فإن قيل: عرفنا صحته بأنه مذهب للأكثرين فهو أولى بالاتباع
قلنا: وبم أنكرتم على من يقول الحق دقيق غامض لا يدركه إلا الأقلون ويعجز عنه الأكثرون لأنه يحتاج إلى شروط كثيرة من الممارسة والتفرغ للنظر ونفاذ القريحة والخلو عن الشواغل
ويدل عليه أنه عليه السلام كان محقا في ابتداء أمره وهو في شرذمة يسيرة على خلاف الأكثرين وقد قال تعالى {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [الأنعام: من الآية116]كيف وعدد الكفار في زماننا أكثر ؟!
ثم يلزمكم أن تتوقفوا حتى تدوروا في جميع العالم وتعدوا جميع المخالفين فإن ساووهم توقفوا وإن غلبوا رجحوا كيف وهو على خلاف نص القرآن؟ قال الله تعالى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: من الآية13] ولكن {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الطور: من الآية47 ]{وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: من الآية70]
فإن قيل: فقد قال عليه السلام عليكم :"بالسواد الأعظم" و:" من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجما عة" و "الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد "
قلنا: أولا: بم عرفتم صحة هذه الأخبار وليست متواترة فإن كان عن تقليد فبم تتميزون عن مقلد اعتقد فسادها ؟
ثم لو صح فمتبع السواد الأعظم ليس بمقلد بل علم بقول الرسول وجوب اتباعه وذلك قبول قول بحجة وليس بتقليد
ثم المراد بهذه الأخبار ذكرناه في كتاب الإجماع وأنه الخروج عن موافقة الإمام أو موافقة الإجماع
أدلة القائلين بوجوب التقليد :
ولهم شبه:(2/464)
الشبهة الأولى: قولهم:إن الناظر متورط في شبهات وقد كثر ضلال الناظرين فترك الخطر وطلب السلامة أولى
قلنا: وقد كثر ضلال المقلدين من اليهود والنصارى فبم تفرقون بين تقليدكم وتقليد سائر الكفار حيث قالوا {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } [الزخرف: من الآية23] ثم نقول إذا وجبت المعرفة كان التقليد جهلا وضلالا فكأنكم حملتم هذا خوفا من الوقوع في الشبهة كمن يقتل نفسه عطشا وجوعا خيفة من أن يغص بلقمة أو يشرق بشربة لو أكل وشرب وكالمريض يترك العلاج رأسا خوفا من أن يخطىء في العلاج وكمن يترك التجارة والحراثة خوفا من نزول صاعقة فيختار الفقر خوفا من الفقر
الشهبة الثانية: تمسكهم بقوله تعالى {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } ]غافر: من الآية4[وأنه نهى عن الجدال في القدر والنظر يفتح باب الجدال قلنا نهى عن الجدال بالباطل كما قال تعالى {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } [غافر: من الآية5]بدليل قوله تعالى {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل: من الآية125]فأما القدر فنهاهم عن الجدال فيه إما لأنه كان قد وقفهم على الحق بالنص فمنعهم عن الممارة في النص أو كان في بدء الإسلام فاحترز عن أن يسمعه المخالف فيقول هؤلاء بعد لم تستقر قدمهم في الدين أو لأنهم كانوا مدفوعين إلى الجهاد الذي هو أهم عندهم ثم إنا نعارضهم بقوله تعالى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الاسراء: من الآية36] {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: من الآية169 ]{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة: من الآية111]هذا كله نهي عن التقليد وأمر(2/465)
بالعلم ولذلك عظم شأن العلماء وقال تعالى {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: من الآية11] وقال عليه السلام يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين ولا يحصل هذا بالتقليد بل بالعلم وقالابن مسعود لا تكونن إمعة قيل وما إمعة قال أن يقول الرجل أنا مع الناس إن ضلوا ضللت وإن اهتدوا اهتديت ألا لا يوطنن أحدكم نفسه أن يكفر إن كفر الناس
مسألة تقليد العامي للعلماء العامي يجب عليه الاستفتاء واتباع العلماء :
وقال قوم من القدرية:يلزمهم النظر في الدليل واتباع الإمام المعصوم
وهذا باطل بمسلكين
أحدهما: إجماع الصحابة فإنهم كانوا يفتون العوام ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد وذلك معلوم على الضرورة والتواتر من علمائهم وعوامهم .
فإن قال قائل من الإمامية: كان الواجب عليهم اتباع على لعصمته وكان علي لا ينكر عليهم تقية وخوفا من الفتنة
قلنا: هذا كلام جاهل سد على نفسه باب الاعتماد على قول علي وغيره من الأئمة في حال ولايته إلى آخر عمره لأنه لم يزل في اضطراب من أمره فلعل جميع ما قاله خالف فيه الحق خوفا وتقية(2/466)
المسلك الثاني : إن الإجماع منعقد على أن العامي مكلف بالأحكام وتكليفه طلب رتبة الاجتهاد محال لأنه يؤدي إلى أن ينقطع الحرث والنسل وتتعطل الحرف والصنائع ويؤدي إلى خراب الدنيا لو اشتغل الناس بحملتهم بطلب العلم وذلك يرد العلماء إلى طلب المعايش ويؤدي إلى اندراس العلم بل إلى إهلاك العلماء وخراب العالم
وإذا استحال هذا لم يبق إلا سؤال العلماء
فإن قيل:فقد أبطلتم التقليد وهذا عين التقليد
قلنا: التقليد قبول قول بلا حجة وهؤلاء وجب عليهم ما أفتى به المفتي بدليل الإجماع كما وجب على الحاكم قبول قول الشهود ووجب علينا قبول خبر الواحد وذلك عند ظن الصدق والظن معلوم ووجوب الحكم عند الظن معلوم بدليل سمعي قاطع فهذا الحكم قاطع والتقليد جهل
فإن قيل: فقد رفعتم التقليد من الدين وقد قال الشافعي رحمه الله ولا يحل تقليد أحد سوى النبي عليه السلام فقد أثبت تقليدا
قلنا: قد صرح بإبطال التقليد رأسا إلا ما استثنى فظهر أنه لم يجعل الاستفتاء وقبول خبر الواحد وشهادة العدول تقليد نعم يجوز تسمية قبول قول الرسول تقليدا توسعا واستثناؤه من غير جنسه ووجه التجوز أن قبول قوله وإن كان لحجة دلت على صدقه جملة فلا تطلب منه حجة على غير تلك المسألة فكأنه تصديق بغير حجة خاصة ويجوز أن يسمى ذلك تقليدا مجازا
مسألة: فتوى العامي للعلماء العدول:
لا يستفتي العامي إلا من عرفه بالعلم والعدالة أما من عرفه بالجهل فلا يسأله وفاقا
وأن سأل من لا يعرف جهله فقد قال قوم: يجوز وليس عليه البحث
وهذا فساد لأن كل من وجب عليه قبول قول غيره فيلزمه معرفة حاله فيجب على الأمة معرفة حال الرسول بالنظر في معجزته فلا يؤمن بكل مجهول يدعي أنه رسول الله ووجب على الحاكم معرفة حال الشاهد في العدالة وعلى المفتي(2/467)
معرفة حال الراوي وعلى الرعية معرفة حال الإمام والحاكم
وعلى الجملةكيف يسأل من يتصور أن يكون أجهل من السائل ؟
فإن قيل: إذا لم يعرف عدالة المفتي هل يلزمه البحث ؟إن قلتم يلزمه البحث فقد خالفتم العادة لأن من دخل بلدة فيسأل عالم البلدة ولا يطلب حجة على عدالته وإن جوزتم مع الجهل فكذلك في العلم
قلنا: من عرفه بالفسق فلا يسأله ومن عرفه بالعدالة فيسأله ومن لم يعرف حاله فيحتمل أن يقال لا يهجم بل يسأل عن عدالته أولا فإنه لا يأمن كذبه وتلبيسه ويحتمل أن يقال ظاهر حال العالم العدالة لا سيما إذا اشتهر بالفتوى ولا يمكن أن يقال ظاهر حال الخلق العلم ونيل درجة الفتوى والجهل أغلب على الخلق فالناس كلهم عوام إلا الأفراد بل العلماء كلهم عدول إلا الآحاد
فإن قيل: فإن وجب السؤال لمعرفة عدالته أو علمه فيفتقر إلى التواتر أم لا يفتقر إليه قيل يحتمل أن يقال ذلك فإن ذلك ممكن ويحتمل أن يقال يكفي غالب الظن الحاصل بقول عدل أو عدلين ؟
قلنا: لا بد من المعرفة الحقيقية بالتواتر ، فإن ذلك ممكمن . ويحتمل أن يقال : يكفي غالب الظن الحاصل بقول عدل أو عدلين وقد جوز قوم العمل بإجماع نقله العدل الواحد وهذا يقرب منه من وجه
مسألة تعدد العلماء بالنسبة لسؤال العامي:
إذا لم يكن في البلدة إلا مفت واحد وجب على العامي مراجعته
وإن كانوا جماعة فله أن يسأل ممن شاء ولا يلزمه مراجعة الأعلم كما فعل في زمان الصحابة إذ سأل العوام الفاضل والمفضول ولم يحجر على الخلق في سؤال غير أبي بكر وعمر وغير الخلفاء الراشدين(2/468)
وقال قوم: تجب مراجعة الأفضل فإن استووا تخير بينهم وهذا يخالف إجماع الصحابة إذ لم يحجر الفاضل على المفضول الفتوى بل لا تجب إلا مراجعة من عرفه بالعلم والعدالة وقد عرف كلهم بذلك
مايصنع المستفتي إن اختلف عليه المفتون:
نعم إذا اختلف عليه مفتيان في حكم فإن تساويا راجعهما مرة أخرى وقال تناقض فتواكما وتساويتما عندي فما الذي يلزمني فإن خيراه تخير وإن اتفقا على الأمر بالاحتياط أو الميل إلى جانب معين فعل وإن أصرا على الخلاف لم يبق إلا التخيير فإنه لا سبيل إلى تعطيل الحكم وليس أحدهما بأولى من الآخر والأئمة كالنجوم فبأيهم اقتدى اهتدى
أما إذا كان أحدهما أفضل وأعلم في اعقتاده: اختار القاضي أنه يتخير أيضا لأن المفضول أيضا من أهل الاجتهاد لو انفرد فكذلك إذا كان معه غيره فزيادة الفضل لا تؤثر
والأولى عندي أنه يلزمه اتباع الأفضل فمن اعتقد أن الشافعي رحمه الله أعلم والصواب على مذهبه أغلب فليس له أن يأخذ بمذهب مخالفه بالتشهي
اتباع المقلدين أيسر الأقوال في المذاهب:
وليس للعامي أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده فيتوسع بل هذا الترجيح عنده كترجيح الدليلين المتعارضين عند المفتي فإنه يتبع ظنه في الترجيح فكذلك ههنا وإن صوبنا كل مجتهد ولكن الخطأ ممكن بالغفلة عن دليل قاطع وبالحكم قبل تمام الاجتهاد واستفراغ الوسع والغلط على الأعلم أبعد لا محالة
وهذا التحقيق وهو أنا نعتقد أن لله تعالى سرا في رد العباد إلى ظنونهم حتى لا يكونوا مهملين متبعين للهوى مسترسلين استرسال البهائم من غير أن يزمهم لجام التكليف فيردهم من جانب إلى جانب فيتذكرون العبودية ونفاذ حكم الله تعالى فيهم في كل حركة وسكون يمنعهم من جانب إلى جانب فما دمنا نقدر على ضبطهم بضابط فذلك أولى من تخييرهم وإهمالهم كالبهائهم والصبيان(2/469)
أما إذا عجزنا عند تعارض مفتيين وتساويهما أو عند تعارض دليلين فذلك ضرورة والدليل عليه أنه إذا كان يمكن أن يقال كل مسألة ليس لله تعالى فيها حكم معين أو يصوب فيها كل مجتهد فلا يجب على المجتهد فيها النظر بل يتخير فيفعل ما شاء إذ ما من جانب إلا ويجوز أن يغلب على ظن مجتهد والإجماع منعقد على أنه يلزمه أولا تحصيل الظن ثم يتبع ما ظنه فكذلك ظن العامي ينبغي أن يؤثر
فإن قيل: المجتهد لا يجوز له أن يتبع ظنه قيل أن يتعلم طرق الاستدلال والعامي يحكم بالوهم ويغتر بالظواهر وربما يقدم المفضول على الفاضل فإن جاز أن يحكم بغير بصيرة فلينظر في نفس المسألة وليحكم بما يظنه فلمعرفة مراتب الفضل أدلة غامضة ليس دركها من شأن العوام .
وهذا سؤال واقع
ولكنا نقول: من مرض له طفل وهو ليس بطبيب فسقاه دواء برأيه كان متعديا مقصرا ضامنا ولو راجع طبيبا لم يكن مقصرا فإن كان في البلد طبيبان فاختلفا في الدواء فخالف الأفضل عد مقصرا ويعلم فضل الطبيبين بتواتر الأخبار وبإذعان المفضول له وبتقديمه بأمارات تفيد غلبة الظن فكذلك في حق العلماء :يعلم الأفضل بالتسامع وبالقرائن دون البحث عن نفس العلم والعامي أهل له فلا ينبغي أن يخالف الظن بالتشهي فهذا هو الأصح عندنا والأليق بالمعنى الكلي في ضبط الخلق بلجام التقوى والتكليف والله أعلم(2/470)
الفن الثالث: في الترجيح وكيفية تصرف المجتهد عند تعارض الأدلة
مقدمة
...
الفن الثالث من القطب الرابع في الترجيح وكيفية تصرف المجتهد عند تعارض الأدلة
ويشتمل هذا الفن على مقدمات ثلاث وبابين :
أما المقدمة الأولى ففي بيان ترتيب الأدلة :
فنقول يجب على المجتهد في كل مسألة أن يرد نظره إلى النفي الأصلي قبل ورود الشرع ثم يبحث عن الأدلة السمعية المغيرة
فينظر أول شيء في الإجماع فإن وجد في المسألة إجماعا ترك النظر في الكتاب والسنة فإنهما يقبلان النسخ والإجماع لا يقبله فالإجماع على خلاف ما في الكتاب والسنة دليل قاطع على النسخ إذ لا تجتمع الأمة على الخطأ(2/471)
ثم ينظر في الكتاب والسنة المتواترة وهما على رتبة واحدة لأن كل واحد يفيد العلم القاطع ولا يتصور التعارض في القطعيات السمعية إلا بأن يكون أحدهما ناسخا فما وجد فيه نص كتاب أو سنة متواترة أخذ به
وينظر بعد ذلك إلى عمومات الكتاب وظواهره
ثم ينظر في مخصصات العموم من أخبار الآحاد ومن الأقيسة فإن عارض قياس عموما أو خبر واحد عموما فقد ذكرنا ما يجب تقديمه منها
فإن لم يجد لفظا نصا ولا ظاهرا نظر إلى قياس النصوص
فإن تعارض قياسات أو خبران أو عمومان طلب الترجيح كما سنذكره
فإن تساويا عنده توقف على رأي وتخير على رأي آخر كما سبق
المقدمة الثانية في حقيقة التعارض ومحله
اعلم أن الترجيح إنما يجري بين ظنين لأن الظنون تتفاوت في القوة ولا يتصور ذلك في معلومين إذ ليس بعض العلوم أقوى وأغلب من بعض وإن كان بعضها أجلى وأقرب حصولا وأشد أستغناء عن التأمل بل بعضها يستغني عن أصل التأمل وهو البديهي وبعضها غير بديهي يحتاج إلى تأمل لكنه بعد الحصول(2/472)
محقق يقيني لا يتفاوت في كونه محققا فلا ترجيح لعلم على علم
ولذلك قلنا: إذا تعارض نصان قاطعان فلا سبيل إلى الترجيح بل إن كانا متواترين حكم بأن المتأخر ناسخ ولا بد أن يكون أحدهما ناسخا
وإن كانا من أخبار الآحاد وعرفنا التاريخ أيضا حكمنا بالمتأخر
وإن لم نعرف فصدق الراوي مظنون فنقدم الأقوى في نفوسنا
وكما لا يجوز التعارض والترجيح بين نصين قاطعين فكذلك في علتين قاطعتين فلا يجوز أن ينصب الله علة قاطعة للتحريم في موضع وعلة قاطعة للتحليل في موضع وتدور بينهما مسألة توجد فيها العلتان ونتعبد بالقياس لأنه يؤدي إلى أن يجتمع قاطع على التحريم وقاطع على التحليل في فرع واحد في حق مجتهد واحد
وهو محال لا كالعلل المظنونة لأن الظنون تختلف بالإضافات فلا تجتمع في حق مجتهد واحد فإن تقاوم ظنان أوجبنا التوقف على رأي كما لو تعارض قاطعان
ومن أمر بالتخيير أجاب بأنه لا يجوز أن يرد نصان قاطعان بالتحريم والتحليل من غير تقدم وتأخر ويكون معناه التخيير لأن اللفظ لا يحتمل التخيير فكذلك التعبد بالقياس مع التصريح بالتعليل تصريح بالنفي والإثبات لا يحتمل التخيير من حيث اللفظ فيكون متناقضا
أما الدليل الذي دل على تعبد المجتهد باتباع الظن فيصلح لأن ينزل على اتباع أغلب الظنين وعند التعارض :على التخيير بينهما فإنه أمر بإتباع المصلحة وبالتشبيه وبالاستصحاب فإذا تعارضا فكيفما فعل فهو مستصحب ومشبه ومتبع للمصلحة أما القواطع فمتضادة ومتناقضة لا بد من أن تكون ناسخا أو منسوخا فلا تقبل الجمع نعم لو أشكل التاريخ وعجزنا عن طلب دليل آخر فلا بد أن يتخير إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر مع تضادهما(2/473)
فإن قيل فهل يجوز أن يجتمع علم وظن ؟.
قلنا: لا فإن الظن لو خالف العلم فهو محال لأن ما علم كيف يظن خلافه وظن خلافه شك فكيف يشك فيما يعلم وإن وافقه فإن أثر الظن يمحي بالكلية بالعلم فلا يؤثر معه
المقدمة الثالثة: في دليل وجوب الترجيح
فإن قال قائل: لم رجحتم أحد الظنين وكل ظن لو انفرد بنفسه لوجب اتباعه وهلا قضيتم بالتخيير أو التوقف ؟
قلنا: كان يجوز أن يرد التعبد بالتسوية بين الظنين وإن تفاوتا لكن الإجماع قد دل على خلافه على ما علم من السلف في تقديم بعض الأخبار على بعض لقوة الظن بسبب علم الرواة وكثرتهم وعدالتهم وعلو منصبهم فلذلك قدموا خبر أزواجه عليه السلام على غيره من النساء وقدموا خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين على خبر من روى لاماء إلا من الماء وخبر من روت من أزواجه أنه كان يصبح جنبا على ما روى أبو هريرة عن الفضل بن عباس أن من أصبح جنبا فلا صوم له وكما قوي علي خبر أبي بكر فلم يحلفه وحلف غيره وقوى أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة لما روى معه محمد بن مسلمة وقوى عمر خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان بموافقة أبي سعيد الخدري في الرواية إلى غير ذلك مما يكثر تتبعه
وكذلك إذا غلب على الظن كون الفرع أشبه بأحد الأصلين وجب اتابعه بالإجماع فقد فهم من أهل الإجماع أنهم تعبدوا بما هو عادة للناس في ميراثهم وتجارتهم وسلوكهم الطرق المخوفة فإنهم عند تعارض الأسباب المخوفة يرجحون ويميلون إلى الأقوى(2/474)
فإن قيل: فلم لم ترجحوا في الشهادة بالكثرة وقوة غلبة الظن بل يقضي بالتعارض عند تناقض البينتين ؟
قلنا لأن أهل الإجماع لم يرجحوا في الشهادة وقد رجحوا في الرواية وسببه أن باب الشهادة مبني على التعبد حتى لو أتى عشرة بلفظ الأخبار دون الشهادة لم تقبل ولا تقبل شهادة مائة امرأة ولا مائة عبد على باقة بقل
هذه هي المقدمات(2/475)
فيما ترجح به الأخبار
...
الباب الأول فيما ترجح به الأخبار
اعلم أن التعارض هو التناقض
فإن كان في خبرين فأحدهما كذب والكذب محال على الله ورسوله
وإن كان في حكمين من أمر ونهي وحظر وإباحة فالجمع تكليف محال فأما أن يكون أحدهما كذبا أو يكون متأخرا ناسخا أو أمكن الجمع بينهما بالتنزيل على حالتين كما إذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "الصلاة واجبة على أمتي الصلاة غير واجبة على أمتي" فنقول أراد بالأول المكلفين وأراد بالثاني الصبيان والمجانين أو في حالتي العجز والقدرة أو في زمن دون زمن
وإن عجزنا عن الجمع وعن معرفة المتقدم والمتأخر رجحنا وأخذنا بالأقوى وتقوى الخبر في نفوسنا بصدق الراوي وصحته وتضعيف الخبر في نفوسنا إما باضطراب في متنه أو بضعف في سنده أو بأمر خارج من السند والمتن
أسباب الترجيح بين الخبرين المتعارضين لأمر في السند أو المتن:
أما ما يتعلق بالسند والمتن فسبعة عشر :
الأول: سلامة متن أحد الخبرين عن الاختلاف والاضطراب دون الآخر فسلامته مرجحة فإن ما لا يضطرب فهو بقول الرسول أشبه فإن انضاف إلى اضطراب(2/476)
اللفظ اضطراب المعنى كان أبعد عن أن يكون قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيدل على الضعف وتساهل الراوي في الرواية.
فإن قيل: فيجب أن تكون رواية الزيادة في متن الحديث اضطرابا يوجب إطراحه
قلنا: لا يجب لأنه في معنى خبرين منفصلين إلا أن يعرف محدث بكثرة الانفراد بالرواية عن الحفاظ فيجوز أن يقدم خبر غيره على خبره
الثاني: اضطراب السند بأن يكون في أحدهما ذكر رجال تلتبس أسماؤهم ونعوتهم وصفاتهم بأسماء قوم ضعفاء وصفاتهم بحيث يعسر التمييز
الثالث : أن يروي أحدهما في تضاعيف قصة مشهورة متداولة بين أهل النقل ومعارضة قد انفرد به الراوي لا في جملة القصة فما روي في الجماعة أقوى في النفوس وأقرب إلى السلامة من الغلط مما يرويه الواحد عاريا عن قصته المشهورة
الرابع: أن يكون راويه معروفا بزيادة التيقظ وقلة الغلط فالثقة بروايته عند الناس أشد
الخامس: أن يقول أحدهما سمعنا النبي عليه السلام والآخر أن يقول كتب إلي بكذا فإن التحريف والتصحيف في المكتوب أكثر منه في المسموع
السادس: أن يتطرق الخلاف إلى أحد الخبرين أنه موقوف على الراوي أو مرفوع فالمتفق على كونه مرفوعا أولى(2/477)
السابع: أن يكون منسوبا إليه نصا وقولا والآخر ينسب إليه اجتهادا بأن يروي أنه كان في زمانه أو في مجلسه ولم ينكره فما نسب إليه قولا ونصا أقوى لأن النص غير محتمل وما في زمانه ربما لم يبلغه وما في مجلسه ربما غفل عنه
الثامن : أن يروي أحد الخبرين عمن تعارضت الرواية عنه فنقل عنه أيضا ضده فيقدم عليه ما لم يتعارض لأن المتعارض متساقط فيبقى الآخر سليما عن المعارضة
التاسع: أن يكون الراوي صاحب الواقعة فهو أولى بالمعرفة من الأجنبي فرواية ميمونة تزوجني النبي عليه السلام ونحن حلالان بعدما رجع مقدمة على رواية ابن عباس أنه نكحها وهو حرام
العاشر: أن يكون أحد الراويين أعدل وأوثق وأضبط وأشد تيقظا وأكثر تحريا
الحادي عشر: أن يكون أحدهما على وفق عمل أهل المدينة فهو أقوى لأن ما رآهمالك رحمه الله حجة وإجماعا إن لم يصلح حجة فيصلح للترجيح لأن المدينة دار الهجرة ومهبط الوحي الناسخ فيبعد أن ينطوي عليهم
الثاني عشر: أن يوافق أحد الخبرين مرسل غيره فيرجح به من يرجح بكثرة الرواة لأن المرسل حجة عند قوم فإن لم يكن حجة فلا أقل من أن يكون مرجحا
الثالث عشر: أن تعمل الأمة بموجب أحد الخبرين فإنه إذا احتمل أن يكون عملهم بدليل آخر فيحتمل أن يكون هذا الخبر فيكون صدقه أقوى في النفس
الرابع عشر : أن يشهد القرآن أو الإجماع أو النص المتواتر أو دليل العقل(2/478)
لوجوب العمل على وفق الخبر فيرجح به
فإن قيل: ذلك قاطع في تصديقه
قلنا: لا بل يتصور أن يكذب على النبي عليه السلام فيما يوافق القرآن والاجماع فيقول سمعت ما لم يسمعه وإنما يجب صدقه إذا اجتمعت الأمة على صدقه لا إذا اجتمعت على عمل يوافق خبره ولعله عن دليل آخر
الخامس عشر: أن يكون أحدهما أخص والآخر أعم فيقدم ما هو أخص بالمقصود كتقديم قوله في الرقة ربع العشر في إيجابه على الطفل والبالغ على قوله رفع القلم عن ثلاثة لأن هذا تعرض لنفي الخطاب العام وليس بتعرض للزكاة ولا لسقوط الزكاة عن الولي بإخراج زكاته والحديث الأول متعرض لخصوص الزكاة ومتناول لعمومه مال الصبي فهو أخص وأمس بالمقصود
السادس عشر: أن يكون أحدهما مستقلا بالإفادة ومعارضه لا يفيد إلا بتقدير إضمار أو حذف وذلك مما يتطرق إليه زيادة التباس لا يتطرق إلى المستقبل
السابع عشر: أن يكون رواة أحد الخبرين أكثر فالكثرة تقوي الظن ولكن رب عدل أقوى في النفس من عدلين لشدة تيقظه وضبطه والاعتماد في ذلك على ما غلب على ظن المجتهد
هذا ما يوجب الترجيح لأمر في سند الخبر أو في متنه
الترجيح بأمر خارج عن السند والمتن:
وقد يرجح لأمور خارجة عنها وهي خمسة :(2/479)
الأول: كيفية استعمال الخير في محل الخبر كقوله صلى الله عليه وسلم : "لا نكاح إلا بولي " مع قوله : "الأيم أحق بنفسها من وليها" لأنا نحمل ذلك على أنها أحق بنفسها في الأذن لا في العقد واللفظ يعم الأذن والعقد وهم يحملون خبرنا على الصغير أو الأمة أو النكاح من غير كفء ولاخلاف واقع في الكبيرة وهم صرفوا خبرنا عن محل الخلاف ونحن استعملنا الخبرين في الكبيرة فتأويلنا أقرب فإنه لا ينبو عنه اللفظ بل كان اللفظ محتملا لهما أما تنزيل خبرنا على الصغيرة والأمة فبعيد
الثاني: أن يكون أحد الخبرين يوجب غضا من منصب الصحابة فيكون أضعف كما رووا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بإعادة الوضوء عند القهقهة. فخبرنا وهو قوله كان يأمرنا إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا إلا من جنابة لا من بول أو غائط أو نوم وليس فيه القهقهة فهو أولى من خبرهم
الثالث: أن يكون أحد الخبرين متنازعا في خصوصه والآخر متفق على تطرق الخصوص إليه فقد قال قوم أنه يسقط الاحتجاج به فإن لم يصح ذلك فيدل على ضعفه لا محالة
الرابع: أن يكون أحد الخبرين قد قصد به بيان الحكم المتنازع فيه دون الآخر كقوله:صلى الله عليه وسلم : "أيما إهاب دبغ فقد طهر " لم يفرق فيه بين ما يؤكل وبين ما لا يؤكل فدلالة عمومه على جلد ما لا يؤكل أقوى من دلالة نهيه صلى الله عليه وسلم عن افتراش جلود السباع لأنه ما سيق لبيان النجاسة والطهارة بل ربما نهى عن الافتراش للخيلاء أو لخاصية لا نعقلها
الخامس: يتضمن أحد الخبرين إثبات ما ظهر تأثيره في الحكم دون الآخر حتى تقدم رواية عائشة وابن عمر وابن عباس أن "بريرة أعتقت تحت(2/480)
عبد "على ما روي أنها أعتقت تحت حر لأن ضرر الرق في الخيار قد ظهر أثره ولا يجري ذلك في الحر
القول فيما يظن أنه ترجيح وليس بترجيح
وله أمثلة ستة:
الأول: أن يعمل أحد الراويين بالخبر دون الآخر أو يعمل بعض الأمة أو بعض الأئمة بموجب أحد الخبرين
فلا يرجح به إذ لا يجب تقليدهم فالمعمول به وغير المعمول به واحد
الثاني: أن يكون أحدهما غريبا لا يشبه الأصول كحديث القهقهة وغرة الجنين وضرب الدية على العاقلة وخبر نبيذ التمر ودفع القيمة في إحدى عيني الفرس(2/481)
فهذه الأحاديث لو صحت لا تؤخر عن معارضها الموافق للأصول لأن للشارع أن يتعبد بالغريب والمألوف
نعم لو ثبت التقاوم بين الخبرين تساقطا ورجعنا إلى القياس وذلك ليس من الترجيح في شيء
الثالث: الخبر الذي يدرأ الحد لا يقدم على الموجب وإن كان الحد يسقط بالشبهة
وقال قوم:الرافع أولى وهو ضيعف لأن هذا لا يوجب تفاوتا في صدق الراوي فيما ينقله من لفظ الإيجاب أو الإسقاط
الرابع: إذا روي خبران من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما مثبت والآخر ناف فلا يرجع أحدهما على الآخر لاحتمال وقوعهما في حالين فلا يكون بينهما تعارض
وقد بينا في باب أفعال النبي عليه السلام محل امتناع التعارض بين الفعلين
الخامس: خبر يتضمن العتق والآخر يتضمن نفيه قال قوم من أهل العراق:المثبت للعتق أولى لغلبة العتق ولأنه لا يقبل الفسخ
وهذا ضعيف لأن هذا لا يوجب تفاوتا في صدق الراوي وثبوت نقله
السادس: الخبر الحاظر لا يرجح على المبيح على ما ظنه قوم لأنهما حكمان شرعيان صدق الراوي فيهما على وتيرة واحدة(2/482)
في ترجيح العلل
...
الباب الثاني في ترجيح العلل
ومجامع ما يرجع إليه ترجيح العلل خمسة :
الأول: ما يرجع إلى قوة الأصل الذي منه الانتزاع فإن قوة الأصل تؤكد العلة
الثاني : ما يرجع إلى تقوية نفس العلة في ذاتها
الثالث : ما يرجع إلى قوة طريق إثبات العلة من نص أو إجماع أو أمارة
الرابع: ما يقوي حكم العلة الثابت بها
الخامس: أن تتقوى بشهادة الأصول وموافقتها لها
القسم الأول: ما يرجع إلى قوة الأصل :
وهي عشرة:
الأول : أن تكونا إحدى العلتين منتزعة من أصل معلوم استقراره في الشرع ضرورة والأخرى من أصل معلوم لكن بنظر ودليل فإنهما وإنا كانا معلومين فجاحد الضروري يكفر وجاحد النظري لا يكفر فذلك أقوى
فإن قيل: أليس قد قدمتم أنه لا يقدم معلوم على معلوم
قلنا: العلتان مظنونتان وإنما المعلوم أصلاهما والترجيح للعلة المظنونة
الثاني : أن يكون أحد الأصلين محتملا للنسخ أو ذهب بعض العلماء إلى نسخه فما سلم عن الاختلاف والاحتمال أولى وأقوى
الثالث : أن يثبت أصل إحدى العلتين بخبر الواحد والآخر بخبر متواتر وأمر مقطوع به فإن العمل بخبر الواحد وإن كان واجبا قطعا فهو حق بالإضافة إلى من ظن صدق الراوي والآخر حق في نفسه مطلقا لا بالإضافة
الرابع : أن يكون أحد الأصلين ثابتا بروايات كثيرة والآخر برواية واحدة فإنه يرجح الأول عند من يرجح بكثرة الرواة ولا يرجح عند من لا يرى ذلك(2/483)
الخامس: أن يكون أحد الأصلين ثابتا بعموم لم يدخله التخصيص فيقدم على ما ثبت بعموم دخله التخصيص لضعفه
السادس: أن يكون أحد الأصلين ثابتا بصريح النص والآخر ثبت بتقدير إضمار أو حذف دقيق فالنص الصريح أولى
السابع: أن يكون أحد الأصلين أصلا بنفسه والآخر فرعا لأصل آخر فالفرع ضعيف عند من جوز القياس عليه والأظهر منع القياس عليه وكذلك أصل ثبت بخبر الواحد أقوى من أصل ثبت بالقياس على خبر الواحد
الثامن: أن يكون أحد الأصلين مما اتفق القائسون على تعليله والآخر اختلفوا فيه فالمتفق على تعليله من القائسين وإن لم يكونوا كل الأمة أقرب إلى كونه معلوما من المختلف فيه
التاسع: أن يكون دليل أحد الأصلين مكشوفا معينا والآخر أجمعوا على أنه ثابت بدليل فإن لم يكن معينا فيقدم المكشوف لأنه يمكن معرفة رتبته وتقديمه على غيره والمجهول لا يدري ما رتبته وما وجه معارضته لغيره ومساواته له
العاشر: أن يكون أحد الأصلين مغيرا للنفي الأصلي والآخر مقررا فالمغير أولى لأنه حكم شرعي وأصل سمعي والآخر نفي للحكم على الحقيقة
القسم الثاني: ما لا يرجع إلى الأصل:
ونرجع إلى بقية الأقسام الأربعة نوردها من غير تفصيل لتعلق بعضها بالعض ويرجع ذلك إلى قريب من عشرين وجها
الأول: أن تثبت إحدى العلتين بنص قاطع
وهذا قد أورد في الترجيح وهو ضعيف لأن الظن ينمحي في مقابلة القاطع فلا يبقى معه حتى يحتاج إلى ترجيح إذ لو بقي معه لتطرق شكنا إليه ويخرج(2/484)
عن كونه معلوما وقد بينا أنه لا ترجيح لمعلوم على معلوم ولا لمظنون على مظنون
الثاني: أن تعتضد إحدى العلتين بموافقة قول صحابي انتشر وسكت عنه الآخرون وهذا يصح على مذهب من لا يرى ذلك إجماعا أما من اعتقده إجماعا صار عنده قاطعا ويسقط الظن في مقابلته
الثالث : أن تعتضد بقول صحابي وحده ولم ينتشر فقد قال قوم قوله حجة فإن لم يكن حجة فلا يبعد أن يقوى القياس به في ظن مجتهد إذ يقول إن كان ما قاله عن توقيف فهو أولى وإن كان قال ما قاله عن ظن وقياس فهو أولى بفهم مقاصد الشرع منا ويجوز أن لا يترجح عند مجتهد
الرابع : أن يترجح بموافقته بخبر مرسل أو بخبر مردود عنده لكن قال به بعض العلماء فهذا مرجح بشرط أن لا يكون قاطعا ببطلان مذهب القائلين به بل يرى ذلك في محل الاجتهاد
الخامس: أن تشهد الأصول بمثل حكم إحدى العلتين أعني لجنسها لا لعينها فإنه إن شهدت لعينها كان قاطعا رافعا للظنون إلى النيات وشهادة الكفارات لاستواء البدل والمبدل في النية فهذا أيضا يصلح للترجيح عند من غلب على ظنه ذلك
السادس : أن يكون نفس وجود العلة ضروريا في أحدهما نظريا في الآخر فإن كانا معلومين أو كان أحدهما متيقنا والآخر مظنونا فإن من أوصاف العلة ما يتيقن ككون البر قوتا وكون الخمر مسكرا ومنه ما يظن ككون الكلب نجسا(2/485)
إذا عللنا منع بيعه بنجاسته وككون التراب مبطلا رائحة النجاسة إذا ألقي في الماء الكثير المتغير لا ساترا
وكذلك علة مركبة من وصفين أحدهما ضروري والآخر نظري أو أحدهما معلوم والآخر مظنون إذا عارضها ما هو ضروري الوصفين أو معلوم الوصفين لأن ما علم مجموع وصفيه أولى مما تطرق الشك أو الظن إلى أحد وصفيه لأن الحكم لا محالة يتبع وجود نفس العلة فما قوى العلم أو الظن بوجود العلة قوى الظن بحكم العلة
السابع: الترجيح بما يعود إلى التعلق بالعلم بالعلة فإذا كان إحدى العلتين حكما ككنونه حراما أو نجسا والأخرى حسيا ككونه قوتا ومسكرا زعموا أن رد الحكم إلى الحكم أولى حتى أن تعليل الحكم بالحرية والرق أولى من تعليله بالتمييز والعقل وتعليله بالتكليف أولى من تعليله بالإنسانية وهذا من الترجيحات الضعيفة
الثامن: أن تكون إحدى العلتين سببا أو سببا للسبب كما لو جعل الزنا والسرقة علة للحد والقطع كان أولى من جعل أخذ مال الغير على سبيل الخفية علة ومن جعل إيلاج الفرج في الفرج علة حتى يتعدى إلى النباش واللائط لأن تلك العلة استندت إلى الاسم الذي ظهر الحكم به
هذا إذا تساوت العلتان من كل وجه أما إذا دل الدليل على أن الحكم غير منوط بالسبب الظاهر بل بمعنى تضمنه فالدليل متبع فيه كما أن القاضي لا يقضي في حالة الغضب لا للغضب ولكن لكونه ممنوعا من استيفاء الفكر فيجري في الحاقن والجائع وهو أولى من التعليل بالغضب الذي ينسب الحكم إليه
التاسع: الترجيح بشدة التأثير ولا نعني بشدة التأثير قيام الدليل على كونه علة لأن الدليل يقوم على المعنى الكائن في نفسه دون الدليل فليكن لكون العلة مؤثرة معنى ثم إذا تحقق ذلك في نفسه وفي علم الله تعالى ربما(2/486)
نصب الله عليه دليلا معرفا أو أمارة معلنة وربما لم ينصب دليلا
فإذا قوة الدليل المعرف بكونها علة ليس من شدة التأثير في شيء بل فسروا شدة التأثير بوجوه
أولها: انعكاس العلة مع اطرادها فهي أولى من التي لا تنعكس عند قوم إذ دوران الحكم مع عدمها ووجودها نفيا وإثباتا يدل على شدة تأثيرها كشدة الخمر إذ يزول الحكم بزوالها
الثاني: أن تكون العلة مع كونها علة داعية إلى فعل ما هي علة تحريمه كالشدة فإنها محرمة وهي داعية إلى الشرب المحرم لما فيها من الأطراب والسرور فهي مع تأثيرها في الحكم أثرت في تحصيل محل الحكم وهو الشرب
الثالث: أن تكون علة ذات وصف واحد وعارضها علة ذات أوصاف فقال قوم الوصف الواحد أولى لأن الحكم الثابت به المخالف للنفي الأصلي أكثر فكان تأثيره أكثر فروعا فهي أكثر تأثيرا وقال قوم ذات أوصاف أولى لأن الشريعة حنيفية فالباقي على النفي الأصلي أكثر ولا يبعد أن يغلب على ظن المجتهد شيء من ذلك
الرابع : أن تكون إحداهما أكثر وقوعا فهي أكثر تأيرا فتكون أولى وهذا بعيد لأن تأثيرا العلة إنما يكون في محل وجودها أما حيث وجود لها كيف يطلب تأثيرها
الخامس: علة يشهد لها أصلان أولى مما يشهد لها أصل واحد عند قوم وهذا يظهر إن كان طريق الاستنباط مختلفا وإن كان متساويا فهو ضعيف ولا يبعد أن يقوي ظن مجتهد به وتكون كثرة الأصول ككثرة الرواة للخبر مثاله أنا إذا تنازعنا في أن يد السوم لم توجب الضمان فقال الشافعي رحمه الله علته أنه أخذ لغرض نفسه من غير استحقاق وعداه إلى المستعير وقال الخصم بل(2/487)
علته أنه أخذ ليتملك فيشهد للشافعي في علته رحمه الله يد الغاصب ويد المستعير من الغاصب ولا يشهد لأبي حنيفة رحمه الله إلا يد الرهن فلا يبعد أن يغلب رجحان علة الشافعي عند مجتهد ويكون كل أصل كأنه شاهد آخر وكذلك الربا إذا علل بالطعم بشهد له الملح أيضا وإن علل بالقوت لم يشهد له فلا يبعد أن يكون ذلك من الترجيحات
العاشر: من الترجيحات العلة المثبتة للعموم الذي منه الاستنباط فهي أولى من المخصصة قال الله تعالى {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء: من الآية43] فبرزت علة تقتضي إخراج المحرم والصغيرة من العموم وبرزت علة أخرى توافق العموم فالذي ينفي العموم لمجرده حجة فلا أقل من الترجيح به وقال قوم المخصصة أولى لأنها عرفت ما لم يعرف العموم فأفادت والعلة المقررة للعموم لم تفد مزيدا فكانت أولى كالمتعدية فإنها أولى من القاصرة عند قوم
وهذا ضعيف لأن المتعدية قررت الملفوظ وألحقت به المسكوت وأفادت والقاصرة لم تفد شيئا حتى قال قائلون هي فاسدة فتخيل قوم لذلك ترجيح المتعدية وليس ذلك بصحيح أيضا وأما المخصصة فخالفت موجب العموم فكانت أضعف من التي لم تخالف
الحادي عشر: ترجيح العلة بكثرة شبهها بأصلها على التي هي أقل شبها بأصلها
وهذا ضعيف عند من لا يرى مجرد الشبه في الوصف الذي لا يتعلق الحكم به موجبا للحكم ومن رأى ذلك موجبا فغاينه أن تكون كعلة أخرى ولا يجب ترجيح علتين على علة واحدة لأن الشيء يترجح بقوته لا بانضمام مثله إليه كما(2/488)
لا يترجح الحكم الثابت بالكتاب والسنة والاجماع على الثابت بأحد هذه الأصول
ويقرب من هذا قولهم رد الشيء إلىجنسه أولى من رده إلى غير جنسه حتى يكون قياس الصلاة على الصلاة أولى من قياسها على الصوم والحج لأنه أقرب شبها به وهذا ليس ببعيد لأن اختلاف الأصول يناسب اختلاف الأحكام فإذا كان جنس المظنون واحدا كان التفاوت أغلب على الظن وعن هذا جعل مجرد الشبه حجة عند قوم
الثاني عشر: علة أوجبت حكما وزيادة مرجحة على ما لا يوجب الزيادة عند قوم لأن العلة تراد لحكمها فما كانت فائدتها أكثر فهي أولى حتى قالوا ما أوجب الجلد والتغريب أولى مما لا يوجب إلا الجلد وعلى مسافة قالوا علة تقتضي الوجوب أولى مما تقتضي الندب وما تقتضي الندب أولى مما تقتضي الإباحة لأن في الواجب معنى الندب وزيادة
الثالث عشر: ترجيح المتعدية على القاصرة وهو ضعيف عند من لا يفسد القاصرة لأن كثرة الفروع بل وجود أصل الفروع لا تبين قوة في ذات العلة بل ينقدح أن يقال القاصرة أوفق للنص فهي أولى
الرابع عشر: ترجيح الناقلة عن حكم العقل على المقررة لأ الناقلة أثبتت حكما شرعيا والمقررة ما أثبتت شيئا وقال قوم بل المقررة أولى لأنها معتضدة بحكم العقل الذي يستقل بالنفي لولا هذه العلة ومثاله علة تقتضي الزكاة في الخضراوات وأخرى تنفي الزكاة وعلة توجب الربا في الأرز وأخرى تنفي
فإن قيل: فلم صحت العلة المبقية على حكم الأصل ولم تفد شيئا لأنها لو لم تكن علة لكنا نبقي الحكم أيضا ؟
قلنا إن كان الأمر كذلك فلا يصح كمن علل ليدل على أن هبوب الرياح لا يوجب الصوم والوضوء بل ينبغي أن يقتضي تفصيلا لا يقتضيه العقل أو تقتضي زيادة شرط أو إطلاقا لا يقتضيه العقل كما لو نصب علة لجواز بيع غير القوت فإن تخصيص غير القوت(2/489)
عن القوت مما لا يقتضيه العقل
الخامس عشر: تقديم العلة المثبتة على النافية قال به قوم وهو غير صحيح لأن النفي الذي لا يثبت إلا شرعا كالإثبات وإن كان نفيا أصليا يرجع إلى ما قدمناه من الناقلة والمقررة وقد قال الكرخي العلة الدارئة للحد أولى من الموجبة وهذا يصح بعد ثبوت قوله عليه السلام ادرؤوا الحدود بالشبهات ولا يجري في العبادات والكفارات وما لا يسقط بالشبهات بل إذا كان للوجوب وجه وللسقوط وجه وتعارض الوجهان كان المحل محل شبهة فيسقط لعموم الخبر لا لترجيح الدارئة على الموجبة
السادس عشر: ترجيح علة هي بطريق الأولى على ما هي مثل كتعليل قبول شهادة التائب وقياسه على ما قبل إقامة حد القذف وتعليل وجوب كفارة العمد وقياسه على الخطأ وتعليل صحة النكاح عند فساد التسمية قياسا على ترك التسمية وإن كان ذلك بطريق الأولى فهو أقوى
السابع عشر: رجح قوم العلة الملازمة على التي تفارق في بعض الأحوال وهو ضعيف إذ رب لازم لا يكون علة كحمرة الخمر بل كوجود الخمر والبر
الثامن عشر:رجح قوم علة انتزعت من أصل سلم من المعارضة على علة انتزعت من أصل لم يسلم من المعارضة بمثلها
التاسع عشر: رجح قوم علة توجب حكما أخف لأن الشريعة حنيفية سمحة ورجح آخرون بالضد لأن التكليف شاق ثقيل فهذه ترجيحات ضعيفة
العشرون : ترجيح علة توجب في الفرع مثل حكمها على علة توجب في الفرع خلاف حكمها كتعليل الشافعي رحمه الله في مسألة جنين الأمة يوجب حكما مساويا للأصل في التسوية بين الذكر والأنثى وتعليل أبي حنيفة رضي الله عنه يوجب الفرق بين الذكر والأنثى في الفرع إذ أوجب في الأنثى من الأمة عشر(2/490)
قيمتها وفي الذكر نصف عشر قيمته والأصل هو جنين الحرة وفي الذكر والأنثى منه خمس من الإبل والعلة التي تقطع النظر عن الأنوثة والذكورة أولى لأنها أوفق للأصل
فهذه وجوه الترجيحات وبعضها ضعيف يفيد الظن لبعض المجتهدين دون بعض
ويمكن أن يكون وراء هذه الجملة ترجيحات من جنسها وفيما ذكرناه تنبيه عليها إن شاء الله تعالى هذا تمام القول في القطب الرابع وبه وقع الفراغ من الأقطاب الأربعة التي عليها مدار أصول الفقه وبالله التوفيق(2/491)