مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك يا من هو محمود بكل لسان حمد من اتصف بالإيمان بقوله وعمله والجنان وننزهك يا من ليس كمثله شيء فلا يشغله شأن عن شأن ولا يخلو من علمه مكان عن كل ما يصفك به أولو الزيغ والطغيان والافتراء والبهتان نصفك بما وصفت به نفسك في كتابك المنزل وبما بلغنا عن نبيك المصطفى المرسل من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تأويل ولا تعطيل ونكل علم حقيقة ذلك إليك يا واجب الوجود ويا مفيض الكرم على عبادك والجود سبحانك لا تمثلك العقول بالتفكير ولا تتوهمك القلوب بالتصوير فالخلق عاجزون عن كنه الحقيقة ولو خبروا العلم بأجمعه ودقيقه.
ونشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك شهادة مقر بالعبودية لا يجعل بينك وبينه أندادا ولا ينقاد إلا إلى شرعك الذي أوحيته إلى نبيك انقيادا ويجتهد فيما يرضيك من الاعتقاد والعمل اجتهادا عله أن يبلغ من رضاك ورحمتك مرادا وأن ترزقه في دنياه وأخراه إسعادا. ونشهد أن محمدا عبدك ورسولك خير خلقك ومهبط وحيك والمبلغ لشرعك والأمين على ما أنزلت عليه من كتابك ودينك: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران: 19] صلى الله عليه وعلى آله وصحبه عموما البررة الكرام السادة الأعلام ما سرت في ميادين الطروس وعلى جباهها الأقلام وما غردت حمائم الأيك على الصون وأطرب العيس حادي العيس بألطف الألفاظ وأعذب اللحون واستنبط من الكتاب العزيز وما صح عن المصطفى المختار أدق المعاني المستنبطون وسلم تسليما.
أما بعد فيقول الفقير لعفو ربه المنان عبد القادر بن أحمد بن مصطفى بن عبد الرحيم بن محمد المشهور كأسلافه بابن بدران أنني لما من الله علي بطلب العلم هجرت له الوطن والوسن1 وكنت أبكر فيه بكور الغراب وأطوف المعاهد لتحصيله
__________
1 الوسن: قال الله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ؛ أي لا يأخذه نعاس ولا نوم، وتأويله أنه لا يغفل عن تدبير أمر الخلق، تعالى وتقدس. [لسان العرب، مادة: وسن](1/9)
وأذهب فيه كل مذهب وأتبع فيه كل شعب ولو كان عسرا أشرف على كل يفاع1 كل غور فتارة أطوح بنفسي فيما سلكه ابن سينا في الشفار والإشارات وتارة أتلقف ما سبكه أبو نصر الفارابي من صناعة المنطق وتلك العبارات وتارة أجول في مواقف المقاصد والمواقف وأحيانا أطلب الهداية ظنا مني أنها تهدي إلى رشد فأضم إليها ما سلكه ابن رشد ثم أردد في الطبيعي والإلهي نظرا وفي تشريح الأفلاك أتطلب خبرا أو خبرا ثم أجول في ميادين العلوم مدة كعدد السبع البقرات العجاف فأرتد إلي الطرف خاسئا وهو حسير ولم أحصل من معرفة الله جل جلاله إلا على أوهام وخطرات وساوس وأشكال تنشأ من البحث والتدقيق فأدفعه بما أقنع نفسي بنفسي فلما همت في تلك البيداء التي هي على حد قول أبي الطيب:
يتلون الخريت من خوف التوى ... فيها كما تلون الحرباء
ناداني منادي الهدى الحقيقي هلم إلى الشرف والكمال ودع نجاة ابن سينا الموهومة إلى النجاة الحقيقية وما ذلك إلا بأن تكون على ما كان عليه السلف الكرام من الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان فإن الأمر ليس على ما تتوهم وحقيقة الرب لا يمكن أن يدركها المربوب وما السلامة إلا بالتسليم وكتاب الله حق وليس بعد الحق إلا الضلال فهنالك هدأ روعي وجعلت عقيدتي كتاب الله أكل علم صفاته إليه بلا تجسيم ولا تأويل ولا تشبيه ولا تعطيل وانجلى ما كان على قلبي من رأن أورثته قواعد أرسطوطاليس وقلت ما كان إلا من النظر في تلك الوساوس والبدع والدسائس فمن أين لعباد الكواكب أن يرشدونا إلى الصراط المستقيم وما كانوا مهتدين ومن أين لأصحاب المقالات أن يعلموا حقيقة قيوم الأرض والسموات ولو كانت حقيقة صفات الله تعالى تدرك بالعقول لوصل أصحاب رسائل إخوان الصفاء إلى الصفا ولاتصل صاحب النجاء والشفاء إلى النجاة وغليل لبه وشفا ولكن ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وما أوتيم من العلم إلا قليلا وأين هم من قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة
__________
1 اليافع: كل شيء مرتفع، فهو يفاع. وقيل: كل مرتفع يافع، واليفاع أيضا: المشرف من الأرض والجبل، والتل المشرف. [لسان العرب، مادة: يفع].(1/10)
وكل بدعة ضلالة" 1، لكن من اتبع هواه هام في كل واد ولم يبال بأي شعب سلك ولا بأي طريق هلك فمن ثم جعلت شغلي كتاب الله تدريسا وتفسيرا أو بسنة نبيه المختار قراءة أيضا وشرحا وتحريرا فلله الحمد على هذه المنة وأسأله الثبات على ذلك وازدياد النعمة ثم إني زججت نفسي في بحار الأصول والفروع والبحث عن الأدلة حتى لا أكون منقادا لكل قائد ولا مقلدا تقليدا أعمى لمن يقوده فإن هذه حالة لا يرضى بها الصبيان فضلا عمن أوتي شيئا من العقل ثم سبرت المذاهب المتبوعة الآن وكثيرا من غير المتبوعة فوجدت كلا منهم قدس الله أسرارهم وجعل في عليين منازلهم قد اجتهد في طلب الحق ولم يأل جهدا في طلبه ولا قصر في اجتهاده بل قام بما عهد إليه حق القيام ونصح الأمة واجتنب كل ما يشين غير أن الإمام أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه كان أوسعهم معرفة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعلم من اطلع على مسنده المشهور وأكثرهم تتبعا لمذاهب الصحابة والتابعين فلذلك كان مذهبه مؤيدا بالأدلة السمعية حتى كأنه ظهر في القرن الأول لشدة اتباعه للقرآن والسنة إلا أنه كان رحمه الله تعالى لشدة ورعه ينهى عن كتابة كلامه ليبقي باب الاجتهاد لمن هو أهل له مفتوحا وليعلم القوم أن فضل الله لا ينقطع وأن خزائنه لم تنفذ على عكس ما يدعيه القاصرون وينتحله المبطلون ولحسن نيته قيض الله من دون فتاواه وجمعها ورتبها حتى صار له مذهب مستقل معدود بين الأئمة الذين دونوا وألفوا ثم هيأ الله له أتباعا وأصحابا سلكوا في رواياته مسلك الاجتهاد كما تعلمه مما سيأتي وألفوا في ذلك المطولات والمتوسطات والمختصرات فجزاهم الله خيرا غير أنهم تركوا اصطلاحات متفرقة في غضون الكتب لا يعلمها إلا المتقنون وسلكوا مسالك لا يدركها إلا المحصلون وأصاب هذا المذهب ما أصاب غيره من تشتت كتبه حتى آلت إلى الاندراس وأكب الناس على الدنيا فنظروا إليه فإذا هو منهل سنة وفقه صحيح لا مورد مال فهجره كثير ممن كان متبعا له رجاء طلب قضاء أو وظيفة فمن ثم تقلص ظله من بلادنا السورية وخصوصا في دمشق إلا قليلا وأشرق نوره في البلاد النجدية من جزيرة العرب وهب قوم كرام منهم لطبع كتبه وأنفقوا الأموال الطائلة
__________
1 رواه ابن ماجه في المقدمة، باب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، والدارمي في المقدمة، باب: اتباع السنة، باب: في لزوم السنة، والترمذي في كتاب العلم باب: 16، وأحمد في "م4/ص 126".(1/11)
لإحياء هذا المذهب لا يطلبون بذلك إلا وجه الله تعالى ولا يقصدون إلا إحياء مذهب السلف وما كان عليه الصحابة والتابعون فجزاهم الله خيرا وأحسن إليهم على أن قوما من أولي التقليد الأعمى أسراء الوهم والخيالات الفاسدة والجهل المركب يطعنون في أولئك وينفرون الناس منهم وما ذلك إلا أن الله أراد بأولئك القوم خيرا فاظهر لهم أعداء لينشروا فضلهم من حيث لا يعلمون {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] وما هؤلاء إلا على حد ما حكاه الحافظ أبو القاسم علي بن عساكر الدمشقي في أوائل تاريخه عن أبي يحيى السكري قال دخلت مسجد دمشق فرأيت به حلقا فقلت هذا بلد دخله جماعة من الصحابة فملت إلى حلقة في صدرها شيخ جالس فجلست إليه فقال له رجل أمامه من علي بن أبي طالب فقال خفاق يعني ضعيفا كان بالعراق اجتمعت عليه جماعة فقصد أمير المؤمنين أن يحاربه فنصره الله عليه قال فاستعظمت ذلك وقمت فرأيت في جانب المسجد شيخا يصلي إلى سارية حسن السمة والصلاة والهيئة فقلت له يا شيخ أنا رجل من أهل العراق جلست إلى تلك الحلقة وقصصت عليه القصة فقال في هذا المسجد عجائب بلغني أن بعضهم يطعن على أبي محمد الحجاج بن يوسف فعلي بن أبي طالب من هو ثم جعل يبكي انتهى فهؤلاء ما عرفوا إلا عليا المركون في مخيلتهم ولم يعلموا عليا الحقيقي وكذلك الذين يطعنون على المتبعين لمذهب السلف يطعنون على قوم لا وجود لهم إلا في مخيلتهم الفاسدة وتصوراتهم المختلة ولو فهموا حقيقة القوم لانقادوا إليهم وجعلوهم أئمة هداهم ولذلك وضعت كتابي خدمة لهذا المذهب الحق ومشاركة لهم في إحيائه عله ينالني من الأجر ما ينالون ومن الخير والبركة ما يؤملون ولما رتبته وأتممته وسميته بالمدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن محمد بن حنبل وضمنته جل ما يحتاج إلى معرفته المشتغل بهذا المذهب وسلكت به مسلكا لم أجد غيري سلكه حتى صار بحيا يستحق أن يكون مدخلا لسائر المذاهب وليس على المخترع أن يستوفي جميع الأقسام بل عليه أن يفتح الباب ثم لا يخلو فيما بعد من مستحسن له يقف عند ما دونه أو مستدرك عليه بذكر ما أخل به أو مختصر له يحذف ما يراه من الزيادات يزعمه على أنه لا يمكن الإنسان أن يأتي بما يستحسنه جميع البشر فإن هذا شأن العلي الأعلى جل وعلا ورتبت هذا المدخل على ثمانية عقود عدد أبواب الجنان رجاء أن يدخلنا الله يوم القيامة منها كلها وهذه فهرست تلك العقود.(1/12)
العقد الأول: في العقائد التي نقلت عن الإمام المبجل أحمد بن محمد بن حنبل.
العقد الثاني: في السبب الذي لأجله اختار كثير من كبار العلماء مذهب الإمام أحمد على مذهب غيره.
العقد الثالث: في ذكر أصول مذهبه في استنباط الفروع وبيان طريقته.
العقد الرابع: في مسلك كبار أصحابه في ترتيب مذهبه واستنباطه من فتياه والروايات عنه وتصرفهم في ذلك الإرث المحمدي الأحمدي.
العقد الخامس: في الأصول الفقهية التي دونها الأصحاب وفي فن الجدل.
العقد السادس: فيما اصطلح عليه المؤلفون في فقه الإمام أحمد مما يحتاج إليه المبتدىء.
العقد السابع: في ذكر الكتب المشهورة في المذهب وبيان طريقة بعضها وما عليه من التعليقات والحواشي حسب الإمكان.
العقد الثامن: في أقسام الفقه عند أصحابنا وما ألف في هذا النوع وفي هذا العقد درر ورد العجز على الصدر.
وهذه طلائع تلك العقود وما أودع فيها من الفقر والدرر والله المعين.(1/13)
العقد الأول: في العقائد التي نقلت عن الإمام المبجل أحمد بن محمد بن حنبل
في العقائد التي نقلت عن الإمام المبجل أحمد بن محمد بن حنبل
...
العقد الأول
في العقائد التي نقلت عن الإمام المبجل أحمد بن محمد بن حنبل
اعلم أننا ذاكرون إن شاء الله ما كان عليه الإمام أحمد من الاعتقاد الذي هو مذهب الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسادة المحدثين رضوان الله عليهم ولسنا نذكر إلا ما نقله لنا الثقات من كلامه في هذا النوع ليستغني بذلك أتباعه عما ألف في علم العقائد عموما مما دخله التأويل والتعطيل والتشبيه والتمثيل أو حام حول الحلول والاتحاد أو كان من قبيل مغالطة الخصم في الجدل فظنه الغبي مذهبا لقائله فقلده به تقليدا أعمى فضل وأضل حيث إن مسالك الجدل غير مسالك الاعتقاد وأنت إذا طرحت(1/13)
التعصب ونظرت في كتب علماء الكلام الموثوق بهم بإنصاف وسبرت غورهم في عقائدهم تجدها راجعة إلى عقيدة السلف إما بالاضطرار وإما بصريح التصريح أو التلويح كما جرى لأبي الحسن الأشعري فإنه لما ألف الكتب في الرد على المعتزلة على طريقة فن الجدل أعلن أخيرا ببيان عقيدته في كتابه المسمى بالإنابة عن مذهب أهل الحق وصرح فيه بأن مذهبه مذهب الصحابة وتابعيهم بإحسان فمن فهم مقاصده أصبح سلفيا بحتا ومن لم يفهم موارده التقط مسائل كتبه التي رد بها على المعتزلة على علاتها وجعلها مذهبا له ونسبها إلى الأشعري وما رأيت أحدا من الأشاعرة كشف هذا المعنى ونادى بالصواب سوى الشيخ محمد بن يوسف السنوسي فإنه قال في شرح له صغير على عقيدته المشهورة المسماة بأم البراهين عند الكلام على صفة الكلام ما نصه وكنه هذه الصفة يعني صفة الكلام وسائر صفات الله جل وعز محجوب عن العقل كالذات العلية فليس لأحد أن يخوض في الكنه بعد ما يجب لذاته سبحانه أو لصفاته وما يوجد في الكتب من التمثيل بالكمال النفسي إنما هو للرد على المعتزلة حيث قالوا إن الكلام لا يوجد من غير حرف ولا صوت فقال أهل السنة إنا نجد لنا كلاما نفسيا بلا حرف ولا صوت وفيه من كلام الفصحاء.
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا.
وما قصدوا إلا التمثيل من حيث الحرف والصوت فقط أما الحقيقة فجلت صفات الله أن يماثلها شيء من صفات خلقه فإن كلامنا النفسي فيه حروف متعاقبة تنعدم وتحدث ويوجد فيه تقديم وتأخير وترتيب وغير ذلك فاعرف هذا فقد زلت هنا أقدام لم تؤيد بنور من الملك العلام هذا كلامه فقد صرح بالحق ولم يخش فيه لومة لائم ولي في هذا مسلك آخر وهو أن الأعيان إما جواهر وإما أعراض والكلام لا شك في أنه عرض يحتاج إلى محل يقوم به وهو الجوهر وهو يقتضي أن وجود الجوهر سابق على وجود العرض فإذا قلنا بالكلام النفسي لزم أن يكون ذلك العرض قائما بالجوهر وهو النفس ولزم منه إثبات النفس لله تعالى وحدوث الكلام ضرورة أن العرض حادث لا محالة وحينئذ فإما أن نبقي الكلام على ظاهره وندعي حدوث كلامه تعالى وثبوت النفسية له تعالى وهو خلاف المطلوب تنزيهه تعالى عن سمات الحوادث ويلزم منه أن الكلام صفة(1/14)
لله تعالى قائمة بذاته وهو حادث والمركب من الحادث والقديم حادث وينتج الدليل أنه تعالى حادث وهو خلاف المدعى لأنه إقامة الدليل على قدم الصفات والذات معا وإما أن نجنح إلى التأويل فنقول كلام نفسي يليق بذاته فيقال له حينئذ قل من أول الأمر وكلم الله موسى تكليما بكلام يليق بذاته تعالى واقتصر على هذا ودع عنك ذلك التطويل الذي ليس هو من شأن البلغاء والعقلاء ومثل هذا يقال في تأويل اليد بالقدرة والاستواء بالاستيلاء فإن القدرة صفة مشتركة بين الخالق والمخلوق فإذا قلت بها لزمك أن تقول قدرة تليق بذاته تعالى فاطرح هذا وقل يد تليق بذاته تعالى وأيضا فالقدرة عرض تحتاج إلى أن تقوم بالجوهر ويلزم في ذلك ما لزم في صفة الكلام من الحدوث لله تعالى وأما الاستيلاء فإن مادته تقتضي سبق مستول سابق وأن الثاني قهر الأول واستولى على ما كان مستوليا عليه فليت شعري من كان المستولي أولا على العرش حتى إن الله تعالى قهره واستولى عليه ألا يرى أن قولهم استوى بشر على العراق ينادي على أن العراق لم يكن بيد بشر بل كان في يد غيره ثم إن بشرا غلب ذلك المستولي وضم العراق إليه أفيليق بشأن عاقل أن يصف ربه بتلك الصفات تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وحيث تبين أن الحق الصراح هو مذهب السلف وأن هذا المذهب ظهر على لسان الأئمة وأخصهم بذلك الإمام أحمد بن حنبل وجب علينا أن ننقل لطلاب اليقين كلامه بنصه ليهتدوا به إلى الصراط المستقيم فنقول روى القاضي أبو يعلى محمد بن محمد بن الحسين بن خلف الفراء في الطبقات والحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي الحنبلي في كتابه مناقب الإمام أحمد وذكر القاضي برهان الدين إبراهيم بن مفلح في كتابه المقصد الأرشد أن أبا بكر أحمد بن محمد البردعي التميمي قال لما أشكل على مسدد بن مسر هد أمر الفتنة يعني في القول بخلق القرآن وما وقع فيه الناس من الاختلاف في القدر والرفض والاعتزال وخلق القرآن والإرجاء كتب إلى أحمد بن حنبل أن أكتب إلي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما ورد الكتاب على أحمد بن حنبل بكى وقال إنا لله وإنا إليه راجعون يزعم هذا البصري أنه قد أنفق على العلم مالا عظيما وهو لا يهتدي إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إليه:(1/15)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى وينهون عن الردى ويحيون بكتاب الله الموتى وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجهالة والردى فكم من قيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن آثارهم على الناس ينفون عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الضالين الذين عقدوا ألوية البدع وأطلقوا عنان الفتنة مخالفين في الكتاب يقولون على الله وفي الله تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا في كتابه بغير علم فنعوذ بالله من كل فتنة مضلة وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما أما بعد وفقنا الله وإياكم لكل ما فيه رضاه وطاعته وجنبنا وإياكم ما فيه سخطه واستعملنا وإياكم عمل الخاشعين له العارفين به الخائفين منه فإنه المسؤول ذلك وأوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم ولزوم السنة والجماعة فقد علمتم ما حل بمن خالفها وما جاء فيمن أتبعها فإنه بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله ليدخل العبد الجنة بالسنة يتمسك بها" 1، وآمركم أن لا تؤثروا على القرآن شيئا فإنه كلام الله وما تكلم الله به فليس بمخلوق وما أخبر به عن القرون الماضية فليس بمخلوق وما في اللوح المحفوظ وما في المصحف وتلاوة الناس وكيفما قرىء وكيفما وصف فهو كلام الله غير مخلوق فمن قال مخلوق فهو كافر بالله العظيم ومن لم يكفره فهو كافر ثم من بعد كتاب الله سنة نبيه صلى الله عليه وسلم والحديث عنه وعن المهديين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين من بعدهم والتصديق بما جاءت به الرسل واتباع السنة نجاة وهي التي نقلها أهل العلم كابرا عن كابر واحذروا رأي جهم فإنه صاحب رأي وكلام
__________
1 رواه الألباني في السلسلة الصحيحة "4: 209"، والسيوطي في جمع الجوامع "5002"، والمتقي الهندي في كنز العمال "6437".(1/16)
وخصومات وأما الجهمية فقد أجمع من أدركنا من أهل العلم أنهم قالوا إن الجهمية افترقت ثلاث فرق فقالت طائفة منهم القرآن كلام الله وهو مخلوق وقالت طائفة القرآن كلام الله وسكتت وهي الواقفة الملعونة وقالت طائفة منهم ألفاظنا بالقرآن مخلوقة فهؤلاء كلهم جهمية كفار يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا.
وأجمع من أدركنا من أهل العلم على أن من هذه مقالته إن لم يتب لم يناكح ولا يجوز قضاؤه ولا تؤكل ذبيحته والإيمان قول وعمل يزيد وينقص زيادته إذا أحسنت ونقصانه إذا أساءت ويخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام فإن تاب رجع إلى الإيمان ولا يخرجه من الإسلام إلا الشرك بالله العظيم أو برد فريضة من فرائض الله جاحدا لها فإن تركها كسلا أو تهاونا بها كان في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه وأما المعتزلة فقد أجمع من أدركنا من أهل العلم أنهم يكفرون بالذنب ومن كان منهم كذلك فقد زعم أن آدم كان كافرا وأن إخوة يوسف حين كذبوا أباهم عليه السلام كانوا كفارا وأجمعت المعتزلة على أن من سرق حبة فهو كافر وفي لفظ في النار تبين منه امرأته ويستأنف الحج إن كان حج فهؤلاء الذين يقولون بهذه المقالة كفارا وحكمهم ألا يكلموا ولا يناكحوا ولا تؤكل ذبائحهم ولا تقبل شهادتهم حتى يتوبوا وأما الرافضة فقد أجمع من أدركنا من أهل العلم أنهم قالوا إن عليا بن أبي طالب أفضل من أبي بكر الصديق وأن إسلام علي كان أقدم من إسلام أبي بكر فمن زعم أن عليا بن أبي طالب أفضل من أبي بكر فقد رد الكتاب والسنة يقول الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 92] فقدم الله أبا بكر بعد النبي ولم يقدم عليا وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن الله قد اتخذ صاحبكم خليلا" يعني نفسه "ولا نبي بعدي" 1 ومن زعم أن إسلام علي كان أقدم من إسلام أبي بكر فقد أخطأ لأن أبا بكر أسلم وهو يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة وعلي يومئذ ابن سبع سنين لم تجر عليه الأحكام والحدود
__________
1 رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا" ، وابن ماجه في المقدمة، باب: فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والترمذي في كتاب المناقب، باب: 15، والدارمي في كتاب الفرائض، باب: قول أبي بكر في الجد، وأحمد في "م/1 ص 270".(1/17)
والفرائض ونؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره وحلوه ومره من الله وأن الله خلق الجنة قبل خلق الخلق وخلق لها أهلا ونعيمها دائم فمن زعم أنه يبيد من الجنة شيء فهو كافر وخلق النار قبل خلق الخلق وخلق لها أهلا وعذابها دائم وأن الله يخرج أقواما من النار بشفاعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأن أهل الجنة يرون ربهم بأبصارهم لا محالة وأن الله كلم موسى تكليما واتخذ إبراهيم خليلا والميزان حق والصراط حق والأنبياء حق وعيسى ابن مريم عبد الله ورسوله وكلمته والإيمان بالحوض والشفاعة والإيمان بالعرش والكرسي والإيمان بملك الموت وأنه يقبض الأرواح ثم ترد إلى الأجساد في القبور ويسألون عن الإيمان والتوحيد والرسل والإيمان بمنكر ونكير وعذاب القبر والإيمان بالنفخ في الصور والصور قرن ينفخ فيه إسرافيل وأن القبر الذي هو بالمدينة قبر النبي صلى الله عليه وسلم معه أبو بكر وعمر وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل والدجال خارج في هذه الأمة لا محالة وينزل عيسى ابن مريم إلى الأرض فيقتله بباب لد وما أنكرته العلماء من أهل السنة من الشبهة فهو منكر واحذروا البدع كلها ولا عين تطرف بعد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من أبي بكر ولا عين تطرف بعد أبي بكر أفضل من عمر ولا بعد عمر عين تطرف أفضل من عثمان ولا بعد عثمان بن عفان عين تطرف أفضل من علي بن أبي طالب قال أحمد كنا نقول أبو بكر وعمر وعثمان ونسكت عن علي حتى صح لنا حديث ابن عمر بالتفضيل قال أحمد هم والله الخلفاء الراشدون المهديون وإنا نشهد للعشرة أنهم في الجنة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح فمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له بها ورفع اليدين في الصلاة زيادة في الحسنات والجهر بآمين عند قول الإمام ولا الضالين والصلاة على من مات من أهل هذه القبلة وحسابهم على الله عز وجل والخروج مع كل إمام خرج في غزوة وحجة والصلاة خلف كل بر وفاجر صلاة الجمعة والعيدين والدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح ولا نخرج عليهم بالسيف ولا نقاتل في الفتنة ولا نبالي على أحد من المسلمين أن يقول فلان في الجنة وفلان في النار إلا العشرة الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة والكف عن مساوىء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدثوا بفضائلهم وأمسكوا عما شجر بينهم ولا تشاور أهل البدع في دينك ولا ترافق أحدا منهم في سفرك وصفوا الله بما وصف به نفسه وانفوا عن الله ما نفاه عن نفسه واحذروا الجدال مع أصحاب الأهواء ولا نكاح إلا بولي(1/18)
وخاطب وشاهدي عدل والمتعة حرام إلى يوم القيامة والتكبير على الجنائز أربع فإن كبر الإمام خمسا فكبر معه كفعل علي بن أبي طالب قال عبد الله بن مسعود كبر ما كبر إمامك قال أحمد خالفني الشافعي فقال إن زاد على أربع تكبيرات تعاد الصلاة واحتج علي بحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على جنازة فكبر أربعا وفي رواية صلى على النجاشي فكبر أربعا وزاد ابن مفلح في المقصد الأرشد ومن طلق ثلاثا في لفظ واحد فقد جهل وحرمت عليه زوجته ولم أجد هذه الزيادة في رواية الحافظ ابن الجوزي والمسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة وصلاة الليل والنهار مثنى مثنى ولا صلاة قبل العيد وإذا دخلت المسجد فلا تجلس حتى تصلي ركعتين تحية المسجد والوتر ركعة والإقامة فرادى أحبوا أهل السنة على ما كان منهم أماتنا الله وإياكم على الإسلام والسنة ورزقنا وإياكم العلم ووفقنا وإياكم لما يحب ويرضى هذا آخر ما اتصل بنا مما كتبه الإمام إلى مسدد رحمهما الله تعالى وفي الأصول التي نقلنا عنها خلاف في بعض المسائل بحيث توجد المسألة في رواية ابن الجوزي ولم توجد فيما نقله صاحب المقصد وقد ضممنا زيادة بعض إلى بعض وأما التصريح باللعن فلم نجده إلا فيما نقله البرهان بن مفلح ولعله من زيادة الرواة فإن ورع وزهده يأبى له ذلك وبقي في هذه الرسالة مواضع تحتاج إلى بيان لا بأس بإيراده فلنذكره على شريطة التلخيص فنقول.
الموضع الأول: قول الإمام في قدم القرآن وما في المصحف وتلاوة الناس غير مخلوق معناه أن القرآن مهما تكيف بكيفية فهو كلام الله وكلامه تعالى غير مخلوق سواء كتب في المصاحف أو تكلم به التالي فإنه لا يخرج عن كونه كلام الله تعالى وإياك أن تذهب في كلامه مذهب سعد الدين مسعود التفتازاني في شرحه لعقائد النسفي حيث نسب إلى بعض الأصحاب أنهم يقولون بقدم جلد المصحف والكاغد والحبر الذي كتب به الكاغد فتكون قد أعظمت الافتراء على القوم ونسبت إليهم ما لم يقل به عاقل فضلا عن أئمة أعلام ولم تدر أن مرادهم تنزيه كلام الله تعالى عن أن ينسب إليه كونه مخلوقا فإنه مهما قرىء أو كتب فلا يخرج عن كونه كلام الله تعالى ولا يليق بأحد أن يدعي أن كلامه تعالى مخلوق فحقق هذا المقام واطرح التعصب ينور الله قلبك بنور الإيمان والعرفان.
الموضع الثاني قوله واحذروا رأي جهم أراد به جهما بن صفوان وهو من الجبرية(1/19)
الخالصة ظهرت بدعته بترمز وقتله سلم بن يمر في آخر ملك بني أمية ووافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية وزاد عليهم بأشياء منها قوله لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة تكون مشتركة بينه وبين خلقه لأن ذلك يقتضي تشبيها فقال لا يجوز أن يوصف تعالى بكونه حيا عالما وأثبت كونه قادرا فاعلا لأنه لا يوصف شيء من خلقه بالقدرة والفعل والخلق ومنها أنه أثبت لله تعالى علوما حادثة لا في محل قال لا يجوز أن يعلم الشيء قبل خلقه لأنه لو علم ثم خلق أفيبقى علمه على ما كان أو لم يبق فإن بقي فهو جهل فإن العلم بأن سيوجد غير العلم بأن قد وجد وإن لم يبق فقد تغير والمتغير مخلوق ليس بقديم ووافق في هذا مذهب هشام بن الحكم قال وإذا ثبت حدوث العلم فليس يخلو إما أن يحدث في ذاته تعالى وذلك يؤدي إلى التغير في ذاته وأن يكون محلا للحوادث وإما أن يحدث في محل فيكون المحل موصوفا به لا الباري تعالى فتعين أنه لا محل له فأثبت علوما حادثة بعدد المعلومات الموجودة ومنها قوله في القدرة الحادثة إن الإنسان ليس يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة وإنما هو مجبور في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات وينسب إليه الأفعال مجازا كما ينسب إلى الجمادات كما يقول أثمرت الشجرة وجري الماء وتحرك الحجر وطلعت الشمس وغربت وتغيمت السماء وأمطرت وأزهرت الأرض وأنبتت إلى غير ذلك والثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال جبر قال وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضا كان جبرا ومنها قوله إن حركات أهل الجنة والنار تنقطع والجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلها فيها وتلذذ أهل الجنة بنعيمها وتألم أهل النار بجحيمها إذ لا يتصور حركات لا تتناهى آخرا كما لا تتصور حركات لا تتناهى أولا وحمل قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 107] على التأكيد والمبالغة دون الحقيقة في التخليد كما يقال خلد ملك فلان واستشهد على الانقطاع بقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] فالآية اشتملت على شرطية واستثناء والخلود والتأبيد لا شرط فيه ولا استثناء ومنها قوله من أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه لم يكفر بجحده لأن العلم والمعرفة لا يزولان بالجحد فهو مؤمن قال والإيمان لا يتبعض أي لا ينقسم إلى عقد وقول وعمل قال ولا يتفاضل أهله فيه فإيمان الأنبياء وإيمان الأمة على نمط واحد إذ المعارف لا(1/20)
تتفاضل وكان السلف كلهم من أشد الرادين على جهم ونسبته إلى التعطيل المحض وهو أيضا موافق للمعتزلة في نفي رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة وفي إثبات خلق الكلام وإيجاب المعارف بالعقل قبل ورود الشرع وقد شن الغارة على جهم وأتباعه وإخوانه من المبتدعة أساطين العلماء وردوا استدلالهم وأكثر من نصب نفسه لبيان الحق والرد عليهم من طريقي العقل والنقل الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري ثم شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحراني ثم صاحبه شمس الدين محمد بن قيم الجوزية قدس الله أسرارهم فمن أراد الاطلاع على كسر جيوشهم وغلبتهم في ميدان الاستدلال فعليه بكتب هؤلاء الأعلام ولو أننا اشترطنا في كتابنا هذا الاختصار لاقتفينا أثر أولئك النجوم فاهتدينا بهم وعسانا إن شرعنا بشرح نونية ابن القيم أن نأتي بما يكفي ويشفي.
الموضع الثالث ذكر الإمام رضي الله عنه المعتزلة وهم طوائف كثيرة استوفى أقسامها من ألف في الملل والنحل كأبي منصور البغدادي وأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ولكنهم على كثرتهم يعمهم القول بأصول اتخذوها أساسا لمداركهم ونحلتهم وهي قولهم إن الله تعالى قديم والقدم أخص وصف ذاته ونفوا الصفات القديمة أصلا فقالوا هو عالم بذاته قادر بذاته لا بعلم ولا قدرة وحياة هي صفات قديمة ومعان قائمة به لأنه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف لشاركته في الألهية واتفقوا على أن كلامه محدث مخلوق في محل وهو حرف وصوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه فأينما وجد في المحل عرض فقد فني في الحال واتفقوا على أن الإرادة والسمع والبصر ليست معاني قائمة بذاتها لكن اختلفوا في وجوه وجودها ومحامل معانيها واتفقوا على رؤية الله تعالى بالأبصار في دار القرار ونفي التشبيه عنه من كل وجه جهة ومكانا وصورة وجسما وتحيزا وانتقالا وزوالا وتغيرا وتأثرا وأحبوا تأويل الآيات المتشابهة التي يشتبه فيها وسموا هذا النمط توحيدا واتفقوا على أن العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرها مستحق على ما يفعله ثوابا وعقابا في الدار الآخرة والرب منزه أن يضاف إليه شر وظلم وفعل هو كفر ومعصية لأنه لو خلق الظلم كان ظالما كما لو خلق العدل كان عادلا واتفقوا على أن الحكيم لا يفعل إلا الصلاح والخير ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد وأما الأصلح والألطف ففي وجوبه خلاف عندهم وسموا هذا النمط عدلا واتفقوا على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة(1/21)
استحق الثواب والعوض والتفضيل معنى آخر وراء الثواب وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها استحق الخلود في النار ولكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار وسموا هذا النمط وعدا ووعيدا واتفقوا على أن أصول المعرفة وشكر النعمة واجب قبل ورود السمع والحسن والقبيح يجب معرفتهما بالعقل واعتناق الحسن واجتناب القبيح واجب كذلك وورود التكاليف إلطاف للباري تعالى أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء عليهم السلام امتحانا واختبارا ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حيي عن بينة واختلفوا في الإمامة والقول فيها نصا واختيارا فهذه أصول مذاهبهم وأما الفروع فللطوائف فيها اختلاف يطول بيانه.
الموضع الرابع: ذكر الإمام رضي الله عنه الرافضة وهم أيضا فرق ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتخصيص فإنهم شايعوا عليا عليه السلام على الخصوص وقالوا بإمامته وخلافته نصا ووصاية إما جليا وإما خفيا واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده وإن خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقية من عنده قالوا وليست الإمامة قضية مصلحية تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم بل هي قضية أصولية هي ركن الدين لا يجوز للرسول عليه الصلاة والسلام إغفاله وإهماله ولا تفويضه إلى العامة وإرساله وقالوا بثبوت عصمة الأئمة وجوبا عن الكبائر والصغائر والقول بالتولي والتبري قولا وفعلا وعقدا إلا في حال التقية ويخالفهم بعض الزيدية في ذلك والإمام رضي الله عنه رد على المفضلة فقط وترفع عن أن يذكر منهم من ينسب الشيخين للاتفاق على قبيح مقاصدهم وقد أحسن ابن حزم حيث قال في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل بعد أن أتم الكلام على المرجئة والأصل في أكثر خروج هذه الطوائف عن ديانة الإسلام أن الفرس كانوا من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم وجلالة الحظير في أنفسهم حتى إنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأبناء وكانوا يعدون سائر الناس عبيدا لهم فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب وكانت العرب أقل الأمم عند الفرس خطرا تعاظمهم الأمر وتضاعفت لديهم المصيبة وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى وفي كل ذلك يظهر الله سبحانه وتعالى الحق وكان من قائمتهم ستقادة واستاسيس والمقنع وبابك وغيرهم وقبل هؤلاء رام ذلك عمار الملقب بخداش وأبو سلم السراج فرأوا أن كيد الإسلام على الحيلة أنجع فأظهر قوم منهم الإسلام واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة(1/22)
أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشناع ظلم علي رضي الله عنه ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم عن الإسلام فقوم منهم أدخلوهم إلى القول بأن رجلا ينتظر يدعى المهدي عنده حقيقة الدين إذ لا يجوز أن يؤخذ الدين من هؤلاء الكفار إذا نسبوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكفر وقوم خرجوا إلى نبوة من ادعوا له النبوة وقوم سلكوا بهم المسلك القائل صاحبه بالحلول وسقوط الشرائع وآخرون تلاعبوا فأوجبوا عليهم خمسين صلاة في كل يوم وليلة وآخرون قالوا بل هي سبع عشرة صلاة في كل صلاة خمس عشرة ركعة وهذا قول عبد الله بن عمر بن الحارث الكندي قبل أن يصير خارجيا صفريا وقد سلك هذا المسلك أيضا عبد الله بن سبأ الحميري اليهودي فإنه لعنه الله أظهر الإسلام لكيد أهله فهو كان أصل إثارة الناس على عثمان رضي الله عنه وأحرق علي بن أبي طالب رضي الله عنه منهم طوائف أعلنوا له بالألهية ومن هذه الأصول الملعونة حدثت الإسماعيلية والقرامطة وهما طائفتان مجاهرتان بترك الإسلام جملة قائلتان بالمجوسية المحضة ثم مذهب مردك الموبذ الذي كان على عهد أنوشروان ابن قيماد ملك الفرس وكان يقول بوجوب تأسي الناس في النساء والأموال.
قال ابن حزم: فإذا بلغ الناس إلى هذين الشعبين أخرجوه عن الإسلام كيف شاؤوا إذ هذا هو غرضهم فقط فالله الله عباد الله اتقوا الله في أنفسكم ولا يغرنكم أهل الكفر والإلحاد ومن موه كلامه بغير برهان لكن تمويهات ووعظ على خلاف ما أتاكم به كتاب ربكم وكلام نبيكم صلى الله عليه وسلم فلا خير فيما سواهما واعلموا أن دين الله ظاهر لا باطن فيه وجهر لا سر تحته كله برهان ولا مسامحة فيه واتهموا كل من يدعو أن يتبع بلا برهان وكل من ادعى للديانة سرا وباطنا فهي دعاوى ومخارق واعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكتم من الشريعة كلمة فما فوقها ولا اطلع أخص الناس به من زوجة أو ابنة أو عم أو ابن عم أو صاحب على شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم ولا كان عنده عليه الصلاة والسلام سر ولا رمز ولا باطن غير ما دعى الناس كلهم إليه ولو كتمهم شيئا لما بلغ كما أمر ومن قال هذا فهو كافر فإياكم وكل قول لم يبين سبيله ولا وضح دليله ولا تعوجا عن ما مضى عليه نبيكم صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم قال وجملة الخير كله أن تلتزموا ما قص عليكم ربكم تعالى في القرآن بلسان عربي مبين لم يفرط فيه من شيء تبيانا لكل شيء وما صح عن نبيكم صلى الله عليه وسلم برواية الثقات من أئمة(1/23)
أصحاب الحديث رضي الله عنهم مسندا إليه صلى الله عليه وسلم فهما طريقتان يوصلانكم إلى رضاء ربكم عز وجل هذا كلامه فقد نادى بالحق علنا وأبان عن عقيدة الفرقة الناجية فرحمه الله تعالى.
الموضع الخامس: قول الإمام رضي الله عنه كنا نقول أبو بكر وعمر وعثمان ونسكت عن علي حتى صح لنا حديث ابن عمر بالتفضيل يشير إلى أنه رضي الله عنه كان يدور مع الدليل الصحيح كيفما دار فإذا أشكل عليه سكت إلى أن يتجلى له الحق ولما كان عنده تردد في حديث ابن عمر من حيث الصحة وعدمها أطرح الميل القلبي ولم يعبأ به فلما تبين له صحته باح بمضمونه وليس سكوته أيضا إلا عن دليل فقد قال في مسنده حدثنا أبو معاوية حدثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن ابن عمر قال كنا نعد ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي وأصحابه متوافرون أبو بكر وعمر وعثمان ثم نسكت ورواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه يستغرب من حديث عبيدالله بن عمر وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن ابن عمر انتهى.
وقوله: من غير وجه أشار به إلى ما رواه الإمام أحمد فليس بغريب من هذا الوجه وأما الحديث الذي أشار إليه الإمام فإني كشفت عليه في المسند فلم أجده ولست أدري هل هو فيه فزاغ عنه البصر أم هو مفقود منه وكذلك فتشت عليه في الكتب الستة فلم أجده لكنني وجدت أن الحافظ أبا القاسم علي بن عساكر الدمشقي رواه في ترجمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه من تاريخه الكبير عن ابن عمر قال كنا نقول ورسول الله حي أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي فيبلغ ذلك رسول الله ولا ينكره وفي لفظ ثم ندع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نفاضل بينهم وحيث إن الإمام أشار إلى صحة هذا الحديث تركنا الكلام عليه اكتفاء بتوثيق إمام المحدثين وقد أخرج ابن عساكر رضي الله عنه أنه قال من فضلني على أبي بكر وعمر جلدته جلد المفتري وهل أنا إلا حسنة من حسنات أبي بكر وعمر وله كلام غير هذا ذكرته في كتابي تهذيب تاريخ ابن عساكر.
وروى الحافظ ابن الجوزي والقاضي أبو يعلى في طبقاته وبرهان الدين بن مفلح في المقصد الأرشد عن محمد بن حميد الأندراني عن الإمام أحمد أنه قال صفة المؤمن من أهل السنة والجماعة من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده(1/24)
ورسوله وأقر بجميع ما أتت به الأنبياء والرسل وعقد قلبه على ما ظهر من لسانه ولم يشك في إيمانه ولم يكفر أحدا من أهل التوحيد بذنب وأرجأ ما غاب عنه من الأمور إلى الله عز وجل وفوض أمره إلى الله ولم يقطع بالذنوب العصمة من عند الله وعلم أن كل شيء بقضاء الله وقدره الخير والشر جميعا ورجا لمحسن أمة محمد وتخوف على مسيئتهم ولم ينزل أحدا من أمة محمد الجنة بالإحسان ولا النار بذنب اكتسبه حتى يكون الله الذي ينزل بخلقه كيف يشاء وعرف حق السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه وقدم أبا بكر وعمر وعثمان وعرف حق علي بن أبي طالب وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل على سائر الصحابة فإن هؤلاء التسعة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على جبل حراء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسكن حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" 1 والنبي صلى الله عليه وسلم عاشرهم وترحم على جميع أصحاب محمد صغيرهم وكبيرهم وحدث بفضائلهم وأمسك عما شجر بينهم وصلاة العيدين والخسوف والجمعة والجماعات مع كل أمير بر أو فاجر والمسح على الخفين في السفر والحضر والقصر في السفير.
والقرآن كلام الله وتنزيله وليس بمخلوق والإيمان قول وعمل يزيد وينقص والجهاد ماض منذ بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى آخر عصابة يقاتلون الدجال لا يضرهم جور جائر
والشراء والبيع حلال إلى يوم القيامة على حكم الكتاب والسنة والتكبير على الجنائز أربعا والدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح ولا تخرج عليهم بسيفك ولا تقاتل في فتنة والزم بيتك والإيمان بعذاب القبر والإيمان بمنكر ونكير والإيمان بالحوض والشفاعة والإيمان بأن أهل الجنة يرون ربهم تبارك وتعالى والإيمان بأن الموحدين يخرجون من النار بعدما امتحشوا2 كما جاءت الأحاديث في هذه الأشياء عن النبي صلى الله عليه وسلم نؤمن بتصديقها ولا نضرب لها الأمثال هذا ما اجتمع عليه العلماء في جميع الآفاق انتهت رواية الأندراني وتليها رواية عبدوس.
__________
1 رواه أبو داود في كتاب السنة، باب: في الخلفاء. وفيه "أثبت" بدل "اسكن".
2 امتحشوا: الامتحاش: الاحتراق، والمحش: تناول من لهب محرق الجلد ويبدي العظم فيشيط أعاليه ولا ينضجه.(1/25)
روى أبو يعلى في الطبقات والخلال والحافظ ابن الجوزي في المناقب عن عبدوس بن مالك أبو محمد العطار قال سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل يقول أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم وترك البدع "وكل بدعة فهي ضلالة" 1 وترك المراء والجدال والخصومات في الدين والسنة عندنا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم والسنة تفسر القرآن وهي دلائل القرآن وليس في السنة قياس ولا تضرب لها الأمثال ولا تدرك بالعقول ولا الأهواء وإنما هو الاتباع وترك الهوى.
ومن السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقبلها ويؤمن بها لم يكن من أهلها الإيمان بالقدر خيره وشره والتصديق بالأحاديث فيه والإيمان بها ولا يقال لم ولا كيف إنما هو التصديق والإيمان بها ومن لم يعرف تفسير الحديث ويبلغه عقله فقد كفى ذلك واحكم له فعليه الإيمان به والتسليم له مثل حديث الصادق المصدوق ومثل ما كان مثله في القضاء والقدر ومثل أحاديث الرؤية كلها وإن نبت عن الأسماع واستوحش منها المستمع فإنما عليه الإيمان بها وأن لا يرد فيها حرفا واحدا وغيرها من الأحاديث المأثورات عن الثقات وأن لا يخاصم أحدا ولا يناظره ولا يتعلم الجدال فإن الكلام في القدر والرؤية والقرآن وغيرها من السنن مكروه منهي عنه لا يكون صاحبه وإن أصاب بكلامه السنة من أهل السنة حتى يدع الجدال ويسلم ويؤمن بالآثار والقرآن كلام الله وليس بمخلوق ولا يضعف أن يقول القرآن ليس بمخلوق فإن كلام الله ليس ببائن منه وليس منه شيء مخلوق وإياك ومناظرة من أحدث فيه ومن قال باللفظ وغيره ومن وقف فيه فقال لا أدري أمخلوق أو ليس بمخلوق وإنما هو كلام الله فهذا صاحب بدعة مثل من قال هو مخلوق وإنما هو كلام الله وليس بمخلوق.
والإيمان بالرؤية يوم القيامة كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحاح وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه فإنه مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح رواه قتادة عن عكرمة عن ابن عباس. ورواه الحاكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس. ورواه علي بن زيد عن
__________
1 رواه مسلم في كتاب الجمعة، باب: 43، وأبو داود في كتاب السنة، باب: في لزوم السنة، والنسائي في كتاب العيدين، باب: كيف الخطبة، وابن ماجه في المقدمة، باب: اجتناب البدع والجدل، والدارمي في المقدمة، باب: في اتباع السنة، واحمد في "م3/ص 310".(1/26)
يوسف بن مهران عن ابن عباس والحديث عندنا على ظاهره كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم والكلام فيه بدعة ولكن نؤمن به على ظاهره ولا نناظر فيه أحدا والإيمان بالميزان يوم القيامة كما جاء: "يوزن العبد يوم القيامة فلا يزن جناح بعوضة" 1 وتوزن أعمال العباد كما جاء في الأثر والتصديق به والأعراض عمن رد ذلك وترك مجادلته وإن الله يكلم العباد يوم القيامة ليس بينه وبينهم ترجمان والإيمان به والتصديق والإيمان بالحوض وأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضا يوم القيامة ترد عليه أمته عرضه مثل طوله مسيرة شهر آنيته كعدد نجوم السماء على ما صحت به الأخبار من غير وجه والإيمان بعذاب القبر وأن هذه الأمة تفتن في قبورها وتسأل عن الإيمان والإسلام ومن ربه ومن نبيه ويأتيه منكر ونكير كيف شاء الله وكيف أراد والإيمان به والتصديق به والإيمان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وبقوم يخرجون من النار بعد ما احترقوا وصاروا فحما فيؤمر بهم إلى نهر على باب الجنة كما جاء الأثر كيف يشاء وكما شاء إنما هو الإيمان به والتصديق به والإيمان بأن المسيح الدجال خارج مكتوب بين عينيه كافر والأحاديث التي جاءت فيه والإيمان بأن ذلك كائن وأن عيسى ابن مريم عليه السلام ينزل فيقتله بباب لد والإيمان قول وعمل يزيد وينقص كما جاء في الخبر: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا" 2 ومن ترك الصلاة فقد كفر وليس من الأعمال شيء تركه كفر إلا الصلاة من تركها فهو كافر وقد أحل الله قتله والنفاق هو الكفر أن يكفر بالله ويعبد غيره ويظهر الإسلام في العلانية مثل المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاث من كن فيه فهو منافق" 3 على التغليظ يروونها كما جاءت ولا نفسرها وقوله: "لا ترجعوا بعدي كفارا ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض" 4 ومثل: "إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في
__________
1 رواه البخاري في كتاب التفسير، قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} . ومسلم في كتاب المنافقين، باب: 18، والترمذي في كتاب الزهد، باب: 13، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب: مثل الدنيا، وأحمد في "م5/ ص 154".
2 رواه أبو داود في كتاب السنة، باب: الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، وأحمد في "م2/ص 250".
3 رواه النسائي في كتاب الإيمان، باب: علامة المنافق، وأحمد في "م2/ ص 198".
4 رواه البخاري في كتاب العلم، باب: الإنصات للعلماء، ومسلم في كتاب الإيمان، باب: 118، وأبو داود في كتاب السنن باب: الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، والترمذي في كتاب الفتن، باب: 28، والنسائي في كتاب التحريم، باب: تحريم القتل، وابن ماجه في =(1/27)
النار" 1 ومثل: "سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر" 2 ومثل: "من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما" 3. ومثل: "كفر بالله تعالى من تبرأ من نسب وإن دق" 4. ونحو هذه الأحاديث مما قد صح وحفظ وإنا نسلم له وإن لم نعلم تفسيرها ولا نتكلم فيه ولا نجادل فيه ولا نفسر هذه الأحاديث إلا بمثل ما جاءت لا نردها إلا بأحق منها والرجم حق على من زنا وقد أحصن إذا اعترف أو قامت عليه البينة قد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمت الخلفاء الراشدون قال ولا نشهد على أحد من أهل القبلة بعمل يعمله بجنة ولا نار نرجو للصالح ونخاف على المسيء المذنب ونرجو له رحمة الله ومن لقي الله بذنب تجب له به النار تائبا غير مصر عليه فإن الله يتوب عليه {يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى 25] ومن لقيه وقد أقيم عليه حد ذلك في الدنيا من الذنوب التي قد استوجب بها العقوبة فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له قال ومن الإيمان الاعتقاد بأن الجنة والنار مخلوقتان قد خلقتا كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة فرأيت قصرا ورأيت فيها الكوثر واطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها كذا وأطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها كذا وكذا" 5 فمن زعم أنهما لم يخلقا فهو مكذب بالقرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا
__________
= كتاب الفتن، باب: لا ترجعوا بعدي كفارا، والدارمي في كتاب المناسك، باب: في حرمة المسلم، وأحمد في "م1/ ص 230".
1 رواه البخاري في كتاب الفتن، باب: إذا التقى المسلمان بسيفيهما، ومسلم في كتاب الفتن، باب: 14، وأبو داود في كتاب الفتن، باب: النهي عن القتال في الفتنة، والنسائي في كتاب التحريم، باب: تحريم القتل، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب: إذا التقى المسلمان بسيفيهما، وأحمد "م/4 ص 401".
2 رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله الخ، ومسلم في كتاب الإيمان، باب: 116، والترمذي في كتاب البر، باب 51، والنسائي في كتاب التحريم، باب: قتال المسلم، وابن ماجه في المقدمة، باب: في الإيمان، وأحمد في "م1/ص 176".
3 رواه البخاري في كتاب الأدب، باب: من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال، ومسلم في كتاب الإيمان، باب: 111، والترمذي في كتاب الإيمان، باب: 16، والموطأ في كتاب الكلام، باب: ما يكره من الكلام، وأحمد في "م2/ ص 18".
4 رواه الدارمي في كتاب الفرائض، باب: من ادعى بغير أبيه، وأحمد في "م2/ص 215".
5 رواه البخاري في كتاب الرقاق، فضل الفقر، وفيه "أكثر أهلها فقراء" بدلا من "أكثر أهلها كثرا"، و "أكثر أهلها نساء" بدلا من "أكثر أهلها كثرا وكثرا" والترمذي في كتاب جهنم، باب: 11، وأحمد في "م1/ص 234".(1/28)
أحسبه يؤمن بالجنة والنار ومن مات من أهل القبلة موحدا نصلي عليه ونستغفر له ولا يحجب عنه الاستغفار ولا نترك الصلاة عليه لذنب أذنبه صغيرا كان أو كبيرا ونفوض أمره إلى الله عز وجل وقتال اللصوص والخوارج جائز إذا عرضوا للرجل في نفسه وماله فله أن يقاتل عن نفسه وماله ويدفع عنهما بكل ما يقدر وليس له إذا فارقوه أو تركوه أن يطلبهم ولا يتتبع آثارهم ليس لأحد إلا للإمام أو ولاة المسلمين إنما له أن يدفع عن نفسه في مقامه وينوي بجهده أن لا يقتل أحدا فإن أتى على بدنه في دفعه عن نفسه في المعركة فأبعد الله المقتول وإن قتل هذا في تلك الحال وهو يدفع عن نفسه وماله رجوت له الشهادة كما جاء في الأحاديث وجميع الآثار في هذا إنما أمر بقتاله ولم يؤمر بقتله ولا اتباعه ولا يجهز عليه إن صرع وإن كان طريحا وإن أخذه أسيرا فليس له أن يقتله ولا أن يقيم عليه الحد ولكن يرفع أمره إلى من ولاه الله فيحكم فيه والسمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر ومن ولي الخلافة من اجتمع الناس عليه ورضوه ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة ويسمى أمير المؤمنين والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة البر والفاجر لا يترك وقسمة الفيء وإقامة الحدود إلى الأئمة ماض ليس لأحد أن يطعن عليهم ولا ينازعهم ودفع الصدقات إليهم جائزة نافذة من دفعها إليهم أجزأت عنه برا كان أو فاجرا وصلاة الجمعة خلفه وخلف من ولي جائزة إمامته ركعتين من أعادهما فهو مبتدع تارك للآثار مخالف للسنة ليس له من فضل الجمعة شيء إذا لم ير الصلاة خلف الأئمة كائنين من كانوا برهم وفاجرهم فالسنة أن تصلي معهم ركعتين وتدين بأنها تامة لا يكن في صدرك شك ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد كانوا اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة بأي وجه كان بالرضا أو بالغلبة فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق انتهت رواية عبدوس وإليك غيرها.
أخرج أبو يعلى في الطبقات والحافظ ابن الجوزي في المناقب وذكر البرهان ابن(1/29)
مفلح في الطبقات عن الحسن بن إسماعيل الربعي أنه قال قال لي أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والصابر لله عز وجل تحت المحنة اجمع تسعون رجلا من التابعين وأئمة المسلمين وأئمة السلف وفقهاء الأمصار على أن السنة التي توفي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أولها الرضاء بقضاء الله تعالى والتسليم لأمره والصبر تحت حكمه والأخذ بما أمر الله به والنهي عما نهى الله عنه وإخلاص العمل لله والإيمان بالقدر خيره وشره وترك المراء والجدال والخصومات في الدين والمسح على الخفين والجهاد مع كل خليفة بر وفاجر والصلاة على من تاب من أهل القبلة والإيمان قول وعمل يزيد الطاعة وينقص بالمعصية والقرآن كلام الله منزل على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم غير مخلوق من حيث تلى والصبر تحت لواء السلطان ما كان منه من عدل أو جور ولا نخرج على الأمراء بالسيف وإن جاروا ولا نكفر أحدا من أهل التوحيد وإن عملوا بالكبائر والكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل الناس بعد رسول الله أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ابن عم رسول الله والترحم على جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه وأولاده وأصهاره رضوان الله عليهم أجمعين فهذه هي السنة الزموها تسلموا أخذها بركة وتركها ضلالة.(1/30)
روضة في كلمات للإمام في مسائل من أصول الدين
روى عنه أبو داود صاحب السنن أنه قال الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص البر كله من الإيمان والمعاصي تنقص الإيمان وروى الحافظ ابن الجوزي عن صالح بن الإمام أحمد قال تناهى إلي أن أبا طالب يحكي عن أبي أنه يقول لفظي بالمخلوق غير مخلوق فأخبرت أبي بذلك فقال من أخبرك فقلت فلان فقال ابعث إلى أبي طالب فوجهت إليه فجاء وجاء بوران فقال له إني أنا قلت لك لفظي بالقرآن غير مخلوق وغضب وجعل يرعد فقال قرأت قل هو الله أحد فقلت هذا ليس بمخلوق فقال له لم حكيت عني أني قلت لك لفظي بالقرآن غير مخلوق وبلغني أنك وضعت ذلك في كتاب وكتبت به إلى قوم فإن كان في كتابك فامحه أشد المحو واكتب إلى القوم الذين كتبت إليهم إنني لم أقل ذلك فجعل بوران يعتذر له وانصرف أبو طالب فذكر أنه قد كان حك ذلك من كتابه وأنه قد كتب إلى القوم يخبرهم أنه وهم على أبي في الحكاية هذا(1/30)
قلت ولقد وهم أبو طالب حقا فإن قول الإمام هذا ليس بمخلوق أشار به إلى المقروء وأبو طالب فهم أنه أشار به إلى ألفاظ القارىء وهذا أشد الغلط وحاشا أن يجعل لفظه بالقرآن غير مخلوق فليفهم وكان يقول في أحاديث الصفات يرونها كما جاءت وكان يقول علماء المعتزلة زنادقة وقال لابنه عبد الله لا تصل خلف من قال القرآن مخلوق فإن صلى رجل خلفه أعاد الصلاة وقال للميموني يا أبا الحسن إذا رأيت رجلا يذكر أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء فاتهمه على الإسلام وقال لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر ليصلي بالناس وقد كان في القوم من هو أقرأ منه وإنما أراد الخلافة وأخرج ابن الجوزي في المناقب وأبو يعلى في طبقاته عن عبدوس بن مالك العطار قال سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل يقول خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان نقدم هؤلاء الثلاثة كما قدمهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا في ذلك ثم من بعد هؤلاء الثلاثة أصحاب الشورى الخمسة علي والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد وكلهم يصلح للخلافة وكلهم إمام نذهب في ذلك إلى حديث ابن عمر كنا نعد ورسول الله حي وأصحابه متوافرون أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ونسكت ثم نعد أصحاب الشورى أهل بدر من المهاجرين وأهل بدر من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قدر الهجرة والسابقة أولا فأولا ثم أفضل الناس بعد هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم القرن الذي بعث فيهم كل من صحبه سنة أو شهرا أو يوما أو ساعة أو رآه فهو من أصحابه له من الصحبة على قدر ما صحبه وكانت سابقته معه وسمع منه ونظر إليه نظرة فأدناهم صحبة هو أفضل من القرن الذي لم يروه ولو لقوا الله بجميع الأعمال كان هؤلاء الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه وسمعوا منه ورآه بعينه وآمن به ولو ساعة أفضل لصحبتهم من التابعين ولو عملوا كل أعمال الخير ومن انتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبغضه لحدث كان منه أو ذكر مساويه كان مبتدعا حتى يترحم عليهم جميعا ويكون قلبه سليما.
تنبيه: أدرج أبو يعلى هذه الرواية في رواية عبدوس السابقة وأفردها ابن الجوزي ونحن تبعناه في إفرادها وكان يقول قدموا عثمان على علي وقال من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بأصحاب الشورى وقال أيضا من فضل عليا على أبي بكر فقد طعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قدم عليا على عمر فقد طعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر(1/31)
ومن قدم عليا على عثمان فقد طعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعلى المهاجرين ولا أحسب يصلح له عمل روى ابن الجوزي ذلك عن محمد بن عوف عن أحمد وروى أيضا عن عبد الله بن الإمام أحمد قال كنت بين يدي أبي جالسا ذات يوم فجاءت طائفة من الكرخية فذكروا خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان فأكثروا وذكروا خلافة علي بن أبي طالب فزادوا وأطالوا فرفع أبي رأسه إليهم فقال يا هؤلاء قد أكثرتم القول في علي والخلافة إن الخلافة لا تزين عليا بل علي يزينها قال البشاري فحدثت بهذا بعض الشيعة فقال لي قد أخرجت نصف ما كان في قلبي على أحمد بن حنبل من البغض وكان الإمام أحمد يقول ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح ما لعلي رضي الله عنه وقال من لم يثبت الإمامة لعلي فهو أضل من حمار أهله وروى ابن الجوزي عن حنبل قال قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل هل خلافة علي ثابتة فقال سبحان الله يقيم على الحدود ويقطع ويأخذ الصدقة ويقسمها بلا حق وجب له أعوذ بالله من هذه المقالة نعم هو خليفة رضية أصحاب رسول الله وصلوا خلفه وغزوا معه وجاهدوا وحجوا وكانوا يسمونه أمير المؤمنين راضين بذلك غير منكرين فنحن تبعا لهم وقال له رسل الخليفة ما تقول فيما كان من علي ومعاوية فقال لا أقول إلا الحسنى وسأله رجل من بني هاشم عن مثل ذلك فقرأ قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134] وقال له ابنه عبد الله من الرافضي فقال الذي يشتم ويسب أبا بكر وعمر وقال عبد الله سألت أبي عن رجل شتم رجلا من أصحاب رسول الله فقال ما أراه على الإسلام.(1/32)
شذرة أيضا في كلامه في الأصول
أخرج ابن الجوزي عن أحمد بن محمد بن هانىء الطائي المعروف بالأثرم قال سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول إنما هو السنة والاتباع وإنما القياس يقيس على أصل ثم يجيء إلى الأصل فيهدمه ثم يقول هذا قياس فعلى أي شيء كان هذا القياس وقيل له لا ينبغي أن يقيس إلا رجل عالم كبير يعرف نسبة الشيء بالشيء معرفة كثيرة فقال أجل لا ينبغي قال الأثرم وسمعت أبا عبد الله يقول إذا كان في المسألة(1/32)
عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث لم نأخذ فيها بقول أحد من الصحابة ولا بقول من بعدهم وإذا كان في المسألة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قول مختلف نتخير من أقاويلهم ولا نأخذ بقول من بعدهم وإذا لم يكن فيها حديث ولا قول لأحد من الصحابة نتخير من أقوال التابعين وربما كان الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي إسناده شيء فنأخذ به إذا لم يجىء خلافه قال أخذنا بالحديث المرسل إذا لم يجىء خلافه وروى محمد بن عوف بن سفيان الطائي الحمصي عن الإمام أحمد مقالة طويلة في الاعتقاد حكاها عنه أبو يعلى في الطبقات لكنها لما كانت مسائلها قد تضمنتها رسالتي مسدد وعبدوس أضربنا عن ذكرها خوف التطويل.
وروى أبو يعلى في ترجمة أحمد بن يعقوب الفارسي الأصطخري عنه رسالة مطولة عن الإمام أحمد ونحن ننقلها هنا وإن كان فيها تكرار لما مضى فإن المكرر أحلى.
قال الأصطخري قال أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروقها المعروفين بها المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وأدركت من أدركت من علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو أعاب قائلها فهو مبتدع خارج من الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق وكان قولهم إن الإيمان قول وعمل ونية وتمسك بالسنة والإيمان يزيد وينقص ويستثنى في الإيمان غير أن لا يكون الاستثناء شكا إنما هي سنة عند العلماء ماضية قال وإذا سئل رجل أمؤمن أنت فإنه يقول أنا مؤمن إن شاء الله أو مؤمن أرجو أو يقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله أن الإيمان قول بلا عمل فهو مرجىء ومن زعم أن الإيمان هو القول والأعمال شرائع فهو مرجىء ومن زعم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص فقد قال بقول المرجئة ومن لم ير الاستثناء في الإيمان فهو مرجىء ومن زعم أن إيمانه كإيمان جبريل والملائكة فهو مرجىء قال ومن زعم أن المعرفة تنفع في القلب لا يتكلم بها فهو مرجىء قال والقدر خيره وشره وقليله وكثيره وظاهره وباطنه وحلوه ومره ومحبوبه ومكروهه وحسنه وقبيحه وأوله وآخره من الله قضاء قضاه وقدرا قدره عليهم لا يعدو أحد منهم مشيئة الله عز وجل ولا يجاوز قضاءه بل هم كلهم صائرون(1/33)
إلى ما خلقهم له واقعون فيما قدر عليهم لأفعاله وهو عدل منه عز وجل والزنا والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس وأكل المال الحرام والشرك بالله والمعاصي كلها بقضاء وقدر من غير أن يكون أحد من الخلق على الله حجة بل لله الحجة البالغة على خلقه {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] علم الله تعالى ماض في خلقه بمشيئة منه قد علم من إبليس ومن غيره ممن عصاه من لدن أن عصي تبارك وتعالى إلى أن تقوم الساعة المعصية وخلقهم لها وعلم الطاعة من أهل الطاعة وخلقهم لها وكل يعمل لما خلق له وصائر إلى ما قضي عليه وعلم منه لا يعدو أحد منهم قدر الله ومشيئته والله الفاعل لما يريد الفعال لما يشاء ومن زعم أن الله شاء لعباده الذين عصوه الخير والطاعة وأن العباد شاءوا لأنفسهم الشر والمعصية فعملوا على مشيئتهم فقد زعم أن مشيئة العباد أغلظ من مشيئة الله تبارك وتعالى فأي افتراء أكبر على الله عز وجل من هذا ومن زعم أن الزنا ليس بقدر قيل له أرأيت هذه المرأة إن حملت من الزنا وجاءت بولد هل شاء الله عز وجل أن يخلق هذا الولد وهل مضى في سابق علمه فإن قال لا فقد زعم أن مع الله خالقا وهذا هو الشرك صراحا ومن زعم أن السرقة وشرب الخمر وأكل المال الحرام ليس بقضاء وقدر فقد زعم أن هذا الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره وهذا صراح قول المجوسية بل أكل رزقه وقضى الله أن يأكله من الوجه الذي أكله ومن زعم أن قتل النفس ليس بقدر من الله عز وجل فقد زعم أن المقتول مات بغير أجله وأي كفر أوضح من هذا بل ذلك بقضاء الله عز وجل وذلك بمشيئته في خلقه وتدبيره فيهم وما جرى من سابق علمه فيهم وهو العدل الحق الذي يفعل ما يريد ومن أقر بالعلم لزمه الإقرار بالقدرة والمشيئة على الصغر والقمأ1 ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النار لذنب عمله ولا لكبيرة أتاها إلا أن يكون في ذلك كما جاء على ما روي بصدقة ونعلم أنه كما جاء ولا ننص الشهادة والخلافة في قريش ما بقي من الناس اثنان ليس لأحد من الناس أن ينازعهم فيها ولا يخرج عليهم ولا يقر لغيرهم بها إلى قيام الساعة والجهاد ماض قائم مع الأئمة بروا أو فجروا لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل والجمعة والعيدين والحج مع السلطان وإن لم يكونوا بررة ولا أتقياء ولا عدولا.
__________
1 القمأ: الذل والصغر، يقال: رجل قميء: ذليل على فعيل أقمأته: أي صغرته وذللته.(1/34)
ودفع الصدقات والخراج والأعشار والفيء والغنائم إلى الأمراء عدلوا فيها أم جارو والانقياد إلى من ولاه الله أمركم لا تنزع يدا من طاعته ولا تخرج عليه بسيفك حتى يجعل الله لك فرجا ومخرجا ولا تخرج على السلطات وتسمع وتطيع ولا تنكث بيعة فمن فعل ذلك فهو مبتدع مخالف مفارق للجماعة وإن أمرك السلطان بأمر هو لله معصية فليس لك أن تطيعه ألبتة وليس لك أن تخرج عليه ولا تمنعه حقه والإمساك في الفتنة سنة ماضية واجب لزومها فإن ابتليت فقدم نفسك دون دينك ولا تعن على الفتنة ولا بلسان ولكن اكفف يدك ولسانك وهواك والله المعين والكف عن أهل القبلة ولا تكفر أحدا منهم بذنب ولا تخرجه من الإسلام بعمل إلا أن يكون في ذلك حديث فيروى الحديث كما جاء وكما روي ونصدقه ونقبله ونعلم أنه كما روي نحو ترك الصلاة وشرب الخمر وما أشبه ذلك أو يبتدع بدعة ينسب صاحبها إلى الكفر والخروج من الإسلام فاتبع الأثر في ذلك ولا تجاوزه والأعور الدجال خارج لا شك في ذلك ولا ارتياب وهو أكذب الكاذبين وعذاب القبر حق يسأل العبد عن دينه وعن ربه وعن الجنة وعن النار ومنكر ونكير حق وهما فتانا القبر فنسأل الله الثبات وحوض محمد صلى الله عليه وسلم حق ترده أمته وله آنية يشربون بها منه والصراط حق وضع على سواء جهنم ويمر الناس عليه والجنة من وراء ذلك نسأل الله السلامة.
والميزان حق توزن به الحسنات والسيئات كما شاء الله أن توزن والصور حق ينفخ فيه إسرافيل فيموت الخلق ثم ينفخ فيه الأخرى فيقومون لرب العالمين والحساب والقضاء والثواب والعقاب والجنة والنار واللوح المحفوظ تستنسخ منه أعمال العباد سبق فيه من المقادير والقضاء والقلم حق كتب الله به مقادير كل شيء وأحصاه في الذكر تبارك وتعالى والشفاعة يوم القيامة حق يشفع قوم في قوم فلا يصيرون إلى النار ويخرج قوم من النار بعد ما دخلوها بشفاعة الشافعين ويخرج قوم من النار بعد ما دخلوها ولبثوا فيها ما شاء الله ثم يخرجهم من النار وقوم يخلدون فيها أبدا أبدا وهم أهل الشرك والتكذيب والجحود والكفر بالله عز وجل ويذبح الموت يوم القيامة بين الجنة والنار وقد خلقت الجنة وما فيها والنار وما فيها خلقهما الله عز وجل وخلق الخلق لهما ولا يفنيان ولا يفنى ما فيهما أبدا فإن احتج مبتدع أو زنديق بقول الله عز وجل: {كُلُّ(1/35)
شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] ونحو هذا من متشابه القرآن قيل له كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك والجنة والنار خلقا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك وهما من الآخرة لا من الدنيا والحور العين لا يمتن عند قيام الساعة ولا عند النفخة ولا أبدا لأن الله عز وجل خلقهن للبقاء لا للفناء ولم يكتب عليهن الموت فمن قال خلاف هذا فهو مبتدع وقد ضل عن سواء السبيل وخلق سبع سموات بعضها فوق بعض وسبع أرضين بعضها أسفل من بعض وبين الأرض العلياء والسماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة عام والماء فوق السماء العليا السابعة وعرش الرحمن عز وجل فوق الماء والله عز وجل على العرش والكرسي موضع قدميه وهو يعلم ما في السموات والأرضين السبع وما بينهما وما تحت الثرى وما في قعر البحار ومنبت كل شعرة وشجرة وكل زرع وكل نبات ومسقط كل ورقة وعدد كل كلمة وعدد الحصا والرمل والتراب ومثاقيل الجبال وأعمال العباد وآثارهم وكلامهم وأنفاسهم ويعلم كل شيء لا يخفى عليه من ذلك شيء وهو على العرش فوق السماء السابعة ودونه حجب من نار وظلمة وما هو أعلم بها فإن احتج مبتدع ومخالف بقول الله عز وجل: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] وبقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] ونحو هذا من متشابه القرآن فقل إنما يعني بذلك العلم لأن الله تعالى على العرش فوق السماء السابعة العليا يعلم ذلك كله وهو بائن من خلقه لا يخلو من علمه مكان ولله عز وجل عرش وللعرش حملة يحملونه والله عز وجل على عرشه وليس له حد والله أعلم بحده والله عز وجل سميع لا يشك بصير لا يرتاب عليم لا يجهل جواد لا يبخل حليم لا يعجل حفيظ لا ينسى يقظان لا يسهو قريب لا يغفل يتحرك ويتكلم وينظر ويبسط ويضحك ويفرح ويحب ويكرم ويبغض ويرضى ويغضب ويسخط ويرحم ويعفو ويعطي ويمنع وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف يشاء: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ويوعيها ما أراد وخلق آدم بيده على صورته والسموات والأرض يوم القيامة في كفه ويضع قدمه في النار فتنزوي ويخرج قوما من النار بيده وينظر إلى وجهه أهل الجنة يرونه فيكرمهم ويتجلى لهم فيعطيهم وتعرض عليه العباد يوم القيامة ويتولى حسابهم بنفسه لا يلي ذلك غيره عز(1/36)
وجل.والقرآن كلام الله تكلم به ليس بمخلوق ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو جهمي كافر ومن زعم أن القرآن كلام الله ووقف ولم يقل ليس بمخلوق فهو أخبث من قول الأول ومن زعم أن ألفاظنا به وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي ومن لم يكفر هؤلاء القوم كلهم فهو مثلهم {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164] من فيه وناوله التوراة من يده إلى يده ولم يزل الله عز وجل متكلما {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] والرؤيا من الله عز وجل وهي حق إذا رأى صاحبها شيئا في منامه ما ليس هو صعب فقصها على عالم وصدق فيها وأولها العالم على أصل تأويلها الصحيح ولم يحرف فالرؤيا تأويلها حينئذ حق وقد كانت الرؤيا من الأنبياء عليهم السلام وحيا فأي جاهل أجهل ممن يطعن في الرؤيا ويزعم أنها ليست بشيء وبلغني أن من قال هذا القول لا يرى الاغتسال من الاحتلام وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن رؤيا المؤمن كلام يكلم الرب عبده" 1 وقال: "إن الرؤيا من الله عز وجل" 2. وبالله التوفيق.
ومن الحجة الواضحة الثابتة البينة المعروفة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين والكف عن ذكر مساويهم التي شجرت بينهم فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحدا منهم أو تنقص أو طعن عليهم أو عرض بعيبهم أو عاب واحدا منهم فهو مبتدع رافضي خبيث مخالف لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا بل حبهم سنة والدعاء لهم قربة والاقتداء بهم وسيلة والأخذ بآثارهم فضيلة وخير الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر بعد أبي بكر وعثمان بعد عمر وعلي بعد عثمان ووقف قوم على عثمان وهم خلفاء راشدون مهديون ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الأربعة خير الناس لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا بنقص فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفو عنه بل يعاقبه ويستتيبه فإن تاب قبل منه وإن ثبت أعاد عليه العقوبة وخلده في الحبس حتى يموت أو
__________
1 رواه البخاري في كتاب التعبير، باب: الرؤيا من الله، ومسلم في كتاب الرؤيا، باب: 3، والترمذي في كتاب الدعوات، باب: 52، وابن ماجه في كتاب الرؤيا، باب: الرؤيا ثلاثة وأحمد في "م3/ص 8". بما معناه.
2 رواه أحمد في "م5/ص 309".(1/37)
يراجع.ونعرف للعرب حقها وفضلها وسابقتها ونحبهم لحديث النبي صلى الله عليه وسلم فإن حبهم إيمان وبغضهم نفاق ولا نقول بقول الشعوبية وأراذل الموالي الذين لا يحبون العرب ولا يقرون لها بفضل فإن لهم بدعة ونفاقا وخلافا ومن حرم من المكاسب والتجارات وطيب المال من وجهه فقد جهل وأخطأ وخالف بل المكاسب من وجهها حلال قد أحلها الله عز وجل ورسول الله صلى الله عليه وسلم والرجل ينبغي له أن يسعى على نفسه وعياله من فضل ربه فإن ترك ذلك على أنه لا يرى الكسب فهو مخالف وكل أحد أحق بماله الذي ورثه واستفاده أو أوصى به أو كسبه لا كما يقول المتكلمون المخالفون والدين إنما هو كتاب الله عز وجل وآثار وسنن وروايات صحاح عن الثقات الصحيحة القوية المعروفة يصدق بعضها بعضا حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم والتابعين وتابع التابعين أو من بعدهم من الأئمة المعروفين المقتدى بهم المتمسكين بالسنة والمتعلقين بالآثار لا يعرفون بدعة ولا يطعن فيهم بكذب ولا يرمون بخلاف وليسوا أصحاب قياس ولا رأي لأن القياس في الدين باطل والرأي كذلك وأبطل منه وأصحاب الرأي والقياس في الدين مبتدعة ضلال إلا أن يكون في ذلك أثر عمن سلف من الأئمة الثقات ومن زعم أنه لا يرى التقليد ولا يقلد دينه أحدا فهو قول فاسق عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إنما يريد بذلك إبطال الأثر وتعطيل العلم والسنة والتفرد بالرأي والكلام والبدعة والخلاف وهذه المذاهب والأقاويل التي وصفت مذاهب أهل السنة والجماعة والآثار وأصحاب الروايات وحملة العلم الذين أدركناهم وأخذنا عنهم الحديث وتعلمنا منهم السنن وكانوا أئمة معروفين ثقات أصحاب صدق يقتدى بهم ويؤخذ عنهم ولم يكونوا أصحاب بدعة ولا خلاف ولا تخليط وهو قول أئمتهم وعلمائهم الذين كانوا قبلهم فتمسكوا بذلك رحمكم الله وتعلموه وعلموه وبالله التوفيق.
ولأصحاب البدع ألقاب وأسماء لا تشبه أسماء الصالحين ولا العلماء من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومن أسمائهم:
المرجئة: وهم الذين يزعمون أن الإيمان قول ولا عمل وأن الإيمان قول والأعمال شرائع وأن الإيمان مجرد وأن الناس لا يتفاضلون في إيمانهم وأن إيمان الملائكة والأنبياء واحد وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وأن الإيمان ليس فيه استثناء،(1/38)
وأن من آمن بلسانه ولم يعمل فهو مؤمن حقا هذا قول المرجئة وهو أخبث الأقاويل وأضلها وأبعدها من الهدى.
والقدرية: وهم الذين يزعمون أن إليهم الاستطالة والمشيئة والقدرة وأنهم يملكون لأنفسهم الخير والشر والضر والنفع والطاعة والمعصية والهدى والضلالة وأن العباد يعلمون بديا من غير أن يكون سبق لهم ذلك من الله عز وجل أو في علم وقولهم يضارع المجوسية والنصرانية وهو أصل الزندقة.
والمعتزلة: وهم يقولون قول القدرية ويدينون بدينهم ويكذبون بعذاب القبر والشفاعة والحوض ولا يرون الصلاة خلف أحد من أهل القبلة ولا الجمعة إلا من كان على هواهم ويزعمون أن أعمال العباد ليست في اللوح المحفوظ.
والنصيرية: وهم قدرية وهم أصحاب الجنة والقيراط والذين يزعمون أن من أخذ حبة أو قيراطا أو دانقا حراما فهو كافر وقولهم يضاهي قول الخوارج.
والجهمية: أعداء الله وهم الذين يزعمون أن القرآن مخلوق وأن الله لم يكلم موسى وأن الله ليس بمتكلم ولا يتكلم ولا ينطق وكلاما كثيرا أكره حكايته وهم كفار زنادقة أعداء الله.
والواقفة: يزعمون أن القرآن كلام الله ولكن ألفاظنا بالقرآن وقرائتنا له مخلوقة وهم جهمية فساق.
والرافضة: وهم الذين يتبرأون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويسبونهم وينتقصونهم ويكفرون الأئمة الأربعة إلا علي وعمار والمقداد وسليمان وليست الرافضة من الإسلام في شيء.
والمنصورية: وهم رافضة أخبث من الروافض وهم الذين يقولون من قتل أربعين نفسا ممن خالف هواهم دخل الجنة وهم الذين يخيفون الناس ويستحلون أموالهم وهم الذين يقولون أخطأ جبريل عليه السلام بالرسالة وهذا هو الكفر الواضح الذي لا يشوبه إيمان فنعوذ بالله منه.(1/39)
والسبائية: وهم رافضة وهم قريب ممن ذكرت يخالفون الأئمة كذابون وصنف منهم يقولون علي في السحاب وعلي يبعث قبل يوم القيامة وهذا كذب وزور وبهتان.
والزيدية: وهم رافضة وهم الذين يتبرأون من عثمان وطلحة والزبير وعائشة ويرون القتال مع كل من خرج من ولد علي رضي الله عنه برا كان أو فاجرا حتى يغلب أو يقتل.
والخشبية: وهم يقولون بقول الزيدية وهم فيما يزعمون ينتحلون آل محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا بل هم المبغضون لآل محمد صلى الله عليه وسلم دون الناس إنما الشيعة لآل محمد المتقون أهل السنة والأثر من كانوا وحيث كانوا الذين يحبون آل محمد صلى الله عليه وسلم وجميع أصحاب محمد لا يذكرون أحدا منهم بسوء ولا عيب ولا منقصة فمن ذكر أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بسوء أو طعن عليهم أو تبرأ من أحد منهم أو سبهم أو عرض بشتمهم فهو رافضي خبيث مخبث.
وأما الخوارج: فمرقوا من الدين وفارقوا الملة وشردوا عن الإسلام وشذوا عن الجماعة فضلوا عن السبيل والهدى وخرجوا على السلطان وسلوا السيف على الأئمة واستحلوا دماءهم وأموالهم وأبعدوا من خالفهم إلا من قال بقولهم وكان على مثل قولهم ورأيهم وثبت معهم في بث ضلالتهم وهم يشتمون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأصهاره وأختانه ويتبرأون منهم ويرمونهم بالكفر والعظائم ويرون خلافهم في شرائع الإسلام ولا يؤمنون بعذاب القبر ولا الحوض ولا الشفاعة ولا خروج أحد من النار ويقولون من كذب كذبة أو أتى صغيرة أو كبيرة من الذنوب فمات من غير توبة فهو في النار خالدا مخلدا أبدا وهم يقولون بقول البكرية في الحبة والقيراط وهم قدرية جهمية مرجئة رافضة لا يرون الجماعة إلا خلف إمامهم وهم يرون الصوم قبل رؤية الهلال والفطر قبل رؤيته وهم يرون النكاح بغير ولي ولا سلطان ويرون المتعة دينهم ويرون الدرهم بدرهمين يدا بيد ولا يرون الصلاة في الأخفاف ولا المسح عليها ولا يرون للسلطان عليهم طاعة ولا لقرشي عليهم خلافة وأشياء كثيرة يخالفون عليها الإسلام وأهله وكفى بقوم ضلالة يكون هذا رأيهم ومذهبهم ودينهم وليسوا من الإسلام في شيء.
ومن أسماء الخوارج الحرورية: وهم أصحاب حرروا والأزارقة: وهم أصحاب(1/40)
نافع بن الأزرق وقولهم أخبث الأقاويل وأبعده من الإسلام والسنة والنجدية وهم أصحاب نجدة بن عامر الحروري والأباضية وهم أصحاب عبد الله بن إباض والصفرية وهم أصحاب داود بن النعمان والمهلبية والحارثية والحازمية كل هؤلاء خوارج فساق مخالفون للسنة خارجون من الملة أهل بدعة وضلالة والشعبية أو الشعوبية وهم أصحاب بدعة وضلالة وهم يقولون إن العرب والموالي عندنا واحد لا يرون للعرب حقا ولا يعرفون لهم فضلا ولا يحبونهم بل يبغضون العرب ويظهرون لهم الغل والحسد والبغضة في قلوبهم وهذا قول قبيح ابتدعه رجل من أهل العراق فتابعه يسير فقتل عليه.
وأصحاب الرأي وهم مبتدعة ضلال أعداء السنة والأثر يبطلون الحديث ويردون على الرسول صلى الله عليه وسلم ويتخذون صاحب الرأي ومن قال بقوله إماما ويتدينون بدينهم وأي ضلالة أبين ممن قال بهذا وترك قول الرسول وأصحابه ويتبع صاحب الرأي وأصحابه فكفى بهذا غيا مرديا وطغيانا والولاية بدعة والبراءة بدعة وهم الذين يقولون نتولى فلانا ونتبرأ من فلان وهذا القول بدعة فاحذروه فمن قال بشيء من هذه الأقاويل أو رآها أو صوبها أو رضيها أو أحبها فقد خالف السنة وخرج من الجماعة وترك الأثر وقال بالخلاف ودخل في البدعة وزل عن الطريق وما توفيقنا إلا بالله.
وقد رأيت لأهل البدع والأهواء والخلاف أسماء مشنعة قبيحة يسمون بها أهل السنة يريدون بذلك عيبهم والطعن عليهم والوقعية فيهم والإزراء بهم عند السفهاء والجهال فأما المرجئة فإنهم يسمون أهل السنة شكاكا وكذبت المرجئة بل هم بالشك أولى وبالتكذيب أشبه وأما القدرية فإنهم يسمون أهل السنة والإيمان مجبرة وكذبت القدرية بل هم أولى بالتكذيب والخلاف ألغوا قدر الله عز وجل عن خلقه وقالوا ليس له بأهل تبارك وتعالى وأما الجهمية فإنهم يسمون أهل السنة المشبهة وكذبت الجهمية أعداء الله بل هم أولى بالنسبة والتكذيب افتروا على الله عز وجل الكذب وقالوا الإفك والزور وكفروا بقولهم وأما الرافضة فإنهم يسمون أهل السنة الناصبة وكذبت بل هم أولى بهذا لإنصابهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسب والشتم وقالوا فيهم بغير الحق ونسبوهم إلى غير العدل كفرا وظنا وجرأة على الله تعالى واستخفافا بحق الرسول صلى الله عليه وسلم والله أولى بالتعيير(1/41)
والانتقام منهم. وأما الخوارج فإنهم يسمون أهل السنة والجماعة مرجئة وكذبت الخوارج في قولهم بل هم المرجئة يزعمون أنهم على إيمان وحق دون الناس ومن خالفهم كافر وأما أصحاب الرأي فإنهم يسمون أهل السنة ثابتية وحشوية وكذب أصحاب الرأي أعداء الله بل هم الثابتية والحشوية تركوا آثار الرسول وحديثه وقالوا بالرأي وقاسوا الدين بالاستحسان وحكموا خلاف الكتاب والسنة وهم أصحاب بدعة جهلة ضلال وطلاب دنيا بالكذب والبهتان رحم الله عبدا قال بالحق واتبع الأثر وتمسك بالسنة واقتدى بالصالحين.
اللهم ادحض باطل المرجئة وأوهن كيد القدرية وأزل دولة الرافضة وامحق سنة أصحاب الرأي واكفنا مؤنة الخارجية وعجل الانتقام من الجهمية.
انتهى ما رواه أبو يعلى في طبقاته عن الأصطخري ولم أجد هذه الرسالة في المناقب لابن الجوزي وذكر البرهان ابن مفلح صدرها في طبقاته وفي هذه الرسالة حط على بعض الأئمة ولم يقصد بذلك تنقيصهم ولكن سبيله في ذلك على ما قاله الحافظ ابن الجوزي وقد كان الإمام أحمد لشدة تمسكه بالسنة ونهيه عن البدعة يتكلم في جماعة من الأخيار إذا صدر منهم ما يخالف السنة وكلامه في ذلك محمول على النصيحة في الدين ثم روي عنه أنه طلب من إسماعيل بن إسحاق السراج أن يسمعه كلام الحارث المحاسبي فأحضر إسماعيل بشرا وأجلسه في مكان مع أصحابه بحيث يسمعه الإمام أحمد وكان ذلك ليلا فتكلم من نصف الليل إلى الصباح فلما انقضى كلامه قال له إسماعيل كيف رأيت هؤلاء يا أبا عبد الله فقال ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء في علوم الحقائق ولا سمعت مثل كلام هذا الرجل وعلى ما وصفت من أحوالهم ولا أرى لك صحبتهم وروى عنه ابن الجوزي أنه قال من رد حديث رسول الله فهو على شفا هلكة وإنما كان ينهى عن الرأي ليتوفر الناس على النقل وقال لعثمان بن سعيد لا تنظر في كتب أبي عبيد ولا فيما وضع إسحاق وسفيان ولا الشافعي ولا مالك وعليك بالأصل وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء سألته عن كتب أبي ثور فقال كتاب ابتدع فيه بدعة عليكم بالحديث وقال له رجل أكتب كتب الرأي فقال لا قال فابن المبارك قد كتبها فقال إن ابن المبارك لم ينزل من السماء إنما أمرنا أن نأخذ العلم من(1/42)
فوق قال ابن الجوزي وكان ينهى عن كتابة كلامه فنظر الله إلى حسن قصده فنقلت ألفاظه وحفظت فقل أن تقع مسألة إلا وله فيها نص من الفروع والأصول وربما عدمت في تلك المسألة نصوص الفقهاء الذين صنفوا وجمعوا فرضي الله عنه وأرضاه آمين.(1/43)
العقد الثاني: في السبب الذي لأجله اختار كثير من كبار العلماء مذهبي الإمام أحمد على مذهب غيره
...
العقد الثاني:
في السبب الذي لأجله اختار كثير من كبار العلماء مذهب الإمام أحمد على مذهب غيره
هذا العقد له مدخل عظيم لمن يريد التمذهب بمذهب أحمد وما ذلك إلا لأن الداخل على بصيرة في شيء أعقل من الداخل فيه على غير بصيرة وأبعد عن التعصب والتقليد المحض وكل إنسان يختار لمطعمه وملبسه وحوائجه الضرورية فلإن يختار ويحتاط لدينه أولى ولما كان المقلد لا رأي له ولا ترجيح وإنما نصيبه من العلم أن يقول قالوا فقلنا أثبتنا له هذا العقد ليزين به ونصبنا له هذا السلم أملا بأنه إن ترك التعصب الذميم والجهل المركب ارتقى قليلا إلى درجات أوائل العلم ولاح له لمعان من نور الهدى فيجره اختيار المذهب إلى اختيار بعض الفروع بالدليل والبرهان فيكون حينئذ من المفلحين ويتزحزح عن نار الغفلة والتقليد الأعمى المذموم على لسان كل عاقل له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وإليك بيان ما نوهنا به وأشرنا إليه.
قال الإمام الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي أحد المجتهدين في مذهب أحمد في كتاب المناقب في الباب السابع والتسعين منه اعلم وفقك الله أنه مما يتبين الصواب في الأمور المشتبهة لمن أعرض عن الهوى والتفت عن العصبية وقصد الحق بطريقه ولم ينظر في أسماء الرجال ولا في صيتهم فذلك الذي ينجلي له غامض المشتبه فأما من مال به الهوى فعسير تقويمه واعلم أننا نظرنا في أدلة الشرع وأصول الفقه وسبرنا أحوال الأعلام المجتهدين فرأينا هذا الرجل يعني الإمام أحمد أوفرهم حظا من تلك العلوم فإنه كان من الحافظين لكتاب الله عز وجل وقرأه على أساطين أهل زمانه وكان لا يميل شيئا في القرآن ويروي قوله صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن فخما ففخموه" 1.
__________
1 رواه الحاكم في المستدرك "2: 231". والسيوطي في الدر المنثور "6: 303"، والمنتقي الهندي في كنز العمال "3089".(1/43)
وكان لا يدغم شيئا في القرآن إلا اتخذتم وبابه كأبي عمر ويمد مدا متوسطا وكان رضي الله عنه من المصنفين في فنون علوم القرآن من التفسير والناسخ والمنسوخ والمقدم والمؤخر في القرآن وجوابات القرآن والمسند وهو ثلاثون ألف حديث وكان يقول لابنه عبد الله احتفظ بهذا المسند فإنه سيكون للناس إماما والتاريخ وحديث شعبة والمناسك الكبير والصغير وأشياء أخر وقال عبد الله قرأ علينا أبي المسند وما سمعه منه غيرنا وقال لنا هذا كتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة ألف حديث فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا إليه فإن وجدتموه فيه وإلا فليس بحجة.
قال ابن الجوزي وأما النقل فقد سلم الكل له بانفراده فيه بما لم ينفرد به سواه من الأئمة من كثرة محفوظه منه ومعرفة صحيحة من سقيمه وفنون علومه وقد ثبت أنه ليس في الأئمة الأعلام قبله من له حظ في الحديث كحظ مالك ومن أراد مقام معرفة أحمد في ذلك من مقام مالك فلينظر فرق ما بين المسند والموطأ وقال ابنه عبد الله سمعت أبا زرعة يقول كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث بتكرير الألف مرتين فقيل له وما يدريك قال ذاكرته فأخذت عليه الأبواب وقيل لأبي زرعة من رأيت من المشايخ المحدثين أحفظ فقال أحمد بن حنبل حزمت كتبه في اليوم الذي مات فيه فبلغت اثني عشر حملا وعزل ما كان على ظهر كتاب منها حديث فلان وفي بطنها حدثنا فلان وكل ذلك كان يحفظه أحمد عن ظهر قلبه قال ابن الجوزي وقد كان أحمد يذكر الجرح والتعديل من حفظه إذا سئل عنه كما يقرأ الفاتحة ومن نظر في كتاب العلل لأبي بكر الخلال عرف ذلك ولم يكن هذا لأحد من بقية الأئمة وكذلك انفراده في علم النقل بفتاوى الصحابة وقضاياهم وإجماعهم واختلافهم لا تنازع في ذلك.
وأما علم العربية فقد قال أحمد كتب من العربية أكثر مما كتب أبو عمرو الشيباني وأما القياس فله من الاستنباط ما يطول شرحه قال أبو القاسم ابن الجبلي أكثر الناس يظنون أن أحمد إنما كان أكثر ذكره لموضع المحبة وليس هو كذلك كان أحمد بن حنبل إذا سئل عن المسألة كان علم الدنيا بين عينيه وقال إبراهيم الحربي أدركت ثلاثة لن يرى الناس مثلهم أبدا وتعجز النساء أن يلدن مثلهم رأيت أبا عبيد القاسم ابن(1/44)
سلام فما مثلته إلا بجبل نفح فيه روح ورأيت بشر بن الحارث فما شبهته إلا برجل عجن من قرنه إلى قدمه عقلا ورأيت أحمد بن حنبل فرأيته كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف يقول ما شاء ويمسك ما شاء وقال أحمد بن سعيد الرازي ما رأيت أسود رأس أحفظ لحديث رسول الله ولا أعلم بفقهه ومعانيه من أحمد قال الخلال كان أحمد قد كتب كتب الرأي وحفظها ثم لم يلتفت إليها وكان إذا تكلم في الفقه تكلم كلام رجل قد انتقد العلوم فتكلم عن معرفة قال الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي البغدادي ومن عجيب ما نسمعه عن هؤلاء الجهال أنهم يقولون أحمد ليس بفقيه لكنه محدث وهذا غاية الجهل لأنه قد خرج عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم وخرج عنه من دقيق الفقه ما ليس نراه لأحد منهم وانفرد بما سلموه له من الحفظ وشاركهم وربما زاد على كبارهم ثم ذكر ابن عقيل مسائل دقيقة مما استنبطه الإمام ثم قال ومما وجدنا من فقه الإمام أحمد ودقة علمه أنه سئل عن رجل نذر أن يطوف بالبيت على أربع قال يطوف طوافين ولا يطوف على أربع فانظروا إلى هذا الفقه كأنه نظر إلى المشي على أربع فرآه مثله وخروجا عن صورة الحيوان الناطق إلى التشبيه بالبهائم فصانه وصان البيت والمسجد عن الشهرة ولم يبطل حكم القضية في المشي على اليدين بل أبدلها بالرجلين اللتان هما آلة المشي ثم ذكر مسائل من هذا القبيل ثم قال ولقد كانت نوادر أحمد نوادر بالغة في الفهم إلى أقصى طبقة قال ومن هذا فقهه واختياراته لا يحسن بالمنصف أن يغض منه في هذا العلم وما يقصد هذا إلا مبتدع قد تمزق فؤاده من خمول كلمته وانتشار علم أحمد حتى إن أكثر العلماء يقولون أصلي أصل أحمد وفرعي فرع فلان فحسبك ممن يرضى به في الأصول قدوة.
قال ابن الجوزي:إن أحمد ضم إلى ما لديه من العلم ما عجز عنه القوم من الزهد في الدنيا وقوة الورع ولم ينقل عن أحد من الأئمة أنه امتنع من قبول أوقاف السلاطين وهدايا الإخوان كامتناعه ولولا خدش وجوه فضائلهم رضي الله عنهم لذكرنا عنهم ما قبلوا ورخصوا بأخذه وقد عقد ابن الجوزي في مناقبه بابا خاصا في بيان زهده في المباحات ثم إنه ضم إلى ذلك الصبر على الامتحان وبذل المهجة في نصرة الحق ولم يكن ذلك لغيره وقد أخرج أبو نعيم الحافظ عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال قال لي محمد بن الحسن صاحبنا أعلم أم صاحبكم قلت تريد المكابرة أم الإنصاف؟قال:بل(1/45)
الإنصاف فقلت له فما الحجة عندكم قال الكتاب والسنة والإجماع والقياس قال قلت أنشدك الله صاحبنا أعلم بكتاب الله أم صاحبكم فقال إذا أنشدتني بالله فصاحبكم قلت فصاحبنا أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم صاحبكم قال صاحبكم قلت فصاحبكم أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله أم صاحبكم قال صاحبكم قلت فبقي شيء غير القياس قال لا قلت فنحن ندعي القياس أكثر مما تدعونه وإنما يقاس على الأصول فيعرف القياس قال ويريد بصاحبكم مالكا قال ابن الجوزي فقد كفانا الشافعي رضي الله عنه بهذه الحكاية المناظرة لأصحاب أبي حنيفة وقد عرف فضل صاحبنا على مالك فإنه حصل ما حصله مالك وزاد عليه كثيرا وقد ذكرنا شاهد هذا باعتبار المسند مع الموطأ وقد كان الشافعي عالما بفنون العلوم إلا أنه سلم لأحمد علم النقل الذي عليه مدار الفقه وقد روى ابن الجوزي عن عبد الله بن أحمد قال سمعت أبي يقول قال لي الشافعي أنتم أعلم بالحديث منا فإذا صح الحديث فقولوا لنا حتى نذهب إليه وأخرج هذه الحكاية الطبراني وأبو نعيم الحافظ وروى الطبراني أن أحمد كان يقول استفاد منا الشافعي ما لم نستفد منه وأخرج الحافظ ابن عساكر عن الحسن بن الربيع أنه قال أحمد إمام الدنيا وقال لولا أحمد لأحدثوا في الدين وقال إن لأحمد أعظم منة على جميع المسلمين وحق على كل مسلم أن يستغفر له قلت وقد ذكرنا كثيرا من مناقبه في كتابنا تهذيب تاريخ ابن عساكر قال ابن الجوزي قلت فهذا بيان طريق المجتهدين من أصحاب أحمد لقوة علمه وفضله الذي حث على اتباعه عامة المتبعين يعني بفتح الباء الموحدة فأما المجتهد من أصحابه فإنه تتبع دليله من غير تقليد له ولهذا يميل إلى إحدى الروايتين عنه دون الأخرى وربما اختار ما ليس في المذهب أصلا لأنه تابع للدليل وإنما ينسب هذا إلى مذهبه لميله لعموم أقواله ثم قال فإن قال أصحاب أبي حنيفة إن أبا حنيفة قد لقي الصحابة فالجواب من وجهين:
أحدهما:إن الدارقطني قال لم يلق أبو حنيفة أحدا من الصحابة وقال أبو بكر الخطيب رأى أنس بن مالك.
والثاني: إن سعيد بن المسيب وغيره ومن التابعين لقوا الصحابة فإن كان الفضل باللقي فلم لم يقدموهم عليه وإن قال أصحاب مالك إن مالكا لقي التابعين قلنا هذا(1/46)
يوجب تقديم التابعين لرؤيتهم الصحابة وإن قال الشافعية إن الشافعي نسبه أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره قلنا النسب لا يوجب التقديم في العلم فإن الحسن وابن سيرين وعطاء وطاوس وعكرمة ومكحول وغيرهم بل عموم التابعين كانوا من الموالي وتقدموا على خلق كثير من أهل الشرف بالنسب لأن تقدمهم كان بكثرة العلم لا بقرب النسب وقد أخذ الناس بقول ابن مسعود وزيد ما لم يأخذوا بقول ابن عباس قلت وهذا باب واسع جدا وذكر ابن الجوزي من هذا كثيرا ثم قال هذا قدر الانتصار لاختيارنا لمذهب أحمد ورحمة الله على الكل وللناس فيما يعشقون مذاهب.
وكان الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل البغدادي يقول هذا المذهب يعني مذهب أحمد إنما ظلمه أصحابه لأن أصحاب أبي حنيفة والشافعي إذا برع أحمد منهم في العلم تولى القضاء وغيره من الولايات فكانت الولاية سببا لتدريسه واشتغاله بالعلم فأما أصحاب أحمد فإنه قل فيهم من يعلم بطرف من العلم إلا ويخرجه ذلك إلى التعبد والتزهد لغلبة الخير على القوم فينقطعون عن التشاغل بالعلم انتهى.
وهذا غاية ما وقع اختيارنا عليه من القول في هذا الموضوع ليعلم المتبع لمذهب ما لأي معنى اتبعه ولأي برهان اختاره دون غيره فلا يكون متبعا للهوى والتقليد الأعمى الضار والتعصب الذميم والله المستعان.
تنبيه: لا يذهب بك الوهم مما قدمنا إلى أن الذين اختاروا مذهب أحمد وقدموه على غيره من الأئمة وهم من كبار أصحابه أنهم اختاروا تقليده على تقليد غيره في الفروع فإن مثل هؤلاء يأبى ذلك مسلكهم في كتبهم ومصنفاتهم بل المراد باختيار مذهبه إنما هو السلوك على طريقة أصوله في استنباط الأحكام وإن شئت قل السلوك في طريق الاجتهاد مسلكه دون مسلك غيره على الطريقة التي سنبينها فيما بعد إن شاء الله وأما التقليد في الفروع فإنه يترفع عنه كل من له ذكاء وفطنة وقدرة على تأليف الدليل ومعرفته وما التقليد إلا للضعفاء الجامدين الذين لا يفرقون بين الغث والسمين وكيف يظن بمثل أحمد بن جعفر ابن المنادي وأبي بكر النجاد ومحمد بن الحسن أبو بكر الآجري والحسن بن حامد والقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن الفرا وأبي الوفاء علي بن عقيل البغدادي وأبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني،(1/47)
وعلي بن عبيدالله الزاغواني وموفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي وشيخ الإسلام المجد ابن تيمية وحفيده الإمام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية والمحقق شمس الدين محمد بن القيم وغيرهم أنهم مقلدون في الفروع وكتبهم الممتلئة بالأدلة طبقت الآفاق ومداركهم ومسالكهم سارت بمدحها الركبان وكتبهم ملأت قلب كل منصف من الإيمان والإيقان فتنبه أيها الألمعي ولا تكن من المقلدين الغافلين.(1/48)
العقد الثالث
في ذكر أصول مذهبه في استنباط الفروع وبيان طريقته في ذلك
أما طريقة الإمام في الأصول الفقهية فقد كانت طريقة الصحابة والتابعين لهم بإحسان لا يتعدى طريقتهم ولا يتجاوزها إلى غيرها كما هي عادته في مسالكه في التوحيد والفتيا في الفقه وفي جميع حركاته وسكناته وكما تقدم لك آنفا ما كان عليه من الاعتقاد وكما سنبينه من مسالكه في الاجتهاد وحيث علمت ذلك فاعلم أنه قد صرح المجتهدون من أهل مذهبه التابعين له في الأصول أن فتاواه رضي الله عنه مبنية على خمسة أصول.
الأصل الأول: النص كان إذا وجد النص أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه لا إلى من خالفه كائنا من كان ولهذا لم يلتفت إلى خلاف عمر في المبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس ولا إلى خلافه في التيمم للجنب لحديث عمار بن ياسر المصرح بصحة تيمم الجنب وكذلك لم يلتفت إلى قول علي وعثمان وطلحة وأبي أيوب وأبي بن كعب في ترك الغسل من الإكسال لصحة حديث عائشة أنها فعلته هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلا إلى غير ذلك مما هو كثير جدا ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملا ولا رأيا ولا قياسا ولا قول صاحب ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس بالإجماع ويقدمونه على الحديث الصحيح وقال الإمام ابن القيم وغيره من علماء الأصول قد كذب أحمد من ادعى هذا الإجماع ولم يسغ تقديمه على الحديث الثابت وكذلك الشافعي أيضا نص في رسالته الجديدة على أن ما لم يعلم فيه خلاف لا يقال له إجماع ولفظه "ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعا" وقال عبد الله ابن الإمام أحمد سمعت أبي يقول ما يدعي فيه الرجل الإجماع فهو كذب ومن ادعى الإجماع فهو كاذب لعل الناس اختلفوا ما(1/48)
يدريه ولم ينته إليه فليقل لا نعلم الناس اختلفوا هذه دعوى بشر المريسي والأصم ولكنه يقول لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغني ذلك هذا لفظه ونصوص رسول الله أجل عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف ولو ساغ لتعطلت النصوص وساغ لكل من لم يعلم مخالفا في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع ما لا يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده.
الأصل الثاني من أصول فتاوى الإمام أحمد ما أفتى به الصحابة فكان رضي الله عنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يتجاوزها إلى غيرها ولم يقل إن ذلك إجماع بل من ورعه في العبارة يقول لا أعلم شيئا يدفعه أو نحو هذا وكان إذا وجد هذا النوع عن الصحابة لم يقدم عليه عملا ولا رأيا ولا قياسا فكانت فتاواه لذلك من تأملها وتأمل فتاوى الصحابة رأى مطابقة كل منهما على الأخرى ورأى الجميع كأنها تخرج من مشكاة واحدة حتى إن الصحابة إذا اختلفوا على قولين جاء عنه في المسألة روايتان وكان تحريه لفتاوى الصحابة كتحري أصحابه لفتاواه ونصوصه بل أعظم حتى إنه ليقدم فتاواهم على الحديث المرسل قال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء في مسائله قلت لأبي عبد الله حديث عن رسول الله مرسل برجال ثبت أحب إليك أو حديث عن الصحابة والتابعين متصل برجال ثبت قال أبو عبد الله رحمه الله عن الصحابة أعجب إلى ومن ثم صارت فتاواه إماما وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم حتى إن المخالفين لمذهبه في الاجتهاد والمقلدين لغيره ليعظمون نصوصه وفتاواه ويعرفون لها حقها وقربها من النصوص وفتاوى الصحابة.
الأصل الثالث: من أصوله إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة ولم يخرج عن أقوالهم فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيها ولم يجزم بقول قال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء في مسائله قيل لأبي عبد الله يكون الرجل في قومه فيسأل عن الشيء فيه اختلاف قال يفتي بما وافق الكتاب والسنة وما لم يوافق الكتاب والسنة أمسك عنه قيل له أفيجاب عليه قال: لا.
الأصل الرابع: الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه(1/49)
وهو الذي رجحه على القياس وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه فالعمل به بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف بل إلى صحيح وضعيف وللضعيف عنده مراتب فإذا لم يجد في الباب أثرا يدفعه ولا قول صحابي ولا إجماع على خلافه كان العمل به عنده أولى من القياس وليس أحد من الأئمة إلا وهو موافق له على هذا الأصل من حيث الجملة فإنه ما منهم أحد إلا وقد قدم الحديث الضعيف على القياس فأبو حنيفة قدم حديث القهقهة في الصلاة على محض القياس على ما فيه من المقال بحيث إنه أجمع أهل الحديث على ضعفه وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر على القياس وأكثر أهل الحديث يضعفه وقدم حديث: "أكثر الحيض عشرة أيام" 1 وهو ضعيف باتفاقهم على محض القياس فإن الذي تراه في اليوم الثالث عشر مساو في الحد والحقيقة والصفة لدم اليوم العاشر وقدم حديث لا مهر أقل من عشرة دراهم وأجمعوا على ضعفه بل بطلانه على محض القياس فإن بذل الصداق معاوضة في مقابلة بذل البضع فما تراضينا عليه جاز قليلا كان أو كثيرا وقدم الشافعي خبر تحريم صيدوج مع ضعفه على القياس وقدم خبر جواز الصلاة بمكة في وقت النهي مع ضعفه ومخالفته لقياس غيرها من البلاد وقدم في أحد قوليه حديث: "من قاء أو رعف فليتوضأ أو ليبن على صلاته" 2، على القياس مع ضعف الخبر وإرساله وأما مالك فإنه يقدم الحديث المرسل والمنقطع والبلاغات وقول الصحابي على القياس فإذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نص ولا قول الصحابة أو واحد منهم ولا أثر مرسل أو ضعيف عدل إلى الأصل الخامس الذي سنذكره.
الأصل الخامس: القياس كان الإمام أحمد يستعمله للضرورة على ما علمت مما سبق ففي كتاب الخلال عن أحمد قال سألت الشافعي عن القياس فقال إنما يصار إليه عند الضرورة أو ما هذا معناه فهذه الأصول الخمسة من أصول فتاوى الإمام أحمد وعليها
__________
1 رواه الزيلعي في نصب الراية "1: 192"، وابن حبان في المجروحين "1: 245"، وابن القيسراني في تذكرة الموضوعات "137".
2 رواه ابن ماجه في كتاب الإقامة، باب: ما جاء في البناء على الصلاة.(1/50)
مدارها. وكان رضي الله عنه يتوقف أحيانا في الفتوى لتعارض الأدلة عنده أو لاختلاف الصحابة فيها أو لعدم اطلاعه فيها على أثر أو قول أحد من الصحابة والتابعين وكان شديد الكراهة والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف كما قال لبعض أصحابه إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام وكان يسوغ استفتاء فقهاء الحديث وأصحاب مالك ويدل عليهم ويمنع من استفتاء من يعرض عن الحديث ولا يبني مذهبه عليه ولا يسوغ العمل بفتواه قال ابن هانىء سألت أبا عبد الله عن الذي جاء في الحديث: "أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار" 1، قال أبو عبد الله يفتي بما لم يسمع قال وسألته عمن أفتى يفتيا يعني فيها قال فإثمها على من أفتاها قلت على أي وجه يفتي حتى يعلم ما فيها قال يفتي بالبحث لا يدري "إيش أصلها" وقال أبو داود في مسائله ما أحصى ما سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول لا أدري قال وسمعته يقول ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتوى أحسن فتيا منه كان أهون عليه أن يقول لا أدري وقال عبد الله ابنه في مسائله سمعت أبي يقول وقال عبد الرحمن بن مهدي سأل رجل من أهل الغرب مالك ابن أنس عن مسألة فقال لا أدري فقال يا أبا عبد الله تقول لا أدري قال نعم فأبلغ من ورائك أني لا أدري وقال عبد الله كنت أسمع أبي كثيرا يسأل عن المسائل فيقول لا أدري ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف وكثيرا ما كان يقول سل غيري فإن قيل له من نسأل قال سلوا العلماء ولا يكاد يسمي رجلا بعينه قال وسمعت أبي يقول كان ابن عيينة لا يفتي في الطلاق ويقول من يحسن هذا قال ابن القيم قلت الجرأة على الفتيا تكون من قلة العلم ومن غزارته وسعته فإذا قل علمه أفتى عن كل ما يسأل عنه بغير علم وإذا اتسع علمه اتسعت فتياه ولهذا كان ابن عباس من أوسع الصحابة فتيا فقد جمع أبو بكر محمد ابن موسى بن يعقوب ابن أمير المؤمنين المأمون فتيا ابن عباس في عشرين كتابا وأبو بكر محمد المذكور أحد أئمة العلم وكان سعيد بن المسيب واسع الفتيا ومع ذلك كانوا يسمونه الجريء هذا مجمل مسالك الإمام أحمد في الفتيا والاجتهاد واستنباط الكلام.
تتمة: ورأيت للحافظ عبد الرحمن بن رجب الحنبلي محدث الشام كلاما حسنا في
__________
1 رواه الدارمي في المقدمة، باب: الفتيا وما فيه من الشدة.(1/51)
هذا الموضوع في كتابه جامع العلوم والحكم عند كلامه على الحديث التاسع من الأربعين النواوية قال قال الميموني سمعت أبا عبد الله يعني أحمد يسأل عن مسألة فقال وقعت هذه المسألة بليتم بها بعد قال ابن رجب وقد انقسم الناس في هذا أقساما فمن أتباع أهل الحديث من سد باب المسائل حتى قل فقهه وعلمه بحدود ما أنزل الله على رسوله وصار حامل فقه غير فقيه ومن فقهاء أهل الرأي من توسع في توليد المسائل قبل وقوعها ما يقع في العادة منها وما لا يقع واشتغلوا بتكليف الجواب عن ذلك وكثرة الخصومات فيه والجادل عليه حتى يتولد من ذلك افتراق القلوب ويستقر فيها بسببه الأهواء والشحناء والعداوة والبغضاء ويقترن ذلك كثيرا بنية المغالبة وطلب العلو والمباهاة وصرف وجوه الناس وهذا مما ذمه العلماء الربانيون ودلت السنة على قبحه وتحريمه وأما فقهاء أهل الحديث العاملون به فإن معظم هممهم البحث عن معاني كتاب الله عز وجل وما يفسره من السنن الصحيحة وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحيحها وسقيمها ثم الفقه فيها وتفهيمها والوقوف على معانيها ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم من التفسير والحديث ومسائل الحلال والحرام وأصول السنة والزهد والرقائق وغير ذلك وهذا هو طريقة الإمام أحمد ومن وافقه من أهل الحديث الربانيين وفي معرفة هذا شغل شاغل عن التشاغل بما أحدث من الرأي مما لا ينتفع به ولا يقع وإنما يورث التجادل فيه الخصومات والجدال وكثرة القيل والقال وكان الإمام أحمد كثيرا إذا سئل عن شيء من المسائل المولدات التي لا تقع يقول دعونا من هذه المسائل المحدثة.
قال ابن رجب ومن سلك طريقة طلب العلم على ما ذكرناه تمكن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالبا لأن أصولها توجد في تلك الأصول المشار إليها ولا بد أن يكون سلوك هذا الطريق خلف أئمة أهله المجمع على هدايتهم ودرايتهم كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ومن سلك مسلكهم فإن من ادعى سلوك هذا الطريق على غير طريقهم وقع في مفاوز ومهالك وأخذ بما لا يجوز الأخذ به وترك ما يجب العمل به انتهى.
ومن هنا تزداد علما بمسالك الإمام أحمد رضي الله عنه.(1/52)
العقد الرابع: في مسالك كبار أصحابه في ترتيب مذهبه واستنباطه من فتياه والروايات عنه وتصرفهم في ذلك الإرث المحمدي الأحمدي
في مسالك كبار أصحابه في ترتيب مذهبه واستنباطه من فتياه والروايات عنه وتصرفهم في ذلك الإرث المحمدي الأحمدي
...
العقد الرابع
في مسالك كبار أصحابه في ترتيب مذهبه واستنباطه من فتياه والروايات عنه وتصرفهم في ذلك الإرث المحمدي الأحمدي
اعلم أن الإمام أحمد رضي الله عنه كان يكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي وما ذلك إلا ليتوفر الالتفات إلى النقل ويزرع في القلوب التمسك بالأثر وقال يوما لعثمان بن سعيد لا تنظر في كتب أبي عبيد ولا فيما وضع إسحاق ولا سفيان ولا الشافعي ولا مالك وعليك بالأصل وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء سألت أحمد عن كتب أبي ثور فقال كتاب ابتدع فيه بدعة ولم يعجبه وضع الكتب وكذلك كان يكره أن يكتب شيء من رأيه وفتواه وروى الحافظ ابن الجوزي في مناقبه عن أحمد أنه قال القلانس من السماء تنزل على رؤوس قوم يقولون برؤوسهم هكذا وهكذا قال ابن الجوزي المعنى لا يريدها وقوله هكذا وهكذا أي يميلون رؤوسهم عن أن تتمكن منها ومعنى الكلام أنهم لا يريدون الرياسة وهي تقع عليهم ويحتمل أن يريد أنهم يطأطؤن رؤوسهم تواضعا فلذلك كان أحمد ينهى عن كتب كلامه تواضعا فقدر الله له أن دون ورتب وشاع انتهى.
قلت: والمعنى الثاني هو الأقرب فقد روي عنه أنه كان يقول طوبى لمن أخمل الله عز وجل ذكره وكان لا يدع أحدا يتبعه في مشيه وربما كان ماشيا فيتبعه أحد من الناس فيقف حتى ينصرف الذي يتبعه وكان يمشي وحده متواضعا.
وحيث إن الإمام أحمد كان يحب توفر الالتفات إلى النقل ويختار التواضع أشغل أوقاته في جمع السنة والأثر وتفسير كتاب الله تعالى ولم يؤلف كتابا في الفقه وكان غاية ما كتب فيه رسالة في الصلاة كتبها إلى إمام صلى وراءه فأساء في صلاته وهي رسالة قد طبعت ونشرت في أيامنا فعلم الله من حسن نيته وقصده فكتب عنه أصحابه من كلامه وفتواه أكثر من ثلاثين سفرا انتشرت كلها في الآفاق ثم جاء أحمد بن محمد بن هارون أبو بكر الخلال فصرف عنايته إلى جميع علوم أحمد بن حنبل وإلى كتابة ما روي عنه،(1/53)
وطاف لأجل ذلك البلاد وسافر للاجتماع بأصحاب أحمد وكتب ما روي عنه بالإسناد وتبع في ذلك طرفه من العلو والنزول وصنف كتبا في ذلك منها: كتاب الجامع وهو في نحو مائتي جزء ولم يقارنه أحد من أصحاب الإمام أحمد في ذلك وكانت وفاته سنة إحدى عشرة وثلاثمائة هذا ما ذكره ابن الجوزي في المناقب من أن جامع الخلال في نحو من مائتي جزء وقال ابن القيم في أعلام الموقعين وجمع الخلال نصوصه في الجامع الكبير فبلغ نحو عشرين سفرا أو أكثر انتهى ولا معارضة بين قوليهما لأن المتقدمين كانوا يطلقون على الكراس وعلى ما يقرب من الكراسين جزءا وأما السفر فهو ما جمع أجزاء فتنبه ومن ثم كان جامع الخلال هو الأصل لمذهب أحمد فنظر الأصحاب فيه وألفوا كتب الفقه منه وكان من جملة من سلك في مذهبه مسالك الاجتهاد في ترجيح الروايات المنقولة عنه بعضها على بعض عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد أبو القاسم الخرقي فإنه صنف في مذهب أحمد مختصره المشهور الذي شرحه القاضي أبو يعلى وشيخه ابن حامد وموفق الدين المقدسي في كتابه المغني وغيرهم وقال أبو إسحاق البرمكي عدد مسائل الخرقي ألفان وثلاثمائة مسألة وكتب أبو بكر عبد العزيز على نسخة مختصر الخرقي خالفني الخرقي في مختصره في ستين مسألة ولم يسمها قال القاضي أبو الحسين فتتبعتها فوجدتها ثمانية وتسعين مسألة وكانت وفاة الخرقي في دمشق سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وأما أبو بكر فهو عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن دارا كان يعرف بغلام الخلال فهو صاحب كتابي الشافي والتنبيه في فقه المذهب الأحمدي وصاحب الخلاف مع الشافعي وكانت وفاته سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وعلى الجملة فإن الخلال لما جمع الروايات عن أحمد ومهدها في كتبه أخذ الأصحاب في الجمع وتدوين المذهب وتأليف كتب الفقه فجزاهم الله خيرا.(1/54)
شذرة في بيان طريقة الأصحاب في فهم كلام الإمام أحمد وطريق تصرفهم في الروايات عنه
أظنك أيها السامع لما علمت أن فتاوى الإمام أحمد كانت هي وفتاوى الصحابة كأنها تخرج من مشكاة واحدة حتى إن الصحابة إذا اختلفوا على قولين جاء عنه في(1/54)
المسألة روايتان وقد يكون له في المسألة الواحدة روايات ثم إنك تنظر في كتب الأصحاب فتجد غالبها مبنيا على قول واحد ورواية واحدة أخذك الشوق إلى أن تعلم كيف كان تصرف الأصحاب في ذلك وما هي طريقة المرجحين لإحدى الروايات على الأخرى وكيف كانت طريقتهم في المسائل التي ليس فيها رواية عن الإمام فإذا سما بك الشوق إلى هذا فاستمع لما أتلو عليك لتتجلى لك الحقائق ولتكون من أمرك على يقين.
لا يخفاك أن الأصحاب أخذوا مذهب أحمد من أقواله وأفعاله وأجوبته وغير ذلك فكانوا إذا وجدوا عن الإمام في مسألة قولين عدلوا أولا إلى الجمع بينهما بطريقة من طرق الأصول إما يحمل عام على خاص أو مطلق على مقيد فإذا أمكن ذلك كان القولان مذهبه وإن تعذر الجمع بينهما وعلم التاريخ فاختلف الأصحاب فقال قوم الثاني مذهب وقال آخرون الثاني والأول وقالت طائفة الأول ولو رجع عنه وصح القول الأول الشيخ علاء الدين المرداوي في كتابه تصحيح الفروع وتبع غيره في ذلك فإن جهل التاريخ فمذهب أقرب الأقوال من الأدلة أو قواعد مذهبه ويخص عام كلامه بخاصة في مسألة واحدة قال ابن مفلح في الأصح والمقيس على كلامه مذهبه في الأشهر فإن أفتى في مسألتين متشابهتين بحكمين مختلفين في وقتين قال بعضهم وبعد الزمن ففي جواز النقل والتخريج ولا مانع وجهان وقوله لا ينبغي ولا يصلح أو استقبحه أو هو قبيح أو لا أراه يحمله الأصحاب على التحريم قاله ابن مفلح في فروعه ثم قال وقد ذكروا أنه يستحب فراق غير القفيفة واحتجوا بقول أحمد لا ينبغي أن يمسكها وسأله أبو طالب عن الرجل يصلي إلى القبر والحمام والحوش فقال لا ينبغي أن يكون لا يصلي إليه قال أبو طالب قلت فإن كان قال يجزيه ونقل عنه أبو طالب فيمن يقرأ في الأربع كلها بالحمد وسورة أنه قال لا ينبغي أن يفعل وقال في رواية الحسين بن حسان في الإمام يقصر في الأولى ويطول في الثانية لا ينبغي هذا قال القاضي أبو يعلى كره ذلك لمخالفة السنة انتهى.
هذا يدل على أنه ليس جميع الأصحاب يحملون قول الإمام لا ينبغي ونحوه على التحريم بل في ذلك الحمل خلاف فإن بعضهم حمل قوله لا ينبغي في مواضع من كلامه على الكراهة كما رأيته آنفا وقدم في الرعاية أن قوله لا ينبغي يحمل على الكراهة(1/55)
وقوله: أكره أو لا يعجبني أو لا أحبه أو لا أستحسنه للندب واختار هذا المسلك شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحراني وجعل غيرهما في ذلك وجهان وجعلوا قوله للسائل يفعل كذا احتياطا للوجوب قدمه في الرعاية والحاوي الكبير وقال في الرعايتين والحاوي الكبير وآداب المستفتي الأولى النظر إلى القرائن في الكل فإن دلت على وجوب أو ندب أو تحريم أو كراهة أو إباحة حمل قوله عليه سواء تقدمت أو تأخرت أو توسطت قال في تصحيح الفروع وهو الصواب وكلام أحمد يدل على ذلك انتهى وقال الإمام ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين قد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم حيث تورع الأئمة من إطلاق لفظ التحريم وأطلقوا لفظ الكراهة فنفى المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة الكراهة ثم سهل عليهم لفظ الكراهة وخفت مؤنته عليهم فحمله بعضهم على التنزيه وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الأولى وهذا كثير جدا في تصرفاتهم فحصل بسببه غلط عظيم على الشريعة وعلى الأئمة وقد قال الإمام أحمد في الجمع بين الأختين بملك اليمين أكرهه ولا أقول هو حرام ومذهبه تحريمه وإنما تورع عن إطلاق لفظ التحريم لأجل قول عثمان يعني بجوازه وقال أبو القاسم الخرقي فيما نقله عن الإمام أحمد ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة ومذهبه أنه لا يجوز وقال في رواية أبي داود يستحب أن لا يدخل الحمام إلا بمئزر وهذا استحباب وجوب وقال في رواية إسحاق بن منصور إذا كان أكثر مال الرجل حراما فلا يعجبني أن يؤكل ماله وهذا على سبيل التحريم ثم إن ابن القيم أطال النفس في هذا الموضوع فنقل روايات كثيرة عن الإمام أحمد جاءت بلفظ الكراهة والمقصود التحريم ثم حكي عن محمد بن الحسن أنه قال: إن كل مكروه فهو حرام إلا أنه لما لم يجد فيه نصا قاطعا لم يطلق عليه لفظ الحرام وروى محمد أيضا عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه إلى الحرام أقرب انتهى.
قلت: ومراده بذلك ما وقع في كلام الأئمة من أن هذا مكروه لا بالنظر إلى ما اصطلحوا عليه من بعدهم من التقسيمات التي يذكرونها في كتب الأصول والفروع فإن هذا اصطلاح حادث لا ينزل عليه كلام الأئمة وأما المالكية فقد حملوا قول مالك أكره كذا وشبهه على جعله مرتبة متوسطة بين الحرام والمباح ولا يطلقون عليه اسم الجواز على أن مالكا قال في كثير من أجوبته أكره كذا وهو حرام فمنها أن مالكا نص على(1/56)
كراهة الشطرنج وهذا عند أكثر أصحابه على التحريم وحمله بعضهم على الكراهة التي هي دون التحريم وأما الشافعي: فإنه قال في اللعب بالشطرنج إنه لهو شبه الباطل أكرهه ولا يتبين لي تحريمه فقد نص على كراهته وتوقف في تحريمه فلا يجوز أن ينسب إليه ولا إلى مذهبه أن اللعب بها جائز وأنه مباح فإنه لم يقل هذا ولا ما يدل عليه والحق أن يقال: إنه كرهها وتوقف في تحريمها فأين هذا من أن يقال: إن مذهبه جواز اللعب بها وإباحته ومن هذا أيضا أنه نص على كراهة تزوج الرجل ابنته من ماء الزنا ولم يقل قط: إنه مباح ولا جائز والذي يليق بجلالته وإمامته ومنصبه الذي أحله الله به من الدين إن هذه الكراهة منه على وجه التحريم وأطلق لفظ الكراهة لأن الحرام يكرهه الله ورسوله وقال تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء 38] وفي الصحيح "إن الله عز وجل كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال" 1 فالسلف كانوا يستعملون الكراهة في معناها الذي استعملت فيه في كلام الله تعالى ورسوله ولكن المتأخرون اصطلحوا على تخصيص الكراهة بما ليس بمحرم وتركه أرجح من فعله ثم حمل من حمل كلام الأئمة على الاصطلاح الحادث فغلط وأقبح غلطا منه من حمل لفظ الكراهة أو لفظ لا ينبغي في كلام الله ورسوله على المعنى الاصطلاحي الحادث وقد اطرد في كلام الله ورسوله استعمال لا ينبغي في المحظور شرعا أو قدرا وفي المستحيل الممتنع كقوله تعالى {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم 92] وقوله {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس 69] وقوله {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} [الشعراء 210 211] وقوله على لسان نبيه: "كذبني ابن آدم وما ينبغي له وشتمني ابن آدم وما ينبغي له" 2 وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام" 3 وقوله في لباس
__________
1 رواه الدرامي في كتاب الرقاق، باب: إن الله كره لكم قيل وقال ، ومسلم في كتاب الأقضية، باب: 14، والبخاري في كتاب الرقاق، باب: ما يكره من قيل وقال ، وأحمد في "4/ص250".
2 رواه البخاري في كتاب التفسير، باب: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ} ، والنسائي في كتاب الجنائز، باب: 117.
3 رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب: 293، وابن ماجه في المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية، وأحمد في "م4/ص395".(1/57)
الحرير: "لا ينبغي هذا للمتقين" 1 وأمثال ذلك والمقصود من ذلك أن المجتهد إذا رأى دليلا قطعيا بحل أو حرمة صرح بلفظ الحل أو التحريم وإذا لم يجد نصا قاطعا فاجتهد واستفرغ وسعه في معرفة الحق فأداه اجتهاده إلى استنباط حكم تحاشى إطلاق لفظ التحريم وأبدله بقوله أكره ونحوه ويقصد بذلك معناه المفهوم من الكتاب والسنة لا معناه الذي اصطلح عليه المتأخرون وكذلك لا يجوز تنزيل كلام الله ورسوله على الاصطلاحات الحادثة وإنما تنزل على مقتضى ما كان يفهمه الصحابة من المعنى اللغوي لا غير وعلى الحقيقة الشرعية فافهم هذا فإنه هداية واستبصار وبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وروى أبو عمر بن عبد البر أن مالكا كان إذا اجتهد في مسألة واستنبط لها حكما يقول إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين "فصل": وإذا قال الإمام: أحب كذا أو يعجبني أو أعجب إلي فعند الأكثر يحمل على الندب وقدمه في الفروع وغيره وقيل يحمل على الوجوب قيل وكذا إذا قال هذا حسن أو أحسن وقوله أخشى أو أخاف أن يكون أو ألا كيجوز أو لا يجوز وأجبن عنه فقيل يحمل على التوقف لتعارض الأدلة وقيل هو على ظاهره وإن أجاب عن شيء ثم قال عن غيره أهون أو أشد أو أشنع فقيل هما سواء وقيل بالفرق قاله في الفروع وقال الشيخ عبد الحليم بن تيمية والد شيخ الإمام في مسودة الأصول إذا سئل الإمام أحمد عن مسألة فأجاب فيها بحظر أو إباحة ثم سئل عن غيرها فقال ذلك أسهل أو ذلك أشد أو قال كذا أسهل من كذا فهل يتضمن ذلك المساواة بينهما في الحكم أم لا اختلف في ذلك الأصحاب فذهب أبو بكر غلام الخلال إلى المساواة بينهما في الحكم وقال أبو عبدالله بن حامد يقتضي ذلك الاختلاف انتهى. وإذا قال أحمد: أجبن عنه ففيه خلاف ذهب فيه صاحب الرعاية إلى الجواز وجعله في الفروع في القوة كقوة كلام لم يعارضه أقوى منه وذهب بعض الأصحاب به إلى الكراهة وقول أحد من أصحاب الإمام أحمد في تفسير مذهبه وأخباره
عن رأيه ومفهوم كلامه وفعله ينزل منزل مذهبه في الأصح كإجابته في شيء بدليل والأشهر أنه كإجابته يقول صحابي: واختار ابن حامد أنه
__________
1 رواه البخاري في كتاب اللباس، باب: البقاء وفروج الخ، ومسلم في كتاب اللباس، باب: 2، وأحمد في "م4/ص149"، والنسلائي في كتاب القبلة، باب: الصلاة في الحرير.(1/58)
كقول ففيه يعني مجتهدا قال في تصحيح الفروع وهو أقرب إلى الصواب ويعضده منع الإمام أحمد من اتباع آراء الرجال وإن أجاب الإمام بقول فقيه ففيه وجهان:
أحدهما: أنه مذهبه. والثاني: لا وما انفرد به واحد وقوي دليله أو صحح الإمام خبرا أو حسنه أو دونه ولم يرده ففي كونه مذهبه وجهان قال في الرعاية وما انفرد به بعض الرواة عنه وقوي دليله فهو مذهبه وقيل بل ما رواه جماعة بخلافه وإن ذكر قولين وحسن أحدهما أو علله ففيه خلاف فقال في الروضة الأصولية ومختصرها للطوفي ومختصر التحرير أن الحكم يتبع العلة فما وجدت فيه العلة فهو قوله سواء قيل بتخصيص العلة أو لم يقل وقيل لا يكون ذلك مذهبا له وإن ذكر قولين وفرع على أحدهما فقيل هو مذهبه لتحسينه إياه أو تعليله وقدم هذا في الرعايتين والحاوي وغيرهم وهو مذهب الأثرم والخرقي وغيرهما قاله ابن حامد في تهذيب الأجوبة وقيل لا يكون مذهبه واختاره جماعة قال ابن حامد والأفضل أن يفصل فما كان من جواب له في أصل يحتوي مسائل خرج جوابه على بعضها فإنه جائز أن ينسب إليه نفسه ذلك الأصل من حيث القياس ومن ثم قال في التحرير مفرعا على هذا فلو أفتى في مسألتين متشابهتين مختلفين لم يجز نقل الحكم من كل منهما إلى الأخرى ولو نص على حكم مسألة ثم قال لو قال قائل بكذا أو ذهب ذاهب إليه يريد خلافه كان مذهبا لم يكن ذلك مذهبا له وإذا سئل عن مسألة فتوقف فيها كان مذهبه فيها الوقف انتهى.
وقال في تصحيح الفروع فيما لو ذكر قولين وفرع على أحدهما المذهب لا يكون بالاحتمال وإلا فمذهبه أقربهما من الدليل وإذا أفتى بحكم فسكت ونحوه لم يكن رجوعا قدمه ابن حامد في تهذيب الأجوبة وتابعه الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية قال المرداوي في تصحيح الفروع وهو أولى وقال في الفروع وفي سكوته رجوعا وجهان وما علله بعلة توجد في مسائل فالأكثر أن مذهبه فيها كالمعللة وقيل: لا ويلحق ما توقف فيه بما يشبهه وإن اشتبهت مسألتان أو أكثر مختلفة بالخفة والثقل فقال في الرعاية الكبرى وتبعه في الحاوي الكبير: الأولى العمل بكل منهما كمن هو أصلح له والأظهر عنه هنا التخيير وقال نجم الدين الطوفي في مختصر الروضة الأصولية: إذا نص المجتهد على حكم في مسألة لعلة فبينها فمذهبه في كل مسألة وجدت فيها تلك العلة كمذهبه فيها إذ الحكم يتبع(1/59)
العلة وإن لم يبين العلة فلا وإن اشتبهتا إذ هو إثبات مذهب بالقياس ولجواز ظهور الفرق له لو عرضت عليه ولو نص في مسألتين مشتبهتين على حكمين مختلفين لم يجز أن يجعل فيهما روايتان بالنقل والتخريج كما لو سكت عن إحداهما وأولى والأولى جواز ذلك بعد الجد والبحث من أهله إذ خفاء الفرق مع ذلك وإن رق ممتنع عادة وقد وقع في مذهبنا فقال في المحرر ومن لم يجد إلا ثوابا نجسا صلى فيه وأعاد نص عليه ونص فيمن حبس في موضع نجس فصلى أنه لا يعيد فيتخرج فيهما روايتان وذكر مثل ذلك في الوصايا والقذف ومثله في مذهب الشافعي كثير ثم التخريج قد يقبل تقريرا لنصين وقد لا يقبل وإذا نص على حكمين مختلفين في مسألة فمذهبه آخرهما إن علم التاريخ كتناسخ أخبار الشارع وإلا فأشبههما بأصوله وقواعد مذهبه وأقربهما إلى الدليل الشرعي وقيل كلاهما مذهب له إذ لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد فإن أريد ظاهره فممنوع وإن أريد أن ما عمل بالأول لا ينقض فليس مما نحن فيه ثم يبطل بما لو صرح برجوعه عنه فكيف يجعل مذهبا له مع تصريحه باعتقاد بطلانه ولو خالع مجتهد زوجته ثلاث مرات يعتقد الخلع فسخا ثم تغير اجتهاده فاعتقده طلاقا لزمه فراقها ولو حكم بصحة نكاح مختلف فيه حاكم ثم تغير اجتهاده لم ينتقض للزوم التسلسل بنقض النقض واضطراب الأحكام ولو نكح مقلد بفتوى مجتهد ثم تغير اجتهاده فالظاهر لا يلزمه فراقها إذ عمله بالفتوى جرى حكم الحاكم هذا كلامه وبسطه تكفل به العلامة نجم الدين الطوفي في شرحه فلا نطيل به وحاصل ما تقدم أن نصوص الأئمة بالإضافة إلى مقلديهم كنصوص الشارع بالإضافة إلى الأئمة.
واعلم أيضا أن بين التخريج والنقل فرقا من حيث إن الأول أعم من الثاني لأن التخريج يكون من القواعد الكلية للإمام أو الشرع أو العقل لأن حاصل معناه بناء فرع على أصل بجامع مشترك كتخريجنا على تفريق الصفقة فروعا كثيرة وعلى قاعدة تكليف ما لا يطاق أيضا فروعا كثيرة في أصول الفقه وفروعه وقد جعل فقهاؤنا ذلك كأنه فن مستقل فألف فيه الحافظ كتابه المسمى بالقواعد الفقهية وألف بعده في ذلك ابن اللحام كما ستعلمه فيما سيأتي إن شاء الله تعالى لكنهما لم يتجاوزا في التخريج القواعد الكلية الأصولية وأما النقل فهو أن ينقل النص عن الإمام ثم يخرج عليه فروعا فيجعل كلام الإمام أصلا وما يخرجه فرعا وذلك الأصل مختص بنصوص الإمام فظهر الفرق بينهما.(1/60)
فصل: أراك أيها الناظر قد علمت عما رقمناه آنفا مسالك تصرف الأصحاب في روايات الإمام وأنهم أثبتوا لها أصولا كما أثبت الأئمة أصولا لمسالك الاجتهاد المطلق وإن ذلك التصرف مفرع على أصول الفقه عامة وعلمت إن هذه التصرفات لا تختص بمذهب بعينه بالإضافة إلى التصرف في كلام الأئمة وإن المتبع للأصول المطلقة يقال له مجتهد مطلق والمتبع للأصول الخاصة بكلام الإمام يقال مجتهد المذهب سما بك الشوق للنفع أن نذكر جملا من كلام الباحثين في تلك الأصول الخاصة لتكون كالإثبات لما تقدم وكالتفصيل ولا تسأم مما وقع فيه مكررا فإن المكرر أحلى وإليك الموعود به منثورا.
مذهب الإنسان ما قاله أو دل عليه بما يجري مجرى القول عن تنبيه أو غيره فإن عدم ذلك لم يجز إضافته إليه ذكره أبو الخطاب. وقال أيضا مذهبه ما نص أو نبه عليه أو شملته علته التي علل بها. وقال الشيخ عبدالحليم والد شيخ الإسلام ابن تيمية اختلف أصحابنا في إضافة المذهب إليه من جهة القياس على قوله فذهب الخلال وأبو بكر عبدالعزيز إلى أنه لا يجوز ذلك ونصره الحلواني وذهب الأثرم والخرقي وابن حامد إلى جواز ذلك. وقال الشيخ مجدالدين بن تيمية اذا نص الإمام على مسألة وكانت الأخرى تشبهها شبها يجوز أن يخفى على مجتهد لم يجز أن تجعل الأخرى مذهبه بذلك هذا قول أبي الخطاب فأما لا يخفى على بعض المجتهدين فلا يفرق الإمام بينهما وهذا في ظاهره متناقض فيحمل على مسألتين يتردد فيهما هل هما مما يخفى الشبه بينهما على بعض المجتهدين أو لا يخفى وقد ذكر في المسألة بعد هذه أنه لو قال الشفعة لجار الدار ولا شفعة في الدكان فلا ينقل حكم أحدهما إلى الأخرى فأما إذا لم يصرح في الأخرى بحكم فالظاهر حملها على نظيرتها وهذا يقتضي القياس على قوله إذا لم يصرح بالمعرفة وإنما تكون هذه فيما يخفى على بعض المجتهدين وإذا لم يصرح في الأخرى بحكم فالظاهر حملها على نظيرتها وقال ابن حمدان ما قيس على كلامه فهو مذهبه وقيل لا وقيل إن جاز تخصيص العلة وإلا فهو مذهبه وقال أيضا وهو من عنده إن نص عليها أو أومأ إليها أو علل الأصل بها فهو مذهبه وإلا فلا إلا أن تشهد أقواله أو أفعاله أو أحواله للعلة المستنبطة بالصحة والتعيين. قال ابن حمدان فعلى قوله إن ما قيس على(1/61)
كلامه مذهبه. وقال من عنده أيضا إن أفتى في مسألتين متشابهتين بحكمين مختلفين في وقتين جاز نقل الحكم وتخريجه من كل واحدة إلى الأخرى وقيل لا يجوز كما لو فرق هو بينهما أو قرب الزمن واختار أيضا إن علم التاريخ ولم يجعل أول قوليه في مسألة واحدة مذهبا له جاز نقل الثانية إلى الأولى في الأقيس ولا عكس إلا أن يجعل أول قوليه في مسألة واحدة مذهبا له مع معرفة التاريخ وإن جهل التاريخ جاز نقل أقربهما من كتاب أو سنة أو إجماع أو أثر أو قواعد الإمام ونحو ذلك إلى الأخرى في الأقيس ولا عكس إلا أن يجعل أول قوليه في مسألة واحدة مذهبا له مع معرفة التاريخ وأولى لجواز كونها الأخيرة دون الراجحة.
فصل : قال الإمام شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه في مسودة الأصول الروايات المطلقة نصوص الإمام أحمد وكذا قولنا وعنه. وأما التنبيهات بلفظه فقولنا: أومأ إليه أحمد أو أشار إليه أو دل كلامه عليه أو توقف.
وأما الأوجه فأقوال الأصحاب وتخريجهم إن كانت مأخوذة من كلام الإمام أحمد أو إيمائه أو دليله أو تعليله أو سياق كلامه وقوته. وإن كانت مأخوذة من نصوص الإمام ومخرجة منها فهي روايات مخرجة له أو مفتولة من نصوصه إلى ما يشبهها من المسائل إن قلنا ما قيس على كلامه مذهب له. وإن قلنا لا فهي أوجه لمن خرجها وقاسها فإن تخرج من نص ونقل إلى مسألة فيها نص يخالف ما خرج فيها صار فيها رواية منصوصة ورواية مخرجة وإن لم يكن فيها ما يخالف النص المخرج فيها من نصه في غيرها فهو وجه لمن خرجه فإن خالفه غيره من الأصحاب في الحكم دون طريق التخريج ففيها لهما وجهان ويمكن جعلها مذهبا لأحمد بالتخريج دون النقل لعدم أخذهما من نصه وإن جهلنا مستندهما فليس أحدهما قولا مخرجا للإمام ولا مذهبا له بحال فمن قال من الأصحاب هنا هذه المسألة رواية واحدة أراد نصه ومن قال فيها روايتان فإحداهما نص والأخرى بإيماء أو تخريج من نص آخر له أو بنص جهله ومنكره ومن قال فيها وجهان أراد عدم نصه عليهما سواء جهل مستنده أم لا ولم يجعله مذهبا لأحمد فلا يعمل إلا بأصح الوجهين وأرجحهما سواء وقعا معا أو لا من واحد أو أكثر وساء علم التاريخ أو جهل. وأما القولان: هنا فقد يكون الإمام نص عليهما كما ذكره أبو(1/62)
بكر عبدالعزيز في زاد المسافر أو نص على إحداهما وأومأ إلى الآخر وقد يكون مع أحدهما وجه أو تخريج أو احتمال بخلافه. وأما الاحتمال فقد يكون الدليل مرجوحا بالنسبة إلى ما خالفه أو لدليل مساو له. وأما التخريج فهو نقل حكم مسألة إلى ما يشبهها والتسوية بينهما فيه. وأما التوقف فهو ترك العمل بالأول والثاني والنفي والإثبات إن لم يكن فيها قول لتعارض الأدلة وتعازلها عنده فله حكم ما قبل الشرع من حظر وإباحة ووقف.
فصل في قول الشافعي رضي الله عنه إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله فقولوا بسنته ودعوا ما قلت. اختلف العلماء في تفسيره والإنصاف فيه ما قاله أبو عمرو ابن الصلاح معناه من وجد من الشافعية حديثا يخالف مذهبه فإن كملت فيه آلات الاجتهاد مطلقا أو في ذلك الباب أو في تلك المسألة كان له الاستقلال بالعمل بذلك الحديث وإن لم تكمل آلة ووجد في قلبه حزازة من مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفته عنه جوابا شافيا فإن كان قد عمل بذلك الحديث إمام مستقل فله أن يتمذهب بمذهبه في العمل بذلك الحديث ويكون ذلك عذرا له في ترك مذهب إمامه في ذلك هذا كلامه قلت ويجوز أن يسلك هذا المسلك في مذهب أحمد أيضا.(1/63)
العقد الخامس: في الأصول الفقهية التي دونها الأصحاب
مقدمة
...
العقد الخامس: في الأصول الفقهية التي دونها الأصحاب
لعلك إذا اطلعت على ما رقمناه سابقا من الأصول الكلية التي تدور عليها فتاوى الإمام أحمد ولا تتعداها حداك الشوق إلى زيادة بيان عن تفصيلها مما أسسه فطاحل الأصحاب ونظارهم فبنوا بها الفروع على أساس متين وجعلوا ما أصله الإمام أصلا لقواعدهم وما كني به تصريحا بعوائدهم فها أنا أشفي منك غلة الصدى وأريحك من التعب في تنقيب الأسفار وأقدم لديك اعتذاري بأن كتب الأصول قد دونت فنا مستقلا بنيت قواعده على الدليل وسلكت بها مسالك الخلاف والجدل وناقش الواحد منهم من خالف مسالكه الحساب وأظهر كل مؤلف منهم ما لديه من البراعة ودقة الفهم فمن مسهب جعل كتابه أسفارا. ومن متوسط غيث فوائده أصبح مدرارا. من موجز كادت كلماته أن تعد يحتاج متفهمها إلى إعمال الفكر والتوغل في الجد وأكثر هذه قد كثر(1/63)
ظهورها طبعا وعم نوالها فأخذ حبها من المغرمين بها قلبا وسمعا وإني وإن كنت تعرضت لهذا البحر الزاخر ونصبت نفسي هنا خادما لتلك المآثر والمفاخر إلا أني لست الآن بصدد تأليف مستقل أقول في خطبته هذا جهد المقل لكنني رمت بيان قواعد مجردة عن دليلها وفوائد لا أصحبها بتعليلها أمليتها تذكرة وتذكارا وهذبتها جاعلا لها التصحيح مسبارا وقد وفق الله أن ابتدأت بشرح روضة الناظر وجنة المناظر لموفق الدين المقدسي فبينت اختيار ما هو المختار وناقشت في الدليل حسبما سلكه النظار وحيث ظننت أن عذري وقع موقع القبول ساغ لي أن أتجاسر فأقول:
مقدمة: اعلم أن أصول الفقه وأدلة الشرع ثلاثة أضرب أصل ومفهوم أصل واستصحاب حال والأصل ثلاثة أضرب الكتاب والسنة وإجماع الأمة. والكتاب ضربان مجمل ومفصل
والسنة ضربان مسموع من النبي صلى الله عليه وسلم ومنقول عنه. والكلام في المنقول في سنده من حيث التواتر والآحاد وفي متنه من حيث هو قول أو فعل والإقرار قسم من أقسام الفعل والقول لأنه إقرار على واحد منهما. والإجماع: سكوتي وقولي. ومفهوم الأصل ثلاثة أضرب مفهوم الخطاب ودليله ومعناه.واستصحاب الحال ضربان: أحدهما استصحاب براءة الذمة والثاني استصحاب حكم الإجماع بعد الخلاف ولك إجمال آخر يمكنك معه أن تقول إن أصول الفقه وأدلة الشرع على ضربين أحدهما ما طريقة الأقوال. والثاني: الاستخراج فأما الأقوال فهي النص والعموم والظاهر ومفهوم الخطاب وفحواه والإجماع وأما الاستخراج فهو القياس والإجمال الأول أصح لأنه أعلم لوجود دليل الخطاب واستصحاب الحال وذلك حجة عند أصحاب أحمد وأما قول الصحابي إذا لم يخالف غيره فمختلف فيه عند أحمد وهذا الضبط تقريبي حدانا إليه الاختصار.(1/64)
بسط هذا الإجمال
اعلم أن المركب من لا يمكن معرفته إلا بعد معرفة مفرداته ولما كان أصول الفقه مركب من كلمتين مضاف إليه كان لأصول الفقه تعريفان لأنه إن نظر إليه من حيث اعتبار مجموع لفظه الذي تركب منه سمي في الاصطلاح إجماليا لقبيا وكان تعريفه:(1/64)
العلم بالقواعد الذي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية وإن نظر إليه باعتبار كل واحد من مفرداته الأصول كان تعريفه: بأنه الأدلة لأن المادة التي تركب منها لفظ أصول الفقه هي الأصول والفقه فيها مفرد ذلك المركب فيحتاج في تعريفه التفصيلي إلى تعريف كل واحد منها على حدته. فالأصول الأدلة الآتي ذكرها يعني الكتاب والسنة والإجماع والقياس وما في خلال ذلك من القواعد. والأصول جمع أصل وأصل الشيء ما يستند تحقق ذلك الشيء إليه تأثيرا وإنما زدنا تأثيرا احترازا من استناد الممكن إلى المؤثر مع أنه ليس أصلا له ولا شك أن الفقه مستند في تحقق وجوده إلى الأدلة فهو كالغصن من الشجرة والفقه في اللغة الفهم واصطلاحا قيل العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال وقيل ظن جملة من الأحكام الشرعية الفرعية باستنباطها من أدلة تفصيلية وعلى كل من التعريفين مؤاخذات ولكن القول الثاني أخف إشكالا.
فصل: في التكليف هو لغة إلزام ما فيه كلفة أي مشقة وشرعا إلزام مقتضى خطاب الشرع وعلى هذا تكون الإباحة تكليفا لأنها من مقتضيات الخطاب المذكور. ومن قال إن الإباحة ليست تكليفا يقول التكليف هو الخطاب بأمر أو نهي وله شروط يتعلق بعضها بالمكلف وبعضها بالمكلف به فأما الذي يتعلق بالمكلف فالعقل وفهم الخطاب فلا تكليف على صبي ولا مجنون لعدم المصحح للامتثال منهما وهو قصد الطاعة والمميز مثل الصبي في عدم التكليف فإن قيل كيف أوجبتم الزكاة والغرامات في مال الصبي والمجنون ونفيتم عنهما التكليف قلنا الوجوب ليس على نفسهما بل هو ربط الأحكام بالمسببات لوجود الضمان ببعض أفعال البهائم ولا تكليف على النائم والناسي والسكران الذي لا يعقل بعدم الفهم والحق أن المكره إذا بلغ به إلا كراه إلى حد الإلجاء سقط عنه التكليف والكفار مخاطبون بفروع الإسلام على أصح القولين. وأما ما يتعلق بالمكلف به فهو أن يكون المكلف به معلوم الحقيقة للمكلف وإلا لم يتوجه قصده إليه وأن يكون معلوما كونه مأمورا به وإلا لم يتصور منه قصد الطاعة والامتثال معدوم إذ إيجاد الموجود محال وينقطع التكليف حال حدوث الفعل وأن يكون المكلف به ممكنا لأن المكلف به يستدعي حصوله وذلك يستلزم تصور وقوعه والمحال لا يتصور وقوعه فلا يستدعي حصوله فلا تكليف به ولا تكليف إلا بفعل لأن متعلق(1/65)
التكليف الأمر والنهي وكلاهما لا يكون إلا فعلا أما في الأمر فظاهر لأن مقتضاه إيجاد فعل مأمور به كالصلاة والصيام وأما في النهي: فمتعلق التكليف فيه كف النفس عن المنهي عنه كالكف عن الزنا وهو أيضا فعل.
فصل: في أحكام التكليف الحكم في اللغة: المنع وفي اصطلاح الأصوليين مقتضى خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا ثم إن ذلك الخطاب إما أن يرد باقتضاء الفعل مع الجزم وهو الوجوب أو يرد باقتضاء الفعل لكن ليس مع الجزم وهو الندب أو باقتضاء الترك مع الجزم وهو التحريم أولا مع الجزم وهو الكراهة أو التخيير وهي الإباحة وعندنا أن الإباحة من خطاب الشرع فهي حكم شرعي خلافا للمعتزلة. فالواجب ما ذم شرعا تاركه مطلقا أي في كل الأزمان فقولنا مطلقا احتراز من الواجب الموسع والمخير وفرض الكفاية فإن الترك يلحقها في الجملة وهو ترك الموسع في بعض أجزاء وقته وترك بعض أعيان المخير وترك بعض المكلفين لفرض الكفاية لكن ذلك ليس تركا مطلقا إذ الموسع إن ترك في بعض أجزاء وقته فعل في البعض الآخر والمخير إن ترك بعض أعيانه فعل البعض الآخر وفرض الكفاية إن تركه بعض المكلفين فعله البعض الآخر وكلهم فيه كالشخص الواحد فلا يتعلق بهذا الترك ذم لأنه ليس تركا مطلقا بمعنى خلو محل التكليف عن إيقاع المكلف به. والواجب مرادف للفرض عندنا على الأصح من أقوال الأصوليين.
أن الواجب الشامل للفرض ينقسم إلى معين وإلى مبهم في أقسام محصورة
وتلخيص القول فيه أن الواجب إما أن يكون معينا كأن ينذر عتق هذا العبد المعين أو عتق سالم من عبيده فيكون مخاطبا بعتقه على التعيين وكذا لو نذر الصدقة بمال بعينه كهذه الدنانير أو الإبل ونحو ذلك وإما أن يكون مبهما في أقسام محصورة كإحدى خصال الكفارة ككفارة اليمين المذكورة في قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة 89] وهذه المسألة تعرف بمسألة الواجب المخير.
وأما وقت الوجوب فإما أن يكون مقدرا بقدر الفعل بحيث ضيق على المكلف فيه حتى لا يجد سعة يؤخر فيها الفعل أو بعضه ثم يتداركه إذا بل من ترك شيئا منه لم يمكن تداركه إلا قضاء وذلك كاليوم بالنسبة إلى الصوم ويسمى هذا بالواجب(1/66)
المضيق. وإما أن يكون وقت الوجوب أقل من قدر فعله كإيجاب عشرين ركعة في زمن لا يسع أكثر من ركعتين وهذا فرد من أفراد التكليف بالمحال المسمى بتكليف ما لا يطاق وفي جوازه خلاف بين العلماء والصحيح منعه. وأما أن يكون وقت الواجب أكثر من وقت فعله وهذا يقال له الواجب الموسع وذلك كأوقات الصلوات وهذا ما فيه خلاف. فعندنا وعند المالكية والشافعية والأكثر للمكلف فعل الواجب من الصلوات في أي أجزاء الوقت شاء في أوله أو آخره أو وسطه وما بين ذلك منه وأوجب أكثر أصحابنا والمالكية الغرم على الفعل إذا أخر إلى آخر الوقت ويتعين آخره وهو قول الأشعرية والجبائي وابنه من المعتزلة ولم يوجبه من أصحابنا أبو الخطاب ومجد الدين بن تيمية وجمع ومن المعتزلة أبو الحسين. وأنكر أكثر الحنفية الواجب الموسع وقالوا وقت الوجوب هو آخر الوقت وإذا فعل قبل الآخر فقال بعضهم هو نفل يسقط به الفرض وتردد الكرخي منهم فتارة قال يتعين الواجب في أي أجزاء الوقت كان وتارة قال إن بقي الفاعل مكلفا إلى آخر الوقت كان ما فعله قبل ذلك واجبا وإلا فهو نفل انتهى.
قلت: والمختار قول الجمهور المتقدم وهو الذي تدل عليه السنة. وإذا مات المكلف في أثناء وقت الواجب الموسع قبل فعله وضيق وقته مثل أن مات بعد زوال الشمس وقد بقي من وقت الظهر ما يتسع لفعلها ولم يصلها لم يمت عاصيا لأنه فعل مباحا. وهو التأخير الجائز بحكم توسيع الوقت. أما لو أخره حتى ضاق الوقت عن فعله مثل أن مات ولم يبق ما يتسع إلا لأقل من أربع ركعات فإنه يموت عاصيا هذا ما قاله الأكثر والتحقيق أن عصيانه يكون مقدرا بقدر ما أخره حتى ضاق الوقت عنه فإن ضاق عن ركعة أو ركعتين أو ثلاث كان عاصيا بحسب ذلك ولا يجعل في معصيته كمن أخر الواجب كله.
فصل : في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به. اعلم أن هذه المسألة لها ملحظان: أولهما: ما يتوقف على وجوب الواجب وهذا لا يجب إجماعا سواء كان سببا أو شرطا أو انتفاء مانع فالسبب كالنصاب يتوقف عليه وجوب الزكاة فلا يجب تحصيله على المكلف لتجب عليه الزكاة. والشرط: كالإقامة في البلد إذ هي شرط لوجوب أداء الصوم فلا يجب تحصيلها إذا عرض مقتضى السفر ليجب عليه فعل الصوم والمانع كالدين فلا(1/67)
يجب نفيه لتجب الزكاة. وثانيهما: ما يتوقف عليه إيقاع الواجب أي الذي لا يتم الواجب إلا به وهو نوعان:
أحدهما : ما ليس في قدرة المكلف ووسعه وطاقته تحصيله ولا هو إليه كالقدرة واليد في الكتابة فإنهما شرط فيهما وهما مخلوقتان لله في المكلف لا قدرة له على إيجادهما ولحضور الإمام والعدد المشترط في الجمعة للجمعة فإنهما شرط لها وليس إلى أحد المكلفين بالجمعة إحضار الخطيب ليصلي الجمعة ولا إحضار آحاد الناس ليتم بهم العدد فهذا النوع غير واجب إلا على القول بتكليف المحال.
ثانيهما : ما هو مقدور للمكلف وهو إما أن يكون شرطا لوقوع الفعل أو غير شرط فإن كان شرطا كالطهارة وسائر الشروط للصلاة وكالسعي إلى الجمعة فإن صرح بعدم إيجابه كقوله صل ولا أوجب عليك الوضوء لم يجب عملا بموجب التصريح وإن صرح بإيجابه وجب لذلك وإن لم يصرح بإيجاب ولا عدمه بل أطلق وجب أيضا عندنا وهو قول الأشعرية والمعتزلة وقيل لا يجب وإن لم يكن الذي لا يتم الواجب إلا به شرطا كمسح جزء من الرأس في غسل الوجه في الوضوء وإمساك جزء من الليل مع النهار في الصوم فمثل هذا لا يجب خلافا للأكثرين حيث قالوا بوجوبه.
قلت: المختار الوجوب لأن ما لا بد منه في الواجب هو من لوازمه والأمر بالملزوم أمر باللازم ويتفرع على هذه المسألة فرعان:
أحدهما : إذا اشتبهت أخته أو زوجته بأجنبية أو ميتة بمذكاة حرمتا إحداهما بالأصالة والأخرى بعارض الاشتباه
ثانيهما : الزيادة على الواجب إما أن تكون متميزة عنه أو لا فإن تميزت عنه كصلاة التطوع بالنسبة إلى المكتوبات فتلك الزيادة ندب اتفاقا وإن لم تتميز عن الواجب بأن لا تنفصل حقيقتها من حقيقته حسا كالزيادة في الطمأنينة والركوع والسجود ومدة القيام والقعود على أقل الواجب وهو ما لا يطلق عليه اسم هذه الأفعال فتلك الزيادة التي هذا شأنها واجبة عند القاضي أبي يعلى ندب عند أبي الخطاب وهو الصواب.
تنبيه : الواجب: هو المأمور به جزما وشرط ترتب الثواب عليه نية التقرب بفعله(1/68)
والحرام: هو المنهي عنه جزما وشرط ترتب الثواب على تركه نية التقرب به فترتب الثواب وعدمه في فعل الواجب وترك الحرام وعدمهما راجع إلى وجود شرط الثواب وعدمه وهو النية لا إلى انقسام الواجب والحرام في نفسهما.
فصل : وأما الندب: فهو لغة الدعاء إلى الفعل وقيل: إلى أمر مبهم وشرعا ما أثيب فاعله ولم يعاقب تاركه مطلقا سواء تركه إلى بدل أو لا وهو مرادف للسنة والمستحب فالسواك والمبالغة في المضمضة والاستنشاق وتخليل الأصابع ونحو هذا ما يقال له مندوب وسنة ومستحب والمندوب مأمور به لقوله صلى الله عليه وسلم "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك" 1.
تنبيه: توسع أصحابنا في ألفاظ المندوب فالمشهور ما تقدم من أنه يسمى سنة ومستحبا وقال ابن حمدان في المقنع ويسمى تطوعا وطاعة ونفلا وقربة إجماعا. وقال ابن قاضي الثفل ويسمى أيضا مرغبا فيه وإحسانا. وقال مدرس المستنصرية في الحاوي أعلاه سنة ثم فضيلة ثم نافلة
وقال أصحابنا والمالكية والشافعية العبادة الطاعة وقال بذلك الحنفية ولكن اشترطوا النية
والطاعة موافقة الأمر والمعصية عند الفقهاء مخالفة الأمر وعند المعتزلة مخالفة الإرادة وكل قربة طاعة ولا عكس.
فصل: الحرام: ضد الواجب مأخوذ من الحرمة وهي ما لا يحل انتهاكه وشرعا ما ذم فاعله ولو قولا أو عمل قلب ويسمى محظورا وممنوعا ومزجورا ومعصية وذنبا وقبيحا وسيئة وفاحشة وإثما. ومن الحرام نوع يقال له: المخير ومثاله أن يقال للمكلف لا تنكح هذه المرأة أو أختها أو بنت أختها أو بنت أخيها فيكون منهيا عنهما على التخيير فأيتهما شاء اجتنب ونكح الأخرى كما أنه إذا أسلم عليهما قيل له طلق إحداهما وأمسك الأخرى أيتها شئت واعلم أن الفعل الواحد المنهي عنه إما أن يلاحظ من حيث كونه جنسا أو يلاحظ من حيث كونه نوعا فإن لوحظ من حيث الجنسية جاز أن يكون موردا للأمر وللنهي وأن يتوجه كل منهما إليه باعتبار أنواعه وإن لوحظ من
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الطهارة، باب: 18، والنسائي في كتاب الطهارة، باب: الرخصة في السواك بالعشي للصائم.(1/69)
حيث النوعية جاز أن يتوجه الأمر إليه باعتبار شخص من أفراده والنهي إليه باعتبار شخص آخر فمثال الأول العبادة وتحتها نوعان: عبادة لله وعبادة لغيره وقد تعلق الأمر بالنوع الأول وتعلق النهي بالثاني ثم إن عبادة الله تعالى تصير جنسا باعتبار ما تحتها من الأنواع كالصلاة والزكاة وغيرهما فالأمر يتعلق بالصلاة والنهي تعلق بها من جهة إيقاعها في مكان مغصوب أو من جهة إيقاعها بلا طهارة وحاصلة أن الأمر والنهي يتوجهان إلى الجنس باعتبار تعداد أنواعه وإلى النوع باعتبار تعداد أشخاصه. وأما الفعل الواحد بالشخص فله جهة واحدة إذ يستحيل كونه واجبا حراما كما لو قال صل هذه الظهر لاتصل هذه الظهر وتمثيلنا بإيقاع الصلاة في مكان مغصوب مبني على القول بأنها لا تصح فيه ولا يسقط الطلب بها ولا عندها وإليه ذهب أحمد وأكثر أصحابه والظاهرية والزيدية والجبائية. وقيل يسقط الفرض عندها لا بها وهذا قول الباقلاني والرازي وذهب أحمد في رواية عنه ومالك والشافعي والخلال وابن عقيل والطوفي إلى أنها تحرم وتصح ومعناه أنها تصح بمعنى تسقط الطلب لكن لا ثواب بها وإلى هذا صح الأكثر وقيل إن لفاعلها ثوابا وقالت الحنفية تكره. قال نجم الدين الطوفي مذهب الحنفية في هذا الأصل أدخل في التدقيق وأشبه بالتحقيق.
فصل : المكروه: ضد المندوب: إذ المندوب: المأمور به غير الجازم والمكروه: المنهي عنه غير الجازم فالمندوب قسم الواجب في الأمر والمكروه قسم الحرام في النهي وشرعا ما مدح تاركه ولم يذم
فاعله وهو داخل تحت النهي فيقال إنه منهي عنه ولا يتناوله الأمر المطلق إذ الأمر المطلق بالصلاة لا يتناول الصلاة المشتملة على السدل والتحضر ورفع البصر إلى السماء واشتمال الصماء والالتفات ونحو ذلك من المكروهات فيها وأطلق بعض أصحابنا المكروه على الحرام فقد قال الخرقي في مختصره ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة انتهى. مع أن التوضؤ فيهما حرام بلا خلاف في ذلك في المذهب وقد تطلق على ترك الأولى كقول الخرقي أيضا ومن صلى بلا أذان ولا إقامة كرهنا له ذلك ولا يعيد. وأراد أن الأولى أن يصلي بأذان وإقامة أو بأحدهما وإن أخل بهما ترك ذلك الأولى. وقال الآمدي قد يطلق المكروه على الحرام وعلى ما فيه شبهة وتردد وعلى ترك ما فعله راجح وإن لم يكن منهيا عنه انتهى.(1/70)
قلت: أما إطلاقه على الحرام فقد سبق لك بيانه في أن الإمامين أحمد ومالكا يطلقانه على الحرام الذي يكون دليله ظنيا تورعا منهما. وأما الباقي فهو بمعنى ترك الأولى. قال الطوفي في مختصر الروضة وإطلاق الكراهة ينصرف إلى التنزيه. وقال المرداوي في التحرير المكروه إلى الحرام أقرب وهو في عرف المتأخرين للتنزيه ويقال لفاعله مخالف وغير ممتثل ومسيىء نصا وقيل يختص الحرام. وقال القاضي أبو يعلى وابن عقيل يأثم بترك السنن أكثر عمره. قال الإمام أحمد من ترك الوتر فهو رجل سوء.
فصل: المباح: هو لغة المعلن والمأذون وشرعا ما اقتضى خطاب الشرع التسوية بين فعله وتركه من غير مدح يترتب على فعله ولا ذم يترتب على تركه والمباح غير مأمور به عند الجمهور. وقال الكعبي المعتزلي وأتباعه هو مأمور به وليس منه فعل غير مكلف ويسمى طلقا وحلالا ويطلق هو والحلال على غير الحرام وليس بتكليف عند الأئمة الأربعة. وقال مجد الدين بن تيمية الإباحة تكليف وقصد بذلك أنها مختصة بالمكلف.
تتمة : اختلف العلماء في الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع فقال أبو الحسن التميمي وأبو الخطاب وكلاهما من الحنابلة والحنفية هي على الإباحة فما جاء في الشرع الحكم عليه بشيء عملنا وما لم يرد فهو باق على إباحته. وقال ابن حامد والقاضي أبو يعلى وبعض المعتزلة إنها على الحظر أي المنع فما لم يرد شرع بالحكم عليه فهو محظور. وقال أبو الحسن الخرزي من الحنابلة والواقفية وهم الذين يقفون في الأحكام عند تجاذب الأدلة لها إنها على الوقف أي لا يدرى هل هي مباحة أو محظورة. وأما المعتزلة فقد قسموا الأفعال الاختيارية إلى ما حسنه العقل فمنه واجب ومنه مندوب ومنه مباح وإلى ما قبحه العقل فمنه حرام ومنه مكروه وإلى ما لم يقض العقل فيه بحسن. ولا بقبح فهذا اختلفوا فيه فمنهم من قال إنه واجب ومنهم من قال إنه محرم ومنهم من توقف فيه هذا ما حققه عنهم الآمدي والمختار الإباحة وفائدة هذا الخلاف استصحاب كل واحد من القائلين حال أصله قبل الشرع فيما جهل دليله سمعا بعد ورود الشرع.(1/71)
فائدة: الجائز لغة العابر بالعين المهملة واصطلاحا يطلق على المباح وعلى ما لا يمتنع شرعا فيعم غير الحرام أو عقلا فيعم الواجب والراجح والمساوي والمرجوح وعلى ما استوى فيه الأمران شرعا كالمباح أو عقلا كفعل الصغير وعلى المشكوك فيه باعتبار الشرع أو العقل. وأما الممكن فهو ما جاز وقوعه حسا أو وهما أو شرعا.
تنبيه : إذا نسخ الوجوب بقي الجواز وقال المجد: والأكثر وحكي عن أصحابنا أن الباقي مشترك بين الندب والإباحة. وقال أبو يعلى وأبو الخطاب وابن عقيل وابن حمدان بقي الندب
وقيل تبقى الإباحة وهو مثل القول بالجواز وهو المختار وقال الحنفية والتميمي والغزالي يعود الباقي إلى أصله قبل ورود الشرع وهذا نظير قول الفقهاء إذا بطل الخصوص بقي العموم ولو صرف النهي عن التحريم بقيت الكراهة قال ابن عقيل وغيره.
فصل : في خطاب الوضع: هو ما استفيد بواسطة نصب الشارع علما معرفا لحكمه لتعذر معرفة خطابه في كل حال. هكذا عرفه أكثر علماء الأصول ولما كان هذا الحد فيه غموض يعسر حله على كثير من المطالعين لهذا الكتاب قربنا معناه بقولنا معناه إن الشرع وضع أي شرع أمورا سميت أسبابا وشروطا وموانع تعرف عند وجودها أحكام الشرع من إثبات أو نفي. فالأحكام توجد بوجود الأسباب والشروط وتنتفي بوجود المانع
وانتفاء الأسباب والشروط ثم إن الشرع بوضع هذه الأمور أخبرنا بوجود أحكامه وانتفائها عند وجود تلك الأمور. أو انتفائها فكأنه قال مثلا إذا وجد النصاب الذي هو سبب وجوب الزكاة والحول الذي هو شرطه فاعلموا أني أوجبت عليكم أداء الزكاة وإن وجد الدين الذي هو مانع وجوبها أو انتفى السموم الذي هو شرط الوجوب في السائمة فاعلموا أني لم أوجب عليكم الزكاة وكذا الكلام في القصاص والسرقة والزنا وكثير من الأحكام بالنظر إلى وجود أسبابها وشروطها وانتفاء موانعها وعكس ذلك وبهذا البيان فهم المقصود من خطاب الوضع
وتخلص الناظر من حل التعقيد الذي تضمنه التعريف وحيث علمت ذلك فاعلم أن هذا العلم المنصوب أصناف.
أحدها: العلة: وهي في أصل الوضع العرض الموجب لخروج البدن الحيواني عن الاعتدال الطبيعي ثم استعيرت عقلا لما أوجب الحكم العقلي لذاته كالكسر(1/72)
للانكسار والتسويد للسواد ونحوه ثم استعيرت شرعا لمعان ثلاثة أحدها ما أوجب الحكم الشرعي لا محالة وهو المجموع المركب من مقتضى الحكم وشرطه ومحله وأهله تشبيها بالأجزاء العلة العقلية وذلك كما يقال وجوب الصلاة حكم شرعي ومقتضيه أمر الشارع بالصلاة وشرطه أهلية المصلي لتوجه الخطاب إليه بأن يكون بالغا عاقلا ومحله الصلاة وأهله المصلى فالعلة هنا المجموع المركب من هذه الأمور والأهل والمحل ركنان من أركانها وبالجملة فهذه الأشياء الأربعة تسمى علة ومقتضى الحكم هو المعنى الطالب له وشرطه يأتي بيانه وأهله هو المخاطب به ومحله ما تعلق به. ثانيها: مقتضى الحكم وإن تخلف لفوات شرط أو وجود مانع وبيانه أن اليمين هو المقتضي لوجوب الكفارة فيسمى علة له وإن كان وجوب الكفارة إنما يتحقق بمجموع أمرين الحلف الذي هو اليمين والحنث فيها لكن الحنث شرط في الوجوب والحلف هو السبب المقتضي له. فقالوا هو علة فإذا حلف الإنسان على فعل شيء أو تركه قيل قد وجدت منه علة وجوب الكفارة وإن كان الوجوب يوجد حتى يحنث وإنما هو بمجرد الحلف انعقد سببه. ثالثها حكمة الحكم وهي المعنى المناسب الذي ينشأ عنه الحكم كمشقة السفر للقصر والفطر والدين لمنع الزكاة والأبوة لمنع القصاص. فيقال مشقة السفر هي علة استياحة القصر والفطر للمسافر والدين في ذمة مالك النصاب علة لمنع وجوب الزكاة وكون القاتل أبا علة لمنع وجوب القصاص والمعنى المناسب هو كون حصول المشقة على المسافر معنى مناسب لتخفيف الصلاة بقصرها والتخفيف عنه بالفطر. وانقهار مالك النصاب بالدين عليه معنى مناسب لإسقاط وجوب الزكاة عنه وكون الأب سبب وجود الولد معنى مناسب لسقوط القصاص لأنه لما كان سبب إيجاده لم تقتض الحكمة أن يكون الولد سبب إعدامه وهلاكه لمحض حقه واعلم بأن الفقهاء كثيرا ما يذكرون في كتبهم مثل هذه العلل ومن هنا نشأت الفروق بحيث صارت كأنها فن مستقل كما سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى فيقال ما الفرق بين أن لا يقتل الأب بابنه إذا قتله وبين وجوب رجمه إذا زنى بابنته فيجاب بالفرق بين الأول بكونه سبب إيجاده وبين الثاني من حيث إن الرجم إنما هو لمحض حق الله تعالى والأول لمحض حق الولد.
ثانيها: السبب: وهو لغة ما توصل به إلى الغرض المقصود وشرعا ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته فيوجد الحكم عنده لا به وذلك لأنه ليس مؤثرا(1/73)
في الوجود بل هو وصلة ووسيلة إليه كالحبل مثلا فإنه يتوصل به إلى إخراج الماء من البئر وليس هو المؤثر في الإخراج وإنما المؤثر حركة المستقي للماء ثم استعير السبب شرعا لمعان. أحدها: ما يقابل المباشرة كحفر البئر مع التردية فيها فإذا. حفر شخص بئرا ودفع آخر إنسانا فتردى فيها فهلك فالأول وهو الحافر متسبب إلى هلاكه والثاني وهو الدافع مباشر له فأطلق الفقهاء السبب على ما يقابل المباشرة فقالوا إذا اجتمع المتسبب والمباشر غلبت المباشرة ووجب الضمان على المباشر وانقطع حكم التسبب وله أمثلة أخرى محلها كتب الفروع. الثاني علة العلة كالرمي سمي سببا للقتل وهو علة الإصابة والإصابة علة لزهوق النفس الذي هو القتل فالرمي هو علة علة القتل وقد سموه سببا. الثالث العلة بدون شرطها كالنصاب بدون حولان الحول سمي سببا لوجوب الزكاة الرابع العلة الشرعية كاملة وهي المجموع المركب من المقتضى والشرط وانتفاء المانع ووجود الأهل والمحل يسمى سببا ثم إن هذه العلة قد تكون وقتا كالزوال للظهر وقد تكون معنى يستلزم حكمة باعثة كالإسكار للتحريم ونحوه وسميت هذه العلة سببا فرقا بينها وبين العلة العقلية لأن العقلية موجبة لوجود معلولها كالكسر للانكسار وسائر الأفعال مع الانفعالات فإنه متى وجد الفعل القابل وانتفى المانع وجد الانفعال بخلاف الأسباب فإنه لا يلزم من وجودها وجود مسبباتها وأما العلة الشرعية الكاملة فإنها وإن كان يلزم من وجودها وجود معلولها سببا مع أن السبب لا يلزم من وجوده وجود مسببه لكن لما كان تأثيرها ليس لذاتها بل بواسطة نصب الشارع لها ضعفت لذلك عن العلة العقلية فأشبهت السبب الذي حكمه أن يحصل عنده لا به فلذلك سميت سببا.
ثالثها: الشرط: وهو في اللغة العلامة ومنه قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد 18] أي علاماتها وفي الشرع ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته وذلك كالإحصان الذي هو شرط وجوب رجم الزاني فإن وجوب الرجم ينتفي بانتفاء الإحصان فلا يرجم إلا محصن وكالحول الذي هو شرط وجوب الزكاة ينتفي وجوبها لانتفائه فلا تجب إلا عد تمام الحول. ثم إن الشرط إن أخل عدمه بحكمة السبب فهو شرط السبب وذلك كالقدرة على تسليم المبيع فإن تلك القدرة شرط لصحة البيع الذي هو سبب ثبوت الملك المشتمل على مصلحة وهو حاجة الابتياع لعلة الانتفاع بالمبيع وهي متوقفة على القدرة على التسليم فكان عدمه مخلا بحكمة المصلحة التي(1/74)
شرع لها البيع وإن استلزم عدم الشرط حكمة تقتضي نقيض الحكم فهو شرط الحكم كالطهارة للصلاة فإن عدم الطهارة حال القدرة عليها مع الإتيان بالصلاة يقتضي نقيض حكمة الصلاة وهو العقاب فإنه نقيض وصول الثواب. واعلم أن الشرط منحصر في أربعة أنواع الأول عقلي كالحياة للعلم فإنه إذا انتفت الحياة انتفى العلم ولا يلزم من وجودها وجوده. الثاني: شرعي كالطهارة للصلاة. الثالث: لغوي كعبدي حر إن قمت. وهذا النوع كالسبب فإنه يلزم من وجود القيام وجود العتق ومن عدم القيام عدم العتق المعلق عليه. الرابع عادي كالغذاء للحيوان إذ العادة الغالبة أنه يلزم من انتفاء الغذاء انتفاء الحياة من وجوده وجودها إذ لا يتغذى إلا الحي فعلى هذا يكون الشرط العادي مطردا منعكسا كالشرط اللغوي ويكونان من قبيل الأسباب لا من قبيل الشروط وما جعل قيدا لشيء في معنى كالشرط في العقد فالأصح أنه كالشرط الشرعي وقيل كاللغوي واللغوي أغلب استعماله في السببية العقلية كقولك إذا طلعت الشمس فالعالم مضيء وفي الشرعية كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة 6] واستعمل اللغوي. لغة في شرط لم يبق للمسبب شرط سواه نحو إن تأتني أكرمك فإن الإتيان شرط لم يبق للإكرام سواه لأنه إذا دخل الشرط اللغوي عليه علم أن أسباب الإكرام حاصلة لكن متوقفة على حصول الإتيان
رابعها: المانع: وهو ما يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته فهو عكس الشرط وهو إما للحكم كالأبوة في القصاص مع القتل العمد ويعرف بأنه وصف وجودي ظاهر منضبط مستلزم لحكمة تقتضي تفيض حكم السبب مع بقاء حكم المسبب وإما لسبب الحكم كالدين للزكاة مع ملك نصاب ويعرف بأنه وصف يخل وجوده بحكم السبب ونصب العلة والسبب والشرط والمانع لتفيد ما اقتضته من الأحكام حكم شرعي فجعل الزنا سببا لوجوب الحد حكم شرعي وهكذا يقال في نظائره.
تنبيه : اعلم أن ما ذكرناه هنا من انقسام خطاب الوضع إلى الأنواع الأربعة إنما هو تقسيم لكلياته وبقي له أقسام جزئية تعد كاللواحق له وإليك بيانها.
أحدها الصحة: وعرفها الفقهاء بأنها وقوع الفعل كافيا في سقوط القضاء كالصلاة الواقعة بشروطها وأركانها مع انتفاء موانعها فإذا وقعت كذلك سقط الطلب بقضائها.(1/75)
وقال المتكلمون: الصحة موافقة الأمر فكل من أمر بعبادة فوافق الأمر بفعلها كان قد أتى بها صحيحة وإن اختل شرط من شروطها أو وجد مانع وهذا أعم من قول الفقهاء لأن كل صحة فهي موافقة الأمر عند المتكلمين وليس كل موافقة الأمر صحة عند الفقهاء فصلاة المحدث وهو يظن الطهارة صحيحة على قول المتكلمين دون الفقهاء والقضاء واجب على القولين ومن هنا تعلم أن الخلاف بينهما لفظي حقيقي والبطلان يقابل الصحة على الرأيين فعلى قول الفقهاء البطلان وهو وقوع الفعل غير كاف في سقوط القضاء وعلى قول المتكلمين هو مخالفة الأمر وأما الصحة في المعاملات كعقد البيع والرهن والنكاح ونحوها فهي ترتب أحكامها المقصودة بها عليها. قال الآمدي ولا بأس بتفسير الصحة في العبادات بهذا ومعناه أن مقصود العبادة إقامة رسم التعبد وبراءة ذمة العبد منها فإذا أفادت ذلك كان هو معنى أنها كافية في سقوط القضاء فتكون صحيحة والبطلان والفساد مترادفان عند أصحابنا والجمهور فيقال صحيح وفاسد كما يقال صحيح وباطل وأثبت أبو حنيفة قسما متوسطا بين الصحيح والباطل سماه الفاسد وقال هو ما كان. مشروعا بأصله دون وصفه على أن أصحاب أحمد وأصحاب الشافعي فرقوا بين الفاسد والباطل في الفقه في مسائل كثيرة وقال في شرح التحرير لعلاء الدين علي المرداوي غالب المسائل التي حكموا عليها بالفساد هي ما إذا كان مختلفا فيها بين العلماء والتي حكموا عليها بالبطلان هي ما إذا كان مجمعا على بطلانها أو الخلاف فيها شاذ قال ثم وجدت بعض أصحابنا قال الفاسد من النكاح ما يسوغ فيه الاجتهاد والباطل ما كان مجمعا على بطلانه هذا كلامه.
ثانيها الأداء: وهو فعل المأمور به في وقته المقدر له شرعا كفعل المغرب ما بين غروب الشمس وغروب الشفق ويدخل في ذلك ما كان مضيقا كالصوم وموسعا محدودا كوقت الصلوات أو غير محدود كالحج فإن وقته العمر وتحديده بالموت ضروري ليس كتحديد أوقات الصلوات.
ثالثها الإعادة: وهي فعل المأمور به في وقته المقدر له شرعا لخلل في الأول سواء كان الخلل في الأجزاء كمن صلى بدون شرط أو ركن أو في الكمال كمن صلى منفردا فيعيدها جماعة في الوقت هكذا قال الأصوليون وقال موفق الدين المقدسي في(1/76)
الروضة الإعادة فعل الشيء مرة بعد أخرى وهذا التعريف أوفق من الأول وموافق لقول الأصحاب من صلى ثم حضر جماعة سن له أن يعيدها معهم إلا المغرب على خلاف هذا ويشمل قولهم من صلى ما إذا صلى الأولى منفردا أو في جماعة فأثبتوا الإعادة مع عدم الخلل في الأولى وفي مذهب مالك لا تختص الإعادة بالوقت بل هي فيه لاستدراك المندوبات وبعد الوقت لاستدراك الواجبات.
رابعها القضاء: وهو فعل المأمور به خارج الوقت أي بعد خروجه لفوات الفعل فيه لعذر أو غيره بأن أخر المأمور به عمدا حتى خرج وقته ثم فعله والأحسن من هذا أن يقال في تعريف القضاء أنه إيقاع العبادة خارج وقتها الذي عينه الشرع لمصلحة فيه.
فائدة : العبادة قد توصف بالأداء والقضاء كالصلوات الخمس وقد لا توصف بهما كالنوافل لعدم تقدير وقتها. وقد توصف بالأداء وحده كالجمعة والعيدين وعدم القضاء فيهما للتوقيف أو الإجماع لا لامتناعه عقلا ولا شرعا.
الإجزاء: يختص بالعبادة سواء كانت واجبة أو مستحبة. وقال المتكلمون إجزاء العبادة كفايتها في سقوط التعبد والقول مثل الصحة فلا يفارقها في إثبات ولا نفي فإذا وجد أحدهما وجد الآخر وإذا انتفى انتفي. والنفوذ تصرف لا يقدر فاعله على رفعه كالعقود اللازمة من البيع والإجارة والوقف وغيرها إذا اجتمعت شروطها وانتفت موانعها.
خامسها العزيمة والرخصة: العزيمة لغة القصد المؤكد. وشرعا هي الحكم الثابت بدليل شرعي خال عن معارض راجح. فقولنا: الحكم الثابت بدليل شرعي يتناول الواجب والمندوب وتحريم الحرام وكراهة المكروه فالعزيمة واقعة في جميع هذه الأحكام ولهذا قال أصحابنا إن سجدة ص هل هي من عزائم السجود أو لا مع أن سجدات القرآن كلها عندهم ندب وقولنا بدليل شرعي احتراز عما ثبت بدليل عقلي فإن ذلك لا تستعمل فيه العزيمة والرخصة وقولنا: خال من معارض راجح احتراز عما ثبت بدليل شرعي لكن لذلك الدليل معارض مساو أو راجح كتحريم الميتة عند عدم المخمصة هو عزيمة لأنه حكم ثابت بدليل خلا عن معارض فإذا وجدت المخمصة حصل المعارض لدليل التحريم وهو راجح عليه حفظا للنفس فجاز الأكل وحصلت الرخصة. والرخصة: لغة السهولة وشرعا ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح وقال العسقلاني في(1/77)
شرح مختصر الطوفي أجود ما يقال في الرخصة ثبوت حكم لحالة تقتضيه مخالفة مقتضى دليل يعمها وذكر ابن حمدان هذا الحد في مقنعه ومن الرخصة ما هو واجب كأكل الميتة للمضطر ووجوبه على الصحيح الذي عليه الأكثر ومنها ما هو مندوب كقصر المسافر الصلاة إذا اجتمعت الشروط وانتفت الموانع ومنها ما هو مباح كالجمع بين الصلاتين في غير عرفة ومزدلفة وكذا بيع العرايا وهنا أربع تنبيهات.
التنبيه الأول: إن العزيمة والرخصة وصفان للحكم لا للفعل فتكون العزيمة بمعنى التأكيد في طلب الشيء وتكون الرخصة بمعنى الترخيص ومنه حديث: "فاقبلوا رخصة الله" 1. وقول أم عطية: نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا.
التنبيه الثاني: اختلف في العزيمة والرخصة أيهما أفضل؟ فقيل في مثل أكل الميتة الإجابة أفضل حفظا للنفس واستيفاء لحق الله فيها وقيل الامتناع أفضل وقد نص أحمد في رواية جعفر بن محمد في الأسير يخير بين القتل وشرب الخمر فقال إن صبر فله الشرف وإن لم يصبر فله الرخصة. وقال القاضي أبو يعلى في أحكام القرآن الأفضل أن لا يعطي التقية ولا يظهر الكفر حتى يقتل واحتج بقصة عمار وحبيب بن عدي حيث لم يعط أهل مكة التقية حتى قتل فكان عند المسلمين أفضل من عمار. قال نجم الدين سليمان الطوفي في شرح مختصرة في الأصول عقيب أن نقل كلام القاضي قلت العجب من أصحابنا يرجحون الأخذ بالرخصة في الفطر وقصر الصلاة في السفر مع يساره الخطب فيهما ويرجحون العزيمة فيما يأتي على النفس كالإكراه على الكفر وشرب الخمر فإما أن يرجحوا الرخصة مطلقا أو العزيمة مطلقا أما الفرق فلا يظهر له كبير فائدة.
التنبيه الثالث: قد يكون سبب الرخصة اختياريا كالسفر واضطراريا كالاغتصاص باللقمة المبيح لشرب الخمر فليعلم هذا الأصل وما قبله لكثرة منافع هذه المباحث في كتب الفقه.
التنبيه الرابع: قد يشتمل الفعل الواحد على الوصف بالرخصة من جهة وبالعزيمة من جهة ثانية وذلك فيما إذا تعلق بفعل المكلف حقان فكل تخفيف تعلق بحق الله تعالى
__________
1 رواه أحمد في "م2/ص71". بما معناه.(1/78)
وبحق العبد فهو بالإضافة إلى حق الله تعالى عزيمة وبالإضافة إلى حق المكلف رخصة فاليتيم مثلا هو رخصة من حيث إن الله تعالى يسر على المكلف وسهل عليه وسامحه في أداء العبادة مع الحدث المانع ولم يشق عليه بطلب الماء حيث يتعذر أو يشق ولم يأمره بإعادة الصلاة إذا صلاها بالتيمم وهو أيضا عزيمة بالنسبة إلى حق الله تعالى حيث لا بد من الإتيان به للقادر عليه وقس عليه نظائره.
فصل: في اللغات من عادة الأصوليين التعرض لمباحث اللغات في كتبهم وذلك لأن هذه المباحث هي كالمدخل إلى أصول الفقه من جهة أنه أحد مفردات مادته وهي الكلام والعربية وتصور الأحكام الشرعية. وذلك أن لمباحث اللغات مدخلا كبيرا لمن يريد دخول أبواب الفقه والاطلاع على حقائقها فأصول الفقه متوقفة على معرفة اللغة لورود الكتاب والسنة بها اللذين هما أصول الفقه وأدلته فمن لا يعرف اللغة لا يمكنه استخراج الأحكام من الكتاب والسنة. إذا علمت هذا فاعلم أن اللغة إنما هي الألفاظ الدالة على المعاني النفسية يعني أن المتكلم يتصور في نفسه نسبة شيء لشيء بعد تصور مفردات مركب يدل على النسبة بينهما كما يتصور العلم ثم يتصور نفعه ثم يضم إلى ذلك نسبة الموضوع إلى المحمول أو نسبة المسند إلى المسند إليه ثم يعبر عن تلك النسبة بلسانه فيقول العلم نافع فتلك الألفاظ الدالة على هذا المعنى هي اللغة وأنت خبير بأن التصور لا يختلف حتى يقال له تصور هندي أو عربي أو فارسي وإنما الذي يختلف ويسمى بأسماء هو اللفظ المعبر به عما في الضمير والتصور وسبب ذلك الاختلاف إنما هو. اختلاف أمزجة الألسنة وعلة اختلاف أمزجة الألسنة وسببه اختلاف الأهوية وطبائع الأمكنة فإذا غلب البرد مثلا على مكان برد هواؤه وطبع البرد التكثيف والتثقيل لأن العنصرين الباردين وهما الماء والأرض ثقيلان كثيفان والماء أشدهما بردا والأرض أشدهما كثافة فيغلب الثقل على ألسنة أهل ذلك القطر فيثقل النطق على ألسنتهم ثم يضعون الألفاظ المخصوصة للمعاني المخصوصة فيجيء النطق بها ثقيلا كالعجمي والتركي وغيرهما وإذا غلب الحر على مكان سخن هواؤه وطبع الحرارة التجفيف والتحليل والتلطف فتغلب الخفة على ألسنة أهل ذلك المكان فيخف النطق على ألسنتهم ثم يضعون الألفاظ المخصوصة للمعاني المخصوصة فيجيء النطق بها خفيفا سمحا سهلا كاللغة العربية فلهذا كانت أفصح اللغات وأحسنها وأشرفها وحصل الإعجاز والتحدي(1/79)
بكلام الله تعالى النازل بها دون كلامه النازل بغيرها مع أنه قد كان في قدرة الله سبحانه أن يعجز أهل كل لسان بما نزله من كلامه بذلك اللسان وقد أشار إلى هذا المتقدمون من الأطباء في فلسفة الطب.
واعلم أن المختار أن اللغة بعضها حاصل بالتوقيف والتعليم وبعضها حاصل بالاصطلاح. وقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة 31] معناه والله أعلم أنه علمه ما احتاج منها بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} [البقرة 31] وهو إشارة إلى مسمى محسوس وهذا يقتضي أنه كان ثم أشياء محسوسة علم الله تعالى آدم أي ألهمه أسمائها ولم يلهمها الملائكة وهذا لا يقتضي أن يكون آدم تعلم جميع لغات البشر من عهده إلى آخر الدوران. وتنقسم اللغة إلى أسماء الأعلام كزيد وخالد وإلى أسماء الصفات كعالم وقادر وهذه لاتثبت بالقياس اتفاقا وإلى أسماء الأجناس والأنواع التي وضعت لمعان في مسمياتها تدور معها وجودا وعدما وهذا النوع من اللغة يصح القياس عليه وذلك كالخمر فإن اسمه يدور مع التخمير وجودا وعدما فإنه يصح إطلاق اسمه على كل ما خامر العقل قياسا بعلة المخامرة فحيث فهم الجامع بين شيئين جاز تسمية الفرع باسم الأصل قياسا ومن هنا أخذ الفقهاء أصلا فرعوا عليه فروعا منها أن اللائط يحد قياسا على الزاني بجامع الإيلاج المحرم وشارب النبيذ يحد قياسا على شارب الخمر بجامع السكر والتخمير ونباش القبور يحد قياسا على سارق أموال الأحياء بجامع أخذ المال خفية عند من يقول بذلك وهذا كله مبني على قاعدة إثبات اللغة بالقياس والذين قالوا لا قياس في اللغة كبعض الحنفية قالوا لا حد في ذلك
فائدة: أولع كثير من أهل عصرنا بسؤال حاصله أن من تقدم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المرسلين إنما كان مبعوثا لقومه خاصة فلذلك بعث بلسانهم ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم مبعوث لجميع الخلق فلم لم يبعث بجميع الألسنة ولم يبعث إلا بلسان بعضهم وهم العرب والجواب أنه لو بعث بلسان جميعهم وأنزل القرآن عليه كذلك لكان كلاما خارجا عن المعهود ويبعد بل يستحيل أن ترد كل كلمة من القرآن مكررة بكل الألسنة مع أنها لا تنضبط وتتجدد مع تجدد الأزمان كما تجددت اللغة الفرنسوية والإنكليزية وغيرهما وإذا كان الأمر كذلك تعين البعض وكان لسان العرب أحق لأنه أوسع وأفصح ولأنه لسان(1/80)
المخاطبين وإن كان الحكم عليهم وعلى غيرهم وأيضا فإن الدول من قبل وإلى عهدنا اصطلحوا على جعل اللغة الرسمية فيما بينهم لغة واحدة ليسهل التخاطب بها فيما بينهم واختاروا أن تكون أخف من غيرها على لسانهم كما جعل دول زمننا اللغة الفرنسوية هي اللغة الرسمية فيما بينهم. وكل دولة حكمت ذا ألسن مختلفة تجعل لغتها رسمية فيما بينهم وهذا قانون طبيعي في العمران. ولما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الأمم على اختلاف ألسنتهم اقتضت حكمته أن يعلم الخلق ذلك القانون الطبيعي فأنزل كتابه بلغة نبيه التي هي أفصح اللغات وأوسعها وأدخلها في الإعجاز ليجعل اللغة العربية لغة رسمية لجميع الأمم التي أوجب عليها الإيمان بذلك النبي الكريم وليحصل الوفاق لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في اللسان كما وجب عليهم الوفاق في القلوب وفي التوحيد وفي جميع المعتقدات فليعلم ذلك والله الموفق.
فصل: اعلم أن الأسماء على أربعة أضرب وضيعية وعرفية وشرعية ومجاز مطلق فأما الوضعية فهي الثابتة بالوضع وهو تخصيص الواضع لفظا باسم بحيث إذا أطلق ذلك اللفظ فهم منه ذلك المسمى كما أنه متى أطلق لفظ الأسد فهم منه حد الحيوان الخاص المفترس. والعرفي: ما خص عرفا ببعض مسمياته التي وضع لها في أصل اللغة عند ابتداء وضعها كلفظ الدابة الذي هو في أصل الوضع لكل ما دب لاشتقاقه من الدبيب ثم خص في عرف الاستعمال بذوات الأربع وإن كان باعتبار الأصل يتناول الطائر لوجود الدبيب منه. ومنه ما شاع أي اشتهر استعماله في غير ما وضع له في الأصل كالغائط فهو في أصل الوضع اسم للمطمئن أي المنخفض من الأرض ثم اشتهر استعماله عرفا في الخارج المستقذر من الإنسان وكالرواية التي هي في الأصل اسم للبعير الذي يستقى عليه ثم اشتهر استعمالها في المزادة التي هي وعاء الماء وهذا اللفظ العرفي هو مجاز بالنسبة إلى الوضعي الذي هو الموضوع الأول وحقيقة فيما خص به في العرف لاشتهاره فيه. والشرعية: ما نقله الشرع أي خرج بها الشارع عن وضع أهل اللغة ثم وضعها بإزاء معنى شرعي كالصلاة والصيام وقيل إن الشارع أبقى في الصلاة معنى الدعاء ثم ضم إليه شروطا كالوضوء والوقت والسترة وغير ذلك وهذه الألفاظ عند إطلاقها تصرف إلى معناها الشرعي لأن الشارع مبين للشرع لا للغة وكذا في كلام الفقهاء ومتى ورد اللفظ وجب حمله على الحقيقة في بابه لغة أو شرعا أو عرفا ولا يحمل على المجاز إلا بدليل يمنع(1/81)
حمله على الحقيقة من معارض قاطع أو عرف مشهور كمن قال رأيت راوية فإن إرادة المزادة منه ظاهرة بالعرف المشهور.
وأما المجاز المطلق فهو اللفظ المستعمل في غير موضوع أول على وجه يصح فاللفظ المستعمل جنس يعم الحقيقة والمجاز وفي غير موضوع أول فصل مخرج للحقيقة وذلك كاستعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع فإنه غير موضوع للأسد الأول إذ موضوعه الأول هو السبع
وقولنا على وجه يصح نريد به شرط المجاز وهو أنه لا بد له من علاقة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي والعلاقة بكسر العين هي ما ينتقل الذهن بواسطته عن المجاز إلى الحقيقة وذلك كالشجاعة التي ينتقل الذهن بواسطتها عن الرجل الشجاع إذا أطلقنا عليه لفظ أسد إلى السبع المفترس إذ لولا هذه العلاقة وهي صفة الشجاعة لما صح التجوز ولما انتقل الذهن إلى السبع المفترس عند إطلاق لفظ الأسد على الرجل الشجاع ولو كان لفظ الأسد عليه علمية ارتجالا. والمعتبر في العلاقة أن تكون ظاهرة يسرع الفهم إليها عند إطلاق لفظ المجاز حرصا على سرعة التفاهم وحذرا من إبطائه لأن ذلك عكس مقصود الواضع والمتجوز والمخاطبين فيما بينهم كإطلاق لفظ الأسد على الشجاع بجامع الشجاعة وهي صفة ظاهرة لا كإطلاق لفظ الأسد على الحيوان الأبجر لخفاء صفة البجر في الأسد فإنه لا يكاد يعلمها فيه إلا القليل من الناس بخلاف الشجاعة فإنه لا يجهلها إلا القليل النادر. واعلم أن للمجاز علاقات كثيرة وهي وإن كان استيفاء الكلام عليها محله علم البيان وذلك العلم مشهور بين أهل العلم في زمننا أكثر من شهرة علم الأصول إلا أننا لا بد لنا من ذكر جمل منها لاستدعاء المقام لها فنقول يتجوز بالسبب عن المسبب نحو قول القائل فعلت هذا لأبلو ما في ضميرك أي أعرفه تجوز بالابتلاء عن العرفان لأن الابتلاء سببه إذ من ابتلى شيئا عرفه.
وأصناف السبب أربعة قابلي وصوري وفاعلي وغائي وكل واحد منهما يتجوز به عن سببه.
مثال الأول: وهو تسمية الشيء باسم قابله قولهم سال الوادي والأصل سال الماء في الوادي لكن لما كان الوادي سببا قابلا لسيلان الماء فيه صار الماء من حيث القابلية كالسبب له فوضع الوادي موضع.
ومثال الثاني: وهو تسمية الشيء باسم صورته هذه(1/82)
صورة الأمر والحال أي حقيقته.
ومثال الثالث: وهو تسمية الشيء باسم فاعله حقيقة أو ظنا قولهم في الكتاب الجامع لنوع علمه هو شيخ جالس على الكرسي أو على الرف لأن الشيخ أعني المصنف هو فاعل الكتاب. وقولهم للمطر: سماء لأن السماء فاعل مجازي للمطر بدليل إسناد الفعل إليها في قولهم أمطرت السماء. ومثال الرابع: وهو تسمية الشيء باسم غايته تسمية العنب خمرا والعقد نكاحا لأنه غايته ويؤول إليه.
القسم الثاني: التجوز بالعلة عن المعلول كالتجوز بلفظ الإرادة عن المراد لأنها علة. كقوله تعالى: {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء 150] أي يفرقون بدليل أنه قوبل بقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا} [النساء 152] ولم يقل ولم يريدوا أن يفرقوا وكذلك قول القائل رأيت الله في كل شيء لأن الله سبحانه وتعالى هو موجد كل شيء وعلته فأطلق لفظه عليه ومعناه رأيت كل شيء فاستدللت به على وجود الله سبحانه لظهور آثار القدرة والإلهية فيه فدل عليه سبحانه دلالة العلة على معلولها والمفعول على فاعله.
القسم الثالث: التجوز باللازم عن الملزوم كتسمية السقف جدارا لأن الجدار لازم له وتسمية الإنسان حيوانا لأن الحيوان لازم له.
القسم الرابع: التجوز بلفظ الأثر عن المؤثر كتسميتهم ملك الموت موتا لأن الموت أثر له وقول الشاعر يصف ظبية:
فإنما هي إقبال وإدبار
لأن الإقبال والإدبار من أفعالها وهي آثار لها وكذلك قولهم: زيد عدل أو صوم أو كرم أو خيرا أو بر. وكقولهم: الطريق جور أي مائل فهو وصف للطريق فينزل منزلة الأثر وزيد عدل ونحوه سمي باسم فعل من أفعاله.
القسم الخامس: التجوز بلفظ المحل عن الحال فيه كتسمية المال كيسا في قولهم هات الكيس والمراد المال الذي فيه لأنه حال في الكيس وكذلك تسمية الخمر كأسا أو زجاجة. والطعام مائدة أو خوانا. والميت: جنازة. والمكتوب ورقة كتابا وبطاقة لأن هذه الأشياء حالة في المحال المذكورة فهذه خمسة أقسام وإذا قابلتها بعكسها حصل لك خمسة أقسام أخرى وإليك بيانها.(1/83)
السادس : التجوز بلفظ المسبب عن السبب كقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة 188] أي لا تأخذوها فتجوز بالأكل عن الأخذ لأنه مسبب عن الأخذ إذ الإنسان يأخذ فيأكل.
السابع : التجوز بلفظ المعلول عن العلة كالتجوز بلفظ المراد عن الإرادة كقوله تعالى: {ذَا قَضَى أَمْراً} [آل عمران 47] أي إذا أراد أن يقضي فالقضاء معلول الإرادة فتجوز به عنها
وكقوله تعالى {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ} [المائدة 42] أي إذا أردت أن تحكم.
الثامن : التجوز بالملزوم عن اللازم كتسمية العلم حياة لأنه ملزوم الحياة إذ الحياة شرط للعلم والمشروط ملزوم للشرط فكذلك التجوز بكل مشروط عن شرطه هو تجوز بالملزوم عن اللازم له.
التاسع : التجوز بلفظ المؤثر عن الأثر كقول الله: "رأيت الله وما أرى في الوجود إلا الله" يريد آثاره الدالة عليه في العالم. وكقولهم: في الأمر المهم وغيره هذه إرادة الله أي مراده فأطلق لفظ الإرادة على المراد إطلاقا لاسم المؤثر على الأثر لأن الإرادة مؤثرة في المراد.
العاشر : التجوز بلفظ الحال عن المحل كتسمية الكيس مالا والكأس خمرا. والمائدة طعاما والجنازة ميتا والورقة مكتوبا. فهذه الخمسة عكس التي قبلها وبها صار الكل عشرة.
الحادي عشر : تسمية الشيء باعتباره وصف زائل أي كان به وزال عنه كإطلاق العبد على العتيق باعتبار وصف العبودية الذي كان قائما به فزال عنه وكذا تسمية الخمر عصيرا والعصير عنبا باعتبار ما كان.
الثاني عشر: تسمية الشيء باعتبار وصف يؤول ويصير إليه كإطلاق الخمر على العصير في قوله تعالى حكاية: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف 36] وإنما كان يعصر عنبا فيحصل منه عصير. لكن لما كان العصير يؤول إلى وصف الخمر به أطلق عليه لفظ الخمر.(1/84)
الثالث عشر: إطلاق ما بالقوة على ما بالفعل كتسمية الخمر في الدن مسكرا لأن فيه قوة الإسكار. وتسمية النطفة إنسانا لأن الإنسان فيه بالقوة أي قابل لصيرورته إنسانا.
الرابع عشر: عكس الذي قبله وهو إطلاق ما بالفعل على ما بالقوة كتسمية الإنسان الحقيقي نطفة أو ماء مهينا وهو أيضا من باب التسمية باعتبار وصف زائل.
الخامس عشر: التجوز بالزيادة كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى 11] أي ليس مثله والكاف زائدة على رأي من ذهب إلى هذا والتحقيق أن لا زيادة في الآية وأن المعنى لو فرضنا أن له مثلا فليس لمثله مثل فانتفت المماثلة عنه تعالى بطريق الأولوية لأن انتفاء مثل المثل يوجب انتفاء المثل والمثال الجيد أن يقال ليس كزيد إنسانا.
السادس عشر: التجوز بالنقص كقوله تعالى حكاية وسأل لقرية [يوسف: 82] أي أهل القرية: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة 93] أي حب العجل {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف 32] أي في حبه.
السابع عشر: تسمية الشيء باسم ما يشابهه وهو المسمى بالاستعارة بالاتفاق كقولك رأيت أسدا في الحمام تريد رجلا شجاعا. وكلمت حمارا تريد به رجلا بليدا وهذا النوع يحتاج إلى شرح وبيان ومحله كتب البيان واستيفاء بحثه هنا يخرجنا عن المقصود.
الثامن عشر: تسمية الشيء باسم ضده كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى 4] َ{مَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْه} ِ [البقرة 194] حيث سمى الجزاء سيئة وعدوانا ويجوز أن يجعل من باب المجاز للمشابهة لأن جزاء السيئة يشبهها في صورة الفعل وفي كونها تسوء من وصلت إليه وكذلك جزاء العدوان ويجوز أن يكون هذا من باب التجوز بلفظ السبب عن المسبب حيث يسمى عقوبة السيئة والاعتداء سيئة واعتداء لأن العقوبة مسببة عن السبب والاعتداء.
التاسع عشر: تسمية الجزء باسم الكل كإطلاق لفظ العام والمراد الخاص كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران 173] والمراد واحد معين وقولنا: فلم الرجال والمراد بعضهم ورأيت زيدا وإنما رأيت بعضه.(1/85)
العشرون: عكس ذلك كتسمية الكل باسم الجزء كقولهم للزنجي أسود وإن كان الأسود إنما هو جزئه وهو أكثره فأطلق الأسود على جميعه وإن كان أسنانه وأخمصه أسودين لكن هذا المثال ليس بجيد وإن ذكره صاحب المحصول والمثال الجيد قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم" 1 فسمى المسلمين باسم جزء يسير منهم وهو اليد إشارة إلى أنه ينبغي لهم أن يكونوا في الائتلاف والاجتماع كيد واحدة.
الحادي والعشرون: إطلاق اللفظ المشتق بعد زوال المشتق منه كقولنا للإنسان بعد فراغه من الضرب ضارب وهذا محل خلاف.
الثاني والعشرون: المجاز بالمجاورة كتسمية مزادة الماء راوية.
الثالث والعشرون: المجاز العرفي كاستعمال الدابة في الحمار ونحوه.
الرابع والعشرون: تسمية المتعلق بفتح اللام باسم المتعلق بكسرها كتسمية المعلوم علما والمقدور وقدره. كقوله تعالى : {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة 255] أي معلومه وقولهم رأينا قدرة الله أي مقدوره وقد يتجوز بلفظ المعلوم عن العلم والمقدور عن القدرة. عكس الأول كما لو حلف حالف بمعلوم الله ومقدوره وأراد العلم والقدرة جاز وانعقدت يمينه. واعلم أن وجوه المجاز أكثر مما ذكرناه هنا وكلها ناشئة عن تعدد أصناف العلاقة الرابطة بين محل المجاز والحقيقة فكل مسميين بينهما علاقة رابطة جاز التجوز باسم أحدهما عن الآخر سواء نقل ذلك التجوز الخاص عن العرب أو لم ينقل كما هو الأصح عند البلغاء نعم يتفاوت المجاز قوة وضعفا بحسب تفاوت ربط العلاقة بين الحقيقة والمجاز وذلك التفاوت قد يكون بدرجة واحدة كما ذكر في الراوية بالنسبة إلى الجمل وقد يكون بدرجتين كقول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... وعيناه وإن كانوا غضابا
ففيه مجاز إفرادي من جهة أنه سمى الغيث سماء لحصوله عن الماء النازل من
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الجهاد، باب: في السرية ترد على أهل العسكر، والنسائي في كتاب القسامة، باب: القود بين الأحرار والمماليك في النفس، وابن ماجه في كتاب الديات، باب: المسلمون تتكافأ دماؤهم، وأحمد في "م1/ص119".(1/86)
السحاب المجاور للسماء وهو العلو. ومجاز إسنادي وهو وصفه العشب بالنزول لحصوله عن الماء المتصف بالنزول من الغمام إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتأمل. وينبغي لمن حاول علم الشريعة النظر والارتياض في هذه الأنواع المجازية ليعرف مواقع ألفاظ الكتاب والسنة وقد صنف فيه العلماء كتبا كثيرة كالإيجاز في المجاز للحافظ ابن القيم وإعجاز القرآن للخطابي وللرماني ولابن سراقة ولأبي بكر الباقلاني. ولعبد القاهر الجرجاني وللفخر الرازي ولابن أبي الأصبع واسمه البرهان وغير ذلك مما يطول ذكره. وقال نجم الدين سليمان الطوفي كتاب المجاز للشيخ عزالدين ابن عبد السلام أجود ما رأيت في هذا الفن ولقد أحسن فيه غاية الإحسان وضمنه من ذلك النكت البديعة والفرائد الحسان فجزاه الله وسائر العلماء عما أفادوا به جزيل الإحسان انتهى. وحكى السيوطي في الإتقان أنه لخص هذا الكتاب وضم إليه زيادات كثيرة وسمى ملخصه مجاز الفرسان إلى مجاز القرآن ثم لخصه أيضا في كتابه الإتقان وللطوفي كتاب فواصل الآيات وأقرب ما ذكر تناولا ووجودا كتاب الإيجاز في المجاز لابن القيم فإنه الضالة المنشودة وقد طبع في مصر فيسهل تناوله وجنى جنته لمتناوله دان فجزاه الله خيرا.
تنبيه : اختلف العلماء في وقوع المجاز في القرآن فذهب الجمهور إلى وقوعه فيه وأنكره جماعة منهم الظاهرية وابن القاص من الشافعية وابن خويز منداد من المالكية واستدلوا لمذهبهم بأن المجاز أخو الكذب والقرآن منزه عنه وأن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير وذلك محال على الله تعالى ورد عليهم المثبتون بأنه لو سقط المجاز من القرآن لسقط منه شطر الحسن. فقد اتفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة ولو وجب خلو القرآن من المجاز وجب خلوه من الحذف والتوكيد وتثنية القصص وغيرها. وممن منع أن في القرآن مجازا من أصحاب أحمد أبو الحسن الخرزي وابن حامد وأبو الفضل التميمي ابن أبي الحسن التميمي وللإمام أحمد ابن تيمية بحث طويل في الحقيقة والمجاز في كتاب الإيمان تنبغي مراجعته ونقله هنا يخرجنا عن المقصود وبكل حال فالمسألة ليست بذي بال إذا تقرر هذا فاعلم أن الحقيقة تعرف بمبادرتها إلى الفهم بدون قرينة وبأن يكون اللفظ مما يصح الاشتقاق منه والتصريف إلى الماضي والمستقبل واسم الفاعل والمفعول وبأن يكون أحد اللفظين يستعمل وحده من غير مقابل والآخر لا يستعمل إلا في المقابلة كالمكر في حق الله تعالى فإنه يصح أن(1/87)
يقال: مكر زيد بعمر ولا يصح ذلك في حق الله تعالى إلا مقابلة لمكر المخلوق نحو ومكروا ومكر الله وكقوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 68]
وتعرف أيضا بأن استحالة نفي اللفظ يدل عليها بخلاف المجاز فإنه يجوز نفيه وذلك لأنه يستحيل أن تقول للإنسان البليد ليس بإنسان ويجوز أن تقول عنه ليس بحمار وتعرف الحقيقة أيضا بصحة الاستعارة من لفظها فلما صح استعارة لفظ الأسد للرجل الشجاع علم أن لفظ الأسد حقيقة في الحيوان المفترس مجاز في الرجل الشجاع.
واعلم أنه لا يلزم أن يكون لكل حقيقة مجاز عقلا والصحيح أنه يلزم كل مجاز أن تكون له حقيقة ولا تتوقف صحة المجاز على نقل استعماله في محله عن العرب على الأظهر اكتفاء بالعلاقة المجوزة كما بيناه سابقا كما أن الاشتقاق والقياس الشرعي واللغوي لا يستلزم ذلك والحق أن أصل المجاز ثابت مطلقا مفردا ومركبا في عموم اللغة وخصوص القرآن وأنه ثابت أيضا في المفرد والمركب على الأظهر فيه وذلك أنك ترى العرب يستعملون لفظ الأسد في الشجاع وأنت خبير بأن الأسد لفظ مفرد دل على مسمى مفرد والشجاع كذلك فهذا يسمى مجازا إفراديا ومجازا في المفردات والمجاز التركيبي هو الواقع في الألفاظ المركبة نحو قول الشاعر:
أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشي
فلفظ الزمان الذي هو مرور الليل والنهار حقيقة في مدلوله ولفظ الإشابة حقيقة في مدلوله أيضا وهو تبييض الشعر لنقص الحرارة الغريزية لضعفها بالكبر لكن إسناد الإشابة إلى الزمان مجاز إذ المشيب للناس في الحقيقة هو الله تعالى فهذا مجاز في التركيب أي في إسناد الألفاظ بعضها إلى بعض لا في نفس مدلولات الألفاظ وهكذا كل لفظ كان موضوعا في اللغة ليسند إلى لفظ آخر أسند إلى غير ذلك من اللفظ فإسناده مجاز تركيبي وهذا النوع من المجاز يسميه علماء فن المعاني بالمجاز العقلي وحده عندهم إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس له غير ما هو له بتأول وحاصل قوله بتأول أن ينصب المتكلم قرينة صارفة عن أن يكون الإسناد إلى ما هو له ثم اعلم أن التحقيق أن الخلاف ليس في جواز المجاز مطلقا ولا في وقوعه وإنما الخلاف في أن المنقول في هذا المجاز هل هو حكم عقلي أو لفظ وضعي وأنت إذا حققت ذلك وجدت الخلاف لفظيا وحيث(1/88)
انتهى تقسيم الكلام إلى الحقيقة والمجاز فلنتكلم على انقسامه من جهة ثانية هي أمس بما نحن بصدده فنقول:
لا يخفى أن الصوت عرض مسموع واللفظ صوت معتمد على مخرج من مخارج الحروف والكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد وجمع الكلمة كلم مفيدا كان أو غير مفيد وهي جنس أنواعه ثلاثة اسم وفعل وحرف. والكلام ما تضمن كلمتين بالإسناد وهو نسبة أحد الجزئين إلى الآخر لإفادة المخاطب وشرطه الإفادة ولا يتألف إلا من اسمين نحو زيد قائم أو فعل واسم نحو قام زيد فالأولى جملة إسمية والثانية جملة فعلية ونحو قولك يا زيد وإن يقم زيد أقم فعليتان هذا ما اتفق ذكره من كليات مباحث العربية ومقدماتها وله محال مختصة به فلا نطيل به ولا بالمناقشة فيه ولننقل الكلام فيه إلى مباحث شأنها أن تذكر في فن الأصول وإن كان. موضوعها الألفاظ فهي كأنها ذات وجهين من جهة العادة أصولية ومن جهة التحقيق لغوية فنقول:
اعلم أن اللفظ إما أن يحتمل معنى واحدا فقط أو يحتمل أكثر من معنى واحد والأول النص والثاني إما أن يترجح في أحد معنييه أو معانيه وهو الظاهر أو لا يترجح وهو المجمل.
الأول : النص وهو لغة الكشف والظهور ومنه نصت الصبية رأسها إذا رفعته وأظهرته واصطلاحا ما أفاد بنفسه من غير احتمال وذهب بعض العلماء إلى أن النص ما دل على معنى قطعا ولا يحتمل غيره قطعا كأسماء الأعداد نحو أحد اثنين ثلاثة وهذا التعريف أشبه باللغة وهو مراد الإمام أحمد بقولهم نص عليه أحمد أو هو منصوص أحمد. وقال الأصوليون هو ما دل على معنى كيفما كان وهذا هو الغالب في كلام الفقهاء في الاستدلال حيث يقولون لنا النص والمعنى ودل النص على هذا الحكم وقضاء الشرع في النص أن لا يترك إلا بنسخ وقد يطلق على ما تطرق إليه احتمال يعضده دليل لأنه بذلك الاحتمال يصير كالظاهر والظاهر يطلق عليه لفظ النص ومثاله قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة 6] بكسر اللام وهو ظاهر في أن فرض الرجلين المسح مع احتمال الغسل فاحتمال الغسل مع الدليل الدال عليه يسمى أيضا لأنه صار مساويا للظاهر في المسح وراجحا عليه حتى أنه يجوز لنا أن نقول ثبت غسل الرجلين بالنص ويطلق(1/89)
النص على الظاهر أيضا لتلاقيهما في الاشتقاق إذ النص والظاهر مأخذهما من الارتفاع والظهور.
الثاني : الظاهر وهو في الحقيقة ونفس الأمر الشاخص المرتفع ومنه قيل لأشراف الأرض ظواهر
والظاهر خلاف الباطن وكما أن المرتفع من الأشخاص هو الظاهر الذي تتبادر إليه الأبصار فكذلك المعنى المتبادر من اللفظ هو الظاهر الذي تتبادر إليه البصائر والأفهام وأما إطلاق الظاهر على اللفظ المحتمل أمورا هو في أحدها أرجح فهو اصطلاح لا حقيقة وإنما هو في استعمال الفقهاء ويعرفونه بأنه اللفظ المحتمل لمعنيين هو في أحدهما أرجح دلالة وحكمه أنه لا يعدل عنه إلا بتأويل وهو صرف اللفظ عن ظاهره لدليل يصير به المرجوح راجحا ومثال ذلك ليتضح المرام قوله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بصقبه" 1. رواه البخاري والترمذي وصححه. والصقب القرب والملاصقة والمراد به الشفعة فهذا الحديث ظاهر في ثبوت الشفعة للجار الملاصق والمقابل أيضا مع احتمال أن المراد بالجار الشريك المخالط. إما حقيقة أو مجازا لكن هذا الاحتمال ضعيف بالنسبة إلى الظاهر فلما نظرنا إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" 2. رواه البخاري وأبو داود الترمذي وصححه صار هذا الحديث مقويا لذلك الاحتمال الضعيف في الحديث المتقدم حتى ترجحا على ظاهره فقدمناهما وقلنا لا شفعة إلا للشريك المقاسم. وحملنا عليه الجار في الحديث الأول وهو حمل سائغ في اللغة. ثم إن الاحتمال المرجوح المقابل للراجح الظاهر قد يكون بعيدا عن الإرادة وقد يكون قريبا منها وقد يكون متوسطا بين الطرفين. فالاحتمال البعيد يحتاج في حمل
__________
1 رواه البخاري في كتاب الشفعة، باب: عرض الشفعة على صحايها قبل البيع، وأبو داود في كتاب البيوع، باب: في الشفعة، والنسائى في كتاب البيوع، باب : ذكر الشفعة، وأحكامها، وابن ماجه في كتاب الشفعة، باب: الشفعة بالجوار، وأحمد في "م6/ص10".
2 رواه ابن ماجه في كتاب الشفعة، باب: إذا وقعت الحدود فلا شفعة، وأيو داود في كتاب البيوع، باب: في الشفعة، والنسائي في كتاب البيوع، باب ذكر الشفعة، وأحمد في باب: 33، والموطأ في كتاب الشفعة، باب: مالا تقع فيه الشفعة، وأحمد في "م3/ص296".(1/90)
اللفظ عليه إلى دليل قوي لتجبر قوة الدليل ضعف الاحتمال فيقويان على الاستيلاء على الظاهر والاحتمال القريب يكفيه في ذلك أدنى دليل والاحتمال المتوسط يكفيه دليل متوسط بين الدليلين قوة وضعفا وبالجملة فالغرض من دليل التأويل أن يكون بحيث إذا انضم إلى احتمال اللفظ المأول اعتضد أحدهما بالآخر واستوليا على الظاهر وقدما عليه فما كان في احتمال اللفظ من ضعف جبر باعتبار قوة في الدليل وما كان فيه من قوة سومح بقدره من الدليل والمعتمد قبالة المعتدل فهما يحصلان الغرض. ثم إن هذا الدليل المرجح إما أن يكون قرينة أو ظاهرا أو قياسا فأما القرينة فإما أن تكون متصلة أو منفصلة.
فمثال المتصلة: ما رواه صالح وحنبل عن أحمد قال كلمت الشافعي في مسألة الهبة فقلت إن الواهب ليس له الرجوع فيما وهب لقوله صلى الله عليه وسلم "العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" 1 وكان الشافعي يرى أن له الرجوع فقال: ليس بمحرم على الكلب أن يعود في قيئه قال أحمد فقلت له فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في صدر الحديث المذكور: "ليس لنا مثل السوء" 2 فسكت الشافعي.
ومثال القرينة المنفصلة: ما ذكره الفقهاء فيمن جاء من أهل الجهاد بمشرك فادعى أنه أمنه وأنكره المسلم فادعى أسره ففيه أقوال ثالثها القول قول من ظاهر الحال صدقه فلو كان الكافر أظهر قوة وبطشا وشهامة من المسلم جعل ذلك قرينة في تقديم قوله مع أن قول المسلم لإسلامه وعدالته أرجح وقول الكافر مرجوح لكن القرينة المنفصلة عضدته حتى صار قوله أقوى من قول المسلم الراجح. وأما الظاهر فمن أمثلته قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة 3] فإنه ظاهر في تحريم جلدها دبغ أو لم يدبغ مع
__________
1 رواه البخاري في كتاب الهبة، باب: لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته، ومسلم في كتاب الهبات، باب: 5، وأبو داود في كتاب البيوع، باب: الرجوع في الهببة، والنسائي في كتاب الهبة، باب: رجوع الوالد فيما يعطي ولده، وابن ماجه في كتاب الصدقات باب: الرجوع في الصدقة، وأحمد في "م1/ص40".
2 رواه البخاري في كتاب الهبة، باب: لايحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته، والنسائي في كتاب الهبة، باب: ذكر الاختلاف لخبر عبدالله بن عباس فيه، والترمذي في كتاب البيوع، باب ذكر الشفعة وأحكامها، باب: 33، والموطأ في كتاب الشفعة، باب: ما لا تقع فيه الشفعة، وأحمد في "م3/ص296".(1/91)
احتمال أن الجلد غير مراد بالمعوم احتمالا مترددا له من جهة أن إضافة التحريم إلى الميتة يقتضي تحريم الأكل والجلد غير مأكول يقتضي عدم تناول الجلد ومن جهة أن عموم اللفظ قوي متناول لجميع أجزائها يقتضي تناول الجلد ثم نظرنا في قوله عليه السلام: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" 1 فهو عموم وظاهر بتناول إهاب الميتة فكان هذا الظاهر مقويا لاحتمال عدم إرادة جلد الميتة من الآية المذكورة في التحريم. ومثال النص قوله عليه السلام في شاة ميمونة: "ألا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟ فقالوا: إنها ميتة قال: إنما حرم من الميتة أكلها" 2 فهذا نص في طهارة جلد الميتة. ومثال القياس إن تركه تعالى ذكر الإطعام في كفارة القتل ظاهر في عدم وجوبه إذ لو وجب لذكره كما ذكر التحرير والصيام هذا مع احتمال أن يكون واجبا مسكوتا عنه يستخرجه المجتهدون ثم رأينا إثبات الإطعام في كفارة القتل بالقياس إثباته في كفارة الظهار والصيام واليمين متجها لأن الكفارات حقوق لله تعالى وحكم الامتثال واحد فثبوت الإطعام في تلك الكفارات تنبيه على ثبوته في كفارة القتل. ثم اعلم أن كل من أراد تأويل ظاهر من الظواهر فعليه أمران:
أحدهما : بيان الاحتمال المرجوح مع الظاهر.
الثاني : بيان عاضد الاحتمال المرجوح أي الدليل الذي يعضده ويقويه حتى يقدم على الظاهر ثم إن الظاهر والاحتمال المرجوح إذا تقابلا فقد يحتف بالظاهر قرائن ترفع ذلك الاحتمال وتبطله ثم قد يكون كل واحدة من القرائن دافعة للاحتمال وحدها وقد لا تندفع إلا بمجموع تلك القرائن وذلك بحسب قوة القرائن وظهورها ومقاومتها لذلك الاحتمال وقصورها عنه فقد تقاومه قرينة واحدة أو قرينتان فتدفعه وقد لا تقاومه إلا جميعها فلا تندفع بدونه فمثال رفع الاحتمال المرجوح بالقرائن المحتفة بالظاهر "أن
__________
1 رواه مسلم في كتاب الحيض، باب: 105، وأبو داود في كتاب اللباس، باب: في أهب الميتة، والنسائي في كتاب الفروع، باب: جلود الميتة، والدارمي في كتاب الأضاحي باب: الاستمتاع بجلود الميتة، والموطأ في كتاب الصيد، باب: ماجاء في جلود الميتة، وأحمد في "م1/ص219".
2رواه مسلم في كتاب اليحض، باب:100، وأبو داود في كتاب اللباس، باب: في أهب الميتة، والنسائي في كتاب الفروع، باب: جلود الميتة، والدارمي في كتاب الأضاحي باب: الاستمتاع بجلود الميتة، والترمذي في كتاب اللباس، باب: 7.(1/92)
غيلان بن سلمة الثقفي رضي الله عنه أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخير أربعا منهن" رواه ابن ماجه والترمذي. وفيما يتداوله الفقهاء أمسك منهن أربعا وفارق سائرهن وعليه اتجه النزاع فالحنفية قالوا إن من أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة فإن كان تزوجهن في عقد واحد بطل نكاحهن ولم يجز أن يختار منهن شيئا وإن تزوجن متعاقبات اختار من الأول أربعا وترك الباقي والأئمة الثلاثة على أنه يختار منهن أربعا مطلقا ولما كان ما ذهب إليه الحنفية مخالفا لظاهر الحديث إذ ظاهر الإمساك فيه استدامة نكاح أربع وظاهر المفارقة تسريح الباقيات احتاجوا إلى تأويله. فحملوا الإمساك على ابتداء النكاح كأنه قال أمسك أربعا بأن تبتدىء نكاحهن وفارق سائرهن بأن لا تبتدىء العقد عليهن وعضدوا هذا التأويل بالقياس وهو أن بعض النسوة ليس بأولى الإمساك من بعض إذ هو ترجيح من غير مرجح ورد بقية الأئمة هذا التأويل بأن السابق إلى فهمنا وفهم الصحابة من الإمساك الاستدامة لا ابتداء النكاح ومن المفارقة التسريح لا ترك النكاح فيكون هذا مدلول اللفظ ومقتضاه وبأن النبي صلى الله عليه وسلم فوض الإمساك والفراق إلى غيلان مستقلا به حيث قال: أمسك وفارق لو كان المراد به ابتداء النكاح لما استقل به بالاتفاق إذ لابد من رضى الزوجة ومن الولي عندنا فكان يجب أن يقول أمسك أربعا منهن إن رضين ويبين له شرائط النكاح لأن ذلك بيان في وقت الحاجة إليه فلا يجوز تأخيره إلى غير ذلك من الأجوبة التي محلها الكتب المطولة في هذا الفن فهذه قرائن تدفع تأويلهم على أن الإمام الغزالي أنصف في هذا المقام. فقال والإنصاف أن تأويل الظواهر يختلف باختلاف أحوال المجتهدين وإلا فلسنا نقطع ببطلان تأويل أبي حنيفة رحمه الله تعالى مع هذه القرائن وإنما المقصود تذليل الطريق للمجتهدين والله سبحانه وتعالى أعلم. ونحن نقول إنما قصدنا في هذا الكتاب وغيره من كتبنا المشتملة على الأدلة بيان الإيضاح بالأمثلة واستنباط الفوائد من كتاب الله ومن كلام رسوله مع احترام العلماء وحفظ مقامهم حشرنا الله في زمرة المهديين منهم.
وهنا قد انتهى ما توخيناه من الكلام على النص والظاهر وذكرناهما هنا لقرب مباحثهما من مباحث مبادىء اللغة وأخرنا الكلام على المجمل إلى ما بعد المطلق والمقيد لأنه أشبه بهما. وهنا قد انتهى الكلام على ما هو مقدمة في هذا الفن ولنشرع إن شاء الله تعالى على الأصول وإليك البيان.(1/93)
فصل: في الأصول. اعلم أن المحققين من علماء هذا الشأن عرفوا تلك الأصول بالضوابط وهذه الطريقة وإن كان التعريف بهما ضعيفا إلا أننا نسلكها هنا ثم نورد تعريف كل قسم عند ذكره لأننا أردنا الضبط هنا ولم نرد الحدود وإن كانت تأتي عرضا واخترنا هنا طريقة الآمدي فإنه قال ما معناه إن الدليل الشرعي أي الذي طريق معرفته الشرع إما أن يرد من جهة الرسول أو لا من جهته. فإن ورد من جهة الرسول فهو إما من قبيل ما يتلى وهو الكتاب أو لا وهو السنة. وإن ورد لا من جهة الرسول فإما أن تشترط فيه عصمة من صدر عنه أو لا والأول الإجماع والثاني إن كان حمل معلوم على معلوم بجامع مشترك فهو القياس وإلا فهو الاستدلال فالثلاثة الأول وهي الكتاب والسنة والإجماع نقلية والآخران معنويان والنقلي أصل للمعنوي والكتاب أصل للكل. فالأدلة إذن خمسة الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال وعرفه الآمدي بأنه دليل بنص ولا إجماع ولا قياس ومصدر هذه الأصول هو الله تعالى إذ الكتاب قوله والسنة. بيانه والإجماع دال على النص ومدركها الرسول عليه السلام لأنه لا سماع لنا من الله تعالى ولا من جبريل فلم يبق لنا مدرك لهذه الأصول إلا الرسول فالكتاب سمع منه تبليغا تصدر عنه تبيينا والإجماع والقياس مستندان في إثباتهما إلى الكتاب والسنة.
واعلم أن هذه الأصول هي المتفق عليها بين الجمهور وثم أربعة أخرى هي محل خلاف شرع من قبلنا وقول الصحابي الذي لا مخالف له والاستحسان والاستصلاح وستمر بك هذه الأصول التسعة مبينة حسب الإمكان إن شاء الله تعالى.(1/94)
الكتاب العزيز الذي هو أصل الأصول
كتاب الله كلامه المنزل للإعجاز بسورة منه وهو القرآن وفيه مسائل:
الأولى : القراءات السبع متواترة وهو المشهور. وقال ابن الحاجب هي متواترة فيما ليس من قبيل الآداء كالمد والإمالة وتخفيف الهمزة ونحوها وهذا خلاف المشهور. وذهب الطوفي إلى أن القراءات متواترة عن الأئمة السبعة أما تواترها عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأئمة السبعة فهو محل نظر فإن أسانيد الأئمة السبعة بهذه القراءات السبعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم موجودة في كتب القراءات وهي نقل الواحد عن الواحد لم تستكمل شروط التواتر قال:(1/94)
وأبلغ من هذا أنها لم تتواتر بين الصحابة. قال: واعلم أن بعض من لا تحقيق عنده ينفر من القول بعدم تواتر القراءات ظنا منه أن ذلك يستلزم عدم تواتر القرآن وليس ذلك بلازم لأنه فرق بين ماهية القرآن والقراءات والإجماع على تواتر القرآن.
الثانية : المنقول أحادا نحو {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] وهي قراءة ابن مسعود حجة عندنا وعند أبي حنيفة خلافا للباقين.
الثالثة : القرآن مشتمل على الحقيقة والمجاز خلافا لقوم وهم الظاهرية والرافضة فإنهم منعوا جواز وقوع المجاز في القرآن وقد مر بك هذا البحث.
الرابعة : قالوا المعرب موجود في القرآن وهو بتشديد الراء وفتحها وهو ما أصله أعجمي ثم عرب أي استعملته العرب على نحو استعمالها لكلامها فقيل له معرب توسطا بين العجمي والعربي. وأقول الحق أن المدعي أنه معرب إن كان من الأعلام كإبراهيم وإسحاق ويعقوب فهذا ليس بعربي ولا يضر وإن كان من غير الأعلام فهو من توافق اللغات قطعا.
ونقل ابن إسحاق في المغازي وابن فارس في فقه اللغة عن أبي عبيد كلاما حاصله أن في اللغة ألفاظا أصلها أعجمي. كما قال الفقهاء لكن استعملتها العرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية ثم نزل القرآن وقد اختلطت بكلام العرب فمن قال إنها عربية ثم فهو صادق يعني باعتبار التعريب الطارىء ومن قال إنها أعجمية فهو صادق يعني باعتبار أصلها قال أبو عبيد وإنما سلكنا هذا الطريق لئلا يظن بالفقهاء الجهل بكتاب الله تعالى وهم كانوا أعلم بالتأويل وأشد تعظيما للقرآن انتهى. قلت ومنه تعلم أن النزاع في المسألة لفظي.
الخامسة : فيه المحكم والمتشابه فأما المحكم فهو لغة مفعل من أحكمت الشيء أحكمه أحكاما إذا أثبته فكان على غاية ما ينبغي من الحكمة والمتشابه ما بينه وبين غيره أمر مشترك فيشبهه ويلتبس به. وأما معنى المحكم فأجود ما قيل فيه أنه المتضح المعنى كالنصوص والظواهر لأنه من البيان في غاية الأحكام والإتقان والمتشابه مقابل له وهو غير متضح المعنى فتشتبه بعض محتملاته ببعض وذلك التشابه وعدم الاتضاح إما(1/95)
الاشتراك كلفظي العين والقرؤ أو لإجمال وهو إطلاق اللفظ بدون المراد منه نحو قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] فلم يبين مقدار الحق أو لظهور تشبيه في صفات الله تعالى كآيات الصفات وأخبارها فإن المراد منها اشتبه على الناس فقال قوم بظاهرها فجسموا وشبهوا وفر قوم من التشبيه فتأولوا وحرفوا فغلطوا وتوسط قوم فسلموا وأمروه كما جاء مع اعتقاد التنزيه فسلموا وهم أهل السنة وجعل كثير من العلماء من المتشابه الحروف التي في فواتح السور فإنه لا شك أن لها معنى لم تبلغ أفهامنا إلى معرفته فهي مما استأثر الله بعلمه ولم يصب من تمحل لتفسيرها فإن ذلك من النقول على الله بما لم يقل ومن تفسير كلام الله بمحض الرأي. وحكم المحكم هو وجوب العمل به والحق أن حكم المتشابه هو عدم جواز العمل به لقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] وهنا الوقف واجب نقلا وعقلا والله الهادي.(1/96)
الأصل الثاني السنة
السنة في اللغة الطريقة والسيرة. وفي اصطلاح الشرع ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا أو إقرارا على فعل وهذا معناها باعتبار العرف الخاص باصطلاح العلماء وأما معناها باعتبار العرف العام فهو ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة المقتدى بهم. ثم اعلم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون مسموعا منه لغيره بلا واسطة أو منقولا إليه بواسطة الرواة فإن كان مسموعا منه فهو حجة قاطعة على من سمعه كالصحابة الذين سمعوا منه الأحكام لا يسوغ خلافها بوجه من الوجوه إلا بنسخ أو جمع بين متعارض بالتأويل وذلك في التحقيق لا يعد خلافا وإن كان منقولا إلى الغير فذلك النقل إما أن يكون تواترا أو آحادا. فإن كان تواترا فهو أيضا حجة قاطعة كالمسموع منه عليه السلام لأن التواتر يفيد العلم فصار كالمسموع شفاها منه في إفادة العلم غير أن مدرك العلم في المسموع الحس وفي التواتر المركب من السمع والعقل وإن كان آحادا وجب العلم بمقتضاه كما سيأتي ما لم يكن مجتهدا يصرفه عن مقتضى ما(1/96)
سمع أو نقل إليه دليل فيجب عليه متابعة الدليل وذلك كترك العام إلى الخاص والمطلق إلى المقيد والمرجوح إلى الراجح وغير ذلك.
تنبيه : قد اتفق من يعتد به من أهل العلم على أن السنة المطهرة مستقلة بتشريع الأحكام وأنها كالقرآن في تحليل الحلال وتحريم الحرام وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه" 1. أي من السنن التي لم ينطق بها القرآن وذلك كتحريم لحوم الحمر الأهلية وتحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وغير ذلك مما لم يأت عليه الحصر وما ورد من طريق ثوبان بعرض الأحاديث على القرآن فقال يحيى بن معين إنه موضوع وضعته الزنادقة. وقال عبد الرحمن بن مهدي الخوارج وضعوا حديث: "ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله" إلى آخره وقد عارض حديث العرض قوم فقالوا عرضنا هذا الحديث على كتاب. الله فخالفه لأنا وجدنا فيه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} [الحشر: 7] قال الأوزاعي الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب. قال ابن عبد البر يريد أنها تقضي عليه وتبين المراد منه. وقال يحيى ابن أبي كثير السنة قاضية على الكتاب انتهى. وكل من له إلمام بالعلم يعلم أن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورية دينية ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في دين الإسلام.
فصل : في شذرات من مباحث السنة. الأولى: الخبر ما صح أن يقال في جوابه صدق أو كذب فيخرج منه الأمر والنهي والاستفهام والتمني والدعاء وهو قسمان متواتر وآحاد. فالتواتر لغة التتابع واصطلاحا إخبار قوم يمتنع تواطؤهم على الكذب بشروط تذكر وهو يفيد العلم وذلك العلم الحاصل به ضروري عند القاضي أبي يعلى ووافقه الجمهور ويحصل بالنظر ويتوقف عليه عند أبي الخطاب ووافقه الكعبي وأبو الحسين البصري من المعتزلة وإمام الحرمين والغزالي والدقاق من أصحاب الشافعي والخلاف لفظي لأن القائل بأنه ضروري لا ينازع في توقفه على النظر في المقدمات. والقائل بأنه نظري لا ينازع في أن العقل يضطر إلى التصديق به وإذا وافق كل واحد من الفريقين صاحبه على ما يقوله في حكم هذا العلم وصفته لم يبق النزاع بينهما إلا في
__________
1 رواه القرطبي في التفسير "1:37"، والبغوي في شرح السنة "1: 201 "(1/97)
اللفظ وما أفاد العلم من الأخبار في واقعة معينة وجب أن يفيده في كل واقعة غيرها وما أفاد العالم شخصا من الناس وجب أن يفيده لكل شخص غيره إذا شاركه في سماع ذلك الخبر بحيث لا يجوز أن يختلف الخبر فيفيد العلم في واقعة دون أخرى ولا شخص دون آخر ما لم يكن هناك قرينة تدل على الاختصاص. ويجوز حصول العلم بخبر الواحد مع القرائن لقيام القرينة مقام المخبرين في إفادة الظن وتزايده حتى يجزم به كمن أخبره واحد بموت مريض مشرف على الموت ثم مربيا به فرأى تابوتا على باب داره وصراخا وعويلا وانتهاك حريم فإننا نجزء بموت الشخص الذي أخبرنا بموته ولولا إخبار المخبر لجوزنا موت شخص آخر.
الثانية : للتواتر ثلاثة شروط أولها أن يكون مستندا إلى مشاهدة حس بأن يقال رأينا مكة وبغداد ولا يصح التواتر عن معقول لاشتراك المعقولات في إدراك العقلاء لها. ثانيها استواء الطرفين والواسطة في كمال العدد بأن يكون عدد التواتر موجودا في الطبقة المشاهدة وفي الطبقة المخبرة وفي التي بينهما بحيث تكون كل واحدة من هذه الطبقات مستكملة لعدد التواتر فلو نقص بعضها عن عدد التواتر خرج الخبر عن كونه متواترا والتحق بالآحاد ثالثها العدد وقد اختلف العلماء في تعيينه اختلافا كثيرا والحق إن المخبرين يلزم أن يكون عددهم بالغا مبلغا يمتنع في العادة تواطؤهم على الكذب ولا يقيد ذلك بعدد معين بل ضابطه حصول العلم الضروري به ولا تشترط عدالة المخبرين ولا إسلامهم ولا عدم انحصارهم في بلد أو عدد ولا عدم اتحاد الدين والنسب ولا عدم اعتقاد نقيض المخبر به وكتمان أهل التواتر ما يحتاج إلى نقله ممتنع وفي جواز الكذب على عدد التواتر خلاف الأظهر المنع.
الثالثة : الآحاد وهو ما عدم شروط التواتر أو بعضها وعن الإمام أحمد في حصول العلم بخبر الواحد قولان. أحدهما لا يحصل العلم به وهو قول الأكثرين والمتأخرين من أصحابه قال الطوفي وهو الأظهر من القولين. والثاني يحصل به العلم وهو قول جماعة من المحدثين قال الآمدي وهو قول بعض أهل الظاهر وحمل بعض العلماء قول الإمام أحمد الثاني على أخبار مخصوصة كثرت رواتها وتلقتها الأمة بالقبول ودلت القرائن على صدق ناقلها فيكون إذن من المتواتر.(1/98)
الرابعة : قسم المحدثون أخبار الآحاد الصحيحة إلى سبعة أقسام أحدها أحاديث البخاري ومسلم وهو المعبر عنه في عرفهم بالمتفق عليه وقد أفرد الحافظ عبد الغني المقدسي أحاديث الأحكام من هذا النوع في كتاب سماه عمدة الأحكام وقد شرحته في مجلدين. وثانيها: ما انفرد به البخاري عن مسلم. وثالثها: ما انفرد به مسلم عن البخاري. ورابعها: ما أخرجه الأئمة بعدهما على شرطهما. وخامسها: ما خرج على شرط البخاري وحده. وسادسها: ما خرج على شرط مسلم وحده وذلك كما في المستدرك على الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم وغيره.
ومعنى التخريج على شرط الشيخين أو شرط أحدهما أنهما اختلفا في رواة الحديث لاختلاف صفاتهم المعتبرة عندهما فاتفقا على الإخراج عن طائفة من الرواة وانفرد البخاري بالرواية عن طائفة منهم وانفرد مسلم بالرواية عن طائفة فزعم المستدركون عليهما أنهم قد وجدوا أحاديث قد رواها من خرجا عنه اتفاقا وانفرادا ومن ساوى من خرجا عنه فخرجوها وقالوا هذا استدراك عليهما على شرطهما أو شرط واحد ومنهما. وسابعها: ما أخرجه بقية الأئمة كأبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم من أئمة الحديث وأعلى هذه الأقسام الأول وهو المتفق عليه.
والتحقيق في أحاديث الصحيحين أنها مفيدة للظن القوي الغالب لما حصل فيها من اجتهاد الشيخين في نقد رجالها وتحقيق أحوالها أما حصول العلم بها فلا مطمع فيه وذلك في غيرها من الأقسام الأخر أولى.
الخامسة: يجوز التعبد بخبر الواحد والعمل به وعليه دل. العقل والسمع وقد عمل كثير من الصحابة بخبر الواحد وقد رجع الكل إلى خبر عائشة في الغسل بالتقاء الختانين وفي كتب الحديث كثير من ذلك.
السادسة : يعتبر في الراوي المقبول الشهادة شروط وهي الإسلام واختلف في صحة الرواية عن المبتدعة فاختار أبو الخطاب قبولها من الفاسق المتأول لحصول الوازع أي الكاف له عن الكذب وهو قول الشافعي. وقال الطوفي من أصحابنا: المحدث إذا كان ناقدا بصيرا جاز أن يروي عن جماعة من المبتدعة الذين يفلحون ببدعتهم كعباد بن(1/99)
يعقوب الرواجني بالجيم والنون وكان غاليا في التشيع وجرير بن عثمان وكان يبغض عليا كرم الله وجهه وفي الحديث: "لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق" 1.
والثاني: العدالة وهي اعتدال المكلف في سيرته شرعا بحيث لا يظهر منه ما يشعر بالجرأة على الكذب وتحصل بأداء الواجبات واجتناب المحظورات ولواحقها وتعرف عدالة الشخص بأمور أحدها المعاملة والمخالطة المطلقة في العادة على خبايا النفوس ودسائسها. الثاني: التزكية وهي ثناء من تثبتت عدالته عليه وشهادته له بالعدالة. الثالث: السمعة الجميلة المتواترة أو المستفيضة وبمثلها عرف عدالة كثير من أئمة السلف. والثالث التكليف بأن يكون عاقلا بالغا إذ لا مانع للصبي والمجنون عن الكذب ولا عبادة لهما فإن سمع الراوي في حال صغره وروى بعد بلوغه قبل قوله. الرابع: أن يكون ضابطا لما سمعه حالة السماع إذ لا وثوق بقول من لا ضبط له فأما رواية مجهول العدالة فروي عن أحمد في أحد القولين عنه أنها لا تقبل وهو قول الشافعي
وروي عنه أنها تقبل وهو قول أبي حنيفة. واتفقوا على أنه لا تقبل رواية مجهول الإسلام والتكليف والضبط.
السابعة : لا تشترط ذكورية الراوي ولا رؤيته لقبول الصحابة خبر عائشة من وراء الحجاب ولا فقهه ولا معرفة نسبه ولا يشترط أن لا يكون عدوا ولا قريبا لمن روي في حقه خبرا ومن اشتبه اسمه باسم مجروح رد خبره حتى يعرف حاله.
الثامنة : الجرح بفتح الجيم أن ينسب إلى الشخص ما يرد قوله لأجله أي من قبيل معصية صغيرة أو كبيرة أو ارتكاب دنيئة وبالجملة أن ينسب إليه ما يخل بالعدالة التي هي شرط قبول الرواية والتعديل بخلافه وهو أن ينسب إلى الراوي من الخبر والعفة والصيانة والمروءة والتدين بفعل الواجبات وترك المحرمات ما يسوغ قبول قوله شرعا لدلالة هذه الأحوال على تحري الصدق ومجانبة الكذب ولا خفاء في مسيس الحاجة إلى الجرح والتعديل في هذا الباب ليعلم من ينبغي الأخذ عنه من غيره ومذهب الإمام أحمد أن التعديل لا يشترط بيان سببه استصحابا لحال العدالة وبه قال الشافعي بخلاف
__________
1 رواه الترمذي في كتاب المناقب، باب: 20، والنسائي في كتاب الإيمان، باب: علامة الإيمان، وأحمد في "م6/ص292".(1/100)
سبب الجرح فإنه يشترط بيانه في أحد القولين عن أحمد وهو القول المنصور عندنا وذلك لاختلاف الناس في سبب الجرح واعتقاد بعضهم ما لا يصلح أن يكون سبب الجرح جارحا كشرب النبيذ متأولا فإنه يقدح في العدالة عند مالك دون غيره وكمن يرى إنسانا يبول قائما فيبادر لجرحه بذلك وأمثال هذا فينبغي بيان سبب الجرح ليكون على ثقة واحتراز من الخطأ والغلو فيه وينبغي أن يكون الجارح عالما باختلاف المذاهب في الجرح والتعديل وإذ تعارض الجرح والتعديل فالجرح مقدم وإن زاد عدد المعدلين لتضمنه زيادة خفيت على المعدل وهذا فيما أمكن اطلاع الجارح على زيادة ما إذا استحال ذلك مثل أن قال الجارح رأيت هذا قد قتل زيدا في وقت كذا وقال المعدل رأيت زيدا حيا بعد ذلك الوقت فههنا يتعارضان فيتساقطان ويبقى أصل العدالة ثابتا والمحدود في القذف إن كان القذف صدر منه بلفظ الشهادة بأن شهد عليه بالزنا مثلا وردت شهادته قبلت روايته ولم يرد خبره وإن كان بغير لفظ الشهادة ردت روايته حتى يتوب.
التاسعة : ما يحصل به التعديل ثلاثة أشياء. أحدها صريح القول بأن يقول هو عدل رضي مع بيان السبب. الثاني: الحكم بشهادته. الثالث: العمل بخبر الراوي بشرط أن يعلم أن لا مستند للعمل غير روايته وإلا لم يكن تعديلا لاحتمال أنه عمل بدليل آخر وافق رواية الراوي وكانت هي زائدة لا حاجة إليها ولا معول عليها.
العاشرة: إن عرف من مذهب الراوي أو عادته أو صريح قوله أنه لا يرى الرواية أو لا يروي إلا عن عدل كانت روايته تعديلا لمن روى عنه وإن لم يعلم ذلك لم تكن روايته عنه تعديلا له إذ قد يروي الشخص عمن لو سئل عنه لسكت.
الحادية عشر: قال أصحابنا والجمهور: الصحابة كلهم عدول لا حاجة إلى البحث عن عدالتهم ومرادهم من لم يعرف بقدح ذكره علاءالدين عن ابن سليمان المرداوي في التحرير وقيل لم يزالوا عدولا حتى وقع الخلاف بينهم واقتتلوا وهذا القول ينسب إلى واصل بن عطاء وأصحابه الواصلية وقيل هم كغيرهم من رواة الأمة فيبحث عن عدالتهم. والصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه يقظة حيا عند الإمام أحمد وأصحابه والبخاري والأكثر مسلما ولو ارتد ثم أسلم ولم يره ومات عليه ولو جنيا في الأظهر وقيل: من طالت صحبته عرفا وحكى عن الأكبر وقيل: من صحبه سنة أو غزى معه أو(1/101)
روى عنه والقول الأول أولى ويعلم كونه صحابيا بأخبار غيره بأنه صحابي اتفاقا فلو أخبر عن نفسه بأنه صحابي فقال أصحابنا والأكثر يقبل قوله وقال جمع لا يقبل والقول في التابعي مثل القول في الصحابي إلا في إثبات العدالة وشرط ابن حبان كونه في سن يحفظ فيه عن الصحابي واشترط الخطيب البغدادي وجمع الصحبة.
الثانية عشرة: الراوي إما أن يكون صحابيا أو غير صحابي فالصحابي لألفاظ روايته مراتب أقواها أن يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أو حدثني أو أخبرني أو نبأني أو شافهني وهو الأصل في الرواية ثم بعد هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه دون سمعت في القوة لاحتمال الواسطة في قوله قال ثم بعده أمر رسول الله بكذا ونهى عن كذا أو أمرنا بكذا ونهينا عن كذا أو رخص لنا أو حرم علينا وهذا كله حجة عندنا وعند الشافعي والأكثر ومثله قوله من السنة كذا وكنا نفعل ونحوه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكانوا يفعلون كذا لكن قوله كانوا يفعلون إن أضيف إلى عهد النبوة كان حجة إقرارية وإن لم يضف إلى عهد النبوة لم يكن حجة إقرارية بل يكون إجماعا ظنيا لا قطعيا قال أبو الخطاب ويقبل قول الصحابي هذا الخبر منسوخ ويرجع في تفسير الخبر إليه.
الثالثة عشر: الرواية عن غير الصحابي لها مراتب. أحدها: سماعه قراءة الشيخ للحديث على جهة إخباره للراوي أنه من روايته ليروي الراوي عنه فللراوي حينئذ أن يقول سمعت فلانا يعني شيخه يقول كذا وله أن يقول قال فلان وحدثني فلان وأخبرني فلان. الثانية أن يقرأ الراوي على الشيخ فيقول الشيخ نعم أو يسكت فله الرواية عنه بذلك لظهور الصحبة والإجابة ثم له أن يقول أخبرنا وحدثنا فلان قراءة عليه. الثالثة الإجازة نحو أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني أو ما صح عندك من مسموعاتي والمناولة نحو خذ هذا الكتاب فاروه عني ويكفي مجرد اللفظ دون المناولة فيقول فيها حدثني أو أخبرني إجازة فإن لم يقل ذلك بل اقتصر على قوله حدثني أو أخبرني فقد أجازه قوم والحق أنه لا يجوز لإشعاره بالسماع منه وهو كذب ولو قال خذ هذا الكتاب أو هو سماعي ولم يقل ارووه عني لم تجز روايته ولا يروي عنه ما وجده بخطه لكن يقول وجدت بخط فلان وتسمى الوجادة ولو قال: هذه نسخة صحيحة من كتاب البخاري ونحوه لم يجز روايتها عنه مطلقا ولا العمل بها إن كان مقلدا إذ فرضه تقليد(1/102)
المجتهد وإن كان مجتهدا فقولان الأصح الجواز ولا يروي عن شيخه ما شك في سماعه منه فلو شاع الحديث المشكوك في سماعه في مسموعات الراوي ولم يتميز فلم يعلم هل هو هذا الحديث أو هذا أو هل هو هذا الكتاب أو هذا لم يرو شيئا من مسموعاته فإن ظن أنه واحد منها بعينه أو إن هذا الحديث مسموع له ففي جواز الرواية اعتمادا على الظن خلاف وإنكار الشيخ الحديث غير قادح في رواية الفرع له ويحمل إنكار الشيخ على نسيانه جمعا بينهما وإذا وجد سماعه بخط يثق به وغلب على ظنه أنه سمعه جاز أن يرويه وإن لم يذكر السماع.
الرابعة عشرة: الزيادة من الثقة مقبولة لفظية كانت أو معنوية كالحديث التام وأولى.
الخامسة عشر: الجمهور على قبول مرسل الصحابي أما مرسل غير الصحابي كقول من لم يعاصر النبي صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم ومن لم يعاصر أبا هريرة قال أبو هريرة ففيه قولان القبول وهو مذهب مالك وأبي حنيفة واختاره القاضي وجماعة من المتكلمين. والمنع وهو قول الشافعي وبعض المحدثين. السادسة عشر الجمهور يقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى كرفع اليدين في الصلاة ونقض الوضوء بمس الذكر ونحوهما. والمراد مما تعم به البلوى ما يكثر التكليف به ويقبل أيضا فيما يسقط بالشبهات كالحدود وفيما يخالف القياس وفيما يخالف الأصول أو معنى الأصول والفرق بين المسألتين أن القياس أخص من الأصول إذ كل قياس أصل وليس كل أصل قياسا فما خالف القياس قد خالف أصلا خاصا وما خالف الأصول يجوز أن يكون مخالفا لقياس أو نص أو إجماع أو استدلال أو استصحاب أو استحسان أو غير ذلك. فقد يكون الخبر مخالفا للقياس موافقا لبعض الأصول وقد يكون بالعكس كانتقاض الوضوء بالنوم موافق للقياس من أنه تعليق الحكم بمظنته كسائر الأحكام المعلقة بمظانها وهو مخالف لبعض الأصول وهو الاستصحاب إذ الأصل عدم خروج الحدث وقد يكون مخالفا لهما جميعا كخبر المصراة فإن القياس كما. دل على ضمان الشيء بمثله كذلك النص والإجماع دالا على ذلك وقد يكون موافقا لهما كالآثار الواردة في تحريم النبيذ موافقة لقياسه على الخمر والنص والإجماع على تحريمها والنص على تحريم كل مسكر وأصحابنا لم يتركوا حديث القهقهة لمخالفته القياس بل لعدم صحته عندهم.(1/103)
السابعة عشر: تجوز رواية الحديث بالمعنى المطابق للفظ للعارف بمقتضيات الألفاظ الفارق بينها قال القرافي يجوز بثلاثة شروط أن لا يزيد في الترجمة ولا ينقص ولا يكون أخفى من لفظ الشارع.
تتمة : ذهب الإمام أحمد وتبعه موفق الدين المقدسي والأكثر إلى أنه يعمل بالحديث الضعيف في الفضائل. وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية يعمل به في الترغيب والترهيب لا في إثبات مستحب وغيره وروي المنع عن أحمد أيضا وكان يكتب حديث الرجل الضعيف للاعتبار والاستدلال به مع غيره وقال الخلال في الجامع لا يحتج بحديث ضعيف في المأتم. وقال مذهب أحمد القول بالحديث الضعيف أو المضطرب إذا لم يكن له معارض وقد تقدم مثل ذلك عند الكلام على أصول الإمام أحمد فليراجع ولما كان النسخ لاحقا للكتاب والسنة معا عقبناهما بقولنا.(1/104)
باب النسخ
هو في اللغة الرفع والإزالة وقد يراد به ما يشبه النقل نحو نسخت الكتاب وفي اصطلاح الأصوليين هو رفع الحكم الثابت بطريق شرعي بمثله متراخ عنه فيدخل ما ثبت بالخطاب أو ما قام مقامه من إشارة أو إقرار في الناسخ والمنسوخ وهو جائز عقلا وواقع سمعا في الكتاب والسنة بلا خلاف في ذلك بين المسلمين وفائدته أن الله تعالى علم المصلحة في الحكم تارة فأثبته بالشرع وعلم المفسدة فيه تارة فنفاه بالنسخ وهذا لا بداء فيه لأننا نقطع بكمال علم الله تعالى والبداء ينافي كمال العلم وللنسخ فائدتان:
أحدهما : رعاية الأصلح للمكلفين تفضلا من الله تعالى لا وجوبا.
ثانيهما : امتحان المكلفين بامتثالهم الأوامر والنواهي خصوصا في أمرهم بما كانوا منهيين عنه ونهيهم عما كانوا مأمورين به فإن الانقياد له أدل على الإيمان والطاعة وفي هذا الباب شذرات.
الأولى : يجوز نسخ التلاوة والحكم وإحكامهما بكسر الهمزة أي إبقائهما محكمين غير منسوخين ويجوز نسخ اللفظ فقط دون المعنى ونسخ المعنى دون اللفظ وأنت إذا تأملت هذا(1/104)
المقام وجدته ستة أقسام. الأول : ما نسخ حكمه وبقي رسمه كنسخ آية: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] بآية المواريث ونسخ العدة حولا بالعدة أربعة أشهر وعشرا.
الثاني : ما نسخ حكمه ورسمه وثبت حكم الناسخ ورسمه كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة. الثالث : ما نسخ حكمه وبقي رسمه ورفع رسم الناسخ وبقي حكمه كقوله تعالى {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} [النساء: 15] الآية بقوله تعالى الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله وقد ثبت في الصحيح أن هذا كان قرآنا يتلى ثم نسخ لفظه وبقي حكمه. الرابع : ما نسخ حكمه ورسمه ونسخ رسم الناسخ وبقي حكمه كما ثبت في الصحيح عن عائشة أنها قالت: "كان فيما أنزل عشر رضعات متتابعات يحرمن فنسخ بخمس رضعات فتوفي رسول الله وهن فيما يتلى من القرآن". قال البيهقي فالعشر مما نسخ رسمه وحكمه والخمس نسخ رسمه وبقي حكمه بدليل أن الصحابة حين جمعوا القرآن لم يثبتوها رسما وحكمها باق عندهم. قال ابن السمعاني معنى قولها وهي فيما يتلى من القرآن أنه يتلى حكمها دون لفظها. وقال البيهقي المعنى أنه يتلوه من لم يبلغه نسخ تلاوته. الخامس ما زال رسمه لا حكمه ولا يعلم الناسخ له كما. في الصحيح: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب" 1 فإن هذا كان قرآنا ثم نسخ رسمه. السادس : ناسخ صار منسوخا وليس بينهما لفظ متلو كالمواريث بالحلف والنصرة فإنه نسخ بالتوارث بالإسلام والهجرة ونسخه بآية المواريث.
الثانية : نسخ الأمر قبل امتثاله جائز نحو أن يقول الشارع في رمضان مثلا حجوا في هذه السنة ثم يقول في يوم عرفة أو قبله لا تحجوا وهذه المسألة ذكرتها تبعا للروضة وغيرها ولا فائدة لها إلا المناقشة.
الثالثة : الزيادة على النص إما أن لا تتعلق بحكم النص أصلا أو تتعلق به فإن لم تتعلق به فليست نسخا له إجماعا وذلك كزيادة إيجاب الصوم بعد إيجاب الصلاة فإنه ليس
__________
1 رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب: مايتقى من فتنة المال، ومسلم في كتاب الزكاة، باب: 116، والترمذي في كتاب الزهد، باب: الأمل والأجل، والدارمي في كتاب الرقاق، باب: لو كان لابن ادم واديان، وأحمد في "م3/ص122".(1/105)
نسخا لإيجاب الصلاة بالإجماع وإن تعلقت الزيادة بحكم النص المزيد عليه فتلك الزيادة إما جزء له أو شرط أو لا جزء ولا شرط مثال كونها جزءا له زيادة ركعة في الصبح أو عشرين سوطا في حد القذف فتصير الصبح ثلاث ركعات والثالثة جزء منها وحد القذف مائة سوط والعشرون الزائدة جزء منها. ومثال كونها شرطا نية الطهارة هي شرط لها وقد زيدت في حديث: "إنما الأعمال بالنيات" 1 وغيره على ما في آية الوضوء بناء على أن النية ليست مستفادة من الآية على خلاف بين العلماء ومثال كون الزيادة ليست جزءا ولا شرطا التغريب على الجلد في زنا البكر إذ الجلد لا يتوقف على التغريب توقف الكل على جزئه ولا توقف المشروط على شرطه وليس شيء من ذلك نسخا عندنا خلافا للحنفية وحكى الآمدي عن القاضي عبد الجبار والغزالي في المثالين الأولين أنهما وافقا الحنفية في أنه نسخ وقد أطال الأصوليون ذيول هذه المسألة وفائدتها على ما في البحر للزركشي أن ما ثبت أنه من باب النسخ وكان مقطوعا به فلا ينسخ إلا بقاطع كالتغريب والله الموفق.
الرابعة : يجوز نسخ العبادة إلى غير بدل كنسخ وجوب الإمساك بعد النوم في الليل وذلك أنهم كانوا في صدر الإسلام متى نام أحدهم قبل أن يفطر من صومه حرم عليه الأكل حتى الليلة الثانية فخفف ذلك عنهم بنسخه بإباحة الأكل إلى طلوع الفجر من غير بدل ومن ذلك نسخ اعتداد المتوفى عنها حولا باعتدادها أربعة أشهر وعشرا فتمام الحول نسخ لا إلى بدل.
الخامسة : يجوز نسخ كل من الكتاب ومتواتر السنة وآحادها بمثله وهذا اتفاق لا اختلاف فيه ويجوز نسخ السنة بالكتاب خلافا للشافعي واستنكر جماعة من العلماء منه ذلك.
تنبيه : الأدلة النقلية التي يتطرق النسخ إليها وبها. هي الكتاب ومتواتر السنة وآحادها وكل واحد منها إما أن ينسخ بمثله من جنسه أو بالآخرين معه فيحصل من ذلك.
__________
1 رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب: ماجاء أن الأعمال بالنية وبالحسبة، ومسلم في كتاب الإمارة، باب: 155، وأبو داود في كتاب الطلاق، باب: فيما عني به الطلاق والنيات، والترمذي في كتاب فضائل الجهاد، باب:16، والنسائي في كتاب الطهارة، باب: النية في الوضوء، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب: النية، وأحمد في "م1/ص25".(1/106)
تسع صور. الأولى : نسخ الكتاب بالكتاب. الثانية : نسخ الكتاب بمتواتر السنة. الثالثة: نسخ الكتاب بآحاد السنة. الرابعة: نسخ متواتر السنة بمتواتر السنة. الخامسة: نسخ متواتر السنة بالكتاب. السادسة: نسخ متواتر السنة بالآحاد. السابعة نسخ الآحاد بالآحاد. الثامنة: نسخ الآحاد بالكتاب. التاسعة: نسخ الآحاد بالمتواتر والضابط في ذلك على المشهور بينهم أن النص ينسخ بأقوى منه ولا ينسخ بأضعف منه فيسقط بمقتضى هذا الضابط من الصور التسع صورتان نسخ الكتاب بالآحاد ونسخ المتواتر بالآحاد وعلى قول الباجي وبعض الظاهرية يصح النسخ في الصور التسع.
السادسة : الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ولا بالقياس وأما القياس فلا ينسخ.
فائدتان : إحداهما : الطريق الذي يعرف به كون الناسخ ناسخا إنما هو أمور:
أولهما : أن يكون فيه ما يدل على تقدم أحدهما وتأخر الآخر في النزول لا التلاوة فإن العدة بأربعة شهور سابقة على العدة في الحول في التلاوة مع أنها ناسخة لها ومن ذلك التصريح في اللفظ بما يدل على النسخ كقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66]
وكقوله: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة: 13].
ثانيها : أن يعرف ذلك من قوله عليه السلام كأن يقول هذا ناسخ لهذا أو ما في معناه كقوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" 1.
وثالثها : أن يعرف ذلك بفعله عليه السلام كرجمه لماعز ولم يجلده
رابعها إجماع الصحابة على أن هذا ناسخ وهذا منسوخ كنسخ الحقوق المتعلقة بالمال بالزكاة
خامسها: نقل الصحابي لتقدم أحد الحكمين وتأخر الآخر إذ لا مدخل للاجتهاد فيه.
سادسها: كون أحد الحكمين شرعيا والآخر موافقا للعادة فيكون الشرعي ناسخا وأما حداثة الصحابي وتأخر إسلامه فليس ذلك من دلائل النسخ وإذا لم يعلم الناسخ من المنسوخ بوجه من الوجوه فرجح ابن الحاجب الوقف وقال الآمدي إن علم افتراقهما مع تعذر الجمع بينهما فعندي أن ذلك غير متصور الوقوع وبتقدير وقوعه فالواجب إما الوقف
__________
1 رواه مسلم في كتاب الجنائز، باب: 106، وأبو داود في كتاب الجنائز، باب: زيارة القبور، والترمذي في كتاب الجنائز، باب: 7، والنسائي في كتاب الجنائز، باب: زيارة القبور، وابن ماجه في كتاب الجنائز، باب: ماجاء في زيارة القبور، وأحمد في "م1/ص145".(1/107)
عن العمل بأحدهما أو التخيير بينهما إن أمكن الحكم وكذلك الحكم فيما إذا لم يعلم شيء من ذلك انتهى. وزاد في الروضة إن النسخ يعرف بالتاريخ نحو قال سنة خمس كذا وعام الفتح كذا ويكون راوي أحد الخبرين مات قبل إسلام راوي الثاني.
ثانيهما : للنسخ شروط. الأول : أن يكون المنسوخ شرعيا لا عقليا. الثاني : أن يكون الناسخ منفصلا عن المنسوخ متأخرا عنه فإن المقترن كالشرط والصفة والاستثناء لا يسمى نسخا بل تخصيصا. الثالث : أن يكون النسخ بشرع فلا يكون ارتفاع الحكم بالموت نسخا بل سقوط تكليف. الرابع : أن يكون المنسوخ مقيدا بوقت وإلا فلا يكون انقضاء ذلك الوقت نسخا له
الخامس : أن يكون الناسخ مثل المنسوخ في القوة أو أقوى منه. السادس : أن يكون المقتضى للمنسوخ غير المقتضى للناسخ حتى لا يلزم البداء. السابع : أن يكون مما يجوز نسخه فلا يدخل النسخ أصل التوحيد لأن الله تعالى بأسمائه وصفاته لم يزل ولا يزال ومثل ذلك ما علم بالنص أنه يتأبد ولا يتأقت ثم لما كان الكتاب والسنة تلحقهما أحكام لفظية ومعنوية كالأمر والنهي والعموم والخصوص لا جرم عقبناهما بقولنا.(1/108)
الأوامر والنواهي
أما الأمر فاختلف في تعريفه والأولى أن يقال فيه اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء فالاقتضاء جنس وغير كف يخرج النهي لأنه يقتضي الكف. وهو فعل وعلى سبيل الاستعلاء يخرج ما إذا كان على سبيل التسفل وهو الدعاء وما كان على سبيل التساوي وهو الالتماس وللأمر صيغة موضوعة له تدل عليه حقيقة كدلالة سائر الألفاظ الحقيقية على موضوعها وتلك الصيغة حقيقة في الطلب الجازم مجاز في غيره مما وردت فيه وذلك أن صيغة الأمر وهي لفظ افعل نحو اعلم واضرب ودحرج وانطلق واستخرج أطلقت في الاستعمال اللغوي لمعان أحدها: الطلب الجازم نحو {تَرَى إِذْ} [الأنعام: 72] أقيموا الصلاة. وثانيها: الندب كقوله تعالى في حق الأرقاء الطالبين للكتابة: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33] والكتابة مندوبة عند الأكثرين وثالثها الإباحة نحو قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [لمائدة: 2] {امْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15]. ورابعها:(1/108)
التعجيز نحو قوله عز وجل: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} [الإسراء: 50] أي فلن تعجزني إعادتكم. وخامسها : التسخير نحو قوله تعالى: ْْ{فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] أي مسخت مواد أجسامهم لانقلابها عن الإنسانية إلى القردية بالأمر الإلهي. وسادسها: التسوية نحو قوله تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور: 16] أي الصبر وعدمه متساويان. وسابعها: الإهانة نحو قوله عز وجل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُْ} [الدخان: 49] على جهة الإهانة له وقوله تعالى: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 48]. {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج: 22] {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الزمر: 24]. وثامنها الإكرام نحو قوله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46] وتاسعها التهديد نحو قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا} [العنكبوت: 66] فهذا أمر يلازم الأمر. وعاشرها : الدعاء نحو اللهم اغفر لي. {َبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126] وحادي عشرها : الخبر كحديث: "إذا أنت لم تستحي فاصنع ما شئت" 1 وثاني عشرها : التمني كقول امرىء القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
أي أتمنى انجلاءك عني. وثالث عشرها : الإرشاد إلى مصلحة دنيوية أو غيرها نحو: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} [التحريم: 6] يعني بالتأديب والتعليم ورابع عشرها نحو: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57] {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15]. وخامس عشرها : الإنذار نحو: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء 71] وسادس عشرها الاحتقار نحو: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس: 80] وسابع عشرها التفويض نحو {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72]. وثامن عشرها : المشورة نحو: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102] وتاسع عشرها الاعتبار نحو: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 99] والعشرون التكذيب نحو: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة: 111] والحادي والعشرون الإلماس كقولك لنظيرك افعل والثاني والعشرون التلهيف نحو: {مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران: 119] هذا ولا يشترط في كون الأمر أمرا إرادته ثم إن ههنا مسائل.
__________
1 رواه ابو داود في كتاب الأدب، باب: في الحياء، والموطأ في كتاب السفر، باب: وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة.(1/109)
الأولى : الأمر المطلق يدل على الوجوب ما لم تكن قرينة تصرفه إلى أحد المعاني السابقة أو غيرها مما لم نذكره. الثانية: صيغة الأمر الواردة بعد الحظر للإباحة كقوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" 1 وكقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وهل النهي بعد الأمر يقتضي التحريم. أو الكراهة خلاف ولا أشبه أنه يقتضي التحريم. الثالثة: الأمر المطلق لا يقتضي التكرار وهذا هو الحق وذلك لأنه لا دلالة لصيغة الأمر إلا على مجرد إدخال ماهية الفعل في الوجود لا على كمية الفعل فلو دل على المرة كالحج أو على التكرار كالصلاة والصوم المفردين فإن تلك الدلالة ليست من حيث القرائن الدالة على المرة أو على التكرار. الرابعة : الأمر بالشيء نهي عن أضداده والنهي عنه أمر بأحد أضداده من حيث المعنى لا الصيغة أي بطريق الاستلزام فالأمر بالإيمان مثلا نهي عن الكفر والأمر بالقيام نهي عن جميع أضداده كالقعود والاضطجاع والسجود وغير ذلك والنهي عن القيام أمر بواحد من أضداده لا بجميعها. الخامسة: الأمر إذا اقترنت به قرينة فورا وتراخ عمل بمقتضاها في ذلك وإن كان مطلقا أي مجردا عن قرينة فهو للفور في ظاهر المذهب ومعنى الفور الشروع في الامتثال عقب الأمر من غير فصل والتراخي تأخير الامتثال عن الأمر زمنا يمكن إيقاع الفعل فيه فصاعدا. السادسة الواجب المؤقت لا يسقط بفوات الوقت ولا يفتقر قضاؤه إلى أمر جديد فإذا أمر بصلاة الفجر مثلا في وقتها المعين لها فلم يصلها حتى طلعت الشمس كان وجوب قضائها بالأمر. الأول ولا يحتاج إلى أمر جديد وذلك لأن الشرع لما عهد منه إيثار استدراك عموم المصالح الفائتة علمنا من عادته بذلك أنه يؤثر استدراك الواجب الفائت في الزمن الأول بقضائه في الزمن الثاني فكان ذلك ضربا من القياس. السابعة : مقتضى الأمر حصول الأجزاء بفعل المأمور به إذا أتى بجميع مصححاته من ركن وشرط ففعل صلاة الظهر ونحوها من الصلوات بجميع مصححاتها يقتضي حصول الأجزاء بحيث لا يجب قضاؤها فيما بعد. الثامنة الأمر المتوجه إلى جماعة إما أن يكون بلفظ يقتضي
__________
1 رواه مسلم في كتاب الجنائز، باب: 106، وأبو داود في كتاب الجنائز، باب: في زيارة القبور، والترمذي في كتاب الجنائز، باب 7، والنسائي في كتاب الجنائز، باب: زيارة القبور، وابن ماجه في كتاب الجنائز، باب: ماجاء في زيارة القبور، وأحمد في "م1/ص145".(1/110)
تعميمهم به أو لا يكون فإن كان بلفظ يقتضي تعميمهم نحو قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فإما أن لا يعترض عليه دليل يدل على اختصاص الخطاب ببعضهم أو يعترض دليل على ذلك فإن لم يعترض على العموم دليل اقتضى وجوبه على كل واحد منهم وإن اعترض على العموم دليل يقتضي اختصاصه ببعضهم فالبعض إما معين أو غير معين فإن كان معينا فذلك هو العام لمخصوص سواء كان التعيين باسم كقوله تعالى: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 58، 59] وقول القائل قام القوم إلا زيدا أو بصفة كقوله تعالى {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَْ} [الزخرف: 67] وإن كان ذلك البعض غير معين أو كان الخطاب بلفظ لا يعم الجميع كقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران: 104] فهذا هو المسمى بفرض الكفاية وهو ما مقصود الشرع فعله لتضمنه. مصلحة لا تعبد أعيان المكلفين به كصلاة الجنازة والجهاد فإن مقصود الشرع فعلهما لما تضمناه من مصلحة الشفاعة للميت وحماية بلاد الإسلام من استباحة العدو لها ولم يرد بهما تعبد أعيان المكلفين كما أراد ذلك بالجمعة والحج ففرض الكفاية وفرض العين مشتركان في التعبد والمصلحة والفرق بينهما أن المقصود في فرض الكفاية تحصيل المصلحة التي تضمنها فمن أي شخص حصلت كان هو المطلوب وفي فرض العين تعبد الأعيان بفعله والفرق العام بينهما هو أن فرض الكفاية ما وجب على الجميع وسقط بفعل البعض وفرض العين ما وجب على الجميع ولم يسقط إلا بفعل كل واحد ممن وجب عليه وهذا الفرق حكمي.
فوائد : تتعلق بفرض الكفاية. إحداهن لا يشترط في الخروج من عهدة فرض الكفاية تحقق وقوعه من بعض الطوائف بل أي طائفة غلب على ظنها أن غيرها قام به سقط وإن غلب على ظن كل من الطائفتين أو الطوائف أن الأخرى قامت به سقط به عن الجميع عملا بموجب الظن لأنه كما صلح الظن مثبتا للتكاليف صلح مسقطا لها. الثانية القائم بفرض الكفاية أفضل من غير القائم به ضرورة أنه حصل مصلحته دون غيره. الثالثة اختلفوا أيهما أفضل فاعل فرض العين أم فاعل فرض الكفاية فقيل فاعل فرض العين أفضل لأنه فرضه أهم وقيل فاعل فرض الكفاية أفضل إذ هو أسقط الفرض عن نفسه وعن غيره ونسب هذا إلى إمام الحرمين. الرابعة هل يتعين فرض الكفاية ويجب إتمامه على من تلبس به أم لا قال الطوفي الأشبه أنه يتعين كالمجاهد يحضر الصف وطالب العلم(1/111)
يشرع في الاشتغال به ونحو هذا من صوره. التاسعة ما ثبت في حقه صلى الله عليه وسلم من الأحكام أو خوطب به من الكلام نحو: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] يتنال أمته ويثبت في حقهم مثل ما يثبت في حقه وكذلك ما توجه إلى صحابي من الخطاب يتناول غيره من المكلفين الصحابة وغيرهم حتى إنه يتناول النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقم دليل مخصص له بما ثبت في حقه كوجوب السواك والأضحى والوتر أو بما خوطب به نحو: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إلى قوله {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] أو للصحابي ما توجه إليه دون غيره كقوله عليه السلام لأبي بردة: "تجزيك ولا تجزي أحدا بعدك" 1. العاشرة: تعلق الأمر إلى المعدوم إن كان بمعنى طلب إيقاع الفعل منه حال عدمه فهو محال باطل بالإجماع لأن المعدوم لا يفهم الخطاب فضلا عن أن يعمل بمقتضاه وإن كان بمعنى الخطاب له إذا وجد ووجدت فيه شروط التكليف فهو جائز عندنا وعند الأشعرية خلافا للمعتزلة وبعض الحنفية. الحادية عشر الأمر بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه صحيح عندنا خلافا للمعتزلة وإمام الحرمين وهذا مقيد بما إذا كان الآمر عالما بانتفاء شرط الوقوع كالباري عز وجل مع عبده فيما إذا أمره بصوم رمضان مثلا وهو يعلم أنه يموت في شعبان أما إذا كان الآمر والمأمور جاهلين بذلك كالسيد مع عبده فلا بد من علم المكلف بتحقيق الشرط وقد وقع الأول فإن الله أمر الخليل عليه السلام بذبح ولده مع علمه أنه لا يمكنه من ذبحه والتمكن من ذبحه شرط له وقد علم الله انتفاءه من فروع هذه القاعدة أن من أفسد صوم رمضان بما يوجب الكفارة ثم مات أو جن لم تسقط عنه الكفارة لأنه قد بان. عصيانه بإقدامه على الإفساد فحصلت فائدة التكليف فلا يقدح فيه انتفاء شرط صحة صوم اليوم بموته قبل إكماله وكذلك من مرض أو سافر في يوم قد وطىء فيه لم تسقط عنه الكفارة لأن عصيانه استقر قبل وجود المبيح للإفطار ومن فروعها أيضا أن المرأة يجب عليها الشروع في صوم يوم علم الله أن تحيض فيه لأن حقيقة الصوم بكماله وإن فاتت بطريان الحيض لكن طاعتها بالعزم على امتثال الأمر بالصوم بتقدير عدم الحيض أو معصيتها لعدم العزم لم يفت.
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الأضاحي، باب: مايستحب من الضحايا، ومسلم في كتاب الأضاحي، باب: 5، والبخاري في كتاب الأضاحي، باب: قول النبي صلى الله علية وسلم لأبي بردة ضح بالجذع الخ.(1/112)
فصل: وأما النهي فهو القول الإنشائي الدال على طلب كف عن فعل على جهة الاستعلاء فخرج الأمر لأنه طلب فعل غير كف وخرج الالتماس والدعاء لأنه لا استعلاء فيهما وقد اتضح في الأوامر أكثر أحكامه إذ لكل حكم منه وزان من الأمر أي حكم يوازنه على العكس مثاله في حدهما أن الأمر اقتضاء فعل والنهي اقتضاء كف عن فعل والأمر ظاهر في الوجوب واحتمال الندب والنهي ظاهر في التحريم مع احتمال الكراهة وصيغة الأمر افعل وصيغة النهي لا تفعل. والنهي يلزمه التكرار والفور والأمر يلزمانه على الخلاف فيه والأمر يقتضي صحة المأمور به والنهي يقتضي فساد المنهي عنه وكما يخرج عن عهدة المأمور به بفعله كذلك يخرج عن عهدة المنهي عنه بتركه فهذا معنى الموازنة بين الأمر والنهي. ومن مباحثه أن النهي إذا ورد عن السبب الذي يفيد حكما. اقتضى فساده سواء كان النهي عنه لعينه أو لغيره في العبادات أو في المعاملات وذلك كالنهي عن بيع الغرر وعن البيع وقت النداء وفي المسجد كبيع المزابنة وكالنهي عن نكاح المتعة. والشغار ونكاح الإماء لمن لا يبحن له فإنه يقتضي الفساد في ذلك كله على خلاف في بعضه إلا لدليل يدل على أنه لا يقتضي الفساد بل الإثم بفعل السبب أو كراهته وذلك كبيع الحاضر للبادي وتلقي الركبان أو النجش ونحوها. فإن النهي ورد عنها لكن الدليل على أن النهي المذكور لا يقتضي فسادها على الأظهر لكن يحرم تواطئها أو يكره لأجل النهي. وقال الطوفي في مختصر الروضة والمختار أن النهي عن الشيء لذاته أو وصف له لازم مبطل ولخارج عنه غير مبطل وفيه لوصف غير لازم تردد والأولى الصحة هذا كلامه. فمثال النهي عنه لذاته الكفر والكذب والظلم والجور ونحوها من المستقبح لذاته عقلا ومثال النهي عن الفعل لوصف لازم له نكاح الكافر المسلمة وبيع العبد المسلم من كافر فإن ذلك يلزم منه إثبات القيام والاستيلاء والسبيل للكافر على المسلم فيبطل هذا الوصف اللازم له ومثال النهي عن الفعل لأمر خارج عنه لا تعلق به عقلا ما لو نهى عن الصلاة في دار لأن فيها صنما مدفونا أو شرعا ما لو نهى عن بيع الجوز والبيض خشية أن يقامر به أو عن بيع السلاح من المسلمين خشية أن يقطعوا به الطريق أو عن غرس العنب أو بيعه خشية أن يعصر خمرا ونحوه. لم يكن ذلك النهي مبطلا ولا مانعا لأن هذه المفاسد وإن تعلقت بهذه الأفعال تعلقا عقليا بمعنى أن هذه الأفعال تصلح أن تكون سببا لتلك المفاسد لكنها غير متعلقة بها شرعا لأن الشرع لم يعهد منه الالتفات في المنع إلى هذا التعلق العقلي البعيد ومثال ما كان النهي(1/113)
فيه لوصف غير لازم النهي عن البيع وما في معناه من العقود وقت النداء وإنما نهى عنه لكونه بالجملة متصفا بكونه مفوتا للجمعة أو مفضيا إلى التفويت بالتشاغل بالبيع لكن هذا الوصف غير لازم للبيع لجواز أن يعقد مائة عقد ما بين النداء إلى الصلاة ثم يدركها فلا تفوت فالأولى في هذا العقد: الصحة.
فوائد : الأولى : ما علق عليه الأمر من شرط كقوله إذا زالت الشمس فصلوا أو صفة كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] إن ثبت أنه علة للفعل فلا خلاف في تكرره بتكرره وإن لم يكن علة فإن قيل الأمر المطلق للتكرار فههنا أولى وإن قيل ليس للتكرار اختلفوا ههنا واختار الآمدي عدمه وأما النهي المعلق بما يتكرر فمن قال مطلق النهي يقتضي التكرار أثبت التكرار ههنا بطريق الأولى ومن قال لا يقتضي التكرار اختلفوا هل يقتضيه أم لا والأظهر أنه يقتضيه بخلاف الأمر.
الثانية : ترد صيغة الأمر للتحريم نحو لا تقتلوا وللكراهة نحو لا يمسك ذكره وهو يبول وللتحقير نحو: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ} [طه: 131] ولبيان العاقبة: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ} [إبراهيم: 42] وللدعاء {لا تُؤَاخِذْنَا} [البقرة: 286] ولليأس {لا تَعْتَذِرُوا} [التوبة: 66] وللإرشاد {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] وللأدب {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] وللتهديد لا تمتثل أمري. ولإباحة الترك كالنهي بعد الإيجاب على رأي وللالتماس كقولك لنظيرك لا تفعل وللتصبر لا تحزن ولإيقاع إلا من تخف وللتسوية اصبروا أو لا تصبروا فإن تجردت صيغة الأمر عن ذلك فالمختار أنها للتحريم.
الثانية : النهي يقتضي الفور والدوام عند أصحابنا والأكثر وخالف الباقلاني والرازي ويكون النهي عن واحد ومتعدد جمعا وفرقا وجميعا.(1/114)
العموم والخصوص
أما العام فاعلم أن اللفظ إما أن يدل على ماهية مدلوله من حيث هي هي أو لا فإن دل على الماهية من حيث هي هي أي مع قطع النظر عن جميع ما يعرض لها من وحدة وكثرة وحدوث وقدم وطول وسواد وبياض. فهذا هو المطلق وذلك لأن الإنسان مثلا من(1/114)
حيث هو إنسان إنما يدل على حيوان ناطق لا على واحد ولا على حادث ولا طويل ولا أسود ولا على ضد شيء من ذلك وإن كنا نعلم أنه لا ينفك عن بعض تلك وإن لم يدل على الماهية من حيث هي فإما أن يدل على وحدة أو وحدات فإن دل على وحدة فهي إما معينة كزيد وعمرو وهو العلم أو غير معينة كرجل وفرس وهو النكرة. وإن دل على وحدات متعددة وهي الكثرة فتلك الكثرة أما بعض وحدات الماهية وجميعها فإن كانت بعضها فهواسم العدد كعشرين وثلاثين ونحوها وإن كانت جميع وحدات الماهية فهو العام وعلى هذا فالعام هو اللفظ الدال على جميع أجزاء ماهية مدلوله. وقد استفيد من هذا التقسيم معرفة حدود ما تضمنه من الحقائق وهو المطلق والعلم والنكرة واسم العدد فالمطلق هو اللفظ الدال على الماهية المجردة عن وصف زائد والعلم هو اللفظ الدال على وحدة معينة واسم العدد هو اللفظ الدال على بعض ماهيات مدلوله والفرق بين الخاص واسم العدد أن دلالة الخاص إنما هي على وحدة واحدة معينة أو مخصوصة واسم العدد يدل على وحدات متعددة غير مستغرقة. ثم اعلم أن اللفظ ينقسم إلى ما لا أعم منه وذلك كالمعلوم أو الشيء لأن المعلوم يتناول جميع الأشياء قديمها ومحدثها ومعدومها وموجودها لتعلق العلم بذلك كله والشيء يتناول القديم والمحدث والجوهر والعرض وسائر الموجودات فالشيء أخص من المعلوم لأن كل شيء معلوم وليس كل معلوم شيئا وهذا النوع يسمى العام المطلق وينقسم اللفظ إلى ما لا أخص منه ويسمى الخاص المطلق وذلك كزيد وعمرو ونحوهما إذ لا يوجد أخص من ذلك يعرف به ولهذا كانت الأعلام أعرف المعارف عند بعض النحاة وينقسم إلى ما بينهما ويقال له العام أو الخاص الإضافي فإن الحيوان مثلا خاص بالنسبة إلى ما فوقه وهو الجسم المطلق عام بالنسبة إلى ما تحته من أنواعه كالإنسان والفرس ونحوهما وكالموجود فإنه خاص بالنسبة إلى المعلوم عام بالنسبة إلى الجوهر فتقول كل إنسان حيوان وليس كل جسم حيوان والضابط في العام والخاص أن كل شيئين انقسم أحدهما إلى الآخر وغيره فالمنقسم أعم من المنقسم إليه فالموجود ينقسم إلى جوهر وغيره كالعرض والجوهر ينقسم إلى نام وغيره كالجماد والنامي ينقسم إلى حيوان وغيره كالنبات والحيوان ينقسم إلى إنسان وغيره كالفرس. إذا علم هذا فليعلم أن الألفاظ التي يستفاد منها العموم خمسة.
أحدهما : ما عرف بأل التي ليست للعهد وهو إما لفظ واحد كالسارق والسارقة أو جمع ثم الجمع إما أن يكون له واحد من لفظه كالمسلمين والمشركين والذين جمع الذي أو لا(1/115)
يكون له واحد من لفظه كالناس والحيوان والماء والتراب إذ لا يقال فيه ناسة ولا حيوانة لأن هذه الألفاظ وضعت لتدل على جنس مدلولها لا على آحاده منفردة والمعرف باللام العهدية لا يكون عاما لدلالته على ذات معينة نحو لقيت رجلا فقلت للرجل. الثاني: ما أضيف من ألفاظ العموم إلى معرفة كعبيد زيد ومال عمرو فالأول لفظه جمع والثاني اسم جنس فلو قلت رأيت عبيد زيد ومال عمرو اقتضى ذلك أن الرؤية كانت لجميع ذلك. الثالث: أدوات الشرط نحو من بفتح الميم فيما يعقل وما فيما لا يعقل وقيل إن ما في الخبر والاستفهام تكون للعاقل وغيره وأين وأنى وحيث للمكان ومتى للزمان المبهم وأي للكل وتعم من وأي المضافة إلى الشخص ضميرهما فاعلا كان أو مفعولا. الرابع: كل وجميع ونحوهما ومعشر ومعاشر وعامة وكافة وقاطبة وما أشبه هذه الألفاظ. الخامس : النكرة في سياق النفي أو الأمر نحو قوله تعالى: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] ونحو أعتق رقبة وحكم النكرة الواقعة في سياق النهي حكم النكرة الواقعة في سياق النفي نحو لا تخاصم أحدا.
تتمة : معيار العموم صحة الاستثناء من غير عدد.
تنبيه : أقسام ألفاظ العموم المذكورة تقتضي العموم عندنا بقصد واضع اللغة إفادتها العموم ما لم يقم دليل أو قرينة تدل على أن المراد بها الخصوص فيكون من باب إطلاق العام وإرادة الخاص ولما كان ما تقدم إنما هو كالقواعد الكلية وكانت المسائل التي بعده كالجزئيات أخرناها عنه فقلنا وههنا مسائل:
الأولى: أقل الجمع ثلاثة عند الأكثرين ومنهم أبو حنيفة والشافعي وأحمد وحكي عن المالكية وابن داود الظاهري وبعض الشافعية والنحاة أنه اثنان وحكاه أيضا في المحصول عن القاضي أبي بكر والأستاذ أبي إسحاق وجمع من الصحابة والتابعين وحكى الآمدي القول بالأول عن ابن عباس وأبي حنيفة والشافعي وبعض أصحابه ومشايخ المعتزلة
والثاني : عن عمر وزيد بن ثابت ومالك وداود والقاضي أبي بكر وزيد وأبي إسحاق والغزالي وبعض الشافعية وفائدة هذا الخلاف أنه إذا علق حكم على جمع كأن يقول لله علي أن أتصدق بدراهم أو أصوم أياما ونحوه وتعذر البيان فعلى القول الأول يلزمه التصدق بثلاثة دراهم وصوم ثلاثة أيام ما لم يدل دليل من الخارج على مقدار من العدد معين وعلى القول الثاني يكفيه اثنان ومحل الخلاف في غير لفظ جمع ونحن وقلنا وقلوبكما مما في الإنسان منه شيء واحد فإنه وفاق.(1/116)
الثانية : الاعتبار فيما ورد على سبب خاص بعمومه لا بخصوص السبب خلافا لمالك وبعض الشافعية.
الثالثة : قول الراوي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة وقضى بالشفعة ونحوه يصح التمسك به في العموم في أمثال ذلك القضية المحكية.
الرابعة : الخطاب الوارد مضافا إلى الناس والمؤمنين والأمة والمكلفين نحو: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] و {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31] و {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ونحو ذلك يتناول العبد لأنه من الناس والمؤمنين والأمة والمكلفين وخروجه عن بعض الأحكام كوجوب الحج والجهاد والجمعة إنما هو لأمر عارض وهو فقره واشتغاله بخدمة سيده ونحو ذلك كالمريض والمسافر والحائض يتناولهم الخطاب المذكور ويخرجون عن بعض الأحكام كوجوب الصوم والصلاة على الحائض ووجوب الصوم وإتمام الصلاة على المسافر ووجوب الصوم على المريض لأمر عارض وهو المرض والسفر والحيض ويدخل النساء في خطاب الناس والذي لاتخصيص فيه بالرجال والنساء كأدوات الشرط نحو من رأيت فأكرمه فإنه يتناول النساء أيضا وأما الذي يخص غيرهن كالرجال والذكور فإنه لا يتناولهن ونحو المسلمين والمؤمنين وكلوا واشربوا مما هو لجمع الذكور ففيه خلاف فذهب أبو الخطاب والأكثر إلى أنهن يدخلن فيه وتلخيص محل النزاع أن ما اختص بأحد القبيلين من الألفاظ لا يتناول الآخر كالرجال والذكور والفتيان والكهول والشيوخ فهذا مختص بالرجال ولفظ النساء والإناث والفتيات والعجائز لا يتناول الرجال وما وضع لعموم الرجال والنساء نحو الناس والبشر والإنسان إن أريد به النوع كالحيوان الناطق أو الشخص كفرد من أفراده وولد ادم وذريته وأدوات الشرط فالحق أنه يتناول القبلين النساء والرجال فيدخل النساء في نحو: يابني ادم بالتغليب عادة وكذا في نحو بني تميم ونحوها من القبائل بخلاف بني زيد وعمرو ممن ليس أبا لقبيلة ويدخلن أيضا في مثله عليه السلام: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج" 1 بعموم العلة وهو أن شهوة النكاح غريزة في القبيلين وكل منهما محتاج إلى
__________
1 رواه البخاري في كتاب النكاح، باب: من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومسلم في كتاب النكاح، باب: 1، والنسائي في كتاب النكاح، باب: الحث على النكاح، وابن ماجه في كتاب النكاح، باب: ماجاء في فضل النكاح، والدرامي في كتاب النكاح، باب: من كان عنده طول فليتزوج.(1/117)
قضائها وأما جمع المذكر السالم وضمير الجميع المتصل بالفعل نحو المسلمين وكلوا واشربوا فقال الأكثر يعم الرجال والنساء وهو الحق وقيل: لايعمهما.
الخامسة : اللفظ العام إذا خص بصورة مثل ما لو قال اقتلوا المشركين ثم قال لا تقتلوا أهل الذمة إذا أدوا الجزية وكقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] مع قوله عليه السلام: "أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد" 1 كان ما بقي
غير مخصوص حجة مطلقا وهو مذهب عامة الفقهاء ومنهم أحمد وأصحابه والباقي بعد التخصيص حقيقة أيضا.
السادسة : المتكلم بكلام عام يدخل تحت عموم كلامه في الأمر وغيره ومن أمثلته قوله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة" 2 وكقوله: "صلوا خمسكم وصوموا شهركم تدخلوا جنة ربكم" 3 ما لم تدل قرينة على عدم دخوله كما لو قال لغلامه من رأيت فأكرمه ويكون حينئذ من العام المخصص وإذا ورد اللفظ وجب اعتقاد كونه عاما وأن يعمل به قبل البحث عن المخصص ثم إن وجد ما يخصصه عمل به وإلا بقي على عمومه ثم هل يشترط حصول اعتقاد جازم بأن لا مخصص أو تكفي غلبة الظن. بعدمه فذهب إلى الأول القاضي أبو بكر وإلى الثاني الأكثرون ومنهم ابن سريج وإمام الحرمين والغزالي وهو الحق لأن الأول يفضي إلى تعطيل العمومات إذ لا طريق إلى القطع بانتفاء المخصص لأن مدركه البحث النظري وهو إنما يفيد غلبة الظن ويجوز تخصيص العموم إلى أن يبقى واحد فإذا قال أكرم أهل بلد كذا يجوز أن يخصص حتى لا يبقى مأمورا بإكرامه إلا شخص واحد والمخصص هو المتكلم بالخاص وموجود واستعماله في الدليل المخصص مجاز.
السابعة : إن العام عمومه شمولي وعموم المطلق بدلي فمن أطلق على المطلق اسم
__________
1 رواه ابن ماجه في كتاب الأطعمة، باب: الكبد والطحال.
2 رواه المنذري في الترغيب والترهيب "2: 412".
3 رواه الترمذي في كتاب الجمعة، باب: 80.(1/118)
العموم فهو باعتبار أن موارده غير منحصرة والفرق بينهما أن عموم الشمول كلي يحكم فيه على كل فرد فرد وعموم البدل كلي من حيث إنه لا يمنع نفس تصور مفهومه من وقوع الشركة فيه ولكن لا يحكم فيه على كل فرد بل على فرد شائع في أفراده يتناولها على سبيل البدل ولا يتناول أكثر من واحد منها دفعة.
الثامنة : المفهوم مطلقا عام فيما سوى المنطوق ويخصص كالعام ورفع كل تخصيص أيضا عند أكثر أصحابنا وغيرهم وقال ابن عقيل وموفق الدين المقدسي وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم لا يعم والحق الأول.
التاسعة : قال الشافعي: ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال مثاله أن ابن غيلان أسلم عن عشر نسوة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمسك أربعا منهن وفارق سائرهن" 1 ولم يسأل عن كيفية ورود عقده عليهن في الجمع والترتيب فكان إطلاقه القول دالا على أنه لا فرق بين أن تتفق تلك العقود معا أو على الترتيب.
العاشرة: ذكر علماء البيان أن حذف المتعلق يشعر بالتعميم نحو زيد يعطي ويمنع بحذف المفعولين ونحو قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] بحذف المفعول الثاني وكقوله تعالى: {فأما من أعطى وتقى} [الليل: 5] {اللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس: 25] فينبغي أن يكون ذلك من أقسام العموم وإن لم يذكره المتقدمون من أهل الأصول وذكر معناه القاضي علاء الدين المرداوي الحنبلي في التحرير فقال مثل لا آكل أو إن أكلت فعبدي حر يعم مفعولاته فيقبل تخصيصه فلو نوى مأكولا معينا قبل باطنا عند أصحابنا والمالكية والشافعية وعند ابن البنا والحنفية لا ويقبل أيضا حكما عند أحمد ومالك وأبي يوسف ومحمد وعنه لا كالشافعية ويعم الزمان والمكان عندنا وعند المالكية وعند الشافعية والآمدي لا فلو زاد فقال لحما ونوى معينا قبل عندنا وعند الحنفية وحكى اتفاقا ثم قال في التحرير تنبيه علم من ذلك أن العام في شيء عام في متعلقاته وقال العلماء إلا من شذ انتهى.
__________
1 رواه الموطأ في كتاب الطلاق، باب: جامع الطلاق.(1/119)
ومنه تعلم أن هذه القاعدة معتبرة عند العلماء لكن ينبغي أن يعلم أن العموم فيما ذكر إنما هو دلالة القرينة على أن المقدر عام والحذف إنما هو لمجرد الاختصار لا للتعميم.
الحادية عشرة: الكلام العام الخارج على طريقة المدح أو الذم نحو: {إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13 14] هو عام عند الجمهور.
الثانية عشرة: ذكر بعض أفراد العام الموافق له في الحكم لا يقتضي التخصيص عند الجمهور كقوله عليه الصلاة والسلام: "أيما أهاب دبغ فقد طهر" 1 مع قوله في حديث آخر في شاة ميمونة: "دباغها طهورها" 2 فالتنصيص على الشاة في الحديث الآخر لا يقتضي عموم: "أيما أهاب دبغ فقد طهر" 3 لأنه تنصيص على بعض أفراد العام بلفظ لا مفهوم له إلا مجرد مفهوم اللقب فمن أخذ به خصص به ومن لم يأخذ به لم يخصص به ولا متمسك لمن قال بالأخذ به.
الثالث عشرة: إذا علق الشارع حكما على علة عم الحكم تلك العلة حتى يوجد بوجودها في كل صورة وذلك العموم بالشرع لا باللغة لكن بشرط أن يكون القياس الذي اقتضته العلة من الأقيسة التي ثبتت بدليل نقل أو عقل لا بمجرد محض الرأي والخيال المختل.
الرابع عشرة: الفرق بين الطعام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص وذلك
__________
1 رواه مسلم في كتاب الحيض، باب: 105، وأبو داود في كتاب اللباس ، باب: في أهب الميتة، والنسائي في كتاب الفروع، باب: جلود الميتة، والدارمي في كتاب الأضاحي، باب: ماجاء في جلود الميتة، وأحمد في "م1/ص219".
2 رواه مسلم في كتاب الحيض، باب: 106، وأبو داود في كتاب اللباس، باب: في أهيب الميتة، والنسائي في كتاب الفروع، باب: جلود الميتة، والدارمي في كتاب الضاحي، باب: ماجاء في جلود الميتة، وأحمد في "م3/ص 476".
3 رواه مسلم في كتاب الحيض، باب: 105، وأبو داود في كتاب اللباس، باب: في أهب الميتة، والنسائي في كتاب الفروع، باب: جلود الميتة، والدارمي في كتاب الأضاحي، باب: ماجاء في جلود الميتة، وأحمد في "م1/ص219".(1/120)
أن الذي أريد به الخصوص ما كان المراد أقل وما ليس بمراد هو الأكثر وبيانه أن العام المخصوص كقوله تعالى: {إنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] والعام الذي أريد به الخصوص كلي استعمل في جزئي وهو مجاز وقرينته عقيلة لا تنفك عنه والأول أعم منه.
فصل : وأما الخصوص فقد تقدمت الإشارة إلى تعريفه ونقول هنا الخاص هو اللفظ الدال على شيء بعينه لأنه مقابل العام فكما أن العام يدل على أشياء من غير تعيين وجب أن يكون الخاص ما ذكرناه فالعام كالرجال والخاص كزيد وعمرو وهذا الرجل والتخصيص بيان المراد باللفظ أو يقال بيان أن بعض مدلول اللفظ غير مراد بالحكم فقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] مخصص لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] ومبين أن المراد بالمشركات ما عدا الكتابيات على التعريف الأول أو يقال إن بعض مدلول المشركات غير مراد بالتحريم وهن الكتابيات على الثاني والمخصص بكسر الصاد الأولى مشددة يطلق حقيقة على المتكلم بالخاص ومجازا على الكلام الخاص المبين للمراد بالعام وينبغي أن يعلم الفرق بين التخصيص والنسخ وهو من وجوه. منها إن التخصيص لا يكون إلا لبعض الأفراد والنسخ يكون لها كلها. ومنها إن النسخ يتطرق إلى كل حكم سواء كان ثابتا في حق شخص واحد أو أشخاص كثيرة والتخصيص لا يتطرق إلا إلى الأول. ومنها إنه يجوز تأخير النسخ عن وقت العمل بالمنسوخ ولا يجوز تأخير التخصيص عن وقت العمل بالمخصوص. ومنها إنه يجوز نسخ شريعة بشريعة أخرى ولا يجوز التخصيص
ومنها إن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته بخلاف التخصيص فإنه بيان المراد باللفظ العام. ومنها: أن التخصيص بيان ما أريد بالعموم والنسخ بيان ما لم يرد بالمنسوخ. ومنها إن النسخ لا يكون إلا بقول وخطاب والتخصيص قد يكون بأدلة العقل والقرائن وسائر أدلة السمع. ومنها إن التخصيص يجوز أن يكون بالإجماع والنسخ لا يجوز أن يكون به. ومنها: إن التخصيص لا يدخل في غير العام بخلاف النسخ فإنه يرفع حكم العام والخاص. ومنها إن التخصيص يكون في الأخبار والأحكام والنسخ يختص بالأحكام الشرعية. ومنها جواز اقتران التخصيص بالعام وتقدمه عليه وتأخره عنه مع وجوب تأخر الناسخ عن المنسوخ إلى غير ذلك
وقد سردنا هذه الفروق بيانا لا تحقيقا ثم اعلم أن المخصصات حصرها أصحابنا في تسع:(1/121)
أولها : الحسن ومثلوا له بقوله تعالى في صفة الريح العقيم: {دَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] قالوا فإنا علمنا بالحس أنها لم تدمر السماء والأرض مع أشياء كثيرة فكان الحس مخصصا لذلك وعند التحقيق تجد الآية خاصة أريد بها الخاص وذلك لأنها جاءت في موضع آخر مقيدة بما يمنع الاستدلال بها على المدعي وهو قوله عز وجل: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 41 42] والقصة واحدة فدل على أن قوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْء} [الأحقاف: 25] مقيد بما أتت عليه كأنه سبحانه قال تدمر كل شيء أتت عليه وحينئذ يكون التدمير مختصا بذلك فتكون الآية خاصة أريد بها الخاص.
ثانيها : العقل وبه خص من لا يفهم من عموم النص نحو: {لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] فإن هذا الخطاب يتناول بعمومه من لا يفهم من الناس كالصبي والمجنون لكنه خرج بدليل العقل فكان مخصصا للعموم الذي به.
ثالثها : الإجماع لأنه نص قاطع شرعي والعام ظاهر لأنه يدل على ثبوت الحكم لكل فرد من أفراده بطريق الظهور لا بطريق القطع وإذا اجتمع القاطع والظاهر كان القاطع متقدما والحق أن التخصيص يكون بدليل الإجماع لا بالإجماع نفسه وجعل الصيرفي من أمثلته: {ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] قال وأجمعوا على أنه لا جمعة على عبد ولا امرأة.
رابعها : النص الخاص كتخصيص قوله عليه السلام: "لا قطع إلا في ربع دينار" 1 لعموم قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة] فإن هذا يقتضي عموم القطع في القليل والكثير فخص بالحديث ما دون ربع دينار فلا قطع به وسواء كان العام كتابا أو سنة متقدمة أو متأخرة لقوة الخاص وهو قول الشافعية وعن أحمد رحمه الله تعالى يقدم المتأخر من النصين عاما كان أو خاصا وهو قول الحنفية لقول ابن عباس:
__________
1 رواه المتقي الهندي في كنز العمال"13345"، وابن حجر في فتح الباري"12: 103"، وابن عدي في الكامل في الضعفاء "6: 2302"(1/122)
"كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم" فإن جهل التاريخ فكذلك يقدم الخاص على العام عندنا وعند الحنفية يتعارضان وهو قياس رواية أحمد
وقال بعض الشافعية: لا يخص عموم السنة بالكتاب وخرجه ابن حامد قولا أي رواية لنا والصحيح التخصيص.
خامسها: المفهوم فإن كل مفهوم موافقة كان مخصصا اتفاقا وإن كان مفهوم مخالفة فإنه يكون مخصصا عند القائل به وخالف القاضي أبو يعلى وأبو الخطاب أيضا والمالكية وابن حزم
مثال الأول قوله عليه السلام: "في أربعين شاة شاة" 1 فإنه يعم كل أربعين من الشاء سواء كانت سائمة أو غيرها ولكنه خص بقوله: "في سائمة الغنم الزكاة" 2 فإن مفهومه يقتضي أن غير السائمة لا زكاة فيها. ومثال الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: "خلق الماء طهورا لا ينجسه إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه" 3 فإنه عام وخصص بمفهوم قوله إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا.
سادسها : فعل النبي صلى الله عليه وسلم كتخصيص قوله عز وجل في الحيض: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] بكونه عليه السلام كان يباشر الحائض دون الفرج متزرة فإن الآية اقتضت عموم عدم القربان في الفرج وغيره وفعله عليه السلام خص النهي بالفرج وأباح القربان لما سواه ويمكن حمل القربان على معنى لا تطأوهن في الفرج ويكون القربان كناية ظاهرة عن ذلك فلا عموم.
سابعها : تقرير النبي صلى الله عليه وسلم على خلاف العموم مع قدرته على المنع من خلافه لأن إقراره كصريح إذنه إذ لا يجوز له الإقرار على الخطأ لعصمته. ومثاله على سبيل الفرض أن النهي عن شرب الخمر إنما هو عام قطعا فلو فرض أنه رأى أحدا يشرب مقدارا يسيرا منها وأقره عليه كان إقراره تخصيصا للعموم.
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الزكاة، باب: 4، وابن ماجه في كتاب الزكاة، باب: صدقة الغنم، والنسائي في كتاب الزكاة، باب: زكاة الإبل، وأبو داود في كتاب الزكاة، باب: في زكاة السائمة، وأحمد في "م2/ص15".
2 رواه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق "4:115".
3 رواه ابو داود في كتاب الطهارة، باب: ماجاء في بئر بضاعة، وابن ماجه في كتاب الطهارة، الحياض، والنسائي في كتاب المياه، باب: ذكر بئر بضاعة، وأحمد في "م1/ص 235".(1/123)
ثامنها: قول الصحابي لأنه حجة يقدم على القياس فيكون مخصصا.
تاسعها: قياس النص الخاص يقدم على عموم نص آخر فيخص به مثاله قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] فهو عام في جواز كل بيع ثم ورد النص بتحريم الربا في البر بعلة الكيل وقياسه تحريم الربا في الأرز فهو قياس نص خاص يخص به عموم إحلال البيع.
خاتمة : إذا تعارض نصان محكمان فإما أن يتعارضا عن كل وجه بحيث لا يمكن الجمع بينهما بوجه وإما أن يتعارضا من بعض الوجوه بحيث يمكن الجمع بينهما بوجه ما فإن تعارضا من كل وجه في المتن قدم أصحهما سندا فإن استويا فيه فإن كانا صحيحين صحة متساوية قدم ما عضده دليل خارج من نص أو إجماع أو قياس فإن فقد الدليل الخارج فإن علم التاريخ فالمتأخر ناسخ وإن جهل التاريخ توقف الترجيح بينهما على مرجح. وإن لم يتعارضا من كل وجه وجب الجمع بينهما بما أمكن من الطرق كمثل أن يكون أحدهما أخص من الآخر فيقدم أخصهما أو بأن يحمل أحدهما على تأويل صحيح يجمع به بين الحديثين فإن كان كل منهما عاما من وجه خاصا من وجه تعادلا وطلب المرجح الخارجي ومن أمثلة ذلك قوله عليه السلام: "من نام على صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" 1 مع قوله عليه السلام: "لا صلاة بعد العصر" 2 فالأول خاص في الفائتة المكتوبة عام في الوقت والثاني عكسه عام في الصلاة خاص في الوقت فيتعادلان ويطلب المرجح ويجوز تعارض عمومين من غير مرجح بينهما عقلا لا وجودا.
فصل : المخصص إما منفصل وهو المخصصات التسع التي سبق بيانها وإما متصل وهو الاستثناء والشرط والغاية والصيغة وغير ذلك مما سيأتي.
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الصلاة، باب: 16، والنسائي في كتاب المواقيت، باب: فيمن نام عن صلاة، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب: من نام عن صلاة أو نسيها.
2 رواه البخاري في كتاب المواقيت، باب: لايتحرى الصلاة قبل غروب الشمس، ومسلم في كتاب المسافرين، باب: 288: والنسائي في كتاب المواقيت، باب: من أدرك ركعتين من العصر، وابن ماجه في كتاب الإقامة، باب: النهي عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر، والدرمي في كتاب الصلاة، باب: أي ساعة يكره فيها الصلاة، وأحمد في "م1/ص18".(1/124)
أما الاستثناء: فهو إخراج بعض الجملة بإلا أو بما قام مقامها وهو غير وسوى وعدا وخلا وحاشا وليس ولا يكون. والفرق بينه وبين التخصيص بالمنفصل بغير الاستثناء بوجهين:
أحدهما : إن الاستثناء يجب اتصاله بالمستثنى منه بخلاف التخصيص بغير الاستتثناء فإنه يجوز أن يتراخى وذلك لأن صيغة الاستثناء غير مستقلة بنفسها لأنها تابعة للمستثنى منه بخلاف التخصيص بغيرها.
ثانيها: إن الاستثناء يتطرق إلى النص كقوله له علي عشرة إلا ثلاثة بخلاف التخصيص بغير الاستثناء فإنه لا يصح في النص وإنما يصح في العام ودلالته ظنية والفرق بين الاستثناء وبين النسخ من وجوه: أولها : أن الاستثناء يشترط فيه الاتصال والنسخ يشترط فيه التراخي. ثانيها: أن الاستثناء إنما يرفع حكم بعض النص ولا يصح أن يكون مستغرقا والنسخ يجوز أن يرد على جميع حكم النص فيرفعه. ثالثها: الاستثناء مانع لدخول المستثنى تحت لفظ المستثنى منه والنسخ يرفع ما دخل تحت لفظ المنسوخ وههنا مسائل.
أحدها : يشترط للاستثناء الاتصال بحيث لا يفصل بين المستثنى والمستثنى منه بكلام أجنبي ولا بسكوت يمكن التكلم فيه كسائر التوابع اللفظية من خبر المبتدأ وجواب الشرط والحال والتمييز.
ثانيها: يشترط أن لا يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه فلا يصح أن يقال قام القوم إلا حمارا مع إرادة الحقيقة فإن أراد المجاز صح هنا بأن يجعل الحمار كناية عن البليد والكلام هنا في فن الأصول لا في فن النحو لأن كلامنا في التخصيص وعدمه والنحاة يتكلمون على الجواز لغة لا شرعا على أن أهل العربية يسمون الاستثناء من غير الجنس منقطعا ويقدرون إلا فيه بمعنى لكن لاشتراكهما في معنى الاستدراك بها فافترقا. وأما قول الخرقي في مختصره ومن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه كان استثناؤه باطلا إلا أن يستثني عينا من ورق أو ورقا من عين فإنه راجع إلى الاستثناء من الجنس غاية ما فيه أنه استثنى من الجنس البعيد وهو المال.
ثالثها : يشترط لصحة الاستثناء أن لا يكون مستغرقا فإن كان كذلك نحو أن يقول له علي عشرة إلا عشرة بطل إجماعا وفي الأكثر والنصف نحو له علي عشرة إلا ستة(1/125)
أو إلا خمسة خلاف واقتصر قوم على صحة الاستثناء الأقل نحو له على عشرة إلا أربعة وهو الصحيح من مذهبنا. قال الشيخ مجد الدين من أصحابنا في كتابه المحرر يصح استثناء الأقل دون الأكثر في عدد الطلاق والمطلقات والأقارير نص عليه وفي النصف وجهان وقيل في الأكثر أيضا وحكى المرداوي في التحرير أنه يصح استثناء النصف في الأصح.
رابعها : إذا تعقب الاستثناء جملا كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4 5] عاد الاستثناء إلى الكل عندنا وعند الشافعية وإلى الأخيرة عند الحنفية وتوقف المرتضي من الشيعة فقال يصلح رجوعه إلى جميع الجمل وإلى الجملة الأخيرة على جهة الاشتراك والتساوي ولا رجحان لأحدهما على الأخرى والقول الفصل إنه إن كان في الكلام قرينة معنوية كقوله نساؤه طوالق وعبيدي أحرار إلا الحيض أو لفظية كقولك أكرم بني تميم والنحاة البصريون إلا البغداديون كان الاستثناء راجعا إلى الجملة الأولى وأما في المثال الثاني فالنظر إلى الواو فإن ظهر أنها للابتداء اختص بالأخيرة وإن ترددت بين العطف والابتداء فالوقف.
تنبيه : حيث إن الاستثناء إذا تعقب جملا عاد إليها كلها على المختار وكان الشرط في مثل قول القائل والله لأفعلن كذا إن شاء الله أو لأصومن ولأتصدقن ولأصلين إن شاء الله يعود إلى الجمل كلها سمى الفقهاء مثل هذا استثناء بجامع افتقار كل منهما إلى ما يتعلق به إذ الشرط يتعلق بمشروطه ولا يستقل بدونه والاستثناء يتعلق بالمستثنى منه ولا يستقل بدونه.
خامسها : لا يصح الاستثناء إلا نطقا إلا في يمين خائف بنطقه وقيل قياس مذهب مالك صحته بالنية ويجوز تقديمه عند الكل.
سادسها : ذهب أصحابنا والمالكية والشافعية إلى أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي خلافا للحنفية في الأولى وسوى بعضهم بينهما واستثنى القرافي من الأول الشرط كلا صلاة إلا بطهور.(1/126)
سابعها: إذا وقع بعد المستثنى منه والمستثنى جملة تصلح أن تكون صفة لكل واحد منهما فعند الشافعية أن تلك الجملة ترجع إلى المستثنى منه وعند الحنفية إلى المستثنى وهكذا إذا جاء بعد الجمل ضمير يصلح لكل واحدة منهما. وأما التخصيص بالشرط وهو ما توقف عليه تأثير المؤثر على غير جهة السببية ومثاله قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فإنه أجاز قصر الصلاة بشرطين: أحدهما : الضرب في الأرض والآخر: خوف فتنة الكفار لكن نسخ اعتبار الشرط الثاني بالرخصة حتى جاز القصر مع الأمن وبقي الشرط الأول وهو الضرب في الأرض فلا يجوز القصر بدونه وينقسم الشرط إلى أربعة أقسام عقلي كالحياة للعلم. وشرعي كالطهارة للصلاة. ولغوي كالتعليقات نحو إن قمت قمت. وعادي كالسلم لصعود السطح وقد يتعدد ومع التعدد قد يكون كل واحد شرطا على الجميع فيتوقف المشروط على حصولها جميعها وقد يكون كل واحد شرطا مستقلا فيحصل المشروط بحصول أي واحد منها والشرط كالاستثناء في اشتراط الاتصال. وإن تعقب جملا متعاطفة كان حكمه راجعا إليها كلها عند الأئمة الأربعة وغيرهم وحكي إجماعا وقيل يختص بالتي تليه ولو كانت متأخرة. وقال الرازي بالوقف ويجوز إخراج الأكثر به. وأما الغاية فهي نهاية الشيء المقتضية لثبوت الحكم قبلها وانتفائه بعدها ولها لفظان وهما حتى وإلى. وكقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وقوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] واختلفوا في الغاية نفسها هل تدخل في المغيا أم لا والذي صرح به أكثر الأصحاب: أن ما بعدها محكوم عليه بنقيض حكم ما قبلها ما لم يتقدم على الغاية عموم يشملها فإذا تقدمها ذلك نحو قطعت أصابعه كلها من الخنصر إلى الإبهام يكن ما بعدها مخالفا لما قبلها ومثله: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] وأما الصفة فهي كالاستثناء إذا وقعت بعد متعدد والمراد بالصفة هنا هي المعنوية على ما حققه علماء البيان لا مجرد النعت المذكور في علم النحو. قال المازري: ولا خلاف في اتصال التوابع وهي النعت والتوكيد والعطف والبدل. وقال الصفي الهندي إن كانت الصفات كثيرة وذكرت على الجمع عقب جملة تقيدت بها أو على البدل فلواحدة غير معينة منها وإن ذكرت عقب جمل ففي العود إلى كلها أو إلى الأخيرة خلاف انتهى.
وأما إذا توسطت بين جمل فلا وجه للخلاف في ذلك فإن الصفة تكون لما قبلها لا لما(1/127)
بعدها.وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية التوابع المخصصة كالبدل وعطف البيان والتوكيد ونحوه كالاستثناء والشروط المعنونة بحرف الجر كقوله على أنه أو بشرط أنه أو بحرف العطف كقوله ومن شرطه كذا فهي كالشرط اللغوي ويتعلق حرف متأخر بالفعل المتقدم انتهى. والإشارة بذلك بعد جمل تعود إلى الكل كقوله تعالى: {مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: 68] والتمييز إذا جاء بعد جمل يعود إلى جميع الجمل المتقدمة فإذا قال مثلا له علي ألف وخمسون درهما فالجميع دراهم على الصحيح من المذهب كما قاله البقلي في قواعده الأصولية وقال التميمي يرجع في تفسير الألف إليه.
تنبيه : قولنا والمراد بالصفة المعنوية معناه أنها تشمل كل ما أشعر بمعنى يتصف به إفراد العام سواء كان الوصف نعتا أو عطف بيان. أو حالا وسواء كان ذلك مفردا أو جملة أو شبهها وهو الظرف والجار والمجرور ولو كان جامدا مأولا بمشتق لكن يخرج من ذلك الوصف الذي خرج مخرج الغالب كما يأتي في المفاهيم أو البيان الوصف بمدح أو ذم أو ترحم أو توكيد أو تفصيل فليس شيء منه ذلك مخصصا للعموم.
فصل : في المطلق والمقيد. أما المطلق فهو ما تناول واحدا من غير معين باعتبار حقيقة شاملة لجنسه نحو قوله عز وجل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] وقوله عليه الصلاة والسلام "لا نكاح إلا بولي" 1 فكل واحد من لفظ الرقبة والولي قد تناول واحدا غير معين من جنس الرقاب والأولياء والمقيد ما تناول معينا نحو أعتق زيدا من العبيد أو موصوفا بوصف زائد على حقيقة جنسه نحو: {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وصف الرقبة بالإيمان والشهرين بالتتابع وذلك وصف زائد على حقيقة نفس الرقبة والشهرين لأن الرقبة قد تكون مؤمنة وكافرة والشهرين قد يكونا متتابعين وغير متتابعين والإطلاق والتقييد يكونان تارة في الأمر نحو أعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة وتارة في الخبر نحو "لا نكاح إلا بولي وشاهدين" 2. لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل. وتتفاوت
__________
1 رواه البخاري في كتاب النكاح، باب: من قال لانكاح إلا بولي، وأبو داود في كتاب النكاح، باب: في الولي، وأبو داود في كتاب النكاح، باب: في الولي، والترمذي في كتاب النكاح، باب: 14، وابن ماجه في كتاب النكاح، باب: لانكاح إلا بولي، والدرامي في كتاب النكاح، باب: النهي عن النكاح بغير ولي، وأحمد في "م1/ص259".
2 رواه البخاري في كتاب النكاح، باب: من قال لانكاح إلا بولي، وأبو داود في كتاب=(1/128)
مراتب المقيد في تقييده باعتبار قلة القيود وكثرتها فما كانت قيوده أكثر كانت رتبته في التقييد أعلا وهو فيه أدخل فقوله سبحانه وتعالى: {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم: 5] أعلا رتبة في التقييد من قوله: {مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ} [التحريم: 5] لا غير. وقد يجتمع الإطلاق والتقييد في لفظ واحد بالجهتين كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] قيدت من حيث الدين بالإيمان وأطلقت من حيث ما سواه كالصحة والسقم والطول والقصر والنسب والبلد فهي مقيدة من جهة مطلقة من جهة. ثم إنه يقال هنا إذا اجتمع لفظ مطلق ومقيد فإما أن يتحد
حكمهما أو يختلف فإن اتحد حكمهما فإما أن يتحد سببهما أو يختلف فهذه ثلاثة أقسام فإذا اتحد حكمهما حمل المطلق على المقيد كقوله عليه الصلاة والسلام: "لا نكاح إلا بولي" 1 وشهود مع إلا بولي مرشد وشاهدي عدل فالأول مطلق في الولي بالنسبة إلى الرشد والغي والشهود بالنسبة إلى العدالة والفسق والثاني مقيد بالرشد في الولي والعدالة في الشهود وسببهما واحد وهو النكاح وحكمهما نفيه إلا بولي وشهود وإذا اتحدا حكما واختلفا سببا كعتق رقبة مؤمنة في كفارة القتل ورقبة مطلقة في كفارة الظهار فعند القاضي أبي يعلى والمالكية يحمل المطلق على المقيد ونسبه في التحرير إلى الأئمة الأربعة وغيرهم. وقال الطوفي في مختصره وخالف بعض الشافعية وأكثر الحنفية وأبو إسحاق ابن شاقلا من أصحابنا فقالوا لا يحمل المطلق على المقيد ههنا وقد روي عن أحمد ما يدل على هذا أيضا. وقال أبو الخطاب: إن عضده قياس حمل عليه وإلا فلا وإذا اختلف الحكم فلا حمل كتقييد صوم الكفارة بالتتابع وإطلاق الإطعام ومتى اجتمع مطلق ومقيدان متضادان حمل المطلق على ما هو أشبه من المقيدين المتضادين وذلك كغسل الأيدي في
__________
= النكاح، باب: في الولي ، والترمذي في كتاب النكاح، باب: 14، وابن ماجه في كتاب النكاح، باب: لانكاح إلابولي، والدارمي في كتاب النكاح، باب: النهي عن النكاح بغير ولي، وأحمد في "م1/ ص259".
1 رواه البخاري في كتاب النكاح، باب: من قال لانكاح إلا بولي، وأبو داود في كتاب النكاح، باب: في الولي، والترمذي في كتاب النكاح، باب:14، وابن ماجه في كتاب النكاح، باب: لا نكاح إلابولي، والدارمي في كتاب النكاح، باب: النهي عن النكاح بغير ولي، وأحمد في "م/1ص259".(1/129)
الوضوء ورد مقيدا بالمرافق وقطعها في السرقة ورد مقيدا بالكوع بالإجماع ومسحها في التيمم ورد مطلقا فالحق بالأشبه به وهو الوضوء.
تنبيه : جميع ما ذكر في التخصيص للعام وهو جار في تقييد المطلق فارجع إليه.
فصل : المجمل لغة ما جعل جملة واحدة لا ينفرد بعض آحادها عن بعض واصطلاحا اللفظ المتردد بين محتملين فصاعدا على السواء والإجمال إما أن يقع في اللفظ المفرد أو المركب. والواقع في المفرد إما أن يقع في الأسماء أو الأفعال أو الحروف. أما وقوعه في الأسماء فكالعين المترددة بين معانيها كالباصرة وعين الماء والذهب وغير هذا والقرء المتردد بين الحيض والطهر وكالجون المتردد بين الأسود والأبيض وكالشفق المتردد بين الحمرة والبياض. وأما وقوعه في الأفعال فنحو عسعس فإنه بمعنى أقبل وأدبر وبان بمعنى غاب واختفى وأما في الحروف فنحو تردد الواو بين العطف والابتداء وبين العطف والحال ونحو تردد من بين ابتداء الغاية والتبعيض
وأما في المركب فكقوله تعالى: {وْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] فإنه متردد بين الولي والزوج. والصحيح من مذهب أحمد والشافعي أنه الزوج وقال مالك هو الولي. وقد وقع الإجمال من جهة التصريف كالمختار والمحتال فإنهما مترددان بين اعتبارهما اسم فاعل أو اسم مفعول وحكم المجمل التوقف على البيان الخارجي لأن الله تعالى لم يكلفنا العمل بما لا دليل عليه والمجمل لا دليل على المراد به فلا نكلف بالعمل به والمجمل واقع في الكتاب والسنة في الأصح خلافا لداود الظاهري. قال بعضهم لا نعلم أحدا قال به غيره.
تنبيه : ادعى بعض العلماء الإجمال في أمور ولكنها غير مجملة لدى التحقيق منها: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]. {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] وغير ذلك مما أضيفت الأحكام فيه إلى الأعيان لأن المراد حرم عليكم أكل الميتة ووطء الأمهات فالحكم المضاف إلى العين ينصرف لغة وعرفا إلى ما أعدت له. وهو ما ذكرناه. ومنها قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] قال القاضي أبو يعلى هو مجمل لأن الربا معناه لغة الزيادة كيفما كانت وفي الشرع الزيادة المخصوصة والصحيح أنه من باب العام المخصوص. ومنها: حديث:(1/130)
"لا صلاة إلا بطهور" 1 "لا صيام لمن لم يبيت النية" 2. قال الحنفية: هو مجمل لتردده بين المعنى اللغوي والشرعي والحق أن كلام الشارع يحمل حقيقة على الموضوعات الشرعية فالموضوعات اللغوية في مقابلته مجاز. ومنها: "إنما الأعمال بالنيات" 3. قالوا إن الأعمال مبتدأ وبالنيات متعلق بمحذوف متردد بين تقدير الصحة أو الكمال. والحق أنه لا تردد لأن المراد نفي فائدة العمل وجد واه بدون النية فتبقى صحته متعينة للتقدير وقد أشبعنا الكلام عليه في شرحنا عمدة الأحكام الحديثية ومنها قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" 4. فإنه ليس المراد منه رفع الخطأ والنسيان حتى يكون مجملا بل المراد أن المرفوع حكم الخطأ والنسيان.
فصل : وأما المبين فهو ضد المجمل فيقال في تعريفه هو اللفظ الناص على معنى غير متردد متساو. وقال الآمدي المبين قد يراد به الخطاب المستغنى بنفسه عن بيان قد يراد به ما يحتاج إلى البيان عند وروده عليه كالمجمل وغيره وهنا أربعة ألفاظ مجمل وإجمال ومبين وبيان. فالمجمل تقدم تعريفه والإجمال إرادة التردد من المتكلم والنطق باللفظ على وجه يقع فيه التردد والمبين اللفظ الدال من غير تردد كما مر آنفا يطلق على فعل المبين وعلى الدليل وعلى المدلول ولذلك قال الصيرفي: هو إخراج
__________
1 رواه البخاري في كتاب الوضوء، باب: لاتقبل صلاة بغير طهور، والترمذي في كتاب الطهارة، باب: 1، والنسائي في كتاب الطهارة، باب: فرض الوضوء، وابن ماجه في كتاب الطهارة، باب: لايقبل الله صلاة بغير طهور، والدرامي في كتاب الوضوء، باب: لاتقبل صلاة بغير طهور، وأحمد في "م2/ص20".
2 رواه الزيلعي في نصب الراية"2: 433".
3 رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب: ماجاء أن العمال بالنية وبالحسبة، ومسلم في كتاب الإمارة، باب: 155، وأبو داود في كتاب الطلاق، باب: فيما عني به الطلاق والنيات، والترمذي في كتاب فضائل الجهاد، باب: 16، والنسائي في كتاب الطهارة، باب: النية في الوضوء وابن ماجه في كتاب الزهد، باب: النية ، وأحمد في "م1/ص25".
4 رواه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب: طلاق المكره والناسي وفيه "تجاوز عن" بدل "رفع".(1/131)
الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي والوضوح وينبغي أن يزاد هذا التعريف بالفعل أو بالقوة لأن الكلام قد يرد بينا بالفعل وهو مع ذلك مشكل بالقوة أي قابل لعروض الإشكال له من ذاته بتقدير تغير صفته أو من خارج وبيان ذلك بالمثال وهو أن بعض الحنفية قال نقل عن أبي حنيفة أنه قال لا يدخل النار إلا مؤمن وظاهر هذا مع قوله عليه السلام لا يدخل الجنة إلا المؤمنون مشكل لأنه يقتضي أن أهل الجنة والنار جميعا مؤمنون وليس كذلك للاتفاق على أن أهل النار كفار وأنه لا يخلد بها إلا كافر لكن أبو حنيفة ألحق بكلامه بيانا بينه وأظهر معناه المراد له بأن قال لا يدخل النار إلا مؤمن لأن. الكفار حينئذ يعاينون ما كانوا يوعدون فيؤمنون به ويصدقون لكن إيمانا لا ينفعهم لأنه اضطراري لا اختياري ولقوله عز وجل: {لَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85] وقوله عز وجل لفرعون حين قال لما أدركه الغرق: آمنت {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [يونس: 91] فقد حصل من هذا أن كلام أبي حنيفة مشكل بالفعل فاحتاج إلى البيان. وأما المبين به وهو ما يحصل به البيان فإنه يكون بأمور:
أحدها: القول بأن يقول المتكلم أو من علم مراد المتكلم المراد بهذا الكلام كذا كقوله تعالى: {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} [القارعة: 13]. فهذا إجمال ثم بينه بقوله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة: 4] وكذا الآية بعدها فبين أن القارعة تكون ذلك اليوم بهذه الصفة العظيمة ونظائر هذه الآية في القرآن الكريم والسنة النبوية كثيرة وتكون السنة مبينة للقرآن كقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] فإن القوة مجملة ولكن بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "ألا إن القوة الرمي" 1. ثم كرر هذه الجملة تأكيدا.
الثاني : الفعل ويكون بالكتابة ككتابة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده وغيرهم من أهل الولايات إلى عمالهم في الصدقات وغيرها من السياسيات ويكون بالإشارة كما
__________
1 رواه مسلم في كتاب الإمارة، باب: 167، وأبو داود في كتاب الجهاد، باب: في الرمي، والترمذي في كتاب تفسير سورة، باب: 8، وابن ماجه في كتاب الجهاد، باب: في سبيل الله، والدارمي في كتاب الجهاد، باب: في سبيل الله، والدرامي في كتاب الجهاد، باب: في فضل الرمي والأمر به، وأحمد في "م4/ص157".(1/132)
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرا فأقام في مشربة له تسعا وعشرين ثم دخل عليهن.
فقيل له: إنك آليت شهرا فقال: الشهر هكذا وهكذا وأشار بأصابعه العشر وقبض إبهامه في الثالثة يعني تسعة وعشرين وجاء في حديث صحيح أنه قال الشهر تسع وعشرون هكذا بلفظه وهو بيان قولي فقد تضمن هذا الحديث نوعي البيان القولي والفعلي ومن البيان الفعلي قوله عليه الصلاة والسلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" 1 "وخذوا عني مناسككم" 2. أي انظروا إلى فعلي في الصلاة والحج فافعلوا مثله فكان فعله فيهما مبينا لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].
الثالث: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على فعل وإن أردت القاعدة العمومية للبيان فقل كل مقيد من الشرع بيان ولنذكر بعض أمثلة لذلك تبين المرام. منها: أن يستدل الشارع استدلالا عقليا فيبين به العلة ومأخذ الحكم أو فائدة ما كقوله تعالى في صفة ماء السحاب {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر: 9] وفي موضع آخر: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 11] فبين لنا تعالى بذلك طريق الاستدلال على إمكان البعث والمعاد ولولا هذا الطريق الذي فتحه الله للمؤمنين لما اجترأ متكلموهم أن يستدلوا عليه ولا أن يتكلموا مع الفلاسفة المنكرين له فيه وأمثال هذه الآية كثير وجميع استدلالات القرآن عقلية وهي مفيدة للبيان ومنها أن يترك عليه السلام فعلا قد أمر به أو قد سبق منه فعله فيكون تركه له مبينا لعدم وجوب مثاله أنه قيل له: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ثم إنه اشترى فرسا من أعرابي ولم يشهد عليه. ومنها السكوت بعد السؤال عن حكم الواقعة فيعلم أنه لا حكم للشرع فيها
وههنا مسائل أولها البيان بالفعل أقوى من البيان بالقول. ثانيها تبين الشيء بأضعف منه كالقرآن بأحاديث الآحاد جائز. ثالثها تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع وتأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة جائز عند ابن حامد والقاضي
__________
1 رواه الدارقطني في كتاب الصلاة "ج1/ص273"، والبيهقي في السنن الكبرى "2: 345"، وابن عبدالبر في التمهيد "5: 117"، وابن حجر في تلخيص الحبير"2: 122".
2 رواه أبو داود في كتاب المناسك، باب: في رمي الجمار، والنسائي في كتاب المناسك، باب: الركوب إلى الجمار واستظلال النحرم، ومسلم في كتاب الحج، باب: 310، وأحمد في "م3/ص318".(1/133)
ابن الفرا وأكثر الشافعية وبعض الحنفية ومنعه أبو بكر عبد العزيز وأبو الحسن التميمي والظاهرية والمعتزلة والصيرفي وأبو إسحاق المروزي والحق الأول لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18، 19] {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1] وثم تفيد التراخي. رابعها يجوز كون البيان أضعف دلالة من المبين ولا تعتبر مساواته في الحكم.
فصل : في المنطوق والمفهوم. اعلم أن الدليل الشرعي إما منقول وإما معقول وإما ثابت بهما
فالمنقول الكتاب والسنة ودلالتهما إما من منطوق اللفظ أو من غير منطوقه فإن كان من الأول سمي منطوقا كفهم وجوب الزكاة في السائمة من حديث: "في سائمة الغنم الزكاة" 1 وكتحريم التأفيف من قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] والثاني: يسمى مفهوما كفهم عدم وجوب الزكاة في المعلوفة من الحديث وتحريم الضرب من الآية وهذا الفصل مذكور لبيان ذلك والمعقول القياس لأنه يستفاد بواسطة النظر العقلي والثابت بالمنقول والمعقول وليس واحدا منهما هو الإجماع وسيأتي الكلام على الإجماع ثم على القياس إذا تمهد هذا فنقول قد علم من هذا أن المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق والمفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق ففحوى باللفظ بالحاء المهملة هو ما أفاد جنسا يتناول ما أفاده نطقا وغير نطق لا من صيغته لأنه لو كان منها لكان منطوقا وبيانه أن تحريم التأفيف علم من صيغة اللفظ فكان منطوقا وتحريم الضرب لم يعلم من الصيغة فكان مفهوما ويقال: لمثله فحوى الخطاب ويسمى إشارة وإيماء ولحن الخطاب إلا أن الإشارة مختصة باليد والإيماء إشارة باليد وغيرها فكل إشارة إيماء ولا عكس ومن ثم قال الآمدي أما دلالة غير المنطوق وهو ما دلالته غير صريحة فلا يخلو إما أن يكون مدلوله مقصودا للمتكلم أو لا فإن كان مقصودا فإن توقف صدق المتكلم أو صحة الملفوظ به عليه فهي دلالة الاقتضاء وإن لم يتوقف فإن كان مفهوما في محل النطق فهي دلالة التنبيه والإيماء وإلا فدلالة المفهوم وإن لم يكن مدلوله مقصودا للمتكلم فهي دلالة الإشارة هذا كلامه وأنت خبير فإنه جعل فرقا بين دلالتي الإشارة والإيماء وهذا هو التحقيق ثم اعلم أن مراتب لحن الخطاب وفحواه تكون متفاوتة وذلك التفاوت على أضرب.
__________
1 رواه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق "4: 115".(1/134)
الأول : المقتضى بفتح الضاد الذي تقتضيه صحة الكلام وتطلبه وهو المضمر الذي تدعو الضرورة إلى إضماره وتقريره وله وجوه أولها ما تدعو الضرورة إلى إضماره لصدق المتكلم نحو لا عمل إلا بنية أي لا عمل صحيح إلا بالنية إذ لولا ذلك لم يكن ذلك صدقا لأن صورة الأعمال كلها كالصلاة والصوم وسائر العبادات يمكن وجودها بلا نية فكان إضمار الصحة من ضرورة صدق المتكلم. ثانيها: وجود الحكم شرعا نحو قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] تقديره أو على سفر فأفطر فعليه صوم عدة من أيام أخر لأن قضاء الصوم على المسافر إنما يجب إذا أفطر في سفره أما إذا صام في سفره فلا موجب للقضا ودليل ذلك ظاهر لغة وشرعا خلافا لما يحكى عن أهل الظاهر من أن فرض المسافر عدة من أيام أخر سواء صام في السفر أو أفطر وهو من جمودهم المعروف. ثالثها: وجود الحكم عقلا نحو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] فإن العقل يأبى إضافة التحريم إلى الأعيان فوجب لذلك إضمار فعل يتعلق به التحريم وهو الوطء فصار المعنى حرم عليكم وطء أمهاتكم.
الثاني : مما يتفاوت به لحن الخطاب وفحواه تعليل الحكم بما اقترب به من الوصف المناسب كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النور: 2] أي لأجل السرقة والزنا فإن المعقول من هذا الكلام أن السرقة علة القطع والزنا علة الجلد لكن ليس هذا مفهوما لنا من صريح النطق ونصه بل من فحوى الكلام ومعناه.
الثالث : فهم الحكم في غير محل النطق بطريق الأولى وهو فهم الموافقة كفهم تحريم الضرب من تحريم التأفيف من قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] فإن منطوق هذا تحريم التأفيف والانتهار ومفهومه بطريق التنبيه والفحوى تحريم الضرب وغيره من الإيلامات الزائدة على التأفيف والانتهار بطريق أولى ويسمى هذا مفهوم الموافقة لأنه يوافق المنطوق في الحكم وإن زاد عليه في التأكيد بخلاف مفهوم المخالفة فإنه يخالف حكم المنطوق كفهم عدم الزكاة في المعلوفة من حديث في سائمة الغنم الزكاة وحاصله أن مفهوم الموافقة تنبيه بالأدنى على الأعلى ويسمى فحوى الخطاب(1/135)
ولحن الخطاب وشرطه فهم المعنى في محل النطق كالتعظيم في قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فإنه يفهم أن المعنى المقتضى لهذا النهي هو تعظيم الوالدين فلذلك فهمنا تحريم الضرب بطريق أولى حتى لو نفهم من ذلك تعظيما لما فهمنا تحريم الضرب أصلا لكنه لما نفى التأفيف الأعم دل على نفي الضرب الأخص بطريق أولى وشرطه أيضا أن يكون المفهوم أولى من المنطوق أو مساو له ومثال الأول قد تقدم. ومثال الثاني تحريم إحراق مال اليتيم الدال عليه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} [النساء: 10] الآية فالإحراق مساو للأكل بواسطة الإتلاف في الصورتين واشترط له كثير من أهل الأصول شروطا. فقال في جمع الجوامع وشرطه أن لا يكون المسكوت ترك لخوف ونحوه كالجهل وأن لا يكون المذكور خرج للغالب خلافا لإمام الحرمين أو لسؤال أو حادثة أو للجهل بحكمه أو غيره مما يقتضي التخصيص بالذكر هذا كلامه. ثم إن مفهوم الموافقة قياس جلي في الأصح وإليه ذهب أبو الحسن الخرزي وابن أبي موسى وأبي الخطاب والحلواني والفخر والطوفي. وقال مجد الدين ابن تيمية إن قصد الأدنى فقياس وإن قصد التنبيه فلا وهو حجة عند العلماء ودلالته لفظية عند أحمد والقاضي وابن حمدان وشيخ الإسلام وابن عقيل وحكاه عن أصحابنا والحنفية والمالكية وغيرهم ودلالته تكون قطعية كآية التأفيف وتكون ظنية كإذا ردت شهادة فاسق فكافر أولى إذ الكفر فسق وزيادة ووجه كونه ظنيا أنه واقع في الاجتهاد أن يجوز أن يكون الكافر عدلا في دينه فيتحرى الصدق والأمانة.
الرابع : دلالة تخصيص شيء بحكم يدل على نفيه عما عداه وهو مفهوم المخالفة سمي به لمخالفته للمنطوق به وذلك كقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] فإن تخصيص جواز نكاح الإماء بعدم الطول يدل على أن واجد الطول لا يجوز له نكاح الإماء وتخصيص المؤمنات بجواز النكاح عند عدم الطول يدل على أن عادم الطول لا يباح له نكاح الإماء الكوافر كما هو أحد القولين ففي الآية مفهومان أحدهما: أنه لا ينكح إلا أمة مؤمنة. وثانيهما: أن واجد الطول لا يجوز له نكاح الأمة. وكقوله عليه السلام "في سائمة الغنم الزكاة" 1. فإن مفهومه يدل على
__________
1 رواه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق "4: 115".(1/136)
أن لا زكاة في المعلوفة فتخصيص السوم بحكم وهو وجوب الزكاة يدل على نفي ذلك الحكم عن غير السائمة ومفهوم المخالفة حجة عند الجمهور. وقال أبو حنيفة وبعض المتكلمين ليس بحجة ويسمى ذلك المفهوم دليل الخطاب وشرطه أن لا تظهر أولوية ولا مساواة في المسكوت عنه إذ لو ظهر فيه ذلك كان مفهوم موافقة وأن لا يكون مخرجا مخرج الغالب كما في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] فإن الغالب كون الربائب في حجور الأزواج أي ترتيبهم وأن لا يكون خرج لجواب سؤال عنه أو حادثة تتعلق به أو للجهل بحكمه دون حكم المسكوت كما لو سئل صلى الله عليه وسلم هل في الغنم السائمة زكاة أو قيل بحضرته لفلان غنم سائمة أو خاطب من جهل حكم الغنم السائمة دون المعلوفة فقال: "في الغنم السائمة زكاة" 1 مثله أيضا جميع ما يقتضي التخصيص بالذكر كموافقة الواقع كما في قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 28] نزلت كما قال الواحدي. وغيره في قوم من المؤمنين واليهود دون المؤمنين وككون الكلام خرج مخرج التفهيم أو الامتنان نحو: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} [النحل: 14] فإنه لا يدل على منع القديد من لحم ما يؤكل مما يخرج من البحر كغيره وإنما اشترطوا للمفهوم انتفاء المذكورات لأنها فوائد ظاهرة وهو فائدة خفية فأخر عنها. ثم إن دليل الخطاب بحسب القوة والضعف يكون على مراتب ست.
أولها : الحكم إلى غاية بحتى أو إلى ويسمى مفهوم الغاية نحو: {تَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230]. ثم أتموا الصيام إلى الليل فيفيدان حكم ما بعد الغاية يخالف ما قبلها.
ثانيها: تعليق الحكم على شرط نحو: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] فإنه يفيد انتفاء الإنفاق عند انتفاء الحمل ولا فرق بين تعليقه بشرط أو شرطين أو أكثر.
ثالثها : تعقيب ذكر الاسم العام بصفة خاصة في معرض الاستدراك والبيان نحو: "في الغنم السائمة الزكاة" 2 فالغنم اسم علم يتناول السائمة والمعلوفة فاستدرك عمومه بخصوص السائمة وبين أنها المراد من عموم الغنم.
__________
1 رواه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق "4: 115".
2 رواه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق "4: 115".(1/137)
رابعها : أن يعلق الحكم على وصف لا يستقر بل يطوي ويزول كالسوم والثيوبة في قولنا في السائمة والزكاة والبكر تستأذن والثيب أحق بنفسها.
خامسها: تخصيص نوع من العدد بحكم نحو قوله عليه السلام: "لا تحرم المصة ولا المصتان" 1 يعني في الرضاع وهذا يدل على مخالفة ما فوقه يعني تحريم ثلاث رضعات وبه قال مالك وداود وبعض الشافعية خلافا لأكثرهم ولأبي حنيفة.
سادسها : مفهوم اللقب وهو تخصيص اسم بحكم وأنكر الأكثرون هذا المفهوم مشتقا كان نحو لا تبيعوا الطعام إلا مثلا بمثل فإن الطعام مشتق من الطعم أو غير مشتق كالحنطة والشعير والتمر والملح والذهب والفضة. وقال الدقاق مفهوم اللقب حجة والضابط في باب المفهوم أنه متى أفاد ظنا عرف من تصرف الشارع الالتفات إلى مثله خاليا عن معارض كان حجة يجب العمل به والظنون المستفادة من دليل الخطاب متفاوتة بتفاوت مراتبه ومن تدرب بالنظر في اللغة وعرف مواقع الألفاظ ومقاصد المتكلمين سهل عنده إدراك ذلك التفاوت والفرق بين تلك المراتب والله الموفق.
__________
1 رواه مسلم في كتاب الرضاع، باب: 17، وأبو داود في كتاب النكاح، باب: هل يحرم ما دون خمس رضعات، والنسائي في كتاب النكاح، باب: القدر الذي يحرم من الرضاعة، وابن ماجه في كتاب النكاح، باب: لاتحرم المصة ولا المصتان، والدرامي في كتاب النكاح، باب: كم رضعة تحرم، وأحمد في "م4/ص4".(1/138)
الأصل الثالث الإجماع
الإجماع لغة العزم والاتفاق قال تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} [يونس: 71] أي اعزموا ويقال: أجمع القوم على كذا أي اتفقوا عليه. واصطلاحا اتفاق المجتهدين من هذه الأمة في عصر من العصور على أمر أمر ومن يرى انقراض العصر يزيد إلى انقراض العصر ومن يرى أن الإجماع لا ينعقد مع سبق خلاف مستقر من حي أو ميت جوز وقوعه يزيد لم يسبقه خلاف مجتهد مستقر فقوله اتفاق المجتهدين يخرج المقلدين لأنهم من العوام عند أهل(1/138)
الأصول فلا تعتبر مخالفته ولا موافقته وقوله على أمر يتناول الديني والدنيوي لكن المراد بالدنيوي ما يعود إلى الدين كأمر البيع والسلم وأما الاتفاق على أمر دنيوي محض كالاتفاق على مصلحة إقامة متجر أو حرفة أو على أمر ديني لكنه لا يتعلق بالدين لذاته بل بواسطة كاتفاقهم على بعض مسائل العربية أو اللغة أو الحساب ونحوه فإن ذلك ليس إجماعا شرعيا أو اصطلاحيا وإن كان إجماعا شرعيا في الحقيقة لتعلقه بالشرع وإن كان بواسطة وفي هذا الأصل مسائل:
أولها : أنكر النظام وبعض الشيعة جواز الإجماع من مجتهدي الأمة على حكم وذلك راجع إلى عدم الجواز من جهة العقل وذهب الأكثرون إلى أن جوازه معلوم بالضرورة لأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال لذاته ولا لغيره وهذا هو المعنى بالجواز العقلي. نعم هؤلاء استبعدوا وقوعه مع كثرة العباد وتباعد البلاد واختلاف القرائح فظنوا الاستبعاد استحالة وحكى أصحابنا أنه روي عن الإمام أحمد إنكار الإجماع واعتذروا عنه بأنه محمول على الورع أو على غير عالم بالخلاف أو على تعذر معرفة الكل أو على العام النطقي إلى غير ذلك من الاعتذارات وعندي أن الإمام أحمد لم يوافق النظام على إنكاره لأن النظام أنكره عقلا ولإمام صرح بقوله وما يدريه بأنهم اتفقوا فكأنه يقول إن كثيرا من الحوادث تقع في أقاصي المشرق والمغرب ولا يعلم بوقوعها من بينهما من أهل مصر والشام والعراق وما والاهما فكيف تصح دعوى إجماع الكل في مثل هذه وإنما ثبتت هذه بإجماع جزئي وهو إجماع الإقليم الذي وقعت فيه أما إجماع الأمة قاطبة فمتعذر في مثلها وهذا النوع هو الذي نقل إنكاره عن الإمام كما يفهم من قوله وما يدريه بأنهم أتفقوا وما ذلك إلا أن الإجماع على المسألة التي اتفق جميع مجتهدي الأمة عليها فرع العلم بها والتصديق مسبوق بالتصور فمن لم يعلم محل الحكم كيف يتصور منه الحكم بنفي أو إثبات وهذا هو الحق الذي يلزم اتباعه فلا يتوهمن متوهم أن الإمام أنكر الإجماع إنكارا عقليا وإنما أنكر العلم بالإجماع على حادثة واحدة انتشرت في جميع الأقطار وبلغت الأطراف الشاسعة ووقف عليها كل مجتهد ثم أطبق الكل فيها على قول
واحد وبلغت أقوالهم كلها مدعى الإجماع عليها وأنت خبير بأن العادة لا تساعد على هذا كما يعلمه كل منصف تخلى عن الجمود والتقليد نعم يمكن أن يعلم هذا في عصر الصحابة دون ما بعدهم من العصور لقلة المجتهدين يومئذ وتوفر نقل المحدثين على(1/139)
نقل فتاواهم وأرائهم. فلا تتهمن أنها العاقل الإمام بإنكار الإجماع مطلقا فتفترى عليه.
ثانيها : الإجماع حجة قاطعة يجب العمل به عند الجمهور خلافا للنظام ومعنى كونه قاطعا أنه يقدم على باقي الأدلة وليس القاطع هنا بمعنى الجازم الذي لا يحتمل النقيض كقولنا الواحد نصف الاثني في نفس الأمر وإلا لما اختلف في تكفير منكر حكمه.
ثالثها : المعتبر في الإجماع قول أهل الاجتهاد لا الصبيان والمجانين قطعا ولا يعتبر فيه قول العامة وهم من ليس بمجتهد ولا من عرف الحديث أو اللغة أو الكلام ونحوه وكذا من عرف الفقه أو أصوله عند أحمد وأصحابه وكذا من فاته بعض شروط الاجتهاد ولا يعتبر فيه كافر أصلي مطلقا ولا كافر بارتكاب بدعة عند مكفره ولا فاسق مطلقا سواء كان فسقه من حيث الاعتقاد أو الأفعال كالاعتزال والزنا والسرقة. قال الطوفي في مختصره والأشبه اعتبار قول الأصولي والنحوي فقط لتمكنهما من درس الحكم بالدليل والمسألة اجتهادية قال ويعتبر في إجماع كل فن قول أهله إذ غيرهم بالإضافة إليه عامة هذا كلامه وهو مسلك جيد ولا يعتبر في أهل الإجماع أن يبلغوا عدد التواتر.
رابعها : لا يختص الإجماع بالصحابة بل إجماع كل عصر حجة خلافا لداود الظاهري.
خامسها : الجمهور أن الإجماع لا ينعقد بقول الأكثر دون الأقل حتى يتفق الجميع.
قلت: ومقتضى ما قدمناه عن الإمام أحمد أنه ينعقد بقول الأكثر في غير زمن الصحابة لتعذر الاطلاع على اتفاق الكل في غير عصرهم. ومن ثم قال الطوفي وغيره من أصحابنا بعد ذكر هذه المسألة خلافا لابن جرير وعن أحمد رحمه الله مثله انتهى. وإليه ذهب أبو بكر الرازي وأبي الحسين الخياط من المعتزلة وابن حمدان من أصحابنا وجمع. والحق أن اتفاق الأكثر حجة يجب العمل به على أهله لكنه ليس في رتبة الإجماع بل هو في رتبة القياس وخبر الواحد.
سادسها : التابعي المجتهد المعاصر للصحابة معتبر معهم في الإجماع فلا ينعقد مع مخالفته فإن صار مجتهدا بعد انعقاد الإجماع فمن قال يشترط في الإجماع انقراض العصر(1/140)
لم يعتبر انعقاد الإجماع مع مخالفته ومن لم يشترط انقراض العصر لم يعتبر واعتبر موافقته أبو الخطاب وابن عقيل والآمدي. قال المرداوي في التحرير ولعل المراد عدم مخالفته ثم قال فائدة تابع التابعي مع التابعي كهو مع الصحابي. قاله القاضي.
سابعها : الجمهور لا يشترط لصحة الإجماع انقراض عصر المجمعين وحكى أصحابنا عن أحمد وأكثر أصحابه أنه يشترط انقراض العصر وحكى الطوفي القول الأول ومال إليه. وقال وقول الإمام أحمد الموافق للجمهور أومأ إليه إيماء انتهى. قلت: ومعتمد مذهبه عدم الاشتراط.
ثامنها : إذا قال بعض الأئمة قولا سواء كان من الصحابة أو ممن بعدهم وسكت الباقون مع اشتهار ذلك القول فيهم وكان ذلك القول متعلقا بأحكام التكليف كان ذلك إجماعا على المختار. ويسمى إجماعا سكوتيا فلو لم يشتهر القول فيهم لم يدل سكوتهم على الموافقة ولو لم يكن تكليفا لم يكن إجماعا ولا حجة لأن الإجماع أمر ديني وما ليس تكليفا ليس دينيا بل دنيويا ولكن اختلاف الزمان أحدث للإجماع السكوتي شرطا وهو أنه إذا أفتى واحد بحكم على مذهبه مع مخالفته لمذهب غيره وسكت الباقون عنه فإن ذلك السكوت لا يعد إجماعا لما تقرر عند أهل المذاهب من عدم إنكار بعضهم على بعض إلا أن يقال فرض المسألة في الأحكام التي يتداول المجتهدون البحث عنها لا في الأحكام التي يتداولها المقلدون لأنهم لا في العير ولا في النفير.
تاسعها : إذا اختلف أهل العصر على قولين امتنع على من بعدهم إحداث قول ثالث. وقال الرازي في المحصول والآمدي في منتهى السول وتبعهما الطوفي أن القول الثالث إن رفع الإجماع الأول على القولين الأولين لم يجز وإن لم يرفعه جاز. مثاله لو قال بعض الأمة باعتبار النية في كل طهارة وقال البعض الآخر باعتبارها في بعض الطهارات دون بعض كما هو قول أبي حنيفة يعتبر هذا للتيمم دون الوضوء. فالنافي اعتبارها في جميع العبادات مطلقا يكون رافعا للإجماع الأول. ومثال ما ليس رافعا للإجماع الأول ما سبق في هذا المثال من النفي في إحدى المسألتين دون الأخرى وكما لو اختلفوا في اعتبار النية في الطهارات نفيا وإثباتا فالقول في إثباتها في البعض دون البعض لا يمتنع لأنه لم يرفع الإجماع الأول بل وافق كل فريق في بعض ما ذهب إليه وربما كان هذا المسلك أولى من الذي قبله.(1/141)
عاشرها : إذا اختلف الصحابة على قولين فاتفق التابعون على أحدهما كان ذلك إجماعا خلافا للقاضي أبي يعلى وبعض الشافعية.
حادي عشرها: اتفاق الخلفاء الأربعة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مخالفة غيرهم لهم ليس إجماعا وإذا لم يكن اتفاق الأربعة إجماعا. فقول اثنين منهم أولى بأن لا يكون إجماعا ونقل عن الإمام أحمد أن اتفاق الخلفاء الأربعة حجة وكذا اتفاق أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لحديث: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" 1.
وحديث: "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر" 2 ولو لم تقم الحجة بقولهم لما أمرنا باتباعهم وهذا القول هو الحق
ثاني عشرها: إجماع أهل المدينة من الصحابة والتابعين ليس بحجة خلافا لمالك ولا ينعقد الإجماع بأهل البيت وحدهم خلافا للشعية
ثالث عاشرها: لا يكون الإجماع إلا عن دليل لأنه لا يكون إلا من المجتهدين والمجتهد لا يقول في الدين بغير دليل فإن القول بغير دليل خطأ ويجوز كون الإجماع عن اجتهاد وقياس وقد وقع كذلك وتحرم مخالفته
وقال ابن حامد وجمع يكفر منكر حكم الإجماع القطعي وقال أبو الخطاب وجمع لا يكفر ولكنه يفسق وقال الطوفي والآمدي ومن تبعه يكفر بنحو العبادات الخمس وهو معنى كلام أصحابنا في الفقه قال القاضي علاء الدين المرداوي في التحرير والحق أن منكر المجمع الضروري والمشهور المنصوص عليه كافرا قطعا وكذا المشهور فقط لا الخفي في الأصح فيهما هذا كلامه
ومثال الخفي إنكار استحقاق بنت الابن السدس مع البنت وتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها ونحو ذلك فهذا لا يكفر منكره لعذر الخفاء خلافا لبعض الفقهاء في قوله أنه يكفر لتكذيب الأمة ورد بأنه لم يكذبهم صريحا إذا فرض أنه مما يخفى على مثله فالإجماع الخفي هو ما كان خافيا على من رده ولم يعلم به.
__________
1رواه ابن ماجه في المقدمة، باب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، والدارامي في المقدمة، باب: اتباع السنة، وأبو دتود في كتاب السنة، باب: في لزوم السنة، والترمذي في كتاب العلم، باب: 16، وأحمد في "م4/ص126".
2 رواه الترمذي في كتاب المناقب، باب: 16، وابن ماجه في المقدمة، باب: في فضائل أصحاب رسول الله صلي الله علية وسلم، وأحمد في "م5/ص382".(1/142)
رابع عشرها: إذا استدل أهل العصر بدليل أو أولوا تأويلا فهل يجوز لمن بعدهم إحداث دليل آخر أو تأويل من غير إلغاء الأول ذهب الجمهور إلى جواز ذلك وذهب بعضهم إلى الوقف وابن حزم إلى التفصيل بين النص فيجوز الاستدلال به وبين غيره فلا يجوز فيه.
خامس عشرها: هل يمكن وجود دليل لا معارض له اشترك أهل الإجماع في عدم العلم به؟ قيل بالجواز إن كان عمل الأمة موافقا له وعدمه إن كان مخالفا له واختاره الآمدي وابن الحاجب والصفي الهندي. وقيل بالمنع مطلقا.
سادس عشرها: الإجماع المنقول بطريق الآحاد حجة وقال الجمهور يشترط في نقله عدد التواتر وقول القائل لا أعلم خلافا بين أهل العلم في كذا كما يقوله صاحب الشافي في شرح المقنع. وغيره لا يكون إجماعا لجواز أن يكون ثمة مخالف لم يطلع القائل على خلافه وفوق كل ذي علم عليم وقد نص على ذلك أحمد.
سابع عشرها: لا يصح التمسك بالإجماع فيما يتوقف صحة الإجماع عليه اتفاقا كوجود الباري وصحة الرسالة ودلالة المعجزة ويصح فيما لا يتوقف وهو ديني كالروية ونفي الشرك ووجوب العبادات أو عقلي كحدوث العالم خلافا لأبي المعالي مطلقا وللشيرازي في كليات أصول الدين كحدوث العالم وإثبات النبوة أو دنيوي كرأي في حرب ونحوه في ظاهر كلام القاضي وأبي الخطاب وابن عقيل وغيرهم. واختاره الآمدي ومن تبعه وهو أظهر. وقيل بعد استقرار الرأي. وقيل ليس بحجة وهو ظاهر الروضة والمقنع ومختصر الطوفي أو يكون لغويا وقيل إن تعلق بالدين.
خاتمة : الإجماع إما نطقي أو سكوتي وكل واحد منهما إما أن يكون متواترا وإما أن يكون آحادا فالنطقي ما كان اتفاق مجتهدي الأمة جميعهم عليه نطقا نفيا أو إثباتا. والسكوتي ما نطق به البعض وسكت عنه البعض الآخر وكل واحد من هذين إما أن ينقل أن جميع المجتهدين نطقوا به نقلا متواترا أو آحادا أو نطق به البعض وسكت عنه البعض الآخر تواترا أو أحادا والكل حجة ولكن تختلف مراتبها فأقواها النطقي تواترا ثم آحادا ثم السكوتي تواترا ثم آحادا وقد سبق الخلاف في أن الإجماع يثبت بخبر الآحاد أم لا والله الموفق.(1/143)
الأصل الرابع من الأصول المتفق عليها استصحاب الحال
هو استصحاب للنفي الأصلي المقدم ذكره عند ذكر الأصول أو الكتاب ويعرف بأنه التمسك بدليل عقلي أو شرعي لم يظهر عنه ناقل مطلقا وتحقيق معناه أن يقال هو اعتقاد كون الشيء في الماضي أو الحاضر يوجب ظن ثبوته في الحال أو الاستقبال وتلخيص هذا أن يقال هو ظن دوام الشيء بناء على ثبوت وجوده قبل ذلك وهذا الظن حجة عند الأكثرين منهم مالك وأحمد والمزني والصيرفي وإمام الحرمين والغزالي وجماعة من أصحاب الشافعي خلافا لجمهور الحنفية وأبي الحسين البصري وجماعة من المتكلمين. قال الخوارزمي في الكافي استصحاب الحال هو آخر مدار الفتوى إذا لم يجد المفتي حكم الحادثة في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس أخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات فإن كل التردد في زواله فالأصل بقاؤه وإن كان التردد في ثبوته فالأصل عدم ثبوته انتهى محصلا. فمثال استصحاب نفي الحكم الشرعي عدم وجوب صوم شوال وغيره من الشهور سوى رمضان وعدم صلاة سادسة مكتوبة فإنا. لو فرضنا أن الشرع لم ينص على عدم ذلك لكان العقل دليلا عليه بطريق الاستصحاب المذكور ومثال التمسك بدليل شرعي لم يظهر عنه ناقل استصحاب العموم والنص حتى يرد مخصص أو ناسخ واستصحاب حكم ثابت كالملك وشغل الذمة بالإتلاف ونحوه وأما استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف كالتمسك في عدم بطلان صلاة المتيمم عند وجود الماء بالإجماع على صحة دخوله فيها فيستصحب حال تلك المصلحة فالأكثر أن هذا ليس بحجة خلافا للشافعي وابن شاقلا من أصحابنا.
واعلم أن المستدل على نفي الحكم كقوله ما الأمر كذا أو ليس الأمر كذا يلزمه أن يقيم الدليل على صحة مدعاه ولا يكفيه مجرد دعوى النفي.
الأصول المختلف فيها
لما فرغنا من الكلام على الأصول المتفق عليها وهي الكتاب والسنة والإجماع(1/144)
والاستصحاب أخذنا في الكلام على الأصول المختلف فيها وهي أربعة شرع من قبلنا وقول الصحابي والاستحسان والاستصلاح. فقلنا أما شرع من قبلنا فإنه يجوز أن يتعبد نبي بشريعة نبي قبله عقلا لأنه ليس بمحال ولا يلزم منه محال وكان نبينا صلى الله عليه وسلم قبل البعثة متعبدا في الفروع بشرع من قبله عند القاضي والحلواني وأومأ إليه أحمد واختار ابن عقيل والمجد أنه كان متعبدا بشريعة إبراهيم عليه السلام ولم يكن صلى الله عليه وسلم على ما كان عليه قومه. قال الإمام أحمد من زعم ذلك فقوله سوء وبعد البعثة تعبد بشرع من قبله ونقل في التحرير هذا القول عن أحمد والشافعي وأكثر أصحابهما والحنفية والمالكية ومن ثم كان شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ عند أكثر أصحابنا وغيرهم. قال القاضي وغيره بمعنى أنه موافق لا متابع انتهى. لكن محل ذلك إذا قطع بأنه شرع لمن قبلنا إما بكتاب أو بخير الصادق أو بنقل متواتر فأما الرجوع إليهم أو إلى كتبهم فلا وقد أومأ أحمد إلى هذا ومعناه لابن حمدان. وقال الشيخ تقي الدين وغيره ويثبت أيضا بأخبار الآحاد عن نبينا صلى الله عليه وسلم. وأما قول صحابي لم يظهر له مخالف فهو حجة أيضا يقدم على القياس ويخص به العام وهو قول مالك وبعض الحنفية خلافا لأبي الخطاب. وقول الشافعي الجديد وعن أحمد ما يدل عليه وهو مذهب الأشاعرة والمعتزلة والكرخي. ولا يخفى أن الكلام في قول الصحابي إذا كان ما قاله من مسائل الاجتهاد أما إذا لم يكن منها ودل دليل على التوقيف فليس مما نحن بصدده والذي يظهر أنه الحق مثل هذا ليس بحجة فإن الله لم يبعث إلى هذه الأمة إلا نبيها صلى الله عليه وسلم وليس لنا إلا رسول واحد وكتاب واحد وجميع الأمة مأمورة باتباع كتابه وسنة نبيه ولا فرق بين الصحابة ومن بعدهم في ذلك فمن قال إنها تقوم الحجة في دين الله بغير كتاب الله وسنة نبيه وما يرجع إليهما فقد قال بما لا يثبت وأثبت في هذه الشريعة الإسلامية ما لم يأمر الله به وهذا أمر عظيم وتقول بالغ فإن الحكم لفرد أو أفراد من عباد الله بأن قوله أو أقوالهم حجة على المسلمين يجب عليهم العمل بها مما لا بد أن الله عز وجل به ولا يحل لمسلم الركون إليه فإن هذا المقام لم يكن إلا لرسل الله لا لغيرهم ولو بلغ في العلم والدين وعظم المنزلة أي مبلغ ولا شك أن مقام الصحبة مقام عظيم ولكن ذلك في الفضيلة وارتفاع الدرجة وعظمة الشأن وهذا مسلم لا شك فيه ولا تلازم بين هذا وبين جعل كل واحد منهم بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجية قوله وإلزام الناس باتباعه فإن ذلك مما لم يأذن الله به ولا ثبت عنه فيه(1/145)
اعلم أنه إذا اختلف الصحابة وكان عدم جواز أخذ المجتهد بقول بعضهم من غير دليل من باب أولى.
وأما الاستحسان: ونسب القول به إلى الحنفية والحنابلة وأنكره غيرهم حتى قال الشافعي من استحسن فقد شرع قاله ابن الحاجب. ثم قيل في تعريفه إنه دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه وهو بهذا التعريف هوس لأن ما هذا شأنه لا يمكن النظر فيه لتستبان صحته. وقال في التحرير هو العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي خاص وكلام أحمد يقتضي أنه عدول عن موجب قياس لدليل أقوى واختار هذا أبو الوفاء بن عقيل وعند الحنفية يثبت بالأثر كسلم وبقاء صوم الناسي وبالإجماع وبالضرورة وسموا ما ضعف أثره قياسا والقوي استحسانا وما ذكره في التحرير هو أجود ما قيل فيه ومثاله قول أبي الخطاب في مسألة العينة وإذا اشترى ما باع بأقل مما باع قبل. نقد الثمن الأول لم يجز استحسانا وجاز قياسا فالحكم في نظائر هذه المسألة من الربويات الجواز وهو القياس لكن عدل بها عن نظائرها بطريق الاستحسان فمنعت وحاصل هذا يرجع إلى تخصيص الدليل بدليل أقوى منه في نظر المجتهد. وقال ابن المعمار والبغدادي ومثال الاستحسان ما قاله أحمد رضي الله عنه أنه يتيمم لكل صلاة استحسانا والقياس أنه بمنزلة الماء حتى يحدث. وقال يجوز شراء أرض السواد ولا يجوز بيعها قيل له فكيف يشترى ممن لا يملك البيع فقال القياس هكذا وإنما هو استحسان ولذلك يمنع من بيع المصحف ويؤمر بشرائه استحسانا وأنت إذا تأملت الاستحسان المنسوب إلى الإمام أحمد ترى معناه تقديم الدليل الشرعي أو العقلي لحسنه ومثل هذا يجب العمل به لأن الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع وما كونه أن يكون على مخالفة الدليل مثل أن يكون الشيء محظورا بدليل شرعي وفي عادات الناس العمل به فهذا لم يقل به أحمد. ولا غيره بل يحرم القول به ويجب اتباع الدليل وترك العادة والرأي سواء كان الدليل نصا أو إجماعا أو قياسا.
وأما الاستصلاح: فهو اتباع المصلحة المرسلة فإن الشرع أو المجتهد يطلب صلاح المكلفين باتباع المصلحة المذكورة ومراعاتها والمصلحة جلب نفع أو دفع ضرر وهي متنوعة إلى ثلاثة أنواع:(1/146)
أولها : ما شهد الشرع باعتباره كاستفادة الحكم وتحصيله من معقول دليل شرعي كالنص والإجماع ويسمى قياسا كاستفادتنا تحريم شحم الخنزير من تحريم لحمه المنصوص عليه بالكتاب واستفادتنا تحريم النبيذ المسكر من تحريم المنصوص عليه بالكتاب والسنة مع أن النبيذ منصوص على تحريمه مع غيره بقوله عليه الصلاة والسلام كل مسكر خمر وأشباه ذلك.
ثانيها : ما شهد الشرع ببطلانه من المصلح ولم يعتبره كقول من يقول إن الموسر كالملك ونحوه يتعين عليه الصوم في كفارة الوطىء في رمضان ولا يخير بينه وبين العتق والإطعام لأن فائدة الكفارة الزجر عن الجناية على العبادة ومثل هذا لا يزجره العتق والإطعام لكثرة ما له فيسهل عليه أن يعتق رقابا في قضاء شهوته وقد لا يسهل عليه صوم ساعة فيكون الصوم أزجر له فهذا وأمثاله ملغي غير معتبر لأنه تغيير للشرع بالرأي وهو غير جائز ولو أراد الشرع ذلك لبينه أو نبه عليه في حديث الأعرابي أو غيره إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
ثالثها : ما لم يشهد له الشرع ببطلان ولا باعتبار معين وهذا النوع يتنوع إلى ثلاثة أقسام:
أولها : التحسين الواقع موقع التحسين والتزيين ورعاية حسن المناهج في العبادات والمعاملات وحسن الأدب في السيرة بين الناس كصيانة المرأة عن مباشرة عقد نكاحها بإقامة الولي مباشرا لذلك لأن المرأة لو باشرت عقد نكاحها لكان ذلك منها مشعرا بما لا يليق بالمروءة من غلبة القحبة وقلة الحياء وتوقان نفسها إلى الرجال فمنعت من ذلك حملا للخلق على أحسن المناهج وأجمل السير.
ثانيها : الحاجي وهو الذي تدعو إليه الحاجة كتسليط الولي على نكاح الصغيرة لحاجة تقييد الكفؤ خشية أن يفوت فإن ذلك مما يحتاج إليه ويحصل بحصوله نفع ويلحق بفواته ضرر وإن لم يكن ضروريا قاطعا ونسبة الأول إلى هذا كنسبة الزينة من الطب إلى باقي كتبه على ما عرف فيه ولا يجوز للمجتهد التمسك بمجرد هذين القسمين المذكورين وهما التحسيني والحاجي بل لا بد له من شاهد من جنسها يشهد له باعتبار أحكامهما لئلا(1/147)
يكون ذلك وضعا للشرع بالرأي ولأن اعتبارهما بدون شاهد يؤدي إلى الاستغناء عن بعث الرسل ويجر الناس إلى دين البراهمة القائلين لا حاجة لنا إلى الرسل لأن العقل كاف لنا في التأديب ومعرفة الأحكام إذا ما حسنه العقل أتيناه وما قبحه اجتنبناه وما لم يقض فيه بحسن ولا قبح فعلنا منه الضروري وتركنا الباقي احتياطا والتمسك بهذين القسمين من المصالح من غير شاهد لهما بالاعتبار يؤدي إلى مثل ذلك ونحوه فيكون باطلا.
القسم الثالث: ما كان من ضرورية سياسة العلم وبقائه وانتظام أحواله وهو ما عرف التفات الشرع إليه والعناية به كالضروريات الخمس وهو حفظ الدين بقتل المرتد والداعية إلى الردة وعقوبة المبتدع الداعي إلى البدعة وحفظ العقل بحد السكر وحفظ النفس بالقصاص وحفظ النسب بحد الزنا المفضي إلى تضضييع الأنساب باختلاط المياه وحفظ العرض بحد القذف وحفظ المال بقطع يد السارق هذا واختلف في حجية المصالح المرسلة فذهب أصحابنا إلى اعتبارها على ما أسلفناه وقال مالك باعتبارها وعرفها ابن الحاجب المالكي وغيره بأنها مصالح لا يشهد لها أصل بالاعتبار في الشرع وإن كانت على سنن المصالح وتلقتها العقول بالقبول والحق ما سلكه أصحابنا.
تنبيه : فرق القائلون بالمصالح المرسلة بينها وبين القياس بأن القياس يرجع إلى أصل معين وهذه لا ترجع إلى أصل معين قالوا رأينا الشارع اعتبرها في مواضع من الشريعة فاعتبرناها حيث وجدت لعلمنا أن جنسها مقصود له. وقال الطوفي الراجح المختار اعتبار المصلحة المرسلة وفصل هذا النوع في شرحه على مختصر الروضة تفصيلا حسنا.
خاتمة : لهذه الأصول يذكر فيها أصولا مختلفا فيها زيادة على الأصول الأربعة المتقدمة.
أولها : سد الذرائع وهو قول مالك وأصحابنا وهو ما ظاهره مباح ويتوصل به إلى محرم وأباحه أبو حنيفة والشافعي ومعناه عند القائل به يرجع إلى إبطال الحيل ولذلك أنكر المتأخرون من الحنابلة على أبي الخطاب ومن تابعه عقد باب في كتاب الطلاق يتضمن الحيلة على تخليص الحالف من يمينه في بعض الصور وجعلوه من باب الحيل(1/148)
الباطلة. قال نجم الدين الطوفي في شرح مختصر الروضة وقد صنف شيخنا تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمة الله عليه كتابا بناه على بطلان نكاح المحلل وأدرج فيه جمع قواعد الحيل وبين بطلانها على وجه لا مزيد عليه انتهى. قلت: وقد سلك مسلكه صاحبه شمس الدين محمد ابن قيم الجوزية في كتابه أعلام الموقعين فشن الغارة على الحيل وأهلها وحذى بذلك حذو شيخه فرحم الله من يصدع بالحق. وقال موفق الدين المقدسي في المغني والحيل كلها محرمة لا تجوز في شيء من الدين وهي أن يظهر اعتقادا مباحا يريد به محرما مخادعة وتوصلا إلى فعل ما حرم الله واستباحة محظوراته أو إسقاط واجب أو دفع حق. قال أبو أيوب السختياني أنهم ليخادعون الله كما يخادعون صبيا ثم قال الموفق إن الله سبحانه وتعالى عذب أمة بحيلة احتالوها فمسخهم قردة وخنازير وسماهم معتدين وجعل ذلك نكالا وموعظة للمتقين ليتعظوا بهم ويمتنعوا من فعل أمثالهم.
ثانيها : الإلهام اختاره جماعة من الأصوليين المتأخرين منهم الفخرالرازي في تفسيره عند كلامه على أدلة القبلة وابن الصلاح في فتاواه قال ومن علامته أن ينشرح له الصدر ولا يعارضه معارض آخر وقال إلهام خاطر الحق من الحق انتهى. قلت وهذا المسلك سري للقوم من جهة المتصوفة ولو فتح بابه لأدى إلى مفاسد كثيرة ولكان للمتدلسين مدخل لإفساد أكثر الشرع فالصواب أن لا يلتفت إليه والإ لادعى كثير منهم إثبات ما يلذ لهم بالإلهام والكشف فكان وحيا زائدا على ما أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولادعى المخرقون شركته في رسالته.
ثالثها : ذكر جماعة من أهل العلم منهم أبو إسحاق الإسفراييني أن أول من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأمره بأمر يلزمه العمل به ويكون قوله حجة وقال الجمهور لا يكون حجة ولا يثبت به حكم شرعي وإن كانت رؤيته صلى الله عليه وسلم حقا والشيطان لا يتمثل به لكن النائم ليس من أهل التحمل للرواية لعدم حفظه. وقيل إنه يعمل به ما لم يخالف شرعا ثابتا وهذا القول هو والعدم سواء لأن العمل يكون بما ثبت من الشرع لا به ثم لا يخفاك أن الشرع الذي شرعه الله لنا على لسان نبينا قد كمله الله لنا وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].ولم يأتيا دليل على أن رؤيته صلى الله عليه وسلم في النوم بعد موته إذا قال فيها بقول(1/149)
أو فعل فيها فعلا يكون دليلا وحجة بل قبضه إليه عند أن كمل لهذه الأمة ما شرعه لها على لسانه ولم يبق بعد ذلك حاجة للأمة في أمر دينها وقد انقطعت البعثة لتبليغ الشرائع وتبيينها بالموت وإن كان رسولا حيا وميتا صلى الله عليه وسلم وبهذا العلم أنا لو قدرنا ضبط النائم لم يكن ما رآه من قوله صلى الله عليه وسلم أو فعله حجة عليه ولا على غيره من الأمة.
تتمة : في قواعد عامة ذكرها تقي الدين الفتوحي في أصوله. لا يرفع اليقين بالشك فلو شك في امرأة هل تزوجها أم لا لم يكن له وطؤها استصحابا لحكم التحريم إلى أن يتحقق تزوجه بها قلت وهذا من فروع الاستصحاب. الضرر لا يزول بضرر آخر. الضرورات تبيح المحظورات
المشقة تجلب التيسير درء المفاسد أولى من جلب المصالح ودرء المفسدة العليا أولى من درء غيرها. ومن القواعد الفقهية أيضا العادة محكمة وهذا معنى قول الأصوليين الوصف المعلل به قد يكون من مقتضيات العرف ومنه في باب التخصيص تخصيص العموم بالعادة وحاصله أنه كل فعل رتب عليه الحكم ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة كإحياء الموات والحرز في السرقة والأكل من بيت الصديق وما يعد قبضا وإيداعا وإعطاء وهدية وغصبا والمعروف في المعاشرة وانتفاع المستأجر بما جرت به العادة وأمثال ذلك مما هو كثير. ومن القواعد جعل المعدوم كالموجود احتياطا كالمقتول تورث عنه الدية وإنما تجب بموته ولا تورث عنه إلا إذا دخلت دخولها في ملك فيقدر وجودها قبل موته. ومنها إدارة الأمور في الأحكام على قصدها كالصلاة لا تصح إلا بقصدها بنيتها وغيرها من الأحكام كذلك هذا ولما أنجزنا القول في الكتاب والسنة والإجماع ولواحقها والأصول المختلف بها سوى القياس شرعنا بذكره فقلنا.(1/150)
الأصل الخامس القياس
القياس في اللغة التقدير نحو قست الثوب بالذراع أي قدرته. به وفي الاصطلاح مساواة فرع الأصل في علة حكمه فشمل هذا التعريف الأصل والفرع والعلة والحكم. ونبه على أن المراد بالفرع محل الحكم المطلوب إثباته فيه وبالأصل محل الحكم المعلوم وبذلك انتفى اعتراض من يزعم أن هذا التعريف دوري نعم يلزم الدور لو أريد(1/150)
بالفرع المقيس وبالأصل المقيس عليه وتحقيقه أن المراد بهما ذات الأصل والفرع والموقوف على القياس وصفا الفرعية والأصلية وللعلماء في تعريف القياس عبارات كثيرة وحاصلها يرجع إلى أنه اعتبار الفرع بالأصل وعرف أبو العباس أحمد بن تيمية في بعض رسائله القياس بقوله هو الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين الأول قياس الطرد. والثاني قياس العكس انتهى. واعلم أن القياس ينقسم أقساما باعتبارات:
أحدها : ينقسم إلى جلي وخفي. فالجلي: ما كانت العلة الجامعة فيه بين الأصل والفرع منصوصة أو مجمعا عليها أو ما قطع فيه بنفي الفارق كإلحاق الأمة بالعبد في تقويم النصيب. والخفي وهو ما كانت العلة فيه مستنبطة.
ثانيها : ينقسم إلى مؤثر وإلى ملائم فالأول ما كانت فيه العلة الجامعة ثابتة بنص أو بإجماع أو كان الوصف الجامع فيه قد أثر عينه في عين الحكم أي في جنسه أو جنسه في جنس الحكم والثاني ما أثر جنس العلة فيه في جنس الحكم.
ثالثها : أن القياس إما أن يصرح فيه بالعلة أو بما يلازمها أو لم يصرح بها فيه فالأول قياس العلة والثاني قياس الدلالة والثالث القياس في معنى الأصل وهو ما جمع فيه بين الأصل والفرع بنفي الفارق.
رابعها: إن طريق إثبات العلة المستنبطة أما المناسبة أو الشبه أو السبر أو التقسيم أو الطرد أو العكس فالأول يسمى قياس الإخالة ومعناه أن المجتهد يتخيل له مناسبة الوصف للحكم فيعلقه به. والثاني قياس الشبه والثالث قياس السبر. والرابع قياس الطرد. وحيث أتينا على تقسيم القياس إجمالا فلنذكر ذلك مفصلا وربما ذكر معه ما لم يذكر هنا فنقول.
فصل : أركان القياس أربعة: أصل وفرع وعلة وحكم. فالأصل عند الفقهاء محل الحكم المشبه به كقولنا النبيذ مسكر وكل مسكر حرام. فالمقيس عليه المشبه به هو الخمر والمشبه النبيذ والعلة الجامعة بينهما الإسكار والحكم التحريم. ومن ثم قال الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية الأصل محل الحكم المشبه به ودليل محل الحكم. وقال ابن عقيل هو الحكم والعلة والفرع المحل المشبه عند الفقهاء وعند المتكلمين(1/151)
وابن قاضي الجيل حكمه والحكم. هو المعلل لا المحكوم به خلافا لأبي علي الطبري الشافعي والعلة فرع للأصل أصل للفرع أما كونها فرعا للأصل فلأنها مستنبطة من حكمه فإن الشارع لما حرم الخمر استنبطنا منه أن علة تحريمها الإسكار المفسد للعقول إذ لا مناسب للتحريم فيها سواه وأما كونها أصلا للفرع فلأنها إذا تحققت فيه ترتب عليها إثبات حكم الأصل كالإسكار لما تحقق في النبيذ ترتب عليه التحريم فالعلة مستخرجة من حكم الأصل والمستخرج فرع على المستخرج منه. ثم إن الاجتهاد في العلة إما ببيان مقتضى القاعدة الكلية المتفق عليها في الفرع أو ببيان وجود العلة فيه.
مثال : النوع الأول: أن يقال في حمار الوحش إذا قتله المحرم مثله وفي الضبع أيضا يقتلها المحرم مثلها لقوله تعالى: {مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] والبقرة مثل حمار الوحش. والكبش مثل الضبع فيجب أن يكون هو الجزاء فوجوب المثل متفق عليه ثابت بالنص المذكور.
ومثال : النوع الثاني: أن يقال الطواف علة لطهارة الهرة بناء على قوله عليه السلام: "إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات" والطواف موجود في الفأرة ونحوها من صغار الحشرات ولكن هذا النوع الثاني دون الذي قبله وهما متغايران لأن الأول ليس بقياس والثاني قياس وكلاهما يسمى تحقيق المناط لأن معناه إثبات علة حكم الأصل في الفرع أو إثبات معنى معلوم في محل خفي فيه ثبوت ذلك المعنى وهو موجود في النوعين وإن اختلفا في أن أحدهما قياس دون الآخر فتحقيق المناط أعم من القياس وهذا هو النوع الأول من أنواع الاجتهاد في العلة الشرعية والنوع الثاني يسمى تنقيح المناط وهو إلغاء بعض الأوصاف التي أضاف الشارع الحكم إليها لعدم صلاحيتها للاعتبار في العلة كجعل علة وجوب كفارة رمضان وقاع إنسان مكلف أعرابي لاطم في صدره في ذلك الشهر بعينه فيلحق به من ليس أعرابيا ولا لاطما والزاني ومن وطىء في رمضان آخر ومعنى هذا ما روى أبو هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هلكت يا رسول الله قال: "وما أهلكك؟" قال: وقعت على امرأتي في رمضان قال: "هل تجد ما تعتق رقبة؟" قال: لا قال: "فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا" 1 قال: لا الحديث
__________
1 رواه البخاري في كتاب الصوم، باب: إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه =(1/152)
وهو صحيح وعوام الفقهاء يذكرون أن هذا الرجل كان أعرابيا وأنه جاء يلطم وجهه وصدره وينعي نفسه فإن لم يكن جاء بهذه الأوصاف أثر فلعلهم أخذوها من قوله وفي بعض الروايات وأهلكت لكن قال الخطابي لفظة هلكت ليست موجودة في شيء من روايات هذا الحديث وأصحاب سفيان لم يرووها عنه إنما ذكروا قوله هلكت فحسب. انتهى.
لكن فيما رواه الشافعي من مراسيل سعيد بن المسيب قال أتى أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ينتف شعره ويضرب نحره ويقول هلك الأبعد. وعلى كل فلسنا الآن بصدد بيان اختلاف الألفاظ في الحديث بل غاية الأمر إنما هو التمثيل وبيان أن مجيء الأعرابي على الصفات المذكورة ربما يخيل للسامع أن مجموعها مع الوقاع في رمضان هي مناط وجوب الكفارة وعلته لكن من جملتها ما ليس مناسبا لأن يكون علة ولا جزء علة فاحتيج إلى إلغائه وتنقيح العلة وتخليصها بالسبر والتقسيم فيقال كون هذا الرجل أعرابيا لا أثر له فيلحق به من لم يكن أعرابيا كالتركي والعجمي وغيرهما من أصناف الناس وكونه لاطما صدره ووجهه لا أثر له فيلحق به من جاء بسكينة ووقار وثبات وكون الوطء في زوجة لا أثر له فيلحق به الوطء في ذكر أو أنثى أو أمة أو أجنبية أو بهيمة في قبل أو دبر اعتبارا لصورة الوقاع وكونه في ذلك الشهر المعين لا أثر له فيلحق به من وطىء في رمضان آخر وإنما كانت هذه الأوصاف لا أثر لها لعدم مناسبتها إذ الوصف الذي تظهر مناسبته كونه وقاع مكلف هتكت به حرمة عبادة الصوم المفروض أداء وما سوى ذلك من التعيينات والأوصاف فإنه ملغي لا اعتبار له وقد يختلف المجتهدون في بعض الأوصاف نحو ما اعتبره أحمد والشافعي في كون علة الكفارة إنما هي الجماع في رمضان وما عدا ذلك ملغي فقالا لا تجب الكفارة إلا به في ذلك الشهر. وقال أبو حنفية ومالك العلة إفساد الصوم وهو وصف عام فتجب الكفارة في إفساده بالوطء وبالأكل والشرب.
__________
= فليكفر، ومسلم في كتاب الصوم، باب: 81، وأبو داود في كتاب الصوم، باب: كفارة من أتى أهله في شهر رمضان، والترمذي في كتاب الصوم، باب: 28، وابن ماجه في كتاب الصيام، باب: ماجاء في كفارة من أنضر يوما من رمضان. وأحمد في "م2/ص241".(1/153)
النوع الثالث: من الأنواع المذكورة تخريج المناط وهو إضافة حكم لم يتعرض الشرع لعلته إلى وصف يناسب في نظر المجتهد بالسبر والتقسيم ومعناه أنا إذا رأينا الشارع قد نص على حكم ولم يتعرض لعلته قلنا هذا الحكم حادث لا بد له بحق الأصل من سبب حادث فيجتهد المجتهد في استخراج ذلك السبب من محل الحكم فإذا ظفر بوصف مناسب له واجتهد. ولم يجد غيره غلب على ظنه أن ذلك الوصف هو سبب الحكم. مثاله أن يقال حرم الربا في البر لأنه مكيل جنس أو مطعوم جنس فالأرز مثله لأنه كذلك أو يقال وجب العشر في زكاة البر لكونه قوتا فتلحق به الأقوات أو لكونه نبات الأرض وفائدتها فتلحق به الخضراوات وأنواع النبات وقد أجاز أصحابنا التعبد بهذا النوع عقلا وشرعا وسموه الاجتهاد القياسي وبه قال عامة الفقهاء والمتكلمين خلافا للظاهرية والنظام وقد أومأ إليه أحمد وحمله أصحابه على قياس قد خالف نصا وقال أصحابنا والشافعية وطائفة من المتكلمين التعبد القياس واجب شرعا. واعلم أن هذه المسألة كثر الكلام فيها كثرة قرب المسافر في بيدائها أن يرجع بلا طائل والحق أن الذين نفوا القياس لم يقولوا بإهدار كل ما يسمى قياسا وإن كان منصوصا على علته أو مقطوعا فيه بنفي الفارق وما كان من باب فحوى الخطاب أو لحنه على اصطلاح من يسمى ذلك قياسا بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلولا عليه بدليل الأصل مشمولا به مندرجا تحته وكلام أحمد في منعه يرجع إلى هذا فلا حاجة لما تأوله أصحابه ومنه تعلم أن الخلاف في هذا النوع لفظي وهو من حيث المعنى متفق على الأخذ به والعمل عليه واختلاف طريقة العمل
لا يلزم منه الاختلاف المعنوي لا عقلا ولا شرعا ولا عرفا على أنه لا يخفى على كل ذي لب أن في عمومات الكتاب والسنة ومطلقاتهما وخصوص نصوصهما ما يفي حادثة تحدث وتقوم ببيان كل نازلة تنزل عرف ذلك من عرفه وجهله من جهله فاجعل هذه القاعدة نصب عينيك واستغن بها عما أطال به أولو الفضل من الأخذ والرد في هذا المقام.
فصل : في شرائط أركان القياس ومصححاتها. تقدم أن أركان الناس أربعة الأصل والفرع العلة والحكم ولها شروط. فأما شرط الأصل وهو الحكم في محل النص فأمور:(1/154)
أحدها : أن يكون الحكم الذي أريد تعديته إلى الفرع ثابتا في الأصل هذا من جهة الأصول. وأما من حيث الجدل فالخصمان إما أن يتفقا على حكم الأصل أو يختلفا فإن اتفقا كان ثابتا بالنص والاتفاق وإن اختلفا فالنص واف بإثباته وكان حجة لمن قال به على خصمه.
الثاني : أن يكون الحكم الثابت في الأصل شرعيا لا عقليا ولا لغويا كقياس تسمية اللائط زانيا والنباش سارقا.
الثالث : أن يكون الطريق إلى معرفته السمع.
الرابع : أن يكون الحكم ثابتا بالنص وهو الكتاب أو السنة وهل يجوز القياس على الحكم الثابت بمفهوم الموافقة أو المخالفة فالظاهر أنه يجوز عليهما عند من أثبتهما وأما ما ثبت بالإجماع ففيه وجهان أصحهما الجواز. والثاني عدم الجواز وهذا ليس بصحيح.
الخامس : أن لا يكون الأصل المقيس عليه فرعا لأصل آخر وإليه ذهب الجمهور وهو ظاهر كلام أحمد وقال القاضي أبو يعلى يجوز أن يستنبط من الفرع المتوسط علة ليست في الأصل ويقاس عليه. وقال أيضا يجوز كون الشيء أصلا لغيره في حكم وفرعا لغيره في حكم آخر وجوزه الفخر وأبو الخطاب ومنعه أيضا. وقال أيضا هو ابن عقيل والبصري وبعض الشافعية يقاس عليه بغير العلة التي ثبت بها وحكى عن أصحابنا ومنعه الموفق والمجد والطوفي وغيرهم مطلقا إلا باتفاق الخصمين وجوزه تقي الدين أحمد بن تيمية في قياس العلة فقط.
السادس : أن لا يكون دليل حكم الأصل شاملا لحكم الفرع إذ لو كان كذلك لم يكن جعل أحدهما بعينه أصلا والآخر فرعا أولى من العكس.
السابع : أن يكون الحكم في الأصل متفقا عليه عند الخصمين فقط لنضبط فائدة المناظرة وقيل عند الأمة والصحيح الأول.
الثامن : أن لا يكون حكم الأصل ذا قياس مركب وهو ما اتفق عليه الخصمان(1/155)
لعلتين مختلفتين كقول الحنبلي فيما إذا قتل الحر عبدا المقتول عبد فلا يقتل به الحر كالمكاتب إذا قتل وترك وفاء ووإرثا مع المولى فإن أبا حنيفة يقول هنا إنه لا قصاص يلحق العبدية هنا بجامع الرق فلا يحتاج الحنبلي فيه إلى إقامة دليل على عدم القصاص في هذه الصورة لموافقة خصمه فيقول الحنفي في منع ذلك إن العلة إنما هي جهالة المستحق من السيد والورثة لا الرق لأن السيد والوارث وإن اجتمعا على طلب القصاص فإن الاشتباه لا يزول لاختلاف الصحابة. والقصاص ينتفي بالشبهة فهذه جهالة تصلح لدرء القصاص ولا يمنع علمنا بمستحق الإرث ومن هذا النوع ما يسمونه مركب الوصف وهو ما إذا كان الخصم موافقا على العلة لكن يمنع وجودها في الأصل كأن يقول في تعليق الطلاق قبل النكاح فلانة التي أتزوجها طالق فيقول الحنفي العلة التي هي كونه تعليقا مفقودة في الأصل. فإن قوله فلانة التي أتزوجها طالق تنجيز لا تعليق فإن صح هذا بطل إلحاق التعليق به لعدم الجامع وإن منع حكم الأصل وهو عدم الوقوع في قوله فلانة كذا لأنه إنما منع الوقوع لأنه تنجيز ولو كان تعليقا به قلت ولنا في هذه المسألة رسالة مستقلة مشتملة على الأدلة والبراهين وبيان الخلاف فيها وليس كل من القسمين حجة عندنا وعند الأكثر وجوزه الأستاذ أبو إسحاق والقاضي أبو يعلى وابن عقيل وجمع.
التاسع : أن لا نكون متعبدين بحكم الأصل بالقطع وهذا النوع فيه خلاف للأصوليين. وقال الآمدي في جدله من كتابه المنتهى مما يرجع إلى حكم الأصل من شروطه أن لا يكون متعبدا به بالعلم لأن القياس لا يفيد إلا الظن وحينئذ يتعذر القياس. ومنع الطوفي من أصحابنا هذا الشرط في شرحه مختصره ثم قال والصحيح في هذا ما قاله الإمام فخر الدين إذا كان تعليل الأصل قطعيا ووجود العلة في الفرع قطعيا كان القياس قطعيا متفقا عليه. قال الطوفي قلت وإذا جاز ذلك جاز ورود التعبد بالقياس بالقطع وحينئذ لا يكون ما ذكره الآمدي شرطا.
العاشر : أن لا يكون معدولا به عن سنن القياس إذ القياس عليه غير ممكن وذلك على ضربين أحدهما ما ورد غير معقول المعنى سواء كان مستثنى عن قاعدة عامة كتخصيص خزيمة بقيام شهادته وحده مقام نصاب الشهادة أو كان مبتدأ به من غير استثناء كالمقدرات من الحدود والكفارات ونصب الزكوات وأعداد الركعات. الضرب(1/156)
الثاني: ما ورد الشرع به ولا نظير له معقولا أو غير معقول كاللعان والقسامة وضرب الدية على العاقلة وجواز المسح على الخفين فهذان الضربان لا يمكن القياس عليهما لعدم فهم العلة أو لعدم النظير هذا ما ذكره الآمدي وتبعه ابن مفلح وبه قال ابن الحاجب وغيره. وقال البرماوي في جعل القسامة غير معقولة المعنى وهو. خفي بخلاف شهادة خزيمة ومقادير الحدود نظر ظاهر انتهى. وذلك النظر أنها متساويات فالفرق بينها غير معقول.
الحادي عشر: أن لا يكون حكم الأصل مغلظا وفي هذا الشرط خلاف.
الثاني عشر: أن لا يكون الحكم في الفرع ثابتا قبل الأصل فلو تقدم لزم اجتماع النقيضين أو الضدين وهو محال. الثالث عشر قال أصحابنا وغيرهم شرط حكم الأصل أن لا يكون منسوخا لأن المنسوخ لم يبق له وجود في الشرع فتلحق به الأحكام بقياس ولا غيره.
فصل : وأما حكم الفرع فله شرطان: أحدهما أن يكون حكمه مساويا لحكم الأصل كقياس البيع على النكاح في الصحة كقولنا في بيع الغائب عقد على غائب فصح قياسا على النكاح وكقياس الزنا على الشرب في التحريم وكقياس الصوم على الصلاة في الوجوب. الثاني أن يكون حكم الفرع حكما شرعيا فرعيا لا عقليا ولا أصوليا وأن يطلب فيه العلم لأن ذلك قطعي والقياس إنما يفيد الظن والقاطع لا يثبت بالظني هذا ما ذكره أكثر أصحابنا ومنهم الشيخ موفق الدين في الروضة وذكر كثير من الأصوليين شروطا أخر. منها أن لا يمكن الاستدلال على حكم الفرع بالنص إذ يكون إثباته بالقياس حينئذ من باب فساد الوضع كما يقال في عدم إجزاء عتق الرقبة الكافرة في كفارة الظهار تحرير في تكفير فلا يجزي فيه ضحي قياسا على كفارة القتل وهذا إذا تأملته تجده راجعا إلى تقييد المطلق مع اختلاف السبب وليس مما نحن فيه. ومنها أن يرد النص بحكم الفرع في الجملة وهذا الشرط فاسد لا اعتبار له لأن العلماء قاسوا قوله أنت علي حرام على الظهار والطلاق واليمين ولم يرد فيه حكم جملة ولا تفصيلا وإنما حكم الأصل يتعدى بتعدي العلة كيف ما كان.
فصل : وأما الفرع فشرطه وجود علة الأصل فيه ولا يشترط أن يكون وجود معا فيه(1/157)
مقطوعا به بل تكفي غلبة الظن والحق أنه إنما يشترط تقدم ثبوت الأصل على الفرع قياس العلة دون قياس الدلالة فإن العالم دليل على الصانع القديم وهو متأخر عن صانعه قطعا.
فصل : وأما العلة الشرعية فلها أسام كثيرة ذكرها البزدوي في المقترح فقال هي السبب والإمارة والداعي والمستدعي والباعث والحامل والمناط والدليل والمقتضى والموجب والمؤثر. وقال في التحرير هي العلامة والمعرف عند أصحابنا والأكثر لا المؤثر فيه. وقال الفتوحي في مختصر التحرير هي مجرد أمارة وعلامة نصبها الشارع دليلا على الحكم انتهى. ومن شرطها أن تكون متعدية من محل النص إلى غيره كالإسكار والكيل والوزن والطعم فلا عبرة بالقاصرة وهي ما لا توجد في غير محل النص كالثمينة في النقدين فإن هذا مختص بهما قاصر عليهما إذا علم هذا فليعلم أن الحكم قد يتخلف عن العلة وتخلفه عنهما يعود إلى أقسام:
أحدها : ما يعلم استثناؤه عن قاعدة القياس كإيجاب الدية في قتل الخطأ على العاقلة مع العلم باختصاص كل امرىء بضمان جناية نفسه لقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وكذا إيجاب صاع تمر في المصراة عن اللبن المحتلب ههنا مع أن تماثل الأجزاء علة إيجاب المثل في ضمان المثليات فكان يقتضي ذلك أن يضمن لبن المصراة بمثله فهذا لا تبطل به علة القياس لثبوته قطعا بنص الشارع ومناسبة العقل ولا يلزم المستبدل الاحتراز عنه بتعليله بأن يقول كل امرىء مختص بضمان جناية نفسه إلا في دية الخطأ وتماثل الأجزاء علة إيجاب المثل في ضمان المثليات إلا في المصرات لأنه إنما يجب الاحتراز عما ورد نقضا وهذا ليس كذلك وإن كانت العلة مظنونة كورود العرايا على علة الربا على كل قول وكل مذهب بلا نقض ولا تخصيص العلة بل على المناظر بيان ورودها على مذهب خصمه أيضا.
واعلم أن قول الفقهاء هذا الحكم مستثنى عن قاعدة القياس أو خارج عن القياس أو ثبت على خلاف القياس ليس المراد به أنه تجرد عن مراعاة المصلحة حتى خالف القياس وإنما المراد به أنه عدل به عن نظائره لمصلحة أكمل وأخص من مصالح نظائره على جهة الاستحسان الشرعي فمن ذلك أن القياس يقتضي عدم بيع المعدوم وجاز ذلك في السلم والإجارة توسعة وتيسيرا على المكلفين ومنه أن القياس أن كل واحد يضمن(1/158)
جناية نفسه وخولف في دية الخطأ رفقا بالجاني وتخفيفا عنه لكثرة وقوع الخطأ من الجناة.
ثانيها : النقض التعذيري وهو تخلف العلة لا لخلل فيها بل لمعارضة علة أخرى أخص كان يقال رق الأم علة رق الولد فينتقض عليه بولد المغرور بأمه وهو من تزوج امرأة على أنها حرة فبانت أمة فهذا الولد حر مع أن أمه أمة فقد تخلف حكم العلة عنها فيقول المستدل هذا الولد وإن كان حرا حكما فهو رقيق في التقدير بدليل وجوب قيمته على أبيه لسيد أمته ولو أن الرق فيه حاصل تقديرا لما وجبت قيمته إذ الحر لا يضمن بالقيمة وفي ورود هذا النوع نقضا خلاف بين أصحابنا فذهب القاضي أبو يعلى وأبو الخطاب وأكثر أصحابنا إلى أنه لا يقدح مطلقا ويكون حجة في غير ما خص وذهب ابن حامد وصاحبه أبو يعلى إلى أنه يقدح مطلقا وقال الموفق يقدح في علة مستنبطة إلا لمانع أو فوات شرط ولا يقدح في المنصوصة قال الطوفي في مختصره الأشبه أنه لا يقدح اعتبارا بالتحقيق لا التقدير.
ثالثها : تخلف الحكم لفوات محل أو شرط لا لخلل في ركن العلة كقولنا البيع علة الملك وقد وقع فليثبت الملك في زمن الخيار فينتقض بيع الموقوف والمرهون وأم الولد فقد حصل البيع فيه ولم يفد الملك فيقال لم تتخلف إفادة البيع الملك لكونه ليس علة لإفادته بل لكونه لم يصادف محلا وكقولنا السرقة علة القطع وقد وجدت في النباش فينتقض بسرقة الصبي أو سرقة دون النصاب أو السرقة من غير حرز فإنها لم توجب القطع. فيقال: ليس ذلك لكون السرقة ليست علة بل لفوات أهلية القطع في الصبي وفوات شرطه في دون النصاب ومن غير الحرز فهذا وأمثاله لا يفسد العلة لأن تأثير العلة يتوقف على وجود شروطها وانتفاء موانعها وهذا منه وهل يكلف المعلل والمستدل على ثبوت الحكم بوجود علية الاحتراز من هذا كأن يقول مثلا بيع صدر من أهله وصادف محله أو استجمع شروطه فأفاد الملك أو المكلف سرق نصابا كاملا من حرز مثله لا شبهة له فيه فوجب قطعه هذا فيه خلاف بين علماء فن الجدل سهل الخطب والأولى الاحتراز عنه لأنه أجمع للكلام وأنفى لنشره وتبدده وأمنع له من أن يصير مشاغبة وما سوى ذلك من تخلف حكم العلة في الأقسام الثلاثة فهو ناقض للعلة وأما المعدول به(1/159)
عن القياس فلا يخلو من أن تفهم علته أولا فإن فهمت العلة فيه ألحق به ما في معناه كقياس عرية العنب على عرية الرطب فيما دون خمسة أوسق إذ العلة مفهومة وهي الرخصة للناس والتوسعة عليهم إذا احتاجوا إليه وكقياس أكل بقية المحرمات على أكل الميتة للضرورة بجامع استبقاء النفس بذلك ويقاس عليه المكره على أكلها لأنه في معنى المضطر إلى التغذي بها بالجامع المذكور. وإن لم تفهم علة المعدول عن القياس لم يلحق به غيره وذلك كتخصيص أبي بردة بأنه ذبح جذعة من المعز في الأضحية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي خير نسيكتيك ولا تجزي جذعة لأحد بعدك" 1 والحديث في الصحيحين ورواه أبو داود والنسائي والترمذي. وصححه وكشهادة خزيمة حيث اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا من أعرابي ولم يكن بينهما أحد ثم جحد الأعرابي البيع فشهد به خزيمة بن ثابت وحده فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته فجعل شهادته بشهادتين فهذه التخصيصات مما لا يفهم معناها فلا يلحق بها غير من خص بها وكذا التفريق بين بول الغلام والجارية لما لم يعقل الفرق بينهما لم يلحق بهما ذكور صغار البهائم وإناثها.
فصل : لا يشترط أن تكون العلة أمرا ثبوتيا بل يجوز أن تكون أمرا عدميا وهي كونها صفة أو اسما أو حكما كقولنا ليس بمكيل ولا بموزون فلا يحرم فيه التفاضل وهذا لا يجوز رهنه ونحو ذلك خلافا لبعض الشافعية حيث قالوا لا يجوز ويجوز تعليل الحكم بعلتين معا فلا يمتنع أن يجعل اللمس والبول علتان لنقض الوضوء وهنا قد تم الكلام على شروط العلة وبه تم الكلام على شروط أركان القياس الأربعة ولنشرع في بيان ما يفسد القياس بيان حسب الإمكان فنقول.
فصل: مفسدات القياس وجوه:
أحدها : أن لا يكون الحكم معللا في نفس الأمر فيكون القائس قد علل بما ليس بمعلل كمن زعم أن علة الانتقاض بلحم الجزر وهو أنه لشدة حرارته ودسمه مرخ للجوف والصحيح المشهور أن ذلك تعبد
__________
1 رواه مسلم في كتاب الأضاحي، باب: 5، الترمذي في كتاب الأضاحي، باب: 12، والنسائي في كتاب الضحايا، باب: ذبح الضحية قبل الإمام، وأبو داود في كتاب الضحايا، باب: ما يجوز في الضحايا من السن، والدارامي في كتاب الأ ضاحي، باب: في الذبح قبل الإمام.(1/160)
الثاني : أن يخطىء القياس علة الحكم عند الله في الأصل مثل أن يعتقد أن علة الربا في البر الطعم فيلحق به الخضراوات وسائر المطعومات وتكون علته في نفس الأمر الكيل أو الاقتيات أو بالعكس.
الثالث : أن يزيد في أوصاف العلة أو ينقص منها. مثل أن يعلل الحنبلي بأنه قتل عمد عدوان فأوجب القود فيقول الحنفي نقصت من أوصاف العلة وصفا وهو الآلة الصالحة السارية في البدن فلا يصح إلحاق المثقل به أو يعلل الحنفي بذلك فيقول الخصم زدت في أوصاف العلة وصفا ليس منها وهو صلاحية الآلة وإنما العلة هي القتل العمد العدوان فقط فيلحق به المثقل.
الرابع : أن يتوهم وجود العلة في الفرع وليست فيه مثل أن يظن أن الخيار ونحوه مكيلا فيلحقه في تحريم الربا أو بالعكس مثل أن يظن أن الأرز موزون فيلحقه بالخضراوات في عدم تحريم الربا بجامع أنه ليس بمكيل.
الخامس : أن يستدل على تصحيح العلة بما ليس بدليل فلا يصح فلا يحل له القياس وإن أصاب كما لو أصاب بمجرد الوهم والحدس أو أصاب القبلة عند اشتباهها بدون اجتهاد ذكر هذا الغزالي.
تنبيه : قد تقدم أن فائدة القياس إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق وذلك الإلحاق على ضربين مقطوع به ومظنون. والأول ضربان أحدهما أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم وهو فحوى الخطاب ومفهوم الموافقة وشرطه ما سبق في موضعه نحو إن قبلت شهادة اثنين فثلاثة أولى وإذا لم تصح الأضحية بالعوراء فالعمياء أولى وهو بخلاف قولنا إذا ردت شهادة الفاسق فشهادة الكافر. أولى بالرد وإذا وجبت الكفارة في قتل الخطأ ففي العمد لو أولى فإنه مظنون لإمكان الفرق إذ بينهما جامع وهو مبادرة الذهن إلى أية والفرع بالحكم وفارق وهو إمكان الفرق بين الأصل والفرع. والثاني أن يستوي الأصل والفرع في استحقاقهما ومناسبتهما له كقولنا سرى العتق في العبد فالأمة مثله إذ لا تأثير للذكورة والأنوثة في هذا الحكم ونحوه في عرف الشرع وتصرفه إذ هما وصفان طرديان كالسواد والبياض وإن كان للذكورية والأنوثية تأثير في الفرق في بعض الأحكام(1/161)
كولاية النكاح والقضاء والشهادة وكقولنا موت الحيوان في السمن ينجسه والزيت مثله ولا أثر للفارق يكون هذا سمنا وهذا زيتا لأنه فرق لفظي غير مناسب وطريق الإلحاق فيه من وجهين:
أحدهما : أن يقال لا فارق بين محل النزاع ومحل الاحتجاج إلا كذا وهو لا أثر له فيجب استواؤهما في الحكم كأن يقال لا فارق بين العبد والأمة في سراية العتق وتنصيف الحد إلا الذكورية ولا أثر لها فيجب استواؤهما في ذلك الوجه.
الثاني : أن يبين الجامع الذي هو مناط الحكم في الأصل ما هو ويبين وجوده في الفرع فيثبت الحكم مثل أن يقول العلة في الأصل كذا وهي متحققة في الفرع فيجب استواؤهما في الحكم وهذا النوع متفق على تسميته قياسا وفيما قبله خلاف. ومن أمثلة الثاني أن يقال السكر علة التحريم وهي موجودة في النبيذ فيثبت التحريم فيه وإثبات المقدمة الأولى بالشرع فقط إذ هي وضعية. والثانية بالعقل والعرف والشرع وما عدا ما ذكرناه من الإلحاق بطريق الأولى والقياس في معنى الأصل فهو مظنون كالأقيسة الشبهية وهنا انتهى بيان أصناف الإلحاق القياسي قطعا أو ظنا ولنتكلم على أدلة الشرع التي تثبت بها العلة الشرعية فنقول:
مرجع أدلة الشرع إلى نص أو إجماع أو استنباط وتثبت العلة بكل منها على سبيل البدل فإن ثبتت بالنص الذي هو الكتاب والسنة عمل بها وإلا تثبت بالإجماع فإن لم يوجد ففي الاستنباطس.فأما إثباتها بالنص وهو الدليل النقلي فعلى نوعين أحدهما أن تكون العلة مصرحا بها بأن يكون اللفظ موضوعا للتعليل أو مشهورا في عرف اللغة كقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ} [الحشر: 7] أي إنا جعلنا مصرف الفيء هذه الجهات لئلا يتداوله الأغنياء قوما بعد قوم فتفوت نفقة تلك الجهات المحتاجة إليه ولا يقع من الأغنياء موقع ضرورة وقس على ذلك أمثاله من الكتاب والسنة كقوله تعالى: {أَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [آل عمران: 153] أي من الغنيمة {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة: 143] أي ليمتحنهم بالانقياد للانتقال من قبلة إلى قبلة فإن أضيف الفعل المذكور إلى ما لا يصلح أن يكون علة فهو مجاز ويعرف ذلك(1/162)
بعدم الدليل على عدم صلاحيته علة مثل أن يقال للفاعل: لم فعلت فيقول لأني أردت. فالإرادة هنا لا تصلح للتعليل لأن العلة إنما هي المقتضى الخارجي للفعل والإرادة ليست معنى خارجا عن الفعل فكان استعمالها هنا استعمالا للفظ في غير محله فكانت مجازا فإما مثل قوله عليه السلام في المحرم الذي مات: " لا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" وقوله في الروثة لما جيء بها ليستجمر بها: "أنها رجس" . ومثل هذا فقال أبو الخطاب هذا كله صريح في التعليل خصوصا فيما لحقته الفاء نحو فإنه يبعث ملبيا. وقال غيره هو من باب التنبيه والإيماء والخلاف لفظي لأن أبا الخطاب يقول إن التعليل به صريح لأنه تبادر منه إلى الذهن بغير توقف في عرف اللغة وغيره يعني بكونه ليس بصريح أن حرف إن ليست موضوعة للتعليل في اللغة
الثاني: من إثبات العلة بالدليل النقلي الإيماء والفرق بينه وبين الأول أن النص يدل على العلة بوصفه لها والإيماء يدل عليها بطريق الالتزام وهو أنواع: أحدهما: ذكر الحكم عقيب الوصف بالفاء كقوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا} [البقرة: 222] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38] وقوله عليه السلام: "من أحيا أرضا فهي له" 1 فهذه أحكام ذكرت عقيب أوصاف كاعتزال النساء عقيب المحيض وقطع السارق عقيب السرقة وملك الأرض بعد الإحياء وهو يفيد أن الوصف الذي قبل الحكم علة وسبب لثبوته إذ الفاء للتعقيب فتفيد تعقيب الحكم الوصف وأنه سببه إذا السبب ما ثبت الحكم عقيبه. ثانيها ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الجزاء كقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أي لتقواه وتوكله لتعقيب الجزاء والشرط.
ثالثها: ذكر الحكم جوابا بالسؤال يفيد أن السؤال المذكور أو مضمونه علة الجواب كقوله عليه الصلاة والسلام في جواب قول الأعرابي واقعت أهلي في نهار رمضان: "أعتق رقبة" 2 لأن ذلك في معنى قوله حيث واقعت أهلك فأعتق رقبة.
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الإمارة، باب: في إحياء الموات، والبخاري في كتاي الحرث، باب: من أحيا أرضا موال، والترمذي في كتاب الأحكام، باب:38، والدارامي في كتاب البيوع، باب:من أحيا أرضا ميتة فهي له، والموطأ في كتاب الأقضية، باب: القضاء في عمارة الموت.
2 رواه البخاري في كتاب الصوم، باب:إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر، ومسلم في كتاب الصوم، باب: 81، وأبو داود في كتاب الصوم، باب: كفارة من أتى أهله في شهر رمضان، والترمذي في كتاب الصوم، باب: 28، وابن ماجه في كتاب الصيام، باب: ماجاء في كفارة من أنظر يوما من رمضان، وأحمد في "م2/241".(1/163)
رابعها : أن يذكر الشارع مع الحكم سببا لو لم يعلل الحكم به لكان ذكره لاغيا فيجب تعليل الحكم بذلك الشيء المذكور معه لصيانة كلام الشارع عن اللغو وهذا النوع قسمان:
أحدهما : أن يسأل في الواقعة عن أمر ظاهر ثم يذكر الحكم عقيبه فيدل على التعليل كقوله عليه السلام لما سئل عن بيع الرطب بالتمر قال: "أينقص الرطب إذا يبس؟" قالوا نعم قال: "فلا إذن" 1 فهذا استفهام على جهة التقرير لكونه ينقص إذا يبس وليس هذا من باب الاستعلام إذ المعلوم لكل عاقل أن الرطب ينقص إذا يبس لزوال الرطوبة الموجبة لزيادته وثقله.
ثانيهما : أن يعدل في الجواب إلى نظير محل السؤال كقول عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: إني قبلت وأنا صائم فقال له: "أرأيت لو تمضمضت" 2. فإن ذلك يدل على التعليل بالمعنى المشترك بين الصورتين المسؤول عنها والمعدول إليها بطريق القياس إذ لو لم يكن كذلك لخلا السؤال عن جواب فكأنه قال لعمر إن القبلة لا تضر ولا تفسد صومك لأنها مقدمة شهوة الفرج كما أن المضمضة مقدمة شهوة البطن.
خامسها : أن يذكر عقيب الكلام أو في سياقه أو في ضمنه شيئا لو لم يعلل به الحكم المذكور لم يكن الكلام منتظما كقوله تعالى: {ذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] وقوله عليه السلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" 3 فلو لم يعلل النهي عن البيع حينئذ بكونه مانعا أو شاغلا عن السعي لكان ذكره
__________
1 رواه أبو داود في كتاب البيوع، باب: في التمر بالتمر، والترمذي في كتاب البيوع، باب: 14، والنسائي في كتاب البيوع، باب: اشتراء التمر بالرطب، وابن ماجه في كتاب التجارات، باب: بيع الرطب بالتمر، والموطأ في كتاب البيوع، باب: مايكره من بيع التمر.
2 رواه أبو داود في كتاب الصوم، باب: القبلة للصائم، والدارامي في كتاب الصوم، باب: الرخصة في القبلة للصائم، وأحمد في "م1/ص21".
3 رواه البخاري في كتاب الأحكام، باب: هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان، ومسلم في كتاب الأقضية، باب: 16، وأبو داود في كتاب الأقضية، باب القاضي يقضي وهو غضبان، والترمذي في كتاب الأحكام، باب: 7، والنسائي في كتاب القضاة، باب: النهي عن أن يقضى في قضاء بقضائين، وابن ماجه في كتاب الأحكام، باب: لا يحكم الحاكم وهو غضبان، وأحمد في "م5/ص36".(1/164)
لاغيا وكذا لو لم يعلل النهي عن القضاء عند الغضب بكونه يتضمن اضطراب المزاج الموجب لاضطراب الفكرة الموجب غالبا للخطأ في الحكم لكان ذكره لاغيا إذ البيع والقضاء لا يمنعان مطلقا فلا بد إذن من مانع وليس المانع إلا ما فهم من سياق النص ومضمونه.
سادسها : اقتران الحكم بوصف مناسب نحو أكرم العلماء وأهن الجهال ثم إن الوصف في هذه المواضع معتبر في تعريف الحكم أو تأثيره ووجوده غير أنه يحتمل أن الوصف علة بنفسه كالإحياء المقتضى لملك الموات ويحتمل أن العلة ما تضمنه واشتمل عليه كالشغل عن الجمعة الذي اشتمل عليه البيع.
فصل : وأما إثبات العلة بالإجماع فكالصغر للولاية واشتغال قلب القاضي بالغضب عن استيفاء النظر فيلحق به اشتغاله بالجوع أو العطش أو الخوف أو الألم بالقياس وككون تلف المال تحت اليد العادية علة للضمان على الغضب إجماعا فيلحق به تلف العين بيد السارق وإن قطع بها لأن يده عادية فضمن ما تلف فيها كالغاصب لاشتراكهما في الوصف الجامع وهو التلف تحت اليد العادية وكذلك الإخوة من الأبوين أثرت في التقديم في الإرث إجماعا فكذا في النكاح والصغر أثر في ثبوت الولاية على البكر فكذا على الثيب.
ثم اعلم أنه إذا قاس المستدل على علة إجماعية فليس للمعترض المطالبة بتأثير تلك العلة في الأصل ولا في الفرع لأن تأثيرها في الأصل ثابت بالإجماع وفي الفرع لاطرادها في كل قياس فينشر الكلام إذ ما من قياس وإلا ويتجه عليه سؤال المطالبة بتأثير الوصف في الفرع.
فصل : وأما إثبات العلة بالاستنباط فهو على أنواع:
أولها : إثباتها بالمناسبة وهي أن يقترن بالحكم وصف مناسب وتسمى أيضا(1/165)
بالإخالة واستخراجها يسمى تخريج المناط وقد سبق مثاله في غير موضع. قال العلامة نجم الدين الطوفي رحمه الله تعالى. قلت قد اختلف في تعريف المناسب واستقصاء القول فيه من المهمات لأن عليه مدار الشريعة بل مدار الوجود إذ لا موجود إلا وهو على وفق المناسبة العقلية لكن أنواع المناسبة تتفاوت في العموم والخصوص والخفاء والظهور فما خفيت مناسبته سمي معللا فقولنا يعني في. مختصره المناسب ما تتوقع المصلحة عقيبه أي ما إذا وجد أو سمع أدرك العقل السليم كون ذلك الوصف سببا مفضيا إلى مصلحة من المصالح لرابط من الروابط العقلية بين تلك المصلحة وذلك الوصف. قال ومثاله أنه إذا قيل المسكر حرام أدرك العقل أن تحريم المسكر مفض إلى مصلحة وهي حفظ العقول من الاضطراب. وإذا قيل القصاص مشروع أدرك العقل أن شرعية القصاص سبب مفض إلى مصلحة وهي حفظ النفوس وأمثلة كثيرة ظاهرة وإنما قلت ما تتوقع المصلحة عقيبه لرابط عقلي أخذا من السبب الذي هو القرابة فإن المناسب ههنا مستعار ومشتق من ذلك ولا شك أن المتناسبين في باب النسب كالأخوين وابني العم ونحو ذلك إنما كانا متناسبين لمعنى رابط بينهما وهو القرابة فكذلك الوصف المناسب ههنا لا بد وأن يكون بينه وبين ما يناسبه من المصلحة رابط عقلي وهو كون الوصف صالحا للإفضاء إلى تلك المصلحة عقلا اه. فقد علم أن الوصف المناسب هو ما تتوقع المصلحة عقيبه لرابط عقلي ولا يعتبر كونه منشأ للحكمة كقولنا السفر منشأ المشقة المبيحة للترخص والقتل منشأ المفسدة وهي تفويت النفوس والزنا منشأ المفسدة وهو تضييع الأنساب وإلحاق العار فهذه الأوضاف ينشأ عنها الحكم التي تثبت الأوصاف لأجلها بل الاعتبار الأعم من ذلك سواء كان منشأ للحكمة كما تقدم أو كان الوصف معرفا للحكمة ودليلا عليها كقولنا النكاح أو البيع الصادر من الأهل في المحل يناسب الصحة أي يدل على أن الانتفاع بالمبيع والحاجة اقتضت جعل البيع سببا لتحصيل الانتفاع بواسطة الصحة أو كان يظهر عند الوصف ولم ينشأ عنه ولم يدل عليه كشكر النعمة المناسبة للزيادة منها فالشكر هو الوصف المناسب وزيادة النعمة هي الحكمة ووجوب الشكر هو الحكم وهذه الأمثلة تقريبية وبالجملة متى أفضى الحكم إلى مصلحة علل بالوصف المشتمل عليها.
ثم إنه باعتبار تأثيره وهو اقتضاؤه لحكم المناسبة لترتب الحكم عليه ينقسم إلى(1/166)
أقسام: أحدها: المؤثر وهو ما ظهر تأثير عينه في عين الحكم أو جنسه بنص أو إجماع كقولنا سقطت الصلاة عن الحرة الحائض بالنص والإجماع لمشقة التكرار لأن الصلاة تتكرر فلو وجب قضاؤها لشق عليها ذلك فقد ظهر تأثر المشقة المذكورة في إسقاط الصلاة بالإجماع وكتعليل الحدث بمس الذكر بالنص ولا يضر هذا القسم ظهور مؤثر آخر معه في الأصل فيعلل بالكل وذلك كالمعتدة والحائض والمرتدة يعلل امتناع وطئها بالأسباب الثلاثة الحيض والعدة والردة. فلو أردنا أن نقيس الأمة على الحرة في ذلك بأحد الأوصاف المذكورة صح وكان من باب المناسب المؤثر بتقدير أن لا يكون النص شاملا لها. الثاني الملائم وهو ما ظهر تأثير عينه في جنس الحكم كقولنا الأخ من الأبوين مقدم في ولاية النكاح قياسا على تقديمه في الإرث فالوصف الذي هو الأخوة في الأصل والفرع متحد بالنوع والحكم الذي هو الولاية في الإرث متحد بالجنس. لا بالنوع فهذا وصف أثر عينه في جنس الحكم وهو جنس التقديم فعين الأخوة أثرت في جنس التقديم ومن هذا النوع عكس ما تقدم وهو ما أثر جنسه في عين الحكم كقولنا سقطت الصلاة عن الحائض لأجل المشقة قياسا على المسافر فقد أثر جنس المشقة في عين السقوط ومنه أيضا ما ظهر تأثير جنسه في جنس الحكم كإلحاق بعض الأحكام ببعض بجامع المناسبة للمصلحة المطلقة كإلحاق شارب الخمر بالقاذف في جلده ثمانين كما قال علي رضي الله عنه: "أراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فأرى عليه حد المفتري". فأخذ مطلق المناسبة ومطلق المظنة وهذا النوع سماه بعض الأصوليين الملائم وسماه. بعضهم بالغريب وقيل هذا هو الملائم وما سواه مؤثر وقال المرداوي في التحرير أن اعتبر بترتب الحكم على الوصف فقط. إن اعتبر بنص أو إجماع أو اعتبار عينه في جنس الحكم أو بالعكس أو جنسه في جنس الحكم فالملائم وهو حجة عند المعظم وإلا فالغريب وهو حجة ومنعه أبو الخطاب والحنفية انتهى. ففرق بينهما ثم قال وإن اعتبر الشارع جنسه البعيد في جنس الحكم فمرسل ملائم وإلا فمرسل غريب منعه الجمهور أو مرسل ثبت إلغاؤه كإيجاب الصوم على واطىء قادر في رمضان وهو مردود اتفاقا والمرسل الملائم ليس حجة عند الأكثر وقيل في العبادات وقال مالك حجة وأنكره أصحابه وقال الغزالي بشرط كون المصلحة ضرورية قطعية كتترس كفار بمسلم وليس هذا منه لاعتباره فهو حق قطعا ومعنى كلام الموفق والفخر والطوفي أن غير الملغي حجة وقيل لا يشترط في الموثر كونه مناسبا انتهى.(1/167)
ثم اعلم أن للجنسية مراتب فأعمها في الوصف كونه وصفا ثم مناطا ثم مصلحة خاصة وفي الحكم كونه حكما ثم واجبا ونحوه. ثم عبادة ثم صلاة ثم ظهرا وتأثير الأخص في الأخص أقوى وتأثير الأعم في الأعم يقابله وتأثير الأخص في الأعم وعكسه واسطتان وبهذا الطريق تظهر الأجناس العالية المتوسطة والأنواع السافلة للأحكام والأوصاف من المناسب وغيره فالإسكار مثلا نوع من المفسدة والمفسدة جنس له والإخوة نوع من الأوصاف والتقديم في الميراث نوع من الأحكام فهو تأثير نوع في نوع.
النوع الثاني: من أنواع إثبات العلة بالاستنباط إثباتها بالسبر والتقسيم فالأول إبطال كل علة علل بها الحكم بالإجماع إلا واحدة فتتعين ومعنى ذلك أن المستدل بالقياس إذا أراد أن يبين علة الأصل المقيس عليه كذا ليلحق به الفرع المقيس وأراد تبيين العلة بالسبر والتقسيم ذكر كل علة علل بها حكم الأصل ثم يبطل الجميع إلا العلة التي يختارها فيتعين التعليل فيثبت الحكم في الفرع بواسطتها مثل أن يقول علة الربا في البر ونحوه إما الكيل وإما الطعم وإما القوت وهذه العلل كلها باطلة إلا الأولى مثلا وهي الكيل إن كان حنبليا أو حنفيا أو إلا الطعم إن كان شافعيا أو إلا القوت إن كان مالكيا فيتعين للتعليل ويلحق الأرز الذرة ونحو ذلك بجامع الكيل ويقيم الدليل على بطلان ما أبطله إما بانتقاضه انتقاضا مؤثرا أو بعدم مناسبته أو غير ذلك بحسب الإمكان والاتفاق ويشترط لصحة السبر أمورا أحدها أن يكون الحكم في الأصل معللا إذ لو كان تعبدا لامتنع القياس عليه. الثاني أن يكون مجمعا على تعليله كما قاله أبو الخطاب إذ بتقدير أن يكون مختلفا في تعليله فللخصم التزامه التعبد فيه فيبطل القياس وقال غيره هذا الشرط بالنسبة إلى المجتهد لأنه لا حجر عليه إلا بإجماع الأمة إذ بدونه له أن يلتزم التعبد في الأصل ويفسد كل علة علل بها خصمه بخلاف ما إذا كان المستدل مناظرا أو خصمه منتميا إلى مذهب ذي مذهب فإنه حينئذ تكفيه موافقة الخصم على التعليل ولم يعتبر الإجماع عليه من الأمة لأنه ليس بصدد استنباط الأحكام. الثالث أن يكون سبره حاصرا لجميع العلل إذ لو لم يكن حاصرا لجاز أن يبقى وصف هو العلة في نفس الأمر لم يذكره فيقع الخطأ في القياس ولا يصح السبر
وطريق ثبوت حصر السبر من وجهين: أحدهما: موافقة الخصم على انحصار العلة(1/168)
فيما ذكره المستدل. الثاني: أن يعجز الخصم عن إظهار وصف زائد على ما ذكره المستدل فإذا تم أحد الأمرين وجب على الخصم المعترض إما تسليم الحصر فيحصل مقصود المستدل أو إظهار ما عند المعترض من الأوصاف الزائدة على ما ذكره المستدل لينظر فيه فيفسده ولا يسمع قول المعترض عندي وصف زائد لكني لا أذكره لأنه حينئذ إما صادق فيكون كاتما لعلم دعت الحاجة إليه فيفسق بذلك أو كاذب فلا يعول على قوله ويلزمه الحصر وإذا أبرز الخصم المعترض وصفا زائدا على ما ذكره المستدل لزم صاحب الاستدلال أن ينظر في ذلك الوصف فيفسده ويبين عدم اعتباره وله إلى ذلك طريقان:
أحدهما : أن يبين بقاء الحكم مع عدمه في بعض الصور مثل أن يقول الحنبلي أو الشافعي يصح أمان العبد لأنه أمان وجد من عاقل مسلم غير متهم فيصح قياسا على الحر فيقول الحنفي إن ما ذكرت أوصاف العلة في الأصل فقط وتركت وصفا آخر وهو الحرية هو مفقود في العبد وحينئذ لا يصح القياس فيقول المستدل وصف الحرية ملغي بالعبد المأذون له فإن أمانه يصح باتفاق مع عدم الحرية فصار وصفا لاغيا لا تأثير له في العلة.
الثاني : أن يبين كون الوصف الزائد وصفا طرديا أي لم يلتفت الشرع إليه فيم عهد من تصرفه كالطول والقصر والذكورة والأنوثة مثاله ما لو قال المستدل يسري العتق في الأمة قياسا على العبد بجامع الرق إذ لا علة غيره عملا بالسبر. فقال المعترض الذكورية وصف زائد معتبر في الأصل لأن العبد إذا كمل عتقه بالسراية حصل منه ما لا يحصل من الأمة من تأهله للحكم والإمامة وأنواع الولايات ولا يلزم من ثبوت السراية في الأكمل ثبوته في غيره فيقول المستدل ما ذكرت من الفرق مناسب غير أنا لم نر الشرع اعتبر الذكورية والأنوثية في باب العتق فيكون ذلك على خلاف معهود تصرفه فيكون وصفا طرديا في ظاهر الأمر ولا يكفي المستدل في إفساد الوصف الذي أبرزه المعترض أن يبين كونه منتقضا بل يوجد بدون الحكم لأن الوصف المذكور يجوز أن يكون جزء العلة أو شرطا لها فلا يستقل بالحكم ولا يلزم من عدم استقلاله صحة علة المستدل بدونه فلو قال المستدل علة الربا في البر الكيل فعارضه المعترض بالطعم فنقضه المستدل بالماء أو(1/169)
غيره مما يطعم ولا ربا فيه لم يكفه ذلك في بطلان كون الطعم علة لجواز أن يكون جزء علة الربا بأن تكون العلة مجموع الكيل والطعم أو شرطا فيها فتكون علة الربا الكيل بشرط أن يكون المكيل مطعوما وحينئذ لا يلزم من بطلان كون الطعم علة مستقلة أن يكون الكيل علة صحيحة لجواز أن يكون الطعم جزءها أو شرطها والفرق بين النقض وبين بقاء الحكم مع صدق الوصف حيث كان مبطلا له دون النقض هو أن بقاء الحكم مع عدم الوصف يدل على أنه غير مؤثر ولا يعتبر في الحكم علة ولا جزء علة ولا شرطا إذ لو اعتبر فيه بأحد هذه الوجوه لما وجد بدونه أصلا بخلاف وجود الوصف بدون الحكم فإنه لا يدل على عدم اعتباره في الحكم بوجه من الوجوه. وأيضا لا يفسد الوصف الذي أبداه المعترض بقول المستدل إني لم أعثر بعد البحث على مناسبة علتك أيها المستدل فيتعارض الكلامان ويقف المستدل. وإذا أتفق خصمان على فساد علة غيرهما في الحكم المتنازع فيه ثم أفسد أحدهما علة الآخر مثل أن يتفق الحنبلي والشافعي على أن ما عدا الكيل والطعم علة فاسدة ثم نقض الشافعي علة الكيل بالماء إذ هو مكيل ولا ربا فيه ففي كون ذلك مصححا قولان فقال بعض المتكلمين يكون ذلك مصححا وصحح في الروضة وغيرها خلاف هذا.
النوع الثالث: من أنواع إثبات العلة بالاستنباط إثباتها بالدوران وهو ترتب حكم على وصف وجودا وعدما ويفيد العلة ظنا عند جمهور أصحابنا والشافعية والمالكية وبعض الحنفية وقيل قطعا ثم إنه قد يكون في محل واحد كالإسكار في العصير فإن العصير قبل أن يوجد الإسكار كان حلالا فلما حدث الإسكار حرم فلما زال الإسكار وصار خلا صار حلالا فدار التحريم مع الإسكار وجودا وعدما وأما في محلين كالطعم في تحريم الربا فإنه لما وجد الطعم في التفاح كان ربويا ولما لم يوجد في الحرير مثلا لم يكن ربويا فدار جريان الربا مع الطعم. وهذا المثال إنما يجري على قول من يقول إن علة الربا الطعم وكقولهم في وجوب الزكاة في حلي الاستعمال المباح العلة الموجبة للزكاة في كل من النقدين كونه أحد الحجرين لأن وجوب الزكاة دار مع كونه أحد الحجرين ولا زكاة فيه. قال الطوفي لكن الدوران في صورة أقوى منه في صورتين على ما هو مدرك ضرورة أو نظرا ظاهرا انتهى. والفرق بينه وبين الطرد أن الطرد عبارة عن المقارنة في الوجود دون العدم والدوران عبارة عن المقارنة في الوجود والعدم ولما بينا(1/170)
الطرق الدالة على صحة العلة أخذنا نبين الطرق الفاسدة التي لا تدل على صحتها وذلك في أمور:
أولها : اطراد العلة لا يدل على صحتها لأن معنى اطرادها سلامتها عن النقص وهو بعض مفسداتها أو سلامتها عن مفسد واحد لا ينبغي بطلانها بمفسد آخر ككونها قاصرة أو عدمية أو طردية غير مناسبة عند من لا يرى التعليل بذلك.
ثانيها : الاستدلال على صحتها باقتران الحكم وهذا فاسد أيضا لأن الحكم يقترن بما يلازم العلة وليس بعلة كاقتران تحريم الخمر بلونها وطعمها وريحها وإنما العلة الإسكار.
ثالثها : ما ذكره الغزالي وهو اطرادها وانعكاسها وهذا مبني على أن الدوران لا يفيد العلية وهذا ممنوع إذ التحقيق أنه يفيد العلية.
خاتمة : إذا كان الوصف المصلحي المناسب يستلزم أو يتضمن مفسدة مساوية لمصلحته أو راجحة عليها فقال الموفق والفخر والمجد وابن الجوزي والرازي والبيضاوي لم تنخرم مناسبته
وقال الآمدي وأتباعه. تنخرم والمختار الأول لأن معارضة ضد الشيء له لا تبطل حقيقته وكذلك المفسدة إذا عارضت المصلحة لا تبطل حقيقتها نعم قد يخفى أثرها ويمنع اعتبارها بالعرض إذا ساوتها أو رجحت عليها كما تقدم في مباحث الاستصلاح والمصلحة المرسلة ومن أمثلة ذلك أن يقال في القمار له نفع وهو تكثير المال وله مفسدة وهي أكل مال الغير بالباطل وهو تجارة محرمة كالربا فإن مثل هذا تتبع فيه المصلحة.
فصل : وأما قياس الشبه وسماه كثير من أصحابنا بإثبات العلة بالشبه وهو من جملة مسالك العلة وعرفوه بأنه تردد فرع بين أصلين شبهه بأحدهما في الأوصاف أكثر من الآخر فإلحاق الفرع بأحد الأصلين الذي شبهه به أكثر هو قياس الشبه ولا يكونان أصلين لهذا الفرع حتى يكون فيه مناط كل منهما. مثال ذلك المذي فإنه متردد بين البول والمني. فمن قال بنجاسته قال هو خارج من الفرج لا يخلق منه الولد ولا يجب الغسل به أشبه البول ومن قال بطهارته قال هو خارج تخللته الشهوة وخرج أمامها(1/171)
فأشبه المني. واعلم إنك إذا تفقدت مواقع الخلاف من الأحكام الشرعية وجدتها نازعة إلى قاعدة قياس الشبه إذ إن مسائل الخلاف تجد غالبها واسطة بين طرفين تنزع إلى كل واحد منهما بضرب من الشبه فيجذبها أقوى الشبهين إليه فإن وقع في ذلك نزاع فليس في هذه القاعدة بل في أي الطرفين أشبه بها حتى يلحق به ويصح التمسك بقياس الشبه لأنه يثير الظن وذهب القاضي أبو يعلى إلى أنه لا يصح التمسك به وإذا صح ذلك فالمعتبر فيه الشبه الحكمي كأن يقال شبه العبد بالبهيمة في كونهما مملوكين والملك أمر. حكمي ولا يعتبر على الصحيح الشبه الحقيقي كأن يقال شبه العبد بالحرفي كونهما آدميين وهو وصف حقيقي ولا ينظر أيضا إلى ما يغلب على الظن أنه مناط الحكم منهما كأن يقال إننا ننظر في البنت المخلوقة من الزنا فنجدها من حيث الحقيقة ابنته لأنها خلقت من مائه ومن حيث الحكم أجنبية منه لكونها لا ترثه ولا يرثها ولا يتولاها في نكاح ولا مال ويحد بقذفها ويقتل بها ويقطع بسرقة مالها. فنحن ألحقناها ببينة في النكاح في تحريم نكاحها عليه نظرا إلى المعنى الحقيقي وهو كونها من مائه والشافعي ألحقها بالأجنبية في إباحتها له نظرا إلى المعنى الحكمي وهو انتفاء آثار الولد بينهما شرعا فقد صار كل من الفريقين إلى اعتبار الوصف الذي غلب على ظنه أنه مناط الحكم في الأصل والحق أن هذا النوع معتبر لأن الظن واجب الاتباع وهو غير لازم أبدا للشبه حكما ولا للشبه حقيقة بل يختلف باختلاف نظر المجتهدين فيلزم كل واحد منهما تارة ولا يلزمه تارة أخرى لكن لا يصار إلى قياس الشبه مع إمكان قياس العلة اتفاقا وحكاه ابن الباقلاني في التقريب إجماعا فإن عدم إمكان قياس العلة كان قياس الشبه حجة عندنا وعند الشافعية.
فصل : اعلم أن القياس من حيث التأثير والمناسبة وعدمها ينقسم إلى المناسب والشبهي والطردي كما سبق ومن حيث التصريح بالعلة وعدمها ينقسم إلى قياس العلة وقياس الدلالة والقياس في معنى الأصل فقياس العلة هو الجمع بين الأصل والفرع بعلته كالجمع. بين النبيذ والخمر بعلة الإسكار والقياس في معنى الأصل هو ما لا فارق فيه بين الأصل والفرع أو كان بينهما فارق لا أثر له. مثال الأول قياس الماء الذي صب فيه البول من إناء على الماء الذي بال فيه شخص. ومثال الثاني قياس الأمة على العبد في سراية العتق وإلغاء فارق الذكورية ثم إن هذا القياس ينقسم إلى قطعي كما ذكرناه وإلى(1/172)
ظني كقياس إضافة الطلاق إلى جزء معين على إضافته إلى جزء شائع كقياس قوله يدك طالق على قوله نصفك أو ثلثك أو ربعك طالق لأن هذا جزء وهذا جزء إذ الفرق في هذا يحتمل التأثير بأن الجزء الشائع جعل محلا للحكم الشرعي كالبيع والرهن فلا يبعد أن يكون محلا للطلاق بخلاف المعين بخلاف الفرق في القسم الأول فإن تأثيره لا يظهر. وأما قياس الدلالة فإنه الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة كقولنا في إجبار البكر جاز تزويجها ساكتة فجاز تزويجها ساخطة كالصغيرة لأن جواز تزويجها ساكتة يدل على عدم اعتبار رضاها إذا لو اعتبر رضاها لاعتبر نطقها الدال عليه لكن نطقها لم يعتبر فدل على أن رضاها لا يعتبر وإذا لم يعتبر رضاها جاز تزويجها وإن سخطت إذ من لم يعتبر رضاؤه في أمر لا فرق بين وقوع الأمر على وفق اختياره أو خلافه كالمرأة لما لم يعتبر رضاها في الطلاق جاز عدمه في حقها باستمرارها على النكاح ووجوده بقطع نكاحها به فقد جمع في هذا القياس بين الصغيرة والبكر الكبيرة بدليل عدم اعتبار رضاهما وهو تزويجهما ساكتتين فهو قياس دلالة ذلك وهذا النوع يقال له الاستدلال بالحكم على العلة.
ولقياس الدلالة نوع آخر وهو الاستدلال بأحد أثري المؤثر على الآخر كقولنا القطع والغرم يجتمعان على السارق إذا سرق عينا فبانت في يده قطع بها وغرم قيمتها لأنها عين يجب ردها مع بقائها فوجب ضمانها مع فواتها كالمغصوب لأن وجوب ردها مع بقائها دل على وجود علة وجوب الرد إذ الواجب لا بد له من علة والضمان عند التلف رد لها من حيث المعنى وتلك العلة تناسبه وقد ظهر اعتبارها في الأصل وهو المغصوب والعلة في ذلك إقامة العدل برد الحق أو بدله إلى مستحقه وبالجملة أن قياس الدلالة تارة يكون استدلالا بأثر العلة المفرد عليها بلا واسطة كما في القسم الأول وتارة يستدل بأحد أثريها عليها بواسطة الأثر الآخر.
تنبيه : لما كانت العلة الشرعية أمارة جاز أن تكون وصفا عارضا كالشدة في الخمر هي علة التحريم وهي وصف عارض لأنه عرض للعصير بعد أن لم يكن وجاز أن تكون وصفا لازما كالنقدية في الذهب والفضة وكالصغر وأن تكون فعلا كالقتل والسرقة في تعليل القصاص والقطع وأن تكون حكما شرعيا نحو تحرم الخمر فلا يصح بيعها كالميتة(1/173)
فالعلة الجامعة بينهما التحريم وهو حكم شرعي علل به حكم شرعي وهو فساد البيع وأن تكون وصفا مفردا كقولنا في اللواط زنا فأوجب الحد كوطء المرأة وأن تكون وصفا مركبا كقولنا قتل عمد عدوان فأوجب القصاص كالمثقل فالعلة مركبة من ثلاثة أوصاف وأن تكون وصفا مناسبا كالقتل والسرقة والقذف والردة والسكر لأحكامها. ووصفا غير مناسب كالردة وأكل لحم الجزور ومس الفرج مع عدم الشهوة. لنقض الوضوء. ووصفا وجوديا كقولنا جاز بيعه فجاز رهنه. ووصفا عدميا كقولنا لا يحوز بيعه فلا يجوز رهنه. وجاز أن تكون العلة في غير محل حكمها كتحريم نكاح الأمة لعلة رق الولد فإن رق الولد وصف قائم به أو معنى إضافي بينه وبين سيده وتحريم نكاح الأمة وصف قائم بالنكاح أو معنى إضافي إليه. ويجوز تعليل الحكم بمحله كتعليل تحريم الخمر بكونه خمرا وتعليل الربا في البر بكونه برا والحاصل أن العلة يجوز أن تكون مركبة من أوصاف لا تنحصر خلافا لمن حصرها في خمسة أو سبعة.
واعلم أن القياس يجري في الأسباب والكفارات والحدود كإثبات كون اللواط سببا للحد قياسا على الزنا. ثم اعلم أن النفي على قسمين أصلي وهو ما لم يتقدمه ثبوت كنفي صلاة سادسة ونفي صوم شهر غير رمضان فهذا يجري فيه قياس الدلالة وهو الاستدلال بانتفاء حكم شيء على انتفائه عن مثله ولا يجري فيه قياس العلة. والثاني النفي الطارىء كبراءة الذمة من الدين بعد ثبوته فيها فهذا يجري فيه القياسان قياس الاستدلال وقياس العلة. فمثال الأول أن يقال من خواص براءة الذمة من الدين أن لا يطالب بعد أدائه ولا يرتفع إلى الحاكم ولا يحبس به وكل هذه الخواص موجودة فدل على وجود براءة الذمة. ومثال الثاني أن يقال علة براءة الذمة من دين الآدمي أداؤه والعبادات هي دين لله عز وجل فليكن أداؤها علة البراءة منها.
فصل: في الأسئلة الواردة على القياس الأسئلة. في هذا المقام يراد بها أحد شيئين:
أحدهما : كونها من مستفيد يقصد معرفة الحكم خالصا مما يرد عليه.
والثاني : كونها من معاند يقصد قطع خصمه ورده إليه وأكثر المصنفين في أصول الفقه لم يذكروا هذه الأسئلة في كتبهم ثم إن منهم من اعتذر عن تركها بأنها ليست من(1/174)
مباحث الأصول وإنما هي كالعلاوة عليه وأن موضع ذكرها فن الجدل وهذا اعتذار الغزالي في المستصفى ومنهم من ذكرها لأنها من مكملات القياس الذي هو من أصول الفقه ومكمل الشيء من ذلك الشيء ولهذه الشبهة أكثر قوم من ذكر المنطق والعربية والأحكام الكلامية لأنها من مواده ومكملاته ونحن نذكرها هنا إتماما للفائدة وتكميلا للمقصود فنقول:
اختلف في عدد هذه الأسئلة المعبر عنها بالقوادح فقال موفق الدين المقدسي في كتابه روضة الناظر وجنة المناظر قال بعض أهل العلم يتوجه على القياس اثنا عشر سؤالا هذا كلامه وعدها ابن مفلح في أصوله وابن الحاجب خمسة وعشرين ونحن نسلك في كتابنا هنا مسلك موفق الدين والأكثر في عددها وإليك البيان. أولها الاستفسار وهو طليعة للقوادح كطليعة الجيش لأنه المقدم على كل اعتراض وحقيقته طلب معنى لفظ المستدل لإجماله أو غرابته لأنه لا يسمع إذا كان في ذلك اللفظ إجمال أو غرابة وإلا فهو تعنت مفوت لفائدة المناظرة إذ يأتي في كل لفظ يفسر به لفظ ويتسلسل وعلى المعترض بيان إجماله. مثاله أن يقول المستدل المطلقة تعتد بالإقراء فيقال له الأقراء لفظ مجمل يحتمل الحيض والطهر فأي المعنيين تعني فإذا قال أعني الحيض أو أعني الطهر أجيب حينئذ بحسب ذلك من تسليم أو منع أو بيان غرابته. أما من حيث الوضع فمثاله في الكلب المعلم يأكل من صيده أن يقال أيل لم يرض فلا تحل فريسته كالسيد أي الذئب فيقال ما الأيل ما معنى لم يرض وما الفريسة وما السيد وأما من حيث الاصطلاح كأن يذكر في القياسات الفقهية لفظ الدور أو التسلسل أو الهيولي أو المادة أو المبدأ أو الغاية نحو أن يقال في شهود القتل إذا رجعوا عن الشهادة لا يجب القصاص لأن وجوبه تجرد مبداه من غاية مقصوده فوجب أن لا يثبت وما أشبه ذلك من اصطلاح المتكلمين وإنما يكون ذلك ما لم يعرف من حال خصمه أنه يعرف ذلك. أما إذا كان خصمه عارفا بهذه الاصطلاحات فلا غرابة حينئذ بالنسبة إليه لأن الغرابة أمر نسبي لا أمر حقيقي ولا يلزم المعترض إذا بين كون اللفظ محتملا بيان تساوي الاحتمالات فلو التزمه تبرعا وقال وهما متساويان لأن التفاوت يستدعي ترجيحا بأمر والأصل عدم المرجح لكان جيدا وفاء بما التزمه أولا. وجواب المستدل عن الاستفسار إما بمنع احتماله للإجمال أو يبيان ظهور اللفظ في مقصوده بنقل من اللغة أو عرف أو(1/175)
قرينة أو تفسيره إن تعذر إبطال غرابته ولو قال المستدل يلزم ظهوره في أحد المعنيين دفعا للإجمال وفيما قصد به لعدم ظهوره في الآخر اتفاقا مني ومنك كفى في الأصح بناء على المجاز أولى ولا يعتد بتفسيره بما لا يحتمله اللفظ لغة.
فائدة : نقل الطوفي عن صاحب كتاب الإفصاح في خلق الإنسان مثالا لطيفا لهذا النوع فقال كما حكى عن اليهود أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح وهو لفظ مشترك بين القرآن وجبريل وعيسى وملك يقال له الروح وروح الإنسان الذي في بدنه ليغلطوه بذلك يعني إن قال لهم الروح ملك قالوا له بل هو روح الإنسان أو قال الإنسان قالوا بل هو ملك أو غيره من مسميات الروح فعلم الله مكرهم فأجابهم بجواب مجمل كسؤالهم بقوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] وهو يتناول المسميات الخمسة وغيرها وهذا هو سبب الإجمال في مسمى الروح لا كون حقيقتها غير معلومة للبشر إذ قد دلت قواطع الشرع على جسميتها والحاصل أن سؤال اليهود عن الروح كان على سبيل المغالطة لا على سبيل الاحتياط.
ثانيها : فساد الاعتبار وهو أن يكون القياس مخالفا للنص أو الإجماع وسمي بهذا الاسم لأن اعتبار القياس مع النص أو الإجماع اعتبار له مع دليل أقوى منه وهو اعتبار فاسد وظلم لأنه وضع له في غير موضعه. مثال ما خالف الكتاب نصا قولنا يشترط تبييت النية لرمضان لأنه مفروض ولا يصح تبييته من النهار كالقضاء فيقال هذا فاسد الاعتبار لمخالفته نص الكتاب وهو قوله تعالى: {الصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} إلى قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 35] فإنه يدل على أن كل من صام يحصل له الأجر العظيم وذلك مستلزم للصحة وهذا قد صام فيكون صومه صحيحا. ومثال ما خالف السنة قولنا لا يصح السلم في الحيوان لأنه عقد مشتمل على الغرر فلا يصح كالسلم في المختلطات فيقال هذا فاسد الاعتبار لمخالفته ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص في السلم. ومثال ما خالف الإجماع أن يقال لا يجوز أن يغسل الزوج زوجته لأنه يحرم النظر إليها فحرم غسلها كالأجنبية فيقال له هذا فاسد الاعتبار لمخالفته الإجماع السكوتي وهو أن عليا غسل فاطمة ولم ينكر عليه والقضية في مظنة الشهرة فكان ذلك إجماعا فإذا أراد المستدل الجواب عن فساد الاعتبار إما بالطعن بالنص كأن يقول في(1/176)
الصوم: لا نسلم أن الآية تدل على صحة الصوم بدون تبييت النية لأنها مطلقة وقيدناها بحديث "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" أو يقول: إنها دلت على أن الصيام يثاب عليه وأنا أقول به لكنها لا تدل على أنه لا يلزمه القضاء والنزاع فيه أو يقول إنها دلت على ثواب الصائم وأنا لا أسلم أن الممسك بدون تبييت النية صائم وكأن يقول في مسألة السلم لا نسلم صحة الترخص في السلم وإن سلمنا فلا نسلم أن اللام للاستغراق فلا يتناول الحيوان وإن صح السلم في غيره وكأن يقال في غسل الزوجة إني أمنع صحة ذلك عن علي وإن سلم فلا أسلم أن. ذلك اشتهر وإن سلم فلا أسلم أن الإجماع السكوتي حجة وإن سلم فالفرق بين علي وغيره أن فاطمة كانت زوجته في الدنيا والآخرة. فالموت لم يقطع النكاح بينهما بإخبار الصادق بخلاف غيرهما فإن الموت يقطع بينهما. وإما أن يكون الجواب بأن يبين المستدل أن ما ذكره من القياس يستحق التقديم على ذلك النص لكونه حنفيا يرى تقديم القياس على النص الذي أبداه المعترض إما لكون النص ضعيفا فيكون القياس أولى منه أو لكون النص عاما فيكون القياس مخصصا له جمعا بين الدليلين أو لكون مذهب المستدل يقتضي تقديم القياس على الخبر إذا خالف الأصول أو فيما تعم به البلوى. ومالكا يرى تقديم القياس على الخبر إذا خالفه خبر الواحد وبالجملة للمستدل الاعتراض على النص الذي يبديه المعترض بجميع ما يعترض به على النصوص سندا ومتنا.
ثالثها : فساد الوضع: وهو افتضاء العلة نقيض ما علق بها وإنما سمي هذا فساد الوضع لأن وضع الشيء جعله في محل على هيئة أو كيفية ما فإذا كان ذلك المحل أو تلك الهيئة لا تناسبه كان وضعه على خلاف الحكمة وما كان على خلاف الحكمة يكون فاسدا فيقال ههنا إن العلة إذا اقتضت نقيض الحكم المدعى أو خلافه كان ذلك مخالفا للحكم إذ من شأن العلة أن تناسب معلولها لا أنها تخالفه فكان ذلك فاسد الوضع بهذا الاعتبار فما علق فيه على العلة ضد ما تقتضيه قولنا في النكاح بلفظ الهبة لفظ ينعقد به غير النكاح فلا ينعقد به النكاح كلفظ الإجازة فيقول الحنفي هذا فاسد الوضع لأن انعقاد غير النكاح بلفظ الهبة يقتضي ويناسب انعقاد النكاح به لكن تأثيره في انعقاد غير النكاح به وهو الهبة دليل على أن له حظا من التأثير في انعقاد العقود والنكاح عقد فلينعقد به كالهبة ويلتزم عليه الإجارة أو يفرق بينهما وبين الهبة والنكاح إن أمكن ومن(1/177)
أمثلته أن يقول شافعي في تكرار مسح الرأس مسح فيسن فيه التكرار كالمسح في الاستجمار فيقال قياسك هذا فاسد الوضع لأن كونه مسحا مشعر بالتخفيف ومناسب له والتكرار مناف له. والجواب عن هذا النوع يكون بأحد أمرين إما بأن يمنع المستدل كون علته تقتضي نقيض ما علق بها أو بأن يسلم ذلك لكن يبين أن اقتضاءها للمعنى الذي ذكره أرجح من المعنى الآخر فيقدم رجحانه. مثاله أن يقول في مسألة النكاح بلفظ الهبة لا نسلم أن انعقاد الهبة بلفظها أو كون لفظ الهبة ينعقد به غير النكاح يقتضي انعقاد النكاح به قولكم انعقاد غير النكاح يدل على قوته وتأثيره في العقود. قلنا إنما يدل على تأثيره فيما وضع له وهو الهبة أما غيره فلا وذلك لوجوه:
أولها : أن تأثيره إنما يناسب أن يكون مستعملا فيما وضع له لإشعاره بخواصه ودلالته عليها بحكم الوضع والنكاح والبيع والإجارة لها خواص لا يشعر بها لفظ الهبة فيضعف عن إفادتها والتأثير في انعقادها به.
ثانيها : إن استعمال اللفظ في غير موضوعه مجاز وهو ضعيف بالنسبة إلى الحقيقة والأصل عدم التجوز.
ثالثها : إن قوة اللفظ وسلطانه وظهور دلالته إنما تكون إذا استعمل في موضوعه فاستعماله في غير ما وضع له تفريق لقوته فهو كالتغريب له عن مواطنه فيضعف بذلك عن التأثير سلمنا أن انعقاد غير النكاح بلفظ الهبة يقتضي انعقاد النكاح به لكن اقتضاؤه لعدم انعقاده أقوى من اقتضائه لانعقاده لأن انعقاد النكاح بلفظ الهبة يقتضي أن اللفظ مشترك بينهما أو مجاز في النكاح عن الهبة والمجاز والاشتراك خلاف الأصل وما ذكرناه يقتضي نفيهما وتخصيص كل عقد بلفظ هو وفق الأصل وما وافق الأصل يكون أولى مما خالفه وعلى هذا النمط يكون الجواب في غير هذا المثال.
واعلم أن بعض الأصوليين توهم أن فساد الوضع نقض خاص وليس الأمر كذلك والتحقيق أن فساد الوضع يشتبه بأمور ويخالفها بوجوه فمنه أنه يشبه النقض من حيث إنه بين فيه ثبوت نقيض الحكم مع الوصف إلا أن فيه زيادة وهو أن الوصف هو الذي يثبت النقيض وفي النقض لا يتعرض لذلك بل يقنع فيه بثبوت نقيض الحكم مع الوصف فلو قصد به ذلك لكان هو النقض ومنه أنه يشبه القلب من حيث إنه إثبات نقيض الحكم بعلة(1/178)
المستدل إلا أنه يفارقه بشيء وهو أن في القلب يثبت نقيض الحكم بأصل المستدل وهذا يثبت بأصل آخر فلو ذكره بأصله لكان هو القلب. ومنه أنه يشبه القدح في المناسبة من حيث ينفي مناسبة الوصف للحكم لمناسبته لنقيضه إلا أنه لا نقصد ههنا بيان عدم مناسبة الوصف للحكم بل بناء نقيض الحكم عليه في أصل آخر فلو بين مناسبته لنقيض الحكم بلا أصل كان قدحا في المناسبة.
واعلم أنه إنما يعتبر القدح في المناسبة إذا كان مناسبته للنقيض وللحكم من وجه واحد وأما إن اختلف الوجهان فلا لأن الوصف قد يكون له جهتان يناسب بأحدهما الحكم وبالأخرى نقيضه مثاله كون المحل مشتهى يناسب إباحة النكاح لإراحة الخاطر ويناسب التحريم لإراحة الطمع ومثال آخر من العرفيات الملك إذا ظفر بعدوه فإنه مناسب لقتله نفيا لعاديته وللإبقاء عليه والرد إلى ولايته إظهارا للقدرة وعدم المبالاة بمثله وكلاهما مما يقصده العقلاء وقد تلخص مما ذكرنا أن ثبوت النقيض مع الوصف نقض فإن زيد ثبوته به ففساد الوضع وإن زيد كونه به وبأصل المستدل فقلب وبدون ثبوته معه فالمناسبة من جهة واحدة قدح فيها ومن جهتين لا يعتبر.
رابعها : المنع: وهو على أربعة أضرب. أولها : منع حكم الأصل. الثاني : منع وجوب الوصف الذي ادعى المستدل أنه العلة في الأصل. الثالث : منع كونه علة في الأصل. الرابع: منع وجوده في الفرع. ومثال ذلك فيما إذا قلنا النبيذ مسكر فكان حراما قياسا على الخمر. فقال المعترض لا نسلم تحريم الخمر إما جهلا بالحكم أو عنادا. فهذا منع حكم الأصل ولو قال لا أسلم وجود الإسكار في الخمر لكان هذا منع وجود المدعي علة في الأصل ولو قال لا أسلم أن الإسكار علة التحريم لكان هذا منع علية. الوصف في الأصل. ولو قال لا أسلم وجود الإسكار في النبيذ لكان منع وجود العلة في الفرع ففي الأصل ثلاثة ممنوع وفي الفرع منع واحد.
واعلم أن المستدل لا ينقطع بمنع حكم الأصل على الصحيح وإنما ينقطع إذا ظهر عجزه عن إثباته بالدليل.
خامسها : التقسيم: هو احتمال لفظ المستدل لأمرين فأكثر على السواء بعضها ممنوع وذلك الممنوع هو الذي يحصل به المقصود وإلا لم يكن للتقسيم معنى فيمنعه(1/179)
إما من السكوت عن الآخر لأنه لا يضره أو مع التعرض لتسليمه أو لأنه لا يضره وهذا السؤال لا يخص الأصل بل كما يجري فيه يجري في جميع المقدمات التي تقبل المنع وقد منع قوم من قبول هذا السؤال وهو وارد عندنا وعند الأكثر لكن بشرط وهو أن يكون منعا لما يلزم المستدل بيانه. مثاله في الصحيح الحاضر إذا فقد الماء وجد سبب وجود التيمم وهو تعذر الماء فيجوز التيمم فيقول المعترض ما المراد بتعذر الماء أردت أن تعذر الماء مطلقا سبب أو أن تعذر الماء في السفر أو المرض سبب الأول ممنوع وحاصله أنه منع بعد تقسيم فيأتي فيه ما تقدم في صريح المنع من الأبحاث من كونه مقبولا قطعا وكيفية الجواب عنه. مثال آخر لا يشتمل على شرط القبول وهو أن يقول في مسألة القتل العمد والعدوان سبب القصاص فيقول المعترض متى هو سبب أمع مانع الالتجاء إلى الحرام أو دونه الأول ممنوع وإنما لم يقبل لأن حاصله أن الالتجاء إلى الحرم مانع من القصاص فكان مطالبته ببيان عدم كونه مانعا والمستدل لا يلزمه بيان عدم المانع. فإن الدليل ما لوجود النظر إليه أفاد الظن إنما بيان كونه مانعا على المعترض ويكفي المستدل أن يقول إن الأصل عدم المانع. واشترط الطوفي وغيره لقبول التقسيم شروطا ثلاثة:
أحدها : أن يكون ما ذكره المستدل مما يصح انقسامه إلى ما يجوز منعه وتسليمه مثاله أن يقول المستدل في نذر صوم النحر أنه نذر معصية فلا ينعقد قياسا على سائر المعاصي فيقول المعترض هو معصية لعينه أو لغيره. الأول ممنوع لأن الصوم لعينه قربة وعبادة فكيف يكون معصية والثاني مسلم لكن لا يقتضي البطلان بخلاف سائر المعاصي.
ثانيها : أن يكون التقسيم حاصرا لجميع الأقسام التي يحتملها لفظ المستدل كما ذكر من انحصار المعصية في كونها لعينها أو لغيرها وانحصار الصلاة في كونها فرضا أو نفلا فإن لم يكن التقسيم حاصرا لم يصح لجواز أن ينهض القسم الباقي الخارج عن الأقسام التي ذكرها المعترض بغرض المستدل وحينئذ ينقطع المعترض. ومثاله أن يقال الوتر ليس بفرض لأنه إما فرض أو نفل فالأول باطل فتعين الثاني فيقول المعترض لا فرض ولا نفل بل واجب.(1/180)
ثالثها : أن لا يورد المعترض في التقسيم زيادة على ما ذكره المستدل في دليله فإن زاد في التقسيم على ما ذكره المستدل لم يصح لأنه حينئذ يكون مناظرا لنفسه لا للمستدل حيث ذكر ما لم يذكره المستدل وجعل يتكلم عليه وإنما وظيفة المعترض هدم ما بينه لا بناء زيادة عليه. مثاله أن يقول الحنفي في قتل الحر بالعبد قتل عمل عدوان فأوجب القصاص قياسا على الحر بالحر فيقال له قتل عمد عدوان في رقيق أو غير رقيق فهذا تقسيم مردود لأن دليل المستدل لم يتعرض للرقيق.
سادسها : سؤال المطالبة: وهو أن يطلب المعترض من المستدل الدليل على أن الوصف الذي جعله جامعا بين الأصل والفرع علة وهو من أعظم الأسئلة العمومية في الأقيسة وتشعب مسالكه والمختار قبوله وإلا لأدى إلى التمسك بكل طرد فيؤدي إلى اللعب فيضيع القياس إذ لا يفيد ظنا وتكون المناظرة عبثا. مثاله أن يقول مسكر فكان حراما كالخمر أو مكيل فحرم فيه التفاضل كالبر لم قلت إن الإسكار علة التحريم وإن الكيل علة الربا ولم قلت إن التبديل علة القتل فيما إذا قال إنسان بدل دينه فقتل كالرجل وهذا النوع يتضمن تسليم الحكم لأن العلة فرع الحكم في الأصل لاستنباطها منه والحكم أصل لها فمنازعته المعترض في الفرع الذي هو العلة يشعر بتسليم الأصل الذي هو الحكم ويتضمن تسليم الوصف في الفرع والأصل لأنه يسأل عن كونه علة وذلك فرع على الوصف في نفسه في الأصل والفرع إذ لو لم يكن ذلك لكان منعه وجود الوصف أولى به وأجدى عليه. ثم إن هذا النوع ثالث المنوع المتقدمة وذلك أن قولنا مثلا النبيذ مسكر فكان حراما كالخمر يرد عليه أربعة منوع منع حكم الأصل بأن يقال لا نسلم تحريم الخمر. ثم منع وجود الوصف كأن يقال فيه لا نسلم وجود الإسكار فيه ثم منع كونه علة بأن يقال لا نسلم كونه علة. ثم منع وجوده في الفرع بأن يقال لا نسلم وجود الإسكار في النبيذ.
واعلم أن العادة بين علماء الجدل أن المعترض يبتدىء بالمنوع على الترتيب الذي ذكرناه فلا ينقل إلى منع إلا وقد سلم الذي قبله انقطاعا أو تنزلا.
سابعها : النقض: وهو ثبوت العلة وهي الوصف في صورة مع عدم الحكم فيها كأن يقال في النباش: سرق نصابا كاملا من حرز مثله فيجب عليه القطع كسارق مال الحي(1/181)
فيقال هذا ينتقض بالوالد يسرق مال والده وصاحب الدين يسرق مال مديونه فإن الوصف موجود فيهما ولا يقطعان واختلف في بطلان العلة بالنقض والأرجح عدم البطلان ويجب احتراز المستدل في دليله عن صورة النقض على الأصح كأن يقول في المثال المذكور سرق نصابا كاملا من حرز مثله وليس أبا ولا مديونا للمسروق منه فيلزمه القطع ولا نزاع في استحباب هذا الاحتراز وإنما النزاع في وجوبه ودفعه إما بمنع وجود العلة أو الحكم في صورته مثال الأول أن يقول الحنفي في قتل المسلم بالذمي قتل عمد عدوان فيجب القصاص كما في المسلم بالمسلم فيقال له ينتقض بقتل المعاهد فإنه قتل عمد عدوان ولا يقتل به المسلم فيقول لا أسلم أنه عدوان فيندفع النقيض بذلك إن ثبت له. ومثال الثاني أن يقال في المثال المذكور لا أسلم الحكم في المعاهد فإن عندي يجب القصاص بقتله ويكفي المستدل قوله لا أعرف الرواية فيها وليس للمعترض أن يدل على ثبوت العلة أو الحكم إذا منعهما المستدل في صورة النقض لأنه انتقال عن محل النظر وغصب لمنصب المستدل حيث ينقلب المعترض مستدلا. وليس له أيضا أن يبين في صورة النقض وجود مانع أو انتفاء شرط تخلف الحكم لأجله في صورة النقض كما إذا أورد المعترض قتل الوالد ولده على علة القتل العمد العدوان فقال المستدل تخلف الحكم لمانع الأبوة. ومثال انتفاء الشرط ما إذا قال المستدل سرق نصابا كاملا ولا شبهة له فيه فقطع فأورد المعترض السرقة من غير حرز فقال المستدل لانتفاء شرط وهو الحرز ويسمع من المعترض نقض أصل خصمه فيلزمه العذر عنه لا أصل نفسه نحو هذا الوصف لا يطرد على أصلي فكيف يلزمني كما إذا قال الحنفي في قتل المسلم بالذمي إنه قتل عمد عدوان يوجب القصاص قياسا على المسلم بالمسلم فيقول الحنبلي هذا ينتقض على أصلك بما إذا قتله بالمثقل فإن الأوصاف موجودة والقصاص منتف عندك فله أن يعتذر عنه بأدنى عذر يليق بمذهبه ولا يعترض عليه فيه لأنه أعرف بمأخذه كأن يقول ليس ذلك قتلا وليس عمدا أو ما شاء من كلامهم وإن كان النقض متوجها من المعترض إلى أصل نفسه لم يقدح في علة المستدل ولم يلزمه العذر عنه وذلك كما إذا قال الحنبلي لا يقتل المسلم بالذمي لأنه كافر ولا يقتل به المسلم قياسا على الحربي فقال الحنفي هذا الوصف لا يطرد على أصلي إذ هو باطل بالمعاهد فإنه كافر ويقتل به المسلم عندي وإذا كان وصفك أيها المستدل غير مطرد عندي فكيف يلزمني فهذا لا يسمع منه على(1/182)
الصحيح. ومن الأجوبة عن النقض أن يبين المستدل أن صورة النقض واردة على مذهبه ومذهب خصمه كما إذا قال المستدل مكيل فحرم فيه التفاضل فأورد المعترض العرايا إذ هي مكيل وقد جاز فيه. التفاضل بينه وبين الثمر المبيع به على وجه الأرض فيقول المستدل هذا وارد علي وعليك جميعا فليس بطلان مذهبي به أولى من بطلان مذهبك وإذا نقض المعترض علة المستدل بصورة فأجاب المستدل عن ذلك بأحد الأجوبة المتقدمة إما منع العلة أو الحكم في صورة النقض أو يورد النقض على المذهبين أو غير ذلك فقال المعترض الدليل الذي دل على أن وصفك الذي عللت به في محل النزاع علة موجودة في صورة النقض فيلزمك الإقرار بثبوت الحكم فيها عملا بوجود الوصف المقتضى له لكنك لم تقل به فيلزمك النقض. ومثاله قول الحنفي في قتل المسلم بالذمي قتل عمد عدوان فأوجب القصاص كقتل المسلم فيقول الحنبلي لا أسلم أن قتل الذمي عدوان فيقول الحنفي الدليل عليه أنه معصوم بعهد الإسلام فيقول المعترض دليل العدوانية في قتل الذمي موجود في قتل المعاهد فليكن عدوانا يجب به القصاص على المسلم فهذا نقض لدليل العلة لا لنفس العلة فلا يسمع لأنه انتقال ويكفي المستدل في رده أدنى دليل يليق بأصله كأن يقول إنما لم أحكم بالعدوانية في المثال المتقدم لمعارض لي في مذهبي وهو أن الحربي المعاهد مفوت للعهد فالمقتضي لانتفاء القصاص فيه قوي موافق للأصل والمقتضي لإثباته ضعيف بخلاف الذمي فإن المقتضي لقتل المسلم به قوي لنابذ عهده وذمته فصار كالمسلم أو غير ذلك من الأعذار.
ثامنها : الكسر: وهو نقض المعنى وحاصله وجود المعنى في صورة مع عدم الحكم فيه. مثاله قول الحنفي في العاصي بسفره يترخص لأنه مسافر فيترخص كالمسافر سفرا مباحا فإذا قيل له لم قلت إنه يترخص قال لأنه يجد مشقة في سفره فناسب الترخص وقد شهد له الأصل المذكور بالاعتبار فيقول هذا ينكسر المكاري والفيج ونحوهما ممن دأبه السفر يجد المشقة ولا يترخص وحكم الكسر أنه غير وارد نقضا على العلة على الصحيح عند الأصوليين.
تاسعها : القلب وهو تعليق نقيض حكم المستدل على علته بعينها وهو أنواع: أولها : أن يكون مقصود المعترض بقلب الدليل تصحيح مذهب نفسه بأن يقول الحنفي في(1/183)
اشتراط الصوم للاعتكاف الاعتكاف لبث محض فلا يكون بمجرده قربة كالوقوف بعرفة فيقول المعترض الشافعي أو الحنبلي الاعتكاف لبث محض فلا يعتبر الصوم في كونه قربة كالوقوف بعرفة فكما أن الوقوف المذكور لا يشترط لصحته الصوم فكذلك الاعتكاف وهذا النوع لا تعرض فيه لإبطال مذهب الغير. ثانيها : قلب لإبطال مذهب خصمه من غير تعرض لتصحيح مذهب نفسه سواء كان الإبطال صريحا بأن يقول: الرأس ممسوح فلا يجب استيعابه كالخف فيقول المعترض دليلك هذا يقتضي أن لا يتقدر مسح الرأس بالربع كالخف ففي هذا الاعتراض نفي مذهب المستدل صريحا ولم يثبت مذهبه لاحتمال أن يكون الحق في غير ذلك وهو الاستيعاب كما هو قول أحمد ومالك أو كان الإبطال بطريق الالتزام بأن يقول الحنفي في بيع الغائب مثلا عقد معاوضة فينعقد مع جهل العوض أو مع الجهل بالمعوض كالنكاح فإنه يصح مع جهل الزوج بصورة الزوجة وكونه. لم يرها فكذلك في البيع بجامع كونهما عقد معاوضة فيقول الخصم هذا الدليل ينقلب بأن يقال عقد معاوضة فلا يعتبر فيه خيار الرؤية كالنكاح فإن الزوج إذا رأى الزوجة ولم تعجبه لم يجز له فسخ النكاح فكذلك المشتري لا يكون خيار إذا رأى المبيع في بيع الغائب بمقتضى الجامع المذكور فالمستدل لم يصرح ههنا بطلان مذهب المستدل لكنه دل على بطلانه ببطلان لازمه لأن ثبوت خيار الرؤية لازم لصحة بيع الغائب عندهم وحيث كان الأمر كذلك فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم. ثالثها: قلب المساواة كقول المستدل الخل مائع طاهر مزيل للخبث كالماء فيقول المعترض حينئذ يستوي فيه الحدث والخبث. رابعها: جعل المعلول علة والعلة معلولا من غير إفساد لها كقول أصحابنا في ظهار الذمي من صح طلاقه صح ظهاره وعكسه فالسابق منهما علة للثاني فيقول الحنفي اجعل المعلول علة والعلة معلولا. خامسها: قلب الاستبعاد مثاله لو ادعى اللقيط اثنان فأكثر للبينة ولم توجد قافة وقلنا إنه يترك حتى يبلغ فينتسب إلى من شاء ممن ادعاه فيعترض بأن يقال تحكيم الولد في النسب تحكم بلا دليل فيقال تحكيم القائف أيضا تحكم بلا دليل
سادسها: قلب الدليل على وجه يكون ما ذكره المستدل يدل عليه لا له كأن يستدل بحديث: "الخال وارث من لا وارث له" 1. فيقال
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الفرائض، باب: في ميراث ذوي الأرحام، والترمذي في كتاب الفرائض، باب: 12، وابن ماجه في كتاب الديات، باب: الدية على العاقلة فإن لم يكن عاقلة ففي بيت المال، والدارامي في كتاب الفرائض، باب: ميراث ذوي الأرحام، وأحمد في "م5/ص28"(1/184)
يدل على أنه لا يرث بطريق أبلغ لأنه نفي عام مثل الجوع زاد له من لا زاد والصبر حيلة من لا حيلة له وليس الجوع زادا ولا الصبر حيلة.
عاشرها : المعارضة: وهي على قسمين معارضة في الأصل ومعارضة في الفرع.
أما الأولى: فهي أن يبدي المعترض معنى آخر يصلح للعلية مستقلا أو غير مستقل بل جزءا.
أما المستقل فيحتمل أن يكون علة مستقلة دون الأول وأن يكون جزء علة فهو مع الأول علة مستقلة وعلى التقديرين فلا يحصل الحكم بالأول وحده. مثاله أن يعلل حرمة الربا بالطعم فيعارضه بالقوت أو بالكيل وأما غير المستقلة فيحتمل أن يكون جزء العلة فينفي استقلال الأول. مثاله أن يعلل القصاص في المحدد بكونه قتلا عمدا عدوانا فيعارضه بكونه بالجارح فإنه لما جاز أن تكون العلة الأوصاف المذكورة مع قيد كونه بالجارح لم يتعد إلى المثقل والحق أن هذه المعارضة مقبولة وهل يلزم المعترض بيان أن الوصف الذي أبديته منتف في الفرع أولا والمختار أنه إن تعرض لعدمه في الفرع صريحا لزمه بيانه وإلا فلا. وجواب المعارضة من وجوه منها منع وجود الوصف مثل أن يعارض القوت بالكيل. فيقول لا نسلم أنه مكيل لأن العبرة بعادة زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وكان حينئذ موزونا. ومنها المطالب بكون وصف المعارض مؤثرا بأن يقال ولم قلت إن الكيل مؤثر وهذا إنما يسمع من المستدل إذا كان مثبتا للعلة بالمناسبة أو الشبه حتى يحتاج المعارض في معارضته إلى بيان مناسبة أو شبه بخلاف ما إذا أثبته بالسبر فإن الوصف يدخل في السبر بدون ثبوت المناسبة بمجرد الاحتمال. ومنها بيان خفائه. ومنها عدم انضباطه. ومنها منع ظهوره. ومنها منع انضباطه. ومنها بيان أن الوصف عدم معارض في الفرع مثاله أن يقيس المكره على المختار في القصاص بجامع القتل فيقول المعترض معارض بالطواعية فإن العلة هي القتل مع الطواعية فيجيب المستدل بأن الطواعية عدم الإكراه المناسب لنقيض الحكم وهو عدم القصاص فحاصله عدم معارض وعدم المعارض طرد لا يصلح للتعليل لأنه ليس من الباعث في شيء. ومنها أن يبين(1/185)
كون وصف المعارض ملغي إذ قد تبين استقلال الباقي بالعلية في صورة ما بظاهر نص أو إجماع. مثاله إذا عارض في الربا الطعم بالكيل فيجيب بأن النص دل على اعتبار الطعم في صورة ما وهو قوله لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء هذا إذا لم يتعرض للتعميم فلو عمم وقال فثبت ربوية كل مطعوم لم يسمع لأن ذلك إثبات للحكم دون القياس لا تتميم القياس بالإلغاء والمقصود ذلك ولا يكفي إثبات الحكم في صورة دون وصف المعارض وذلك لجواز وجود علة أخرى ولأجل ذلك لو أبدى في صورة عدم وصف المعارضة وصفا آخر يخلفه لئلا يكون الباقي مستقلا ويسمى تعدد الوضع لتعدد أصلها. مثاله أن يقال في مسألة أمان العبد للحربي أمان من مسلم عاقل فيقبل كالحر لأنهما مظنتان لإظهار مصالح الإيمان فيعترض بالحرية فإنها مظنة الفراغ للنظر فيكون أكمل فيلغيها بالمأذون له في القتال فيقول خلف الأذن الحرية فإنها مظنة لبذل الوسع أو لعلم السيد بصلاحيته. وجوابه الإلغاء إلى أن يقف أحدهما ولا يفيد الإلغاء إذا كان المعنى ضعيفا إذا سلم وجود المظنة المتضمنة لذلك المعنى مثاله أن يقول الردة علة القتل فيقول المعترض بل مع الرجولية لأنه مظنة الإقدام على قتال المسلمين إذ يعتاد ذلك من الرجال دون النساء فيجيب المستدل بأن الرجولية وكونها مظنة الإقدام لا تعتبر والألم يقتل مقطوع اليدين لأن احتمال الإقدام فيه ضعيف بل أضعف من احتماله في النساء وهذا لا يقبل منه حيث سلم أن الرجولية مظنة اعتبرها الشارع وذلك كترفه الملك في السفر لا يمنع رخص السفر في حقه لقلة المشقة إذ المعتبر المظنة. وقد وجدت لا مقدار الحكمة لعدم انضباطها ولا يكفي أيضا أن يكون المعين راجحا ولا كونه متعديا.
مثال الأول: أن يقول المستدل في جواب المعارضة ما عنيته من الوصف راجح على ما عارضت به ثم يظهر وجها من وجوه الترجيح.
والثاني : أن يقول في جواب المعارضة: إن ما عينته أنا متعد وما عينته أنت قاصر فهذا غير كاف في جواب المعارضة إذ مرجعه الترجيح بذلك فيجيء التحكم وهل يجب على المستدل الاكتفاء بأصل واحد إذ مقصوده الظن وهو يحصل به فيلغو ما زاد عليه أم لا والصحيح الأول لأن الظن يقوى به وفي جواز اقتصار المعارضة على أصل واحد قولان وعلى الجميع في جواز اقتصار المستدل على أصل واحد قولان.(1/186)
فصل : وأما المعارضة في الفرع فهي بما يقتضي نقيض الحكم فيه بأن يقول ما ذكرته من الوصف وإن اقتضى ثبوت الحكم في الفرع فعندي وصف آخر يقتضي نقيضه فيتوقف دليلك عليه وهذا هو المعنى بالمعارضة إذا أطلقت ولا بد من بنائه على أصل بجامع تثبت عليته وله الاستدلال في إثبات عليته بأي مسلك من مسالكها شاء على نحو طرق إثبات المستدل للعلية سواء فيصير هو مستدلا آنفا والمستدل معترضا فتنقلب الوظيفتان والمختار قبول هذا النوع لئلا تختل فائدة المناظرة وهو ثبوت الحكم لأنه لا يتحقق بمجرد الدليل ما لم يعلم عدم المعارض وجوابه بما يعترض به المعترض ابتداء إذ الجواب هو الجواب ويقبل ترجيح أحدهما بأي. وجه كان من وجوه الترجيح المذكورة في بابه عند أصحابنا وجمع من العلماء منهم الآمدي وابن الحاجب فيتعين العمل به وهو المقصود ولا يلزم المستدل الإيماء إلى الترجيح في متن دليله بأن يقول في أمان العبد أمان من مسلم عاقل وهو موافق للبراءة الأصلية.
حادي عشرها: عدم التأثير اعلم أن التأثير هو إفادة الوصف أثره فإذا لم يفده فهو عدم التأثير وهو ذكر ما يستغني عنه الدليل في ثبوت حكم الأصل وذلك إما لكون ذلك الوصف طرديا لا يناسب ترتب الحكم عليه كقول المستدل في صلاة الصبح صلاة لا تقصر فلا يقدم إذ إنها على وقتها كالمغرب فعدم القصر هنا بالنسبة لعدم تقديم الآذان طردي فكأنه قال لا يقدم أذان الفجر عليها لأنها لا تقصر وأطرد ذلك في المغرب لكنه لم ينعكس في بقية الصلوات إذ مقتضى هذا القياس أن ما يقصر من الصلاة يجوز تقديم أذانه على وقته من حيث انعكاس العلة فيرجع حاصله إلى سؤال المطالبة وإما لكون الحكم ثبت بدونه كأن يقال في مبيع الغائب مبيع لم يره العاقد فلا يصح بيعه كالطير في الهواء فيعترض بأن العلة العجز عن التسليم وهو كاف في البطلان وعدم التأثير هنا جهة العكس لأن تعليل عدم صحة بيع الغائب بكونه غير مرئي تقتضي أن كل مرئي يجوز بيعه فهذان قسمان من أقسام أربعة لهذا النوع:
أولهما : يقال له عدم التأثير في الوصف.
والثاني : عدمه في الأصل.
وأما الثالث: فهو عدم التأثير في الحكم. ومثاله: في المرتدين مشركون أتلفوا مالا(1/187)
في دار الحرب فلا ضمان عليهم كالحربي فيقول المعترض دار الحرب لا تأثير له عندك أيها المستدل ضرورة استواء الإتلاف في دار الحرب ودار الإسلام في إيجاب الضمان عندك ومرجع هذا إلى مطالبة تأثير كونه في دار الحرب فهو كالأول.
وأما الرابع: فهو أن يكون الوصف المذكور لا يطرد في جميع صور النزاع وإن كان مناسبا يسمى عدم التأثير في الفرع. مثاله: أن يقال في تزويج المرأة نفسها زوجت نفسها بغير إذن وليها فلا يصح كما لو زوجت بغير كفء فيقول المعترض كونه غير كفء لا أثر له فإن النزاع واقع فيما زوجت من كفء ومن غير كفء وحكمهما سواء فلا أثر له ومرجع هذا النوع إلى المعارضة بوصف آخر وهو تزويج فقط فهو كالثاني.
واعلم أن حاصل ما ذكر أن الأقسام الأربعة الأول والثاني والثالث منها يرجعان إلى منع العلة والثاني والرابع إلى المعارضة في الأصل بإبداء علة أخرى فليس هو سواء لا برأسه.
ثاني عشرها: تركيب القياس من مذهبي المستدل والمعترض وهو القياس المركب المار ذكره عند ذكر شروط حكم الأصل. مثاله أن يقول الحنفي في المرأة البالغة أنثى فلا تزوج نفسها بغير ولي كابنة خمس عشرة سنة فالخصم وهو الحنفي يمنع تزوج بنت خمس عشرة سنة لصغرها لا لكونها أنثى فاختلفت العلة في الأصل وإنما اتفق صحة هذا القياس لاجتماع علة الخصمين فيه فتركب منهما وتحقيق التركيب ههنا هو أن يتفق الخصمان على حكم الأصل ويختلفان في علته فإذا ألحق أحدهما بذلك الأصل فرعا يعتبر علة صاحبه فالقياس منتظم لكن بناء على تركيب حكم الأصل من علتين وذلك كما في المثال المتقدم فإن أحمد والشافعي يعتقد أن بنت خمس عشرة لا تزوج نفسها لأنوثتها. وأبو حنيفة يعتقد أنها لا تزوج نفسها لصغرها إذ الجارية إنما تبلغ عنده لتسع عشرة وفي رواية لثماني عشرة كالغلام فالعلتان موجودتان فيها والحكم متفق عليه بناء على ذلك فإذا قال الحنبلي في البالغة أنثى فلا تزوج نفسها كبنت خمس عشرة انتظم القياس بناء على ما ذكرناه من تركب حكم الأصل بين الخصمين من العلتين واستناده عند كل منهما إلى علته ولهذا جاز لأحدهما منع صحة القياس لاختلاف العلة في الفرع والأصل مثل أن يقول الحنفي ههنا للمستدل أنت عللت المنع في البالغة بالأنوثة والمنع في بنت خمس(1/188)
عشرة عندي معلل بالصغر فما اتفقت علة الأصل والفرع فلا يصح الإلحاق. وهذا النوع تمسك به قوم ونفاه آخرون والمختار إثباته وبصحته قال الطوفي والمرداوي من أصحابنا لأن حاصله يرجع إلى النزاع في الأصل وقد سبق أن القياس يجوز على أصل مختلف فيه فإذا منعه المعترض أثبته المستدل بطريقه وصح قياسه فههنا كذلك يثبت المستدل أن العلة في بنت خمس عشرة هي الأنوثة ويحققها في الفرع وهي البالغة ويبطل مأخذ الخصم وهو تعليله في البنت المذكورة بالصغر وقد ثبت مدعاه وصح قياسه وهو أن البالغة أنثى فلا تزوج نفسها كبنت خمس عشرة.
ثالث عشرها: القول بالموجب بفتح الجيم أي القول بما أوجبه دليل المستدل أما الموجب بكسرها فهو الدليل المقتضى للحكم وهذا النوع لا يختص بالقياس بل يجيء في كل دليل وحاصله تسليم مدلول الدليل مع بقاء النزاع وذلك دعوى نصيب الدليل في غير محل النزاع ويقع على وجوه ثلاثة"
الوجه الأول: أن يستنتج من الدليل ما يتوهم أنه محل النزاع أو ملازمه ولا يكون كذلك
مثاله أن يقول الشافعي في القتل بالمثقل قيل بما يقتل غالبا فلا ينافي القصاص كالقتل بالحرق فيرد القول بالموجب فيقول عدم المنافاة ليس محل النزاع لأن محل النزاع هو وجوب القتل ولا يقتضي أيضا محل النزاع إذ لا يلزم من عدم منافاته للوجوب أن يجب.
الوجه الثاني: أن يستنتج من الدليل إبطال أمر يتوهم أنه مأخذ الخصم ومبني مذهبه في المسألة وهو يمنع كونه مأخذا لمذهبه فلا يلزم من إبطاله إبطال مذهبه. مثاله أن يقول الشافعي في المثال المتقدم وهو مسألة القتل بالمثقل التفاوت في الوسيلة لا يمنع القصاص كالمتوسل إليه وهو أنواع الجراحات القاتلة فيرد القول بالموجب فيقول الحنفي الحكم لا يثبت إلا بارتفاع جميع الموانع ووجود الشرائط بعد قيام المقتضى وهذا غايته عدم مانع خاص ولا يستلزم انتفاء الموانع ولا وجود الشرائط ولا وجود المقتضى فلا يلزم ثبوت الحكم وقد اختلف الجدليون في أن المعترض إذا قال ليس هذا مأخذي هل يصدق أو لا فقيل لا يصدق إلا ببيان مأخذ آخر إذ ربما كان مأخذه ذلك لكنه يعاند واختار هذا جمع من أصحابنا منهم الفخر وقال فإن أبطله المستدل وإلا انقطع. وقال(1/189)
ابن الحاجب والصحيح: إنه مصدق في مذهبه انتهى أي لأنه أعرف بمذهبه ومذهب إمامه ولأنه ربما لا يعرف فيدعي احتمال أن لمقلده مأخذ آخر.
واعلم أن أكثر القول بالموجب من هذا القبيل وهو ما يقع لاشتباه المأخذ لخفاء مأخذ الأحكام وقلما يقع الأول وهو اشتباه محل الخلاف لشهرته ولتقديم التحرير غالبا كما صرح بذلك عضد الدين في شرح مختصر ابن الحاجب الأصولي.
الوجه الثالث: أن يسكت في دليله عن صغري قياسه وليست تلك الصغرى مشهورة. مثاله: في الوضوء ما ثبت قربة فشرطه النية كالصلاة ويسكت عن الصغرى فلا يقول الوضوء ثبت قربة فيرد القول بالموجب فيقول المعترض مسلم ومن أين يلزم أن يكون الوضوء شرطه النية فهذا يرد إذا سكت عن الصغرى وأما إذا كانت الصغرى مذكورة فلا يرد إلا منع الصغرى بأن يقول لا نسلم أن الوضوء ثبت قربة ويكون حينئذ منعا للصغرى لا قولا بالموجب. قال الجدليون القول بالموجب فيه انقطاع أحد المتناظرين إذ لو بين المستدل أن المثبت مدعاه أو ملزومه أو المبطل مأخذ الخصم أو الصغرى حق انقطع المعترض إذ لم يبق بعده إلا التسليم للمطلوب وإلا انقطع المستدل إذ قد ظهر عدم إفضاء دليله إلى مطلوبه. قال ابن الحاجب وقولهم فيه انقطاع أحدهما بعيد في الثالث لاختلاف المرادين وجواب الأول بأنه محل النزاع أو مستلزمه كما لو قال لا يجوم قتل المسلم بالذمي فيقال بالموجب لأنه يجب فيقول المعنى بلا يجوز تحريمه ويلزم نفي الوجوب وعن الثاني أنه المأخذ أي لاشتهاره بين النظار بالنقل عن أئمة مذهبهم وعن الثالث بأن الحذف سائغ هذا وقد أطال القوم في تعداد هذه الأنواع واختلفوا في عدها اختلافا كثيرا فذكر البزدوي في المقترح أنها خمسة عشر سؤالا وعدها النيلي في شرح جدل الشريف أربعة عشر وعدها الآمدي. في المنتهى خمسة وعشرين وفي كتاب الجدل له إحدى وعشرين وعند التحقيق أنها لا تنحصر في عدد بل كل ما قدح في الدليل اتجه إيراده كما أن كل سلاح صلح للتأثير في العدو ينبغي استصحابه وجميع ما ذكره الأصوليون والجدليون يقدح في الدليل فينبغي إيراده ولا يضر تداخل الأسئلة ورجوع بعضها إلى بعض لأن صناعة الجدل اصطلاحية وقد اصطلح الفضلاء على إيراد هذه المسألة فهي وإن تداخلت أو رجع بعضها إلى بعض جدد بحصول الفائدة من إفحام(1/190)
الخصم وتهذيب الخواطر وتمرين الأفهام على فهم السؤال واستحضار الجواب وتكررها العنوي لا يضر كما لو رمى القاتل بسهم واحد مرتين أو أكثر والله الموفق وقد نجز بحمد الله الكلام على الآلة وهذا حين الشروع في بيان أحكام المستدل وما يتعلق به من بيان الاجتهاد والمجتهد والتقليد والمقلد ومسائل ذلك إن شاء الله تعالى.(1/191)
عقد نضيد في الاجتهاد والتقليد
الاجتهاد في اللغة بذل الجهد يعني الطاقة في عمل شاق وإنما قيد العمل بكونه شاقا لأن الاجتهاد مختص به في عرف اللغة إذ يقال اجتهد الرجل في حمل الرحى ونحوها من الأشياء الثقيلة ولا يقال اجتهد في حمل خردلة ونحوها من الأشياء الخفيفة وهو الاصطلاح استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد عليه. وقسم العلماء الاجتهاد إلى قسمين ناقص وتام. فالناقص هو النظر المطلق في تعرف الحكم وتختلف مراتبه بحسب الأحوال. والتام هو استفراغ القوة النظرية حتى يحس الناظر من نفسه العجز عن مزيد طلب ومثاله مثال من ضاع منه درهم في التراب فقلبه برجله فلم يجد شيئا فتركه وراح وآخر إذا جرى له ذلك جاء بغربال فغربل التراب حتى يجد الدرهم أو يغلب على ظنه أنه ما عاد يلقاه. فالأول اجتهاد قاصر. والثاني تام وعلم من التعريف ومما سبق أول الكتاب أن استفراغ الجهد إنما هو للفقيه وهو المجتهد فلا عبرة باستفراغ جهد غير المجتهد. وقولنا في طلب ظن يشير إلى أنه لا اجتهاد في القطعيات. وقولنا بشيء من الأحكام الشرعية يخرج ما لو استفرغ جهده في طلب شيء من الحسيات والعقليات فإنه بمعزل عن مقصودنا والمجتهد من اتصف بصفة الاجتهاد وحصل أهليته وقد ذكر العلماء له شروطا وذلك أنه لما لم يكن لا بد أن يكون عاقلا بالغا قد ثبتت له ملكة يقتدر بها على استخراج الأحكام من مأخذها ولا يتمكن من ذلك إلا باتصافه بأمور لا جرم جعلوا تلك الأمور شروطا وهي أن الواجب عليه أن يعرف من الكتاب ما يتعلق بالأحكام وهو قدر خمسمائة آية قاله الغزالي وغيره. وليس هذا القول بسديد وليس هذا التقدير بمعتبر وأن مقدار أدلة الأحكام في ذلك غير منحصرة فإن أحكام الشرع كما تستنبط من الأوامر(1/191)
والنواهي كذلك تستنبط من الأقاصيص والمواعظ ونحوها. فقل أن يوجد في القرآن الكريم آية إلا ويستنبط منها شيء وقد سلك هذا المسلك الشيخ عزالدين بن عبد السلام فألف كتابه أدلة الأحكام لبيان ذلك وكان هؤلاء الذين حصروها في خمسمائة آية إنما نظروا إلى ما قصد منه بيان الأحكام دون ما استفيدت منه ولم يلتفتوا إلى ما قصد به بيانها وهل يشترط حفظ الآيات عن ظهر قلب أو يكفيه أن يكون مستحضرا لها والصحيح الثاني وأنه يكفيه أن يعرف مواقع الحكم من مظانه ليحتج به عند الحاجة إليه لأن مقصود الاجتهاد هو إثبات الحكم بدليل يختص به ويشترط أن يعرف من السنة ما يكفيه لاستنباط الأحكام ولا يتعين ذلك ببعض السنة دون بعض خلافا لمن حصرها في خمسمائة حديث لأنه قل حديث يخلو عن الدلالة على حكم شرعي ومن نظر في كلام العلماء على دواوين الحديث كالقاضي عياض والنواوي على صحيح مسلم والخطابي والحافظ ابن حجر على صحيح البخاري وفي شرح سنن أبي داود وغيرها عرف ذلك نعم أحاديث السنة وإن كثرت محصورة في الدواوين والمعول عليه منها مشهور كالصحيحين وبقية السنن الستة وما أشبهها وقد قرب الناس ذلك بتصنيف كتب الأحكام ككتابي الحفاظ عبد الغني بن سرور المقدسي وكتب الحافظ عبد الحق المغربي وكتاب الأحكام لمجدالدين عبد السلام ابن تيمية جد شيخ الإسلام ونحوها. وأجمع هذه الكتب كتاب الأحكام لمحب الدين الطبري وبذلك صار الوقوف على ما احتيج إليه سهل المرام قريب المأخذ فإن قيل فما تقول فيما رواه أبو علي الضرير أنه قال قلت لأحمد بن حنبل كم يكفي الرجل من الحديث يكفيه مائة ألف قال لا قلت مائتا ألف قال لا قلت ثلاثمائة ألف قال لا قلت أربعمائة ألف قال لا قلت خمسمائة ألف؟ قال أرجو.
وروى عنه الحسين بن إسماعيل مثل هذا وروى مثله عن يحيى بن معين. وقال أحمد بن عبدوس قال أحمد بن حنبل من لم يجمع علم الحديث وكثرة طرقه واختلافه لا يحل له الحكم على الحديث ولا الفتيا به وقال أحمد بن منيع مر بنا أحمد بن حنبل جائيا من الكوفة وبيده خريطة فيها كتب فأخذت بيده فقلت مرة إلى الكوفة ومرة إلى البصرة إلى متى إذا كتب الرجل ثلاثين ألف حديث ألم يكفه فسكت قلت فستين ألفا فسكت فقلت فمائة ألف قال فحينئذ يعرف شيئا فنظرنا فإذا أحمد قد كتب عن(1/192)
بهز وأظنه قال: وعن روح بن عبادة ثلاثمائة ألف حديث إلى غير ذلك مما رواه عنه أصحابه في هذا المعنى. قلنا في الجواب إن أصحاب الإمام أحمد حملوا كلامه هذا على الاحتياط والتغليظ في الفتيا أو على أن يكون أراد وصف أكمل الفقهاء حكى هذا القاضي أبو يعلى في العدة فأما الذي لا بد منه ودل عليه كلام أحمد إن الأصول التي يدور عليها العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تكون ألفا وألفا ومائتين انتهى. ولا يخفاك أن لفظ الحديث عند السلف أعم مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن آثار الصحابة والتابعين وطرق المتون وإلا فالأحاديث المروية لاتصل إلى عشر هذا العدد. وغاية ما جمعه الإمام أحمد في مسنده الذي أحاط بالأحاديث ثلاثين ألفا وغاية ما ضمه إليه ابنه عبد الله عشرة آلاف حديث فكان مجموعه أربعين ألفا فتنبه لذلك. ويشترط للمجتهد مع معرفته بأحاديث الأحكام معرفة صحة الحديث ومعرفته بذلك إما بالاجتهاد فيه بأن يكون له من الأهلية والقوة في علم الحديث ما يعرف به صحة مخرج الحديث أي طريقه الذي ثبت به ومن رواية أي البلاد هو أو أي التراجم ويعلم عدالة رواته وضبطهم وبالجملة يعلم من حاله وجود شروط قبوله وانتفاء موانعه وموجبات رده وإما بطريق التقليد بأن ينقله من كتاب صحيح ارتضى الأئمة رواته كالصحيحين وسنن أبي داود ونحوها. لأن ظن. الصحة يحصل بذلك وإن كان الأول أعلى رتبة من الثاني وأن يعرف الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة لأن المنسوخ بطل حكمه وصار العمل على الناسخ فإن لم يعرف الناسخ من المنسوخ أفضى إلى إثبات المنفي ونفي المثبت ويكفيه أن يعرف أن دليل هذا الحكم ليس بمنسوخ فلا يشترط عليه أن يعرف جميع الأحاديث المنسوخة من الناسخة ومع هذا فالإحاطة بمعرفة ذلك أيسر من غيره لقلة المنسوخ بالنسبة إلى المحكم من الكتاب والسنة وقد صنف في ناسخ القرآن ومنسوخه جماعة منهم أبو جعفر النحاس والقاضي أبو بكر وابن العربي ومكي صاحب الأعراب ومن المتقدمين هبة الله بن سلامة. ومن المتأخرين ابن الزاغواني وابن الجوزي وغيرهم. وألف في ناسخ الحديث ومنسوخه جماعة منهم الشافعي وابن قتيبة وابن شاهين وابن الجوزي وغيرهم. ويعرف ذلك معرفة جيدة من تفاسير القرآن والحديث البسيطة كتفسير القرطبي وشروح الصحيحين لكن يجب على المجتهد أن يجعل تلك الكتب دالة له على القول بالنسخ ولا يأخذ قول أصحابها قضية مسلمة لأن كثيرا ما تراهم يردون ناسخا ومنسوخا تعصبا لمذهبهم(1/193)
ويطلقون النسخ من غير تمحيص فعلى الناظر أن يطرح التعصب وينظر بعين الإنصاف كيلا يقع في التقليد ولقد سلكنا في تفسيرنا للكتاب العزيز هذا المسلك وبينا فيه خطأ كثيرين ادعوا نسخ بعض الآيات ولا دليل لهم إلا التعصب لمذهبهم. ومن شروط المجتهد أن يعرف من الإجماع ما تقدم في بابه من هذا الكتاب وغيره مثل أن يعلم أن الإجماع حجة وأن المعتبر فيه اتفاق المجتهدين وأنه لا يختص باتفاق بلد دون بلد ونحو ذلك ويكفيه أن يعلم أن هذه المسألة مما أجمع عليه أو مما اختلف فيه هذا إذا كان قائلا بالإجماع ويجب عليه أن يتثبت في هذا النوع لأنه كم من مسألة يرى القول بالإجماع فيها ويكون مراد القائل إجماع أهل مذهبه أو إجماع الأئمة الأربعة أو إجماع أهل المدينة فليتنبه لذلك وأن يعرف من النحو واللغة ما يكفيه في معرفة ما يتعلق بالكتاب والسنة من نص ظاهر ومجمل وحقيقة ومجاز وعام وخاص ومطلق ومقيد ودليل خطاب ونحوه. ولا يشترط في حقه أن يعرف تفاريع الفقه التي يعنى بتحقيقها الفقهاء لأن ذلك من فروع الاجتهاد التي ولدها المجتهدون بعد حيازة منصبه فلو اشترطت معرفتها في الاجتهاد لزم الدور لتوقف الأصل الذي هو الاجتهاد على الفرع الذي هو تفاريع الفقه وكذلك لا يشترط معرفة دقائق العربية والتصريف حتى يكون كسيبويه والأخفش والمازني والمبرد والفارسي وابن جني ونحوهم لأن المحتاج إليه منها في الفقه دون ذلك ويشترط للمجتهد أن يعرف تقرير الأدلة وما يتقوم ويتحقق به كيفية نصب الدليل ووجه دلالته على المطلوب ولا بأس أن يكون عالما بشيء من فن المنطق لا أن يكون متوغلا فيه لأنه يعين على ترتيب الأدلة ويحتاج إليه في القياس احتياجا كثيرا. وأقول إنه يشترط في حقه معرفة فني المعاني والبيان ولا يخفى احتياج الناظر في الأحكام إليهما والمجتهدون المتقدمون كانوا يعرفون المنطق بالسليقة والطبع. وكذلك تقول فيمن ساعده طبعه على صواب الكلام واجتناب اللحن فيه لم يشترط له علم العربية والحاصل أن المشترط في الاجتهاد معرفة ما يتوقف عليه حصول ظن الحكم الشرعي سواء انحصر ذلك في جميع ما ذكر أو خرج عنه شيء لم يذكر فمعرفته معتبرة وعندي أنه يشترط في المجتهد أن توجد فيه ملكة الاستنباط وأن يكون ذكي الفؤاد متوقد الذهن لأنه كم ممن قرأ فنون العربية والعلوم التي تهيىء للاجتهاد ثم تراه جامدا خامل الفكر لا يعلم إلا ما يلقى إليه فإذا خاطبته وجدت ذهنه متحجرا تكلمه شرقا فيكلمك غربا فمثل هذا لا يعول عليه ولا يركن إليه.(1/194)
تنبيه : إن هذه الشروط المذكورة كلها إنما تشترط للمجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الشرع أما من أفتى في فن واحد في مسألة واحدة ووجدت فيه شروط الاجتهاد بالنسبة إلى ذلك الفن أو تلك المسألة فلا يشترط له ذلك وجاز له أن يجتهد فيما حصل شروط الاجتهاد فيه وإن لم تتوفر فيه الشروط في غيرها وخالف قوم في هذا وهذا مبني على أنه هل يجوز تجزيء الاجتهاد أم لا يجوز والحق أنه يتجزأ لأن كثيرا من أئمة السلف الصحابة وغيرهم كانوا يسألون عن بعض مسائل الأحكام فيقولون لا ندري حتى إن مالكا رضي الله عنه قال لا أدري في ست وثلاثين مسألة من ثماني وأربعين مسألة وقد توقف الشافعي وأحمد بل الصحابة والتابعون في الفتاوى كثيرا فلو كان الاجتهاد المطلق في جميع الأحكام شرطا في الاجتهاد في كل مسألة على حدتها لما كان هؤلاء الأئمة مجتهدين لكنه خلاف الإجماع فدل على أن ذلك لا يشترط ولا يشترط عدالة المجتهد في اجتهاده لكنها مشترطة في قبول فتياه وخبره هذا ما يذكره علماء الأصول في المجتهد المطلق ويسمى عندهم بالمجتهد المستقل ويعرفونه بأنه الذي يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد ولا تقييد بمذهب معين.
فصل : جعل بعض المتأخرين أقسام المجتهدين على خمسة مراتب وممن علمناه جنح إلى هذا التقسيم أبا عمرو ابن الصلاح وابن حمدان من أصحابنا في كتابه أدب المفتي وتلاهما شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية فإنه نقل في مسودة الأصول كلام ابن الصلاح ولم يتعقبه وتتبعهم العلامة الفتوحي في آخر كتابه شرح المنتهى الفقهي ونحن نلخص كلامهم هنا فنقول ذهبوا إلى أن المفتي يعني المجتهد ينقسم إلى مستقل وغير مستقل. فالمستقل: هو المجتهد المطلق وقد مر بيانه وأما غير المستقل فقد كان ابن الصلاح ومن دهر طويل طوى بساط المفتي المستقل والمجتهد المطلق وأفضى أمر الفتيا إلى الفقهاء المنتسبين لأئمة المذاهب المتنوعة انتهى. ولا يلزم من طي البساط عدم الوجود فإن فضل الله لا ينحصر في زمان ولا في مكان. سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى ثم إن للمفتي المنتسب إلى أحد المذاهب أربع أحوال:
أحدها : أن لا يكون مقلدا لإمامه لا في مذهبه ولا في دليله لكنه سلك طريقه في الاجتهاد والفتوى ودعا إلى مذهبه وقرأ كثيرا منه على أهله فوجده صوابا وأولى من(1/195)
غيره وأشد موافقة فيه وفي طريقه وإلى هذا أشرنا أول الكتاب حيث بينا لأي شيء اختار كبار أصحاب أحمد مذهبه على مذهب غيره. ويؤخذ هذا من كلام ابن الصلاح أيضا فإنه قال ذكر عن أبي إسحاق الإسفراييني أنه حكى عن أصحاب مالك وأحمد وداود وأكثر أصحاب أبي حنيفة إنهم صاروا إلى مذاهب أئمتهم تقليدا لهم. قال ابن الصلاح والصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا وهو أنهم صاروا إلى مذهب الشافعي لا على جهة التقليد له لكن لأنهم وجدوا طريقه في الاجتهاد والفتاوى أسد الطريق. قال أبو عمرو ودعوى انتفاء التقليد مطلقا من كل وجه لا يستقيم إلا أن يكونوا قد أحاطوا بعلوم الاجتهاد المطلق وذلك لا يلائم المعلوم من أحوالهم أو أحوال أكثرهم وذهب بعض الأصوليين من أصحابنا إلى أنه لم يوجد بعد عصر الصحابة مجتهد مستقل. وحكى اختلافا بين الحنفية والشافعية في أبي يوسف ومحمد والمزني وابن سريج هل كانوا مستقلين أم لا قال ولا تستنكر دعوى ذلك فيهم في فن من فنون الفقه بناء على جواز تجزي منصب الاجتهاد ويبعد جريان الخلاف في حق هؤلاء المتجرين الذين عم نظرهم الأبواب كلها وفتوى المنتسبين في هذه الحال في حكم فتوى المجتهد المستقل المطلق يعمل بها ويعتد بها في الإجماع والخلاف.
ثانيها : أن يكون مجتهدا مقيدا في مذهب إمامه يستقل بتقرير مذهبه بالدليل غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه ولا بد أن يكون عالما بأصول الفقه لكنه قد أخل ببعض الأدوات كالحديث واللغة وإذا استدل بدليل إمامه لا يبحث عن معارض له ولا يستوفي النظر في شروطه وقد اتخذ نصوص إمامه أصولا يستنبط منها كما يفعل المجتهد المستقل بنصوص الشارع والعامل بفتيا هذا مقلد لإمامه. قال ومثل هذا يتأدى به فرض الكفاية في الفتوى ولا يتأدى به في إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى لأنه قائم مقام المطلق.
ثالثها : أن لا يبلغ رتبة أئمة المذهب أصحاب الوجوه والطرق غير أنه فقيه النفس حافظ مذهب إمامه عارف بأدلته قائم بتقريره ونصرته يصور ويحرر ويمهد ويقرر ويزيف ويرجح لكنه قصر عن درجة أولئك إما لكونه لا يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم وإما لكونه غير متبحر في أصول الفقه ونحوه. غير أنه لا يخلو مثله في ضمن ما يحفظه من(1/196)
الفقه ويعرفه من أدلته عن أطراف من قواعد أصول الفقه ونحوه. وإما لكونه مقصرا في غير ذلك من العلوم التي هي أدوات الاجتهاد الحاصلة لأصحاب الاجتهاد بالوجوه والطرق قال ابن الصلاح وهذه هي مرتبة المصنفين إلى أواخر المائة الخامسة وقد قصروا عن الأولين في تمهيد المذهب وأما في الفتوى فبسطوا بسط أولئك وقاسوا على المنقول والمسطور غير مقصرين على القياس الجلي وإلغاء الفارق.
رابعها : أن يحفظ المذهب ويفهمه في واضحات المسائل ومشكلاتها غير أنه مقصر في تقرير أدلته فهذا يعتمد نقله وفتواه في نصوص إمامه وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه وما لم يجده منقولا فإن وجد في المنقول ما يعلم أنه مثله من غير فضل فكر وتأمل أنه لا فارق بينهما كما في الأمة بالنسبة إلى العبد المنصوص عليه في إعتاق الشريك جاز له إلحاقه به والفتوى به وكذلك ما يعلم اندراجه تحت ضابط منقول ممهد في المذهب فإنه يجوز له إلحاقه به والفتوى به وما لم يكن كذلك فعليه الإمساك عن الفتوى به قال ابن الصلاح ويندر عدم ذلك. كما قال أبو المعالي يبعد أن تقع واقعة لم ينص على حكمها في المذهب ولا هي في معنى شيء من المنصوص فيه من غير فرق ولا هي مندرجة تحت شيء من ضوابطه ولا بد في صاحب هذه المرتبة أن يكون فقيه النفس لأن تصور المسائل على وجهها ونقل أحكامها لا يقوم به إلا فقيه النفس. قال ابن حمدان ويكفيه أن يستحضر أكثر المذاهب مع قدرته على مطالعة بقيته انتهى. قال ابن الصلاح ولا تجوز الفتوى لغير هؤلاء الأصناف الخمسة يعني المجتهد المطلق والطبقات الأربع بعده كما قطع به أبو المعالي في الأصولي الماهر المتصرف في الفقه أنه يجب عليه الاستفتاء. قال ابن الصلاح وكذا المتصرف النظار البحاث في الفقه هذا كلامه وكلام غيره في طبقات الفقهاء. ثم اعلم أن ههنا مسائل يوردها الأصوليون في هذا المقام.
الأولى : يجوز التعبد بالاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للغائب عنه وللحاضر بإذنه وبدونه.
الثانية : يجوز أن يكون عليه السلام متعبدا بالاجتهاد فيما لا نص فيه.
الثالثة : قال أصحابنا الحق في قول واحد من المجتهدين معين في فروع الدين(1/197)
وأصوله ومن عداه مخطىء ثم إن كان خطأ المخطىء في فروع الدين وليس هناك دليل قاطع عليه فهو معذور في خطئه مثاب على اجتهاده وهو قول بعض الحنفية والشافعية نعم إذا كانت المسألة فقهية ظنية فإن كان فيها نص وقصر المجتهد في طلبه فهو مخطىء آثم وإن لم يكن فيها نص أو كان فيها نص ولم يقصر في طلبه انتفى عنه الإثم وهذه المسألة تعرف بمسألة تصويب المجتهد والكلام فيها كثير والحق ما ذكرناه لقوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] ولولا أن الحق في جهة بعينها لما خص سليمان بالتفهيم إذ كان يكون ترجيحا بلا مرجح ولولا سقوط الإثم عن المخطىء لما مدح داود بقوله: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء: 79] لأن المخطىء لا يمدح فدل على أن الحق في قول مجتهد معين وأن المخطىء في الفروع غير آثم وللحديث الثابت في الصحيح من طرق أن: "الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر" 1.
الرابعة : إذا تعارض دليلان عند المجتهد ولم يترجح أحدهما لزمه التوقف حتى يظهر المرجح.
الخامسة : ليس للمجتهد أن يقول في مسألة قولين في وقت واحد عند الجمهور وقد فعله الشافعي في مواضع منها: قوله في المسترسل من اللحية قولان وجوب الغسل وعدمه ونقل الآمدي وغيره إن ذلك وقع منه في سبع عشرة مسألة. قال الطوفي: قلت ووقع ذلك من أحمد رضي الله عنه قال أبو بكر في زاد المسافر قال يعني أحمد في رواية أبي الحارث إذا أخرت المرأة الصلاة إلى آخر وقتها فحاضت قبل خروج الوقت ففيه قولان أحد القولين لا قضاء عليها لأن لها أن تؤخر إلى آخر الوقت والقول الآخر إن الصلاة قد وجبت عليها بدخول الوقت فعليها القضاء وهو أعجب القولين إلي انتهى. قال عبد العزيز وبهذا أقول انتهى كلام الطوفي قلت ما ذكره ليس منافيا للقاعدة لأن معناه ليس للمجتهد أن يقول في مسألة واحدة قولين في
__________
1 رواه البخاري في كتاب الاعتصام، باب: إذا اجتهد الحاكم فأصاب أو أخطأ، ومسلم في كتاب الأقضيةن باب: 15، وأبو داود في كتاب الأقضية، باب: في القاضي يخطئ، والترمذي في كتاب الأحكام، باب:2، والنسائي في كتاب القضاة، باب: الإصابة في الحكم، وابن ماجه في كتاب الأحكام، باب: الحكم يجتهد فيصيب الحق، وأحمد في "م2/ص187".(1/198)
وقت واحد ويطلقهما بلا ترجيح أحدهما على الآخر أما لو قال قولين كل منهما له دليل قوي ثم رجح أحدهما على الآخر كما فعل الإمام أحمد. فقال وهو أعجب القولين إلي فذلك مما تقتضيه صناعة الاجتهاد ويقبله الفهم الثاقب والعقل السليم فإن قال المجتهد قولين في وقتين وجهل أسبقهما فمذهبه أقربهما من الأدلة أو أقربهما من قواعده عند الأصحاب وفي الروضة أيضا هما كخبرين تعارضا ومنع الآمدي من العمل بأحدهما وإن علم أسبقهما فالثاني مذهبه وهو ناسخ عند الأكثر. وقال ابن حامد مذهب الأول ما لم يصرح بالرجوع عنه. وقيل مذهبه الأول ولو رجع عنه. قال المجد ابن تيمية هو مقتضى كلامهم انتهى والمختار الأول.
تنبيه : ها هنا مسألة مهمة ينبغي التنبيه عليها وهي وإن كانت معلومة إجمالا مما سبق أوائل الكتاب لكن كان لها من مزيد الفائدة ما ينبغي الالتفات إليه. يقال فيها المكرر أحلى وخصوصا تعلق المهم لموضوع كتابنا يشير إلى بيانها وما هي إلا أن العلامة نجم الدين الطوفي قال في شرحه مختصر الروضة الأصولية إن قيل إذا كان القول القديم المرجوع عنه لا يعد من الشريعة بعد الرجوع عنه فما الفائدة في تدوين الفقهاء للأقوال القديمة عن أئمتهم حتى ربما نقل عن أحدهم في المسألة الواحدة القولان والثلاثة كثيرا والأربعة كما في مسألة الداخل والخارج عن أحمد والستة كما في مسألة متروك التسمية عنه ونقل عنه أكثر من ذلك. قيل وكان القياس أن لا تدون تلك الأقوال وهو أقرب إلى ضبط الشرع إذ ما لا عمل عليه لا حاجة إليه فتدوينه تعب محض لكنها دونت لفائدة أخرى وهي التنبيه على مدارك الأحكام واختلاف القرائح والآراء وأن تلك الأقوال قد أدى إليها اجتهاد المجتهدين في وقت من الأوقات وذلك مؤثر في تقريب الترقي إلى رتبة الاجتهاد المطلق أو المقيد فإن المتأخر إذا نظر إلى مأخذ المتقدمين نظر فيها وقابل بينها فاستخرج منها فوائد وربما ظهر له من مجموعها ترجيح بعضها وذلك من المطالب المهمة فهذه فائدة تدوين الأقوال القديمة عن الأئمة وهي عامة وثم فائدة خاصة بمذهب أحمد وما كان مثله وذلك أن بعض الأئمة كالشافعي ونحوه نصوا على الصحيح من مذهبهم إذ العمل من مذهب الشافعي على القول الجديد وهو الذي قاله بمصر وصنف فيه الكتب كالأم ونحوه. ويقال إنه لم يبق من مذهبه شيء لم ينص على الصحيح منه إلا سبع عشرة مسألة تعارضت فيها الأدلة واخترم قبل أن(1/199)
يحقق النظر بخلاف الإمام أحمد ونحوه فإنه كان لا يرى تدوين الرأي بل همه الحديث وجمعه وما يتعلق به وإنما نقل المنصوص عنه أصحابه تلقيا ممن فيه من أجوبته في سؤالاته وفتاويه فكل من روى منهم عنه شيئا دونه وعرف به كمسائل أبي داود وحرب الكرماني ومسائل حنبل وابنيه صالح وعبد الله وإسحاق بن منصور والمروزي وغيرهم ممن ذكرهم أبو بكر في أول زاد المسافر وهم كثير وروي عنه أكثر منهم ثم انتدب لجمع ذلك أبو بكر الخلال في جامعه الكبير ثم تلميذه أبو بكر في زاد المسافر فحوى الكتابان علما جما من علم الإمام أحمد رضي الله عنه من غير أن يعلم منه في آخر حياته الأخبار بصحيح مذهبه في تلك الفروع غير أن الخلال يقول في بعض المسائل هذا قول قديم لأحمد رجع عنه لكن ذلك يسير بالنسبة إلى ما لم يعلم حاله منها ونحن لا يصح لنا أن نجزم بمذهب إمام حتى نعلم أنه آخر ما دونه من تصانيفه ومات عنه أو أنه نص عليه ساعة موته ولا سبيل لنا إلى ذلك في مذهب أحمد والتصحيح الذي فيه إنما هو من اجتهاد أصحابه بعده كابن حامد والقاضي وأصحابه ومن المتأخرين الشيخ أبو محمد المقدسي رحمة الله عليهم أجمعين لكن هؤلاء بالغين ما بلغوا لا يحصل الوثوق من تصحيحهم لمذهب أحمد كما يحصل من تصحيحه هو لمذهبه قطعا فمن فرضناه جاء بعد هؤلاء وبلغ من العلم درجتهم أو قاربهم جاز له أن يتصرف في الأقوال المنقولة عن صاحب المذهب كتصرفهم ويصحح منها ما أدى اجتهاده إليه وافقهم أو خالفهم وعمل بذلك وأفتى وفي عصرنا من هذا القبيل شيخنا الإمام العالم العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني حرسه الله تعالى فإنه لا يتوفق في الفتيا على ما صححه الأصحاب من المذهب بل يعمل ويفتي بما قام عليه الدليل عنده فتكون هذه فائدة خاصة بمذهب أحمد وما كان مثله لتدوين نصوصه ونقلها والله تعالى أعلم بالصواب هذا كلام الطوفي نقلناه برمته لنفاسته.
السادسة : يجوز للعامي تقليد المجتهد بالاتفاق ولا يجوز ذلك لمجتهد اجتهد وغلب على ظنه أن الحكم كذا بالاتفاق أيضا أما من لم يجتهد في الحكم بعد وهو متمكن من معرفته بنفسه بالقوة القريبة من الفعل لكونه أهلا للاجتهاد فلا يجوز له تقليد غيره أيضا مطلقا لا لأعلم منه ولا لغيره لا من الصحابة رضي الله عنهم ولا لغيرهم لا للفتيا ولا للعمل لا مع ضيق الوقت ولا مع سعته هذا ما اقتضاه مسلك المحققين من(1/200)
الأصوليين. وقيل: يجوز له التقليد مع ضيق الوقت. وقيل يجوز له ليعمل لا ليفتي وقيل لمن هو أعلم منه من الصحابة والمختار ما قدمناه نعم له أن ينقل. وقيل مذهب غيره للمستفتي ولا يفتي هو بتقليد أحد.
السابعة : إذا نص المجتهد على حكم في مسألة لعلة بينها فمذهبه في كل مسألة وجدت فيها تلك العلة كمذهبه في المسألة المنصوص عليها لأن الحكم يتبع العلة فيوجد حيث وجدت وإن لم يبين العلة فلا يحكم بحكم تلك المسألة في غيرها من المسائل وإن شبهتها ولو نص في مسألتين مشتبهتين على حكمين مختلفين لم يجز أن يجعل فيهما روايتان بالنقل والتخريج كما لو سكت عن إحداهما وأولى والأولى جواز ذلك بعد الجد والبحث فيه من أهله إذ خفاء الفرق مع ذلك وإن دق ممتنع عادة. وقد وقع النقل والتخريج في مذهبنا فقال في المحرر من كتب أصحابنا ومن لم يجد إلا ثوابا نجسا صلى فيه وأعاد نص عليه ونص فيمن حبس في موضع نجس فصلى أنه لا يعيد فيتخرج فيهما روايتان وذلك لأن طهارة الثوب والبدن كلاهما شرط في الصلاة وهذا وجه الشبه بين المسألتين وقد نص في الثوب النجس أنه يعيد فينقل حكمه إلى المكان ويتخرج فيه مثله ونص في الموضع النجس على أنه لا يعيد فينقل إلى الثواب النجس فيتخرج فيه مثله فلا جرم صار في كل واحدة من المسألتين روايتان إحداهما بالنص والأخرى بالنقل وذكر مثل ذلك في الوصايا والقذف ومثل ما حكيناه عن مذهبنا من النقل والتخريج وقع كثيرا في مذهب الشافعي وإذا نص على حكمين مختلفين في مسألة فمذهبه آخرهما أن علم التاريخ وإلا فأشبههما بأصوله وقواعد مذهبه وأقربهما إلى الدليل الشرعي. تتمة: الفرق بين النقل والتخريج أن النقل يكون من نص الإمام بأن ينقل عن محل إلى غيره بالجامع المشترك والتخريج يكون من قواعده الكلية فهو أعم من النقل لأنه يكون من القواعد الكلية للإمام أو الشرع أو العقل لأن حاصله أنه بناء فرع على أصل بجامع مشترك كتخريجنا على قاعدة تفريق الصفقة فروعا كثيرة وعلى قاعدة تكليف ما لا يطاق أيضا فروعا كثيرة في أصول الفقه وفروعه وأما النقل والتخريج معا فهو مختص بنصوص الإمام.
الثامنة : لا ينقض حكم حاكم في مسألة اجتهادية عند الأئمة الأربعة ومن وافقهم(1/201)
وهو معنى قول الفقهاء في الفروع لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد وهذا مبني على أن الحق متعدد وينقض بناء على أن المصيب واحد وينقض أيضا بمخالفة نص كتاب أو سنة ولو كان نص السنة آحادا وخالف القاضي أبو يعلى في الآحاد وينقض أيضا بمخالفته إجماعا قطعيا لا ظنيا في الأصح ولا ينقض بمخالفته القياس سواء كان جليا أو خفيا خلافا لمالك والشافعي وابن حمدان في الجلي وزاد مالك ينقض بمخالفة القواعد الشرعية ولا يعتبر لنقضه طلب صاحب الحق على الصحيح من المذهب. وقال القاضي في المجرد والموفق في المغني والشارح وابن زرين لا ينقض إلا بمطالبة صاحبه وقال داود وأبو ثور ينقض ما بان خطأ قلت وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه. وجوز ابن القاسم نقض اجتهاد تبين أن غيره أصوب منه وحكم الحاكم بخلاف اجتهاده باطل ولو قلد غيره في الحكم عند الأئمة الأربعة ومن وافقهم. وقال في الإرشاد لا يبطل حكمه ولكنه يأثم ومن قضى برأي يخالف رأيه ناسيا له نفذ حكمه ولا إثم عليه وبهذا قال أبو حنيفة وقال أبو يوسف والمالكية والشافعية يرجع عنه وينقضه ونقل أبو طالب عن الإمام أحمد إذا أخطأ بلا تأويل فليرده ويطلب صاحبه فيقضي بحق وإن حكم مقلد بحكم بخلاف ما قاله إمامه فعلى قول من يرى صحة حكم المقلد يصح حكمه وعلى قول من يرى أن المقلد لا يجوز له تقليد غير إمامه لم يصح حكمه صرح بهذا الآمدي وابن حمدان وقال ابن حمدان أيضا مخالفة المفتي نص إمامه كمخالفة نص الشارع. وقال ابن هبيرة عمله بقول إلا الأكثر أولى ولو اجتهد فتزوج بلا ولي ثم تغير اجتهاده حرمت عليه امرأته في الأصح وقال القاضي والموفق وابن حمدان والطوفي والآمدي تحرم عليه إن لم يكن حكم بصحة النكاح حاكم أما المقلد فقال أبو الخطاب والموفق والطوفي لا تحرم عليه تغير اجتهاد من قلده وقال الشافعية وابن حمدان تحرم. قال المرداوي في التحرير وهو متجه كالتقليد في القبلة وإذا لم يعمل المقلد بفتوى من قلده حتى تغير اجتهاده مفتية لزم المفتي إعلام المقلد له فلو مات المفتي قبل إعلام العامي بتغير اجتهاده استمر على ما أفتى به في الأصح قال في شرح التحرير وهو المعتمد. وقيل: يمتنع.
واعلم أن الأصوليين اختلفوا في تقليد العامي لمجتهد ميت فقال جمهور العلماء: لا فرق بين تقليد الميت وتقليد الحي لأن قوله باق في الإجماع ولذلك قال الشافعي:(1/202)
المذاهب لا تموت بموت أربابها. وقيل ليس للعامي تقليد الميت إن وجد مجتهدا حيا وإلا جاز. وقيل لا يجوز تقليد الميت مطلقا. قال الفتوحي في شرح مختصر التحرير وهو وجه لها وللشافعية ومن بلغ رتبة الاجتهاد حرم عليه تقليد غيره اتفاقا سواء اجتهد أو لم يجتهد وإليه ذهب أحمد ومالك والشافعي. ولأبي حنيفة روايتان. وقيل يجوز تقليده إن لم يجتهد مطلقا.قال أبو الفرج وحكى عن أحمد وإسحاق والثوري وللمجتهد أن يجتهد ويدع غيره والتوقف من المجتهد في مسألة نحوية أو في حديث بحيث يحتاج إلى مراجعة أهل النحو أو أهل الحديث يجعله في رتبة العامي فيما توقف. فيه عند أبي الخطاب والموفق والآمدي وغيرهم والعامي يلزمه التقليد مطلقا.
التاسعة : هل يجوز خلو العصر عن المجتهدين أو لا؟ ذهب أصحابنا إلى أنه لا يجوز خلو العصر عن مجتهد وإلى ذلك ذهب طوائف ولم يذكر ابن عقيل خلاف هذا إلا عن بعض المحدثين واختاره القاضي عبد الوهاب المالكي وجمع من المالكية ومن غيرهم وصرح به ابن بطال في شرح البخاري واختاره ابن دقيق العيد في شرح العنوان وقال ابن حمدان من أصحابنا ومن زمن طويل عدم المجتهد المطلق مع أنه الآن أيسر منه في الزمن الأول وأطال في بيان أنه متيسر الآن. وحكى مثله النووي في شرح المهذب. وقال الرافعي الناس اليوم كالمجمعين على أنه لا مجتهد اليوم ونقل ابن مفلح كلاهما ثم ذيله بقوله وفيه نظر قال في شرح التحرير وهو كما قال فإنه وجد من المجتهدين بعد ذلك جماعة منهم الشيخ تقي الدين ابن تيمية انتهى. وقد أطال علماء النفس في هذا الموضوع وأورد كل من الفريقين حججا وأدلة وكأن القائلين بجواز خلو عصر عن مجتهد قاسوا جميع علماء الأمة على أنفسهم وخيلوا لها أنه لا أحد يبلغ أكثر من مبلغهم ومن العلم ثم رازوا أنفسهم فوجودها ساقطة في الدرك الأسفل من التقليد فمنعوا فضل الله تعالى وقالوا لا يمكن وجود مجتهد في عصرنا ألبتة بل غلا أكثرهم فقال لا مجتهد بعد الأربعمائة من الهجرة وينحل كلامهم هذا إلى أن فضل الله تعالى كان مدرارا على أهل العصور الأربعة ثم إنه نضب فلم يبق منه قطرة تنزل على المتأخرين مع أن فضل الله تعالى لا ينضب وعطاؤه ومدده لا يقفان عند الحد الذي حده أولئك. فبعيشك قل لي هل وزن القائل بانقطاع الاجتهاد على جميع علماء عصره في جميع الأقطار حتى علم أن واحدا منهم لم يبلغ درجة الاجتهاد ثم حكم بهذا الحكم الجائز على(1/203)
أنه ربما خفي عليه علم كثير من علماء بلده بل ربما لم يعرفهم وما أتى هذا الغبي إلا من داء الجمود الموجب للخلود في حضيض الجهل المركب ألا يرى هذا أن الأئمة المتقدمين كان الواحد منهم يجوب أقطار الأرض لكتابة الحديث وأخذه عن أئمته حتى ليستنزف ما عند غيره ثم قام الجهابذة النقاد فدونوا الحديث ودونوا فنونه ونقحوها وهذبوها ووضعوا كتب أسماء الرجال وبينوا الصحيح من غيره وسهلوا تناول البغية والمطلوب أيما تسهيل بحيث تيسر لمن بعدهم قطوف ثمراته الدانية واستطلاع شموس فوائده من بروجها وهم قارون في بلدانهم مستريحون في بيوتهم لا يحتاجون إلا إلى المطالعة والتنقيب ثم إن من تقدم كانوا يتعبون في نسخ كتب الحديث وغيرها ويبذلون الأموال في طلبها حتى أنشئت المطابع فأغنتهم عن تعب النسخ والتجول للتفتيش على الكتب ولم يزل انتشار كتب العلم في ازدياد فلم يبق لصاحب الهمة فقيه النفس عذر يعتذر به فيالله العجب ممن يتحكم على الله ويحكم على فضله بما تزينه له. نفسه على أننا نقول لمن قطع بخلو العصر من مجتهد أن هذه المسألة التي حكمت بها اجتهادية محضة فإن كان الحكم منك عليها باجتهاد منك فقد أكذبت نفسك حيث اجتهدت أن لا اجتهاد وأمسى كلامك ساقطا وإن كنت حكمت بذلك تقليدا لغيرك قلنا لك المقلد لا يجوز له أن يحكم بشيء مقلدا لمن غلط باجتهاده وذلك أن الذي قلدته إما أن يكون مجتهدا فنعيد عليه الكرة بالاحتجاج السابق وإن كان مقلدا خاطبناه بما خاطبناك به ثم ينقل الكلام إلى الثاني والثالث وما قبلهما فيتسلسل الأمر أو يدور والدور والتسلسل باطلان وقصارى أمر هؤلاء المعاندين أنهم سوفسطائية ينكرون الحقائق إما جهلا مركبا وإما كبرا وعنادا فلذا يجب ترك المشاغبة معهم ويقال لا يجوز خلو عصر عن مجتهد رضيتم أم سخطتم فدعوا العناد وخوضوا بحر الجمود إلى يوم الدين.
فصل : وأما التقليد: فهو في اللغة جعل شيء في عنق الدابة وغيره محيطا قال في النهاية في حديث: "قلدوا الخيل ولا تقلدوها الأوتار" 1 أي لا تجعلوا في أعناقها الأوتار فتختنق لأن الخيل ربما رعت الأشجار فنشبت الأوتار ببعض شعبها فخنقتها. وشرعا قبول
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الجهاد، باب: إكرم الخيل وارتباطها، والمسح على أكفالها، والنسائي في كتاب الخيل، باب: مايستحب من شية الخيل، وأحمد في "م3/ص352".(1/204)
قول الغير من غير حجة استعارة من المعنى اللغوي كأن المقلد يطوق المجتهد إثم ما غشه به في دينه وكتمه عنه من علمه وههنا مسائل:
أولها : ليس قبول قول النبي صلى الله عليه وسلم تقليدا لأنه هو حجة في نفسه وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية في المسودة التقليد قبول قول الغير بغير دليل فليس المصير إلى الإجماع تقليدا لأن الإجماع دليل ولذلك يقبل قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقال هو تقليد بخلاف فتيا الفقيه وذكر في ضمن مسألة التقليد أن الرجوع إلى قول الصحابة ليس بتقليد لأنه حجة وقال أيضا لما جاز تقليد الصحابة لزمه ذلك ولم يجز له مخالفته بخلاف الأعلم وقد قال أحمد في رواية أبي الحارث من قلد الخبر رجوت أن يسلم إن شاء الله فقد أطلق التقليد على من صار إلى الخبر وإن كان حجة في نفسه.
ثانيها : يحرم التقليد في معرفة الله تعالى والتوحيد والرسالة عند الإمام أحمد وأصحابه وهو الحق ويحرم أيضا في أركان الإسلام الخمس ونحوها مما تواتر واشتهر وحكى ذلك إجماعا وأما التقليد في الفروع فهو جائز إجماعا لغير المجتهد.
ثالثها : إن العامي وهو الذي ليس بمجتهد عليه أن يسأل العالم وحينئذ لا يخلو حاله من أنه إما أن يعلم أو يظن أن المسؤول أهل للفتيا أو يعلم أنه جاهل لا يصلح لذلك أو يجهل حاله فلا يعلم أهليته ولا عدمها. فالأول له أن يستفتيه باتفاقهم وعلمه بأهليته إما بإخبار عدل عنه بذلك أو باشتهاره بين الناس بالفتيا أو بانتصابه لها. وانقياد الناس للأخذ عنه أو نحو ذلك من الطرق والظن يقوم مقام العلم في ذلك. والثاني وهو من علم أو ظن جهله لا يجوز له أن يستقيته لأنه تضييع لأحكام الشريعة فهو كالعالم يفتي بغير دليل أما إذا جهل حاله فلا يقلده أيضا عند الأكثر خلافا لقوم.
رابعها : يكفي المقلد سؤال من يشاء من مجتهدي البلد ولا يلزمه سؤال جميعهم وهل يجب عليه أن يتخير الأفضل من المجتهدين فيستفتيه فيه قولان بالنفي والإثبات والحق أنه لا يلزمه استفتاء أفضل المجتهدين مطلقا فإن هذا يسد باب التقليد أما إذا قيد ذلك بمجتهدي البلد فإنه يلزمه حينئذ تحري الأفضل لأن الفضل في كل بلد معروف مشهور فإن سأل المستفتي مجتهدين فأكثر فاختلفوا عليه في الجواب فقولان أظهرهما وجوب متابعة الأفضل. فإن قيل: العامي ليس أهلا لمعرفة الفاضل من المفضول(1/205)
وقصارى أمره أن يغتر بظوهر هيئة حسنة وعمامة كبيرة وجبة واسعة الأكمام فربما اعتقد المفضول فاضلا. قلنا هذا ليس بعذر فعليه أن يتكلف في الاختيار وسعه قال في الروضة وتبعه الطوفي ويعرف الأفضل بالإخبار وإذعان المفضول له وتقديمه على نفسه في الأمور الدينية كالتلميذ مع شيخه لأنه يفيد القطع بها عادة أو بإمارات غير ذلك مما يفيد القطع أو الظن انتهى. قلت رحم الله الموفق والطوفي فإنهما تكلما على زمانهما. حيث الناس ناس يعرفون الفضيل ويقرون به وأما اليوم فالتقديم بالغنى وقلة الحياء والجهل المركب يعتقد الجاهل في نفسه أنه أعلم العلماء فيزاحم أهل الفضيل ولا يقر لأحد ولو ألقيت عليه أقل مسألة وجم وسكت وقابلك بالسفاهة والحمق ولو قلت له هذا حديث موضوع لقال لك أنت تكذب النبي صلى الله عليه وسلم وعلا صوته وانتفخت أوداجه وجمع عليك العامة وربما أذوك بالضرب والشتم والإخراج عن الدين ومما ابتدع في زماننا أنهم يجمعون أهل العمائم فينتخبون مفتيا ويسمونه رئيس العلماء ثم تقرره الحكومة مفتيا ويحصرون الفتوى فيه فكثيرا ما ينال هذا المنصب الجاهل الغمر الذي لو عرضت عليه عبارة بعض كتب الفروع ما عرف لها قبيلا من دبير فنسأل الله حسن العاقبة. على أن اختصاص واحد بمنصب الإفتاء لا يقبل الحاكم الفتوى إلا منه لم يكن معروفا في القرون الأولى وإنما كان الإفتاء موكولا إلى العلماء الأعلام واستمر ذلك إلى أن دخل السلطان سليم العثماني دمشق سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة من الهجرة وامتلكها فرأى كثرة المشاغبات بين المدعين للعلم خصص إفتاء كل مذهب برجل من علمائه الأفاضل قطعا للمشاغبات ثم طال الزمن فتولى هذا المنصب الجليل كثير ممن لا يدري ما هي الأصول وما هي الفروع فوسد الأمر إلى غير أهله وأعطى القوس غير باريها. هذا فإن استوى المجتهد عند المستفتي في الفضيلة واختلفا عليه في الجواب اختار الأشد منهما لما روى الترمذي من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما خير عمار بين أمرين إلا اختار أشدهما" 1 وفي لفظ "أرشدهما" قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب رواه أيضا النسائي وابن ماجه فثبت بهذين اللفظين للحديث أن الرشد في الأخذ بالأشد والأولى أن يعتبر القولين ساقطين لتعارضهما ويرجع إلى استفتاء آخر.
__________
1 رواه ابن ماجه في المقدمة باب: فضل عمار بن ياسر. وأحمد في "م1ص445" وافظه "ابن سمية ما عرض عليه أمران قط إلااختار إلارشد منهما".(1/206)
خامسها : قال أكثر أصحابنا وغيرهم لا يفتي إلا مجتهد. ومعناه عن الإمام أحمد وجوز في الترغيب والتلخيص الإفتاء لمجتهد في مذهب إمامه للضرورة. وقال في التحرير الحنبلي ويمنع عندنا وعند الأكثر من الإفتاء من لم يعرف بعلم أو كان حاله مجهولا ويلزم ولي الأمر منعه
قال ربيعة بعض من يفتي أحق بالسجن من السراق. وحكى شيخ الإسلام ابن تيمية في المسودة عن ابن حمدان من أصحابنا أنه قال من اجتهد في مذهب إمامه فلم يقلده في حكمه ودليله ففتياه به عن نفسه لا عن إمامه فهو موافق له فيه لا متابع له فإن قوي عنده مذهب غيره أفتى به وأعلم السائل مذهب إمامه ولم يفته بغيره وإن قوي عنده ولا به حيث لم يقو عنده فإن قلد إمامه في حكمه في دليله أو دون دليله ففتياه به عن إمامه إن جاز تقليده وإلا فعن نفسه إن قدر على التحرير والتقرير والتصوير والتعليل والتفريع والتخريج والجمع والفرق. كالذي لم يقلد فيهما فإن عجز عن ذلك أو بعضه ففتياه عن إمامه لا عن نفسه وكذا المجتهد في نوع علم أو مسألة منه ومنعه فيهما أظهر وقيل من عرف المذهب دون دليله جاز تقليده فيه. وقيل إن لم يجد في بلده ولا بقربه مفتيا غيره وعجز عن السفر إلى مفت في موضع بعيد فإن عدمه في بلده وغيره فله حكم ما قبل الشرع من إباحة وحظر ووقف. ومن أفتى بحكم أو سمعه من مفت فله العمل به لا فتوى غيره لأنه حكاية فتوى غيره وإنما سئل عما عنده هذا كلامه. واعلم أن أمثال هذه المباحث يكثر من ذكرها الفقهاء في كتب الفروع في باب آداب القاضي والمفتي فلا نطيل بها هنا وقد أوسع المجال في هذا المقال الإمام شمس الدين محمد بن قيم الجوزية في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين بما لا مزيد عليه فليراجعه من أراد استطلاع الحق من بروجه فجزاه الله خيرا.(1/207)
عقد نفيس في ترتيب الأدلة والترجيح
اعلم أن هذا العقد من موضوع نظر المجتهد وضروراته لأن الأدلة الشرعية متفاوتة في مراتب القوة فيحتاج المجتهد إلى معرفة ما يقدم منها وما يؤخر لئلا يأخذ بالأضعف منها مع وجود الأقوى فيكون كالمتيم مع وجود الماء وقد يعرض للأدلة التعارض والتكافؤ فتصير بذلك كالمعدومة فيحتاج إلى إظهار بعضها بالترجيح ليعمل به وإلا(1/207)
تعطلت الأدلة والأحكام فهذا العقد مما يتوقف عليه الاجتهاد توقف الشيء على جزئه أو شرطه إذا تقرر هذا فاعلم أن الترتيب هو جعل كل واحد من شيئين فأكثر في رتبته التي يستحقها بوجه ما فالإجماع مقدم على باقي أدلة الشرع لكونه قاطعا معصوما عن الخطأ بشهادة المعصوم بذلك ويقدم منه الإجماع القطعي المتواتر ثم الإجماع النطقي الثابت بالآحاد ثم يليه الإجماع السكوتي المتواتر ثم الإجماع السكوتي الثابت بالآحاد ثم يقدم في الدلالة بعد الإجماع بأنواعه الكتاب ويساويه في ذلك متواتر السنة لأنهما جميعا قاطعان من جهة المتن ولذلك جاز نسخ كل واحد منهما بالآخر ثم خبر الواحد ثم القياس هكذا قال في الروضة ومختصرها. وقال المرداوي في التحرير وتبعه الفتوحي في مختصره. يقدم بعد خبر الآحاد قول صحابي فالقياس فجعلا قول الصحابي مقدما على القياس وهو الحق وأما التصرف في الأدلة من حيث العموم والخصوص والإطلاق والتقييد ونحوه من حمل المجمل على المبين وأشباه ذلك فقد سبق في بابه.
فصل : وأما الترجيح فهو تقديم أحد طريقي الحكم لاختصاصه بقوة الدلالة ورجحان الدليل عبارة عن كون الظن المستفاد منه أقوى واستعمال الرجحان حقيقة إنما هو في الأعيان الجوهرية والأجسام تقول هذه الدينار أو الدرهم راجح على هذا لأن الرجحان من آثار النقل والاعتماد وهو من خواص الجواهر ثم استعمل في المعاني مجازا نحو هذا الدليل أو المذهب راجح على هذا وهذا الرأي أرجح من ذلك. وقال ابن الباقلاني لا يرجح بعض الأدلة على بعض كما لا يرجح بعض البينات على بعض وكلامه هذا ليس بشيء ومورد الترجيح إنما هو الأدلة الظنية من الألفاظ المسموعة والمعاني المعقولة كنصوص الكتاب والسنة وظواهرهما وكأنواع الأقيسة والتنبيهات المستفادة من النصوص فلا مدخل له في المذاهب من غير تمسك بدليل فلا يقال مذهب الشافعي مثلا أرجح من مذهب أبي حنيفة أو غيرهما أو بالعكس لكن هذا باعتبار مجموع مذهب على مجموع مذهب آخر وأما من حيث الأدلة على المسائل فالترجيح ثابت. ولا مدخل للترجيح أيضا في القطعيات لأنه لا غاية وراء القطعي وقولنا من الألفاظ المسموعة أردنا به نصوص الكتاب والسنة فيدخلها الترجيح فإذا تعارض نصان فأما أن يجهل تاريخهما أو يعلم فإن جهل قدمنا الأرجح منها ببعض وجوه الترجيح وإن علم تاريخهما فإما أن يمكن الجمع بينهما بوجه من وجوه الجمع أو لا فإن أمكن جمع(1/208)
بينهما من حيث يصح الجمع إذ الواجب اعتبار أدلة الشرع جميعها ما أمكن وإن لم يمكن الجمع فالثاني ناسخ إن صح سندهما أو أحدهما كذب إن لم يصح سنده إذ لا تناقض بين دليلين شرعيين لأن الشارع حكم والتناقض ينافي الحكمة فأحد المتناقضين يكون باطلا إما لكونه منسوخا أو لكذب ناقله أو لخطئه بوجه ما من وجوه تصفح أمورهم في النقليات أو لخطأ الناظر في العقليات كالإخلال بشكل القياس أو شرطه ونحو ذلك.
وقد يختلف اجتهاد المجتهدين في النصوص إذا تعارضت فمنهم من يسلك طرق الترجيح ومنهم من يسلك طريق الجمع والصواب تقديم الجمع على الترجيح ما أمكن إلا أن يفضي الجمع إلى تكلف يغلب على الظن براءة الشرع منه ويبعد أنه قصده فيتعين الترجيح ابتداء. إذا علم هذا فاعلم أن الترجيح الواقع في الألفاظ إما أن يكون من جهة المتن أو السند أو القرينة. أما من جهة السند فيقدم المتواتر على الآحاد القطعية والأكثر رواة على الأقل ويقدم المسند على المرسل لأنه مختلف في كونه حجة والمرفوع على الموقوف والمتصل على المنقطع والمتفق عليه في ذلك على المختلف فيه ورواية المتقن والأتقن والضابط والأضبط والعالم والأعلم والورع والأورع والتقي والأتقى على غيرهم وصاحب القصة والملاب لها على غيره لاختصاصه بمزيد علم يوجب إصابته مثال رواية صاحب القصة حديث ميمونة رضي الله عنها: "تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حلال". فحديثها يقدم على حديث ابن عباس أنه تزوجها وهو محرم ومثال حديث الملابس يعني المباشر للقصة حديث أبي رافع. "تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال وكنت السفير بينهما" فإنه يقدم على حديث ابن عباس وتقدم الرواية المتسقة المنتظمة على الرواية المضطربة والمتأخرة على المتقدمة ومعنى اتساق الرواية انتظامها وهو ارتباط بعض ألفاظها ببعض ووفاء الألفاظ بالمعنى من غير نقص مخل ولا زيادة مخلة واضطرابها تنافر ألفاظها واختلافها بالزيادة والنقص ومثال المتأخرة الحديث الصحيح كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار وأما تقديم رواية متقدم الإسلام على متأخره ففيه خلاف اختار القاضي والمجد والطوفي أنهما سواء وقال ابن عقيل والأكثر ترجح رواية متأخر الإسلام على متقدمه. قلت: وهو الصواب لأنه يحفظ آخر الأمرين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه عمل أصحابنا في الفروع وفي تقديم رواية الخلفاء الأربعة خلاف(1/209)
أيضا واختار تقديمهم الفخر والطوفي وتبعهما المرداوي في التحرير والفتوحي في مختصره. قال الطوفي: والأشبه ترجيح رواية الأكابر يعني من الصحابة رضوان الله عليهم انتهى. قلت وهو الحق. وأما الترجيح اللفظي من جهة المتن فهو مبني على تفاوت دلالات العبارات في أنفسها فيرجح الأدل منها فالأدل فالنص مقدم على الظاهر وللظاهر مراتب باعتبار لفظه أو قرينته فيقدم الأقوى منها فالأقوى بحسب قوة دلالته وضعفها ويقدم الخبر المختلف في اللفظ فقط على ما اتحد لفظه ولم يختلف لدلالة اختلاف ألفاظه على اشتهاره واختار قوم تقديم ما اتحد لفظه على غيره ولكل من القولين مرجح فهي مسألة اجتهادية. والصواب أن اختلاف الألفاظ إن كان مما يختلف به المعنى ولو أدنى اختلاف أو تغير انتظام الرواية واتساقها قدم المتحد لفظا وإلا فالمختلف أو يتعارضان وأما المختلف معنى فإنه لا يعارض المتحد معنى قولا واحدا ويقدم ذو الزيادة على ما لا زيادة فيه والمثبت على النافي إلا أن يسند النفي إلى علم بالعدم كقوله اعلم أن فلانا فعل كذا لا عدم العلم كأن يقول لم أعلم أن فلانا فعل كذا فإن استند الحديثان إلى عدم العلم استويا ويقدم ما اشتمل على حظر أو وعيد على غيره احتياطا وهذه طريقة القاضي أبي يعلى وقيل لا يرجح بذلك ويرجح الناقل عن حكم الأصل على غيره مثل أن يلتزم أن الأصل في الأشياء الإباحة ثم نجد دليلين أحدهما حاكم بالإباحة والثاني بالحظر وإذا تعارض دليلان أحدهما مسقط للحد والآخر يوجبه أو أحدهما يوجب الجزية والآخر يمنعها لم يرجح مسقط الحد وموجب الجزية على مقابلهما إذ لا تأثير لذلك في صدق الراوي. وقيل بلى لموافقتهما الأصل ويقدم قوله عليه الصلاة والسلام على فعله لأن القول له صيغة دلالة بخلاف الفعل فإنه لا صيغة له تدل بنفسها وإنما دلالة الفعل لأمر خارج وهو كونه عليه السلام واجب الاتباع فكان القول أقوى فيرجح لذلك.
وأما الترجيح من جهة القرينة فإذا تعارض عامان أحدهما باق على عمومه والآخر قد خص بصورة فأكثر رجح الباقي على عمومه على المخصوص وكذلك يقدم ما خص بصورة على ما خص بصورتين وهكذا فيما بعد ذلك وحاصله أنه يقدم الأقل تخصيصا على الأكثر ويقدم من النصين ما تلقاه العلماء بالقبول ولم يلحقه إنكار من أحد منهم على ما فيه الإنكار من بعضهم وهذه القاعدة تقضي بتقديم ما روي في الصحيحين أو أحدهما(1/210)
على ما لم يرو فيهما لتلقي الأمة لهما بالقبول ويقدم ما أنكره واحد على ما أنكره اثنان وهكذا في اثنين وثلاثة ويرجح ما عضده عموم كتاب أو سنة أو قياس شرعي أو معنى عقلي على ما لم يعضده بشيء من ذلك فإن عضد أحد النصين قرآن والآخر سنة ففيه روايتان:
أحدهما : يقدم ما عضده القرآن وهو المختار.
وثانيهما : يقدم ما عضده الحديث والضابط أنه يرجح ما تخيل فيه زيادة قوة كائنا من ذلك ما كان وقد تتخيل زيادة القوة مع اتحاد النوع واختلافه ويرجح ما ورد ابتداء على غير سبب على ما ورد على سبب لاحتمال اختصاصه بسببه وما عمل به الخلفاء الراشدون على غيره على القول المختار.
تنبيه : قال الطوفي في شرح مختصره: إذا وجدنا فتيا صحابي مشهور بالعلم والفقه على خلاف نص لا يجوز لنا أن نجزم بخطئه الخطأ الاجتهادي لاحتمال ظهور الصحابي على نص أو دليل راجح أفتي به فإن الصحابة رضي الله عنهم أقرب إلى معرفة النصوص منا لمعاصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وكم من نص نبوي كان عند الصحابة رضي الله عنهم ثم دثر فلم يبلغنا وذلك كفتيا علي وابن عباس رضي الله عنهما أن المتوفى عنها زوجها تعتد بأطول الأجلين ونحوها من المسائل التي نقم بعض الناس على علي فيها لمخالفته للنص وخطئه بذلك انتهى. وإذا تعارض خبران أحدهما قد نقل عن رواية خلافه قولا أو فعلا والآخر لم ينقل عن رواية خلافه قدم الثاني ولا ترجيح بقول أهل المدينة خلافا لبعض الشافعية ولا بقول أهل الكوفة خلافا لبعض الحنفية وإذا كان الخبر يحتمل وجوها وتتجه له محامل ففسره الراوي على بعضها كان ما فسره الراوي عليه مقدما على باقيها وكذلك إن ترجح بعض الاحتمالات المذكورة بوجه من وجوه الترجيح كان مقدما على غيره ما لم يترجح بذلك.
وأما الترجيح من جهة القياس فهو إما من جهة أصله أو علته أو قرينة تقترن بأحد القياسين تعضده فيترجح على الآخر أما الأول فمن وجوه: أحدها: إذا أمكن قياس الفرع على أصلين حكم أحدهما ثابت
بالإجماع والآخر ثابت بالنص كان القياس على الأصل الثابت بالإجماع مقدما على ما يثبت بالنص. ثانيها : حكم الأصل الثابت بمطلق(1/211)
النص راجح على حكم الأصل الثابت بالقياس. ثالثها : حكم الأصل الثابت بالقرآن الكريم أو بالسنة المتوترة راجح على حكم الأصل الثابت بآحاد السنة. رابعها : الحكم المقيس على أصول أكثر راجح على غيره. خامسها: المقيس على أصل لم يخص راجح على المقيس على أصل مخصوص وبالجملة أن حكم أصل القياس حكم مستنده الذي ثبت به فما قدم من المستندات قدم ما ثبت به من أصول الأقيسة وأما الثاني وهو ترجيح القياس من جهة علته فمن وجوه أيضا:
أولها : ترجح العلة المجمع عليها على العلة التي ليس بمجمع عليها.
ثانيها : ترجح العلة المنصوصة على المستنبطة.
ثالثها : ترجح العلة التي تثبت عليتها بالتواتر على التي تثبتت عليتها بالآحاد.
رابعها : ترجح العلة المناسبة على غيرها لكن هذا في العلتين المنصوصتين أو المستنبطين أما إذا كانت إحداهما منصوصة فهي الراجحة سواء كانت مناسبة أو أشد مناسبة أو لا.
خامسها : ترجح العلة الناقلة عن حكم الأصل على العلة المقررة عليه.
سادسها : ترجح العلة التي توجب الحظر على التي توجب الإباحة.
سابعها : ترجح العلة المسقطة للحد على موجبته وموجبة العتق على ناقيته والتي هي أخف حكما على التي هي أثقل حكما لكن هذا كله في المنصوصتين وفي المستنبطتين أما في المنصوصة والمستنبطة فالمنصوصة واجبة التقديم في كل حال.
ثامنها : ترجع العلة التي هي وصف على التي هي اسم لأن التعليل بالأوصاف متفق عليه بخلاف العليل بالأسماء فتعليل الرباء في الذهب بكونه موزونا يقدم على التعليل بكونه ذهبا.
تاسعها : تقدم العلة المردودة إلى أصل قاس الشارع عليه على غيرها كقياس النبي صلى الله عليه وسلم القبلة في الصيام على المضمضة.
عاشرها : ترجح العلة المطردة على غير المطردة إن قيل بصحتها.(1/212)
حادي عشرها: العلة المنعكسة راجحة على غير المنعكسة على القول باشتراط العكس في العلل نعم إن العلة القاصرة لا يمكن القياس عليها وليس فائدة هذا ترجيح أحد القياسين على الآخر بل فائدته أنا إذا رجحنا المتعدية أمكن القياس. ويقدم الحكم الشرعي واليقيني على الوصف الحسي والإثباتي عند قوم ويرجح المؤثر على الملائم والملائم على الغريب وقد سبقت حقائقها وأحكامها وصفاتها ومراتبها عند الكلام على طريق إثبات العلة عند ذكر أقسام المناسب. وإذا دارت علة القياس بين وصف مناسب وشبهي قدم المناسب لأنه متفق عليه والمصلحة فيه ظاهرة بخلاف الشبهي فيهما. واعلم أن تفاصيل الترجيح لم تنحصر فيما ذكرناه وقد ذكر في كتب الأصول المطولة أكثر منها والقاعدة الكلية في الترجيح أنه متى اقترن بأحد الدليلين المتعارضين أمر نقلي كآية أو خبر أو اصطلاحي كعرف أو عادة عاما كان الأمر أو خاصا أو قرينة عقلية أو لفظية أو حالية وأفاد ذلك زيادة ظن رجح به وقد حصل بهذا بيان الرجحان من جهة القرائن فلا حاجة إلى ذكر ما وعدنا به من القسم الثالث الذي هو الترجيح بالقرائن مفصلا ووجه الرجحان في أكثر هذه الترجيحات ظاهر لمن تفطن وأعمل ما وهبه الله تعالى من الفكر السليم والعقل المستقيم.
واعلم أني حين ما تكلمت على هذا النوع كنت أستمد من الروضة للإمام موفق الدين عبد الله المقدسي صاحب المغني وغيره ومن مختصر الروضة وشرحها للعلامة نجم الدين الطوفي ومن التحرير للعلامة علاء الدين المرداوي ومن مختصره وشرحه كليهما للعلامة أحمد الفتوحي صاحب كتاب منتهى الإرادات ومن مختصر ابن الحاجب وشرحه للعلامة عضد الدين الآيجي فهؤلاء أصول كتابي هنا وكنت كثيرا ما أراجع مسودة الأصول لمجدالدين وابنه عبد السلام وحفيده شيخ الإسلام وهم بنو تيمية وحصول المأمول من علم الأصول لصديق حسن خان مع التقاط فوائد كثيرة من المستصفى للغزالي ومنتهى السول للآمدي وجمع الجوامع لابن السبكي وشرحه للمحلى والتنقيح وشرحه التوضيح لصدر الشريعة وحاشيته والتلويح لسعدالدين التفتازاني والمنهاج للبيضاوي وشرحه للأسنوي والتمهيد لأبي الخطاب والواضح لابن عقيل وآداب المفتي لابن حمدان فأسأله تعالى أن يوفقنا لكل خير وينفع بنا وينفعنا ويجعلنا أهلا لخدمة هذه الشريعة آمين.(1/213)
العقد السادس: فيما اصطلح عليه المؤلفون في فقه الإمام أحمد مما يحتاج إليه المبتدي
قد غلب على الفقهاء من أصحابنا وغيرهم أنهم يكتفون في الألقاب بالنسبة إلى صناعة أو محلة أو قبيلة أو قرية فيقولون مثلا الخرقي نسبة إلى بيع الخرق. والخلال والطيالسي. والحربي نسبة إلى باب حرب محلة في بغداد كالزهري والتميمي وكاليونيني والبعلي والصاغاني والحراني وأمثال ذلك فيطلقون تلك الأسماء بلا تعظيم وكانت هذه عادة المتقدمين ثم جاء من بعدهم فأكثروا الغلو في الألقاب التي تقتضي التزكية والثناء فقالوا علم الدين ومحيي الدين ومجدالدين وشهاب الدين إلى غير ذلك من الألقاب الضخمة وعم ذلك بلاد العرب والعجم ولم يرتض هذا غالب العلماء فقد نقل في الفروع عن القاضي أبي يعلى أنه قال وتكره التسمية بكل اسم فيه تفخيم أو تعظيم واحتج بهذا على معنى التسمي بالملك لقوله له الملك وأجاب بأن الله إنما ذكره إخبارا عن الغير وللتعريف فإنه كان معروفا عندهم به ولأن الملك من أسماء الله المختصة بخلاف حاكم الحكام وقاضي. القضاة لعدم التوقيف وبخلاف الأوحد فإنه يكون في الخير والشر ولأن الملك هو المستحق لمالك وحقيقته إما التصرف التام وإما التصرف الدائم ولا يصحان إلا لله وفي الصحيحين بلفظه أو دلالة حال وأبي داود: "وأخنا الأسماء يوم القيامة وأخبثه رجل كان سمي ملك الأملاك لا ملك إلا الله" وروى الإمام أحمد: "اشتد غضب الله على رجل تسمى ملك الأملاك لا ملك إلا الله" . وأفتى أبو عبد الله الصيمري الحنفي وأبو الطيب الطبري والتميمي الحنبلي بالجواز والماوردي بعدمه وجزم به في شرح مسلم قال ابن الجوزي في تاريخه قول الأكثر هو القياس إذا أريد ملوك الدنيا. وقول الماوردي أولى للخبر وأنكر بعض الحنابلة على بعضهم في الخطبة قوله الملك العادل ابن أيوب واعتذر الحنبلي بقوله عليه السلام: "ولدت في زمن الملك العادل" 1 وقد قال الحاكم في تاريخه الحديث الذي روته العامة: "ولدت في زمن الملك
__________
1 رواه السيوطي في الدرر المنتثرة "170"، والألباني في السلسلة الضعيفة "997".(1/214)
العادل" 1 باطل ليس له أصل بإسناد صحيح ولا سقيم. قلت أورد في الفروع هذه الحكاية مبهمة وهي إنما كانت يمين الشيخ أبي عمر المقدسي فإنه هو الذي قال وانصر الملك العادل فرد عليه اليونيني فاحتج أبو عمر بالحديث فأنكره اليونيني وبين بطلانه قال في الفروع ولم يمنع جماعة التسمية بالملك انتهى. ومنع أبو عبد الله القرطبي في كتابه شرح الأسماء الحسنى من النعوت التي تقتضي التزكية والثناء كزكي الدين ومحيي الدين وعلم الدين وشبه ذلك وقال أحمد بن النحاس الدمياطي الحنفي ثم الشافعي في كتابه تنبيه الغافلين عند ذكر المنكرات فمنها ما عمت به البلوى في الدين من الكذب الجاري على الألسن وهو ما ابتدعوه من الألقاب كمحيي الدين ونور الدين وعضد الدين وغياث الدين ومعين الدين وناصر الدين ونحوها من الكذب الذي يتكرر على الألسنة حال النداء والتعريف والحكاية وكل هذا بدعة في الدين ومنكر انتهى.
وقال ابن القيم وقد كان جماعة من أهل الدين يتورعون عن إطلاق قاضي القضاة وحاكم الحكام قال وكذلك تحرم التسمية بسيد الناس وسيد الكل كما يحرم بسيد ولد آدم انتهى. أي لأنه لا يليق إلا به صلى الله عليه وسلم وقد توسط الحجاوي في إقناعه فقال ومن لقب بما يصدق فعله للقبه جاز ويحرم ما لم يقع على مخرج صحيح على أن التأويل في كمال الدين وشرف الدين كمله وشرفه قاله ابن هبيرة هذا كلامه. ومن اصطلاح الفقهاء التسمية بشيخ الإسلام وكان العرف بيما سلف أن هذا اللفظ يطلق على من تصدر للإفتاء وحل المشكلات فيما شجر بين الناس من النزاع والخصام من الفقهاء العظام والفضلاء الفخام كشيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحراني وصاحب المغني وغيرهما. وقال السخاوي في كتاب له سماه الجواهر كان السلف يطلقون شيخ الإسلام على المتبع لكتاب الله وسنة رسوله مع التبحر في العلوم من المعقول والمنقول. قال: وقد يوصف به من طال عمره في الإسلام فدخل في عداد من شاب في الإسلام كانت له نورا ولم تكن هذه اللفظة مشهورة بين القدماء بعد الشيخين الصديق والفاروق فإنه ورد وصفهما بذلك ثم اشتهر به جماعة من علماء السلف حتى ابتذلت على رأس المائة الثامنة فوصف بها من لا يحصى وصارت لقبا لمن ولي القضاء الأكبر ولو عري عن العلم والسن هذا كلامه ثم صارت
__________
1 رواه السيوطي في الدرر المنتثرة "170"، والألباني في السلسلة الضعيفة"997"(1/215)
الآن لقبا لمن تولى منصب الفتوى وإن عري عن الدين والتقوى بل صارت الألقاب الضخمة للباس والزي والعمائم والكبار والأكمام الواسعة والعلم عند الله وحيث أفضى بنا المقال إلى هذا البحث فلنذكر المبهمات ممن أطلق فيكتب الفقه فنقول إن أصحابنا منذ عصر القاضي أبي يعلى إلى أثناء المائة الثامنة يطلقون لفظ القاضي ويريدون به علامة زمانه. محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء الملقب بأبي يعلى وكذا إذا قالوا أبو يعلى وأطلقوه وإذا قالوا أبو يعلى الصغير فالمراد به ولده محمد صاحب الطبقات وأما المتأخرون كصاحب الإقناع والمنتهى ومن بعدهما فيطلقون لفظ القاضي ويريدون به القاضي علاء الدين علي بن سليمان السعدي المرداوي ثم الصالحي وكذلك يلقبونه بالمنقح لأنه نقح المقنع في كتابه التنقيح المشبع وكانت وفاته سنة خمس وثمانين وثمانمائة ويسمونه المجتهد في تصحيح المذهب وقال الشيخ منصور البهوتي الحنبلي في شرح الإقناع إذا أطلق المتأخرون كصاحب الفروع والفائق والاختيارات وغيرهم الشيخ أرادوا به الشيخ العلامة موفق الدين أبا محمد عبد الله بن قدامة المقدسي وإذا قيل الشيخان فالموفق والمجد يعني مجد الدين عبد السلام ابن تيمية وإذا قيل الشارح فهو الشيخ شمس الدين عبد الرحمن ابن الشيخ أبي عمر القدسي وهو ابن أخي موفق الدين وتلميذه وإذا أطلق القاضي فالمراد به القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد الفراء وإذا قيل وعنه يعني عن الإمام أحمد رحمه الله وقولهم نصا معناه لنسبته إلى الإمام أحمد أيضا هذا كلامه قلت وإذا أطلقوا الشرح أرادوا به شرح المقنع المسمى بالشافي لابن أبي عمر المتقدم وهذا اصطلاح خاص وإلا فالقاعدة أن شارح متن متى أطلق الشرح أو الشارح أراد به أول شارح لذلك المتن لكن لما كان كتاب المقنع أصلا لمتون المتأخرين وكان شمس الدين أول شارح له لا جرم استعملوا هذا الاصطلاح ولا مشاحة. وكثيرا ما يطلق المتأخرون الشيخ ويريدون به شيخ الإسلام ابن تيمية ومنهم ابن قندس في حواشي الفروع وإذا أطلق الإمام علي ابن عقيل وأبو الخطاب شيخنا أرادوا به القاضي أبا يعلى وإذا أطلقه ابن القيم وابن مفلح صاحب الفروع أرادا به شيخ الإسلام وقال صاحب الإقناع ومرادي بالشيخ يعني حيث أطلق شيخ الإسلام بحر العلوم أبوالعباس أحمد بن تيمية انتهى. وقد سلك طريقته من جاء بعده ثم اعلم أن الأصحاب في مصنفاتهم كثيرا ما يستعملون المبهمات في الأسماء(1/216)
والكتب فيبقى ذلك مغلقا على من لا اطلاع له على كتب الطبقات والتاريخ فمن ثم خطر لي أن أبين بعض ذلك خدمة للمبتدئين وتذكرة لغيرهم فأقول:
ابن المنادي: هو أحمد بن جعفر بن محمد بن عبد الله توفي سنة ست وثلاثين وثلاثمائة.
ابن قاضي الجبل: أحمد بن الحسن بن عبد الله بن أبي عمر المقدسي من بني قدامة من تلامذة شيخ الإسلام بن تيمية صاحب كتاب الفائق. توفي سنة إحدى وسبعين وسبعمائة وله اختيارات في المذهب.
ابن حمدان: أحمد بن حمدان بن شبيب بن حمدان بن شبيب بن حمدان النميري الحراني الفقيه الأصولي. له الرعاية الصغرى والكبرى وفيها نقول كثيرة جدا وبعضها غير محرر. توفي سنة خمس وتسعين وستمائة.
أبو بكر النجاد: أحمد بن سليمان بن الحسن بن إسرائيل بن يونس المحدث
توفي سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة.
الأثرم: أحمد بن محمد بن هانىء الطائي الإمام الجليل الحافظ. مات بعد الستين ومائتين وكان عنده تيقظ عجيب. أثنى عليه يحيى بن معين وقال إبراهيم بن الأصفهاني هو أحفظ من أبي زرعة الرازي وأتقن. روى عنه النسائي وجماعة. وقال في تذهيب الكمال أبو بكر الأثرم الخراساني البغدادي الإسكاف الفقيه الحافظ أحد الأعلام صاحب السنن عن أحمد بن حنبل وأبي نعيم وعفان والقعنبي وخلق روى عنه النسائي قال ابن حبان كان من خيار عبادالله انتهى
وهو أحد الناقلين روايات الإمام أحمد وأكثر أصحابنا المتقدمين يقولون عن أحاديث رواه الأثرم.
الخلال: أحمد بن محمد بن هارون أبو بكر سمع الحديث من ابن عرفة وغيره صاحب الجامع والعلل والسنة والطبقات وتفسير الغريب والأدب وهو الذي جمع في كتابه الروايات عن الإمام أحمد كما أسلفنا ذلك. توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة.
ابن نصرالله: أحمد بن نصرالله بن أحمد بن محمد بن عمر شيخ المذهب ومفتي الديار المصرية البغدادي الأصل ثم المصري صاحب حواشي المحرر والفروع. توفي سنة أربع وأربعين وثمانمائة(1/217)
الحربي: اسمه إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم صاحب غريب الحديث ودلائل النبوة. توفي سنة خمس وثمانين ومائتين وهو أحد الناقلين مذهب أحمد عنه قاله في المطلع وقال هكذا قيدناه عن بعض شيوخنا وكذا سمعته من غير واحد منهم.
ابن شاقلا: بسكون القاف وفتح اللام هو إبراهيم بن أحمد بن عمر بن حمدان ابن شاقلا الفقيه الأصولي. توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة.
ابن البنا: الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البنا البغدادي الإمام الفقيه المقري المحدث الواعظ له نحو من خمسمائة مصنف وهو صاحب كتاب المجرد في الفقه وشرح الخرقي. توفي سنة إحدى وسبعين وأربعمائة.
ابن حامد: الحسن بن حامد بن علي بن مروان البغدادي إمام الحنابلة في زمنه ومؤدبهم ومعلمهم وأستاذ القاضي أبي يعلى له الجامع في المذهب وشرح الخرقي. توفي سنة ثلاث وأربعمائة.
صاحب البلغة في الفقه: الحسين بن المبارك بن محمد بن يحيى بن مسلم الربعي البغدادي. توفي سنة إحدى وثلاثين وستمائة.
صاحب الوجيز: الحسن بن يوسف بن محمد بن أبي السري الدجيلي ثم البغدادي الإمام الفقيه المفنن ألف الوجيز في الفقه وكتابا في أصول الدين ونزهة الناظرين وتنبيه الغافلين وله قصيدة لامية في الفرائض. توفي سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة.
حرب الكرماني: حرب بن إسماعيل بن خلف الحنظلي الكرماني ممن روى مسائل عن الإمام أحمد.
ابن شيخ السلامية: حمزة بن موسى بن أحمد بن الحسين بن بدران شرح بعض الأحكام لمجد الدين ابن تيمية وهو من المنتصرين لشيخ الإسلام ابن تيمية والعارفين بفتاواه. توفي سنة تسع وستين وسبعمائة.
حنبل بن إسحاق بن حنبل: الشيباني ابن عم الإمام أحمد كان ثقة ثبتا. وثقه الدارقطني قال حنبل: جمعنا عمي وأولاده وقرأ علينا المسند وما سمعه منه يعني تاما(1/218)
غيرنا وقال لنا: إن هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة ألف وخسمين ألفا فما اختلف الناس فيه من حديث رسول الله فأرجعوه إليه فإن وجدتموه فيه وإلا فليس بحجة توفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين.
الطوفي: سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد الطوفي ثم البغدادي الفقيه الأصولي المفنن صاحب مختصر الروضة الأصولية وشرحها شرحا متقنا عجيبا وشرح الخرقي. توفي سنة عشر وسبعمائة.
صالح بن الإمام أحمد: كان أكبر أولاده وكان أبوه يحبه ويكرمه ونقل عن أبيه مسائل كثيرة. توفي سنة ست وستين ومائتين.
عبد الله: ابن الإمام أحمد كان ثبتا فهما ثقة حافظا وثقه ابن الخطيب وغيره. توفي سنة تسعين ومائتين.
موفق الدين: عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الأصل ثم الدمشقي الصالحي. قال ابن غنيمة ما أعرف أحدا في زمننا أدرك درجة الاجتهاد إلا الموفق انتهى. وهو مؤلف المغني والكافي والمقنع والعمدة ومختصر الهداية في الفقه. توفي سنة عشرين وستمائة.
المهم شرح الخرقي: تأليف الفقيه الزاهد عبد الله بن أبي بكر ابن أبي البدر الحربي البغدادي توفي سنة إحدى وثمانين وستمائة.
الوجيز: تأليف عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن إسماعيل ابن أبي البركات.
الزريراني البغدادي فقيه العراق ومفتي الآفاق حكي عنه في المقصد الأرشد أنه طالع المغني للموفق ثلاثا وعشرين مرة وعلق عليه حواشي. توفي سنة تسع وعشرين وسبعمائة.
القواعد : تصنيف العلامة الحافظ شيخ الحنابلة في وقته عبد الرحمن ابن أحمد بن رجب البغدادي ثم الدمشقي. توفي سنة خمس وتسعين وسبعمائة.
ابن رزين: عبد الرحمن بن رزين بن عبد الله بن نصر بن عبيد الغساني الحوراني ثم(1/219)
الدمشقي كان فقيها فاضلا اختصر المغني في مجلدين وسمى ما اختصره التهذيب. توفي سنة ست وخمسين وستمائة.
الحاوي: تصنيف الفقيه عبد الرحمن ابن عمر ابن أبي القاسم بن علي الضرير البصري حفظ كتاب الهداية لأبي الخطاب. توفي سنة أربع وثمانين وستمائة.
الشارح وصاحب الشرح: عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي ثم الصالحي الإمام الفقيه الزاهد شرح المقنع في عشر مجلدات مستمدا من المغني ومتى قال الأصحاب قال في الشرح كان المراد هذا الكتاب ومتى قالوا الشارح أرادوا مؤلفه. توفي سنة اثنتين وثمانين وستمائة.
غلام الخلال: عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن دارا الإمام المحدث الفقيه يكنى بأبي بكر له الشافي والتنبيه والمقنع وزاد المسافر في الفقه وكثيرا ما يقول أصحابنا قاله أبو بكر عبد العزيز في الشافي ونحو هذه العبارة. توفي سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.
الرستغني: عبد الرزاق بن رزق الله ابن أبي بكر بن خلف ابن أبي الهيجاء الفقيه المحدث المفسر لم أر له ذكرا في كتب الفقهاء على أني وجدت بخط محمد ابن كنان الصالحي أنه رأى له شرحا على الخرقي مزجا في مجلدين قلت ورأيت له تفسيرا للقرآن سماه رموز الكنوز وهو تفسير جليل في أربع مجلدات يذكر فيه أحاديث يرويها بالسند ويناقش الزمخشري في كشافه ويذكر فروع الفقه على الخلاف بدون دليل وبالجملة هو تفسير مفيد جدا لمن طالعه. توفي سنة ستين وستمائة.
الشريف أبو جعفر: الهاشمي العباسي له ذكر في كتب أصحابنا وهو عبد الخالق بن عيسى يتصل نسبه بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه. كان مختصر الكلام مليح التدريس جيد الكلام في المناظرة عالما بالفرائض وأحكام القرآن والأصول له مقامات في منع البدع عند الخلفاء. توفي سنة سبعين وأربعمائة.
المنتخب: تصنيف عبد الوهاب ابن عبد الواحد بن محمد بن علي الشيرازي ثم الدمشقي الفقيه الواعظ له المنتخب في الفقه مجلدان والمفردات والبرهان في أصول الدين. توفي سنة ست وثلاثين وخمسمائة.(1/220)
الغنية : تأليف شيخ العصر وقدوة العارفين عبد القادر بن أبي صالح عبد الله ابن جنكي دوست الجيلي البغدادي المشهور.
المجد : عبد السلام بن عبد الله ابن أبي القاسم الخضر بن محمد بن علي ابن تيمية الحراني. الفقيه المفنن المقري الملقب. بمجد الدين جد شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية صاحب المنتقى والمحرر في الفقه ومسودة منتهى الغاية في شرح الهداية بيض بعض الشرح وله مسودة في أصول الفقه زاد فيها ولده عبد الحليم ثم حفيده شيخ الإسلام وله كتاب أحاديث التفسير. توفي سنة اثنتين وخمسين وستمائة.
ابن الزغواني: علي بن عبد الله بن نصر بن السري الزاغوني البغدادي الفقيه المحدث الواعظ أحد أعيان المذهب صنف الإقناع والواضح والخلاف الكبير والمفردات والتلخيص في الفرائض
توفي سنة سبع وعشرين وخمسمائة.
ابن عبدوس: علي بن عمر بن أحمد بن عمار بن أحمد بن علي بن عبدوس الحراني الفقيه الواعظ له كتاب المذهب في المذهب وله تفسير كبير. توفي سنة تسع وخمسين وخمسمائة.
ابن عقيل: علي بن محمد بن عقيل البغدادي وعقيل بفتح العين. الإمام الفقيه الأصولي المقري الواعظ أوحد المجتهدين صاحب المؤلفات وستأتي ترجمته في تراجم الكبار من أصحاب أحمد وله كتاب الفصول والتذكرة وكفاية المفتي سبع مجلدات كبار ورؤوس المسائل وغير ذلك في الفقه. توفي سنة ثلاث عشرة وخمسمائة.
الخرقي: عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء المهملة نسبة إلى بيع الخرق. ذكره. السمعاني هو صاحب المختصر المشهور. توفي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.
البوشنجي: محمد بن إبراهيم بن سعيد بن موسى أحد الناقلين الروايات عن الإمام أحمد. توفي سنة تسعين ومائتين.(1/221)
ابن أبي موسى: محمد بن أحمد بن أبي موسى الهاشمي صاحب الإرشاد. توفي سنة ثمان وعشرين وأربعمائة.
ابن تميم: محمد بن تميم الحراني الفقيه له المختصر المشهور في الفقه وصل فيه إلى أثناء كتاب الزكاة. توفي قريبا من سنة خمس وسبعين وستمائة.
الآجري : بمد الهمزة وضم الجيم وتشديد الراء المهملة محمد بن الحسن ابن عبد الله له مصنفات منها كتاب النصيحة في الفقه وعادته فيه أنه لا يذكر إلا اختيارات الأصحاب. توفي سنة ستين وثلاثمائة.
أبو يعلى: محمد بن الحسين ابن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء علامة الزمان قاضي القضاة مجتهد المذهب بل المجتهد المطلق له الخلاف الكبير والأحكام السلطانية وشرح الخرقي وستأتي ترجمته. توفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة.
البلغة : تصنيف محمد بن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله ابن تيمية الحراني الفقيه المفسر فخر الدين وله في الفقه الترغيب والتلخيص والبلغة وهو أصغرهما وشرح الهداية لأبي الخطاب ولم يتمه وهوابن عم مجد الدين. توفي سنة اثنتين وعشرين وستمائة.
المستوعب: بكسر العين تأليف محمد بن عبد الله بن الحسين السامري بضم الميم وتشديد الراء نسبة إلى مدينة سرمن رأى بضم السين له في الفقه المستوعب والفروق وكتاب البستان في الفرائض وغير ذلك. توفي سنة عشر وستمائة.
الناظم : محمد بن عبد القوي بن بدران المقدسي. الفقيه المحدث له منظومة الآداب صغرى وكبرى والفرائد تبلغ خمسة آلاف بيت وكتاب النعمة جزءان ونظم المفردات وكلها على روي الدال. توفي سنة تسع وتسعين وستمائة.
الحلواني : محمد بن علي بن محمد بن عثمان بن مراق الحلواني. له كفاية المبتدي في الفقه مجلد وكتاب في أصول الفقه مجلدان. توفي سنة خمس وخمسمائة.(1/222)
المفردات: اسم لمؤلفات متعددة في هذا النوع أشهرها عند المتأخرين الألفية المسمات بالنظم المفيد الأحمد في مفردات الإمام أحمد للقاضي محمد بن علي بن عبد الرحمن بن محمد الخطيب. توفي سنة عشرين وثمانمائة.
المطلع : تصنيف محمد بن أبي الفتح ابن أبي الفضل الفقيه المحدث النحوي اللغوي. وقد سمى كتابه هذا المطلع على أبواب المقنع فسر فيه الكلمات الغريبة الواقعة في المقنع على نمط المغرب للحنفية والمصباح للشافعية غير أنه رتبه على أبواب الكتاب لا على حروف المعجم ثم أتبعه بتراجم الأعلام المذكورين في المقنع فصار كشرح مختصر. توفي سنة تسع وسبعمائة.
أبو يعلى: الصغير محمد بن محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء هو ابن أبي يعلى المتقدم. توفي سنة ستين وخمسمائة.
الفروع: تصنيف محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج المقدسي ثم الصالحي الراميني شيخ الحنابلة في وقته وأحد المجتهدين في المذهب. توفي سنة ثلاث وستين وسبعمائة.
الزركشي: محمد بن عبد الله بن محمد الزركشي المصري شرح الخرقي شرحا لم يسبق إلى مثله وكلامه فيه يدل على فقه نفس وتصرف في كلام الأصحاب وله شرح على الخرقي مختصر وصل فيه إلى أثناء باب الأضاحي وله غير ذلك مما لم يكمل. توفي سنة أربع وسبعين وسبعمائة.
أبو الخطاب: محفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكلوذاني البغدادي أحد المجتهدين في المذهب له في الفقه الهداية والانتصار وهو الخلاف الكبير وله الخلاف الصغير سماه رؤوس المسائل. وله كتاب التمهيد في أصول الفقه. توفي سنة عشر وخمسمائة.
ابن المنجا: منجا بن عثمان بن أسعد بن المنجا التنوخي الفقيه الأصولي المفسر النحوي له الممتع شرح المقنع. توفي سنة خمس وتسعين وستمائة.
المروزي: هيدام بن قتيبة أحد الناقلين مذهب أحمد عنه. توفي سنة أربع وسبعين ومائتين.(1/223)
ابن الصيرفي: يحيى بن أبي منصور بن أبي الفتح بن رافع بن علي الحراني الفقيه المحدث المعمر بفتح الميم المشددة أحد مشايخ شيخ الإسلام ابن تيمية نقل عنه صاحب الفروع في كتاب الجنائز في باب عيادة المريض. توفي سنة ثمان وسبعين وستمائة.
ابن هبيرة: يحيى بن محمد بن هبيرة الدوري ثم البغدادي الوزير عون الدين شرح الصحيحين في عدة مجلدات وسماه الإفصاح عن معاني الصحاح ولما بلغ فيه إلى شرح "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" 1 شرح الحديث وتكلم على الفقه وذكر المسائل المتفق عليها والمختلف فيها بين الأئمة الأربعة وقد أفرده الناس من الكتاب وجعلوه مستقلا في مجلد لطيف وقد اطلعت عليه فوجدته كتابا نافعا وهذا الشرح صنفه في ولايته الوزارة وجمع الناس عليه من المذاهب حتى قدموا من البلاد الشاسعة وأنفق عليه نحو مائة ألف دينار وثلاثة عشر ألف وحدث به واجتمع الخلق العظيم لسماعه عليه.
قلت: سقى الله تلك الأيام التي كان بها الاعتناء بالعلم ثم ولت واضمحلت حتى لم يبق في أيامنا وفي بلادنا للعلم رسم ولا ظل. توفي سنة ستين وخمسمائة.
الآزجي : يحيى بن يحيى الأزجي الفقيه صاحب نهاية المطلب في علم المذهب. قال برهان الدين ابن مفلح في المقصد الأرشد هو كتاب كبير جدا حذا فيه حذو نهاية المطلب لإمام الحرمين وأكثر استمداده من المجرد للقاضي أبي يعلى والفصول لابن عقيل وفيه أشياء ساقطة لا تحقيق فيها قال ابن رجب ويغلب على ظني أنه توفي بعد الستمائة بقليل.
ابن قندس: أبو بكر بن إبراهيم بن قندس تقي الدين البعلي صاحب حواشي الفروع وحواشي المحرر. توفي سنة إحدى وستين وثمانمائة.
__________
1 رواه البخاري في كتاب العلم، باب: العلم قبل القول والعمل الخ، ومسلم في كتاب الإماررة، باب: 175، والترمذي في كتاب العلم، باب: 4، وابن ماجه في المقدمة، باب: فضائل العلماء والحث على العلم، والدرامي في المقدمة، باب: الاقتداء بالعلماء، والموطأ في كتاب القدر، باب: جامع ماجاء في أهل القدر، وأحمد في "م1/ص306".(1/224)
المبدع : شرح المقنع تأليف إبراهيم محمد بن الأكمل بن عبد الله بن محمد بن مفلح المقدسي الصالحي وكتابه المبدع: في أربع مجلدات وهو شرح حافل ممزوج مع المتن حذا فيه حذو المحلى الشافعي في شرح المنهاج الفرعي وفيه من الفوائد والنقول ما لا يوجد في غيره وصنف في الأصول كتابا سماه مرقاة الوصول إلى علم الأصول وله المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد. توفي سنة أربع وثمانين وثمانمائة. وهنا انتهى بنا المقال في بيان جل المبهمات التي يذكرها الأصحاب وأرجو الله أن يكون ذلك البيان وافيا بالمقصود ومفيدا للمشتغلين فائدة تبذل لي الأجر والثواب من الله الكريم الوهاب بمنه وكرمه هذا ولنختم هذا العقد بفوائد:
الأولى : لإبدائها الناظر في كتابي هذا أن يكون قد طرق سمعك لفظة أهل الرأي وحينئذ فاعلم أن أصحاب الرأي عند الفقهاء هم أهل القياس والتأويل كأصحاب أبي حنيفة النعمان وأبي الحسن الأشعري والتأويل علم ما يؤول إليه الكلام من الخطأ والصواب ويقابلهم أهل الظاهر وهم مثل داود الظاهري وابن حزم ومن نحا نحوهما.
الثانية : المراد بمذهب السلف ما كان عليه الصحابة الكرام وأعيان التابعين وأتباعهم وأئمة الدين ممن شهد له بالإمامة دون من رمي ببدعة أو شهر بلقب غير مرضي كالخوارج والروافض والقدرية والمرجئة والجبرية والجهمية والمعتزلة والكرامية ونحوهم. ثم غلب ذلك اللقب على الإمام أحمد وأتباعه على اعتقاده من أي مذهب كانوا فقيل لهم في فن التوحيد علماء السلف هذا ما اصطلح عليه أصحابنا والمحدثون. وقال ابن حجر الفقيه في رسالته شن الغارة الصدر الأول لا يقال إلا على السلف وهم أهل القرون الثلاثة الأول الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم خير القرون وأما من بعدهم فلا يقال في حقهم ذلك.
الثالثة : متى قال فقهاؤنا ولو كان كذا ونحوه كان إشارة إلى الخلاف وذلك كقول صاحب الإقناع وغيره في باب الآذان ويكرها أن يعني الآذان والإقامة للنساء ولو بلا رفع صوت فإنهم أشاروا بلو إلى الخلاف في المسألة ففي الفروع وفي كراهتهما يعني الآذان والإقامة للنساء بلا رفع صوت وقيل مطلقا روايتان وعنه يسن لهن الإقامة وفاقا للشافعي لا الآذان خلافا لمالك انتهى. فقوله ولو بلا رفع صوت إشارة إلى الرواية(1/225)
الثانية وقالوا أيضا ولا يكره ماء الحمام ولو سخن بنجس وفي هذه المسألة خلاف أيضا فقد قال في الفروع وعنه يكره ماء الحمام لعدم تحري من يدخله فاحفظ هذه القاعدة فإنها مهمة جدا.(1/226)
العقد السابع: في ذكر الكتب المشهورة في المذهب وبيان طريقة بعضها وما عليه من التعليقات والحواشي حسب الإمكان
تعلم أيها الفاضل الألمعي أن الخوض في هذا البحر الزاخر صعب المسلك بعيد المرمى خصوصا في هذا الزمان المعاند للعلم وأهله حتى رماهم في سوق الكساد ونادى عليهم بالحرمان فأنى لمثلي أن يجول في هذا الميدان ويناضل أولئك الفرسان مع أنه تمضي علي الشهور بل الأعوام ولا أرى أحدا يسألني عن مسألة في مذهب الإمام أحمد لانقراض أهله في بلادنا وتقلص ظله منها فلذلك أصبح اشتغالي بغير الفقه من العلوم وإن اشتغلت به فاشتغالي إما على طريقة الاستنباط وإما بمراجعة كتب الأئمة على اختلاف مذاهبهم ولولا أملي بنفع سكان جزيرة العرب من الحنابلة لما حركت فيما رأيت من الفوائد قلما ولا خاطبت رسما منها ولا طللا ولكن "إنما الأعمال بالبينات" 1 والله مطلع على السرائر نعم إن كثيرا من سكان الجزيرة وخصوصا أهل نجد أكثر الله من أمثالهم يبذلون الآن النفيس والنفيس بطبع كتب هذا المذهب ويحيون رفاة الكتب المندرسة منه فأحببت مشاركتهم في هذا الأجر وأقدمت على ذكر الكتب المشهورة ليتنبه أهل الخير إليها فيبرزونها مطبوعة طبعا حسنا لينتفع بها أهل هذا المذهب وغيرهم كما هي عادتهم في عمل الخير فقلت مستعينا بالله تعالى.
__________
1 رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب: ماجاء أن الأعمال بالنية وبالحسبة، ومسلم في كتاب الإمارة، باب: 155، وأبو داود في كتاب الطلاق، باب: فيما عني به الطلاق والنيات، الترمذي في كتاب فضائل الجهاد، باب: 16، والنسائي في كتاب الطهارة، باب: االنية في الوضوء، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب النية، وأحمد في "م1/ص25".(1/226)
لقد كانت دمشق فيما مضى أكثر بلاد الإسلام مدارس وكل مدرسة كان بها خزانة كتب تضم ما يحتاج إليه أهل المدرسة وكان في مدارس الحنابلة من كتبهم ما يبهر العقول وخصوصا المدرسة العمرية الشيخية التي بالصالحية فإنها كان بها من خزائن الكتب ما لا يوجد في غيرها ثم تلاعبت أيدي المختلسين في تلك الخزائن حتى تركوها وما بها ورقة واحدة ولم يبق بين أيدي الناس إلا ما نبا عنه طوفان الجهل وسلم من أفواه الأرضة ومع هذا فإنك ترى تلك البقية الباقية تكاد أن لا يكمل منها كتاب وليت هذه البقية من سفر من أسفار أو جزء من أجزاء مبذولة لمن ينتفع بها ولكن الزمان قضى عليها أن تكون في خزائن الجاهلين الذين لا ينتفعون بها ولا ينفعون وتلك البلية عمت فإنا لله وإنا إليه راجعون فلم يبق لنا إلا أن نذكر منها بعضا مما اطلعنا عليه عسى أن ينتفع بصنعنا من يطلع على كتابنا أو يستدرك عليه مستدرك فيكون لنا أجر السبق.
المغني ومختصرالخرقي: اشتهر في مذهب الإمام أحمد عند المتقدمين والمتوسطين مختصر الخرقي ولم يخدم كتاب في المذهب مثل ما خدم هذا المختصر ولا اعتني بكتاب مثل ما اعتني به حتى قال العلامة يوسف بن عبد الهادي في كتابه الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي قال شيخنا عزالدين المصري ضبطت للخرقي ثلاثمائة شرح وقد اطلعنا له على ما يقرب من عشرين شرحا وسمعت من شيوخنا وغيرهم أن من قرأه حصل له أحد ثلاث خصال إما أن يملك مائة دينار أو يلي القضاء أو يصير صالحا هذا كلامه وقال في المقصد الأرشد قال أبو إسحاق البرمكي عدد مسائل الخرقي ألفان وثلاثمائة مسألة فما ظنك بكتاب ولع مثل أبي إسحاق في عد مسائله وما ذلك إلا لمزيد الاعتناء به وكتب أبو بكر عبد العزيز على نسخته مختصر الخرقي خالفني الخرقي في مختصره في ستين مسألة ولم يسمها وقال القاضي أبو الحسين ابن الفراء تتبعها فوجدتها ثماني وتسعين مسألة انتهى. وبالجملة فهو مختصر بديع لم يشتهر متن عند المتقدمين اشتهار وأعظم شروحه وأشهرها المغني للإمام موفق الدين المقدسي وقد كان في تسع مجلدات ضخام بخطه وأغلب نسخه الآن في ثلاثة عشر مجلدا وطريقته في هذا الشرح أنه يكتب المسألة من الخرقي ويجعلها كالترجمة ثم يأتي على شرحها وتبيينها وببيان ما دلت عليه بمنطوقها ومفهومها ومضمونها ثم يتبع ذلك ما يشبهها مما ليس بمذكور في الكتاب(1/227)
فتحصل المسائل كتراجم الأبواب ويبين في كثير من المسائل ما اختلف فيه مما أجمع عليه ويذكر لكل إمام ما ذهب إليه ويشير إلى دليل بعض أقوالهم ويعزو الأخبار إلى كتب الأئمة من أهل الحديث ليحصل التفقه بمدلولها والتمييز بين صحيحها ومعلولها فيعتمد الناظر على معروفها ويعرض عن مجهولها والحاصل أنه يذكر المسألة من الخرقي ويبين غالبا روايات الإمام بها ويتصل البيان بذكر الأئمة من أصحاب المذاهب الأربع وغيرهم من مجتهدي الصحابة والتابعين تابعيهم وما لهم من الدليل والتعليل ثم يرجع قولا من أولئك الأقوال على طريقة فن الخلاف والجدل ويتوسع في فروع المسألة فأصبح كتابه مفيدا للعلماء كافة على اختلاف مذاهبهم وأضحى المطلع عليه ذا معرفة بالإجماع والوفاق والخلاف والمذاهب المتروكة بحيث تتضح له مسالك الاجتهاد فيرتفع من حضيض التقليد إلى ذروة الحق المبين ويمرح في روض التحقيق. قال ابن مفلح في المقصد الأرشد اشتغل الموفق بتأليف المغني أحد كتب الإسلام فبلغ الأمل في إنهائه وهو كتاب بليغ في المذهب تعب فيه وأجاد فيه وجمل به المذهب وقرأه عليه جماعة وأثنى ابن غنيمة على مؤلفه فقال ما أعرف أحدا في زماننا أدرك درجة الاجتهاد إلا الموفق وقال الشيخ عزالدين ابن عبد السلام ما رأيت في كتب الإسلام مثل المحلى والمجلى لابن حزم وكتاب المغني للشيخ موفق الدين في جودتهما وتحقيق ما فيهما ونقل عنه أنه قال لم تطب نفسي بالإفتاء حتى صارت عندي نسخة المغني نقل ذلك ابن مفلح. وحكي أيضا في ترجمة الزيراني صاحب الوجيز أنه طالع المغني ثلاثا وعشرين مرة وعلق عليه حواشي وحكي أيضا في ترجمة ابن رزين أنه اختصر المغني في مجلدين وسماه التهذيب وحكي أيضا في ترجمة عبد العزيز بن علي بن العز بن عبد العزيز البغدادي ثم المقدسي المتوفى سنة ست وأربعين وثمانمائة أنه اختصر المغني.
ومما اطلعنا عليه من شروح الخرقي شرح القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين ابن الفراء البغدادي وهو في مجلدين ضخمين وبعض نسخه في أربع مجلدات وطريقته أنه يذكر المسألة من الخرقي ثم يذكر من خالف فيها ثم يقول ودليلنا فيفيض في إقامة الدليل من الكتاب والسنة والقياس على طريقة الجدل مثاله أنه يقول مسألة قال أبو القاسم ولا ينعقد النكاح إلا بولي وشاهدين من المسلمين أما قوله لا ينعقد إلا بولي فهو خلاف لأبي حنيفة في قوله الولي ليس بشرط في نكاح البالغة دليلنا فيذكر دليل(1/228)
المسألة سالكا مسلك فن الخلاف ثم يقول وقوله بشاهدين من المسلمين خلافا لمالك وداود في قولهما الشهادة ليست بشرط في انعقاد النكاح وخلافا لأبي حنيفة في قوله ينعقد بشاهد وامرأتين وينعقد نكاح المسلمة والكتابية بشهادة كافرين ثم يقول دليلنا على مالك وداود كذا وكذا وعلى أبي حنيفة كذا وكذا والفرق بين هذا الشرح وبين المغني أن المغني يسلك قريبا من هذا المسلك ويكثر من ذكر الفروع زيادة على ما في المتن فلذلك صار كتابا جامعا لمسائل المذهب وأما أبو يعلى فإنه لا يذكر شيئا زائدا على ما في المتن ولكنه يحقق مسائله ويذكر أدلتها ومذاهب المخالفين لها فإذا طبع المغني مع شرح القاضي قرب الناظر فيهما من أن يحيط بالمذهب دلائل وفروعا وحصلت له معرفة ببقية المذاهب وتلك غاية قصوى يحتاجها كل محقق وقد نظم الخرقي الفقيه الأديب اللغوي الزاهد الشاعر المفلق يحيى بن يوسف بن يحيى بن منصور بن المعمر بفتح الميم المشددة ابن عبد السلام الأنصاري الصرصري الزريراني الضرير صاحب الديوان المشهور في مدح النبي صلى الله عليه وسلم المتوفى سنة ست وخمسين وستمائة شهيدا قتله التتار وقد نظم الخرقي نظما صدره بخطبة نثرا قال فيها جعلت أكثر تعويلي في نظمي هذا على مختصر فيما نقلته إذ كان في نفسي أوثق من تابعته وسمى نظمه الدرة اليتيمة والمحجة المستقيمة ثم ذكر أنه كان قد عزم على نظم ربع العبادات ثم شرح الله صدره لإكمال الكتاب ففعل ونظمه من بحر الطويل وحرف الروي الدال قال في أوائل النظم.
يا طالبا للعلم والعمل استمع ... ما قلت مخصوصا بمذهب أحمد
إن من اختار الإمام ابن حنبل ... إماما له في واضح الشرح يهتدي
فاشرع في ذكر الطهارة أولا ... وهل عالم إلا بذلك يبتدي
وقال في آخر النظم.
ألفين فاعددها وسبعا مئاتها ... وسبعين بيتا ثم أربعة زد
بعد المئتين الست والأربع التي ... تلتها الثلاثون استتمت فقيد
بصرصر في أيام أشرف مالك ... أمور الورى المستنصر بن محمد
وناظمها يحيى بن يوسف أفقر الأنام إلى غفران رب ممجد.(1/229)
ثم إن الصرصري نظم زوائد الكافي على الخرقي في كتاب مستقل والنسخة التي رأيتها وجسدت أولها مخروما إلى باب المسح على الخفين فلم أدر شرطه فيها والنظم من بحر الطويل على روي الدال أيضا وقال في آخرها:
فخذها هداك الله أخذ موفق ... لغر المعاني حافظ متسدد
مسائل فقه واضحات لناشد ... بأبيات شعر رائقات لمنشد
وعدتها ألفان كن خير ألف ... لها تحمد الآثار منها وتحمد
تخيرتها مما حوى ابن قدامة الـ ... ـموفق في الكافي تخير مقتد
هما لقنا صدق له ولجمعه ... بتوفيقه تكفي الضلال وتهتدي
وأسندت منظومي إليه تبركا ... بألفاظه الحسنى تبرك أرشد
فهذي وما ألفت من قبلها إذا ... حفظتهما حفظ اللبيب المجود
وطارحت أهل البحث من فقهائنا ... بما حوت الثنتان ترشد وترشد
وألف في لغات الخرقي وشرح مفرداتها يوسف بن حسن بن عبد الهادي كتابا سماه الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي وهو في مجلد حذا فيه حذو صاحب المطلع ورتبه على أبواب الكتاب وقد رأيته بخطه في خزانة الكتب الدمشقية المودعة في قبة الملك الظاهر بيبرس وحكى في آخره أنه فرغ من تأليفه سنة ست وسبعين وثمانمائة وبالجملة فهو كتاب نافع في بابه هذا ما أمكنني الاطلاع عليه من مواد مختصر الخرقي.
المستوعب: بكسر العين المهملة تأليف العلامة مجتهد المذهب محمد بن عبد الله بن الحسين بن محمد بن قاسم بن إدريس السامري بضم الميم وكسر الراء مشددة المتقدم ذكره وهو كتاب مختصر الألفاظ كثير الفوائد والمعاني ذكر مؤلفه في خطبته أنه جمع فيه مختصر الخرقي والتنبيه للخلال والإرشاد لابن أبي موسى والجامع الصغير والخصال للقاضي أبي يعلى والخصال لابن البنا وكتاب الهداية لأبي الخطاب والتذكرة لابن عقيل ثم قال فمن حصل كتابي هذا أغناه عن جميع هذه الكتب المذكورة إذ لم أخل بمسألة منها إلا وقد ضمنته حكمها وما فيها من الروايات وأقاويل أصحابنا التي تضمنتها هذه الكتب اللهم إلا أن يكون في بعض نسخها نقصان ولقد تحريت(1/230)
أصح ما قدرت عليه منها ثم زدت على ذلك مسائل وروايات لم تذكر في هذه الكتب نقلتها من الشافي لغلام الخلال ومن المجرد ومن كفاية المفتي ومن غيرهما من كتب أصحابنا هذا كلامه وبالجملة فهو كتاب أحسن متن صنف في مذهب الإمام أحمد وأجمعه وقال في كتابه أنه لم يتعرض فيه لشيء من أصول الدين ولا من أصول الفقه ويكثر فيه من ذكر الآداب الفقهية انتهى. وهو في مجلدين ضخمين وقد حذا حذوه الشيخ موسى الحجاوي في كتابه الإقناع لطالب الانتفاع وجعله مادة كتابه وإن لم يذكر ذلك في خطبته لكنه عند تأمل الكتابين يتبين ذلك رحمهما الله تعالى.
الكافي : هو في مجلدين للشيخ موفق الدين المقدسي: صاحب المغني يذكر فيه الفروع الفقهية ولا يخلو من ذكر الأدلة والروايات قال مصنفه في خطبته توسطت فيه بين الإطالة والاختصار وأومأت إلى أدلة مسائل مع الاقتصار وغزوت أحاديثه إلى كتب أئمة الأمصار ورأيت كتابا لطيفا للحافظ الكبير صاحب الأحاديث المختارة محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور السعدي المقدسي الملقب بالضيا في تخريج أحاديث الكافي وقد توفي الحافظ سنة ثلاث وأربعين وستمائة.
العمدة : كتاب مختصر في الفقه لصاحب المغني جرى فيه على قول واحد مما اختاره وهو سهل العبارة يصلح للمبتدئين وطريقته فيه أنه يصدر الباب بحديث من الصحاح ثم يذكر من الفروع ما إذا أدققت النظر وجدتها مستنبطة من ذلك الحديث فترتقي همة مطالعه إلى طلب الحديث ثم يرتقي إلى مرتبة الاستنباط والاجتهاد في الأحكام ولنفاسته ولطف مسلكه شرحه الإمام بحر العلوم النقلية والعقلية أحمد بن تيمية الملقب بشيخ الإسلام فزينه بمسالكه المعروفة وأفرغ عليه من لباس الإجادة صنوفه وكساه حلل الدليل وحلاه بحلى جواهر الخلاف وزينه بالحق والإنصاف فرضي الله عنهما ولقد رأيت منه المجلد الأول أوله أول الكتاب وآخره باب الآذان.
مختصر ابن تميم: مؤلفه ابن تميم المتقدم يذكر فيه الروايات عن الإمام أحمد وخلاف الأصحاب ويذهب فيه تارة مذهب التفريغ وآونة إلى الترجيح وهو كتاب نافع جدا لمن يريد الاطلاع على اختيارات الأصحاب لكنه لم يكمل بل وصل فيه مؤلفه إلى أثناء كتاب الزكاة إلى قوله فصل ومن غرم لإصلاح ذات البين أي فإنه يعطى من الزكاة(1/231)
وطريقته فيه أنه إذا قال شيخنا يكون المراد به ناصح الدين أبو الفرج ابن أبي الفهم وظن بعضهم أنه يريد به أبا الفرج الشيرازي وهو غلط.
رؤوس المسائل: للشريف الإمام الأوحد عبد الخالق بن عيسى بن أحمد ابن أبي موسى الهاشمي المتقدم وطريقته فيه أنه يذكر المسائل التي خالف فيها الإمام واحدا من الأئمة أو أكثر ثم يذكر الأدلة منتصرا للإمام ويذكر الموافق له في تلك المسألة بحيث أن من تأمل كتابه وجده مصححا للمذاهب وذاهبا من أقوالها المذهب المختار فجزاه الله خيرا.
الهداية : لأبي الخطاب الكلوذاني مجلد ضخم جليل يذكر فيه المسائل الفقهية والروايات عن الإمام أحمد بها فتارة يجعلها مرسلة وتارة يبين اختياره وإذا قال فيه قال شيخنا أو عند شيخنا فمراده به القاضي أبو يعلى ابن الفراء وبالجملة فإنه حذا فيه حذو المجتهدين في المذهب للصحيحين لروايات الإمام وسمعنا أن الشيخ مجد الدين عبد السلام ابن تيمية وضع عليه شرحا سماه منتهى الغاية في شرح الهداية لكنه بيض بعضه وبقي الباقي مسودة وكثيرا ما رأينا الأصحاب ينقلون عن تلك المسودة ورأيت منها فضولا على هوامش بعض الكتب.
التذكرة : للإمام أبي الوفاء علي بن عقيل البغدادي جعلها على قول واحد في المذهب مما صححه واختاره وهي وإن كانت متنا متوسطا لا تخلو من سرد الأدلة في بعض الأحايين كما هي طريقة المتقدمين من أصحابنا.
المحرر: كتاب في الفقه للإمام مجد الدين عبد السلام بن تيمية الحراني حذا فيه حذو الهداية لأبي الخطاب يذكر الروايات فتارة يرسلها وتارة يبين اختياره فيها وقد شرحه الفقيه الفرضي المفنن عبد المؤمن بن عبد الحق بن عبد الله بن علي بن مسعود القطيعي الأصل البغدادي الملقب بصفي الدين المتوفى سنة تسع وثلاثين وسبعمائة شرحا سماه تحرير المقرر في شرح المحرر. قال في خطبته لم أذكر فيه سوى ما هو في الكتاب من الروايات والوجوه التي ذكرها غيره لخروج ذلك عن المقصود إنما أنا بصدد بيان ما أودع من ذلك لا غير انتهى. وطريقته فيه أنه يذكر المسألة من الكتاب ثم يشرع في شرحها ببيان مقاصدها ويبين منطوقها ومفهومها وما تنطوي عليه من المباحث ولا يخل مع ذلك(1/232)
بذكر الدليل والتعليل والتحقيق فهو من الكتب التي يليق الاعتناء بها ولتقي الدين بن قندس حاشية على المحرر ولابن نصرالله حواشي عليه حسنة وللإمام ابن مفلح حاشية على المحرر سماها النكت والفوائد السنية على المحرر لمجد الدين ابن تيمية موجود في خزانة الكتب الخديوية بمصر.
المقنع : هو في مجلد تأليف الإمام موفق الدين المقدسي وقال في خطبته اجتهدت في جمعه وترتيبه وإيجازه وتقريبه وسطا بين القصير والطويل وجامعا لأكثر الأحكام عرية عن الدليل والتعليل انتهى. وذلك أن موفق الدين راعى في مؤلفاته أربع طبقات فصنف العمدة للمبتدئين ثم ألف المقنع لمن ارتقى عن درجتهم ولم يصل إلى درجة المتوسطين فلذلك جعله عريا عن الدليل والتعليل غير أنه يذكر الروايات عن الإمام ليجعل لقارئه مجالا إلى كد ذهنه ليتمرن على التصحيح ثم صنف المتوسطين الكافي وذكر فيه كثيرا من الأدلة لتسمو نفس قارئه إلى درجة الاجتهاد في المذهب حينما يرى الأدلة وترتفع نفسه إلى مناقشتها ولم يجعلها قضية مسلمة ثم ألف المغني لمن ارتقى درجة عن المتوسطين وهناك يطلع قارئه على الروايات وعلى خلاف الأئمة وعلى كثير من أدلتهم وعلى ما لهم وما عليهم من الأخذ والرد فمن كان فقيه النفس حينئذ مرن نفسه على السمو إلى الاجتهاد المطلق إن كان أهلا لذلك وتوفرت فيه شروطه وإلا بقي على أخذه بالتقليد فهذه هي مقاصد ذلك الإمام في مؤلفاته الأربع وذلك ظاهر من مسالكه لمن تدبرها بل هي مقاصد أئمتنا الكبار كأبي يعلى وابن عقيل وابن حامد وغيرهم قدس الله أرواحهم.
واعلم أن لأصحابنا ثلاثة متون حازت اشتهارا أيما اشتهار أولها: مختصر الخرقي فإن شهرته عند المتقدمين سارت مشرقا ومغربا إلى أن ألف الموفق كتابه المقنع فاشتهر عند علماء المذهب قريبا من اشتهار الخرقي إلى عصر التسعمائة حيث ألف القاضي علاءالدين المرداوي التنقيح المشبع ثم جاء بعده تقي الدين أحمد ابن النجار الشهير بالفتوحي فجمع المقنع مع التنقيح في كتاب سماه منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات فعكف الناس عليه وهجروا ما سواه من كتب المتقدمين كسلا منهم ونسيانا لمقاصد علماء هذا المذهب التي ذكرناها آنفا وكذلك الشيخ موسى الحجاوي(1/233)
ألف كتابه الإقناع وحذا به حذو صاحب المستوعب بل أخذ معظم كتابه ومن المحرر والفروع والمقنع وجعله على قول واحد فصار معول المتأخرين على هذين الكتابين وعلى شرحيهما. ولما عكف الناس على المقنع أخذ العلماء في شرحه فأول شارح له الإمام عبد الرحمن ابن الإمام أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي فإنه شرحه شرحا وافيا سماه بالشافي وقال في خطبته اعتمدت في جمعه على كتاب المغني وذكرت فيه من غيره ما لم أجده فيه من الفروع والوجوه والروايات ولم أترك من كتاب المغني إلا شيئا يسيرا من الأدلة وغزوت من الأحاديث ما لم يغز مما أمكنني غزوه هذا كلامه وبالجملة فطريقته فيه أنه يذكر المسألة من المقنع فيجعلها كالترجمة ثم يذكر مذهب الموافق فيها والمخالف لها ويذكر ما لكل من دليله ثم يستدل ويعلل للمختار ويزيف دليل المخالف فمسلكه مسلك الاجتهاد إلا أنه اجتهاد مقيد في مذهب أحمد.
ثم شرحه القاضي برهان الدين إبراهيم بن محمد الأكمل بن عبد الله بن محمد بن مفلح المتوفى سنة أربع وثمانين وثمانمائة وشرحه في أربع مجلدات ضخام مزج المتن بالشرح ولم يتعرض به لمذاهب المخالفين إلا نادرا ومال فيه إلى التحقيق وضم الفروع سالكا مسلك المجتهدين في المذهب فهو أنفع شروح المقنع للمتوسطين وعلى طريقته سرى شارح الإقناع ومنه يستمد ورأيت من شروحه أيضا الممتع شرح المقنع لسيف الدين أبي البركات ابن المنجا المتقدم ذكره. قال في خطبته أحببت أن أشرح المقنع وأبين مراده وأوضحه وأذكر دليل كل حكم وأصححه. وطريقته أنه يذكر المسألة من المغني ويبين دليلها ويحقق المسائل والروايات ولم يتعرض لغير مذهب الإمام ثم لما انحطت الهمم عن طلب الدليل وغاض نهر الاشتغال بالخلاف وأكب الناس على التقليد البحت وكادت كتب المتقدمين ومسالكهم أن تذهب أدراج الرياح انتصب لنصرة هذا المذهب وضم شمله العلامة الفاضل القاضي علاءالدين علي ابن سليمان السعدي المرداوي ثم الصالحي فوجد أهل زمنه قد أكبوا على المقنع فألف عليه شبه شرح سماء بالإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف وطريقته فيه أنه يذكر في المسألة أقوال الأصحاب ثم يجعل المختار ما قاله الأكثر منهم سالكا في ذلك مسلك ابن قاضي عجلون في تصحيحه لمنهاج النووي وغيره من كتب التصحيح فصار كتابه مغنيا للمقلد عن سائر كتب المذهب ثم اقتضب منه كتابه المسمى بالتنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع(1/234)
فصحح فيه الروايات المطلقة في المقنع وما أطلق فيه من الوجهين أو الأوجه وقيد ما أخل به من الشروط وفسر ما أبهم فيه من حكم أو لفظ واستثنى من عمومه ما هو مستثنى على المذهب حتى خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وقيد ما يحتاج إليه مما فيه إطلاقه ويحمل على بعض فروعه ما هو مرتبط بها وزاد مسائل محررة مصححة فصار كتابه تصحيحا لغالب كتب المذهب وبالجملة فهذا الفاضل يليق بأن يطلق عليه مجدد مذهب أحمد في الأصول والفروع وقد انتدب لشرح لغات المقنع العلامة اللغوي محمد ابن أبي الفتح البعلي فألف في هذا النوع كتابه المطلع على أبواب المقنع، فأجاد في مباحث اللغة ونقل في كتابه فوائد منها دلت على رسوخ قدمه في اللغة والأدب وكثيرا ما يذكر فيه مقالا لشيخه الإمام محمد بن مالك المشهور ورتب كتابه على أبواب المقنع ثم ذيله بتراجم ما ذكر في المقنع من الأعلام فجاء كتابه غاية في الجودة ووقع في طرة نسخة المقنع المطبوعة بمصر. إن المطلع شرح المقنع وهو سهو والحق أنه شرح للغاته فدرجته كدرجة المغرب للحنفية والمصباح للشافعية واختصر المقنع الشيخ موسى الحجاوي كما سيأتي.
الفروع: قال في كشف الظنون هو في مجلدين للشيخ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن مفلح الحنبلي المتوفى سنة ثلاث وستين وسبعمائة. أجاد فيه وأحسن على مذهبه وشرحه الشيخ الإمام أحمد بن أبي بكر محمد بن العماد الحموي سماه المقصد المنجح لفروع ابن مفلح انتهى. قلت وهو عندي في مجلد واحد أضخم وهذا الكتاب قل أن يوجد نظيره وقد مدحه الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة فقال صنف يعني ابن مفلح الفروع في مجلدين أجاد فيهما إلى الغاية وأورد فيه من الفروع الغريبة ما بهر به العلماء. وقال ابن كثير كان مؤلفه بارعا فاضلا متفننا في علوم كثيرة ولا سيما علم الفروع وله على المقنع نحو ثلاثين مجلدة وعلق على كتاب المنتقى للمجد ابن تيمية انتهى. وطريقته في هذا الكتاب أنه جرده من دليله وتعليله ويقدم. الراجح في المذهب فإن اختلف الترجيح أطلق الخلاف وإذا قال في الأصح فمراده أصح الروايتين وبالجملة فقد ذكر اصطلاحه في أول كتابه ولا يقتصر على مذهب أحمد بل يذكر المجمع عليه والمتفق مع الإمام أحمد في المسألة والمخالف له فيها من الأئمة الثلاثة وغيرهم. ويشير إلى ذلك بالرمز ويطيل النفس في بعض المباحث وأحيانا يتطرق إلى ذكر الأدلة ويذكر من النفائس ما ينبغي للفاضل أن يطلع عليه بحيث إن كتابه يستفيد منه أتباع كل مذهب(1/235)
فرحم الله مؤلفه وقد شرحه العلامة شيخ المذهب مفتي الديار المصرية محب الدين أحمد بن نصرالله بن أحمد بن محمد بن عمر البغدادي الأصل ثم المصري المتوفى سنة أربع وأربعين وثمانمائة وشرحه هذا أشبه بالحواشي منه بالشروح وكتب على الفروع حاشية العلامة ذو الفنون تقي الدين أبو بكر بن إبراهيم بن قندس المتوفى سنة إحدى وستين وثمانمائة وهذه الحاشية في مجلد وبها من التحقيق والفوائد ما لا يوجد في غيرها.
مغنى ذوي الأفهام عن الكتب الكثيرة في الأحكام: تأليف العلامة المحدث يوسف بن حسن بن أحمد بن عبد الهادي. الشهير بابن المبرد الصالحي. أخذ الفقه عن القاضي علاءالدين المرداوي وعن تقي الدين ابن قندس المتوفى سنة تسع وتسعمائة وهذا الكتاب في مجلد لطيف صدره بفن أصول الديانات يعني التوحيد ثم بباب معرفة الأعراب ثم بأصول الفقه ثم بما يستعمل من الأدب ثم أتبعه ببعض اصطلاحات في المذهب ثم استوصل في الفقه على نمط وجيز ثم ختمه بقواعد كلية يترتب عليها. مسائل جزئية لكل ما ذكره من الفنون في صدره لا يفيد إلا فائدة قليلة جدا وسلك في الفقه مسلكا غريبا فقال في أول كتابه كتبت فيه القول المختار وأشير إلى المسألة المجمع عليها بأن أجعل حكمها اسم فاعل أو مفعول ومع ذلك ع وما اتفق عليه الأئمة الأربعة بصيغة المضارع وربما وقع ذلك لنا فيما اتفق فيه أبو حنيفة والشافعي في بعض مسائل لم نعلم فيها مذهب الإمام مالك أو له فيها أو في مذهبه ثم قول غير المشهور فإن كان لا خلاف عندنا في المسألة فبالباء وأيضا واو وإن كان فيه خلاف عندنا فبالتاء وأيضا واو وإن كان فيه خلاف عندنا فبالتاء وأيضا ورووا وفاق الشافعي فقط بالهمزة وأيضا وس وأبي حنيفية فقط بالنون وأيضا رقم ح ولا أكرر فيه مسألة في علم واحد إلا لزيادة فائدة ولا يمتنع تكرارها في علمين لأن كل علم تجري فيه على أصله فربما اختلف حكمها في العلمين وربما اتفق. هذا كلامه ورأيت بخط مؤلفه هذين البيتين على ظهر الكتاب
هذا كتاب قد سما في حصره ... أوراقه من لطفه متعددة
جمع العلوم بلطفه فبجمعه ... يغنيك عن عشرين ألف مجلدة
وقرظه ابن قاضي أزرعات بقوله:(1/236)
يا كتابا أزرى بكل كتاب ... هو في الأرض لوحنا المحظوظ
زاد ربي منشيه علما وفضلا ... ثم لا زال سعده المحفوظ
منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات: هو كتاب مشهور عمدة المتأخرين في المذهب وعليه الفتوى. فيما بينهم تأليف العلامة تقي الدين محمد بن العلامة أحمد بن عبد العزيز بن علي بن إبراهيم الفتوحي المصري الشهير بابن النجار رحل إلى الشام فألف بها كتابه المنتهى ثم عاد إلى مصر بعد أن حرر مسائله على الراجح من المذهب واشتغل به عامة الطلبة في عصره واقتصروا عليه ثم شرحه شرحا مفيدا في ثلاث مجلدات ضخام وغالب استمداده فيه من كتاب الفروع لابن مفلح وبالجملة فقد كان منفردا في علم المذهب. توفي سنة اثنتين وسبعين وتسعمائة وقرأت في طبقات الحنابلة لكمال الدين الغزي الشافعي نقلا عن ابن طولون أن العلامة المحقق أحمد بن عبد الله بن أحمد العسكري صنف كتابا جمع فيه بين المقنع والتنقيح فاخترمته المنية قبل إكماله. قال وقد بلغني أن صاحبنا أحمد الشويكاني تلميذه شرع في تكملته. توفي العسكري سنة عشر وتسعمائة. وقال الغزي في ترجمة أحمد بن محمد بن أحمد بن عمر بن أحمد بن أبي بكر الشويكي النابلسي ثم الدمشقي الصالحي المتوفى سنة تسع وثلاثين وتسعمائة أنه جاور في المدينة المنورة وجمع كتاب التوضيح جمع فيه بين المقنع للشيخ موفق الدين بن قدامة والتنقيح لعلاءالدين المرداوي وزاد عليهما أشياء مهمة. قال ابن طولون وسبقه إلى ذلك شيخه الشهاب العسكري لكنه مات قبل إتمامه ولم يصل فيه إلا إلى باب الوصايا وعاصره أبو الفضل ابن النجار فجمع كتابه المشهور بالمنتهى لكنه عقد عباراته انتهى وشرح منتهى الإرادات العلامة منصور بن يونس بن صلاح الدين بن حسن بن أحمد بن علي بن إدريس البهوتي شيخ الحنابلة في عصره المتوفى سنة إحدى وخمسين وألف وشرحه في ثلاث مجلدات جمعه من شرح مؤلف المنتهى لكتابه ومن شرحه نفسه على الإقناع وهو شرح مشهور مطبوع ولقد كنت في حدود أربع عشرة وثلاثمائة بعد الألف أقمت مدة في قصبة دوما دمشق فأقرأت هذا الشرح وكتبت عليه حاشية وضعتها أثناء القراءة وصلت فيها إلى باب السلم في مجلد ضخم ثم خرجت من دوما إلى دمشق وهنالك لم أجد أحدا يطلب العلم من الحنابلة بل(1/237)
يندر وجود حنبلي بها ففترت همتي عن إتمامها وبقيت على ما هي عليه وللشيخ منصور حاشية على المتن وكتب الشيخ محمد بن أحمد بن علي البهوتي الشهير بالخلوتي المصري تحريرات على هامش نسخته متن المنتهى فجردت بعد موته فبلغت أربعين كراسا وكان من الملازمين للشيخ منصور. توفي سنة ثمان وثمانين وألف وعلى المتن حاشية أيضا للشيخ عثمان بن أحمد النجدي صاحب شرح العمدة للشيخ منصور البهوتي. وهي حاشية نافعة تميل إلى التحقيق والتدقيق.
الإقناع لطالب الانتفاع: مجلد ضخم كثير الفوائد جم المنافع للعلامة المحقق موسى بن أحمد بن موسى بن سالم بن عيسى بن سالم الحجاوي المقدسي ثم الدمشقي الصالحي بقية المجتهدين والمعول عليه في مذهب أحمد في الديار الشامية ترجمه الكمال الغزي في النعت الأكمل ولم يذكر سنة وفاته ونجم الدين الغزي في الكواكب السائرة وبالجملة. فهو من أساطين العلماء وأجلهم. توفي سنة ثمان وستين وتسعمائة وقد شرح كتابه الإقناع الشيخ منصور البهوتي شرحا مفيدا في أربع مجلدات وكتب الشيخ محمد الخلوتي عليه تعليقات جردت بعد موته فبلغت اثني عشر كراسا بالخط الدقيق وللشيخ منصور عليه حاشية ولصاحبه كتاب في شرح غريب لغاته.
دليل الطالب: متن مختصر مشهور تأليف العلامة بقية المجتهدين مرعي بن يوسف ابن أبي بكر ابن أحمد ابن أبي بكر بن يوسف بن أحمد الكرمي نسبة لطولكرم قرية بقرب نابلس ثم المقدسي أحد أكابر علماء هذا المذهب بمصر المتوفى سنة ثلاث وثلاثين وألف وكتابه هذا أشهر من أن يذكر وللعلامة أحمد بن عوض بن محمد المرداوي المقدسي تلميذ الشيخ عثمان النجدي وكان موجودا سنة واحد ومائة وألف حاشية عليه في مجلدين وقرأت في بعض المجاميع أن العلامة الفاضل الشيخ مصطفى الدومي المعروف بالدوماني ثم الصالحي ثم مفتي رواق الحنابلة في مصر له حاشية لطيفة على دليل الطالب ورأيت له كتابا سماه ضوء النيرين لفهم تفسير الجلالين وشرحا على الكافي في العروض والقوافي ولم أعلم سنة وفاته غير أن مترجمه قال رحل إلى القسطنطينية وتوفي بها في خلافة السلطان عبد الحميد يعني الأول وكانت سلطنته من سنة ثمان وسبعين ومائة وألف إلى سنة ثلاث ومائتين وألف وشرح هذا الكتاب الشيخ(1/238)
عبد القادر بن عمر بن عبد القادر بن عمر بن أبي تغلب بن سالم التغلبي الشيباني الصوفي الدمشقي ورأيت في بعض المجاميع نسبة إلى دوما دمشق الفقيه الفرضي المتوفى سنة خمس وثلاثين ومائة وألف وشرحه هذا متداول مطبوع لكنه غير محرر وليس بواف بمقصود المتن وشرحه في مجلدين العلامة إسماعيل ابن عبد الكريم بن محيي الدين الدمشقي. الشهير بالجراعي وكانت وفاته سنة اثنتين ومائتين وألف ولم يتم الكتاب ورأيت في ترجمة الشيخ محمد بن أحمد السفاريني أن له شرحا على دليل الطالب ولم نره ولم نجد من أخبرنا أنه رآه.
غاية المنتهى: كتاب جليل للشيخ مرعي الكرمي جمع فيه بين الإقناع والمنتهى وسلك فيه مسالك المجتهدين فأورد فيه اتجاهات له كثيرة يعنونها بلفظ ويتجه ولكنه جاء متأخرا على حين فترة من علماء هذا المذهب وتمكن التقليد من أفكارهم فلم ينتشر انتشار غيره وقد تصدى لشرحه العلامة الفقيه الأديب أبو الفلاح عبد الحي بن محمد ابن العماد فشرحه شرحا لطيفا دل على فقهه وجودة قلمه لكنه لم يتمه ثم زيل على شرحه هذا العلامة الجراعي فوصل فيه إلى باب الوكالة ثم اخترمته المنية ثم تلاهما العلامة الفقيه الشيخ مصطفى بن سعد بن عبده السيوطي الرحيباني مولدا ثم الدمشقي العلامة الفقيه الفرضي المحقق مولده سنة خمس وستين ومائة وألف. وتوفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف. فابتدأ بشرح الكتاب من أوله حتى أتمه في خمس مجلدات بخطه لكنه في شرحه هذا يأتي إلى المسألة من المنتهى فينقل عبارة شرحها للشيخ منصور إلى المسألة من الإقناع فينقل عبارة شرحه أيضا فكأنه جمع بين الشرحين من غير تصرف فإذا وصل إلى اتجاه لم يحققه بل قصارى أمره أنه يقول لم أجده لأحد من الأصحاب ثم تلاه تلميذه شيخ مشايخنا العلامة الشيخ حسن بن عمر بن معروف بن عبد الله بن مصطفى ابن الشيخ شطا1 المتوفي سنة أربع وسبعين ومائتين وألف. فأخذ في مواضع الاتجاه من الغاية والشرح وانتصر للشيخ مرعي وبين صواب تلك الاتجاهات ومن قال بها غيره من العلماء وذكر في غضون ذلك مباحث رائقة وفوائد لا يستغنى عنها فجاء كتابه هذا
__________
1 وردت "الشطي" في كتاب الأعلام، الزركلي، "ج2/ص209"، وعلى الأرجح الشطي هي الصحيحة.(1/239)
في أربعين كراسا بخطه الدقيق فلو ضم هذا الكتاب إلى الشرح وطبع لجاء منه كتاب فريد في بابه ولا سيما إذا ضم إليهما ما كتبه ابن العماد والجراعي. فاللهم ارفع لواء هذا المذهب وأكثر من علمائه.
عمدة الراغب: مختصر لطيف للشيخ منصور البهوتي وضعه للمبتدئين وشرحه العلامة الشيخ عثمان ابن أحمد النجدي شرحا لطيفا مفيدا مسبوكا سبكا حسنا ونظمها الشيخ صالح بن حسن البهوتي من علماء القرن الحادي عشر بمنظومة أولها:
يقول راجي عفو ربه العلى ... أبو الهدى صالح نجل الحنبلي
وسمي نظمه وسيلة الراغب لعمدة الراغب.
كافي المبتدي وأخصر المختصرات ومختصر الإفادات: هذه المتون الثلاثة للفقيه المحدث الصالح محمد بن بدرالدين بن بلبان البلباني البعلي الأصل ثم الدمشقي الصالحي كان يقرأ الفقه لطلاب المذاهب الأربعة. توفي سنة ثلاث وثمانين وألف وقد اعتنى من بعده بكتبه. فأما كافي المبتدي فقد شرحه الورع الفقيه الأصولي الفرضي أحمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن مصطفى. الحلبي الأصل البعلي الدمشقي شرحا لطيفا محررا. توفي سنة تسع وثمانين ومائة بعد الألف وسمي شرحه الروض الندي شرح كافي المبتدي وله شرح عمدة كل فارض في الفرائض وله الذخر الحرير شرح مختصر التحرير في الأصول وله غير ذلك من التعليقات في الحساب والفرائض والفقه. وأما أخصر المختصرات فهو متن مختصر جدا اختصر فيه كافي المبتدي وقد شرحه العلامة عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن محمد البعلي الدمشقي نزيل حلب وكان فقيها متفننا أديبا شاعرا. توفي سنة اثنتين وتسعين ومائة بعد الألف وشرحه هذا محرر منقح كثير النفع للمبتدئين. وأما مختصر الإفادات فقد صدره أولا بديع العبادات فجعل الكلام عليه وسطا بين الإسهاب والإيجاز مستمدا عن الإقناع ثم ذكر أحكام البيع والربا ثم أتبعه بقوله كتاب الآداب وفصله فصولا ثم أتبعه بفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وفصل ذكر الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإخلاص ثم أتبع ذلك بعقيدته التي اختصر بها نهاية المبتدئين لابن حمدان ثم ختم الكتاب بوصية نافعة وبالجملة فهذا الكتاب كاف وواف للمتعبدين ولقد كنت قرأت هذا الكتاب على(1/240)
شيخنا العلامة الشيخ محمد بن عثمان المشهور بخطيب دوما وعلقت على هوامشه تعليقات انتخبتها أيام بدايتي في الطلب.
الرعايتان: كلاهما لابن حمدان قد كنت رأيتهما ثم غابا عني قال في كشف الظنون رعاية في فروع الحنبلية للشيخ نجم الدين ابن حمدان الحراني المتوفى سنة خمس وتسعين وستمائة كبرى وصغرى وحشاهما بالروايات الغريبة التي لاتكاد توجد في الكتب الكثيرة أولها الحمد لله قبل كل مقال وإمام كل رغبة وسؤال إلى آخره. وهي على ثمانية أجزاء في مجلد شرحها الشيخ شمس الدين محمد بن الإمام شرف الدين هبة الله بن عبد الرحيم البازي المتوفى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة وسمي شرحه الدراية لأحكام الرعاية ومختصر الرعاية للشيخ عزالدين عبد السلام انتهى. وقال ابن مفلح في باب زكاة الثمر والزرع من كتابه الفروع عند الكلام على زكاة الزرع والثمرات ولا يستقر الوجوب إلا بجعله في الجرين والبيدر وعنه بتمكنه من الآداء كما سبق في كتاب الزكاة للزوم الإخراج إذن وفاقا فإنه يلزم إخراج زكاة الحب مصفى والثمر يابسا وفاقا وفي الرعاية وقيل يجزي رطبه. وقيل فيما لا يتمر ولا يزبب كذا قال وهذا وأمثاله لا عبرة به وإنما يؤخذ منهما أي من الرعايتين بما انفرد به التصريح وكذا يقدم يعني ابن حمدان في موضع الإطلاق ويطلق في موضع التقديم ويسوي بين شيئين المعروف التفرقة بينهما وعكسه فلهذا وأمثاله حصل الخوف من كتابيه وعدم الاعتماد عليهما انتهى. وبالجملة فهذان الكتابان غير محررين.
مختصر الشرح الكبير والإنصاف: تأليف العالم الأثري والإمام الكبير محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي يتصل نسبة بعبد مناة بن تميم التميمي. ولد سنة خمس عشرة ومائة وألف. وقد رحل إلى البصرة والحجاز لطلب العلم وأخذ عن الشيخ علي أفندي الداغسطاني وعن المحدث الشيخ إسماعيل العجلوني وغيرهما من العلماء. وأجازه محدثو العصر بكتب الحديث وغيرها على اصطلاح أهل الحديث من المتأخرين ولما امتلأ وطابه من الآثار وعلم السنة وبرع في مذهب أحمد أخذ ينصر الحق ويحارب البدع ويقاوم ما أدخله الجاهلون في هذا الدين الحنفي والشريعة السمحاء وأعانه قوم أخلصوا العبادة لله وحده على طريقته التي هي إقامة التوحيد الخالص والدعاية إليه(1/241)
وإخلاص الوحدانية والعبادة كلها بسائر أنواعها لخالق الخلق وحده فحبا إلى معارضته أقوام ألفوا الجمود على ما كان عليه الآباء وتدرعوا بالكسل عن طلب الحق وهم لا يزالون إلى اليوم يضربون على ذلك الوتر وجنود الحق تكافحهم فلا تبقي منهم ولا تزر وما أحقهم بقول القائل:
كناطح صخرة يوما ليوهنها ... فلم يضرها واعيا قرنه الوعل
ولم يزل مثابرا على الدعوة إلى دين الله تعالى حتى توفاه الله تعالى سنة ست ومائتين وألف وطريقته في هذا المختصر أنه يصدر الباب منه بمسائل الشرح ثم يزيل ذلك بكلام الإنصاف وهو كتاب في مجلد.
هذا بيان ما اطلعت عليه من كتب هذا المذهب الجليل مما بعضه موجود عندي وبعضه قد أودع في خزانة الكتب الدمشقية في مدرسة الملك الظاهر بيبرس وشيء يسير يوجد في خزانة الكتب الخديوية بمصر. ولم أقصد بذلك تأليفا ككشف الظنون بل القصد التنبيه على ما يمكن وجوده مما إذا طبع وانتشر انتفع أهل العلم به أيما انتفاع وإلا فكتب المذهب كثيرة لا تكاد تدخل تحت حصر. فحذرا أيها المطالع من الانتقاد على ما كان مني من الاختصار والله يتولى الصالحين.(1/242)
العقد الثامن: في أقسام الفقه عند أصحابنا وما ألف في هذا النوع وفي هذا العقد درر
في أقسام الفقه عند أصحابنا وما ألف في هذا النوع
...
العقد الثامن: في أقسام الفقه عند أصحابنا وما ألف في هذا النوع وفي هذا العقد درر
اعلم أن أصحابنا تفننوا في علومهم الفقهية فنونا وجعلوا لشجرتها المثمرة بأنواع الثمرات غصونا وشعبوا من نهرها جداول تروي الصادي ويحمد سيرها الساري في سبيل الهدى وطريق الاقتداء ففرعوا الفقه إلى المسائل الفرعية وألفوا فيها كتابا قد اطلعت على بعض منها ثم أفردوا لما فيه خلاف لأحد الأئمة فنا وسموه بفن الخلاف وتارة يطلقون عليه المفردات وضموا المتناسبات فألحقوها بأصول استنبطوها من فن أصول الفقه وسموا فنها بالقواعد وجعلوا للمسائل المشتبهة صورة المختلفة حكما ودليلا(1/242)
وعلة فنا سموه بالفروق وعمدوا إلى الأحكام التي تتغير بتغير الأزمان مما ينطبق على قاعدة المصالح المرسلة فأسسوها وسموها بالأحكام السلطانية وأتوا على ما اختلقه العوام وأرباب التدليس فسموه بالبدع وعلى ما هو من الأخلاق مما هو للتأديب والتربية ووسموه بفن الآداب ولما كانت كتبهم لا تخلو عن الاستدلال بالكتاب والسنة والقياس صنفوا كغيرهم في أصول الفقه ثم في تخريج أحاديث الكتب المصنفة في الفروع ثم عمدوا إلى جمع الأحاديث. التي يصح الاستدلال بها فجمعوها ورتبوها على أبواب كتب فقههم وسموا ذلك فن الأحكام وألفوا كغيرهم كتب الفرائض مفردة وكتب الحساب والجبر والمقابلة وأفردوا كتب التوحيد عن كتب المتأولين وأكثروا فيها إقامة الدلائل انتصارا لمذهب السلف. فجزاهم الله خيرا. ويحسن بنا هنا أن نذكر بعض ما ألف في كل فن من تلك الفنون انتقاء للأجود منها فنقول:
أما فن الخلاف: فهو علم يعرف به كيفية إيراد الحجج الشرعية ودفع الشبهة وقوادح الأدلة الخلافية بإيراد البراهين القطعية وهو الجدل الذي هو قسم من أقسام المنطق إلا أنه خص بالمقاصد الدينية وقد يعرف بأنه علم يقتدر به على حفظ أي وضع وهدم أي وضع كان بقدر الإمكان ولهذا قيل الجدلي إما مجيب يحفظ وضعا أو سائل يهدم وضعا وقد علمت مما سبق في أواخر فن الأصول هذه المسالك لكن ماتقدم لك عام للمجتهدين وغيرهم. وما نحن بصدده الآن خاص بالمقلدين الذين يجمدون على قول إمامهم أو على ما صح لديهم من رواياته ثم يسلكون مسلك فن الجدل في نصرة ما قلدوه وهدم ما لم يقلدوه وأجمع ما رأيته لأصحابنا في هذا النوع الخلاف الكبير للقاضي أبي يعلى وهو في مجلدات ولم أطلع منه إلا على المجلد الثالث وهو ضخم أوله كتاب الحج وآخره باب السلم وقد سلك فيه مسلكا واسعا وتفنن في هدم كلام الخصم تفننا لم أره في غيره واستدل بأحاديث كثيرة لكن تعقبه في أحاديثه الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الجوزي الصديقي القرشي البكري المتوفى سنة سبع وتسعين وخمسمائة وسمي كتابه هذا التحقيق في مسائل التعليق. قال في أوله: هذا كتاب نذكر فيه مذهبنا في مسائل الخلاف ومذهب المخالف ونكشف عن دليل المذهبين من النقل كشف مناصف لا نميل لنا ولا علينا فيما نقول ولا نجازف وسيحمدنا المطلع عليه إن كان منصفا والواقف ويعلم أننا أولى بالصحيح من جميع(1/243)
الطوائف ثم قال كان سبب إثارة العزم لتصنيف هذا الكتاب أن جماعة من إخواني ومشايخي في الفقه كانوا يسألوني في زمن الصبا جمع أحاديث التعليق وما صح منها وما طعن فيه وكنت أتوانى عن هذا لسببين أحدهما اشتغالي بالطلب والثاني ظني أن ما في التعاليق من ذلك يكفي فلما نظرت في التعاليق رأيت بضاعة أكثر الفقهاء في الحديث مزجاة يعول أكثرهم على أحاديث لا تصح ويعرض عن الصحاح ويقلد بعضهم بعضا فيما ينقل ثم قد انقسم المتأخرون ثلاثة أقسام القسم:
القسم الأول: قوم غلب عليهم الكسل ورأوا أن في البحث تعبا وكلفة فتعجلوا الراحة واقتنعوا بما سطره غيرهم.
والقسم الثاني: قوم لم يهتدوا إلى أمكنة الأحاديث وعلموا أنه لا بد من سؤال من يعلم هذا فاستنكفوا عن ذلك.
والقسم الثالث: قوم مقصودهم التوسع في الكلام طلبا للتقدم والرياسة واشتغالهم بالجدل والقياس ولا التفات لهم إلى الحديث لا إلى تصحيحه ولا إلى الطعن فيه. وليس هذا شأن من استظهر لدينه وطلب الوثيقة في أمره ولقد رأيت بعض الأكابر من الفقهاء يقول في تصنيفه عن ألفاظ قد أخرجت في الصحاح لا يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذه الألفاظ ويرد الحديث الصحيح ويقول هذا لا يعرف وإنما هو لا يعرفه ثم رأيته قد استدل بحديث زعم أن البخاري أخرجه وليس كذلك ثم نقله عن مصنف آخر كما قال تقليدا له ثم استدل في مسألة فقال دليلنا ما روى بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا ورأيت جمهور مشايخنا يقولون في تصانيفهم دليلنا ما روى أبو بكر الخلال بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودليلنا ما روى أبو بكر عبد العزيز بإسناده ودليلنا ما روى ابن بطة بإسناده وجمهور تلك الأحاديث في الصحاح وفي المسند. وفي السنن غير أن السبب في اقتناعم بهذا التكاسل عن البحث والعجب ممن ليس له شغل سوى مسائل الخلاف ثم قد اقتصر منها في المناظرة على خمسين مسألة وجمهور هذه الخمسين لا يستدل فيها بحديث فما قدر الباقي حتى يتكاسل عن المبالغة في معرفته ثم قال فصل وألزم عندي ممن قد لمته من الفقهاء وجماعة من كبار المحدثين عرفوا صحيح النقل وسقيمه وصنفوا في ذلك فإذا جاء حديث ضعيف يخالف مذهبهم بينوا وجه الطعن فيه(1/244)
وإن كان موافقا لمذهبهم سكتوا عن الطعن فيه وهذا ينبىء عن قلة دين وغلبة هوى ثم روى بإسناده إلى وكيع أنه قال أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم ثم إن ابن الجوزي أخذ في تخريج أحاديث التعليق بإسناده على شرط ذكره هو فقال وهذا حين شروعنا فيما انتدبنا له من ذكر الأحاديث معرضين عن العصبية التي نعتقدها في مثل هذا حراما هذا وموضع كتابه أنه يذكر المسألة فيقول مثلا مسألة الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره ثم يفيض في بيان الحديث فيذكره أولا بإسناده ثم يتكلم عليه بكلام كاف شاف وقد ألمع الفاضل. كاتب جلي في كتابه كشف الظنون إلى كتاب ابن الجوزي فقال التحقيق في أحاديث الخلاف لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي البغدادي الحنبلي المتوفى سنة سبع وتسعين وخمسمائة ومختصره للبرهان إبراهيم بن علي بن عبد الحق المتوفى سنة أربع وأربعين وسبعمائة انتهى. ثم تلاه الإمام الحافظ محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة الجماعيلي الأصل الصالحي. ولد سنة أربع وسبعمائة وتوفي سنة أربع وأربعين وسبعمائة وكان من أصحاب شيخ الإسلام ابن تيمية فنقح التعليق لابن الجوزي وحذف أسانيد ونسب أحاديثه إلى من خرجها من الأئمة الأعلام وتكلم عليها بما يليق بها وسمى كتابه التحقيق في أحاديث التعليق وهو في مجلدين والكلام على المسائل قد شحنت كتب الحنابلة المطولة به ولا سيما شروح المتقدمين.
وأما المفردات: فهي من جنس الخلاف والذي رأيناه وسم بهذا الاسم المفردات للقاضي أبي يعلى الصغير والمفردات لأبي الخطاب محفوظ الكلوذاني وقد سمى كتابه بالانتصار في المسائل الكبار وكلاهما يذكر أن أفراد المسائل الكبار من الخلاف بين الأئمة وينتصران لمذهب الإمام أحمد مع ذكر ما استدل به أصحاب كل إمام لنصرة إمامه وهدمه ومفردات الإمام أبي الوفاء علي بن عقيل البغدادي من هذا النوع.
واعلم أنك متى رأيت في كتب أصحابنا الإطالة في الدليل فاعلم أن هنالك خلافا حتى في شرحي الإقناع والمنتهى وآخر من علمناه صنف في نوع المفردات العلامة محمد بن علي بن عبد الرحمن بن محمد بن سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر ابن الشيخ(1/245)
أبي عمر بن قدامة المتوفى سنة عشرين وثمانمائة فإنه نظم المسائل الملقبة بالمفردات في ألفية من بحر الرجز قال في خطبتها:
وهذه مسائل فقهية ... أرجوزة وجيزة ألفية
أذكر فيها ما به قد انفرد ... إمامنا في سلك أبيات تعد
وهو الإمام أحمد الشيباني ... العلم الحبر التقي الرباني
عن مذهب النعمان ثم ابن أنس ... والشافعي كلهم يحكي القبس
ففي فروع الفقه حيث اختلفوا ... أذكر ما عسى عليه أقف
وكلما قد جاء من أقواله ... منفردا بذاك عن أمثاله
فمثله إما عن الرسول ... أو صاحب أو تابع مقبول
مصداق ذا إن شئت يا إمامي ... وانظر وطالع كتب الإسلام
واعلم بأن أصحابنا قد صنفوا ... في المفردات جملا وألفوا
لكنهم لم يقصدوا هذا النمط ... بل قصدوا الرد على الكيا فقط
فإنه أعني كيا قد صنفا ... في مفردات أحمد مصنفا
وقصد الرد عليه فيها ... وكان فيما قد عنى سفيها
غالب ما قال بأنه انفرد ... فإنه سهو ووهم فليرد
فإنه لم يعتبر بالأشهر ... ولا خلاف مالك في النظر
وإنما يقصد فيما ألفا ... إذا رأى قولا ولو مزيفا
لأحمد قد خالف النعمانا ... والشافعي نصب البرهانا
فصحح الأصحاب ما قد صحا ... منها وما كان إليه ينحى
وبينوا أغلاطه ووهمه ... وناقشوه لفظه وكلمه
فابن عقيل منهم والقاضي ... سبط أبي يعلى بعزم ماضي
كذلك الجوزي والزاغوني ... وغيرهم بالجد لا بالهون
أكثرهم ردا عليه اقتصروا ... ونصبوا أدلة وانتصروا
وابن عقيل زادنا مسائلا ... مشهورة وناصبا دلائلا
لكنه حذا كما تقدما ... ينصر غير أشهر قد قدما
أو ما يكون مالك قد وافقا ... إمامنا فيما له قد حققا(1/246)
فتلك إذ قد حررت تقل ... والمفردات أصلها يجل
إذ قد أخلوا بالكثير منها ... وأدخلوا المنقى قطعا عنها
أحببت أن أسبر ما قد ذكروا ... وأنظم الصحيح إذ يحرر
وأقف ما لا يسلم التفريد ... فيه وما يسر لي أزيد
بنيتها على الصحيح الأشهر ... عند أكثر الأصحاب أهل النظر
وهكذا فسائر المذاهب ... والخلف ذكرا ليس من مطالبي
إلا إذا ما اختلف التصحيح ... فذكره حينئذ تلميح
أو إن يكن قائل ذاك الحكم ... مفصلا كما ترى في النظم
ثم إن الناظم استرسل في موضوعه وإنما رقمت ما رأيت من هذا النظم لما به من الفائدة المتعلقة بموضوعنا وأما الكيا فهو بكسر الهمزة واللام ساكنة والكاف مكسورة بعدها مثناة تحتية فمعناه بالعجمية الكبير ويقال له الكيا الهراسي وهو علي بن محمد ابن علي إمام أصحاب الشافعي في زمانه والمناظر عنهم برع في الفقه والأصول والخلاف وولي تدريس النظامية ببغداد ترجمة الشيخ عبد الوهاب السبكي في طبقات الشافعية وعد من مؤلفاته أحكام القرآن وشفاء المسترسلين في مباحث المجتهدين ونقض مفردات أحمد وله كتابان في أصول الفقه وكان عبد الغافر الشافعي يقول عنه كان ثاني الغزالي بل أملح وأطيب في النظر والصوت وأبين في العبارة والتقرير منه وإن كان الغزالي أحد وأصوب خاطر أو أسرع بيانا وعبارة منه
ولد سنة خمسين وأربعمائة وتوفي سنة أربع وخمسمائة وكانت بينه وبين الزينبي والدامغاني الحنفيين منافسه وحكى ابن رجب وابن مفلح في طبقاتهما أن أبا الوفاء علي بن عقيل البغدادي كان كثير المناظرة للكيا الهراسي فكان الكيا ينشده:
ارفق بعبدك أن فيه فهاهة ... جبلية ولك العراق وماؤها
قال السفلي: ما رأت عيناي مثل الشيخ أبي الوفاء ابن عقيل ما كان أحد يقدر أن يتكلم معه لغزارة علمه وحسن إيراده وبلاغة كلامه وقوة حجته ولقد تكلم يوما مع شيخنا أبي الحسن الكيا الهراسي في مسألة فقال شيخنا ليس هذا مذهبك فقال له أبو الوفاء أنا لي اجتهاد متى ما طالبني خصمي بحجة كان عندي ما أدفع به عن نفسي وأقوم له بحجتي. فقال له شيخنا كذلك الظن بك.(1/247)
وأما القواعد: وهي أن تؤخذ القاعدة الأصولية ثم يفرع عنها ما يليق بها من الفروع وقد رأينا كتابا في خزانة الكتب العمومية في دمشق بخط مؤلفه وعلى ظهره بخط يوسف بن عبد الهادي ما لفظه. يقال إنه لابن قاضي الجبل وطريقة هذا الكتاب ذكر القاعدة أولا. مثاله أن يقول الجائز واللازم ثم يفرع على هذه القاعدة بقوله الوكالة تصرف بالإذن ومن المعلوم أنه ليس لازما لا من طرف الآذن ولا من طرف المأذون له بل لكل واحد منهما أن يفعل وأن لا يفعل ابتداء واستدامة وقد يكون في بعض المواضع في الخروج عن الوكالة ضرر فيخرج خلاف كما لو وكله في بيع الرهن ليس له عزله في قول وفي الوصية ليس للموصي عزل نفسه بعد موت الموصي في قول فهو يشبه من وجه العقود اللازمة يخير في ابتدائها ولا يخير. بعد انعقادها ولزومها ثم إنه يقول ما ثبت للضرورة والحاجة ويقدر الحكم بقدرها ثم يفرع عن هذه القاعدة قوله من وجب عليه أمر لدفع ضرر إذا زال الضرر ولم يلزمه عوض مثل نفقة القريب إذا مضى الزمان ومثل المضارب إذا فعل ما عليه فعله ليأخذ أجرته لأن دفع الأجرة إنما كان لتحصيل المقصود وقد حصل فلا عوض انتهى. وبذلك قد علمت مسلك كتب القواعد وللإمام سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي المتوفى سنة عشر وسبعمائة كتابان في هذا النوع.
أحدهما : القواعد الكبرى.
والثاني : القواعد الصغرى وللحافظ زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي ثم الدمشقي المتوفى سنة خمس وتسعين وسبعمائة كتاب في القواعد يدل على معرفة تامة بالمذهب قال في كشف الظنون وهو كتاب نافع من عجائب الدهر حتى إنه استكثر عليه وزعم بعضهم أن ابن رجب وجسد قواعد مبددة لشيخ الإسلام ابن تيمية فجمعها وليس الأمر كذلك بل كان رحمه الله فوق ذلك انتهى. ومن هذا النوع القواعد لعلاء الدين علي بن عباس البعلي الحنبلي المعروف بابن اللحام المتوفى سنة ثلاث وثمانمائة. وهي قواعد مختصرة مفيدة جدا وفي أوله نحو تسع ورقات تشتمل على كشف مسائل هذا الكتاب مرتبة على أبواب الفقه رؤيت في خزانة الكتب العمومية في دمشق.
وأما الفروق: فقد ذكر الأسنوي الشافعي في كتابه مطالع الدقائق أن المطارحة(1/248)
بالمسائل ذوات المآخذ المؤتلفة المتفقة والأجوبة المختلفة المفترقة من مآثر أفكار العلماء انتهى. وهذا النوع كثيرا ما يوجد في كتب الفروع وشروح المتون وقد أفرد بالتأليف وقد اطلعنا على كتاب في هذا المسلك لأبي عبد الله السامري بضم الميم وكسر الراء مشددة مسماة بالفروق وذكر فيه المسائل المشتبهة صورة المختلفة أحكامها وأدلتها وعللها بأن يقول مثلا خروج النجاسات من غير السبيلين ينقض الوضوء كثيرها ولا ينقض يسيرها والفرق بينهما ما روى الدارقطني عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في القطرة ولا في القطرين من الدم وضوء وإنما الوضوء من كل دم سائل" 1 وهذا نص قاطع في الفرق ثم إنه يسترسل في هذا المهيع فتارة يجعل الفرق من الحديث كما علمت وتارة من جهة القواعد الأصولية وهو كتاب جد نافع.
وأما الأحكام السلطانية: فقد اطلعت على ثلاث مؤلفات في هذا النوع لأصحابنا.
أولها : الأحكام السلطانية مجلد مفيد جدا للإمام أبي يعلى محمد بن الحسين بن الفراء.
والثاني : لشيخ الإسلام تقي الدين الإمام أحمد بن تيمية.
والثالث : للإمام شمس الدين محمد ابن القيم والأخيران مطبوعان. وأما مناهضة البدع فأجمع كتاب رأيته لأصحابنا كتاب تلبيس إبليس للحافظ أبي الفرج عبد الحميد ابن الجوزي رتبه على أبواب الفقه وقال فيه الأنبياء جاؤوا بالبيان الكافي فأقبل الشيطان يخلط بالبيان شبها فرأيت أن أحذر من مكائده وقسمته ثلاثة عشر بابا ينكشف بمجموعها تلبيسه وتدليسه وهو كتاب في مجلد نافع جدا ولا يستغني عنه طالب الحق ولا الفقيه ولا المتعبد. وللشيخ موفق الدين المقدسي رسالة في ذم الموسوسين أجاد فيها وأفاد وقد علقت عليها حاشية نفيسة وكتب في هذا النوع لغير أصحابنا كثيرة جدا فجزى الله الكل خيرا.
وأما فن الآداب: فإنه فن شريف وقد يذكر مفرقا في كتب الفقه كالمستوعب والإقناع ومختصر الإفادات وغيرهم. وقد أفرده كثير من الأصحاب بالتأليف كابن أبي موسى
__________
1 رواه الدارقطني في كتاب الطهارة "ج1/ص157".(1/249)
وغيره. وأجمع ما رأيناه صنف في هذا النوع كتاب الآداب الشرعية والمصالح المرعية لشمس الدين محمد بن مفلح صاحب الفروع فإنه جمع فيه كثيرا من كتب من تقدمه في هذا النمط وسرد أسماءها في خطبة كتابه وقال في أوله أما بعد فهذا كتاب يشتمل على جمل كثيرة من الآداب الشرعية والمصالح المرعية يحتاج إلى معرفته إلى آخر ما قاله وهو في مجلدين أجاد فيهما وأفاد ووفى بالمراد وله أيضا الآداب الصغرى في مجلد وللإمام الفقيه المحدث محمد بن عبد القوي بن بدران المقدسي المتوفى سنة تسع وتسعين وتسعمائة منظومتان في هذا النوع من بحر الطويل والروي دال، أحدهما صغرى وقد شرحها. الشيخ شرف محمد الحجاوي والثانية ألفية وقد شرحها الشيخ علاء الدين المرداوي ثم الشيخ محمد السفاريني الحنبلي وسمى شرحه غذاء الألباب بشرح منظومة الآداب فجاء شرحا نفيسا في مجلدين وقد طبع فلا حاجة إلى الترجمة عنه ولابن عبد القوي ولع كثير في الآداب فإنه كثر ما ضمن مؤلفاته المنظومة منه ككتابه النعمة وهو جزءان والفرائد يبلغ خمسة آلاف بيت وكلها على روي الدال فرحم الله الجميع.
وأما فن الأصول: فقد تقدم لك بيانه والقصد هنا ذكر ما اطلعنا عليه مما ألف فيه وانتفاء الأنفع منها للمشتغل بهذا الفن ولنقسم ذلك إلى قسمين. أولها المتون المختصرة وإليك بيانها:
قواعد الأصول ومعاقد الفصول: لصفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحي بن عبد الله بن علي بن مسعود القطيعي الأصل البغدادي الفقيه الفرضي المفنن المتوفى سنة تسع وثلاثين وسبعمائة وهذا المختصر في نحو سبع وعشرين ورقة اختصره من كتاب له سماه تحقيق الأمل وجرده عن الدلائل وهو مختصر مفيد في الأصول لعلي ابن عباس البعلي الحنبلي المعروف بابن اللحام جعله محذوف التعليل والدلائل وأشار فيه إلى الخلاف والوفاق في غالب المسائل وهو في نحو خمس وأربعين ورقة.
مختصر الروضة القدامية: للعلامة سليمان الطوفي مشتمل على الدلائل مع التحقيق والتدقيق والترتيب والتهذيب ينخرط مع مختصر ابن الحاجب في سلك واحد وقد شرحه مؤلفه في مجلدين حقق فيهما فن الأصول وأبان فيه عن باع واسع في هذا الفن واطلاع وافر وبالجملة فهو أحسن ما صنف في هذا الفن وأجمعه وأنفعه مع سهولة(1/250)
العبارة وسبكها في قالب يدخل القلوب بلا استئذان وقد شرح المتن أيضا الشيخ علاءالدين العسقلاني الكناني في مجلد ولم أره لكن رأيت علاء الدين المرداوي ذكره.
مختصر التحرير: للعلامة الفقيه الأصولي النحوي محمد بن العلامة شهاب الدين أحمد بن عبد العزيز بن علي الفتوحي الشهير بابن النجار صاحب المنتهى. ذكر أنه اختصر فيه كتاب تحرير المنقول من علم الأصول لعلاء الدين المرداوي وأنه محتو على مسائل مما قدمه المرداوي أو كان عليه الأكثر من الأصحاب دون بقية الأقوال خال من قول ثان إلا لفائدة تزيد على معرفة الخلاف من عزو مقال إلى من إياه قال ثم قال ومتى قلت في وجه فالمقدم غيره أو في قول أو على قول كان إذا قوي الخلاف أو اختلف الترجيح مع إطلاق القولين أو الأقوال إذا لم أطلع على مصرح بالتصحيح ثم إن مصنفه شرحه في مجلد وسماه الكوكب المنير في شرح مختصر التحرير ثم شرحه الشيخ أحمد البعلي وسماه الذخر الحرير شرح مختصر التحرير وهذان الشرحان يفيدان المتوسط في هذا الفن.
تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول: للقاضي علاءالدين علي بن سليمان بن أحمد ابن محمد المقدسي المرداوي السعدي محرر أصول المذهب وفروعه صاحب التنقيح والإنصاف استمد في وضعه من غالب كتب هذا الفن وقال في أوله هذا مختصر في أصول الفقه جامع لمعظم أحكامه حاو لقواعده وضوابطه وأقسامه مشتمل على مذاهب الأئمة الأربعة الأعلام وأتباعهم وغيرهم. لكن على سبيل الأعلام اجتهدت في تحرير نقوله وتهذيب أصوله. وقال الفتوحي في شرح مختصره وإنما وقع اختياري على اختصار هذا الكتاب دون بقية كتب هذا الفن لأنه جامع لأكثر أحكامه حاو لقواعده وضوابطه وأقسامه انتهى. وقد شرحه مؤلفه في مجلدين أجاد فيهما وأفاد.
القسم الثاني: الكتب المطولة في هذا الفن وإليك بيان بعضها:
الواضح : لابن عقيل وهو كتاب كبير في ثلاث مجلدات أبان فيه عن علم كالبحر الزاخر وفضل يفحم من في فضله يكابر وهو أعظم كتاب في هذا الفن حذا فيه حذو المجتهدين.(1/251)
التمهيد في أصول الفقه: لأبي الخطاب محفوظ الكلوذاني مجلد ضخم سلك فيه مسالك المتقدمين وأكثر من ذكر الدليل والتعليل.
روضة الناظر وجنة المناظر: بضم الجيم وتشديد النون المفتوحة للإمام المجتهد موفق الدين المقدسي صاحب المغني والكافي والمقنع والعمدة وهو كتاب في مجلد متوسط رتبه على ثمانية أبواب عدد أبواب الجنة وترتيبها هكذا حقيقة الحكم وأقسامه ثم تفصيل الأصول الأربعة ثم بيان الأصول المختلف فيها ثم تقاسيم الأسماء ثم الأمر والنهي والعموم والخصوص والاستثناء والشرط ودليل الخطاب ونحوه ثم القياس ثم حكم المجتهد ثم الترجيح. وقد تبع في كتابه هذا الشيخ أبا حامد الغزالي في المستصفى حتى في إثبات المقدمة المنطقية في أوله وحتى قال أصحابنا وغيرهم ممن رأى الكتابين أن الروضة مختصر المستصفي ويظهر ذلك قطعا في إثبات المقدمة المنطقية مع أنه خلاف عادة الأصوليين من أصحابنا وكثير من غيرهم ومن متابعته على ذكر كثير من نصوص ألفاظ الشيخ أبي حامد. قال الطوفي في أوائل شرحه مختصر الروضة له أقول إن الشيخ أبا محمد التقط أبواب المستصفى فتصرف فيها بحسب رأيه وأثبتها وبنى كتابه عليها ولم ير الحاجة ماسة إلى ما اعتنى به الشيخ أبو حامد من درج الأبواب تحت أقطاب الكتاب أو أنه أحب ظهور الامتياز بين الكتابين باختلاف الترتيب لئلا يصير مختصر الكتاب وهو إنما يصنع كتابا مستقلا في غير المذهب الذي وضع فيه أبو حامد كتابه لأن أبا حامد أشعري شافعي وأبو محمد أثري حنبلي وهو طريقة الحكماء الأوائل وغيرهم لا تكاد تجد لهم كتابا في طلب أو فلسفة إلا وقد ضبطت مقالاته وأبوابه في أوله بحيث يقف الناظر الذكي من مقدمة الكتاب على ما في أثنائه وقد نهج أبو حامد هذا المنهج في المستصفي. هذا كلامه.
ثم اعلم إن الشيخ أبا محمد أثبت في أوائل الروضة مقدمة تضمنت مسائل من فن المنطق كما فعل مثل ذلك الغزالي ثم ابن الحاجب فمن أجل ذلك تبين أنه كان تابعا للغزالي لأن أبا محمد لم يكن متكلما ولا منطقيا حتى يقال غلب عليه علمه المألوف وقد قال الثقات إن إسحاق العلثي لما اطلع على الروضة ورأى فيها المقدمة المنطقية عاتب الشيخ أبا محمد في إلحاقه هذه المقدمة في كتابه وأنكر عليه ذلك فأسقطها من(1/252)
الروضة بعد أن انتشرت بين الناس فلهذا توجد في نسخة دون نسخة ولما اختصر الطوفي الكتاب أسقط المقدمة واعتذر بأعذار. منها وهو الذي عول عليه أنه لا تحقيق له في فن المنطق ولا أبو محمد له تحقيق به أيضا فلو اختصرها لظهر بيان التكليف عليها من الجهتين فلا يتحقق الانتفاع بها للطالب ويقطع عليه الوقت وأما إسحاق العلثي بالثاء المثلثة فهو إسحاق بن أحمد بن محمد بن علي بن غانم العلثي الحنبلي الإمام الزاهد القدوة كان فقيها عالما أمارا بالمعروف نهاءا عن المنكر لا يخاف أحدا إلا الله ولا تأخذه في الله لومة لائم أنكر على الخليفة الناصر فمن دونه وواجه الخليفة وصدعه بالحق. قال بعضهم هو شيخ العراق والقائم بالإنكار على الفقهاء والفقراء وغيرهم فيما ترخصوا فيه. وقال الحافظ المنذري قيل إنه لم يكن في زمانه مثل إنكارا للمنكر منه وحبس على ذلك مدة وله رسائل كثيرة إلى الأعيان بالإنكار عليهم والنصح لهم. توفي سنة أربع وثلاثين وستمائة ببلده العلث. هكذا ترجمه الحافظ ابن رجب وبرهان الدين ابن مفلح. ولنرجع إلى الكلام على الروضة فنقول إنه أنفع كتاب لمن يريد تعاطي الأصول من أصحابنا فمقام هذا الكتاب بين كتب الأصول مقام المقنع بين كتب الفروع ولقد ابتدأت في شرحه على وجه يوضح منارة ويكشف أستاره ولله الحمد ولأصحابنا في فن الأصول كتب كثيرة. منها الكلفية والمعتمد والعدة. الجميع للقاضي أبي يعلى. ومنها مسودة بني تيمية وهم الشيخ مجدالدين وولده الشيخ عبد الحليم وحفيده شيخ الإسلام الشيخ تقي الدين. ومنها المقنع لابن حمدان. ومنها الإيضاح في الجدل للشيخ أبي محمد ابن الشيخ الإمام الحافظ عبد الرحمن ابن الجوزي. ومنها مختصر المقنع لابن حمدان وشرحه كلاهما لأبي عبد الله محمد بن أحمد الحراني المعروف بابن الحبال أحد من شرح الخرقي المتوفى سنة تسع وأربعين وسبعمائة. ومنها مجلد كبير للعلامة ابن مفلح صاحب الفروع. قال الشيخ علاء الدين المرداوي وهو أصل كتابنا يعني تحرير المنقول فإن غالب استمدادنا منه. ومنها أصول الشيخ عبد المؤمن وهو في مجلد كبير. ومنها مجلد في الأصول لعلي ابن عباس البعلي. ومنها التذكرة في الأصول لابن الحافظ عبد الغني. ومنها مختصر الحاصل ومختصر المحصول ومعراج الوصول إلى فن الأصول والكل للطوفي. ومنها عير ذلك مما يطول ذكره.(1/253)
وأما تخريج أحاديث الكتب المصنفة وكتب الأحكام. فأما الأول فإني لم أطلع منه إلا على تخريج أحاديث الكافي في الفقه للإمام الحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن السعدي المقدسي الحافظ الكبير لكن هذا التخريج مختصر جدا لم يشف غليلا ولهذا الحافظ كتاب الأحاديث المختارة وهي الأحاديث التي تصلح أن يحتج بها سوى ما في الصحيحين خرجها من مسموعاته قال بعضهم هي خير من صحيح الحاكم انتهى. قلت وقد اطلعت منها على مجلدات بخطه قال في كشف الظنون نقلا عن كتاب الشواذ الفياح التزم فيه الصحة فصحح فيه أحاديث لم يسبق إلى تصحيحها. قال ابن كثير وهذا الكتاب لم يتم وكان بعض الحفاظ من مشايخنا يرجحه على مستدرك الحاكم. توفي الضياء سنة ثلاث وأربعين وستمائة. وأما كتب الأحكام فأجلها وأوسعها وأنفعها كتاب منتقى الأحكام للإمام مجدالدين عبد السلام ابن تيمية فإنه جمع فيه الأحاديث التي يعتمد عليها علماء الإسلام في الأحكام انتقاها من الكتب السبعة صحيحي البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد بن حنبل وجامع الترمذي وسنن النسائي وسنن أبي داود وسنن ابن ماجه. وتارة يذكر أحاديث من سنن الدارقطني وغيره ورتب أحاديثه على ترتيب أبواب كتب الفقه ورتب له أبوابا ببعض ما دلت عليه أحاديثه من الفوائد وبالجملة فهو كتاب كاف للمجتهد وقد اعتنى المحدثون. بهذا الكتاب اعتناء تاما واشتهر عندهم اشتهارا وأي اشتهار فشرحه سراج الدين عمر ابن الملقن الشافعي المتوفى سنة أربع وثمانمائة لكنه لم يكلمه بل كتب قطعة وقال في كتابه البدر المنير أحكام الحافظ مجد الدين عبد السلام ابن تيمية المسمى بالمنتقى هو كاسمه لولا إطلاقه في كثير من الأحاديث الغزو إلى كتب الأئمة دون التحسين والتضعيف يقول مثلا رواه أحمد رواه الدارقطني رواه أبو داود ويكون الحديث ضعيفا وأشد من ذلك كون الحديث في جامع الترمذي مبينا ضعفه فيعزيه إليه من غير بيان ضعفه فينبغي للحافظ جمع هذه المواضع وكتبها على حواشي هذا الكتاب أو جمعها في مصنف لتكمل فائدة الكتاب وقد شرعت في كتب ذلك على حواشي نسختي وأرجو إتمامه هذا كلامه. ولمحمد بن أحمد بن عبد الهادي صاحب تنقيح التحقيق تعليقه على المنتقى أيضا لم تكمل ثم لم يزل هذا الكتاب بكرا يتجول في الأقطار حتى حط ركابه في البلاد اليمانية فاشتهر هناك ولا كالشمس في رابعة النهار فتصدى لشرحه مجتهد القطر اليماني محمد بن(1/254)
علي بن عبد الله الشوكاني بفتح الشين وسكون الواو نسبة إلى قرية من قرى السحامية إحدى قبائل خولان بينها وبين صنعاء دون مسافة يوم ثم الصنعاني اليماني وكانت ولادته سنة اثنتين وسبعين ومائة وألف وتوفي سنة خمسين ومائتين وألف فيسر الله له إتمام شرحه في ثمان مجلدات وسماه نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار وهو على اختصاره واف بالمرام قد جرده عن كثير من التفريعات والمباحث خصوصا في المقامات التي يقل فيها الاختلاف وأطال في المواطن التي يحتدم فيها الجدال وبين مذاهب. الأئمة حتى مذهب أهل البيت ولم يتعصب فيه لمذهب بل دار مع الدليل كيفما دار وهذا الشرح قد طبع في مصر وتداوله كل ذي ذهن وقاد وفكر يسمو إلى مدارك الاجتهاد وغض الطرف عنه كل حسود مكابر على ذام التقليد مطبوع وعن غيره زاجر فنسأل الله السلامة من شؤم التقليد الأعمى ولؤم التعصب الذميم وشيطانه الرجيم.
ومما اطلعنا عليه من كتب الأحكام لأصحابنا كتاب المطالع ويقال له مطالع ابن عبيدان جمع وتأليف الشيخ عبد الرحمن بن محمود بن عبيدان البعلبكي الحنبلي ولد سنة خمس وسبعين وستمائة وتوفي سنة أربعين وسبعمائة وكان عارفا بالفقه وغوامضه والأصول والحديث والعربية ولازم شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه لكنه مال في آخر أمره إلى القول بوحدة الوجود واختل عقله حتى توفاه الله تعالى وكتابه هذا في مجلد جمعه من الكتب الستة ورمز فيه إلى الحديث الصحيح والحسن ورتبه على أبواب المقنع. ومنها الأحكام الكبرى المرتبة على أحكام ضياء الدين المقدسي للحافظ محمد ابن أحمد المعروف بابن عبد الهادي صاحب تنقيح التحقيق لكنه لم يكمل بل تم منها سبع مجلدات. ومنها عمدة الأحكام الكبرى للإمام الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور الجماعيلي المقدسي الحنبلي المتوفى سنة ستمائة وهو كتاب في ثلاث مجلدات عز نظيره قال في خطبته حصرت الكلام في خمسة أقسام الأول التعريف بمن. ذكر من رواة الحديث إجمالا وله أسماء رجالها في مجلد. قال أفردت هذه بكتاب سميته العدة الثاني في أحاديثه الثالث ببيان ما وقع فيه من المبهمات الرابع في ضبط لفظه ذكر هذا صاحب كشف الظنون وللحافظ المذكور كتاب عمدة الأحكام أيضا وهي الصغرى قال في أولها أما بعد فإن بعض إخواني سألني اختصار جملة من أحاديث الأحكام مما اتفق عليه الإمامان الإمام أبو عبد الله محمد بن(1/255)
إسماعيل بن إبراهيم البخاري ومسلم ابن الحجاج فأجبته إلى سؤاله وقد بلغ هذا الكتاب خمسمائة حديث وقد اعتنى العلماء بهذا الكتاب فشرحه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق التلمساني المالكي المتوفى سنة إحدى وثماني وسبعمائة في خمس مجلدات شرحا جميع فيه بين كلام ابن دقيق العيد وابن العطار والفاكهاني وغيرهم. وشرحه سراج الدين عمر ابن الملقن الشافعي المتوفى سنة أربع وثمانمائة سماه بالأعلام وهو من أحسن مصنفاته وشرحه صاحب القاموس مجدالدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي الشيرازي وسماه عدة الحكام في شرح عمدة الأحكام وهو مجلدان وكانت وفاة المجد سنة سبع عشرة وثمانمائة وشرحه السيد تاج الدين عبد الوهاب ابن محمد بن حسن ابن أبي الوفاء العلوي المتوفى سنة خمس وسبعين وثمانمائة وسماه عدة الحكام وشرحه عبد الرحمن بن علي بن خلف الشيخ زين الدين أبي المعالي الفارسكوري الشافعي شرحا دل على كثرة فضله وتوفي سنة ثمان وثمانمائة قاله في كشف الظنون ثم قال ولعل هذا عمدة الفقه وشرحه الشيخ عمادالدين إسماعيل بن أحمد بن سعيد بن محمد بن الأثير الحلبي الشافعي ذكر فيه أنه قرأ هذا الكتاب على ابن دقيق العيد فشرحه له على طريقة الإملاء وسماه أحكام الأحكام. قلت وهذا الشرح مطبوع ومشهور بأنه لابن دقيق العيد وقد رأيته وطالعته وشرحه أيضا البرماوي الشافعي وشرحه أيضا الشيخ أحمد بن عبد الله الغزي ثم الدمشقي شرحا وصل فيه إلى باب الصداق ومات عنه فأتمه الشيخ رضي الدين الغزي الشافعي الدمشقي وشرحه العلامة الشيخ محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي في مجلدين وقد كنت طالعته قديما أثناء الطلب ثم إني كنت ممن ولع في هذا الكتاب وقرأته درسا في جامع بني أمية تحت قبة النسر ثم شرحته في مجلدين وسميته موارد الأفهام على سلسبيل عمدة الأحكام سائلا منه تعالى أن ينفع به من يطالعه بمنه وكرمه.
واعلم أيها الطالب للحق أن البحر الزاخر في هذا الموضوع والمورد العذب والوابل الصيب إنما هو مسند الإمام أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة منقلبه ومثواه وإنما منع الاشتغال به اشتغالا كالاشتغال بالسنن أمور:
أحدها : كونه مرتبا على أحاديث الصحابة وهذا الترتيب أصبح غير مألوف عند المتوسطين والمتأخرين فصار بحيث لو أراد محدث أن يجمع أحاديث باب منه احتاج إلى مطالعته من أوله إلى آخره وهذا أمر عسير جدا.(1/256)
ثانيها: عزة وجوده لطوله فإنه قد ضم ثلاثين ألف حديث وزاد عليه ولده الإمام عبد الله عشرة آلاف حديث فصار أربعين ألفا وقد بلغنا أن الحفاظ الكبار كانوا يعجبون إذا ظفروا بأجزاء منه ولم يطلع عليه بتمامه إلا النادر ولقد كنت سمعت من بعض مشايخنا الحنابلة ممن لهم إلمام بالحديث يزعمون أن المسند قد غرق في دجلة بغداد وينكر وجوده فكنت أفند مزاعمه وأقول له إني اطلعت على معظمه في خزانة الكتب العمومية بدمشق فيصر على ما زعمه ويقول هذا مسند عبد الكريم ثم إن الكتاب طبع وتجلى للعيان.
ثالثها : أن عزة وجوده كانت سببا لعدم خدمته كما خدمت السنن وغيرها من كتب الحديث ومع هذا فلم يعدم معتنيا به وقد وقع له فيه من الثلاثيات ما ينوف عن ثلاثمائة حديث ثلاثية الإسناد وقد كنت رأيت شرحا لها للعلامة محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي ثم غاب عني وقد طلب مني أحد أفاضل النجديين شرحها فابتدأت به وأنا أسأل الله تعالى أن يمن بإتمامه وطبعه وقد حكى الحفاظ أن الإمام أحمد اشترط أن لا يخرج في مسنده. إلا حديثا صحيحا عنده. قلت وهذا صحيح بالنسبة إلى أحاديث الأحكام وقد روي عنه أنه قال إذا كان الحديث في الحلال والحرام شددنا وإذا كان في غيره تساهلنا وحكى البقاعي عن أبي موسى المديني أنه قال يقال إن فيه أحاديث موضوعة كذا قال وتبعه الحافظ ابن الجوزي في كتابه الموضوعات فأورد فيه أحاديث من مسند الإمام أحمد وانتصر له الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني في كتابه القول المسدد في الذب عن مسند أحمد وبين خطأ ابن الجوزي ورد عليه أحسن الرد وأبلغ من ذلك أن منها حديثا مخرجا في صحيح مسلم حتى قال ابن حجر هذه غفلة شديد من ابن الجوزي حيث حكم على هذا الحديث بالوضع ومهما تعصب القوم فإن أحاديث المسند كلها يصح الاحتجاج بها وهي صحيحة على طريقته التي استقام عليها كما أشرنا إلى بعض ذلك عند الكلام على أصوله ولعل الذين قالوا بضعف بعض أحاديث من مسنده جاءتهم من طرق ضعيفة غير طريقته فضعفوها باعتبار ما جاءهم من طرقها. وكثيرا ما يذهب إلى مثل هذا أصحاب الحديث ممن لا يحيط علما بالطرق فتأمل هذا واحفظه واعتبر به كتب الحديث فإنك تجد الأمر واضحا هذا وقد جمع غريب المسند أبو عمر محمد بن عبد الواحد(1/257)
المعروف بغلام ثعلب في كتاب ذكر فيه ما في أحاديث المسند من اللغات الغريبة وكان حنبليا روي عنه أنه أملى من حفظه ثلاثين ألف ورقة فيما نقل وجميع كتبه التي بأيدي الناس إنما أملاها بغير تصنيف قاله ابن مفلح في المقصد الأرشد. وتوفي سنة خمس وأربعين وثلاثمائة واختصر المسند الشيخ الإمام سراج الدين عمر بن علي المعروف بابن الملقن الشافعي المتوفى سنة خمس وثمانمائة وعليه تعليقة للسيوطي في إعرابه سماها عقود الزبرجد. وقد شرح المسند أبو الحسن محمد بن عبد الهادي السندي نزيل المدينة المنورة المتوفى سنة تسع وثلاثين ومائة وألف وقيل سنة ثمان وثلاثين وهو شرح مختصر مفيد كما أخبرني من اطلع عليه في خزائن الكتب بالمدينة وهو في نحو خمسين كراسة كبار حذا فيه حذو حواشيه على الكتب الستة واختصره الشيخ زين الدين عمر بن أحمد الشماع الحلبي وسماه در المنتقد من مذهب أحمد ورأيت في خزانة الكتب العمومية بدمشق كتابا في تراجم رجال المسند تأليف الإمام الحافظ محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف الجزري سماه المقصد الأحمد في رجال أحمد وله أيضا المسند الأحمد فيما يتعلق بمسند أحمد والمصعد الأحمد في ختم مسانيد أحمد وتوفي سنة أربع وثلاثين وثمانمائة وممن رتب المسند على الأبواب علي بن حسين بن عروة كذا ذكره السخاوي في الضوء اللامع وقال في المقصد الأرشد علي بن عروة. قلت وهكذا رأيته بخطه المشرقي ثم الدمشقي الحنبلي المعروف بابن زكنون فإنه رتبه في كتاب سماه كواكب الدراري في ترتيب مسند أحمد على صحيح البخاري وهذا الكتاب. من تعاجيب الكتب وقد وصفه السخاوي في الضوء فقال هذا الكتاب رتب فيه المسند وشرحه في مائة وعشرين مجلدا طريقته فيه أنه إذا جاء حديث الإفك مثلا يأخذ نسخة من شرحه للقاضي عياض فيضعها بتمامها وإذا مرت به مسألة فيها تصنيف مفرد لابن القيم أو شيخه ابن تيمية أو غيرهما وضعه بتمامه ويستوفي ذلك الباب من المغني لابن قدامة ونحوه وكل ذلك مع الزهد والورع هذا كلامه قلت وقد رأيت من هذا الكتاب أربعة وأربعين مجلدا فرأيت مجلداته تارة مفتتحة بتفسير القرآن فإذا جاءت آية فيها أو إشارة إلى مؤلف وضعه بتمامه وتارة مفتتحا بترتيب المسند فيكون على نمط ما ذكره السخاوي حتى إن فيه شرح البخاري لابن رجب الذي وصل فيه إلى باب صلاة العيدين وغالب مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية نسخت من هذا الكتاب وطبعت(1/258)
حيث فيه كثير من كتبه ورسائله والناس يظنون أن ما فيه من التفسير لابن تيمية وهذا غلط واضح نعم رأيت فيما رأيت منه مجلدين خاصين بترتيب المسند ولنذكر ترجمة هذا الرجل لغرابة فنقول أمره وأمر كتابه ترجمة السخاوي. فقال ولد قبل الستين وسبعمائة ونشأ في ابتدائه جمالا ثم أعرض عن ذلك وحفظ القرآن وتفقه وبرع وسمع من علماء زمنه الحديث وسرد السخاوي مشايخه ثم قال وانقطع إلى الله تعالى في مسجد القدم بآخر أرض القبيبات بدمشق يؤدب الأطفال احتسابا مع اعتنائه بتحصيل نفائس الكتب وجمعها وكل ذلك مع الزهد والورع اللذين صار فيهما منقطع النظير والتبتل للعبادة ومزيد الإقبال عليها والتقلل من الدنيا وسد رمقه بما تكتسبه يداه في نسخ العبي والاقتصار على عباءة يلبسها والإقبال على ما يعنيه حتى صار قدوة وحدث سمع منه الفضلاء وقرىء عليه كتابه الكواكب أو أكثره في أيام الجمع بعد الصلاة بجامع بني أمية ولم يسلم مع هذا. كله من طاعن في علاه ظاعن عن حماه حتى حصلت له شدائد ومحن كثيرة كلها في الله وهو صابر محتسب حتى مات سنة سبع وثلاثين وثمانمائة في مسجده بالقدم وترجمه الحافظ ابن حجر في أنباء الغمر بنحو ما تقدم وقال كان لا يقبل من أحد شيئا وثار بينه وبين الشافعية شر كثير بسبب الاعتقاد وذكره البرهان ابن مفلح في المقصد الأرشد وقال رتب مسند الإمام أحمد رضي الله عنه على الأبواب وزاد فيه أنواعا كثيرة من العلم وقد نوقش في ذلك وكان ممن جبله الله تعالى على حب الشيخ تقي الدين ابن تيمية وكان الناس يعظمونه ويعتقدون فيه الصلاح والخير ويتباركون به وبدعائه ويقصدونه من كل ناحية وكان منجمعا عن الناس في منزله وهو على طريق السلف الصالح انتهى.
وممن جمع كتابا في الأحكام العلامة الصالح يوسف بن محمد بن التقي عبد الله بن محمد بن محمود جمال الدين المرداوي ذكره الذهبي في المعجم المختص وقال في حقه الإمام المفتي الصالح أبو الفضل شاب خير إمام في المذهب يعني الحنبلي شيخ الميزان وله اعتناء بالمتن والإسناد. وقال ابن حجي كان عارفا بالمذهب لم يكن فيهم مثله مع فهم وكلام جيد في البحث والنظر ومشاركة في أصول وعربية وجمع كتابا في أحاديث الأحكام. قال البرهان ابن مفلح في المقصد وكتابه هذا سماه الانتصار وبوبه على أبواب المقنع في الفقه وهو محفوظنا. توفي سنة تسع وستين وسبعمائة.(1/259)
فصل : وأما ما اتصل بنا خبره من كتب التفسير لأصحابنا فزاد المسير في علم التفسير وهو في أربعة أجزاء للحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الجوزي البغدادي المتوفى سنة سبع وتسعين وخمسمائة وقد كنت اطلعت على المجلد الأخير منه. ومنها تفسير أبي البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن الحسين العكبري الحنبلي ثم البغدادي الفقيه المقري المفسر النحوي الضرير المتوفى سنة ست عشرة وستمائة وتفسيره هذا غير تفسيره الذي هو إعراب القرآن وهو مطبوع مشهور. ومنها ما ذكره في كشف الظنون. قال تفسير الخرقي هو الإمام أبو القاسم عمر بن الحسين الدمشقي الحنبلي المتوفى سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. ومنها تفسير الفاتحة للشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد الرقي الحنبلي الواعظ المتوفى سنة ثلاث وسبعمائة
قال الذهبي في العبر كان من أولياء الله تعالى ومن كبار المذكرين. وقال الحافظ ابن رجب في طبقاته صنف تفسير القرآن ولا أعلم هل أكمله أم لا.؟
ومنها : تفسير المقدسي وهو شهاب الدين أحمد بن محمد بن الحنبلي المتوفى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
ومنها: تفسير العلامة عبد الرحمن بن الشيخ محمد ابن الشيخ زين الدين أبي هريرة عبد الرحمن بن الشيخ محمد العمري العليمي. وقد رأيته في مجلد يفسر تفسيرا متوسطا ويذكر. القراءات وإذا جاءت مسألة فرعية ذكر أقوال الأئمة الأربعة بها وفيه فوائد لطيفة. وأجل هذه التفاسير كلها وأنفعها تفسير الإمام الحافظ عبد الرزاق رزق الله بن أبي بكر بن خلف ابن أبي الهيجاء الرستغني الفقيه المحدث الحنبلي. ولد سنة تسع وثمانين وخمسائة وسمع من خلق كثير منهم الشيخ موفق الدين المقدسي وتفقه عليه وحفظ كتابه المقنع في الفقه. وذكره الذهبي في طبقات الحفاظ وتوفي سنة ستين وستمائة وتفسيره سماه رموز الكنوز وهو في أربع مجلدات وفيه فوائد حسنة ويروى فيه أحاديث بإسناده ويذكر الفروع الفقهية مبينا خلاف الأئمة فيها وله مناقشات مع الزمخشري ولقد اطلعت عليه وارتويت من مورده العذب الزلال وشنفت مسامعي بتحقيقه وارتويت من كوثر تدقيقه فرحم الله مؤلفه.
هذا ما اتصل بنا خبره أو رأيناه من كتب التفسير لأصحابنا وأرجوه تعالى أن يوفقني(1/260)
لإتمام التفسير الذي أشتغل الآن به وسميته جواهر الأفكار ومعادن الأسرار في تفسير كلام العزيز الجبار وأن يمنع عني الشواغل عن إتمامه مع إتمام شرح سنن النسائي فإنه تعالى واهب الفضل ومفيض الجود.
فصل : وأما ما اتصل بنا من كتب الطبقات الخاصة بتراجم أصحابنا فأجلها الطبقات لأبي الحسين محمد بن محمد بن الحسين بن محمد بن الفراء القاضي الشهيد ابن شيخ المذهب القاضي أبي يعلى المقتول في داره ليلا سنة ست وعشرين وخمسمائة وقد جعل هذه الطبقات على سير الطبقات الأولى ثم الثانية وهكذا مرتبا كل طبقة على حروف المعجم مرتبا الطبقات على تقديم العمر والوفاة وانتهى فيه إلى سنة اثنتي عشرة وخمسمائة ثم ذيله الحافظ زين الدين عبد الرحمن بن أحمد المعروف بابن رجب فوصل في الذيل إلى سنة خمسين وسبعمائة ثم ذيله العلامة يوسف بن حسن بن أحمد الحنبلي المقدسي مرتبا على الحروف وفرغ من تأليفه سنة إحدى وسبعين وثمانمائة. قال في كشف الظنون وذيله أيضا الشيخ تقي الدين مفلح ولم يزد على هذا ولم أدر من مفلح.
ومنها: المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، للعلامة برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح صاحب المبدع وهو كتاب مستقل في مجلد ابتدأ فيه بترجمة الإمام أحمد ثم رتب تراجم الأصحاب على حروف المعجم إلى زمنه وكانت وفاته كما تقدم سنة أربع وثمانين وثمانمائة غير أنه مال فيه إلى الاختصار وإذا ترجم من الأصحاب من له مؤلفات يذكر أحيانا كتابا من مؤلفاته وأحيانا لا يذكر منها شيئا وقد كنت عزمت على جمع ذيل له أثناء الطلب فسودت منه جانبا ثم بعد ذلك فترت همتي لعدم اشتهار الكتاب فصممت أن أجعل ما سودته ذيلا على طبقات الحافظ ابن رجب لكونه يستوفي أسماء مؤلفات المترجم ويذكر ما لأصحاب الاختيارات كثيرا من اختياراتهم ولكونها أشهر من المقصد وأغزر فائدة ومنها طبقات العلامة عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن. العليمي المقدسي واسمها المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد. ومنها: الرياض اليانعة في أعيان المائة التاسعة وكتاب التبيين في طبقات المحدثين المتقدمين والمتأخرين كلاهما ليوسف ابن عبد الهادي.(1/261)
ومنها: النعت الأكمل لأصحاب الإمام أحمد بن حنبل للفاضل الأديب محمد كمال الدين بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن الدمشقي الشهير بالغزي الشافعي وهي طبقات لطيفة جمع فيها ما كان في القرن التاسع والعاشر من علماء المذهب وقد طالعته بتمامه.(1/262)
فرائد فوائد
من اللازم على من يريد التفقه على مذهب من مذاهب الأئمة أن يعرف أمورا :
الأمر الأول: أن يعرف فن الحساب وهو العلم بقواعد يعرف بها طرق استخراج المجهولات العددية من المعلومات العددية المخصوصة والمراد من الاستخراج معرفة كمياتها وموضوعه العدد إذ يبحث فيه عن عوارضه الذاتية والعدد هو الكمية المتألفة من الوحدات فالوحدة مقومة للعدد. وأما الواحد فليس بعدد ولا مقوم له وقد يقال لكل ما يقع تحت العد فيقع على الواحد وإنما جعلنا فن الحساب مما يلزم المتفقه أن يعلمه لأنه يدخل في كثير من أبواب الفقه فيحتاج إليه فيها وذلك كضبط المعاملات وحفظ الأموال في الشركة والمضاربة وقضاء الديون وقسمة التركات وغير ذلك وما من علم من العلوم إلا ويحتاج إليه فيقبح بالمتفقه أن يكون جاهلا به عاريا عنه وخصوصا في فن الفرائض فإن مداره على الحساب ولا يستغني عنه أبدا ومن ثم قالت الحكماء الأحسن الابتداء عند التعليم بفن الحساب لأنه معارف منضجة وبراهينه منتظمة فينشأ عنه في الغالب عقل يدل على الصواب وقد يقال إن من أخذ نفسه بتعلم الحساب أول أمره يغلب عليه الصدق لما في الحساب من صحة المباني ومناقشة النفس فيصير له ذلك خلقا ويتعود الصدق ويلازمه مذهبا. ومن فروع علم الحساب علم الجبر والمقابلة وإنما كان من فروعه لأنه علم يعرف به استخراج مجهولات عددية من معلومات مخصوصة على وجه مخصوص ومعنى الجبر زيادة قدر ما نقص من الجملة المعادلة بالاستثناء في الجملة الأخرى ليتعادلا ومعنى المقابلة إسقاط الزائد من إحدى الجملتين للتعادل وقد كان لكثير من أصحابنا المتقدمين والمتأخرين ولع بفن الحساب والجبر ولهم فيهما مؤلفات. وقيل إن أول من ألف في فن الجبر الأستاذ أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي وقد كان كتابه فيه معروفا مشهورا وصنف فيه بعده أبو كامل شجاع بن أسلم كتابه الشامل وهو(1/262)
من أحسن الكتب فيه ومن أحسن شروحه شرح القرشي وللمسلمين مؤلفات لا تحصى في هذين الفنين ثم إن الفرنجة أخذوا هذين الفنين وهذبوهما ونقحوهما واختاروا أقرب الطرق وأدخلوهما في مدارسهما ثم إن علماء المسلمين أخذوا كتب الفرنجة وترجموها إلى لغاتهم وسلكوا فيهما طريقهم فانتشر انتشارا باهرا وهجرت كتب المسلمين في هذين الفنين حتى صار المشتغلون بفن الجبر يعتقدون أن هذا الفن من مخترعات علماء أوروبا ومن حقق الأمر وجده من مخترعات علماء الإسلام وذلك أنه عن لبعض حكمائهم تحليل المقدمة التي استعملها أرشميدس في الرابع من الثانية من الكرة والإسطوانة بالجبر فتأدى حلها إلى كعاب وأموال وأعداد متعادلة فلم يتفق له حلها بعد أن فكر فيها مليا فجزم بأنه ممتنع حتى تبعه أبو جعفر الخازن وحلها بالقطوع المخروطية ثم افتقر بعده جماعة من المهندسين إلى عدة أصناف منها فبعض تلك الأصناف حلل البعض الآخر.
الأمر الثاني: فن المساحة الذي هو فن من فنون الهندسة وهو فن يحتاج إليه في مسح الأرض ومعناه استخراج مقدار الأرض المعلومة بنسبة شبر أو ذراع أو غيرهما أو نسبة أرض من أرض إذا قويست بمثل ذلك. وهذا الفن يحتاج إليه المتفقه في مسألة الماء هل يبلغ قلتين أم لا على قول الشافعي وأحمد فيما إذا كان مكان الماء مدورا أو مثلثا أو مستطيلا أو كان على وضع من أوضاع أشكال الهندسة. وفي مسألة هل يبلغ سطح الماء عشرا في عشر على قول المتأخرين من الحنفية فيما إذا كان محل الماء على وضع من الأوضاع المذكورة ويحتاج إليه في قسمة الأرض المشتركة المتنازع فيها بين الشركاء ويحتاج إليه أيضا في توظيف الخراج على المزارع والفدن وبساتين الغراسة وفي قسمة الحوائط والأراضي بين الشركاء أو الورثة وأمثال ذلك وبالجملة فهو فن لا يستغني الناس عنه ويقبح بالمتفقه جهله.
الأمر الثالث: فن الميقات إذ به تعرف جهة القبلة للصلوات وتعرف به الأوقات وتصحيح الساعات المخترعة لمعرفة الأوقات وهذا يعرف بالاسطرلاب وللعمل به رسائل وكتب كثيرة وبالربعين المجيب والمقنطر ولهما أيضا رسائل وبآلات أخر مشهورة وأن يعرف من النجوم ما به يعرف القبلة وكان للفقهاء اعتناء زائد بهذا وهذا موفق الدين(1/263)
المقدسي كان من العارفين بهذا الشأن وقد ذكر في كتابه المغني لمعرفة القبلة عدة قواعد تدل على تمكنه من هذا الفن فاللازم على المتفقه أن لا يهمله.
الأمر الرابع: معرفة تراجم علماء مذهبه وما لهم من المؤلفات وأن يعرف طبقاتهم وإلا فقد يمر به اسم واحد من الحنابلة فيظنه حنفيا أو من الحنفية فيظنه شافعيا أو من المتقدمين فيظنه متأخرا أو من أرباب الأقوال والوجوه في مذهبه فيظنه مقلدا بحتا ومثل هذا يقبح بالمتفقه وينادي على انحطاطه عن ذروة الكمال والله يتولى الصالحين.
الأمر الخامس: أن يكون له إلمام بفن العروض والقوافي وذلك أن كل مذهب لا يخلو من كتاب فيه منظوم وقد يذكر الفقهاء كثيرا من الشروط أو الواجبات أو السنن أو الآداب أو المسائل الفقهية منظومة ولم يذكروها كذلك إلا ترغيبا للطالب في حفظها فإذا كان المريد لحفظها جاهلا بفني العروض والقوافي حفظها مختلة الوزن غير مستقيمة وربما كان بحيث لا يفرق بين المنظوم والمنثور ولا سيما إذا كان الناسخ جاهلا فكتب النظم ككتابه للنثر فهناك يفوت المقصود ويعد ذلك من الجهل وقد أدركت من علماء بلدنا الكبار من إذا قرأ نظما قرأه كقراءته للنثر بلا فرق وربما لحن فيه لحنا فاحشا وما ذلك إلا لعدم مزاولته هذا الفن فاللائق بالمتفقه أن يعلمه لئلا يكون جاهلا به.
الأمر السادس: أن يعلم من مفردات اللغة ما به يستعين على فهم الكتاب الذي يطالع فيه وإلى هذا وجه الفقهاء أنظار الطلبة فقد ألف المصباح المنير للغات الشرح الكبير على الوجيز للرافعي وألف المغرب للحنفية لهذه الغاية أيضا ولمثلها ألف المطلع على أبواب المقنع الحنبلي والدر النقي لشرح ألفاظ الخرقي وألف الحجاوي كتابا في بيان غريب كتابه الإقناع فينبغي للمتفقه أن لا يكون خلوا من معرفة اللغة فإن هذا يشينه ويعيبه.
الأمر السابع: أن يتعلم من فن التجويد ما يعرف منه مخارج الحروف وما لا بد للقارىء أن يعلمه فإن جهل مثل ذلك ربما أخل بصلاته وخصوصا فإن لهذا مدخلا في باب الإمامة حيث يقول الفقهاء يقدم الأقرأ فالأقرأ ومن لم يكن عارفا بفن التجويد كيف يميز بين القارىء والأقرأ وكم رأينا من المتصدرين لأقراء الفقه وللإمامة ثم إنهم إذا قرأوا في الصلاة كانت قراءة الأعجمي أحسن حالا من قراءتهم وربما لم يفرقوا بين السين(1/264)
وبين الثاء المثلثة الفوقية ويزيدون في الكلمات حروفا ليست منها وهم لا يشعرون ومثل هذا يعاب به العامي فضلا عن المتفقهه.(1/265)
لطائف قواعد
اعلم أن كثيرا من الناس يقضون السنين الطوال في تعلم العلم بل في علم واحد ولا يحصلون منه على طائل وربما قضوا أعمارهم فيه ولم يرتقوا عن درجة المبتدئين وإنما يكون ذلك لأحد أمرين:
أحدهما: عدم الذكاء الفطري وانتفاء الإدراك التصوري وهذا لا كلام لنا فيه ولا في علاجه.
والثاني: الجهل بطرق التعليم وهذا قد وقع فيه غالب المعلمين فتراهم يأتي إليهم الطالب المبتدىء ليتعلم النحو مثلا فيشغلونه بالكلام على البسملة ثم على الحمدلة أياما بل شهورا ليوهموه سعة مداركهم وغزارة علمهم ثم إذا قدر له الخلاص من ذلك أخذوا يلقنونه متنا أو شرحا بحواشيه وحواشي حواشيه ويحشرون له خلاف العلماء ويشغلونه بكلام من رد على القائل وما أجيب به عن الرد ولا يزالون يضربون له على ذلك الوتر حتى يرتكز في ذهنه أن نوال هذا الفن من قبيل الصعب الذي لا يصل إليه إلا من أوتي الولاية وحضر مجلس القرب والاختصاص هذا إذا كان الملقن يفهم ظاهرا من عبارات المصنفين. وأما إذا كان من أهل الشغف بالرسوم أشير إليه بأنه عالم. فموه على الناس وأنزل نفسه منزلة العلماء المحققين وجلس للتعليم فيأتيه الطالب بكتاب مطول أو مختصر فيتلقاه منه سردا لا يفتح له منه مغلقا ولا يحل له طلسما فإذا سأله ذلك الطالب المسكين عن حل مشكل انتفخ أنفه وورم وقابله بالسب والشتم ونسبه إلى البهائم ورماه بالزندقة وأشاع عنه أنه يطلب الاجتهاد. ومن أولئك من لا يروم الحماقة لكنه يقول إننا نقرأ الكتب للتبرك بمصنفيها وأكثر هؤلاء هم الذين يتصدرون لأقراء كتب المتصوفة فإنهم يصرحون بأن كتبهم لا يفهمها إلا أهلها وأنهم إنما يشغلون أوقاتهم بها تبركا. ولعمري لو تبرك هؤلاء بكتاب الله المنزل لكان خيرا لهم من ذلك الفضول وهؤلاء كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. ومنهم من يكون داريا بالمسائل وحل العبارات(1/265)
ولكنه متعاظم في نفسه فإذا جاءه طالب علم الفقه أحاله على شرح منتهى الإرادات إن كان حنبليا وعلى الهداية إن كان حنفيا وعلى التحفة إن كان شافعيا وعلى شرح مختصر خليل للحطاب إن كان مالكيا ثم إن كان مبتدئا صاح قائلا إلى الملتقى يوم الدين، وإن كان ممن زاول العربية وأخذ طرفا من فن أصول الفقه انتفع انتفاعا نسبيا لا حقيقيا. وقد تفطن فلاسفة المسلمين لهذا الداء فألف أبو نصر الفارابي رسالة في كيفية المدخل إلى كتب أرسططاليس الفلسفية وحذا حذوه قوم من علماء الشرع فأثبتوا نتفا من الكلام في هذا الموضوع إذ غاية أمرهم أنهم يتكلمون على الفنون فيذكرون الكتب المختصرة في الفن والمتوسطة والمطولة وربما كان ما ذكروه مشهورا في أيامهم ثم عز وجوده وانقطع خبره ثم إنه بعد الألف من الهجرة ألف الفاضل المحدث الشيخ أحمد المنيني الدمشقي كتابا لطيفا سماه الفرائد السنية في الفوائد النحوية وأشار فيه إلى طرف من آداب المطالعة وقد لخصت ذلك الطرف في رسالة وزدت عليه أشياء استفدتها بالتجربة وسميت تلك الرسالة آداب المطالعة وذكرت أيضا جملة كافية في مقدمة كتابي إيضاح المعالم من شرح العلامة ابن الناظم الذي هو شرح ألفية ابن مالك في النحو وحيث إن كتابي هذا مدخل لعلم الفقه أحببت أن أذكر من النصائح ما يتعلق بذلك العلم فأقول لا جرم أن النصيحة كالفرض وخصوصا على العلماء فالواجب الديني على المعلم إذا أراد إقراء المبتدئين أن يقرئهم أولا كتاب أخصر المختصرات أو العمدة للشيخ منصور متنا إن كان حنبليا أو الغاية لأبي شجاع إن كان شافعيا العشماوية إن كان مالكيا أو منية المصلي أو نور الإيضاح إن كان حنفيا ويجب عليه أن يشرح له المتن بلا زيادة ولا نقصان بحيث يفهم ما اشتمل عليه ومريأه أن يصور مسائله في ذهنه ولا يشغله مما زاد على ذلك. وقد كانت هذه طريقة شيخنا العلامة الشيخ محمد بن عثمان الحنبلي المشهور بخطيب دوما المتوفى بالمدينة المنورة سنة ثمان وثلاثمائة بعد الألف وكان رحمه الله يقول لنا لا ينبغي لمن يقرأ كتابا أن يتصور أنه يريد قراءته مرة ثانية لأن هذا التصور يمنعه عن فهم جميع الكتاب بل يتصور أنه لا يعود إليه مرة ثانية أبدا وكان يقول كل كتاب يشتمل على مسائل ما دونه وزيادة. فحقق مسائل ما دونه لتوفر جدك على فهم الزيادة انتهى. ولما أخذت نصيحته مأخذ القبول لم أحتج في القراءة على الأساتذة في العلوم والفنون إلى أكثر من ست سنين فجزاه الله خيرا وأسكنه فراديس جنانه فإذا فرغ الطالب من فهم تلك(1/266)
المتون نقله الحنبلي إلى دليل الطالب والشافعي إلى شرح الغاية والحنفي إلى ملتقى الأبحر والمالكي إلى مختصر خليل وليشرح له تلك الكتب على النمط الذي أسلفناه فلا يتعداه إلى غيره لأن ذهن الطالب لم يزل كليلا ووهمه لم يزل عنه بالكلية والأولى عندي للحنبلي أن يبدل دليل الطالب بعمدة موفق الدين المقدسي إن ظفر بها ليأنس الطالب بالحديث ويتعود على الاستدلال به فلا يبقى جامدا ثم إذا شرح له تلك الكتب وكان قد اشتغل بفن العربية على النمط المتقدم أوفقه هنالك وأشغله بشرح أدنى مختصر في مذهبه في فن أصول الفقه كالورقات لإمام الحرمين وشرحها للمحلى دون مالها من شرح الشرح لابن قاسم العبادي والحواشي التي على شرحها فإذا أتمها نقله إلى مختصر التحرير إن كان حنبليا مثلا ويتخير له من أصول مذهبه ما هو أعلى من الورقات وشرحها فإذا أتم شرح ذلك أقرأه الحنبلي الروض المربع بشرح زاد المستنقع والحنفي شرح الكنز للطائي والمالكي أحد شروح متن خليل المختصرة والشافعي شرح الخطيب الشربيني للغاية ولا يتجاوز الشروح إلى حواشيها ولا يقرئها إياه إلا بعد اطلاعه على طرف من فن أصول الفقه.
واعلم أنه لا يمكن للطالب أن يصير متفقها ما لم تكن له دراية بالأصول ولو قرأ الفقه سنينا وأعواما ومن ادعى غير ذلك كان كلامه إما جهلا وإما مكابرة فإذا انتهى من هذه الكتب وشرحها شرح من يفهم العبارات ويدرك بعض الإشارات. نقله الحنبلي إلى شرح المنتهى للشيخ منصور وروضة الناظر وجنة المناظر في الأصول والشافعي إلى التحفة في الفقه وشرح الإسنوي على منهاج البيضاوي في الأصول والمالكي إلى شرح مختصر ابن الحاجب الأصولي وشرح أقرب المسالك لمذهب مالك والحنفي إلى الهداية وشرح المنار في الأصول فإذا فرغ من هذه الكتب وشرحها بفهم واتقان قرأ ما شاء وطالع ما أراد فلا حجر عليه بعد هذا.
واعلم أن للمطالعة وللتعليم طرقا ذكرها العلماء وإننا نثبت هنا ما أخذناه بالتجربة ثم نذكر بعضا من طرقهم لئلا يخلو كتابنا هذا من هذه الفوائد. إذا تمهد هذا فاعلم أننا اهتدينا بفضله تعالى أثناء الطلب إلى قاعدة وهي أننا كنا نأتي إلى المتن أولا فنأخذ منه جملة كافية للدرس ثم نشتغل بحل تلك الجملة من غير نظر إلى شرحها ونزاولها حتى(1/267)
نظن أننا فهمنا ثم نقبل على الشرح فنطالعه المطالعة الأولى امتحانا لفهمنا فإن وجدنا فيما فهمناه غلطا صححناه ثم أقبلنا على تفهم الشرح على نمط ما فعلناه في المتن ثم إذا ظننا أننا فهمناه راجعنا حاشيته إن كان له حاشية مراجعة امتحان لفكرنا فإذا علمنا أننا فهمنا الدرس تركنا التاب واشتغلنا بتصوير مسألة في ذهننا فحفظناه حفظ فهم وتصور لا حفظ تراكيب وألفاظ ثم نجتهد على أداء معناه بعبارات من عندنا غير ملتزمين تراكيب المؤلف ثم نذهب إلى الأستاذ للقراءة وهنالك نمتحن فكرنا في حل الدرس ونقوم ما عساه أن يكون به من اعوجاج ونوفر الهمة على ما يورده الأستاذ مما هو زائد على المتن والشرح وكنا نرى أن من قرأ كتابا واحدا من فن على هذه الطريقة سهل عليه جميع كتب هذا مختصراتها ومطولاتها وثبتت قواعده في ذهنه وكان الأمر على ذلك ثم إن الأولى في تعليم المبتدىء أن يجنبه أستاذه عن إقرائه الكتب الشديدة الاختصار العسرة على الفهم كمختصر الأصول لابن الحاجب والكافية له في النحو لأن الاشتغال بمثل هذين الكتابين المختصرين إخلال بالتحصيل لما فيهما وفي أمثالهما من التخليط على المبتدىء بإلقاء الغايات من العلم عليه وهو لم يستعد لقبولها بعد وهو من سوء التعليم ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها وصعوبة استخراج المسائل من بينها لأن ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة فينقطع في فهمها حظ صالح عن الوقت كما أشار إلى ذلك ابن خلدون في مقدمته ثم قال وبعد ذلك فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تم على سداده ولم تعقبه آفة فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة بكثرة ما يقع في تلك من التكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة وإذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين فأركبوهم صعبا يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكنها. هذا كلامه.
واعلم أنك إذا قابلت بين من قرأ الكافية وبين من قرأ ابن عقيل شرح ألفية ابن مالك وجدت الأول جامدا غير متسع الصدر في ذلك الفن ووجدت الثاني أغزر مادة منفسحا له المجال. وحاصل الأمر أن الأستاذ ينبغي أن يكون حكيما يتصرف في طرق التعليم بحسب ما يراه موافقا لاستعداد المتعلم وإلا ضاع الوقت بقليل من الفائدة وربما(1/268)
لم توجد الفائدة أصلا. وطرق التعليم أمر ذوقي وأمانة مودعة عند الأساتذة فمن أداها أثيب على أدائها ومن جحدها كان مطالبا بها. وقد أودع ابن خلدون في مقدمة تاريخه نفائس من هذه المباحث كالمقدمات ومطالعتها تهدي النتيجة لصادق الهمة مطلق من قيد التقليد ولله در ابن عرفة المالكي حيث قال:
إذا لم يكن في مجلس الدرس نكتة ... وتقرير إيضاح لمشكل صورة
وعزو غريب النقل أو حل مقفل ... أو إشكال أبدته نتيجة فكرة
فدع سعيه وانظر لنفسك واجتهد ... ولا تتركن فالترك أقبح خلة
وهنا وقف بنا جواد القلم عن المجال في هذا الميدان على سبيل الاختصار ولو ركبنا متن الإسهاب لطال الكتاب والهمم قاصرة والإقبال في عصرنا على العلم قد صار روضة كالهشيم تذروه الرياح وغضونه ذابلة وجداوله تشتاق إلى الماء. فنسأله تعالى أن يرفع له منارا ويجدد شوقا لأهله على الإقبال عليه بمنه وكرمه.(1/269)
رد العجز على الصدر
لا يخفاك أيها الفاضل أننا صدرنا كتابنا وزيناه بما نقلناه عن إمام أهل السنة والأثر أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه من رسائله التي نقلت عنه في أصول الدين مما فيه كفاية لمن كان سلفيا وعن لنا الآن أن نختم كتابنا بذكر شيء مما ألفه علماء مذهب السلف ليكون البدء موافقا للختام رجاء منه تعالى أنه كما وفقنا للتوحيد وجعلنا من أهله أن تكون الخاتمة على توحيده الخالص من الزيغ والإلحاد بمنه تعالى وكرمه فنقول إن الكتب المؤلفة في هذا العلم ليست محصورة بمؤلفات أصحاب الإمام أحمد بل جميع علماء القرون الثلاثة وعلماء الحديث بأجمعهم على معتقد السلف لا يشذ منهم عن ذلك إلا من جعل الفلسفة طريقه التي يعول عليها وأساسه الذي يبني عليه غير ملتفت إلى ما كان عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان فأعظم كتاب في هذا النوع كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ثم ما ورد وصح عن نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم فهما الشفاء من الداء العضال والهدي في بيداء الحيرة والضلال فلا يحتاج بعدهما إلى تأليف ولا إلى تنميق وترصيف تصنيف. ولكن لما ترجمت كتب(1/269)
الحكماء وظهرت الفرق وتبع أهلها مقالات أرسطو وأفلاطون وسموا ما بنوه على ذلك بالعلم الإلهي احتاج علماء السلف لتأليف الكتب وتصنيفها للرد عليهم ولدلالة الناس على الصراط المستقيم وتكلم الأئمة بالرد على من حاد عن الطريقة المثلى فكثر الشغب وتفاقم الأمر وثبت اتباع الإمام أحمد على سبيل الكتاب والسنة وناضلوا عنه أشد النضال وألفوا في ذلك كتبا مختصرة وطولة ولم يتعدوا عما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة الموثوق بهم كأبي حنيفة وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة ومالك والشافعي وأحمد وأبي عبيد وداود وأمثالهم قدما ولم يثنهم عن عزمهم طلاقة لسان مخادع ولا سفسطة متأول ولا بهرجة ملحد ولا زخرفة متفلسف وكلما انقضت طبقة منهم أنشأ الله تعالى طبقة غيرها على سبيل من قبلها فهم الأبدال والأخيار والأنجاب كيف لا وقد أخبر عنهم الصادق الأمين فيما رويناه من سنن ابن ماجه عن أبي عتبة الخولاني وكان قد صلى إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم في طاعته" 1 وحصلت الإشارة إليهم أيضا في الحديث المشهور المروي بطرق كثيرة عن أبي هريرة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال طائفة من أمتي قوامة على أمر الله لا يضرها من خالفها" 2 وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية نقل نعيم بن طريف عن الإمام أحمد أنه قال في حديث: "لا يزال الله يغرس" 3 إلى آخره هم أصحاب الحديث ونص أحمد على أن لله أبدالا في الأرض. وقال أيضا عنهم إن يكونوا هؤلاء الناس يعني أهل الحديث فلا أدري من الناس.
ثم اعلم أن أجل كتب اعتقاد السلف ما نقله الأئمة الموثوق بهم ورواه الثقات عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد فإنهم أكثروا من القول في الاعتقاد الصحيح ولم تخطف كلمتهم فيه وقد بنى أبو جعفر الطحاوي عقيدته على ما رواه عن أبي حنيفة
__________
1 رواه ابن ماجه في المقدمة، باب: اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 رواه البخاري في كتاب الاعتصام، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم "لاتزال طائفة من أمتي" الخ، ومسلم في كتاب الإيمان، باب: 170، وأبو داود في كتاب الفتن، باب: ذكر القتن ودلائلها، والترمذي في كتاب الفتن، باب: 27، وابن ماجه في المقدمة، باب: اتباع سنة رسول الله صلى الله علية وسلم وأحمد في"م5/ص34".
3 رواه ابن ماجه في المقدمة، باب: اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/270)
النعمان بن ثابت وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني وصرح بأنه نقل عنهم ما يعتقدون من أصول الدين ويدينون به رب العالمين وعقيدته هذه سلفية محضة وليت الحنفية من بعده جعلوا هذه العقيدة أساس معتقدهم وأكثر من روى عنه من هذا الشأن الإمام أحمد بن حنبل لأن زمنه كان زمن القول بخلق القرآن والقيام بتشييد البدع وامتحن على ذلك فأكثر من القول فيه بحيث إن ما نقل عنه من الرسائل في هذا السبيل كاف لمتبع سبيل السلف وهذا سبيل جميع الأئمة المجتهدين وعلماء الحديث دع عنك أولئك الذين يسمون أنفسهم بالخلف ويستندون في مقالاتهم إلى دلائل التقطوها من مقالات الفلاسفة فإنهم مهما جالوا واستطالوا كان قصارى أمرهم إلى الحيرة والموفق منهم من رجع آخر أمره إلى التسليم والتفويض وقدم مذهب سلف الأئمة على من انتحله ولا يغرنك انتساب أولئك إلى الإمام أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى فإنهم عند التحقيق لم يسلكوا مسلكه ولم يفهموا مرامه لأن هذا الإمام تصدى أولا للرد على المعتزلة بعد أن كان منهم وصاحب البيت أدرى بالذي فيه يكون فسلك في الرد عليهم مسلك فن الجدل وأخذ يقطع عليهم الطريق بأي وجه كان ويزيف مقالاتهم بأي واسطة كانت كما هو شأن فن الجدل الذي قصارى أمره غلبة الخصم بأي وجه وبأي طريقة كانت وكثيرا ما يحتاج. المجادل في غلبة خصمه إلى السفسطة بل إلى إبراز المستحيل في صورة الجائز والجائز في صورة الواجب ثم إنه في آخر أمره ألف كتابه المسمى بالإبابة فأبان بها مذهب أهل الحق وباح باعتقاده ولما كانت خصومه من الدهاء والفطنة بدرجة لا تنكر وكان لهم في دولتهم مكانة ولم يطيقوا مدافعة الإمام عمدوا من بعده إلى كتبه فالتقطوا منها ما قاله في مقام المدافعة ولم تكن من عقيدته مما يقرب من نحلتهم ودونوا ذلك وجعلوه مذهبا منسوبا إليه ثم أخذوا يثبتون ما ادعوا أنه من معتقده بما ألفوه من أدلتهم ثم أتى من بعدهم فدس فيه قواعد الفلاسفة وقواها بأدلتهم حتى أصبح ما نسب إليه من جنس ما يذكر في العلم المسمى عند أولئك بالإلهي لا فرق بينه وبينه ثم جاء من بعدهم ممن شأنه التقليد الأعمى والتقليد يبعد عن الحق ويروج الباطل فاعتقد بأن تلك النتف وتلك المفتراة هي مذهب الإمام الأشعري فأخذها قضية مسلمة وتلقى أدلتها بالقبول فمنهم من اختصرها ومنهم من نظمها ومنهم من شرحها ولو أبصر الأشعري ما نسبوه إليه لتبرأ منه ولقال لهم أخطأتم المرمى وما الغي منكم ببعيد ألم تروا(1/271)
كتابي الإبانة الذي هو آخر مؤلفاتي ألم تعلموا مقاصدي في مسالكي في الرد على خصومي والحق يقال إن الأشعري أجل من أن تنسب تلك المفتريات إليه ولقد تنبه لذلك جماعة من العلماء فتبعوا مذهبه الحق وهو ما كان عليه السلف ولولا خوف الملل لذكرتهم واحدا بعد واحد ولكن أقول أجلهم إمام الحرمين ومن رأى كلامه في آخر عمره يعلم يقينا أنه رجع عن جميع ما كان حيث قال نهاية إقدام العقول عقال وممن صرح بذلك السنوسي صاحب العقيدة المشهورة. بين المدعين بأنهم أشاعرة فإنه نادى بذلك علنا في شرح له كما تقدم ذلك أول الكتاب وتبع الأشعري الحقيقي لا الأشعري الوهمي الذي ليس له وجود في الخارج وأنت أيها المؤيد بنور الحق إذا رأيت كتب الذين يزعمون أنهم أشاعرة رأيتهم على مذهب أرسطاطاليس ليس ومن تبعه كابن سينا والفارابي ورأيت كتبهم عنوانها علم التوحيد. وباطنها النوع المسمى بالإلهي من الفلسفة وإذا كنت في ريب مما قلناه والكلام فانظر المواقف لعضد الدين الآيجي وشرحه للسيد الجرجاني وما عليه من الحواشي ثم تأمل كتاب الإشارات وكتاب الشفا لابن سينا وشروح الأول فإنك تجد الكل من واد واحد لا فرق بينهما إلا بالتصريح باسم المعتزلة والجبرية وغيرهما فهل يؤخذ توحيد من هذه الكتب إلا بعد الوقوع بألف ورطة ثم إن سلم السالك من هذه الطامات ظفر بتوحيد من جنس توحيد الفلاسفة والملاحدة ومثل هذا حال المشتغل بالطوالع والمطالع وشروحهما وحواشيهما وما أشبههما لطالما أشغلنا بهذه الكتب فلم نر فيها إلا أن أصحابها فتحوا على أنفسهم أبواب شبهات عجزوا عن سدها فأخذوا في إقناع أنفسهم وكلما أغلقوا منها بابا انفتحت لهم أبواب فأطالوا ذيول الكلام وكتبوا المجلدات ثم ألزموا الناس بها وأنفسهم لم ينالوا منها هدى فكيف غيرهم يهتدي بها على أنهم لو أعطوا عمر نوح وملأوا الدنيا كتبا يبحثون بها عن الهدى لم يجدوه إلا في الكتاب والسنة والرجوع إلى عقيدة السلف فكن عليها أيها الناصح لنفسه من أول الأمر ولا تطوح بنفسك في تلك الأودية فتهلك وإني لك الناصح الأمين والله يتولى هداك وحيث أفضى بنا المقال إلى هذ الحد لزمنا أن نقول قد ألف. العلماء الأعلام في بيان ما كان عليه السلف كتبا لا تحصى مطولة ومختصرة وأنا أرشدك إلى بعضها لأن من طالع كتابا منها فكأنه قد طالع الكل لاتفاقهم على طريقة واحدة فأجل ما كتب في هذا الموضوع رسائل الإمام أحمد وأحسن طريقة لمن يطلب التحقيق والبرهان كتب شيخ(1/272)
انتصارا لا مزيد عليه وأخلص لله تعالى في عمله ونصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ولا يهولنك ما وصمه به أعداؤه فإن كلام الحساد كالزبد يذهب جفاء ثم من بعده مصنفات صاحبه شمس الدين محمد بن قيم الجوزية فإنه على طريقة شيخه مالك وأثره اقتفى وحقيقة مؤلفاته بسط مقالات أستاذه وذلك كالصواعق المحرقة والجيوش الإسلامية والكافية الشافية المسماة بالنونية.
ثم اعلم أن كتب أولئك القوم تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: منها قد تكفل بذكر نحل الفرق ثم منهم من يذكر ذلك سردا ولم يتعرض المرد على أحد منهم وذلك كأبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي المتوفى سنة تسع وعشرين وأربعمائة في كتابه الفرق بين الفرق وكأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني المتوفى سنة ثمانية وأربعين وخمسمائة وهذان الكتابان مطبوعان ومشهوران ومنهم من يذكر الفرق ويتكفل بالرد عليهم وذلك كأبي محمد علي بن أحمد المعروف بابن حزم في كتابه الفصل بكسر الفاء وفتح الصاد وهو مطبوع مشهور وكانت وفاة صاحبه سنة ست وخمسين وأربعمائة وقد قال عنه الشهرستاني هو عندي خير. كتاب صنف وقد اعتدى الشيخ عبد الوهاب ابن السبكي على الفصل. فقال في كتابه الطبقات هذا من أشهر الكتب وما برح المحققون من أصحابنا ينهون عن النظر فيه لما فيه من الازدراء بأهل السنة وقد أفرط في التعصب على أبي الحسن الأشعري حتى صرح بنسبته إلى البدعة. هذا كلامه. أقول أراد بأهل السنة من كان على شاكلته من أتباع الأشعري الموهوم الذي لا تحقق له في الخارج وإنما وجوده في مخيلة أصحابه وهم الذين افتروا على الأشعري الحقيقي فنسبوا إليه ما هو بريء منه وابن حزم كان أندلسيا فاتصلت به تلك المفتريات فظن أنها من نحلة الأشعري الحقيقي فرد كلامه فالجرم على المتسبب لا على الإمام الكامل ابن حزم.
والقسم الثاني: منها ما هو موضوع لبيان مذهب السلف وهي كثيرة جدا كما أسلفناه لكننا نرشد الطالب هنا إلى ما فيه مقنع له فنقول منها العقيدة الحموية وشرح العقيدة الأصفهانية لشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرها من رسائله ومصنفاته. ومنها لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد للإمام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة(1/273)
المقدسي وهي كراسة لطيفة. ومنها: مختصر نهاية المبتدئين للشيخ بدر الدين محمد البلباني. ومنها العين والأثر للشيخ عبد الباقي. ومنها: عقيدة الإمام حافظ الوقت عبد الغني بن سرور عبد الواحد بن علي بن سرور الجماعيلي. ومنها: نجاة الخلف في اعتقاد السلف للشيخ عثمان بن أحمد النجدي. ومنها الدرية المضية في عقد أهل الفرقة المرضية وهي مائتا بيت وبضعة عشر بيتا نظمها الشيخ العلامة محمد بن أحمد السفاريني ثم شرحها في مجلد وسماه لوامع الأنوار البهية. وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المرضية وهو شرح مفيد إلا أنه جرى فيه مسلكا وسطا بين أهل الأثر وبين طريقة المتأخرين وسلك فيه غير مسلك التحقيق وزاد في آخر النظم والشرح أشياء لم يرض بذكرها من سلف ولم يجعلوها من الاعتقاد في شيء كذكر المهدي وأمثال ذلك مما حقه أن يذكر في كتب الملاحم والواعظ لا في كتب الاعتقاد وقد اختصر شيخ مشايخنا الشيخ حسن الشطي الحنبلي الدمشقي هذا الشرح إلا أنه أخذ كلامه السفاريني بلفظه وحذف الأقوال والخلاف فحق هذا المختصر أن ينسب للسفاريني لا له وعلى كل فهذا الشرح مفيد وقد طبع واشتهر. ومنها كتاب المعتمد ومختصره كلاهما للقاضي أبي يعلى. ومنها كتاب الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة للإمام عبيدالله بن محمد بن محمد بن حمدان بن بطة العكبري أحد شيوخ الإمام ابن حامد ومن مؤلفاته الإبانة الكبير والصغير وغيرهما من الرسائل. وقيل: إن مصنفاته تزيد على مائة مصنف. توفي سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وبطة بفتح الباء والطاء المشددة قاله في المطلع. ومنها كتاب التوحيد ومعرفة أسماء الله تعالى وصفاته على الاتفاق والتفرد للإمام محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده. الأصبهاني وكان من أصحابنا وحكي عنه في المقصد الأرشد أنه قال طفت الشرق والغرب مرتين ولم أسمع من المبتدعين حديثا. توفي سنة نيف وسبعين وأربعمائة وكتابه هذا في سبعة أجزاء وابن منده اثنان وهما من أصحابنا. أولهما هذا. والثاني: الإمام الحافظ صاحب التصانيف الكثيرة التي منها تاريخ أصبهان ومناقب الإمام أحمد رضي الله عنه وهو مجلد كبير وفيه فوائد حسنة. قال في أوله ومن أعظم جهالتهم يعني المبتدعة وغلوهم في مقالتهم وقوعهم في الإمام المرضي إمام الأئمة وكهف الأمة ناصر الإسلام والسنة ومن لم تر عين مثله علما وزهدا وديانة وإمامة إمام أهل الحديث أبي عبد الله أحمد بن محمد بن(1/274)
حنبل الشيباني قدس الله روحه وبرد عليه ضريحه الإمام الذي لا يجارى والفحل الذي لا يبارى ومن أجمع أئمة الدين رضوان الله عليهم ورحمته في زمانه على تقدمه في شأنه ونبله وعلو مقامه ومكانه والذي له من المناقب ما لا يعد ولا يحصى قام لله مقاما لولاه لجهم الناس ولمشوا على أعقابهم القهقرى ولضعف الإسلام واندرس العلم ولقد صدق الإمام أبو رجاء قتيبة بن سعيد حيث قال إن أحمد بن حنبل في زمانه بمنزلة أبي بكر وعمر في زمانهما وأحسن من قال لو كان أحمد في بني إسرائيل لكان آية أعاشنا الله على عقيدته وحشرنا يوم القيامة في زمرته وحين وقفت على سرائر هؤلاء وخبث اعتقادهم في هذا الإمام قصدت لمجموع نبهت فيه على بعض فضائله ونبذه من مناقبه وذكرت طرفا مما منحه الله من المنزلة الرفيعة والرتبة العلية في الإسلام والسنة مع أني لست أدري لنفسي أهلية لذلك وأن المشايخ الماضين رحمهم الله تعالى قد عنوا بجمعه فشفوا لكني أردت أن يبقى لي بجمع مناقبه ذكر وأن أكون مشرفا فيما بين أهل العلم من أهل السنة بانتسابي. إليه ومحلى بمذهبه وطريقته. هذا كلامه. توفي سنة إحدى عشرة وقيل اثنتا عشرة وخمسمائة بأصبهان وبها دفن عند آبائه رحمه الله تعالى. ومنها كتاب التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع للمحدث الكبير أحمد بن محمد الملطي المعروف بالطرائفي وهو كتاب لطيف يذكر فيه الفرق المبتدعة وينصر مذهب أهل الحديث. ومنها غير ذلك مما لا يحصى مما هو مشهور وأكثر من أن يذكر وليس قصدنا استقصاء أسماء الكتب بل قصدنا التنبيه على بعض ما اطلعنا عليه مما لو طبع لأتى بفوائد جمة تعود على مطالعه بالنفع وإلا ففي كتاب كشف الظنون ما فيه مقنع لمن أراد معرفة أسماء كتب لا يمكن الحصول إلا على أقل القليل منها والله الهادي والموفق وهنا ألقى عصاه واستقر به النوى فما أجاد به فمن فضل الله مفيض الجود والإحسان والكرم وما عساه أن يكون زل به التمس عنه عذرا فإن الإنسان محل الخطأ والنسيان. فنسأله تعالى أن ينفع بما حررناه وأن يقبل ما رقمناه وأن يجعله مقبولا منتفعا به فإنما الأعمال بالنيات وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وكان الفراغ من كتابة هذه المسودة في جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة وألف في دمشق الزاهرة في مدرسة المرحوم عبد الله باشا العظم على يدي وأنا مؤلفه الفقير عبد القادر ابن أحمد ابن مصطفى بن عبد الرحيم ابن محمد المعروف بابن بدران.
اللهم اغفر لي ولوالدي ولمشايخي ولجميع المسلمين أجمعين آمين.(1/275)