المصلحة المرسلة وضوابط العمل بها
الحمد لله الذي شرع فأحكم، والصلاة والسلام على عبده ورسوله النبي الأعظم، وعلى آله وصحبه أولي القدر الأكرم، وبعد:
فإنه ليس للمحاضرة التي سمعتموها في الأسبوع الماضي أيُّ بعد سياسي، وليس فيها أي انحراف فكري، وقد قال المحاضر: كنت أود أن تكون المحاضرة للأساتذة أيضاً، فربما كانت أكثر نفعاً وفائدة، ومع ذلك فهي محاولة لرفع المستوى العلمي للطلبة، للارتقاء عن المحفوظ والمألوف فقط، إلى ما هو مطلب المجتهدين، وطريق الفقهاء، للوصول إلى الحقائق الجلية في المسائل الحكمية.
ومعلوم أن منهج سماحة المربي الكبير، الدكتور الشيخ أحمد كفتارو قائم على الوسطية والاعتدال، وليس فيه انحراف ولا اعوجاج، وما تأسيس هذه الكلية العتيدة واستمرارها إلا دليل على نجاح هذا المنهج الرباني، وأي زيغ أو انحراف فهو غير مقبول، وقد حرصت إدارة المجمع والكلية على تأصيل الالتزام بشرع الله المتين، والتمسك بالسنة النبوية المطهرة، وما الفكر والاجتهاد إلا من منبع الشريعة لا من أصل العقل المجرد، أو الفهم السقيم.
وقد حرصت الكلية ـ متمثلة بعميدها: أخي الشيخ بسام عجك ـ مشكورة على هذا اللقاء لتوضيح المفاهيم، وتبيين الحقائق التي يدين بها كل مسلم، بلا شطط أو شطحات، والآية الكريمة التي تقرؤنها في غدوكم وروحكم: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]، (آل عمران: 103)، هي حقيقة متمثلة في القائمين على هذا المجمع وليس مجرد شعار.(1/1)
وبداية أقول: إن المقصد الأسمى والغاية العظمى للشريعة الإسلامية: تحقيق المصلحة الإنسانية العالية، وهذا من مقتضى الرحمة والعدل الإلهي، وكل نصوص الشريعة تتضافر لتحقيق هذه الغاية، فما من نص شرعي إلا وقد تحققت فيه المصلحة، ظهر ذلك عياناً أم لم يظهر.
هذا وإن المصالح إنما تعتبر ويعتد بها من حيث اعتبار الشرع لها؛ لأنها لو رجعت إلى أهواء الناس وشهواتهم لنُقضت الشريعة من أساسها؛ لأن الإنسان قد يرى المصلحة في شرب الخمر وأكل الربا وقتل النفس، وهذا يناقض قصد الشارع من التشريع الذي وضعه الله، قال تعالى: [وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ](المؤمنون: 71).
وما أجمل قول الإمام الغزالي: أشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل؛ فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرَّف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد(1).
*تعريف المصلحة:
لغة: تطلق ويراد منها الفعل الذي فيه صلاح ونفع.
وفي الاصطلاح:
هي عند جمهور الأصوليين: الثمرة المترتبة على الأحكام التي شرعها الله لعباده.
وكما عرفها الإمام الغزالي: المصلحة: عبارة عن جلب منفعة أو دفع مضرة، ثم قال: ونعني بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن هذه الأصول فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعه مصلحة(2).
*القائلون بالمصلحة المرسلة مصدراً من مصادر التشريع:(1/2)
اشتهر أن الإمام مالكاً هو الذي انفرد وحده بالأخذ بالمصلحة، ولكن المدقق في الأحكام الشرعية وفروعها في المدارس الفقهية كلها يرى أن الجميع يأخذ بمبدأ المصلحة المرسلة، إما صراحة أو ضمناً، أو يبيِّن قيودها.
فها هم فقهاء الحنفية يقبلون المصلحة المرسلة إذا كانت ملائمة، ويؤيد ذلك ما اشتهر من اعتمادهم: الاستحسان أصلاً من أصول التشريع الإسلامي.
فالاستحسان هو: (ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس، وقيل: الاستحسان طلب السهولة في الأحكام فيما يبتلى فيه الخاص والعام، وقيل: الأخذ بالسعة وابتغاء الدعة، وقيل: الأخذ بالسماحة وابتغاء ما فيه الراحة، فينبني من هذه العبارات أنه ترك العسر لليسر، وهو أصل في الدين)(3).
وقَبل فقهاء الشافعية المصلحة المرسلة إذا كانت ملائمة للمصالح المعتبرة المشهود لها بالأصول(4).(1/3)
واعتمد فقهاء الحنابلة المصلحة المرسلة، واعتبروها نوعاً من القياس، وأشهر قول لابن قيم الجوزية: (هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يُعْلَم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به؛ فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي مَن استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح، فهي بها الحياة، والغذاء، والدواء، والنور، والشفاء، والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسومها لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقى من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم، وقطب الفلاح، والسعادة في الدنيا والآخرة)(5).
*حكم الاحتجاج بالمصلحة المرسلة:
اتفق الفقهاء على وجوب الأخذ بها حيث لا نص ولا إجماع، على تفاوت بينهم في ذلك، واختلافهم في التسمية.
*دليل العمل بالمصلحة المرسلة:
1- ثبت بالاستقراء أن أحكام الشرع روعي فيها الأخذ بمصالح العباد.(1/4)
2- إن عدم القبول بها يؤدي إلى عدم صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، وهذا يتنافى مع خلود الشريعة وعمومها.
3- إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً حينما وجهه إلى اليمن، قَالَ: "أَرَأَيْتَ إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ كَيْفَ تَقْضِي؟"، قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: "فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟"، قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ؟"، قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلاَ آلُو، قَالَ: فَضَرَبَ صَدْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ"(6).
4- إجماع الصحابة، فقد كانوا يفتون بالوقائع عند اشتمالها على مصلحة راجحة.
*خصائص المصلحة المرسلة:
1 - المصلحة هُدى الشرع، وليس هوى النفس، أو العقل المجرد؛ لأن العقل البشري قاصر، ومحدود الزمان والمكان، ويتأثر بالبيئة، وبواعث الهوى والأغراض والعواطف، قال تعالى: [فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ]، (القصص: 50).
2 - والمصالح المرسلة التي يُحتج بها: هي تلك المصالح الملائمة لمقاصد الشرع، المندرجة تحت كلياته، وليست المصالح الغريبة التي لم يقم لها أي شاهد من الشرع بالاعتبار، وملائمتها لمقاصد الشرع بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله، ولا دليلاً من أدلته.
3 - كما أن من خصائص المصلحة المعتبرة: رجحانها على المفسدة.
4 – أن تكون مرتبة حسب الأولويات: الضروريات، ثم الحاجيات، ثم التحسينيات.
*المقاصد الشرعية وترتيبها:(1/5)
ما من طالب علم، إلا وعرف أن أهداف وغايات ومقاصد الشريعة: المحافظة على الكليات الخمس: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسب، وحفظ المال.
وقد حظيت بهذا الترتيب، وكان موضع اتفاق، وإليك الأمثلة الموضحة.
1- مشروعية الجهاد في سبيل الله، تدل على أن مصلحة حفظ الدين مقدمة على مصلحة حفظ النفس.
2- ما جاز من تناول المسكر عند غلبة ظن الوقوع في الهلاك، يدل على أن حفظ النفس مقدم على حفظ العقل.
3- اشتراط الفقهاء ألا يتسبب جلد الزاني في إتلاف عضو له أو ذهاب لبعض حواسه، أو فقدان قواه العقلية، يدل على أن حفظ العقل مقدم على حفظ النسب.
4- صريح النهي عن اتخاذ الزنى وسيلة للكسب، قال تعالى: [وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] (النور: 33)، يدل على أن حفظ النسب مقدم على حفظ المال.
*الإشكالية الكبرى:
هل تتقدم المصلحة على النص؟، هل تتبدل الأحكام بتبدل المصالح؟، هل تتعارض المصلحة الشرعية والنص الشرعي أحيانا ؟ !
قد يقابل هذا العنوان باستهجان أو استغراب ممن لم يخبر تجدد الوقائع واختلاف الأحوال، ويظن أن النص الشرعي لا يخالف المصلحة الشرعية مطلقاً، وهذا خطأ لأن المصلحة الشرعية ثابتة بنصوص وقواعد شرعية أيضاً .
كما يمكن القول: بأن النص العام يكون بحسب الأفراد لا بحسب العموم، ألم تر أن الشريعة جاءت باستثناءات كثيرة للمضطر والمريض والمسافر والأعرج والأعمى، وذلك في الطعام والشراب والقتال، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعلان الإسلام، وقول كلمة الكفر، والصلاة والصيام، وسائر العبادات.
ولكن ما يقع الخلاف فيه من أهل العلم هو:
هل ذلك من قبيل العمل بنصوص أخرى؟.
أم هو تأجيل العمل بالنص في مقابل تقديم المصلحة الشرعية؟.
أم هو تغليب للمصلحة الشرعية على النص الشرعي؟.(1/6)
فلا يُنكر على أحد لو قال بالقولين الأولين، وإن كان القول الأخير صحيح من حيث الثمرة والنتيجة، مستهجن من حيث اللفظ .
فما المصلحة التي يُنْظَر إليها في مقابلة النصوص؟: إنها المصلحة الشرعية المعتبرة، التي تحقق المقاصد الشرعية الخمسة وتراعي ترتيبها حسب ما سبق من بيان.
وما النصوص التي تقابل بالمصلحة؟: إنها النصوص المبيحة، لا النصوص الموجبة أمراً معيناً في الزمان والمكان، ولا النصوص المحرِّمة بالنص القطعي.
أما أن تراعى المصلحة الشرعية في ترك بعض الواجبات الشرعية؛ فذلك لرفع الحرج، (كالجمع بين الصلاتين) فإن قيل: عملنا بنص رفع الحرج ولم نعمل بالمصلحة فجواب حسن، وإن قيل: أجَّلنا العمل بالنص الموجب حتى يزول الحرج فجواب سليم، وإن قيل: قدّمنا العمل بالمصلحة الشرعية المعتبرة على النص فكلام صحيح أيضاً، فكما أرى: أن المسألة خلاف لفظي، والنتيجة واحدة.
و أما أن تراعى المصلحة الشرعية في فعل بعض المحرمات؛ فذلك للضرورة أو لعموم البلوى، (كتناول الخمر أو أكل الميتة) فإن قيل: عملنا بنص الضرورة ولم نعمل بالمصلحة فجواب حسن، وإن قيل: أجَّلنا العمل بالنص المحرِّم حتى تزول الضرورة فجواب سليم، وإن قيل: قدّمنا العمل بالمصلحة الشرعية المعتبرة على النص فكلام صحيح أيضاً، فكما أرى: أن المسألة خلاف لفظي، والنتيجة واحدة.
*الأدلة على تبدل الأحكام بتبدل المصالح:
من الأمور المسلَّم بها عند كل مسلم: ثبوت النسخ لبعض الأحكام، والتدرج في التشريع، ونزول الأحكام تبعاً للحوادث والمناسبات، كل ذلك يدل دلالة واضحة على تغير الأحكام تبعاً لتغير المصالح.
ووجه تلك الدلالة الواضحة مأخوذ من السنة النبوية والآثار الواردة عن الصحابة،وكذا الإجماع.
أما من السنة:(1/7)
فقد غَلَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم جوانب المصلحة التي رآها، فقد شاور الصحابة في شأن أسرى بدر، وكلهم أشار بما يرى أنه المصلحة للمسلمين، كما أشار عمر بأن يقتل الأسرى حتى لا يقوم للكفار قائمة بعد، وهذه مصلحة شرعية، وأشار أبو بكر وغيره بالإبقاء على حياتهم وأخذِ فدية مالية منه ليتقوى بها المسلمون، ولعل الله أن يهدي الكفار، وهذه مصالح شرعية.
وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رآه مصلحة في نظره، وأقره الله على ذلك، وإن كان قد وجهه سبحانه أن المصلحة الحقيقية في الرأي الأول.
وكذلك ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين الذين أعلنوا الكفر كعبد الله بن أبي بن سلول والمستهزئين بالله ورسوله الذين نزل فيه قوله تعالى: [لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ](التوبة: 66) ، ومع ذلك لم يطبق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حكم المرتد، وذلك خوفاً من أن يتكلم الناس أن محمداً يقتل أصحابه.
فعن جَابِرِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ قَالَ ... عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ... فَعَلُوهَا، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعْهُ لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ"(7).(1/8)
وهذا ترك لإعمال نص وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ"(8)، أخذاً بتلك المصلحة الشرعية، أو بالأحرى خوف مفسدة شرعية، وهي تكلمُ الناس أن محمداً يقتل أصحابه، وفي هذا تنفير عن الدين .
وكذلك ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفيذ حد القذف الثابت في القرآن على عبد الله بن أبي بن سلول رأس الإفك ورأس المنافقين، وذلك حذراً من إعلانه الردة وتمزيق جماعة المسلمين وانتقاض أحوال المدينة على الرسول، إذ كان عبد الله بن أبي زعيماً مسموعاً مطاعاً في قومه، ومازال كذلك حتى وفاته .
وكقوله صلى الله عليه وسلم في موضوع الأضحية: فيما روت عَائِشَةُ تَقُول:ُ دَفَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَضْرَةَ الأَضْحَى فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ادَّخِرُوا الثُّلُث،َ وَتَصَدَّقُوا بِمَا بَقِي"،َ قَالَت:ْ فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ ذَلِك،َ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ مِنْ ضَحَايَاهُمْ، وَيَجْمُلُونَ ـ أجمل: أذاب ـ مِنْهَا الْوَدَكَ ـ دسم اللحم ـ، وَيَتَّخِذُونَ مِنْهَا الأَسْقِيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَا ذَاكَ؟"، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: نَهَيْتَ عَنْ إِمْسَاكِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاَثٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ ـ ضعفاء الأعراب الوافدون على البلد ـ الَّتِي دَفَّتْ عَلَيْكُمْ؛ فَكُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَادَّخِرُوا"(9).
فبيَّن سبب المنع من الادخار، ولما زال السبب، وتغيَّرت الحالة أباح لهم الادخار.(1/9)
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظرون إلى الأمر، وما يحيط به من ظروف، ويَحُفُّ به من مصالح ومفاسد، ويشرعون له الحكم المناسب، حتى وإن خالف ما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من حيث الظاهر، وليس فعلهم من قبيل الإعراض منهم عن شريعة الله أو مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو الفهم الصحيح لسر التشريع، ومن أمثلة ذلك:
سيدنا أبي بكر:
جمع المصحف.
وحارب مانعي الزكاة.
واستخلف عمر.
سيدنا عمر:
لم يدفع للمؤلفة قلوبهم؛ لمصلحة عز الإسلام.
لم يقطع يد السارق عام المجاعة؛ لعموم البلوى.
ترك التغريب في حد الزنى حين لحق أحد المغرَّبين بالروم وتنصر.
جعل حد شرب الخمر ثمانين جلدة.
أفتى بقتل الجماعة بالواحد؛ كيلا يُتخذ ذريعة إلى الخلاص من القصاص.
إمضاء الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد؛ زجراً عن كثرة استعماله.
إبقاء الأرض المفتوحة عَنوة بيد أهلها، ووضع الخراج عليهم؛ لمصلحة جماعة المسلمين وتزويد بيت المال بالموارد المالية.
تدوين الدواوين.
اتخاذ السجون.
ترك الخلافة من بعده شورى.
عمل بالتسعير
سيدنا عثمان:
نسخ المصاحف على حرف واحد، وتوزيعها في الأمصار؛ اتقاء الفتنة بالخلاف.
الحكم بإرث الزوجة التي طلقها زوجها في مرض موته فراراً من إرثها؛ معاملة له بنقيض مقصوده.
تجديد الأذان يوم الجمعة؛ لكثرة الناس.
صلى عثمان رضي الله عنه بالناس في منى الظهر والعصر أربعا؛ً خوفاً من أن يظن الأعراب أن صلاة الظهر والعصر والعشاء ركعتين فقط.
سيدنا علي:
تضمين الصناع، مع أن الأصل أنهم أمناء على ما في أيديهم من أموال الناس؛ وذلك منعاً لتهاونهم مع حاجة الناس المتكررة إليهم.
من فتاوى ابن عباس:
حين سأل سائل: ألِمَن قتل مؤمناً متعمداً توبة؟، قال: لا، إلا النار، فقال له جلساؤه ـ بعد أن ذهب الرجل ـ: كنت تفتينا يا ابن عباس: أن لِمَن قتل توبةً مقبولة، قال: أني لأحسبه رجلاً مغضباً، يريد أن يقتل مؤمناً.(1/10)
قال ابن القيم: (إن هذا وأمثاله سياسة جزئية بحسب المصلحة؛ يختلف باختلاف الأزمنة، فظنَّها مَن ظنَّها شرائع عامة لازمةً للأمة إلى يوم القيامة، ولكلٍ عُذِر وأُجر، ومَن اجتهد في طاعة الله ورسوله فهو دائر بين الأجر والأجرين)(10).
ثم جاء من بعدهم التابعون وتابعوهم وسلكوا مسلكهم، فأفتوا بأشياء لم تكن من قبل.
فقد ردُّوا شهادة الوالد لولده، وشهادة الزوج لزوجه ـ لشمل الطرفين ـ، والأخ لأخيه، مع تجويز مَن قبلهم قبول الشهادة منهم؛ لما رأوا من مصلحة في إبعاد شبهة التواطؤ في الأقضية والشهادات.
وقد أفتى أبو حنيفة ومالك بجواز دفع الزكاة للهاشمي، مع ورود الحديث بالمنع؛ لَمَّا تغيَّرت الأحوال، واختل نظام بيت المال، وضاع حق الهاشميين منه، فأفتيا بذلك؛ دفعاً للضرر عن آل البيت، وحفظاً لهم من الفقر، ومذلة الحاجة.
في الصيد والذبائح: قرر الفقهاء أن مأكول اللحم المقدور عليه: يُذبح، وأن غير المقدور عليه يصاد، وإذا وصل إليه الصائد ووجده حياً ذبحه، وإلا فهو طاهر، فما حكم الحيوان المستأنس إذا توحش، بِم تكون ذكاته؟، وما حكم الحيوان إذا استعصى وتعسر ذبحه؟، كالبعير إذا ندَّ، أو الثور والعجل إذا هاج، أو التيس والكبش إذا هرب.
عملاً بالمصلحة قرر الفقهاء، أنه: إذا أصبح الحيوان مأكول اللحم المقدور عليه: غيرَ مقدور عليه إلا بعسر شديد؛ أصبحت ذكاته بالعَقْر، وهو الطعن بالرمح، أو الضرب بالسيف، أو بإطلاق النار عليه، في أي مكان من جسمه، حتى عاد مقدورا ًعليه، فإن وجدنا به رمقاً من حياة ذُبح، وإلا فهو طيب اللحم يجوز أكله؛ تحقيقاً للمصلحة بحفظ المال.
في التطبيقات المعاصرة:(1/11)
أناط الشارع في مأكولات ومشروبات الإنسان أن تكون خالية من الضرر، فنصَّ على بعض المحرَّمات: [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ](المائدة: 3)، وكما في تحريم الخمر بغياً، فما حكم تعاطي المخدرات؟، وما حكم التدخين؟، وما حكم الإفراط في أكل اللحوم المباحة والنشويات والحلويات لمرضى السكري؛ هل هو القياس، أم تغليب المصلحة؟، كلاهما في الأثر والنتيجة سواء.
فإن قلت: إن العمل ـ الآن في هذا الزمان، أي بعد زمن التشريع ونزول الوحي ـ أصبح بالنصوص الناسخة، والمتأخرة في النزول، فلا يخالفك أحد، وإن قلت إن مجمل التشريع بهذه الأساليب المتنوعة يدل على ضرورة أن يكون المجتهد والفقيه على علم وإلمام بمقاصد الشريعة ليراعيها في العمل بالأحكام الشرعية وعند تنفيذ وتطبيق تلك الأحكام.
وهنا أود الإشارة إلى الناس ـ في الإجمال ـ متفاوتون في التعامل مع الشريعة، وهم ما بين متمسك بالنص الحرفي لا يحيد عنه لدرجة الإفراط، وما بين متساهل في الرأي لدرجة المغالاة لدرجة التفريط، والوسط كما أراه: هو الذي يُعمل التوافق والتكامل ما بين النص الحرفي والمقصد الشرعي.
فنأخذ أقوى ما في الشرع، وأفضل ما في العقل، وبالعقل عرفنا روح الشريعة، وأهمية المصلحة؛ بشرط أن يكون للمصلحة مثيلاتها في أصل الشريعة، أو كان الشرع قد شهد لها أو لمثيلاتها بالاعتبار.
فلا جمود بالتفريط، من خلال تغليب الشريعة على الفهوم، بالوقوف على ظاهر النصوص، ولو أدى إلى تسفيه العقول، كما في زكاة الفطر والتقيد بنوع ما تُخرَج منه؛ القمح والشعير والتمر والزبيب، فمصلحة الفقراء اليوم أن يُعطوا قيمة زكاة الفطر، لا عين القمح والشعير.(1/12)
ولا انحراف بالإفراط، من خلال القراءة المعاصرة كما يسميها بعض من ينظرون إلى الشريعة على أساس المصالح فقط، عندها يصبح التشريع بالمصلحة المزعومة أو الوهمية ذريعة ووسيلة إلى عكس مقصود الشرع.
فقد يتم من خلال تبني المصالح:
أ - هدم واجب: كالجهاد في سبيل الله، قال تعالى: [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَ عَلَى الظَّالِمِينَ](البقرة: 193).
ب - تحليل محرَّم: كالإفتاء بالمصاحبة بدل الزواج الثاني، والمصافحة للنساء للمجاملة.
ت - الافتئات على حق ثابت: كتضييع حق الفقير بحجة أن الزكاة وسيلة للبطالة، وأن الضريبة أولى منها، أو جعل نصيب الأنثى مثل الذكر؛ تحقيقاً للمساواة بمعنى المثلية، وليس المساواة بمعنى العدل كما أراد الشرع.
ث - وسيلة لأكل أموال الناس بالباطل: لكسب شعبية معينة، أو إرضاء مصالح مجموعة من الناس، وتجميع الناس.
ج - تقويض دعائم العدل: فلا يُرجم الزاني المحصن، ولا تُقطع يد السارق؛ بذريعة المدنية وحقوق الإنسان.
هذا، ولا تكون المصلحة معتبرة بتغيير الألفاظ، فتسمية الرشوة: هدية؛ لا يبيحها.
وتسمية الربا: بيعاً أو فائدة وربحاً؛ يبقيه حراماً.
وتسمية الزنى: زواجاً؛ لا يمنع أصل التحريم.
فالمقصود في بناء الأحكام ألفاظها، والأعمال والآثار الناتجة والمترتبة على تلك الألفاظ.
*المصلحة والنص: أيهما يُقَدَّم؟:
إن المصلحة الحقيقة وهي المعتبرة شرعاً لا يمكن تصورها تتعارض مع نص أصلاً، كل مصلحة تتصادم مع نص، فهي مصلحة موهومة وملغاة.
وبالتالي فقول القائل: المصلحة تتقدم على النص، فيعني تلك المصلحة المرسلة باعتبارها أصلاً من أصول الفقه، ودليلاً تبنى عليه الأحكام، وقد شهدت باعتبارها أصول شرعية تفوق الحصر، عندها تكون المصلحة ذاتها أصلاً مقطوعاً به، يصلح أن يقع في مقام التعارض مع بعض الأدلة الظنية.(1/13)
كما أن المصلحة الشرعية المعتبرة قد تكون مخصصة للعام؛ أو مقيدة للمطلق، أو متقدمة على خبر الآحاد؛ دفعاً للحرج، وعدم إرادة العسر، وتخصيص العام أو تقييد المطلق، قد يكون لفظياً بنص آخر، وقد يكون معنوياً بطريق المصلحة المعتبرة شرعاً، وهي تحقيق المقاصد الشرعية.
ولا يجوز بحال من الأحوال أن تقف المصلحة المرسلة أمام نص مقطوع به في الثبوت والدلالة على الحكم، سواء كان نصاً من الكتاب أو السنة أو الإجماع، وذلك أن المصلحة مهما بلغت من القوة فلن تصل إلى درجة النص المعيِّن القطعي في ثبوته ودلالته، لكنها تصلح أن تكون بياناً وتفسيراً للعمومات والظواهر.
*القول في تعارض المصالح:
معلوم أن المصالح كلها ليست في درجة واحدة، بل في درجات مختلفة؛ فمنها: الراجح ومنها المرجوح وقد لا يظهر الرجحان، كما أن المفاسد كليها ليست في درجة واحدة، بل متفاوتة وقد لا يظهر التفاوت.
يقول العز بن عبد السلام: (إن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وإن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وإن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وإن تقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة محمود حسن، وإن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن، واتفق الحكماء على ذلك، وكذلك الشرائع: على تحريم الدماء ـ القتل ـ، والأبضاع ـ الزنى ـ والأموال ـ السرقة والغصب ـ والأعراض ـ القذف والإيذاء ـ، وعلى تحصيل الأفضل فالأفضل من الأقوال والأعمال، ... وكذلك الأطباء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما، ويجلبون أعلى ولا يبالون بفوات أدناهما، ... فإن تعذر درء الجميع ـ المفاسد ـ أو جلب الجميع أ لمصالح ـ فإن تساوت الرتب تخير، وان تفاوت استعمل الترجيح عند عرفانه، والتوقف عند الجهل به) (11).(1/14)
وللاحتياط في الدين، يبين العز بن عبد السلام: أيَّ المصالح تُقَدَّم، فيقول: (الضابط أنه مهما ظهرت المصلحة الخلية عن المفاسد يسعى في تحصيلها، ومهما ظهرت المفاسد الخلية عن المصالح يسعى في درئها، وإن التبس الحال احتطنا للمصالح بتقدير وجودها، وفعلناها بتقدير وجودها، وتركناها بتقدير عدمها، وان دار الفعل بين الوجوب والندب بنينا على أنه واجب به، ... فإن دار بين الندب والإباحة بنينا على أنه مندوب وأتينا به، وإن دار بين الحرام والمكروه بنينا على أنه حرام، وان دار بين المكروه والمباح بنينا على أنه مكروه وتركناه، وقد جاءت الشريعة بمدح السرعة في أمور كالذبح والنحر وضرب الرقاب في القصاص لما في السرعة في ذلك من تهوين الموت وقد كتب الله الإحسان على كل شيء وأمر بإحسان القتلة والذبحة، وكذلك أيضاً قصاص الأطراف تحمد فيه السرعة، فإن السرعة في هذا وأمثاله واجب لا يسع تركها، وكذلك السرعة في القتال ومكافحة الأبطال، وقد مدح الله المسارعة في الخيرات وأثنى على المسارعين فيها)(12).
وفي تقديم المصالح عند تعارضها: تُرجَّح مصلحة عامة أهل السوق على مصلحة الواحد، ومستند ذلك: النهي عن تلقي الركبان، وعن بيع الحاضر للبادي، ومنع الاحتكار، فإن قلت: عملت بالنص صح قولك، وإن قلت: رُجِّحت المصلحة لم تكن مخطئاً.
كما تترجح المصلحة العامة في إجبار الممتنع عن بيع داره أو أرضه في حالة اضطرار المسلمين لمسجد جامع.
كما تترجح المصلحة العامة: في مسائل ذكرها ابن عابدين في الحاشية: (أن الإمام يرى الحجر إذا عم الضرر كما في المفتي الماجن والمكاري المفلس والطبيب الجاهل، وهذه قضية عامة)(13).
ويقاس عليها: منع الأفراد من نشر الزيْغ أو الفساد، فيمنع من ممارسة حرية الرأي والكتابة عند تعارض ذلك مع مصلحة الجماعة والأمة.
*شبهة والجواب عنها:(1/15)
قد يرى بعض الناس أن فتح هذا باب: تبدل الأحكام بتدل المصالح، وترديد عبارة: المصلحة والنص: يؤدي إلى تبديل الشريعة، وقلب أوضاعها، فكلما ظهرت للناس مصلحة تركوا لها نصاً، وفي هذا رفع للأحكام الشرعية شيئاً فشيئاً.
والجواب: أم مما لاشك فيه أن هناك أحكام لا تتغير بحال من الأحوال: كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، وتقدير الحدود.
وأما الذي يتغير، فهو في الإطار التنفيذي: فعند تعارض النصوص من حيث الظاهر، نلجأ إلى التوفيق والجمع بينها ما أمكن، فإن تعذر الجمع نلجأ إلى الترجيح بالأقوى، والأوفق لمقاصد الشريعة، فإن تعذر نلجأ إلى تقديم المقصد الشرعي العام ـ والذي له مستند شرعي أصلاً ـ على النص.
فمثلاً: تزوُّج المرأة على أختها أو عمتها أو خالتها منهي عنه شرعاً، ثبت ذلك بالنص؛ وظهرت العلة واضحة بنص آخر، "إنكم إن فعلتم ذلك قطَّعتم أرحامكم"(14)، ففي الجمع بين الزوجة وأختها، أو بينها وعمتها، أو بينها وخالته: مفسدة قطع الأرحام، وفي دفعها مصلحة الوئام وصلة الأرحام.
فلو ماتت الزوجة؛ فإن أختها، أو عمتها، أو خالتها تحل للزوج، وتترجح مصلحة الزواج بإحداهن؛ صيانة للأولاد.
فالأخت أو العمة أو الخالة كانت في ظل الحرمة قبل موت الزوجة، ثم انتقلن إلى ظل الحِلِّ بعد موت الزوجة.
فالأحكام الشرعية ظلال ثابتة، والوقائع هي التي تنتقل من ظل إلى ظل بإذن الشرع: الصريح، أو بدلالة المقاصد الشرعية العامة.
وبمعنى آخر: تتناوب أفعال المكلفين بمقتضى الظروف والأحوال، كما في حرمة الميتة والربا في حالة السعة واليسر، وإباحتها في حالة الضيق والعسر.
ثم ألا يقول الفقهاء عن كثير من الأحكام: إن هذه الباب من الفقه يعتريه الأحكام الخمسة: الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة، والحرمة.
فقد يكون الانتقال بين هذه الأحكام الخمسة منصوص عليه، وقد يكون بتغليب جانب المصلحة الشرعية المعتبرة حيناً آخر.(1/16)
ولا يخلو عن ذلك حكم من الأحكام، حتى العبادات: فمنها: الواجبة، ومنها المندوب، ومنها المباح، ومنها المكروه، ومنها المحرَّم، وكل ذلك منصوص عليه لا ريب.
والزواج: قد يكون واجباً عند الخوف من الوقوع في الحرام، مع القدرة على القيام بأعباءه، وقد يكون مندوباً، وقد يكون مباحاً، وهو أصله العام، وقد يكون مكروهاً، وقد يكون حراماً: إذا علم من نفسه التقصير بحق زوجته، وذلك تبعاً للمصلحة الشرعية المعتبرة، مع عدم وجود النص، فالنصوص الإجمالية هي التي دعمت المقصد الشرعي.
وفي إطار الاختيار بين الأحكام المباحة تبعاً للمصلحة:
توزيع الزكاة على مصارفها: فهل يتحتم التوزيع على الأصناف الثمانية كما قال فقهاء الشافعية، أم تترجح بعض المصارف على غيرها حسب المصلحة الشرعية، وتتبدل حسب الزمان والمكان.
فقد رجح عمر بن الخطاب رضي الله عنه مصلحة غير المؤلفة قلوبهم، ولم يعط أحداً منهم.
وقد تتأكد مصلحة إعطاء الزكاة للمجاهدين في سبيل الله في مثل ظروف الأمة اليوم، في فلسطين والشيشان، وكشمير ومناطق التماس والمواجهة مع عدو الإسلام.
وقد تترجح مصلحة الفقير المحتاج إذا كان من الأقربين.
ومن الأمثلة المعاصرة: رمي الجمار في يوم النحر، وأيام التشريق، له أزمنة معينة، ومع ضيق المكان، تترجح مصلحة اتساع الزمان، بحيث يُفتى بجواز الرمي في غير الأوقات المحددة بالنص.
وختاماً أقول: لا ينبغي أن يعمم القول باعتبار المصلحة، حتى لا تصبح ذريعة لوصول العوام، ودوي الأهواء من الولاة والقضاة إلى أهوائهم ومآربهم؛ بإلباسها ثوب المصلحة، وعندها يكون القول بالمصلحة من باب التلذذ والتشهي، وإنزال الشرع على مقتضى الهوى، وذلك غير جائز(15).
---------------------------------------------------------------
(1) المستصفى، 1/3.
(2) المستصفى، 1/174.
(3) المبسوط للسرخسي ج: 10 ص: 145.
(4) يُنْظَر: جمع الجوامع، 3/43.
(5) إعلام الموقعين ج: 3 ص: 3.(1/17)
(6) رواه أبو داود، رقم الحديث (3119)، والترمذي، رقم الحديث (1249)، ومسند الإمام أحمد، رقم الحديث (22060)، وسنن الدارمي، رقم الحديث (168)، 1/72، وتفسير ابن كثير، 4/206، ومسند الطيالسي، رقم الحديث (559)، 1/76، ومسند عبد بن حميد، رقم الحديث (123)، 1/72، والمعجم الكبير، الطبراني، 20/170، وسير أعلام النبلاء، الذهبي، 1/448.
(7) رواه البخاري، رقم الحديث، (4527)، ومسلم، (4681).
(8) رواه البخاري، رقم الحديث (2794)، وأصحاب السنن.
(9) سنن أبي داود، رقم الحديث، (2429).
(10) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، 1/25.
(11) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/4.
(12) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/50-51.
(13) حاشية ابن عابدين، 6/401.
(14) المعجم الكبير، الطبراني، 11/337.
(15) ألقيت بكلية الدعوة الإسلامية، فرع دمشق، يوم الأحد: 13/1/1424هـ، 16/3/2003م.(1/18)