللغة ودلالاتها وبالشريعة ومقاصدها، لذلك فإذا جاء شيء من الأدلة التي هي جزئية، فهو في الأصل بيان للكليات فإذا لم نستطع إرجاعه إلى كليات، يمكن الاستعانة بشواهد من الجزئيات، إذ قد يتوفر لها معنى يثبت كلياً فترجع إليه، وهذا لا يضر ولا يقدح في أصل المنهج لأنه إن وجد فهو قليل، لذلك فإذا لم يوجد أصل قطعي يرجع المعنى إليه أو أي شاهد بالاعتبار، فمطلق الفهم العربي للنص يصح إعماله. يقول: "فعلى هذا لا ينبغي في الاستنباط من القرآن الاقتصار عليه دون النظر في شرحه وهو السنة، لأنه إذا كان كلياً وفيه أمور كلية كما في شأن الصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها فلا محيص عن النظر في بيانه وبعد ذلك ينظر في تفسير السلف الصالح فإنهم أعرف به من غيرهم، وإلا فمطلق الفهم العربي لمن حصله يكفي فيما أعوز من ذلك والله أعلم"(3).
__________
(1) المصدر نفسه، 3/12.
(2) الشاطبي، الموافقات، 3/12.
(3) المصدر نفسه، 3/217 - 218.(1/472)
وقال: "لا بد في كل مسألة يراد تحصيل علمها على أكمل الوجوه أن يلتفت إلى أصلها في القرآن، فإن وجدت منصوصاً على عينها أو نوعها أو جنسها فذاك، وإلا فمراتب النظر فيها متعددة"(1). ثم قال: "وقد تقدم في القسم الأول من كتاب الأدلة قبل هذا أن كل دليل شرعي فإما مقطوع به أو راجع إلى مقطوع به، وأعلى مراجع المقطوع به القرآن الكريم فهو أول مرجوع إليه. أما إذا لم يرد من المسألة إلا العمل خاصة فيكفي الرجوع فيها إلى السنة المنقولة بالآحاد، كما يكفي الرجوع فيها إلى قول المجتهد وهو أضعف. وإنما يرجع فيها إلى أصلها في الكتاب لافتقارها إلى ذلك في جعلها أصلاً يرجع إليه، أو ديناً يدان الله به، فلا يكتفى بتلقيها من أخبار الآحاد كما تقدم"(2).
وبناء على ما سبق، فإن التفسير الذي يشكل على منهج الشاطبي، إنما هو من جهة الظاهر، والشاطبي يرده، وإنما أجهد نفسه في بيان إمكانية اعتباره لأنه صادر عمن قوله معتبر، وهذا مصدر الإشكال أصلاً، لذلك ينبغي التنبه إلى أنه رد تفسير ابن عباس رضي الله عنه لفواتح السور، وكذلك رد تفسير الأنداد بالنفس في قوله تعالى: { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } (3). لذلك قال في فواتح السور: "نُقل أن هذه الفواتح أسرار لا يعلم تأويلها إلا الله وهو أظهر الأقوال فهي من قبيل المتشابهات"(4). وكذلك رد تفسير الأنداد بالنفس فقال: "ولكن له وجه جار على الصحة وذلك أنه لم يقل إن هذا هو تفسير الآية"(5). أما استشكال هذه الأقوال والتكلف في إيجاد وجه من وجوه الاعتبار لها فهو لجلالة من نقلت عنهم، قال: "وإنما احتيج إلى هذا كله لجلالة من نقل عنهم ذلك من الفضلاء"(6).
__________
(1) المصدر نفسه، 3/221.
(2) الموضع نفسه.
(3) سورة، البقرة، 22.
(4) الشاطبي، الموافقات، 3/237.
(5) المصدر نفسه، 3/238 - 239.
(6) المصدر نفسه، 3/242.(1/473)
ولذلك رد بعض التفسيرات وإن كانت صادرة عن علماء كما في تفسير الجار ذي القربى بالقلب، والجار الجنب بالنفس الطبيعي والصاحب الجنب بالعقل المقتدى به في الشرع وابن السبيل بالجوارح المطيعة لله عز وجل، وقال إن هذا: "لا يعرفه العرب لا من آمن منهم ولا من كفر، والدليل على ذلك أنه لم ينقل عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين تفسير للقرآن يماثله أو يقاربه ولو كان عندهم معروفاً لنقل. لأنهم كانوا أحرى بفهم ظاهر القرآن وباطنه باتفاق الأئمة، ولا يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها ولا هم أعرف بالشريعة منهم ولا أيضاً ثم دليل يدل على صحة هذا التفسير لا من مساق الآية فإنه ينافيه ولا من خارج إذ لا دليل عليه كذلك، بل مثل هذا أقرب إلى ما ثبت رده ونفيه عن القرآن من كلام الباطنية ومن أشبههم"(1).
أمثلة على منهج الشاطبي في فهم معاني القرآن:
أحكام الشريعة كلها موجودة في القرآن في كليات يخدم بعضها بعضاً، لذلك يلزم لمن أراد تحصيل العلم بالشريعة العلم بكلياتها المجموعة في القرآن، فهذا يمكنه من تنزيلها على جزئياتها. والعلم بالكليات يلزم له العلم بالقرآن، وملازمته الدائمة لأجل التنبه إلى ما فيه من معانٍ لا تنقض، وحكم وحقائق لا تزال تستجد على الناظرين فيه، ولا يحصل ذلك إلا بدوام قراءته وتدبر ما فيه، قال: "فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال"(2). وقال: "إن الكتاب قد تقرر أنه كلية الشريعة وعمدة الملة وينبوع الحكمة وآية الرسالة"(3)، ثم قال: "وإذا كان كذلك لزم لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها واللحاق بأهلها أن يتخذه سميره وأنيسه وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي نظراً وعملاً لا اقتصاراً على أحدهما"(4).
__________
(1) المصدر نفسه، 3/241.
(2) الشاطبي، الموافقات، 3/217.
(3) المصدر نفسه، 3/200.
(4) الموضع نفسه.(1/474)
فمن ذينك الملازمة والالتزام يزداد العلم بالقرآن وبأساليبه ومعانيه وبما فيه فيتحصل من ذلك استفادة للمعاني، واستقصاء لها مما يؤدي إلى إدراك الكليات القرآنية. وقد وضع الشاطبي قاعدتين أو أصلين ربما أراد منهما وضع أمثلة لما تفيده مجالسة القرآن واستقصاء معانيه، الأولى تفيد في استنباط المعاني بالرجوع إلى قاعدة كلية. والثانية في السلوك والتأدب بأدب القرآن.
أما الأولى فهي: "كل حكاية وقعت في القرآن فلا يخلو أن يقع قبلها، أو بعدها وهو الأكثر، رد لها أو لا، فإن وقع رد فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي أو كذبه، وإن لم يقع معها رد فذلك دليل على صحة ذلك المحكي وصدقه"(1).
__________
(1) المصدر نفسه، 3/206.(1/475)
ودليل الشاطبي على هذه المسألة هو استقراؤه للحكايات التي وردت في القرآن واستقصاؤه لها ولما وقع له رد ولما لم يقع له رد(1)، وعلى ذلك بنى أصله المذكور. ثم قال: "ولاطراد هذا الأصل اعتمده النظار فقد استدل جماعة من الأصوليين على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة بقوله تعالى: { قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ } (2) الآية، إذ لو كان قولهم باطلاً لرد عند حكايته"(3). ومن طريف ما ذكره بناء على هذا الأصل استدلاله على أن أصحاب الكهف كانوا سبعة وثامنهم كلبهم. قال: "واستدل على أن أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم بأن الله تعالى لما حكى من قولهم إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم وإنهم خمسة سادسهم كلبهم أعقب ذلك بقوله: { رَجْمًا بِالْغَيْبِ } (4)، أي ليس لهم دليل ولا علم غير اتباع الظن، ورجم الظنون لا يغني من الحق شيئاً، ولما حكى قولهم: سبعة وثامنهم كلبهم لم يتبعه بإبطال بل قال: { قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ } (5)، دل المساق على صحته دون القولين الأولين. وروي عن ابن عباس أنه كان يقول: أنا من ذلك القليل الذي يعلمهم"(6).
__________
(1) المصدر نفسه، 3/206 - 208.
(2) سورة، المدثر، 43 - 44.
(3) الشاطبي، الموافقات، 3/208.
(4) سورة الكهف، 22.
(5) سورة الكهف، 22.
(6) الشاطبي، الموافقات، 3/208.(1/476)
ومن ذلك أيضاً الاستدلال على أن طمأنينة القلب هي زيادة في الإيمان، وذلك من قول إبراهيم عليه السلام: { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى } (1)، وحين سئل: { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } (2)، فلو علم الله تعالى منه شكاً لأظهره، فصح أن الطمأنينة كانت على معنى الزيادة في الإيمان، بخلاف ما حكى الله عن قوم من الأعراب في قوله: { * قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا } (3)، فإن الله تعالى رد عليهم: { قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } (4) (5).
__________
(1) سورة البقرة، 260.
(2) سورة البقرة، 260.
(3) سورة الحجرات، 14.
(4) سورة الحجرات، 14.
(5) الشاطبي، الموافقات، 3/208.(1/477)
أما القاعدة الثانية فهي: "إذا ورد في القرآن الترغيب قارنه الترهيب في لواحقه أو سوابقه أو قرائنه أو بالعكس، وكذلك الترجية مع التخويف، وما يرجع إلى هذا المعنى مثله"(1). وذلك أن الإنسان قابل لأن يميل إلى طرف الانحلال، وإلى طرف التشدد. فجاء الترغيب والترهيب مؤدباً، وحاملاً له على ما هو الوسط والعدل، وليبقيه بين الخوف والرجاء، فإن مال إلى طرف الانحلال جاءه بالتخويف وإن مال إلى التشدد جاءه بالترجية. وقد ذكر الشاطبي أن هذه القاعدة مطردة في القرآن على أنها من أفعال الخالق الحكيم الخبير، وقال: "وبهذا كان عليه الصلاة والسلام يؤدب أصحابه ولما غلب على قوم جانب الخوف قيل لهم: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } (2) الآية، وغلب على قوم جانب الإهمال في بعض الأمور فخوفوا وعوتبوا كقوله: { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ } (3) الآية. فإذا ثبت هذا من ترتيب القرآن ومعاني آياته فعلى المكلف العمل على وفق ذلك التأديب"(4).
ولهذا النمط في استفادة الأحكام في قواعد السلوك وآدابه أمثلة يشير إليها الشاطبي في أكثر من موضع من كتابه، وترجع - عنده - إلى أصل يسميه أصل التخلق بصفات الله والاقتداء بأفعاله حيث كل واحدة من هذه الصفات هي قاعدة تستفاد بالاستقراء.
__________
(1) المصدر نفسه، 3/210.
(2) سورة الزمر، 53.
(3) سورة الأحزاب، 57.
(4) الشاطبي، الموافقات، 3/216.(1/478)
كما أن الأصل نفسه يحتاج إلى استقراء يفيد القطع به، يقول: "ويتبين صحة الأصل المذكور في كتاب الاجتهاد، وهو أصل التخلق بصفات الله والاقتداء بأفعاله ويشتمل على أنواع من القواعد الأصلية والفوائد الفرعية والمحاسن الأدبية فلنذكر منها أمثلة يستعان بها في فهم المراد، فمن ذلك عدم المؤاخذة قبل الإنذار دل على ذلك إخباره تعالى عن نفسه بقوله: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } (1)، فجرت عادته في خلقه أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل، فإذا قامت الحجة عليهم { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } (2) ولكل جزاء مثله"(3)، ومن ذلك أيضاً: الإبلاغ في إقامة الحجة، ومنها ترك الأخذ من أول مرة بالذنب، ومنها تحسين العبارة بالكناية ونحوها في المواطن التي يحتاج فيها إلى ذكر ما يستحيى من ذكره في عادتنا كقوله تعالى: { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } (4)، و { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ } (5) وغيرها(6).
منهج الشاطبي في استقراء المعاني في القرآن:
__________
(1) سورة الإسراء، 15.
(2) سورة الكهف، 29.
(3) الشاطبي، الموافقات، 3/223.
(4) سورة النساء، 43.
(5) سورة التحريم، 12.
(6) الشاطبي، الموافقات، 3/224.(1/479)
يرى الشاطبي أن الكليات هي أول القرآن نزولاً وقد نزل أكثرها بمكة، لذلك كان ما نزل بعد ذلك بياناً وشرحاً وتفصيلاً لتلك الكليات. لذلك فعلى من أراد استقصاء المعاني وإثبات الكليات أن يتبع في ذلك ترتيب القرآن في النزول. قال: "إعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولاً والتي نزل بها القرآن على نبيه بمكة ثم تبعها أشياء بالمدينة كملت بها تلك القواعد التي وضع أصلها بمكة"(1). وقال: "وإنما كانت الجزئيات المشروعة بمكة قليلة والأصول الكلية كانت في النزول والتشريع أكثر"(2). وقال: "القرآن فيه بيان كل شيء على ذلك الترتيب المتقدم"(3)، وقال: "المدني من السور ينبغي أن يكون منزلاً في الفهم على المكي، وكذلك المكي بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض على حسب ترتيبه في التنزيل وإلا لم يصح. والدليل على ذلك أن معنى الخطاب المدني في الغالب مبني على المكي كما أن المتأخر من كل واحد منهما مبني على متقدمه دل على ذلك الاستقراء"(4).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 3/62.
(2) الموضع نفسه.
(3) المصدر نفسه، 3/218.
(4) المصدر نفسه، 3/244 - 245.(1/480)
ويؤكد الشاطبي كلامه بأن من أوائل ما نزل في مكة سورة الأنعام ومن أوائل ما نزل بالمدينة سورة البقرة، فيقول: "فإنها(1) نزلت مبينة لقواعد العقائد وأصول الدين، وقد خرج العلماء منها قواعد التوحيد التي صنف فيها المتكلمون من أول إثبات واجب الوجود إلى إثبات الإمامة، هذا ما قالوا"(2)، ثم قال: "ولما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة كان من أول ما نزل عليه سورة البقرة وهي التي قررت قواعد التقوى المبنية على قواعد سورة الأنعام"(3). وبعد أن ذكر بعض التفاصيل في ذلك قال: "فغيرها من السور المدنية المتأخرة عنها مبنية عليها كما كان غير الأنعام من المكي المتأخر عنها مبنياً عليها. وإذا تنزلت إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيب وجدتها كذلك حذو القذة بالقذة، فلا يغيبن على الناظر في الكتاب هذا المعنى فإنه من أسرار علوم التفسير وعلى حسب المعرفة به تحصل له المعرفة بكلام ربه سبحانه"(4).
__________
(1) فإنها: أي سورة الأنعام.
(2) الشاطبي، الموافقات، 3/245.
(3) الموضع نفسه.
(4) الشاطبي، الموافقات، 3/245.(1/481)
وهكذا، ففروع الشريعة كلها ترجع إلى كليات كلها في القرآن، والكليات هي الأسبق نزولاً كما أن هذه الكليات ترجع في معانيها إلى أصول كلية، وهكذا حتى ترجع الشريعة إلى كلية واحدة، وهذه الكليات إنما تثبت كليات من خلال الوجوه الكثيرة التي تفيدها كما يظهر النص التالي: يقول: "وغالب المكي أنه مقرر لثلاثة معان أصلها معنى واحد وهو الدعاء إلى عبادة الله تعالى. أحدها: تقرير الوحدانية لله الواحد الحق غير أنه يأتي على وجوه كنفي الشريك بإطلاق، أو نفيه بقيد ما ادعاه الكفار من كونه مقرباً إلى الله زلفى أو كونه اتخذ ولداً أو غير ذلك من أنواع الدعاوى الفاسدة، والثاني: تقرير النبوة للنبي محمد وأنه رسول الله إليهم جميعاً صادق فيما جاء به من عند الله إلا أنه وارد على وجوه أيضاً كإثبات كونه رسولاً حقاً ونفى ما ادعوه عليه من أنه كاذب أو ساحر أو مجنون أو يعلمه بشر أو ما أشبه ذلك من كفرهم وعنادهم. والثالث إثبات أمر البعث والدار الآخرة وأنه حق لا ريب فيه بالأدلة الواضحة والرد على من أنكر ذلك بكل وجه يمكن الكافر إنكاره به، فرد بكل وجه يلزم الحجة ويبكت الخصم ويوضح الأمر، فهذه المعاني الثلاثة هي التي اشتمل عليها المنزل من القرآن بمكة في عامة الأمر، وما ظهر ببادئ الرأي خروجه عنها فراجع إليها في محصول الأمر"(1). ولأهمية هذا النص - أعلاه - في منهجه فقد ذكرته بتمامه، كما أن معناه مبثوث في مواضع كثيرة من كتابه، وهو يكرره نفسه في موضع آخر فيقول: "وذلك أنه(2) محتوٍ من العلوم على ثلاثة أجناس هي المقصود الأول، أحدها: معرفة المتوجه إليه، والثاني: معرفة كيفية التوجه إليه.
__________
(1) المصدر نفسه، 3/251. وهذا النص هام جداً في بيان منهجه إذ يبيّن كيف تتضافر جزئيات كثيرة على معنى كلي واحد. وكيف تتضافر كليات وترجع إلى كلية واحدة.
(2) أنه: أي القرآن الكريم.(1/482)
والثالث: معرفة مآل العبد ليخاف الله به ويرجوه، وهذه الأجناس الثلاثة داخلة تحت جنس واحد هو المقصود عبر عنه قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (1)، فالعبادة هي المقصود الأول"(2).
المبحث الثالث
منهج الشاطبي في فهم السنة
موضوع هذا المبحث:
السنة هي مصدر التشريع الثاني بعد الكتاب، وهي بيان للكتاب، وقد تبين رأي الشاطبي فيما سبق أن السنة ليس فيها تشريع زائد على الكتاب، أي تشريع ليس له اصل في الكتاب، والمراد بهذا المبحث بيان كيفية بيان السنة للكتاب عند الشاطبي، وكيف يُرجع الأحكام الشرعية الثابتة في السنة إلى أصولها في الكتاب وبخاصة تلك التي قد يعترض بها على رأيه بأن السنة استقلت بتشريعها ولا أصل لها في الكتاب.
والمراد أيضاً بيان موقفه بأن ما يصلنا من السنة مما لا يمكن إرجاعه إلى أصل في الكتاب فيجب التوقف فيه ولا يصح إعماله، وكذلك مما أريد بهذا المبحث بيان رأي الشاطبي في دلالة الفعل على الأحكام الشرعية، إذ فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو من السنة، ودلالة الفعل ليست كدلالة القول.
تعريف السنة عند الشاطبي:
يطلق الشاطبي لفظ "السنة" كمصدر للتشريع على ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير وعلى ما جاء عن الصحابة أو الخلفاء الراشدين.
__________
(1) سورة الذاريات، 56.
(2) الشاطبي، الموافقات، 3/225.(1/483)
أما ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فواضح ومتفق عليه أنه السنة، أما ما جاء عن الصحابة فالمقصود به إجماعهم رضي الله عنهم كمصدر للتشريع مبني على أدلة شرعية عرفوها ولم تنقل إلينا. أما عمل الخلفاء الراشدين فراجع أيضاً إلى حقيقة الإجماع. قال بعد أن جاء بمعانٍ يطلق عليها لفظ السنة: "وإذا جمع ما تقدم تحصل منه في الإطلاق أربعة أوجه، قوله عليه الصلاة والسلام وفعله وإقراره، وكل ذلك إما متلقى بالوحي أو بالاجتهاد بناء على صحة الاجتهاد في حقه وهذه ثلاثة والرابع ما جاء عن الصحابة أو الخلفاء"(1). وقال: "ويطلق أيضاً لفظ السنة على ما عمل عليه الصحابة وجد ذلك في الكتاب أو السنة أو لم يوجد لكونه اتباعاً لسنةٍ ثبتت عندهم لم تنقل إلينا أو اجتهاداً مجتمعاً عليه منهم أو من خلفائهم. فإن إجماعهم إجماع، وعمل خلفائهم راجع أيضاً إلى حقيقة الإجماع حسبما اقتضاه النظر المصلحي عندهم، فيدخل تحت هذا الإطلاق المصالح المرسلة والاستحسان كما فعلوا في حد الخمر وتضمين الصُنّاع وجمع المصحف وحمل الناس على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة وتدوين الدواوين وما أشبه ذلك"(2). وهو يقصد بالإجماع إجماع الصحابة دون من بعدهم. قال: "سنة الصحابة رضي الله عنهم سنة يعمل عليها ويرجع إليها ومن الدليل على ذلك أمور، أحدها، ثناء الله عليهم من غير استثناء ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها"(3). وقال: "فلا يقال إن هذا عام في الأمة فلا يختص بالصحابة دون من بعدهم لأنا نقول: أولاً: ليس كذلك بناء على أنهم هم المخاطبون على الخصوص ولا يدخل معهم من بعدهم إلا بقياس وبدليل آخر"(4). ومراده بأنهم هم المخاطبون على الخصوص أي بالمديح وبالتعديل وبما يرجع إلى ذلك.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/3.
(2) الشاطبي، الموافقات، 4/2.
(3) المصدر نفسه، 4/40.
(4) الموضع نفسه.(1/484)
وقال: "بيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيان صحيح لا إشكال في صحته لأنه لذلك بُعث. قال تعالى { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } (1) ولا خلاف فيه، وأما بيان الصحابة فإن أجمعوا على ما بيّنوه فلا إشكال في صحته أيضاً"(2).
أما عمل الخلفاء الداخل في السنة فهو عمل الخلفاء الراشدين، إذ إنه راجع إلى الإجماع، والإجماع هو إجماع الصحابة. فلا يكون عمل الخلفاء داخلاً في إجماع الصحابة إلا إذا كانوا الخلفاء الراشدين. وذلك أن الخليفة له حق الطاعة على الأمة. فيحمل الناس على أمر شرعي فيتحقق بذلك الإجماع. ويستشهد الشاطبي على عمل الخلفاء الراشدين وإجماع الصحابة في أكثر من موضع من كتابه بالحديث: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ"(3)"(4).
وعلى ذلك فالسنة هي: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله وإقراره وما جاء عن الصحابة بالإجماع وعن الخلفاء الراشدين. وهذا الأخير ليس المقصود به إجماعهم وإنما ما جاء عن الخليفة الراشد من قول أو فعل أو تقرير وقبل به الصحابة بالإجماع فبذلك يكون راجعاً إلى إجماع الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً.
السنة بيان للكتاب:
__________
(1) سورة النحل، 44.
(2) الشاطبي، الموافقات، 3/ 195.
(3) أخرجه الترمذي (2600) وقال: حسن صحيح. وابو داود (3991) وابن ماجه (42)، و(43) وأحمد (16521) والدارمي (95).
(4) الشاطبي، الموافقات، 3/196 - 197 و4/3.(1/485)
يقول الشاطبي: "السنة راجعة في معناها إلى الكتاب فهي تفصيل مجمله وبيان مشكله وبسط مختصره، وذلك لأنها بيان له وهو الذي دل عليه قوله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } (1)، فلا تجد في السنة أمراً إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية، وأيضاً فكل ما دل على أن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها فهو دليل على ذلك"(2).
والسنة تأتي ثانياً في الدلالة على الأحكام بعد الكتاب، وذلك أنها بيان وشرح وتفصيل له فلا يمكن أن تتقدم عليه، وكذلك فإن أخبار السنة ظنية الثبوت والقرآن قطعي كله، والقطع في السنة هو في ثبوتها كمصدر للتشريع أي كدليل إجمالي. بل إن الشاطبي كما نفى وجود الدلالة القطعية للنصوص على المعاني، فقد نفى - أو كاد ينفي - وجود أخبار متواترة غير القرآن، وبذلك فدلالة السنة ظنية من جهتين: من جهة الثبوت ومن جهة الدلالة.
قال: "رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار، والدليل على ذلك أمور: أحدها: أن الكتاب مقطوع به والسنة مظنونة والقطع فيها إنما يصح في الجملة لا في التفصيل بخلاف الكتاب فإنه مقطوع به في الجملة والتفصيل والمقطوع به مقدم على المظنون فلزم من ذلك تقديم الكتاب على السنة"(3). وذكر أموراً أخرى. وبالنسبة لوجود التواتر في الأخبار المنقولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فإن ما ذكر من تواتر الأخبار إنما غالبه فرض أمر جائز ولعلك لا تجد في الأخبار النبوية ما يقضى بتواتره إلى زمان الواقعة، فالبحث المذكور في المسألة بحث في غير واقع أو في نادر الوقوع ولا كبير جدوى فيه والله أعلم"(4).
__________
(1) سورة النحل، 44.
(2) الشاطبي، الموافقات، 4/6.
(3) المصدر نفسه، 4/3.
(4) المصدر نفسه، 4/5 - 6.(1/486)
وبالرجوع إلى ما ذكر سابقاً من أن الدليل الشرعي لا يقبل إلا إذا كان قطعياً أو راجعاً إلى قطعي، يصبح من البديهي الاستنتاج أن الحديث النبوي، وإن صح سنده، فإنه لا يصح إعماله إلا إذا كان معناه راجعاً إلى معنى كلي قطعي، وبما أن الكليات كلها موجودة في القرآن كما تبين في المبحث السابق، فإن الحديث لا يصح إعماله ما لم يكن له أصل في القرآن، وكذلك فإن من مقتضيات هذا المنهج، أن السنة ليس فيها تشريع زائد إلا إذا كانت الزيادة بمعنى تفصيل مجمل أو تفسير متشابه وبما أن القرآن بيان لكل شيء { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ } (1)، { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } (2)، فإن ما تأتي به السنة من تشريع هو زيادة بيان وزيادة شرح، وليست شيئاً لا أصل له في القرآن، فإذا جاء فيها شيء مما يظن أنه لا أصل له في القرآن، فالشاطبي يرجعه إلى أصل قرآني، وإلا فهو يتوقف عن قبوله.
وهذا الأمر عند الشاطبي يخالف ما عليه الأئمة والمجتهدون، إذ المعهود أن الحديث يوجب العمل وإن كان ظني الثبوت، ولا يتوقف فيه أو يرد إلا إذا كان معارضاً لما هو أقوى منه ثبوتاً بحيث لا يمكن رفع التعارض بتخصيص أو تقييد. وعلى ذلك فالشاطبي يختلف مع المنهج المعهود والثابت بأنه لا يكتفي لإعمال النص الشرعي الظني الثبوت أن لا يكون مناقضاً أو معارضاً لما هو أقوى منه ثبوتاً، بل يشترط، إضافةً إلى ذلك، وجود معنى قطعي من القرآن يستند إليه الظني.
__________
(1) سورة آل عمران، 138.
(2) سورة النحل، 89.(1/487)
يقول: "فقد مر في أول كتاب الأدلة أن خبر الواحد إذا استند إلى قاعدة مقطوع بها فهو في العمل مقبول وإلا فالتوقف، وكونه مستنداً إلى مقطوع به راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآني كلي"(1). وقال: "لأن الله جعل القرآن تبياناً لكل شيء فيلزم من ذلك أن تكون السنة حاصلةً فيه في الجملة"(2). ثم قال: "فالسنة إذاًُ في محصول الأمر بيان لما فيه، وذلك معنى كونها راجعة إليه وأيضاً فالاستقراء التام دل على ذلك"(3)، ثم قال: "وقد تقدم في أول كتاب الأدلة أن السنة راجعة إلى الكتاب وإلا وجب التوقف عن قبولها وهو أصل كافٍ في هذا المقام"(4).
ويرد الشاطبي على اعتراضات عليه بأن السنة وإن كانت بياناً ففيها زيادة لأن فيها ما هو غير موجود في القرآن، فيقول: "وقوله في السؤال: فلا بد أن يكون زائداً عليه مسلم، ولكن هذا الزائد هل هو زيادة الشرح على المشروح إذ كان للشرح بيان ليس في المشروح وإلا لم يكن شرحاً أم هو زيادة معنىً آخر لا يوجد في الكتاب هذا محل النزاع"(5). ثم يبين أن هذه الزيادة هي زيادة في الشرح، وبما أنها شرح، فهناك مشروح، فإذاً هناك أصل في الكتاب، يقول: "فجميع هذا له أصل في القرآن بينه الكتاب على إجمالٍ أو تفصيل أو على الوجهين معاً، وجاءت السنة قاضيةً على ذلك كله بما هو أوضح في الفهم وأشفى في الشرح"(6).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/5.
(2) المصدر نفسه، 4/6.
(3) الموضع نفسه.
(4) الشاطبي، الموافقات، 4/6.
(5) المصدر نفسه، 4/10.
(6) المصدر نفسه، 4/18.(1/488)
وبناءً على ذلك فكل تشريع أو تكليف تأتي به السنة يجب عرضه على الكتاب، فإن وافق الكتاب فهو صحيح، وإن لم يوافق لا تثبت صحته، قال: "نعم يجوز أن تأتي السنة بما ليس فيه مخالفة ولا موافقة، بل بما يكون مسكوتاً عنه في القرآن إلا إذا قام البرهان على خلاف هذا الجائز وهو الذي ترجم له في هذه المسألة فحينئذٍ لا بد في كل حديث من الموافقة لكتاب الله"(1).
إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن وجوب موافقة السنة للكتاب، وأن السنة لا تأتي بزيادةٍ ليست شرحاً أو تفصيلاً لما في الكتاب، إنما هو فيما يتعلق بأحكام التكليف أي الأمر والنهي والإذن. وكما أنه ليس في القرآن مجمل أو متشابه غير مبين إلا فيما لا ينبني عليه تكليف، فيجوز أن تأتي السنة بما ليس له أصل في الكتاب مما لا ينبني عليه تكليف. قال: "حيث قلنا إن الكتاب دال على السنة وإن السنة إنما جاءت مبينةً له فذلك بالنسبة إلى الأمر والنهي والإذن أو ما يقتضي ذلك، وبالجملة ما يتعلق بأفعال المكلفين من جهة التكليف، وأما ما خرج عن ذلك من الأخبار مما كان أو ما يكون مما لا يتعلق به أمر ولا نهي ولا إذن فعلى ضربين: أحدهما: أن يقع في السنة موقع التفسير للقرآن فهذا لا نظر في أنه بيان له"(2). ثم قال: "والثاني: أن لا يقع موقع التفسير ولا فيه معنى تكليف اعتقادي أو عملي فلا يلزم أن يكون له أصل في القرآن لأنه أمر زائد على مواقع التكليف، وإنما أنزل القرآن لذلك. فالسنة إذا خرجت عن ذلك فلا حرج"(3).
السنة فيها بيان كل شيء من الأحكام الشرعية:
__________
(1) المصدر نفسه، 4/11.
(2) المصدر نفسه، 4/30.
(3) الشاطبي، الموافقات، 4/31.(1/489)
ومثلما ذكر سابقاً أن القرآن فيه بيان كل شيء من الأحكام الشرعية، فكذلك السنة إذ فيها ما في القرآن مع زيادة البيان والشرح، مع ملاحظة الفرق وهو أن القرآن قطعي الثبوت جملةً وتفصيلاً، والسنة من حيث التفصيل مظنونة. والقرآن جاء بالكليات، والسنة أتت تفريعاً عليه. يقول الشاطبي في معرض الشرح لكيفية بيان السنة للقرآن: "النظر إلى ما دل عليه الكتاب في الجملة وأنه موجود في السنة على الكمال زيادةً إلى ما فيها من البيان والشرح وذلك أن القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح الدارين جلباً لها، والتعريف بمفاسدهما دفعاً لها"(1). ثم قال: "فالكتاب أتى بها أصولاً يرجع إليها والسنة أتت بها تفريعاً على الكتاب وبياناً لما فيه منها، فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام(2)، فالضروريات الخمس كما تأصلت في الكتاب تفصلت في السنة"(3). وبعد أن بين أن الأمر نفسه يسري على الحاجيات والتحسينيات والمكملات قال: "وقد كملت قواعد الشريعة في القرآن وفي السنة فلم يتخلف عنها شيء والاستقراء يبين ذلك"(4).
كيفية بيان السنة للقرآن:
__________
(1) المصدر نفسه، 4/15.
(2) أي الضروريات والحاجيات والتحسينيات ومكملات كل منها.
(3) الشاطبي، الموافقات، 4/15.
(4) المصدر نفسه، 4/16.(1/490)
إن كون السنة بياناً للقرآن أمر لا جدال فيه، ولكن تفصيلات معنى البيان أو كيفية تبيين السنة للقرآن وإن كانت في غالبيتها متفقاً عليها، ففيها بعض التغاير أو الاختلاف في المعنى عند الأئمة، فمن المعروف مثلاً أن السنة تخصص القرآن وهذا مما يقصد بكونها بياناً، والشاطبي يرد التخصيص كما تبين سابقاً، ومن الأئمة مثلاً من لا يرى تخصيص القطعي بالظني(1)، وكذلك فإن السنة تأتي بتشريع مستقل لا أصل له في القرآن، وهذا لا يخرجها عن كونها بياناً إذ له أصل وهو الأدلة الدالة على وجوب الأخذ بالسنة، وهذا المعنى لا يأخذ به الشاطبي إذ كون السنة بياناً يعني عنده لزوم وجود أصل في القرآن لما تأتي به السنة، ووجوب الأخذ بالسنة هو وجوب الأخذ بالشرح والتفصيل الذي أتت به.
ولأئمة أصول الفقه أقوال وتفصيلات في بيان السنة للقرآن، وأول هؤلاء وعلى رأسهم الإمام الشافعي - رحمه الله - حيث جعل أول باب في كتابه (الرسالة): باب كيف البيان. وذكر تحت هذا العنوان خمسة أنواع(2)، ومما ذكره مما لا يوافقه فيه الشاطبي النوع الرابع في البيان، وهو يتضمن كل ما سَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما ليس فيه كتاب(3). وقال في شرحه لأنواع البيان: "ومنها ما بينه عن سنة نبيه بلا نص كتاب"(4). وقد ذكر الشاطبي معانٍ لما يقصد بكون السنة بياناً للقرآن، فقبل أكثرها لكونها متضمنة في المعنى الذي يقول به، قال: "بقي النظر في الوجه الذي دل الكتاب به على السنة حتى صار متضمناً لكليتها في الجملة وإن كانت بياناً له في التفصيل"(5). وعقب قائلاً: "إن للناس في هذا المعنى مآخذ"(6). وذكر ستة مآخذ أو وجوهٍ:
__________
(1) وهو مذهب السادة الأحناف.
(2) أنظر: الإمام الشافعي، الرسالة، ص: 26 - 40، فقرة، 53 - 125.
(3) أنظر: المصدر نفسه، ص: 32، فقرة: 96.
(4) المصدر نفسه، ص: 33، فقرة: 100.
(5) الشاطبي، الموافقات، 4/13.
(6) الموضع نفسه.(1/491)
الأول: قوله: "منها ما هو عام جداً وكأنه جارٍ مجرى أخذ الدليل من الكتاب على صحة العمل بالسنة ولزوم الاتباع لها"(1). وهذا المعنى مبني على الأدلة التي تأمر بأخذ السنة، ومنها قوله تعالى: { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ } (2). وهو معنى مقبول عند الشاطبي إذ إن أخذ السنة أصل قطعي، ولكن الشاطبي يشترط أكثر من ذلك وهو رجوع المعنى المعين من السنة إلى معنى قرآني، ولذلك فهو يأتي هنا بمثال، قال: "وممن أخذ به(3) عبد الله بن مسعود فروي أن امرأةً من بني أسد أتته فقالت له بلغني أنك لعنت ذيت وذيت والواشمة والمستوشمة وإنني قد قرأت ما بين اللوحين فلم أجد الذي تقول فقال لها عبد الله: أما قرأت: { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ } قالت: بلى، قال: فهو ذاك"(4). فهذا أحد معاني البيان، وهو يغاير ما يقصده الشاطبي كما تبين سابقاً، ويشير إلى ذلك هنا قوله: "فظاهر قوله لها هو في كتاب الله ثم فسر ذلك بقوله: { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } ، دون قوله: { وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } (5) أن تلك الآية تضمنت جميع ما في الحديث النبوي"(6). ويظهر في هذا القول أن الشاطبي يرجع معنى النهي عن الوشم إلى المعنى القرآني { وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } .
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) سورة الحشر، 7.
(3) أي بهذا المعنى للبيان.
(4) الشاطبي، الموافقات، 4/13.
(5) سورة، النساء، 119.
(6) الشاطبي، الموافقات، 4/14.(1/492)
الثاني: قال: "ومنها الوجه المشهور عند العلماء كالأحاديث الآتية في بيان ما أُجمل ذكره من الأحكام إما بحسب كيفيات العمل أو أسبابه أو شروطه أو موانعه أو لواحقه، أو ما أشبه ذلك كبيانها للصلوات على اختلافها في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها، وبيانها للزكاة في مقاديرها وأوقاتها ونصب الأموال المزكاة وتعيين ما يزكى مما لا يزكى"(1) إلخ. وهذا المعنى يندرج تحت المعنى الذي يقصده الشاطبي إذ هو شرح وتفصيل المجمل.
الثالث: وهو المعنى الذي يقصده الشاطبي، وهو رجوع السنة إلى معان كلية قرآنية تندرج كلها تحت الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات أو مكملات أي منها(2).
__________
(1) الموضع نفسه، وهذا النوع الثالث من الأنواع التي ذكرها الشافعي للبيان، أنظر: الرسالة، ص: 31، فقرة: 95.
(2) المصدر نفسه، 4/15 - 18.(1/493)
الرابع: ما يرجع إلى الاجتهاد ومنه القياس، حيث أن القياس هو إلحاق الفرع بأصل، والاجتهاد يؤدي إلى إعطاء الحكم لمسألة بعد أن يرى المجتهد أن المعنى الشرعي المتعلق بالحكم هو كذا، ومن المسائل ما هو واضح فيعطيه الفقيه الحكم بناء على المعنى المتعلق به بوضوح، أو يرجعه إلى أصله الواضح أنه يرجع إليه، ومن المسائل ما قد يشتبه على الفقيه الأصل القرآني الذي يرجع إليه أهو هذا الأصل أو ذاك، فهنا تأتي السنة لترفع الاشتباه، وإلا تظل المسألة اجتهادية، وهذا المعنى يندرج تحت البيان بلا خلاف(1). قال الشاطبي: "ومنها النظر إلى مجال الاجتهاد الحاصل بين الطرفين الواضحين"(2). ثم قال: "ومجال(3) القياس الدائر بين الأصول والفروع"(4). وقال في شرح هذا المعنى: "وذلك أنه يقع في الكتاب النص على طرفين مبينين فيه أو في السنة كما تقدم في المأخذ الثاني، وتبقى الواسطة على اجتهاد، والتباين لمجاذبة الطرفين إياها فربما كان وجه النظر فيها قريب المأخذ فيترك إلى أنظار المجتهدين حسبما يتبين في كتاب الاجتهاد، وربما بعد على الناظر أو كان محل تعبد لا يجري على مسلك المناسبة فيأتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه البيان وأنه لاحق بأحد الطرفين أو آخذ من كل واحدٍ منهما بوجه احتياطي أو غيره، هذا هو المقصود هنا"(5).
__________
(1) وهذا المعنى أشار إليه الشافعي في الرسالة وهو متضمن في النوع الخامس من أنواع البيان عنده، أنظر: الرسالة، ص: 34 - 40، فقرة: 104 - 125.
(2) الشاطبي، الموافقات، 4/18.
(3) أي: ومنها النظر إلى مجال القياس... إلخ.
(4) الشاطبي، الموافقات، 4/18.
(5) الموضع نفسه.(1/494)
وهذا المعنى للبيان يتضمنه المعنى الذي يقول به الشاطبي، لأن ما تأتي به السنة يبين الأصل الذي ترجع إليه المسألة، فحكم السنة يرجع إلى أصل، وضمن هذا المعنى يبين الشاطبي كيفية إرجاع بعض المعاني التي يقول البعض أن السنة استقلت بتشريعها، إلى أصولٍ لها في القرآن وهو ما سيتفصل في البحث التالي.(1/495)
الخامس: قال: "ومنها النظر إلى ما يتألف من أدلة القرآن المتفرقة من معان مجتمعة فإن الأدلة قد تأتي في معانٍ مختلفة ولكن يشملها معنى واحد شبيه بالأمر في المصالح المرسلة والاستحسان، فتأتي السنة بمقتضى ذلك المعنى الواحد فيعلم أو يظن أن ذلك المعنى مأخوذ من مجموع تلك الأفراد بناء على صحة الدليل الدال على أن السنة إنما جاءت مبينةً للكتاب"(1). والمعنى الذي يتضمنه هذا النص مقبول عند أئمة أصول الفقه عموماً، ولكن ليس فيه شيء يستدعي الذكر عندهم، ولكنه مهم عند الشاطبي، ولو نظرنا فيه لوجدناه يتألف من مقدمتين ونتيجة. المقدمة الأولى هي أن يتألف من مجموع أدلة معنى جديد يُستنبط من مجموعها، ولا يدل عليه أي واحد من الأدلة بمفرده، وهو ما يسمى دلالة الإشارة من المفهوم، ومثاله قوله تعالى: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } (2)، وقوله: { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } (3). فيفهم من النصين أن أقل مدة الحمل ستة أشهر. والمقدمة الثانية: أن تأتي السنة بمقتضى هذا المعنى المستنبط، أي بما يرجع معناه إلى المعنى المستنبط. أما النتيجة فهي أن المعنى الذي أتت به السنة هو بيان له أصل في القرآن، وهذا هو مبتغى الشاطبي وهذا المعنى الوارد هنا للبيان غير معهود عند الأئمة إذ لا يحتاجون إلى إثبات رجوع المعنى إلى معنى قرآني كي يعد بياناً، أما الشاطبي فهو يستعمل هذا النوع من الدلالة لإيجاد معانٍ قرآنية. فيستطيع بذلك إرجاع ما يظن أن السنة استقلت بتشريعه إلى أصول قرآنية. وليس المقصود هنا الغض مما يفعله الشاطبي، فدلالة الإشارة من الدلالات المعتبرة، وإنما المقصود الدقة في بيان قصد الشاطبي. لذلك ينبغي الالتفات إلى ما قاله في النص أعلاه، فهو لم يقل: "النظر إلى ما يتألف من أدلة متفرقة"، وإنما قال: "من أدلة القرآن المتفرقة".
__________
(1) المصدر نفسه، 4/26.
(2) سورة الأحقاف، 15.
(3) سورة لقمان، 14.(1/496)
ولذلك فمثال الشاطبي على هذا النوع من البيان له خصوصية تتفق مع منهجه. قال: "ومثال هذا الوجه ما تقدم في أول كتاب الأدلة الشرعية في طلب معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار"(1) من الكتاب"(2). والمعنى أن الحديث لا بد أن يرجع إلى أصل قطعي في القرآن، وإلا فلا يقبل. وبالرجوع إلى استقراء أدلة القرآن التي تنهى عن الضرر ينشأ أصل كلي برفع الضرر، وبذلك يصح إعمال الحديث ولا يخرج عن كونه بياناً، وهذا المعنى يندرج تحت المعنى الذي يقصده بل هو سر منهجه(3).
السادس: وهو أن السنة تبيّن ما في القرآن من غير زيادة شرح أو تفصيل لما فيه. فالقرآن فيه بيان كل شيء حتى أعداد الركعات ومواقيت الصلوات، وتفاصيل الزكوات وما شاكل ذلك. فكل ذلك موجود في القرآن، وإنما تحتاج معرفته إلى العالمين الفاهمين الغائصين إلى أسرار معاني القرآن. وظاهر كلام الشاطبي رد هذا المعنى. قال: "ومنها النظر إلى تفاصيل الأحاديث في تفاصيل القرآن، وإن كان في السنة بيان زائد ولكن صاحب هذا المأخذ يتطلب أن يجد كل معنى في السنة مشاراً إليه من حيث وضع اللغة لا من جهة أخرى أو منصوصاً عليه في القرآن"(4). ثم قال: "ولكن القرآن لا يفي بهذا المقصود على النص والإشارة العربية التي تستعملها العرب أو نحوها"(5). وقال: "فالملتزم لهذا لا يفي بما ادعاه إلا أن يتكلف في ذلك مآخذ لا يقبلها كلام العرب ولا يوافق على مثلها السلف الصالح ولا العلماء الراسخون في العلم"(6).
ردود على اعتراضات:
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) الشاطبي، الموافقات، 4/26.
(3) المصدر نفسه، 3/8، وانظر: المبحث الأول من الفصل الثالث من هذا الكتاب.
(4) الشاطبي، الموافقات، 4/26.
(5) المصدر نفسه، 4/28.
(6) الموضع نفسه.(1/497)
إن موقف الشاطبي أن السنة لا تأتي بتشريع ليس له أصل في القرآن تَرِدُ عليه اعتراضات بأن في السنة أشياء كثيرة لا أصل لها في الكتاب، لذلك فهو يذكر هذه الاعتراضات ليبطلها وليثبت موقفه. قال مُورِداً أمثلة مما يُعترض عليه به: "إن الاستقراء دلّ على أن في السنة أشياء لا تحصى كثرة لم يُنص عليها في القرآن الكريم كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها وتحريم الحُمُر الأهلية وكل ذي ناب من السباع والعقل وفكاك الأسير وأن لا يُقتل مسلم بكافر"(1).
فقال رداً على مسألة تحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها: "إن الله تعالى حرّم الجمع بين الأم وابنتها في النكاح وبين الأختين وجاء في القرآن: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } (2) فجاء نهيه عليه الصلاة والسلام عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من باب القياس لأن المعنى الذي لأجله ذمّ الجمع بين أولئك موجود هنا. وقد يُروى في هذا الحديث: "فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم"(3). والتعليل يشعرُ بوجه القياس"(4).
__________
(1) المصدر نفسه، 4/8.
(2) سورة النساء، 24.
(3) الزيلعي، نصب الراية، ج3، كتاب النكاح، فصل في بيان المحرمات. ومعجم الطبراني الكبير، باب الظاء. وجاء في مسند أحمد (9202): "إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات عند الله يوم القيامة وإياكم والفحش والتفحش، وإياكم والشح فإنه دعا من قبلكم فاستحلوا محارمهم وسفكوا دماءهم وقطعوا أرحامهم".
(4) الشاطبي، الموافقات، 4/23.(1/498)
وقال في مسألة تحريم الحُمُر الأهلية وكل ذي ناب من السباع: "إن الله تعالى أحلّ الطيبات وحرّم الخبائث وبقي بين هذين الأصلين أشياء يمكن لحاقها بأحدهما، فبيّن عليه الصلاة والسلام في ذلك ما اتضح به الأمر. فنهى عن أكل كلّ ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ونهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية"(1). وقال: "فهذا كله راجع إلى معنى الإلحاق بأصل الخبائث كما ألحق عليه الصلاة والسلام الضب والحبارى والأرنب وأشباهها بأصل الطيبات"(2).
__________
(1) المصدر نفسه، 4/18 - 19.
(2) المصدر نفسه، 4/19.(1/499)
أما العقل، وهو دية النفس، فقد أجاب عنه الشاطبي وذكر إضافة إليه ديات الأطراف فقال: "إن الدية في النفس ذكرها الله تعالى في القرآن(1) ولم يذكر ديات الأطراف، وهي مما يُشكِلُ قياسها على العقول، فبين الحديث(2) من دياتها ما وضح به السبيل وكأنه جارٍ مجرى القياس الذي يُشكِلُ أمره فلا بد من الرجوع إليه ويحذى حذوه"(3). ويلتحق بالعقل دية الجنين. فقال: "إن الله تعالى جعل النفس بالنفس وأقصّ من الأطراف بعضها من بعض في قوله تعالى: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } "(4)
__________
(1) قال تعالى: { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } ، سورة النساء، 92.
(2) روى النسائي عن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن كتاباً وكان في كتابه أن من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بيِّنةٍ فإنه قَوَد إلا أن يرضَى أولياء المقتول، وأن في النفس الديةَ مائةً من الإبل وأن في الأنف إذا أوعب جدعه الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرجل الواحدة نصف الدية وفي المأمومة ثلث الدية وفي الجائفة ثلث الدية وفي المنقلةِ خمسة عشر من الإبل وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل وفي السن خمس من الإبل وفي الموضحة خمس من الإبل وأن الرجل يقتل بالمرأة وعلى أهل الذهب ألف دينار" (4770). وقال: "اعتبط: قتل من غير علة".
(3) الشاطبي، الموافقات، 4/23.
(4) وتمام الآية { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } سورة المائدة 45..(1/500)
إلى آخر الآية، هذا في العمد، وأما الخطأ فالدية لقوله: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ } (1) وبيّن عليه الصلاة والسلام دية الأطراف"(2). ثم قال: "فجاء طرفان أشكل بينهما الجنين إذا أسقطته أمه بالضربة ونحوها، فإنه يشبه جزء الإنسان كسائر الأطراف ويشبه الإنسان التام لخلقته فبينت السنة فيه أن ديته الغرة(3) وأن له حكم نفسه لعدم تمحض أحد الطرفين له"(4). وهكذا فأصل الدية وأصل القصاص مذكوران في القرآن، فما يسري على سائر الأطراف له أصل في الكتاب، وينبغي أن يفهم قياساً ولكن قياسه مما يشكل فبيَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - . وبعد أن تبيّن رجوع حكم الأطراف إلى الكتاب بقي حكم الجنين هل يرجع إلى حكم النفس إذ هو نفس اكتملت أو يرجع إلى الأطراف إذ هو جزء من أمه. فهذا مما يشكل على الفقيه فبينته السنة وأعطته حكماً خاصاً له بينهما(5).
__________
(1) سورة النساء، 92.
(2) الشاطبي، الموافقات. 4/21.
(3) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنين امرأة بني لحيان سقط ميتاً بغرةٍ عبدٍ أو أمةٍ" البخاري (6343). (6395) ومسلم (3183)، (3184) والترمذي (1330) وقال: حسن صحيح.
(4) الشاطبي، الموافقات، 4/21.
(5) هذا وما سبقه من ردود الشاطبي يرجع إلى المعنى الرابع للبيان، انظر: الموافقات، 4/18 - 29، وانظر: ص: 375 من هذا الكتاب.(2/1)
أما مسألة فكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر فقال: "وأما فكاك الأسير فمأخوذ من قوله تعالى: { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } (1)، وهذا فيمن لم يهاجر إذا لم يقدر على الهجرة إلا بالانتصار بغيره فعلى الغير النصر، والأسير في هذا المعنى أولى بالنصر فهو مما يرجع إلى النظر القياسي، وأما أن لا يقتل مسلم بكافر فقد انتزعها العلماء من الكتاب كقوله: { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } (2)، وقوله: { لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ } (3)، وهذه الآية أبعد"(4).
البيان بالقول والفعل والإقرار:
وذلك أن السنة بيان للقرآن، والسنة قول وفعل وإقرار من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيحصل البيان بهذه الثلاثة مجتمعة ومتفرقة، قال الشاطبي: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مبيناً بقوله وفعله وإقراره"(5). ولكل من هذه الثلاثة خاصيةٌ في الدلالة أو البيان ليست لغيرها، وأبلغ البيان إذا وافق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله، وكذلك إذا وافق فعل الرسول إقراره فهو دلالة على أعلى مراتب التأسي.
__________
(1) سورة الأنفال، 72.
(2) سورة النساء، 141.
(3) سورة الحشر، 20.
(4) الشاطبي، الموافقات، 4/29.
(5) الشاطبي، الموافقات، 4/175.(2/2)
قال: "إذا حصل البيان بالقول والفعل المطابق للقول فهو الغاية في البيان"(1). ففي الطهارة مثلاً والصلاة والصوم والحج وغيرها من العبادات والعادات، فإن القول لا يفيد الكيفية كما يفيدها الفعل، كما أن الفعل لا يفيد ما يفيده القول من عموم أو خصوص أو من ندب أو وجوب أو إباحة(2). قال: "القول بيان للعموم والخصوص في الأحوال والأزمان والأشخاص، فإن القول ذو صيغ تقتضي هذه الأمور وما كان نحوها بخلاف الفعل فإنه مقصور على فاعله وعلى حالته وليس له تعدٍّ عن محله البتة"(3).
والفعل بخلاف القول، يدل على مطلق الإذن من وجوب أو ندب أو إباحة، ولا يشمل الكراهة لأن الكراهة داخلة ضمن النهي، والرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل منهياً عنه، والفعل يتميز عن القول بأنه أبلغ في بيان التأسي والامتثال(4). قال: "فمطلق الإذن يشمل الواجب والمندوب والمباح ففعله عليه الصلاة والسلام لا يخرج عن ذلك فهو إما واجب وإما مندوب أو مباح"(5).
__________
(1) المصدر نفسه، 3/177.
(2) المصدر نفسه، 3/177 - 178.
(3) الموضع نفسه.
(4) المصدر نفسه، 4/32.
(5) الموضع نفسه.(2/3)
أما الإقرار من الرسول - صلى الله عليه وسلم - على فعل فيحتمل أن يكون الفعل واجباً أو مندوباً أو مباحاً، والمباح قد يكون مباحاً بالجزء مطلوباً بالكل وقد يكون مباحاً بالجزء منهياً عنه بالكل، وبهذه الحالة أي إذا كان منهياً عنه بالكل فهو مباح بمعنى لا حرج فيه، وقد تبين هذا المعنى في الفصل الثالث من هذا الكتاب، لذلك فإن الإقرار لا يدل على مطلق الجواز وإنما يدل على أن لا حرج في الفعل، قال: "والحاصل أن نفس الإقرار لا يدل على مطلق الجواز من غير نظر"(1). وقال: "وأما الإقرار فمحمله على أن لا حرج في الفعل الذي رآه عليه السلام فأقره أو سمع به فأقره"(2). وقال: "إن ما لا حرج فيه جنس لأنواع: الواجب والمندوب والمباح بمعنى المأذون فيه وبمعنى أن لا حرج فيه. وأما المكروه فغير داخلٍ تحته على ما هو المقصود، لأن سكوته عليه يؤذن إطلاقه بمساواة الفعل للترك، والمكروه لا يصح فيه ذلك لأن الفعل المكروه منهي عنه"(3).
وعلى ذلك فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل مكروهاً ولا يقر على مكروه، وقد يقر على فعل ويفعله فهذا أعلى مراتب التأسي. قال: "الإقرار منه عليه الصلاة والسلام إذا وافق الفعل فهو صحيح في التأسي لا شوب فيه ولا انحطاط عن أعلى مراتب التأسي"(4). وقد يقر على فعل ولا يفعله، فإقراره يدل على دخول الفعل في الأنواع الأربعة المذكورة أعلاه، وكونه لا يفعله يسقط كونه واجباً أو مندوباً أو مباحاً بمعنى المأذون فيه، ويبقى أنه مباح لا حرج فيه، فهذا لا يفعله لأنه - صلى الله عليه وسلم - في أعلى مراتب الإقتداء والتأسي. قال الشاطبي: "ومثاله إعراضه عن سماع اللهو وإن كان مباحاً، وبعده عن التلهي به وإن لم يحرج في استعماله"(5).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/39.
(2) المصدر نفسه، 4/36.
(3) الموضع نفسه.
(4) المصدر نفسه، 4/39.
(5) المصدر نفسه، 4/39.(2/4)
وللتعارض بين القول والفعل تفصيل لسنا بصدده، فالمراد هنا هو بيان دلالة القول ودلالة الفعل ودلالة الإقرار عند الشاطبي.
الإجماع:
تبين فيما سبق أن الإجماع عند الشاطبي من السنة. والإجماع المقصود هو إجماع الصحابة، وهو يعد بياناً للقرآن وللسنة أيضاً لأنه يكشف عن دليل لم ينقل، ومما قاله: "سنة الصحابة رضي الله عنهم سنة يعمل عليها ويرجع إليها"(1). وقال: "فإنهم أول من تلقى ذلك من الرسول عليه الصلاة والسلام وهم المباشرون للوحي"(2). ولذلك ينطبق على صحة اعتبار الإجماع في البيان أن يكون إجماعَ الصحابة، وأن يكون راجعاً إلى أصل كلي قرآني، ولا يقال إن الإجماع أصل قطعي، إذ الموضوع هنا ليس الإجماع، وإنما هو المسألة التي نقل حصول الإجماع عليها، وذلك مثل السنة فهي أصل قطعي، ولكن في التفصيل هي أخبار آحاد وكذلك المنقول من إجماع الصحابة هو أخبار آحاد.
القياس:
__________
(1) المصدر نفسه، 4/40.
(2) الشاطبي، الموافقات، 4/40.(2/5)
وهو يعتمد على العلة، فإذا جاءت بمسالك النص أو التنبيه والإيماء فهي راجعة إلى دلالات الألفاظ والتراكيب وينطبق عليها ما قيل سابقاً من وجوب رجوع معناها إلى أصل كلي ثابت بالاستقراء، وإن كانت بمسلك الإجماع فينطبق عليها ما ذكر قبل قليل من وجوب رجوع المنقول إلينا بالإجماع، إلى أصل قطعي، أما إن جاءت العلة بأيٍ من المسالك الأخرى التي تعتمد على أصل التعليل، فقد تبين من منهجه أن هذا ظن لا يعضده دليل شرعي فهو من المصالح الموهومة، لذلك فهو لا يقبل أياً من هذه العلل إلا إذا ثبتت ثبوتاً قطعياً عن طريق استقراء المعنى المعلل به في جزئيات كثيرة استقراءً يفيد القطع، إذ لا يكفي في ذلك مجرد الظن، قال: "ولا يقال إن الظن أيضاً معتبر شرعاً في الأحكام الشرعية كالمستفاد من أخبار الآحاد والقياس وغيرهما، وما نحن فيه إن سلم أنه لا يفيد علماً مع الاطراد والمطابقة فإنه يفيد ظناً فيكون معتبراً، لأنا نقول: ما كان من الظنون معتبراً شرعاً فلاستناده إلى أصل شرعي حسبما تقدم في موضعه من هذا الكتاب(1)، وما نحن فيه لم يستند إلى أصل قطعي ولا ظني"(2).
الفصل الثامن
الاجتهاد والتقليد
ويحتوي على تمهيد وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: ضوابط الاجتهاد.
المبحث الثاني: ضوابط التقليد والفتوى.
المبحث الثالث: أصل مآلات الأفعال.
الفصل الثامن
الاجتهاد والتقليد
تمهيد:
__________
(1) المصدر نفسه، 3/7 - 12.
(2) المصدر نفسه، 4/46، وهذا النص يفيد عين ما تفيده النصوص التي وردت سابقاً عن بعض أئمة الأحناف رداً على التعليل بالأوصاف المخيلة والمناسبة وغيرها المبنية على أصل التعليل. أنظر: الفصلين الثاني والثالث من هذا الكتاب.(2/6)
إن مما يزيد فكرة المقاصد عند الشاطبي بياناً ويكملها بيان آرائه في الاجتهاد وأنواعه وشروطه، وفي المجتهد أو العالم ومراتبه وفي التقليد وكيفية أخذ الرأي أو الفتوى. وكذلك في الفتوى أو الحكم الشرعي الذي يبينه العالم، وتمييز ما يمكن قبوله شرعاً عما يجب رده، ويدخل ضمن هذا بيان موقفه من الفتاوى التي تتخذ التيسير والترخيص والضرورات والحاجات والسماحة والتخيير بين الأقوال منهجاً يتم تعميمه وتطبيقه حيث يصح وحيث لا يصح.
ومن أهم ما يوضح منهج الشاطبي ويؤكد ما مرَّ ذكره فيه، شرط جعله لازماً للمجتهد لا يصح له الحكم بدونه وهو النظر في مآلات الأفعال، وذلك أن الشريعة إنما جاءت لجلب المصالح ودرء المفاسد، وهي مآلاتها ومآلات أحكامها، فلا يصح للمجتهد أن يعطي حكم الفعل دون النظر في مآله.
لأجل هذا كان هذا الفصل وقد جعلته في ثلاثة مباحث، الأول في ضوابط الاجتهاد والثاني في ضوابط الفتوى والثالث في بيان وشرح أصل مآلات الأفعال.
ولأهمية أصل مآلات الأفعال عند الشاطبي وكونه الأساس الذي يقيم عليه برهانه لتعليل الشريعة، فقد أتبعت هذا الفصل بفصل يشرح ثلاثة قواعد هي من أهم ما بناه على أصل مآلات الأفعال، وهي تطبيق لفكرته في المقاصد وهي قاعدة سد الذرائع وقاعدة المصالح المرسلة وقاعدة الاستحسان، وستكون هذه القواعد الثلاث - إن شاء الله - موضوع الفصل الثامن.
ومن الجدير بالذكر أن ما يجري بحثه هنا هو فقط لجهة تعلقه بمنهج الشاطبي أو ما تميّز به أو ركز عليه، وليس المقصود بيان أو تفنيد أقوال الأئمة في هذا الشأن، فالشاطبي نفسه يحيل إليهم وإلى كتبهم فيما وافقهم فيه.
المبحث الأول
ضوابط الاجتهاد
تعريفه عند الشاطبي:(2/7)
يعرف الشاطبي الاجتهاد بقوله: "الاجتهاد هو استفراع الوسع في تحصيل العلم أو الظن بالحكم"(1). ولا شك أنه يقصد استفراغ الوسع من المجتهد الذي بلغ المرتبة التي يوثق معها بقوله. ولا يخالف الشاطبي في أن المسائل القطعية لا اجتهاد فيها كما سيتبين، ولكن قوله "في تحصيل العلم" يرجع إلى شروط المجتهد ومنها تحصيل العلم بالكليات، وهو في سبيل ذلك يجتهد، إلا أن اجتهاده هذا لا يخوله أن يجتهد في المسائل التفصيلية الخلافية ولا أن يكون له فيها رأي معتبر يفتي به الناس، لأنه ما زال يترقى في العلم ويستكمل فهم المقاصد. قال: "الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان: أحدهما الاجتهاد المعتبر شرعاً وهو الصادر عن أهله الذي اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر إليه الاجتهاد"(2). ثم قال: "والثاني غير المعتبر وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه"(3).
شروطه:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 4/59.
(2) المصدر نفسه، 4/93.
(3) الموضع نفسه.(2/8)
أما ما يفتقر إليه الاجتهاد فهو في حقيقته - عند الشاطبي - أمر واحد جامع لأمور، وهو فهم مقاصد الشريعة بشكل كامل، أي الأصول الكلية ومقاصد الأحكام الراجعة إليها. وما يذكر من أمور أخرى كشروط للاجتهاد فهي متضمنة في هذا الأمر: قال: "إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني التمكن من الاستنباط بناءً على فهمه فيها"(1). أما الوصف الأول فهو يعني كليات الشريعة الواقعة في المراتب الثلاث ومكملاتها، ويعني أيضاً الأحكام التفصيلية ومقاصدها وهي الفروع الراجعة إلى تلك الكليات، ولذلك قال: "على كمالها". وهي كلها ترجع إلى جلب المصالح ودرء المفاسد. ومما يقتضيه فهم المقاصد على كمالها فهم مقصود الشاطبي بالمصالح والمفاسد وهو أنها بحسب وضع الشارع لها وليس بحسب الأغراض والحظوظ وأهواء النفس. وقد تبين هذا سابقاً وكرره الشاطبي هنا، وهو بهذا يجمع بين التعليل بالمصالح وقصد التعبد والامتثال. قال: "فقد مرّ في كتاب المقاصد الشرعية أن الشريعة مبنية على اعتبار المصالح وأن المصالح إنما اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك لا من حيث إدراك المكلف"(2). وقال: "استقر بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث مراتب فإذا بلغ الإنسان مبلغاً فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة وفي كل باب من أبوابها فقد حصل له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله"(3). أما الوصف الثاني فلا يمكن حصوله إلا بعد حصول الوصف الأول، ولكنه جعله شرطاً ثانياً لأنه ثمرة للأول، ولا يحصل التحقق من الأول إلا بوجود الثاني. قال: "وأما الثاني فهو كالخادم للأول"(4).
__________
(1) المصدر نفسه، 4/56.
(2) الشاطبي، الموافقات، 4/56.
(3) الموضع نفسه.
(4) الموضع نفسه.(2/9)
ثم قال: "ولكن لا تظهر ثمرة الفهم إلا في الاستنباط فلذلك جُعل شرطاً ثانياً، وإنما كان الأول هو السبب في بلوغ هذه المرتبة لأنه المقصود والثاني وسيلة"(1).
ومن شروط المجتهد أن يبلغ درجة الاجتهاد في علوم اللغة العربية، وهذا متضمن في شرط فهم المقاصد إذ هو لازم لأجل الاستنباط من النصوص ولأجل فهم المقاصد، ومن لم يبلغ هذه الدرجة فهو مقلد في اللغة، ولن يكون قوله في دلالات النصوص حجة، وسيعتمد على غيره ممّن قوله فيها حجة، وبذلك ينزل عن درجة فهم المقاصد. يقول: "فإذا فرضنا مبتدئاً في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة أو متوسطاً فهو متوسط في فهم الشريعة والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة فكان فهمه فيها حجة"(2). وقال: "وكل من قصر فهمه لم يعد حجة ولا كان قوله فيها مقبولاً فلا بد أن يبلغ في العربية مبلغ الأئمة فيها كالخليل وسيبويه والأخفش والجرمي والمازني ومن سواهم"(3). ويبين الشاطبي أنه لا يقصد بذلك أن يكون مثل هؤلاء الأئمة في جميع علوم اللغة وأن يتعمق تعمقهم في النحو وفي دقائق الإعراب ومشكلات اللغة وغير ذلك. وإنما أن يكون قادراً على فهم النصوص وما تحتمله من معانٍ وما لا تحتمله وما فيها من عموم أو خصوص أو تقديم أو تأخير أو مجاز أو اشتراك أو إضمار أو غيره، وأن يبلغ مبلغهم في هذا حتى يكون في ذلك حجة. قال: "ولا يُقال إن الأصوليين قد نفوا هذه المبالغة في فهم العربية"(4). ثم قال: "وإنما المقصود تحرير الفهم حتى يضاهي العربي في ذلك المقدار وليس من شرط العربي أن يعرف جميع اللغة"(5).
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) المصدر نفسه، 4/60.
(3) الشاطبي، الموافقات، 4/60.
(4) المصدر نفسه، 4/61.
(5) الموضع نفسه.(2/10)
ثم بين مقصوده بنص للشافعي فقال: "وقد أشار الشافعي في رسالته إلى هذا المعنى وأن الله خاطب العرب بكتابه بلسانها على ما تعرف من معانيها ثم ذكر مما يعرف من معانيها اتساع لسانها وأن تخاطب بالعام مراداً به العام ويدخله الخصوص ويستدل على ذلك ببعض ما يدخله في الكلام، وبالعام يُراد به الخاص ويعرف بالسياق، وبالكلام ينبئ أوله عن آخره وآخره عن أوله. وأن تتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون اللفظ كما تعرف بالإشارة وتسمى الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة والمعاني الكثيرة بالاسم الواحد، ثم قال: فمن جهل هذا من لسانها وبلسانها نزل الكتاب وجاءت به السنة فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه، ومن تكلف ما يجهل وما لم تثبته معرفته كانت موافقة الصواب إن وافقه من حيث لا يعرفه غير محمودة، وكان بخطئه غير معذور إذا نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه. هذا قوله، وهو الحق الذي لا محيص عنه"(1). ويدخل ضمن فهم المقاصد فهم أسباب النزول إذ هي شرط لفهم معاني النصوص وقد تبين هذا في المبحث الأول من الفصل السابق.
__________
(1) المصدر نفسه، 4/61 - 62.(2/11)
وليس من شرط الاجتهاد أن يكون المجتهدُ مجتهداً في كل علم يلزمه. فإن بعض ما يلزم للاجتهاد يمكن للمجتهد أن يأخذه من أهله وأن يسلم به. قال: "ونحن نمثّل بالأئمة الأربعة فالشافعي عندهم مقلد في الحديث لم يبلغ درجة الاجتهاد في انتقاده ومعرفته، وأبو حنيفة كذلك، وإنما عدوا من أهله مالكاً وحده وتراه في الأحكام يحيل على غيره كأهل التجارب والطب والحيض وغير ذلك ويبني على ذلك"(1). وقال: "وغالب ما صنف في أصول الفقه من الفنون إنما هو في المطالب العربية التي تكفل المجتهد فيها بالجواب عنها، وما سواها من المقدمات فقد يكفي فيه التقليد كالكلام في الأحكام تصوراً وتصديقاً كأحكام النسخ وأحكام الحديث وما أشبه ذلك"(2).
أنواع الاجتهاد ومراتبه:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/75، يلاحظ أنه قال: "ونحن نمثل بالأئمة الأربعة" ولكنه لم يذكر الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ولم يعده من أهل الاجتهاد في الحديث.
(2) المصدر نفسه، 4/62، وانظر: ص: 58.(2/12)
كانت تلك شروط الاجتهاد لمن أراد الاستنباط من النصوص بناء على فهمه فيها، وهناك مرتبة أدنى للمجتهد لا يشترط له فيها العلم بالعربية، وقد يكون أعجمي اللسان، وإنما يشترط فيها العلم بمقاصد الشريعة جملةً وتفصيلاً، وهناك اجتهاد كما يسميه الشاطبي لا يشترط فيه العلم بالعربية ولا العلم بمقاصد الشريعة، وهو الاجتهاد في تحقيق المناط، يقول: "الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص فلا بد من اشتراط العلم بالعربية، وإن تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردة عن اقتضاء النصوص لها أو مسلمة من صاحب الاجتهاد في النصوص فلا يلزم في ذلك العلم بالعربية وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملةً وتفصيلاً"(1). وقال: "فإذاً من فهم مقاصد الشرع من وضع الأحكام وبلغ فيها رتبة العلم بها ولو كان فهمه لها من طريق الترجمة باللسان الأعجمي فلا فرق بينه وبين من فهمها من طريق اللسان العربي"(2). وهذه المرتبة دون المرتبة الأولى، وصاحبها لا يجتهد للتوصل إلى المقاصد، ولا يستنبط بناءً على فهمه فيها، وإنما هو يتلقى الكليات والأصول ويتعلمها ممن استنبطها فهو مقيد بفهمه وبمذهبه. وكذلك هو لا يستطيع إعمال الكليات والجزئيات معاً. وإنما هو يُعمل الكليات فقط.
__________
(1) المصدر نفسه، 4/90.
(2) المصدر نفسه، 4/91.(2/13)
وهذا لا يكون إلا في إنزال الأحكام الجاهزة على وقائعها وفي القياس، يقول: "ولذلك يوقع المجتهدون الأحكام الشرعية على الوقائع القولية التي ليست بعربية، ويعتبرون الألفاظ في كثير من النوازل، وأيضاً فإن الاجتهاد القياسي غير محتاج إلى مقتضيات الألفاظ إلا فيما يتعلق بالمقيس عليه وهو الأصل وقد يؤخذ مسلماً أو بالعلة المنصوص عليها أو التي أومئ إليها، ويؤخذ ذلك مسلماً وما سواه فراجع إلى النظر العقلي وإلى هذا النوع يرجع الاجتهاد المنسوب إلى أصحاب الأئمة المجتهدين"(1). فالاجتهاد - عنده - ينقسم إلى اجتهاد لاستنباط العلل والأصول الكلية واجتهاد لتفريعها وتطبيقها على وقائعها، واجتهاد ثالث لتعيين وقائعها، وهذا الأخير هو الذي لا يحتاج إلى علم بالمقاصد ولا إلى علم بالعربية، يقول: "قد يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط فلا يفتقر في ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع كما أنه لا يفتقر فيه إلى معرفة علم العربية"(2). وذلك كالبحث هل هذا خمر فيحرم أو جلاب فيحل، أو هل هذا الشاهد عدل فتؤخذ شهادته أو فاسق فلا تؤخذ أو هل هذا فقير فيستحق من الصدقات أو لا فلا يعطى منها. وهذا لا يحتاج إلى علم بالشريعة أو بالعربية وإنما يحتاج إلى علم بموضوع البحث. فيحتاج صاحبه لأن يكون خبيراً في معرفة الخمر وفي معرفة العدالة وفي معرفة الفقر. وإذا احتاج إلى معلومات شرعية فيمكنه أن يأخذها بالتسليم.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/91، أصحاب الأئمة المجتهدين هم مجتهدو المذهب، وهم يتبعون نهج إمام المذهب في الأخذ بأصوله وقواعده واجتهاداته وآرائه، ولا يمنع هذا من مخالفتهم له في بعض الآراء، أما إمام المذهب الذي يستنبط الأصول والقواعد والأحكام فهو المجتهد المطلق.
(2) المصدر نفسه، 4/92.(2/14)
قال: "إن العلماء لم يزالوا يقلدون في هذه الأمور من ليس من الفقهاء وإنما اعتبروا أهل المعرفة بما قلدوا فيه خاصةً وهو التقليد في تحقيق المناط"(1).
فعملية الاجتهاد التي تؤدي إلى معرفة الحكم تتضمن الأنواع الثلاثة للاجتهاد وليس بالضرورة أن يقوم بها كلها مجتهد واحد، أو قادر على القيام بها جميعها.
وهذا الذي يتبين سواء من حيث أنواع الاجتهاد أو شروط كل نوع منه، لا يعني جواز أن يعطي المجتهد الرأي أو أن يفتي، ولا جواز أخذ قوله أو فتواه، فإن هذه الشروط تدل على تمكنه من الفهم ومن إعطاء الرأي، ولا يجوز له أن يفتي إلا إذا كان منتصباً للفتوى بقوله وبسلوكه، وإلا فإن القدرة على الاجتهاد قد يحوزها الكافر. قال: "وقد أجاز النظار وقوع الاجتهاد في الشريعة من الكافر المنكر لوجود الصانع والرسالة والشريعة إذا كان الاجتهاد إنما ينبني على مقدمات تفرض صحتها كانت كذلك في نفس الأمر أو لا"(2). وقال: "المفتي قائم في الأمة مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - "(3). وقال: "إن الفتوى من المفتي تحصل من جهة القول والفعل والإقرار"(4). وبنى على ذلك قوله: "إن الفتيا لا تصح من مخالف لمقتضى العلم"(5). وقال: "أما أفعاله فإذا جرت على خلاف أفعال أهل الدين والعلم لم يصح الإقتداء بها ولا جعلها أسوةً في جملة أفعال السلف الصالح، وكذلك إقراره لأنه من جملة أفعاله"(6). ثم قال: "فإن المخالف بجوارحه يدل على مخالفته بقوله، والمخالف بقوله يدل على مخالفته بجوارحه لأن الجميع يستمد من أمر واحد قلبي، هذا بيان عدم صحة الفتيا منه على الجملة"(7).
الاجتهاد المعتبر شرعاً:
__________
(1) المصدر نفسه، 4/93.
(2) الشاطبي، الموافقات، 4/58.
(3) المصدر نفسه، 4/140.
(4) المصدر نفسه، 4/141.
(5) المصدر نفسه، 4/144.
(6) المصدر نفسه، 4/145.
(7) الموضع نفسه.(2/15)
إذا كانت هذه أنواع الاجتهاد فإن الاجتهاد الذي عليه التعويل وله الغاية المرجوة هو الاجتهاد الذي يبين الحكم عندما يشتبه على المكلفين، وهو موضع لاختلاف الرأي ولا يكون في القطعيات التي لا مجال فيها للاختلاف، وهو الاجتهاد الذي يحتاج إلى فهم المقاصد والتمكن من الاستنباط من النصوص بناءً على هذا الفهم، فالاجتهاد المعتبر شرعاً هو الاجتهاد الصادر عن أهله الحائزين لشروطه أولاً، وهو الذي يكون لأجل بيان الحكم الشرعي في المسائل التي لا قطع فيها، وخاصةً تلك المسائل التي تقع في الوسط بين أصلين مختلفين، ويصعب إلحاقها بهذا الأصل أو ذاك، وهذا في مقابل المسائل التي هي ظنية لا قطع فيها ولكن ترجح أحد الجانبين فيها ظاهر، والجانب المرجوح فيها هو احتمال ضعيف، وفي كل حال فإن المقدِم على المسائل القطعية بغير اجتهاد حائم حول الحمى يوشك أن يقع فيه، قال: "الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان: أحدهما الاجتهاد المعتبر شرعاً وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر إليه الاجتهاد وهذا هو الذي تقدم الكلام فيه، والثاني غير المعتبر وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر إليه الاجتهاد لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي والأغراض، وخبط في عماية واتباع للهوى، فكل رأي صدر على هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره لأنه ضد الحق الذي أنزل الله"(1). أما ما يفتقر إليه هذا الاجتهاد فقد تبين سابقاً وهو: "فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والتمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها".
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/93.(2/16)
أما بالنسبة لما يجتهد فيه فقال: "محال الاجتهاد المعتبر هي ما ترددت بين طرفين وضح في كل واحدٍ منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات"(1). وقال إن أفعال المكلف: "إن أتى فيها خطاب فإما أن يظهر فيه للشارع قصد في النفي أو في الإثبات أو لا، فإن لم يظهر له قصد البتة فهو قسم المتشابهات وإن ظهر فتارةً يكون قطعياً وتارةً يكون غير قطعي، فأما القطعي فلا مجال للنظر فيه بعد وضوح الحق في النفي أو في الإثبات وليس محلاً للاجتهاد وهو قسم الواضحات لأنه واضح الحكم حقيقة والخارج عنه مخطئ قطعاً"(2).
ولقد ذُكِرَ في الفصل السابق عند بيان مختلف الأقوال في كيفية بيان السنة للقرآن أن أحدها هو بيان ما اشتبه أمره وتردد إلحاقه بين أصلين، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - الأصل الذي يجب الإلحاق به. ومن ذلك مثلاً أن الله سبحانه وتعالى أحل الطيبات وحرم الخبائث فاشتبه أمر بعض الأشياء كذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير وغيرها أتلحق بالطيبات أم بالخبائث فبينها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث تنهى عن ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير وعن لحوم الحمر الأهلية(3)، وهكذا الأمر هنا، فالاجتهاد المعتبر هو الذي يبين ما اشتبه على الناس حكمه وتردد بين أصلين تردداً ظاهره المساواة بينهما في الإلحاق.
__________
(1) المصدر نفسه، 4/86.
(2) المصدر نفسه، 4/87.
(3) البخاري (5101)، (5104)، ومسلم (3570)، (3575)، والترمذي (1374)، (1397) وقال حسن صحيح، والنسائي (4251)، (4273)، والنسائي (4267).(2/17)
ومن أمثلة ذلك بيع الغرر، فقد نهى الشرع عنه، ومن المعاملات ما هو واضح أنه غرر ومنها ما هو واضح أنه ليس غرراً، وبينهما ما يشتبه هل هو غرر أو لا. فالقول في هذا هو للمجتهد المعتبر. قال: "فمن ذلك أنه نهى عن بيع الغرر ورأينا العلماء أجمعوا على منع بيع الأجنة والطير في الهواء والسمك في الماء. وعلى جواز بيع الجبّة التي حشوها مغيّب عن الأبصار ولو بيع حشوها بانفراده لامتنع وعلى جواز كراء الدار مشاهرةً مع احتمال أن يكون الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين وعلى دخول الحمام مع اختلاف عادة الناس في استعمال الماء وطول اللبث"(1). ثم قال: "فكل مسألة وقع الخلاف فيها في باب الغرر فهي متوسطة بين الطرفين آخذة بشبه من كل واحد منهما"(2).
ومن الأمثلة أيضاً زكاة الحلي وشهادة المجهول الحال وتملك العبد وغيرها. قال: "وذلك أنهم أجمعوا على عدم الزكاة في العروض وعلى الزكاة في النقدين فصار الحلي المباح الاستعمال دائراً بين الطرفين فلذلك وقع الخلاف فيها. واتفقوا على قبول رواية العدل وشهادته وعلى عدم قبول ذلك من الفاسق وصار المجهول الحال دائراً بينهما فوقع الخلاف فيه، واتفقوا على أن الحر يملك والبهيمة لا تملك ولما أخذ العبد بطرفٍ من كل جانب اختلفوا فيه هل يملك أم لا بناءً على تغليب حكم أحد الطرفين"(3). ثم قال: "ولعلك لا تجد خلافاً واقعاً بين العقلاء معتداً به في العقليات أو في النقليات لا مبنياً على الظن ولا على القطع إلا دائراً بين طرفين لا يختلف فيهما أصحاب الاختلاف"(4).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/88.
(2) الموضع نفسه.
(3) المصدر نفسه، 4/88.
(4) المصدر نفسه، 4/89.(2/18)
ولا يعني هذا أنه لا يوجد اجتهاد في غير هذه المحالّ. وإنما هذا هو الاجتهاد المعتبر، أي الذي يؤدي إلى بيان حكم الله في الفعل. أما الاجتهاد في غير هذا فهو أثناء طلب العلم والترقي فيه وفهم المقاصد، إذ إن طالب العلم يتعلم ويستقرئ ويجتهد لفهم المقاصد وعلل الشريعة مع ما يتضمنه هذا من لزوم تحصيل علوم اللغة والحديث وفهم أسباب النزول وسائر العلوم اللازمة، وهو في أثناء ذلك يجتهد لتحصيل العلم بالمقاصد على كمالها، ولكنه قبل تحصيل العلم بالمقاصد على كمالها إذا اجتهد في المحالّ المذكورة أعلاه فاجتهاده غير معتبر. لذلك وجدناه يقول فيما مرّ من نصوص له إن الاجتهاد هو بذل الوسع في طلب القطع أو الظن بالحكم. ووجدناه أيضاً ينفي الاجتهاد في القطعيات.
اختلاف المجتهدين:
يبذل المجتهد وسعه لمعرفة حكم الله في الفعل. وما يتوصل إليه حكم ظني، إذ لو كان قطعياً لما كان مما يحتاج إلى اجتهاد ولما ساغ فيه تردد الرأي والنظر. قال الشاطبي: "فأما القطعي فلا مجال للنظر فيه"(1). وقال: "والخارج عنه مخطئ قطعاً"(2). ولذلك قيل: لا اجتهاد مع النص، أي قطعي الثبوت والدلالة.
وإذا كان الحكم ظنياً فذلك مما يختلف فيه المجتهدون، فتختلف آراؤهم. والحكم في الفعل هو قصد الشارع من الخطاب المتعلق فيه وهو واحد لا يتعدد وهذا أمر قطعي. إذا، لا يمكن أن يكون كل المجتهدين مع اختلافهم مصيبين، وإنما المصيب واحد. وهكذا الأمر في كل حكم من أحكام الشريعة. وتعدد قصد الشارع في قضية واحدة محال. قال تعالى: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (3).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/187.
(2) الموضع نفسه.
(3) سورة النساء، 82.(2/19)
والمجتهدون مأجورون، المخطئ منهم والمصيب. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران"(1).
وما يتوصل إليه المجتهد باجتهاده هو ما غلب على ظنه أنه حكم الله، فيكون هو حكم الله في حقه لا يصح له أن يتركه لرأي مجتهد غيره ولا أن يفتى إلا به(2). قال الشاطبي: "الشريعة كلها ترجع إلى قولٍ واحدٍ في فروعها وإن كثُر الخلاف كما أنها في أصولها كذلك ولا يصلح فيها غير ذلك"(3). وقال: "إن الإصابة هي بموافقة قصد الشارع وإن الخطأ بمخالفته"(4). وقال: "وإن قيل إن الكل مصيبون فليس على الإطلاق بل بالنسبة إلى كل مجتهد أو من قلده لاتفاقهم على أن كل مجتهد لا يجوز له الرجوع عما أداه إليه اجتهاده ولا الفتوى إلا به"(5). وقال: "تجويز أن يأتي دليلان متعارضان فإن أراد الذاهبون إلى ذلك التعارض في الظاهر وفي أنظار المجتهدين لا في نفس الأمر فالأمر على ما قالوه جائز، ولكن لا يقضي ذلك بجواز التعارض في أدلة الشريعة. وإن أرادوا تجويز ذلك في نفس الأمر فهذا لا ينتحله من يفهم الشريعة لورود ما تقدم من الأدلة عليه، ولا أظن أن أحداً منهم يقوله"(6). وروى عن مالك رضي الله عنه قوله: "هذا لا يكون قولان مختلفان صوابين"(7).
الخطأ في الاجتهاد:
__________
(1) البخاري (6805)، مسلم (3240)، الترمذي (1240) وقال: حسن غريب، والنسائي (5286)، وأبو داود (3103)، وابن ماجه (2305)، وأحمد (17106) ونص الحديث عندهم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر".
(2) هذا هو الأصل، ولكنه ليس على الإطلاق في كل حال.
(3) الشاطبي، الموافقات، 4/63.
(4) المصدر نفسه، 4/68.
(5) الشاطبي، الموافقات، 4/69.
(6) الموضع نفسه.
(7) المصدر نفسه، 4/70، وجاءت العبارة في النسخة التي بتحقيق الدكتور درّاز هكذا: "هذا لا يكون قولان مختلفين صوابين". 4/129.(2/20)
تبين أن المجتهد المخطئ مأجور. ولكن هذا في المجتهد الذي بلغ الدرجة التي تمكنه من الاجتهاد، فهذا تقليده جائز وإن كان احتمال خطئه قائماً، فالصواب غير مقطوع به ولا متعين مع فلان. إلا أن هذا لا يعني جواز أخذ قول المجتهد بإطلاق. فمن الأقوال ما يتعين أنه خطأ وإن صدرت عن المجتهد المعتبر، وهذا ما يسميه الشاطبي زلة العالم. ومن الأقوال ما يُحكم بخطئها وإن احتملت إصابة الصواب أو قصد الشارع. وهي الأقوال الصادرة عمّن اجتهاده غير معتبر وهو الذي لم يضطلع بما يفتقر إليه الاجتهاد.
أما الأول فاجتهاده في الأصل معتبر ولكنه قد يزل فهمه فيتوهم من النص ما لم يقصده الشارع، أو أنه لا يطلع على النص أصلاً، وربما يرجع عن قوله ولكن يُعلم القول ولا يعلم الرجوع، فلا يجوز اتباع العالم في الزلة أو تقليده فيها.
أما الاجتهاد الصادر عن غير أهله، فهو منشأ الزيغ والبدع والاختلاف والتفرق في الدين، وهؤلاء الذين لم يفهموا المقاصد على كمالها تراهم يتمسكون بوجوه من الجزئيات ويهدمون الكليات. ولقد حذر الشاطبي من مثل هذه الآراء والأقوال أشد التحذير، وكرر تخطئتها والتحذير منها في الموافقات، وتوسع في ذلك بشكل كبير في الاعتصام.(2/21)
أما بالنسبة للخطأ الذي يصدر عمن اجتهاده معتبر فقال: "فيعرض فيه الخطأ في الاجتهاد إما بخفاء بعض الأدلة حتى يتوهم فيه ما لم يقصد منه وإما بعدم الإطلاع عليه جملة"(1). وحذّر منه مستشهداً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: أخاف عليهم من زلّة العالم ومن حكم جائر ومن هوىً متبع"(2). وقال: "وعن ابن عباس: ويلٌ للأتباع من عثرات العالم. قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه فيترك قوله ثم يمضي الأتباع"(3). وبعد أن بيّن وجوب الحذر منها قال: "وأكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه والوقوف دون أقصى المبالغة في البحث عن النصوص فيها. وهو وإن كان على غير قصد ولا تعمّد وصاحبه معذور ومأجور لكن مما ينبني عليه في الاتباع لقوله فيه خطر عظيم"(4). وبناء على ذلك قال: "إن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ولا الأخذ بها تقليداً له وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع"(5).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/93.
(2) الحافظ الهيثمي، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، كتاب الخلافة، باب في أئمة الظلم والجور وأئمة الضلالة، (9220)، ومعجم الطبراني الكبير باب الظاء.
(3) الشاطبي، الموافقات، 4/94.
(4) المصدر نفسه، 4/95.
(5) الموضع نفسه.(2/22)
ولكن، كيف يعرف المقلد الزلة؟ قال: "فإن قيل فبماذا يعرف من الأقوال ما هو كذلك مما ليس كذلك. فالجواب إنه من وظائف المجتهدين فهُمُ العارفون بما وافق أو خالف وأما غيرهم فلا تمييز لهم في هذا المقام"(1). وقال: "فإن قيل فهل لغير المجتهد من المتفقهين في ذلك ضابط أم لا، فالجواب إن له ضابطاً تقريبياً. وهو أن ما كان معدوداً في الأقوال غلطاً وزللاً قليل جداً في الشريعة"(2)، ثم قال: "فإذا انفرد صاحب قول عن عامة الأمة فليكن اعتقادك أن الحق مع السواد الأعظم من المجتهدين لا من المقلدين"(3).
أما المجتهد صاحب الزلة فلا ينبغي أن يشنع عليه، ولقد ذكر فيما سبق من نصوص أنه معذور ومأجور، وقال: "كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير ولا أن يشنع عليه بها ولا ينتقص من أجلها أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين"(4).
__________
(1) المصدر نفسه، 4/97.
(2) الموضع نفسه.
(3) الموضع نفسه. ومما نقله في ذلك: "وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته إياكم وزيغة الحكيم فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة وقد يقول المنافق، فتلقوا الحق عمن جاء به فإن على الحق نوراً. قالوا: وكيف زيغة الحكيم؟ قال: هي كلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون: ما هذه فاحذروا زيغته ولا تصدنكم عنه فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق"، 4/94.
(4) الشاطبي، الموافقات، 4/95. وقد ذكر أمثلة على هذه الزلات نسبها إلى بعض الصحابة والتابعين منها شرب النبيذ ومنها بيع الدرهم بالدرهمين يداً بيد، وقال إنها لا يصح اعتمادها خلافاً في المسائل الشرعية. أنظر: 4/96.(2/23)
أما بالنسبة للاجتهاد الصادر عمن هو ليس من أهله حيث يعتقد هو في نفسه أو يعتقد غيره فيه أنه من أهله فقال: "فيعرض فيه أن يعتقد في صاحبه أو يعتقد هو في نفسه أنه من أهل الاجتهاد وأن قوله معتد به وتكون مخالفته تارةً في جزئي وهو أخف وتارةً في كلي من كليات الشريعة وأصولها العامة كانت من أصول الاعتقادات أو الأعمال، فتراه آخذاً ببعض جزئياتها في هدم كلياتها حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ رأيه من غير إحاطةٍ بمعانيها ولا راجع رجوع الافتقار إليها"(1). ثم قال: "ويكون الحامل على ذلك بعض الأهواء الكامنة في النفوس"(2). وقال: "ويعين على هذا الجهلُ بمقاصد الشريعة"(3). وقال: "وأصل هذا القسم مذكور في قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } (4) الآية، وفي الصحيح: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية ثم قال: فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم"(5)"(6).
وبين الشاطبي أن مثل هذا الاجتهاد هو منشأ البدع والفِرَق. وهو سبب الاختلاف في الدين والتفرق فيه. وعن مثله صدر الخوارج، ومن علاماته الفُرقَةُ أي مفارقة الجماعة ثم التفرق فيما يبنهم، والزيغ أي اتباع الهوى، واتباع المتشابهات(7).
__________
(1) المصدر نفسه، 4/98.
(2) الموضع نفسه.
(3) الموضع نفسه.
(4) سورة آل عمران، 7.
(5) أخرجه الترمذي (2920) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأبو داود (3682) وأحمد (32079).
(6) الشاطبي، الموافقات، 4/98.
(7) أنظر: الموافقات ص: 4/104 - 105.(2/24)
وهذا بخلاف الاختلاف المشروع والمحمود. قال: "ووجدنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين ولم يفترقوا ولم يصيروا شيعاً لأنهم لم يفارقوا الدين وإنما اختلفوا فيما أذن لهم من اجتهاد الرأي والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا فيه نصاً، واختلفت في ذلك أقوالهم فصاروا محمودين لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به"(1).
علامة الاجتهاد المعتبر:
تبيّن أن صاحب الاجتهاد المعتبر هو الذي فهم مقاصد الشريعة على كمالها وتمكن من الاستنباط من النصوص بناء على فهمه فيها. والسؤال الذي يظهر هو كيف يُعرف أنه قد اضطلع بهذه المرتبة. يقول الشاطبي: "بقي النظر في المقدار الذي إذا وصل إليه فيها توجه عليه الخطاب بالاجتهاد بما أراه الله"(2). والذي يظهر من استقراء منهج الشاطبي أن علامة الاجتهاد المعتبر هي ثلاثة أمور:
الأول: إعمال الكليات والجزئيات معاً.
الثاني: النظر في مآلات الأفعال.
الثالث: النظر في أحوال المكلفين على الخصوص.
وهذه الأمور الثلاثة ناتجة عن فهم المقاصد، ويجب أن تظهر عند الاستنباط الذي هو ثمرة الفهم.
أما الأول فقد تبين سابقاً، وفهم المقاصد لازم له فمن لا يفهمها لا يُعملها، ومن يفهم الكليات لا يستغني عن الجزئيات، فيدخل ضمن فهم المقاصد فهم مقاصد الأحكام التفصيلية. فمثلاً إعمال أصل حفظ المال وهو أصل كلي في فعل السرقة أو الغصب أو الغش من غير اعتبار بالنصوص الخاصة بهذه الأفعال خطأ، إذ عقوبة القطع وعقوبة القتل وعقوبة السجن أو غيرها كلها ترجع إلى الأصل الكلي. وهذا ظاهر الخطأ، فلا يكفي إعمال الأصل الكلي وحده. وكذلك لا يكفي إعمال الجزئيات دون اعتبار بالكليات، فهذا كما تبين قبل قليل مدخل الهدم في الشريعة، ففكرة المقاصد تنقضه.
__________
(1) المصدر نفسه، 4/105.
(2) المصدر نفسه، 4/127.(2/25)
وأما الثاني وهو النظر في مآلات الأفعال، فهو أيضاً راجع إلى موافقة قصد الشارع من الشريعة. فالشارع شرع الحكم لغاية. وقد تحصل حالات يكون الحكم نفسه مُفوِّتاً للغاية التي شرع الحكم أصلاً لأجلها كما في الحيل والذرائع. فعلى المجتهد حين الاستنباط أن ينظر في الفعل نفسه ومآله. وإلا فوت قصد الشارع من تشريعه قال: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقةً أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك"(1).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/110.(2/26)
أما الثالث وهو النظر في أحوال المكلفين على الخصوص. فهذا راجع إلى فهم المقاصد ولكن أدق المقاصد. إذ يوقع المجتهد الأحكام على المكلفين كلٍ بحسب حاله معتمداً على ما آتاه الله من حكمة وما جعل له من نور، وهذا راجع إلى تحقيق المناط - حسب الشاطبي - ولكنه نوع خاص منه، قال: "تحقيق المناط على قسمين، تحقيق عام وهو ما ذكر(1)، وتحقيق خاص من ذلك العام"(2). أما الأول وهو العام فقد تبين سابقاً، أما الثاني فقال فيه: "أما الثاني وهو النظر الخاص فأعلى من هذا وأدق وهو في الحقيقة ناشئ عن نتيجة التقوى المذكورة في قوله تعالى: { إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } (3)، وقد يعبر عنه بالحكمة ويشير إليها قوله تعالى: { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } (4)"(5). وقال: "فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نوراً يعرف به النفوس ومراميها وتفاوت إدراكها وقوة تحملها للتكاليف وصبرها على تحمل أعبائها أو ضعفها ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها بناءً على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف، فكأنه يخص عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقيق"(6). ثم قال: "هذا معنى تحقيق المناط هنا"(7). وقد استدل الشاطبي لهذا النوع بأمثلة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) وقد تبين معناه في الفصل الأول، وفي هذا المبحث أيضاً.
(2) الشاطبي، الموافقات، 4/50.
(3) سورة الأنفال، 29.
(4) سورة البقرة، 269.
(5) الشاطبي، الموافقات، 4/51.
(6) الشاطبي، الموافقات، 4/ 51 - 52.
(7) الموضع نفسه.(2/27)
قال: "فمن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال وخير الأعمال وعرف بذلك في بعض الأوقات من غير سؤال فأجاب بأجوبةٍ مختلفةٍ كل واحدٍ منها لو حمل على إطلاقه أو عمومه لاقتضى مع غيره التضاد في التفصيل. ففي الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام "سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله. قال: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قال: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور"(1). وسئل عليه الصلاة والسلام أي الأعمال أفضل: قال: الصلاة لوقتها. قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله"(2). وفي النسائي عن أبي أمامة قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت مرني بأمر آخذه عنك. قال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له"(3). وفي الترمذي: "أي الأعمال أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون لله كثيراً والذاكرات(4)"(5) إلخ. فهذا مما اختلفت فيه الأجوبة بحسب أحوال المكلفين، وهذا هو ما قصده الشاطبي بتحقيق المناط الخاص.
وهذه العلامات الثلاث يجب أن توجد جميعها في المجتهد، فلا تكفي اثنتان مثلاً وإن كان وجودها محققاً إلى درجة كبيرة، وإن وجدت كلها فبمقدار تمكن المجتهد منها تعلو درجته فيبلغ ذروة المجد في الاجتهاد.
__________
(1) البخاري (1422) ومسلم (118) والترمذي (1820) وقال: حسن صحيح. والنسائي (2577) وأحمد (7273) والدارمي (2286).
(2) الترمذي (1820) وقال: حسن صحيح. وأحد (3776).
(3) النسائي (2190). وأخرجه بلفظ: لا عدل له النسائي (2192) وأحمد (21128).
(4) الترمذي (3298) وقال: حديث غريب. وأحمد (11295) بدون كلمة: والذاكرات.
(5) الشاطبي، الموافقات، 4/52.(2/28)
وللتحقق من بلوغ المجتهد درجة الاعتبار يقول إن طالب العلم له ثلاثة أحوال، حال يتضح فيها أنه ليس من أهل الاجتهاد المعتبر فاللازم له التقليد بلا خلاف. وحال يتضح فيها أنه من أهل الاجتهاد المعتبر بلا خلاف، وبين الحالين ما يلتبس ويشكل أمره، فيقع الخلاف في شأنه.
أما صاحب الحال الأول فهو الذي ما زال ينظر في الجزئيات وتتعين عنده المعاني الكلية، ولكنها لم تكتمل بعد، وما زال ينظر ويستقرئ لفهم المقاصد، فيسرح عقله فيها، فمنها ما يطرد ويثبت، ومنها ما تأتي النصوص معارضة له فلا يثبت أصلاً كلياً. فهذا لا يصح منه الاجتهاد. قال: "أن يتنبه عقله إلى النظر فيما حفظ والبحث عن أسبابه، وإنما ينشأ هذا عن شعور بمعنى ما حصل لكنه مجمل بعد"(1)، وقال: "فهذا الطالب حين بقائه هنا ينازع الموارد الشرعية وتنازعه ويعارضها وتعارضه طمعاً في إدراك أصولها والاتصال بحكمها ومقاصدها ولم تتخلص له بعد لا يصح منه الاجتهاد فيما هو ناظر فيه لأنه لم يتخلص له مسند الاجتهاد ولا هو منه على بينة بحيث ينشرح صدره بما يجتهد فيه فاللازم له الكف والتقليد"(2).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/127.
(2) الموضع نفسه.(2/29)
أما صاحب الحال الواضح في الطرف الآخر، فهو الذي تظهر عنده العلامات الثلاث، قال عنه: "يتحقق بالمعاني الشرعية منزلة على الخصوصيات الفرعية بحيث لا يصده التبحر في الاستبصار بطرف عن التبحر في الاستبصار بالطرف الآخر، فلا هو يجري على عموم واحد منها دون أن يعرضه على الآخر، ثم يلتفت مع ذلك إلى تنزل ما تلخص له على ما يليق في أفعال المكلفين"(1). وقال: "وهذه الرتبة لا خلاف في صحة الاجتهاد من صاحبها"(2). وقال عنه: "ومن خاصيته أمران: أحدهما أنه يجيب السائل على ما يليق به في حالته على الخصوص"(3). "والثاني: أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات"(4).
أما من التبس حاله فهو واقع بين الطرفين الواضحين، وقد اكتمل عنده فهم الكليات الشرعية واستقراء الجزئيات، لم يقصر في ذلك بشيء، ولكنه عند النظر في المسائل يعمل الكليات دون التفاتٍ إلى الجزئيات، يقول فيه: "أن ينتهي بالنظر إلى تحقيق ما حصل على حسب ما أداه إليه البرهان الشرعي بحيث يحصل له اليقين ولا يعارضه شك، بل تصير الشكوك إذا أوردت عليه كالبراهين الدالة على صحة ما في يديه"(5). ثم قال: "لكنه استمر به الحال إلى أن زل محفوظه عن حفظه حكماً وإن كان موجوداً عنده فلا يبالي في القطع على المسائل أنص عليها أو على خلافها أم لا"(6). وعقب: "فإذا حصل الطالب على هذه المرتبة فهل يصح منه الاجتهاد في الأحكام الشرعية أم لا؟ هذا محل نظرٍ والتباس ومما يقع فيه الخلاف"(7).
__________
(1) المصدر نفسه، 4/131.
(2) الموضع نفسه.
(3) المصدر نفسه، 4/132.
(4) المصدر نفسه، 4/132.
(5) الشاطبي، الموافقات، 4/127.
(6) المصدر نفسه، 4/128.
(7) الموضع نفسه.(2/30)
ويورد الشاطبي حجج القائلين بأن من هذا حاله متمكن جداً من الاستنباط، وكلها ترجع إلى عدم لزوم إعمال الجزئيات لأنها متضمنة في الكليات، فإذا فرضنا اكتمال الكليات عنده، فإن إعمال الكليات هو إعمال للجزئيات(1).
أما حجج المانعين لاجتهاد من هذا حاله فكلها ترجع إلى أنه غير متمكن من إعمال الجزئيات أو أنه لا يعملها، فهو إذاً لا يعتبر خصوصيات الأحوال والأفعال والمكلفين فلا يستقيم مع هذا أن يكون من أهل الاجتهاد(2).
ويأتي الشاطبي بمثالين على أصحاب هذه المرتبة، يقول: "ومن أمثلة هذه المرتبة مذهب من نفى القياس جملةً وأخذ بالنصوص على الإطلاق، ومذهب من أعمل القياس على الإطلاق ولم يعتبر ما خالفه من الأخبار جملةً"(3). ثم قال: "فأصحاب الرأي جردوا المعاني فنظروا في الشريعة بها واطرحوا خصوصيات الألفاظ والظاهرية جردوا مقتضيات الألفاظ فنظروا في الشريعة بها واطرحوا خصوصيات المعاني القياسية"(4).
لا يمكن انقطاع الاجتهاد كلياً:
تبين أن الاجتهاد ثلاثة أنواع، ومنه الاجتهاد لتحقيق المناط، وأن هذا نوعان تحقيق بالمعنى العام، وتحقيق بالمعنى الخاص، وقد ذهب الشاطبي إلى أن كل أنواع الاجتهاد يمكن أن تنقطع ما عدا الاجتهاد في تحقيق المناط بالمعنى العام. وهذا إذا ارتفع يؤدي إلى ارتفاع التكليف رأساً بخلاف سائر الأنواع الأخرى، وبيان ذلك أن تحقيق المناط هذا يجب حصوله في كل واقعة، فإذا فقد استحال تطبيق الأحكام، أما إذا انقطعت أنواع الاجتهاد الأخرى فإن اتساع اجتهادات المتقدمين تفي بأفعال المكلفين، والمستجدات التي قد يفتقر إلى أحكام لها قليلة بالنسبة إليها، وهذا لا يضير حسب قوله.
__________
(1) الموضع نفسه. ...
(2) المصدر نفسه، 4/128 - 129.
(3) المصدر نفسه، 4/129.
(4) المصدر نفسه، 4/130.(2/31)
قال: "الاجتهاد على ضربين: أحدهما لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف وذلك عند قيام الساعة، والثاني يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا، فأما الأول فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط"(1).
أما أن تحقيق المناط يحتاج إلى اجتهاد فقد تبين سابقاً، ومما قاله فيه في هذا الموضع: "إن الشارع إذا قال: { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } (2) وثبت عندنا معنى العدالة شرعاً افتقرنا إلى تعيين من حصلت فيه هذه الصفة، وليس الناس في وصف العدالة على حد سواء، بل ذلك يختلف اختلافاً متبايناً، فإنا إذا تأملنا العدول وجدنا لاتصافهم بها طرفين وواسطة، طرف أعلى في العدالة لا شك فيه كأبي بكر الصديق، وطرف آخر وهو أول درجة في الخروج عن مقتضى الوصف"(3). ثم قال: "وبينهما مراتب لا تنحصر وهذا الوسط غامض لا بد فيه من بلوغ حد الوسع وهو الاجتهاد فهذا مما يفتقر إليه الحاكم في كل شاهد"(4).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/47.
(2) سورة الطلاق، 2.
(3) الشاطبي، الموافقات، 4/47.
(4) الموضع نفسه.(2/32)
وأما أن تحقيق المناط لا بد منه في كل واقعة وإن كان حكمها معروفاً فقال: "والأفعال لا تقع في الوجود مطلقةً، وإنما تقع معينةً مشخصةً فلا يكون الحكم واقعاً عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام"(1). فإذا انقطع هذا الاجتهاد امتنع العلم بالأحكام، فيرتفع التكليف. قال: "يسقط عن المستفتي التكليف بالعمل عند فقد المفتي إذا لم يكن له به علم لا من جهة اجتهاد معتبر ولا من تقليد"(2). وهذا الاجتهاد لا ينقطع عملياً لأنه مستطاع ولا يحتاج إلا إلى النظر العقلي وما يلزم له من معلومات يمكن أخذها من اجتهادات المتقدمين، قال: "فلا بد من هذا الاجتهاد في كل زمان إذ لا يمكن حصول التكليف إلا به، فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد لكان تكليفاً بالمحال وهو غير ممكن شرعاً كما أنه غير ممكن عقلاً"(3).
أما الاجتهاد الذي يمكن أن ينقطع فثلاثة أنواع، قال: "الاجتهاد الذي يمكن أن ينقطع فثلاثة أنواع: أحدها المسمى بتنقيح المناط"(4). ثم قال: "والثاني المسمى بتخريج المناط"(5). وهذان النوعان يفيدان في ادعاء العلل وفي استقرائها وإثباتها أو ردها. ثم قال: "والثالث وهو نوع من تحقيق المناط"(6)، ومراده تحقيق المناط الخاص وقد تقدم بيانه.
__________
(1) المصدر نفسه، 4/49.
(2) الشاطبي، الموافقات، 4/172.
(3) الموضع نفسه.
(4) المصدر نفسه، 4/49، تنقيح المناط وتخريج المناط وتحقيق المناط تقدم شرحها في الفصل الأول.
(5) المصدر نفسه، 4/50.
(6) الموضع نفسه.(2/33)
فهذه الأنواع الثلاثة يمكن أن تنقطع بانقطاع المجتهدين، ولكن لا يرتفع التكليف بانقطاعها، قال: "فإن الوقائع المتجددة التي لا عهد بها في الزمان المتقدم قليلة بالنسبة إلى ما تقدم لاتساع النظر والاجتهاد عند المتقدمين فيمكن تقليدهم فيه لأنه معظم الشريعة فلا تتعطل الشريعة بتعطل بعض الجزئيات كما لو فرض العجز عن تحقيق المناط في بعض الجزئيات دون السائر فإنه لا ضرر على الشريعة في ذلك"(1).
المبحث الثاني
ضوابط التقليد(2) والفتوى
موضوع هذا المبحث:
قصد الشارع في التشريع إخراج المكلف عن داعية هواه ليكون عبداً لله اختياراً، فعليه أن يتحرى حكم الله في أفعاله، فإن كان متمكناً من استنباط الأحكام بنفسه فهو مجتهد، وإن لم يكن كذلك فهو المقلد وعليه أن يتحرى معرفة حكم الله بواسطة القادر على ذلك وهو المجتهد. والمجتهدون ليسوا معصومين عن الخطأ، ويتفاوتون في العلم والفقه والورع وفيما يكونون به مجتهدين يجوز تقليدهم ويختلفون في اجتهاداتهم وفتاويهم. وكما أن على المجتهد أن يتحرى قصد الشارع بفهم الأدلة الشرعية فكذلك على المقلد أن يتحرى موافقة قصد الشارع بتقليد من يغلب على ظنه أن تقليده يحقق له ذلك. لذلك ينبغي أن يعرف الأوصاف والعلامات التي يجب أن يتحقق منها أو يستعين بها المقلد ليعيِّن المجتهد الذي يقلده أو الفتوى التي يلتزم بها.
__________
(1) المصدر نفسه، 4/55.
(2) قال الزركشي: "واختلفوا في حقيقته هل هو قبول قول القائل وأنت تعلم من أين قاله؟ أي من كتاب أو سنة أو قياس، أو قبول القول من غير حجة تظهر على قوله؟" البحر المحيط، 4/554.(2/34)
وكذلك فإن بعض المفتين يعتمدون في فتاواهم على قواعد أو أصول يسعون بها إلى أغراض لهم، أو يتوهمونها صحيحة أو شرعية وهي ليست كذلك. لذلك وجب تحذير هؤلاء المفتين من مناهجهم أو مما يفعلونه في الفتوى، وكذلك التحذير من هكذا فتاوى، وإعلام المستفتي أو المقلد بذلك لتكون من علامات التمييز بين المجتهدين.
ولأجل بيان كيفية تحري حال المفتي أو المجتهد، وكذلك بيان مواطن أو بعض مواطن الانحراف في الفتوى كان هذا المبحث.
المجتهدون أدلة المقلدين:
بما أن الناس مكلفون بالأحكام، والأحكام مصادرها النصوص الشرعية، والمقلدون ليس من شأنهم الاستنباط من النصوص، فالنصوص بالنسبة إليهم معدومة، وعليهم أن يفهموا الأحكام بواسطة من يفهمها من النصوص. وفقد المجتهد بالنسبة إلى المقلد كفقد الدليل بالنسبة إلى المجتهد، قال الشاطبي: "فتاوى المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين، والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء إذ كانوا لا يستفيدون منها شيئاً فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم ولا يجوز ذلك لهم البتة"(1). وقال: "فهم إذاً القائمون له مقام الشارع وأقوالهم قائمة مقام الشارع"(2). وقال: "لا تكليف إلا بدليل فإذا لم يوجد دليل على العمل سقط التكليف به، فكذلك إذا لم يوجد مفتٍ في العمل فهو غير مكلف به فثبت أن قول المجتهد دليل العامي والله أعلم"(3).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/173.
(2) الموضع نفسه.
(3) الموضع نفسه.(2/35)
وعلى ذلك فإذا عرضت للمقلد مسألة عليه أن لا يقدم عليها إلا بعد معرفة حكم الله فيها وذلك هو مقتضى التكليف والتقوى(1)، فعليه أن يسأل عنها أهلها وهم أهل النظر والاستنباط، قال: "إن المقلد إذا عرضت له مسألة دينية فلا يسعه في الدين إلا السؤال عنها"(2). وقال: "السائل لا يصح له أن يسأل من لا يعتبر في الشريعة جوابه"(3). وقال: "إذا تعين عليه السؤال فحق عليه أن لا يسأل إلا من هو من أهل ذلك المعنى الذي يسأل عنه"(4).
__________
(1) ذهب الشاطبي إلى أن قوله تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } سورة البقرة، 282. ليست على ما يفهمه كثير من الناس بل على ما يقرره الأئمة في صناعة النحو، أي إن الله يعلمكم على كل حال فاتقوه. فكان الثاني وهو العلم سبباً في الأول وهو التقوى. فترتب الأمر بالتقوى على حصول العلم ترتباً معنوياً وهو يقتضي تقدم العلم على العمل. أنظر: الموافقات، 4/151 - 152.
(2) الشاطبي، الموافقات، 4/151.
(3) المصدر نفسه، 4/152.
(4) الموضع نفسه.(2/36)
وقد يجد المقلد من يبين له الحكم وقد لا يجده، فإن لم يجده يسقط عنه التكليف حسب قول الشاطبي، وإن وجده فقد تتحد الأقوال في مسألته وقد تتعدد، فإن اتحدت فلا إشكال وإن تعددت فعليه أن يرجح بينها، ولا بد له من مرجح شرعي ولا يصح له التخير. قال الشاطبي: "لا فرق بين مصادفة المجتهد الدليل ومصادفة العامي المفتي، فتعارض الفتوتين عليه كتعارض الدليلين على المجتهد، فكما أن المجتهد لا يجوز في حقه اتباع الدليلين معاً ولا اتباع أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح، كذلك لا يجوز للعامي اتباع المفتيين معاً ولا اتباع أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح، وقول من قال إذا تعارضا عليه تخيَّر(1) غير صحيح"(2).
الترجيح بين المجتهدين:
__________
(1) قال الشوكاني: إنه قول أكثر أصحاب الشافعي، إرشاد الفحول: 271، وفي هذه المسألة أقوال كثيرة، أنظر: الزركشي، البحر المحيط، 4/592.
(2) الشاطبي، الموافقات، 4/71.(2/37)
ترجيح المقلد بين المجتهدين يكون عندما تتعارض أقوالهم في مسألته، وهو ترجيح بين مجتهدين وليس بين أقوال أو فتاوى، وترجيحه بين المجتهدين لا بد أن ينبني على أوصاف فيهم يستطيع أن يتبينها وأن يحكم عليها، فإذاً، ترجيح المقلد للمجتهد يعتمد على أفعاله. وهذا يرجع إلى التقوى والورع والفهم. ولا شك أن العلم أو الأعلمية هي إحدى وسائل الترجيح، ولكن هذا الأمر مما يخفى على المقلد، أو تتعارض فيه الأقوال، وقد يتساوى أو يتقارب العالمان في العلم، فلا ترجيح إلا بناءً على الأفعال وهي الدالة على الورع وعلى فهم المجتهد لأهمية فعله أمام العامة أو من يقتدي به، فيدرك أنه عليه أن ينتصب فقيهاً بقوله وفعله وبإقراره وليس فقط بقوله. وذلك أن "المفتي قائم في الأمة مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - "(1)، فهو قد ورث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - العلم، ويقوم بتبليغه وهو بالنسبة للمقلدين بمثابة الشارع باجتهاده(2)، ولذلك يقول: "الفتوى من المفتي تحصل من جهة القول والفعل والإقرار"(3). وعلى ذلك فإن ترجيح المقلد يعتمد على أوصاف في المجتهد هي:
1 ـ أن لا تخالف أفعاله الأحكام الشرعية وهو مقتضى العدالة.
2 ـ أن لا تخالف أفعاله أقواله، وإن كانت المخالفة من ضمن المشروع، وهو مقتضى الانتصاب للفتوى.
3 ـ أن يحمل الناس بفتواه على المعهود الوسط فهو معهود الشريعة وقصد الشارع.
4 ـ أن يخاف من الفتوى وهو مقتضى التقوى والورع والخوف من مخالفة قصد الشارع.
__________
(1) المصدر نفسه، 4/140.
(2) المصدر نفسه، 4/140 - 141.
(3) المصدر نفسه، 4/141.(2/38)
أما الوصف الأول وهو العدالة فيعرفه المقلد من معرفة سلوك المفتي في قوله وعمله، فإذا كان يخالف ما عليه أهل الدين والعلم فهذا لا يقتدى به ولا تؤخذ أقواله، فهذا يسقط عن درجة أن يرجح بينه وبين غيره، لأنه فاقد للعدالة، قال: "فأما فتياه بالقول فإذا جرت أقواله على غير المشروع، وهذا من جمله أقواله فممكن جريانها على غير المشروع فلا يوثق بها"(1). ومعنى النص أنه إذا كان في أقواله التي هي خارج إطار الفتاوى يخالف الشرع، فإن أقواله في الفتاوى ينطبق عليها الأمر نفسه فيمكن أن يخالف فيها الشرع فلا يعتد بها، وقال: "وأما أفعاله فإذا جرت على خلاف أفعال أهل الدين والعلم لم يصح الاقتداء بها ولا جعلها أسوةً في جملة أفعال السلف الصالح، وكذا إقراره لأنه من جملة أفعاله"(2). وقال: "فإن المخالف بجوارحه يدل على مخالفته في قوله، والمخالف بقوله يدل على مخالفته بجوارحه لأن الجميع يستمد من أمر واحد قلبي، هذا بيان عدم صحة الفتيا منه على الجملة"(3). وعلى ذلك فالقاعدة التي يقررها هي: "أن الفتيا لا تصح من مخالف لمقتضى العلم"(4).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/145.
(2) الموضع نفسه.
(3) الموضع نفسه.
(4) المصدر نفسه، 4/144.(2/39)
أما الوصف الثاني، فإن المفتي إذا طابقت أفعاله أقواله مطابقةً كان في أعلى الدرجات في هذا الوصف، وإذا حصل فيها التعارض، فهذا نزول عن الدرجة، ويرجح بين المجتهدين في مقدار هذا التعارض أو مواضعه، ولكن ينبغي هنا ملاحظة أن هذه المعارضة ليست مما يقدح بالعدالة، لأنها إن كانت كذلك، فلا يوثق بالفتوى أصلاً، قال: "من اجتمعت فيه شروط الانتصاب للفتوى على قسمين: أحدها من كان منهم في أفعاله وأقواله وأحواله على مقتضى فتواه فهو متصف بأوصاف العلم قائم معه مقام الامتثال التام حتى إذا أحببت الاقتداء به من غير سؤال غناك عن السؤال في كثير من الأعمال كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤخذ العلم من قوله وفعله وإقراره، فهذا القسم إذا وجد فهو أولى ممن ليس كذلك"(1). وقال: "فمن زهد الناس في الفضول التي لا تقدح في العدالة وهو زاهد فيها وتارك لطلبها فتزهيده أنفع من تزهيد من زهد فيها وليس بتاركٍ لها فإن ذلك مخالفة وإن كانت جائزة وفي مخالفة القول الفعل هنا ما يمنع من بلوغ مرتبة من طابق قوله فعله"(2).
أما إذا نزل المجتهدون عن هذه المرتبة فالمرجّح منهم من كانت مطابقة أقواله لأفعاله أغلب. قال: "فإذا اختلفت مراتب المفتين في هذه المطابقة فالراجح للمقلد اتباع من غلبت مطابقة قوله لفعله"(3). ومن عوامل الترجيح أن ينظر المقلد في مواضع المطابقة والمخالفة، فإن المطابقة في النواهي أرجح من المطابقة في الأوامر. قال: "والمطابقة أو عدمها ينظر فيها بالنسبة إلى الأوامر والنواهي، فإذا طابق فيهما فهو الكمال، فإن تفاوت الأمر فيهما أعنى فيما عدى شروط العدالة فالأرجح المطابقة في النواهي"(4). وذلك لأن اجتناب النواهي آكد وأبلغ في القصد الشرعي(5).
__________
(1) المصدر نفسه، 4/158.
(2) الشاطبي، الموافقات، 4/159.
(3) الموضع نفسه.
(4) الموضع نفسه.
(5) الموضع نفسه.(2/40)
أما الوصف الثالث وهو حمل الناس على المعهود الوسط، فهو أن الناس متفاوتون في مقدار تحملهم للتكاليف والمشاق، وفي مقدار إقبالهم على الطاعات وزهدهم في الدنيا وتنازلهم عن الحظوظ والحقوق، أو في إقبالهم على الدنيا وتمسكهم بحقوقهم وسعيهم إلى حظوظهم إلا أن الجميع قد جعل الشارع لهم حدوداً من واجبات عليهم القيام بها ومحرمات عليهم اجتنابها، فمن زهد في الدنيا وحظوظه وحقوقه ليس له التنازل عن حفظ نفسه وبدنه وتحصيل ما يلزم للقيام على نفسه وأهله ومن كلّفه الشارع بهم بالرعاية والنفقة وما إلى ذلك، فليس له ترك ذلك انقطاعاً إلى العبادة مثلاً. وكذلك من أقبل على الدنيا وزينتها وما أباح الله له منها، فإن عليه واجبات لا بد من قيامه بها، وحقوقاً لا بد من أدائها، وما بين ذلك فهم يتفاوتون في إقبالهم على المباحات والمندوبات وبعدهم عن المكروهات، أو إحجامهم عنها، وليست حال الناس في هذا واحدة. وكذلك هم متفاوتون في قدراتهم البدنية والذهنية كما هم متفاوتون في دوافعهم الروحية والمادية. وبناءً على ذلك فليس للمفتي أن يتعدى في فتواه حدود الواجبات أو المحرمات، وما بين هذه الحدود يقع الوسط حيث لا يليق بالمكلف ما يليق بالآخر، والتحقق من حال المكلف يرجع إلى تحقيق المناط الخاص وقد تبين في المبحث السابق. وقد يأخذ بعض المكلفين أنفسهم بالعزائم مبتعدين عن الرخص، ويأخذون أنفسهم بالمندوبات وكأنها عليهم واجبات ويتركون المكروهات وكأنها عليهم محرمات، بينما تكون العزائم والمندوبات شاقة على غيرهم وترك المكروهات مخلاً بهم وربما دفع إلى المعاصي، فالمفتي الفقيه الراسخ في العلم يفتي المكلف بما يليق بحاله فيما جعل له الشرع فيه سعة، وهو إذا أصدر الفتوى في مصلحة عامة، أو قضية من قضايا الجماعة أو الجمهور يحملهم على الوسط، أي ليس بحسب حال أدناهم ولا بحسب حال أعلاهم.(2/41)
فلا يفتي بالرخصة مثلاً بحسب أضعفهم بدناًَ أو نفساً أو طلباً للآخرة، ولا بحسب أقواهم في ذلك، وإنما يذهب فيهم مذهب الوسط المعهود، والمراد بالمعهود أي ما عهد من أمر الشريعة في حمل الناس على هذا الوسط من ضمن المأذون به شرعاً. والمقلد يرجح بين المجتهدين بحسب ما يلاحظه في فتاويه العامة، وليس الخاصة بأعيان المكلفين إذ هو ليس من أهل النظر في ذلك. فالمأذون به هو ما قصد الشارع الإذن فيه والوسط في ذلك هو أدق القصد للشارع. قال الشاطبي: "المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال"(1). وقال: "فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين"(2). وقال: "المستفتي إذا ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة وهو مشاهد"(3).
أما المفتي الذي تحمله مرتبته على أن يحمل نفسه ما هو فوق الوسط، فقد يظن الناس أن عليهم الاقتداء به فيحملون أنفسهم ما لا يصلح لهم، لذلك عليه أن يخفي عن الناس ما يأخذ نفسه به مما هو فوق الوسط، أو ينبه عليه، قال: "قد يسوغ للمجتهد أن يحمل نفسه من التكليف ما هو فوق الوسط"(4). ثم قال: "ولما كان مفتياً بقوله وفعله كان له أن يخفي ما لعله يقتدى به فيه، فربما اقتدى به فيه من لا طاقة له بذلك العمل فينقطع، وإن اتفق ظهوره للناس نبه عليه كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل إذ كان قد فاق الناس عبادةً وخلقاً"(5).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/149.
(2) الموضع نفسه.
(3) الموضع نفسه.
(4) المصدر نفسه، 4/150.
(5) الموضع نفسه.(2/42)
وبعد أن بين أن حمل الناس على الوسط هو أعلى الدرجات في الاجتهاد قال: "إذا ثبت أن الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع وهو الذي كان عليه السلف الصالح فلينظر المقلد أي مذهب كان أجرى على هذا الطريق فهو أخلق بالاتباع وأولى بالاعتبار، وإن كانت المذاهب كلها طرقاً إلى الله ولكن الترجيح فيها لا بد منه لأنه أبعد من اتباع الهوى كما تقدم وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد"(1).
أما الوصف الرابع وهو أن يخاف من الإفتاء، فقد ذكر بعض أئمة العلم المشهود لهم، وخص منهم الإمام مالك بن أنس - رحمه الله -، وذكر خوفهم من الفتوى أو من الخطأ فيها، ومن هذه الأوصاف كثرة قولهم: لا أدري، وتغير لون المجتهد عندما يأتيه السؤال، وكونه قبل الجواب كأنه واقف بين الجنة والنار، ومنها أن يرد السائل ويؤخر الجواب حتى ينظر فيه، ومنها أن يجمع ذوي العلم لاستشارتهم، ومنها أن يحذر من رأيه إذا ظهر خطؤه أو معارضته لنص شرعي، ومنها أن يندم إذا أكثر من الفتاوى وغير ذلك. ومما قاله في هذا الشأن نقلاً عن الإمام مالك رحمه الله: "إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن. وقال: ربما وردت عليّ المسألة فأفكر فيها ليالي. وكان إذا سئل عن مسألة قال للسائل: انصرف حتى أنظر فيها فينصرف ويردد فيها. فقيل له في ذلك فبكى وقال: إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم وأي يوم. وكان إذا جلس نكس رأسه وحرّك شفتيه بذكر الله لم يلتفت يميناً ولا شمالاً فإذا سئل عن مسألة تغيّر لونه وكان أحمر فيصفر وينكس رأسه ويحرك شفتيه ثم يقول ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله فربما سئل عن خمسين مسألة فلا يجيب منها في واحدة، وكان يقول: من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار كيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب"(2).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/155.
(2) المصدر نفسه، 4/169.(2/43)
وبعد أن بين جملة من هذه الأوصاف قال: "هذه جملة تدل الإنسان على من يكون من العلماء أولى بالفتيا والتقليد له ويتبين بالتفاوت في هذه الأوصاف الراجح من المرجوح"(1).
قواعد مردودة في الفتوى:
__________
(1) المصدر نفسه، 4/172. وقد ورد عن العلماء أقوال كثيرة في أهمية الفتوى وفضلها وفي خطرها ووجوب التهيب منها. من ذلك قول النووي: "اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل لأن المفتي وارث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقائم بفرض الكفاية، لكنه معرض للخطأ. ولهذا قالوا: المفتي موقع عن الله". وقال: "عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم، من أفتى في كل ما يُسأل فهو مجنون". وقال: "عن ابن عباس ومحمد بن عجلان، إذا أغفل العالم لا أدري أصيبت مقاتله". وقال: "وعن الشافعي وقد سئل عن مسألة فلم يُجب، فقيل له، فقال: حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب، وعن الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول: لا أدري، وذلك فيما عَرَفَ الأقاويل فيه. وعن الهيثم بن جميل: شهدتُ مالكاً سئل عن ثمانٍ وأربعين مسألة فقال في ثنتين وثلاثين منها: لا أدري". وقال: "وقال أبو حنيفة: لولا الفَرق من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت، يكون لهم المهنأ وعلي الوزر". أنظر: آداب الفتوى والمفتي والمستفتي. لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي 631 - 676 هـ/1233 - 1277م. بعناية بسام عبد الوهاب الجابي. دار البشائر الإسلامية، ط2، 1411هـ - 1990م، وهو مختصر ومفيد في موضوعه.(2/44)
تبين أن الشريعة ترجع إلى قولٍ واحد في أصولها وفروعها، أي أن قصد الشارع في كل واقعةٍ هو واحد، وعلى المجتهد أن يبذل وسعه لموافقته في اجتهاده، وكذلك المكلف عليه أن يتحرى قصد الشارع بالترجيح بين المجتهدين. وبناءً على ذلك فإن الشاطبي يرد الفتاوى التي لا تنبني على الترجيح بين الأدلة. ويرد أيضاً القواعد التي يعتمدها بعض العلماء في الفتوى ولا تقوم على أساس بذل الوسع لأجل موافقة قصد الشارع. وذلك مثل أن يتخيّر المقلد بين أقوال المجتهدين إذا اختلفت، أو أن يتخير العالم بين أقوال الصحابة أو الأئمة المعتبرين، أو أن يختار المفتي للمستفتي الأيسر والأخف بناء على أن الدين يسر ولا حرج فيه، وعلى أن الشريعة سمحة واختلاف الأئمة رحمة، وتعميم قاعدة الضرورات تبيح المحظورات وتطبيقها في غير مواضعها، ومن ذلك أيضاً تتبع رخص المذاهب، وجعل الاختلاف في المسألة حجة على الإباحة. وقد تتبع الشاطبي مثل هذه الآراء واسترسل في التفصيل فيها وفي الرد عليها.
ومما يُشار إليه أن مثل هذه الفتاوى موجودة في زماننا بشكل واضح، ولكن اللافت فيها أن بعض أصحابها يزعم استناده فيها إلى الشاطبي ومنهجه. فيفتي بما وافق الهوى أو غرضَ السلطان متذرعاً بالتجديد تارة وبالضرورات والحاجات تارة أخرى، ومستدلاً بالمصالح مرة وبالمقاصد وشيخ المقاصد مرات، يهدم أحكام الشريعة بحجة مقاصدها غافلاً عن أن أول مقاصد الشريعة تطبيق الشريعة، وأن من أهم ما ركز عليه الشاطبي أنه لا طريق إلى مقاصد الشريعة إلا عبر الشريعة. ومغفلاً أو جاهلاً مفهوم الشاطبي للمصالح والمفاسد ومنهجه في التعليل وتقرير المقاصد القائم على الاستقراء المفيد للقطع، وكذلك أن المقاصد هي مقاصد الشارع وليست مقاصد ذوي الحظوظ والأغراض.(2/45)
لذلك فإن هذا البحث، إضافة إلى بيانه لبعض آراء الشاطبي، فإنه ينبه الذين يتوهمون ويزعمون الاستناد إلى الشاطبي ومنهجه، أن الشاطبي كان حرباً على هذه الآراء والدعاوى.
أما في عدم جواز التخير بين الأقوال إذا تعارضت سواء عند المجتهد أو المقلد فيقول: "إن فائدة وضع الشريعة إخراج المكلف عند داعية هواه، وتخييره بين القولين نقض لذلك الأصل وهو غير جائز. فإن الشريعة قد ثبت أنها تشتمل على مصلحة جزئية في كل مسألة وعلى مصلحةٍ كلية في الجملة. أما الجزئية فما يعرب عنها دليل كل حكم وحكمته، وأما الكلية فهي أن يكون المكلف داخلاً تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع تصرفاته اعتقاداً وقولاً وعملاً فلا يكون متبعاً لهواه كالبهيمة المسيبة حتى يرتاض بلجام الشرع، ومتى خيّرنا المقلدين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة فلا يصح القول بالتخيير على حال"(1).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/71.(2/46)
وأما ما يستند إليه البعض مثل القول بأن الاختلاف رحمة، ومثل ما يروى عن الخليفة عمر بن عبد العزيز أنه قال: ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا، وتفسير ذلك بأنه يدل على جواز التخير بين أقوال الصحابة وأقوال الأئمة، فيرد الشاطبي هذا المعنى ويبين أن المعنى هو أن الصحابة رضي الله عنهم لو لم يختلفوا وكان قولهم واحداً في كل مسألة لدلّ ذلك على عدم جواز الاختلاف وبالتالي على عدم جواز الاجتهاد، ولما فُتح بعدهم باب للاجتهاد، فالسعة والرحمة في اختلاف الصحابة هي في فتح باب الاجتهاد وفي أن يعمل المجتهد بما يترجح في ظنه، ومن ضمن عمله فتواه. وبعد أن ذكر أقوال بعض العلماء الدالة على ما ذهب إليه قال: "فلو فرض أن الصحابة لم ينظروا في هذه المشتبهات الفرعية ولم يتكلموا فيها وهم القدوة في فهم الشريعة والجري على مقاصدها لم يكن لمن بعدهم أن يفتح ذلك الباب"(1). ثم قال: "فكان المجال يضيق على من بعد الصحابة فلما اجتهدوا ونشأ من اجتهادهم في تحرّي الصواب الاختلاف سهل على من بعدهم سلوك الطريق، فلذلك قال عمر بن عبد العزيز - والله أعلم -: ما يسرُّني أن لي باختلافهم حمر النعم، وقال: ما أحب أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا"(2). وروى عن الإمام مالك رحمه الله قوله: "ليس في اختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعة وإنما الحق في واحد"(3).
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) الشاطبي، الموافقات، 4/71.
(3) المصدر نفسه، 4/69.(2/47)
ويقول بناءً على أصل عدم جواز التخيُّر: "وقد أدى إغفال هذا الأصل إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره إتباعاً لغرضه وشهوته أو لغرض ذلك القريب أو الصديق، ولقد وُجد هذا في الأزمنة السالفة فضلاً عن زماننا كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب إتباعاً للغرض والشهوة"(1). وبعد أن ذكر أمثلةً على هذه الفتاوى ونعى عليها بشدة قال: "وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين ممن يعتدّ به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق رضي بذلك من رضيه وسخطه من سخطه، وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى في حكمه فكيف يخبر إلا بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه"(2).
__________
(1) المصدر نفسه، 4/73.
(2) المصدر نفسه، 4/77.(2/48)
أما القول بأن الخلاف في المسألة دليل على الإذن فيها فهذا مما زاد عن الحد، وهو مما يتبرّم به الشاطبي. يقول: "وقد زاد هذا الأمر على حد الكفاية حتى صار الخلاف في المسائل معدوداً في حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفاً فيه بين أهل العلم"(1). وقال: "فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع فيقال: لِمَ تمنع والمسألة مختلف فيها فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفاً فيها لا لدليل"(2). ومن أمثلة ذلك قول من قال إن الناس لما اختلفوا في الأشربة وأجمعوا على تحريم خمر العنب واختلفوا فيما سواه حرمنا ما اجتمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه(3). وبعد أن نقل عن مثل هذه الأقوال أنها خطأ فاحش، وأنها لو صحت للزم مثلها في الربا والصرف ونكاح المتعة لأن الأمة قد اختلفت فيها، وأن الاختلاف ليس حجة(4)، قال: "والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه، فهو قد أخذ القول وسيلة إلى إتباع هواه لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلاً لأمر الرب وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه"(5). ومما يثير الاستغراب أن أصحاب هذه الأقوال يشنعون على الملتزمين بما يرونه الصواب أو الأرجح. قال: "وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر والذي عليه أكثر المسلمين ويقول له: لقد حجرت واسعاً وملت بالناس إلى الحرج وما في الدين من حرج وما أشبه ذلك"(6). وعقب قائلاً: "وهذا القول خطأ كله وجهل بما وضعت له الشريعة"(7).
__________
(1) المصدر نفسه، 4/78.
(2) الموضع نفسه.
(3) الشاطبي، الموافقات، 4/78.
(4) الموضع نفسه.
(5) الموضع نفسه.
(6) المصدر نفسه، 4/79.
(7) الموضع نفسه.(2/49)
ويرد الشاطبي فتاوى المتساهلين المتتبعين لرخص المذاهب محتجين بأن الشريعة سمحة، فيورد قولهم ومنه: "قوله عليه الصلاة والسلام: "بعثت بالحنيفية السمحة"(1) يقتضي جواز ذلك لأنه نوع من اللطف بالعبد والشريعة لم ترد بقصد مشاق العباد بل بتحصيل المصالح"(2). ويرد قائلاً: "وأنت تعلم بما تقدم في هذا الكلام لأن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيداً بما هو جارٍ على أصولها وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابتٍ من أصولها فما قاله عين الدعوى، ثم نقول: تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى"(3).
أما التساهل بدعوى الضرورة أو الحاجة حيث لا ضرورة فيرده مردداً الحديث عن قلة الدين والورع عند بعض المنتصبين للفتوى. يقول: "وربما استجاز هذا بعضهم في مواطن يَدَّعي فيها الضرورة وإلجاء الحاجة بناء على أن الضرورات تبيح المحظورات فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض حتى إذا نزلت المسألة على حالةٍ لا ضرورة فيها ولا حاجة إلى الأخذ بالقول المرجوح أو الخارج عن المذهب، أخذ فيها بالقول المذهبي أو الراجح في المذهب، فهذا أيضاً من ذلك الطراز المتقدم فإن حاصله الأخذ بما يوافق الهوى الحاضر، ومحال الضرورات معلومة من الشريعة"(4). ثم قال: "قل الورع والديانة في كثير ممن ينتصب لبث العلم والفتوى كما تقدم تمثيله فلو فتح لهم هذا الباب لانحلت عرى المذهب بل جميع المذاهب لأن ما وجب للشيء وجب لمثله وظهر أن الضرورة التي ادعيت في السؤال ليست بضرورة"(5).
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) الشاطبي، الموافقات، 4/81.
(3) الموضع نفسه.
(4) الشاطبي، الموافقات، 4/81.
(5) المصدر نفسه، 4/82.(2/50)
ومن ضمن ما يبينه الشاطبي من فتاوى باطلة ويحذر منها الفتاوى التي تميل عن الراجح بحجة التيسير ورفع الحرج، وهي من القواعد الشرعية، ويبنى على ذلك مسألة وهي هل يجب الأخذ بأخف القولين أو بأثقلهما، فيصبح الأخذ ليس بالأرجح لموافقة قصد الشارع وإنما بالأخف أو الأثقل. ويستدل من يقول بالأخف بأدلة التيسير ورفع الحرج ورفع الضرر وسماحة الشريعة(1). فيقول رداً على ذلك: "والجواب عن هذا ما تقدم، وهو أيضاً مؤدٍّ إلى إيجاب إسقاط التكليف جملةً"(2). ويقول: "فإذا كانت المشقة حيث لحقت في التكليف تقتضي الرفع بهذه الدلائل لزم ذلك في الطهارات والصلوات والزكوات والحج والجهاد وغير ذلك ولا يقف عند حد إلا إذا لم يبق على العبد تكليف وهذا محال فما أدى إليه مثله"(3).
وقد لخص الشاطبي بعض المفاسد التي يؤدي إليها التساهل في الفتوى والتخير بين الأقوال وتتبع الرخص فذكر منها:
1 ـ "الانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف".
2 ـ "الاستهانة بالدين إذ يصير بهذا الاعتبار سيالاً لا ينضبط".
3 ـ "ترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم".
4 ـ "انخرام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى أمر معروف".
5 ـ "إفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم. وغير ذلك من المفاسد التي يمكن تعدادها"(4).
المبحث الثالث
أصل مآلات الأفعال
أهميته في منهج الشاطبي:
جعل الشاطبي النظر في مآلات الأفعال من علامات المجتهد المعتبر، وأوجب ذلك على المجتهد عند النظر والاستنباط إذ إنه من مقاصد الشارع، قال: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً"(5).
__________
(1) المصدر نفسه، 4/83.
(2) الموضع نفسه.
(3) الموضع نفسه.
(4) المصدر نفسه، 4/82.
(5) الشاطبي، الموافقات، 4/110.(2/51)
وفكرة مآلات الأفعال من أهم الأفكار في منهج الشاطبي، وتنبني عليها قواعد كثيرة بل إن النظر في المآلات هو الأساس الأول في منهجه، فإن أساس فكرته هو أن الشريعة جاءت لأجل مصالح العباد، فالشريعة لها مآلات، والأحكام لها مآلات، ولأجل هذه المآلات كانت الشريعة، فكانت الشريعة والأحكام أسباباً لمسببات. وكذلك فإن إثبات الشاطبي أن أفعال الله ـ سبحانه وتعالى ـ وأحكامه معللة، إنما كان باستقراء النصوص التي يدل منطوقها على الغاية من الفعل أو الحكم، فالفعل المشروع مشروع لأجل غاية قصدها الشارع وهي المصلحة المقصودة من شرع الحكم. والفعل المنهي عنه له مآل أو نتيجة قصد الشارع رفعها وهي المفسدة المقصود رفعها من النهي.
هذه المصالح والمفاسد هي مقاصد الشريعة أي هي مقاصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء.
هذا أساس أو أصل في التشريع في منهج الشاطبي، فالأفعال طلب فعلها أو تركها لأجل مآلاتها، والأفعال المأذون بها قد تؤول إلى نتائج ليست مما قصده الشارع، وكذلك الأفعال المنهي عنها قد تؤول إلى رفع نتائج ليست مما قصد الشارع رفعه، لذلك ليس كل ما ينتج عن الفعل مقصود للشارع. وإنما يفهم المآل المقصود وجوده أو رفعه بالاستقراء، وقد تبين هذا بالتفصيل سابقاً، والمآل الذي يثبت بالاستقراء المفيد للقطع أنه مقصود للشارع وجوداً أو رفعاً، هو أصل للتشريع أو علة للتشريع، أو مصلحة مقصودة للشارع بالطلب، أو مفسدة مقصود رفعها شرعاً بالنهي، هذه باختصار مقاصد الشريعة أو الأحكام أو مآلات الشريعة أو الأحكام.(2/52)
إلا أن هذه الأفعال المأذون بها أو المنهي عنها قد توجد حالات أو ظروف، سواء ظروف المكلف أو ظروف الواقع لا تحصل معها مآلاتها المقصودة شرعاً، أو أنها تحصل ولكن يحصل معها ما لا يقصده الشارع، فهنا يلاحظ أن حكم الفعل كان لأجل مآلٍ ما، ولكن الفعل صار له مآل أو مآلات أخرى قد تكون مناقضة لما قصده الشارع بالتشريع، ويلاحظ أيضاً الأصل في التشريع وهو أن الأحكام إنما كانت لأجل مصالحها أو مقاصدها، فالأحكام ومآلاتها مرتبطة ارتباط السبب والمسبب، فإذا كان هذا أصلاً في التشريع فالشارع حين أمر أو نهى أمر بالفعل أو نهى عنه قاصداً مآله، وعلى ذلك فالناظر في الشريعة ليفهمها عليه أن يفهمها على هذا الأساس نفسه، لأن حكم الفعل الذي بينه الشارع مقصود له، أي الالتزام به، وكذلك مآل الفعل، مقصود للشارع، والفعل ومآله مرتبطان ارتباط السبب والمسبب، والشارع يقصد بالسبب مسببه، ويقصد المسبب بالسبب نفسه. فإذا حصل الانفكاك بين الفعل ومآله في أحوال معينة، أو حصل ارتباط بين الفعل ومآل غير مقصود به عند الشارع في أحوال معينة، فعلى المجتهد أن ينظر في هذا الأمر ويعتبره عند النظر والاجتهاد، لأنه معتبر عند الشارع، والمجتهد عندما يبين الأحكام للمقلدين فكأنه الشارع.
وهذا الأصل، أصل اعتبار مآلات الأفعال، ليس أصلاً كسائر الأصول أو القواعد الأخرى في منهج الشاطبي بل هو أساس منهجه ولبه في مقاصد الشريعة. وعليه تنبني معظم الأصول والقواعد الأخرى المعتبرة عنده في الاجتهاد والتشريع، فقواعد سد الذرائع والاستحسان والمصالح المرسلة ورفع الضرر ورفع الحرج وعدم التكليف بما لا يطاق أو بالمشقات المعنتة، وكذلك قاعدة الحيل وغيرها كلها مبنية على هذا الأصل، إذ إن مقاصد الشريعة هي مآلاتها، وهذا الأصل هو مآلات الأفعال، والأحكام إنما هي أحكام الأفعال.
أدلته:(2/53)
لذلك رأينا الشاطبي حين ألزم المجتهد بالنظر في مآلات الأفعال واستدل على ذلك، كانت أدلته الأدلة نفسها التي استعملها عند إثبات أن الشريعة إنما وضعت لأجل مصالح العباد. فقد استدل بثلاثة أمور. قال: "والدليل على صحته ثلاثة أمور، أحدها أن التكاليف كما تقدم مشروعة لمصالح العباد، ومصالح العباد إما دنيوية وإما أخروية، أما الأخروية فراجعة إلى مآل المكلف في الآخرة"(1)، وقال: "وأما الدنيوية فإن الأعمال إذا تأملتها مقدمات لنتائج المصالح، فإنها أسباب لمسببات هي مقصودة للشارع، والمسببات هي مآلات الأسباب فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب وهو معنى النظر في المآلات"(2). أما دليله الثاني فقال فيه إن عدم اعتبار مآلات الأعمال يتناقض مع كون التكاليف شرعت لمصالح العباد(3). وأضاف: "وأيضاً فإن ذلك يؤدي إلى أن لا نتطلب مصلحة بفعل مشروع ولا نتوقع مفسدة بفعل ممنوع وهو خلاف وضع الشريعة"(4). فهذان الدليلان واضح أنهما يرجعان إلى أصل فكرته في أن الشريعة إنما وضعت لأجل مصالح العباد.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/111.
(2) الموضع نفسه.
(3) الموضع نفسه.
(4) الموضع نفسه.(2/54)
أما دليله الثالث فهو الاستقراء على أن الشريعة إنما وُضعت لأجل غايات أو نتائج قصدها الشارع بها، وإذا رجعنا إلى مفهومه للمصالح والمفاسد وهو أنها ما قصده الشارع بالتشريع. وإلى مباحثه في الأسباب والتي تبينت سابقاً، يتبين أن هذا الدليل هنا هو دليله في إثبات أن أحكام الله سبحانه وتعالى، معللة بمقاصدها، وهو الذي ذكره في أول كتاب المقاصد، وهو ليس شيئاً قريباً منه أو مبنياً عليه وإنما هو نفسه، قال: "والثالث الأدلة الشرعية والاستقراء التام أن المآلات معتبرة في أصل المشروعية كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (1). وقوله: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (2) الآية. وقوله: { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ } (3) الآية. وقوله: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } (4) الآية. وقوله { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } (5) الآية.
__________
(1) سورة البقرة، 21. والمقصود أن الأمر بالعبادة هو لأجل مآلها وهو التقوى.
(2) سورة البقرة، 183. والمقصود بالاستدلال أن الله أمر بالصوم لأجل مآله وهو التقوى.
(3) سورة البقرة، 188. وتمامها: { لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ } والمقصود النهي عن الفعل لرفع مآله وهو ظلم الناس وأكل حقوقهم.
(4) سورة الأنعام، 108. وتمام الآية { فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } والمقصود رفع المآل برفع سببه والمآل هو أن يسبوا الله تعالى.
(5) سورة النساء، 165. وتمام الآية { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } والمقصود أن إرسال الرسل له مآل وهو أن لا يكون للناس حجة.(2/55)
وقوله: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ } (1) الآية. وقوله: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } (2). وهذا مما فيه اعتبار المآل على الجملة"(3). فهذه النصوص إنما يستكثر منها لأجل إثبات الاستقراء، والشاهد فيها هو أنها ظهر فيها الحكم وظهر فيها المآل المقصود به. وهذا الدليل هو عينه الدليل على أن الشريعة إنما شرعت لأجل مصالح العباد(4). بل إن هذه النصوص المستدل بها هنا منها ما هو مستدل به هناك.
ويمكن انتقاد استدلالات الشاطبي هنا، بأن دليليه الأول والثاني يرجعان إلى الثالث فهي دليل واحد في حقيقة الأمر. وهذا الدليل هو نفسه الدليل على تعليل الشريعة بجلب المصالح ودرء المفاسد، فهو لم يأت بجديد في إثبات اعتبار مآلات الأفعال، ولم يكن بحاجة إلى الاستدلال، ومن يأخذ منهجه من أصله فهو ملزم بأصل مآلات الأفعال، والذي يرد أصل مآلات الأفعال يلزمه أن يرد المنهج من أصله.
معناه وتطبيقه:
__________
(1) سورة البقرة، 216. وتمام الآية { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } . والمقصود أن الحكم له مآل هو الخير لكم.
(2) سورة البقرة، 179. والمقصود أن القصاص له مآل وهو الحياة.
(3) الشاطبي، الموافقات، 4/112.
(4) المصدر نفسه، 2/3.(2/56)
وينبغي التذكير بأمور في هذا الموضع، وهو أن مآلات الأفعال هي مسبباتها أو مصالحها أو حكمها أو معانيها، والشاطبي لا يأخذ بها جلباً أو درءاً أي إنها لا تثبت أنها مصالح أو مفاسد إلا على سبيل القطع بالاستقراء، فالمآلات هي أصول كلية قطعية، وبغير هذا لا تعتبر، فالمآل الذي يجب اعتباره حين النظر في الفعل ونتيجته هو الثابت قطعاً، وبما أن الأفعال جزئيات ونتائجها جزئيات، فاعتبار المآل هو اعتبار الأصل الكلي الذي ترجع إليه هذه النتائج الجزئية، وهذا من تفصيلات منهجه كما سبق بيانه، وفيما يلي بعض نصوصه للتذكير بهذا الأمر لأنه ضروري لفهم أصل مآلات الأفعال، كما أنه من الضروري التنبه الدائم عند قراءة الشاطبي إلى مقصوده بالمصالح والمفاسد وأنها ما قصده الشارع بغض النظر عن الأوصاف الإنسانية، فهي من حيث جعلها الشارع كذلك وليس من حيث أهواء النفوس، قال: "الأسباب المشروعة إنما شرعت لمصالح العباد وهي حِكَمُ المشروعية"(1). وقال: "وما نهي عنه فإنما نهي عنه لمفسدةٍ يقتضيها فعله، فإذا فعل فقد دخل على شرط أن يتسبب فيما تحت السبب من المصالح أو المفاسد لا يخرجه عن ذلك عدم علمه بالمصلحة أو المفسدة أو بمقاديرهما فإن الأمر قد تضمن أن في إيقاع المنهي عنه مفسدة علمها الله ولأجلها نهى عنه، فالفاعل ملتزم لجميع ما ينتجه ذلك السبب من المصالح أو المفاسد وإن جهل تفاصيل ذلك"(2). وقال: "فلا بد من الالتفات إلى المعاني التي شرعت لها الأحكام. والمعاني هي مسببات الأحكام"(3). وقال: "الأحكام الشرعية إنما شرعت لجلب المصالح أو درء المفاسد، وهي مسبباتها قطعاً"(4). وقال: "وتقرر في هذه المسائل أن المصالح المعتبرة هي الكليات دون الجزئيات"(5).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/178.
(2) المصدر نفسه، 1/149.
(3) المصدر نفسه، 1/138.
(4) المصدر نفسه، 1/135.
(5) المصدر نفسه، 1/91.(2/57)
وبناءً على ذلك فوجوب النظر في المآلات إنما هو لأنه قد تحصل حالات يكون الفعل المشروع لأجل مصلحة غير مؤد إليها وقد يؤدي إلى مفسدة، وقد يؤدي إلى المصلحة والمفسدة معاً، والفعل المنهي عنه لأجل مفسدة، قد يؤدي إلى مصلحة أو قد يؤدي تركه إلى مفسدة أكبر من مفسدته، فعلى المجتهد أن ينظر في هذه الوقائع والحالات، وهذا كله يرجع إلى تحقيق المناط إما بالمعنى العام وإما بالمعنى الخاص. أما بالمعنى العام فهو أن يكون الواقع قد حصلت فيه من الظروف والأحوال ما يجعل للفعل مآلات مختلفة وذلك كالخروج إلى الأسواق والمدارس وشهود الجنائز وما شابه ذلك، فهذا جائز أو مطلوب شرعاً، ولكن قد تؤول هذه الأعمال إلى منكرات كمشاهدة العورات أو الاختلاط المحرم، ما يجعل هذا الواقع واقعاً جديداً يحتاج إلى النظر، ومن ذلك أيضاً ارتياد الشطآن والمسابح فهذا في الأصل جائز، فإذا كان من هذه الأماكن ما يرتاده العراة من الرجال والنساء، فإن مآل هذا الفعل مشاهدة العورات، ولذلك على المجتهد أن ينظر في مآل الفعل مع نظره في الفعل، فإن هذا الفعل المطلوب أو المأذون به مآله مفسدة، ولا يعني هذا أن الفعل صار حراماً لأن له مآل محرم، وإنما يعني وجوب النظر في المآل أي إن النظر في المآل مطلوب شرعاً ومقصود مثلما أن النظر في الفعل مطلوب ومقصود. وهذه المفسدة يختلف مقدارها، فهي في ارتياد الشطآن التي يرتادها العراة غيرها في الأسواق العامة التي تعترض فيها بعض المنكرات أو ينكشف فيها بعض العورات، كذلك فإن المصالح التي تقارن بها هذه المفاسد مختلفة في مقدارها فهي في التنزه وارتياد الأماكن العامة والشطآن غيرها في طلب العلم أو شهود الجنائز، وغيرها في شهود الجمعات والجماعات.(2/58)
وكذلك في الفعل الممنوع، فقد يكون مآله في بعض الأحوال مصلحة، أو يكون في الامتناع عنه مفسدة أكبر من مفسدته، وأمثلة هذا كثيرة، منها الامتناع عن أكل الحرام حالة الإشراف على الهلاك، أو قطع العضو الذي في بقائه مظنة إفساد البدن كله. ومنه أيضاً قتل المسلم بغير ذنب فهو حرام من الكبائر، ولكن إذا تترس به الكفار في الحرب وأخذوا يقتلون المسلمين بحيث لا يمكن ردعهم إلا بقتله فالأمر يحتاج إلى النظر وقد يؤدي النظر إلى وجوب قتله أو إلى جوازه أو إلى تحريمه(1).
أما ما يتعلق بتحقيق المناط الخاص فيرجع إلى معرفة حال المكلف وقصده، فقد يكون الفعل مندوباً ولكنه يؤدي بالمكلف إلى الانقطاع عن العبادة، وقد يكون واجباً ولكن يؤدي إلى تلفٍ في بدنه أو دَخَلٍ في عقله. وأمثلة هذا كثيرة. قال الشاطبي: "وفي حديث الأعرابي الذي بال في المسجد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتركه حتى يتم بوله، وقال: "لا تُزرموه(2)"(3).
وحديث النهي عن التشديد على النفس في العبادة خوفاً من الانقطاع. وجميع ما مرّ في تحقيق المناط الخاص مما فيه هذا المعنى حيث يكون العمل في الأصل مشروعاً لكن يُنهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة، أو ممنوعاً لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة، وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها فإن غالبها تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز. فالأصل على المشروعية لكن مآله غير مشروع. والأدلة الدالة على التوسعة ورفع الحرج كلها فإن غالبها سماح في عمل غير مشروع في الأصل لما يؤول إليه من الرفق المشروع"(4).
__________
(1) أنظر: عز الدين بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام. 1/1009.
(2) ابن ماجه (528) والنسائي في كتاب الطهارة.
(3) الشاطبي، الموافقات، 4/112.
(4) الموضع نفسه.(2/59)
واعتبار هذا الأصل لا يعني تحليل الحرام لأن مآله مشروع ولا تحريم الحلال لأن مآله ممنوع. وإنما يعني النظر لمعرفة حكم الشارع عند اختلاف الأحوال، لذلك فهذا من عمل المجتهد بوصفه مجتهداً ينظر في الفعل ومآلِهِ مبرءاً من الحظوظ. وإلزام المجتهد بالنظر في المآلات هو من قبيل استفراغ الوسع وتمام النظر. قال الشاطبي: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة. وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدةٍ تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه وقد يكون غير مشروع لمفسدةٍ تنشأ عنه أو مفسدة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد، صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جارٍ على مقاصد الشريعة"(1). هذا هو نص الشاطبي في أصل مآلات الأفعال. وهو موجه إلى المجتهد وليس إلى غيره. فهو يقول: "وذلك أن المجتهد لا يحكم" الخ. ويقول: "وهو مجال للمجتهد صعب المورد" الخ. وكذلك واضح فيه أنه لا يقول إن مآل الفعل يعيّن حكمه. ولكنه يقول إنه لا بد من اعتبار المآل حين النظر، فلا يطلق القول بناء على النظر في الفعل فقط، وكذلك لا يطلق القول بناءً على النظر في المآل، وإنما لا بد من النظر في الأمرين، وذلك بناءً على القواعد الشرعية من الضروريات والحاجيات، والتحسينيات. وبناءً على النظر في المآلات الكلية والجزئية.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/110 - 111.(2/60)
ويمكن هنا الرجوع إلى بعض أقواله في كتاب الأحكام في بحثه للأسباب والمسببات والتي قد يتوهم فيها تناقض مع نصه أعلاه حيث قال: "لا يلزم في تعاطي الأسباب من جهة المكلف الالتفات إلى المسببات ولا القصد إليها"(1). وقال: "إذا ثبت أنه لا يلزم القصد إلى المسبب فللمكلف ترك القصد إليه بإطلاق وله القصد إليه"(2). فمن هذه النصوص وغيرها يفهم أن المسبب وإن كان ناتجاً عن السبب فإن المكلف غير معني بالمسببات ولا بالمآلات وإنما هو معنيٌّ بمعرفة الحكم والالتزام به مهما كانت مآلاته، يجيب الشاطبي فيقول: "لا يقال إنه قد مر في كتاب الأحكام أن المسببات لا يلزم الالتفات إليها عند الدخول في الأسباب لأنا نقول، وتقدم أيضاً أنه لا بد من اعتبار المسببات في الأسباب ومر الكلام في ذلك والجمع بين المطلبين، ومسألتنا من الثاني لا من الأول لأنها راجعة إلى المجتهد الناظر في حكم غيره على البراءة من الحظوظ، فإن المجتهد نائب عن الشارع في الحكم على أفعال المكلفين، وقد تقدم أن الشارع قاصد للمسببات في الأسباب"(3).
__________
(1) المصدر نفسه، 1/133.
(2) المصدر نفسه، 1/135.
(3) الشاطبي، الموافقات، 4/111.(2/61)
ومعنى هذا النص أن الحكم الشرعي في فعل المكلف إذا جاء من الشارع فليس للمكلف أن ينظر في مآلاته أو ما يرجع به على المكلف من مصالح أو مفاسد، وذلك لأن هذا قد اعتبره الشارع في الحكم وحكم به على المكلف معتبراً حاله ومآله وكل ما يجب اعتباره، أما المجتهد فحين اجتهاده لمعرفة الحكم لا بد له من اعتبار الفعل ومآل الفعل لأنه من هذه الجهة بمقام الشارع، وهو، أي المجتهد، مكلف حين اجتهاده، فهو مكلف باعتبار الفعل وباعتبار مآله، ولذلك فليس من شأنه أن يقوم مقام الشارع فيغير الحكم بناء على مآل الفعل، وإنما وظيفته أو تكليفه هو أن يعرف حكم الشارع بحسب هذا الفعل وهذا المآل معاً، ومثال هذا حكم الميتة، فإنها حرام وفي بعض الحالات كالمخمصة قد يؤدي تركها إلى فوت الروح أو إلى الإخلال بضروري، ففي هذه الحالة يتغير الحكم بناءً على تغير المآل، فالمجتهد لم يغير الحكم بناء على المصلحة أو المآل، وإنما استنبط وفهم حكم الشرع، وتغير الحكم هنا هو من باب تغير السبب كما يتغير بتغير الفعل أو المناط، وكذلك صيام رمضان فإنه فرض، ولكن في بعض الحالات كالجهاد أو في حالة المبتلى بمرض معين قد يؤدي الصيام إلى تضييع فرض آكد أو إلى الإخلال بضروري فيتغير الحكم بناء على ما يؤول إليه، فإعمال هذا الأصل، أصل مآلات الأفعال، لا يعطي المكلف ولا المجتهد حق تغيير الأحكام بالهوى، وإنما يتغير الحكم حيث دل الشرع على ذلك، فإذا لم يكن ثم دليل على تغير الحكم، ولو كان يؤول إلى مفسدة فإن الحكم لا يتغير، وكذلك لا تصبح المفسدة جائزةً أو مغتفرة، وإنما يسعى إلى اجتناب المفسدة قدر الإمكان، وإذا لم يدل الشرع على تغير الحكم لا يتغير ولو كان له مآل بخلاف المقصود منه، إذ كما أن المآل مقصود فالحكم نفسه مقصود، يقول: "ومن هذا الأصل أيضاً (أصل مآلات الأفعال) تستمد قاعدة أخرى وهي أن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفها من خارج أمور لا(2/62)
ترضي شرعاً فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج"(1). أي أن الأعمال المطلوبة أو المأذون بها الواقعة في هذه المراتب، وإن كانت تؤول إلى مفاسد، فإن أحكامها لا تتغير ويصح الإقدام عليها رغم ما فيها من مفاسد، فلا أحكامها تتغير ولا المفاسد تصبح مصالح، أي لا تصبح المحرمات جائزة، وإنما يقدم على المشروع ويتحرز من الممنوع قدر الإمكان، فإذا بلغ به التحرز مبلغ الحرج أو الضرر أو الخارج عن الاستطاعة فحينئذٍ يمكن أن يتغير الحكم بناء على القواعد الشرعية كقواعد الضرورات تبيح المحظورات أو عدم التكليف بما لا يطاق أو بالمشقات المعتتة، أو رفع الضرر أو ما شاكل. ويأتي الشاطبي بمثال فيقول: "كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال مع ضيق الطرق الحلال واتساع أوجه الحرام والشبهات، وكثيراً ما يلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز، ولكنه غير مانع لما يؤول إليه التحرز من المفسدة المربية على توقع مفسدة التعرض ولو اعتبر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا لأدى إلى إبطال أصله، وذلك غير صحيح، وكذلك طلب العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها وشهود الجنائز وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضى، فلا يخرج هذا العارض تلك الأمور عن أصولها لأنها أصول الدين وقواعد المصالح"(2).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/118.
(2) المصدر نفسه، 4/119.(2/63)
إن أهمية بيان مراد الشاطبي بأصل مآلات الأفعال في بحثنا هو بسبب الأخطاء الشنيعة التي تزعم على الشريعة أو تتخذ كمنهج في أصول الفقه ويبنى عليها أحكام تصطدم مباشرة مع النصوص، ويُحَمَّلُ هذا للشاطبي ولمنهجه بحيث تصبح الأفكار غير الإسلامية أفكاراً اجتهادية شرعية بحجة المقاصد والمآلات المصلحية، والأمثلة على شطحات بعض المعاصرين كثيرة وفيما يلي واحد منها حيث اعتُمِدَ فيه على الشاطبي وأفكاره في المصالح والمفاسد جلباً ودفعاً، وخاصة على أصل مآلات الأفعال، حيث استُشْهِدَ بأقواله على نقيض معناها.
مناقشة فهم خاطئ لأصل اعتبار المآلات:
نشرت مجلة "الصراط المستقيم" الصادرة في أميركا في عددها "59" في العام 1417 هـ، مقالة بعنوان: "العمل السياسي في المجتمع الأميركي" بقلم الدكتور صلاح الصاوي مدير الجامعة الإسلامية المفتوحة في ولاية فرجينيا، وقد وصفت المجلة المقالة المنشورة بأنها: رؤية فقهية تأصيلية تنشر لأول مرة، وقالت المجلة بأن هذه الدراسة كانت جواباً على سؤال بعث به الأستاذ نهاد عوض المدير التنفيذي لمجلس العلاقات الإسلامية الأميركية، وليس المهم هنا السؤال أو الأسئلة وأجوبتها بقدر ما يهم منهج الفهم والاستنباط، فقد جاء في هذه الرؤية التأصيلية أقوال كثيرة مستغربة مثل: "لما كانت الذرائع تأخذ حكم المقاصد، والوسائل تأخذ حكم الغايات" إلخ، وقال أيضاً: "فاعتبار الذرائع أصل من الأصول المعتبرة في تقرير الأحكام، والذرائع ما تكون طريقاً لمحلل أو لمحرم فيأخذ حكمه فالطريق إلى الحرام حرام، والطريق إلى المباح مباح" إلخ.
وكان من ضمن ما زعمه الكاتب جواز فعل المنكر بحجة قصد المصلحة، وأن هذا المنكر مغتفر أمام المصلحة المقصودة، ونسب هذا النهج في الفهم إلى الشاطبي واستشهد بأقواله المذكورة في الصفحة السابقة، ولذلك سأعمد فيما يلي إلى شرح هذا النص شرحاً تفصيلياً لما في ذلك من مزيد بيان لمراد الشاطبي بالنص.
شرح النص:(2/64)
قوله: "الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية اوالتكميلية إذا اكتنفها من خارج أمور لا ترضي شرعاً فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج" أي إن الأفعال التي دل الدليل على مشروعيتها سواء بالوجوب أو الندب أو الإباحة وهي لا تخرج عن أن تكون من الضرورية أو الحاجية أو التكميلية، فهي مصالح مندرجة تحت هذه الأقسام الثلاثة، هذه الأفعال إذا كان لها مآل منهي عنه، فإن القيام بها صحيح مع احتمال المآل، أي أن أصل اعتبار المآلات لا يؤثر في حكم هذه الأفعال. وبما أن هذه الأفعال قد تؤول إلى حرام فيجب الاحتراز عن الوقوع في هذه المآلات أو المحرمات على قدر الاستطاعة، أي يجب الاحتراز عن هذه المحرمات كما يجب الاحتراز عن أي محرم، والله سبحانه وتعالى لم يكلف بالمحال أو بما لا يطاق، فهذا النص ليس فيه جواز فعل المنكر. قوله: "كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال مع ضيق طرق الحلال، واتساع أوجه الحرام والشبهات، وكثيراً ما يلجئ إلى الاكتساب لهم بما لا يجوز ولكنه غير مانع" فالنكاح مثلاً مشروع وهو عند الشاطبي حكم شرعي بحق الفرد من جهة كونه جزئياً، وهو أصل كلي قطعي بحق العامة من جهة كونه خادماً للضروري، فإذا ثبت أنه يؤول في بعض الحالات إلى منهي عنه، كأن يؤدي إلى طلب قوت العيال عن طريق الحرام، وقد يؤول إلى الاكتساب المحرم فإنه يكون قد تعارض الجزئي مع أصل، وهو مشروعية هذا النكاح مع المآلات، ففي هذه الحالات، مآلات النكاح لا تبطل الحكم الشرعي في النكاح، فيظل هذا الفعل على حكمه، ولا تغير حُكمَه مآلاتُه، ويسعى المكلف متجنباً الوقوع في هذه المآلات بحسب استطاعته، ولا يعني أن ملابسة هذه المآلات تصبح جائزة. وقوله: "لما يؤول إليه التحرز من المفسدة المربية على مفسدة التعرض ولو اعتبر مثل هذا في زماننا لأدى إلى إبطال أصله، وذلك غير صحيح".(2/65)
أي إن هذه المآلات لا تمنع النكاح ولو اعتبرنا الحكم بهذا المآل هنا في مثل زماننا لأدى إلى تحريم النكاح، وهو غير صحيح لأنه مخالف للحكم الثابت بالأدلة، فقوله: "وذلك غير صحيح" يعني أنه لا يصح إبطال أو تغيير حكم شرعي بحجة المآل. وأيضاً فنحن إذا حرمنا النكاح وهو حكم شرعي لوقعنا في مفاسد مربية على مفاسد تلك المآلات، فالمآلات معتبرة باعتبار الشرع لها، ولا نغير الأحكام بناء عليها وإنما نكتشف اعتبار الشرع لها، فالنكاح بما أنه مشروع، وكل أمر مشروع فهو مصلحة وإبطاله مفسدة، علمنا ذلك أم لم نعلم، وهو عند الشاطبي أصل من الأصول الضرورية أو الحاجية أو التكميلية فاعتبار هذه المآلات، إذا كان معناه تغيير الحكم، فإنه يؤدي إلى إبطال أصل وذلك غير صحيح. قوله: "وكذلك طلب العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها وشهود الجنائز وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضى فلا يخرج هذا العارض تلك الأمور عن أصولها" أي أن ما قيل بشأن النكاح يقال بشأن طلب العلم والأشياء المذكورة معه، فهذه كلها جزئيات ثبتت مشروعيتها بالأدلة، فكونها تؤول إلى حرام كمشاهدة العورات وسماع ما لا يجوز الاستماع إليه وما سواها، فإن هذه المآلات لا تبطل شرعية هذه الأفعال، لأن الذي يبطل أو لا يبطل هو الشرع والشرع لم يبطلها مع وجود هذه المآلات، فالشرع اعتبر المآلات ومع اعتباره للمآلات، هكذا كانت أحكامه، فلا يعبث بها بحجة المآلات، فيصح الإقدام عليها مع احتمال مآلاتها. فهذا الأصل، أي اعتبار المآلات، لا يغير حكماً شرعياً فلا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً. وإذا أقدم العبد على هذه الأفعال فعليه اجتناب المحرمات التي تؤول إليها هذه الأفعال قدر استطاعته، قوله: "لأنها أصول الدين وقواعد المصالح وهو المفهوم من مقاصد الشارع" أي أن الأصول لا تبطلها الجزئيات، لأن الأصول كلية.(2/66)
فأصول الدين كالعقائد قطعية لا ينقضها شيء، وكذلك القواعد الثلاث وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وهذا ما فهم من الشريعة، والكلي لا ينخرم بمعارضة بعض الجزئيات له. قوله: "فيجب فهمها حق الفهم فإنها مدار اختلاف وتنازع". أي أن هذه الأصول الثابتة بالاستقراء هناك من ينازع فيها ويردها بناء على ما يجده من جزئيات تعترضها، فيجب الفهم حق الفهم أن الجزئيات لا تبطل الأصول ومراده أن هناك من ينازع ويخالف في صحة اعتبار أصل مآلات الأفعال، بناء على ما ذكر في النص من أن هذه المآلات المنكرة لم تؤثر في الأحكام كالنكاح وطلب العلم ولم تغير الحكم، وبذلك يزعمون سقوط هذه الأصل، فإن هذا الزعم لا يصح لأن الأصل ثابت كلي وما يزعمونه قضايا جزئية وقضايا أعيان لا تبلغ مبلغ أن ترد قطعياً. قوله: "وما ينقل عن السلف الصالح مما يخالف ذلك هو قضايا أعيان لا حجة في مجردها حتى يعقل معناها فتصير إلى موافقه ما تقرر إن شاء الله" أي أن ما يثيره المنازعون في إبطال هذه الأصول ومنها أصل اعتبار المآلات لا حجة فيه، لأنه جزئيات، فإذا ما تضافرت هذه الجزئيات على معنى معين وحصل لهذا المعنى استقراء يفيد القطع فحينذاك سيظهر أن هذا المعنى القطعي وهذه الجزئيات الراجعة إليه ستكون موافقة لأصل اعتبار المآلات، وذلك لأن الأصول كليات قطعية ولا تتناقض، وبما أنها جزئيات لم تبلغ هذا المبلغ بعد فما زالت ظنية في معارضتها للأصل القطعي وتخضع للتأويل.
وهذا التفسير لهذا النص هو الذي يلاحِظُ ويعتبرُ منهجه وأصولَه التي قررها. أما القول بجواز فعل المنكر استناداً إلى أصل المآلات فمردود، ويمكن الإحالة في هذا على نصوص الشاطبي في بحث مقاصد المكلف، وقد تبينت آراؤه في هذا الأمر في الفصل السادس من هذا الكتاب، حيث تبين رأيه أن هذه الأقوال لا تكون إلا مع الجهل، وإذا لم يكن كذلك فهي ابتداع.
الفصل التاسع
في تطبيق الفكرة:
ثلاث قواعد كلية(2/67)
ويحتوي على تعريف موجز بموضوع هذا الفصل وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: المصالح المرسلة.
المبحث الثاني: الاستحسان.
المبحث الثالث: سد الذرائع.
ويتضمن المبحث الثالث بحثاً لقاعدة رفع الضرر.
الفصل التاسع
في تطبيق الفكرة:
ثلاث قواعد كلية
موضوع هذا الفصل:
بعد أن تبين منهج الشاطبي في فهم الشريعة، ومنهجه في تقرير الأصول والقواعد الكلية وهو الاستقراء المفيد للقطع يأتي هذا الفصل لبيان ثلاث قواعد كلية هي من أهم القواعد في منهج الشاطبي وهي المصالح المرسلة والاستحسان وسد الذرائع وذلك في ثلاثة مباحث، ويتم بحث قاعدة رفع الضرر ضمن مبحث سد الذرائع والغاية من بحث هذه القواعد هي:
1 ـ مزيد من بيان منهج الشاطبي في فهم الشريعة واستنباط الأحكام، حيث أن هذه القواعد هي كليات ثبتت لديه من خلال تطبيق فكرته في استقراء المعاني واقتناص الكليات على حد تعبيره، وحيث أن هذه القواعد هي مقاصد أو علل وعلى أساسها تتفرع الأحكام، لذلك فهي قواعد معتبرة عند المجتهد حين الاستنباط.
2 ـ بيان كيفية اختلاف اعتبار الشاطبي لهذه القواعد عن اعتبارها عند غيره من الأئمة الذين يقولون بها، وذلك من خلال تحديدها، وإذا صح التعبير تقليص حدود عملها بحيث يتمكن من زعم القطع بها، وبعد ذلك زعم أنها معتبرة ومعمول بها عند الجميع حتى ولو صرحوا بردها. ومن ذلك تصريحه أكثر من مرة بأن قاعدة سد الذرائع معمول بها عند أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما، أما عدم إعمالها عندهم في كثير من المواضع فذلك لا يضير لأنه ليس راجعاً إلى عدم اعتبارهم للقاعدة وإنما لأمور أخرى.(2/68)
3 ـ بيان حقيقة هذه القواعد في منهج الشاطبي، فإن هذه الألفاظ: المصالح المرسلة والاستحسان وسد الذرائع هي أسماء للقواعد وليست هي نصوصها، ولا يتبين من الاسم حقيقة المعنى ولا موضع إعماله ولا شروطه، فلا يصح التذرع بالشاطبي أو بمنهجه أو بعناوين أصوله أو قواعده من غير معرفة حقيقة ذلك كله ثم إصدار الآراء أو الفتاوى التي تحلل الحرام أو تحرم الحلال بمجرد استعمال اسم القاعدة فهذا جهل وليس علماً فلا ينتج علماً.
المبحث الأول
المصالح المرسلة
معنى المصالح المرسلة:
قاعدة المصالح المرسلة مبنية على الاستدلال المرسل، الذي هو بدوره مبني على المناسب المرسل. والمناسب المرسل أحد أقسام المناسب، والمناسب هو الوصف الذي يصلح ادعاؤه علة عند القائلين بمسلك المناسبة في القياس، وهو يؤدي إلى القياس بعد أن تتوفر أركانه، أما الاستدلال فليس من القياس لأن الوصف الذي يصلح للتعليل به، وإن وجد في فرع فلا يوجد في أصل معين يقاس عليه، وإنما هو معنى يلاحظ موافقته لأحكام كثيرة أو جريان أحكام كثيرة موافقةً له، فيثبت الوصف ويعد أصلاً معتبراً في التشريع شهدت له أحكام كثيرة ولا يمكن إرجاعه إلى واحد منها، إذ هو في كل واحد من الأحكام التي تشهد لاعتباره لا يصلح لأن يكون علة إذ قد يكون الحكم مما لا يعلل أو مما له علة أخرى أو هناك وصف أكثر مناسبة منه(1).
المصالح المرسلة عند الأئمة:
__________
(1) أنظر: الفصلين الثاني والثالث من هذه الكتاب.(2/69)
والاختلاف الواقع في المصالح المرسلة يرجع في جانب منه إلى الاختلاف في صحة التعليل بالمناسب المرسل أو بالمناسب، وقد مرَّ هذا الأمر مفصلاً، وفي الجانب الآخر يرجع إلى اختلافٍ في الاصطلاحات، فإذا بنينا على أن المصالح المرسلة لا ترجع إلى القياس، وهو الصواب، وإنما ترجع إلى الاستدلال فإن اختلاف الآراء فيها يكاد يكون مجرد خلاف في ألفاظ واصطلاحات، هذا مع عدم الأخذ بعين الاعتبار موقف الذين يردون القياس، ويكاد يكون تطبيق معنى المصالح المرسلة ـ حينئذٍ ـ متفقاً عليه(1). فالمعنى الذي رده الذين ردوا المصالح المرسلة ليس هو الذي أراده القائلون بها في مبحث الاستدلال، والمعنى الذي قصده القائلون بها قال به الرادون لها تحت أسماء مختلفة، فعلى سبيل المثال رد الآمدي المصالح المرسلة فقال: "فالمصالح على ما بيّنا منقسمة إلى ما عهد من الشارع اعتبارها وإلى ما عهد منه إلغاؤها، وهذا القسم (أي المصالح المرسلة)(2) متردد بين ذنيك القسمين، وليس إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر فامتنع الاحتجاج به دون شاهد بالاعتبار يعرف أنه من قبيل المعتبر دون الملغى"(3). وقد تبين سابقاً أن الآمدي وأئمة الشافعية من أكثر المدافعين عن مسلك المناسبة، وعن اعتباره في التعليل وعن اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم وهذا هو المصالح المرسلة عند القائلين بها في التعليل والقياس.
__________
(1) أقول: يكاد يكون، وليس يكون، وذلك لأنها قد تنطبق عند البعض على ما لا تنطبق عليه عند غيرهم.
(2) ما بين القوسين زيادة من الباحث.
(3) الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، 4/395.(2/70)
فالذي قصده الآمدي بالرد في هذا النص هو اعتبار المصلحة إذا لم يدل عليها دليل، وهذا متفق على رده، أما أن الذي قصده القائلون بالمصلحة المرسلة يقول به الجميع ومنهم الذين ردوها فيؤكده القرافي بقوله: "وأما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها خاصة بنا وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا وفرقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهداً بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرقوا بل يكتفون بمطلق المناسبة وهذا هو المصلحة المرسلة فهي حينئذٍ في جميع المذاهب"(1). وقال: "وقد تقدم أن المصلحة المرسلة في جميع المذاهب عند التحقيق لأنهم يقيسون ويفرقون بالمناسبات ولا يطلبون شاهداً بالاعتبار ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك. ومما يؤكد العمل بالمصلحة المرسلة أن الصحابة رضوان الله عليهم عملوا أموراً لمطلق المصلحة لا لتقدم شاهد بالاعتبار نحو كتابة المصحف ولم يتقدم فيه أمر ولا نظير، وكذلك ترك الخلافة شورى وتدوين الدواوين وعمل السكة للمسلمين واتخاذ السجن فعل ذلك عمر رضي الله عنه وهدّ الأوقاف التي بإزاء مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتوسعة بها في المسجد عند ضيقه فعله عثمان رضي الله عنه وتجديد الأذان في الجمعة بالسوق وهو الأذان الأول"(2)، ثم قال: "وذلك كثير جداً لمطلق المصلحة وإمام الحرمين قد عمل في كتابه المسمى بالغياثي أموراً وجوزها وأفتى بها والمالكية بعيدون عنها وجسر عليها للمصلحة المطلقة، وكذلك الغزالي في شفاء الغليل مع أن الاثنين شديدا الإنكار علينا في المصلحة المرسلة"(3).
__________
(1) القرافي، شرح تنقيح الفصول، ص: 394.
(2) المصدر نفسه، ص: 446.
(3) المصدر نفسه، ص: 447.(2/71)
فهذا النص يشير إلى أن الذين يردون المصالح المرسلة يردون شيئاً غير الذي يقصده القائلون بها، وإذا كانت الأمثلة التي ذكرها القرافي أعلاه تشير إلى موضوعات المصالح المرسلة، فهذه الأمثلة مما هو متفق عليه وإن كان ثمة خلاف فهو في الاستدلال الفقهي التفصيلي، والذي لا يقول بالمصالح المرسلة يرجعها إلى قواعد أخرى مثل حفظ الضروريات أو قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب أو قاعدة رفع الحرج أو الضرر أو ما شاكل ذلك. فليس ثمة خلاف حقيقي في قاعدة المصالح المرسلة، ومرجع الخلاف إلى اختلاف مفهوم القاعدة عند المختلفين.
وإنما الخلاف الشديد هو فيما ذكر سابقاً وهو تعليل الأحكام الشرعية بحكمها أو بمصالحها، وحيث قد ينشأ من أتباع الأئمة ومن المطالعين لكتب الأصول من يخطئ الفهم ويُحمِّل فهمه للمذهب أو لإمامه، أو من يستغل الفكرة ويستعملها بغير قيودها وفي غير موضعها وربما في غير معناها. ومن هذا أن تفهم المصالح المرسلة بمعنى أن مجرد كون الشيء مصلحة أو مؤدياً إلى مصلحة فهذا دليل على مشروعيته، أو أن يفهم أن في الشريعة منطقة فراغ، وأن في الوقائع ما لا حكم له، وأن ذلك متروك إلينا نقرر حكمه بناء على المصلحة أو المفسدة، فمثل هذا القول لا أصل له عند أحد من الأئمة المعتبرين. والمنقول الاتفاق على رده، وسيتبين هذا الأمر بتمام هذا المبحث إن شاء الله.
المصالح المرسلة عند الشاطبي:(2/72)
والمصالح المرسلة عند الشاطبي ترجع إلى معنى الاستدلال المرسل، وفيها من الجديد ما في منهجه من جديد، فالمصلحة حتى تعتبر يجب أن يثبت اعتبار الشرع لها ثبوتاً قطعياً بواسطة الاستقراء، أو أن تكون راجعة إلى معنى قطعي كلي ثبت على ذلك الوجه، قال في مقدمته الثالثة بعد أن بيَّن أن الأصول يجب أن تكون قطعية ولا يكفي فيها الظن وأن طريق القطع هو الاستقراء: "وينبني على هذه المقدمة معنىً آخر وهو أن كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين وكان ملائماً لتصرفات الشرع ومأخوذاً معناه من أدلته فهو صحيح يبنى عليه ويرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعاً به، لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها كما تقدم، لأن ذلك كالمتعذر، ويدخل تحت هذا ضرب الاستدلال المرسل الذي اعتمده مالك والشافعي فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين فقد شهد له أصل كلي والأصل الكلي إذا كان قطعياً قد يساوي الأصل المعين وقد يربى عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه"(1). وعلى ذلك فالفعل الذي لم ينص عليه الشرع طلباً أو منعاً فإن حكمه ينبني على الأصل الذي ثبت معناه قطعاً وصار أصلاً يبنى عليه ويرجع إليه إذا كان هذا الفعل يندرج معناه تحت هذا المعنى أو يخدمه أو يؤول إليه.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/16.(2/73)
وقال: "الأدلة الشرعية ضربان: أحدهما ما يرجع إلى النقل المحض والثاني ما يرجع إلى الرأي المحض"(1). ثم قال: "فأما الضرب الأول فالكتاب والسنة وأما الثاني فالقياس والاستدلال ويلحق بكل واحد منهما وجوه إما باتفاق وإما باختلاف، فيلحق بالضرب الأول الإجماع على أي وجه قيل به، ومذهب الصحابي وشرع من قبلنا، لأن ذلك كله وما في معناه راجع إلى التعبد بأمر منقول صرف، لا نظر فيه لأحد، ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان والمصالح المرسلة إن قلنا إنها راجعة إلى أمر نظري، وقد ترجع إلى الضرب الأول إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية"(2). والمقصود هنا أن المصالح المرسلة ترجع إلى النقل المحض وترجع إلى الاستدلال، أما الأول فلأجل إثبات أن هذه المصلحة مصلحة شرعية قطعية وهذا مأخذه استقراء النصوص الشرعية فمن هنا هي راجعة إلى الضرب الأول، أما الثاني فلأجل إثبات أن هذا الفعل يندرج تحت هذه المصلحة ويؤدي إليها، أي أن علاقته بالمعنى أو المصلحة التي هي أصل كلي هي علاقة السبب بمسببه أو بمآله.
وعلى ذلك فالمصالح المرسلة هي من ضروب الاستدلال المرسل عند الشاطبي، وهي مرسلة لأنه ليس لها شاهد خاص يدل عليها وترجع إليه، ولكن المصلحة ثابتة قطعاً بشواهد تفوق الحصر، فتكون المصلحة المرسلة قاعدة تنبني عليها أحكام الأفعال التي هي أسباب أو وسائل للمصلحة، وفق ضوابط وحدود شرعية ستتبيّن بحول الله تعالى.
مواضع إعمال القاعدة:
__________
(1) المصدر نفسه، 3/21.
(2) الموضع نفسه.(2/74)
وتنبني قاعدة المصالح المرسلة على الجمع بين أصلين: أصل التعبد والامتثال وأصل رفع الحرج، فإذا جاء الأمر الواجب من الشارع وجب الامتثال، فإن كان ممكناً فلا إشكال، وإن كان غير ممكن فإما أن يكون لأنه ليس بالوسع القيام به والاستمرار في ذلك فهذا مما فيه حرج، وإما أن يكون لأنه لا يمكن القيام به إلا بعد القيام بغيره، فهاتان الحالتان إن طرأتا على التكليف اقتضى الأمر أحكاماً أخرى، فإن كان الأمر راجعاً إلى الحرج وجب رفع الحرج بالتخفيف، وإن كان راجعاً إلى أنه لا يمكن القيام بالفعل إلا بعد القيام بغيره يصبح هذا الغير واجباً مثل الفعل الأول، والحالة الثانية داخلة في الأولى، لأنه إذا كان القيام بأمر لا يمكن إلا بالقيام بغيره أولاً، فإن التكليف به من غير القيام باللازم له تكليف بما لا يكون أو بما فيه حرج، لذلك فالحالتان راجعتان إلى رفع الحرج، هذا هو أصل قاعدة المصالح المرسلة عند الشاطبي.(2/75)
وهي تطبق في الضروريات والحاجيات ولا تطبق في التحسينيات، فتطبق في الضروريات على الأفعال التي لا يمكن حفظ الضروري إلا بها فيأخذ الفعل حكم حفظ الضروري وهو الوجوب، وفي الحاجيات على رفع الحرج وما في معناه فيحصل التخفيف بناء على ذلك حسب دلالة الأدلة، ويستثنى من تطبيقها في هذه المواقع أحكام العبادات، فلا مدخل للمصالح المرسلة في العبادات، أما أن ما ذكر أعلاه هو أصل قاعدة المصالح المرسلة فقد ذكر في مقدمته الثالثة عشرة مسألةً وهي أن الأصول والقواعد لا تتخلَّف ولا تنخرم فإذا لزم انخرامها أو تخلفها فليست صحيحة، ويظهر هذا في مواضع، منها ما سماه الدخول في الأعمال، ومراده بالدخول في الأعمال أن الأعمال المكلف بها يجب أن تكون ضمن مقدور المكلف من أولها إلى آخرها، فإذا لم تكن كذلك لم يكن الأمر بها تكليفاً، يقول: "وأما الدخول في الأعمال فهو العمدة في المسألة وهو الأصل في الاستحسان والمصالح المرسلة لأن الأصل إذا أدى القول بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن شرعاً أو عقلاً فهو غير جارٍ على استقامة ولا اطراد"(1).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/64.(2/76)
ومن أمثلة القاعدة في الضروريات جمع المصحف، قال: "إن جمع المصحف كان مسكوتاً عنه في زمانه عليه الصلاة والسلام، ثم لما وقع الاختلاف في القرآن وكثر حتى صار أحدهم يقول لصاحبه: أنا كافر بما تقرأ به صار جمع المصحف واجباً وإلا لزم أن يكون النظر في كل واقعة لم تحدث في الزمان المتقدم بدعة وهو باطل باتفاق. لكن مثل هذا النظر من باب الاجتهاد الملائم لقواعد الشريعة وإن لم يشهد له أصل معين وهو الذي يسمى المصالح المرسلة وكل ما أحدثه السلف الصالح من هذا القبيل لا يختلف عنه بوجه"(1). والشاهد هنا هو في قوله: "صار جمع المصحف واجباً" إذ إنه كان قبل ذلك مباحاً، ولكن طرأ ما جعل حفظ الدين في خطر ما لم يجمع المصحف، قال: "ولم يرد نص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما صنعوا من ذلك ولكنهم رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعاً، فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة والأمر بحفظها معلوم، وإلى منع الذريعة للاختلاف في أصلها الذي هو القرآن وقد علم النهي عن الاختلاف في ذلك بما لا مزيد عليه"(2).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/237.
(2) الشاطبي، الاعتصام، 2/377.(2/77)
ومن أمثلتها في الحاجيات تضمين الصناع، قال: "إن الخلفاء الراشتدين قضوا بتضمين الصناع قال علي رضي الله عنه: "لا يصلح الناس إلا ذاك" ووجه المصلحة فيه أن الناس لهم حاجة إلى الصناع وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال والأغلب عليهم التفريط وترك الحفظ، فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى أحد أمرين إما ترك الاستصناع بالكلية وذلك شاق على الخلق، وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ذلك بدعواهم الهلاك والضياع، فتضيع الأموال ويقل الاحتراز وتتطرق الخيانة فكانت المصلحة التضمين"(1). وهذا المثال على المصالح المرسلة مثار جدل وسبب قدح في القاعدة إذ إنها أدت إلى شرط باطل وهو تضمين الصانع(2). والحقيقة أن هذا لا يرجع إلى القاعدة وإنما إلى الخلاف في الأدلة التفصيلية، فقوله هنا بتضمين الصناع لا يدل على أن هذا الأمر حرام وأبيح بالقاعدة، وإنما هو في الأصل مباح ولأجل رفع الحرج وجب. وانظر قوله في أول المثال إن الخلفاء الراشدين فعلوا ذلك، فإن هذا إذا صح دليل شرعي، إذ لم ينكره أحد من الصحابة، ولكن هذا لم يصح، وما نسبه إلى علي رضي الله عنه لا يثبت(3).
__________
(1) المصدر نفسه، 2/378.
(2) جاء في المبسوط للسرخسي: "عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أودع وديعة فهلكت فلا ضمان عليه" وجاء عن علي رضي الله عنه قال: "لا ضمان على راعٍ ولا على مؤتمن" 11/109. وقال الشافعي في الأم: "ولا يضمن المستودع إلا أن يخالف" 3/245، والحديث أخرجه ابن ماجه في باب الوديعة من غير كلمة فهلكت.
(3) لا يجد الشافعي رضي الله عنه عذراً لمن يعد الأجير ضامناً لأنه يخالف الحديث، إلا إذا قال مثلاً: "الأمين هو من دفعت إليه راضياً بأمانته لا معطى أجراً على شيء مما دفعت، وإعطائي هذا الأجر تفريق بينه وبين الأمين الذي أخذ ما استؤمن عليه بلا جعل" الأم، 4/37 - 38.
... وقد نسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله في تضمين الصناع: "لا يصلح الناس إلا ذاك" وإذا ثبت هذا عنه فإنه محمول على ما كان من قبيل البيع لا الإجارة، وقال الشافعي في الأم: "وقد يروى من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله أن علياً بن أبي طالب رضي الله عنه ضمن الغسال والصباغ وقال: لا يصلح الناس إلا ذاك" وقال: "ويروى عن عمر تضمين الصناع من وجه أضعف من هذا، ولم نعلم واحداً منهما يثبت. وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه كان لا يضمن أحداً من الأجراء من وجه لا يثبت مثله" 7/88.
... وقال الشاطبي: "وفي الحديث: "لا ضرر ولا ضرار"(2) تشهد له الأصول من حيث الجملة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى أن يبيع حاضر لباد"(3)، وقال: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض"(4)، وقال: "ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى السوق"(5) وهذا من باب ترجيح المصلحة العامة على الخاصة، فتضمين الصناع من ذلك القبيل" الاعتصام 2/378، وهذا القول من الشاطبي استناداً إلى هذه الأدلة مردود، لأن هذه الأدلة عامة في الموضوع، وهناك أدلة خاصة في التضمين تنهى عنه،وعليه فتضمين الصناع مخالف للشرع ولا يجوز.
(2) تقدم تخريجه.
(3) طرقه كثيرة منها: البخاري (2014)، ومسلم (2799)، والترمذي (1144) وقال: حسن صحيح، والنسائي (4419)، وابن ماجه (2176)، وأحمد (13820)، ومالك في الموطأ (1189).
(4) التخريج نفسه، وهو بهذه الأرقام الحديث نفسه: "لا يبع حاضر لبادٍ دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" ما عدا حديث مالك: "لا يبع حاضر لبادٍ".
(5) أخرجه البخاري في باب بيع الطعام قبل أن يقبض وباب بيع ما ليس عندك (2020)، أبو داود (2979)، والدارمي (2454).(2/78)
وبناء على ذلك فقاعدة المصالح المرسلة هي قاعدة أصولية من قواعد الشرع عند الشاطبي وليست أصلاً خامساً برأسه، فهي ليست مصدراً للأحكام وإنما هي منهج شرعي يطبق أو يعمل به عند الاستنباط مثل قاعدة الاستصحاب أو قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة أو قاعدة رفع الضرر. أما إذا اتخذت مصدراً للأحكام بحيث يصير مقتضى التشريع مجرد النظر إلى كون الفعل مصلحة أو مفسدة أو أن يكون كذلك عند أدنى مشقة أو كلفة فهذا منهج الابتداع وليس التشريع.
أقسام المصالح:
وقد ناقش الشاطبي في كتابه (الاعتصام) الذين تذرعوا بالمصالح المرسلة لمخالفاتهم وبدعهم فزاد الأمر بياناً وتوضيحاً، قال: "فلما كان الموضع مزلة قدم لأهل البدع لأن يستدلوا على بدعتهم من جهته كان الحق المتعين النظر في مناط الغلط الواقع لهؤلاء حتى يتبين أن المصالح المرسلة ليست من البدع في وردٍ ولا صدر بحول الله"(1)، ثم قال: "المعنى المناسب الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يشهد الشرع بقبوله، فلا إشكال في صحته ولا خلاف في إعماله وإلا كان مناقضة للشريعة كشريعة القصاص حفظاً للنفوس والأطراف وغيرها"(2). وهذا ليس من المصالح المرسلة وإنما هذا هو المعتبر إما بشهادة الدليل أو بشهادة الحكم، أما عند الشاطبي فالاعتبار هو بشهادة الدليل، أو الأحكام الكثيرة كثرةً تشكل دليلاً بنظره، ولا يقبل الاعتبار بشهادة حكم أو أحكام قليلة.
__________
(1) الشاطبي، الاعتصام، 2/374.
(2) الموضع نفسه.(2/79)
ثم قال: "والثاني ما شهد الشرع برده فلا سبيل إلى قبوله إذ المناسبة لا تقتضي الحكم لنفسها، وإنما ذلك مذهب أهل التحسين العقلي، بل إذا ظهر المعنى وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام فحينئذٍ نقبله، فإن المراد بالمصلحة عندنا ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا يستقل العقل بدركه على حال، فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى، بل برده كان مردوداً باتفاق المسلمين"(1). وفي هذا النص دلالة على أن المناسبة ليست دليلاً على الاعتبار ولا شرطاً له، وإنما الدليل على ذلك هو اعتبار الشرع للمعنى وهذا يفهم بالاستقراء، وهذا القسم هنا هو المناسب الملغى، فلا اعتبار له، ومن منكرات هذا الزمان بل ومن طغيان الجهل صدور أقوال وآراء يعدها البعض فتاوى، تبيح المحرمات بحجة أنها مصالح أو مقصودٌ بها المصالح وإسناد ذلك إلى المصالح المرسلة وإلى مقاصد الشريعة وأحياناً إلى الشاطبي، فيا للعجب!.
ثم قال: "الثالث: ما سكتت عنه الشواهد الخاصة فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه فهذا على وجهين: أحدهما أن يرد نص على وفق ذلك المعنى كتعليل منع القتل للميراث فالمعاملة بنقيض المقصود تقدير إن لم يرد نص على وفقه فإن هذه العلة لا عهد بها في تصرفات الشرع بالفرض ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر فلا يصح التعليل بها، ولا بناء الحكم عليها باتفاق ومثل هذا تشريع من القائل به فلا يمكن قبوله"(2).
__________
(1) الموضع نفسه، وقوله: "المناسبة لا تقتضي الحكم لنفسها وإنما ذلك مذهب أهل التحسين العقلي" معناه عدم جواز الاستدلال بالمصلحة، وإنما الاستدلال بالدليل الذي قرر هذه المصلحة سواء كان الدليل متعيناً، أو غير متعين.
(2) الشاطبي، الاعتصام، 2/375.(2/80)
والمذكور في هذا الوجه كثيراً ما يقع فيه الغلط فيعد من المصالح المرسلة بناء على تعريفه بأنه ما سكت عنه الشرع فلم يشهد له باعتبار ولا إلغاء، وهو هنا يرده وينقل الاتفاق على ذلك. ثم يبين ما هي المصالح المرسلة التي سكتت عنها الشواهد الخاصة فلم تشهد لها باعتبار ولا إلغاء فيقول: "والثاني أن يلائم تصرفات الشرع وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين وهو الاستدلال المرسل المسمى بالمصالح المرسلة"(1).
إذن، لا يصح تعريف المصالح المرسلة بأنها مصالح ترك الشارع بيانها ولم يذكرها باعتبار ولا إلغاء. وهي بهذا التعريف مردودة بلا خلاف، وعلى ذلك لا يصح جعل المصلحة دليلاً لمجرد كونها مصلحةً، بل إن هذا مذهب أهل التحسين والتقبيح العقلي، وهذه المسألة محسومة أصلاً، ومن شواهدها في هذا الموضوع قول الشاطبي: "المناسبة لا تقتضي الحكم لنفسها وإنما ذلك مذهب أهل التحسين العقلي"، ونقله الإجماع على عدم جواز الاستدلال بمجرد المصلحة حتى ولو لم تكن ملغاة وذلك في قوله المذكور آنفاً فيما لم تشهد له الشواهد الخاصة باعتبار ولا إلغاء: "فلا يصح التعليل بها ولا بناء الحكم عليها باتفاق، ومثل هذا تشريع من القائل به فلا يمكن قبوله". وقد نقل الرازي الإجماع على هذا الأمر حيث قال: "مناسبٌ، لا يلائم، ولا يشهد له أصل معين فهذا مردود بالإجماع، مثاله حرمان القاتل من الميراث معارضةً له بنقيض قصده لو قدرنا أنه لم يرد فيه نص"(2).
شروط القاعدة:
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) الرازي، المحصول، 5/167.(2/81)
أما شروط إعمال قاعدة المصالح المرسلة ومن ذلك مواضع تطبيقها، فقال إنها ثلاثة أمور: "أحدها الملاءمة لمقاصد الشرع بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من دلائله، والثاني أن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها وجرى على دون المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول، فلا مدخل لها في التعبدات ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية"(1). "والثالث أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري ورفع حرج لازمٍ في الدين وأيضاً مرجعها إلى حفظ أمرٍ ضروري من باب "ما لا يتم الواجب إلا به" فهي إذن من الوسائل لا من المقاصد، ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد"(2). ففي الضروريات، الحكم على الفعل بناء على المصلحة المرسلة يعني أن الفعل وسيلة إلى مسبب معلوم الوجوب، ومن شرطه أن لا يكون الفعل واجباً أصلاً، إذ لو كان كذلك لما كان ثمة مدخل للمصالح المرسلة، يقول: "وأما كونها في الضروري من قبيل الوسائل، وما لا يتم الواجب إلا به إن نص على اشتراطه فهو شرط شرعي فلا مدخل له في هذا الباب لأن نص الشارع فيه قد كفانا مؤنة النظر، وإن لم ينص على اشتراطه فهو إما عقلي أو عادي فلا يلزم أن يكون شرعياً كما أنه لا يلزم أن يكون على كيفية معلومة فإنا لو فرضنا حفظ القرآن والعلم بغير كتب مطرداً لصح ذلك، وكذلك سائر المصالح الضرورية يصح لنا حفظها كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة الإمامة الكبرى بغير إمام على تقدير عدم النص بها لصح ذلك"(3). ثم قال: "إذا ثبت هذا لم يصح أن يستنبط من بابها شيء من المقاصد الدينية التي ليست بوسائل"(4).
__________
(1) الشاطبي، الاعتصام، 2/386.
(2) المصدر نفسه، 2/389.
(3) الموضع نفسه.
(4) الموضع نفسه.(2/82)
أما تطبيقها في الحاجيات فقال: "وأما كونها في الحاجي من باب التخفيف فظاهر أيضاً وهو أقوى في الدليل الرافع للحرج، فليس فيه ما يدل على تشديد ولا زيادة تكليف"(1).
وبناءً على ذلك فإن قاعدة المصالح المرسلة ليست مدعاة للقول بأن في الشريعة منطقة فراغ أو وقائع سكت عنها الشرع ولم يبين حكمها ويجري الحكم عليها بناء على المصالح، فمثل هذا القول مردود عند الشاطبي لأن المصالح أنفسها لا تعرف إلا بالشرع، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فليس هناك شيء سكت عنه الشرع بمعنى لم يبين حكمه، وإنما هناك أشياء لم يدل عليها الدليل عيناً، وإنما دل عليها بعمومات وأقيسة، فهي تندرج تحت قواعد عامة أو كلية، وليس هناك سكوت من الشرع بمعنى عدم البيان، وقد تبين سابقاً أن الشريعة فيها بيان كل شيء، قال الشاطبي: "إن سكوت الشارع عن الحكم على ضربين: أحدهما أن يسكت عنه لأنه لا داعية له تقتضيه ولا موجب لأجله كالنوازل التي حدثت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها، وإنما حدثت بعد ذلك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تقرر في كلياتها، وما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم كجمع المصحف وتدوين العلم وتضمين الصناع وما أشبه ذلك مما لم يجر له ذكر في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم تكن من نوازل زمانه ولا عرض للعمل بها موجب يقتضيها، فهذا القسم جارية فروعه على أصوله المقررة شرعاً بلا إشكال"(2).
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) الشاطبي، الموافقات، 2/288.(2/83)
فهذا السكوت ليس سكوتاً بمعنى عدم البيان وإنما هو مثل السكوت عن بيان حكم الحاسوب أو استعمال أسلحة الدمار الشامل أو السيارة أو الاستنساخ، فهذه بيانها ليس كبيان حكم الميتة أو الجهاد أو النكاح أو الزنا، فهي لم تكن في زمن النبوة، ولكن بيانها موجود في الشريعة، بما جاءت به من نصوص عامة وأوصاف وعلل، هذا هو معنى السكوت المذكور هنا، أما القسم الثاني من المسكوت عنه فقال فيه: "والثاني أن يسكت عنه وموجبه المقتضي له قائم فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان، فهذا الضرب السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص لأنه لما كان هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجوداً ثم لم يشرع الحكم دلالة عليه كان ذلك صريحاً في أن الزائد على ما كان هنالك بدعة زائدة ومخالفة لما قصده الشارع إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حُدَّ هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه"(1). ولذلك فالشاطبي يرد بشكل كامل القول بأن المصالح المرسلة هي استدلال بالمصلحة على حكم الفعل. وكذلك يرد ما يتوقع أن يقال من أن المصالح المرسلة هي تحكيم للمصالح في المواضع التي سكت الشارع عن بيانها، فيورد القول المردود عنده وهو: "المسكوت من الشارع لا يقتضي مخالفةً ولا يُفْهِمُ للشارع قصداً معيناً دون ضده وخلافه، فإذا كان كذلك رجعنا إلى النظر في وجوه المصالح فما وجدنا فيه مصلحة قبلناه إعمالاً للمصالح المرسلة وما وجدنا فيه مفسدة تركناه إعمالاً للمصالح المرسلة، وما لم نجد فيه هذا ولا هذا فهو كسائر المباحات إعمالاً للمصالح المرسلة أيضاً"(2).
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) الشاطبي، الموافقات، 2/289.(2/84)
ورد الشاطبي على ذلك هو: "وتقرير الجواب ما ذكره مالك وأن السكوت عن حكم الفعل أو الترك هنا إذا وجد المعنى المقتضي للفعل أو الترك إجماع من كل ساكت على أن لا زائد على ما كان وهو غاية في هذا المعنى"(1). وقال: "إن وجود المعنى المقتضي مع عدم التشريع دليل على قصد الشارع إلى عدم الزيادة على ما كان موجوداً قبل، فإذا زاد الزائد ظهر أنه مخالف لقصد الشارع فبطل"(2). ودلالة هذا الكلام وما سبقه أنه إذا كان ثمة زيادة أو تغيير فستكون بحسب أدلة الشرع وقواعده.
وخلاصة الكلام في قاعدة المصالح المرسلة عند الشاطبي أنها تطلق على الفقه الذي ينبني على قاعدة "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" في الضروريات، وعلى قاعدة رفع الحرج في الحاجيات، وهي لا تعمل في العبادات.
المبحث الثاني
الاستحسان
الاستحسان ومواقف الأئمة منه:
الاستحسان عند الشاطبي قاعدة أصولية كالمصالح المرسلة، وهو منهج في إعمال الأدلة وفي الاستنباط، تعددت تعريفاته واختلفت. وقبل التعرض له بالتفصيل تجدر الإشارة إلى أن حقيقته لا تخرج عن العمل بأقوى الدليلين عند تعارضهما. قال به الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - وأتباعه. واشتهر رده عند الشافعي والشافعية وتشديد النكير عليه باعتباره استحساناً بمحض الرأي، أو ترك الدليل إلى الرأي. أما في حقيقته كما هو عند الأحناف فهم يقبلونه ويعدونه عملاً بالدليل. وقد نسب العمل به إلى الإمامين مالك وأحمد رحمهما الله.
__________
(1) المصدر نفسه، 2/289 - 290.
(2) المصدر نفسه، 2/291.(2/85)
أما الإمام مالك فقد نسب إليه الشاطبي في أكثر من موضع من الموافقات أن الاستحسان تسعة أعشار العلم(1). وقال الزركشي: "وعن ابن القاسم: قال مالك: تسعة أعشار العلم الاستحسان. قال أصبغ بن الفرج: الاستحسان في العلم يكون أبلغ من القياس"(2). ومما نقله الزركشي: "الاستحسان الذي ذهب إليه مالك هو القول بأقوى الدليلين"(3). وقال: "قال الأبياري: الذي يظهر من مذهب مالك القول بالاستحسان لا على ما سبق بل حاصله استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي فهو يقدم الاستدلال المرسل على القياس"(4).
أما الإمام أحمد فقد بين موقفه الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي في كتابه (أصول مذهب الإمام أحمد) حيث أورد أقوال مشاهير الحنابلة وأئمتهم في الأصول ثم استخلص أن جمهورهم قد اختار من تعريفات الاستحسان أنه ترك القياس لدليل أقوى منه، ومنهم من يقول إنه أقوى القياسين، وأنهم جميعاً بناءً على هذا التعريف يقولون بالاستحسان ويعتبرونه، وينصون على أنه مذهب أحمد وإنه ليس دليلاً مستقلاً، ولكنه من باب ترجيح الأدلة بعضها مع بعض، أما إذا كان تشهياً فيردونه ويعدونه تشريعاً بما لم يأذن به الله(5).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/118.
(2) الزركشي، البحر المحيط، 4/387.
(3) الموضع نفسه.
(4) المصدر نفسه، 4/388.
(5) عبد الله بن عبد المحسن التركي، أصول مذهب الإمام أحمد، ص: 570، دراسة أصولية مقارنة، ط 4، 1416هـ - 1996م، مؤسسة الرسالة، بيروت.(2/86)
أما الشافعي فقد أنكره كما تقدم، قال: "ولا يقول بما استحسن فإن القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سابق"(1). وقال: "إنما الاستحسان تلذذ"(2). وتبعه في ذلك أصحابه. وقد قيل إن الجمهور أنكره، قال الزركشي: "وقد أنكره الجمهور حتى قال الشافعي: من استحسن فقد شرع"(3). ثم قال: "قال أصحابنا: ومن شرع فقد كفر، وسكت الشافعي عن المقدمة الثانية لوضوحها"(4). والصواب أنه لو كان تلذذاً وقولاً في الدين بغير دليل لما أنكره الجمهور وحسب، وإنما لكان أنكره أبو حنيفة وأصحابه أيضاً، وقد اشتد النكير على الاستحسان حتى طال الإمام أبا حنيفة وأصحابه، قال علاء الدين البخاري: "واعلم أن بعض القادحين في المسلمين طعن على أبي حنيفة وأصحابه - رحمهم الله - في تركهم القياس بالاستحسان، وقال حجج الشرع الكتاب والسنة والإجماع والقياس، والاستحسان قسم خامس لم يعرف أحد من حملة الشرع سوى أبي حنيفة وأصحابه أنه من دلائل الشرع ولم يقم عليه دليل بل هو قول بالتشهي، فكان ترك القياس به تركاً للحجة لاتباع هوىً أو شهوة نفس فكان باطلاً. ثم قال: إن القياس الذي تركوه بالاستحسان إن كان حجةً شرعية فالحجة الشرعية حق، وماذا بعد الحق إلا الضلال"(5). وقال: "ونقل عن الشافعي أيضاً أنه بالغ في إنكار الاستحسان وقال: من استحسن فقد شرع، وكل ذلك طعن من غير روية، وقدحٌ من غير وقوفٍ على المراد فأبو حنيفة - رحمه الله - أجل قدراً وأشد ورعاً من أن يقول في الدين بالتشهي"(6).
__________
(1) الشافعي، الرسالة، ص: 25، فقرة: 70.
(2) المصدر نفسه، ص: 507، فقرة: 1464.
(3) الزركشي، البحر المحيط، 4/386.
(4) الموضع نفسه.
(5) علاء الدين البخاري، كشف الأسرار، 4/4 وانظر: السرخسي، أصول السرخسي، 2/200.
(6) الموضع نفسه.(2/87)
وقال الزركشي: "واعلم أنه إذا حرر المراد بالاستحسان زال التشنيع، وأبو حنيفة بريء إلى الله من إثبات حكم بلا حجة"(1).
وقال البزدوي تحت عنوان: (باب القياس والاستحسان): "وكل منهما على وجهين. أما أحد نوعي القياس فما ضعف أثره والنوع الثاني ما ظهر فساده واستترت صحته وأثره. وأحد نوعي الاستحسان ما قوي أثره وإن كان خفياً. والثاني ما ظهر أثره وخفي فساده. وإنما الاستحسان عندنا أحد القياسين"(2).
ومن هنا ندرك أن الاستحسان الذي ذمه الشافعي وغيره هو غير الاستحسان الذي يقول به أبو حنيفة، ولا يظن بأبي حنيفة ـ رحمه الله ـ ولا بأي إمام معتبر أن يترك دليل الشرع إلى رأيه، ولا أن يقول في الشرع بمجرد رأيه بغير دليل شرعي، فما هو الاستحسان الذي يقصده الأحناف؟
ما هو الاستحسان:
لقد تعددت تعريفات الاستحسان عندهم وكلها لا تخرج عن أن الاستحسان هو عملية تخصيص، وأنه يعمل به عند تعارض الأدلة، ومما قيل في حقيقته إنه العمل بأقوى القياسين، وإنه تخصيص العلة، وإنه تخصيص القياس بالسنة(3).
وقيل: إنه قطع المسألة عن نظائرها لدليل خاص يقتضي العدول عن الحكم الأول فيه إلى الثاني سواء كان قياساً أو نصاً، قاله أبو الحسن الكرخي وقد قيل إنه أحسن ما قيل في تفسير الاستحسان(4).
وقيل: هو ترك القياس والأخذ بما هو أرفق للناس(5).
__________
(1) الزركشي، البحر المحيط، 4/387.
(2) البزدوي، أصول البزدوي، 4/4.
(3) الزركشي، البحر المحيط، 4/390.
(4) الموضع نفسه.
(5) الجرجاني، التعريفات، ص: 22، تأليف السيد الشريف أبي الحسن علي بن محمد بن علي الحسيني الجرجاني الحنفي 816 هـ. تحقيق محمد باسل عيون السود. ط1. 1421هـ - 2000م، دار الكتب العلمية، بيروت.(2/88)
والظاهر أن تعريف الكرخي هو أدق التعريفات إذ إنه شامل لكل أمثلة الاستحسان. ومما يؤكد هذا الأمر، أنهم يقولون إن الاستحسان أحد القياسين أو أقوى القياسين ولكن عندما يأتون بالأمثلة نراهم يسمون تطبيق العام على أفراده، أو جريان العام في أفراده قياساً مع أنه لا يوجد قياس ولا علة بالمعنى الشرعي، وهو ما سيتبين بالأمثلة.
أقسام الاستحسان:(2/89)
وكذلك فهم يقسمون الاستحسان أقساماً، منها ما هو استحسان بالسنة ومنها ما هو استحسان بالإجماع ومنها ما هو استحسان بالضرورة، وهذه الأمثلة ليس فيها قياسان، بل ولا يلزم أن يكون فيها أي قياس أصلاً. قال البزدوي: "وللاستحسان أقسام وهو ما ثبت بالأثر مثل السلم والإجارة وبقاء الصوم مع فعل الناسي، ومنه ما ثبت بالإجماع وهو الاستصناع، ومنه ما ثبت بالضرورة وهو تطهير الحياض والآبار والأواني"(1). وقال الشارح في كشف الأسرار عن الاستحسان بالأثر: "فإن القياس يأبى جواز السلم لأن المعقود عليه الذي هو محل العقد معدوم حقيقةً عند العقد، والعقد لا ينعقد في غير محله إلا أنا تركناه بالأثر الموجب للترخص وهو قول الراوي: "ورخص في السلم"(2). وقوله عليه السلام: "من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم"(3)."(4). وقوله في النص: "فإن القياس يأبى السلم" ليس المقصود به القياس الشرعي، وإنما المقصود بذلك عموم النص: "لا تبع ما ليس عندك"(5)، فهذا يتعارض مع بيع السلم، وهو هنا يسمي جريان النص في أفراده قياساً، حيث أن كل فرد يثبت له ما يثبت لغيره، وهو الحكم، وهذا بسبب عموم النص في أفراده، فكل فرد يأخذ حكم الفرد الآخر نفسه، وكأن جريان الحكم في كل الأفراد قياس. بينما المسألة في الحقيقة هي نص عام ينطبق على أفراده وليست قياساً.
__________
(1) البزدوي، أصول البزدوي، 4/6 - 7.
(2) أنظر: الحديث التالي، هامش رقم (3).
(3) أخرجه البخاري في كتاب السلم، باب السلم في كيل معلوم (2086)، ومسلم في باب السلم (3011)، والترمذي في البيوع (1232) وقال: حسن صحيح، وأحمد (1836) وكلهم بلفظ السلف بدل السلم. وهي بمعنىً واحد.
(4) علاء الدين البخاري، كشف الأسرار، 4/7.
(5) أخرجه الترمذي في البيوع (1153)، وأبو داود في الإجارة (3040)، وابن ماجه في التجارات باب النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن (2178)، والإمام أحمد في المسند (4772).(2/90)
والتخصيص ببيع السلم يعني أن النص لم يجر في بيع السلم وهو أحد أفراد البيع، فكان تخصيصاً لنص عام وليس تخصيصاً لقياس، وهو قطع لبيع السلم عن نظائره وإعطاؤه حكماً آخر غير حكم نظائره، ولذلك يقال إن تعريف أبي الحسن الكرخي هو أدق التعاريف، والأمر نفسه ينطبق على الإجارة وبقاء الصوم، فعقد الإجارة عقد على منفعة غير موجودة وقت العقد ولا تستوفى إلا آجلاً، فهو يرى أن القياس يقتضي عدم جواز عقد الإجارة. والمقصود بذلك أن الإجارة نوع من البيع، والجريان في ذلك على أحكام البيع يتناقض مع عقد الإجارة. هذا هو الذي يسميه قياساً، وبما أن النصوص أباحت الإجارة فتقدم على القياس، وهذا في حقيقته تخصيص، والتخصيص في واقعه دائماً يتضمن تعارضاً بين العام والخاص، وههنا يوجد تعارض بين عموم النص الذي سماه قياساً، وبين النص المخصص الذي هو بدوره يمكن تسمية جريانه في أفراده قياساً، لذلك فهو يسمى عملية التخصيص هذه، التي فيها تقديم للخاص على العام، عملاً بأقوى القياسين ويسميها استحساناً، وقد سماها بعضهم عملاً بأقوى الدليلين، ولذلك قيل - أيضاً - إن أقوى الأقوال هو قول الكرخي: هو قطع المسألة عن نظائرها إلخ.(2/91)
ويظهر هذا بشكل أقوى في تمثيله في بقاء الصوم مع فعل الناسي، قال في كشف الأسرار: "وكذا الأكل ناسياً يوجب فساد الصوم في القياس لأن الشيء لا يبقى مع وجود ما ينافيه كالطهارة مع الحدث والاعتكاف مع الخروج من غير حاجة، إلا أنه متروك بالأثر وهو قوله عليه السلام: "تم على صومك فإنما أطعمك الله وسقاك"(1)، وإليه إشعار أبي حنيفة - رحمه الله -: لولا قول الناس لقلت: يقضي. يعني به رواية الأثر"(2). وهنا أيضاً لا يوجد في الحقيقة قياس يوجب فساد الصوم، مما يعني أنه لا يقصد بالقياس القياس الشرعي أي في المصطلح الأصولي، وإنما يقصد به جريان الحكم في كل أفراده، والحكم هو أن الأكل يفسد الصيام، وأكل الناسي أكل، فينبغي أن يفسد به الصوم، فالمقصود بالقياس عموم النص، ثم إنه خصص عموم النص بالأثر، فلم يحكم على هذا الأكل حكمه على نظائره من الأكل لأنه أكل ناسياً والأثر أخرج الناسي، فكان الاستحسان تخصيصاً وقطعاً للمسألة عن نظائرها.
__________
(1) أخرجه البخاري (1797) بلفظ: "فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه"، ومسلم (1952)، باللفظ نفسه، وأبو داود (2046).
(2) علاء الدين البخاري، كشف الأسرار، 4/7.(2/92)
وأما الاستحسان بالإجماع فمثل له بالاستصناع، والمقصود بذلك أن القياس الذي يقصده يقتضي عدم جواز الاستصناع، ولكن الإجماع دل على جوازه فكان هذا تخصيصاً بالإجماع، وهنا أيضاً يقال إنه لا يوجد قياس أقوى من قياس وإنما هناك إجماع خصص الحكم، قال في كشف الأسرار: "ومن الاستحسان ما ثبت بالإجماع مثل الاستصناع يعني فيما فيه للناس تعامل مثل أن يأمر إنساناً ليخرز له خفاً مثلاً بكذا ويبين صفته ومقداره ولا يذكر له أجلاً ويسلم إليه الدراهم أو لا يسلم فإنه يجوز والقياس يقتضي عدم جوازه لأنه بيع معدوم للحال وهو معدوم وصفاً في الذمة ولا يجوز بيع شيء إلا بعد تعينه حقيقةً أي ثبوته في الذمة كالسلم فأما مع العدم من كل وجه فلا يتصور عقد لكنهم استحسنوا تركه بالإجماع الثابت بتعامل الأمة من غير نكير"(1). فهذا أيضاً تخصيص، وهو ليس تخصيصاً لقياس وإنما لعموم. والذي يتأكد من هذا أن الاستحسان تخصيص، وبما أن التخصيص ليس إلا تعارضاً بين عموم وخصوص، فالعمل يكون بأقوى المتعارضين، لذلك يكون الاستحسان العمل بأقوى الدليلين وهو الخاص، وبما أنه عمل بالخاص وترك للعام فهو قطع للمسألة عن نظائرها، والحكم عليها بالحكم الخاص، ويكون تقديم الأثر الخاص على العام هو الاستحسان، ومن هنا فقد يقال: ترك الدليل، والمقصود الدليل العام، إلى الاستحسان، فيتوهم من لا يدقق أنه ترك الدليل الشرعي إلى الرأي الشخصي، وليس الأمر كذلك إطلاقاً. قال: "فإن قيل: الإجماع وقع معارضاً للنص وهو قوله عليه السلام: "لا تبع ما ليس عندك"(2)، قلنا: قد صار النص في حق هذا الحكم مخصوصاً بالإجماع فبقي القياس النافي للجواز معارضاً للإجماع فسقط اعتباره بمعارضة الإجماع"(3).
__________
(1) علاء الدين البخاري، كشف الأسرار، 4/7.
(2) تقدم تخريجه.
(3) علاء الدين البخاري، كشف الأسرار، 4/8.(2/93)
وأما استحسان الضرورة فقال فيه: "ومنه ما ثبت بالضرورة وهو تطهير الحياض والآبار والأواني، فإن القياس نافى طهارة هذه الأشياء بعد تنجسها لأنه لا يمكن صب الماء على الحوض أو البئر ليتطهر، وكذا الماء الداخل في الحوض أو الذي ينبع من البئر يتنجس بملاقاة النجس والدلو يتنجس أيضاً بملاقاة الماء فتعود وهي نجسة وكذا الإناء إذا لم يكن في أسفله ثقب يخرج الماء منه إذا أُجْرِيَ من أعلاه لأن الماء النجس يجتمع في أسفله فلا يحكم بطهارته إلا أنهم استحسنوا ترك العمل بموجب القياس للضرورة المحوجة إلى ذلك لعامة الناس. وللضرورة أثر في سقوط الخطاب"(1).
وهنا أيضاً ليس في هذا النظر أي قياس بالمعنى الشرعي، وإنما هو بحث في الواقع أو المناط وهو أن الماء تنجس ولن يطهر ولكن هذا الحكم بنجاسة الحياض والأواني والآبار عسير على الناس فيحكم بالطهارة للضرورة، فتم تخصيص الحكم بنجاستها بالضرورة، والضرورة لها حكمها وأثرها شرعاً. فهذا نوع من الاستحسان، وظاهر فيه أنه تخصيص. وظاهر فيه أيضاً أنه ليس تخصيصاً لقياس ولا عملاً بأقوى القياسين. وهم وإن أطلقوا على المتروك اسم القياس وعلى المعمول به اسم الاستحسان فهي تسمية أطلقوها وهم يعلمون أنه ليس ثمة قياس أو علة، ولكن ربما كان ثمة مشابهة بين جريان الحكم في مختلف أفراده بالدليل العام، وبين تعدية الحكم إلى مواضع مختلفة بواسطة العلة، وكذلك فإن العلة إنما أهميتها بتأثيرها في الحكم، فإذا ظهر أثر الشيء شابه العلة في ذلك. قال البزدوي: "وإنما غرضنا هنا تقسيم وجوه العلل في حق الأحكام، ولما صارت العلة عندنا علة بأثرها سمينا الذي ضعف أثرها قياساً وسمينا الذي قوي أثرها استحساناً أي قياساً مستحسناً وقدمنا الثاني وإن كان خفياً على الأول وإن كان جلياً لأن العبرة لقوة الأثر دون الظهور والجلاء"(2).
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) علاء الدين البخاري، كشف الأسرار، 4/8.(2/94)
وإذا كان هذا هو الاستحسان عند أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ فليس ثمة خلاف بينه وبين المشنعين على الاستحسان. ولكن السؤال هو: لماذا هذه التسمية، فهل هناك علاقة بين هذه اللفظة وبين ترك العام إلى الخاص أو الأخذ بأقوى الدليلين؟ وقد أورد الزركشي أقوالاً تشير إلى هذا التساؤل منها: "على أن الخلاف بيننا وبينهم لفظي، فإن تفسير الاستحسان بما يشنع عليهم لا يقولون به، والذي يقولون به إنه العدول في الحكم من دليل إلى دليل هو أقوى منه. فهذا مما لم ينكره. لكن هذا الاسم لا نعرفه اسماً لما يقال به بمثل هذا الدليل"(1).
وما أراه في هذا الشأن هو أن هذه التسمية ربما كانت ترجع إلى خصوصية في المذهب، وذلك أن المنقول عن أبي حنيفة وجمهور المذهب أنهم لا يرون تخصيص العام بالخاص إلا إذا كان الخاص متأخراً عن العام، فإذا كان العام هو المتأخر فإنه ناسخ للخاص، إلا انه قد يجهل أيهما المتأخر، أو قد يغلب على الظن أن العام هو المتأخر ولكن الخاص تحتف به قرائن تجعله أقوى أثراً وتوجب إعماله عند النظر والاجتهاد وذلك كأن ينقل عن الصحابة العمل به، ففي هذه الحالة فإن أصول المذهب تقضي بالعمل بالعام وإهمال الخاص، ولكن ما اقترن بالخاص من قرائن تُقَوِّيه، ويؤدي الاجتهاد إلى إعماله وتخصيص العام به، ومن هنا - والله أعلم - تظهر تعابير مثل: "ما قوي أثره وإن كان خفياً" ومثل: "ما ظهر أثره وخفي فساده" وربما كان هذا مبرراً وجيهاً لاستعمال لفظ الاستحسان.
__________
(1) الزركشي، البحر المحيط، 4/388.(2/95)
أما أن ما ذكر أعلاه هو من أصول المذهب في العام والخاص فقد قال البزدوي: "إن أبا حنيفة - رحمه الله - قال: إن الخاص لا يقضي على العام بل يجوز أن ينسخ الخاص به"(1)، وقال علاء الدين البخاري: "والجواب لأبي حنيفة - رحمه الله -: إن العام في إيجاب الحكم مثل الخاص، ثم إذا وردا في حادثةٍ ويعرف تاريخهما كان الثاني ناسخاً إن كان هو العام ومخصصاً إن كان هو الخاص"(2).
وإذا كان الاستحسان ليس إلا عملاً بالشرع، وعملاً بأقوى الدليلين عند التعارض وهو المخصص، فلا مجال للتشنيع على الاستحسان أو على من يقول به. ولكن ربما يقال إن الأمثلة التي يؤتى بها على الاستحسان فيها ما يظهر فيه أنه عدول عن الدليل إلى ما لا دليل عليه أو ترك الأقوى إلى الأضعف. والجواب إن هذا ليس راجعاً إلى الاستحسان أو معناه، وإنما هو راجع إلى الاختلاف الفقهي في تفاصيل الأدلة، فقد يترك المجتهد ما هو دليل بنظر غيره وليس دليلاً بنظره، وقد يقول بالرأي يظنه خصمه لا دليل له عليه فيتوهم أنه تَشَهٍّ واتباع للهوى، أضف إلى ذلك أنه ربما يكون من أتباع المذهب من لا يقف على حقيقة قول إمامه أو على دليله، فيبني على ذلك ما لا يصح، وربما كان ذلك ذريعةً للتشنيع على المذهب.
الاستحسان عند الشاطبي:
__________
(1) البزدوي، أصول البزدوي، 1/426.
(2) علاء الدين البخاري، كشف الأسرار، 1/452.(2/96)
والاستحسان عند الشاطبي لا يختلف عن هذا المذكور أعلاه إلا من جهة أنه قاعدة كلية، والقواعد الكلية قطعية، فالاستحسان عنده هو عدول عن إجراء القاعدة الكلية في أحد أو بعض جزئياتها، وعلى ذلك ينبغي أن يكون الحكم في هذه الجزئية المعدول بها عن الكلي راجعاً إلى معنى كلي آخر، وإلا فلا يصح هذا العدول. فهو إخراج الجزئية من تبعيتها لكلي إلى كلي آخر، وهذا من قبيل التعارض بين الكليات أو تخصيص الكليات بعضها لبعض، والكليات قطعيات لا تتعارض ولا يحصل فيها التخصيص كما سبق بيانه. إذن، هذا التعارض غير حقيقي وإنما هو من جهة دون جهة أو في حال غير حال، وكذلك التخصيص فإن معناه عنده البيان، فتخصيص الكليات بعضها لبعض هو بيان حدود وأحوال عمل كل واحدة.(2/97)
أما أن الاستحسان قاعدة كلية قطعية وأن المستحسَن راجع إلى معنى ثابتٍ قطعاً بالاستقراء، فالاستدلال به هو من قبيل الاستدلال المرسل فيدل عليه قوله: "فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين فقد شهد له أصل كلي، والأصل الكلي إذا كان قطعياً قد يساوي الأصل المعين وقد يربى عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه كما أنه قد يكون موجوداً في بعض المسائل حكم سائر الأصول المعينة المتعارضة في باب الترجيح وكذلك أصل الاستحسان عند مالك ينبني على هذا الأصل لأن معناه يرجع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس"(1). وقال: "ومما ينبني على هذا الأصل (أي أصل مآلات الأفعال) (2)، قاعدة الاستحسان، وهو في مذهب مالك الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي، ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة كالمسائل التي يقتضي فيها القياس أمراً إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوات مصلحة من جهة أخرى أو جلب مفسدة كذلك"(3). فتقديم المصلحة الجزئية على الدليل الكلي ليس استحساناً بمحض الرأي أو التشهي وإنما بتقديم الاستدلال المرسل، فالمصلحة الجزئية راجعة إلى معنى كلي ثابت شرعاً.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/16.
(2) ما بين قوسين زيادة من الباحث.
(3) الشاطبي، الموافقات، 4/116.(2/98)
فالذي ورد عن الأحناف أنه تقديم للأثر أو الإجماع أو الضرورة، وهو هنا يقول تقديم الاستدلال المرسل وهو يشمل هذه الأشياء وغيرها إذ يشمل كل مصلحة أو معنى يرجع إلى معنى كلي بالاستقراء، والمعاني الكلية في مآلات الأفعال لا تخرج عن الضروريات والحاجيات والتحسينات ومكملات كل منها، ولكن في الاستحسان كما في المصالح المرسلة لا أثر للمصالح أو الجزئيات الراجعة إلى التحسينيات أو مكملاتها، يقول: "وكثيراً ما يتفق هذا (أي الاستحسان أو تقديم الاستدلال المرسل على القياس)، في الأصل الضروري مع الحاجي، والحاجي مع التكميلي فيكون إجراء القياس مطلقاً في الضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده فيستثنى موضع الحرج، وكذلك في الحاجي مع التكميلي، أو الضروري مع التكميلي وهو ظاهر"(1). وقد أورد الشاطبي أمثلةً عديدة على الاستحسان في كتابيه الموافقات والاعتصام(2). قال: "وله في الشرع أمثلة كثيرة كالقرض مثلاً فإنه ربا في الأصل لأنه الدرهم بالدرهم إلى أجل لكنه أبيح لما فيه من المرفقة والتوسعة على المحتاجين بحيث لو بقي على اصل المنع لكان في ذلك المنع ضيق على المكلفين"(3). فالدرهم بالدرهم إلى أجل حرام في البيع لأنه من الأصناف الستة الربوية، وعموم هذا الحكم يقضي حرمة إقراض الدرهم، وحرمة الربا راجعة إلى حفظ المال من الضروريات، وجواز القرض راجع إلى الحاجيات لأن الحاجيات دورانها على التوسعة والتيسير، فهذه الجزئية وهي إقراض الدرهم لم تتبع حرمة الربا في الضروري وتبعت الجواز في الحاجي، فهذا استحسان، وإذا علمنا بأن ثبوت كونه من الضروريات أو من الحاجيات يرجع إلى الاستقراء لنصوص الشرع ومآلاتها، ندرك أن عملية التخصيص أو التبيين هنا ليست راجعة إلى التشهي وإنما إلى الشرع، وهكذا في سائر الأمثلة.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/116.
(2) المصدر نفسه، 4/117 - 118، والاعتصام، 2/393 - 400.
(3) المصدر نفسه، 4/117.(2/99)
يقول مثلاً: "ومثله الجمع بين المغرب والعشاء للمطر وجمع المسافر وقصر الصلاة والفطر في السفر الطويل، وصلاة الخوف وسائر الترخصات التي على هذا السبيل فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص حيث كان الدليل العام يقتضي منع ذلك لأنا لو بقينا مع أصل الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة"(1). وقال: "ومثله الإطلاع على العورات في التداوي، والقراض، والمساقاة، وإن كان الدليل العام يقتضي المنع وأشياء من هذا القبيل كثيرة"(2). فهذه الأمثلة كلها وإن قيل إنها استحسان فهي راجعة إلى أدلة الشرع، ولذلك فبعد أن أورد الشاطبي أمثلة على الاستحسان ذكر تفسير ابن العربي له فقال: "وقد قال ابن العربي في تفسير الاستحسان بأنه إيثار ترك مقتضى الدليل عن طريق الاستثناء والترخص لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته"(3).
وعلى ذلك فإنه يقال في الاستحسان ما قيل في المصلحة المرسلة وهو أنه ليس ذريعة للقول في دين الله بغير دليل من الشرع. قال الشاطبي: "فإن الاستحسان لا يكون إلا بمستحسِن وهو إما العقل أو الشرع، أما الشرع فاستحسانه واستقباحه قد فرغ منهما لأن الأدلة قد اقتضت ذلك فلا فائدة لتسميته استحساناً، ولا لوضع ترجمةٍ له زائدةٍ على الكتاب والسنة والإجماع وما ينشأ عنها من القياس والاستدلال، فلم يبقَ إلا العقل هو المستحسن، فإن كان بدليل فلا فائدة لهذه التسمية لرجوعه إلى الأدلة لا إلى غيرها، وإن كان بغير دليل فذلك هو البدعة التي تستحسن"(4). ومراده أنه لا فائدة في قول في الشرع بغير دليل، وإن زعم أن ذلك استحسان، ومن ظن أنه بذلك يستحسن فإنما هو يبتدع.
الفرق بين المصالح المرسلة والاستحسان:
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) الموضع نفسه.
(3) الشاطبي، الموافقات، 4/116..
(4) الشاطبي، الاعتصام، 2/390.(2/100)
والفرق بين المصالح المرسلة والاستحسان هو أن المصالح المرسلة هي عمل بقاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب لتحصيل شيء في الضروريات، وبقاعدة رفع الحرج في الحاجيات، أما الاستحسان فهو تخصيص الضروري بالحاجي أو بالتكميلي، أو تخصيص الحاجي بالتكميلي، وعلى ذلك فقد يلتقيان في بعض الحالات. فتلتبس المسألة إن كانت من المصالح المرسلة أو من الاستحسان أو يصح التحاقها بالقاعدتين، وذلك حيث يلتقي رفع الحرج في الحاجيات من المصالح المرسلة مع تخصيص الحاجيات من الاستحسان.
ومثال ذلك ما ذكره الشاطبي من بين أمثلته على الاستحسان وهو تضمين الأجير المشترك. قال: "ترك الدليل لمصلحة كما في تضمين الأجير المشترك وإن لم يكن صانعاً فإن مذهب مالك في هذه المسألة على قولين، كتضمين صاحب الحمام الثياب"(1). ثم قال: "فإن قيل: فهذا من باب المصلحة المرسلة لا من باب الاستحسان، قلنا: نعم، إلا أنهم صوروا الاستحسان بصورة الاستثناء من القواعد بخلاف المصالح المرسلة، ومثل ذلك يتصور في مسألة التضمين فإن الأجراء مؤتمنون بالدليل لا بالبراءة الأصلية فصار تضمينهم في حيز المستثنى من ذلك الدليل، فدخلت تحت معنى الاستحسان بذلك النظر"(2).
المبحث الثالث
سد الذرائع
تعريفه:
__________
(1) الشاطبي، الاعتصام، 2/394.
(2) الموضع نفسه،2/394.(2/101)
سد الذرائع هو منع الجائز لئلا يتوصل به إلى الممنوع، قال الشاطبي: "إنه راجع إلى طلب ترك ما ثبت طلب فعله لعارض يعرض وهو أصل متفق عليه في الجملة"(1)، ونقل الزركشي: "وهي المسألة التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل المحظور، مثل أن يبيع السلعة بمائةٍ إلى أجل ويشتريها بخمسين نقداً، فهذا قد توصل إلى خمسين بذكر السلعة"(2). وقال القرافي: "سد الذرائع ومعناه حسم مادة وسائل الفساد دفعاً لها، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة منع مالك من ذلك الفعل في كثير من الصور"(3). والذرائع هي الأفعال التي هي أسباب لغيرها لذلك فهي وسائل، قال القرافي: "وربما عبر عن الوسائل بالذرائع وهو اصطلاح أصحابنا"(4).
موقف المذاهب من سد الذرائع:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 3/126.
(2) الزركشي، البحر المحيط، 4/382.
(3) القرافي، الفروق، 2/32. الفرق 58.
(4) الموضع نفسه.(2/102)
قال القرافي: "وليس سد الذرائع من خواص مذهب مالك كما يتوهمه كثير من المالكية بل الذرائع ثلاثة أقسام: قسم أجمعت الأمة على سده ومنعه وحسمه كحفر الآبار في طرق المسلمين فإنه وسيلة إلى إهلاكهم فيها وكذلك إلقاء السم في أطعمتهم وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى عند سبها. وقسم أجمعت الأمة على عدم منعه وأنه ذريعة لا تسد ووسيلة لا تحسم كالمنع من زراعة العنب خشية الخمر فإنه لم يقل به أحد. وكالمنع من المجاورة في البيوت خشية الزنا. وقسم اختلف فيه العلماء هل يسد أم لا كبيوع الآجال عندنا كمن باع سلعة بعشرة دراهم إلى شهر اشتراها بخمسة قبل الشهر، فمالك يقول إنه أخرج من يده خمسة الآن وأخذ عشرة آخر الشهر فهذه وسيلة لسلف خمسة بعشرة إلى أجل توسلاً بإظهار صورة البيع لذلك. والشافعي يقول يُنظر إلى صورة البيع ويحمل الأمر على ظاهره فيجوز ذلك وهذه البيوع يقال إنها تصل إلى ألف مسألة اختص بها مالك وخالفه فيها الشافعي"(1).
وكذلك يخالف المالكيةَ فيها أبو حنيفة فإن قوله بجواز الحيل يعني عدم أخذه بسد الذرائع. ومع أن القائلين بها هم المالكية ويخالفهم غيرهم فيها فإن الشاطبي والقرافي وغيرهم يقولون إنها معمول بها عند الجميع، والمقصود: في بعض الحالات. وهي الحالات الواقعة في القسم الأول من أقسام الذرائع الثلاثة التي ذكرها القرافي.
__________
(1) القرافي، الفروق، 2/32. الفرق 58.(2/103)
وقاعدة سد الذرائع مبنية عند الشاطبي على أصل مآلات الأفعال، وهو أن الفعل إذا كان مآله إلى حرام أو ممنوع، فالنظر قد يقتضي تحريم الفعل، والذرائع التي تُسد هي من الأفعال التي يقتضي النظر تحريمها بناءً على المآل. إلا أن هذا الإطلاق لا يطرد في الشريعة وجمهور الأصوليين يقولون برده. ومع ذلك فالشاطبي يقول إن الشافعي وأبا حنيفة قد أعملا هذه القاعدة، مع أن المصرح به عندهما ردها. ويقول إن العلماء اتفقوا على إعمالها في الجملة وهي مطّردة عندهم. وإنما الخلاف هو في بعض الوقائع. قال رداً على القرافي في أن العلماء نازعوا في اعتبار سد الذرائع: "فهذه وجوه كثيرة يستدلون بها وهي لا تفيد فإنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة وهذا مجمع عليه، وإنما النزاع في ذرائع خاصة وهي بيوع الآجال ونحوها"(1). وقال: "أما الشافعي فالظن به أنه تم له الاستقراء في الذرائع على العموم"(2). وقال: "وأما أبو حنيفة فإن ثبت عنه جواز إعمال الحيل لم يكن من أصله في بيوع الآجال إلا الجواز ولا يلزم من ذلك تركه لأصل سد الذرائع وهذا واضح"(3)، وقال "وقد عوّل العلماء على هذا المعنى وجعلوه أصلاً يطرد وهو راجع إلى سد الذرائع الذي اتفق العلماء على إعماله في الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل"(4). وبما أن استقراء الأحكام الشرعية يمنع من إطلاق القول بمنع الجائز لئلا يتوصل به إلى الممنوع ذهب الشاطبي إلى أن الذرائع ثلاثة أقسام وهي الأقسام نفسها التي ذكرت قبل قليل عن القرافي. وهو أن من الذرائع ما يسد باتفاق ومنها ما لا يسد باتفاق ومنها ما هو مختلف فيه.
أدلة القاعدة:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 3/173.
(2) الموضع نفسه.
(3) الموضع نفسه.
(4) المصدر نفسه، 3/188.(2/104)
يذهب الشاطبي إلى أن قاعدة سد الذرائع قطعية بالاستقراء ومعمول بها. دلت عليها معاني الأحكام المأخوذة من النصوص كقوله تعالى: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } (1). وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا } (2). وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: "إن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه. قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسبُ أبا الرجل فيسب أباه ويسبّ أمه فيسب أمه"(3). وكان عليه الصلاة والسلام يكف عن قتل المنافقين لأنه ذريعة إلى قول المنافقين: إن محمداً يقتل أصحابه(4) (5).
__________
(1) سورة الأنعام، 108.
(2) سورة البقرة، 104.
(3) البخاري (5516) بلفظ يلعن بدل يشتم، ومسلم (130) باللفظ نفسه، والترمذي (1824)، وقال: حسن صحيح، وأحمد (6243).
(4) البخاري (3527) و(4525)، ومسلم (4682) و(1761) وفيها: عن المنافقين والخوارج، والترمذي (3237) وقال: حسن صحيح، وأحمد (14292).
(5) للنظر في أدلة القاعدة عند الشاطبي، أنظر الموافقات: 1/72، 2/250، 3/126، 127.(2/105)
والقاعدة مبنية أيضاً على ما يسميه أصل التعاون، ومن أدلته قوله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } (1). فالفعل الجائز إذا كان موصلاً إلى حرام هو وسيلة إليه ويكون معاوناً على المقصد الحرام، فتأخذ الوسيلة حينئذ حكم المقصد، وإذا كان مؤدياً إلى مأمورٍ به فهو وسيلة إلى البر ومعاون على المقصد المطلوب شرعاً، فيأخذ أيضاً حكم المقصد. وإذا لم يكن الفعل ذريعة إلى شيء فهو المباح المطلق. قال: "المباح من حيث هو مباح متساوي الطرفين"(2). ثم قال: "فإنه إذا كان ذريعة إلى ممنوع صار ممنوعاً من جهة سد الذرائع لا من جهة كونه مباحاً"(3). ثم قال إن المباح: "ثلاثة أقسام: قسم يكون ذريعة إلى منهي عنه فيكون من تلك الجهة مطلوب الترك. وقسم يكون ذريعة إلى مأمور به كالمستعان به على أمر أخروي"(4). ثم قال: "وقسم لا يكون ذريعة إلى شيء فهو المباح المطلق، وعلى الجملة فإذا فُرض ذريعة إلى غيره فحكمه حكم ذلك الغير"(5). ولا بد من التنبيه إلى أن الفعل الذي يتحدث عنه هو الفعل المباح أصلاً. وقوله: "على الجملة" أي أنه ليس على الإطلاق. إذ كثيراً ما لا يأخذ الفعل حكم المقصد. وعندما يكون المآل أو المقصد ممنوعاً ويأخذ الفعل حكم المقصد من باب أصل التعاون يكون هذا أيضاً إعمالاً لقاعدة سد الذرائع. قال: "تدخل قاعدة الذرائع بناءً على أصل التعاون على الطاعة أو المعصية، فإن هذا الأصل متفق عليه في الاعتبار ومنه ما فيه خلاف كالذرائع في البيوع وأشباهها وإن كان أصل الذرائع أيضاً متفقاً عليه، ويدخل فيه أيضاً قاعدة تعارض الأصل والغالب"(6).
__________
(1) سورة المائدة، 2.
(2) الشاطبي، الموافقات، 1/71.
(3) الشاطبي، الموافقات، 1/71.
(4) المصدر نفسه، 1/72.
(5) الموضع نفسه.
(6) المصدر نفسه، 3/126، 127.(2/106)
وسيأتي الكلام على تعارض الأصل والغالب ضمن الكلام في ضوابط قاعدة سد الذرائع.
ضوابط إعمال قاعدة سد الذرائع:
إن موضع إعمال القاعدة هو في المباح كما تبين. وهو في المباح الذي يؤدي إلى حرام. إلا أن هذا ليس في أي مباح، ولا في أي كيفية من كيفيات التوصيل إلى الحرام، ولا في أي حرام. فلا بد من تحديد ضوابط وقيود إعمال هذه القاعدة.
الضابط الأول:
أن لا يكون المباح مباحاً للحاجة أو للضرورة. فما كان كذلك فإن معارضته بالمآل المحرم أو بما يعترضه من منكرات لا تصح. لأن الفرض أن المكلف مضطر إليه، والضرورات مغتفرة أصلاً في الشرع، بل إن هذا المباح قد صار واجباً كتناول الميتة في المخمصة، أو محتاجٌ إليه بحيث إذا تركه لحقه حرج وقد دل الشرع على رفع الحرج، وتحريم الفعل لأجل المآل يوقع الحرج بالمكلف، فدل هذا على أن الفعل المشروع للضرورة أو للحاجة ليس محلاً لإعمال قاعدة سد الذرائع.(2/107)
وهذا لا يقتصر على حالات الاضطرار أو الحرج وإنما على ما يخدم ضرورياً أو حاجياً، كالنكاح الذي يستلزم قوت العيال وقد يؤدي إلى تحصيل القوت بما حرّم الله وكالمشي إلى المساجد وفي الطرقات حيث يعترض الماشي سماع المنكرات ومشاهدة العورات، ومنع النكاح والمشي في الأسواق يوقع المكلف في حرج رفعه الشارع ويؤدي إلى منع المباح من أصله. قال: "ما أصله الإباحة للضرورة أو للحاجة إلا أنه يتجاذبه العوارض المضادة لأصل الإباحة وقوعاً أو توقعاً هل يكرُّ على أصل الإباحة بالنقض أو لا؟ هذا محل نظر وإشكال. والقول فيه إنه لا يخلو إما أن يضطر إلى ذلك المباح أو لا، وإذا لم يضطر إليه فإما أن يلحقه بتركه حرج أم لا، فهذه أقسام ثلاثة. أحدها أن يضطر إلى فعل ذلك المباح فلا بد من الرجوع إلى ذلك الأصل وعدم اعتبار العارض"(1). "والقسم الثاني أن لا يضطر إليه ولكن يلحقه بالترك حرج فالنظر يقتضي الرجوع إلى أصل الإباحة وترك اعتبار الطوارئ إذ الممنوعات قد أبيحت رفعاً للحرج"(2). أما القسم الثالث "وهو أن لا يضطر إلى أصل المباح ولا يلحقه بتركه حرج فهو محل اجتهاد وفيه تدخل قاعدة الذرائع بناء على أصل التعاون على الطاعة أو المعصية"(3).
إلا أن الشاطبي يفصل في القسم الثاني وهو إذا كان ترك المباح يوقع المكلف في الحرج، وذلك أن الحرج في الإقدام على الأفعال أو تركها ليس بمرتبةٍ واحدة، والشرع لم يأت برفع كل حرج فقد تكون مفسدة الحرج الواقع بمنع المباح أقل من مفسدة ملابسة المآل الممنوع، فيتساءل الشاطبي: "هل يوازي الحرج اللاحق بترك الأصل الحرج اللاحق بملابسة العوارض أم لا؟" (4).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/124.
(2) المصدر نفسه، 1/125.
(3) المصدر نفسه، 1/126.
(4) المصدر نفسه، 1/125.(2/108)
والجواب - على منهجه - بأن هذا الذي أصله الإباحة خادم لأصل ضروري أو حاجي أو تحسيني، والمآل الممنوع، رفعه أيضاً خادم لأصل ضروري أو حاجي أو تحسيني، ووقوعه مضاد لوقوع الأصل المباح. فإن كان الفعل المباح - وهو سبب - والمآل الممنوع راجعين أو خادمين للأصل نفسه فهذا ليس محلاً لإعمال قاعدة الذرائع، لأن المنع يرجع إلى مكملات الأصل وليس إلى الأصل، والمباح يرجع إلى الأصل. فالأولى عدم اعتبار الراجع إلى المكمل وقد مر معنا في مقاصد الشريعة أن انهدام المكمل لا يهدم الأصل بينما انهدام الأصل يهدم معه مكملاته، فهنا أيضاً يظل المباح مباحاً ولا يتأثر بالعوارض. أما إن كان المباح والمآل راجعين إلى أصلين مختلفين فهذا مما قد يعتبر فيه المآل ولكنه ليس من باب سد الذرائع وإنما هو من باب التعارض والترجيح.(2/109)
يقول الشاطبي مجيباً على سؤاله المذكور أعلاه: "لا يخلو أن يكون فقد العوارض بالنسبة إلى هذا الأصل من باب المكمل له في بابه أو من باب آخر هو أصل في نفسه، فإن كان هذا الثاني فإما أن يكون واقعاً أو متوقعاً، فإن كان متوقعاً فلا أثر له مع وجود الحرج لأن الحرج بالترك واقع وهو مفسدة، ومفسدة العارض متوقعة متوهمة فلا تعارض الواقع البتة. وأما إن كان واقعاً فهو محل الاجتهاد في الحقيقة، وقد تكون مفسدة العوارض فيه أتم من مفسدة ترك المباح، وقد يكون الأمر بالعكس والنظر في هذا بابه التعارض والترجيح، وإن كان الأول فلا يصح التعارض ولا تساوي المفسدتين بل مفسدة فقد الأصل أعظم، والدليل على ذلك أمور: أحدها أن المكمل مع مكمله كالصفة مع الموصوف"(1). ثم قال: "وإذا كان فقد الصفة لا يعود بفقد الموصوف على الإطلاق بخلاف العكس كان جانب الموصوف أقوى في الوجود والعدم"(2). "والثاني أن الأصل مع مكملاته كالكلي مع الجزئي وقد علم أن الكلي إذا عارضه الجزئي فلا أثر للجزئي، فكذلك هنا لا أثر لمفسدة فقد المكمل في مقابل وجود مصلحة المكمَّل"(3).
إذن، يتقرر لدينا الضابط الأول لإعمال القاعدة وهو "أن لا يضطر إلى أصل المباح ولا يلحق بتركه حرج، فهو محل اجتهاد وفيه تدخل قاعدة الذرائع"(4).
أما قوله: "فهو محل اجتهاد" فهو إشارة إلى أنه في هذه الحالة هناك رأيان، أحدهما يعتبر أصل الإباحة ولا يعتبر العارض المعارض، والثاني يعتبر العارض المعارض وينفي الإباحة سداً للذريعة.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/126.
(2) الموضع نفسه.
(3) الموضع نفسه.
(4) الموضع نفسه.(2/110)
يقول: "ولمن يقول باعتبار الأصل من الإباحة أن يحتج بأن أصل الإذن راجع إلى معنى ضروري، إذ قد تقرر أن حقيقة الإباحة التي هي تخيير حقيقة تلحق بالضروريات وهو أصول المصالح فهي في حكم الخادم لها إن لم تكن في الحقيقة إياها، فاعتبار المعارض في المباح اعتبار لمعارض الضروري في الجملة وإن لم يظهر في التفصيل كونه ضرورياً وإذا كان كذلك صار جانب المباح أرجح من جانب معارضه"(1).
أما الرأي الثاني فقال: "ولمرجح جانب العارض أن يحتج بأن مصلحة المباح من حيث هو مباح مخير في تحصيلها وعدم تحصيلها وهو دليل على أنها لا تبلغ مبلغ الضروريات، وهي كذلك أبداً لأنها متى بلغت ذلك المبلغ لم تبق مخيراً فيها"(2). والذي يريد الشاطبي الإشارة إليه في إيراده للرأيين هو الإشارة إلى أن الذي لم يعمل قاعدة سد الذرائع هنا، ليس مرده إلى أنه لا يقول بالقاعدة وإنما إلى أن سد الذريعة كان مرجوحاً.
ولمزيد من التفصيل في هذا الضابط يمكن العودة إلى ما جاء به الشاطبي من تفصيلات بشأن حكم الإباحة، وهو أن المباح قد يكون مباحاً بالجزء مندوباً بالكل أو مباحاً بالجزء واجباً بالكل أو مباحاً بالجزء مكروهاً بالكل أو مباحاً بالجزء ممنوعاً بالكل. فما كان مباحاً بالجزء مندوباً أو واجباً بالكل فهو المباح للضرورة أو للحاجة، وهذا لا تجري فيه قاعدة سد الذرائع، وبقي أن قاعدة سد الذرائع إن كان لها إعمال فهي تعمل فيما هو مباح بالجزء مكروه أو ممنوع بالكل.
الضابط الثاني:
أن يكون التوصل إلى الممنوع مقصوداً للمكلف بالفعل المشروع، فإذا كان كذلك يصير الفعل المشروع غير مشروع.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/127.
(2) الموضع نفسه.(2/111)
فإذا كان الفعل مباحاً في الأصل فهذا يعني أن له مآلاً مطلوباً وهو مقصود الشارع بتشريع الفعل، فإذا تلازم مع هذا المقصود مقصود آخر، فهذا المآل الآخر إما أن يكون مأذوناً فيه وإما أن يكون ممنوعاً، فإن كان مأذوناً فيه فلا إشكال، وإن كان ممنوعاً فهذا يعني توارد الأمر والنهي على متلازمين أي على مآلين متلازمين، وهذا هو الموضوع هنا.
يقول الشاطبي إن أحد المقصودين تابع والآخر متبوع ويكون الحكم حكم المتبوع، ويكون ملازمه تابعاً له في الحكم. وذلك كالعقود على الأعيان ومنافعها، فالعقد على ملكية رقبة الأرض تكون منافع رقبة الأرض فيه تابعةً للرقبة. والعقد على منافع الأرض تكون الرقبة فيه تابعة للمنافع بوجه ما وليس تبعية كلية. قال: "المنافع إذا كانت هي المقصودة فالرقاب تابعة إذ هي من الوسائل إلى المقصود، فإن أراد أنها تابعة لها مطلقاً فممنوع"(1). ثم قال: "وإن أراد تبعية ما فمسلَّم ولا يلزم من ذلك محظور، فإن الأمور الكلية تتبع جزئياتها بوجه ما ولا يلزم من ذلك تبعيتها لها مطلقاً"(2).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 3/101.
(2) المصدر نفسه، 3/102.(2/112)
هذا المثال هو لإظهار مقصود الشاطبي باعتبار حكم المتبوع وإنزاله على التابع. والمسألة المذكورة هي على فرض جواز العقد على الرقبة وجوازه على المنفعة، بحيث إذا انعقد على أحدهما كان الآخر تابعاً للمعقود عليه، أي أن التابع والمتبوع المتلازمين جائزان. ومسألتنا هي فيما إذا كان أحد المتلازمين جائزاً والآخر ممنوعاً وفي هذه أيضاً يقول الشاطبي إن الحكم يكون للمتبوع ويعطى التابع الحكم نفسه، يقول: "الأمر والنهي إذا تواردا على متلازمين فكان أحدهما مأموراً به والآخر منهياً عنه على فرض الانفراد وكان أحدهما في حكم التبع للآخر وجوداً وعدماً فإن المعتبر من الاقتضاءين ما انصرف إلى جهة المتبوع، وأما ما انصرف إلى جهة التابع فملغى وساقط الاعتبار شرعاً"(1).
فمثلاً شراء العنب قد يقصد به مباح كأكله وقد يقصد به ما هو حرام كصناعة المسكر، وشراء الأمة قد يقصد به التسري أو الخدمة وقد يقصد به البغاء، فأي المقصودين هو المعتبر وأيهما المتبوع وأيهما التابع. ومقصود المكلف بالفعل ليس مما يُطّلع عليه فهو نية تختلف من شخص لآخر، وذلك مما لا يعلمه المجتهد، وإنما المكلف هو فقيه نفسه ويعلم حرمة فعله من مقصوده الحرام، لذلك فالمجتهد في مثل هذه الحالات ينظر إلى ما كان مقصوداً بالأصالة عرفاً وعادة ويكون هو المتبوع، ويلغي اعتبار التابع ويعطي الحكم بناء على المتبوع، فشراء العنب مثلاً الأصل فيه عرفاً وعادة أنه لغير الخمر، وشراء السلاح أنه ليس لقطع الطريق، وشراء الأمة ليس للبغاء فيظل هذا الشراء مباحاً.
__________
(1) المصدر نفسه، 3/96.(2/113)
وشراء الخمر الأصل فيه عرفاً وعادةً أنه للشرب فيظل حراماً ولو كان المقصود تخليله، وشراء شحم الميتة كذلك وإن كان المقصود به طلاء السفن أو الإنارة. وعلى ذلك فالشاطبي لا يرى من معنى القاعدة تحريم الجائز لمجرد أن المكلف قد يقصد به التوصل إلى الحرام، ولو كان مقصود المكلف ممنوعاً شرعاً. يقول: "إن جهة التبعية يلغى فيها ما تعلق بها من جهة الطلب، فكذلك هنا اللهم إلا أن يكون للعاقد قصد إلى المحرم على الخصوص، فإن هذا يحتمل وجهين: الأول اعتبار القصد الأصيل وإلغاء التابع وإن كان مقصوداً، والآخر اعتبار القصد الطارئ إذا صار بطريانه سابقاً أو كالسابق، وما سواه كالتابع فيكون الحكم له. ومثاله في أصالة المنافع المحللة شراء الأمة بقصد إسلامها للبغاء كسباً به، وشراء الغلام للفجور به، وشراء العنب ليعصر خمراً، والسلاح لقطع الطريق وبعض الأشياء للتدليس بها. وفي أصالة المنافع المحرمة شراء الكلب للصيد والضرع والزرع على رأي من منع ذلك. وشراء السرقين لتدمين المزارع، وشراء الخمر للتخليل، وشراء لحم الميتة لتطلى به السفن أو يستصبح به الناس وما أشبه ذلك. والمنضبط هو الأول والشواهد عليه أكثر لأن اعتبار ما يقصد بالأصالة والعادة هو الذي جاء في الشريعة القصد إليه بالتحليل والتحريم، فإن شراء الأمة للانتفاع بها في التسري إن كانت من عَلِيِّ الرقيق أو الخدمة إن كانت من الوخش وشراء الخمر للشرب والميتة والدم والخنزير للأكل هو الغالب المعتاد عند العرب الذين نزل القرآن عليهم. ولذلك حذف متعلق التحريم والتحليل في نحو: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } (1)، إلى قوله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } (2)."(3).
__________
(1) سورة النساء، 23.
(2) سورة النساء، 24.
(3) الشاطبي، الموافقات، 3/108.(2/114)
وقوله أعلاه: "والمنضبط هو الأول" أي أنه لو ظهر على بعض المكلفين القصد إلى الممنوع فإنه لا يحكم عليهم بذلك، وإنما يحكم عليهم بما هو الأصل أو القصد الأصيل وهو الغالب عرفاً وعادة في المجتمع.
ثم قال: "فإن صار التابع غالباً في القصد وسابقاً في عرف بعض الأزمنة حتى يعود ما كان بالأصالة كالمعدوم المطرح فحينئذ ينقلب الحكم، وما أظن هذا يتفق هكذا بإطلاق ولكن إن فرض اتفاقه انقلب الحكم، والقاعدة مع ذلك ثابتة كما وضعت في الشرع، وإن لم يتفق ولكن القصد إلى التابع كثير، فالأصل اعتبار ما يقصد مثله عرفاً والمسألة مختلف فيها على الجملة اعتباراً بالاحتمالين، وقاعدة الذرائع أيضاً مبنية على سبق القصد إلى الممنوع"(1).
وهذه النصوص تبين مراد الشاطبي بالمقصود المتبوع فهو ليس مقصود المكلف على الخصوص وإنما هو المقصود عند العامة من الفعل، فإذا تغيرت العادة في المجتمع وصار الأصل فيمن يشتري العنب أنه يشتريه للخمر وفيمن يشتري السلاح أنه يشتريه لقطع الطريق فحينئذ يتغير الحكم تبعاً لتغير المقصود ويصبح التابع متبوعاً. فالمقصود المعتبر هو المقصود الأصيل والحكم يتبعه، وقول الشاطبي: "وقاعدة الذرائع أيضاً مبنية على سبق القصد إلى المتبوع" المراد منه أن هذا الانقلاب في الحكم تشفع له قاعدة سد الذرائع، وهذا هو معنى الضابط الثاني لإعمال القاعدة، وهو ظهور القصد إلى ذلك في المجتمع بحيث يصبح هو الأصل وما عداه هو الاستثناء، ومما يقوى اعتبار هذا الضابط عنده قوله: "فقاعدة الذرائع تقوى ههنا إذ قد ثبت القصد إلى الممنوع"(2).
الضابط الثالث:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 3/109 - 110.
(2) المصدر نفسه، 3/110.(2/115)
والضابط الثالث لإعمال قاعدة سد الذرائع عند الشاطبي هو أن يكون الفعل المأذون فيه شرعاً مؤدياً إلى المفسدة كثيراً لا نادراً. فإن كان أداؤه إلى المفسدة نادراً فهذا لا يحرم، أي لا يفتي المجتهد بحرمته، وإن كانت هذه المفسدة مقصودة لمكلف مخصوص فهذا مما لا يطلع عليه المجتهد ولا يحكم بناء عليه. واشتراط أن تكون التأدية إلى المفسدة كثيراً لا نادراً هو بناءً على أن الحكم للغالب لا للنادر، مثلما كان اعتبار القصد بما هو أصيل غالب في المجتمع.
وإن كان توصيل الفعل إلى الحرام كثيراًَ، فقد يكون غالباً، وقد يكون كثيراً لا غالباً ولا نادراً، وهذا ملحق عنده بالغالب، ويمنع من باب سد الذرائع إذا توفر الضابطان الأولان(1).
وقد ظهر هذا الشرط للشاطبي في أكثر من موضع في كتابه أوضحها ما جاء في تفصيله لقاعدة رفع الضرر. وفيما يلي بيان كيفية إعمال قاعدة رفع الضرر عند الشاطبي لما بينها وبين قاعدة سد الذرائع من تداخل.
قاعدة رفع الضرر:
ولما في هذه القاعدة من تفريع واستقصاء، فسيُستعان بشكل وبأرقام للإشارة إلى مختلف حالات تطبيقها ولبيان مواضع سد الذرائع فيها.
يقول الشاطبي في بحث المسألة الخامسة من مقاصد المكلف في التكليف(2).
"جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذوناً فيه على ضربين:
1. أحدهما: أن لا يلزم عنه إضرار الغير.
والثاني: أن يلزم عنه ذلك، وهذا الثاني ضربان:
2. أحدهما: أن يقصد الجالب أو الدافع ذلك الإضرار كالمرخص في سلعته قصداً لطلب معاشه وصَحِبَه قصدُ الإضرار بالغير.
والثاني: أن لا يقصد إضراراً بأحد وهو قسمان:
3. أحدهما: أن يكون الإضرار عاماً كتلقي السلع وبيع الحاضر للبادي والامتناع عن بيع داره أو فدانه وقد اضطر إليه الناس لمسجد جامع أو غيره.
والثاني: أن يكون خاصاً وهو نوعان:
__________
(1) سيتبين هذا الضابط بشرح قاعدة رفع الضرر.
(2) الشاطبي، الموافقات، 2/241.(2/116)
4. أحدهما: أن يلحق الجالب أو الدافع بمنعه من ذلك ضرر فهو محتاج إلى فعله كالدافع عن نفسه مظلمةً يعلم أنها تقع بغيره، أو يسبق إلى شراء طعام أو ما يحتاج إليه أو إلى صيد أو حطب أو ماء أو غيره عالماً أنه إذا حازه استضر غيره بعدمه، ولو أخذ من يده استضر.
والثاني: أن لا يلحقه بذلك ضرر وهو على ثلاثة أنواع:
5. أحدها: ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعياً، أعني القطع العادي كحفر البئر خلف باب الدار في الظلام بحيث يقع الداخل فيه بلا بد وشبه ذلك.
6. والثاني: ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادراً كحفر البئر بوضع لا يؤدي غالباً إلى وقوع أحد فيه، وأكل الأغذية التي غالبها أن لا تضر أحداً وما أشبه ذلك.
والثالث: ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيراً لا نادراً وهو على وجهين:
7. أحدهما: أن يكون غالباً كبيع السلاح من أهل الحرب والعنب من الخمار وما يغش به ممن شأنه الغش ونحو ذلك.
8. والثاني: أن يكون كثيراً لا غالباً كمسألة بيوع الآجال.
فهذه ثمانية أقسام"(1).
ثم يبين الشاطبي الحكم في كل من هذه الأقسام الثمانية ويقرر أن القسمين الأخيرين السابع والثامن هما محل إعمال قاعدة سد الذرائع، وفيما يلي بيان رأيه في كل من هذه الأقسام بالاستعانة بالأرقام الموضوعة إزاء كل قسم وبالشكل المرسوم بعد ثلاث صفحات:
1 ـ القسم الأول: يقول فيه الشاطبي: "فأما الأول فباقٍ على أصله من الإذن ولا إشكال فيه"(2).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/241 - 242.
(2) المصدر نفسه، 2/242.(2/117)
2 ـ القسم الثاني: يقول فيه: "وأما الثاني فلا إشكال في منع القصد إلى الإضرار من حيث هو إضرار لثبوت الدليل على أنه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، ولكن يبقى النظر في هذا العمل الذي اجتمع فيه قصد نفع النفس وقصد إضرار الغير، هل يمنع منه فيصير غير مأذون فيه أم يبقى على حكمه الأصلي من الإذن ويكون عليه إثم ما قصد؟ يرى الشاطبي أن هذا مما يتصور فيه الخلاف ويحتمل الاجتهاد فيه تفصيلاً، فإن كان منع المكلف من العمل لا يمنعه من تحصيل مراده بعمل آخر فلا إشكال في منعه لأنه لا معنى للإصرار على العمل الأول إلا الإضرار بغيره، وإن لم يكن له محيص عن العمل الأول فحقه في الفعل مقدم على حق الغير في رفع الضرر، ولكن يبقى ممنوعاً من القصد"(1).
3 ـ القسم الثالث: وهو إن كان الإضرار عاماً غير مقصود، ففي هذه الحالة يُنظر، فإن كان منعه من الفعل يؤدي إلى الإضرار به ضرراً لا ينجبر فحقه مقدم على الإطلاق، ويبقى الفعل مأذوناً به، وإن كان ينجبر فاعتبار الضرر العام أولى ويمنع من الفعل. قال: "وقد زادوا في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غيره مما رضي أهله ومما لا. وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص لكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرة"(2).
4 ـ القسم الرابع: يقول فيه: "إن حق الجالب أو الدافع مقدم وإن استضر غيره بذلك لأن جلب المنفعة أو دفع المضرة مطلوب للشارع مقصود"(3)، وقال: "وبذلك ظهر أن تقديم حق المسبوق على السابق ليس بمقصود شرعاً إلا مع إسقاط السابق لحقه وذلك لا يلزمه"(4).
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) المصدر نفسه، 2/243.
(3) الشاطبي، الموافقات، 2/243.
(4) الموضع نفسه.(2/118)
5 ـ القسم الخامس: وهو أن يكون الفعل المأذون فيه شرعاً مؤدياً إلى مفسدة قطعاً وأن لا يكون ذلك مقصوداً، فيقول فيه إن الجالب للمصلحة أو الدارئ للمفسدة إن فعل ما فعل غير ملتفت إلى المسببات وغير قاصدٍ للضرر وملتفتاً فقط إلى كون الفعل مأذوناً به فهو جائز لا محظور فيه. أما إن كان عالماً بلزوم مضرة الغير مع عدم استضراره بتركه فهذا ممنوع من الفعل، وإن أقدم على الفعل فهو متعد يضمن ضمان المتعدي بالجملة. والشاطبي لا يتصور مثل هذا الفعل إلا في حالتين: الأولى أن يكون الجالب أو الدافع قد قصر في النظر المأمور به، والثاني: أن يكون قاصداً لنفس الإضرار، وكلاهما ممنوع شرعاً(1).
6 ـ القسم السادس: يقول: "وأما السادس وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادراً فهو على أصله من الإذن لأن المصلحة إذا كانت غالبةً فلا اعتبار بالندور في انخرامها"(2). ثم قال: "فالعمل إذاً باقٍ على أصل المشروعية"(3).
7 ـ القسم السابع: وهو إذا كان الفعل أداؤه إلى المفسدة كثيراً غالباً لا نادراً، فيقول: "وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة ظنياً فيحتمل الخلاف، إما أن الأصل الإباحة والإذن كما تقدم في السادس، وإما أن الضرر والمفسدة تلحق ظناً"(4). ويرى الشاطبي هنا إعمال الظن ورفع أصل الإذن والإباحة. يقول: "ولكن اعتبار الظن هو الأرجح لأمور: أحدها: أن الظن في أبواب العمليات جارٍ مجرى العلم فالظاهر جريانه هنا. والثاني: أن المنصوص عليه من سد الذرائع داخل في هذا القسم كقوله تعالى: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } "(5) إلخ وذكر بعض أدلة قاعدة سد الذرائع.
__________
(1) المصدر نفسه، 2/249.
(2) المصدر نفسه، 2/250.
(3) الموضع نفسه.
(4) الموضع نفسه.
(5) سورة الأنعام، 108.(2/119)
ويذكر الشاطبي في هذا القسم، أن القاعدة الجارية هنا هي قاعدة سد الذرائع أكثر من قاعدة رفع الضرر، وذلك بناء على أن المكلف لا يقصد الضرر وإنما يقصد حظوظه الجائزة، ولذلك فإن قاعدة سد الذرائع تعمل بناء على أن قصد الضرر وهو ممنوع صار هو الأصل، وصار الغالب على هذا العمل أنه تعاون على الإثم والعدوان أو حيلة(1).
8 ـ القسم الثامن: يقول: "وأما الثامن وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيراً لا غالباً ولا نادراً، فهذا موضع نظر والتباس والأصل فيه الحمل على الأصل من صحة الإذن كمذهب الشافعي وغيره. ولأن العلم والظن بوقوع المفسدة منتفيان إذ ليس هنا إلا احتمال مجرد بين الوقوع وعدمه ولا قرينة ترجح أحد الجانبين على الآخر، واحتمال القصد للمفسدة والإضرار لا يقوم مقام نفس القصد ولا يقتضيه"(2). وقال: "وأيضاً فإنه لا يصح أن يعد الجالب أو الدافع هنا مقصراً أو قاصداً كما في العلم والظن لأنه ليس حمله على القصد إليهما أولى من حمله على عدم القصد لواحد منهما، وإذا كان كذلك فالتسبب المأذون فيه قوي جداً"(3). وهذا الذي قاله يفيد في بقاء العمل على أصله من الإباحة، إلا أنه يذهب إلى إعمال قاعدة سد الذرائع بناء على أن مالكاً - رضي الله عنه - أعملها هنا، ثم ذكر من الأمثلة ما يفيد تبرير أو جواز إعمال سد الذرائع وليس وجوب ذلك. قال: "وإذا كان كذلك فالتسبب المأذون فيه قوي جداً إلا أن مالكاً اعتبره في سد الذرائع بناء على كثرة القصد وقوعاً"(4). ثم قال: "والشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم والتحرز مما عسى أن يكون طريقاً إلى مفسدة فإذا كان هذا معلوماً على الجملة والتفصيل فليس العمل عليه ببدع في الشريعة بل هو أصل من أصولها راجع إلى ما هو مكمل إما لضروري أو حاجي أو تحسيني"(5).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/250 - 251.
(2) المصدر نفسه، 2/251.
(3) الموضع نفسه.
(4) الموضع نفسه.
(5) المصدر نفسه، 2/253.(2/120)
مسائل أو تفريعات قاعدة رفع الضرر
وإذا تبينت قاعدة سد الذرائع وضوابطها، ومجال عملها وهو المباحات، فإنه يلتحق بالمباحات ما كان في مرتبة العفو، ولا تعمل في المندوبات، وليس كل تغير يلحق الأحكام هو من قبيل سد الذرائع، إلا أنه يجدر بالذكر الإشارة إلى أعمال ألحقها الشاطبي بسد الذرائع، وهو لزوم ترك المندوب أو النافلة ولزوم فعل المكروه في بعض الحالات وهذا في حق الفقيه المقتدى به، وذلك كي لا يفهم المقتدي من دوام فعل المندوب أو النافلة بغير انقطاع أنه فرض، وكذلك كي لا يفهم من دوام ترك المكروه أنه حرام، وهذا سداً للذريعة، وقد قرر في ذلك أصولاًَ. قال: "المندوب من حقيقة استقراره مندوباً أن لا يسوى بينه وبين الواجب"(1). وقال: "المباحات من حيث استقرارها مباحات أن لا يسوى بينها وبينت المندوبات ولا المكروهات"(2). وقال: "المكروهات من حيث استقرارها مكروهات أن لا يسوى بينها وبين المحرمات ولا بينها وبين المباحات"(3). ولا يقال هنا إن القاعدة تم إعمالها في المندوب أو المكروه، وإنما انصب عمل القاعدة هنا على المداومة التي قد تُوهِمُ بغير قصد الشارع.
الفصل العاشر
فكرة المقاصد عند الشاطبي
عرض ومناقشة
ويحتوي على تعريف موجز بموضوع هذا الفصل وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: عرض موجز لفكرة المقاصد عند الشاطبي.
المبحث الثاني: مناقشة فكرة الشاطبي: الكليات والاستقراء.
المبحث الثالث: مناقشة فكرة الشاطبي: المقاصد والعلل.
الفصل العاشر
فكرة المقاصد عند الشاطبي
عرض ومناقشة
موضوع هذا الفصل:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 3/183.
(2) المصدر نفسه، 3/189.
(3) المصدر نفسه، 3/190.(2/121)
بعد أن تبين معنى المقاصد عند الشاطبي وأقسامها وأنواعها وكيفية التوصل إليها، وكيفية فهم الشريعة واستنباط الأحكام بناءً عليها، وبعد أن تبين منهج الشاطبي في ذلك منهجاً متكاملاً، حاول أن يصهر فيه ما سبقه من مناهج أو قواعد وأصول على اختلافها، من خلال ما قرره من أصولٍ جديدة للفهم، بعد ذلك فقد بقي النظر في هذه الفكرة وفي هذه الأصول ومناقشتها.
وهو وإن خالف في جديده كل سابقيه من أئمة الأصول، وأتى بمنهج غير معهود، فقد حاول أن يرجع الأصول المختلفة إلى أصوله مع أنه صرح أحياناً باختلافه معهم وأصر أنه خلاف في المضمون وليس خلاف عبارة.
ولقد ظهر الشاطبي خلال ذلك عالماً فقيهاً راسخاً، متبحراً في علوم الشريعة، فقيهاً بالنفس البشرية وبأحوال الجماعات، نبيهاً في لحظ الدلالات، غواصاً إلى دُرَر المعاني، خاضعاً للأدلة ملتزماً بها، حريصاً على فهم المقاصد الكلية والتفصيلية، محذراً من التشدد كتحذيره من الانحلال.
وبملاحظة هذا كله ينشأ سؤال أثاره الدكتور عبد الله درّاز في مقدمته على شرحه لكتاب الموافقات هو: "إذا كانت منزلة الكتاب كما ذكرت، وفضله في الشريعة على ما وصفت فلماذا حجب عن الأنظار طوال هذه السنين ولم يأخذ حظه في الإذاعة بله العكوف على تقريره؟"(1). وقد يذهب السؤال أبعد من ذلك، فلماذا لم تظهر أفكار الشاطبي عند غيره من العلماء من تلاميذه أو غيرهم؟ لماذا لم يتابعه عليها أحد؟ هل ماتت أفكاره بعد ولادتها مباشرة؟ أم أن أفكاره من العمق ومنهجه من الصعوبة بحيث لم يتوفر لأفكاره من يتابعه عليها ولمنهجه من يطبقه؟
__________
(1) الموافقات، 1/11 بتحقيق الدكتور عبد الله دراز.(2/122)
لقد أجاب الدكتور درّاز على السؤال بأن هذا يرجع إلى أمرين: أحدهما أن مباحث الشاطبي مبتكرة مستحدثة لم يسبق إليها، في حين كانت علوم الأصول المعروفة ممهدة، وطريقها معبدة، فاستغنى المشتغلون بعلوم الشريعة بالمعروف المشروح ولم يشعروا بنقص لديهم ولم تتطاول همتهم إلى تناول الكتاب واجتهاد الفكر فيه. والأمر الثاني هو صعوبة الكتاب فكأن تحت كل كلمةٍ فيه معنىً يشير إليه(1).
ولكن الأمر - كما أراه - لا يعود إلى أي من السببين المذكورين. فلقد ألف الشافعي - رحمه الله - الرسالة، فكان بمثابة الشرارة التي أشعلت ثورة في علم الأصول، ولو قدِّر النجاح لفكرة الشاطبي، فلربما كانت شرارة ثورةٍ مثل تلك. فلن يخلو الأمر أن يوجد من طلاب العلم ومن العلماء كثرة يهتمون به. ولا بد أنه كان للشاطبي تلاميذ وطلاب علم يجلونه ويأخذون عنه. فلو كان لمنهجه حظ للانتشار لانتشر، أما صعوبة الكتاب فلن يقف هذا حائلاً دون فهمه وشرحه والبناء عليه وتطويره، فلا بد أن يكون السبب شيئاً آخر.
إن السبب يرجع إلى المنهج نفسه، أي إلى أفكار الشاطبي، فرغم أن ما في كتابه مرتفع القيمة، عالي الجودة، رفيع المستوى وأكثره جار على معهود علم الأصول، إلا أن فيه ما هو جديد، وجديده هذا هو من الأصول، بل أصول الأصول التي تبنى عليها القواعد والأصول. وأول ذلك منهج الاستقراء، وعدم قبول القطع في الشريعة بغير ذلك، ورفض التخصيص في الشريعة بالمعنى المعهود. وفيه الجديد في معنى الرجوع إلى قطعي، فإذا كانت أفكاره الجديدة قليلة في عددها، فهي أصول تهيمن وتحكم على الكثير من الفروع، وبالتالي فإن الأصول الجديدة القليلة مهمة بحيث شكلت منهجاً مستقلاً قائماً بذاته ومختلفاً عن سائر المناهج المعروفة اختلافاً جذرياً.
__________
(1) الموافقات، 1/11 بتحقيق الدكتور عبد الله دراز.(2/123)
وإدراك الشاطبي لذلك جعله يحاول إعادة أصول المذاهب المختلفة إلى أصوله، أي أن يكون منهجه أصلاً للجميع، ومن هنا جاء اسم كتابه الموافقات وهو ما سيتبين في المبحث التالي.
لقد كان الاستحداث والعمق في أبحاث الشاطبي، إضافة إلى الجدية والانضباط دافعاً للكثيرين في عصرنا للتنويه بالموافقات وبصاحب الموافقات، وربما حاول البعض الأخذ منه والاستناد إليه. إلا أن الحاصل أن أحداً لم يبنِ على منهجه أو يعتمده، وعلى العكس من ذلك فقد نُسب إليه ما دأب على التحذير منه.
بل إنه قد وقع الذي كان يخشاه حيث قال: "ومن هنا لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد حتى يكون ريّان من علم الشريعة، أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب، فإنه إن كان هكذا خيف عليه أن ينقلب عليه ما أودعَ فيه فتنةً بالعرض، وإن كان حكمةً بالذات"(1).
إن السبب في عدم انتشار المنهج وعدم تطوره يرجع - والله أعلم - إلى المنهج نفسه وبالتحديد إلى جديد المنهج الذي قد يشعر طالب العلم بالتعطش إلى فهمه، فإذا فهمه أعرض عنه. قال في خاتمة كتابه: "وقد تم والحمد لله الغرض المقصود وحصل بفضل الله إنجاز ذلك الموعود، على أنه بقيت أشياء لم يسع إيرادها، إذ لم يسهل على كثير من السالكين مرادها، وقل على كثرة التعطش إليها ورادها فخشيت أن لا يردوا موردها وأن لا ينظموا في سلك التحقيق شواردها"(2). فإذا كان الأمر كما قال الشاطبي في هذا النص: "قل على كثرة التعطش إليها ورداها" فكأن هذه إشارة إلى أن المنهج ولد ميتاً. وهذا ما سيأتي بيانه من خلال مناقشته في هذا الفصل. وقد يكون من المفيد قبل ذلك عرض فكرة الشاطبي باختصار وإبراز ما فيها من جديد بشكل مجموع في مبحث مستقل وهو المبحث الأول من هذا الفصل، ثم مناقشة ذلك في المبحثين التاليين، وعلى الله الاتكال.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/53.
(2) المصدر نفسه، 4/202.(2/124)
المبحث الأول
عرض موجز لفكرة المقاصد عند الشاطبي
معنى الموافقات:
يرجع اختيار اسم الموافقات إلى معنىً يقصده الشاطبي وهو التوفيق بين المذاهب من خلال بيان أنها وإن اختلفت في الفروع فهي راجعة إلى أصول وقواعد معتبرة عند الجميع. وسبب الخلاف هو اختلاف الأئمة في إرجاع المسائل إلى أصولها، فهذا يرجح إرجاعها إلى أصل وذاك يرجح إرجاعها إلى أصلٍ آخر. أما الأصول فكلها معتبرة ومعتمدة عند الأئمة. ورغم ما في منهجه من جديد ومثير، فهو يقول إنه معتبر عند الأئمة المعتبرين وإن لم يذكروا ذلك أو ينبهوا عليه، فلا ينبغي لمن لم يطلع على ذلك أن يطرحه بحجة أنه لم يسمع بمثله.
أما معنى التوفيق بين المذاهب فقد أشار إلى ذلك بذكر قصةٍ لافتة. قال: "ولأجل ما أودع فيه من الأسرار التكليفية المتعلقة بهذه الشريعة الحنيفية، سميته بِـ (عنوان التعريف بأسرار التكليف)، ثم انتقلت عن هذه السيماء لسند غريب يقضي العجب منه الفطن الأريب، وحاصله أني لقيت يوماً بعض الشيوخ الذين أحللتهم مني محل الإفادة وجعلت مجالستهم العلمية محطاً للرحل ومناخاً للوفادة، وقد شرعت في ترتيب الكتاب وتصنيفه ونابذت الشواغل دون تهذيبه وتأليفه، فقال لي رأيتك البارحة في النوم وفي يدك كتاب ألفته، فسألتك عنه فأخبرتني إنه (كتاب الموافقات) قال: فكنت أسألك عن معنى هذه التسمية الظريفة، فتخبرني أنك وفقت به بين مذهبي ابن القاسم وأبي حنيفة. فقلت له لقد أصبتم الغرض بسهم من الرؤيا الصالحة مصيب وأخذتم من المبشرات النبوية بجزء صالح ونصيب، فإني شرعت في تأليف هذه المعاني، عازماً على تأسيس تلك المباني، فإنها الأصول المعتبرة عند العلماء، والقواعد المبنيُّ عليها عند القدماء، فعجب الشيخ من غرابة هذا الاتفاق كما عجبت أنا من ركوب هذه المفازة وصحبة هذه الرفاق"(1).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/7 - 8.(2/125)
أما أن منهجه هذا، رغم ما فيه من جديدٍ، معتبر ومعتمد عند العلماء، فإضافة إلى قوله في النص أعلاه: "فإنها الأصول المعتبرة عند العلماء، والقواعد المبني عليها عند القدماء" يدل عليه قوله: "فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض الإنكار، وعمي عنك وجه الاختراع فيه والابتكار، وغر الظان أنه شيء ما سمع بمثله، ولا ألف في العلوم الشرعية الأصلية أو الفرعية ما نسج على منواله أو شكل بشكله، وحسبك من شر سماعه، ومن كل بدعٍ في الشريعة ابتداعه، فلا تلتفت إلى الإشكال دون اختبار ولا ترمِ بمظنة الفائدة على غير اعتبار، فإنه بحمد الله أمرٌ قررته الآيات والأخبار، وشيد أركانه أنظار النظار، وإذا وضح السبيل لم يجب الإنكار ووجب قبول ما حواه والاعتبار بصحة ما أبداه والإقرار، حاشا ما يطرأ على البشر من الخطأ والزلل"(1) إلخ.
أما محاولاته للتوفيق فتظهر في مواضع عديدة، منها ما يتعلق بتعليل الأحكام بالحكم وبالمعاني المصلحية، فقال بالتعليل بعد إثبات كون الوصف المعلل به يرجع إلى معنى معتبر شرعاً، واشترط لاعتبار المعنى القطع به، وبهذا فهو لم يهدر التعليل بالحِكَم، وكذلك لم يترك الأمر راجعاً إلى الرأي المحض، فاقترب بذلك من الشافعية بقبوله التعليل بالحكمة، واقترب من الحنفية برفضه كون الحكمة مظنونة، ولكنه في واقع الأمر لم يتفق مع أيٍّ منهما، فكان بعيداً عن الشافعية باشتراطه القطع بالمعنى ورفضه المعنى المخيل في بضعة أحكام، وظل بعيداً كذلك عن الحنفية، فهم لا يقولون بهذا النوع من القطع، إذ بكثرة النظائر لا تحصل قوةٌ في الوصف عندهم(2).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/9.
(2) تقدم بيان وتفصيل هذا الأمر في الفصلين الثاني والثالث.(2/126)
ومن محاولاته للتوفيق قوله في العموم والخصوص. فمعلوم أن الحنفية لا يخصصون القطعي بالظني، فلا يخصصون الكتاب أو السنة المتواترة بخبر آحاد أو قياس، وذلك مبني عندهم على أن دلالة العام على أفراده قطعية فلا يستثنى شيء من هذه الأفراد بالدليل الظني، وهذا بخلاف جمهور الأصوليين فهم يخصصون العام القطعي بالظني، فالذي جاء به الشاطبي هنا هو نفي التخصيص من أصله، وحيثما قال به فهو بمعنى البيان(1)، فإذا خص بعض الأفراد من العام فهذا ليس إخراجاً لهم من عموم النص، وإنما هو بيان أنهم لم يكونوا داخلين فيه أصلاً، وهو هنا يقترب من الشافعية في أن دلالة العام على جميع أفراده ظنية، وقد كرر نصوص الشافعي بأن العام يطلق ويراد به الخصوص. وهي ظنية عنده أصلاً من باب أنه ينفي الدلالة القطعية في النصوص، فلا يثبت عنده القطع بالمعنى إلا بالاستقراء، ويقترب من الأحناف بقوله إن المعنى إذا ثبت قطعياً فهو لا يخصص. إذ هو بذلك يكون أصلاً كلياً والكليات لا تخصص، وبذلك فلا يخصص الكلي القطعي بجزئي أو بظني.
ومع اقترابه من الفريقين، فهو مختلف معهما، مختلف مع الشافعية برد التخصيص أصلاً، وبعدم تخصيص الكليات بالجزئيات أي القطعي بالظني، ومختلف مع الأحناف برد التخصيص أصلاً، وهذا يعني عدم تخصيص الكلي بالكلي أي القطعي بالقطعي. وحيثما قال بتخصيص الكليات بعضها لبعض فلا يقصد الاستثناء وإنما البيان كما تقدم.
ويمكن ملاحظة التقريب والتوفيق في المثالين المذكورين، ولكن واقع الحال أنه كان مختلفاً - في الحالتين - مع الفريقين، لذلك فإن قوله لن يقبل من أي منهما. وربما كان هذا من عوامل عدم انتشار هذا المنهج وعدم تطوره، وفي الحالتين فإن طريقة القطع سواء بالحكمة أو بدلالة العام على أفراده لا تكون إلا بالاستقراء وهو غير معهود عند أي من الفريقين.
القطع بالأصول عند الشاطبي:
__________
(1) أنظر: المبحث الأول من الفصل السابع.(2/127)
من أهم الأصول عند الشاطبي هو أن الأصول يجب أن تكون قطعية، قال: "إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة وما كان كذلك فهو قطعي. بيان الأول ظاهر بالاستقراء المفيد للقطع، وبيان الثاني من أوجه: أحدها أنها ترجع إما إلى أصول عقلية وهي قطعية، وإما إلى الاستقراء الكلي من أدلة الشريعة وذلك قطعي أيضاً ولا ثالث لهذين إلا المجموع منهما والمؤلف من القطعيات قطعي"(1).
واشتراط القطع بالأصول معروف متفق عليه بين الأئمة، إلا أن ثمة فرقاً كبيراً بين مراد الشاطبي ومرادهم، فرقاً يجعل لمنهجه اتجاهاً آخر غير اتجاههم، فالقطع بالأصول الذي قصده الأئمة هو ليس بالقواعد العامة أو الكلية وإنما هو بمصادر التشريع أي بالأدلة الإجمالية وهي الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فهذه أدلة إجمالية تؤخذ منها الأدلة التفصيلية وتفهم منها قواعد وأصول. فمثلاً وجوب الأخذ بالسنة ثبت ثبوتاً قطعياً فهي مصدر للتشريع، أما ما يأتي في السنة من روايات أو أخبار آحاد فلا يشترط له القطع بثبوته أي بنسبته إلى النبي، وإنما يؤخذ ذلك بغلبة الظن، وكذلك معاني أو دلالات النصوص سواء من القرآن أو من السنة، فلا يشترط لدلالة النص أن تكون قطعية للعمل بها وإنما يشترط ترجيحها على غيرها.
أما ما قصده الشاطبي فهو يشتمل على ما قصدوه وزيادة، فكل قاعدة فقهية أو أصولية يجب أن تكون قطعية عنده، وكل معنى أو أصل يعتمد في الشريعة يجب أن يكون قطعياً ومعاني النصوص هي مقاصد للشارع فيجب أن تكون قطعية أو راجعة إلى معنى قطعي تكون خادمة له، أو أن تكون مما يتضمنه المعنى القطعي.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/10.(2/128)
ولذلك فإن الضروريات الخمسة هي أصول قطعية من أصول الفقه، وكذلك قواعد رفع الضرر والحرج والمشقة وما شاكلها هي قواعد قطعية في الحاجيات، وكذلك أصل مآلات الأفعال وقواعد المصالح المرسلة والاستحسان وسد الذرائع، كل ذلك قطعي، في واقعه وفي شرطه، وليس هذا ما قصده أئمة الأصول في اشتراطهم للقطع بأصول الفقه وإنما قصروا ذلك على ما يعد أصلاً بمعنى مصدر للتشريع ويشير الشاطبي إلى اختلاف قصده عن غيره بذلك، فمرةً يوجه كلامه إلى أن مراده هذا هو المعتمد عند المتقدمين من الأصوليين ولكنهم تركوا التنبيه عليه، ومرةً يصرح باختلاف قصده عن قصدهم، قال: "إلا أن المتقدمين من الأصوليين ربما تركوا هذا المعنى والتنبيه عليه، فحصل إغفاله من بعض المتأخرين فاستشكل الاستدلال بالآيات على حدتها وبالأحاديث على انفرادها، إذ لم يأخذها مأخذ الاجتماع فكرَّ عليها بالاعتراض نصاً نصاً. واستضعف الاستدلال بها على قواعد الأصول المراد منها القطع"(1). وقال في موضع آخر: "كل دليل شرعي إما أن يكون قطعياً أو ظنياً فإن كان قطعياً فلا إشكال في اعتباره"(2). ثم قال: "وإن كان ظنياً فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أو لا، فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر أيضاً، وإن لم يرجع وجب التثبت فيه ولم يصح إطلاق القول بقبوله"(3)، وقال: "واعلم أن المقصود بالرجوع إلى الأصل القطعي ليس بإقامة الدليل القطعي على صحة العمل به كالدليل على أن العمل بخبر الواحد أو بالقياس واجب مثلاً، بل المراد ما هو أخص من ذلك كما تقدم في حديث: "لا ضرر ولا ضرار"(4)، والمسائل المذكورة معه، وهو معنى مخالف للمعنى الذي قصده الأصوليون والله أعلم"(5).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات. 1/15.
(2) المصدر نفسه، 3/7.
(3) الشاطبي، الموافقات، 3/7.
(4) تقدم تخريجه.
(5) الشاطبي، الموافقات، 3/12.(2/129)
وهذا المعنى مبثوث في مواضع عديدة من كتابه، منها ما ذكر أعلاه، ومن أهمها المسألة التاسعة من مسائل النوع الأول من مقاصد الشارع حيث قال: "كون الشارع قاصداً للمحافظة على القواعد الثلاث الضرورية والحاجية والتحسينية لا بد عليه من دليل يستند إليه، والمستند إليه في ذلك إما أن يكون دليلاً قطعياً أو ظنياً. وكونه ظنياً باطل مع أنه أصل من أصول الشريعة بل هو أصل أصولها. وأصول الشريعة قطعية حسبما تبيّن في موضعه، فأصول أصولها أولى أن تكون قطعية. ولو جاز إثباتها بالظن لكانت الشريعة مظنونة أصلاً وفرعاً وهذا باطل"(1).
خصائص الأصول:
__________
(1) المصدر نفسه، 2/32.(2/130)
الأصول عند الشاطبي هي قطعيات قصدها الشارع. وهي تثبت باستقراء الجزئيات، والجزئيات هي معان تحتملها النصوص، أو حِكَم ومصالح يمكن أن تكون مقصودة للشارع بالأحكام. فإذا استقرئت الجزئيات الكثيرة وتقرر بناء على الاستقراء معنى قطعي فهذا المعنى أصل كلي. والجزئيات التي يكون معناها راجعاً إلى هذا الأصل، أي متضمناً فيه أو خادماً له تكون فروعاً للأصل. أما قبل استفادة القطع بالمعنى، فإن الجزئي يظل جزئياً ولا يعدُّ فرعاً ولا يصح اعتباره شرعاً. وعلى ذلك فالأصول هي كليات قطعية. قال: "من العلم ما هو من صُلْب العلم، ومنه ما هو من مُلَحَ العلم لا من صلبه ومنه ما ليس من صلبه ولا من ملحه. فهذه ثلاثة أقسام: القسم الأول هو الأصل والمعتمد والذي عليه مدار الطلب وإليه تنتهي مقاصد الراسخين وذلك ما كان قطعياً أو راجعاً إلى أصل قطعي. والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه. ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها"(1). ثم قال: "وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات وما هو مكمل لها ومتمم لأطرافها، وهي أصول الشريعة وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها وسائر الفروع مستندة إليها، فلا إشكال في أنها علمٌ أصلٌ راسخ الأساس ثابت الأركان"(2). ثم قال: "إذ العلم بها مستفاد من الاستقراء العام الناظم لاشتات أفرادها حتى تصير في العقل مجموعة في كليات مطردة عامة ثابتة، غير زائلة ولا متبدلة وحاكمة غير محكوم عليها وهذه خواص الكليات العقليات، وأيضاً فإن الكليات مقتبسة من الوجود وهو أمر وضعي لا عقلي فاستوت مع الكليات الشرعية بهذا الاعتبار وارتفع الفرق بينهما"(3). وقال: "لأن الحفظ المضمون في قوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (4)،
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/43، 44.
(2) المصدر نفسه، 1/44.
(3) الموضع نفسه.
(4) سورة الحجر، 9..(2/131)
إنما المراد به حفظ أصوله الكلية المنصوصة، وهو المراد بقوله تعالى: { جtPِquّ9$# أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (1) أيضاً، لا أن المراد المسائل الجزئية، إذ لو كان كذلك لم يتخلف عن الحفظ جزئي من جزئيات الشريعة، وليس كذلك لأنا نقطع بالجواز ويؤيده الوقوع لتفاوت الظنون وتطرق الاحتمالات في النصوص الجزئية ووقوع الخطأ فيها قطعاً، فقد وجد الخطأ في أخبار الآحاد وفي معاني الآيات، فدل على أن المراد بالذكر المحفوظ ما كان منه كلياً"(2). والمقارنة بين النصوص المذكورة أعلاه تدل على الفرق المذكور بين الجزئي والفرع.
__________
(1) سورة المائدة، 3.
(2) الشاطبي، الموافقات، 1/12.(2/132)
إذاً، المعتمد في الشريعة هو الأصول وفروعها، ولا يعتمد الجزئي ما لم يكن راجعاً إلى أصل ليكون فرعاً، والأصل له خصائص لا بد من التنبه إليها وهي المذكورة أعلاه: "كليات مطردة عامة ثابتة غير زائلة ولا متبدلة وحاكمة غير محكوم عليها". وشرح مراده بهذه الخصائص فقال: "العموم والاطراد فلذلك جرت الأحكام الشرعية في أفعال المكلفين على الإطلاق، وإن كانت آحادها الخاصة لا تتناهى فلا عمل يفرض ولا سكون يدعى إلا والشريعة حاكمة عليه إفراداً وتركيباً وهو معنى كونها عامة، وإن فرض في نصوصها أو معقولها خصوص ما فهو راجع إلى عموم"(1). أي إذا وجد جزئي يصح اعتباره ويخصص هذا الكلي فلا بد أن يكون راجعاً إلى كلي آخر، وتخصيص الكليات بعضها لبعض هو من قبيل البيان، وهو ما تؤكده الخاصية الثانية للكليات. قال: "والثانية الثبوت من غير زوال، فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخاً ولا تخصيصاً لعمومها ولا تقييداً لإطلاقها ولا رفعاً لحكم من أحكامها"(2). وقال: "بل ما أثبت سبباً فهو سبب أبداً لا يرتفع وما كان شرطاً فهو أبداً شرط وما كان واجباً فهو واجب أبداً، أو مندوباً فمندوب وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبدل ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك"(3). أما الخاصية الثالثة وهي كون الكليات حاكمة غير محكوم عليها فمعناها أنه ليس في نصوص الشريعة ما يلزم صرف معناه إلى معنى لا تحتمله النصوص قال: "لا تجد في العمل أبداً ما هو حاكم على الشريعة وإلا انقلب كونها حاكمة إلى كونها محكوماً عليها"(4).
هذه هي الخواص الثلاث التي تمتاز بها الأصول، وكل معنىً يقال في علوم الشريعة يفقد واحداً من هذه الخصائص فليس أصلاً ولا يصح الرجوع إليه.
الكليات لا تنخرم بمعارضة الجزئيات:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/44.
(2) المصدر نفسه، 1/45.
(3) الموضع نفسه.
(4) الموضع نفسه.(2/133)
وهذا تحصيل حاصل بعد بيان خصائص الكليات، فإن الكلي ثبت باستقراء الجزئيات التي تضافرت على معنى، فصار بذلك أصلاً كلياً، فإذا وجد بعد ذلك جزئي يتناقض مع هذا الكلي أو يعارضه، فهذا لا ينقض الكلي، لأن الكلي قد ثبت قطعياً فلا جدال في ثبوته، أما الجزئي فإما أن يكون راجعاً إلى قطعي وإما أن لا يكون كذلك، فإن كان راجعاً إلى قطعي فهذا من قبيل تعارض القطعيات وهذا لا يكون، وإنما يكون لكل منهما موضع لإعماله، وإن لم يكن الجزئي راجعاً إلى قطعي، فهذا يمكن تأويله ليرجع إلى قطعي، ولرفع التعارض، ويمكن التوقف فيه ويمكن رده، وعلى ذلك فالكلي لا يتأثر بمعارضة الجزئيات ويستمر جريانه كما هو. قال: "هذه الكليات الثلاثة إذا كانت قد شرعت للمصالح الخاصة فلا يرفعها تخلف آحاد الجزئيات"(1). وقال: "الأمر الكلي إذا ثبت كلياً فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كلياً، وأيضاً فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت، هذا شأن الكليات الاستقرائية"(2). وقال: "إن قضايا الأعيان جزئية والقواعد المطردة كليات، ولا تنهض الجزئيات أن تنقض الكليات، ولذلك تبقى أحكام الكليات جارية في الجزئيات وإن لم يظهر فيها معنى الكليات على الخصوص"(3).
الاستقراء هو السبيل الوحيد للقطع:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/34.
(2) المصدر نفسه، 2/ 35.
(3) المصدر نفسه، 3/149 - 150.(2/134)
تبين أن الشاطبي لا يقبل الدليل ما لم يكن قطعياً أو راجعاً إلى قطعي، والأدلة التفصيلية لا تدل على مقصود الشارع بها دلالة قطعية، فكيف يحصل القطع علماً بأن الأدلة التفصيلية هي أدلة الأحكام؟ قال: "فالمعتمد بالقصد الأول الأدلة الشرعية ووجود القطع فيها على الاستعمال المشهور معدوم أو في غاية الندور، أعني في آحاد الأدلة، فإنها إن كانت من أخبار الآحاد فعدم إفادتها القطع ظاهر، وإن كانت متواترة فإفادتها القطع موقوفة على مقدمات جميعها أو غالبها ظني، والموقوف على الظني لا بد أن يكون ظنياً"(1). ثم قال: "وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق ولأجله أفاد التواتر القطع، وهذا نوع منه، فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم فهو الدليل المطلوب وهو شبيه بالتواتر المعنوي وهو كالعلم بشجاعة علي رضي الله عنه وجود حاتم المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما"(2). وذهب إلى أن هذا هو الطريق الوحيد لإثبات القطعيات في الشريعة. قال: "ومن هذا الطريق ثبت وجوب القواعد الخمس كالصلاة والزكاة وغيرهما قطعاً. فلو استدل مستدل على وجوب الصلاة بقوله تعالى: { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ } (3) أو ما أشبه ذلك لكان في الاستدلال بمجرده نظر من أوجه"(4). وهذا القطع، وبالتالي هذا الاستقراء، مطلوب لإثبات أي شيء من الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات(5)، وهذه وما يندرج تحتها هي مقاصد الشريعة أو أصولها. وهي لا تتخلّف ولا تنخرم كما تقدم.
دلالات النصوص الشرعية:
__________
(1) المصدر نفسه، 1/31، وانظر: 2/32.
(2) المصدر نفسه، 1/14.
(3) البقرة، 11، 43، 83، وغيرها.
(4) الشاطبي، الموافقات، 1/14.
(5) المصدر نفسه، 2/32.(2/135)
تبين أن دلالة آحاد النصوص ظنية، وهذا بمجرده لا يفيد اعتباراً لها عند الشاطبي، فنصوص القرآن الكريم ظنية الدلالة، ومثلها السنة المتواترة، وأخبار الآحاد أولى بذلك، فخبر الآحاد وإن صح ثبوته يجب التوقف فيه ما لم يرجع معناه إلى معنى قطعي. فهو لا يقول: "ما لم يناقضه ما هو أقوى منه"، وإنما: "ما لم يكن قطعياً أو راجعاً إلى معنى قطعي".
وكذلك نصوص القرآن فهي تحتمل أكثر من معنى، ولا يمكن القطع بواحد منها بمجرد اعتبار النص. والسبيل إلى فهم النص وإعماله هو بفهمه على ضوء ما سبقه في النزول، إذ نزول القرآن كان بحيث يأتي اللاحق بياناً وشرحاً للسابق. وقد نزلت الكليات أولاً في مكة. لذلك فإن المدني يفهم على ضوء المكي، والمتأخر من المكي يفهم على ضوء المتقدم منه، وكذلك بالنسبة للمدني(1). ولا بد من استقراء المعاني بكثرة النصوص التي تدل عليها.
__________
(1) أنظر: المبحث الثاني من الفصل السابع.(2/136)
والسنة ليس فيها تشريع جديد فهي لا تستقل بالتشريع وإنما هي بيان للقرآن، لذلك فهو يصحح معنى الحديث: "ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف كتاب الله فلم أقله أنا وكيف أخالف كتاب الله وبه هداني الله"(1)، ويعتمده. فهو إن كان لا يصح روايةً فمعناه ثابت وقطعي عنده. قال: "فمعناه صحيح صح سنده أو لا"(2). ومن أمثلته على اعتبار دلالات النصوص بالاستقراء ما ذكره في ثبوت الضروريات، ومن ذلك قوله في الصلاة: "فنحن إذا نظرنا في الصلاة فجاء فيها أقيموا الصلاة على وجوه وجاء مدح المتصفين بإقامتها وذم التاركين لها وإجبار المكلفين على فعلها وإقامتها قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم وقتال من تركها أو عاند في تركها إلى غير ذلك مما في هذا المعنى"(3). ثم قال إنه بهذا: "علمنا يقيناً وجوب الصلاة"(4). وقال: "وهكذا سائر الأدلة في قواعد الشريعة، وبهذا امتازت الأصول عن الفروع إذ كانت الفروع مستندة إلى آحاد الأدلة وإلى مآخذ معينة فبقيت على أصلها من الاستناد إلى الظن بخلاف الأصول فإنها مأخوذة من استقراء مقتضيات الأدلة بإطلاق لا من آحادها على الخصوص"(5). هذا مثال على الاستدلال بنصوص القرآن. أما السنة فمن أمثلته قوله: "قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار"(6)، فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى فإن الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها في وقائع جزئيات وقواعد كليات، كقوله تعالى: { وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا } (7)، و { وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ } (8)،
__________
(1) سيأتي بيان الأقوال فيه في المبحث التالي.
(2) الشاطبي، الموافقات، 4/11.
(3) الشاطبي، الموافقات، 1/15.
(4) المصدر نفسه، 1/16.
(5) الموضع نفسه.
(6) تقدم تخريجه.
(7) سورة البقرة، 231.
(8) سورة الطلاق، 6..(2/137)
و { لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } (1) الآية، ومنه النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض وعن الغصب والظلم وكل ما هو في المعنى إضرار أو ضرار ويدخل تحته الجناية على النفس أو العقل أو النسل أو المال فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك. وإذا اعتبرت أخبار الآحاد وجدتها كذلك"(2). وهكذا فإن قصد الشارع لرفع الضرر قطعي في الشريعة وهذا الحديث يرجع معناه إلى هذا المعنى القطعي، لذلك فإنه يقبل، وهكذا شأن كل أخبار الآحاد حسب قوله أعلاه.
دلالات الأحكام:
__________
(1) سورة البقرة، 233.
(2) الشاطبي، الموافقات، 3/8.(2/138)
ومن بين المعاني التي يمكن أن تثبت على سبيل القطع معاني الأحكام وليس فقط معاني النصوص، ومعاني الأحكام هي ما يمكن أن يتخيله الناظر مقصوداً بالحكم من حكمة أو مصلحة أو مسبب أو مآل، فهذه كلها إذا كانت مما يحتملها النص فيجب أن تثبت بالاستقراء كما تبين، أما إن لم يكن عليها دلالة من النص لا منطوقاً ولا مفهوماً، فهذا مما يمكن أن يتخيل أنه مقصود للشارع بالحكم وأن يعلل الحكم به وإن لم يأت في أحد مسالك العلة المنصوصة وهي النص أو الإجماع أو التنبيه والإيماء، ولكنه لا يقبل إلا إذا ثبت ثبوتاً قطعياً، وذلك باستقراء أحكام أو جزئيات كثيرة تحتمل هذا المعنى أو هذه العلة. وبغير استقراء مفيد للقطع فهذه المعاني وهم وخيال، ولا تعتبر لأنها ليست من صلب العلم، فهي لا ترجع إلى أصل قطعي، وقد تكون ناقضةً لأصل، ومن أقواله في مثل هذه المعاني أو التعليلات: "المعدود في ملح العلم لا في صلبه ما لم يكن قطعياً ولا راجعاً إلى أصل قطعي، بل إلى ظني، أو كان راجعاً إلى قطعي إلا أنه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص(1) أو أكثر من خاصة واحدة، فهو مخيل ومما يستفز العقل ببادئ الرأي والنظر الأول من غير أن يكون فيه إخلال بأصله ولا بمعنى غيره"(2). وقال: "لأنه إن صح في العقول لم يستفد به فائدة حاضرة غير مجرد راحات النفوس"(3). وربما يكون المعنى المتخيل ناقضاً لأصل قطعي، قال: "ما ليس من الصلب ولا من الملح: ما لم يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني وإنما شأنه أن يكر على أصله أو على غيره بالإبطال"(4).
__________
(1) أي الخواص الثلاث للأصول.
(2) الشاطبي، الموافقات، 1/45.
(3) المصدر نفسه، 1/46.
(4) المصدر نفسه، 1/50.(2/139)
وقال فيه: "هذا وإن مال بقوم فاستحسنوه وطلبوه فلشبه عارضة واشتباه بينه وبين ما قبله فربما عده الأغبياء مبنياً على أصل فمالوا إليه من ذلك الوجه، وحقيقة أصله وهم وتخييل لا حقيقة له مع ما ينضاف إلى ذلك من الأغراض والأهواء"(1).
وعلى ذلك فدلالات الأحكام هي المقاصد أو المصالح التي يتخيل الناظر أنها مقصودة بها، فهذه يجب أن تثبت بالاستقراء، وهذا هو المقصود بقوله: "شبيه بالتواتر المعنوي", إلا أنه تنبغي الإشارة إلى الفرق بين هذا التواتر وبين التواتر المعنوي في مصطلح علم الحديث. ففي علم الحديث التواتر المعنوي يرجع إلى كثرة النصوص الدالة على معنى معين مع اختلاف في الألفاظ والروايات، فهو دلالة نصوص، والتواتر الذي يقصده الشاطبي هو دلالة أحكام. لذلك لم يقل عن مراده بأنه التواتر المعنوي، وإنما قال: "شبيه بالتواتر المعنوي".
وهذا المعنى الذي يريد الشاطبي إثباته من خلال كثرة الأحكام الموافقة له، ليس له دلالة في النص البتة. والبحث عنه وإثبات كونه مقصوداً للشارع يحتاج إلى دليل. وقد تقدم أن هناك من يرفض القول بهذه العلل ويردها إلى محض الرأي وخيالات القلوب، فما هو الدليل على شرعية التعليل بها وعلى جواز طلب استقرائها في الأحكام؟ والجواب هو في تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه، وأنه - سبحانه وتعالى - لا يشرع إلا لمصالح العباد.
تعليل الشريعة بمقاصدها:
__________
(1) المصدر نفسه، 1/51.(2/140)
لقد أخذت مسألة تعليل الأحكام بالحِكَم والمصالح والأوصاف المناسبة قسطاً كبيراً من الجدال بين الكلاميين. وأُدخلت المسألة في علم أصول الفقه بسبب تأثيرها في مباحث مسالك العلة، وهي المسالك غير المنصوصة(1). وجاء الشاطبي في هذا الخضم ليقرر أصلاً قطعياً لديه وهو أن أفعال الله تعالى وأحكامه لها غايات، وأنه ـ سبحانه وتعالى ـ لا يفعل إلا لأجل غاية يقصدها. وليرد بذلك على من رفض هذا التعليل وعلى وجه الخصوص فخر الدين الرازي الذي قطع هو بدوره برد القول بأن أفعال الله تعالى معللة، مع المحافظة على القول بتعليل الأحكام وبالقياس. قال الشاطبي: "إن وضع الشرائع هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً. وهذه دعوى لا بد من إقامة البرهان عليها صحةً أو فساداً وليس هذا موضع ذلك. وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام. وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة البتة كما أن أفعاله كذلك. وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين"(2). ثم قال: "والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراءً لا ينازع فيه الرازي ولا غيره"(3).
وهكذا فتعليل الشريعة بمصالح العباد لا يتم عنده إلا بالاستقراء، وهذا مختلف عن استدلال المتقدمين القائلين بهذا التعليل(4).
__________
(1) أنظر: الفصل الأول من هذا الكتاب.
(2) الشاطبي، الموافقات، 2/2.
(3) المصدر نفسه، 2/3.
(4) أنظر: المبحث الثالث من الفصل الثالث من هذا الكتاب.(2/141)
ومقاصد الشارع أعم من مقاصد الشريعة، إذ تعليل أفعال الله يعني أن للشارع مقصداً في كل فعل يفعله، فله مقاصد من خلق السموات والأرض ومن خلق الإنسان، وهذه مقاصد للشارع وليست مقاصد للشريعة، ومن مقاصد الشارع أيضاً مقاصده في كيفية فهم الخطاب، أي أصول فهم دلالات الألفاظ والتراكيب وهذه ليست مقاصد للشريعة، لذلك فالمقاصد عنده أنواع وكلها لا تعتبر إلا إذا ثبتت بالاستقراء.
المقاصد:
المقاصد قسمان: قصد الشارع وقصد المكلف. وقصد الشارع أربعة أنواع قال: "المقاصد التي ينظر فيها قسمان: أحدهما يرجع إلى قصد الشارع والآخر يرجع إلى قصد المكلف، فالأول يعتبر من جهة قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءً، ومن جهة قصده في وضعها للإفهام، ومن جهة قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها، ومن جهة قصده في دخول المكلف تحت حكمها فهذه أربعة أنواع"(1).
أما النوع الأول فهو مقاصد الشريعة وهي المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية وما ينضم إليها مما هو كالتتمة والتكملة(2). وأما النوع الثاني فهو في الأصول والقواعد اللغوية المعتمدة لفهم دلالة النص الشرعي، والنوع الثالث لبيان أن الشارع لم يقصد بالتكليف المشقة وإن كانت من مستلزمات التكليف، وللتمييز بين المشقات التي قصد الشارع رفعها والمشقات التي لم يقصد الشارع رفعها، أما النوع الرابع فهو أن من مقاصد الشارع عبودية العباد ودخولهم تحت أمر الشارع وإخراجهم عن دواعي أهوائهم ولو تعارض ذلك مع ما يظنونه مصالح.
إلا أن مما يلفت النظر، وينبغي التنبيه إليه أمران جديدان عند الشاطبي يختلف فيهما عن غيره من علماء الأصول الذين يقولون بتعليل الأحكام بالمصالح أو بجلب المصالح ودرء المفاسد، وهما مفهومه للمصلحة وللمفسدة ومعنى تعليل الشريعة بالمصلحة.
مفهوم الشاطبي للمصلحة والمفسدة:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/2.
(2) المصدر نفسه، 2/3 - 4 - 5.(2/142)
المصلحة عند الشاطبي هي ما ثبت أن حصوله مقصود للشارع بالحكم. والمفسدة هي ما ثبت أن عدم حصوله مقصود للشارع بالحكم، وهذا يعلم باستقراء النصوص والأحكام، فإذا ثبت الأمر بوقوع الفعل فالفعل مصلحة، وإذا ثبت الأمر بالنهي عنه فهو مفسدة، وكذلك الأمر بالنسبة لنتائج أو مآلات أو مسببات الفعل، فما يثبت بالاستقراء أنه لأجل حصوله شرعت الأحكام فهو مصلحة إذ الأفعال أسباب لمسببات وكذلك أحكام الأفعال، وما يثبت بالاستقراء أنه لأجل عدم حصوله شرعت الأحكام فهو مفسدة، وهذا يثبت بالنظر في العلاقة السببية بين الحكم ونتائجه ومقتضياته. وليست المصلحة ـ عنده ـ هي ما يعود بالنفع أو ما يشعر المكلف بموافقته للميول والحاجات الإنسانية، وليس من شرط المصلحة أن تكون وصفاً مناسباً، وكذلك يقال بالنسبة للمفسدة، وإنما لا بد من وجود علاقة سببية بين الحكم وما يربط به، وهذا المعنى مبثوث في مواضع كثيرة جداً في كتابه أبرزها أبحاثه في الأسباب والمسببات في كتاب الأحكام، وكذلك أبحاثه في النوع الرابع من مقاصد الشارع، قال: "الأسباب الممنوعة أسباب للمفاسد لا للمصالح كما أن الأسباب المشروعة أسباب للمصالح لا للمفاسد"(1). وقال: "إذا كان كذلك لم يصح لأحد أن يدعي على الشريعة أنها وضعت على مقتضى تشهي العباد وأغراضهم"(2). وقال: "إن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم والمفسدة مفسدةً كذلك مما يختص بالشارع لا مجال للعقل فيه بناءً على قاعدة نفي التحسين والتقبيح، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما فهو الواضع لها مصلحةً وإلا فكان يمكن عقلاً أن لا تكون كذلك إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/167.
(2) المصدر نفسه، 2/116.(2/143)
فإذاً، كون المصلحة مصلحةً هو من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس، فالمصالح من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات وما انبنى على التعبدي لا يكون إلا تعبدياً"(1). وعلى ذلك فإن تعليل الشاطبي للشريعة بالمصالح معناه أنه يجب أن يثبت عنده قصد الشارع فإذا ثبت فهو مصلحة بغض النظر عن الشعور الإنساني، وهذا من جديده الذي يخالف فيه المعهود في مفهوم علماء الأصول للمصلحة، وكذلك يقال في المفسدة.
معنى تعليل الشريعة بالمصالح:
الأحكام هي أسباب لمسببات هي مقصود الشارع، والأحكام تنزل على أساس هذا المقصود، ومن هنا كان هذا المقصود علة للتشريع والمجتهدون يكتشفون هذه العلل من خلال النظر في مآلات ومسببات الأحكام، فمقصود الشارع موجود قبل الأحكام، وعلى أساسه تنزلت الأحكام، وعند المجتهد لا يعرف المقصود إلا بواسطة الأحكام. ومن هنا يعد الشاطبي المقصد علة، مع أنه من حيث المعنى، علة الفعل تكون قبله، والمقصود به يكون بعده.
وهذا المعنى للتعليل مع المعنى المذكور قبله للمصلحة يؤول إلى عدم اشتراط المناسبة للأوصاف المعلل بها، وإذا كانت العلة أو المقصد وصفاً مناسباً يشعر المكلف بأنه يتفق مع طبيعته الإنسانية ومع أغراضه فهذا أمر عرضي وليس هو الأصل بناءً على قاعدة نفي التحسين والتقبيح، وهذا مختلف عن مراد علماء الأصول الذين قالوا بتعليل الشريعة بالمصالح، بل هذا وإن تشابه معهم في العبارات فهو نسف لفكرتهم.
__________
(1) المصدر نفسه، 2/219.(2/144)
لذلك فالشاطبي يرد كل أقوال سابقيه في هذا الشأن قائلاً إنه إذا لوحظ مراعاة الشريعة لأغراض العباد وميولهم ولما يوافق ما يسعون إليه فهذا بالعرض وليس هو الأصل، والأصل هو أن الله - سبحانه وتعالى - خلق الإنسان لعبادته، ولكنه تفضل عليهم فأعانهم على عبادته بان خلق فيهم شهوات وميول تدفعهم إلى الطاعات. قال: "فإن قيل: وضع الشرائع إما أن يكون عبثاً أو لحكمة فالأول باطل باتفاق"(1)، وتابع في إيراد القول: "لأن كل عاقل إنما يطلب مصلحة نفسه وما يوافق هواه في دنياه وأخراه، والشريعة تكفلت لهم بهذا المطلب في ضمن التكليف فكيف ينفى أن توضع الشريعة على وفق أغراض العباد ودواعي أهوائهم، وأيضاً فقد تقدم بيان أن الشريعة جاءت على وفق أغراض العباد وثبتت لهم حظوظهم"(2).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/117.
(2) الموضع نفسه.(2/145)
ثم يجيب على هذا الاعتراض فيقول: "فالجواب أن وضع الشريعة إذا سلم أنها لمصالح العباد فهي عائدة عليهم بحسب أمر الشارع وعلى الحد الذي حده لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم، ولذا كانت التكاليف الشرعية ثقيلة على النفوس"(1). وقال: "إن حكمة الحكيم الخبير حكمت أن قيام الدين والدنيا إنما يصلح ويستمر بدواعٍ من قبل الإنسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره، فخلق له شهوة الطعام والشراب إذا مسه الجوع والعطش ليحركه ذلك الباعث إلى التسبب في سد هذه الخلة بما أمكنه، وكذلك خلق له الشهوة إلى النساء لتحركه إلى اكتساب الأسباب الموصلة إليها"(2) إلخ. ثم قال: "ولو شاء الله لكلف بها مع الإعراض عن الحظوظ أو لكلف بها مع سلب الدواعي المجبول عليها، لكنه امتن على عباده بما جعله وسيلة إلى عمارة الدنيا للآخرة وجعل الاكتساب لهذه الحظوظ مباحاً لا ممنوعاً لكن على قوانين شرعية هي أبلغ في المصلحة وأجرى على الدوام مما يعده العبد مصلحة"(3).
فهاتان الفكرتان عند الشاطبي وهما مفهومه للمصلحة وللمفسدة، ومقصوده بقوله إن الشريعة وضعت لأجل مصالح العباد تعدان انقلاباً على المعهود عند علماء الأصول القائلين بتعليل الشريعة بجلب المصالح ودرء المفاسد.
الاجتهاد والتقليد:
خلق الله الناس لعبادته، وما من فعل من الأفعال إلا ولله فيه حكم. فعلى المكلف مجتهداً كان أو مقلداً أن يتحرى حكم الله. وحكم الله هو قصده الذي يفهم وفق ما سبق بيانه. وحكم الله تعالى يفهمه المجتهد المعتبر الذي فهم مقاصد الشريعة جملةً وتفصيلاً وهو الذي يعمل الكليات والجزئيات معاً عند الاجتهاد، وهو الذي يتطابق سلوكه مع فتواه، فيكون ورعاً ملتزماً في أقواله وأعماله بما يصدر عنه من فتاوى وبما هو معروف من صفات السلف الصالح وغيرهم من أهل التقوى والصلاح في الدين.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/117.
(2) المصدر نفسه، 2/122.
(3) المصدر نفسه، 2/123.(2/146)
أما المقلد فلا نظر له في الأدلة الشرعية، وتحريه لقصد الشارع يكون بالترجيح بين المجتهدين فهم بمثابة الأدلة الشرعية له، ولا يصح له التخير بين الأقوال فهذا اتباع للهوى.
أما شرط فهم المقاصد جملةً وتفصيلاً فإنه إذا توصل إليه المجتهد يمكنه أن يفتي، ويكون قوله معتبراً إذا كان ورعاً، ولو لم يكن يعرف اللغة العربية، إذ يمكنه أن يفهم المقاصد بالتلقي والترجمة. قال: "الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص فلا بد من اشتراط العلم بالعربية، وإن تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردةً عن اقتضاء النصوص لها أو مسلمة من صاحب الاجتهاد في النصوص فلا يلزم في ذلك العلم بالعربية وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملةً وتفصيلاً"(1). وقال: "فإذاً من فهم مقاصد الشرع من وضع الأحكام وبلغ فيها رتبة العلم بها ولو كان فهمه لها من طريق الترجمة باللسان الأعجمي فلا فرق بينه وبين من فهمها من طريق اللسان العربي"(2).
المبحث الثاني
مناقشة فكرة الشاطبي
الكليات والاستقراء
موضوع هذا المبحث:
بعد عرض فكرة المقاصد عند الشاطبي بالتفصيل، ثم عرضها وإبراز أساسها وأركانها مختصرة في المبحث السابق، نناقش هذا الأساس وهذه الأركان في هذا المبحث والذي يليه. والأفكار التي ستتم مناقشتها في هذا المبحث هي:
1 ـ اشتراط الشاطبي أن تكون أصول الفقه قطعية.
2 ـ الاستقراء وكونه الطريق الوحيد إلى القطع.
3 ـ قوله إن الكليات لا تنخرم بمعارضة الجزئيات.
4 ـ التواتر المعنوي.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/90.
(2) المصدر نفسه، 4/91.(2/147)
وهذه الأفكار هي أركان فكرة الشاطبي. ويتبين خلال مناقشتها صحة أو خطأ بعض أفكاره مثل معنى الرجوع إلى قطعي عنده، وأن الدليل الشرعي لا يقبل إلا إذا كان قطعياً أو راجعاً إلى قطعي أما المبحث التالي فسيكون - إن شاء الله تعالى - لمناقشة أساس الفكرة وهو أصل التعليل لأفعال الله - سبحانه وتعالى - ولمناقشة نتيجةٍ لازمة لمنهجه وهي إمكانية استغناء المجتهد المحيط بكليات الشريعة عن النظر في جزئياتها، ومن ذلك عدم اشتراط العلم بالعربية للمجتهد العالم بمقاصد الشريعة جملةً وتفصيلاً.
اشتراط القطع بأصول الفقه:
ذهب الشاطبي إلى أن أصول الفقه يجب أن تكون قطعية وأنها ملحقة في ذلك بالعقائد، وبين أن مراده بالأصول مختلف عن مراد غيره من علماء الأصول. ومراده بالأصول هو المعاني القطعية التي يرجع إليها الفقه أو يتفرع على أساسها.
نعم، هو يختلف بهذا عن الأئمة الأصوليين والفقهاء، وهذا من جديده. وهذا مما أراه خطأً. ويعظم خطر هذا الخطأ لأنه في الأصول، وهو ليس مجرد أصل من الأصول وإنما هو أصل يحكم على الأصول، بل يحكم على المنهج برمته.
ووجه الخطأ فيه ليس في كونه جديداً ولا في كونه خالف المنهج المعتمد لدى الأئمة، وإنما هو في موضوعه أي في معنى هذا الأصل.(2/148)
إن الشاطبي لم يقم دليلاً على قوله هذا، وإنما قرره تقريراًَ فألحق الأصول بالعقائد بصياغة يمكن أن تقبل بادئ النظر، إذ ينتقل الذهن عند قراءة أقواله في هذا الأمر إلى المعنى المعهود في كلام الأئمة عند اشتراط القطع بالأصول، وهو الأصول التي هي مصادر التشريع، أي الأدلة الإجمالية للفقه وهي الأدلة الأربعة: القرآن والسنة والإجماع والقياس. ولكن الشاطبي ذهب أبعد من ذلك فقصد أصول وقواعد الفقه بمعنى مباحث أصول الفقه كدلالة الأمر للوجوب أو لغيره، أو قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أو قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم، أو قاعدة المصالح المرسلة، أو الاستحسان، أو الاستصحاب، وهذه القواعد يصح اشتراط القطع فيها لو كانت بمعنى أنها مصادر للتشريع أي أدلة قائمة برأسها، وليس هذا مراد الشاطبي. وإلحاق الأصول بمعنى مصادر التشريع بالعقائد واشتراط القطع بها مبني على ذم الله تعالى لإتباع الظن والنعي على الذين يتبعون الظن، وهذا فيما يتعلق بالعقائد. قال تعالى: { إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } (1). وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } (2). وقال تعالى: { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } (3).
__________
(1) سورة النجم، 23.
(2) سورة النجم، 27 - 28.
(3) سورة يونس، 36.(2/149)
وقال تعالى: { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ } (1). وقال تعالى: { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } (2). وقال تعالى: { قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ } (3). وقال تعالى: { أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } (4). وقال تعالى: { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (5). فهذه الآيات وغيرها صريحة في ذم الظن، وذم الاعتقاد والإيمان بأشياء بغير سلطان أو برهان، والسلطان والبرهان هو الدليل القطعي لأنه إذا كان ظنياً فهو مذموم. ولكن هذا في العقائد وليس في الأحكام الشرعية، إذ ثبت في هذه الأخيرة ـ كما سيتبين ـ جواز اتباع الظن المبني على القطع.
والأصول التي تلحق بالعقائد، هي مصادر الفقه الإجمالية، إذ لو زعم زاعم أن التكاليف الشرعية تؤخذ من فلان أو من كتاب كذا أو من مصدر ما، بغير قيام دليل قاطع على ذلك فهذا اتباع للظن وهو مذموم، وهذا يؤدي إلى جواز أخذ التشريعات من الرؤى والمنامات إذا تعلق بها الظن أنها رؤى صالحة لصالحين، وقد يؤدي إلى جواز أخذ تشريعات من التوراة والإنجيل إذ قد يتعلق الظن ببعض نصوصها أنها غير محرفة وهذه كلها مصادر إجمالية، ولكن هذه ظنون ولم يدل دليل قاطع على اعتبار هذه الظنون ولذلك تطرح.
__________
(1) سورة النساء، 157.
(2) سورة الأنعام، 116.
(3) سورة الأنعام، 148.
(4) سورة الأعراف، 71.
(5) سورة البقرة، 111، والنمل، 64.(2/150)
فأصول الفقه التي تلحق بالعقائد هي ما يشبه العقائد لجهة أنه ينبني عليه غيره، وهو لا ينبني على غيره، فإن كان ينبني على غيره فهو فرع، واعتباره وعدم اعتباره يعتمد على ذلك الغير. وعلى ذلك فإن علماء الأصول عدوا أصول الفقه الأدلة الإجمالية الأربعة. وغير ذلك من القواعد والأصول التي تعتمد عند الاجتهاد والاستنباط، فلا يشترط لها القطع، لأنها مبنية على غيرها مما ثبت بالقطع. وربما أخرج بعضهم القياس من اشتراط القطع له، على اعتبار أن القياس إنما يعتمد على العلة وتعديتها ومصدر العلة هو الأدلة الثلاثة القرآن والسنة والإجماع، فاعتماد العلة وتعديتها راجع إلى هذه الثلاثة، والقياس بعد ذلك ليس إلا فعل القائس وهذا ظني، فهذا يشبه الاستدلال بخبر الآحاد فهو ظني ولكن أصله وهو السنة قطعي ووجوب إعمال خبر الآحاد قطعي.(2/151)
ولذلك فإن علماء الأصول لم يطلقوا على الأدلة الظنية اسم أدلة وإنما عدوها أمارات، فهي علامات تدل على معانيها، ولكن وجوب إعمالها أو اتباعها ليس راجعاً إليها وإنما إلى شيء آخر وهو الدليل القاطع على العمل بها، والأدلة القاطعة هي الأدلة القاطعة على وجوب الالتزام بالقرآن وبالسنة وبالإجماع وبالقياس، وليس الدليل القاطع هو الدليل التفصيلي نفسه، وهذا بخلاف الفقهاء، فإن هذه الأمارات عند الأصوليين والمتكلمين أدلة عندهم، قال الأسنوي: "واعلم أن التعبير بالأدلة مخرج لكثير من أصول الفقه كالعمومات وأخبار الآحاد والقياس والاستصحاب وغير ذلك، فإن الأصوليين وإن سلموا بها فليست عندهم أدلة للفقه بل أمارات له فإن الدليل عندهم لا يطلق إلا على المقطوع به"(1). وقال: "أقول: أدلة الفقه تنقسم إلى متفق عليها بين الأئمة ومختلف فيها، فالمتفق عليها أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس وما عدا ذلك كالاستصحاب والمصالح المرسلة والاستحسان وقياس العكس والأخذ بأقل ما قيل وغيرها مما سيأتي فمختلف فيه بينهم"(2). وقال: "الأدلة السمعية إن كانت مختلفاً فيها فهي لا تفيد إلا الظن عند القائل بها والمتفق عليها بين الأئمة هو الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فأما القياس فواضح أنه لا يفيد إلا الظن وأما الإجماع فإن وصل إلينا بالآحاد فكذلك ووصوله بالتواتر قليل جداً، وبتقديره فقد صحح الإمام في المحصول والآمدي في الإحكام ومنتهى السول أنه ظني وأما السنة فالآحاد منها لا تفيد إلا الظن وأما المتواتر فهو كالقرآن متنه قطعي ودلالته ظنية لتوقفه على نفي الاحتمالات العشرة"(3).
__________
(1) الأسنوي، نهاية السول، 1/10.
(2) المصدر نفسه، 1/44 - 45.
(3) المصدر نفسه، 1/41.(2/152)
وعلى ذلك فالقطع الذي يشترطونه للدليل هو بمعنى الدليل الذي هو مصدر إجمالي للتشريع، أما غير ذلك من قواعد وأصول وأحكام فهي ظنية معتمدة ومتبعة في الشرع ولم يشترط لها قطع لا في ثبوتها ولا في معناها، وإنما الشرط هو أن تكون مستندة إلى الدليل القطعي أي إلى الدليل الذي هو مأخذ لها، وهو الأدلة الأربعة المتفق عليها، وإن كانت مختلفاً فيها فيجب أن يكون الدليل (الذي هو مصدر) قطعياً عند من يقول به من المجتهدين.
وقال الزركشي: "ثم المراد بالأدلة الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال، وقال إمام الحرمين والغزالي: هي ثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع، ومنعا أن تكون القوانين الكلية الظنية من أصول الفقه، وقال في التلخيص: الذي ارتضاه المحققون أن ما لا ينبغي فيه العلم كالأخبار والمقاييس لا يعد من أصول الفقه"(1). ثم قال: "فإن قيل: فإن أخبار الآحاد والمقاييس لا تفضي إلى العلوم وهي من أدلة أحكام الشرع، قيل له: إنما يتعلق بالأصول تثبيتها أدلة على وجوب الإعمال وذلك ما يدرك بالأدلة القاطعة، وأما العمل فمتلقى منها، فيتعلق بالفقه دون أصوله. وقال في البرهان: فإن قيل: معظم المسائل الشرعية ظنون قلنا: ليست الظنون فقهاً، وإنما الفقه العلم بوجوب العمل عند قيام الظنون. ولذلك قال المحققون: أخبار الآحاد والأقيسة لا توجب العمل لذاتها، وإنما يجب العمل بما يجب به العلم بالعمل وهو الأدلة القطعية على وجوب العمل عند رواية الآحاد وقيام الأقيسة. قال: وهما وإن لم يوجدا إلا في أصول الفقه لكن حظ الأصولي إبانة القاطع في العمل بهما"(2).
__________
(1) الزركشي، البحر المحيط، 1/18 - 19.
(2) الموضع نفسه، وانظر: الجويني، البرهان، 1/78 - 79، فقرة: 4 - 5 - 6.(2/153)
وفي هذه النصوص السابقة أمران: أحدهما: أن الأدلة التفصيلية تفيد الظن وقد قام الدليل القاطع على وجوب العمل بهذا الظن، والثاني: أن الظن يعمل به في الشرعيات لأنه مستند إلى دليل قطعي ثبت بالقطع وجوب اعتماده كمصدر أو مأخذ، وليس كل ظن شرعياً وإنما المستند إلى الأدلة الشرعية القطعية. وهذان الأمران مع نصوص الأئمة المذكورة أعلاه، يدلان على مخالفة الشاطبي للمنهج المعهود، وعلى خطأ ما ذهب إليه الشاطبي إذ هذه النصوص تحتوي على الأدلة على وجوب إعمال الظني من غير اشتراط رجوع المعنى الظني إلى معنى قطعي، وإنما الشرط هو الرجوع إلى مصدر قطعي، فإذا أضفنا إلى ذلك أن الشاطبي لم يأت بدليل على ما قاله، ولم يبين خطأً في أقوال الأئمة، فإن هذا الشرط الذي وضعه يسقط فضلاً عن أن يزعم أن هذا ما قررته الآيات والأخبار وعمل عليه السلف الأخيار. فإلحاق الأصول بالعقائد يصح إذا كانت الأصول مما لا ينبني على غيره، فإذا كانت مما ينبني على غيره فهي فروع لغيرها ولو كانت أصولاً لما يتفرع عنها، وفي هذه الحالة فإن كانت ظنية فلا ضير في ذلك إذا كان قد قام الدليل القطعي على وجوب العمل بها.
وجوب العمل بالظني:
ومما يؤكد خطأ ما ذهب إليه الشاطبي في الأصول التي اشترط لها القطع، وخطأ ما بناه على ذلك من أن الدليل الشرعي إما أن يكون قطعياً وإما أن يكون راجعاً إلى قطعي، الأدلة القاطعة على وجوب العمل بالظني إذا كان مصدره قطعياً، فلا يشترط حينئذٍ رجوع معناه إلى معنى قطعي.(2/154)
وقد كثرت في ذلك أقوال الأئمة وتواترت الأخبار في هذا المعنى، وفي الرد على منكري العمل بخبر الواحد، مع أن خبر الآحاد يدخله الظن من جهتين، من جهة الثبوت ومن جهة الدلالة، بخلاف نصوص القرآن فإن الظن إذا تعلق بها فمن جهة الدلالة فقط. أما الإجماع، فمن حيث نقله هو مثل خبر الآحاد، ومن حيث دلالته فقد يكون مثله أو أقوى، والقياس راجع إلى الثلاثة، وقد قامت الأدلة القاطعة والكثيرة على وجوب العمل بخبر الآحاد الذي رجحت نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير تقييد بشرط سوى أن لا يعارض الخبرَ دليلٌ أقوى منه وليس هذا موضوع البحث.
قال الزركشي: "إن الشافعي صنف كتاباً في إثبات العمل بخبر الواحد، وذكر في أوله الحديث المشهور: "رحم الله امرءاً سمع مقالتي"(1). فاعترض أبو داود وقال: أثبت فيه خبر الواحد بخبر الواحد، والشيء لا يثبت بنفسه كمن ادعى شيئاً فقيل له: من يشهد لك؟ فقال: أنا أشهد لنفسي، قال الأصحاب: هذا الذي ذكره باطل فإن الشافعي لم يستدل بحديث واحد وإنما ذكر نحواً من ثلاثمائة حديث وذكر وجوه الاستدلال فيها فالمجموع هو الدال عليه"(2).
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب العلم عن رسول الله، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع بلفظ: "نضر الله عبداً..." برقم (2582)، وأحمد (16153)، والدارمي (230)، وموجود باللفظ نفسه في معجم الطبراني الكبير، باب الزاي.
(2) الزركشي، البحر المحيط، 3/321.(2/155)
وقد لخص الجويني الأدلة الكثيرة فقال: "وقد أكثر الأصوليون وطولوا أنفاسهم في طرق الرد على المنكرين، والمختار عندنا مسلكان: أحدهما يستند إلى أمر متواتر لا يتمارى فيه إلا جاحد ولا يدرؤه إلا معاند، وذلك أنا نعلم باضطرار من عقولنا أن الرسول عليه السلام كان يرسل الرسل ويحملهم تبليغ الأحكام وتفاصيل الحلال والحرام، وربما كان يصحبهم الكتب وكان نقلهم أوامر رسول الله عليه السلام على سبيل الآحاد ولم تكن العصمة لازمةً لهم فكان خبرهم في مظنة الظنون وجرى هذا مقطوعاً به، متواتراً لا اندفاع له، بدافع التواتر، ولا يدفع المتواتر إلا مباهت فهذا أحد المسلكين، والمسلك الثاني مستند إلى إجماع الصحابة، وإجماعهم على العمل بأخبار الآحاد منقول متواتراً، فإنا لا نستريب أنهم في الوقائع كانوا يبغون الأحكام من كتاب الله تعالى، فإن لم يجدوا للمطلوب ذكراً مالوا إلى البحث عن أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانوا يبتدرون التعويل على نقل الأثبات والثقات بلا اختلاف"(1). وقد ذكر الزركشي مثل هذا القول أيضاً(2).
استقلال السنة بالتشريع:
ذهب الشاطبي إلى أن السنة لا تستقل بالتشريع بناء على أن القرآن فيه بيان كل شيء، وأن السنة بيان له، وعلى ذلك فالسنة لا تأتي بشيء لا أصل له في القرآن، لا من حيث الموضوع أي النوع أو الجنس، ولا من حيث المعنى.
والتعليق على هذا القول هو أن كون القرآن فيه بيان كل شيء، وكون السنة بيان للقرآن لا يعني أن لا تستقل السنة بتشريع، ولا أن لا تأتي السنة بتكليف لا أصل له في القرآن، فإن دلالة القرآن على السنة وعلى وجوب أخذ الأحكام منها هو من البيان ومن تمام البيان، ودلالة السنة على أشياء ليست في القرآن لا يتنافى مع كون القرآن بياناً.
__________
(1) الجويني، البرهان، 1/388، فقرة: 539 - 540.
(2) أنظر: الزركشي، البحر المحيط، 3/320.(2/156)
ولا يتأتى أن يقال إن القرآن فيه بيان كل شيء بهذا المعنى، وهو أن كل معنى دلت عليه السنة موجود في القرآن وإنما قد يقال ذلك بمعنى أنه ما من شيء أتت به السنة إلا وله أصل في القرآن وهذا موضع خلاف. أما أن يظن أن السنة لا تأتي بما ليس في القرآن فكيف يتأتى هذا؟! فهل أمر القرآن بالصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك مما جاء مجملاً وبينته السنة، هل هذا مبين بالقرآن؟ وهذا الذي أتت به السنة أليس استقلالاً بالتشريع وإن كان له أصل في القرآن؟
إن موضوع استقلال السنة بالتشريع أو عدم ذلك إنما المقصود به أن تأتي السنة بما لا أصل له في القرآن أو لا، وليس أن يكون فيها بيان زائد أو لا. فالسنة فيها زيادة قطعاً، وإلا فكيف نهتدي إلى صلاتنا هذه لولا السنة؟!.. وكل ما جاءت به السنة من تخصيص وتقييد وبيان لمجمل في القرآن غير مبين فيه فهو تشريع زائد استقلت به السنة.(2/157)
أما ما استدل به الشاطبي من قوله تعالى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } (1). وقوله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } (2). فلا يدل على ما ذهب إليه. أما الآية الأولى، فإن الكتاب بين كل شيء، ومن وسائل بيانه السنة، إذ الكتاب دل على السنة، ودلالة الكتاب على السنة يجعل بيان السنة للأشياء من بيان الكتاب لها. فإذا قال شخص لآخر: افعل كذا وكذا وكل ما يقوله لك فلان، أو وَكُلََّ ما سآمرك به في كتاب مستقل، فهل قوله: وكل ما يقوله لك فلان أو وَكُلَّ ما سآمرك به من أوامر في كتاب مستقل، هل يعد هذا نقصاً في بيان ما أمره به، أم أن الأوامر التي تصدر عن فلان أو التي تأتي في كتاب مستقل تعد جزءاً من البيان لما يريده الشخص الأول؟ لذلك فإن كون الكتاب تبياناً لكل شيء لا يتعارض مع أن تأتي السنة بما ليس في القرآن أو لا أصل له في القرآن. والقرآن قد قرن بين الأمر بطاعة الله ـ سبحانه وتعالى ـ وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } (3). وقال تعالى: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (4). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أوتيت القرآن ومثله معه"(5).
__________
(1) سورة النحل، 89.
(2) سورة النحل، 44.
(3) سورة النساء، 59، وسورة محمد، 33.
(4) سورة النساء، 80.
(5) الشوكاني، نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار، كتاب الأطعمة والصيد، باب في أن الأصل في الأعيان والأشياء الإباحة إلى أن يرد منع. ذكر الحديث بلفظ: "إني أوتيت القرآن ومثله معه" وقال: وهو حديث صحيح، 8/111. دار العلم - بيروت، وأخرجه أحمد (16546)، وله روايات بلفظ: "أوتيت الكتاب...".(2/158)
وأما قوله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } فليس فيه دلالة على عدم استقلال السنة بالتشريع، وإنما هو يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يبلغ ويبين ويفصل ويشرح ما جاء في القرآن، وليس في منطوق النص أو مفهومه ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يبين غير ما جاء في القرآن، فالله - سبحانه وتعالى - أوحى إلى نبيه بشريعة الإسلام، وكان هذا بما أوحاه إليه من القرآن ومن السنة، فهو - صلى الله عليه وسلم - يبين القرآن ويبين السنة، وكلاهما وحي. قال تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (1). ويؤكد هذا النصوص التي توجب طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتبين أن الله تعالى قد آتاه القرآن ومثله معه(2).
وعلى ذلك فالبحث هل تستقل السنة بالتشريع أو لا هو بمعنى هل تأتي السنة بتكليف لا أصل له في القرآن أو لا، أي ليس له جنس أو نوع يرجع إليه في موضوعه أي في معنى، والقول بأن السنة لا تأتي بذلك يحتاج إلى دليل، ولا دليل، بل الأدلة تسمح بذلك.
لذلك فالأدلة التي تعتمد هنا على هذا الأمر هي استقراء تكاليف القرآن وتكاليف السنة، أي الوقوع أو عدمه، وقد ثبت الوقوع، وذلك كتحريم لحوم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير(3)، فهل لو أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأشياء لكانت الإباحة تتعارض مع أصل في القرآن؟ أليس لو لم يحرمها النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان حكمها الإباحة بناء على قاعدة: الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم؟
__________
(1) سورة النجم، 3 - 4.
(2) أنظر: الإمام الشافعي، الرسالة، ص 79 - 104، فقرة: 258 - 308.
(3) تقدم ذكر الأحاديث فيها.(2/159)
أما قول الشاطبي - رحمه الله - بأن الله - سبحانه وتعالى - أحل الطيبات وحرم الخبائث وبقيت أشياء مما لا يتبين حكمها للمجتهد ويشكل عليه الأصل الذي تلتحق به أهو الطيبات أم الخبائث، فهذه محاولة تكييف للمسألة لتنسجم مع منهجه وليس لها وجه من الصحة. إذ لولا تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - لما شك أحد بأنها مباحة بناء على أصل الإباحة، وحينئذٍ تكون من الطيبات، وتحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - لها هو الذي جعلها من الخبائث بمعنى المحرمات والله أعلم. وفوق هذا فإن الشاطبي لم يعرفنا على أصل الخبائث وأصل الطيبات.
قال الشافعي: "وقد سنَّ رسول الله مع كتاب الله وسن فيما ليس فيه بعينه نص كتاب"(1).
وقال الزركشي تحت عنوان (السنة المستقلة بتشريع الأحكام): "ولهذا لم يفرد إمام الحرمين السنة عن الكتاب، وقال: كل ما يقوله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قول الله تعالى، فلم يكن لذكر فصل بين الكتاب والسنة معنى، ونص الشافعي في الرسالة على أن السنة مُنَزَّلةٌ كالقرآن"(2). ومما نقله في استقلال السنة بالتشريع: "كتحريم لحم الحمار الأهلي وكل ذي ناب من السباع وليسا بمنصوصين في الكتاب"(3).
وأما الحديث الذي يأمر بعرض الأحاديث على الكتاب والذي صحح الشاطبي معناه وإن لم يصح سنده، فقد قال فيه الشافعي: "ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغر ولا كبر"(4).
__________
(1) الإمام الشافعي، الرسالة، ص: 88، فقرة: 293.
(2) الزركشي، البحر المحيط، 3/236.
(3) المصدر نفسه، ص: 237.
(4) الإمام الشافعي، الرسالة، ص: 225، فقرة: 618.(2/160)
وجاء للأستاذ أحمد محمد شاكر محقق كتاب الرسالة تعليقاً على الحديث "ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فلم أقله" قوله: "هذا المعنى لم يرد فيه حديث صحيح ولا حسن، بل وردت فيه ألفاظ كثيرة كلها موضوع أو بالغ الغاية في الضعف حتى لا يصلح شيء منها للاحتجاج أو الاستشهاد"(1). ثم ذكر أن فيه من هو منكر الحديث، وذكر أقوال أئمة الحديث في أنه حديث باطل لا أصل له وأنه وضعته الزنادقة وأنه موضوع(2).
وقال الزركشي: "وقال ابن عبد البر في كتاب (جامع بيان العلم): قال عبد الرحمن بن مهدي: الزنادقة والخوارج وضعوا حديث ما أتاكم عني فاعرضوه إلخ"(3). وقال: "وقد عارضه قوم وقالوا: نحن نعرضه على كتاب الله فوجدناه مخالفاً للكتاب، لأنا لم نجد فيه: لا يقبل من الحديث إلا ما وافق الكتاب، بل وجدنا فيه الأمر بطاعته وتحريم المخالفة عن أمره حكم على كل حال"(4).
__________
(1) المصدر نفسه، الهامش، رقم 4، ص: 224.
(2) الموضع نفسه. ومما قاله: "وأقرب رواية لما رواه الشافعي هنا فوهّاه وضعَّفه رواية الطبراني في معجمه الكبير من حديث ابن عمر، نقلها الهيثمي في مجمع الزوائد (1/170)، وقال: "فيه أبو حاضر عبد الملك بن عبد ربه وهو منكر الحديث". وقال في عون المعبود 4/329: "فأما ما رواه بعضهم أنه قال: "إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فخذوه" فإنه حديث باطل لا أصل له، وقد حكى زكريا الساجي عن يحيى بن معين أنه قال: هذا حديث وضعته الزنادقة"، ونقل الفتني في تذكرة الموضوعات ص: 28 عن الخطابي أنه قال أيضاً: "وضعته الزنادقة"، ونقل هو والعجلوني في كشف الخفاء 1/86 عن الصنعاني أنه قال: "هو موضوع"".
... ولابن حزم تعليق شافٍ على هذا الحديث في الإحكام 2/86 في بيان علله وبطلانه.
(3) الزركشي، البحر المحيط، 3/237.
(4) الموضع نفسه.(2/161)
فهذا هو المعنى الذي صححه الشاطبي غير مكترث بسنده باعتباره معنى قطعياً بنظره، وجعله من أركان منهجه، وهو معنى ينكره أئمة الحديث وأئمة الفقه فكيف يزعم الشاطبي أن هذا المنهج قد شد معاقده السلف الأخيار واعتمده العلماء الأحبار.
إن هذه الفكرة في معنى القطع بالأصول وفي معنى الرجوع إلى القطعي، وفي التوقف في اعتبار خبر الآحاد حتى يثبت الرجوع إلى معنى قطعي، هي من أهم أركان منهج الشاطبي، فحريٌ بهذا المنهج بعد ذلك أن يوأد في مهده.
الاستقراء:
الاستقراء هو الركن الأهم في منهج الشاطبي، فهو الطريقة الوحيدة للقطع بالمعاني ولفهم أصول الشريعة عنده. والقطع بمعاني النصوص يعتمد على انتفاء مقدماتٍ عشر وهذا متعذر. ومعاني الأحكام هي مصالح مخيلة لا دلالة عليها في النصوص، فلا بد أن تتضافر عليها أحكام كثيرة ليحصل الاستقراء المفيد للقطع فتكتسب حينئذٍ قيمة شرعية وتعد عللاً للشريعة.
أما زعم أن النصوص لا تدل دلالة قطعية على مدلولاتها فهو زعم يعتمد على تصورات أو فروض منطقية غير واقعية. فالنصوص تدل على معانٍ قد تكون قطعية، وقد تكون ظاهرةً غالبةً في معنى معين وقد تحتمل أكثر من معنىً على سبيل التساوي، وإن لم تكن قطعية الدلالة بذاتها فقد يستفاد القطع بقرائن أحوال أو أقوال. وليس القطع مشروطاً في غير العقائد أو الأصول الملحقة بها وهي مصادر التشريع.(2/162)
أما الاحتمالات العشرة التي قيل بها فهي ليست موجودة في كل مثال، وانتفاء ما يوجد منها ليس متعذراً، فقوله تعالى: { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ } (1) لا يلزم له الاستقراء لإدراك القطع بوجوب الصلاة. وإدراك انتقال معنى الصلاة من الحقيقة اللغوية إلى الحقيقة الشرعية وغير ذلك مما قد يعترض به ليس متعذراً. وكذلك الأحكام القطعية كوجوب الإيمان والصيام والزكاة والحج والصدق والعدل والإحسان وأداء الأمانات وكذلك حرمة السرقة والزنا والربا وقتل النفس التي حرم الله وحرمة الميتة والدم والخنزير، فإنها قطعية ولم يكن ذلك بالاستقراء. وإنما كان بالاستنباط من النصوص يساعد على ذلك بيان السنة والصحابة رضي الله عنهم والإجماع والنقل المتواتر للنصوص والأفعال، والنص الواحد يمكن أن يكون قطعي الدلالة كقوله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } (2) الآية، وقوله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (3)، وإذا لزم لأجل القطع، القطع بمعاني ألفاظ أو الاستفادة من قرائن معينة، فإن هذا ممكن وواقع وليس متعذراً.
فليس صحيحاً أن النصوص يتعذر أن تدل دلالةً قطعية على المعاني وليس صحيحاً أن القطع لا يحصل إلا بالاستقراء.
أما استقراء معاني الأحكام فسيأتي بحثه منفصلاً تحت عنوان: التواتر المعنوي.
وتطبيق الاستقراء بقصد التوصل إلى حقائق شرعية يحتاج إلى التعريف بمعناه وبكيفية تطبيقه من خلال أمثلة متفق عليها أو معروفة الحكم كي يمكن تطبيقه في البحث عن معرفة ما هو مجهول الحكم. وهذا ما لم يفعله الشاطبي، وإنما فرض منهج الاستقراء فرضاً من غير إثبات لصحته ومن غير تعريف به.
__________
(1) سورة البقرة، 11 و43 و83 وغيرها من السور.
(2) سورة المائدة، 3.
(3) سورة البقرة، 275.(2/163)
وإذا عرِف معنى الاستقراء يتبين أن لا موقع له حيث وضعه الشاطبي. والأئمة إنما اعتمدوا الاستنباط كمنهج عقلي للفهم والتوصل إلى الأحكام، وليس الاستقراء. فما هو الاستقراء؟
قال الأسنوي: "الاستقراء هو الاستدلال بثبوت الحكم في الجزئيات على ثبوته للقاعدة الكلية"(1). وقال: "وهو ينقسم إلى تام وناقص، فالتام هو إثبات حكم كلي في ماهية لأجل ثبوته في جميع جزئياتها"(2). أما الناقص فـ: "هو إثبات حكم كلي في ماهية لثبوته في بعض أفرادها وهذا لا يفيد القطع لجواز أن يكون حكم ما لم يستقرأ من الجزئيات على خلاف ما استقرئ منها"(3).
ومثاله كأن يقال: في هذا الصندوق مجموعة قطع، فإذا استعرضت واحدةً واحدة، ووجدت كلها قطع حديد، أمكن القول: إن كل القطع التي في الصندوق حديد، فهذا الاستقراء تام، وهذا الحكم كلي، فإذا أخذ من الصندوق قطعة بشكل عشوائي فهي حديد قطعاً بناء على الحكم الكلي، أما إذا استعرضت أكثر القطع أو كلها إلا واحدة، ووجدت حديداً، فهذا استقراء ناقص، وإذا أخذت قطعة عشوائياً لا يمكن الحكم بأنها من جنس المستقرأ، ولا يصح إصدار الحكم الكلي أصلاً.
فالاستقراء هو إثبات الحكم للكل أو للمجموع من خلال إثباته للأجزاء واحداً واحداً، وإذا كان المطلوب استقراؤه معروفاً محصوراً أمكن أن يحصل الاستقراء التام باستقراء الكل واحداً واحداً، وإذا لم يكن محصوراً فالاستقراء التام غير ممكن. والاستقراء بخلاف الاستنباط فالاستقراء يوصل إلى الحكم الكلي بناءً على الحكم على الجزئيات، أما الاستنباط فهو يوصل إلى الحكم على الجزء بناء على الحكم الكلي أو العام. والحكم الكلي الناتج عن الاستقراء التام يعد استنباطاً أيضاً، لأن الحكم الكلي مأخوذ من الحكم على الكل.
__________
(1) الأسنوي، نهاية السول، 1/361.
(2) المصدر نفسه، 4/377.
(3) الأسنوي، نهاية السول، 4/377.(2/164)
وكل من الاستقراء والاستنباط منهج عقلي من مناهج المعرفة، أي طريقة في التفكير لأجل الوصول إلى النتائج، قال محمد باقر الصدر: "يقسم الاستدلال الذي يمارسه الفكر البشري عادة إلى قسمين رئيسيين: أحدهما الاستنباط، والآخر الاستقراء. ولكل من الدليل الاستنباطي والدليل الاستقرائي منهجه الخاص وطريقه المتميز، ونريد بالاستنباط: كل استدلال لا تكبر نتيجته المقدمات التي تكون منها ذلك الاستدلال"(1). وقال: "ونريد بالاستقراء: كل استدلال تجيء النتيجة فيه أكبر من المقدمات التي ساهمت في ذلك الاستدلال، فيقال مثلاً: هذه القطعة من الحديد تتمدد بالحرارة، وتلك تتمدد بالحرارة، وهذه القطعة الثالثة تتمدد بالحرارة أيضاً، إذن كل حديد يتمدد بالحرارة"(2). وقال: "في حالات الاستقراء فإن الدليل الاستقرائي يقفز من الخاص إلى العام"(3).
وما عليه المسلمون قاطبةً هو أن الإسلام جاء بنصوص شرعية تستنبط منها المعاني الشرعية استنباطاً، ومن ذلك الأحكام، والأحكام عامة في المكلفين وفي الأفعال، وكلية بواسطة العلل التي تعديها من نوع من الأفعال إلى غيره، والعلل تستنبط استنباطاً من الأدلة الشرعية. فإذا جاء النص فإن المعنى يؤخذ منه، ولا يعد النص أو دلالته جزءاً من المعنى، أو ظاهرةً يجب أن تتكرر في نصوص ودلالات كثيرة لكي يثبت المعنى الكلي. فهذا التكرر هو الاطراد الذي يفيد الاستقراء الذي قاله الشاطبي، وليس هكذا تستفاد الأحكام، وإنما تستفاد من دلالات النصوص أي من الأدلة التفصيلية، ولذلك عرف الفقه بأنه العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية.
__________
(1) محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء، ص 5، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ط5، 1406هـ - 1986م.
(2) المصدر نفسه، ص 6.
(3) محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء، ص 7.(2/165)
ولا يوجد عملية استقراء تتبع لأجل التوصل إلى كليات تستنبط منها أحكام الجزئيات، لأن النصوص موجودة وجاهزة لتستنبط منها الأحكام، والقواعد هي بدورها تستنبط استنباطاً من النصوص وقد تكون ظنية وقد تكون قطعية، وتتفرع على أساسها الأحكام لأنها هي أصلاً قواعد شرعية مستمدة من النصوص الشرعية.(2/166)
فهذا الاستقراء وإن كان منهجاً عقلياً صحيحاً، فليس له موقع في دلالات النصوص، والشاطبي باعتماده الاستقراء تعامل مع النصوص الشرعية كما يتعامل مع الظواهر الطبيعية والمادية، فكأن النصوص ظواهر لها صفات وخصائص هي معانيها ولهذه الخصائص علل أو نتائج هي الحكم والمصالح. ومثلما يبحث الباحث عن خصائص الأشياء ليكتشفها وعن أسباب وعلل الظواهر ليكتشفها ويستفيد من ذلك ويبني عليه، بالملاحظة والاختبار والتتبع والاستقراء، مثل ذلك فعل الشاطبي لفهم معاني النصوص وعلل الشريعة وأصولها. والشاطبي نفسه يقرر هذا الأمر، لذلك فبعد أن بين خواص الكليات في منهجه قال: "وهذه خواص الكليات العقليات، وأيضاً فإن الكليات العقلية مقتبسة من الوجود، وهو أمر وضعي، لا عقلي، فاستوت مع الكليات الشرعية بهذا الاعتبار وارتفع الفرق بينهما"(1). وكذلك عندما تحدث عن الأسباب والمسببات في الشرع استدل على ما يذهب إليه، بالأسباب والمسببات في العقليات أو في الوقائع المادية، قال: "إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب قصد ذلك المسبب أو لا. لأنه لما جعل مسبباً عنه في مجرى العادات عد كأنه فاعل له مباشرة، ويشهد لهذا قاعدة مجاري العادات إذ أجري فيها نسبة المسببات إلى أسبابها كنسبة الشبع إلى الطعام، والإرواء إلى الماء والإحراق إلى النار والإسهال إلى السقمونيا وسائر المسببات إلى أسبابها فكذلك الأفعال التي تتسبب عن كسبنا منسوبة إلينا وإن لم تكن من كسبنا. وإذا كان هذا معهوداً معلوماً جرى عرف الشرع في الأسباب الشرعية مع مسبباتها على ذلك الوزان"(2).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/44.
(2) الشاطبي، الموافقات، 1/148.(2/167)
بناءً على هذا فإن منهج الاستقراء هذا ليس هنا موضعه، إضافة إلى أن النصوص الشرعية ليست ظواهر مادية تستقرأ، والنصوص الشرعية لها دلالات يجب العمل بها سواء كانت ظنية أو قطعية، وهذا المنهج مخالف لما عليه الأئمة المعتبرون، لذلك فإنه خطأ ولا سبيل إلى العمل به.
أضف إلى ذلك أن هذا الاستقراء ناقص، ولا يمكن أن يكون تاماً، فلا يتأتى فيه القطع أصلاً بحسب واقع الاستقراء، وهو ليس استقراءً لأكثر الجزئيات، بل هو كما يقول الشاطبي استقراء لجزئيات كثيرة، وهذه الكثيرة ليست هي الأكثر، فلا يصح بحسب منهج الاستقراء إثبات الكلي بهذا الاستقراء الناقص وإعطاء حكم ما استقرئ لما لم يستقرأ. نعم، إن النصوص الكثيرة المتضافرة على معنى واحد قد تؤكد على أهمية هذا المعنى أو تزيد درجة الظن به ويمكن أن يحصل القطع به، وهذا ليس من الاستقراء وإنما من الاستنباط، فالنصوص تستنبط منها معانٍ وتحتمل غيرها، فإذا كان هناك معنى مشترك في نصوص كثيرة، فكثرة النصوص تغلب الظن بأنه المقصود، فيثبت المعنى، ولكن هذا ليس استقراءً، ولو كان الاستقراء مطلوباً لما ثبت المعنى. وليس بالضرورة أن يكون هذا المعنى كلياً، فإن هذا يعتمد على المعنى نفسه. فلو كثرت النصوص الدالة على حرمة الزنا أو على وجوب الصلاة، فلن تصبح هذه الأحكام كلية لأنها في موضوعها جزئية ولو كانت قطعية. ولو دل نص واحد على قاعدة عامة أو كلية فلن يتوقف في اعتبار القاعدة بحجة أن الدال نص واحد أو ظني، وذلك كقوله - صلى الله عليه وسلم - : "لا ضرر ولا ضرار"(1). فهو خبر آحاد وهو أيضاً قاعدة كلية، ولا يلزمه ليكون كذلك أن يكون قطعياً، ولا ما حشده الشاطبي من أدلة في المعنى، وإن كانت كثرة الأدلة تؤكد المعنى وقد تجعله قطعياً.
__________
(1) تقدم تخريجه.(2/168)
ورب قائل يقول إن الاستقراء الناقص يورث القطع بالحكم الكلي ويؤدي إلى تطبيقه على ما لم يستقرأ، وبشكل قاطع، فإنا نجد أن الحديد يتمدد بالحرارة وتتكرر الملاحظة بلا تخلف فيحكم بالحكم نفسه على كل الحديد. والخشب يطفو على الماء فيحكم بهذا على كل الخشب، والناس يموتون فيحكم بذلك على الأحياء وعلى من سيولد، والشمس تطلع كل يومٍ وتغيب فيحكم بان هذا يحصل غداً وبعد غدٍ، وبأنه كان يحصل قبل وجودنا، ولدينا شعور قوي بأن هذه الأحكام قطعية مع أن المستقرأ أقل بكثير مما لم يستقرأ. وعليه فلا يصح الاعتراض على صحة الاستقراء الناقص وإفادته القطع.
والجواب إن الاستقراء في مثل هذه الحالات لا يكون إلا ناقصاً، وإن أمكن أن يكون كثيراً فلن يكون أكثرياً، ومع ذلك فهو يفيد الحكم فيما لم يستقرأ. نعم، ولكن هذا ليس راجعاً إلى الاستقراء، بل إلى شيء آخر إضافة إلى هذا الاستقراء، وهذا الشيء هو بمثابة العلة التي تؤدي إلى تعدية الحكم مما استقرئ إلى ما لم يستقرأ وإلى كل ما توجد فيه هذه العلة العقلية أو المنطقية (وليس الشرعية)، فهذه العلة مع الاستقراء تؤدي إلى إطلاق الحكم الكلي ويحكم على ما لم يستقرأ بالقياس. ففي مثال الحديد الذي يتمدد بالحرارة العلة هي المماثلة أو انتفاء الفرق بين ما استقرئ وما لم يستقرأ. وهذا ما يؤدي إلى إثبات الكلي وتطبيقه، ولو لم يدرِك ذلك مَن يعمل هذه العلة هنا. فالناس يحملون مفهوم أن ما ثبت للشيء ثبت لمثله، وهذا يعمل لديهم ولو بغير قصد منهم كما تجري الدورة الدموية في الجسد، فهو يوجد لدى الإنسان مع تشكل عقله ونموه. وعدم التنبه لأثر هذه المماثلة أو غيرها مما قد يكون علة خفية للحكم هو الذي يوقع في الخطأ فيتوهم أن الاستقراء الناقص يفيد، ومثل هذا يقال في سائر الأمثلة المذكورة.(2/169)
فطلوع الشمس والقمر وغيابهما وتكرر ذلك بشكل منتظم يؤدي إلى الشعور بأن هناك نظاماً يحكم هذه الحركة، وهو الذي جعلها تتكرر بانتظام وبغير تخلف، فكان هذا النظام بمثابة العلة لحدوث هذه الحركة المنتظمة. وهذه العلة أو النظام هي التي تدفع إلى الحكم غداً أو بعد غدٍ بما يقتضيه النظام المدرك. فبما أن العلة الموجودة اليوم موجودة غداً فسيتكرر الأمر. ولو علم أن واضع هذا النظام سيغيره غداً ولن تطلع الشمس أو ستطلع من مغربها، لتغير الحكم، مما يؤكد أن إطلاق الكلي وتطبيقه على ما لم يستقرأ ليس راجعاً إلى الاستقراء وإنما إلى العلة. ومما يؤكد هذا التفسير أمران:
الأول: أن الجزئيات المستقرأة قليلة جداً ولا تكاد تذكر في مقابل ما لم يستقرأ، بل يكفي أن يكون المستقرأ فرداً واحداً أو جزئية واحدة وذلك ليعرف منه الوصف أو الحكم المطلوب ثم تكون العلة (القياسية المنطقية) بعد ذلك سبباً لإطلاق الحكم بالكلي على الباقي. لذلك فالعلة هي سبب الكلية وليس الاستقراء.(2/170)
الثاني: أن الحكم الكلي الذي يتعدى من المستقرأ إلى ما لم يستقرأ لا يتعدى إلى ما لا توجد فيه العلة. فالحكم على الحديد لا يتعدى إلى غير ما هو مثله. وكذلك في الخشب وفي الإنسان وكذلك في الشمس والقمر والأفلاك، فلا يحكم على القمر غداً بما يحكم به على الشمس غداً ولا العكس، لأن العلة في الحالتين وإن كانت هي النظام ولكن نظام الشمس غير نظام القمر، فسبب الكلية هو العلة وليس الاستقراء. هذا هو الاستقراء الناقص في الظواهر المادية، فهو لا يفيد إلا إذا علم بوجود علة. فكيف يطبق على نصوص الشارع التي تتعدد دلالاتها، وإذا كان الاستقراء يحتاج إلى علة ليكون مفيداً، والشاطبي يستعمل الاستقراء لأجل فهم العلل، فكل واحد من الاثنين يحتاج للآخر ولا يوجد إلا بعده، وعلى ذلك فمنهج الاستقراء الناقص ساقط ومردود ولا وجود له أصلاً في النصوص الشرعية، وهذه العلل لن توجد بهذا المنهج، وإن وجدت فستوجد بالاستنباط بوصفها عللاً شرعية وليس عللاً مادية أو منطقية.
معارضة الجزئي للكلي:
ذهب الشاطبي إلى أن الكلي لا ينخرم بمعارضة الجزئيات له، وذلك بناء على أن الكلي قد ثبت كلياً بالاستقراء فهو قطعي والجزئي ظني، فإما أن يُؤَوَّل الجزئي ليتفق مع الكلي وإما أن يرد.
وذهب أيضاً إلى أنه لا بد من إعمال الكليات والجزئيات معاً، فلا يُستغنى بالكليات عن الجزئيات ولا بالجزئيات عن الكليات.
وهذان الأمران صحيحان من حيث نتائجهما، ولكنهما لا يستقيمان بناءً على منهجه، أي لا يستقيمان بناءً على أن الكليات هي كليات استقرائية مأخذها الجزئيات، ففي الأمر تناقض حاول الشاطبي أن يرفعه.(2/171)
قال بشأن إعمال الكليات والجزئيات معاً: "محالٌ أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها فمن أخذ بنص مثلاً في جزئي معرضاً عن كليه فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضاً عن جزئيه، وبيان ذلك أن تلقي العلم بالكلي إنما هو من عرض الجزئيات واستقرائها، فالكلي من حيث هو كلي غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات ولأنه ليس بموجود في الخارج وإنما هو مضمن في الجزئيات كما تقرر في المعقولات، فإذاً، الوقوف مع الكلي مع الإعراض عن الجزئي وقوف مع شيء لم يتقرر العلم به دون العلم بالجزئي، والجزئي هو مظهر العلم به، وأيضاً فإن الجزئي لم يوضع جزئياً إلا لكون الكلي فيه على التمام وبه قوامه، فالإعراض عن الجزئي من حيث هو جزئي، إعراض عن الكلي نفسه في الحقيقة وذلك تناقض. ولأن الإعراض عن الجزئي جملةً يؤدي إلى الشك في الكلي من جهة أن الإعراض عنه إنما يكون عند مخالفته للكلي أو توهم المخالفة له. وإذا خالف الكلي الجزئي مع أنا إنما نأخذه من الجزئي دل على أن ذلك الكلي لم يتحقق العلم به لإمكان أن يتضمن ذلك الجزئي جزءاً من الكلي لم يأخذه المعتبر جزءاً منه، وإذا أمكن هذا لم يكن بد من الرجوع إلى الجزئي في معرفة الكلي ودل ذلك على أن الكلي لا يعتبر بإطلاق دون اعتبار الجزئي"(1). ثم قال: "فإذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة فلا بد من الجمع في النظر بينهما"(2). ثم قال: "فلا يمكن والحالة هذه أن تخرم القواعد وإذا ثبت هذا لم يمكن أن يعتبر الكلي ويلغى الجزئي"(3).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 3/3.
(2) المصدر نفسه، 3/4.
(3) الموضع نفسه.(2/172)
هذا النص مهم في منهج الشاطبي. وفيه أمور، منها أن الجزئيات هي مصدر الكليات ولولا الجزئيات لم تعرف الكليات، والكليات ليس فيها أي معنى غير موجود في الجزئيات، وإذا تعارض الكلي مع الجزئي فهذا يعني أن الكلي لم يتحقق كونه كلياً بعد، فلا بد من الرجوع إلى الجزئي للتحقق من حقيقة المعنى الكلي وضبطه لرفع التعارض، وإذا ثبت الكلي كلياً وخالفه الجزئي فلا بد من رفع المخالفة، ولا يمكن إلغاء أحدهما، فالكلي ثبت كلياً قطعياً فلا تصح مخالفته، والجزئي لا يمكن أن يلغى لأجل اعتبار الكلي، فالكلي ـ كما قال ـ مصدره الجزئيات، والشك بالجزئي شك بالكلي.
ولكن هذا اختلف في موضع آخر. قال: "القواعد المطردة كليات ولا تنهض الجزئيات أن تنقض الكليات، ولذلك تبقى أحكام الكليات جارية في الجزئيات وإن لم يظهر فيها معنى الكليات على الخصوص"(1).
وهذا تناقض مع ما سبق، إذ كيف يجري معنى الكليات في الجزئيات دون أن يظهر ذلك، والكليات أصلاً لا تعرف إلا من الجزئيات، والجزئي هو مظهر العلم بالكلي؟! وقال: "فإنها لو عارضتها فإما أن يعملا معاً، أو يهملا أو يعمل بأحدهما دون الآخر أعني في محل المعارضة، فإعمالهما معاً باطل، وكذلك إهمالهما لأنه إعمال للمعارضة فيما بين الظني والقطعي، وإعمال الجزئي دون الكلي ترجيح له على الكلي، وهو خلاف القاعدة، فلم يبق إلا الوجه الرابع وهو إعمال الكلي دون الجزئي وهو المطلوب"(2). وهذا تناقض أوضح مع ما سبق، فهو هنا يقول: "فإعمالهما معاً باطل" وهناك قال: "لا يمكن إعمال أحدهما وإلغاء الآخر"، وهو هنا يقول: "إعمال الكلي دون الجزئي وهو المطلوب" وهناك قال إن الشك بالجزئي شك بالكلي، وإنه لا بد من النظر للجمع بينهما، فهذا تناقض سببه المنهج وهو الاستقراء.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 3/149.
(2) المصدر نفسه، 3/150.(2/173)
قد يقال: ولكن هذا الذي ذهب إليه الشاطبي هو المعتمد المعهود عند الأئمة وهو إجراء القواعد والأصول الشرعية عند إجراء النصوص التفصيلية، وكذلك عند التعارض بين قطعي وظني يرد الظني إذا لم يمكن الجمع بينهما.
والجواب إن هذا صحيح ولكن لا يحصل تناقض في منهج الاستنباط لأن الشك بالظني ورده لا يعني تشكيكاً بالقطعي، لأن القطعي هناك ليس مأخذه استقراء الظنيات أو الجزئيات، أضف إلى ذلك أنه إذا تعارض الكلي مع الجزئي أو العام مع الخاص فيمكن تخصيص أحدهما بالآخر، ولا يعد هذا تناقضاً أو نقضاً لشيء، لأن الكلي لم يؤخذ من استقراء الجزئيات، لذلك قيل في بداية بحث هذه المسألة إن هذين الأمرين عند الشاطبي صحيحان من حيث نتائجهما، ولكنهما لا يستقيمان بناءً على منهجه. إضافةً إلى هذا التناقض في المنهج فإن النقض له يأتي أيضاً من جهتين:
الأولى: إن الجزئي الذي قال بإهماله إذا تعارض مع الكلي ولم يمكن الجمع بينهما قد يكون نص حديث صحيح أو معنى نص قرآني. والكلي الذي يقول به ليس كلياً ولا قطعياً كما تبين، إذ الاستقراء الذي يقول به ناقص وليس تاماً، لذلك فإن تأويل معنى النص أو رد الحديث بسبب معارضته لهذا الكلي لا يصح على إطلاقه.
الثانية: إن هذا المنهج يلزم منه الاستغناء بالكليات عن الجزئيات، وهذا ما حاول الشاطبي التفلت منه. وسيأتي - إن شاء الله - بحث هذا الأمر في المبحث الثالث من هذا الفصل.
التواتر المعنوي:
ذهب الشاطبي إلى أن الاستقراء يفيد تواتراً يشبه التواتر المعنوي، وشبه القطع المستفاد من الاستقراء بالقطع بشجاعة علي رضي الله عنه وجود حاتم، وهو قطع سببه التواتر لكثرة النقول التي تفيد ذلك.(2/174)
إن القطع الذي يفيده التواتر لا يرجع إلى الاستقراء وإنما إلى الكثرة مع شروط(1). قال الزركشي: "المتواتر، وهو لغةً: ترادف الأشياء المتعاقبة واحدٍ بعد واحدٍ بمهلة، واصطلاحاً: خبر جمعٍ يمتنع تواطؤهم على الكذب من حيث كثرتهم، عن محسوس"(2). وقال: "التواتر قد يكون لفظياً وقد يكون معنوياً وهو أن يجتمع من سبق ذكرهم على أخبار ترجع إلى خبر واحد كشجاعة علي رضي الله عنه وجود حاتم"(3). ثم ذكر أن البعض قد نازع بشجاعة علي لأن شجاعته متواترة لفظاً ومعنىً(4).
فالكثرة في التواتر هي كثرة مجتمعة على خبر، فإذا كان الخبر نقلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون حديثاً قطعي الثبوت، وقد يكون قطعي الدلالة وقد لا يكون كذلك، وإذا كانت الكثرة مجتمعة على عدة أخبار، بعضهم يروي خبراً وغيرهم يروي غيره وهكذا، وكل واحد من هذه الأخبار لا يبلغ حد التواتر، ولكنها تشترك كلها في معنىً معين. فهذا المعنى يكون متواتراً، وهذا هو التواتر المعنوي، ويكون المعنى قطعياً.
والجزئيات المستقرأة عند الشاطبي نوعان: نصوص شرعية وأحكام شرعية، فإذا كان الاستقراء هو لنصوص شرعية فلا إشكال في ذلك من حيث النتيجة، وقد يكون هو التواتر المعنوي نفسه وليس شبيهاً به، كما لو كان استقراءً لدلالات أخبار آحاد، سوى أن هذا ليس استقراءً وإنما استنباط من النصوص، وقد سبق الحديث عن استقراء الجزئيات إذا كانت نصوصاً شرعية تحت عنوان: (الاستقراء) في هذا المبحث. والحديث الآن عن استقراء الأحكام الشرعية ومعانيها.
__________
(1) أنظر: الزركشي، البحر المحيط، 3/296 - 301.
(2) المصدر نفسه، 3/296.
(3) المصدر نفسه، 3/311.
(4) الموضع نفسه.(2/175)
إن الأحكام الشرعية هي من معاني النصوص الشرعية ومدلولاتها، وكذلك القواعد الشرعية. والألفاظ والنصوص هي التي يبحث لها عن معنى، فإذا عرف المعنى فقد عرف قصد الشارع بها، والمعاني الشرعية هي معانٍ قصدها الشارع ولا علم للعبد بها إلا من جهة خبر منه تعالى. وأخبار الله - سبحانه وتعالى - مصادرها القرآن والسنة والإجماع والقياس، ومع اعتبار الخلاف فهي القرآن والسنة وما أرشدا إليه. وهذه هي مصادر النصوص الشرعية، ولا يكون معنىً شرعياً إلا إذا كان مصدره النصوص الشرعية.
وعليه، فإن كانت معاني الأحكام التي يقصدها الشاطبي من مدلولات النصوص الشرعية فهي شرعية، وإن لم تكن كذلك فهي ليست شرعية، وإذا كانت من مدلولات النصوص فهي معانٍ للنصوص، فتكون معتبرة.
ومقصود الشاطبي بمعاني الأحكام هو حِكَمُها أو مسبَّباتها أو مصالحها أو مقاصدها أو عللها، ولا يقصد كونها معانٍ للنصوص.(2/176)
ومعاني الأحكام لا وجود لها، وإنما هناك معانٍ للألفاظ وللجمل تدل عليها هذه الألفاظ والجمل بأي نوع من أنواع الدلالة(1). فإذا عرفت المعاني فلا معنى لأن يبحث لها عن معانٍ، ولا يصح أن يقال إن هذه المعاني مقصودة للشارع، إذ لو كانت مقصودة له لنصب لها دليلاً أو وضع لأجلها أمارة. وحينذاك فهي من دلالات النصوص، ولا ضير في أن يسرح الفكر أو الخيال في أسباب الأحكام أو عللها أو مقاصدها وحكمها، خاصة وأن في النفس ما يدفع إلى هذا، فيصادف الظن معاني أو حكم يقع عليها، فيطمئن إليها أو يتفرَّج بها. ولكن لا يصح بحال أن يضفى على هذه الظنون أي قيمة شرعية، أو أن تنسب إلى الله - سبحانه وتعالى - فيقال إنها مقصودة له، أو إنها علة لحكمه، فمثل هذه الظنون هي خيالات وليست مستندة إلى أي مصدر شرعي، وبما أنه لا دليل عليها فلا اعتبار لها.
والشاطبي لا يخالف في هذا، بل إنه يؤكده، وهو لا يقبل الظن الشرعي أصلاً إلا إذا كان راجعاً إلى معنى قطعي. ومثل هذه التعليلات للأحكام ظنون لا اعتبار لها، ولكن إذا تضافرت الأحكام على معنى وحصل الاستقراء يكون المعنى قطعياً ويكون مصلحة وعلةً وأصلاً ومقصداً، وكل ذلك على سبيل القطع.
والاعتراض هو كيف سيحصل هذا التواتر المعنوي، أو التضافر من آحاد الأحكام على هذا المعنى، إذ لم يكن هناك أي قيمة شرعية لهذا المعنى في أي حكم، إذ الأحكام لا تدل على معان، وهذه المعاني ليست من مدلولات النصوص.
__________
(1) الدلالة اللغوية تنحصر في ثلاثة: المطابقة والتضمن والالتزام، الأول: دلالة اللفظ على تمام ما وضع له. والثاني: دلالته على جزء المسمى. والثالث: دلالته على ما هو خارج عن المسمى ولكنه لازم له. أنظر: الزركشي، البحر المحيط، 1/ 417 و1/420.(2/177)
فإذا كان في كل حكم من هذه الأحكام التي تستقرأ لا قيمة شرعية لهذا المعنى، فكيف سيكتسب المعنى القيمة الشرعية باجتماعها، فإذا امتحن شخص مثلاً بعشرين سؤالاً وحصل في كل سؤال على صفر، فكيف سيكون مجموعه مائة من مائة؟ أي كيف سيحصل القطع بالمعنى من استقراء الجزئيات التي يتخيل فيها هذا المعنى إذا كان لا اعتبار له شرعاً في أي جزئيةٍ منها؟ وهذا يذكر بقول الاحناف الذي ورد سابقاً وهو: وبكثرة النظائر لا تحصل قوة في الوصف.
أما تمثيل الشاطبي بشجاعة علي رضي الله عنه وجود حاتم فليس من قبيله استقراء معاني الأحكام، إذ شجاعة علي وجود حاتم هي من دلالات النصوص الواردة عنهما وليس من دلالات معاني النصوص، فهي من المتواتر المعنوي حقيقة إن صحت النصوص، بل نازع البعض بأن شجاعة علي من التواتر اللفظي.
وخطأ الشاطبي هنا يأتي من جهتين:
الأولى: خطأ في المنهج، وهو القول بمقاصد معينة للشارع من غير أي دليل. وفوق ذلك زعم القطع بها، ناهيك عن الاستقراء الناقص وما فيه.(2/178)
الثانية: إن الشاطبي نفسه قد قرر أن هذه المعاني ليس عليها أي دلالة شرعية، وإنما هي خادمة للمقاصد التي هي من دلالات النصوص(1). ولو كان عليها دلالة من النصوص لكانت من مقاصدها الأصلية. ومع ذلك فقد جعلها باستقرائه لها من المقاصد الكلية القطعية وهذا لا يستقيم، إقرأ قوله مثلاً: "فما يؤمننا من سؤال الله تعالى لنا يوم القيامة من أين فهمتم عني أني قصدت التجنيس الفلاني بما أنزلت من قولي: { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } (2)، أو قولي: { قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ } (3)، فإن في دعوى مثل هذا على القرآن وأنه مقصود للمتكلم به خطراً، بل هو راجع إلى قوله تعالى: { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } (4)، وإلى أنه قول في كتاب الله بالرأي"(5).
رب قائل يقول: إن القول بهذه المقاصد أو العلل - بنظره - مبني على القول بأن الأصل تعليل الأحكام، لذلك فهو يتتبع الأحكام للتحقق من عللها الشرعية.
والجواب: إن هذا الأصل على فرض التسليم به يجيز التعليل، ولكن العلل كثيرة والخيالات أكثر, وتعيين هذه العلة أو تلك من غير أي إرشاد أو إشارة أو علامة من الشرع تدل على نوع العلة أو جنسها هو قول بغير دليل. فلا بد مع هذا الأصل من مسلك للعلة أو دليل عليها. ولذلك تجد علماء الأصول المتكلمين الذين ثبتوا أصل التعليل يثبتون معه مسالك للعلة مثل الإخالة والمناسبة، والشبه، والسبر والتقسيم، والطرد والعكس وغيرها.
المبحث الثالث
مناقشة فكرة الشاطبي
المقاصد والعلل
__________
(1) أنظر: الموافقات، 2/63 - 68، المسألة الخامسة، وانظر: المبحث الثالث من الفصل الرابع من هذا الكتاب.
(2) سورة الكهف، 104.
(3) سورة الشعراء، 168.
(4) سورة النور، 15.
(5) الموافقات، 3/248.(2/179)
موضوع هذا المبحث:
نتابع هنا ما بدأناه في المبحث السابق وهو مناقشة فكرة المقاصد عند الشاطبي، وما نناقشه في هذا المبحث هو أساس الفكرة وهو أن أفعاله - سبحانه وتعالى - معللة، وأنها معللة بغاياتها أو مقاصدها، ومما سيتناوله هذا المبحث أيضاً إحدى النتائج المهمة لهذا المنهج وهي استغناء المجتهد عن الجزئيات في الاجتهاد إذا تم له فهم المقاصد جملةً وتفصيلاً.
ولم يكن الشاطبي - رحمه الله - وحده الذي قال بأصل التعليل ولا بالمقصد أو الغرض من الفعل، لذلك سنتعرض بإيجاز لمناقشة تلك الأقوال. ويجدر التذكير هنا أن هذا الموضوع قد عرض بشيء من التفصيل في الفصل الأول.
أصل التعليل:
وللبحث اتجاهان قد يختلطان عند البعض، لذلك وجب التفريق بينهما. أحدهما: إن أفعال الله - سبحانه وتعالى - معللة بالغرض، فهو لا يفعل إلا لغرض وهذا ما تقتضيه الحكمه، ونقيض ذلك هو العبث، وتعالى الله عن ذلك، وإذا ثبت أنه لا يفعل إلا لحكمةٍ أو غرض، فينطبق هذا على أحكامه فلا بد أن يكون لكل حكم قصد، وهو علة الحكم، فوجب تعليل الأحكام.
والثاني: إن الأحكام الشرعية معللة، بناء على الأدلة الدالة على أن الشريعة رحمة للناس وشفاء، وأيضاً بناء على الوقوع، فإن الناظر في أحكام الشريعة يجد أنها مقارنة للمصالح أو أسباب لها، وكذلك يجد من الأحكام ما هو معلل بعلل تدل على مراعاة المصالح مما يدل على أن الأصل تعليل الأحكام بالمصالح.
أما الاتجاه الأول فهو بحث كلامي لا علاقة له بأصول الفقه وإن أدخل في أبحاثه، ولا صلة له بالقياس وإن ربطه البعض به. وقد تبين فيما سبق أن الرازي رد تعليل أفعال الله ورد لفظ الغرض في أفعال الله رداً قاطعاً مع أنه يقول بالقياس وبأصل التعليل للأحكام.
أما الاتجاه الثاني فهو مبحث أصولي بشرط أن يفصل عن تعليل أفعال الله، وبغض النظر عن النتيجة أي أن الأصل التعليل أو عدم التعليل.(2/180)
قال الزركشي: "ونقل ابن الحاجب في الكلام على السبر والتقسيم إجماع الفقهاء على أنه لا بد للحكم من علة واستشكل ذلك بالأصل المشهور أن أفعال الله لا تعلل بالغرض"(1). وقال: "واعلم أن مذهب أهل السنة أن أحكامه غير معللة بمعنى أنه لا يفعل شيئاً لغرض، ولا يبعثه شيء على فعل شيء، بل هو الله تعالى قادر على إيجاد المصلحة بدون أسبابها وإعدام المضار بدون دوافعها. وقال الفقهاء: الأحكام معللة ولم يخالفوا أهل السنة بل عنوا بالتعليل: الحكمة. وتحجر المعتزلة ومن وافقهم من الفقهاء واسعاً، فزعموا أن تصرفه تعالى مقيد بالحكمة مضيق بوجه المصلحة"(2). فالغالب عند المسلمين الفصل بين الأمرين، وأن الله تعالى لا يفعل لغرض، وفي مناقشات الكلاميين من علماء الأصول ما يرجح قول الرادين لتعليل أفعال الله، بل أدلتهم قاطعة كما قال الرازي.
رد تعليل أفعال الله تعالى:
اختلف القائلون بهذا في طرق الإثبات، فأساس الفكرة عند بعضهم هو أن الله - سبحانه وتعالى - حكيم في صنعه، فرعاية الغرض في صنعه إما أن يكون واجباً أو لا يكون واجباً، فإن كان واجباً فلم يخلُ عن المقصود، وإن لم يكن واجباً ففعله للمقصود أقرب إلى موافقة المعقول من فعله بغير مقصود(3).
__________
(1) الزركشي، البحر المحيط، 4/111.
(2) المصدر نفسه، 4/112.
(3) أنظر: الآمدي، الإحكام، 3/250، وانظر: المبحث الثالث من الفصل الثاني من هذا الكتاب.(2/181)
وبعض ما يقال رداً على هذا المنطق هو أن الله حكيم في فعله وفي عدم فعله، فهو حكيم مطلقاً، ولكن الذي يوجب على الله تعالى أن تكون أفعاله أقرب إلى المعقول يجب أن يكون عنده من العلم والعقل، ومما لا يعلمه إلا الله ما يرتقي بحكمته إلى حكمة الله، إلى اللامحدود. أما من كانت حكمته لا شيء أمام حكمة الله، فعن أي معقول يتحدث؟! فمثل هذا الكلام ينطوي على غفلةٍ في قياس الله على الإنسان، وهو يمكن أن يقال عن أفعال العقلاء والحكماء. فالله - سبحانه وتعالى - حكيم، والإنسان لا يدرك حكمته لأنه لا يدرك من الحكم والمعقولات إلا بعض ما يتعلق بمحسوساته، وعالم الغيب محجوب عن الناس، فما الذي يوجب أن تكون آثار حكمة الله أو مظاهرها متعلقة بمدركات ومحسوسات البشر، والله - سبحانه وتعالى - يقول: { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (1).
__________
(1) سورة البقرة، 216.(2/182)
إن قصور العقل الإنساني ومحدوديته وعجزه عن إدراك ذات الله وعن البحث في المغيبات تمنعه من إدراك حكمة الله في صنعه وأحكامه بغير خبرٍ منه تعالى، فهو قد يرى المصلحة مفسدةً والمفسدة مصلحة وقد يرى ما هو نقيض الحكمة، وإذا قاس المغيبات على المحسوسات فقد يخرج بنتائج مناقضة للحقائق القطعية، وذلك مثل الذين ذهبوا إلى أن الله لا يفعل إلا لغرض، فقد وقعوا في قياس الله على الإنسان، فوصلوا إلى نتيجةٍ مقتضاها أن الله - تعالى - مستكمل بالغرض، ومثل هذا الكلام ينطبق على الإنسان وليس على الله. ولو استعمل منطق هؤلاء نفسه لأمكن أن يؤدي إلى نتائج مناقضة لنتائجهم وفاسدة. فمن أفعال الله مثلاً الخلق وقد يقال: كان الله وليس معه غيره ثم خلق خلقاً، فإما أن يكون خلقهم لحكمة أو لا لحكمة، فإن كان لحكمة فالحكمة موجودة منذ الأزل وهو لم يخلقهم من الأزل، فلم يبق إلا أن يكون لا لحكمة، وهذا فاسد. ومصدر فساده أنه إعمال للعقل فيما لا علم له فيه، مثل الذين أثبتوا الغرض. وكذلك فإن الخطأ نفسه يدخل نتائجهم التي بنوا عليها، فقد قالوا: إن الله لا يفعل إلا لمصلحة والمصلحة إما أن ترجع إلى الله تعالى وإما أن ترجع إلى العبد، والله منزه عن الضرر والانتفاع، فلم يبق إلا أن ترجع إلى العبد، وهذا أيضاً خوض في المجهول، فباستعمال المنطق نفسه يمكن القول: إن الله لا يفعل إلا لمصلحة، والمصلحة إما أن ترجع إلى الله أو إلى العبد، ومن فعله - تعالى - خلق العبد، فإما أن ترجع مصلحة هذا الخلق إلى الله تعالى أو إلى العبد، لا يمكن أن ترجع إلى العبد لأنه قبل الخلق معدوم ولا يتصور للمعدوم مصلحة.(2/183)
فلم يبق إلا أن تكون المصلحة راجعة إلى الله تعالى، وهذا فاسد، لأنه إعمال للعقل فيما لا يعمل فيه، واتخاذٌ لعدم العلم دليلاً على العلم، وإذا كان لا بد من قولٍ في المصلحة وفي رجوعها إلى جهةٍ ما، فالأصح أن يقال: المصلحة إما أن ترجع إلى الله تعالى أو إلى العبد أو إلى ما لا نعلم، وبهذا يسقط هذا الدليل.
وذهب البعض إلى أن أفعاله - تعالى - لا تعلل، ومع ذلك فالأصل في الأفعال التعليل بالمصلحة(1)، وذلك بناء على ملاحظة مقارنة الأحكام للمصالح، وهذا الاستدلال هو من الاستقراء الناقص لذلك لا يصح، إذ تبين فيما سبق أن الاستقراء الناقص لا يكون دليلاً، وإنما الدليل هو العلة المصاحبة له.
ومن الأدلة على أن أفعاله - تعالى - معللة، وأنه لا يفعل إلا لغايةٍ أو قصد ما ذهب إليه الشاطبي وهو الاستقراء، ولكنه مختلف عن الاستقراء المذكور أعلاه - وهو استقراء الرازي - فالرازي استقرأ الأحكام ليثبت أصل التعليل بالمصالح، ونفى تعليل الأفعال. أما الشاطبي فقد استقرأ النصوص، وكان ذلك بالإكثار من النصوص التي جاء فيها ذكر القصد كما في قوله تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ } ، { جNدGمٹد9ur نِعْمَتَهُ } ، { لِيَعْبُدُونِ } ، { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ، { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } . وهكذا(2).
__________
(1) أنظر أقوال الرازي في المبحث الثالث من الفصل الثاني.
(2) أنظر الموافقات، 3/2، وانظر تفصيلات هذا الدليل في المبحث الثالث من الفصل الثالث.(2/184)
وهذا الاستدلال لا يصح ولو كثرت مثل هذه النصوص، لأنه استقراء ناقص لا يستغرق كل فعل أو حكم، وكما جاءت نصوص كثيرة دلت على القصد، فقد جاءت نصوص كثيرة لم يظهر فيها القصد. كما أن مثل هذه النصوص التي أتى بها الشاطبي لا تدل على علل، ولا يستقيم في العقل الربط بينها وبين تعليل الأحكام بمقاصدها. أضف إلى ذلك أن كثيراً مما استدل به الشاطبي يمكن الاستدلال به على عكس ما أراده.
وعلى ذلك فدليل الشاطبي على أصل التعليل مردود من عدة وجوه:
الأول: إن هذا الاستقراء ناقص، فلا يفيد،ولا يحصل منه المطلوب ما لم يدل على ذلك دليل نقلي. وإذا وجد هذا الدليل فلا حاجة إلى الاستقراء الناقص.
الثاني: وجود نصوص كثيرة لم يذكر الشارع فيها قصداً له، وهذا ينقض زعم الاستقراء، كقوله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ } (1) الآية، وقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ ôن.âگكDù'tƒ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } (2). وقوله تعالى: { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ ِNخgح !$|،خpS تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } (3) الآية، وقوله تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } (4) الآية، وقوله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (5) الآية، وليس حمل هذه النصوص على تلك في إثبات الغرض بأولى من حمل تلك على هذه في نفيه.
الثالث: إن كثيراً من استدلالات الشاطبي على القصد والغرض ترجع إلى التحكم ولا تصلح ليبنى عليها تعليل الأفعال والأحكام، وهذه الاستدلالات نوعان:
__________
(1) سورة البقرة، 34.
(2) سورة البقرة، 67.
(3) سورة البقرة، 226.
(4) سورة البقرة، 228.
(5) سورة البقرة، 275.(2/185)
أحدهما: كقوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (1). فهذا النص دل على قصد حصول التقوى، والتقوى نفسها هي خوف الله وطاعته وعدم مخالفة أمره وتحري رضاه، فهذا القصد لا يرجع إلا إلى التحكم، وليس فيه ما يفيد أن الأحكام معللة، وهو ليس مما يبنى عليه ذلك، ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (2)، فمثل هذا أيضاً لا يرجع إلى إثبات قصد أو غرض مما يبنى عليه تعليل الأحكام، لا بما لو عرض على العقول تلقته بالقبول، ولا بمسببات أو مآلات.
ثانيهما: كقوله تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ } ، { لِئَلَّا يَكُونَ } ، { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ } ، فهذه الاستدلالات ليس فيها ما يصلح لأن ينبني عليه أصل تعليل الأحكام. فهي إخبار من الشارع يفيد التكليف بالعبادة والتقوى وبأن يجتهدوا في ذلك، وتحذير لهم بأنهم ليس لهم حجة يوم القيامة بما بلغهم من الرسالة. فكيف الربط واستنتاج تعليل الأحكام بمثل هذه النصوص؟!
ولقد عد الشيخ محمد الطاهر بن عاشور كل استدلالات الشاطبي على هذا الأمر غير صالحة سوى اثنين، فأي استقراء يبقى بعد ذلك؟!
__________
(1) سورة البقرة، 183.
(2) سورة الذاريات، 56.(2/186)
الرابع: إن ما استدل به الشاطبي على الغرض ينعكس فيستدل به على نفيه، ففي قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } . إذا سأل سائل: لماذا خلق الله الناس وجاءه الجواب: لكي يعبدوه. فإن هذا لا يشفي ما في النفس إذا كان المطلوب معرفة علةٍ أو غرض، فيتحول السؤال إلى سؤال آخر: لماذا يريد الله من الناس أن يعبدوه؟ ما الغرض من ذلك؟ والنص لا يذكر الغرض، وإنما يأمر بعبادته ولا يذكر قصداً أو غرضاً. وهكذا في كل دليل من أدلة الشاطبي يمكن أن يستدل على عكس ما أراد، فيقال وما الغرض من ابتلاء الناس أيهم أحسن عملاً، وكذلك ما الغرض من قطع حجة الناس يوم القيامة،وهكذا فكل نص أتى به الشاطبي وفيه ذكر القصد أو الغاية أو الغرض، فإن فيه أيضاً عدم ذكر ذلك، مما يدل على عدم صحة هكذا استدلال.
ولا جواب في الحقيقة على مثل هذه الأسئلة إلا أن يقال: { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } (1)، { يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } (2)، { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } (3)، { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } (4).
لذلك فإن الذين جادلوا في حرمة الربا محتجين بأنه مثل البيع لم يأتهم الجواب ببيان وجوه الفرق بين البيع والربا، أو ببيان الحكمة من تحريم الربا. بل جاء الجواب تحكماً، قال تعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي çmنـ 6y‚tFtƒ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (5). لذلك فما استدل به الشاطبي لا يصلح لإثبات مطلوبه.
المقاصد والعلل:
__________
(1) سورة الأنبياء، 23.
(2) سورة آل عمران، 40، والحج، 18.
(3) سورة البروج، 16، وهود، 107.
(4) سورة المائدة، 1.
(5) سورة البقرة، 275.(2/187)
عمد الشاطبي إلى إثبات أصل التعليل بإثبات مقاصد للشارع من الأحكام، هي مسببات ومآلات الالتزام بالأحكام الشرعية، وعد هذه المقاصد عللاً من غير أن يتعرض لبيان أو إثبات أن المقصود بالحكم هو علته.
وحسب ما جاء به الشاطبي فإن المقصد علة، والمقصد هو عينه مسبب ونتيجة ومآل، والحكم هو السبب الذي يؤدي إلى المقصد، وبناء ًعلى هذا المنطق فإن الحكم الشرعي هو سبب علته. وكمثال على ذلك، حكم القطع في السرقة. فإن مقصود الشارع بالحكم هو الزجر فالزجر علة للحكم، والحكم هو القطع فيكون الزجر علة القطع. وهو أي الزجر مسبب عن القطع الذي هو الحكم، فيكون الحكم سبباً له ويكون الحكم سبب علته. فهل هذا صحيح؟ وهل علة الحكم نتيجة له؟ وعليه فهل علة الحكم توجد بعده؟ وبتعبير آخر هل المقصد علة؟
وكمثال آخر من أدلته في إثبات تعليل الشريعة وهو قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (1). فالعبادة مقصد للشارع وهي تحصل بعد الخلق، فهل هي علة للخلق، وتكون العلة بعد معلولها؟ هل تصوير الأمر هكذا في هذين المثالين، مثال السرقة ومثال الخلق للعبادة، هل هو صحيح أم أن في الأمر اختلاطاً وتشويشاً؟
كلا، إن الأمر ليس بهذه الصورة، وإن ظهرت مستقيمةً بادئ الرأي، فالمقصد ليس علةً، والعلة ليست مقصداً، والحكم ليس سبباً لعلته، وعلة الحكم لا تكون بعده، كيف وهو وإنما يوجد عندها وبها وينعدم بانعدامها! وهي الباعث له أو عليه.
__________
(1) سورة الذاريات، 56.(2/188)
نعم، إن في الأمر اختلاطاً وتشويشاً، وكون العلة لا تتأخر عن الحكم، أمر متفق عليه، وهي إما أن تسبقه وإما أن تقارنه في الزمان، بلا خلاف، لا في العلل الشرعية ولا في العلل العقلية، قال الزركشي: "واعلم أنه لا خلاف أن العلة تتقدم على المعلول في الرتبة واختلفوا في هل تسبقه في الزمان أو تقارنه على مذاهب: أحدها: وعليه الأكثر من المعتزلة والفقهاء، أنها تقارنه واستدل عليه بقوله تعالى: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } (1)"(2). ثم قال: "والثاني: أنها معه"(3). أي تقارنه في الزمان، ثم قال: "أن العقلية تقارن معلولها لكونها مؤثرة بذاتها، والوضعية تسبق المعلول، والشرعية من الوضعية"(4).
وبناءً على الاتفاق الذي نقله الزركشي فإن المنهج الذي يقوم في أساسه وأركانه ونتائجه على هذا الخلط بين علة الحكم ومقصوده يرد من أصله، ولإزالة هذا الخلط والتشويش فإنه يلزم بيان موضع الخطأ وسببه.
أما موضع الخطأ، ففي مثال السرقة علة القطع هي السرقة وليست الزجر، والزجر نتيجة أو مقصود، والسرقة، وهي العلة، تحصل قبل الحكم أو معه وهو وجوب القطع. والعلاقة بين العلة والمعلول لا تتخلف فحيثما وجدت السرقة وجد الحكم أي وجوب القطع، أما الزجر فهو نتيجة قد توجد وقد تتخلف وهكذا في كل العقوبات.
أما في مثال الخلق لأجل العبادة، فالعبادة مقصد أو نتيجة قد توجد وقد لا توجد كما في الكافر أو العاصي، ولا يوجد علة هنا، لأن الخلق من أفعال الله ـ سبحانه وتعالى. ومما يجدر ذكره أن العلة هي علة الحكم وليست علة الفعل، فالسرقة علة وجوب القطع وليست علة القطع نفسه، لأن الفعل نفسه قد يحصل وقد لا يحصل لأنه راجع إلى اختيار المكلف الذي قد يطيع وقد يعصي كما في أي حكم.
__________
(1) سورة الزمر، 42.
(2) الزركشي، البحر المحيط، 4/110.
(3) المصدر نفسه، 4/111.
(4) الزركشي، البحر المحيط، 4/111.(2/189)
أما سبب هذا الخطأ فهو أن الذين يخلطون بين العلة والمقصد تنصرف أذهانهم عن النظر في الحكم وفي علته إلى النظر في طريقة الشارع في التشريع. فيتصورون أن عند الشارع قوانين أو طريقة للتشريع ينزل الأحكام بناء عليها، ويحاولون اكتشاف هذه القوانين، وسواء صح هذا أم لم يصح فإن انصراف الذهن إلى هذه الجهة ومحاولة اكتشاف أصول يشرع بناء عليها الشارع هو تجاوز من الإنسان لحدوده ينطوي على قياس خفي للخالق على المخلوق. فمثل هذا الأمر يصح على الإنسان وفي العقليات ولا يصح في حق الله تعالى. وكمثال واقعي لمزيد من البيان والتمييز:
إذا رأى المسؤول عن تنظيم حركة السير وضع علامات في الطرقات لأجل تنظيم الحركة وإزالة مشاكلها، ثم فعل ذلك وانتظمت الحركة. فقد يسأل: ما علة وضع العلامات؟ والجواب: تنظيم الحركة. وقد يسأل: ما علة انتظام الحركة؟ والجواب: العلامات. فهذان الجوابان أحدهما جعل تنظيم الحركة علة للعلامات، والآخر جعل العلامات علة لتنظيم الحركة، ففي الأمر تشويش. والصواب هو أنه إذا كان النظر في الحكم وعلته فهذا يقابله هنا النظر في انتظام الحركة وفي العلامات. والعلامات هي التي أدت إلى النظام وإذا زالت تحصل المشاكل، وهي تسبق التنظيم في الوجود، فهي العلة، ولا يمكن أن يكون النظام هو العلة.(2/190)
أما الذي يجيب بأن تنظيم الحركة هو علة العلامات فهذا خطأ. فتنظيم الحركة إنما هو المقصود بوضع العلامات ونتيجة لها، وإنما يظن أنها علة إذا نظر إلى ما في نفس أو عقل الذي قرر وضعها، فهذا نظر إلى الحركة ووجد أنها بحاجة إلى تنظيم فقرر وضع قوانين لأجل ذلك فَوَضَعَ علامات تؤدي إلى الغرض المطلوب، فغرض تنظيم الحركة إذا عُدَّ علة فهو ليس علة للعلامات ولا لوضع العلامات وإنما هو علة لاتخاذ القرار بوضعها عند المسؤول عن ذلك، وتنظيم الحركة في الواقع نتيجة وليس علة. وإذا عدت هذه النتيجة علة فهي علة لما في نفس صاحب القرار، وعندما تختلف الإجابات كما هو وارد أعلاه فسبب ذلك هو أن كل جواب هو على شيء مختلف عن الآخر. فإذا لم يحصل التمييز وقع الخلط.
وعلى ذلك فالمقصد ليس علةً والعلة ليست مقصداً، ومقاصد الشارع ليست عللاً للأحكام، وإذا انتقلنا من هذا المثال، أي من دوافع الناس ومقاصدهم في أحكامهم وأفعالهم إلى علل الأحكام الشرعية ومقاصدها ينبغي اعتبار مسألتين:
الأولى: إن القصد الذي يراد تحقيقه بهذا القرار قد يمكن الوصول إليه بأساليب غير هذا القرار، وهذا لا ينطبق على الأحكام الشرعية، فإذا علمنا قصد الشارع من الحكم فلا يمكن تغيير الحكم بحجة تحقيق المقصود، فإذا علمنا أن القطع في السرقة لا يزجر - مثلاً - فهذا لا يبرر تبديل الحكم. وهذا لا يخالف فيه الشاطبي بل يؤكده(1).
__________
(1) أنظر: المبحث الثاني من الفصل الثالث، بحث الأسباب والمسببات.(2/191)
الثانية: إن قصد صاحب القرار يمكن أن يفهم من تتبع أقواله وأفعاله ومن خلال فهم عقليته وتحليل نفسيته لأن هذا يقع ضمن حدود الإدراك الإنساني، وهذا لا يمكن تطبيقه على الخالق، فلا يقال بمقصد له أو بعلة بغير خبر منه. ومحاولة إدراك طريقة له في التشريع أو قوانين، فيها خطأ بقياس الخالق على المخلوق. وهذا ما فعله الشاطبي من خلال ما سماه القوانين الكلية والأصول الكلية والمصالح الحقيقية. وبنى ذلك كله على مقاصد الشارع التي سعى إلى إدراكها بالاستقراء وجعلها عللاً قطعية.
ومنهجه هذا يرد من هذه الجهة أيضاً، وهي اعتبار المقصد علة وما انبنى على ذلك من قياس للخالق على المخلوق.
وهذا المنهج هو الذي أدى إلى نتيجة خطرة، بل تعد علامةً على خطأ المنهج دافعةً إلى إعادة النظر فيه، وهي الاستغناء بالكليات عن الجزئيات وهو الموضوع التالي.
الاستغناء بالكليات عن الجزئيات:
تبين من منهج الشاطبي أن للتشريع مقاصد هي علله أو أصوله الكلية التي تتنزل بناء عليها أو لأجلها الجزئيات، وهي النصوص والأحكام، والأحكام من مقاصد النصوص، وكلاهما مقاصده هي تلك الأصول الكلية.
والكليات لا تفهم إلا باستقراء الجزئيات فهي مأخذها ودليلها، ولولا الجزئيات لم تعرف الكليات، وتبين أيضاً أنه لا بد من إعمال الجزئيات والكليات معاً فإعمال الكلي بغير الجزئي خطأ كإعمال الجزئي بغير الكلي(1).
وقد يعترض على الشاطبي بأنه ما الحاجة إلى إعمال الجزئي إذا كان الكلي قد فهم منه، فمعنى الجزئي موجود فيه، والنظر في الجزئي بعد ذلك عناء، وإذا فرض مخالفة بين الجزئي والكلي، أو خصوصية للجزئي غير معتبرة في الكلي فهذا يعني أن الكلي ليس كلياً بعد وهذا بخلاف الفرض، فلا حاجة لإعمال الجزئي(2).
__________
(1) أنظر: المبحث الأول من هذا الفصل.
(2) أنظر: الموافقات، 3/2 - 7.(2/192)
ولكن الشاطبي يصرح برد هذا الاعتراض ويصرح بلزوم إعمال الجزئي والكلي معاً فيقول: "فالحاصل أنه لا بد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها وبالعكس وهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق وإليه ينتهي طلقهم في مرامي الاجتهاد"(1).
إلا أن ما اعترض به على الشاطبي هنا صحيح فالاستغناء عن الجزئيات لازم للمنهج وإن صرح الشاطبي برده، بل إن بعض ما قال به يدل على هذا الاستغناء، والظاهر أن الشاطبي لاحظ هذا الأمر كنتيجة منطقية لمنهجه فاضطرب واستشكل الأمر، وتوقف عن رد أقوال بإهمال الجزئيات وهو ما سيتبين. ومما يشير إلى هذا الأمر قوله بصحة الاجتهاد ممن فهم المقاصد جملة وتفصيلاً، ولو لم يكن عنده علم بالعربية، قال: "فإذاً من فهم مقاصد الشرع من وضع الأحكام وبلغ فيها رتبة العلم بها ولو كان فهمه لها من طريق الترجمة باللسان الأعجمي فلا فرق بينه وبين من فهمها من طريق اللسان العربي"(2). وقال: "الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص فلا بد من اشتراط العلم بالعربية وإن تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد المجردة عن اقتضاء النصوص لها أو مسلمة من صاحب الاجتهاد في النصوص فلا يلزم في ذلك العلم بالعربية، وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلاً"(3). فهذا المجتهد لا يعرف العربية فلا يمكنه النظر في الجزئيات فلا ينظر في النصوص ولا يستنبط منها وإنما هو فقط يعمل الكليات بشرط أن يكون علم بها جملة وتفصيلاً، والعلم بالعربية هو شرط في المجتهد الذي يستنبط من الجزئيات لكي يتوصل إلى فهم الكليات، وما لم يحصل له العلم بالكليات جملة وتفصيلاً فلا يمكنه الاجتهاد سواء كان عالماً بالعربية أم لا.
__________
(1) المصدر نفسه، 3/6 وانظر: المبحث الأول من هذا الفصل.
(2) الشاطبي، الموافقات، 4/91.
(3) المصدر نفسه، 4/90.(2/193)
فالعلم بالعربية هو لأجل التوصل إلى الكليات من الجزئيات، فإذا تم هذا فلا حاجة للعربية، ولا فرق بعد ذلك بين من تسلمها بالترجمة وهو لا يعرف العربية وبين من فهمها بالعربية. وهذا القول إشارة إلى إمكان الاستغناء عن النظر في النصوص لأجل الاجتهاد.
ومما يشير إلى هذا أيضاً قوله في شروط المجتهد المعتبر: "إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين، أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها"(1). وقد يذهب الذهن إلى أن الوصف الثاني يتضمن شرط إعمال الجزئيات وليس الأمر كذلك، لأن الثاني - بنظر الشاطبي - وسيلة إلى الأول، فإنه هو الذي يظهر حصول فهم المقاصد، وهو الذي يظهر إمكانية الاستنباط بناء على هذا الفهم، قال: "لا تظهر ثمرة الفهم إلا في الاستنباط فلذلك جعل شرطاً ثانياً، وإنما كان الأول هو السبب في بلوغ هذه المرتبة لأنه المقصود والثاني وسيلة"(2).
فهذه النصوص تبعث على التدقيق في حقيقة مقصود الشاطبي بهذا الأمر، والذي يترجح أنه يعني الاستغناء عن الجزئيات، خاصة وأنه يؤكد على تمام فهم المقاصد: "العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملةً وتفصيلاً"، "فهم مقاصد الشريعة على كمالها" وكذلك قوله: "فإذا بلغ الإنسان مبلغاً فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة وفي كل باب من أبوابها فقد حصل له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله"(3).
__________
(1) المصدر نفسه، 4/56.
(2) الموضع نفسه.
(3) الشاطبي، الموافقات، 4/56.(2/194)
ومما يشير إلى هذا أيضاً ما قاله عند حديثه عن مراتب العلماء(1)، حيث جعلها ثلاث مراتب: الأولى هي التي لم يتخلص لصاحبها بعد فهم مقاصد الشريعة فلا يصح منه الاجتهاد واللازم له الكف والتقليد، والثالثة هي مرتبة الراسخين في العلم، ولا خلاف في صحة الاجتهاد من صاحبها، والثانية هي الشاهد هنا وفيها الدلالة على الاستغناء عن الجزئيات.
وقد أورد صفة صاحب هذه المرتبة (الثانية) في العلم، وخلاصتها أنه فهم كليات الشريعة بشكل تام وكامل، ولكنه إذا اجتهد يعمل الكليات ولا يعمل الجزئيات. ثم تساءل الشاطبي إن كان صاحب هذه المرتبة يصح منه الاجتهاد أو لا، وقال إن هذا محل نظر والتباس، ومما يقع فيه الخلاف. ثم ذكر حجج المجيزين لاجتهاده وحجج المانعين، وانتهى إلى أن المسألة باقية الإشكال.
والدليل على أن هذا المنهج يقتضي صحة إهمال الجزئيات أمران:
الأول: قوله إن المسألة باقية الإشكال، وكان الو(3) بحسب أقواله بوجوب إعمال الجزئيات والكليات معاً أن يقف مع المانعين بلا تردد. ولكنه لم يفعل، مما يشير إلى أن المنهج ينسجم مع إهمال الجزئيات لمن استكملت عنده الكليات. وكذلك هو لم يقف مع المجيزين إذ هذا يتناقض مع أقواله بضرورة إعمال الجزئيات والكليات معاً، وهذا ما دعا إلى القول باضطرابه في هذه المسألة.
الثاني: أن حجج المانعين كلها مردود عليها عنده بحسب منهجه وبنصوصه وذلك أثناء إثباته أن الكليات هي قطعيات استقرائية، فلا تُعَارض ولا تنخرم ولا تُخصص. ومع ذلك فهو لم يرد حجج المانعين هنا، ولو ردها لناقض ما سبق أن قرره بضرورة إعمال الجزئيات، إذ هي كلها ترجع إلى إهمال صاحب هذه المرتبة للجزئيات، وفيما يلي ما يوثق المذكور أعلاه:
__________
(1) أنظر: المصدر نفسه، 4/127 - 132.(2/195)
أما في صفة صاحب هذه المرتبة فقال: "أن ينتهي بالنظر إلى تحقيق معنى ما حصل حسب ما أداه إليه البرهان الشرعي بحيث يحصل له اليقين ولا يعارضه شك بل تصير الشكوك إذا وردت عليه كالبراهين الدالة على صحة ما في يديه"(1). ثم قال: "لكنه استمر به الحال إلى أن زل محفوظه عن حفظه حكماً وإن كان موجوداً عنده فلا يبالي في القطع على المسائل أنص عليها أو على خلافها أم لا"(2). ثم تساءل: "فإذا حصل الطالب على هذه المرتبة فهل يصح منه الاجتهاد في الأحكام الشرعية أم لا؟ هذا محل نظر والتباس ومما يقع فيه الخلاف"(3). ثم بين ما يراه حججاً للمجيزين فقال: "وللمحتج للجواز أن يقول: إن المقصود الشرعي إذا كان هذا الطالب قد صار له أوضح من الشمس وتبينت له معاني النصوص الشرعية حتى التأمت وصار بعضها عاضداً للبعض ولم يبق عليه في العلم بحقائقها مطلب فالذي حصل عنده هو كلية الشريعة وعمدة النحلة ومنبع التكليف فلا عليه أنظر في خصوصياتها المنصوصة أو مسائلها الجزئية أم لا. إذ لا يزيده النظر في ذلك زيادة، إذ لو كان كذلك لم يكن واصلاً بعد إلى هذه المرتبة وقد فرضناه واصلاً، هذا خلف.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/127.
(2) المصدر نفسه، 4/128.
(3) الموضع نفسه.(2/196)
ووجه ثانٍ وهو أن النظر في الجزئيات والمنصوصات إنما مقصوده التوصل إلى ذلك المطلوب الكلي الشرعي حتى يبني عليه فتياه ويرد إليه حكم اجتهاده، فإذا كان حاصلاً فالتنزل إلى الجزئيات طلب لتحصيل الحاصل وهو محال ووجه ثالث وهو أن كلي المقصود الشرعي إنما انتظم له من التفقه في الجزئيات والخصوصات، وبمعانيها ترقّى، إلى ما ترقّى، إليه، فإن تكن الحال غير حاكمة عنده لاستيلاء المعنى الكلي فهي حاكمة في الحقيقة لأن المعنى الكلي منها انتظم، ولأجل ذلك لا تجد صاحب هذه المرتبة يقطع بالحكم بأمر إلا وقامت له الأدلة عاضدة وناصرة، ولو لم يكن كذلك لم تعضده ولا نصرته، فلما كان كذلك ثبت أن صاحب هذه المرتبة متمكن جداً من الاستنباط والاجتهاد وهو المطلوب"(1).
وحجج المجيزين هذه كلها تدور حول عدم الحاجة إلى النظر في الجزئيات، لأن فائدة النظر فيها حاصلة من النظر في الكليات.
أما بيانه لما يمكن أن يحتج به المانعون لاجتهاد صاحب هذه المرتبة فقال: "وللمانع أن يحتج على المنع من أوجه"(2). وذكر ثلاثة أوجه:
الأول: إن هذا يتضمن إهمال الجزئي وهو خطأ، ومن لا يعمل الجزئي لا يترقى إلى درجة الاجتهاد، "إذ قد تبين في كتاب الأدلة أن اعتبار الكلي مع اطراح الجزئي خطأ كما في العكس"(3).
__________
(1) الموضع نفسه، ويمكن للقارئ أن يلاحظ قوة وتمكن هذا المجتهد.
(2) الشاطبي، الموافقات،4/128.
(3) المصدر نفسه، 4/129.(2/197)
الثاني: "أن للخصوصيات خواص يليق بكل محل منها ما لا يليق بمحل آخر، كما في النكاح مثلاً فإنه لا يسوغ أن يجري مجرى المعاوضات من كل وجه كما أنه لا يسوغ أن يجري مجرى الهبات والنحل من كل وجه"(1). وقال: "ولكل خاص خاصية تليق به لا تليق بغيره، وكما في الترخصات في العبادات والعادات وسائر الأحكام، وإذا كان كذلك وقد علمنا أن الجميع يرجع مثلاً إلى حفظ الضروريات والحاجيات والتكميليات، فتنزيل حفظها في كل محل على وجه واحد لا يمكن، بل لا بد من اعتبار خصوصيات الأحوال والأبواب وغير ذلك من الخصوصيات الجزئية"(2).
الثالث: "أن هذه المرتبة يلزمها إذا لم يعتبر الخصوصيات ألا يعتبر محالها وهي أفعال المكلفين، بل كما يجري الكليات في كل جزئية على الإطلاق يلزمه أن يجريها في كل مكلف على الإطلاق من غير اعتبار بخصوصياتهم، وهذا لا يصح"(3).
ثم قال على لسان المانعين: "فصاحب هذه المرتبة لا يمكنه التنزل إلى ما تقتضيه رتبة المجتهد فلا يستقيم مع هذا أن يكون من أهل الاجتهاد"(4).
وبالنظر إلى حجج المانعين يتبين أنها كلها ترجع إلى عدم إعمال الجزئيات، وأن الجزئيات لها خصوصياتها الخاصة سواء في الأفعال أو في المكلفين.
__________
(1) الموضع نفسه.
(2) الموضع نفسه.
(3) الموضع نفسه.
(4) الموضع نفسه.(2/198)
وبعد عرض حجج الفريقين قال: "وإذا تقرر أن لكل احتمالٍ مأخذاً كانت المسألة بحسب النظر الحقيقي باقية الإشكال"(1). وهذا الموقف مستغرب ومضطرب، إذ إنه بناء على ما تقرر لديه من وجوب إعمال الكليات والجزئيات معاً ينبغي أن يرد حجج المجيزين بلا تردد، لا أن يستشكل الأمر، وبناء على ما تقرر لديه في كيفية تحصيل الكليات ينبغي أن يرد أدلة المانعين التي تتحدث عن خصوصية الجزئيات وخصوصية المكلفين، إذ إن هذه الأدلة لا تمنع اجتهاد صاحب هذه المرتبة وحسب، وإنما هي تسقط المنهج من أصله إذ تمنع تحصيل الكليات من الجزئيات، ولقد سبق له أن ردها عندما كان الأمر يتعلق بصحة أو خطأ منهجه. قال: "فإن قيل: اقتناص المعاني الكلية من الوقائع الجزئية غير بين من أوجه: أحدها: أن ذلك إنما يمكن في العقليات لا في الشرعيات"(2). "والثاني: أن الخصوصيات تستلزم من حيث الخصوص معنىً زائداً على ذلك المعنى العام أو معاني كثيرة، وهذا واضح في المعقول لأن ما به الاشتراك غير ما به الامتياز"(3). "والثالث: أن التخصيصات في الشريعة كثيرة فيخص محل بحكم ويخص مثله بحكم آخر، وكذلك يجمع بين المختلفات في حكم واحد"(4).
والوجهان الثاني والثالث هنا هما الوجهان الثاني والثالث في حجج المانعين لاجتهاد من لا يعمل الجزئيات، وقد أجاب على هذه الوجوه الثلاثة فقال: "فالجواب عن الأول أنه يمكن في الشرعيات إمكانه في العقليات"(5). "وعن الثاني أنهم لم ينظموا المعنى العام من القضايا الخاصة حتى علموا أن الخصوصيات وما به الامتياز غير معتبرة"(6). "وعن الثالث أنه الإشكال المورد على القول بالقياس فالذي قال به الأصوليون هو الجواب هنا"(7).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 4/129.
(2) المصدر نفسه، 3/170.
(3) الموضع نفسه.
(4) المصدر نفسه، 4/171.
(5) الموضع نفسه.
(6) المصدر نفسه، 4/172.
(7) الموضع نفسه.(2/199)
فلماذا لم يستعمل هذه الأجوبة أو يُحِلْ إليها لرد حجج المانعين. خاصة وأنها تسقط منهجه وليس فقط صحة اجتهاد صاحب هذه المرتبة. وكذلك لماذا لم يسقط حجج المجيزين، خاصة وأنهم يصرحون بصحة بل بلزوم الاستغناء عن الجزئيات بالكليات؟ وبدلاً من ذلك اضطرب واستشكل الأمر وتوقف عن قبول أي من القولين أو رده، وآثر إبقاء الأمر محل التباس ونظر. وصرح بأن المسألة بحسب النظر الحقيقي باقية الإشكال. إن أقل ما يمكن تأكيده هو أن اعتبار الأمر محل نظر وفيه إشكال هو تشكيك بما تقرر لديه وهو ضرورة إعمال الجزئيات والكليات معاً، وهو قبول منه لصحة إعمال الكليات وإهمال الجزئيات. وهي نتيجة شنيعة للمنهج وتعود عليه بالإبطال.
ملاحظات أخرى:
وثمة ملاحظات واعتراضات أخرى على منهج الشاطبي، مثل رفضه لتخصيص الكليات وتقييدها ورفضه للاستثناء منها، ومثل قوله في المباح وفي الرخصة.
فالمباح مثلاً هو ما خير الشارع فيه بين الفعل والترك، وهذا ينقض أصل أن الشريعة وضعت لأجل مصالح العباد، ينقضه حسب منهجه وذلك أن هذا الأصل عنده كلي قطعي لا يتخلف ولا ينخرم، وإلا فإنه لا يكون كلياً ولا يكون أصلاً. والإباحة هي مساواة بين طلب الفعل وطلب الترك، وبحسب الأصل فإن طلب الفعل يعني أن هناك مقصوداً للشارع من الفعل، وطلب الترك يعني أن هناك مفسدة يؤول إليها الفعل، والشارع يقصد رفعها فيتناقض مفهوم الإباحة مع هذا الأصل، وهذا ينقض المنهج كله، لذلك ذهب الشاطبي إلى أن الإباحة بهذا المعنى هي إباحة بالجزء. والمباح بالجزء إما أن يكون مطلوباً بالكل أو منهياً عنه بالكل. فهو بهذا ينفي وجود الإباحة بالكل. وهذه ليست إلا محاولة لتصحيح فكرته أو ترقيع فتوقها. وعلى كل حال فهذه المشكلة باقية إذ المباح بالجزء حكم شرعي موجود، وهذا ينقض الفكرة باعتبارها كلية لا تتخلف ولا تخضع للاستثناء.(2/200)
والرخصة كذلك تتناقض مع أصل وضع الشريعة للمصالح إذا كانت لا ترجع إلى مشقة معنتة، كسفر الملك المترفِّه، وذلك أنه بينها وبين العزيمة تنافٍ، فإذا كان مقصود الشارع موجود في العزيمة، فالرخصة تنقض الأصل إذا كانت جائزة من غير ضرورة أو حاجة، لذلك ذهب إلى إلحاق الرخص بقسم المباح بالجزء المطلوب الترك بالكل. ولكن الرخصة حكم شرعي موجود وهذا لا يستقيم مع الأصل الكلي بحسب معنى الكلية عنده، لذلك اضطر الشاطبي لأن يعارض أصوله، قال: "ما شرع من الرخص فإن شرعية الرخص جزئية يقتصر فيها على موضع الحاجة فإن المصلي إذا انقطع سفره وجب عليه الرجوع إلى الأصل من إتمام الصلاة وإلزام الصوم"(1). وقال: "فالحاصل أن العزيمة راجعة إلى أصل كلي ابتدائي والرخصة راجعة إلى جزئي مستثنىً من ذلك الأصل الكلي"(2). والشاهد أن الشاطبي اضطر إلى قبول الاستثناء من الكليات، وهذا يتناقض مع خواص الكليات عنده، وبالتالي فإنه يتناقض مع المنهج.
الخاتمة
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/211.
(2) الموضع نفسه.(2/201)
إن الموقف من منهج الشاطبي ليس هو الموقف من الشاطبي نفسه، ولا يصح هذا أن يكون، بل إن الباحث ليشعر وهو يقدم فكرة المقاصد عند الشاطبي - كما فهمها - إلى الباحثين، والمهتمين بها وبأصول الفقه عموماً، إنه ليشعر أن أكثر شخص يقدم إليه نقضها هو الشاطبي نفسه، وذلك لما تولد لدى الباحث من حب تجاه رجل جمع بين العبقرية والإيمان وبين العلم والخلق وبين الهمة والورع، ارتقت به عقليته فحملته نفسية ملؤها الخوف والرجاء على أن يرتقي بها فطمع طمع العابدين العاملين. وسمت به نفسيته فحملته عقلية ملؤها الفكر والحكمة على أن يسمو بها فزهد زهد العابدين الشاكرين، واقترنت العقلية الراقية بالنفسية السامية في شخص مؤمن، فولد اللقاء حب الله، وأثمر الإيمان حلاوته، واستقام السالك على طريقته، ولما رأى الباحث إعثار السالك، ووعورة المسالك، انضاف إلى الحب والود رحمةٌ وإشفاق، وهو يرى العالم الجليل والمبصر المستنير، تصده غاية الطريق عن الطريق وتعميه عن الدقائق نتائج الحقائق. فتمنى أن لو كان تلميذاً له، ورفيقاً، يهديه مع العينين عينين، ويكفيه ما يلفته عن الإبصار، أو يصده عن الإدراك. فإن العظماء الكبراء المتقين نادرون، ويمرون متباعدين، ولا عصمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد، فلأن يعانوا في طاعة الله، ويخدموا في خدمة أمر الله، لَهُوَ من البر والطاعة، ولأن يسعى إلى تصويبهم بأدب، وتبصيرهم بحكمة، وإلى طاعتهم والتقرب إليهم بإخلاص لله وتقوى، لهو عمل عظيم كعظمة أعمالهم، ومفيد كفائدة إنتاجهم، وهو فرصة أندر منهم. وإن الخطأ والزلة منهم لخسارة لمن معهم، ولمن حولهم، وإن كانوا مأجورين.
إن ما عند الباحث تجاه الشاطبي من مودة وتقدير واحترام يجعل الشاطبي أول من يقدم إليه نقض فكرته. ويجعل من حمل هم الشاطبي أول من يقدم إليه هذا البحث مع ما انتهى إليه من نقض.(2/202)
إن ما قام به الشاطبي هو محاولة إصلاح في علم أصول الفقه لتصحيح ما يراه أخطاءً عمت، ولتركيز ما يراه أصولاً أغفلت، ولاطراح ما فيه مما ليس منه، وللتنبيه إلى مواضع يظن فيها الخلاف ولا خلاف. وللتصحيح والضبط في مباحث في أصول الفقه، نمت وتطورت وتشعبت وانفكت عن أصولها وضوابطها.
من ذلك مثلاً رفضه للمفهوم السائد للمصلحة والمفسدة، فهو وإن قال بالتعليل بجلب المصالح ودرء المفاسد، وظهر بادئ الرأي، كما ظن كثير من غير المدققين بأنه يجعل المصلحة أساساً للتشريع، فهو في الحقيقة قد نسف هذا الفهم، ورفع فكرة التعليل هذه من طريق، ووضعها في طريق آخر ومعاكس. وهذا مما يشهد له به. وهو من أهم مقصوداته في كتابه. لذلك أشار إليه في مبتدأ خطبة كتابه، فقال: "فلقد كنا قبل شروق هذا النور نخبط خبط العشواء وتجري عقولنا في اقتناص مصالحنا على غير السواء، لضعفها عن حمل هذه الأعباء ومشاركة عاجلات الأهواء، على ميدان النفس التي هي بين المنقلبين مدار الأسواء، فنضع السموم على الأدواء مواضع الدواء، طالبين للشفاء كالقابض على الماء، ولا زلنا نسبح بينهما في بحر الوهم فنهيم، ونسرح من جهلنا بالدليل في ليل بهيم، ونستنتج القياس العقيم، ونطلب آثار الصحة من الجسم السقيم، ونمشي إكباباً على الوجوه، ونظن أنا نمشي على الصراط المستقيم، حتى ظهر محض الإجبار في عين الأقدار، وارتفعت حقيقة أيدي الاضطرار إلى الواحد القهار"(1).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/2.(2/203)
وهو بقوله بمقاصد الشريعة جاء ليصحح خطأ من زل به فهمه فرأى مقاصد الشريعة وكأنها مقاصد أو مصالح الناس كما يراها الناس، فجاء ليفصل بين النوعين، وليقول إن مقاصد الشريعة هي مقاصد للشارع، وهي تؤخذ من الشريعة، وغير ذلك وهم وتخييل. وأول مقاصد الشريعة إذا جاء الأمر أو النهي هو الخضوع والتقيد، فالمقصد الأول من قوله تعالى افعل هو إيقاع الفعل، والمقصد الأول من قوله تعالى لا تفعل هو الكف عن الفعل. وبهذا يكون العبد، وهو عبدٌ اضطراراً، عبداً اختياراً. وهذا مما يشهد له به.
وهو بقوله إن الشريعة إنما وضعت لأجل مصالح العباد في الدارين، وإن وافق قوله هذا قول كثيرين غيره، فإنه بمفهومه الجديد للمصلحة والمفسدة، وبمنهجه في كيف تعد المصلحة مصلحة والمفسدة مفسدة، قلب معنى هذا القول ليصبح متفقاً مع قول إن العباد خلقوا لأجل الشريعة. { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (1)، وبذلك فقد قصد إلى منع تجاوز حدود الشريعة بحجة المصالح والمقاصد، وهذا مما يشهد له به.
وهو بقوله إن الأحكام الشرعية التي جعلها الشارع طريقاً إلى غايات شرعية لا يصح أن تتخذ طريقاً إلى غير غاياتها التي جعلها الشارع غاياتٍ لها، والغاية الشرعية لا يصح أن يتخذ إليها طريق غير ما جعله الشارع طريقاً إليها، قد حاول منع التلاعب بالدين بحجة مقاصده، وحمى فكرته من أن يتوسل بها إلى غير ما أراده منها، وهذا مما يشهد له به.
__________
(1) الذاريات، 56.(2/204)
وهو رغم الخطأ في منهجه، في أساسه وأركانه، فإنه لم يبنِ عليه فروعاً شاذة. فكان إذا اقتضت أصوله نتائج غير مستساغة كان يتوقف ولا يمضي غير آبه، فكان يرده ورعه عن الاسترسال. فهو عندما أوصله منهجه إلى الاستغناء بالكليات عن الجزئيات توقف ولم يدفعه كونه بذل أقصى جهده في سبيل وضع فكرته التي هي جنى عمره، لم يدفعه ذلك إلى القول الشنيع، بل توقف مستشكلاً، وكأنه يتوقع لمنهجه من يتابعه فيه فيتوفر لهذا الإشكال من يحله.
وكذلك عندما قرر أن خبر الآحاد إن لم يرجع إلى معنى قطعي فإنه يتوقف فيه، فكأنه كان في قرارة نفسه لا يستسيغ التوقف في إعمال حديث ليس له معارض شرعي، بل لمجرد أنه لا يرجع إلى معنى قطعي، لذلك قال بندور هذه الحالة، وليس ما يضير حينئذٍ في إعمال هكذا حديث محتجاً بأن العلماء قد أعملوا المناسب الغريب، وألحق هذا به. لذلك، فمع ظهور فساد المنهج لم يظهر عند الشاطبي فروع شاذة، فكأنه رغم إيمانه بمنهجه وأصوله، كان يشعر بأن السلامة هي في موافقة السابقين من السلف الصالح والعلماء الصالحين فيما صدر عنهم في الفقه، فكان يجتهد في عدم مخالفتهم، رغم ما قد يجره عليه هذا من اتهام بالتناقض.(2/205)
ورغم نقض فكرة الشاطبي ومنهجه، فإن كتاب الموافقات كتاب متكامل تقريباً في أصول الفقه، فهو وإن لم يفصل فيه لأبحاث ومسائل الإجماع والقياس، فإن ما جاء فيه أصول لها، والتنقيب في كتابه يشير إلى آرائه في ذلك، وهو مليء بالفوائد الأصولية والفقهية، منضبط في عبارته وصياغته وترتيبه. انطلق فيه مؤلفه جاداً وبِهِمَّة، وهو يحمل قصداً علمياً وموضوعياً. أفكاره مترابطة، اللاحق فيها مبني على السابق، عميق الفكر إلى أبعد حد، فيه استقصاء لا يستطيعه إلا الجاد الصبور ذو الأفق الواسع. ولا يتناقض هذا مع القول بخطأ المنهج وتناقضه. فإن الخطأ هذا والتناقض مرجعهما إلى الاستقراء الناقص وتوهم أنه تام، وإلى الورع الذي يجعله ينثني أحياناً عن حكم المنهج إما مستشكلاً وإما معتمداً على أن النادر لا حكم له. فخطأ الاجتهاد والاستنتاج لا يغض من المكانة العلمية والقدرة الفكرية. وجل من لا يخطئ، ولكن خطر خطئه يرجع إلى أنه في الأصول وليس في الفروع.
إن دراسة الموافقات دراسة تحليلية ومتابعة أفكاره في شتى مواضعها مع الاعتبار بأن كلماته وجمله ومسائله وترتيبها كل ذلك مختار مقصود، تؤكد أن الشاطبي يحمل هماً ويقصد أمراً جليلاً - بنظره - وأنه قد أمضى سنين عديدة تراوده الأفكار، اتخذ أثناءها القرآن سميراً وأنيساً وجليساً، يتفكر ويتدبر ولا يجد لأفكاره أصلاً تقوم عليه ولا رابطاً يجعل منها كياناً أو منهجاً، هائم الفكر في البحث عن أدلة تعتضد بها أفكاره فيبعث فيها الحياة. ولما لم يجد، حطَّ رحال الفكر على الاستقراء.(2/206)
وقد كان حقيقاً بالإشفاق، فإن الشعور بعظمة الاختراع، في عزلةٍ، لفقدان المصدقين والأتباع، مع فقدان الدليل ومر السنين، وقلة المذاكرين وعدم الناصحين، يبعث على تصديق الخيال، وفك العقل من عقال، كالمتعطش الظمآن يبذل حياته دون السراب. فلعل الشاطبي - رحمه الله وجزاه عن مجهوده خير الجزاء - وقع على الاستقراء أو وقع الاستقراء عليه، فقفز عن حقيقة أن هذا إن صح في العقليات فلا يصح في الشرعيات، فكان كمن قفز إلى البحر هرباً من الموت حرقاً إلى الموت غرقاً، ثم بدأ ينسج من خياله حبالاً يتعلق بها. وبعثور الشاطبي على الاستقراء كان كمن بعث الروح في جسد أفكاره. لذلك سمى الاستقراء روحاً في أكثر من موضع في كتابه، ومما يشير إلى هذا وصفه لمعاناته في وضع كتابه: "فلقد قطع في طِلاب هذا المقصود مهامه فِيحَا، وكابد من طوارق طريقه حسناً وقبيحاً، ولاقى من وجوهه المعترضة جهماً وصبيحاً، وعانى من راكبته المختلفة مانعاً ومبيحاً، فإن شئت ألفيته لتعب السير طليحاً، أو لما حالف من العناء طريحاً، أو لمحاربة العوارض الصادة جريحاً، فلا عيش هنيئاً ولا موت مريحاً، وجملة الأمر في التحقيق، أن أدهى ما يلقاه السالك للطريق، فَقْدُ الدليل، مع ذهنٍ لعدم نور الفرقان كليل، وقلب بصدمات الأضغاث عليل، فيمشي على غير سبيل، وينتمي إلى غير قبيل، إلى أن من الرب الكريم، البر الرحيم، الهادي من يشاء إلى صراط مستقيم، فبعثت له أرواح تلك الجسوم، وظهرت حقائق تلك الرسوم وبدت مسميات تلك الوسوم"(1).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/6.(2/207)
وقد كان الشاطبي يرى أن هناك حائرين مثله، ويتوقع أن يقبلوا على ما جاء به ويتابعوه فيه، وكان معتزاً بذلك اعتزازاً كبيراً يوافي معاناته في ذلك واجتهاده، فزين فكرته ودعا إلى التكميل فيها، لم يدرِ أنه خنقها أثناء ولادتها. قال: "أما بعد أيها الباحث عن حقائق أعلى العلوم، الطالب لأسنى نتائج الحلوم، المتعطش لأحلى موارد الفهوم، الحائم حول حمى ظاهر المرسوم، طمعاً في إدراك باطنه المرقوم، معاني مرتوقةً في فتق تلك الرسوم، فإنه قد آن لك أن تصغي إلى من وافق هواك هواه، وأن تطارح الشجى من ملكه مثلك شجاه، وتعود إذ شاركته في جواه محل نجواه، حتى يبث إليك شكواه، لتجري معه في هذا الطريق من حيث جرى، وتجري في غبشه الممتزج ضوؤه بالظلمة كما سرى، وعند الصباح تحمد إن شاء الله عاقبة السرى"(1). وقال واصفاً كتابه للمقبل عليه: "ليكون أيها الخل الصفي والصديق الوفي، هذا الكتاب عوناً لك في سلوك الطريق، وشارحاً لمعاني الوفاق والتوفيق"(2). وقال: "لا جرم أنه قرب عليك في المسير، وأعلمك كيف ترقى في علوم الشريعة وإلى أين تسير، ووقف بك من الطريق السابلة على الظهر، وخطب لك عرائس الحكمة ثم وهب لك المهر، فقدِّم قَدَم عزمك، فإذا أنت بحول الله قد وصلت"(3). ثم قال: "وعند ذلك فحق على الناظر المتأمل، إذا وجد فيه نقصاً أن يكمل، وليحسن الظن بمن حالف الليالي والأيام واستبدل التعب بالراحة والسهر بالمنام، حتى أهدى إليه نتيجة عمره ووهب إليه يتيمة دهره"(4).
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 1/5.
(2) المصدر نفسه، 1/8.
(3) الموضع نفسه.
(4) المصدر نفسه، 1/9.(2/208)
وبغض النظر عن منهج الشاطبي أو فكرته، فإن ما قصده حريٌّ بأن يقصد، وهو الرجوع إلى الأصول وتنقيحها والتوفيق فيها، بإزالة الخلاف المبني على اختلاف الاصطلاحات وسوء الفهم، وبإزالة الأفكار الدخيلة التي لا ثمرة لها أو التي لا دخل لها في أصول الفقه وإنما حشرت في مباحثه بسبب علم الكلام.
ولا يكون هذا الإصلاح إلا بعلماء حقيقيين، يرجعون إلى الجذور، إلى القرآن والسنة وما يرشدان إليه، يتعلمون منها ويعملون بها، ويتحررون من عقد الفكر الغربي وموافقته، لا يقيمون وزناً ولا اعتباراً لعرف لا يقره الإسلام وإن عمَّ، ولا لفكر أو حكم لا ينبثق عن عقيدته وإن ساد. لا يخجلون ولا يضطربون أمام مناقضة أحكام الإسلام التي صارت غريبة لأفكار ومفاهيم الحضارة الغربية المتخلفة والمنحطة وإن كانت سائدة أو جديدة، يسعون إلى سيادة الإسلام عقيدةً ونظاماً لا إلى التوفيق بينه وبين غيره بذرائع مرونة دعية وتطويرٍ زنيم.
هذا الإصلاح يقوم به علماء حقيقيون يتحررون من الأفهام اللقيطة لألفاظ مثل الوسطية والمقاصد والتجديد والاعتدال والحوار والحرية وما شابه ذلك، التي تؤخذ ويدعى إليها بمعانٍ مبتورةٍ عما جاء به الإسلام، وفهمه الصحابة الكرام والعلماء الصالحون.
هذا الإصلاح يقوم به علماء حقيقيون علموا أنهم ينبغي أن يكونوا ورثة الأنبياء، فقاموا بهمة، وجدُّوا بعزم، فانطلقوا واثقين، ونطقوا صادقين، ليشهدوا على البشرية، { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (1).
نعم، إن للشريعة مقاصد، ولكنها مقاصد الشريعة ومقاصد الشارع، وليست أهواء النفوس، وليس من معنى مقاصد الشريعة مرونة الإسلام أو أحكامه فتطوى أو تلوى أو تتمدد أو تتقلص لتتفق مع أي واقع أو لتتشكل بما يرضي هذه الجهة أو تلك، ثم يقال: هذا لا ينكر فالإسلام متطور!
__________
(1) سورة البقرة، 143.(2/209)
والشريعة جاءت بالقياس وبالتعليل، والأصل في المعاملات أو العادات هو التعليل، وفي العبادات التعبد وعدم التعليل. ولكن العلة هي ما جاء في مسلك شرعي أو دل عليه الدليل الشرعي، وتوفرت له شروط العلة، وليست العلة خيالات الأذهان ومقترحات العقول، فضلاً عن أن تكون مزاعم المحرفين.
وفي ختام هذه الخاتمة أسأل الله تعالى للشاطبي الرحمة وجزيل الأجر والثواب، وأسأله تعالى أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به. كما وأسأله تعالى العفو والمغفرة عما شطح به القلم أو زل به اللسان أو تجاوز فيه الفكر والخيال، كما وأسأله تعالى جزيل الأجر والثواب لكل من علمني ونصحني وأفادني في هذا العلم وفي هذا الكتاب، وأن يغفر لي ولوالدَيَّ وللمؤمنين.
* * *
المصادر والمراجع
¨ القرآن الكريم.
¨ آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، تحقيق: بسام عبد الوهاب الجابي، دار البشائر الإسلامية ـ بيروت، ط2، 1411هـ - 1990م.
¨ الاتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي الشافعي، دار الفكر - بيروت، بهامشه كتاب إعجاز القرآن للقاضي أبي بكر الباقلاني.
¨ أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي، مصطفى ديب البغا، دار الإمام البخاري، دمشق.
¨ الإحكام في أصول الأحكام، أبو محمد بن حزم الظاهري، دار الكتب العلمية - بيروت، ط1، 1405هـ - 1985م.
¨ الإحكام في أصول الأحكام، علي بن أبي علي بن محمد الآمدي، تحقيق: الشيخ إبراهيم العجوز، دار الكتب العلمية - بيروت.
¨ إحياء علوم الدين، الإمام أبو حامد محمد الغزالي، دار المعرفة - بيروت.
¨ إدرار الشروق على أنواء الفروق، أبو القاسم الأنصاري المعروف بابن الشاط، عالم الكتب - بيروت، مطبوع بهامش كتاب الفروق للقرافي.
¨ إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، دار الفكر - بيروت.(2/210)
¨ الأسس المنطقية للاستقراء، محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات - بيروت، ط5، 1406هـ - 1986م.
¨ الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، جلال الدين بن عبد الرحمن السيوطي، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي - بيروت، ط2، 1412هـ - 1993م.
¨ الأشباه والنظائر، تاج الدين عبد الوهاب السبكي، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، دار الكتب العلمية - بيروت، 1422هـ - 2001م.
¨ الأشباه والنظائر، زين الدين بن إبراهيم، ابن نجيم الحنفي، تحقيق: محمد مطيع الحافظ، دار الفكر المعاصر - بيروت ودار الفكر - دمشق، ط2، 1420هـ - 1999م.
¨ أصول السرخسي، الإمام أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، تحقيق: أبو الوفا الأفغاني، بيروت - لبنان.
¨ أصول فخر الإسلام البزدوي، فخر الإسلام البزدوي، دار الكتب العلمية ـ بيروت، ط1، 1418هـ - 1997م، مطبوع مع شرحه: كشف الأسرار، لعلاء الدين البخاري.
¨ أصول الفقه، الشيخ محمد أبو زهرة، لا ذكر للدار أو التاريخ.
¨ أصول مذهب الإمام أحمد، عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة ـ بيروت، ط4، 1416هـ - 1996م.
¨ الاعتصام، أبو إسحاق الشاطبي، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي - بيروت، ط2، 1418هـ - 1998م.
¨ إعلام الموقعين عن رب العالمين، محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل - بيروت.
¨ الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين ـ بيروت، ط1، 1412هـ - 1992م.
¨ الإفادات والإنشادات، أبو إسحاق الشاطبي، تحقيق: محمد أبو الأجفان، مؤسسة الرسالة ـ بيروت، ط2، 1406هـ - 1986م.
¨ الأم، الإمام محمد بن إدريس الشافعي، دار المعرفة ـ بيروت.
¨ البحر المحيط في أصول الفقه، محمد بن عبد الله بدر الدين الزركشي، تحقيق: محمد محمد تامر، دار الكتب العلمية ـ بيروت، ط1، 1421هـ - 2000م.(2/211)
¨ برنامج المُجاري، أبو عبد الله محمد المُجاري، تحقيق: محمد أبو الأجفان، دار الغرب الإسلامي - بيروت، ط1، 1982م.
¨ البرهان في أصول الفقه، إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني، تحقيق: عبد العظيم محمود الديب، دار الوفاء - المنصورة، ط3، 1412هـ - 1992م.
¨ التاريخ الإسلامي، إبراهيم الشريفي، مؤسسة نوفل - بيروت، ط2، 1391هـ - 1971م.
¨ تاريخ المغرب والأندلس، من القرن السادس الهجري حتى القرن العاشر الهجري، تأليف: 1- د. أحمد عودات، 2- د. شحادة الناطور، 3 - د. أحمد محاسنة، 4 - د. جميل بيضون، دار الأمل - إربد، الأردن، ط1، 1410هـ - 1990م.
¨ تجديد أصول الفقه، حسن الترابي.
¨ التعريفات، أبو الحسن علي الحسيني الجرجاني الحنفي، تحقيق: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية ـ بيروت، ط1، 1421هـ - 2000م.
¨ تيسير التحرير على التحرير، محمد أمين المعروف بأمير بادشاه، وهو شرح لكتاب التحرير لابن همام الإسكندري الحنفي، دار الكتب العلمية ـ بيروت.
¨ جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، ابن رجب الحنبلي، تحقيق: فؤاد بن علي حافظ، مؤسسة الريان ـ بيروت، ط2، 1421هـ - 2000م.
¨ الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، دار الكتاب العربي - بيروت.
¨ حاشيتا التفتازاني والجرجاني على مختصر المنتهى الأصولي لابن الحاجب المالكي، دار الكتب العلمية - بيروت.
¨ الحريات العامة في الدولة الإسلامية، راشد الغنوشي، مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت، ط1، أغسطس، 1993م.
¨ الرسالة، الإمام محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار الكتب العلمية - بيروت.
¨ روضة الناظر وجنة المناظر، ابن قدامة المقدسي، تحقيق: سيف الدين الكاتب، دار الكتاب العربي - بيروت، ط1، 1401هـ - 1981م.
¨ سلّم الوصول لشرح نهاية السول، الشيخ محمد بخيت المطيعي، مطبوع مع نهاية السول للإسنوي، عالم الكتب.(2/212)
¨ الشاطبي ومقاصد الشريعة، حمادي العبيدي، دار قتيبة - بيروت، ط1، 1412هـ - 1992م.
¨ الشخصية الإسلامية، الجزء الثالث، الشيخ تقي الدين النبهاني، 1372هـ - 1953م.
¨ شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول، شهاب الدين القرافي المالكي، دار الفكر - القاهرة، ط1، ذو الحجة، 1393 - ديسمبر 1973.
¨ شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل، أبو حامد محمد الغزالي، تحقيق: حمد الكبيسي، مطبعة الإرشاد ـ بغداد، ط1، 1390هـ - 1971م.
¨ ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، محمد سعيد رمضان البوطي، مؤسسة الرسالة، الدار المتحدة، ط5، 1410هـ - 1990م.
¨ فتح الباري بشرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، دار المعرفة - بيروت.
¨ الفروق: أنوار البروق في أنواء الفروق، شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي المالكي، عالم الكتب - بيروت، ومعه إدرار الشروق على أنواء الفروق لابن الشاط، وتهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية لمحمد بن علي بن حسين المكي.
¨ فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت، عبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري، مطبوع مع المستصفى للغزالي، المطبعة الأميرية ببولاق مصر المحمية، سنة 1322هـ.
¨ القاموس المحيط، مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، مؤسسة الرسالة، إشراف: محمد نعيم العرقسوسي، ط4، 1415هـ - 1994م.
¨ قواعد الأحكام في مصالح الأنام، عز الدين بن عبد السلام، مؤسسة الريان - بيروت، طبعة جديدة منقحة، 1410هـ - 1990م.
¨ كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، علاء الدين عبد العزيز البخاري، تحقيق: عبد الله محمود محمد عمر، دار الكتب العلمية - بيروت، ط1، 1418هـ - 1997م.
¨ لسان العرب، جمال الدين بن منظور، دار صادر - بيروت.
¨ اللمحة البدرية، لسان الدين ابن الخطيب، تحقيق: محي الدين الخطيب، المطبعة السلفية ـ القاهرة، ط1، 1374هـ.(2/213)
¨ المبسوط، شمس الدين بن أبي سهل السرخسي، دار المعرفة - بيروت، ط3، أعيد طبعه بالأوفست، 1398هـ ـ 1978م.
¨ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي، دار الكتاب العربي ـ بيروت، ط3، 1402هـ - 1982م.
¨ المحصول في علم أصول الفقه، فخر الدين الرازي، تحقيق: طه جابر العلواني، مؤسسة الرسالة، ط2، 1412هـ - 1992م.
¨ المستصفى في علم أصول الفقه، أبو حامد محمد الغزالي، المطبعة الأميرية ببولاق مصر المحمية، 1322هـ.
¨ المسوَّدة في أصول الفقه، تصنيف ثلاثة من آل تيمية: مجد الدين، وشهاب الدين وتقي الدين بن تيمية، جمعها شهاب الدين الحراني الدمشقي، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الكتاب العربي - بيروت.
¨ مشكاة الأنوار، مجموعة رسائل الإمام الغزالي، دار الكتب العلمية - بيروت، ط1، 1414هـ - 1994م.
¨ المعتمد في أصول الفقه، أبو الحسين البصري المعتزلي، تقديم: الشيخ خليل الميس، دار الكتب العلمية - بيروت، ط1، 1403هـ - 1983م.
¨ مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، علال الفاسي، مكتبة الوحدة الإسلامية - الدار البيضاء، 1382هـ - 1963م.
¨ مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر بن عاشور، الشركة التونسية للتوزيع - تونس، ط3، ديسمبر 1988م.
¨ المنخول من تعليقات الأصول، أبو حامد محمد الغزالي، تحقيق وتعليق: محمد حسن هيتو، دار الفكر، دمشق، ط2، 1400هـ - 1980م.
¨ منهاج الوصول إلى علم الأصول، القاضي ناصر الدين بن عمر بن علي البيضاوي، ومعه نهاية السول للإسنوي، وسلم الوصول لمحمد بخيت المطيعي، عالم الكتب.
¨ المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، الإمام محيي الدين النووي، تحقيق: خليل مأمون شيحا، دار المعرفة - بيروت، ط1، 1414هـ - 1994م.(2/214)
¨ الموافقات، أبو إسحاق الشاطبي، المجلد الأول ويحتوي الجزأين الأول والثاني بتحقيق: محمد حسين الخضر التونسي، والمجلد الثاني ويحتوي الجزأين الثالث والرابع بتحقيق: محمد حسنين مخلوف، دار الرشاد الحديثة - الدار البيضاء.
¨ الموافقات، أبو إسحاق الشاطبي، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان - جمهورية مصر العربية، ط1، 1421هـ.
¨ الموافقات، أبو إسحاق الشاطبي، تحقيق: الشيخ عبد الله دراز، دار المعرفة - بيروت.
¨ نصب الراية لأحاديث الهداية، عبد الله بن يوسف بن محمد الحنفي الزيلعي، دار إحياء التراث العربي - بيروت، ط3، 1407هـ - 1987م.
¨ نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، أحمد الريسوني، الدار العالمية للكتاب الإسلامي والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط4، 1416هـ - 1995م.
¨ نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب، أبو العباس أحمد المقرِّي، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر - بيروت.
¨ نهاية السول في شرح منهاج الأصول، جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي، عالم الكتب، بهامشه شرح نهاية السول للشيخ محمد بخيت المطيعي.
¨ نيل الابتهاج بتطريز الديباج، أحمد بابا التنبكتي، (بهامش الديباج لابن فرحون)، مكتبة السعادة - مصر، 1329هـ.
¨ نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار، محمد بن علي الشوكاني، دار القلم - بيروت.
¨ القرص المضغوط (C.D) برنامج موسوعة الحديث الشريف، شركة صخر، الإصدار الثاني، بترقيم العالمية، ويحتوي على الكتب التسعة التالية:
- صحيح البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري.
- صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري.
- الجامع الصحيح، سنن الترمذي،أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي.
- سنن النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي.
- سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي.
- سنن ابن ماجة، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني.(2/215)
- مسند الإمام أحمد، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد.
- موطأ الإمام مالك، أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر.
- سنن الدارمي، أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي.
¨ مجلة (الصراط المستقيم)، أمريكا - ولاية فرجينيا، العدد: 59، سنة 1417هـ.
¨ مجلة (الوعي)، لبنان، العدد: 88، سنة 1415هـ - 1994م.
¨ مجلة (الوعي)، لبنان، الأعداد: 115، 116، 117، 118، سنة 1417هـ - 1997م.
¨ جريدة الحياة، العدد: 12615، 13 أيلول، 1997م.
فهرس الآيات
الآية أو الجزء من الآية ... رقمها ... السورة ... الصفحة
{ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } ... 71 ... الأعراف ... 496
{ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } ... 1 ... النصر ... 355
{ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } ... 15 ... النور ... 225، 516
{ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا } ... 20 ... المعارج ... 286
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } ... 39 ... الحج ... 175، 179
{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا } ... 115 ... المؤمنون ... 254
{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } ... 23 ... الجاثية ... 235
{ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } ... 14 ... محمد ... 235
{ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } ... 78 ... الإسراء ... 59
{ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ } ... 11، 43، 83 ... البقرة وغيرها ... 140، 484، 504
{ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } ... 20 ... الليل ... 290
{ إِلَّا تَذْكِرَةً } ... 3 ... طه ... 143
{ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } ... 39 ... التوبة ... 244
{(2/216)
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } ... 2 ... الملك ... 131، 174، 178
{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي çmنـ 6y‚tFtƒ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } ... 275 ... البقرة ... 522
{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } ... 2 ... النور ... 223
{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } ... 172 ... الأعراف ... 175، 180
{ * اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } ... 12 ... الجاثية ... 273
{ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } ... 62 ... الزمر ... 347
{ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } ... 42 ... الزمر ... 523
{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } ... 3 ... المائدة ... 150، 352، 353، 356، 482
{ * إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) } ... 19، 20، 21 ... المعارج ... 286
{ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } ... 40 ... يوسف ... 6
{ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } ... 101 ... الأنبياء ... 345
{ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } ... 27، 28 ... النجم ... 495
{ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ } ... 57 ... الأحزاب ... 367
{(2/217)
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } ... 6 ... فاطر
{ إِن الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } ... 45 ... العنكبوت ... 175، 173
{ * إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ... 90 ... النحل ... 242
{ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } ... 1 ... المائدة ... 522
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ... 9 ... الحجر ... 150، 151، 199، 482
{ إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } ... 29 ... الأنفال ... 401
{ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } ... 41 ... التوبة ... 244
{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } ... 98 ... الأنبياء ... 345
{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } ... 98 ... الأنبياء ... 345، 347
{ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } ... 90 ... المائدة ... 223
{ ج* إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ } ... 60 ... التوبة ... 62
{ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ } ... 91 ... المائدة ... 86
{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } ... 9 ... الإسراء ... 352
{ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } ... 4 ... النجم ... 502
{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } ... 23 ... النجم ... 495
{ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ } ... 23 ... النجم ... 235
{ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } ... 43 ... النساء ... 367
{(2/218)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ } ... 47 ... النحل ... 220
{ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ } ... 67 ... الأنفال ... 289
{ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ... 17 ... السجدة ... 61
14 ... الأحقاف
24 ... الواقعة
{ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ } ... 187 ... البقرة ... 222
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } ... 3 ... المائدة ... 223، 505
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } ... 23 ... النساء ... 465
{ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } ... 62 ... الزمر ... 347
{ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } ... 49 ... الدخان ... 332
{ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى } ... 260 ... البقرة ... 366
{ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } ... 286 ... البقرة ... 231، 236
{ رَجْمًا بِالْغَيْبِ } ... 22 ... الكهف ... 365
{ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } ... 165 ... النساء ... 422
{ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } ... 165 ... النساء ... 174، 175
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ } ... 14 ... آل عمران ... 286
{ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ } ... 158 ... الأعراف ... 217
{ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } ... 23 ... البقرة ... 332
{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ } ... 10 ... الجمعة ... 442
{ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ } ... 187 ... البقرة ... 222
{ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } ... 7 ... آل عمران ... 337
{(2/219)
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ } ... 92 ... النساء ... 382
{ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } ... 16 ... البروج ... 522
17 ... هود
{ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } ... 22 ... البقرة ... 361، 364
{ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } ... 23 ... الإسراء ... 101، 341
{ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } ... 78 ... النساء ... 355
{ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } ... 29 ... الكهف ... 367
{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } ... 7 ... الزلزلة ... 341
{ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } ... 150 ... البقرة ... 175، 179
{ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } ... 108 ... الأنعام ... 421
{ قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ } ... 168 ... الشعراء ... 225، 516
{ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } ... 260 ... البقرة ... 366
{ * قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا } ... 14 ... الحجرات ... 366
{ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ } ... 43، 44 ... المدثر ... 365
{ قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا } ... 107 ... الإسراء ... 339
{ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ } ... 22 ... الكهف ... 366
{ * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا } ... 50 ... الإسراء ... 332، 339
{ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } ... 14 ... الحجرات ... 366
{ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ... 111 ... البقرة ... 496
64 ... النمل
{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } ... 108 ... يوسف
{ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ } ... 148 ... الأنعام ... 496
{(2/220)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ... 183 ... البقرة ... 175، 179، 421، 521
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ } ... 216 ... البقرة ... 422
{ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } ... 7 ... الحشر ... 61
{ لِئَلَّا tbqن3tƒ } ... 150 ... البقرة ... 179، 521
{ xy¥د9 tbqن3tƒ ؤ¨$¨Y=د9 } ... 165 ... النساء ... 521
{ xy¥د9 tbqن3tƒ ؤ¨$¨Z=د9 'n?tم "!$# 8pOfمm y‰÷èt/ ب@ك™"چ9$# } ... 165 ... النساء ... 61، 422، 520
{ ںw '!$ںزè? 8ot$خ!؛ur $ydد$s!uqخ/ } ... 233 ... البقرة ... 149، 486
{ ںw ك#¯=s3è? ëّےtR wخ) $ygyèَ™مr } ... 233 ... البقرة ... 232
{ ںw م@t"َ،ç" $Hxه م@yèّےtƒ ِNèdur ڑcqè=t"َ،ç" } ... 23 ... الأنبياء ... 122، 522
{ ںw ü"بqtGَ،o" ـ="ptُ¾r& ح'$¨Z9$# ـ="ptُ¾r&ur دp¨Yyfّ9$# } ... 20 ... الحشر ... 382
{ (#qè=à2ù'tGد9 $Z)ƒجچsù ô`دiB ةA؛uqّBr& ؤ¨$¨Y9$# } ... 188 ... البقرة ... 421
{ ِNن3ھ=yès9 tbqà)Gs? } ... 182 ... البقرة ... 179، 520
{ tûïد%©#دj9 tbqن9÷sمƒ `دB ِNخgح !$|،خpS كبڑ/tچs? دpyèt/ِ'r& 9چهkôr& } ... 226 ... البقرة ... 521
{ ِNن.uqè=ِ7uد9 } ... 2 ... الملك ... 520، 521
7 ... هود
{ ِNن.uqè=ِ7uد9 ِ/ن3oƒr& ك`|،ômr& WxuKtم } ... 2 ... الملك ... 177، 299
7 ... هود
{ ں@yèôfuٹد9 } ... 6 ... المائدة ... 179
{ }ّٹs9 'n?tم ڑْïد%©!$# (#qمZtB#uن (#qè=دJtمur دM"ysخ="¢ء9$# سy$uZم_ } ... 93 ... المائدة ... 358
{ }ّٹs9 'n?tم ڑْïد%©!$# (#qمZtB#uن (#qè=دJtمur دM"ysخ="¢ء9$# سy$uZم_ $yJٹدù (# qكJدèsغ #sŒخ) $tB (#qs)¨?$# (#qمZtB#uن¨r (#qè=دJtمur دM"ysخ="¢ء9$# NèO (#qs)¨?$# (#qمZtB#uن¨r NèO (#qs)¨?$# (#qمZ|،ômr&¨r ھ!$#ur =دtن† tûüدYإ،َsçRùQ$# } ... 93 ... المائدة ... 358
{ }ّٹs9 ¾دmخ=÷WدJx. ضنï†x" } ... 11 ... الشورى ... 218
{ (#rك‰ygô±uٹدj9 yىدے"oYtB ِNكgs9 } ... 28 ... الحج ... 59
{ ِNن.tچخdgsـمٹد9 } ... 6 ... المائدة ... 179
{ بbrك‰ç7÷èuد9 } ... 56 ... الذاريات ... 178، 520
{ !(2/221)
$tB ك‰ƒح'é& Nهk÷]دB `دiB 5-ّ-حh' !$tBur ك‰ƒح'é& br& بbqكJدèôـمƒ } ... 57 ... الذاريات ... 248
{ $tB !$yJكg"oYّ)n=yz wخ) بd,ysّ9$$خ/ } ... 39 ... الدخان ... 255
{ $¨B $uZôغچsù 'خû ة="tGإ3ّ9$# `دB &نَسx" } ... 38 ... الأنعام ... 219، 352
{ $tB ك‰ƒجچمƒ ھ!$# ں@yèôfuٹد9 Nà6ّn=tو ô`دiB 8ltچym `إ3"s9ur ك‰ƒجچمƒ ِNن.tچخdgsـمٹد9 NدGمٹد9ur ¼çmtGyJ÷èدR ِNن3ّn=tو } ... 6 ... المائدة ... 175، 178، 181، 232
{ ô`دB ب@ô_r& y7د9؛sŒ $oYِ;tFں2 4'n?tم ûسح_t/ ں@ƒدنآuژَ خ) } ... 32 ... المائدة ... 61
{ `tB tb%x. ك‰ƒجچمƒ no4quٹysّ9$# $u÷R'‰9$# $uhtFt^ƒخ-ur } ... 15 ... هود ... 289
{ `tB ڑc%x. ك‰ƒجچمƒ y^ِچym حotچإzFy$# } ... 20 ... الشورى ... 290
{ `tB tچxےں2 "!$$خ/ .`دB د‰÷èt/ ے¾دmدZ"yJƒخ) wخ) ô`tB onجچٍ2é& ¼çmç6ù=s%ur BûبُyJôـمB ا`"yJƒM}$$خ/ } ... 106 ... النحل ... 164
{ `¨B ئىدمƒ tAqك™چ9$# ô‰s)sù tي$sغr& ©!$# } ... 80 ... النساء ... 501
{ Nà6YدB `¨B ك‰ƒجچمƒ $u÷R'‰9$# Nà6YدBur `¨B ك‰ƒجچمƒ notچإzFy$# } ... 152 ... آل عمران ... 289
{ ِNن.نt!$|،خS س^ِچym ِNن3©9 (#qè?ù'sù ِNن3rOِچym 4'¯Tr& ÷Lنê÷¥د© } ... 223 ... البقرة ... 157
{ #x"yd ×b$ut/ ؤ¨$¨Y=دj9 } ... 138 ... آل عمران ... 373
{ uqèd ü"د%©!$# tAt"Rr& y7ّn=tم |="tGإ3ّ9$# çm÷ZدB ×M"tƒ#uن ىM"yJs3ّt'C £`èd 'Pé& ة="tGإ3ّ9$# مچyzé&ur ×M"ygخ7"t±tFمB } ... 7 ... آل عمران ... 336، 399
{ uqèd "د%©!$# y]yèt/ 'خû z`؟حhدiBW{$# Zwqك™u' ِNهk÷]دiB } ... 2 ... الجمعة ... 276
{ َOçF÷ s?#uنur £`كg1y‰÷nخ) #Y'$sـZد% } ... 20 ... النساء ... 341
{ (#qà)¨?$#ur ©!$# مNà6كJدk=yèمƒur ھ!$# } ... 282 ... البقرة ... 408
{ ¨@ymr&ur ھ!$# yىّt7ّ9$# tPچymur (#4qt/جhچ9$# } ... 275 ... البقرة ... 505، 521
{ ¨@دmé&ur Nن3s9 $¨B uن!#u'ur ِNà6د9؛sŒ } ... 24 ... النساء ... 380، 465
{ مچyzé&ur ×M"ygخ7"t±tFمB } ... 7 ... آل عمران ... 349
{ ّŒخ)ur xs{r& y7o/u' .`دB ûسح_t/ tPyٹ#uن `دB َOدdح'qكgàك ِNهktJƒحh'èŒ ِNèdy‰pkôr&ur #'n?tم ِNحkإ¦àےRr& àMَ،s9r& ِNن3خn/tچخ/ (#qن9$s% 4'n?t/ } ... 172 ... الأعراف ... 174
{(2/222)
#sŒخ)ur ÷Lنêù=n=ym (#rكٹ$sـô¹$$sù } ... 2 ... المائدة ... 342
{ #sŒخ)ur ÷Lنêِ/uژںر 'خû اعِ'F{$# }ّٹn=sù ِ/ن3ّn=tو îy$uZم_ br& (#rçژفاّ)s? z`دB حo4qn=¢ء9$# } ... 101 ... النساء ... 164
{ #sŒخ)ur çm،،tB çژِچsƒّ:$# $¸مqمZtB } ... 21 ... المعارج ... 286
{ ّŒخ)ur tA$s% 4سyqمB ے¾دmدBِqs)د9 ¨bخ) ©!$# ôMن.âگكDù'tƒ br& (#qçtr2ُs? Zotچs)t/ } ... 67 ... البقرة ... 521
{ ّŒخ)ur $oYù=è% دps3ح´¯"n=uKù=د9 (#rك‰àfَ™$# tPyٹKy } ... 34 ... البقرة ... 520
{ (#rك‰حkôr&ur ô"ursŒ 5Aô‰tم َOن3ZدiB } ... 2 ... الطلاق ... 405
{ ÷ژة9ô¹$#ur y7|،ّےtR yىtB tûïد%©!$# ڑcqممô‰tƒ Nوh/u' حo4ry‰tَّ9$$خ/ ؤcسإ´yèّ9$#ur tbrك‰ƒجچمƒ ¼çmygô_ur ںwur ك‰÷ès? x8$uZّٹtم ِNهk÷]tم ك‰ƒجچè? spoYƒخ- حo4quٹysّ9$# $u÷R'‰9$# } ... 28 ... الكهف ... 290
{ ن-ح'$،،9$#ur èps%ح'$،،9$#ur (# qمèsـّ%$$sù $yJكgtƒد‰÷ƒr& } ... 38 ... المائدة ... 62، 223
{ ھ!$#ur مNn=÷ètƒ َOçFRr&ur ںw ڑcqكJn=÷ès? } ... 216 ... البقرة ... 257، 519
{ àM"s)¯=sـكJّ9$#ur ڑئَء/uژtItƒ £`خgإ،àےRr'خ/ spsW"n=rO &نےrمچè% } ... 228 ... البقرة ... 521
{ ِچمBù&ur y7n=÷dr& حo4qn=¢ء9$$خ/ ÷ژة9sـô¹$#ur $pkِژn=tو ںw y7è=t"َ،nS $]%ّ-ح' ك`ّtھU y7è%م-ِچtR } ... 132 ... طه ... 248
{ بbخ)ur ِNن.rçژ|اZoKَ™$# 'خû بûïدd‰9$# مNà6ّn=yèsù çژَا¨Z9$# } ... 72 ... الأنفال ... 382
{ ¨bخ)ur tûïد%©!$# (#qàےn=tG÷z$# دmدù 'إ"s9 7e7x© çm÷ZدiB $tB Mçlm; ¾دmخ/ ô`دB AOù=دو wخ) tي$t7دo?$# اd`©à9$# } ... 157 ... النساء ... 495
{ br&ur (#qمBqفءs? ×ژِچyz ِNà6©9 } ... 184 ... البقرة ... 163
{ bخ)ur ôىدـè? uژsYٍ2r& `tB †خû اعِ'F{$# x8q=إزمƒ `tم ب@خ6y™ "!$# bخ) tbqمèخ7Ftƒ wخ) £`©à9$# ÷bخ)ur ِNèd wخ) tbqك¹مچّƒs† } ... 116 ... الأنعام ... 496
{ !$uZّ9t"Rr&ur y7ّs9خ) tچٍ2دe%!$# tûخiüt7çFد9 ؤ¨$¨Z=د9 $tB tAجh"çR ِNحkِژs9خ) } ... 44 ... النحل ... 350، 371، 372، 501
{ ڑcqè=à2ù's?ur y^#uژ-I9$# Wxٍ2r& $tJ©9 اتزب ڑcq™7دtéBur tA$yJّ9$# ${7مm $tJy_ } ... 19، 20 ... الفجر ... 286
{(2/223)
ڑcq™7دtéBur tA$yJّ9$# ${7مm $tJy_ } ... 20 ... الفجر ... 286
{ (#qçRur$yès?ur 'n?tم خhژة9ّ9$# 3"uqّ)G9$#ur ںwur (#qçRur$yès? 'n?tم ةOّOM}$# بb؛urô‰مèّ9$#ur } ... 2 ... المائدة ... 459
{ tPچymur (#4qt/جhچ9$# } ... 275 ... البقرة ... 7، 250
{ ¼çmè=÷Hxqur ¼çmè="|ءدùur tbqèW"n=rO #·چِky } ... 15 ... الأحقاف ... 222، 379
{ سةLyJômu'ur ôMyèإ™ur ¨@ن. &نَسx" } ... 156 ... الأعراف ... 121
{ #س|Otمur br& (#qèdtچُ3s? $\"ّx© uqèdur ×ژِچyz ِNà6©9 #س|Otمur br& (#q™6إsè? $\"ّx© uqèdur @ژں° ِNن3©9 ھ!$#ur مNn=÷ètƒ َOçFRr&ur ںw ڑcqكJn=÷ès? } ... 216 ... البقرة ... 422
{ Zpygإ3"sùur $|/r&ur } ... 31 ... عبس ... 220
{ ¼çmè="|ءدùur 'خû بû÷ütB%tو } ... 14 ... لقمان ... 222، 379
{ $oYِ;tFx.ur ِNحkِژn=tم !$pkژدù ¨br& }ّے¨Z9$# ؤّے¨Z9$$خ/ } ... 45 ... المائدة ... 381
{ $oYِ;tFx.ur ِNحkِژn=tم !$pkژدù ¨br& }ّے¨Z9$# ؤّے¨Z9$$خ/ ڑْ÷üyèّ9$#ur بû÷üyèّ9$$خ/ y#RF{$#ur ة#RF{$$خ/ ڑcèŒW{$#ur بbèŒW{$$خ/ £`إb،9$#ur اd`إb،9$$خ/ yyrمچàfّ9$#ur زة$|ءد% } ... 45 ... المائدة ... 381
{ y7د9؛xx.ur ِNن3"oYù=yèy_ Zp¨Bé& $Vـy™ur (#qçRqà6tGدj9 uن!#y‰pkà 'n?tم ؤ¨$¨Y9$# tbqن3tƒur مAqك™چ9$# ِNن3ّn=tو #Y‰خgx© } ... 143 ... البقرة ... 6، 539
{ ںxن.ur $yg÷ZدB #´‰xîu' ك]ّym $yJçFّOد© } ... 35 ... البقرة ... 157
{ ِNهk¨XzگكDUyur cçژةiچtَمٹn=sù ڑYù=yz "!$# } ... 119 ... النساء ... 377
{ ںwur (# qè=ن.ù's? Nن3s9؛uqّBr& Nن3oY÷ t/ ب@دـ"t6ّ9$$خ/ } ... 188 ... البقرة ... 281
{ ںwur (# qè=ن.ù's? Nن3s9؛uqّBr& Nن3oY÷ t/ ب@دـ"t6ّ9$$خ/ (#qن9ô‰è?ur !$ygخ/ 'n<خ) دQ$O6çtّ:$# } ... 188 ... البقرة ... 421
{ ںwur (#qمèخ6®Ks? دN؛uqننz ا`"sـّO±9$# } ... 168 ... البقرة ... 5
{ ںwur (#q™7ف،n@ ڑْïد%©!$# tbqممô‰tƒ `دB بbrكٹ "!$# } ... 108 ... الأنعام ... 421
{ ںwur (#q™7ف،n@ ڑْïد%©!$# tbqممô‰tƒ `دB بbrكٹ "!$# (#q™7ف،uٹsù ©!$# #Jrô‰tم خژِچtَخ/ 5Où=دو } ... 108 ... الأنعام ... 459، 4
{ NدGمٹد9ur ¼çmtGyJ÷èدR } ... 6 ... المائدة ... 177
{(2/224)
ںwur £`èdro'!$ںزè? (#qà)حhٹںزçGد9 £`حkِژn=tم } ... 6 ... الطلاق ... 149، 486
{ ںwur دٹمچôـs? tûïد%©!$# tbqممô‰tƒ Oكg/u' حo4ry‰tَّ9$$خ/ ؤcسإ´yèّ9$#ur tbrك‰ƒجچمƒ ¼çmygô_ur } ... 52 ... الأنعام ... 290
{ ںwur £`èdqç/tچّ)s? 4س®Lym tbِچكgôـtƒ } ... 222 ... البقرة ... 63
{ ںwur £`èdqن3إ،÷IنC #Y'#uژإر (#rك‰tF÷ètGدj9 } ... 231 ... البقرة ... 149، 486
{ ںwur ¨ûèٍqèےsC wخ) NçFRr&ur tbqكJخ=َ،oB } ... 102 ... آل عمران ... 228، 230، 339
{ ô‰s)s9ur $tRù&u'sŒ zO¨Yygyfد9 #ZژچدWں2 ڑئدiB اd`إgّ:$# ؤRM}$#ur } ... 179 ... الأعراف ... 52
{ ِNن3s9ur 'خû ؤة$|ءة)ّ9$# ×o4quٹym 'ح<'ré'¯"tƒ ة="t6ّ9F{$# } ... 179 ... البقرة ... 175، 179، 181، 281، 422
{ َOs9ur à7tR مNدèôـçR tûüإ3َ،دJّ9$# } ... 44 ... المدثر ... 365
{ `s9ur ں@yèّgs† ھ!$# tûïجچدے"s3ù=د9 'n?tم tûüدZدB÷sçRùQ$# ¸xخ6y™ } ... 141 ... النساء ... 323، 382
{ بqs9ur yىt7©?$# ',ysّ9$# ِNèduن!#uq÷dr& دNy‰|،xےs9 فV؛uq"yJ،،9$# قعِ'F{$#ur `tBur ئخgٹدù } ... 71 ... المؤمنون ... 209
{ ِqs9ur tb%x. ô`دB د‰Zدم خژِچxî "!$# (#rك‰y`uqs9 دmٹدù $Zے"n=دF÷z$# #ZژچدWں2 } ... 82 ... النساء ... 396
{ !$tBur مNن39s?#uن مAqك™چ9$# çnrنم‚sù } ... 7 ... الحشر ... 377
{ !$tBur مNن39s?#uن مAqك™چ9$# çnrنم‚sù $tBur ِNن39pktX çm÷Ytم (#qكgtFR$$sù (#qà)¨?$#ur ©!$# } ... 7 ... الحشر ... 376، 377
{ !$tBur OçF÷ s?#uن `دiB $\/حh' (#uqç/÷ژzچدj9 'خû ةA؛uqّBr& ؤ¨$¨Z9$# ںxsù (#qç/ِچtƒ y‰Yدم "!$# !$tBur OçF÷ s?#uن `دiB ;o4qx.y- ڑcrك‰ƒجچè? tmô_ur "!$# y7ح´¯"s9'ré'sù مNèd tbqàےدèôزكJّ9$# } ... 39 ... الروم ... 290
{ !$tBur ڑپ"oYù=y™ِ'r& wخ) ZptHôqy' ڑْüدJn="yèù=دj9 } ... 107 ... الأنبياء ... 120، 174، 176
{ $tBur ڑcrك‰ç7÷ès? } ... 98 ... الأنبياء ... 347
{ $tBur ڑcqà)دےZè? wخ) uن!$tَدFِ/$# دmô_ur "!$# } ... 272 ... البقرة ... 290
{ $tBur ں@yèy_ ِ/ن3ّn=tو 'خû بûïدd‰9$# ô`دB 8ltچym } ... 78 ... الحج ... 232
{(2/225)
$tBur àMّ)n=yz £`إgّ:$# }RM}$#ur wخ) بbrك‰ç7÷èuد9 } ... 56 ... الذاريات ... 131، 174، 178، 179، 248، 250، 256، 369، 521، 522، 523، 535
{ $tBur $uZّ)n=yz uن!$yJ،،9$# uعِ'F{$#ur $tBur $yJهks]÷ t/ Wxدـ"t/ } ... 27 ... ص ... 254
{ $tBur $oYّ)n=yz دN؛uq"yJ،،9$# uعِ'F{$#ur $tBur $yJهks]÷ t/ ڑْüخ6دè"s9 اجرب $tB !$yJكg"oYّ)n=yz wخ) بd,ysّ9$$خ/ } ... 38، 39 ... الدخان ... 255
{ $tBur tb%x. 9`دB÷sكJد9 ںwur >puZدB÷sمB #sŒخ) س|سs% ھ!$# ے¼م&è!qك™u'ur #·چّBr& br& tbqن3tƒ مNكgs9 نouژzچدƒّ:$# ô`دB ِNدdجچّBr& } ... 36 ... الأحزاب ... 6
{ $tBur $¨Zن. tûüخ/ةjyèمB 4س®Lym y]yèِ6tR Zwqك™u' } ... 15 ... الإسراء ... 176، 367
{ $tBur Mçlm; ¾دmخ/ ô`دB AOù=دو bخ) tbqمèخ7Ftƒ wخ) £`©à9$# ¨bخ)ur £`©à9$# ںw سح_َّمƒ z`دB بd,ptّ:$# $\"ّx© } ... 28 ... النجم ... 495
{ $tBur كىخ7Gtƒ َOèdçژsYّ.r& wخ) $‡Zsك ¨bخ) £`©à9$# ںw سح_َّمƒ z`دB بd,ptّ:$# $؛"ّx© } ... 36 ... يونس ... 495
{ $tBur ك,دـZtƒ ا`tم #"uqolù;$# اجب ÷bخ) uqèd wخ) ضسَrur 4سyrqمƒ } ... 3، 4 ... النجم ... 502
{ م@sWtBur tûïد%©!$# ڑcqà)دےYمƒ مNكgs9؛uqّBr& uن!$tَدGِ/$# إV$|تِچtB "!$# $\G خ7ّ[s?ur ô`دiB ِNخgإ،àےRr& } ... 265 ... البقرة ... 290
{ zNtƒَگsDur |MoYِ/$# tb؛tچôJدم ûسةL©9$# ôMoY|ءômr& $ygy_ِچsù $sY÷‚xےoYsù دmٹدù } ... 12 ... التحريم ... 367
{ ئtBur uن!$x© ِچàےُ3uù=sù } ... 29 ... الكهف ... 339
{ `tBur ں@tFs% $·YدB÷sمB $\"sـyz مچƒجچَstGsù 7pt7s%u' 7poYدB÷soB ×ptƒدٹur îpyJ¯=|،oB #'n<خ) ے¾د&خ#÷dr& Hwخ) br& (#qè%£‰¢ءtƒ } ... 92 ... النساء ... 381
{ `tBur َO©9 Nà6ّts† !$yJخ/ tAt"Rr& ھ!$# y7ح´¯"s9'ré'sù مNèd tbqكJخ="©à9$# } ... 45 ... المائدة ... 250
{ $uZّ9¨"tRur ڑپّn=tم |="tGإ3ّ9$# $YZ"uِ;د? بe@ن3دj9 &نَسx" } ... 89 ... النحل ... 219، 373، 501
{ ِNèdur tbqç7|،ّts† ِNهk¨Xr& tbqمZإ،ّtن† $·è÷Yك¹ } ... 104 ... الكهف ... 325، 516
{(2/226)
uqèdur "د%©!$# t,n=y{ دN؛uq"yJ،،9$# uعِ'F{$#ur 'خû دpGإ™ 5Q$ƒr& ڑc%ں2ur ¼çmن©ِچtم 'n?tم دن!$yJّ9$# ِNà2uqè=ِ7uٹد9 ِNن3oƒr& ك`|،ômr& WxyJtم } ... 7 ... هود ... 174، 177
{ كىںزtƒur ِNكg÷Ztم ِNèduژٌہخ) ں@"n=ٌّF{$#ur سةL©9$# ôMtR%x. َOخgّٹn=tو } ... 157 ... الأعراف ... 231
{ 'خA÷sمƒ spyJٍ6إsّ9$# `tB âن!$t±o" `tBur |N÷sمƒ spyJٍ6إsّ9$# ô‰s)sù u'خAré& #Zژِچyz #ZژچدWں2 } ... 269 ... البقرة ... 401
{ $pkڑ‰r'¯"tƒ tûïد%©!$# (# qمYtB#uن (#qمèدغr& ©!$# (#qمèدغr&ur tAqك™چ9$# } ... 59 ... النساء ... 501
33 ... محمد
{ $pkڑ‰r'¯"tƒ tûïد%©!$# (# qمYtB#uن $yJ¯Rخ) مچôJsƒّ:$# çژإ£ّٹyJّ9$#ur } ... 9 ... المائدة ... 359
{ $pkڑ‰r'¯"tƒ tûïد%©!$# (# qمYtB#uن $yJ¯Rخ) مچôJsƒّ:$# çژإ£ّٹyJّ9$#ur ـ>$|ءRF{$#ur مN"s9ّ-F{$#ur سô_ح' ô`دiB ب@yJtم ا`"sـّO±9$# çnqç7د^tGô_$$sù ِNن3ھ=yès9 tbqكsخ=ّےè? } ... 9 ... المائدة ... 359
{ $ygoƒr'¯"tƒ ڑْïد%©!$# (#qمYtB#uن ںw (#qن9qà)s? $uZدم؛u' (#qن9qè%ur $tRِچفàR$# (#qمèyJَ™$#ur } ... 104 ... البقرة ... 459
{ $pkڑ‰r'¯"tƒ â¨$¨Y9$# (#rك‰ç6ôم$# مNن3/u' "د%©!$# ِNن3s)n=s{ tûïد%©!$#ur `دB ِNن3خ=ِ6s% ِNن3ھ=yès9 tbqà)Gs? } ... 21 ... البقرة ... 449، 421
{ y"دٹ$t7دè"tƒ tûïد%©!$# أَسْرَفُوا #'n?tم ِNخgإ،àےRr& ںw (#qنـuZّ)s? `دB دpuH÷q' "!$# } ... 53 ... الزمر ... 366
{ ك‰ƒجچمƒ ھ!$# br& y#دeےsƒن† ِNن3Ytم t,خ=نzur ك`"|،RM}$# $Zےدè|ت } ... 28 ... النساء ... 232
{ ك‰ƒجچمƒ ھ!$# مNà6خ/ tچَ،مٹّ9$# ںwur ك‰ƒجچمƒ مNà6خ/ uژô£مèّ9$# } ... 185 ... البقرة ... 232
{ م@yèّےtƒ $tB âن!$t±o" } ... 40 ... آل عمران ... 522
18 ... الحج
فهرس الأحاديث
طرف الحديث ... الصفحة
ـ إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران ... 396
ـ إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس ... 222
ـ إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله ... 503
ـ أعتق رقبة... (للرجل الذي قال: واقعت أهلي في رمضان) ... 87
ـ الأعمال بالنيات ... 292، 299، 308
ـ الأعمال بالنية ... 291، 292(2/227)
ـ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل شهادته بشهادتين ... 48
ـ إنما الأعمال بالنيات ... 293، 299، 301، 308
ـ إنما جعل الاستئذان لأجل النظر ... 60
ـ إن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه ... 459
ـ أن من اعتبط مؤمناً قتلاً... ... 381
ـ إني أرسلت إلى أمة أمية ... 217
ـ إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ... 232
ـ إني لأخاف على أمتي من أعمال ثلاثة... ... 398
ـ أوتيت القرآن ومثله معه ... 501
ـ إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات... ... 380
ـ بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً ... 24
ـ بعثت إلى أمة أمية ... 217
ـ بعثت بالحنيفية السمحة ... 232، 417
ـ بني الإسلام على خمس ... 293
ـ تم على صومك فإنما أطعمك الله وسقاك ... 449
ـ تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابّوا ... 230
ـ تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي ... 222
طرف الحديث ... الصفحة
ـ تهادوا تحابوا ... 230
ـ الحياء شعبة من الإيمان ... 268
ـ دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ... 439
ـ الذهب بالذهب والفضة بالفضة ... 63
ـ رحم الله امرءاً سمع مقالتي ... 499
ـ رخص في السَّلَم ... 448
ـ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ... 309
ـ زملوهم بكلومهم فإنهم يحشرون... ... 61
ـ سئل أي الأعمال أفضل...؟ قال: الذاكرون لله... ... 402
ـ سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله... ... 402
ـ سئل عليه الصلاة والسلام أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها... ... 402
ـ سها فسجد ... 63، 280
ـ عليك بالصوم فإنه لا مثل له ... 402
ـ عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ... 371
ـ فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه... ... 399
ـ فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ... 380
ـ القاتل لا يرث ... 281، 329، 330
ـ قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنين امرأة بني لحيان.. ... 382
ـ كان عليه الصلاة والسلام يكف عن قتل المنافقين ... 459
ـ كتب إلى أهل اليمن كتاباً.. أن من اعتبط مؤمناً... ... 381
ـ كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ... 308(2/228)
ـ كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ... 283
ـ كنت نهيتكم عن ادخار لحكوم الأضاحي لأجل الدافة ... 60
ـ كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل ... 230
ـ لا تبع ما ليس عندك ... 448، 450
طرف الحديث ... الصفحة
ـ لا تزرموه. (للأعرابي الذي بال في المسجد) ... 424
ـ لا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى السوق ... 339
ـ لا تمت وأنت ظالم ... 230
ـ لا ضرر ولا ضرار ... 149، 121، 150، 281، 439، 481، 486، 508
ـ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ... 121
ـ لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث... ... 70
ـ لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ... 280
ـ لا يقضي القاضي وهو غضبان ... 63، 281
ـ ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله... ... 485
ـ ما أجهلك بلغة قومك يا غلام ... 345
ـ ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله... ... 503
ـ ما خُيِّر بين شيئين إلا اختار أيسرهما... ... 232
ـ ملكت نفسك فاختاري ... 62
ـ من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ... 299، 308
ـ من أحيا أرضاً ميتةً فهي له ... 62
ـ من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم ... 448
ـ من أودع وديعة فهلكت فلا ضمان عليه ... 438
ـ من بدل دينه فاقتلوه ... 260
ـ نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب ... 217
ـ نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضر لباد ... 439
ـ نهى عليه الصلاة والسلام عن الصلاة طرفي النهار... ... 280
ـ نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع... ... 394
ـ نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية ... 394
ـ نهى عن كل ذي مخلب من الطير ... 394
ـ هي السنة يا ابن أخي... (في مسألة التسوية بين الأصابع في الدية) ... 283
ـ يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة... ... 298
المحتويات
الموضوع ... الصفحة
المقدمة ... 5
الشاطبي وعصره ... 12
تعريف بالشاطبي وعصره ... 13
التعريف بالشاطبي ... 13
عصره ... 14
الحالة السياسية ... 18
الحالة الاقتصادية ... 20
الحالة العلمية ... 21
مناخ المجتمع الثقافي ... 23
شيوخ الشاطبي ... 27
تلاميذه ... 29
مكانته العلمية ... 30
مؤلفاته ... 31(2/229)
الفصل الأول: التمهيد لنشوء فكرة مقاصد الشريعة ... 36
مقدمة في نشأة علم أصول الفقه وتطوره ... 37
المبحث الأول: القياس ... 44
مفهوم القياس ومباحثه ... 44
حجيته ... 45
أركان القياس ... 47
شروطه ... 47
العلة ... 48
السبب ... 53
المناط ... 55
تحقيق المناط ... 57
تنقيح المناط ... 57
تخريج المناط ... 58
الموضوع ... الصفحة
المبحث الثاني: مسالك العلة وشروطها ... 59
تمهيد ... 59
مسالك العلة ... 60
في شروط العلة ... 67
المبحث الثالث: مسلك الإخالة والمناسبة ... 74
تمهيد ... 74
تحقيق معنى الإخالة والمناسبة ... 75
أقسام المناسب ... 79
المعتبر ... 79
أنواع الاعتبار ... 80
أقسام المعتبر ... 82
المؤثر ... 82
الملائم ... 84
الغريب ... 85
الملغى ... 87
المرسل ... 88
شروط الوصف المناسب ... 95
الفصل الثاني: نشأة فكرة مقاصد الشريعة ... 97
عرض موجز لنشأة الفكرة ... 98
المبحث الأول: المحاججات التي أدت إلى فكرة المقاصد ... 100
تطور الجدل من مسلك المناسبة إلى الاستدلال ... 100
معنى الاستدلال ... 101
أدلة القائلين بالمناسبة وبالاستدلال ... 105
ردود مبطلي مسلك المناسبة والاستدلال ... 107
المبحث الثاني: انبثاق فكرة مقاصد الشريعة ... 110
احتدام الجدل ... 110
تقسيم الأحكام بحسب مآلاتها أو مقاصدها المصلحية ... 113
المبحث الثالث: المدخل إلى فكرة المقاصد عند الشاطبي ... 119
الموضوع ... الصفحة
عرض موجز لهذا المبحث ... 119
أدلة القائلين بأصل التعليل ... 120
أدلة الرادين ... 123
هل يُلزم أصل التعليل بمسلك المناسبة ... 126
موقف الشاطبي بإيجاز ... 127
معنى المقاصد عند الشاطبي ... 129
الفصل الثالث: ضوابط المقاصد عند الشاطبي ... 135
موضوع هذا الفصل ... 136
المبحث الأول: في المقدمات ... 137
موضوع هذا المبحث ... 137
أصول الفقه قطعية ... 137
الاستقراء فقط هو طريق القطع ... 138
المقاصد الأُول والمقاصد التابعة ... 142
خواص الكليات ... 144
معنى الرجوع إلى أصل قطعي ... 146
الجزئي والفرع والفرق بينهما ... 150
المبحث الثاني: في المستندات ... 152
تمهيد ... 152
المباح ... 153(2/230)
تصوير الجزئية والكلية في الأحكام ... 154
المباح قسمان ... 156
مرتبة العفو ... 160
الرخصة والعزيمة ... 161
الأسباب والمسببات ... 165
المبحث الثالث: في النتائج ومفهوم المصلحة والمفسدة عند الشاطبي ... 168
تعريف بموضوع البحث ... 168
السبب ... 168
الحكمة ... 169
الموضوع ... الصفحة
المسبّب ... 170
العلة ... 170
معاني الأحكام ... 172
المصلحة والمفسدة ... 172
مفهوم الشاطبي لكل من المصلحة والمفسدة ... 173
مناقشة تحليلية لاستدلالات الشاطبي ... 174
بعض النصوص في مراد الشاطبي بالمصلحة والمفسدة ... 182
الفصل الرابع: قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءً وفي وضعها للإفهام ... 185
تمهيد ... 186
المبحث الأول: قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءً ... 188
معنى هذا النوع ... 188
المقاصد ثلاثة أقسام ... 188
التعريف بهذه الأقسام الثلاثة ... 188
جريان هذه المقاصد في كل تكاليف الشريعة ... 190
مكملات أو تتمات المقاصد ... 191
تفاوت مراتب المقاصد ... 192
المبحث الثاني: عصمة الشريعة ... 199
معنى هذا التعبير ... 199
لا يجوز مخالفة الأحكام بحجة المقاصد ... 201
تفسير لبعض نصوص الشاطبي ... 202
مناقشة الشاطبي لبعض الأقوال في المصالح والمفاسد ... 210
المبحث الثالث: قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام ... 215
معنى هذا النوع ... 215
الشريعة عربية اللسان والأسلوب ... 215
أمية الشريعة ... 216
المعاني هي المقصود الأعظم للنصوص ... 219
المعاني الأصلية والمعاني التابعة ... 221
لا حكم للدلالة التابعة ... 224
الموضوع ... الصفحة
الفصل الخامس: قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف
بمقتضاها وفي دخول المكلف تحت أحكامها ... 226
تمهيد ... 227
المبحث الأول: قصد التكليف بمقتضى الشريعة ... 228
معنى هذا النوع ... 228
التكليف والوسع ... 229
التكليف والمشقة ... 231
أصل عدم التكليف بالمشقات المعنتة ... 231
المشقات مفاسد ... 232
المشقة المعتادة لا تسمى مشقة ... 233
المشقات المعتبرة أو المقصود رفعها ... 235
معنى الرخصة ... 236(2/231)
أسباب الرخص ... 238
شروط الترخص ... 239
وسطية الشريعة ... 242
اختلاف مقدار المشقة المعتادة باختلاف الأعمال ... 244
المبحث الثاني: قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة ... 246
تمهيد لهذا النوع ... 246
أصل الامتثال أو التعبد ... 248
المصالح والمفاسد تعرف بالشرع فقط ... 251
التعارض بين التعليل بالمصالح وحاكمية الشرع ... 254
المقاصد الشرعية ضربان: أصلية وتابعية ... 257
المبحث الثالث: بين الشريعة ومقاصدها أو بين التعبد واتباع المعاني ... 263
موضوع هذا المبحث ... 263
عموم الشريعة وثباتها ... 263
العرف ومدى اعتباره عند الشاطبي ... 267
التكليف بالأحكام ليس تكليفاً بمقاصدها ... 270
التلازم الشرعي بين السبب ومسببَّه ... 275
الموضوع ... الصفحة
العادات والعبادات بين اتباع المعاني والتعبد ... 277
معنى اتباع المعاني ... 277
العبادات لا تعلل ... 278
الأصل في العادات التعليل ... 281
لا بد من اعتبار التعبد في العادات ... 283
الفصل السادس: مقاصد المكلف ... 285
تمهيد ... 286
المبحث الأول: المقاصد والنوايا ... 288
النية والقصد والفرق بينهما ... 288
أثر النية في الأعمال ... 291
قاعدة: الأمور بمقاصدها ... 293
الإخلاص والتشريك في المقاصد ... 294
المبحث الثاني: أعمال المكلف ومقاصده ... 300
أثر مقاصد المكلف في الأعمال عند الشاطبي ... 300
الموافقة والمخالفة لقصد الشارع ... 305
المبحث الثالث: الحِيَل ... 312
تعريفها ... 312
حكم الشرع في الحيل عند الشاطبي ... 314
الحكم فيما ينبني على الحيل ... 318
حق الله وحق العبد ... 320
أثر النية فيما كان حقاً لله أو حقاً للعبد ... 323
الفصل السابع: منهج الشاطبي في فهم الشريعة ... 325
تمهيد ... 326
المبحث الأول: منهج الشاطبي في فهم الشريعة ... 327
موضوع هذا المبحث ... 327
نظرة الشاطبي إلى دلالات النصوص الشرعية ... 327
يجب إعمال الجزئيات والكليات معاً ... 331
الكلي لا ينخرم بمعارضة آحاد الجزئيات ... 333
الموضوع ... الصفحة
الإحكام والتشابه ... 334(2/232)
تأويل المتشابه ... 336
النسخ ... 337
الأوامر والنواهي ... 338
العموم والخصوص ... 342
البيان والإجمال ... 349
المبحث الثاني: منهج الشاطبي في فهم القرآن ... 351
موضوع هذا المبحث ... 351
القرآن فيه بيان كل شيء من الشريعة ... 351
الحاجة إلى تفسير القرآن بالرأي ... 353
للقرآن ظاهر وباطن ... 355
كيفية فهم الظاهر ... 357
كيفية فهم الباطن ... 359
إشكالات عل منهج الشاطبي في فهم معاني القرآن ... 360
أمثلة على منهج الشاطبي في فهم معاني القرآن ... 364
منهج الشاطبي في استقراء المعاني في القرآن ... 368
المبحث الثالث: منهج الشاطبي في فهم السنة ... 370
موضوع هذا البحث ... 370
تعريف السنة عند الشاطبي ... 370
السنة بيان للكتاب ... 372
السنة فيها بيان كل شيء من الأحكام الشرعية ... 375
كيفية بيان السنة للقرآن ... 375
ردود على اعتراضات ... 380
البيان بالقول والفعل والإقرار ... 383
الإجماع ... 384
القياس ... 385
الفصل الثامن: الاجتهاد والتقليد ... 386
تمهيد ... 387
الموضوع ... الصفحة
المبحث الأول: ضوابط الاجتهاد ... 388
تعريفه عند الشاطبي ... 388
شروطه ... 388
أنواع الاجتهاد ومراتبه ... 391
الاجتهاد المعتبر شرعاً ... 393
اختلاف المجتهدين ... 396
الخطأ في الاجتهاد ... 397
علامة الاجتهاد المعتبر ... 400
لا يمكن انقطاع الاجتهاد كلياً ... 404
المبحث الثاني: ضوابط التقليد والفتوى ... 407
موضوع هذا المبحث ... 407
المجتهدون أدلة المقلدين ... 407
الترجيح بين المجتهدين ... 409
قواعد مردودة في الفتوى ... 414
المبحث الثالث: أصل مآلات الأفعال ... 419
أهميته في منهج الشاطبي ... 419
أدلته ... 420
معناه وتطبيقه ... 422
مناقشة فهم خاطئ لأصل اعتبار المآلات ... 428
شرح نص في اعتبار مآلات الأفعال ... 428
الفصل التاسع: في تطبيق الفكرة: ثلاث قواعد كلية ... 431
موضوع هذا الفصل ... 432
المبحث الأول: المصالح المرسلة ... 433
معنى المصالح المرسلة ... 433
المصالح المرسلة عند الأئمة ... 433
المصالح المرسلة عند الشاطبي ... 435(2/233)
مواضع إعمال القاعدة ... 436
أقسام المصالح ... 439
الموضوع ... الصفحة
شروط القاعدة ... 441
المبحث الثاني: الاستحسان ... 445
الاستحسان ومواقف الأئمة منه ... 445
ما هو الاستحسان ... 447
أقسام الاستحسان ... 448
الاستحسان عند الشاطبي ... 452
الفرق بين المصالح المرسلة والاستحسان ... 455
المبحث الثالث: سد الذرائع ... 457
تعريفه ... 457
موقف المذاهب من سد الذرائع ... 457
أدلة القاعدة ... 459
ضوابط إعمال قاعدة سد الذرائع ... 460
قاعدة رفع الضرر ... 467
مسائل أو تفريعات قاعدة رفع الضرر ... 471
الفصل العاشر: فكرة المقاصد عند الشاطبي: عرض ومناقشة ... 473
موضوع هذا الفصل ... 474
المبحث الأول: عرض موجز لفكرة المقاصد عند الشاطبي ... 477
معنى الموافقات ... 477
القطع بالأصول عند الشاطبي ... 479
خصائص الأصول ... 481
الكليات لا تنخرم بمعارضة الجزئيات ... 483
الاستقراء هو السبيل الوحيد للقطع ... 484
دلالات النصوص الشرعية ... 485
دلالات الأحكام ... 486
تعليل الشريعة بمقاصدها ... 488
المقاصد ... 489
مفهوم الشاطبي للمصلحة والمفسدة ... 489
معنى تعليل الشريعة بالمصالح ... 491
الموضوع ... الصفحة
الاجتهاد والتقليد ... 492
المبحث الثاني: مناقشة فكرة الشاطبي: الكليات والاستقراء ... 494
موضوع هذا المبحث ... 494
اشتراط القطع بأصول الفقه ... 494
وجوب العمل بالظني ... 499
استقلال السنة بالتشريع ... 500
الاستقراء ... 504
معارضة الجزئي للكلي ... 510
التواتر المعنوي ... 513
المبحث الثالث: مناقشة فكرة الشاطبي: المقاصد والعلل ... 517
موضوع هذا المبحث ... 517
أصل التعليل ... 517
رد تعليل أفعال الله تعالى ... 518
المقاصد والعلل ... 522
الاستغناء بالكليات عن الجزئيات ... 526
ملاحظات أخرى ... 532
الخاتمة ... 534
فهرس المصادر والمراجع ... 540
فهرس الآيات ... 547
فهرس الأحاديث ... 564
فهرس المحتويات ... 567(2/234)