بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الأول الآخر، الولي الناصر، الباطن الظاهر، الذي سجدت له الجباه، ولهجت بذكره الشفاه، الحمد لله الذي لا يحمد على كل شيء سواه، الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد الذي اصطفانا لأمة حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم من بين الأمم، واصطفى لنا ملة الإسلام من بين الملل.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت بها السموات والأرض، ولا تعدلها سموات ولا أرض، بها اصطُفيت النفوس، ولأجلها جردت السيوف، وهي مفتاح دار السلام، من قالها مخلصا بها قلبه، كانت الجنة مثواه ورضى الله مأواه، وكان مقام الأنبياء خِلّته والصديقين صُحبتُه، ومع الشهداء منزلته، فلا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله ومصطفاه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، حتى أتاه اليقين، فاللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد،كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
أما بعد:
فإن العلوم نشرت، والمعارف بسطت، ووسائلها سُهلت، في زمن ضعفت فيه العزائم، وخارت فيه الهمم، إلا لِماما من الناس يرجوا كثير منهم بطلبه عرَضا من الدنيا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جُهّالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (1)
__________
(1) ) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم؟، ح100- 1/36. وصحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه، وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، ح2673- 16/230.(1/1)
ولقد رأينا تحقق هذا الحديث في هذا الزمان الذي كثر فيه الرؤوس الجُهّال حتى أفتوا بالأهواء والمنافع والمصالح التابعة للهوى، وأصبح الشعار المرفوع؛ "حيثما توجد المصلحة فثم شرع الله" وإنه لحق أريد به باطل، فأي مصلحة تلك التي تتغير بها أحكام الشرع، ويُحل بها الحرام ويُحرم بها الحلال، إنها والله المَهْلكة بعينها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولا أقول ذلك مجادلا في أن الإسلام جاء لجلب المصلحة ودرء المفسدة، فهذا أصل أصيل وركن ركين في الإسلام بل هو مقصده الأساس.
ولكن أية مصلحة تلك التي جاء الإسلام لتحقيقها؟
إنها المصلحة التي تُخرج الإنسان عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا، المصلحة التي تجعل حب الله في أعلى درجات المحبة، والعمل للإسلام في أعلى أولويات العمل، قال عز وجل: "قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ " (1) .
إلا أنه قد يقع اختلاف بين المسلمين في تعيين هذه المصالح، وأكثر ما يختلفون فيها هي المصالح التي استجدت على الأمة في جريان أحوالها بعد عصر الشرع، وليس لها دليل تقاس عليه إلا النظر في عمومات الشريعة، وأكثر هذا النوع يدخل في باب "المصلحة المرسلة".
__________
(1) ) سورة التوبة، الآية: 24(1/2)
فما هي المصلحة؟ وكيف جاء الإسلام لتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة؟ وما هي أقسام المصلحة؟ وما هو هذا النوع من المصالح المسماة بالمصالح المرسلة؟ وإلى أي حد يمكن اعتبارها حجة في الشرع؟ وكيف نظر الفقهاء إليها؟ وهل هذه المصلحة تؤخذ على إطلاقها أم هناك ضوابط تضبطها؟ وإلى أي حد تحققت هذه المصلحة في عصرنا الحالي؟.
هذه بعض الأسئلة التي حاولت الإجابة عنها في هذا البحث محاولا إزالة اللبس الذي وقع حول المصلحة المرسلة، وإظهار مكانتها في التشريع الإسلامي.
وقد استخرت الله تعالى فيه، وشاورت أهل الرأي حتى استقر عندي الرأي، فركبت راحلة العزم، وأخذت زاد التوكل، وصحبت دليل الدعاء، وأرجو أن أصل إلى شاطئ السلام، ولا أقول إني قد بلغت فيه الغاية، ولا حققت به المراد، وأنّى لمثلي أن يحيط بالعلم علما، ولا بالفهم فهما، إلا أني أرجو أن ينفع الله به الطلاب، وأن يزقني به الأجر والثواب.
ولا أرجو ممن يقرؤه إلا خالص الدعاء، وحسن الاستغفار، فهو الذخر الباقي والزاد المبلغ. وألا يكتم ما فيه من علم ولا يكتمني ما فيه من خطإ، ورحم الله من أهداني عيوبي.
هذا وقد نحوت فيه نحوا أرجو أن يسهل معه الفهم وأن يصل ما أريد إيصاله من العلم.
حيث قسمته إلى مقدمة وخاتمة وثلاثة فصول:
فجعلت الفصل الأول للحديث عن المصلحة في الإسلام. وذلك من خلال مبحثين؛ الأول حول المصلحة العامة، وفيه تحدثت عن تعريف المصلحة في اللغة والاصطلاح، وذلك بنقل عدد من تعريفات العلماء لها، وقد حاولت من خلال هذا المبحث أيضا التأكيد على حقيقة أساسية في الإسلام، وهي أن المقصد الأساس من هذا الدين هو جلب المصالح ودرء المفاسد، واستدللت على ذلك بمجموعة من الآيات والأحاديث وبعض أقوال العلماء، ثم ختمت هذا المبحث بالحديث عن أقسام المصلحة ومراتبها، وذلك حتى يسير المسلم على بينة من أمره، فلا يؤخر ما حقه التقديم ولا يقدم ماحقه التأخير.(1/3)
أما المبحث الثاني من هذا الفصل فكان حول أُسِّ البحث وموضوعه؛ وهو "المصلحة المرسلة" حيث ذكرت تعريفاتها المتعددة في لغة العرب واصطلاح الأصوليين، ثم جمعت هذه التعاريف اللغوية والاصطلاحية جميعا في خلاصة جامعة واستنتاج مشترك. وبعد ذلك تحدثت عن آراء الفقهاء من الجمهور حولها، وذكرت اختلافاتهم في كونها حجة أم لا، لأخلص في النهاية إلى أنها مقبولة باتفاقهم ولو لم تنُص على ذلك أقوالهم.
أما الفصل الثاني، فخصصته للحديث عن ضوابط هذه المصلحة حتى يعرف حدها فلا يُتجاوز، وقد ذكرت لها أربعة ضوابط هي:
- ألا تخالف نصوص الكتاب والسنة.
- أن تكون عامة.
- ألا تفوت مصلحة أهم منها.
- وألا تخالف مقاصد الشارع.
وحتى لا يبقى الكلام في النظر، فإني خصصت الفصل الثالث للحديث عن بعض التطبيقات لهذه المصلحة في العصر الحاضر. وقد اكتفيت بمجالين من مجالات تطبيقها جعلت كل واحد في مبحث وهما:
- مجال السياسة الشرعية وتشريع الأحكام والقوانين: وهو أكثر مجالات تطبيق المصلحة المرسلة، وفيه عرفت السياسة الشرعية وبينت علاقتها بالمصالح المرسلة، ثم تحدثت عن نظام الحكم وطرقه وأنه يخضع لتغيرات العصر وتقلباته مع الحفاظ على مبادئ الشرع وأحكامه، وفي آخر هذا المبحث تكلمت عن بعض القوانين التي استجدت علينا، و التي تستند إلى المصلحة المرسلة. ومنها قوانين السير، وقوانين حماية البيئة، وقوانين حماية الملكية الفكرية وحق التأليف وبراءات الاختراع...
- أما المبحث الثاني فكان حول مجال الاقتصاد الإسلامي: وهو أُسُّ قضايا العصر، وقد أردت أن أبين من خلاله، أن الاقتصاد الإسلامي قادر على مواكبة المستجدات الاقتصادية، وأن الالتزام بأحكام الشرع في ضبط الاقتصاد هو المخرج من الأزمات الاقتصادية، أما النموذج التطبيقي الذي ذكرته للمصلحة المرسلة في هذا المجال، فهو "البنوك الإسلامية".(1/4)
وفي الأخير ختمت هذا البحث بخاتمة جمعت فيها خلاصات ما أردت الوصول إليه من خلال هذا البحث.
الفصل الأول:
دراسة نظرية للمصلحة في الإسلام.
المبحث الأول:
المصلحة في الشريعة الإسلامية: حقيقتها وأقسامها.
... لقد خلق الله تعالى الإنسان وأنزله إلى الأرض وجعله خليفته فيها، وأمره بإعمارها، ولتحقيق هذه الغاية فقد فطره على حب النفع ودفع الضر عن نفسه حتى يبقي عليها، لكنه لو تركه لهلك هذا الإنسان وأهلك غيره، لأنه سيسعى إلى كل مصلحة تخدمه وسيدفع كل مفسدة تضره، ولو كان في ذلك هلاك العالم، بل لربما سعى إلى ما توهمه مصلحة فإذا فيه هلاكه" يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ" (1) . يقول الإمام الشاطبي: " المصالح التي تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها، وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له، فقد يكون ساعيا في مصلحة نفسه من وجه لا يوصله إليها، أو يوصله إليها عاجلا لا آجلا، أو يوصله إليها ناقصة لا كاملة، أو يكون فيها مفسدة تربي في الموازنة على المصلحة، فلا يقوم خيرها بشرها، وكم من مدبر أمراً لا يتم له على كماله أصلا، ولا يجني منه ثمرة أصلا وهو معلوم مشاهد بين العقلاء" (2) .
لذا أرسل الله - سبحانه وتعالى - له الرسل وأنزل عليه الكتب حتى يهتدي إلى سواء السبيل ويعرف طريق الخير والصلاح فيأتيه، وطريق الشر والفساد فيجتنبه، ثم ختم سبحانه وتعالى رسالاته بشريعة الإسلام التي أوضحت بالقول الفصل والبلاغ المبين أنها جاءت رحمة للعالمين، وهداية للناس إلى الطريق المستقيم، وأنها جاءت لتُحقق مصالح العباد في العاجل والآجل.
__________
(1) ) سورة النور، الآية:39.
(2) ) الموافقات:1/286- 287(1/5)
ولكن ما هي هذه المصلحة التي جاءت الشريعة الإسلامية لتحققها للعباد؟. وكيف نفرق بين هذه المصلحة وبين مصالح أهل الأهواء والزيغ والفساد، الذين لا هم لهم سوى أن يجلبوا مصالحهم الذاتية ولو كان في ذلك هلاك الأمم؟ وما هي أقسام هذه المصلحة؟
المطلب الأول: المصلحة في اللغة والاصطلاح.
أولا: المصلحة في الاستعمال اللغوي.
يقول الجوهري في كتابه الصحاح: " الصلاح ضد الفساد، تقول: صلح الشيء يصلح صُلوحا؛ مثل دخل يدخل دخولا. قال الفراء: وحكى أصحابنا صلُح بالضم. وهذا الشيء يصلح لك؛ أي هو من بابتك.
والصلاح بكسر الصاد: المصالحة، والاسم: الصلح، يُذكر ويؤنث. وقد اصطلحا وتصالحا واصّالحا، أيضا مشددة الصاد (...). والإصلاح: نقيض الإفساد. والمصلحة: واحدة المصالح، والاستصلاح: نقيض الاستفساد" (1)
أما ابن منظور في معجمه الجامع " لسان العرب" فقد فصل في ذلك تفصيلا حسنا صالحا فقال: "الصلاح ضد الفساد (...) ورجل صالح في نفسه من قوم صلحاء ومصلح في أعماله وأموره، وقد أصلحه الله، وربما كنّوا بالصالح الذي هو إلى الكثرة، كقول يعقوب: مغرةُ في الأرض مغرة من مطرة، هي مطرة صالحة، وكقول بعض النحويين، كأنه ابن جني: أبدلت الواو من الياء إبدالا صالحا، وهذا الشيء يصلح لك أي هو من بابتك، والإصلاح نقيض الإفساد.
وأصلح الشيء بعد فساده: أقامه.
وأصلح الدابة: أحسن إليها فصلحت (...).
والصلح: تصالح القوم بينهم. والصلح: السلم.
والصالح بكسر الصاد: مصدر المصالحة (...) قال بشر بن أبي حازم:
يسومون الصلاح بذات كهف *** وما فيها لهم سلع وقار.
وصلاحَ وصلاح: من أسماء مكة شرفها الله تعالى". (2)
انطلاقا من هذه التعاريف يمكننا القول: إن المصلحة في لغة العرب تدل على أن:
" الصلاح ضد الفساد، والمصلحة ضد المفسدة.
__________
(1) ) الصحاح، مادة "صلح": 1/341 ... ... ... ... ... ... ... ...
(2) ) لسان العرب، مادة "صلح": 2/516-517(1/6)
" أن هذا المعنى يدل على الرأفة والرحمة في التعامل "أصلح الدابة: أحسن إليها".
" أن معاني الصلح والصلاح لازمة (1) للأمان والاطمئنان، فالصلح هو السلم، وصلاح من أسماء مكة التي جعلها الله حرما آمنا.
" وأن الصلاح هو لازم الاجتماع والتوحد والطمأنينة والسكينة، ففي السلم يكون التوحد، وفي مكة يكون الاجتماع، وكلاهما فيه الطمأنينة والسكينة. قال عنترة ابن شداد:
... كم ليلة قطعنا فيك صالحة *** رغيدة صفوها ما شابه كدر.
وخلاصة القول إن "المصلحة هي جماع الخير".
ثانيا: المصلحة في شريعة الله ودينه.
وهذه نأخذها من أوجه:
... الوجه الأول: المصلحة في القرآن الكريم.
إننا إذا تتبعنا آيات الكتاب العزيز، وجدنا أن مادة "صلح" ومشتقاتها قد ذكرت في أكثر من مائة وسبعين موضعا. (2)
وقد جاءت على دلالات ومعان متعددة منها:
1) إن الإيمان بالله وتوحيده مصلحة، والشرك والكفر مفسدة؛ قال عز وجل: "وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " (3)
وقال: "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ" (4) فدل على أن تعدد الآلهة مفسدة وأن توحيد الله تعالى مصلحة.
__________
(1) ) أي من لوازم، أو متلازمة.
(2) ) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن: ص520 ... ... ... ... ... ... ... ...
(3) ) سورة الأنعام، الآية: 48
(4) ) سورة الأنبياء، الآية: 32(1/7)
2) استعمال لفظ "صلح" ونقيضها "فسد" - بمفهوم المخالفة- للدلالة على الاهتمام بالمصالح الاقتصادية. قال عز وجل: "وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ" (1) وعلى لسان شعيب قال: "فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" (2) ؛ فدلت الآيتان على أن الإفساد في الأرض بإهلاك أرزاق العباد والتطفيف في الموازين، وإبخاس الناس أشياءهم، هو مفسدة كبيرة، لذلك نهت الآيات عن ذلك وأمرت بضده.
3) استعمال لفظ "صلح" في البعد الاجتماعي للأمة، قال عز وجل: "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ" (3) وقال: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا" (4) وقال: "وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ" (5) ؛ فدلت الآيات على وجوب التآلف والتصالح والتكافل بين أفراد المجتمع، حتى يصير كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
__________
(1) ) سورة البقرة، الآية: 205
(2) ) سورة الأعراف، الآية: 85
(3) ) سورة الأنفال، الآية: 1
(4) ) سورة النساء، الآية: 35
(5) ) سورة البقرة، آية: 220(1/8)
4) استعمال لفظ صلح في البعد السياسي للأمة؛ قال عز وجل: "وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا" (1) وقال: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (2) فدلت الآيات على وجوب ترصيص صف الأمة وعدم ترك الشقاق والنزاع بين أفرادها وجماعتها يكبر بل يجب أن يُقطع دابر هذه الفتن. ودلت على أن الأمة إن آمنت بالله تعالى وعملت صالحا فإن الله سينصرها على عدوها ويستخلفها في الأرض، ويمكن لها دينها الذي ارتضى لها. (3)
الوجه الثاني: المصلحة في السنة المطهرة.
جاء لفظ "صلح" ومشتقاته في السنة المطهرة في مواضع كثيرة. وبما أن السنة مبينة للقرآن، فإن دلالات لفظ "صلح" في السنة لا يختلف كثيرا في الدلالة عنه في القرآن الكريم، ومن تلك الدلالات:
1) في المجال الاقتصادي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح عند الرجل الصالح". (4)
__________
(1) ) سورة الحجرات، آية: 9
(2) ) سورة النور، آية: 55
(3) ) راجع د: فوزي خليل، المصلحة العامة من منظور إسلامي، ص42 وما بعدها.
(4) ) رواه الحاكم في المستدرك، كتب البيوع، ح2130 - 2/ 3.(1/9)
2) أن الإيمان بالله تعالى وتوحيده مرتبط بالصلاح والإصلاح: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة ألا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق". (1) فقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث حقيقة الدين بين طرفين اثنين، يبدأ أولهما بعقيدة التوحيد وينتهي الطرف الثاني عند أبسط نموذج لخدمة المصلحة العامة، كإماطة الأذى عن الطريق. وبذلك تكون جميع وجوه المصالح داخلة في قوامه، محصورا بين طرفيه.
3) المصلحة مرتبطة بالجانب الاجتماعي للأمة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله". (2) - (3)
إن نظرة فاحصة لآيات الكتاب العزيز وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم لتبين لنا أن المصلحة التي قصدها الشارع من هذه النصوص مرتبطة بكل مجالات الحياة التي عليها اعتماد الإنسان. وهذا ما سيتبين عند تعريف المصلحة في الاصطلاح الأصولي.
الوجه الثالث: المصلحة في الاصطلاح الأصولي.
تباينت ألفاظ علماء الأصول في تعريفهم للمصلحة، إلا أنه رغم تباين ألفاظهم فإن مقصدهم منها كان واحدا.
__________
(1) ) صحيح مسلم (بشرح الإمام النووي): كتاب الإيمان، باب عدد شعب الإيمان حديث 57 ج 2/6
(2) ) رواه الطبراني في المعجم الكبير، كتاب العين، عبد الله ابن مسعود، ح 10033- 10/ 86.
(3) ) أنظر للدكتور رمضان البوطي في كتابه: "ضوابط المصلحة" ص73.وما بعدها. والدكتور فوزي خليل في كتابه: "المصلحة العامة من منظور إسلامي" ص54 ومابعدها.(1/10)
فقد عرفها الإمام الغزالي في كتابه المستصفى بقوله: "(المصلحة) عبارة عن جلب منفعة أو دفع مضرة، ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة من مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، ولكن نعني بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشرع، ومقصور الشرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، وكل مايفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة". (1)
وهذا التعريف مكون من شقين، في الأول، نجد أن الإمام الغزالي قد عرف المصلحة تعريفا عاما بقوله: "جلب منفعة أو دفع مضرة" ولو اقتصرنا على هذا الشق من التعريف لأصاب الناس من الهرج والمرج والشدة والحرج ما انفصلت به سوالفهم، وانقطعت به أرزاقهم، ووقعوا في ضنك الدنيا وآلوا إلى عذاب الآخرة، لأن مصالح الناس ليس لها ضابط يضبطها إن اتُّبعت فيها الأهواء ورأى كل واحد مصلحة نفسه، غير عابئ بغيره. لذلك نجد الإمام استدرك قوله في الشق الثاني وخصصه بقوله: "ولسنا نعني به ذلك..." وبهذا تنتظم أمور الحياة، لأنه كلما اختلف الناس في مصالحهم عادوا إلى مقصود الشرع من ذلك. (2)
وإذا نظرنا إلى تعاريف جلة من العلماء، فإنا نجد أن عالما جليلا هو الطاهر بن عاشور قد وقع في نفس ما وقع فيه الإمام الغزالي عند تعريفه للمصلحة ، حيث بدأ تعريفه لها بقوله: " وصف للفعل يحصل به الصلاح، أي النفع منه دائما أو غالبا، للجمهور أو للآحاد" (3) . وحتى لا يحصل الخلط في قوله ويفهم على غير قصده، فإنه عقب على ذلك قائلا: "فقولي دائما" يشير إلى المصلحة الخالصة والمطردة، وقولي: "أوغالبا" يشير إلى المصلحة الراجحة في غالب الأحوال، وقولي: "للجمهور أو للآحاد" إشارة إلى انها قسمان. (4)
__________
(1) ) المستصفى ص- 174
(2) ) راجع؛ فوزي خليل في كتابه: المصلحة العامة من منظور إسلامي ص- 78
(3) ) مقاصد الشريعة الإسلامية ص- 63
(4) ) نفسه ص- 63(1/11)
وأنا أقول عقب قوله هذا: إنه ليس هناك مصلحة مطردة، وراجحة في غالب الأحوال، وتخص الجمهور والآحاد، إلا المصلحة التي حددها الشارع الحكيم، الذي شرع للأفراد والجماعات بكل أنواعها دون أن تتعارض مصلحة فيه بأخرى، وإذا وقع التعارض فإن للشارع طرقه الحكيمة للترجيح؛" ولا يظلم ربك أحدا ". (1)
ويتضح هذا من خلال تعريف الدكتور رمضان البوطي للمصلحة، حيث قال: "(المصلحة هي) المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم، ونفوسهم، وعقولهم، ونسلهم، وأموالهم، طبق ترتيب معين فيما بينها" (2) وأيضا من خلال تعريف الإمام الطوفي: " هي السبب المؤدي إلى مقصود الشارع" (3)
أما فقيه المصالح والمفاسد؛ الإمام عز الدين ابن عبد السلام فإنه يرى أن "حقيقة المصالح هي اللذات وأسبابها، والأفراح وأسبابها" ثم فرق بيْن لذات الدنيا وأسبابها وأفراحها، وبين بأنها معلومة بالعادة، وبيّن أن أفضل لذاتها هي " لذات الأحوال" ولذات بعض الأنبياء والأحوال، كلذة الصلاة والزكاة... وبيْن لذات الآخرة الكاملة التي دل عليها الوعد والوعيد والزجر والتهديد الذي ذكر في كتاب الله العزيز وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأكد العز - رحمه الله- أن " مصالح الدارين ومفاسدها في رتب متفاوتة" فأعلى المصالح هي " العرفان والإيمان وطاعة الرحمن" وأقبح المفاسد هي " الجهل بالديان والكفر والفسوق والعصيان" لذلك سعد من سعى إلى تقديم مصالح الدار الآخرة الباقية على مصالح الدنيا الفانية، فهذا دأب الأولياء والأصفياء. (4)
__________
(1) ) سورة الكهف، الآية : 49.
(2) ) ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: ص- 27 .
(3) ) رسالة في رعاية المصلحة: ص- 25 .
(4) ) أنظر كتاب: قواعد الأحكام في مصالح الأنام. 1/11-12.(1/12)
وقد تابعه في ذلك قرينه في العلم وصنوه في العمل، العالم العامل المجدد "الإمام الشاطبي" إذ أكد أن المصالح هي ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان وتمام عيشه، ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية، على الإطلاق، حتى يكون منعما على الإطلاق.
إلا أنه أكد أن إدراك هذه المصالح في هذه الدار بعيد لا ينال، لذا فرق في المصالح " من حيث اعتبار هي موجودة هنا، ومن حيث اعتبار الشارع لها" أما الأول، فكما قال: أنه غير مدرك؛ "لأن المصالح في هذه الدار مشوبة بتكاليف ومشاق، قلت أو كثرت، تقترن بها أو تسبقها أو تلحقها" أما جهة اعتبار الشارع لها فإنه - وحتى لا يكلف الناس بما لا يطيقون- اعتبر ما رجح منها " فالمصلحة إن كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد، فهي المقصودة شرعا، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد، لجري قانونها على أقوم طريق وأهدى سبيل، وليكون حصولها أتم وأقرب وأولى بنيل المقصود على مقتضى العادات الجارية في الدنيا، فإن تبعها مفسدة أو مشقة فليست بمقصودة في شرعة ذلك الفعل وطلبه". (1)
وجماع القول من هذه التعاريف: أن المصلحة الشرعية هي المصلحة التي تعود بالنفع على الإنسان في جسمه وروحه، وحاضره ومستقبله، وفرده وجماعته، وقومه وإنسانيته، ودنياه وآخرته. أو كما قال الدكتور يوسف القرضاوي: " هي المصلحة التي تسع الدنيا والآخرة، وتشمل المادة والروح، وتوازن بين الفرد والمجتمع، وبين الطبقة والأمة، وبين المصلحة القومية الخاصة والمصلحة الإنسانية العامة، وبين مصلحة الجيل الحاضر والأجيال المستقبلة" (2) .
وكما قررت القاعدة الحديثية الجامعة: "فأعط كل ذي حق حقه". (3)
__________
(1) ) انظر الموافقات: 2/ 20- 21 - 22.
(2) ) مدخل إلى دراسة الشريعة الإسلامية :ص58.
(3) ) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع حديث رقم: 1968. ج1/428(1/13)
المطلب الثاني: مقصد الشريعة مبني على جلب مصالح العباد في الدنيا والآخرة.
ذكر ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" أن رُستم قائد جيش الفرس في معركة القادسية؛ سأل ربعي ابن عامر عن المسلمين، فقال ربعي رضي الله عنه : " الله ابتعتنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام" (1) إن هذه الكلمات على وجازتها، تعبِّر عن جوهر شريعة الإسلام، هذه الشريعة التي جعلت عنوانها: " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ". (2)
وجعلت سماتها ما وصف به القرآنُ المبعوث بها أنه: "يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ". (3) أما كتابها (ف) "يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ". (4) "وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ." (5)
" إنها المنهج الذي يسعد البشرية كلها ويقودها إلى الكمال المقدر لها" (6) . وبعبارة أخرى؛ فهو المنهج الذي يقودها إلى مصلحتها في الدنيا والآخرة.
__________
(1) ) البداية والنهاية: 7 /38 ، أحداث سنة 14هـ في معركة القادسية.
(2) ) سورة الأنبياء، الآية : 107
(3) ) سورة الأعراف، الآية: 156.
(4) ) سورة الإسراء، الآية: 9.
(5) ) سورة يونس، الآية: 57
(6) ) سيد قطب، في ظلال القرآن: 4/ 2401(1/14)
وقد سبق الذكر أن هذه المصلحة التي يقصدها الشارع هي المنفعة العامة الشاملة للدنيا والآخرة، للفرد والمجتمع، للقوم والأمة، وللحاضر والمستقبل. وما أحسنه من تعبير ذلك الذي وصف به الإمام ابن القيم في كتابه القيم "إعلام الموقعين" الشريعة ومقاصدها بقوله: " إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة هي عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقة، وظله في أرضه، وحكمته الدالة على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي أبصر به المبصرون، وهداه الذي اهتدى به المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم(...) وقرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح(...) وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها(...) وهي العصمة للناس، وقوام العالم(...) وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة" (1) .
إنه وصف يشفي الغليل ويبرئ العليل، لهذه الشريعة التي آلت ألا تترك من المصالح دقها وجلها إلا بينتها للناس وأمرت بها، قال عز وجل: "ما فرطنا في الكتاب من شي"ء. (2)
__________
(1) ) إعلام الموقعين: 3/5.
(2) ) سورة الأنعام، الآية: 38.(1/15)
يقول العز بن عبد السلام: " والشريعة كلها مصالح تدرأ مفاسد، أو تجلب مصالح، فإذا سمعت الله يقول: "يا أيها الذين آمنوا" فتأمل وصيته بعد ندائه ، فلا تجد إلا خيرا يحثك عليه أو شرا يزجرك عنه أو جمعا بين الحث والزجر" (1) ويقول في موضع آخر: "ولو تتبعنا مقاصد ما في الكتاب والسنة لعلمنا أن الله أمر بكل خير دقه وجله، وزجر عن كل شر دقه وجله، فإن الخير يعبر به عن جلب المصالح ودرئ المفاسد، والشر يعبر به عن جلب المفاسد ودرئ المصالح، وقد قال عز وجل: " فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ". (2) " (3) .
ويقول الإمام الشاطبي: " وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل" (4) ويقول:" ثبت أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، وذلك على وجه لا يختل لها به نظام، لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء، وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات" (5)
ولكن! قد يقول قائل: إذا كان مقصد الشريعة هو جلب المصالح ودرء المفاسد، فما بالنا نجد أن أحكامها مشوبة بتكاليف شاقة على النفس، وما بالنا نجد أنها أمرت بقطع يد السارق، وجلد الزاني، والقصاص من المعتدي، أليست هذه مفاسد قد أمرت بها الشريعة.
__________
(1) ) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1 / 11.
(2) ) سورة الزلزلة، الآية: 7- 8.
(3) ) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 2 / 189.
(4) ) الموافقات: 2 / 4
(5) ) نفسه: 2 / 30 - 31.(1/16)
ونقول له: أما قولك "إن الشريعة أمرت بتكاليف شاقة على النفس" فلأنها جاءت لتؤكد أنه ليس في الدنيا مصالح محضة أو مفاسد محضة " (ف) هذا في مجرد الاعتياد لا يكون" (1) لأن هذه الدار هي دار ابتلاء واختبار، وليست دار قرار، لذا حذر الله عز وجل من الركون إليها والاطمئنان بها، فهي لا تساوي جناح بعوضة، وقد بين الله سبحانه وتعالى قدرها فقال: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا". (2) ولما كان هذا المثل دالا على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لامحالة، وأن الآخرة كائنة لا محالة، حذر من أمرها ورغب فيما فيها من الخير فقال: " وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" (3) أي هي متاع غارٌّ لمن ركن إليه، فإنه يغتر بها وتعجبه حتى يعتقد أنه لا دار سواها ولا معاد وراءها، وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى الدار الآخرة. (4)
هذه هي حقيقة الحياة الدنيا كما وصفها الله عز وجل، فالسعيد الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، واعتبرها معبرا إلى الجنة وليس مقرا يخلد فيه، فصبر على مشاق تكاليفها موقنا أن مآل ذلك هو جنات الخلود " يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا". (5)
__________
(1) ) الشاطبي، الموافقات: 2 / 21.
(2) ) سورة الحديد، الآية: 20.
(3) ) سورة الحديد، الآية: 20.
(4) ) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: 4 / 1886.
(5) ) سورة مريم، الآية: 85 - 86 .(1/17)
وأما قولك: "إن الشريعة أمرت بقطع يد السارق وجلد الزاني، والقصاص من المعتدي، وأن هذه مفسدة في الأبدان والأموال" فكل ذلك خلاف قولك وظنك؛ لأن فيه مصلحة عظيمة تتجلى في حفظ أمن الناس وصون أموالهم وأعراضهم، وإن مثل هذا كمثل قطع العضو المتورم خشية أن ينتشر الورم في الجسد كله فيؤدي إلى هلاك صاحبه، يقول العز بن عبد السلام: " وربما كانت أسباب المصالح مفاسد، فيؤمر بها لا لكونها مفاسد، بل لكونها مؤدية إلى مصالح، وذلك كقطع الأيدي المتآكلة حفظا للأرواح، وكالمخاطرة بالأرواح في الجهاد، وكذلك العقوبات كلها ليست مطلوبة لكونها مفاسد، بل لكونها المقصودة من شرعتها (...) كل هذه مفاسد أوجبها الشرع لتحصيل ما رتب عليها من المصالح الحقيقية، وتسميتها بالمصالح من مجاز تسمية السبب باسم المسبب. (1)
وقد أعجز الله تعالى كل قانون وضعي وأفحم كل بيان بشري بقوله: " وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ". (2)
__________
(1) ) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1 / 14.
(2) ) سورة البقرة ، الآية : 179.(1/18)
يقول سيد قطب - رحمه الله - : " إنه ليس الانتقام وليس إرواء الأحقاد، إنما هو أجل من ذلك وأعلى. إنه للحياة، وفي سبيل الحياة، بل هو في ذاته حياة... ثم إنه للتعقل والتدبر في حكمة الفريضة، ولاستحياء القلوب واستجاشتها لتقوى الله، والحياة في القصاص تنبثق من كف الجناة عن الاعتداء ساعة الابتداء. فالذي يوقن أنه يدفع حياته ثمنا لحياة من يقتل، جدير به أن يرتوي ويفكر ويتردد. كما تنبثق من شفاء صدور أولياء الدم عند وقوع القتل بالفعل؛ شفاؤها من الحقد والرغبة في الثأر (...) وفي القصاص حياة على معناها الأشمل الأعم؛ فالاعتداء على حياة فرد اعتداء على الحياة كلها، واعتداء على كل إنسان حي يشترك مع القتيل في سمة الحياة، فإذا كف القصاص الجاني عن إزهاق حيات واحدة، فقد كفة عن الاعتداء على الحياة كلها" (1) " لذلك لم يجز أن تكون الزواجر والعقوبات والحدود إلا إصلاحا لحال الناس بما هو اللازم في نفعهم دون ما دونه ودون ما فوقه" (2) .
__________
(1) ) في ظلال القرآن: 1 / 165.
(2) ) الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية: ص - 98.(1/19)
وكذلك نقول لمن قال إن تكاليف الشريعة مشوبة بمشاق: إن هذه التكاليف على مشقتها هي مما يطيقه المكلف، فلا تكليف إلا بما يطاق، إذ أنه قد " ثبت في الأصول أن شرط التكليف أو سببه القدرة على المكلف به، فما لا قدرة لمكلف عليه لا يصح التكليف به لا يصح التكليف به شرعا وإن جاز عقلا" (1) فإن دخل على المكلف مما لا يطيق فتحت له باب الرخص؛ "فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (2) "فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" (3) "وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (4) إنه منهج التيسير الذي اقتضاه الإسلام وارتضاه، وأمر به، فقد روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أبا موسى الأشعري ومعاذ ابن جبل - رضي الله عنهما إلى اليمن- وصاهما بقوله:
"يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا" (5) .
__________
(1) ) الشاطبي، الموافقات: 2 / 91.
(2) ) سورة البقرة، الآية: 173.
(3) ) نفس السورة، الآية: 185.
(4) ) سورة المائدة، الآية: 6.
(5) ) صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب ما يكره من التنازع والاختلاف، حديث رقم: 3088، ج2 / 68. وصحيح مسلم ( بشرح النووي) كتاب الجهاد والسير، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير، حديث رقم: 1733 ، ج12/ 43.(1/20)
إنه المنهج الرباني الذي شاءه الله بمشيئته وأراده برحمته، وهو الرحمن الرحيم، فكيف يجرؤ أحد بعد ذلك أن يقول إن الله تعالى قد كلفنا بما لا نطيق؟ وإن النفس لتذوب حبا في الله تعالى وشوقا إليه وحياء منه عندما تقرأ قوله عز وجل: - وهو اللطيف المتكبر المتعال- وهو يقول: " يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا". (1)
فإن عمل العباد بهذا المنهج حُفظ عليهم نظامهم وأصلحت أحوالهم وأعمرت أرضهم بكل خير. يقول الإمام الطاهر بن عاشور: "إذا نحن استقرينا موارد الشريعة الإسلامية الدالة على مقاصدها من التشريع، استبان من كليات دلائلها ومن جزئياتها المستقراة؛ أن المقصد العام من التشريع فيها هو حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحها بصلاح المهيمن عليه وهو الإنسان، ويشمل صلاحه، صلاح عقله، وصلاح عمله، وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه" (2) . ويقول العلامة علال الفاسي: "والمقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض وحفظ نظام التعايش فيها، واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة ومن صلاح في العقل وفي العمل، وإصلاح في الأرض لخيراتها وتدبير لمنافع الجميع" (3) .
المطلب الثالث: أقسام المصلحة.
تنقسم المصلحة في الشريعة الإسلامية إلى عدة أقسام بعدة اعتبارات؛ فهي تنقسم باعتبار قوتها، وباعتبار الشارع لها، وباعتبار خصوصها وعمومها...
__________
(1) ) سورة النساء، الآيات:26 - 28 .
(2) ) مقاصد الشريعة الإسلامية: ص- 60.
(3) ) مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها: ص- 45- 46.(1/21)
وحتى لا يطول كلامنا فإننا سنقتصر في حديثنا عن أقام المصلحة، على القسمين الأوليين، أي تقسيمها باعتبار قوتها وباعتبار الشارع لها.
أولا: تقسيم المصلحة باعتبار قوتها.
والمقصود؛ قوتها في التأثير على الأمة، وقوة حاجتها إليها، وهي بهذا الاعتبار تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1) المصالح الضرورية.
وهي أعلى أنواع المصالح في الشريعة الإسلامية. يقول الإمام الغزالي "الضرورات هي أقوى أنواع المصالح" (1) .
وتعريفها - كما قال الإمام الشاطبي- "أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين" (2) .
وعرفها الشيخ الطاهر بن عاشور بقوله: " هي التي تكون الأمة بمجموعها وآحادها في ضرورة إلى تحصيلها، بحيث لا يستقيم النظام باختلالها، بحيث إذا انخرمت تؤول الأمة إلى فساد وتلاش" (3) .
وعرفها الدكتور زياد محمد احميدان بأنها: " مجموعة من القواعد والضوابط التي توفر للإنسان الحياة الكريمة في الدنيا، ورضوان الله تعالى في الآخرة، وهي أركان الحياة، إذا فقد أحدها، كان كافيا لإفساد الحياة إدخال العنت" (4) .
أما الدكتور أحمد الريسوني فيعرفها بقوله: " المصالح الضرورية: كما يدل على ذلك اسمها، هي أن يكون الناس في ضرورة إلى تحصيلها وإقامتها في حياتهم، أي يكونون مضطرين إلى طلبها واستعمالها في حياتهم الفردية أو الجماعية، ولا يتحملون عادة فقدانها ولا ينتظم عيشهم بدونها" (5) .
__________
(1) ) المستصفى: ص174.
(2) ) الموافقات: 2/6.
(3) ) مقاصد الشريعة الإسلامية: ص76.
(4) ) الدكتور محمد احميدان، مقاصد الشريعة الإسلامية: ص81.
(5) ) الفكر المقاصدي قواعده وفوائده: ص26.(1/22)
وهذه المصالح كما بينها العلماء هي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسل. (1)
__________
(1) ) أكد الدكتور جمال عطية "أن الضروريات لا تنحصر في هذه الخمسة، لأن ظروف الزمان والمكان تفرض أن نضيف عدة ضروريات أخرى، ونقل في ذلك عدة نوص لمجموعة م العلماء:
1. ... يقول الشيخ محمد الغزالي: "لابد من زيادات على الأصول الخمسة(...) ما المانع أن أستفيد من تجارب أربعة عشر قرنا في الأمة الإسلامية، لقد وجدت أن القرون أدت إلى نتائج مرة لفساد الحكم، إذ يمكنني أن أضيف إلى هذه الأصول الخمسة؛ العدالة والحرية.
2. ... ويقول الخمليشي: "إن من المؤكد أن المقاصد أو المصالح العليا الخمسة التي أوردها الغزالي غير كافية الآن للاقتصار عليها واتخاذها مرجعا في تنظيم المجتمع، وعلاقات أفراده، ألا يعتبر من المقاصد العليا مثلا: العدل(...) المساواة، ودرية الفرد، وحقوقه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي منها المساهمة في تسيير الشؤون العامة؟.
3. ... وكتب القرضاوي يقول: "إنني أعتقد أن هناك نوعا من المقاصد لم يعط حقه كما ينبغي، وهي المقاصد المتعلقة بالمجتمع(...) (كـ) الحرية والعدالة، وهذا في حاجة إلى إعادة نظر"
ثم علق الدكتور جمال عطية على هذه الأقوال بقوله: "ونحن من جانبنا نأخذ بعدم انحصار الكليات من حيث المبدإ، أو من حيث التطبيق(...) حيث أضفنا للعديد من المقاصد" من كتاب "نحو تفعيل مقاصد الشريعة الإسلامية" للدكتور جمال عطية:ص98 وما بعدها.
ونشير هنا إلى أن الشيخ الطاهر بن عاشور أشار إلى أن الحرية من مقاصد الشريعة دون أن يذكر علاقتها بالكليات فقال: "وكلا هذين المعنيين للحرية جاء مرادا للشريعة" وقال: "ومن قواعد الفقه قول الفقهاء: الشارع متشوف للحرية" من كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية:ص127. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
غير أني أقول عقب هذا: إن هؤلاء العلماء على جلالة قدرهم واتساع علمهم؛ فإني أرى غير هذا غير هذا الذي يرون لأني أظن أن هذه الكليات الخمسة لو تأملت حق التأمل لوجدناها مشتملة على هذا الذي قالوه فالعدالة والحرية والمساواة داخلة في كل أصل من الأصول الخمسة، وإن لم تكن بالأصل فبالتبع -والله أعلم-.(1/23)
يقول الإمام الغزالي: " ومقصد الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم" (1) .
فحفظ هذه الركائز الخمسة هو " الحد الأدنى الضروري لإقامة النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي على نحو تستقيم به الحياة الإنسانية، ويحفظ للإنسان بقاءه وكرامته، ولو فقدت بعضها اختل نظام الحياة الإنسانية وفسدت أمورها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بحيث تصير فوضى تستحيل معها الحياة الاجتماعية" (2) .
وليس مقصودنا باختلال نظام الأمة وفساد أمرها " هلاكها واضمحلالها، لأن هذا قد سلمت منه أعرق الأمم الوثنية والهمجية، ولكني أعني أن تصير أحوال الأمة شبيهة بأحوال الأنعام، بحيث لا تكون على الحالة التي أرادها الشارع منها، وقد يفضي ذلك الاختلال إلى الاضمحلال الآجل بتفاني بعضها ببعض أو بتسلط العدو عليها، إذا كانت بمرصد من الأمم المعادية أو الطامعة في الاستيلاء عليها" (3) .
ونظرا لأهمية هذه الضروريات فإنه يستحيل ألا تشتمل عليه شريعة من الشرائع أو ملة من الملل؛ يقول الإمام الشاطبي: " وقد اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس" (4) . ويقول الشيخ عبد الله بن إبراهيم الشنقيطي، في منظومته، نشر البنود على مراقي السعود:
ثم المناسب عنيت الحكمة ... - - ... منه ضروري وجا تتمة
بينهما ما ينتمي للحاجي ... - - ... وقدم القوي في الرواج
دين ونفس ثم عقل نسب ... - - ... مال إلى ضرورة تنتسب
فحفظها حتم على الإنسان ... - - ... في كل شريعة من الأزمان
__________
(1) ) المستصفى: ص174.
(2) ) دكتور فوزي خليل، المصلحة العامة من منظور إسلامي: ص89.
(3) ) الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية: ص76-77.
(4) ) الموافقات: 1/28.(1/24)
لكن شريعة الإسلام هي أكثر من اهتم بهذه الضروريات وحثت عليها وأحاطتها "بسياج الحفظ الدائم ولو في الأحوال التي يظن فوات المصلحة من سائر جوانبها، كما يقال في الشيخ الهرم المنهوك بالمرض، الفقير الجاهل، الذي لم يبق فيه رجاء نفع ما. فهو مع هذه الأحوال محترم النفس محافظة على مصلحة بقاء النفوس" (1) .
وهذا لم يثبت لنا بدليل معين ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها [الضروريات] إليه، " بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد" (2) . يقول الدكتور رمضان البوطي: " والدليل على انحصار مقاصد الشارع في هذه الأمور الخمسة الاستقراء، فقد دل تتبع جزئيات الأحكام الشرعية المختلفة على أنها كلها تدور حول حفظ هذه الكليات الخمسة" (3) .
أما طريقة حفظ الشارع لهذه الضروريات؛ فهو بأمرين:
أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها. وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود.
والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم. (4)
ويمكن أن نمثل لذلك بهذه الخطاطة التوضيحية:
حفظها من جانب الوجود ... ... الضروريات ... حفظها من جانب العدم
- الإيمان والنطق بالشهادتين. ... الدين ... - الجهاد
- أركان الإسلام... ... - عقوبة المرتد
- عقوبة الداعي إلى البدعة...
- إباحة أصل الطعام والشراب وما يحتاج إليه الإنسان في ... النفس ... - تحريم قتل النفس.
الحياة... ... - عقوبة الدية والقصاص...
- إباحة الطعام والشراب ... العقل ... - تحريم كل مسكر ومفتر.
- إباحة النوم والراحة... ... - حد شارب الخمر...
- إباحة النكاح. ... النسل ... - تحريم الزنا والمعاقبة عليها.
- أحكام الرضاع والحضانة والنفقات... ... - تحريم القذف...
المال
__________
(1) ) الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية: ص64.
(2) ) الشاطبي، الموافقات: 1/28.
(3) ) ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: ص111.
(4) ) الشاطبي، الموافقات: 2/6.(1/25)
- إباحة أصل المعاملات المالية، كالتجارة... ... - تحريم السرقة والمعاقبة عليها.
- تحريم الربا والغرر والاختلاس...
2) المصالح الحاجية.
وهي كما عرفها الطاهر بن عاشور: " ما تحتاج الأمة إلية لاقتناء مصالحها وانتظام أمورها على وجه حسن، بحيث لولا مراعاتها لما فسد النظام، ولكنه كان على حالة غير منتظمة، فلذلك لا يبلغ مبلغ الضروري" (1) .
وعرفها الإمام الشاطبي بقوله: " معناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإن لم تراع؛ دخل على المكلفين -على الجملة- الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة" (2) .
فالمصالح الحاجية إذا تمثل حدا أدنى من المصالح الضرورية، فلا تبلغ قوتها، إلا أن الأمة محتاجة إليها لاستقامة حياتها، فلولاها لدخل على الأمة الحرج والعنت، ولأصبحت الحياة شاقة إلى حد كبير.
ومن أمثلتها " فيما يتعلق بحفظ الدين: شرع العبادات دعما لأركانه، وشرع الرخص المخففة، كالنطق بكلمة الكفر لتجنب القتل، وكالفطر بالسفر، والرخص المناطة بالمرض. ومثالها فيما يتعلق بحفظ النفس: إباحة الصيد والتمتع بالطيبات، وهو ما زاد على أصل الغذاء. ومثالها فيما يتعلق بحفظ المال: التوسع في شرعة المعاملات، كالقرض والسلم والمساقات. ومثالها فيما يتعلق بحفظ النسب: شرعة المهور والطلاق، وشرط توفر الشهود..." (3)
3) المصالح التحسينية.
__________
(1) ) مقاصد الشريعة الإسلامية: ص80.
(2) ) الموافقات: 2/8.
(3) ) الدكتور، سعيد رمضان البوطي، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: ص111.(1/26)
وهذه هي الرتبة الثالثة من مراتب المصالح؛ وهي لا ترجع إلى ضرورة ولا إلى حاجة، ولكن تقع موقع التحسين والتزيين والتيسير للمزايا والمزائد، ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات (1) . يقول الإمام الشاطبي: "ومعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات، التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق، وهي جارية فيما جرت فيه الأوليات" (2) .
ولربما يتساءل أحد هنا فيقول: لماذا أدخل مكارم الأخلاق في التحسينيات مع أن الأخلاق أمر ضروري للحياة؟ والجواب هو أن من تأمل كلامه-الشاطبي رحمه الله- يجده ذكر "مكارم" الأخلاق، أي ما كرم وزاد عن الحاجة، أما الأخلاق الأساسية فلا شك أنها من الضروريات؛ فتجنب الزنا خلق، وعدم السرقة خلق، وتجنب قتل النفس بغير حق خلق... وهذه كلها من الضروريات. (3)
وأمثلة المصالح التحسينية كثيرة في الشريعة الإسلامية، كأحكام النجاسات وآداب الأكل والنوم واللباس... يقول عبد الله الشنقيطي:
وما يتم لدى الحذاق ... - - ... حث على مكارم الأخلاق
منه موافق أصول المذهب ... - - ... كسلب إلا عبد شريف المنصب
وحرمة القذر والإنفاق ... - - ... على الأقارب ذوي الإملاق (4) (5)
ثانيا: تقسيم المصلحة باعتبار الشارع لها.
__________
(1) ) راجع، الإمام الغزالي، في كتابه، المستصفى: ص175.
(2) ) الموافقات: 2/9.
(3) ) من كلام للدكتور أحمد الريسوني في محاضرة ألقاها بمدينة فاس تحت عنوان "أثر الأخلاق في التنمية البشرية" يوم الأحد 11دجنبر 2005، بالمركب الثقافي "الحرية".
(4) * ) غرابة منه -رحمه الله- أن يذكر أن الإنفاق على الأقارب المملقين هو من التحسينيات، مع أن هذا تشتد الحاجة إليه، وقد يصل إلى مرتبة الضروريات إذا كان عدم الإنفاق عليهم يؤدي إلى هلاك أنفسهم.
(5) ) نشر البنود على مراقي السعود: 2/115-114.(1/27)
إن الشارع الحكيم هو المعين الأول للمصالح. وكل مصلحة توزن بحسب قربها أو بعدها من تعيينه؛ يقول الإمام الرازي: " وبالجملة فالأوصاف إنما يلتفت إليها إذا ظن أن الشارع التفت إليها، وكلما كان التفات الشارع إليه أكثر، كان ظن كونه معتبرا أقوى، وكلما كان الوصف والحكم أخص، كان ظن كون ذلك الوصف معتبرا في حق ذلك الحكم آكد، فيكون لا محالة مقدما على ما يكون أعم منه" (1) .
والمصالح بهذا الاعتبار تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما شهد له الشارع بالاعتبار.
وتسمى بالمصالح الشرعية، وهي "حجة ويرجع حاصلها إلى القياس، وهو اقتباس الحكم من معقول النص والإجماع(...) ومثاله حكمنا أن كل ما أسكر من مشروب أو مأكول فيحرم قياسا على الخمر" (2) . يقول عنها الدكتور فوزي خليل: "هي المصالح التي اعتبرها الشارع مصالح لدخولها في فلك نصوص الوحي ومقاصد الشريعة" (3) . وهي بهذا حجة على كل مسلم، لا يجوز إهمالها ولا استبدالها.
وهذا الاعتبار يعرف بأحد مسالك التعليل والتي هي: النص، الإيماء والتنبيه، السبر والتقسيم... (4)
القسم الثاني: ما شهد له الشارع بالبطلان.
وتسمى بالمصالح الموهومة أو الملغاة، وسمية "مصالح" فقط من باب الترجيح والتغليب، وإلا فهي ليست بمصالح.
__________
(1) ) المحصول في علم الأصول: 2/324.
(2) ) الغزالي، المستصفى: ص173-174.
(3) ) المصلحة العامة من منظور إسلامي: ص91.
(4) ) يمكن الرجوع إلى هذه المسالك عند علماء الأصول في كتبهم، ومثالا على ذلك يرجع إلى الشيخ عبد الوهاب خلاف في كتابه" علم أصول الفقه": ص60 وما بعدها.(1/28)
وهي "على العكس من بالنسبة لعلاقتها بنصوص الوحي ومقاصد الشريعة -بالنسبة لسابقتها- فهي تنفك من هذه الأصول جميعا، ومن ثم فهي مصالح ملغاة، أولا يعتبرها الشارع مصالح، بل هي مصالح متوهمة وليست حقيقية، إذ العبرة في النفع والضر أو المصالح والمفاسد بتقدير الشارع، وليست بتقدير العقول المطلقة من نصوص الوحي ومقاصد الشريعة، ولا بتجارب الناس عوائدهم، إذ إن هذه تسمى في الشرع "هوى" يؤدي إلى وقوع التنازع والتقاتل والصراع (1) " (2) .
وقد مثلوا لها بما وقع لأحد ملوك الأندلس؛ حيث جامع زوجه في نهار رمضان، فأفتاه أحد الفقهاء بوجوب صيام شهرين متتابعين، مع أن النص واضح في وجوب العتق قبل الصيام، وهذه مخافة صريحة للنص بمصلحة توهمها هذا الفقيه، متعللا بأنه لو أفتاه بذلك لسهل عليه واستحقر إعتاق رقبة في جنب قضاء شهوته. يقول الإمام الغزالي: "وهذا قول باطل ومخالف لنص الكتاب بالمصلحة، وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع بسبب تغير الأحوال" (3) .
فهذا الفقيه نظر إلى مصلح الزجر لكنه أغفل مصلحة أهم منها وهي مصلحة الرقاب التي تتحرر وتخرج من الرق؛ وهذا باطل.
القسم الثالث: ما لم يشهد له الشارع بالاعتبار ولا بالبطلان.
وهذا القسم يسمى في اصطلاح الأصوليين ب"المصالح المرسلة" (4) ويعرفونها بأنها المصلحة التي أرسلها الشارع فلم يشهد لها بالاعتبار ولابالبطلان، فلا دليل خاص عليها لكن عمومات الشريعة تشهد لها.
__________
(1) * ) سيأتي تفصيل ذلك -إن شاء الله- في فصل ضوابط المصلحة؛ في الضابط الأول من هذه الضوابط.
(2) ) الدكتور فوزي خليل، المصلحة العامة من منظور إسلامي: ص95.
(3) ) المستصفى: ص174.
(4) * ) سيأتي تفصيلها - إن شاء الله تعالى.(1/29)
هذه بعض أقسام المصلحة في الشريعة الإسلامية، أردنا إيضاحها وتبيينها حتى يكون المسلمون على بينة منها لأن معرفتها تجعلهم بكل أصنافهم -مجتهديهم وعوامهم- يسيرون على بينة من أمرهم فلا يقدمون ما حقه التأخير ولا يؤخرون ما حقه التقديم، وبذلك تستقيم أمورهم وتنتظم أحوالهم.
المبحث الثاني:
المصلحة المرسلة: مفهومها وأهميتها.
مما لا شك فيه أن الشريعة الإسلامية جاءت لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل، إلا أن مصالح العباد كثيرة ومتجددة، وجزئياتها لا تنحصر بحال، أما أحكام الشريعة فهي منحصرة في نصوص معدودة، لذا كان لابد من وسيلة تجعل الشريعة حاكمة على كل جزئيات المصالح في كل زمان ومكان، فكانت الوسيلة هي القياس: وهو إلحاق نازلة لا نص على حكمها بنازلة ورد نص بحكمها لاشتراك النازلتين في علة الحكم. والعلة هي الوصف الظاهر المنضبط المؤثر في الحكم وجودا وعدما.
إلا أن القياس نفسه - بهذا المعنى- لا ينهض أن يكون حاكما على كل الجزئيات، وذلك لأنه ليس كل نازلة تقع نجد نظريها الذي اشتركت معه في علة الحكم منصوصا عليه حتى نقيسها عليه. ولتجاوز ذلك كان لابد من وسيلة أخرى تنهض بهذا الأمر. فكانت هي "المصالح المرسلة".
فما هو هذا النوع من المصالح؟ وما هي أهميتها؟ وكيف كانت نظرة الفقهاء والأصوليين لها؟.
المطلب الأول: تعريف المصلحة المرسلة.
أولا: تعريف المصلحة المرسلة في الاستعمال اللغوي.
المصلحة المرسلة هي مركب لفظي يتكون من "المصلحة" و "المرسلة"؛ وقد مر بنا تعريف المصلحة؛ وقلنا أنها جماع الخير في كل المجالات وعلى كل المستويات، وبقي أن نعرف ما معنى "المرسلة" فنقول: المرسلة في اللغة من فعل أرسل، ومعانيها كثيرة.
قال في الصحاح: شَعر رسل: أي مسترسل. وبعير رسل: سهل المسير...(1/30)
وجاءت الخيل أرسالا: أي قطيعا بعد قطيع. وامرأة مُراسل: وهي التي يموت زوجها أو أحست منه أنه يريد تطليقها، فهي تزين لآخر وتراسله. واسترسل إليه: أي أنبسط واستأنس. وترسل في قراءته: أي اتأد فيها" (1) .
وقال ابن منظور في معجمه "لسان العرب": الرسل: القطيع من كل شيء، والرسل القطيع بعد القطيع، وجاؤوا رسلة: أي جماعة جماعة؛ وفي الحديث أن الناس دخلوا عليه( - صلى الله عليه وسلم - ) أرسالا يصلول عليه: أفواجا وفرقا متقطعة بعضها يتلوا بعضا... والرسل والرسلة: الرفق والتؤدة... والترسل كالرسل، والترسل في القراءة والترسيل واحد، قال: وهو التحقيق بلا عجلة، وقيل بعضه على أثر بعض...
والّرسل: اللبن؛ يقال: كثر الرسل هذا العام أي اللبن...
والرسل بفتح الراء: الذي فيه لين واسترخاء، يقال ناقة رسلة القوائم أي سلسة لينة المفاصل، وسير رسل: سهل.
وشعر رسل: مسترسل... واسترسل الشعر أي صار سبطا...
والمرسال: الناقة السهلة السير، وإبل مراسيل؛ قال كعب بن زهير:
أمست سعاد بأرض لا يبلغها *** إلا العتاق النجيبات المراسيل.
وهم في رسلة من العيش: أي لين.
الاسترسال إلى الإنسان: كالاستأناس والطمأنينة. وأصله السكون والثبات.
الإرسال: التوجيه، والرسول؛ معناه في اللغة: الذي يتابع أخبار الذي بعثه.
الرسيل: المرافق في النضال ونحوه. المراسل من النساء: التي تراسل الخُطّاب، وقيل: هي التي فارقها زوجها، وقيل التي يموت زوجها أو أحست منه أنه يريد تطليقها فهي تزين لآخر؛ وأنشد المازني لجرير:
يمشي هبيرة بعد مقتل شيخه *** مشي المراسل أوذيت بطلاق.
وأرسل الشيء: أطلقه.
والمرسلات في التنزيل: الرياح، وقيل الخيل، وقال ثعلب: الملائكة" (2) .
__________
(1) ) الجوهري، الصحاح، مادة "رسل" . /.
(2) ) لسان العرب: مادة "رسل" 11./281-285.(1/31)
إن هذه المعاني على كثرتها إذا تأملناها وجدناها تدور حول أربعة معان أساسية هي: الإطلاق، واللين، والاطمئنان، والأنس، وسنرى -إن شاء الله- علاقتها بالتعريف الاصطلاحي للمصلحة المرسلة.
ثانيا: المصلحة المرسلة في الاصطلاح الأصولي:
وكما سبق تعريف المصلحة في اللغة فقد سبق تعريفها في الاصطلاح.
أما "المصلحة المرسلة" في دلالتها التركيبية - وتسمى بالاستدلال والاستصلاح- فإنه جاء في بيانها تعاريف عدة؛ نذكر من بينها:
1) يقول الإمام الشاطبي: " المناسب الذي يربط به الحكم لا يخلوا من ثلاثة أقسام:(...)
الثالث: ما سكتت عنه الشواهد الخاصة فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه. فهذا له وجهين: (...) الوجه الثاني: أن يلائم تصرفات الشرع، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع بغير دليل معين، وهو الاستلال المرسل، المسمى بالمصالح المرسلة" (1) .
2) ويقول حسن بن محمد المشاطي: " ويقال أيضا الاستصلاح والمرسل؛ وهي الوصف المناسب الذي جهل اعتبار الشارع له بأن لم يدل دليل على اعتباره أو إلغائه(...) وسمي ذلك بالاستصلاح لما فيه من مطلق المصلحة للناس. وبالمرسل لإرساله أي إهماله عما يدل على اعتباره أو إلغائه" (2) .
3) ونقل الشيخ علال الفاسي عن أبي عمر الفاسي قوله: " إعلم أن المناسب هو ما لم يشهد له بالاعتبار ولا بالإلغاء أصل معين، وهذا هو المرسل، وربط الحكم به يسمى استصلاحا واستدلالا: قال الأبياري: الاستلال عبارة عن ربط الحكم بالمعنى المناسب وفق مصلحة ساذجة أو راجحة، أو مفسدة كذلك، أو مساوية من غير أصل معين" (3) .
__________
(1) ) الاعتصام: 2/331.
(2) ) الجواهر الثمينة في أدلة علم المدينة: ص249.
(3) ) أو حفص عمر الفاسي، شرح لامية الزقاق (مخطوط) نقلا عن كتاب مقاصد الشريعة ومكارمها للشيخ علال الفاسي: ص249.(1/32)
4) ويقول الشيخ الطاهر بن عاشور: - بعدا ذكر المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية- " فمتى حلت الحوادث التي لم يسبق حلولها في زمن الشارع ولا لها نظائر ذات أحكام متلقاة منه، عرفنا كيف ندخلها تحت تلك الصورة الكلية، فنثبت لها الأحكام أمثال ما نثبته لكلياتها، ونطمئن بأننا في ذلك مثبتون أحكاما شرعية إسلامية. وهذا ما يسمى بالمصالح المرسلة. ومعنى كونها مرسلة: أن الشريعة أرسلتها فلم تنط بها حكما معينا، ولا يلفى لها نظير معين له حكم شرعي فتقاس هي عليه، فهي إذن كالفرس المرسل غير المقيد" (1) .
5) ويقول أحمد الزرقا: " المصلحة المرسلة هي كل مصلحة داخلة في مقاصد الشارع ولم يرد في الشرع نص على اعتبارها بعينها، ولا على استبعادها" (2) .
6) وقول الدكتور رمضان البوطي: " هي كل منفعة داخلة في مقاصد الشارع دون أن يكون لها شاهد بالاعتبار أو الإلغاء" (3) . (4)
من هذه التعاريف اللغوية والاصطلاحية للمصلحة المرسلة؛ يمكن أن نقول: إن هذه المصلحة سميت "مرسلة" لأن الشريعة أطلقتها بلين، فهي على إطلاقها داخلة في حكمها، فلا هي -المصلحة- مزايلة لها -الشريعة- ولا هي منصوص عليها أفرادها، فدلت عليها الشريعة بعمومها مع أنها مفارقة لأفراد خصوصها، لذا على الفقيه أن يبحث عن المصالح والعلل العامة في الشريعة الإسلامية حتى إذا أنس واطمأن لعلة، ووجد أن هذه المصلحة داخلة فيها، أفتى بذلك قياسا عليها.
__________
(1) ) مقاصد الشريعة الإسلامية: ص37.
(2) ) الاستصلاح والمصالح المرسلة في الشريعة الإسلامية: ص37.
(3) ) ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: ص288.
(4) ) ويمكن الرجوع أيضا في تعريف المصلحة المرسلة إلى: عبد الله الشنقيطي في كتابه: نشر البنود على مراقي السعود 2/120، وإلى العلامة محمد محيي الدين الولاتي في كتابه: إيصال المسالك في أصول الإمام مالك: ص59-60، وإلى الدكتور يوسف القرضاوي، في كتابه تيسير الفقه للمسلم المعاصر : ص 92(1/33)
ومن هنا يمكن أن نستنتج: أن المصلحة المرسلة هي نوع من القياس الثابت في الشريعة الإسلامية. بل لربما يكون هذا النوع أقوى في الاعتبار من القياس المعروف الذي سبق تعريفه؛ يقول الطاهر بن عاشور: " إن قياس هذه الأجناس المحدثة على أجناس نظائرها، أولى وأجدر بالاعتبار من قياس جزئيات المصالح عامها وخاصها بعضها على بعض، لأن جزئيات المصالح قد يطرق الاحتمال:
1. إلى أدلة أصول قياسها.
2. وإلى تعيين الأوصاف التي جعلت مشابهتها فيها بسبب الإلحاق والقياس وهي الأوصاف المسماة بالعلل.
3. وإلى المشابهة فيها" (1)
ويقول الإمام الشاطبي: " والأصل الكلي إذا كان قطعيا يساوي الأصل الجزئي، وقد يربى عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه" (2) .
المطلب الثاني: أهمية المصلحة المرسلة، ودليل مشروعيتها.
مر بنا القول أن تعدد النوازل والجزئيات وتغيرها في حياة الناس يجعلنا ننظر في طرق للاستنباط الفقهي تجعل الشريعة تواكب هذه المستجدات وتكون حاكمة عليها، ومن هذه الطرق "المصلحة المرسلة"، ومن هنا تكبر أهميتها؛ فهي تجعل الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، وتساير تطورات الأحوال، لأنها شريعة الله الباقية إلى يوم القيامة، وهي خاتمة الشرائع التي ارتضاها الله سبحانه وتعالى حكما بين عباده، فهي كما وصفها ابن القيم: "عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه" (3) .
أما عدم الأخذ بالمصلحة المرسلة فإنه يجعل الشريعة جامدة، ويفتح بذلك باب للمتلصِّصِين والمغرضين والحاقدين لاتهامها بالجمود وعدم الصلاحية، والدعوة إلى استيراد أفكار و "أيديولوجيات" وقوانين من فتات الغرب، زاعمين أنها أصلح للناس من شريعة رب الناس.
__________
(1) ) مقاصد الشريعة الإسلامية: ص82.
(2) ) الموافقات: 1/29.
(3) ) إعلام الموقعين: 3/5.(1/34)
يقول الشيخ الطاهر بن عاشور: " طريق المصالح هو أوسع طريق يسلكه الفقيه في تدبير أمور الأمة عند نوازلها ونوائبها إذا التبست عليه المسالك. وأنه إذا لم يتبع هذا المسلك الواضح الحجة البيضاء، فقد عطل الإسلام عن أن يكون دينا عاما وباقيا" (1) .
ويقول: " إن تصرف المجتهدين بفقههم في الشريعة على خمسة أنحاء(...) ثم ذكر النحو الرابع فقال: "إعطاء حكم لفعل أو حادث حدث للناس لا يعرف حكمه فيما لاح للمجتهد من أدلة الشريعة ولا له نظر يقاس عليه" وعلق على هذه الأنحاء وقال في النحو الرابع: "أما النحو الرابع فاحتياجه (الفقيه) فيه ظاهر، وهو الكفيل بدوام أحكام الشريعة الإسلامية للعصور والأجيال التي بعد عصر الشرع، والتي تأتي إلى انقضاء الدنيا، وفي هذا النحو أثبت مالك رحمه الله حجية المصالح المرسلة" (2) .
ورد على الظاهرية الذين يجمدون عند ظواهر الشريعة بقوله: " وهذا موقف يخشى على المتردد فيه أن يكون نافيا عن شريعة الإسلام صلاحها لجميع العصور والأقطار" (3) .
__________
(1) ) مقاصد الشريعة الإسلامية: ص75/76.
(2) ) مقاصد الشريعة الإسلامية: ص13.
(3) ) نفسه: ص43.(1/35)
وقال محمد أبو زكريا البرديسي: " الوقائع متجددة، والبيئات متغيرة والمصالح غير متناهية، فقد تطرأ على الأمة طوارئ لم تكن للأمة السابقة، وقد تستوجب البيئة مصالح ما كانت تستوجبها من قبل، وقد يؤدي تغير أخلاق الناس إلى أن يصبح مفسدة ما كان في السابق مصلحة، فلو لم نفتح الباب على مصراعيه في الأخذ بالمصلحة المرسلة، لضاقت الشريعة عن مصالح العباد، وقصرت عن حاجاتهم، ووقفت جامدة لا تساير مختلف الأزمنة والأمكنة والبيئات والأحول" (1) . وقال: " والحق أن تُتَّبَع [أي المصلحة المرسلة]؛ فبناء الشريعة على المصلحة المرسلة أمر لابد منه، لأنه إن لم يفتح هذا الباب، وقفت الشريعة مكتوفة الأيدي أمام ما يستجد من الحوادث التي لا يمكن استنباط حكمها من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس، وحينئذ توصم الشريعة بالجمود وعدم مسايرة الأزمان والبيئات، والشريعة صالحة لكل زمان ومكان، وعن الجمود براء" (2) .
ولأهميتها هذه؛ وجب على الفقهاء، العمل بها، لأنها حجة، وإن لم يشهد لها نص معين، فهي ملائمة لتصرفات الشارع وموافقة لعموم أدلته، ومن هنا تأتي حجيتها؛ يقول الإمام الشاطبي: "كل أصل لم يشهد له نص معين، وكان ملائما لتصرفات الشرع، ومأخوذ معناه من أدلته؛ فهو صحيح يبنى عليه، ويرجع إليه، إذا كان ذلك الأصل بمجموع أدلته مقطوعا به، لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها(...) لأن ذلك كالمتعذر، ويدخل تحت هذا ضرب الاستدلال المرسل الذي اعتمده مالك والشافعي. فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل فقد شهد له أصل كلي" (3) .
__________
(1) ) أصول الفقه: ص330.
(2) ) نفسه: ص331.
(3) ) الموافقات: 1/29.(1/36)
ولا يقولن أحد لا أفتي حتى أجد النص أو ما يوافقه في علة الحكم لأحكم به أو أقيس عليه، محتجا بأن الاستدلال بالأصل الأعم على الفرع الأخص غير صحيح، لأنه وإن علم اعتبار الشرع للأصل الأعم أو كلي المصلحة، فمن أين يعلم اعتباره لكل جزئية متنازع فيها.
وهذا غير صحيح لأن "الأصل الكلي إذا انتظم في الاستقراء يكون كليا جاريا مجرى العموم في الأفراد(...) (و) كونه يجري مجرى العموم في الأفراد، فلأنه في قوة اقتضاء وقوعه في جميع الأفراد، ومن هنا استنبط. لأنه إنما استنبط من أدلة الأمر والنهي الواقعين على جميع المكلفين، فهو كلي في تعلقه، فيكون عاما في الأمر والنهي للجميع" (1) .
لذا عمل الصحابة -رضي الله عنهم، وهم أبر هذه الأمة قلوبا، وأصدقها قولا، وأحسنها حالا، وأقومها هديا- عملوا بها في كثير من فتاويهم وأحكامهم؛ ومن تتبع سيرتهم وجد عشرات الأمثلة على ذلك، منها:
1) جمع المصحف -على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه-: فقد روى البخاري - رحمه الله تعالى- عن زيد بن ثابت قال: أرسل إلي أبو بكر الصديق رضي الله عنه مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده... (الحديث)" (2) وفي هذا الحديث قال زيد: "كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر هو والله خير" فدل الخبر على أنه بمجرد كون هذا العمل فيه خير غالب للأمة، وجب العمل به، ولو لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن شهد له عموم الشرع في أدلة حفظ القرآن الكريم، وهذا عين المصلحة المرسلة.
__________
(1) ) نفسه: 1/30.
(2) ) راجع الحديث بطوله في صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، حديث4986: ج3/540(1/37)
2) اتفاقهم على حد شارب الخمر ثمانين: وإنما مستندهم فيه الرجوع إلى المصالح المرسلة، والتمسك بالاستدلال المرسل، وأفتى بذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال من سكر هذى، ومن هذى افترى، فأرى أن حد عليه حد المفتري". وهذا الاستدلال المرسل من قبيل وضع الأسباب في بعض المواضع مقام المسببات، والمظنة مقام الحكمة (1) .
3) إجبار عمر بن الخطاب بعض الناس على الاكتساب والعمل، وإجبار بعض التجار بنوع من البيوع: يقول الشيخ الطاهر بن عاشور: " لولي الأمر أن يجبر تارك الاحتساب بأن يكتسب لعياله(...) وقد كان عمر بن الخطاب ألزم المحتكرين للطعام بأن يبيعوا ما يحتاج الناس إلى شرائه من الحبوب، كما في الموطأ، فقد ألزمهم بنوع من البيوع، مع أن كون أصل التصدي للبيع والشراء مباحا، لأن إباحته نشأت بالاعتماد على داعي النفوس للاكتساب وحب الربح، واختلاف الأغراض هو معدل الحاجة". (2)
أما التابعون فإنهم ساروا على نهج الصحابة في الأخذ بالمصلحة المرسلة والاحتجاج بها، بل إن الأخذ بها كان أكثر منه في عهد الصحابة لما استجد من الأمور والقضايا في عهدهم؛ ومن أمثلة ذلك: أمر عمر بن عبد العزيز ببناء الخانات ليأوي إليها المسافرون، وجمْع الحديث وتدوينه، ووضع أصول رواياته... (3) .
__________
(1) ) راجع هذه الأمثلة وغيرها عند الإمام الشاطبي في كتابه "الاعتصام": 2/331 وما بعدها.
(2) ) مقاصد الشريعة الإسلامية: ص73.
(3) ) راجع الدكتور رمضان البوطي في كتابه "ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: ص314وما بعدها.(1/38)
أما الفقهاء الأعلام ومجددو الشرع للأنام، فقد اضطربت النقول عندهم في الأخذ بالمصلحة المرسلة؛ فأكد البعض أن الأخذ بها اختلفوا فيه على أقوال عدة، ومنهم الإمام الشوكاني الذي قال: " وقد اختلفوا في القول بها على مذاهب، الأول: منع التمسك بها مطلقا، وإليه ذهب الجمهور. ثانيا: الجواز مطلقا، وهو المحكي عن مالك. الثالث: إن كانت ملائمة لأصل كلي من أصول الشرع أو لأصل جزئي جاز بناء الأحكام عليها، وإلا فلا، حكاه ابن برهان في الوجيز عن الشافعي وقال: إنه الحق المختار، الرابع: إن كانت تلك المصلحة ضرورية قطعية كلية كانت معتبرة، فإن فقد أحد هذه الثلاثة لم تعتبر(...) واختار هذا الغزالي والبيضاوي" (1) .
وقال الإمام الجويني في البرهان: إن المصالح المرسلة مختلف فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: نفيه -الاستدلال- والاقتصار على اتباع كل معنى له أصل، والثاني: جواز اتباع وجوه الاستصلاح والاستصواب قربت معانيه من مورد النص أو بعدت، إذا لم يصد عنها أصل من الأصول الثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع، والمذهب الثالث: هو المعروف من مذهب التمسك بالمعنى وإن لم يستند إلى أصل، على شرط قربه من معاني الأصول الثابتة.
ونسب القول الأول إلى القاضي [أبي بكر] وطوائف من المتكلمين، ونسب القول الثاني إلى الإمام مالك -رحمه الله تعالى- والقول الثالث إلى الإمامين؛ الشافعي وأبو حنيفة - رحمهما الله تعالى-. (2)
__________
(1) ) إرشاد الفحول: ص402-403.
(2) ) البرهان في أصول الفقه: 2/781-782. (بتصرف).(1/39)
والملاحظ من هذه النصوص أنها تحكي الخلاف بين أئمة المذاهب في الأخذ بالمصلحة المرسلة في أصولهم، وتبين أن أبرز من اعتمد عليها في الاستنباط هو الإمام مالك الذي أخذ بها في أوسع مجالاتها، حتى أن الإمام الجويني أفرط في نسبة الإفراط إليه في الأخذ بها، بل وزعم أنه أثبت مصالح بعيدة عن المصالح المألوفة، قال: " وأفرط الإمام؛ إمام دار الهجرة مالك بن أنس في القول بالاستدلال، فرُئي يثبت مصالح بعيدة عن المصالح المألوفة والمعاني المعروفة في الشريعة، وجره ذلك إلى استحداث القتل وأخذ المال بمصالح يقتضيها غالب الظن وإن لم يجد لتلك المصالح مستندا إلى الأصول" (1) .
وهذا الذي قاله مردود من جهتين:
الأولى: أنه لم يثبت في كتب مالك ولا في شيء من كتب أصحابه شيء من هذا الذي قال؛ يقول الإمام الشوكاني: " وقد اجترأ إمام الحرمين الجويني وجازف فيما نسبه إلى مالك من الإفراط في هذا الأصل، وهذا لا يوجد في كتب مالك ولا في شيء من كتب أصحابه" (2) .
الثاني: أن المصالح التي أثبتها مالك رحمه الله لا تخرج عن كونها استدلالا بالنص من جهة عمومه، وهو أصل المصالح المرسلة، أما هذا الذي ذكره الجويني، من أنه أثبت مصالح بعيدة عن المصالح المألوفة، والمعاني المعروفة في الشريعة، فهو المصالح الغريبة، ولم يقل أحد أنه يأخذ بها. قال الدكتور حسين حامد حسان: " إن الاستدلال المرسل في مذهب مالك ليس خارجا عن النصوص، بل هو طريقة معينة للاستدلال بالنصوص الشرعية. فإن الحكم عند مالك، إما أن يؤخذ من معقول من النص نفسه أي من اللفظ(...) وإما أن يؤخذ الحكم من معقول نص واحد(...) وهناك طريق ثالث؛ هو أخذ الحكم من معقول جملة من نصوص" (3) .
فهؤلاء جملة من الفقهاء الذين أكدوا الاختلاف في الأخذ بالمصلحة المرسلة عند الفقهاء.
__________
(1) ) نفسه: 2/721.
(2) ) إرشاد الفحول: ص402.
(3) ) نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي: ص95.(1/40)
وفي مقابل هؤلاء نجد أن علماء آخرين يؤكدون على أن المصلحة المرسلة معتبرة بالاتفاق ومن هؤلاء الإمام القرافي الذي يقول: "وأما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها خاصة بنا -المالكية- وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا وفرقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهدا بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة؛ فهو حينئذ في جميع المذاهب". (1)
وهو الحق؛ فالمتأمل لفقه هؤلاء الفقهاء وفتاويهم يجدها مبنية في كثير منها على مطلق المناسبة، يقول الدكتور يوسف القرضاوي: "وجمهور فقهاء المسلمين - من الناحية العملية- يعتبرون المصلحة المرسلة دليلا شرعيا يبنى عليها التشريع أو الفتوى أو القضاء، ومن قرأ كتب الفقه - في مختلف المذاهب- وجد مئات الأمثلة من الأحكام التي لم تعلل إلا بمطلق مصلحة تجلب أو ضرر يدفع". (2)
فهم من الناحية العملية يعتبرونها "والتسمية بعد ذلك لاتهم الباحث كثيرا فسواء سمي إخالة أو مصلحة مرسلة أو تخريج المناط، أو إثبات العلة بالمناسبة المجردة، فإن المعنى فيه استنباط العلة غير المنصوص عليها بطريق الاجتهاد". (3)
وصفوة القول - كما يقول الدكتور رمضان البوطي- أن "المصالح المرسلة مقبولة بالاتفاق". (4)
*أمثلة تطبيقية للأخذ بالمصلحة المرسلة عند فقهاء المذاهب الأربعة.
أولا: الفقه المالكي.
__________
(1) ) شرح تنقيح الفصول: ص394.
(2) ) تيسير الفقه للمسلم المعاصر:ص92.
(3) ) الدكتور حسين حامد حسان، نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، مقدمة الكتاب ص(م).
(4) ) ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: ص352.(1/41)
أما هذا الفقه فالأمر أظهر من أن يضرب له مثل، لأنه أخذ بالمصالح المرسلة في أوسع معانيها. ولكن نعطي مثالا واحدا على ذلك، وهي فتوى ذكرها الإمام الشاطبي في معرض حديثة عن مآلات الأفعال وعن الفعل تكون في مصلحة للنفس ومضرة للغير، وقد نقلها عن الداودي، قال الإمام الشاطبي: " وقد سئل الداودي هل ترى لمن قدر أن يتخلص من غرم هذا الذي يسمى بالخراج إلى السلطان أن يفعل؟ قال: نعم، ولا يحل له إلا ذلك. قيل له فإن وضعه السلطان على أهل بلدة وأخذهم بمال معلوم يردونه على أموالهم هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل؟ وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم. قال: ذلك له، قال: ويدل على ذلك قول مالك رضي الله عنه في الساعي يأخذ من غنم أحد الخلطاء شاة وليس في جميعها نصاب: إنه مظلمة دخلت على من أخذت منه لا يرجع من أخذت منه على أصحابه بشيء قال ولست آخذ في هذا بما روى عن سحنون، لأن الظلم لا أُسوة فيه، ولا يلزم أحدا أن يولج نفسه في ظلم مخافة أن يوضع الظلم على غيره. والله عز وجل يقول: "إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق" هذا ما قال(...) وعن حماد بن أبي أيوب قال قلت لحماد بن أبي سليمان إني أتكلم فترفع عني النوبة، فإذا رفعت عنى وضعت على غيري فقال إنما عليك أن تكلم في نفسك فإذا رفعت عنك فلا تبالي على من وضعت" (1) - (2) .
__________
(1) ) الموافقات: 2/298-299.
(2) ) فهذه فتوى بمطلق المصلحة، إذ أنه ما من دليل على أنك إذا دفعت الظلم عن نفسك ووقع على غيرك، فلك أن تفعل ذلك، ولكن بالنظر إلى عمومات الشريعة نرى أن على الإنسان دفع الظلم عن نفسه، وعلى انه لاتزر وازرة وزر أخرى، وبالجمع بين هذين الأصلين خرجت هذه الفتوى.(1/42)
وقد أطال النفس وأفاض وبين المراد، الدكتور حسين حامد حسان في ذكر الحجج والأمثلة على أخذ أرباب المذاهب بالمصلحة المرسلة في كتابه "نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي" ولا أرى بأسا أن أنقل بعضا مما قاله حول باقي المذاهب. (1)
ثانيا: الفقه الشافعي.
يقول الدكتور حسين حامد حسان" (إن) الدارس للاجتهاد في كلام الشافعي يرى أنه شامل للمصلحة الملائمة لجنس تصرفات الشرع، ما دامت هذه الملائمة لا تعرف إلا من نصوص الشرع، يأخذ الحكم من لفظه أو معقوله بطريق القياس. وقد رأينا أن الاستدلال بالمصلحة لا يعدوا استنباط الحكم من معقول جملة من نصوص شرعية. تشهد لجنس المصلحة بالاعتبار. (2)
وقد بين أن المصلحة المرسلة داخلة في جنس القياس عند الشافعي، فقال: "وإذا كان القياس في نظر الشافعي هو طلب الدلائل على موافقة الخبر المتقدم(...) فإن هذه الموافقة للخبر تتحقق أيضا في المصلحة الملائمة. ذلك أننا نجد أن الله ورسوله أحل الشيء لمعنى، ثم نجد هذا المعنى متحقق في بعض الفروع، ويكون ذلك الفرع مشتملا على معنى من جنس هذا المعنى الذي لأجله أحل الله أو حرم، فنحل ذلك الفرع ما دام قد وجد فيه معنى ما أحل وما حرم". (3)
__________
(1) ) راجع قوله حول أخذ المذهب المالكي بالمصلحة المرسلة: ص47 وما بعدها.
(2) ) نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي: ص311.
(3) ) نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي: ص323.(1/43)
ومن أمثلة ذلك، ما ذكره الزنجاني في جواز قتل الجماعة بالواحد؛ قال: " وقتل الجماعة بالواحد من هذا القبيل عند الشافعي رحمه الله، فإنه عدوان وحيف في صورته من حيث إن الله عز وجل قيد الجزاء بالمثل فقال: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" ثم عدل أهل الإجماع عن الأصل المتفق عليه لحكمة كلية ومصلحة معقولة؛ وذاك أن المماثلة لو روعيت ههنا لأفضى الأمر إلى سفك الدماء المفضي إلى الفناء، إذ الغالب وقوع القتل بصفة الشركة، فإن الواحد يقاوم الواحد غالبا، فعند ذلك يصير الحيف في هذا القتل عدلا عند ملاحظة العدل المتوقع منه، والعدل فيه جور عند النظر إلى الجور المتوقع منه، فقلنا بوجوب القتل دفعا لأعظم الظلمين بأيسرهما. وهذه مصلحة لم يشهد لها أصل معين في الشرع ولا دل عليها نص كتاب ولا سنة، بل هي مستندة إلى كلي الشرع، وهو حفظ قانونه في حقن الدماء مبالغة في حسم مواد القتل واستبقاء جنس الإنسان". (1) - (2) .
ثالثا: الفقه الحنفي.
يقول الدكتور أحمد الزرقا: " وفقهاء الحنفية لم يبحثوا في المصالح المرسلة بحثا موضوعيا يبينون فيه منهجهم وشرائطهم في رعايتها، كما فعل فقهاء المذهب المالكي، ولكن الحنفية فرعوا كثيرا وأفتوا كثيرا فتاوى استحسان الضرورة الذي يقوم عندهم على أساس رعاية المصالح الحقة، ودفع الحرج، والسياسة الشرعية، وهو النوع الذي تندرج فيه المصالح المرسلة في تعبير غيرهم.
__________
(1) ) تخريج الفروع على الأصول: 1/321-322.
(2) ) ولمن أراد التوسع أكثر في قضية المصالح عند الشافعية فليرجع إلى كتاب نظرية المصلحة، للدكتور حسين حامد حسان:ص310 وما بعدها(1/44)
فقد أفتوا بعدم بينونة المرأة التي ترتد بقصد البينونة من زوجها، كما أفتوا بميراث الزوجة التي يطلقها زوجها بائنا في عرض موته للفرار من إرثها إذا مات وهي في العدة، وأفتوا بتمديد إجارة الأرض المستأجرة للزرع إذا انقضت مدة الإجارة قبل استحصاده، منعا للضرر عن المستأجر بقلع الزرع، وأفتوا كالمالكية بتضمين الصناع(...) إلى غير ذلك من الأحكام الكثيرة التي بنيت على المصلحة وحدها دون نص" (1) .
" والخلاصة أن جل أقيسة الحنفية - كبقية الفقهاء- لا يكمن إرجاعها إلى علل مؤثرة نص عليها الشارع، أو أجمع عليها المجتهدون، بل معظمها علل أخذت بالاستنباط، واعتمد فيها المجتهدون على المناسبة. وبهذا لا يستقيم قول الأصوليين أن الأحناف لا يأخذون بالمناسبة، وإنما يشترطون التأثير بالمعنى الذي ذكروه" (2) .
رابعا: الفقه الحنبلي:
نقل الدكتور حسين حامد حسان عن الإمام ابن القيم في كتابيه: "الطرق الحكمية" و "إعلام الموقعين" وعن ابن رجب الحنبلي في كتابه "القواعد" مجموعة من الأمثلة حول العمل الحنابلة بالمصلحة المرسلة منها:
1. إفتاؤه بجواز التصرف في مال الغير أو حقه إذا دعت الحاجة إلى ذلك وتعذر استئذانه.
وهذا أصل شرعي لم يشهد له نص معين ولكنه ملائم لتصرفات الشرع ومأخوذ معناه من أدلته وعلى هذا فهو صحيح يبنى عليه ويرجع إليه ويجرى في قوة الاستدلال به مجرى العام المستفاد من الصيغة فهو يطبق على كل واقعة يتحقق فيها مناطه دون الحاجة على دليل خاص من أو قياس.
2. تجويزهم للحاكم إذا احتاجت الأمة لصناعات معينة ولم يكن من يقوم بها، أن يلزم بذلك طائفة من المسلمين بأجرة مثلهم. يقول ابن القيم: " فالمقصود أن الناس إذا احتاجوا على أرباب الصناعات كالفلاحين أو غيرهم، أجبروا على ذلك بأجرة المثل" (3) .
__________
(1) ) الاستصلاح والمصالح المرسلة: ص61- 62.
(2) ) الدكتور حسين حامد حسان، نظرية المصلحة، في الفقه الإسلامي: ص606.
(3) ) الطرق الحكمية: ص1/ 367.(1/45)
3. جواز التسعير إذا تعدى التجار ثمن المثل واستغلوا حاجة الناس إلى ما بأيديهم من السلع.
ثم علق الدكتور على هذه الأمثلة فقال: " والخلاصة: أن الحنابلة يأخذون بالمصلحة المرسلة فيما لا يمكن معرفة حكمه من النص لفظا، أو من معقول النص بطريق القياس الذي يشارك فيه الفرع الأصل في عين العلة وينقل إليه منه عين الحكم" (1) .
وجماع القول: إن المصلحة المرسلة هي نوع من أنواع القياس، وهي مهمة لجعل الشريعة مرنة ميسرة تساير تغيرات الزمان والمكان، وقد عمل الصحابة رضي الله عنهم والتابعون، والفقهاء المجددون بها، وإن لم يسميها أكثرهم، لذا لا عذر لأحد في ردها، خصوصا في هذا الزمان الذي اشتد فيه الهجوم على الإسلام وتسارعت فيه أحداث الزمان.
ولكن يبقى علينا أن نضع السؤال؛ إلى أي حد يمكن اعتبار المصلحة المرسلة؟ وهل هناك ضوابط تضبط هذا الأمر حتى لا يخرج عن حده؟
هذا ما سنراه في الفصل القادم.
الفصل الثاني:
ضوابط المصلحة المرسلة في الشريعة الإسلامية.
تمهيد:
إن من نعم الله عز وجل على هذه الأمة أنه تكفل لها بحفظ دينها، وكتابها وسنة نبيها، بعد أن وكل ذلك في الأمم السابقة لأحبارهم ورهبانهم، فما اسطاعوا أن ينصروه وما استطاعوا له حفظا. وإن مما حفظ الله به دينه أن هيأ له رجالا يذودون عن حياضه، فسهروا الليالي وأظمئوا الهواجر في التدوين والترتيب والتقريب والتحبير، حتى قعدوا لكل شيء ونظموا كل شيء، وضبطوا كل شيء فيه. فأصبح لكل أمر في دين الله ضوابط تضبطه، وحدودا تحده، فتميزت المصالح عن المفاسد، وظهرت القواعد، فلا يستجد أمر في الأمة إلا وله ظل في الشريعة يرجع إليه، وحد لا يتعداه، ومن ذلك "المصالح المرسلة" التي أصبحت في هذا الزمان بوقا لكل متآمر على الشريعة ومريد تغيير أحكامها، ولولا الحدود والضوابط التي حدها العلماء لها لصعب إيقافهم عند حدهم وردهم عن غيهم.
__________
(1) ) نظرية المصلحة، في الفقه الإسلامي: ص 480 وما بعدها.(1/46)
فما هي هذه الضوابط التي ضبطت بها المصالح المرسلة؟.
المبحث الأول:
الضابط الأول: ألا تخالف المصلحة المرسلة نصا.
المطلب الأول:مكانة القرآن والسنة في التشريع والتحذير من مخالفتهما.
القرآن الكريم: " كلام الله الذين نزل به الروح الأمين على قلب رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بألفاظه العربية ومعانيه الحقة، ليكون حجة على أنه رسول الله، ودستورا للناس، يهتدون بهداه، وقربة يتعبدون بتلاوته، وهو المدون بين دفتي المصحف، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس، المنقول إلينا بالتواتر كتابة ومشافهة، جيلا عن جيل، محفوظا من أي تغيير أو تبديل، مصداقا لقوله عز وجل فيه: " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ." (1) " (2) .
أما السنة: فهي كل ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير.
__________
(1) ) سورة الحجر: الآية9.
(2) ) عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه: ص21.(1/47)
ولا شك أن القرآن والسنة هما حجة على كل مسلم، فلقد أنزله الله عز وجل القرآن ليكون حاكما على البشر، وليكون معجزته المستمرة على تعاقب الأزمان، يتحدى به الإنس والجان، ويسَّره للذكر لكل الأنام، وحواه بعبر الأولين والآخرين، وقصص الأنبياء والصالحين، فهو كما وصفه خير مَرْسول به: عاصم الناس من الفتن لأن فيه " فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذا سمعته حتى قالوا " إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا ، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا" من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم". (1) .
__________
(1) ) رواه الترمذي، باب ما جاء في فضل القرآن حديث رقم 2906 . جزء 5/172.(1/48)
يقول الإمام الشاطبي: " إن الكتاب قد تقرر أنه كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه، وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه لأنه معلوم من دين الأمة، وإذا كان كذلك لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة، وطمع في إدراك مقاصدها واللحاق بأهلها، أن يتخذه سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي نظرا وعملا، لا اقتصارا على أحدهما، فيوشك أن يفوز بالبغية، وأن يظفر بالطلبة، ويجد نفسه من السابقين وفي الرعيل الأول، فإن كان قادرا على ذلك، ولا يقدر عليه إلا من زاول ما يعينه على ذلك من السنة المبينة للكتاب، وإلا فكلام الأئمة السابقين والسلف المتقدمين آخذ بيده في هذا المقصد الشريف والمرتبة المنيفة". (1)
ثم أردف الله عز وجل كتابه برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليبين للناس ما نُزل إليهم، وأوحى إليه سنة هادية من تمسك بها كان على المحجة البيضاء ليلها كنهارها.
__________
(1) ) الموافقات: 3/293.(1/49)
ولما كان هذا هو حال الكتاب والسنة، فقد أمر الله تعالى باتباعهما فقال: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ " (1) وأمر نبيه - ومن بعده أمته- تحكيم ما أنزل إليه من الكتاب والسنة فقال: " وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ". (2) وجعل جزاء من أطاعه وأطاع رسوله جنات النعيم خالدا فيها فقال: " وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا " (3)
وأما من حاد عن نهجه باتباع منهج الكافرين والملحدين، وفضله على منهج رب العالمين، أو بالزيغ عن أوامره بهوى النفس وسلوك طريق الشيطان، فقد توعده بحياة ضنكى ونار لظى، قال عز وجل : " وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ،قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى". (4)
__________
(1) ) سورة النساء، الآية: 59.
(2) ) سورة المائدة، الآية: 49.
(3) ) سورة النساء، الآية: 69.
(4) ) سورة طه، الآية: 125-124.(1/50)
وقال: "وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ". (1) ولو ادعى الإسلام في ظاهره لأنه لا ينفعه أن يقول بِفيه ما يخالفه قلبه وعمله؛ قال عز وجل: " بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ". (2) وبهذه الآية لم يبق لأحد حجة أن يقول شيئا ويعمل غيره، ويُرى على صورة تغطي غيرها، لأن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية عبر عن الإسلام بالفعل "أسلم" حتى يكون فعلا وعملا لا قولا وادعاء، وعبر عن الإحسان بالاسم "محسن" حتى يكون عمل كل واحد مندرج في إطار ثوابت الشرع التي لا تحيد ولا تتغير إلى يوم القيامة، وجعل هذا العمل كله لله "...وجهه لله" أي مخلصا قلبه وعمله لله تعالى. وهكذا فأي عمل خرج عن هذا الأصل فهو مردود على صاحبه، فلا ينجوا إلا من عمل وأخلص، عمل صالحا وأخلص لله واتبع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما خرج عن هذا كان وزرا على صاحبه.
المطلب الثاني: المصالح المرسلة منضبطة بعدم مخالفة النصوص.
ومقصودنا بالنصوص؛ نصوص الكتاب والسنة، لأنهما المُحدد الأول للمصالح، فالله عز زجل هو الذي خلق عباده وهو أعلم بما يصلحهم من أنفسهم، ولذا " فما نصت عليه الشريعة من أحكام الحلال والحرام والفرائض والحدود، هو المصلحة التي لا ينازع فيها مسلم، وإن خفي عليه وجهها" (3) .
__________
(1) ) سورة النساء، الآية: 14.
(2) ) سورة البقرة، الآية: 112.
(3) ) الدكتور يوسف القرضاوي، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية: ص158 (بتصرف).(1/51)
فالشريعة الإسلامية لم تغفل أي نوع من المصالح دقها وجلها إلا بينته ونبهت عليه وأمرت به، ولم تغفل أي نوع من المفاسد دقها وجلها إلا بينته ونبهت عنه. (1)
من أجل ذلك كان على المكلف أن يطلب مصالحه من أوامر الشرع، وإن خفي عليه وجهها، فهو بذاته قاصر عن إدراك كل مصالح ذاته لأنه " باندفاعه وقصر نظره، قد يحرص على مصلحة وفيها مفاسد، أو فيها تفويت مصالح أهم منها، وقد يفر من مفسدة قريبة فيقع فيما هو شر منها، وقد يطلب الراحة العاجلة، فيجلب على نفسه - أو على غيره- عناء طويلا" (2) " لذا جاء الشرع بوضع حدود وقيود على تحصيل مختلف المصالح والاستمتاع بها" (3) . وأيُّما مصلحة خرجت عن هذه الحدود والقيود، واعتمد أصحابها على الرأي العقلي، مجردا عن كل أوامر الشرع ومقاصده، فهي تسمى "هوى" وإن زعم أنها مصلحة، وهي مردودة على صاحبها.
لذا حذر الإسلام من اتباع "الهوى" لأنه مضل عن سبيل الله مبعد عن الحق: "وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" (4) وجعل مقصده هو "إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبد الله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا" (5) ومنتهى هذه العبودية هو الامتثال لأوامره والخضوع لحكمه، أما التطاول على النصوص والتجرؤ عليها بدعوى المصلحة، هو شيء مرفوض.
__________
(1) ) هذا القول منا لا ينقض ما قلناه سابقا من أن المصلحة المرسلة هي التي لم يشهد لها الشارع بالاعتبار ولا بالإلغاء مع أن المكلف ملزم بالعمل بها، فالشريعة بينت جميع المصالح والمفاسد إما بآحاد أدلتها أو بعموم مقاصدها، وما وصلنا إليه من نتيجة مُعتمدين على المصالح المرسلة إن كانت بضوابطها، هو داخل في هذا التبيين من الشريعة.
(2) ) الدكتور أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي: ص236.
(3) ) نفسه ونفس الصفحة.
(4) ) سورة ص: الآية: 26.
(5) ) الشاطبي، الموافقات: 2/145.(1/52)
من أجل ذلك كان لزاما على المصلحة المرسلة ألا تخالف نصوص الشرع، لأن المصلحة المرسلة مردها إلى فهم الفقيه واستنباطه، وأما نصوص الشرع فمردها إلى حكم الله وأمره، يقول الدكتور رمضان البوطي: " المصلحة الثابتة بمحض الرأي: فينبغي أن يُعلم أن ميزان صدق الرأي في هذا هو ألا تخالف كتابا ولا سنة. فإذا تبين مخالفته(...) تبين أنه ليس مصلحة حقيقية، وإنما شبه على صاحبه أنه كذلك" (1) ويقول ابن القيم: " الرأي الباطل أنواع: أحدها الرأي المخالف للنص، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فسادُه وبطلانُه. ولا تحل الفتيا به ولا القضاء، وإن وقع فيه من وقع بنوع من تأويل وتقليد" (2) .
وهذا الشرط هو الذي يفرق بين المصلحة المرسلة والمصلحة الملغاة، "والمقصود بمصادمة المصلحة للنص، أن تقتضي المصلحة حكما في الواقعة يخالف الحكم الذي يدل عليه النص فيها" (3) .
__________
(1) ) ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: ص154.
(2) ) إعلام الموقعين: 1/61.
(3) ) الدكتور حسين حامد حسان، نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي: ص107.(1/53)
وهذا ليس حجرا على العقل ولا تسفيها له، ولا نقصا من قيمته، فما عرف دين ولا عقيدة كرمت العقل ورفعت من شأنه أكثر من دين الإسلام، ويكفينا شاهدا على ذلك، هذه العشرات من الآيات التي تحث العقل وتوقظه للتدبر والتأمل والتعقل، والآيات التي تشنع على الكفار لأن لهم قلوبا لا يفقهون بها، ويكفينا أيضا أن الإسلام جعل العقل هو مناط التكليف. فهو سبحانه أعطى العقل للإنسان حتى يعمله في السعي إلى جلب المصالح ودرء المفاسد، ولو لم تكن له هذه القدرة لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" (1) - (2) .
إلا أن الله سبحانه وتعالى جعل مع العقل الراشد أهواء تضله ونفسا تنازعه، فكان لزاما على العقل أن يهتدي بهُدى الشرع، لأنه مهما بلغت قدرته، لا يؤمن عليه الاختلاط، لأنه " لا يستطيع التجرد عن مؤثرات البيئة، وبواعث الهوى والأغراض والعواطف، ولأنه جاهل بالماضي والحاضر، وأشد جهلا بالمستقبل، وقاصر عن الإحاطة، والقاصر لا يحسن التقدير والتدبير، فلابد له من ولاية أو وصاية، ووليه ووصيه هدى الشرع، وليس له صلاحية الاستقلال بدرك المصالح بعيدا عن الوصاية، وبدون رعاية الشرع" (3) .
__________
(1) ) سنن البيهقي الكبرى، كتاب الشهادات، باب مكارم الأخلاق: حديث 20571- ج10/191.
(2) ) ووجه الاستدلال بهذا الحديث؛ أن الناس في الفترات( قبل عصر الشرع) أدركوا بعقولهم مجموعة من الأخلاق التي تعارفوا عليها واتفقوا، وقد أقر الشرع هذه الأخلاق وتممها، ولو لم تكن للعقل هذه القدرة لما استطاع أن يدرك هذه الأخلاق ولا أن يعرفها بغير هذي الشرع.
(3) ) الدكتور يوسف حامد العالم، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية: ص140-141.(1/54)
فالعقل والنقل متعاضدان في إظهار المصالح، فهما كالشمس للعين والعقل تابع للنقل، فإن تعارضا - ولا يتعارض العقل السليم مع النقل الصحيح- " فلا يمكن إلا تقديم النقل المعصوم على الرأي الذي لا عاصم له" (1) .
وهذا الحديث قد أفاض فيه علم الكلام، فلا نزيد على ما قلنا، لأن الذي يهمنا أن نبين أنه " فوق كل ذي علم عليم" فلا يجوز لأحد رد النص لرأي رآه، أو مصلحة بانت له، لأن المصلحة الحقيقة هي التي في النص، ولو لم تظهر، ويكفينا من ذلك أننا أمة "سمعنا وأطعنا" فما جاء عن الله فهو الأولى والأجدر بالتقديم، ويرحم الله أئمتنا العظام الذين كان أحدهم يقول - على اتساع علمه- إذا جاءكم حديث يخالف قولي فاضربوا بقولي عرض الحائط. أما التنطع والتعالي فهو مهلك لصاحبه. ورحم الله من علم قدر نفسه فوقف عنده.
بقي أن نجيب على سؤال قد يطرحه البعض، وهو: ما هي النصوص من الكتاب والسنة التي يجب ألا تخالفها المصلحة المرسلة؟.
وجوابه أن النص المقصود هو النص: الدال دلالة صريحة على الحكم. يقول الدكتور يوسف القرضاوي: " ولهذا قالوا لا اجتهاد مع النص، يعنون به: النص الثابت الصريح الدلالة على الحكم" (2) . ويقول الدكتور رمضان البوطي: " وإنما المقصود في هذا النوع أن تعارض المصلحة المتوهمة نصا قاطعا، أو ظاهرا جليا أو غير جلي" (3) .
" فإذا عاد السائل ليقول: فما هو الحد الذي يقف عنده احتمال دلالات الألفاظ حتى يصبح ما وراءه مخالف لها ومعارض إياها؟ وما هي طبيعة هذا الحد؟.
__________
(1) ) الدكتور يوسف القرضاوي، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية: ص139.
(2) ) الاجتهاد في الشريعة الإسلامية: ص139.
(3) ) ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: ص120.(1/55)
قلنا الجواب: إن أمر الحد من أهم ما يتوقف على فهمه عمل المجتهد(...) وهذا الحد يتلخص في جملة الشروط التي ذكرها علماء الأصول لصحة التأويل، وفي مقدمتها كون التأويل موافقا لوضع اللغة وعرف الاستعمال، وعادة صاحب الشرع، وجملة الشروط التي ذكروها لصحة التعليل، وفي مقدمتها ألا تعود العلة على الأصل بالإبطال" (1) .
رأي الطوفي:
إلا أن البعض تجاوز هذه الحدود والشروط وقفز عليها، ليلقي الأحكام جزافا دون تقييد أو ضبط، أو رعاية لأصل، أو اتكال على القواعد المُجمع عليها في الشرع، وعلى رأس هؤلاء: الإمام الطوفي؛ الذي زعم أنه يمكن تقديم المصلحة على النص إذا تعارضا، ونص كلامه،- بعد ذكره أدلة الشرع- قال: " وهذه الأدلة التسعة عشر، أقواها النص والإجماع، ثم هما إما يوافقا رعاية المصلحة أو يخالفاها، فإن وافقاها فبها ونعمت، ولا تنازع، إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم، وهي: النص والإجماع ورعاية المصلحة المستفادة من قوله عليه السلام: " لا ضرر ولا ضرار" وإن خالفاها وجب تقديم المصلحة بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الافْتآت عليهما، والتعطيل لهما، كما تقدم السنة على القرآن بطريق البيان" (2) .
ولعلي لن أجيب على هذا الكلام لأني لا أرى أن الرد على البديهيات والمسلمات فيه كبير فائدة، وسأترك القارئ يحكم عليه انطلاقا مما يؤمن به، ومما سبق ذكره في هذا المطلب، ولمن أراد مزيد رد عليه بشكل علمي ومؤصل، أحيله على كتاب الدكتور رمضان البوطي: " ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية" فقد أشفى الغليل في الرد عليه. (3)
المطلب الثالث: الرد على من زعموا أن الأحكام القطعية يمكن أن تتغير بتغير الأحوال والأزمان والمصالح.
__________
(1) ) ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: ص124.
(2) ) رسالة في رعاية المصلحة: ص23-24.
(3) ) راجع الكتاب المذكور:ص 178 وما بعدها.(1/56)
لعلنا تجنبنا قبل قليل الرد على ما لا نرى في الرد عليه كبير فائدة، وحتى لا نطيل هذا البحث بكثرة الردود والمناقشات.
ولكن لا مناص من الرد على قوم منا تؤزهم الشياطين أزا على تحريف هذا الدين، أناس من قومنا لكنهم خرجوا علينا، أجسادهم معنا وقلوبهم مع غيرنا، ابتساماتهم في وجوهنا وبواطنهم تريد خاب أمتنا، أناس صنعهم "الاستخراب" (1) الغربي على عينه واصطنعهم لنفسه، رضوا بأن يكونوا ذَنَبا لعدو الله وعدو الأمة، فهم يده المسلطة في المجتمع المسلم، مكنهم من حصد ثمار ما زرعه المجاهدون الذين باعوا أموالهم وأنفسهم ليشتروا جنة ربهم، وليحرروا هذا الوطن، قوم كمثل السم في العسل، ما أصاب الأمة من شرهم أضعاف ما أصابها من الاستخراب "والإمبريالية" العالمية للغرب، وهل هناك شر من أن يُسْلمك أخوك لعدوك لتلقى حتفك. وقد قال الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشد مضادة *** على المرء من وقع الحسام المهند.
" هؤلاء القوم فتنوا بهذا الزيف من المدنية الغربية، وعثروا في شذوذ الطوفي على ما ستروا به عن الناس حقيقة زيفهم وتجافيهم عن الدين الذي يتظاهرون بالدينونة به، فراحوا يجعلون من لغو الطوفي بوقا يصرخون فيه بين الناس ذات اليمين وذات الشمال، (لولاهم) لحفظت الوقت الثمين من تضييعه في كلام لو بحث المناطقة عن أمثلة يستعملونها للتقريب في باب شرح السفسطة والمغالطة بين الأدلة، لم يجدوا خيرا من ذلك". (2)
هؤلاء القوم زعموا فيما زعموا أن الأحكام الإسلامية القطعية منها والظنية، يمكن أن تتغير بتغير الأحوال والأزمان والمصالح.
__________
(1) ) استعملت كلمت "الاستخراب" بدل كلمت الاستعمار لأن الأخير مصطلح قرآني يعني إعمار الأرض بالخير، قال تعالى : " هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها"، أما الاحتلال فجاء ليخرب أرضنا لا ليعمرها.
(2) ) الدكتور رمضان البوطي، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: ص154-155.(1/57)
ولعل هذا بعض أو جزء من حق أريد به باطل، إذ أنه ثابت في الفقه وأقوال العلماء أن الأحكام تتغير بتغير الأزمان والحالات، حتى أن الإمام ابن القيم استهل الجزء الثالث من كتابه "إعلام الموقعين" بفصل سماه : " تغير الفتوى واختلافها بحسب الأزمنة والأمكنة، والأحوال والنيات والعوائد". إلا أنه لم يثبت عن الصحابة الأبرار ولا عن الأئمة الأطهار، أنهم قصدوا بذلك الأحكام القطعية والنصوص المحكمة.
لم نسمع ذلك إلا من هؤلاء القوم الذين هم ليسوا من أهل الاجتهاد ولا التخصص، بل هم سفهاء قوم تطاولوا وضخمهم الإعلام، حتى حسبهم الناس شيئا، فصُدِّقوهم على كذبهم، وائتُمنوهم على خيانتهم، وإني لأحسب أن هذه هي السنون التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيأتي على الناس سنون خداعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة." قيل يا رسول الله ومن الرويبضة؟ " قال: السفيه يتكلم في أمر الناس" (1) .
أما القضايا التي طرحوا فيها ذلك الزعم فهي كثيرة ومتنوعة، نقتصر منها على قضيتين اثنتين، أولاهما قضية المرأة ونأخذ فيها مثالين اثنين هما "الحجاب" و "الإرث". أما القضية الثانية في الاقتصاد ونأخذ فيها مثال واحدا هو "الربا". ولنبدأ بأول القضيتين وأكثرهما طرحا في هذا الزمان وهي قضية المرأة:
قضية المرأة:
ولعلي أتساءل البداية: هل للمرأة قضية منفصلة عن أمتها في عالمنا الإسلامي؟!.
إن ما أعرفه أن قضية المرأة بهذه الصورة التي يحاولون طرحها بها، ظهرت في أوروبا في وقت كان يمارَس على المرأة الظلم بشتى أنواعه وتلاوينه، بدعوات متعددة، إما بدعوة الجنس، أو العمل...
ولكن في عالمنا الإسلامي، ما علاقتنا بذلك؟!.
أنا لا أنكر الظلم الذي كان يمارس على المرأة في عالمنا الإسلامي، بسبب الجهل وبسبب الابتعاد عن منهج الإسلام الذي شرعه.
__________
(1) ) رواه الحاكم، حديث 8439. ج4/512.(1/58)
ولكن ما علاقة الإسلام بهذا الظلم؟ أهو من ظلم المرأة؟ أم غير ذلك؟ ولماذا يلصق كل نقص وظلم نال المرأة بالإسلام؟ ربما أسئلة تحتاج إلى أسئلة تحتاج إلى أجوبة، وأجوبتها تطول، وربما تحتج إلى سبر الأغوار ونبش النيات، والنيات في الصدور لا يعلمها إلا الله، فلنأخذ الأمر على ظاهره إذا!!!
لن أتحدث عن تكريم الإسلام للمرأة، ولا عن مكانتها، فهذا حديث طال به الكلام، وسال فيه المداد، وامتلأت به القراطيس.
بل سأقتصر على أنموذجين من النماذج ومثالين من الأمثلة التي خاضوا فيها، لنرى هل الإسلام ظلم المرأة فيهما؟ أم أن فيهما المصلحة الحقيقة للمرأة؟ وهما "الحجاب" و"الإرث".
فالمعروف أن الحجاب فرض على كل مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر، نزل الأمر به وحيا من السماء، فتلقه نساء الرعيل الأول أحسن لقيا، حتى إن إحداهن كانت تشق من جلبابها أو إزارها لتخْتمر به، فما أمسى المساء إلا وليس فيهن غير محجبة.
ولكننا بدأنا نسمع في هذا العصر أناسا ينادون - بدعوى عصر المساواة والحرية والمصلحة... بأن الحجاب ضد مصلحة المرأة لأنه يقيد من حريتها، وأن الحجاب ليس فرضا على كل النساء المسلمات، بل هو فرض على كل أمهات المؤمنين، بل أكثر من ذلك ينادون بفتح العلاقات بين الجنسين بلا حجاب ولا ضابط، لأن هذا يخفف من ثورة الشباب الجنسية، لأنهم يتطبعون معها فلا تصير تشكل لهم هما كبيرا، وهكذا...؟!!!(1/59)
لا حول ولا قوة إلا بالله، هل أصبحت الحرية بوقا ينفخ فيه كل إمَّعة يتجرأ على المقدسات وعلى أحكام الشريعة؟ أعمي هؤلاء عن كل هذه الأدلة البينة والآيات القاطعة أم تعاموا عنها؟ (1) وكيف يجرؤون أن يقولوا إن الحجاب هو فرض على أمهات المؤمنين فقط؟ من الأولى بالحجاب؟ هل هن أمهات المؤمنين؟ اللائي تربَّيْن في حجر النبي صلى الله عليه وسلم أطهر الخلق وأصفاهم، أم هن نساء المسلمين؟ " إن الحجاب هو صيانة للمجتمع كله من الفتنة، وإبقاء للاستقرار والأمن للمرأة، حتى لا يخرج زوجها من بيته وهي لا تعلم ستفتنه امرأة أخرى فيتزوجها ،أم أنه سيعود إلى بيته؟ " (2) . فكيف يقولون إن نزع
الحجاب والاختلاط بلا حدود يخفف الثورة الجنسية لأن المرء يتطبع معها؟ أيتطبع الإنسان مع فطرته؟ ولماذا لم يتطبع الغرب مع هذه الفطرة، وانتشرت فيه هذه الجرائم من الزنا والاغتصاب، حتى أصبحوا يعيشون كالبهائم، وحتى أصبح الرجال يتزوجون بالرجال، والنساء يتزوجن بالنساء، بل وتشرع القرانين لذلك؟ هل يريدوننا أن نكون مثلهم؟ ربما، من يدري؟! ولكن كما قلنا، النيات في علم الله ولن ننبش فيها.
المثال الثاني: الميراث، ولماذا أعطيت المرأة نصف ما أعطي الرجل؟.
قال عز وجل: " يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ". (3)
وبنفس الدعوات، انطلقت الصيحات: ظلم المرأة، عصر المساواة، مصلحة المرأة، الحرية...
ونحن سنقرر هنا ثلاثة أمور فقط: فليعقها من شاء أن يعقلها منهم.
__________
(1) ) آيات وجوب الحجاب على المرأة كثيرة، ومن أراد فليرجع إلى سورة النور وسورة الأحزاب ليطلع عليها، والآيات هي (30-31-60- من سورة النور) و (53 - 55- 59.من سورة الأحزاب).
(2) ) محمد متولي الشعراوي، مكانة المرأة في الإسلام: ص183.
(3) ) سورة النساء، الآية: 11.(1/60)
أولها: أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وعلى الإنسان السمع والطاعة. وهو بالخيار، فاليوم عمل بلا حساب، وغدا حساب بلا عمل.
ثانيها: أن حالات إعطاء المرأة نصف ما يعطى الرجل حالات معدودة، فهناك حالات أخرى تعطى فيها المرأة مثلما يعطى الرجل، وقد تَرْبُوا عليه في بعض الحالات، ولو رجع هؤلاء لما ذكره علماء الفرائض، لما قالوا الذي قالوا.
والثالثة: " ليس في هذا الأمر محاباة لجنس على جنس، إنما الأمر توازن وعدل، بين أعباء الذكر وأعباء الأنثى في التكوين العائلي، وفي النظام الاجتماعي، الإسلامي، فالرجل يتزوج المرأة، ويتكلف إعالتها، وإعالة أبنائها منه، في كل حالة، وهي معه، وهي مطلقة... أما هي فإما أن تقوم بنفسها فقط، وإنما أن يقوم بها الرجل، قبل الزواج وبعده سواء، وليست مكلفة نفقة للزوج ولا للأبناء في أي حال، فالرجل مكلف - على الأقل- ضِعف أعباء المرأة في التكوين العائلي وفي النظام الاجتماعي الإسلامي، ومن ثم يبدأ العدل كما يبدأ التناسق بين الغُنم والغرم في هذا التوزيع الحكيم، ويبدوا كل كلام في هذا التوزيع جهالة من ناحية، وسوء أدب مع الله من ناحية أخرى، وزعزعة للنظام الاجتماعي والأسري لا تستقيم معها الحياة" (1) . تلك إذا قسمة عادلة وليست قسمة ضيزى.
ولست أبغي من هذا الكلام الحديث عن مقاصد الحجاب ولا عن مقاصد الإرث ولاعن مقاصد أخرى في قضية المرأة، بل القصد هو بيان الحق، وبيان أن التشريع الإلهي هو المصلحة المطلقة، فهو أحكم الحاكمين، وما خالف حكمه فهو المفسدة ولو ظنوها مصلحة، فلا يغير ظنهم من الحقيقة شيئا.
ولننتقل إلى القضية الثانية وهي:
الاقتصاد:
ونأخذ فيها نموذجا واحدا وهو "قضية الربا".
__________
(1) ) سيد قطب، في ظلال القرآن: 1/591.(1/61)
فقد زعم الزاعمون " أن الاقتصاد هو عصب الحياة، والبنوك عصب الاقتصاد، والفوائد الربوية عصب البنوك، وهذا يوجب علينا تسويغ الفوائد الربوية بطريقة أو بأخرى" (1) .
ومما لاشك فيه أن الإسلام حرم الربا، بل جعله من الكبائر الموبقات، بل لم يبلغ من تفظيع شيء أراد تحريمه من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا، ولا بلغ من التهديد في شيء ما بلغه في الربا، وأي تفظيع أكبر من أن يجعل آكل الربا كالذي يتخبطه الشيطان من المس، وأي تهديد أكبر من أن يعلن الله سبحانه وتعالى الحرب على آكل الربا. وإنا لنرى صورة ذلك في زماننا جلية واضحة، فرأينا الرجل يدور كما يدور الحمار في الرحى، ويتخبط كما لو أصابه مس من الشيطان من ثقل ما يرزأ تحته من الربا، ورأينا ما يحدث من القلاقل والفتن في العالم بسبب الربا، حتى أصبحت ثروات العالم كله متجمعة في يد شرذمة من الناس، فازداد الفقراء فقرا، وازداد الأغنياء غنا، فأي أحمق بعد ذلك يتحدث عن الربا بخير؟! ولو نظروا إلى من نَظّروا للربا في أول الأمر، لوجوا كثيرا منهم الآن ينظِّرون لمحاربتها، بل وخرجوا إلى تطبيق ذلك على أرض الواقع، حيث ظهرت مؤسسات بنكية غير ربوية في أوروبا، وبدأت نسب الفوائد الربوية في كثير من الدول تنخفض حتى وصلت في بعضها إلى 0.01%. ويكفي ذلك لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وأعود ثانيا لأقول: لست أقصد بكلامي هذا الحديث عن مقاصد تحريم الربا، فهذا له مجاله، إنما قصدي أن أبين أن المصلحة فيما أمر الله به، والمفسدة فيما نهى عنه، ومن قال غير ذلك فهو خادع أو مخدوع.
وأخيرا أوجه رسالة إلى من حسبوا غير ذلك لأقول لهم:
__________
(1) ) يوسف القرضاوي، في معرض رده على من ادعى أن الربا فيه مصلحة، كتاب الاجتهاد في الشريعة الإسلامية: ص159.(1/62)
يا قومنا تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن نبحث عن الحق فنتبعه، ونبحث عن المصلحة الحقيقية فنعمل بها، ولنبحث عن ذلك بالمنطق الصحيح والعقل السليم. فهذه يد ممدودة إلى كل من أراد التعاون على إصلاح هذا الوطن، وهذه الأمة. ولا أظن أن عاقلا سيرفض ذلك ومن فعل فقد برأنا منه إلى ذمة الله تعالى وحسابه عليه.
المبحث الثاني:
الضابط الثاني: أن تكون المصلحة المرسلة عامة.
ومقصودنا أن تكون المصلحة عامة على جميع المسلمين أو أغلبهم، فلا تنتفع بها فئة وتتضرر بها أخرى، وهذا ما عبر عنه الإمام الغزالي باشتراطه أن تكون المصلحة " كلية" وضرب لها مثلا: " لو كان جماعة في سفينة لو طرحوا واحدا منهم لنجوا وإلا غرقوا بجملتهم، فهذا لا يجوز لأن المصلحة هنا ليست كلية، إذ يحصل بها هلاك عدد محصور". (1)
من أجل ذلك كان لزاما أن تنضبط المصلحة المرسلة بهذا الضابط، لأن عدم اعتباره يوقع الأمة في مشقة عظيمة وفتنة كبيرة، بسبب ما يؤدي إليه من خلل في طبقات المجتمع، حيث تستفيد طبقة معينة على حساب طبقات أخرى، وهذا أمر يخشى أن تتغير بسببه أحكام الشرع على حسب أهواء الناس ومراتبهم الاجتماعية، ولعل الأمة ما ضاعت حقوق الناس فيها إلا حين تخليها عن هذا الضابط. لذا فلتحذر الأمة أن تصيبها فتنة أو يصيبها عذاب أليم، فما هلك من كان قبلنا " إلا أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد" (2)
ودليل هذا الضابط هو " أن الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة، بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض، ولا يتحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف البتة، والدليل على ذلك - مع أنه واضح- أمور:
__________
(1) ) المستصفى: ص176.
(2) ) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب 54 حديث: 3475. ج2/172. وصحيح مسلم (بشرح النووي) كتاب الحدود، باب قطع يد السارق وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود حديث1688، ج11/188-189.(1/63)
أحدها: النصوص المتظافرة، كقوله تعالى: " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا " (1)
وقال صلى الله عليه وسلم" بعثت للأحمر والأسود" (2) ، وأشباه هذه النصوص، مما يدل على أن البعثة عامة لا خاصة، ولو كان بعض الناس مختصا بما لم يختص به غيره، لم يكن مرسلا للناس جميعا(...).
والثاني: الأحكام إذا كانت موضوعة لمصالح العباد، فالعباد بالنسبة إلى ما تقتضيه من المصالح مرآة، فلو وضعت على الخصوص لم تكن موضوعة لمصالح العباد لكنها كذلك حسبما تقدم في موضعه (3) (...) فثبت أن أحكامها على العموم لا على الخصوص(...).
الرابع: أنه لو جاز خطاب البعض ببعض الأحكام حتى يختص بالخروج عنه بعض الناس، لجاز مثل ذلك في قواعد الإسلام ألا يخاطب بها من كملت فيه شروط التكليف بها. وكذلك الإيمان الذي هو رأس الأمر، وهذا باطل بإجماع(...). (4)
يقول الشيخ الطاهر بن عاشور: " ذلك أن المسلمين مستوون في الانتساب إلى الجامعة الإسلامية، بحكم قوله عز وجل:"إنما المؤمنون إخوة" فمعنى الأخوة يشمل التساوي على الإجمال يجعل المسلمين سواء في الحقوق المخولة في الشريعة بدون تفاوت فيما لا أثر للتفاوت فيه بين المسلمين من حيث إنهم مسلمون. فإذا علمنا أن المسلمين سواء بأصل الخلقة واتحاد الدين من حيث إنهم مسلمون، تحققنا أنهم أحقاء بالتساوي في تعلق الخطاب الشرعي بهم، لا يؤثر على ذلك التساوي مؤثر من قوة أو ضعف. فلا تكون عزة العزيز زائدة له من آثار التشريع" (5) .
__________
(1) ) سورة سبأ، الآية:28.
(2) ) رواه مسلم بلفظ قريب "بعثت لكل أحمر واسود" كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث521، ج5/5.
ورواه البخاري بلفظ "وبعثت للناس عامة" كتاب التيمم، باب، حديث 334. ج185
(3) ) راجع المطلب الثاني في المبحث الأول في الفصل الأول (من هذا البحث).
(4) ) الشاطبي، الموافقات: 2/208-211.
(5) ) مقاصد الشريعة الإسلامية: ص93.(1/64)
ويقول: " فالمساواة في التشريع للأمة ناظرة إلى تساويهم في الخلقة وفروعها، مما لا يؤثر التمايز فيه أثرا في صلاح العالم. فالناس سواء في البشرية "كلكم لآدم" وفي حقوق الحياة في هذا العالم بحسب الفطرة، ولا أثر لما بينهم من الاختلافات بالألوان والصور والسلائل والمواطن. فلا جرم نشأ عن هذا الاستواء فيما ذكر تساويهم في أصول التشريع". (1)
وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمليا هذا عندما رفض أن يشفع حبه زيد بن حارثة في حد من حدود الله، لأن التي كان سيقام عليها الحد امرأة مخزومية شريفة، فقد روى البخاري ومسلم، من حديث عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة بن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتشفع في حد من حدود الله"، ثم قام فاختطب (2) ، ثم قال: " إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" (3) .
وعلمناه الصحابة الكرام الذين ما كانوا يعتبرون مصالح أحد على حساب أحد ولو كانوا آباءهم، أو أبناءهم، أو إخوانهم، أو أزواجهم، أو عشيرتهم. بل كان ضعيف الناس قوي عندهم حتى يأخذوا الحق له، وقوي الناس ضعيف عندهم حتى يأخذوا الحق منه.
__________
(1) ) نفسه: ص93- 94.
(2) ) أي طلب الناس للخطبة.
(3) ) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب 54 حديث: 3475. ج2/172. وصحيح مسلم (بشرح النووي) كتاب الحدود، باب قطع يد السارق وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود حديث1688، ج11/188-189.(1/65)
هذه بعض الأدلة والأمثلة على إلغاء الشريعة لكل مصلحة تراعي فيها منافع فئة على حساب أخرى. إلا أنه يجب التنبيه على أن ذلك لا يعني إلغاء اختلافات أحوال الناس في عوائدهم وأنفسهم وطبائعهم؛ فهذا كله معتبر، ولكنه يقدر بقدره، وقد فصل الإمام الطاهر بن عاشور في هذا تفصيلا حسنا في كتابه "مقاصد الشريعة الإسلامية"، وهذا بعض ما قال:
" فمراعاة عوائد الأمم المختلفة هو خلاف الأصل في التشريع الإلزامي، وإنما يسعه تشريع الإباحة حتى يتمتع كل فريق من الناس ببقاء عوائدهم، لكن الإباحة لما كان أصلها الدلالة على أن المباح ليس فيه مصلحة لازمة ولامفسدة معتبر لزم أن يراعى ذلك في العوائد. فمتى اشتملت على مصلحة ضرورية أو حاجية للأمة كلها أو ظهرت فيها مفسدة معتبرة لأهلها، لزم أن يصار بتلك العوائد إلى الانزواء تحت القواعد التشريعة العامة من وجوب أو تحريم". (1)
وقال: " فالمساواة في التشريع أصل لا يتخلف إلا عند وجود مانع، فلا يحتاج إلى إثبات التساوي في التشريع بين الأفراد أو الأوصاف إلى البحث عن موجب المساواة بل يكتفي بعدم وجود مانع من اعتبار التساوي" (2)
وبيَّن هذه الموانع بقوله: " وموانع المساواة هي: العوارض التي إذا تحققت تقتضي إلغاء حكم المساواة لظهور مصلحة راجحة في ذلك الإلغاء، أو لظهور مفسدة عند إجراء المساواة(...) وليست تسميتها بالعوارض مرادا منه أمور عارضة مؤقتة، لأن العوارض قد تكون دائمة أو غالبة الحصول، إنما تسميتها بالعوارض من حيث إنها تبطل أصلا منظورا إليه في الشريعة نظرا أول، فجعلت لأجل ذلك أمور عارضة، إذا كانت مبطلة أصلا أصيلا، لأننا بينا أن المساواة هي الأصل في التشريع(...) ثم إن العوارض المانعة من المساواة في بعض الأحكام أقسام أربعة: جبلية، وشرعية، واجتماعية، وسياسية. وكلها قد تكون دائمة أو مؤقتة، طويلة أو قصيرة(...).
__________
(1) ) مقاصد الشريعة الإسلامية: ص89.
(2) ) نفسه: ص94.(1/66)
فالموانع الجبلية الدائمة: كمنع مساواة المرأة للرجل فيما تقصر فيه بموجب أصل الخلقة مثل: إمارة الجيش والخلافة...
فحقيق بالفقهاء وولاة الأمور أن يراعوا هذه الموانع ومقاديرها وتأصلها، فيعملوا آثارها في المساواة بعد ثبوتها(...).
وأما الموانع الشرعية: فهي ما كان تأثيرها بتعيين التشريع الحق، إذ التشريع الحق لا يكون إلا مستندا لحكمة وعلة معتبرة. ثم تلك الحكمة قد تكون جبلية وقد تكون خفيفة. فالشريعة هي القدوة في تحديد الموانع وتحديد ما ينشأ عن مراعاة أصول تشريعة تعتبر إجراءها أرجح من إجراء المساواة(...).
وأما الموانع الاجتماعية: فأكثرها مبني على ما فيه صلاح المجتمع، وبعضها يرجع إلى المعاني المعقولة، وبعضها يرجع إلى ما تواضع عليه الناس واعتادوه، فتأصل فيهم؛ مثل: منع مساواة الجاهل للعالم في التصدي للنظر في مصالح الأمة، ومنع مساواة العبيد للأحرار في قبول الشهادة(...).
وأما الموانع السياسية: فهي الأحوال التي تؤثر في سياسة الأمة، فتفضي إلى إبطال حكم المساواة بين أصناف أو أشخاص أو في أحوال خاصة، كل ذلك لمصلحة من مصالح دولة الأمة، وهذا النوع يكثر فيه اعتبار التوقيت، فمثال الدائم منه: اختصاص قريش بإمامة الأمة، ومثال المؤقت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"". (1)
وهكذا نخلص إلى أن الأحكام الإسلامية عامة لا تختص بأحد على حساب أحد، ومن هذا فإن أي مصلحة واقعة أو متوقعة يجب أن يراعى فيها هذا الأصل، وإلا فهي مرفوضة ومردودة.
المبحث الثالث:
الضابط الثالث: ألا تفوت المصلحة المرسلة مصلحة أهم منها.
__________
(1) ) مقاصد الشريعة الإسلامية: ص94 وما بعدها.(1/67)
وهو ما يسمى في فقه الشريعة ب "فقه الموازنات" أو " فقه مراتب الأعمال" أو كما سماه الدكتور يوسف القرضاوي: " فقه الأولويات" وهو أصل ثابت باستقراء عامة جزئيات الأحكام الشرعية؛ يقول الدكتور رمضان البوطي: " فإذا ثبت أن المصالح المطلوبة متفاوتة في الجملة، وأنها متدرجة في مراتب مختلفة، فاعلم أن الدليل على ميزان هذا التفاوت والتدرج مأخوذ من دليل الاستقراء لعامة جزئيات الأحكام الشرعية" (1) .
فمن آي القرآن الكريم قوله عز وجل: " إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" (2)
ومعنى الآية؛ أن صدقة الجهر على عظم فضلها وجزيل أجرها، فإن صدقة السر تفضلها، لأنها أبعد عن الرياء، وأسلم من المن، وهذا تفضيل لمصلحة على مصلحة.
وقال عز وجل: "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (3) .
وفي هذه الآية تفضيل لطاعة الجهاد على طاعة سقاية الحجاج وعمارة المسجد الحرام، على الرغم من عظم الأجر في الثانية أيضا، ولكن المصلحة في الأولى أعظم، وكذلك الأجر. (4)
__________
(1) ) ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: ص223.
(2) ) سورة البقرة، الآية: 271.
(3) ) سورة التوبة، الآية:19.
(4) ) ومما يروى في ذلك: ما كتبه عبد الله بن المبارك وكان في الجهاد، إلى الفضيل بن عياض، وكان يسمى بعابد الحرمين؛ قصيدته الشهيرة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا***لعلمت أنك في العبادة تلعب.
(ذكرها ابن كثير في آخر تفسير سورة آل عمران: 1/405.)(1/68)
ومن السنة: ما رواه الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير، فقلت: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال:" لقد سألتني عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه؛ تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما تطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل، قال: ثم تلا،"تتجافى جنوبهم عن المضاجع" حتى بلغ "يعلمون" ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروته وسنامه؟ قلت بلى يا نبي الله: فأخذ بلسانه قال: كف عليك هذا. فقلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون مما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم". (1)
وهذا الحديث دال على فضل هذه الأمور، ومبينا أنها أكثر ما يدخل الجنة ويباعد عن النار، لما فيها من مصلحة عظيمة.
وعن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أكبر الكبائر؛ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، وشهادة الزور" ثلاثا أو " قول الزور" فمازال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. (2)
وهذا حديث واضح الدلالة في تمييز المفاسد بعضها عن بعض، وجعل هذه - المذكورة- هي أكبرها.
__________
(1) ) رواه الترمذي، كتاب الإيمان، باب حرمة الصلاة، حديث:2616، ج 5 /11.
ورواه الحاكم في المستدرك، كتاب الجهاد حديث2404. ج 2/11.
(2) ) رواه البخاري، كتاب استتابة المرتد، باب إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة: حديث6918. ج3/337.(1/69)
من هذه النصوص وغيرها يتبين لنا أن تفاوت درجات الأعمال وأجورها تابع لقوة المصلحة فيها؛ فكلما عظمت المصلحة عظم الأجر والمرتبة، وعكس ذلك في المفاسد؛ ويقول: " المصالح والمفاسد في رتب متفاوتة، وعلى رتب المصالح تترتب الفضائل في الدنيا والأجور في العقبى، وعلى رتب المفاسد تترتب الصغائر والكبائر وعقوبات الدنيا والآخرة" (1) .
فإذا علم هذا فليعلم المكلف أنه مطالب بتحقيق أرجح المصالح فمرجوحها، ودفع أرجح المفاسد فمرجوحها؛ يقول العز بن عبد السلام : " لا يخفى على عاقل أن(...) تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أرجح المفاسد فأفسدها محمود حسن(...) وأن تقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة محمود حسن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن، واتفق الحكماء على ذلك" (2)
وهذا لا يعني التهاون في جلب المصالح الأقل أهمية، أو دفع المفاسد الأقل أهمية، فطلب الشارع متساو في هذا وذاك، إنما التفاوت في الرتب، وفي تقديم الأولى حين التعارض؛ يقول العز بن عبد السلام: " طلب الشرع لتحصيل أعلى الطاعات، كطلبه لتحصيل أدناها في الحد والحقيقة، كما أن طلبه لدفع أعظم المعاصي كطلبه لدفع أدناها، إذ لا تفاوت بين طلب وطلب، إنما التفاوت بين المطلوبات، من جلب المصالح ودرء المفاسد؛ لذلك انقسمت الطاعات إلى الفاضل والأفضل، لانقسام مصالحها للكامل والأكمل، وانقسمت المعاصي إلى الكبير والأكبر، لانقسام مفاسدها إلى الرذيل والأرذل" (3) .
__________
(1) ) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1/29.
(2) ) نفسه: 1/5.
(3) ) قواعد الأحكام في مصالح الأنام:1 /22.(1/70)
فإذا تعارضت المصالح عند المكلف؛ فإن استطاع أن يأخذ بها جميعها، فبها ونعمت، وإن لم يستطع؛ أجرى عليها مقياس الترجيح، فينظر إلى هذه المصلحة من حيث قوتها في ذاتها - ما ذكرناه آنفا من أنها تنقسم إلى ضرورية وحاجية وتحسينية-؛ فإذا تعارض الضروري مع غيره من الحاجي أو التحسيني، قدم الضروري، وإذا تعارض الحاجي مع التحسيني قدم الحاجي، أما إذا تعارضت المصالح في نفس المرتبة؛ ينظر إليها من جهة مقدار شمولها، فتقدم المصلحة الأعم على المصلحة الأخص - كما سبق الذكر.
وخلاصة المسألة: أن المصلحة المرسلة داخلة في هذا الأصل الكلي العام، بحيث " إذا عورضت بمصلحة أهم منها، كان في الأخذ بها فوات الأهم، وذلك نوع من المفسدة، فقد المستند الذي لأجله كانت مشروعة، وهو الصلاح، فيصبح حكمها في هذه الحالة حكم المفاسد" (1) .
المبحث الرابع:
الضابط الرابع: ألا تخالف المصلحة المرسلة مقاصد الشريعة.
ومقاصد الشريعة هي: " المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها. بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغاياتها العامة والمعاني التي لا يخلوا التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضا، معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها في أنواع كثيرة منها" (2) .
ويعرفها الشيخ علال الفاسي بقوله: " الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها" (3) .
وهذه المقاصد تعرف بإحدى طرق ثلاث:
" الطريق الأول: وهو أعظمها؛ استقراء للشريعة في تصرفاتها، وهو على نوعين:
أعظمها: استقراء الأحكام المعروفة من عللها الآيل إلى استقراء تلك العلل المثبتة بطرق مسالك العلة، فإن باستقراء العلل حصول العلم بمقاصد الشريعة بسهولة(...)
__________
(1) ) رمضان البوطي، ضوابط المصلحة: ص232.
(2) ) الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية: ص49.
(3) ) مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها: ص7.(1/71)
النوع الثاني من هذا الطريق: استقراء أدلة أحكام اشتركت في علة، بحيث يحصل لنا اليقين بأن تلك العلة مقصد مراد للشارع...
الطريق الثاني: أدلة القرآن الواضحة الدلالة التي يضعف احتمال أن يكون المراد منها غير ما هو ظاهرها بحسب الاستعمال العربي...
الطريق الثالث: السنة المتواترة، وهذا الطريق لا يوجد له مثال إلا في حالين:
الحال الأول: المتواتر المعنوي الحاصل من مشاهدة عموم الصحابة عملا من النبي صلى الله عليه وسلم (...)
الحال الثاني: تواتر عملي يحصل لآحاد الصحابة من تكرر مشاهدة أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث يتلخص من مجموعها مقصدا شرعيا" (1) .
من أجل ذلك كان من شروط المصلحة المرسلة أن تكون موافقة لمقاصد الشريعة وحافظة لها لا مناقضة، فإن ناقضتها لم تعتبر؛ يقول الدكتور فوزي خليل: " المصلحة إن ناقضت مقاصد الشريعة، أو أحدها فهي ليست مصلحة على سبيل الحقيقة، حتى وإن بدا فيها نفع ظاهر، بل هي مفسدة يجب دفعها، وما يقع من أمور قد يبدوا في ظاهرها ضرر، ولكنها مقصودة ومطلوبة للشارع" (2) .
وبعد هذه السياحة في شاطئ العلم نستعد لركوب بحر العمل، سائلين الله تعالى أن يجنبنا أمواج الزلل، وعواصف الخطل ورعد الرياء وبرق السمعة.
وهذا البحر هو بعض التطبيقات المعاصرة للمصلحة المرسلة،
وذلك في الفصل القادم.
إن شاء الله تعالى
الفصل الثالث:
بعض التطبيقات المعاصرة للمصلحة المرسلة.
بعد حديثنا عن مفهوم المصلحة وأقسامها، والمصلحة المرسلة وضوابطها، ننتقل للحديث عن بعض التطبيقات المعاصرة للمصلحة المرسلة، وستكون - إن شاء الله - في المجالين التاليين:
" مجال السياسة الشرعية وتشريع الأحكام والقوانين.
" ومجال الاقتصاد الإسلامي.
__________
(1) ) الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية: ص17-19.
(2) ) المصلحة العامة من منظور إسلامي: ص81(1/72)
وقد اخترت هذين المجالين لأهميتهما في حياة المسلمين، ولارتباط العديد من أحكام الشرع بهما، وأيضا لإزالة اللبس الواقع فيهما بين المسلمين.
ولنبدأ مع أولاهم.
المبحث الأول:
تطبيقات المصلحة المرسلة في مجال السياسة الشرعية
وتشريع الأحكام والقوانين.
المطلب الأول: تعريف السياسة الشرعية، وعلاقتها بالمصلحة المرسلة.
السياسة في اللغة:
من ساس يسوس، وأصل كلمتها "سوس" قال ابن منظور في اللسان: "السوس: الرياسة، يقال: ساسوهم سوسا، وإذا رأسوه قيل سوّسوه وأساسوه، وساس الأمر سياسة: قام به، ورجل ساس من قوم ساسة، وسواس.
وأنشد ثعلب:
سادة قادة لكل جميع *** ساسة الرجال يوم القتال.
وسوسه القوم: جعلوه يسوسهم، ويقال: سُوِّس فلان أمر بني فلان: أي كُلف سياستهم. الجوهري: سست الرعية سياسة، وسوس الرجل أمور الناس على ما لم يسم فاعله، إذا ملك أمرهم، ويروي قول الحطيئة:
لقد سوست أمر بنيك حتى تركتهم *** أدق من الطحين...
والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه. والسياسة فعل السائس، يقال: هو يسوس الدواب إذا قام عليها وأرضاها، والوالي يسوس رعيته" (1) .
نستنتج من هذه المعاني التي ذكرها ابن منظور لكلمة السياسة والسوس أن معناها القيام على الشيء بما يصلحه، فهي ليست " إلا إصلاح واستصلاح وصلاح، والصلاح مفهوم متعدد المستويات، بدءا من سياسة الدواب، ومرورا بسياسة النفس، وتعديا إلى سياسة الغير" (2) .
وأما وصفها بالشرعية: فلأنها مستمدة من الشرع، ولا تكون مستمدة من الشرع إلا إذا انبنت على أصوله، ووافقت مقاصده.
السياسة الشرعية في الاصطلاح:
لا يختلف التعريف الاصطلاحي للسياسة الشرعية عنه في الجانب اللغوي، فهي في نظر الفقهاء " تدبير مصالح العباد وفق الشرع" (3) .
__________
(1) ) لسان العرب، مادة "سوس" 6/107- 108.
(2) ) الدكتور فوزي خليل، المصلحة العامة من منظور إسلامي: ص110.
(3) ) عبد الوهاب خلاف، السياسة الشرعية: ص6.(1/73)
يقول الشيخ عبد الوهاب خلاف: " فالسياسة الشرعية هي تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار بما لا يتعدى حدود الشريعة وأصولها الكلية(...) والمراد بالشؤون العامة للدولة؛ كل ما كان تتطلبه حياتها من نظم، سواء أكانت دستورية، أم مالية، أم تشريعة، أم قضائية، أم تنفيذية، وسواء أكانت تتطلبها شؤونها الداخلية أم علاقاتها الخارجية، فتدبير هذه الشؤون، والنظر في أسسها ووضع قواعدها بما يتفق وأصل الشرع هو السياسة الشرعية" (1) .
ويقول الدكتور فوزي خليل: " وهنا تفهم السياسة الشرعية على أنها استنباط الحكم الشرعي للوقائع والأحداث التي تنزل بالأمة، ولم يرد فيها نص معين من الكتاب أو السنة أو الإجماع، وذلك بناء على الأدلة العامة والقواعد الكلية، وبما يحقق المصلحة العامة للأمة في هذه الوقائع وتلك الأحداث" (2)
والسياسة الشرعية بهذا المعنى تقصد " التوسعة على الولاة في إعمال القوانين والنظم التي تحقق مصالح الناس بما لا يخالف الشرع" (3)
إلا أن هذا المعنى انقسم عليه الناس، فمن باسط له إلى حد يخرج عن الحد، ومن مقتر إلى حد يضيق معه الحال. وكلا الفريقين على خطإ، فالأول يفتح باب البدع والظلم، والثاني يضيق على الناس ويوقعهم في الحرج. والوسط هو الخير.
يقول ابن القيم في كتابه "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية":
" وقال ابن عقيل في الفنون: جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية أنه هو الحزم، ولا يخلو من القول به إمام. فقال الشافعي: "لا سياسة إلا ما وافق الشرع".
__________
(1) ) نفسه: ص17.
(2) ) الدكتور فوزي خليل، المصلحة العامة من منظور إسلامي: ص 112.
(3) ) الدكتور محيي الدين قاسم، في مقال بعنوان " السياسة الشرعية" من موقع إسلام أون لاين:.www.islamonline.net(1/74)
فقال ابن عقيل: السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي. فإن أردت بقولك: "إلا ما وافق الشرع"؛ أي لم يخالف ما نطق به الشرع، فصحيح. وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع، فغلط وتغليط للصحابة" (1)
ثم قال - رحمه الله- " وهذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك ومعترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق وجرَّؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها مع علمهم وعلم غيرهم قطعا أنها حق مطابق للواقع، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع(...).
وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله.
وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه.
فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة، فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين وليست مخالفة له.
فلا يقال إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة..." (2)
__________
(1) ) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: 1/17- 18.
(2) ) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: 1/18.(1/75)
وخلاصة القول: إن السياسة الشرعية هي عمل بالمصلحة المرسلة، لتحقيق مصالح الناس وإن لم يدل دليل خاص من الشرع على ذلك، يقول الدكتور فوزي خليل:"أغلب قضايا العمل السياسي والأهداف السياسية التي تواجه النظام السياسي تدخل في المصالح المرسلة من حيث الاستناد إليها، والاستدلال بها في عملية صنع القرارات السياسية المتعلقة بالمصلحة العامة" (1) .
المطلب الثاني: نماذج تطبيقية معاصرة للمصلحة المرسلة، في مجال السياسة الشرعية وتشريع الأحكام والقوانين.
أولا: نظام الحكم وطريقته.
لقد أكد الإسلام على مبادئ عامة في نظام الحكم، ثم ترك تفصيل ذلك للمسلمين،
فأكد مثلا على مبدأي الشورى والعدل، فقال عن الشورى: "وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ" (2) وقال: " وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" (3) . أما عن طريقة تحقيقها فالأمر موكول إلى الأمة كي تجتهد في طريقتها حسب مقتضيات الأحول، لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع الصحابة ويشاورهم في الأمر، وكان يقول: "أشيروا علي أيها الناس"، وأيضا كان أحيانا يشاور بعضهم، خصوصا من عرفوا بالفطنة وسداد الرأي، وعلى هذا سار الشيخان وعلي وعثمان، ثم لما بدأت الدولة الإسلامية تتسع، وصعب على الحاكم أن يشاور الناس جميعا فأصبح ما يسمى ب "أهل الحل والعقد" وهم نواب الأمة في الشورى...
أما في عصرنا الحالي، فقد صعب الأمر أكثر، بل وصعب حتى الحديث عن أهل الحل والعقد، لذا استُحدثت نظم جديدة مبنية على المصالح المرسلة لتحقيق مبدإ الشورى، ومنها "مجلس الشورى" وهو هيئة ذات طابع استشاري في الدولة. "ومؤسسة البرلمان" وهي هيئة تشريعية تهتم بتشريع القوانين والمصادقة عليها، وإصدار المقررات التنظيمية وتقديم العمل والإنجازات... وتتكون هذه المؤسسة من عدد من الفرق البرلمانية المنتمية إلى أحزاب سياسية.
__________
(1) ) المصلحة العامة من منظور إسلامي: ص95.
(2) ) سورة آل عمران، الآية: 159.
(3) ) سورة الشورى، الآية: 38.(1/76)
وأيضا استحدث ما يسمى بالشورى العامة المتمثلة في "الاستفتاء العام" والذي يسعى الحاكم به لمعرفة رأي الشعب في مسألة معينة..
أما نظام العدل فقال عنه الله عز وجل: " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ" (1) .
... وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هو القاضي والمنفذ للأحكام، ثم اتسع الأمر في زمن الصحابة رضي الله عنهم، فعينوا قضاة على الأمصار، ثم اتسع الأمر أكثر في زمن التابعين وسلف الأمة، فاستحدث منصب قاضي القضاة...
أما الآن فالأمر مختلف، فلا يمكن للحاكم أو القاضي أو حتى قاضي القضاة أن يقوم بكل السلطات؛ التشريعية والقضائية والتنفيذية، مما حتم استحداث طرق جديدة لتحقيق العدل بناء على قاعدة المصالح المرسلة، ومن بين ما استحدث:
أولا: مبدأ فصل السلط؛ بحيث أصبحت هناك سلطة تشريعية: وتتولى سن القوانين، وسلطة قضائية: وتقوم بالفصل بين النزاعات والدعاوى، وسلطة تنفيذية: وتسهر على تنفيذ القوانين التي ترتكز عليها تنظيم الدولة.
ثانيا: استحداث مؤسسة للقضاء؛ حيث لم يعد القاضي لوحده يحكم ويفصل في النزاعات، وإنما أصبحت هناك لجنة تسهر على ذلك، وأيضا قسمت المحاكم لتسهيل عملية القضاء، فهناك محكمة الجنايات: وتتولى قضايا الجرائم، والمحكمة التجارية: وتتولى الخصومات المالية، وهناك محاكم الجماعات والمقاطعات: وتتولى النظر في الدعاوى التي لا تتجاوز قيمتها ألف درهم، وأيضا هناك قضاء الأحداث: وينظر في قضايا الأحداث (دون سن الرشد القانوني 18سنة) وفي كل من هذه توجد المحاكم الابتدائية: ودورها النظر في الدعاوى المقدمة إليها بصفة ابتدائية، مع حفظ حق الاستئناف. ومحكمة الاستئناف: وهي موضوعة للبث في القضايا الجنائية، والنظر في القضايا التي تم استئنافها...
__________
(1) ) سورة النساء، الآية: 58.(1/77)
ومن التطبيقات المعاصرة للمصلحة المرسلة في هذا المجال؛ جعل القضاة والأمراء والحكام على صورة معينة من الفخامة والتجمل - بما لا يخرج عن حد الشرع ويدخل في الكبر والخيلاء- لأن هذا أدعى لتوقيرهم واحترامهم، وتنفيذ أحكامهم، لأن فساد الذمم والأحوال جعل ملأ الناس عند الناس؛ من كان على صورة معينة من الفخامة. وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - في فتوح الشام يلبسون أحسن الثياب، لأن هذا كان أهيب في نفوس الناس وأدعى لاحترامهم للمسلمين، والدخول في دين الإسلام.
ثانيا: تشريع الأحكام والقوانين.
ومن القوانين والتشريعات التي استحدثت في عصرنا الحالي:
1) قانون السير:
قال عز وجل: " وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ، لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا " (1)
لقد بسط الله تعالى الأرض للعباد وجعل فيها طرقا وسبلا، وهدى الإنسان لبناء طرق أخرى يتنقل فيها أنَّى يشاء. ثم جعل هذه الطرق ملكا عاما للناس ينتفعون بها.
ولتنظيم هذه الطرق فقد جعل الإسلام لها آدابا وأخلاقا وجب على كل مسلم الاتزام بها، حتى يسود الأمن والنظام في الطرقات، ومن ذلك ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إياكم والجلوس في الطرقات" فقالوا: مالنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها. " قال: فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها" قالوا وما حق الطريق؟ " قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر" (2) .
ومن الآداب التي حث عليها الإسلام أيضا في الطريق: تجنب الكبر، والإعراض عن اللغو، والتبسم في وجوه الناس، وإرشاد الرجل في أرض الضلال، وإعانة الكفيف وذا الحاجة، وإماطة الأذى...
__________
(1) ) سورة نوح، الآية: 19- 20.
(2) ) صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب أفنية الدور والجلوس على الصُّعدات: ح2465- 1/539.(1/78)
إلا أنه في هذا العصر، وبعد دخول هذه العربات القوية والسريعة والكبيرة على الطريق، وبعد هذه الحوادث والفواجع التي أصبحت تسببها، لم تعد هذه الآداب والأخلاق تكفي، مما أوجب استحداث قوانين جديدة تنظم مسيرة هذه العربات.
وقبل الحديث عن هذه القوانين، ونظرة الإسلام إليها، نذكر بعض الإحصائيات حول حوادث السير في العالم العربي، ونخص منه المغرب.
فقد توقعت دراسة مشتركة للبنك الدولي والمنظمة الصحة العالمية وصول عدد ضحايا حوادث السير في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، إلى ثلاث وسبعين ألف شخص بحلول عام ألفين وعشرة...
وقدرت نفس الدراسة التكلفة الاقتصادية الناجمة عن هذه الحوادث في الدول النامية بحوالي خمسة وستين مليار دولار، وأوضحت أن هذا الرقم يفوق ما تحصل عليه هذه الدول من مساعدات للتنمية، كما يمثل نسبة تتراوح مابين 1و2% من إجمالي الناتج القومي لهذه الدول.
أما في المغرب، وفي إحصاء سنوي صادر عن "اللجنة الوطنية للوقاية من حوادث السير" عام ألفين وأربعة 2004 فقد وقعت واحد وخمسون ألفا وست مائة وسبع وثمانون51687 حادث سير، توفي فيها ثلاثة آلاف وثمان مائة وأربعة وتسعون 3894 شخص، وأصيب ثلاثة عشر ألفا وأربع مائة وتسعة وسبعون 13479 آخرون إصابتهم بالغة، وست وستون ألفا وخمس مائة وواحد وسبعون 66571 إصاباتهم طفيفة. (1)
وأكثر من هذا، نقلت جريدة الشرق الأوسط في عددها 9670 الصادر يوم الجمعة 11ربي الثاني 1426هـ، 20ماي2005م أنه وفي أسبوع واحد من9 إلى 15 ماي 2005 وقعت 776 حادثة سير توفي فيها 15 شخصا وأصيب 955 آخرون. (2)
__________
(1) ) نشر هذه الإحصائيات موقع إسلام أون لاين www.islamonlines.net..
(2) ) عن موقع الجريدة:www.asharqalwsat.com(1/79)
وفي الحقيقة من نظر إلى هذه الأرقام فقط، تبين له مدى الفواجع التي تسببها حوادث السير ومدى ضرورة القانون المنظم لهذه الطرقات - قانون السير-، وانطلاقا من هذا، أفتى العلماء بوجوب احترام قانون السير وعدم مخالفته، و من فعل ذلك حصَّل الإثم أمام الله تعالى قبل أن يكون في ذلك تعزير أمام القانون والشرطة.
وهذا نص الفتوى التي أفتى بها العلماء حول قانون السير في المجمع الفقهي المنعقد في مؤتمره الثامن، والتي جاء فيها:
" بسم الله الرحمن الرحيم قرار رقم : 71 ( 2/8) إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري بيجوان بروناي دار السلام من 1إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21- 27 حزيران ( يونيو) 1993م . بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع حوادث السير، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، وبالنظر إلى تفاقم حوادث السير وزيادة أخطارها على أرواح الناس وممتلكاتهم، واقتضاء المصلحة سن الأنظمة المتعلقة بترخيص المركبات بما يحقق شروط الأمن كسلامة الأجهزة وقواعد نقل الملكية ورخص القيادة والاحتياط الكافي بمنح رخص القيادة بالشروط الخاصة بالنسبة للسن و القدرة والرؤية والدراية بقواعد المرور والتقيد بها وتحديد السرعة المعقولة والحمولة ، قرر ما يلي :
أولاً : (أ)- إن الالتزام بتلك الأنظمة التي لا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية واجب شرعاً، لأنه من طاعة ولي الأمر فيما ينظمه من إجراءات بناءً على دليل المصالح المرسلة، وينبغي أن تشتمل تلك الأنظمة على الأحكام الشرعية التي لم تطبق في هذا المجال . (ب)- مما تقتضيه المصلحة أيضاً سنّ الأنظمة الزاجرة بأنواعها ، ومنها التعزير المالي ، لمن يخالف تلك التعليمات المنظمة للمرور لردع من يعرض أمن الناس للخطر في الطرقات والأسواق من أصحاب المركبات ووسائل النقل الأخرى أخذاً بأحكام الحسبة المقررة .(1/80)
ثانياً: الحوادث التي تنتج عن تسيير المركبات تطبق عليها أحكام الجنايات المقررة في الشريعة الإسلامية، و إن كانت في الغالب من قبيل الخطأ، والسائق مسئول عما يحدثه بالغير من أضرار، سواء في البدن أم المال إذا تحققت عناصرها من خطأ وضرر ولا يعفى من هذه المسؤولية إلا في الحالات الآتية : (أ)- إذا كان الحادث نتيجة لقوة قاهرة لا يستطيع دفعها وتعذر عليه الاحتراز منها ، وهي كل أمر عارض خارج عن تدخل الإنسان . (ب)- إذا كان بسبب فعل المتضرر المؤثر تأثيراً قوياً في إحداث النتيجة . (ج)- إذا كان الحادث بسبب خطأ الغير أو تعديه فيتحمل ذلك الغير المسؤولية" (1) .
وخلاصة القول: إن قانون السير قانون إسلامي، وإن صدر عن غير المسلمين، لأنه مبني على قاعدة إسلامية معتبرة، هي "المصلحة المرسلة" ولأنه يحفظ واحدا من الضروريات التي حفظها الإسلام، وهي النفس. وله تعلق كبير بكلي المال، لذا لا يجوز لأحد مخالفته، ومن فعل فهو آثم.
2) قوانين حماية البيئة.
يعرف العلماء البيئة بأنها: " الإطار الذي يعيش فيه الإنسان، ويحصل على مقومات حياته من غذاء وكساء ودواء ومأوى، ويمارس فيه علاقاته مع أقرانه من البشر" (2) .
وقد خلق الله تعالى هذه البيئة في هذا الكون بتوازن شديد ودقة عالية، فكل شيء فيها وضع في موضعه لا يحيد عنه، ولا يخرج عن مساره الذي رسمه الله عز وجل له " لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ." (3) .
ثم سخرها للإنسان كي تكون مستقر عيشه في الدنيا، ومزرعته للآخرة، وأمره أن يعمرها بالخير والصلاح.
__________
(1) ) عن موقع مجمع الفقه الإسلامي:www.fiqhacademy.org.sa..
(2) ) صابريني محمد سعيد، ورشيد الحمد، مجلة عالم المعرفة، عد 22 بعنوان، " البيئة ومشكلاتها" ، أكتوبر 1979. ص24.
(3) ) سورة يس، الآية:40.(1/81)
إلا أن الإنسان بجشعه وطمعه وسوء تدبيره، عاث في هذه البيئة وأظهر الفساد في البر والبحر، حتى أصبح عصرنا الحالي يعرف بعصر اختلال توازن البيئة، فأصبحنا نسمع ما يعرف بظاهرة "الانحباس الحراري" - أي ارتفاع درجة حرارة الأرض بارتفاع نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون (CO2) وانخفاض نسبة الأكسيجين (O2) مما أدى إلى ظهور أمراض كثيرة، وتحذير العلماء من إمكانية ذوبان القطبين؛ مما قد ينتج عنه فيضانات وكوارث عديدة...
انطلاقا من كل هذا وجب على المسلمين سن قوانين زاجرة لكل من يخل بتوازن البيئة، والتعاون مع الجمعيات والمنظمات التي تسعى في نفس الهدف، حتى لو كانت من غير المسلمين - انطلاقا من مبدإ المصالح المرسلة- ولأن البيئة منفعة مشتركة بين البشر جميعا مسلمهم وكافرهم، بل وكل مخلوقات الأرض...
عسى بهذه الجهود أن تحفظ لنا هذه الأرض، وأن نتركها صالحة للأجيال القادمة، كما تركها لنا آباؤنا كذلك.
3) قوانين حماية الملكية الفكرية وبراءات الاختراع.
وهذه القوانين جديدة، إلا أنها داخلة في مبدإ المصلحة المرسلة، وهي قوانين تخول للإنسان التمتع بما وهبه الله عز وجل من عقل وفكر، وجني ثمار جهده في التفكير والاختراع، لذا وجب احترامها وعدم تجاوزها.
هذه بعض الأمثلة التطبيقية للمصلحة المرسلة في مجال السياسة الشرعية وتشريع الأحكام والقوانين، ذكرتها على سبيل المثال لا الحصر، لأن المستجدات في هذا المجال كثيرة جدا.
وبعد هذا ننطلق إلى بعض تطبيقات المصلحة المرسلة في مجال الاقتصاد الإسلامي.
وذلك في المبحث التالي.
إن شاء الله تعالى
المبحث الثاني:
تطبيقات المصلحة المرسلة في مجال الاقتصاد الإسلامي.
المطلب الأول: خصائص الاقتصاد الإسلامي وضوابطه.
من الأمور التي يجب أن تكون مسلمة عند كل مسلم، أن الاقتصاد أو سياسة المال جزء لا يتجزأ من عقيدة الإسلام، فهو من الضروريات الخمس التي جاء الإسلام لتحقيقها والمحافظة عليها.(1/82)
وقد تحدث القرآن الكريم في آيات عديدة عن المال، مبينا أنه خلق من خلق الله حببه إلى الناس: " زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ." (1) .
ثم أمرهم بموجب استخلافه لهم، وابتلائه إياهم أن يعبدوه بهذا المال؛ وذلك بالإنفاق منه في سبيله وحسن سياسته: "آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ" (2) "وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" (3) .
__________
(1) ) سورة آل عمران، الآية: 14.
(2) ) سورة الحديد، الآية: 7.
(3) ) سورة الحديد، الآية: 10(1/83)
وحذر عز وجل من الركون إلى هذا المال والطغيان به: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (1) . وأعطانا نماذج ممن أفسدهم الثراء والاغترار بالمال، ففرحوا بالمال وبطروا حتى أنساهم المنعم:" إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ،وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ" (2) ، ولكن ماذا كانت النتيجة؛ "قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ" (3) . فكِبْرهُ وتعاليه وغروره أنسوه أولائك الهلكى الذين كانوا قبله مع أنهم كانوا أشد منه قوة وأكثر جمعا، وإنه لسائر في ذلك الركب؛ " فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ" (4) .
ولكن كيف نجعل المال يحقق هذه المقاصد ويصل إلى هذه الغايات؟.
إنه لا يكون كذلك إلا إذا ضبط بضوابط الشرع. وهي التي سنتحدث عنها - بحول الله - في هذا المطلب.
__________
(1) ) العلق، الآية: 6- 7.
(2) ) القصص، الآيات: 76- 77.
(3) ) نفسها، الآية: 78.
(4) ) نفسها، الآية: 79.(1/84)
قد يبدوا مستهجنا في الرأي الحديث عن ضوابط لاقتصاد معين، في زمن أصبح الاقتصاد فيه لا يضبط إلا بهوى النفوس، والمصالح الشخصية، وأصبحت تُذل رقاب الناس وتنهب خيراتهم بسبب الاقتصاد، وتقام الحروب وتباد الأمم بسببه أيضا.
ولكن مهما استهجن هذا الأمر أولئك الذين إذا ذكر الله وشرعه اشمأزت قلوبهم، وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون. فإنه سيبقى لهذا الاقتصاد المنسوب إلى دين الإسلام المكانة العليا والقيمة الكبرى، لأنه الوحيد الذي استطاع أن يخرج الإنسان من دوامة الظلم والربا، إلى واحة العدل والمساواة والرفاه والسعة، وهو القادر أيضا في هذا الزمان أن يخرج البشرية مما هي فيه بسبب سوء تدبير نعمة المال ممن يسيطرون على الشعوب بقواهم، ويفرضون قوانينهم على الأمم. فبضوابط الشرع للاقتصاد، يستطيع الإنسان أن يفرح بنعمة المال في الأرض، ويحسن سياسته لما فيه خيره وخير بني جنسه، وإلا كان نقمة عليه وأداة لتدميره ومحوه.
ومن هذه الضوابط: (1)
1) الضوابط العقيدة.
أ) أثر التعبد في ضبط الاقتصاد.
ومعناه أن يستشعر الإنسان أنه عبد لله في كل أحواله، وأن الله قد تعبده بهذا المال، فعليه أن يسير فيه وفق ما أمره ربه - عز وجل - وشرع له، حتى يحقق هذا المقصد.
وهذا الضابط لا يتحقق إلا بأمرين اثنين:
أولاهما: أن يكون مقصد المكلف موافقا لمقصد الشارع، ولا يكون ذلك إلا بإخلاص النية لله تعالى، " حتى تكون حركات العبد وسكناته متحررة من الحظوظ الدنية، والأهواء النفسية، فوجود الإخلاص في العمل يكسب الفعل صفة التعبد، ووجود صفة التعبد في الفعل تكسبه قبولا " ثوابا"" (2) .
__________
(1) ) راجع، الدكتور عبد الله معصر في كتابه "ضوابط حماية المستهلك منظور إسلامي":ص39 وما بعدها.
وراجع أيضا، الدكتورة عائشة شرقاوي المالقي في كتابها "البنوك الإسلامية":ص13 وما بعدها.
(2) ) عبد الله معصر، ضوابط حماية المستهلك من منظور إسلامي: ص 44.(1/85)
والثاني: الرعاية لحقوق الله في التصرفات والأحوال، وذلك بشكره عز وجل قولا وعملا، قولا باللسان والجنان، وعملا بصرف النعم في مرضاته وطاعته. يقول الدكتور عبد الهادي علي النجار: " إن الاختلاف في هذه النظرة بين الاقتصاد والوضعي، والاقتصاد في الإسلام يعتبر من أبرز إسهامات الإسلام؛ ذلك أنه إذا كان الهدف من النشاط الاقتصادي هو نفع مادي كفاية، فإن المصلحة الشخصية لابد أن تُطغي إلى تحقق السيطرة الاقتصادية في النهاية، ومن ثم يغلب الطابع الاحتكاري على الأسواق، ويتم التهديد بالحرب في كل حين.
أما إذا كان الهدف من النشاط الاقتصادي تعبديا، تتحرر معه النية، ويخلص فيه القصد لله تعالى، فإن التفاهم لتحقيق خير المجتمع والفرد سيتحقق لا محالة" (1) .
ب) الاستخلاف وأثره في ضبط الاقتصاد.
قال الله سبحانه وتعالى: " هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ $pkژدù." (2) . وقال: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" (3) .
فقاعدة الاستخلاف تجعل الإنسان يستشعر أنه لا يملك شيئا مما في يديه، بل الملك كله لله، وما الإنسان إلا مستخلف على ذلك، فلا يستطيع أن يعمل شيئا في هذا المال إلا بأمر صاحبه.
وإذا تحققت هذه القاعدة فإنه سيكون لها عدة آثار حميدة على الفرد والمجتمع منها:
__________
(1) ) مجلة عالم المعرفة، بعنوان "الإسلام والاقتصاد" عدد 63 مارس 1989. ص:16.
(2) ) سورة هود، الآية: 61.
(3) ) سورة البقرة، الآية: 30.(1/86)
أولا: انتشار مبادئ الإيثار والإحسان، واستشعار الافتقار إلى الله عز وجل. قال تعالى : " وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ دmٹدù." (1) . وقال على لسان سليمان عليه السلام: " قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ." (2) .
ثانيا: إقرار رقابة المجتمع على المال:
فالمال ليس من حق من في يده فقط، بل لكل المجتمع حق فيه، وهذا ما يجعل الإنسان يستشعر أنه مراقب في كل أحواله وتصرفاته من طرف المجتمع، فإما أن يحسن التصرف في المال أو يقع الحجر عليه " وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا." (3) .
ج) أثر الثواب والعقاب في ضبط الاقتصاد.
ومعناه أن يؤمن المرء أنه محاسب على كل تصرفاته في هذا المال الذي بين يديه، بين يدي الله تعالى، فمجازيه عن الإحسان إحسانا وعن الإساءة سوءا، فإذا تحقق ذلك رشدت سياسته المالية وعمل فيه بالعدل، فتجنب الإسراف والتقتير، وسعى إلى جلبه من الحلال وإنفاقه في الحلال، وعلم ضروريه وحاجيه وتحسينيه، فقدم ماحقه التقديم وأخر ماحقه التأخير.
2) الضوابط التشريعية للاقتصاد الإسلامي.
وتتجلى هذه الضوابط في الأحكام المبثوثة في أبواب " فقه المعاملات" وبعض
أبواب "فقه العبادات" - الزكاة- وهي تعلم للإنسان ما أحل الله وما حرم من التعاملات والتصرفات المالية حتى يكون على بصيرة من أمره ويعبد الله عن علم.
__________
(1) ) سورة الحديد، الآية: 7.
(2) ) سورة النمل، الآية: 40.
(3) ) سورة النساء، الآية: 5.(1/87)
هذه بعض الضوابط للاقتصاد في الإسلام، ذكرتها على سبيل الإجمال، وما أريد من ذكرها إلا الوصول إلى أن هذا الاقتصاد متميز عن غيره من الاقتصادات الوضعية، فهو اقتصاد رباني، يأخذ تميزه من تميز مصدره، ألا وهو شرع الله عز وجل الذي ختم به الشرائع وحفظه للناس إلى يوم الدين.
المطلب الثاني: البنوك الإسلامية مثال تطبيقي للمصلحة المرسلة في العصر الحديث.
ومما ينبغي أن يعلم جيدا قبل الحديث عن هذا المثال " أن القرآن الكريم كتاب عقيدة وشريعة، وهو يحتوي فيما يحتوي على بعض الأفكار الاقتصادية، ولهذا فإن صياغة نظرية للإنتاج أو التنمية الاقتصادية لا يكون إلا من صنع الإنسان، وبما يقتضيه ذلك من تفصيلات ترتبط بالواقع الجديد للمتتبع المعاصر، وخصوصا أن القرآن الكريم والسنة الشريفة اقتصرا على التوجيهات التي يمكن أن يسترشد بها في بلورة مثل تلك النظريات من جانب الإنسان" (1) .
ولا شك أن عصرنا هو أحفل عصر بالنظريات والمؤسسات والتعاملات الاقتصادية، والتي أصبح كثير منها ضرورة ملحة، ومن أهمها مؤسسة البنوك، يقول الدكتور عبد الهادي علي النجار: " إن البنوك في حد ذاتها أصبحت ضرورة اقتصادية من خلال الوظائف التي تقوم بها، فالنقود أصبحت في الاقتصاد المعاصر قضية مصرفية أصيلة على أساس أن البنوك أصبحت تخلق النقود بكافة أنواعها، وهي في ذلك تيسير للتبادل والإنتاج، وتعزيز لقدرة كفاءة رأس المال" (2) .
إلا أن هذه البنوك رغم ضرورتها فإن أكثر تعاملاتها تتضمن تعاملات ربوية محرمة، وقد كان لهذه التعاملات وغيرها آثرا وخيمة على حياة الأفراد والمجتمعات، منها:
__________
(1) ) الدكتور عبد الهادي علي النجار مجلة عالم المعرفة، بعنوان "الإسلام والاقتصاد" عدد 63 مارس 1989 ص: 59
(2) ) نفسه: ص82.(1/88)
1. زيادة درجة التخلف: فهذا الطريق يشجع أصحاب الثروات ورؤوس الأموال على القعود وعدم المخاطرة، ومن ثم؛ - عدم- التفكير في المشروعات التي تنهض بالاقتصاد القومي، اكتفاء بالربح المضمون عن طريق الربا أو الفائدة، الأمر الذي تفقد المواهب الناشئة، والنشاطات التي تطور الاقتصاد القومي.
2. زيادة حجم التضخم والانحرافات المالية(...).
3. تركز الأموال في أيدي المحتكرين(...).
4. زيادة حجم الودائع إلى البنوك(...). (1)
أمام هذه التعاملات المحرمة وهذه النتائج المدمرة، لم يكن للمسلم الملتزم بد من البحث عن بديل آخر يجعله مواكبا لتطورات عصره دون أن يخالف شرع ربه، وكان هذا البديل مستند إلى قاعدة " المصالح المرسلة" ممثلا في البنوك الإسلامية.
وللحديث عن هذه البنوك فإني أركز الكلام حولها في النقاط التالية:
- تعريف البنوك الإسلامية.
- خصائصها.
- أهدافها.
- وظائفها.
النتائج الإيجابية للعمل بالمشاركة في البنوك الإسلامية.
أولا: تعريف البنوك الإسلامية.
عرفتها اتفاقية إنشاء "الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية" بما يلي: " يقصد بالبنوك الإسلامية - في هذا النظام- تلك البنوك أو المؤسسات التي ينص قانون إنشائها ونظامها الأساسي صراحة على الالتزام بمبادئ الشريعة وعلى عدم التعامل بالفائدة أخذا وعطاء".
ثانيا: خصائص البنوك الإسلامية.
تتفرع خصائص البنوك الإسلامية عن قاعدة أساسية هي " الالتزام بالشريعة الإسلامية" وهذا يعني أن خاصيتها الأولى: عدم استخدام الفائدة في كل أعمالها. والثانية: الالتزام بقاعدة الحلال والحرام؛ أي عليها ألا تستثمر أموالها ولا تشارك إلا في التوظيفات التي يحلها الإسلام. والثالثة: أن تعطي كل جهدها للمشروعات النافعة(...). أما الرابعة: فأن تعمل على تعبئة الادخار المجمد في العالم الإسلامي.
__________
(1) ) الدكتور عبد الهادي علي النجار مجلة عالم المعرفة، بعنوان "الإسلام والاقتصاد" عدد 63 مارس 1989 ص: 91- 92.(1/89)
ثالثا: أهداف البنوك الإسلامية.
نبدأ بالتصور العام لهذه الأهداف، وهو الالتزام بمقاصد الشريعة واستخدام وسائل تتلاءم معها بهدف تحقيق نقلة حضارية اقتصادية ومالية واجتماعية وسلوكية من منظور إسلامي مما يحقق التنمية وفق المقاصد والمعايير الشرعية(...) وفي ظل هذا التصور العام تنتظم أهداف البنك الإسلامي في محورين أساسيين، المحور الأول يضم الأهداف المشتركة وهي: جمع الادخار وإحلال الطرق الإسلامية محل نظام الفوائد(...) والثاني: يضم الأهداف الخاصة بكل بنك والمنبثقة عن طبيعته أو غرضه، كأن تكون طبيعة البنك تنموية أو تعاونية أو كان غرضه تشجيع نوعية معينة من الاستثمارات، أو أي غرض أو أغراض خاصة أخرى(...).
فالبنوك الإسلامية جاءت بأهداف وأغراض تهدف إحداث تغيير في العمل البنكي، من حيث الهياكل والتنظيم والأغراض عن طريق بلورة أحكام الشريعة الإسلامية واقعا مع عدم إغفال الصالح العام.
رابعا: وظائف البنوك الإسلامية.
إذا كانت وظائف البنوك التقليدية تتركز عرض النقود وخلقها وإقراضها وتقديم الخدمات التي تسهل معاملة الزبناء، كحفظ النقود وخصم الأوراق التجارية وتحصيل مبالغ الأوراق المالية وتأجير الخزائن الحديدة، ومنح الائتمان عندما تفتح حسابات للمتعاملين، يسحبون منها دون أن تكون لهم أرصدة لديها، ممارسة في ذلك دورها كوسيط بين المدخرين والمستثمرين، بإقراض أموال الفئة الأولى المودعة لديها إلى الفئة الثانية المحتاجة إليها، فإن وظائف البنوك الإسلامية مماثلة لها مع بعض الاختلافات، تتمثل في كونها وإن كانت تتلقى الودائع فإنها لا تقرضها ولا تعيش بالنتيجة على الفرق بين الفائدة، بين الدائنة والمدينة، إنما تقوم بدور الوسيط بطرق أخرى يمكن في: الودائع الاستثمارية المخصصة والوظائف الاستثمارية العامة. (1)
__________
(1) ) الدكتورة عائشة شرقاوي المالقي في كتابها "البنوك الإسلامية":ص25 وما بعدها ( بتصرف).(1/90)
خامسا: النتائج الإيجابية للعمل بالمشاركة في البنوك الإسلامية.
" ومن تلك النتائج:
1. تحرير الفرد من النزعة السلبية التي يتسم بها المودع انتظارا للفائدة دون جهد إيجابي أو عمل من جانبه(...).
2. تعاون رأس المال مع خبرة العمل في مجال التنمية الاقتصادية، وفي هذا يجند المشروع خبرته الفنية في البحث عن أفضل مجالات الاستثمار وأرشد الأساليب المستخدمة، وفي ذلك ضمان لنجاح المشروع من أجل تحقيق أهدافه وأداء لحق وواجب المجتمع.
3. في المشاركة عدالة في توزيع العائد، بما يسهم في عدم تراكم الثروة تراكما مخلا، كما يحول دون إهدار الطاقات البشرية، أو الانشغال أساسا بالنشاطات الهامشية أو الثانوية دون الأنشطة الأساسية التي تهم الاقتصاد القومي وساعد على تقدمه واستقراره" (1) .
خاتمة
بين رعشة الوجل، واضطراب الخجل، من عدم تحقيق أمل القارئ لهذا البحث المتواضع، تأتي هذه الخاتمة لتتوج هذه السياحة بين الأفكار والآراء، بخلاصة أرجوا أن تفي بالمطلوب، وتحقق المرغوب.
وأهم ما سجلته فيها ما يلي:
أولا: إن دين الإسلام هو دين الله الخاتم الذي سيبقى إلى يوم القيامة، وقد جعل الله مقصد هذا الدين الأساس هو جلب مصالح العباد في الدنيا والآخرة، فما من مصلحة حقيقية تجرى في العادة الجارية لأحوال الناس إلا اعتبرها الشارع وأناط بها حكما، والمفسدة الحقيقية كذلك.
ثانيا: إن هذه المصالح المعتبرة للشرع على درجات متفاوتة وأنواع مختلفة.
ثالثا: إن المصالح المرسلة داخلة في حكم المصالح المعتبرة للشرع.
رابعا: إن المصالح المرسلة تجعل دين الإسلام صالحا لكل زمان ومكان، وتيسر على الناس الأحوال.
خامسا: إن كل الفقهاء المعتبرين أخذوا بالمصالح المرسلة، وإن لم يذكروها صراحة في تنظيراتهم الفقهية.
__________
(1) ) الدكتور عبد الهادي علي النجار مجلة عالم المعرفة، بعنوان "الإسلام والاقتصاد" عدد 63 مارس 1989 ص: 94.(1/91)
سادسا: إن المصلحة المرسلة لا تؤخذ إلا إذا ضبطت بضوابط الشرع، حتى تحفظ من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ويصبح كل ذي هوى في نفسه يبتدع ما يشاء ثم ينسبه إلى الدين بدعوى المصلحة، وهذه الضوابط كما ذكرتها في البحث هي:
" ألا تخالف المصلحة المرسلة نصوص الكتاب والسنة.
" ألا تفوت مصلحة أهم منها.
" أن تكون عامة.
" ألا تخالف مقاصد الشرع.
سابعا: وأخيرا فإن أمثلة المصلحة المرسلة في عصرنا الحالي كثيرة جدا اقتصرت على نماذج منها، علها تكون بابا لبحوث أخرى جديدة في هذا المجال.
هذه بعض الخلاصات التي أرجوا أن ينتفع بها من يقرأها وتزيده فهما لهذا البحث.
وفي الأخير لا أجدني أقول إلا:الحمد لله على ما رزقنيه من علم، وأنعم علي به من فهم، و والله لولا قلوبنا العليلة، وأفهمانا الكليلة، وأعمالنا التي نستغفر الله أن نلقاه بها، لفتح الله علينا من ألطاف العلم وبركاته ما فتح به على العلماء الربانيين الذين كانوا منارات للأمة المحمدية، بل وهداية للبشرية، فرحمهم الله، وأعلى منازلهم في الصديقين، وألحقنا بهم مسلمين، وجمعنا بهم في جنات النعيم، ونحمد الله على ما فتح علينا من علمه، ونطلب مزيد فضله، فسعد من رزقه الله النعمة ورزقه شكرها، فزاده الله بما رزقه من شكرٍ، نِعمَةً على نِعمَةً، فهو في مزيد على يوم المزيد.
أسأل الله تعالى أن يجعل هذا البحث ذخرا وعلما مورثا لي ولوالدي ولأساتذتي الكرام، وعلى رأسهم من كان كلامه هديا ومنارا لي، الأستاذ عمر جدية - حفظة الله-.
وقد كان الفراغ منه قبيل الظهر من يوم الأربعاء، لسِت وعشرين يوما خلا من شهر ربيع الثاني، لسنة سبع وعشرين وأربع مائة وألف من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، الموافق: الرابع والعشرون من شهر مايو لسنة ست وألفين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فهرس(1/92)
المقدمة: ................................................................................................................ ... 3
الفصل الأول: دراسة نظرية للمصلحة المرسلة في الإسلام....................... ... 8
المبحث الأول: المصلحة في الشريعة الإسلامية؛ حققتها وأقسامها............... ... 9
المطلب الأول: المصلحة في اللغة والاصطلاح....................................... ... 10
أولا: المصلحة في الاستعمال اللغوي................................................... ... 10
ثانيا: المصلحة في شريعة الله ودينه..................................................... ... 11
الوجه الأول: المصلحة في القرآن الكريم................................................... ... 11
الوجه الثاني: المصلحة في السنة المطهرة.................................................. ... 13
الوجه الثالث: المصلحة في الاصطلاح الأصولي.......................................... ... 14
المطلب الثاني: مقصد الشريعة مبني على جلب مصالح العباد في الدنيا والآخرة......................................................................................................... ... 17
المطلب الثالث: أقسام المصلحة............................................................ ... 23
أولا: تقسيم المصلحة باعتبار قوتها...................................................... ... 24
1) المصالح الضرورية...................................................................... ... 24
2) المصالح الحاجية.......................................................................... ... 28
3) المصالح التحسينية........................................................................ ... 28
ثانيا: تقسيم المصلحة باعتبار الشارع لها.............................................. ... 29(1/93)
القسم الأول: ما شهد له الشارع بالاعتبار................................................... ... 30
القسم الثاني: ما شهد له الشارع بالبطلان................................................... ... 30
القسم الثالث: ما لم يشهد له الشارع بالاعتبار ولا بالبطلان................................ ... 31
المبحث الثاني: المصلحة المرسلة؛ مفهومها وحجيتها................................ ... 32
المطلب الأول: تعريف المصلحة المرسلة............................................... ... 32
أولا: تعريف المصلحة المرسلة في الاستعمال اللغوي.............................. ... 32
ثانيا: المصلحة المرسلة في الاصطلاح الأصولي................................... ... 34
المطلب الثاني: أهمية المصلحة المرسلة، ودليل مشروعيتها..................... ... 36
عمل الصحابة بالمصلحة المرسلة........................................................ ... 38
1) جمع المصحف........................................................................... ... 38
2) اتفاقهم على حد شارب الخمر............................................................ ... 38
3) إجبار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعض الناس على الاكتساب والعمل........................ ... 39
عمل التابعين بالمصلحة المرسلة......................................................... ... 39
عمل الفقهاء بالمصلحة المرسلة.......................................................... ... 39
أمثلة تطبيقية على الأخذ بالمصلحة المرسلة عند فقهاء المذاهب الأربعة....... ... 42
1) الفقه المالكي.............................................................................. ... 42
2) الفقه الشافعي............................................................................. ... 43(1/94)
3) الفقه الحنفي............................................................................... ... 44
4) الفقه الحنبلي.............................................................................. ... 44
الفصل الثاني: ضوابط المصلحة المرسلة في الشريعة الإسلامية............. ... 47
المبحث الأول: الضابط الأول، ألا تخالف المصلحة المرسلة نصا............... ... 47
المطلب الأول: مكانة القرآن والسنة في التشريع، والتحذير من مخالفتهما.... ... 47
المطلب الثاني: المصالح المرسلة منضبطة بعدم مخالفة النصوص............ ... 50
رأي الطوفي.............................................................................. ... 54
المطلب الثالث : الرد على من زعموا أن الأحكام القطعية يمكن أن تتغير بتغير الأحوال والأزمان والمصالح.................................................................... ... 54
قضية: المرأة.................................................................................... ... 56
مثال: الحجاب................................................................................ ... 57
مثال: الإرث................................................................................. ... 58
قضية: الاقتصاد............................................................................... ... 59
مثال: الربا..................................................................................... ... 59
المبحث الثاني: الضابط الثاني، أن تكون المصلحة المرسلة عامة............. ... 61
المبحث الثالث: الضابط الثالث، ألا تفوت المصلحة المرسلة مصلحة أهم منها.............................................................................................................. ... 66(1/95)
المبحث الرابع: الضابط الرابع، ألا تخالف المصلحة المرسلة مقاصد الشريعة......................................................................................................... ... 70
الفصل الثالث: بعض التطبيقات المعاصرة للمصلحة المرسلة................... ... 72
المبحث الأول: تطبيقات المصلحة المرسلة في مجال السياسة الشرعية وتشريع الأحكام والقوانين............................................................................... ... 73
المطلب الأول: تعريف السياسة الشرعية، وعلاقتها بالمصلحة المرسلة...... ... 73
السياسة في اللغة............................................................................. ... 73
السياسة في الاصطلاح الشرعي.......................................................... ... 74
المطلب الثاني: نماذج تطبيقية معاصرة للمصلحة المرسلة في مجال السياسة الشرعية وتشريع الأحكام والقوانين................................................................... ... 76
أولا: نظام الحكم وطريقته...................................................................... ... 76
ثانيا: تشريع الأحكام والقوانين................................................................ ... 79
1) قانون السير................................................................................... ... 79
2) قوانين حماية البيئة............................................................................ ... 82
3) قوانين حماية الملكية الفكرية وبراءات الاختراع............................................ ... 83
المبحث الثاني: تطبيقات المصلحة المرسلة في مجال الاقتصاد الإسلامي... ... 84
المطلب الأول: خصائص الاقتصاد الإسلامي وضوابطه........................... ... 84
1) الضوابط العقدية للاقتصاد الإسلامي.................................................... ... 86(1/96)
أ) أثر التعبد في ضبط الاقتصاد................................................................. ... 86
ب) الاستخلاف وأثره في ضبط الاقتصاد....................................................... ... 87
ج) أثر الثواب والعقاب في ضبط الاقتصاد .................................................... ... 88
2) الضوابط التشريعية للاقتصاد الإسلامي................................................ ... 88
المطلب الثاني: البنوك الإسلامية، مثال تطبيقي للمصلحة المرسلة في العصر الحديث............................................................................................ ... 89
الآثار الوخيمة للتعامل بالربا في البنوك على الفرد والمجتمع......................... ... 90
البنوك الإسلامية بديل إسلامي للبنوك الربوية............................................. ... 90
أولا: تعريف البنوك الإسلامية.................................................................... ... 90
ثانيا: خصائص البنوك الإسلامية................................................................. ... 91
ثالثا: أهداف البنوك الإسلامية.................................................................... ... 91
رابعا: وظائف البنوك الإسلامية.................................................................. ... 91
خامسا: النتائج الإيجابية للعمل بالمشاركة في البنوك الإسلامية................................. ... 92
خاتمة............................................................................................................ ... 93
لائحة المصادر والمراجع................................................................................ ... 95
الفهرس......................................................................................................... ... 103
لائحة
المصادر والمراجع.(1/97)
القرآن الكريم: برواية حفص عن عاصم.
حرف الألف.
الاجتهاد في الشريعة الإسلامية: الدكتور يوسف القرضاوي، الطبعة الثانية 1410/ 1989. دار القلم.
إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول: للإمام الشوكاني، تحقيق أبي مصعب محمد سعيد البدري، الطبعة السادسة: 1415/1995 مؤسسة الكتب الثقافية.
الاستصلاح والمصالح المرسلة في الشريعة الإسلامية وأصول فقهها. مصطفى أحمد الزرقا، الطبعة الأولى: 1408/ 1988. دار القلم، دمشق.
أصول الفقه: محمد بن أبي زكريا البرديسي، طبعة: 1983، دار الثقافة للنشر والتوزيع.
الاعتصام. للإمام أبي إسحاق الشاطبي، الطبعة الأولى: 1417/ 1997. دار إحياء التراث العربي، بيروت.
إعلام الموقعين عن رب العالمين: لابن قيم الجوزية - محمد بن أبي بكر- تحقيق وتعليق: عصام الدين الصبابطي، طبعة 1425/ 2004. دار الحديث، القاهرة.
إيصال المسالك في أصول الإمام مالك: للعلامة محمد محي الدين الولاتي، الطبعة الأولى 2003، دار الرشاد الحديثة.
حرف الباء
البداية والنهاية: لأبي الفداء الحافظ ابن كثير، مكتبة الإيمان، المنصورة.
البرهان في أصول الفقه: للإمام الجويني. تحقيق: عبد العظيم محمود الديب الطبعة الأولى: 1412/ 1992. دار الوفاء.
البنوك الإسلامية؛ التجربة بين الفقه والقانون والتطبيق: عائشة شرقاوي المالقي. الطبعة الأولى 2000. المركز الثقافي العربي.
حرف التاء.
تخريج الفروع على الأصول: لمحمود بن أحمد الزنجاني أبو المناقب. تحقيق: الدكتور محمد أديب صالح، الطبعة الثانية 1398. مؤسسة الرسالة، بيروت.
تفسير القرآن العظيم: لابن كثير. الطبعة الأولى، 1422/ 2002، دار الفكر.
حرف الجيم
الجواهر الثمينة في أدلة عالم المدينة: حسن بن محمد المشاطي. تحقيق: الدكتور عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان، الطبعة الثانية، 1411/ 1990. دار الغرب الإسلامي.
حرف الراء(1/98)
رسالة في رعاية المصلحة: الإمام الطرفي، تحقيق: الدكتور أحمد عبد الرحيم السايح. الطبعة الأولى، 1413/ 1993، الدار المصرية اللبنانية.
حرف السين
سنن البيهقي الكبرى: أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر البيهقي. تحقيق محمد عبد القادر عطا، طبعة: 1414/ 1994، مكتبة دار الباز، مكة المكرمة.
سنن الترمذي: محمد بن عيسى أبو عيسى الترمذي السلمي، تحقيق أحمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربي، بيروت
السياسة الشرعية: عبد الوهاب خلاف، الطبعة الخامسة، 1413/ 1993. مؤسسة الرسالة.
حرف الشين
شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في علم الأصول: للإمام القرافي، تحقيق طه عبد الرؤوف، طبعة 1414/ 1993، مكتبة الكليات الأزهرية.
حرف الصاد
الصحاح في اللغة: الجوهري، لإسماعيل بن حماد للجوهري أبو نصر: تحقيق شهاب الدين أبو عمرو، دار الفكر.
صحيح البخاري: لمحمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق فؤاد عبد الباقي، الطبعة الأولى 1423/ 2003، مكتبة الصفا.
صحيح مسلم ( بشرح النووي): لمسلم بن الحجاج النيسابوري، وشرح الإمام محيي الدين أبي زكريا بن شرف النووي. تحقيق رضوان جامع رضوان، الطبعة الأولى 2001، المكتب الثقافي الأزهر- القاهرة.
حرف الضاد
ضوابط حماية المستهلك من منظور إسلامي: الدكتور عبد الله معصر، الطبعة الأولى، فبراير 2003، مطبعة آنفو- برانت.
ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: الدكتور رمضان البوطي، الطبعة السادسة 1422/ 2001، مؤسسة الرسالة.
حرف الطاء
الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: لابن قيم الجوزية. تحقيق محمد جميل غازي، مطبعة المدني- القاهرة.
حرف العين
علم أصول الفقه: عبد الوهاب خلاف، طبعة 1423/ 2003، دار الثقافة للنشر والتوزيع.
حرف الفاء
الفكر المقاصدي؛ قواعده وفوائده: الدكتور أحمد الريسوني، طبعة 1999، منشورات الزمن. مطبعة النجاح الجديدة- الدار البيضاء.(1/99)
في ظلال القرآن: سيد قطب، الطبعة الشرعية الثانية والثلاثون 1423/ 2003.
حرف القاف
قواعد الأحكام في مصالح الأنام: للعز بن عبد السلام، الطبعة الثانية 1400/ 1980، دار الجيل- بيروت.
حرف اللام
لسان العرب: لمحمد بن مكرم بن علي أبو الفضل جمال الدين بن منظور، الطبعة الأولى، دار صادر- بيروت.
حرف الميم
المحصول في علم الأصول: لفخر الدين الرازي. الطبعة الأولى 1408/ 1988، دار الكتب العلمية.
مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية: الدكتور يوسف القرضاوي. الطبعة الثانية 1422/ 2001، مؤسسة الرسالة.
المستدرك على الصحيحين: لمحمد بن عبد الله أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية- بيروت.
المستصفى في علم الأصول: للإمام أبي حامد الغزالي. تحقيق عبد العظيم محمود الديب، الطبعة الأولى 1413/ 1993، دار الوفاء.
المصلحة العامة من منظور إسلامي: الدكتور فوزي خليل، الطبعة الأولى 1423/ 2003، مؤسسة الرسالة.
المعجم الكبير: سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني، تحقيق : حمدي بن عبد المجيد السلفي، الطبعة الثانية 1404 - ،1983 مكتبة العلوم والحكم - الموصل.
المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة1420/ 2000، دار الفكر- بيروت.
مقاصد الشريعة الإسلامية: زياد محمد احميدان. الطبعة الأولى 1425/ 2004، مؤسسة الرسالة.
مقاصد الشريعة الإسلامية: الطاهر بن عاشور. الطبعة الأولى 1425/ 2005، دار السلام.
مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها: علال الفاسي. الطبعة الرابعة 1411/ 1991، مؤسسة علال الفاسي.
المقاصد العامة للشريعة الإسلامية: يوسف حامد العالم، الطبعة الثانية، 1415/ 1994، الدار العالمية للفكر الإسلامي.
مكانة المرأة في الإسلام: محمد متولي الشعراوي.
الموافقات في أصول الشريعة: الإمام الشاطبي، مع شرح وتعليق عبد الله دراز. المكتبة التوفيقية، القاهرة- مصر.
حرف النون(1/100)
نحو تفعيل مقاصد الشريعة: الدكتور جمال الدين عطية. الطبعة الأولى1422/ 2001، دار الفكر- المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
نشر البنود على مراقي السعود: عبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي، وضع حواشيه فادي نصيف وطارق يحيى، الطبعة الأولى 1421/ 2000. دار الكتب العلمية.
نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي: الدكتور أحمد الريسوني. الطبعة الأولى 1411/ 2001، المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي: حسين حامد حسان. طبعة 1981، مكتبة المتنبي.
المجلات
مجلة عالم المعرفة: بعنوان "البيئة ومشكلاتها" إعداد كل من رشيد الحمد، ومحمد سعيد صابريني، عدد 22 . أكتوبر 1979.
مجلة عالم المعرفة: بعنوان "الإسلام والاقتصاد" إعداد الدكتور عبد الهادي علي النجار، عدد 63 . مارس 1983.
المحاضرات المسموعة
محاضرة للدكتور أحمد الريسوني، تحت عنوان "أثر الأخلاق في التنمية البشرية" ألقيت يوم الأحد 11 دجنبر 2005، بالمركب الثقافي الحرية- فاس.
المواقع الإلكترونية
موقع إسلام أون لاين:www.islamonlin.net .
موقع جريدة " الشرق الأوسط": www.asharqalawsat.com.
موقع مجمع الفقه الإسلامي: www.fiqhacademy.org.sa.(1/101)