الكوكب الساطع
في
قاعدة سَدّ الذّرائع
الدكتور
إسماعيل محمد علي عبد الرحمن
أستاذ أصول الفقه المساعد بجامعة الأزهر
والأستاذ المشارك بجامعة الملك سعود بالرياض
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي حَبَّب إلينا الإيمان وزَيَّنه في قلوبنا ، وكَرَّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، فنسأله تعالى أنْ يَجعلنا مِن الراشدين ، وأَشْهَد أنْ لا إله إلا الله وحْده لا شريك له ، يؤتي الحكمةَ مَن يشاء ومَن يؤتَ الحكمة فقَدْ أُوتِيَ خيراً كثيراً ، وما يَذَّكَّر إلا أولو الألباب وأَشْهَد أنّ سيدنا محمَّداً عَبْد الله ورسوله ، إمام الفقهاء ، وقدوة العلماء العاملين الذين يردِّدون دائماً قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّين } (1) ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آلِه وصَحْبه ومَن تَبِع هُدَاهم إلى يوْم الدِّين ..
وبَعْد ..
لَمّا كان موضوع أصول الفقه هو الأدلّة التي نَستخرج الأحكام على ضوْئها ؛ فإنّ الأصوليّين أَوْلَوْا هذه الأدلّة عنايةً ورعايةً تَلِيق بمنزلتها وأهمّيتها ، وبدأوا في ذلك بأشرفها وأَفْضلها ( الكتاب
(1) أَخْرَجه البخاري في كتاب العِلْم : باب مَن يُرِد الله به خيراً يُفَقِّهْه في الدِّين برقم ( 69 ) ومُسْلِم في كتاب الزكاة : باب النهي عن المسألة برقم ( 1719 ) وابن ماجة في المقدمة : باب فَضْل العلماء والحثّ على طلب العِلْم برقم ( 217 ) ، كُلّهم عن معاوية - رضي الله عنه - .
والسُّنَّة ) ثُمّ الإجماع والقياس ، وهي الأدلّة المُتَّفَق عليها ، ثُمّ تَدَرَّجوا إلى الأدلّة المختلَف فيها ، فدَرَسوا وبحَثوا في كُلّ واحد منها لِلوقوف على مدى حُجِّيَّته واعتباره دليلاً ..(1/1)
ومِن هذه الأدلّة : ( سَدّ الذّرائع ) الذي أشار عَلَيّ بالبحث فيه ودراسته أحد شيوخي الكرام وأساتذتي الأفاضل ، أطال الله تعالى عُمُره وجَزَاه عني خيْر الجزاء ، فشَرَح الله تَبَارَك وتعالى صَدْري لِهذا الموضوع الذي عَنْوَنْتُه بـ( الكوكب الساطع في قاعدة سَدّ الذّرائع ) ..
وقَدْ رأيتُ تقسيمه إلى هذه المقدمة وثلاثة مباحث مُفَصّلة على النحو التالي :
المبحث الأول : تعريف سدّ الذّرائع وأقسامها .
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : تعريف سَدّ الذّرائع لغةً .
المطلب الثاني : تعريف سَدّ الذّرائع اصطلاحاً .
المطلب الثالث : الأصل الذي بُنِي عليه سدّ الذّرائع .
المطلب الرابع : سَدّ الذّرائع عند الأصوليّين .
المطلب الخامس : أقسام سَدّ الذّرائع .
المبحث الثاني : حُجِّيَّة سَدّ الذّرائع ، والفَرْق بَيْنها وبَيْن الحِيَل .
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : مذاهب الأصوليّين في حُجِّيَّة سَدّ الذّرائع .
المطلب الثاني : مذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - في سَدّ الذّرائع .
المطلب الثالث : أدلّة المذاهب مع الترجيح .
المطلب الرابع : فَتْح الذّرائع .
المطلب الخامس : الفَرْق بَيْن الذّرائع والحِيَل .
المبحث الثالث : أَثَر سَدّ الذّرائع في الأحكام .
وفيه تمهيد وثلاثة مطالب :
التمهيد في : أثر القواعد الأصوليّة في الأحكام الشَّرْعيَّة .
المطلب الأول : أَثَر سَدّ الذّرائع في القواعد الفقهيّة .
ونَذْكُر منها ثلاث قواعد :
القاعدة الأولى : ( مَن اسْتَعْجَل شيئاً قَبْل أوانه عُوقِب بحرمانه ) .
القاعدة الثانية : ( ما حَرُم استعماله حَرُم اتخاذه ) .
القاعدة الثالثة : ( إذا اجْتَمَع الحلال والحرام غلب الحرام ) .
المطلب الثاني : بَيْع العِينة .
المطلب الثالث : بعض الفروع الفقهيّة المبنيّة على سَدّ الذّرائع .
وفيه عشرة فروع :
الفرع الأول : الفرار مِن المجذوم .
الفرع الثاني : الحِدَاد على الزوج .(1/2)
الفرع الثالث : الاستمناء .
الفرع الرابع : شَدّ إزار الحائض عند المباشَرة .
الفرع الخامس : الوصيّة لِلمخالعة في مرض الموت .
الفرع السادس : الخلوة بالأجنبيّة .
الفرع السابع : نكاح العاجز عن الوطء .
الفرع الثامن : قَتْل المتَتَرَّس بهم مِن المُسْلِمين .
الفرع التاسع : البول في الجُحْر .
الفرع العاشر : التفريق بَيْن الأولاد في المَضاجع .
ثُمّ الخاتمة ، واللهَ تعالى أسأل حُسْنَها ، كما أسأله التوفيق والسداد إنَّه وَلِيّ ذلك والقادر عليه ..
وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آلِه وصَحْبه وسَلَّم .
المبحث الأول
تعريف سَدّ الذّرائع وأقسامها
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : تعريف سَدّ الذّرائع لغةً .
المطلب الثاني : تعريف سَدّ الذّرائع اصطلاحاً .
المطلب الثالث : الأصل الذي بُنِي عليه سَدّ الذّرائع .
المطلب الرابع : سَدّ الذّرائع عند الأصوليّين .
المطلب الخامس : أقسام سَدّ الذّرائع .
المطلب الأول
تعريف سدّ الذّرائع لغةً
لَمّا كان " سَدّ الذّرائع " مُرَكَّباً مِن كلمتيْن : " سدّ " و" الذّرائع " فإنّ تعريفه يَتوقف على تعريف ما رُكِّب منه أو جُزْئيْه ..
ونَستعرض فيما يلي تعريف أهْل اللغة لِكُلّ واحد منهما ..
أوّلاً - تعريف " سدّ " :
والسَّدّ لغةً : مَصْدَر " سَدّ يَسُدّ سدّاً فانسدّ " ، وهو إغلاق الخَلَل ورَدْم الثَّلم (1) .
والسَّدّ والسُّدّ : الجبل والحاجز .
وقيل : السَّدّ : ما كان مِن عمل الناس ، والسُّدّ : ما ليس مِن عملِهم (2) .
ثانياً - تعريف " الذّرائع " :
والذّرائع : جَمْع " ذريعة " ..
والذريعة لغةً : السبب إلى الشيء ، وأصْله مِن ذلك الجَمَل ،
(1) أي الشَّقّ ، ومنه :" ثَلم الجدار وغَيْره ثلماً " أَحْدَث فيه شَقّاً ..
يُرَاجَع المعجم الوسيط 1/99
(2) يُرَاجَع : لسان العرب : مادة ( سود ) 3/207 وتهذيب الصحاح 1/223
وهي الناقة التي يَسْتَتِر بها الرامي لِلصيد (1) .(1/3)
و" تَذَرَّع فلان بذريعة " أيْ تَوَسَّل بوسيلة ، وكذلك " تَذَرَّع إليه " إذا تَوَسَّل .
و" تَذَرَّعَت الإبلُ الكرعَ " أي الماء القليل فخاضَتْه بأَذْرُعها (2) .
ومِمَّا تَقَدَّم يَكون مَعْنَى " سَدّ الذّرائع " لغةً هو : إغلاق الوسائل والأسباب الموصِّلة إلى الشيء .
(1) يُرَاجَع : لسان العرب : مادة ( ذرع ) 8/96 والصحاح : مادة ( ذرع ) 3/1211
(2) يُرَاجَع : تاج العروس : فَصْل الذال ( باب العين ) 5/336 والقاموس المحيط : فَصْل الذال ( باب العين ) 3/24
المطلب الثاني
تعريف سَدّ الذّرائع اصطلاحاً
اخْتَلَف الأصوليّون في تعريف سَدّ الذّرائع اصطلاحاً : فمنهم مَن اكْتَفَى بتعريف الذريعة ، وهُمُ الكثرة ، ومنهم مَن عَرَّف سَدّ الذّرائع ، وهُمْ قلّة ..
وفيما يلي أَستعرِض بعض هذه التعريفات ..
أوّلاً - تعريف الذريعة :
التعريف الأول : ( المسألة التي ظاهِرها الإباحة ويُتَوَصَّل بها إلى فِعْل محظور ) (1) .
وهو تعريف الباجي (2) ، واختاره الشوكاني (3) رحمهما الله
(1) إحكام الفصول /689 ، 690
(2) الباجي : هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي الأندلسي المالكي الباجي رحمه الله ، وُلِد سَنَة 403 هـ ، فقيه أصوليّ ، أحد أعلام المالكية ، تَوَلَّى القضاء بالأندلس ..
مِن مصنَّفاته : إحكام الفصول في أحكام الأصول ، الحدود ، تبيين المنهاج ، الإشارة المنتقى .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 474 هـ .
النجوم الزاهرة 5/144 والدِّيباج المذهب 1/297 وشجرة النور الزكية /120
(3) الشوكاني : هو محمد بن عَلِيّ بن محمد بن عبد الله الشوكاني الصنعاني اليماني =
وتعالى (1) .
التعريف الثاني : ( أمْر غَيْر ممنوع لِنَفْسه يُخاف مِن ارتكابه الوقوع في الممنوع ) (2) .
وهو تعريف القرطبي (3) رحمه الله تعالى .
التعريف الثالث : ( عبارة عَمَّا أَفْضَتْ إلى فِعْل مُحَرَّم ) (4) .(1/4)
ونَسَبه ابن تيمية (5) ـ رحمه الله تعالى ـ لِلفقهاء .
= رحمه الله ، مجتهِد فقيه مُحَدِّث أصوليّ قارئ مقرئ ، وُلِد بصنعاء سَنَة 1172 هـ ، تَفَقَّه على مذهب الإمام زيْد - رضي الله عنه - ثُمّ اسْتَقَلّ ولم يُقَلِّدْ وحارَب التقليد ..
مِن مصنَّفاته : إرشاد الفحول ، نَيْل الأوطار ، تحفة الذاكرين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بصنعاء سَنَة 1250 هـ .
الأعلام 3/953 والفتح المبين 3/144 ، 145
(1) إرشاد الفحول /246
(2) تفسير القرطبي 2/58
(3) القرطبي : هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بَكْر القرطبي المالكي رحمه الله تعالى ، فقيه مُفَسِّر ..
مِن مصنَّفاته : الجامع لأحكام القرآن ، التذكرة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 671 هـ .
شذرات الذهب 5/335 ومعجم المؤلِّفين 8/239
(4) الفتاوى 6/172
(5) ابن تيمية : هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 661 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الصارم المسلول ، فَصْل المقال ، الجواب الصحيح .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 728 هـ .
شذرات الذهب 2/257 والفتح المبين 2/134
التعريف الرابع : ( ما ظاهِره مباح ويُتَوَصَّل به إلى مُحَرَّم ) (1) .
وهو تعريف الفتوحي (2) ، واختاره ابن بدران (3) رحمهما الله تعالى (4) .
التعريف الخامس : ( الوسيلة لِلشيء ) (5) .
وهو تعريف القرافي (6) رحمه الله تعالى .
(1) شَرْح الكوكب المنير 4/434
(2) الفتوحي : هو تقيّ الدين أبو البقاء محمد بن شهاب الدين بن أحمد الفتوحي المصري الحنبلي ، الشهير بـ" ابن النجار " رحمه الله تعالى ، وُلِد بمصر سَنَة 898 هـ ..
مِن مصنَّفاته : منتهى الإرادات ، الكوكب المنير المسمَّى بـ" مختصر التحرير " .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 979 هـ .
شذرات الذهب 8/39 والأعلام 6/233 ومقدمة شرْح الكوكب المنير 1/5 ، 6(1/5)
(3) ابن بدران : هو عبد القادر بن أحمد بن مصطفى بن بدران الدمشقي الحنبلي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ أديب مؤرِّخ ..
مِن مصنَّفاته : نزهة الخاطر ، المدخل في الأصول .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 1346 هـ .
الأعلام 4/37 ومعجم المؤلفين 5283
(4) المدخل 1/296
(5) الفروق 2/366
(6) القرافي : هو أبو العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله بن يَلِّين الصنهاجي البهنسي المصري المالكي رحمه الله تعالى ، وُلِد بالبهنسا ..
مِن مؤلَّفاته : التنقيح في أصول الفقه ، شرْح التهذيب .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدير الطين سَنَة 684 هـ .
الفتح المبين 2/90
ونَحْوه تعريف ابن تيمية رحمه الله تعالى ، وهو : ( ما كان وسيلةً وطريقاً إلى الشيء ) (1) ، واختاره ابن القيم (2) رحمه الله (3) .
التعريف السادس : ( التوسل إلى ما هو مصلحة ) .
وهو تعريف الشاطبي (4) ـ رحمه الله تَبارَك وتعالى ـ في " الموافَقات " (5) .
ثانياً - تعريف " سَدّ الذّرائع " :
التعريف الأول : ( حَسْم مادّة وسائل الفساد وفعاله ) .
وهو تعريف القرافي رحمه الله تعالى (6) ، ونَحْوه تعريف
(1) الفتاوى 6/172
(2) ابن القيم : هو شَمْس الدِّين أبو عبد الله مُحَمَّد بن أبي بَكْر بن أيّوب بن سَعْد الزّرعيّ الدّمشقيّ الحنبليّ رحمه الله تعالى ، سُمِّي بـ" ابن قَيِّم الجوزيّة " لأنّ والده كان قيِّماً على المَدْرَسَة الجوزيّة بدمشق ، وُلِد في دمشق سَنَة 691 هـ ..
مِن مصنَّفاته : أعلام الموقِّعين ، الرُّوح ، مَدارج السّالكين ، هداية الحيارى .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 751 هـ .
الدُّرَر الكامنة 5/137 - 140
(3) أعلام الموقِّعين 3/135
(4) الشاطبي : هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطي المالكي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ مُفَسِّر مُحَدِّث ..
مِن مصنَّفاته : الموافقات ، الاعتصام ، أصول النحو .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 790 هـ .(1/6)
الفتح المبين 2/212 ، 213
(5) الموافقات 4/130
(6) شَرْح تنقيح الفصول /448
الدكتور عبد الكريم زيدان ، وهو : ( مَنْع الوسائل المؤدِّية إلى المفاسد ) (1) .
التعريف الثاني : ( مَنْع الجائز لأنّه يَجُرّ إلى غَيْر الجائز ) .
وهو تعريف الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ في " الاعتصام " (2) .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على بعض تعريفات الأصوليّين لِلذريعة وسَدّ الذّرائع يُمْكِن التوصل إلى ما يلي :
1- أنّ التعريفات الأربعة الأُوَل ـ والتي تُعَدّ نموذجاً لِتعريفات الذريعة عند الأصوليّين ـ مُتَّفِقة في حَصْر مآل الذريعة في الوقوع في المحظور أو الحرام .
2- أنّ هذه التعريفات الأربعة اكتفت بتعريف الذريعة التي تُوصل إلى الحرام ، ولِذا كان سَدّها ومَنْعها مفهوماً مِن مَعْنَاها إنْ لم يَكُنْ لازماً له ، فمَن عَرَّف الذريعة بهذا المَعْنَى وَجَب عليه سَدّها وحرم عليه إتيانها .
3- أنّ هذه التعريفات الأربعة أكَّدَتْ أنّ الذريعة عندهم مُقَيَّدة بكَوْنها وسيلةً إلى الحرام ، وليست مُطْلَق وسيلة ؛ لأنّ الذريعة
(1) الوجيز /245
(2) الاعتصام 1/104
كما تَكون وسيلةً لِلحرام تَكون وسيلةً لِلواجب أو المندوب أو المباح أو المكروه .
وفي ذلك يقول القرافي رحمه الله تعالى :" واعلم أنّ الذريعة كما يجب سَدّها يجب فَتْحها ويُكْرَه ويُنْدَب ويُبَاح ؛ فإنّ الذريعة هي الوسيلة ، فكما أنّ وسيلة المُحَرَّم مُحَرَّمة فوسيلة الواجب واجبة : كالسعي لِلجمعة والحجّ " (1) ا.هـ .
4- أنّ التعريف الخامس أَقْرَب إلى التعريف اللغوي منه إلى التعريف الاصطلاحي ، فيَعُمّ كُلّ ذريعة ، وهو مَنْحَىً قريب مِمَّا ذَكَره القرافي رحمه الله تعالى ..
لكنْ في اعتباره تعريفاً اصطلاحيّاً فيه نظرٌ ؛ لأنَّه جَعَل مآل الذريعة " الشيء " ، والحُكْم الشرعي وإنْ كان شيئاً لكنّ التعبير عنه بذلك فيه غرابة واستهجان .(1/7)
5- أنّ التعريف السادس ـ أيضاً ـ قريب مِن التعريف اللغوي ؛ لاشتماله على الوسيلة ، لكنّه أَخَصّ مِن التعريف الخامس حينما حَصَر مآلَ الذريعة في المصلحة ..
ولِذا كان هذا التعريف مُقَيِّداً لِلتعريف اللغوي ومُعارِضاً لِلتعريف الاصطلاحي الذي جَعَل مآلَ الذريعةِ الحرامَ والمحظورَ ،
(1) شَرْح تنقيح الفصول /449
ولا أَعتقد أنّ المصلحة ممنوعة حتى يسدّ طريقها .
6- أنّ تعريف القرافي ـ رحمه الله تعالى ـ لِسَدّ الذّرائع فيه نظرٌ مِن وجوه :
الوجه الأول : أنَّه يَصْلُح تعريفاً لِسَدّ الذّرائع مُطْلَقاً ( الشَّرْعيَّة وغَيْر الشَّرْعيَّة ) ، وقَدْ فَهِمْتُ هذا العموم مِن قوْله ( حَسْم مادة وسائل الفساد ) فإنّها تَعُمّ الفساد الشرعي وغَيْر الشرعي ..
وقَدْ تَحَقَّقْتُ مِن فَهْمي هذا بَعْد الوقوف على قوْل ابن القيم رحمه الله تعالى :" وكذلك الأطباء إذا أرادوا حَسْم الداء مَنَعوا صاحِبه مِن الطُّرُق والذّرائع الموصِلة إليه ، وإلا فَسَد عليهم ما يَرُومون إصلاحه " (1) ا.هـ .
الوجه الثاني : أنَّه قَدْ خالَف الكثرة مِن الأصوليّين الذين جَعَلوا عِلّة سَدّ الذّرائع التوصلَ إلى المحظور أو الحرام أو غَيْر الجائز لا إلى الفساد .
الوجه الثالث : أنّ القرافي نَفْسه جَعَل مآلَ الذريعةِ الواجبَ أو المندوبَ أو الحرامَ أو المكروهَ أو المباحَ ، وكُلّها أحكام تكليفيّة ، وليس الفساد منها ؛ لأنَّه حُكْم وضْعيّ ، إلا إنْ قَصَدْنَا بالفساد ما حَرَّمه الله تعالى ، وحينئذٍ يَكون تعبير " الفساد " مقبولاً ولا غبار
(1) أعلام الموقِّعين 3/135
عليه ، وهذا المَعْنَى هو ما قَصَده العِزّ بن عبد السلام (1) رحمه الله تعالى ، وقَدْ وَرَد ذلك صريحاً في قوْله : " فَصْل : في بيان المَفاسد ، وهي ضربان : ضَرْب حَرَّم الله قربانه ، وضَرْب كَرِه الله إتيانه ، والمَفاسد ما حَرَّم الله قربانه رتبتان " (2) ا.هـ .(1/8)
وظنّي أنّ القرافي نَحَا نَحْو العِزّ ـ رحمهما الله تعالى ـ وسَلَك دَرْبه في هذا المقام ، لكنْ لو اسْتَعْمَل مادّة أو كلمة ( المَفاسد ) لَكان أَوْجَه مِن كلمة ( الفساد ) .
7- أنّ تعريف الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ لِسَدّ الذّرائع جَعَل مآل الذريعةِ الجَرَّ إلى غَيْر جائز لِيَعُمّ الحرام والمكروه والفساد ، إلا أنَّه تعريف مانِع مِن دخول الذريعة غَيْر الجائزة مِن الدخول في التعريف فهو يَعتبرها مُحَرَّمةً فهي ممنوعة ، لكنْ ثَبَت ورود ذريعة غَيْر جائزة تُوصل إلى غَيْر الجائز ، ومع ذلك أكَّد الشَّرْع على مَنْعها ؛ لأنّها تُوصل إلى جُرْم أَكْبَر أو مَفْسَدة أَعْظَم .
(1) العزّ بن عبد السلام : هو سلطان العلماء عزّ الدِّين أبو مُحَمَّد عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم السُّلَّميّ الدّمشقيّ الشّافعيّ رحمه الله تعالى ، وُلِد في دمشق سَنَة 577 هـ ونشأ بها ، وأقام بمِصْر أكْثر مِن عشرين سَنَةً ..
مِن مُصَنَّفاته : شجرة المعارف ، حَلّ الرموز ومفاتيح الكنوز ، مسائل الطريقة ، الفَرْق بيْن الإيمان والإسلام .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمِصْر سَنَة 660 هـ ودُفِن بالقرافة .
طبقات الشافعية الكبرى 8/210 - 217
(2) قواعد الأحكام 1/48
ومثالها : نَهْي النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عن سَبّ والدَي الغَيْر سدّاً لِذريعة سبّ الوالديْن ، فسَبّ الغَيْر أو والده مَنْهِيّ عنه ، وسَبّ الوالديْن مِن أَكْبَر الكبائر ، فحرّم الأول وهو مَنْهِيّ عنه خشيةَ الوقوع في الثاني .
8- ومِمَّا تَقَدَّم يُمْكِن لي أنْ أُعَرِّف سَدّ الذّرائع بأنّها ( مَنْع كُلّ فِعْل يُفْضِي إلى الحرام ) .
شَرْح التعريف المختار :
( مَنْع ) : كالجنس في التعريف ، يَشْمَل كُلّ مَنْع ومَنْع الكُلّ ومَنْع البعض .(1/9)
( كُلّ فِعْل ) : قَيْد أوَّل ، قُصِد به إدخال جميع الأفعال ، ومنها القول الذي قَدْ يَتَوَهَّم البعض خروجه مِن مقابِل الفعل ، كما يَعُمّ التَّرْك أيضاً ؛ لأنَّه فِعْل ، وكما يَعُمّ الفعل المباح وغَيْر المباح .
( يُفْضِي إلى الحرام ) : قَيْد ثانٍ ، خَرَج به ما أَفْضَى إلى غَيْر الحرام فلا يُسَدّ ولا يُمْنَع ، وإنَّما يُفْتَح ؛ فقَدْ يَكون واجباً أو مندوباً أو مباحاً .
وقَدْ عَبَّرْتُ أو قَصَرْتُ إفضاء الذريعة على الحرام ؛ لِسببيْن :
الأول : أنّ التعبير بـ( غَيْر الجائز ) يَعُمّ الحرام والمكروه ، والخلاف في سَدّ الذّرائع ـ كما سيأتي بإذن الله تعالى ـ محلّه الذريعة التي تُفْضِي إلى الحرام قَطْعاً أو غالباً عند البعض ،
ولم يَتَطَرَّقْ أحد إلى ذريعة المكروه .
الثاني : أنّ التعبير بـ( الفساد ) تعبير فيه لَبْس بَيْن الحُكْم التكليفي والحُكْم الوضعي ، ولِذا لم أُعَبِّرْ به خشيةَ ذلك .
المطلب الثالث
الأصل الذي بُنِي عليه سَدّ الذّرائع
لقدْ بَنَى بعض الأصوليّين سَدّ الذّرائع على اعتبار المَقاصد ، ومنهم مَن بَنَاهَا على اعتبار مآلات الأفعال ، ومنهم مَن بَنَاهَا على سبْق القصد إلى الممنوع ..
ونَسْتَعْرِض فيما يلي أقوال كُلّ فريق ، ثُمّ نُعَقِّب بما نَرَاه راجحاً ..
أوّلاً : البانون سَدّ الذّرائع على اعتبار المَقاصد :
وهؤلاء قَدْ وَقَفْتُ على بعضهم ، أَذْكُر منهم ما يلي :
العِزّ بن عبد السلام رحمه الله تعالى :
لقَدْ قَسَّم العِزّ ـ رحمه الله ـ الأحكامَ إلى مَقاصد ووسائل ، وجَعَل الوسائل آخذةً حُكْم المَقاصد في قوْله :" الواجبات والمندوبات ضربان : أحدهما مَقاصد ، والثاني وسائل ، وكذلك المكروهات والمُحَرَّمات ضربان : أحدهما مَقاصد ، والثاني وسائل ، ولِلوسائل أحكام المَقاصد ، فالوسيلة إلى أَفْضَل المَقاصد هي أَفْضَل الوسائل ، والوسيلة إلى أَرْذَل المَقاصد هي أَرْذَل الوسائل " (1) ا.هـ .(1/10)
(1) قواعد الأحكام 1/46
القرافي رحمه الله تعالى :
في قوْله :" فإنّ الذريعة هي الوسيلة ، فكَمَا أنّ وسيلة المُحَرَّم مُحَرَّمة فوسيلة الواجب واجبة : كالسعي لِلجمعة والحجّ ، ومَوارد الأحكام على قِسْميْن : مَقاصد ، وهي الطُّرُق المُفْضِية لِلمَصالح والمَفاسد في أنْفُسها ، ووسائل ، وهي الطُّرُق المُفْضِية إليه وحُكْمها كحُكْم ما أَفْضَتْ إليه مِن تحريم أو تحليل ، غَيْرَ أنَّها أَخْفَض رتبةً مِن المَقاصد في حُكْمها ، فالوسيلة إلى أَفْضَل المَقاصد أَفْضَل الوسائل ، وإلى أَقْبَح المَقاصد أَقْبَح الوسائل ، وإلى ما هو متوسِّط متوسِّطة " (1) ا.هـ .
ابن القيّم رحمه الله تعالى :
في قوْله :" فمَن سَدّ الذّرائع اعْتَبَر المَقاصد ، ومَن لم يَسُدّ الذّرائع لم يَعتبر المَقاصد " ..
ويقول ـ رحمه الله تعالى ـ أيضاً :" ولَمّا كانت المَقاصد لا يُتَوَصَّل إليها إلا بأسباب وطُرُق تُفْضِي إليها كانت طُرُقها وأسبابها تابعةً لها مُعْتَبَرَةً بها ، فوسائل المُحَرَّمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها " (2) ا.هـ .
(1) شَرْح تنقيح الفصول /449
(2) أعلام الموقِّعين 3/134 ، 135 بتصرف .
ثانياً : البانون سَدّ الذّرائع على مآلات الأفعال :(1/11)
والشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ بَنَى سَدّ الذّرائع على مآلات الأفعال في قوْله :" النظر في مآلات الأفعال مُعْتَبَر مقصود شرعاً ، كانت الأفعال موافِقةً أو مخالِفةً ؛ وذلك أنّ المُجْتَهِد لا يَحْكُم على فِعْل مِن الأفعال الصادرة عن المُكَلَّفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بَعْد نظرِه إلى ما يَؤُول إليه ذلك الفعل مشروعاً لِمصلحة فيه تُسْتَجْلَب أو لِمَفْسَدة تُدْرَأ ولكنْ له مآل على خلاف ما قُصِد فيه ، وقَدْ يَكون غَيْر مشروع لِمَفْسَدة تَنشأ عنه أو لِمَصْلَحة تَندفع به ولكنْ له مآل خلاف ذلك ، وهذا الأصل يُبْنَى عليه قواعد ، منها : قاعدة سَدّ الذّرائع " (1) ا.هـ .
ثالثاً : البانون الذّرائع على سَبْق قَصْد الممنوع :
بَنَى الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ سَدّ الذّرائع على سَبْق قَصْد الممنوع في قوله :" وقاعدة الذّرائع ـ أيضاً ـ مَبْنِيّة على سَبْق القصد إلى الممنوع " (2) ا.هـ .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مَناحي الأصوليّين في الأصل الذي بُنِي عليه
(1) الموافَقات 4/127 ، 128 ، 130
(2) الموافَقات 3/189
سَدّ الذّرائع يَتَّضِح لنا ما يلي :
1- أنّ العِزّ بن عبد السلام ـ رحمه الله تعالى ـ حينما رَبَط بَيْن المَقاصد والوسائل إنَّما كان ربطاً عامّاً لِكُلّ الذّرائع ، فيَعُمّ ما كان وسيلةً لِلحلال أو المباح وما كان وسيلةً لِلحرام أو الممنوع ، وهو المعنى بسَدّ الذّرائع .
2- أنّ القرافي وابن القيم ـ رحمهما الله تعالى ـ نَصَّا صراحةً على بِنَاء سَدّ الذّرائع وعلى اعتبار المَقاصد ؛ لأنّ الوسيلة تابعة لِلأصل وهو المَقاصد ، ولِذا كان حُكْمها متوقِّفاً على حُكْم الأصل ، فوسيلة الحرام مُحَرَّمة ووَجَب سَدّها .(1/12)
3- أنّ الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ في بنائه سَدّ الذّرائع على مآلات الأفعال يَلْتَقِي مع البانين سَدّ الذّرائع على المقاصد ؛ لأنّ حُكْم الذريعة عنده يَتَوَقَّف على ما تَؤُول إليه ، وهذا المآل لن يخرج عن كَوْنه مَصْلَحَةً أو مَفْسَدةً ، وهذه هي مَقاصد الشَّرْع مِن تشريع الأحكام : إمَّا جَلْب مصلحة أو دَفْع مَفْسَدة .
4- أنّ بناء الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ سَدّ الذّرائع على سَبْق القصد إلى الممنوع يَجْعَل العِبرة بالنِّيّات لا بالألفاظ ، وأنّ نِيَّته مُعْتَبَرة دُون اعتبار لِلمآل أو المَقاصد ..
وفيه نَظَرٌ ؛ لأنّه يُخْرِج مَن أَتَى وسيلةً لِلحرام ولم يَقْصدْه بإتيانه
هذه الوسيلة ، فلا تَكون مُحَرَّمةً ولا يجب سَدّها ، وليس كذلك .
5- أنّ بناء سَدّ الذّرائع على المَقاصد الشَّرْعيَّة أو مآلات الأفعال يَجعل حُكْم الذريعة متوقِّفاً على ما تُفْضِي إليه ، ولا عِبرة بنيّة الفاعل ولا بقصده عند إتيان الذريعة أو الوسيلة ؛ فقَدْ يَكون الفعل حلالاً لكنّه يُفْضِي إلى الحرام ، فيُحَرَّم حينئذٍ .
6- أنّي أُرَجِّح بناء سَدّ الذّرائع على مقدمة الحرام ؛ فكُلّ ما كان سبباً لِلحرام كان حراماً ، تماماً كما هو الحال في الواجب وقياساً عليه فـ( ما لا يَتِمّ الواجب إلا به فهو واجب ) ، أو كما أسماه بعض الأصوليّين بـ" مقدمة الواجب " (1) .
(1) يُرَاجَع : حقائق الأصول 1/233 ، 234 والإبهاج 1/112 ، 113 ونهاية السول 1/135 ، 136 ومعراج المنهاج 1/93 ، 94 والعدّة 1/159 والتمهيد لِلكلوذاني 1/64 والبحر المحيط لِلزركشي 1/176 وشَرْح الكوكب المنير 1/340
المطلب الرابع
سَدّ الذّرائع عند الأصوليّين
والمراد بهذا المطلب : تحديد مكانة سَدّ الذّرائع ومَوْقِعها عند الأصوليّين ، الذين يُمْكِن تقسيمهم في هذا المقام إلى أربعة مذاهب :
المذهب الأول : أنّها ليست دليلاً مِن الأدلّة ولا أصلاً مِن أصول الشريعة ..(1/13)
وهؤلاء انْقَسَموا إلى قِسْمَيْن :
قِسْم يأخذ بسَدّ الذّرائع في فروعه الفقهيّة ويُسَلِّم بها ، وهُم الحنفيّة والشّافعيّة ، ولِذا لم تَنُصّ مَراجعهم على ذِكْرها إلا ما نَدُر (1) .
وقِسْم لا يأخذ بها كدليل ولا يُفَرِّع عليها فروعاً فقهيّةً (2) ، وهو ابن حَزْم الظاهري (3) رحمه الله تعالى .
(1) البحر المحيط 6/82
(2) الإحكام لابن حَزْم 6/180
(3) ابن حَزْم الظاهري : هو أبو محمد عَلِيّ بن أحمد بن سعيد بن حَزْم الفارسي الأصل ثُمّ الأندلسي القرطبي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 384 هـ ، فقيه حافِظ مُتَكَلِّم أديب ، أستاذ الفقه الظاهري .. =
المذهب الثاني : أنّها دليل مِن الأدلّة وأصْل مِن أصول الشَّرْع .
وهو ما عليه المالكيّة والحنابلة ومَن تَبِعهم .
وهؤلاء منهم مَن عَبَّر عنها بـ( قاعدة سَدّ الذّرائع ) : كالقرافي وابن القيّم والشاطبي رحمهم الله تعالى .
وفي ذلك يقول ابن القيّم رحمه الله تعالى :" ونَحْن نَذْكُر قاعدة سَدّ الذّرائع ودلالة الكتاب والسُّنَّة وأقوال الصحابة والميزان الصحيح عليها " (1) ا.هـ .
ويقول الشاطبي رحمه الله تعالى :" إنّ قاعدة سَدّ الذّرائع إنَّما عَمِل السلف بها بناءً على هذا المَعْنَى : كعملهم في تَرْك الأضحية مع القدرة عليها " (2) ا.هـ .
ومِن ذلك قوْل القرافي ـ رحمه الله تعالى ـ في " الفروق " :" الفَرْق الرابع والتسعون والمائة بَيْن قاعدة ما يُسَدّ مِن الذّرائع وقاعدة ما لا يُسَدّ منها " (3) ا.هـ .
ومنهم مَن لم يُعَبِّرْ بـ( قاعدة سَدّ الذّرائع ) ، وإنَّما عَدّوها كدليل
= مِن مصنَّفاته : المُحَلَّى ، الإحكام في أصول الأحكام ، الإملاء في شَرْح الموطأ .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 456 هـ .
وفيات الأعيان 3/325 - 330 وطبقات الحُفّاظ /436 ، 437 والعِبَر 2/306
(1) الفروق 3/266
(2) أعلام الموقِّعين 3/134
(3) الموافَقات 3/189(1/14)
مِن الأدلّة : كالباجي (1) والقرافي (2) والطوفي (3) رحمهم الله تَبارَك وتعالى (4) ، وغَيْرهم كثير (5) .
المذهب الثالث : أنّها أحد أنواع القياس .
وهو ما ذَهَب إليه ابن عقيل الحنبلي (6) ـ رحمه الله تعالى ـ في قوْله : " فصول تَجْمَع أنواعاً مِن الأقيسة وبيان الأحسَن والأقوَى منها والأَرَكّ وتحقِّق ما أَهْمَله كثير مِن الفقهاء ، ( فصْل ) ومِن ذلك ما يسمِّيه الفقهاء " الذّرائع " ، ويُسَمِّيه أهْل الجدل : أنَّه المؤدِّي إلى
(1) يُرَاجَع أحكام الفصول /689
(2) يُرَاجَع شَرْح تنقيح الفصول /448
(3) الطوفي : هو نَجْم الدين أبو الربيع سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد الطوفي الصرصري البغدادي الحنبلي الأصولي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 673 هـ ..
مِن مصنَّفاته : مختصر روضة الموفّق ، بغية السائل في أمّهات المسائل .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببلدة الخليل سَنَة 716 هـ .
الدرر الكامنة 2/154 والفتح المبين 2/124
(4) يُرَاجَع شَرْح مختصر الروضة 3/214
(5) يُرَاجَع : البحر المحيط 6/82 وشَرْح الكوكب المنير 4/344 وإرشاد الفحول للشوكاني /246 وأصول الفقه لأبي زهرة /268 والوجيز /245
(6) ابن عقيل : هو أبو الوفا عَلِيّ بن عقيل بن محمد بن عقيل بن أحمد البغدادي الظفري الحنبلي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 430 هـ ، فقيه أصوليّ ، شَيْخ الحنابلة ، كان إماماً خارِق الذَّكَاء ..
مِن مصنَّفاته : الفنون ، كفاية المفتي ، الواضح في أصول الفقه ، عمدة الأدلّة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 513 هـ .
الفتح المبين 2/12 والبداية والنهاية 12/184 والعِبَر 2/400
المستحيل في العقل أو الشَّرْع " (1) ا.هـ .
المذهب الرابع : أنّها قاعدة فقهيّة .(1/15)
وهو ما وَرَد في موسوعة جمال عبد الناصر حين نَصَّتْ على أنّ : الاستصحاب والبراءة الأصليّة وسَدّ الذّرائع والعادة والعرف كُلّها قواعد فقهيّة وليست دليلاً يُسْتَنَد إليه في استنباط حُكْم شَرْعيّ (2) ا.هـ .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مكانة سَدّ الذّرائع عند الأصوليّين أَرَى أنَّه يُمْكِن التوصل إلى ما يلي :
1- أنّ الأصوليّين لم يَتَّفِقوا على اعتبارها دليلاً مِن الأدلّة ، وإنّما اخْتَلَفوا في ذلك .
2- أنّي أَتَّفِق مع القائلين بأنّها أصْل مِن أصول الشَّرْع القَطْعيّة ؛ لأنّ الذريعة تُوصل إلى الحرام قَطْعاً ، وحينئذٍ لا تَصْلُح دليلاً مستقِلاًّ تُبْنَى عليه الأحكام ، وإنّما تَستمدّ أصْلها مِن حرمة الحرام ، ولِذا يجب أنْ يَكون مَوْقِعها الأصوليّ عَقِب مَباحث الحرام في الحُكْم التكليفي ..
(1) الواضح 2/69 ، 75 بتصرف .
(2) موسوعة جمال عبد الناصر ( الجزء النموذجي ) /16
ويعجبني في هذا المقام قوْل ابن القيّم رحمه الله تعالى :" وباب سَدّ الذّرائع أحد أرباع التكليف ؛ فإنّه أمْر ونَهْي ، والأمر نوْعان :
أحدهما : ما يَكون المنهيّ عنه مَفْسَدَةً في نَفْسه .
والثاني : ما يَكون وسيلةً إلى المَفْسَدَة ، فصار سَدّ الذّرائع المُفْضِية إلى الحرام أحد أرباع الدِّين " (1) ا.هـ .
3- بناءً على ما تَقَدَّم يَكون الأَوْلى عندي : التعبير عنها بـ( قاعدة سَدّ الذّرائع ) واعتبارها كذلك ؛ لأنّها ليست دليلاً مستقِلاًّ ، وإنّما هي وسيلة لأصْل إنْ كان حراماً وَجَب قَطْعها ومَنْعها ، ولِذا فإنّي عَنْوَنْتُ هذا البحث بـ( الكوكب الساطع في قاعدة سَدّ الذّرائع ) أيضاً .(1/16)
4- أنّي لا أُسَلِّم بأنّ الذّرائع مِن أنواع القياس ـ كما ذَهَب ابن عقيل رحمه الله تعالى ـ إلا إنْ قُصِد بذلك قياس الذّرائع التي لم يَرِدْ فيها نصّ على الذّرائع التي وَرَد فيها نصّ يُوجِب قَطْعها بجامع تَحَقُّق الحرمة أو المَفْسَدَة في كُلٍّ ، حتّى وإنْ كان كذلك فهو قياس غَيْر صحيح ؛ لأنّ مُعْظَم الأمثلة أو الفروع الدّالّة على سَدّ الذّرائع قَدْ وَرَد نصّ بحُكْمها ، وشَرْط الفرع أنْ لا يَكون منصوصاً عليه (2) .
(1) أعلام الموقِّعين 3/159
(2) يُرَاجَع المستصفى /328
5- أنّي لا أُسَلِّم ـ أيضاً ـ أنّ سَدّ الذّرائع قاعدة فقهيّة ، وإنّما هي قاعدة أصوليّة ؛ لأسباب منها :
أ- أنّها أصْل لِمَا يَصْدُر عنها مِن أحكام وفروع فقهيّة ، أمَّا القاعدة الفقهيّة فإنّها مبنيّة على الجَمْع بَيْن المَسائل المتشابهة مِن الأحكام الفقهيّة (1) .
ب- أنَّه لم يَرِدْ في مَراجع قواعد الفقه ما يَدُلّ على أنّها قاعدة فقهيّة (2) ، وإنّما وَرَد ـ كما سَبَق ـ عن بعض الأصوليّين أنّها قاعدة أصوليّة .
(1) يُرَاجَع أصول الفقه لأبي زهرة /8
(2) يُرَاجَع في ذلك : الأشباه والنظائر لِلسيوطي والأشباه والنظائر لابن نجيم والقواعد لابن المقري .
المطلب الخامس
أقسام الذّرائع
لقَدْ قَسَّم بعض الأصوليّين الذّرائع إلى أقسام عدّة ..
وفيما يلي أَستعرض بعض هؤلاء :
الأول : القرافي رحمه الله تعالى ..
قسَّم القرافي ـ رحمه الله تعالى ـ الذريعةَ إلى ثلاثة أقسام :
القِسْم الأول : ذريعة مُعْتَبَرة إجماعاً .
مثالها : حَفْر الآبار في طُرُق المُسْلِمين ، وإلقاء السُّمّ في أَطعمتهم ، وسَبّ الأصنام عند مَن يُعْلَم مِن حاله أنَّه يَسُبّ اللهَ تعالى حينئذٍ .
حُكْمها : مُحَرَّمة بالإجماع ؛ لأنّها موصِّلة إلى الحرام .
القِسْم الثاني : ذريعة ملغيّة إجماعاً .
مثالها : زراعة العنب ، والشركة في سُكْنَى الدار .(1/17)
حُكْمها : غَيْر مُعْتَبَرة ؛ لأنّها لا تُوصل إلى الحرام ، فلا يحرم بَيْع العنب خشيةَ صناعته خمراً ، ولا تَحرم الشركة في سُكْنَى الدار خشية الزنا .
القِسْم الثالث : ذريعة مُخْتَلَف فيها .
مثالها : بيوع الآجال ( بَيْع العِينة ) .
حُكْمها : وهذه الذريعة محلّ خلاف بَيْن الأصوليّين : هلْ تحرم فتُسَدّ أم لا (1) ؟
الثاني : ابن القيّم رحمه الله تعالى ..
قسَّم ابن القيّم ـ رحمه الله تعالى ـ الذريعةَ إلى أقسام أربعة :
القِسْم الأول : وسيلة موضوعة لِلإفضاء إلى المَفْسَدَة .
مثالها : شُرْب المُسْكِر المُفْضِي إلى مَفْسَدَة السُّكْر ، والقذف المُفْضِي إلى مَفْسَدَة الفِرْيَة .
حُكْمها : المنع كراهةً أو تحريماً بحسب درجاته في المَفْسَدَة .
القِسْم الثاني : وسيلة موضوعة لِلمباح قُصِد بها التوسل إلى المَفْسَدة .
مثالها : عَقْد النكاح قاصداً به التحليل ، أو عَقْد البيع قاصداً به الربا .
حُكْمها : وهذه الذريعة محلّ خلاف بَيْن الأصوليّين .
القِسْم الثالث : وسيلة موضوعة لِلمباح لم يُقْصَدْ بها التوسل إلى المفسدة لكنّها مُفْضِيَة إليها غالباً ، ومَفْسَدتها أَرْجَح مِن مَصْلَحتها .
(1) شَرْح تنقيح الفصول /448 بتصرف .
مثالها : سَبّ آلهة المُشْرِكين بَيْن ظَهرانيهم ، وتَزَيُّن المُتَوَفَّى عنها زَوْجها في زمن العِدّة .
حُكْمها : وهذه الذريعة ـ أيضاً ـ محلّ خلاف بَيْن الأصوليّين .
القِسْم الرابع : وسيلة موضوعة لِلمباح وقَدْ تُفْضِي إلى المَفْسَدَة ومَصْلَحتها أَرْجَح مِن مَفْسَدتها .
مثالها : النظر إلى المخطوبة والمشهود عليها ، وفِعْل ذوات الأسباب في أوقات النهي ، وكلمة حقّ عند ذي سلطان جائر .
حُكْمها : الجواز ، مع تَفاوُت بَيْن استحبابها وإيجابها بحسب درجاتها في المَصْلَحة (1) .
الثالث : السبكي (2) رحمه الله تعالى ..
قَسَّم السبكي ـ رحمه الله تعالى ـ الذريعةَ إلى أقسام ثلاثة :(1/18)
القِسْم الأول : ما يُقْطَع بتوصله إلى الحرام فهو حرام عندنا ( الشافعية ) وعندهم ( المالكية ) .
(1) أعلام الموقّعين 3/136 بتصرف .
(2) تقيّ الدين السبكي : هو أبو الحَسَن علِيّ بن عبد الكافي بن علِيّ بن تمّام بن يوسف ابن موسى السبكي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بسُبك سَنَة 683 هـ ..
مِن مصنَّفاته : تفسير القرآن ، شرْح المنهاج في الفقه ، شفاء السقام في زيارة خَيْر الأنام ، الاعتبار ببقاء الجَنَّة والنّار ، التحقيق في مسألة التعليق .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمِصْر سَنَة 756 هـ .
الدُّرَر الكامنة 3/63 والفتح المبين 2/176
القِسْم الثاني : ما يُقْطَع بأنّها لا تُوصل ولكن اخْتَلَطَتْ بما يُوصل ، فكان مِن الاحتياط سَدّ الباب .
وهذا غُلُوّ في القول بسَدّ الذّرائع ؛ لإلحاق الصورة النادرة التي قُطِع بأنّها لا تُوصل إلى الحرام بالغالب منها المُوصل إليه .
القِسْم الثالث : ما يَحتمل ويَحتمل ، وفيه مَراتب متفاوِتة ، ويَختلف الترجيح عندهم بسب تَفاوُتها (1) .
وقَدْ نَسَب الزركشي (2) ـ رحمه الله تعالى ـ هذا التقسيم لِبعض المتأخِّرين (3) ، ونَسَبه الشوكاني (4) لابن الرفعة (5) رحمهما الله
(1) يُرَاجَع الأشباه والنظائر لابن السبكي 1/120
(2) الزركشي : هو بدْر الدين أبو عبد الله محمد بن بهادر بن عبد الله التركي المصري الزركشي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بمصر سَنَة 745 هـ ..
مِن مصنَّفاته : البحر المحيط ، تشنيف المسامع .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 794 هـ .
الفتح المبين 2/218
(3) يُرَاجَع البحر المحيط 6/85
(4) يُرَاجَع إرشاد الفحول /247
(5) ابن الرفعة : هو نَجْم الدِّين أبو العباس أحمد بن محمد بن عَلِيّ بن مرتفع بن الرفعة المصري الشافعي رحمه الله تعالى ، فقيه لغويّ أصوليّ ، وُلِد سَنَة 645 هـ ..(1/19)
مِن مُصَنَّفاته : الكفاية في شَرْح التنبيه ، المطلب في شَرْح الوسيط ، حُكْم المكيال والميزان .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 710 هـ .
طبقات الشافعية الكبرى 9/24 - 26 والدُّرَر الكامنة لابن حجر 1/336 ، 337 والبدر الطّالع 1/115
لكنّ ابن السبكي (1) أكَّد نِسْبَته لِوالده (2) رحمهما الله تعالى .
الرابع : الشاطبي رحمه الله تعالى ..
قسَّم الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ الذّرائع إلى أربعة أقسام :
القِسْم الأول : فِعْل مأذون فيه يؤدِّي إلى المَفْسَدَة قَطْعاً .
مثالها : حَفْر بِئْر خَلْف باب الدار في طريق مُظْلِم بحيث يقع الداخل فيه لا محالة .
حُكْمها : ممنوعة بإجماع فقهاء المُسْلِمين ، أيْ يجب سدّها .
القِسْم الثاني : فِعْل مأذون فيه يَكون أداؤه إلى المَفْسَدَة والإضرار نادراً .
مثالها : بَيْع الأغذية التي لا تَضُرّ أحداً غالباً ، وبَيْع العنب ولو اتُّخِذ خمراً بَعْد ذلك .
حُكْمها : حلال لا شكّ فيها ؛ لأنّها باقية على الإذن العامّ والمشروعيّة ما دام العمل مأذوناً فيه .
(1) تاج الدين السبكي : هو أبو نصْر عبد الوهاب بن علِيّ بن عبد الكافي بن علِيّ بن تمّام بن يوسف ابن موسى السبكي الشافعي رحمه الله ، الملقَّب بـ" قاضي القضاة " ، وُلِد بالقاهرة سَنَة 727 هـ ..
مِن مصنَّفاته : شرْح مختصر ابن الحاجب ، الإبهاج ، جَمْع الجوامع في أصول الفقه طبقات الشّافعيّة الكبرى .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 771 هـ .
الفتح المبين 2/192
(2) يُرَاجَع حاشية العطّار على شَرْح المحلي على جَمْع الجوامع 2/399
القِسْم الثالث : فِعْل مأذون فيه لِمَا فيه مِن مصلحة لكنّه يؤدِّي إلى المَفْسَدَة غالباً .
مثالها : بَيْع السلاح وَقْت الفِتَن ، وبَيْع العنب لِلخَمّار .
حُكْمها : ممنوعة احتياطاً وأخذاً بغلبة الظَّنّ .(1/20)
القِسْم الرابع : فِعْل يَكون أداؤه إلى المَفْسَدَة كثيراً لا غالباً ، فلم يَبْلُغْ مَبْلَغ الظَّنّ الغالب لِلمَفْسَدَة ولا العِلْم الْقَطْعِيّ .
مثالها : البيوع التي تُتَّخَذ ذريعةً لِلربا : كعقد السلم ، وبَيْع العِينة .
حُكْمها : وهذه الذريعة هي محلّ النزاع بَيْن العلماء (1) .
تعقيب وترجيح :
وعلى ضَوْء ما تَقَدَّم مِن إيراد أقسام الذريعة عند بعض الأصوليّين أَرَى أنَّه يُمْكِن حَصْر أقسام الذريعة في ستّة أقسام على النحو التالي :
القِسْم الأول : وسيلة ممنوعة في ذاتها لأنّها تُوصل إلى الحرام .
مثالها : سَبّ الوالديْن أو التسبب في ذلك ؛ لأنّه يؤدِّي إلى إيذائهما ، وكذا شُرْب المُسْكِر المُفْضِي إلى مَفْسَدَة الإسكار .
حُكْمها : وهذه الذريعة مُحَرَّمة ويجب سدّها .
(1) يُرَاجَع الموافَقات 2/348
القِسْم الثاني : وسيلة مباحة في ذاتها لكنّها تُوصل إلى الحرام أو الممنوع قَطْعاً .
مثالها : سَبّ الآلهة التي تُعْبَد مِن دُون الله تعالى ، أو حَفْر بئر في طريق مُظْلِم .
حُكْمها : وهذه الذريعة ـ أيضاً ـ مُحَرَّمة ويجب سدّها .
القِسْم الثالث : وسيلة مباحة في ذاتها لكنّها لا تُوصل إلى الحرام إلا نادراً .
مثالها : بَيْع العنب ولو اتُّخِذ خمراً بَعْد ذلك ، والشركة في سُكْنَى الدار خشية الزنا .
حُكْمها : وهذه الذريعة غَيْر مُعْتَبَرَة ، بلْ هي حلال وجائزة .
القِسْم الرابع : وسيلة مباحة في ذاتها لكنّها تُوصل إلى الحرام غالباً .
مثالها : بَيْع السلاح زَمَن الفِتَن ، وبَيْع العنب لِلخَمّار .
حُكْمها : وهذه الذريعة محلّ نزاع بَيْن العلماء ، لكنّي أُرَجِّح سَدّها ومَنْعها .
القِسْم الخامس : وسيلة مباحة في ذاتها لكنّها تُوصل إلى الممنوع كثيراً لا غالباً دُون القِسْم السابق .
مثالها : البيوع التي تُتَّخَذ وسيلةً أو ذريعةً لِلربا : كعقْد السلم
وبَيْع الأَجَل ( العِينة ) .(1/21)
حُكْمها : وهذه الذريعة محلّ نزاع ـ أيضاً ـ بَيْن العلماء .
القِسْم السادس : وسيلة مباحة في ذاتها ولكنّها اخْتَلَطَتْ بما يُوصل إلى الحرام .
مثالها : بَيْع العنب لِشريكيْن أحدهما صاحِب مَصْنَع خَمْر ، وكاختلاط المنكوحة بالأجنبيّة .
حُكْمها : وفي هذا أَرَى أنّ حُكْمها يأخذ حُكْم الوسيلة المُخْتَلِطة بها : فإنْ أَوْصَلَتْ إلى الحرام قَطْعاً أو غالباً وَجَب سَدّها ، وإنْ لا فلا يجب سَدّها وهي جائزة ، ويَنطبق على هذه الذريعة قاعدة ( إذا اجْتَمَع الحرام والحلال غلب الحرام ) .
المبحث الثاني
حُجِّيَّة سَدّ الذّرائع
والفَرْق بَيْنها وبَيْن الحِيَل
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : مذاهب الأصوليّين في حُجِّيَّة سَدّ الذّرائع .
المطلب الثاني : مذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - في سَدّ الذّرائع .
المطلب الثالث : أدلّة المذاهب مع الترجيح .
المطلب الرابع : فَتْح الذّرائع .
المطلب الخامس : الفَرْق بَيْن الذّرائع والحِيَل .
المطلب الأول
مذاهب الأصوليّين في حُجِّيَّة سَدّ الذّرائع
أوّلاً - تحرير محلّ النزاع في حُجِّيَّة سَدّ الذّرائع :
بَعْد الوقوف على أقسام الذّرائع اتَّضَح لنا أنّ محلّ النزاع بَيْن الأصوليّين هو الذريعة التي تُفْضِي إلى الحرام غالباً .
ومِن الأصوليّين مَن حَصَر محلّ النزاع في بيوع الآجال ( بَيْع العِينة ) ونَحْوها (1) .
ومنهم مَن جَعَل سَدّ الذّرائع هو محلّ النزاع (2) ، وهو الراجح عندي ؛ فكُلّ ذريعة تُوصل إلى الحرام هلْ تُسَدّ أم لا ؟
أو بمَعْنىً آخَر : هلْ سَدّ الذّرائع حُجَّة أم لا ؟(1/22)
وقَدْ بَنَيْتُ ترجيحي على : أنّ النزاع الحقيقي في هذه القاعدة إنّما هو بَيْن ابن حَزْم ـ رحمه الله تعالى ـ والجمهور ، والذي لم أَرَ مَن تَعَرَّض له أو أشار إليه مِن الأصوليّين الذين بَحَثوا قاعدة سَدّ الذّرائع حينما حَصَروا النزاع بَيْن المالكية والحنابلة وبَيْن الشافعية والحنفية في الذّرائع أو بَيْع العِينة ونَحْوها .
(1) يُرَاجَع : الفروق 3/266 والبحر المحيط 6/83 ، 84 والموافَقات 3/192
(2) يُرَاجَع البحر المحيط 6/85
ثانياً - مذاهب الأصوليّين في حُجِّيَّة سَدّ الذّرائع :
اخْتَلَف الأصوليّون في الذريعة التي تُفْضِي إلى الحرام : هَلْ تُقْطَع ويجب سَدّها ؟
على مذْهبيْن :
المذهب الأول : أنّها حُجَّة ويجب قَطْعها وسَدّها .
وهو ما عليه المالكية والحنابلة (1) ، وهو قوْل الإمام مالك (2) ، ورواية عن الإمام أحمد (3) رضي الله عنهما .
المذهب الثاني : أنَّها ليست حُجَّةً ولا يَجِب قَطْعها .
وهو ما عليه ابن حَزْم الظاهري رحمه الله تعالى (4) ، واختاره
(1) يُرَاجَع : شَرْح تنقيح الفصول /449 وأحكام القرآن لابن العربي 2/798 وشَرْح مختصر الروضة 3/214 وشَرْح الكوكب المنير 4/434
(2) الإمام مالك : هو أبو عبد الله مالك بن أَنَس بن مالك الأصبحي المدني - رضي الله عنه - ، إمام دار الهجرة ، أحد الأئمّة الأربعة ، وُلِد بالمدينة سَنَة 93 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الموطَّأ .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 179 هـ .
الأعلام 3/824 والفتح المبين 1/117 - 123
(3) الإمام أحمد : هو أبو عبد الله أحمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس الشيباني - رضي الله عنه - ، الإمام الفقيه المحدِّث ، أحد الأئمّة الأربعة ، وُلِد ببغداد سَنَة 164 هـ .
مِن مصنَّفاته : المُسْنَد ، التفسير ، السُّنَّة ، الزُّهْد .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - ببغداد سَنَة 241 هـ .
البداية والنهاية 10/320 والفتح المبين 1/156 - 163(1/23)
(4) يُرَاجَع الإحكام لابن حَزْم 6/180
ابن عقيل الحنبلي رحمه الله تعالى (1) .
ونَسَب الباجي ـ رحمه الله ـ هذا المذهب إلى الإماميْن أبي حنيفة (2) والشافعي (3) رضي الله عنهما (4) ، وتَبِعه في ذلك كثرة مِن الأصوليّين ونَفَر مِن الشافعية (5) .
وأَرَى : أنّ هذه النسبة تَحتاج إلى مراجَعة ونظر ، خاصّةً بَعْد أنْ ثَبَت عنهما عَكْس ذلك والعمل بسَدّ الذّرائع ..
(1) يُرَاجَع الواضح 2/75
(2) الإمام أبو حنيفة : هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن كاوس بن هرمز - رضي الله عنه - ، أول الأئمّة الأربعة ، وُلِد بالكوفة سَنَة 80 هـ ..
مِن مصنَّفاته : المخارج في الفقه واللغة ، المُسْنَد .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 150 هـ .
الأعلام 9/4 والفتح المبين 1/106 - 110
(3) الإمام الشافعي : هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن شافع المطَّلبي - رضي الله عنه - أحد أئمة المذاهب الأربعة ، وُلِد بغزّة ، وقيل : بعسقلان ـ سَنَة 150 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الأُمّ ، الرسالة ، أحكام القرآن .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بمصر سَنَة 204 هـ .
طبقات الشافعية الكبرى 1/100 ووفيات الأعيان 9/249 ، 250 والفتح المبين 1/133 - 142
(4) إحكام الفصول /690
(5) يُرَاجَع : التمهيد لِلكلوذاني 24/392 وأحكام القرآن لابن العربي 2/798 وشَرْح الكوكب المنير 4/434 والمدخل 1/296 وإرشاد الفحول /246 وقواطع الأدلّة 2/268 والأشباه والنظائر لابن السبكي 1/20 وجَمْع الجوامع مع حاشية العطّار 2/399
وفيما يلي أَذْكُر ما يَدُلّ على أخْذ الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - بسَدّ الذّرائع :
* أَوْرَد محمد بن الحَسَن الشيباني (1) رحمه الله ما يَدُلّ على ذلك بقوله :" قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : مَن اشْتَرَى سلعةً بنقد أو بنسيئة فقَيَّضها ولم ينقد الثَّمَن حتّى باعها مِن الذي اشتراها منه بأَقَلّ مِن الثَّمَن فلا خَيْر فيه " (2) ا.هـ .(1/24)
وهذا هو بَيْع العِينة الذي حَرَّمه البعض سَدّاً لِذريعة الربا .
وقَدْ أَكَّد الشاطبي ـ رحمه الله ـ أَخْذ الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - بسَدّ الذّرائع في قوْله :" وأمَّا أبو حنيفة : فإنْ ثَبَت عنه جواز إعمال الحِيَل لم يَكُنْ مِن أصْله في بيوع الآجال إلا الجواز ، ولا يَلْزَم مِن ذلك تَرْكه لأصْل سَدّ الذّرائع ، وهذا واضِح ، إلا أنَّه نُقِل عنه موافَقة مالك في سَدّ الذّرائع فيها وإنْ خالَفه في بعض التفاصيل ، وإذا كان كذلك فلا إشكال " (3) ا.هـ .
(1) محمد بن الحَسَن : هو أبو عبد الله محمد بن الحَسَن الشيباني رحمه الله تعالى ، وُلِد بواسط بالعراق ، اشتهر بالتَّبَحُّر في الفقه والأصول ، تَوَلَّى قضاء الرقة مِن قِبَل الخليفة هارون الرشيد ..
مِن مصنَّفاته : المبسوط في فروع الفقه ، الزيادات ، الآثار .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 186 هـ .
الأعلام 3/882 والفتح المبين 1/115
(2) الحُجَّة 2/746
(3) الموافَقات 3/193
أمَّا تحقيق مذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - في سَدّ الذّرائع : فأُفَصِّله في المطلب التالي بإذن الله تعالى .
المطلب الثاني
مذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - في سَدّ الذّرائع
لقد اعْتَبَر كثير مِن الأصوليّين الإماميْن أبا حنيفة والشافعي ـ رضي الله عنهما ـ أَشْهَر الرافضين أو المانعين لِلأخذ بِسَدّ الذّرائع ..
وقَدْ بَرَّأْنَا ساحة الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - مِن نسبة هذا إليه ، وأَثْبَتْنَا عَكْسها .
وفي هذا المطلب أحاول تحقيق ذلك في حقّ الإمام الشافعي - رضي الله عنه - مِن خلال هذه العناصر :
العنصر الأول : دليل عدم أخْذه بسَدّ الذّرائع .
العنصر الثاني : أدلّة أخْذه بسَدّ الذّرائع والعمل بها .
العنصر الثالث : تعقيب وترجيح .
وفيما يلي نُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها ..
العنصر الأول : دليل عدم أخْذ الإمام الشافعي - رضي الله عنه - بسَدّ الذّرائع :(1/25)
اسْتَدَلّ البعض على عدم أخْذ الإمام الشافعي - رضي الله عنه - بسَدّ الذّرائع بما ذَكَره في كتاب " إبطال الاستحسان " مِن قوْله :" لا يَفْسَد عَقْد
أبداً إلا بالعقد نَفْسه ، ولا يَفْسَد بشيء تَقَدَّمه ولا تأخَّره ولا بتَوَهُّم ، ولا تَفْسَد العقود بأنْ يقال " هذه ذريعة ، وهذه نيّة سوء " ؛ ألاَ تَرَى لو أنّ رَجُلاً اشْتَرَى سيفاً ونَوَى بشرائه أنْ يَقْتُل به كان الشراء حلالاً وكانت نيّة القتل غَيْر جائزة ولم يَبْطُلْ بها البيع " (1) ا.هـ .
العنصر الثاني : أدلّة أخْذ الإمام الشافعي - رضي الله عنه - بسَدّ الذّرائع :
لقَدْ وَرَدَتْ فروع فقهيّة عديدة في " الأُمّ " تَدُلّ على أنّ الإمام الشافعي - رضي الله عنه - أَخَذ بسَدّ الذّرائع ، نَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوْله - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلأَ مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَ رَحْمَتِه } (2) (3) ..
وعَقَّب عليه ابن الرفعة رحمه الله تعالى ـ إذ قال بَعْدما ذَكَر النهي عن بَيْع الماء لِيَمْنَع به الكلأ ، وإنّما يحتمل أنّ ما كان ذريعةً إلى مَنْع ما أَحَلّ الله لم يَحِلّ ، وكذا ما كان ذريعةً إلى إحلال ما حَرَّم الله ـ بقوله :" وإذا كان هكذا : ففي هذا ما يُثْبِت أنّ الذّرائع إلى الحلال والحرام يُشْبِه مَعاني الحلال والحرام " (4) ا.هـ .
(1) الأُمّ 7/267
(2) أَخْرجه الإمام أحمد في مُسْنَد المُكْثِرين مِن الصحابة برقم ( 6435 ) عن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما .
(3) يُرَاجَع : الأُمّ 4/49 والمُهَذَّب 1/428
(4) البحر المحيط 6/84
مُنَاقَشَة هذا الدليل :(1/26)
وقَدْ نُوقِش هذا الدليل : بأنّ هذا ليس مِن باب سَدّ الذّرائع ، بلْ هو مِن تحريم الوسائل ، والوسائل تَستلزم المتوسَّل إليه ، والنزاع بَيْننا وبَيْن المالكيّة ليس في الذّرائع ، وإنّما هو في سدّها ، ومِن هذا بَيْع الماء ؛ فإنّه مُسْتَلْزِم عادةً لِمَنْع الكلأ المُحَرَّم (1) .
الجواب عن هذه المُنَاقَشَة :
وأَرَى رَدّ هذه المُنَاقَشَة : بأنّ الذّرائع التي سَدّها الشَّرْع ومَنَعها هي الوسائل المؤدِّية إلى الحرام ، والمُعْتَرِض قَدْ سَلَّم بأنّ هذا مِن باب تحريم الوسائل التي تَستلزم المتوسَّل إليه ، وهذا هو مَعْنَى سَدّ الذّرائع ، ولا فَرْق بَيْن الوسائل عندنا وعنده .
الدليل الثاني : قوْل الإمام الشافعي - رضي الله عنه - :" ولا يجوز لأهْل العدل عندي أنْ يَستعينوا على أهْل البغي بأحد مِن المُشْرِكين ذمِّيّ ولا حربيّ ولو كان حَكَم المُسْلِمين الظاهر ، ولا أَجْعَل لِمَن خالَف دينَ الله عَزّ وجَلّ الذريعةَ إلى قَتْل أهْل دِين الله " (2) ا.هـ .
الدليل الثالث : قوْله - رضي الله عنه - في الشهادة على الزنا والسرقة :" أقول : إنْ جاء عليه بشهود يَشهدون على ما يُحِلّ دَمَه أَهْدَرْتُه فلم أَجْعَلْ فيه
(1) يُرَاجَع البحر المحيط 6/85
(2) الأُمّ 4/219
عقلاً ولا قَوَداً وإنْ لم يأتِ عليه بشهود أَقْصَصْتُ وَلِيَّه منه ولم أَقْبَلْ فيه قوْله وتَبِعْتُ فيه السُّنَّة ثُمّ الأثر عن عَلِيّ - رضي الله عنه - (1) ولم أَجْعَلْ لِلناس ذريعةً إلى قَتْل مَن في أنفُسهم عليه شيء ثُمّ يَرْمونه بسرقة كاذبين " (2) ا.هـ .
الدليل الرابع : قوْله - رضي الله عنه - في مَنْع قَرْض الجارية التي يَحِلّ لِلمُسْتَقْرَض وطؤها :" تجويز ذلك يُفْضِي إلى أنْ يصير ذريعةً أنْ يطأها وهو يَملك رَدّها " ..(1/27)
وعَقَّب المحاملي (3) ـ رحمه الله تعالى ـ على ذلك بقوله :" يعني أنَّه يستبيح بالقَرْض وطء الجارية ثُمّ يَرُدّها على المُقْرِض فيستبيح الوطء مِن غَيْر عوض ، قيل : وفيه مَنْع الذّرائع " (4) ا.هـ .
(1) الأُمّ 6/138
(2) الإمام عَلِيّ : هو الصّحابيّ الجليل أبو الحَسَن عَلِيّ بن أبي طالب بن عبد المُطَّلِب كَرَّم الله وجْهه ابن عمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أوَّل مَن أَسلَم مِن الصِّبيان ، وُلِد سَنَة 23 قَبْل الهجرة ، وتَرَبَّى في حِجْر المصطفَى - صلى الله عليه وسلم - ، وهو رابِع الخلفاء الراشدين ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 40 هـ .
الفتح المبِين 1/60 - 65
(3) المحامليّ : هو أبو الحَسَن أحمد بن محمد الضبي البغدادي الشافعي رحمه الله تعالى وُلِد سَنَة 368 هـ .
مِن مُصَنَّفاته : المُقْنِع في فروع الشافعية ، عدّة المسافر وكفاية الحاضر ، التجريد .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 415 هـ .
طبقات الشافعية الكبرى 4/48
(4) يُرَاجَع البحر المحيط 6/86
العنصر الثالث : تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على رأْي الإمام الشافعي - رضي الله عنه - في سَدّ الذّرائع وما نُقِل عنه مِن أقوال تَمْنَع الأخذ بها وأقوال تأخذ بها فإنّه يُمْكِن التوصل إلى ما يلي :
1- أنّ القائلين بأنّ مذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - فَتْح الذّرائع وعدم سَدّها قد اسْتَدَلّوا بالنَّصّ المتقدِّم كدليل لِعدم الأخذ بسَدّ الذّرائع ..
وأَرَى : أنّ استدلالهم بهذا النَّصّ فيه نظرٌ وليس فيه ما يَمْنَع الأخذ بسَدّ الذّرائع ، وإنّما تَكَلَّم في العقود وأنّ العِبرة فيها ليست بالنيات والقصود وإنّما بالألفاظ ، ولِذا فإنّ العقد لا يَبْطُل بالنوايا السوء لدى أَحَد طَرَفَي العقد ولا بتوهم التوصل إلى الحرام .(1/28)
2- بناءً على فَهْمي المتقدِّم لِقوْل إمامنا - رضي الله عنه - أجاز الشافعية بَيْع العِينة ـ والذي سيأتي الحديث عنه مُفَصَّلاً بإذْن الله تعالى في أَثَر سَدّ الذّرائع في الأحكام ـ لأنّ كلاهما عَقْد مُنْفَصِل ، وكذلك منع كُلّ وسيلة أو ذريعة تؤدِّي إلى الحرام قَطْعاً أو يَغلب على الظَّنّ أنّها تؤدِّي إليه ، أمَّا ما ليس كذلك ـ بأنْ تُوُهِّمَت المَفْسَدَة أو تساوت المَصْلَحَة مع المَفْسَدَة ـ فلا تُسَدّ الذريعة حينئذٍ .
3- أنّ الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ـ فيما أَرَاه ـ مع القائلين بسَدّ الذّرائع مع إجازته لِبَيْع العِينة التي يَرَى في جوازها قَطْعاً لِلذريعة ، لا فتحاً لها كما فَهِم المخالِفون له وصنَّفوه مع المانعين لِسَدّ الذّرائع بقوله في بَيْع العِينة .
4- أنّي دَعَّمْتُ اختياري وترجيحي لِمذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ومِن ورائه الشافعية في العمل بسَدّ الذّرائع ببعض الفروع الفقهيّة التي بَنَاهَا الشافعية على سَدّ الذّرائع ، والتي أَوْرَدْتُها في أَثَر سَدّ الذّرائع في الأحكام .
5- أنّ نسبة فَتْح الذّرائع أو عدم القول بسَدّها إلى الإمام الشافعي - رضي الله عنه - فيها نظرٌ وتَحتاج إلى مراجعة ، خاصّةً أنّها وَرَدَتْ عند كثير مِن المالكية والحنابلة .
6- أنّ الخلاف الحقيقي ـ فيما أَرَى ـ بَيْن الإمام الشافعي والإمام مالك ـ رضي الله عنهما ـ ليس في سَدّ الذّرائع كما فَهِمَت الكثرة ، وإنّما هو في صورة واحدة ، وهي : بيوع الآجال ( بَيْع العِينة ) ، وَرَد ذلك على لسان بعض المالكية ..
ومِن ذلك : قوْل القرافي رحمه الله تعالى :" وإنّما النزاع في الذّرائع خاصّة ، وهي بيوع الآجال ونَحْوها " (1) ا.هـ .
وقوْل الشاطبي رحمه الله تعالى :" وإنّما النزاع في ذرائع خاصّة ، وهي بيوع الآجال ونَحْوها " (2) ا.هـ .
(1) الفروق 3/266
(2) الموافَقات 3/192(1/29)
7- أنّ الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ نَفَى عن الإمام الشافعي القولَ بفتح الذّرائع ، وإنّما سدّها في قوْله :" أمَّا الشافعي : فالظَّنّ به أنّه تَمّ له الاستقراء في سَدّ الذّرائع على العموم ، ويَدُلّ عليه : قوْله بتَرْك الأضحية إعلاماً بعدم وجوبها ، وليس في ذلك دليل صريح مِن كتاب أو سُنَّة ، وإنّما فيه عمل جملة مِن الصحابة ، وذلك عند الشافعي ليس بحُجَّة ، لكنْ عارَضَه في مسألة بيوع الآجال دليل آخَر رجح على غَيْره فأَعْمَلَه فتَرَك سَدّ الذريعة لأجْله ، وإذا تَرَكه لِمُعارِض راجِح لم يُعَدّ مُخالِفاً " (1) ا.هـ .
8- إذا بَرَّأْنَا ساحة الإماميْن أبي حنيفة والشافعي ـ رضي الله عنهما ـ مِن القول بفتح الذّرائع وعدم قَطْعها وأنّهما مع الجمهور في ذلك تُصْبِح مذاهب الأصوليّين في حُجِّيَّة سَدّ الذّرائع مذْهبيْن :
المذهب الأول : أنَّها حُجَّة .
وهو ما عليه الجمهور .
المذهب الثاني : أنَّها ليست حُجَّةً .
وهو اختيار ابن حَزْم ، وتَبِعه ابن عقيل الحنبلي رحمهما الله تعالى .
(1) الموافَقات 3/193
المطلب الثالث
أدلّة المذاهب مع الترجيح
أوّلاً - أدلّة المذهب الأول :
اسْتَدَلّ الجمهور ـ القائلون بحُجِّيّة سَدّ الذّرائع ووجوب قَطْع الذريعة المُوصلة إلى الحرام ـ بأدلّة مِن الكتاب ومِن السُّنَّة ومِن عمل الصحابة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوْله تعالى { وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوَا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون } (1) ..(1/30)
وجْه الدلالة : أنّ الله تعالى نَهَى عن سَبّ الآلهة التي تُعْبَد مِن دُونه حتّى لا يَكون دافعاً أو وسيلةً لِسَبّ الله ، وحيث إنّ سَبّ الله تعالى مُحَرَّم وممنوع فما كان سبباً له أو وسيلةً إليه كان مُحَرَّماً كذلك ، وإذا كانت ذريعة الحرام مُحَرَّمةً فدَلّ ذلك على وجوب سدّها ، وهو المطلوب (2) .
(1) سورة الأنعام الآية 108
(2) يُرَاجَع : أعلام الموقِّعين 3/137 وتفسير القرطبي 2/58 وتفسير الطبري 7/309
الدليل الثاني : قوْله تعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَقُولُوا رَعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيم } (1) ..
سبب نزول الآية : أنّ الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يقولون لِلنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - : " رَاعِنَا " على جهة الطلب والرغبة مِن المراعاة ، أي : الْتَفِتْ إلينا وكان هذا بلسان اليهود سَبّاً ، أي : اسْمَعْ لا سَمِعْتَ ، فاغْتَنَموها وقالوا :" كُنَّا نَسُبّه سِرّاً ، فالآن نَسُبّه جهراً " ، فكانوا يخاطبون بها النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ويَضحكون فيما بَيْنهم ، فسَمِعها سَعْد بن معاذ - رضي الله عنه - (2) ـ وكان يَعرف لُغَتَهم ـ فقال لِليهود :" عَلَيْكُمْ لَعْنَةُ اللَّهِ .. لَئِنْ سَمِعْتُهَا مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ يَقُولُهَا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأَضْرِبَنَّ عُنُقَه " ، فقالوا :" أَوَلَسْتُمْ تقولونها ؟! " ، فنزلَت الآية ونُهُوا عنها لِئَلاّ تَقْتَدِي بها اليهود في اللفظ وتَقصد المَعْنَى الفاسد فيه .
وجْه الدلالة : أنّ سَبّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مُحَرَّم وممنوع ، فكذلك ما كان وسيلةً إليه أو سبباً له ، وحيث إنّ قوْل الصحابة - رضي الله عنهم - لِلنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - :" رَاعِنَا " ذريعة لِقوْل اليهود لها ـ وهي بِلُغَتِهم سَبّ ـ فإنّ سَدّها
(1) سورة البقرة الآية 104(1/31)
(2) سَعْد بن معاذ : هو الصّحابيّ الجليل أبو عمرو سيدنا سَعْد بن معاذ بن النعمان الأوسي الأنصاري - رضي الله عنه - ، سَيِّد الأوس ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة بَعْد شَهْر مِن غزوة الخندق متأثِّراً بسهم رُمِي به في الغزوة سَنَة 5 هـ ، وقَدْ أَخْبَر النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّ العرش اهْتَزّ لِمَوْته .
الإصابة 3/84
يُصْبِح واجباً ، ولِذا حرم على الصحابة - رضي الله عنهم - هذا القول ؛ سدّاً لِذريعة سَبّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بِلُغَة اليهود (1) .
الدليل الثالث : قوْله تعالى { وسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ إِذ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُون } (2) ..
وجْه الدلالة : أنّ الله تعالى حَرَّم على اليهود صَيْد السمك يَوْم السبت ، فكانت الحيتان تأتيهم يَوْم السبت شُرَّعاً ، فسَدّوا عليها وحَبَسوها ، فكُلّما كان يَوْم الأحد اصطادوها وأَكَلوها ، وبَرَّروا فِعْلهم بأنّهم لم يَرتكِبوا محظوراً ؛ حيث إنّهم لم يصطادوها يَوْم السبت ، ولكنّهم حَبَسوها في هذا اليوم واصطادوها بَعْده ..
ولِذا كان حَبْسهم لِلحيتان يَوْم السبت وسيلةً أو ذريعةً لِلحرام ، فدَلّ ذلك على أنّ الذريعة مُعْتَبَرة وواجب قَطْعها ؛ وإلا لَمَا كانوا أهلاً لِلعذاب والعِقاب (3) .
الدليل الرابع : قوْله - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمَ الرَّجُلِ وَالِدَيْه } قالوا : " يَا رَسُولَ اللَّهِ .. وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْه ؟! " قال { نَعَمْ ؛ يَسُبُّ
(1) يُرَاجَع : تفسير القرطبي 2/58 وإحكام الفصول /690 وأعلام الموقِّعين 3/137
(2) سورة الأعراف الآية 163(1/32)
(3) يُرَاجَع : تفسير الطبري 9/91 ، 92 والفروق للقرافي 2/266 وإحكام الفصول /690 ، 691
أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبَّ أَبَاهُ ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّه } (1) ..
وَجْه الدلالة : أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - جَرَّم شَتْم الوالديْن وأبان أنَّه مِن الكبائر ، فيَكون مُحَرَّماً ، وكذلك الحُكْم فيمَن تَسَبَّب في ذلك بسَبّ والدَي الغَيْر ، ولِذا كان سَبّ الوالديْن مُحَرَّماً ، وسَبّ والدَي الغَيْر ذريعة ووسيلة إلى ذلك ، فحُرِّم سَبّ والدَي الغَيْر سدّاً لِذريعة سَبّ الوالديْن (2) .
الدليل الخامس : قوْله - صلى الله عليه وسلم - لِلسيدة عائشة (3) رضي الله عنها { لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثِي عَهْدِهِمْ بِكُفْرٍ لأَسَّسْتُ الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيم } (4) ..
وجْه الدلالة : أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أراد أنْ يَهْدِم الكعبة ويبنيها على قواعد إبراهيم - عليه السلام - ، ولكنّه خَشِي ارتداد أهْل مكة فامْتَنَع لِذلك ،
(1) أَخْرَجه البخاري في كتاب الأدب : باب لا يَسُبّ الرَّجُل والديْه برقم ( 5516 ) ومُسْلِم في كتاب الإيمان : باب بيان الكبائر وأَكْبَرها برقم ( 130 ) وأحمد في مُسْنَد المُكْثِرين مِن الصحابة برقم ( 6243 ) ، كُلّهم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما .
(2) يُرَاجَع : أعلام الموقِّعين 3/138 والاعتصام 2/34
(3) السيدة عائشة : هي أمّ عبد الله الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق السيدة عائشة بنت أبي بَكْر عبد الله بن عثمان ، أُمّ المؤمِنين ، أَفقَه نساء المسلِمين ، وُلِدَت قَبْل الهجرة بتِسْع سنوات تَزَوَّجَها النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْد الهجرة ..
تُوُفِّيَت رضي الله عنها بالمدينة سَنَة 58 هـ .
الإصابة 9/359(1/33)
(4) أَخْرَجه البخاري في كتاب الحجّ : باب فَضْل مكّة وبنيانها برقم ( 1480 ) ومُسْلِم في كتاب الحجّ : باب نَقْض الكعبة وبنائها برقم ( 2368 ) والنسائي في كتاب مَناسك الحجّ : باب بناء الكعبة برقم ( 2851 ) ، كُلّهم عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
ولِذا كان ارتداد أهْل مكة مَفْسَدَةً ومُحَرَّماً ، وإعادة بناء البيت ذريعة ووسيلة لِذلك ، فدَلّ ذلك على العمل بسَدّ الذّرائع ؛ وإلا لَمَا امْتَنَع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عن تأسيس البيت على قواعد إبراهيم - عليه السلام - (1) .
الدليل السادس : قوْله - صلى الله عليه وسلم - { الْحَلاَلُ بَيِّنٌ ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ ، وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَىً ، وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُه } (2) ..
وجْه الدلالة : أنّ الوقوع في الحرام محظور وممنوع ، وإتيان الأمور المشتبهات وسيلة وذريعة إلى الوقوع في الحرام ، ولِذا مُنِع الإقدام عليها سَدّاً لِلذريعة ومخافةَ الوقوع في الحرام (3) .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
ناقَش ابن حَزْم ـ رحمه الله تعالى ـ هذا الدليل : بأنّ الحديث حَضٌّ منه - صلى الله عليه وسلم - على الورَع ونصّ جَلِيّ على أنّ ما حَوْل الحِمَى
(1) يُرَاجَع الموافَقات 2/262
(2) أَخْرَجه البخاري في كتاب الإيمان : باب فَضْل مَن اسْتَبْرَأ لِدِينه برقم ( 50 ) ومُسْلِم في كتاب المساقاة : باب أخْذ الحلال وتَرْك الشبهات برقم 2996 ) والترمذي في كتاب البيوع عن رسول الله : باب ما جاء في تَرْك الشبهات برقم ( 1126 ) ، كُلّهم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما .
(3) يُرَاجَع إحكام الفصول /692(1/34)
ليس مِن الحِمَى ، وأنّ تلك المشتبهات ليست بيقين مِن الحرام ، وإذا لم تَكُنْ مِمَّا فُصِّل مِن الحرام فهي على حُكْم الحلال ، ولِذا فلا يجوز تحريمها سدّاً لِذريعة الوقوع في الحرام (1) .
الجواب عن هذه المُنَاقَشَة :
وأَرَى أنّ هذه المُنَاقَشَة مردودة : بأنّا سَلَّمْنَا بأنّ هذه المشتبهات ( أي الذريعة أو الوسيلة ) ليست بيقين مِن الحرام ، لكنّها تُوصل إلى الحرام قَطْعاً أو بيقين ، وما أَوْصَل إلى الحرام بيقين كان حراماً .
الدليل السابع : قَتْل الجماعة بالواحد ..
اتَّفَق الصحابة - رضي الله عنهم - على أنّ الجماعة تُقْتَل بالواحد ، وهو مُخالِف لِمَعْنَى القصاص وهو المساواة ، ولكنّهم أرادوا حَقْن دماء المُسْلِمين التي يحرم سَفْكها ، واعْتَبَروا اتِّفَاق الجماعة على القتل ذريعةً ووسيلةً إلى ذلك ، فأَوْجَبوا القصاص مِن الجماعة ؛ حتّى لا يَكون عدمه ذريعةً إلى قَتْل الواحد بالجماعة .
الدليل الثامن : توريث المُطَلَّقَة في مَرَض الموت ..
قَضَى عثمان - رضي الله عنه - (2) بتوريث المُطَلَّقة طلاقاً بائناً في مَرَض
(1) الإحكام لابن حَزْم 6/180 بتصرف .
(2) سيدنا عثمان : هو الصّحابيّ الجليل ذو النّوريْن عثمان بن عفّان بن أبي العاص ابن أُمَيَّة القرشي الأموي - رضي الله عنه - ، ثالث الخلفاء الراشدين ، وُلِد بَعْد عام الفيل بِسِتّ سنين =
الموت خشيةَ أنْ تَرِث مِن زَوْجها ، وحيث إنّ مَنْع الزوجة مِن ميراث زَوْجها مُحَرَّم وممنوع وطلاقها في مَرَض الموت ذريعة ووسيلة إلى ذلك ؛ فكان هذا الطلاق غَيْر مُعْتَبَر وسدّاً لِذريعة الوقوع في الحرام (1) .
ومَن أراد مَزِيداً مِن الأدلّة على حُجِّيَّة سَدّ الذّرائع فلْيُراجِعْ " أعلام الموقِّعين " الذي يُعَدّ ـ فيما وَقَفْتُ عليه ـ أَكْثَر المَراجع الأصوليّة جَمْعاً لها حينما حَصَرَها في تسعة وتسعين دليلاً (2) .
ثانياً - أدلّة المذهب الثاني :(1/35)
اسْتَدَلّ ابن حَزْم ـ رحمه الله تعالى ـ على عدم حُجِّيَّة سَدّ الذّرائع بأدلّة أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوْله تعالى { وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِين } (3) ..
وجْه الدلالة : أنّ الله تَبَارَك وتعالى فَصَّل لنا ما حَرَّم علينا
= مِن السابقين في الإسلام ، تَزَوَّج بِنْتَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 23 هـ .
الإصابة 4/456 - 459
(1) يُرَاجَع : أعلام الموقِّعين 3/143 والموافَقات 2/262
(2) يُرَاجَع أعلام الموقِّعين 3/137 - 159
(3) سورة الأنعام الآية 119
وأَوْجَب علينا اجتنابه ، والذّرائع في الأصل حلال وليست بيقين مِن الحرام ، ولِذا كانت على حُكْم الحلال ؛ لأنّها ليست مِمَّا فُصِّل مِن الحرام (1) .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
ويُمْكِن مُنَاقَشَة هذا الدليل : بأنّا سَلَّمْنَا بأنّ الذّرائع في الأصل حلال وليست بيقين مِن الحرام ؛ لكنْ لا نُسَلِّم أنّها ليست مِمَّا فُصِّل مِن الحرام ؛ فسَبّ الآلهة التي تُعْبَد مِن دُون الله مباح وجائز ، لكنّ الشَّرْع حَرَّمه حتّى لا يَكون ذريعةً لِسَبّ الله تعالى ، كما أنّ النصوص الشَّرْعيَّة ذَكَرَتْ أصول الأحكام ونَصَّتْ على بعضها ، والبعض الآخَر لم يُنَصّ عليه لكنْ يُسْتَخْرَج على ضَوْئها .
الدليل الثاني : قوْله تَبارَك وتعالى { وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئا } (2) ، وقوْله - صلى الله عليه وسلم - { الظَّنُّ أَكْذَبُ الْحَدِيث } (3) ..
وجْه الدلالة : أنّ الله تَبَارَك وتعالى بَيَّن لنا أنّ الظَّنّ لا يُغْنِي(1/36)
(1) يُرَاجَع الإحكام لابن حَزْم 6/180
(2) سورة النجم الآية 28
(3) أَخْرَجه البخاري في كتاب الأدب : باب النهي عن التحاسد والتدابر برقم ( 5604 ) ومُسْلِم في كتاب البِرّ والصلة والآداب : باب تحريم الظَّنّ والتَّجَسُّس والتّنافس والتّناجش ونَحْوها برقم ( 4646 ) والترمذي في كتاب البِرّ والصلة عن رسول الله : باب ما جاء في ظنّ السوء برقم ( 1911 ) ، كُلّهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
مِن الحقّ شيئاً ، وسَدّ الذّرائع عملٌ باحتياط لم يُسْتَيْقَنْ أمْره أو بشيء خوْفَ ذريعةٍ إلى ما لم يَكُنْ بَعْدُ ، وهذا حُكْم بالظَّنّ ، وإذا حكم بالظَّنّ فقَدْ حكم بالكذب والباطل ، فدَلّ ذلك على أنّ قَطْع الذّرائع حرام ولا يجوز (1) .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وأَرَى مُنَاقَشَة هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ الظَّنّ المَنْهِيّ عنه : ما كان عن هوىً وإثْم أو في العقيدة ولا نُسَلِّم أنّ كُلّ ظنّ حرام ومَنْهِيّ عنه ؛ لأنّ الأحكام الشَّرْعيَّة غالِبها مَبْنِيّ على الظَّنّ ، ومنها سَدّ الذّرائع .
الوجه الثاني : لا نُسَلِّم أنّ العمل بسَدّ الذّرائع عملٌ باحتياط لم يُسْتَيْقَنْ أمْره بلْ هو سَدّ لِوسيلة تُوصل إلى الحرام قَطْعاً أو غالباً .
الدليل الثالث : أنّ سَدّ الذّرائع فيه تحريم لِلمباح ، وحينئذٍ يَكون المباح محظوراً ، وهذا فاسِد لا يقوله إلا جاهِل أو كافِر ؛ لأنّه يَنْسِب إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إباحة الشيء لِلناس ونَهْيهم عنه في وقْت واحد ، وهذا مُحَال لا يَقْدِر عليه أحد ، فدَلّ ذلك على أنّ الذّرائع لا تُسَدّ (2) .
(1) الإحكام لابن حَزْم 6/189
(2) يُرَاجَع الإحكام لابن حَزْم 6/182
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وأَرَى مُنَاقَشَة هذا الدليل مِن وجْهيْن :(1/37)
الوجه الأول : أنّ سَدّ الذّرائع لا يَترتب عليها تحريم أيّ مباح حتّى يَكون المباح محظوراً ، وإنّما تحريم المباح المُوصل إلى الحرام قَطْعاً أو غالباً .
الوجه الثاني : أنّ المُحَال هو اجتماع الإباحة والتحريم في وقْت واحد ، وهو غَيْر مُتَحَقِّق في سَدّ الذّرائع ؛ لأنّ تحريم الوسيلة لم يَصْدُرْ وقْت الإباحة ، وإنّما في حالة توصلها إلى الحرام قَطْعاً أو غالباً ، فكأنّها إباحة مُقَيَّدة بعدم التوصل إلى الحرام .
الدليل الرابع : أنّ الشريعة كما حَسَمَت المَضَارّ أَثْبَتَتْ جواز التوصل إلى الأغراض وإسقاط العقوبات بالشبهات ، ولم تَحْمِلْنَا على القتل لِمَن قَتَل بالعصا الصغيرة إذا قامت بقتله بَيِّنَة هي شاهِد وامرأتان ، وغَيْر ذلك مِن الأسباب التي تُسْقِط الاستيفاء ، ولو كان القصدُ الاحتياطَ لَمَا بَنَاه الشَّرْع على الدرء والإسقاط ؛ لأنّهما ضدّان وحيث إنّ الذريعة مبنيّة على الاحتياط وهو غَيْر مُعْتَبَر فدَلّ ذلك على أنّها غَيْر مُعْتبَرَة شرعاً (1) .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وهذا الدليل مردود عندي : بأنّ الذريعة المُتَيَقَّن توصلها إلى
(1) الواضح 2/76 بتصرف .
الحرام أَخَذَتْ حُكْمه ، ولِذا يُصْبِح تَرْكها واجباً وليس احتياطاً ، وتَرْك الذريعة يَكون احتياطاً إنْ كان توصلها إلى الحرام ليس غالباً وهذه عَدّها البعض (1) غُلُوّاً في سَدّ الذّرائع .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على أدلّة مذاهب الأصوليّين في حُجِّيَّة سَدّ الذّرائع أَرَى أنَّه يُمْكِن التوصل إلى ما يلي :
1- أنّ أدلّة المذهب الأول القائل بحُجِّيَّة سَدّ الذّرائع جاءت صريحةً ومباشِرةً في تحريم الوسائل التي تُفْضِي إلى الحرام : كالنهي عن سَبّ آلهة المُشْرِكين منعاً لِسَبّ الذّات العليّة .(1/38)
2- أنّ أدلّة المذهب الثاني التي انْفَرَد بها ابن حَزْم ـ رحمه الله تعالى ـ في عدم الأخذ بسَدّ الذّرائع وأنّها ليست حُجَّةً جاءت بعيدةً عن محلّ الاستدلال وغَيْر مباشرة .
وإنّي لأَعْجَب كيْف يطالِبنا ابن حَزْم ـ رحمه الله تعالى ـ بنَصّ أو إجماع على حُجِّيَّة سَدّ الذّرائع ـ ولِذا فإنّه لم يَعْتَرِفْ بأدلّة الجمهور وعارَضها ـ ثُمّ يأتي بأدلّة ليس فيها نَصّ ولا إجماع يشير مِن قريب أو بعيد إلى عدم حُجِّيَّة سَدّ الذّرائع !
3- أنّ أدلّة المذهب الأول قَدْ سَلِمَتْ جميعها مِن المُنَاقَشَة
(1) يُرَاجَع البحر المحيط 6/85
والاعتراض ، ولم تَسْلَمْ أدلّة المذهب الثاني مِن ذلك .
4- ومِمَّا تَقَدَّم يَكون الراجح عندي : ما عليه الجمهور أصحاب المذهب الأول القائلون بأنّ الذّرائع حُجَّة وأنَّه يجب قَطْعها فيما يُوصل إلى الحرام .
5- أنّي أُرَجِّح عدم اعتبار سَدّ الذّرائع دليلاً مستقِلاًّ كما ذَهَب الشافعية والحنفية ؛ لأنّها تابعة في ذلك لِمقدِّمة المحظور والحرام ، فتُسَدّ وتُحَرَّم قياساً على مقدِّمة الواجب ، حيث لم يَقُلْ أحد أنّها دليل .
6- كما أُرَجِّح وجوب سَدّ الذّرائع في كُلّ ذريعة تُفْضِي إلى الحرام قَطْعاً ، أمَّا إذا لم تَكُنْ كذلك فيَخْتَلِف حُكْم كُلّ حالة بحسب نسبة إفضائها إلى الحرام : فإنْ غلب الظَّنّ على أنّها تُوصل إلى الحرام كان سَدّها وقَطْعها هو الأَوْلى ، وإنْ غلب الظَّنّ على أنّها لا تُوصل إلى الحرام كان عدم قَطْعها وسَدّها هو الأَوْلى .
7- كما أُرَجِّح ـ أيضاً ـ عدم التوسع في سَدّ الذّرائع ؛ حتّى لا نُضَيِّق واسعاً ولا نُغْلِق أبواباً كثيرةً مِن الحلال .
وفي ذلك يقول أبو زهرة رحمه الله تعالى :" وإنّ الأخذ بالذّرائع لا تَصِحّ المبالَغة فيه ؛ فإنّ المُغْرِق فيه قَدْ يَمْتَنِع عن أمْر مباح أو مندوب أو واجب خشيةَ الوقوع في ظُلْم : كامتناع بعض(1/39)
العادلين عن تَوَلِّي أموال اليتامى أو أموال الأوقاف خشيةَ التهمة مِن الناس أو خشيةً على أنْفُسهم مِن أنْ يَقَعوا في ظُلْم ، ولأنّه لُوحِظ أنّ بعض الناس قَدْ يَمْتَنِع عن أمور كثيرة خشيةَ الوقوع في الحرام " (1) ا.هـ .
(1) أصول الفقه لأبي زهرة /275
المطلب الرابع
فَتْح الذّرائع
اتَّفَق العلماء على أنّ الذريعة التي تُفْضِي إلى الحرام قَطْعاً مُحَرَّمة ويجب سدّها ، ولكن هناك حالات تَكون وسيلةً لِلمُحَرَّم لكنّها غَيْر مُحَرَّمة ، وهو ما يُسَمَّى بـ" فَتْح الذّرائع " ..
وشَرْط هذا الاستثناء : أنْ تُفْضِي هذه الوسيلة إلى مَصْلَحَة راجحة ..
ومِن هذه الحالات ما يلي :
الحالة الأولى : دَفْع مالٍ لافتداء أَسْرَى المُسْلِمين مِن عَدُوّهم ؛ فأصْل دَفْع مالٍ لِلمحارب حرام ؛ لأنّه تَقْويَة لهم وإضعاف لِلْمُسْلِمين لكنْ في دَفْعه مصلحة تَلْحَق المُسْلِمين في إطلاق سراح الأسرى وتقوية لِشَوْكة المُسْلِمين وقُوّتهم ، وهذا مِن قَبِيل فَتْح الذّرائع لا سَدّها .
الحالة الثانية : دَفْع مالٍ لِدولة محاربة حتّى نأمَن شَرّها وأذاها عندما لم يَكُنْ لِلمُسْلِمين قوّة يَرُدّون بها كيْدها .
الحالة الثالثة : دَفْع مالٍ لِدَفْع الظالم أو مَن يَقْطَعون الطريق
ويَمْنَعون الوصول إلى البيت الحرام ؛ فقَدْ أجاز ذلك بعض المالكية وبعض الحنابلة (1) .
(1) يُرَاجَع : شَرْح تنقيح الفصول /449 وأصول الفقه لأبي زهرة /274
المطلب الخامس
الفَرْق بَيْن الذّرائع والحِيَل
بَعْد الوقوف على حقيقة الذّرائع وأقسامها وحُكْمها وَجَب علينا أنْ نُحَدِّد العلاقة بَيْنها وبَيْن الحِيَل ؛ حتّى لا يَلْتَبِس على البعض أنّهما سواء ..
ولِتحديد هذه العلاقة علينا أنْ نَسْتَعْرِض ما يلي :
1- تعريف الحِيَل .
2- أقسامها وحُكْمها .
3- مقارَنة بَيْن الحِيَل والذّرائع .
ونُوجِز القول في كُلّ واحد منها فيما يلي :
أوّلاً - تعريف الحِيَل :(1/40)
والحِيَل لغةً : جَمْع " حيلة " .
والحِيلَة بالكَسْر : الاسم مِن " الاحتيال " ، وهي الحذق وجودة النظر والقدرة على دقة التصرف (1) .
(1) يُرَاجَع : لسان العرب لابن منظور 11/185 ، 196 والصحاح 4/1681 ، 1682 والقاموس المحيط 1/8825
واصطلاحاً : عَرَّفَها القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ بأنّها : لَفْظ عامّ لأنواع أسباب التخلص (1) .
وعَرَّفها الراغب الأصفهاني (2) ـ رحمه الله تعالى ـ بأنّها : ما يُتَوَصَّل به إلى حالةٍ ما في خفيَة (3) .
وعَرَّفها الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ بأنّها : تقديم عملٍ ظاهرِ الجواز لإبطال حُكْم شَرْعيّ وتحويله في الظاهر إلى حُكْم آخَر (4) .
وأَرَى : أنّ تعريفَي القرطبي والراغب الأصفهاني ـ رحمهما الله تعالى ـ يَتَّفِقان مع التعريف اللغوي ، والجامع بَيْنهما هو : القدرة على دقّة التصرف .
أمَّا تعريف الشاطبي : فإنّه قاصِر ـ في نظري ـ على تعريف الحِيَل المُحَرَّمة ، ولِذا فهو مُسْتَبْعَد ؛ لأنّنا نُعَرِّف الحِيَل بصفة عامّة .
(1) تفسير القرطبي 5/347
(2) الراغب الأصفهاني : هو أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل رحمه الله تعالى ، أديب لغويّ مُفَسِّر حكيم ..
مِن مصنَّفاته : مفرَدات ألفاظ القرآن ، تحقيق البيان في تأويل القرآن .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 502 هـ .
معجم المؤلِّفين 4/59
(3) المفرَدات /193
(4) الموافَقات 4/132
والأَوْلى عندي : تعريف القرطبي رحمه الله تعالى ؛ لأنّ الحِيَل ليس كُلّها مُحَرَّماً كما ذَهَب بعض العلماء (1) ، ولِذا عَدّ البعضُ الحِيَلَ الشَّرْعيَّة عِلْماً وباباً مِن أبواب الفقه كالفرائض (2) .
أقسام الحِيَل وحُكْمها :
والحِيَل تَنْقَسِم إلى قِسْميْن : حِيَل مذمومة ، وحِيَل محمودة وجائزة .
وفي ذلك يقول الراغب الأصفهاني رحمه الله :" وأَكْثَر استعمالها فيما في تَعاطيه خُبْث ، وقَدْ تُسْتَعْمَل فيما فيه حكمة " (3) ا.هـ .(1/41)
ونُفَصِّل القول في كُلّ قِسْم منهما فيما يلي ..
القِسْم الأول : حِيَل مذمومة :
وهي التي تُوصل إلى استحلال المُحَرَّم وإبطال الحقوق وإسقاط الواجبات .
مثالها : مَن وَهَب ماله لِغَيْره قَبْل الحَوْل فراراً مِن الزكاة ثُمّ اسْتَرَدّه بَعْد ذلك ؛ فهذه حيلة باطلة ؛ لأنّ فيها إسقاطاً لِلواجب وهروباً مِن الزكاة (1) .
(1) يُرَاجَع : المُبْدِع 8/151 وكشّاف القناع 5/436 والمدخل /296 ، 297
(2) يُرَاجَع أَبْجَد العلوم 2/259
(3) المفردَات /193
(4) يُرَاجَع الموافَقات 4/132
حُكْمها : والحِيَل المذمومة مُحَرَّمة وباطلة ..
ودليل ذلك : قوْله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَ الْيَهُودُ فتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الحِيَل } (1) .
ولِذا قال الجمهور : إنّ الزكاة لا تسقط عن الفارّ بالهبة أو التصرف قَبْل الحَوْل ، وكذلك لا تسقط الكفّارة فيمَن أَفْطَر ثُمّ جامَع (2) .
والحنفية اعْتَبَروا الحِيَل وأجازوها بشَرْط أنْ لا يَقْصِد المحتال إبطال الحُكْم ؛ فإنّ هذا القصد بخصوصه ممنوع ؛ لأنّه عِنَاد لِلشارع : كما إذا امْتَنَع عن أداء الزكاة ، فلا يخالِف أبو حنيفة - رضي الله عنه - في أنّ قَصْد إبطال الأحكام سراحاً ممنوع ، وأمَّا إبطاله ضِمْناً فلا ؛ وإلا امْتَنَعَت الهبة عند رَأْس الحَوْل مُطْلَقاً (3) .
ومِمَّا تَقَدَّم تَكون الحِيَل باطلةً إذا قَصَد المحتال إبطال الحُكْم ، أمَّا إذا لم يَقْصِدْ ذلك : فهي جائزة عند الحنفية ، غَيْر جائزة عند الجمهور .
فالجمهور يَعتبرونها في الحِيَل ، فإنْ آلت إلى إبطال حُكْم
(1) أَخْرَجه ابن بطة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بإسناد جَيِّد ..
يُرَاجَع : تفسير ابن كثير 1/108 والمُغْنِي لابن قدامة 7/276
(2) يُرَاجَع أعلام الموقِّعين 3/241 ، 246 ، 247
(3) الموافَقات 4/132
أو إسقاط واجب فهي باطلة ، دُون اعتبار لِقَصْد المحتال .(1/42)
وهذا يَرْجِع ـ فيما أَرَى ـ إلى العِبْرَة في الحِيَل : هلْ هي المَقاصد أو المآلات ؟
والحنفية يَعتبرون قَصْد المحتال ؛ فإذا لم يَقْصِدْ إبطال الحُكْم فليست باطلةً حتّى وإنْ آلت إلى إبطال حُكْم أو إسقاط واجب .
والراجح عندي : ما عليه الجمهور ؛ لأنّنا لو رَبَطْنَا حُكْم الحِيَل بالمَقاصد لأَبْطَلْنَا كثيراً مِن الأحكام وأَسْقَطْنَا كثيراً مِن الواجبات بحُجَّة عدم القصد ، والأَوْلى رَبْطها بمآلات الأفعال ؛ فإنْ آلت إلى مُحَرَّم كانت مُحَرَّمةً وباطلةً ، ولا عِبْرَة بقصد المحتال .
القِسْم الثاني : حِيَل محمودة :
وهي التي تُوصل إلى كُلّ فِعْل مباح ، واجباً كان أم مندوباً أم مباحاً .
مثالها : الحيلة على هزيمة الكفّار كما فَعَل نُعَيّم بن مسعود - رضي الله عنه - (1) يَوْم الخندق .
(1) نُعَيم بن مسعود : هو الصّحابيّ الجليل أبو سلمة نُعَيم بن مسعود بن عامر الغطفاني الأشجعي - رضي الله عنه - ، أَسْلَم في وقعة الخندق ، وأَوْقَع الخلاف بيْن اليهود والمشرِكين فتَنازَعوا ورحلوا عن المدينة ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - في خلافة عثمان رضي الله عنهما ، وقيل : في وقعة الجمل .
أسد الغابة 5/33 والإصابة 3/568
وكذلك : حيلة محمد بن مسلمة - رضي الله عنه - (1) في قَتْل كَعْب
ابن الأشرف (2) (3) .
ومنها : فَتْوَى الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - فيمَن حَلَف لا يأكل مِن هذا الخبز فأَكَله بَعْدما تَفَتَّت لا يَحْنُث ؛ لأنّه لا يُسَمَّى " خبزاً " ، وفي حيلة أكْله يَدُقّه فيلقيه في عصيدة ويُطْبَخ حتّى يصير الخبز هالكاً (4) .
حُكْمها : وهذه الحِيَل جائزة وحلال ولا إثْم في فِعْلها ، وقَدْ يثاب على ذلك .
ودليل جواز هذه الحِيَل : قوْله تَبارَك وتعالى { إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَنِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا } (5) .(1/43)
وكذلك : فِعْل الصحابة لها بِعِلْم النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - دليل على جوازها .
(1) محمد بن مسلمة : هو الصّحابيّ الجليل أبو عبد الرحمن محمد بن مسلمة بن سلمة الأوسي الأنصاري - رضي الله عنه - ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 46 هـ .
سِيَر أعلام النبلاء 2/369 والإصابة 6/33
(2) هو طاغية اليهود كَعْب بن الأشرف ، مِن يهود بني النضير ، وكان شاعراً اشتهَر بإيذائه وهجائه لِلنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ولِلمُسْلِمين .
(3) يُرَاجَع : مختصر سيرة ابن هشام /134 ، 135 ونور اليقين /122 ، 123
(4) يُرَاجَع البحر الرائق 4/350
(5) سورة النساء الآية 98
ثالثاً : الفَرْق بَيْن الحِيَل والذّرائع :
ومِمَّا تَقَدَّم يَتَّضِح لنا أنّ الحِيَل والذّرائع كُلٌّ منهما وسيلة إلى غَيْره ، كما أنّ كُلّ واحد منهما يَنْقَسِم إلى قِسْمَيْن : جائز ، وغَيْر جائز .
إلا أنَّه يُمْكِن التوصل إلى فَرْقَيْن بَيْنهما :
الفَرْق الأول : أنّ الحِيَل المذمومة تَتَّفِق مع سَدّ الذّرائع في أنّ كُلاًّ منهما مُوصل إلى الحرام ، إلا أنّ الحِيَل الممنوعة أو المذمومة تُبْطِل حُكْماً شرعيّاً وتُحَوِّله في الظاهر إلى حُكْم آخَر ..
وفي سَدّ الذّرائع : الحرام في الأصل مُحَدَّد ومعلوم ، ولِذا وَجَب قَطْع طريقه ووسيلته ( ذريعته ) ، وليس في ذلك تحويل أو قَلْب لِحُكْم جائز إلى حُكْم غَيْر جائز وممنوع .
الفَرْق الثاني : أنّ الحِيَل المحمودة والجائزة غايتها التوصل إلى فِعْل مباح مندوباً كان أم واجباً أم مباحاً ..
أمَّا سَدّ الذّرائع : فإنّها تَمْنَع الفعل المباح لإفضائه إلى الحرام .(1/44)
ومِن هُنَا كانت الحِيَل المحمودة والجائزة مناقِضةً لِسَدّ الذّرائع ، أمَّا الحِيَل الممنوعة فإنّها مُتَّفِقة مع سَدّ الذّرائع في الحرمة ، بلْ حُرْمتها أَشَدّ وأَوْلى ، وتجويز هذه الحِيَل الممنوعة ـ ولا أَظُنّ أنّ أحداً يَقُوله ـ يَجْعلها مناقِضةً لِسَدّ الذّرائع .
وعلى هذا أَوَّلْتُ قوْل ابن القيّم رحمه الله تعالى :" وتجويز الحِيَل يناقِض سَدّ الذّرائع مناقَضةً ظاهرةً ؛ فإنّ الشارع يَسُدّ الطريق إلى المَفاسد بِكُلّ مُمْكِن ، والمحتال يَفْتَح الطريق إليها بحيلة فأيْن مَن مُنِع مِن الجائز خشيةَ الوقوع في الحرام إلى مَن يُعْمِل الحيلة في التوصل إليه ؟! " (1) ..
وواضِح مِن عبارة ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ أنَّه يَقْصِد بتجويز الحِيَل : الحيلَ الممنوعةَ في قوْله :" فأيْن مَن مُنِع مِن الجائز خشيةَ الوقوع في الحرام إلى مَن يُعْمِل الحيلة في التوصل إليه ؟! "
(1) أعلام الموقِّعين 3/159
المبحث الثالث
أَثَر سَدّ الذّرائع في الأحكام
وفيه تمهيد وثلاثة مطالب :
التمهيد في : أثر القواعد الأصوليّة في الأحكام الشَّرْعيَّة .
المطلب الأول : أَثَر سَدّ الذّرائع في القواعد الفقهيّة .
المطلب الثاني : بَيْع العِينة .
المطلب الثالث : بعض الفروع الفقهيّة المبنيّة على سَدّ الذّرائع .
تمهيد في
أثر القواعد الأصوليّة في الأحكام الشَّرْعيَّة
لَمّا كان أصول الفقه هو العِلْم بالقواعد التي يُتَوَصَّل بها إلى استنباط الأحكام الشَّرْعيَّة الفَرْعيَّة مِن أدلّتها التَّفْصِيليَّة (1) فإنّ غاية هذا العِلْم وهدفه الأول هو إرساء القواعد التي تُسْتَخْرَج الأحكام على ضَوْئها ، ومِن هُنَا كانت العلاقة بَيْن القواعد الأصوليّة والأحكام الشَّرْعيَّة علاقةً وطيدةً ؛ فالأحكام في شريعتنا لا تَصْدُر بِلا قواعد ولا أصول .(1/45)
وفي المقابِل لا تُوجَد قواعد أصوليّة لا يستفاد منها في استخراج الأحكام ؛ لأنّها تُصْبِح ـ حينئذٍ بِلا ثمرة ولا فائدة .
وفي ذلك يقول الشاطبي رحمه الله تعالى :" كُلّ مسألة مرسومة في أصول الفقه لا يُبْنَى عليها فروع فقهيّة أو أبواب شرعيّة أو لا تَكون عوناً في ذلك فوَضْعها في أصول الفقه عارية " (2) ا.هـ .
ولِذا .. فقَدْ آثَرْتُ ـ كما هو منهجي دائماً ـ تذييل بَحْثي هذا
(1) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 1/19
(2) الموافَقات 1/17
بمبحث تطبيقيّ أُثْبِت مِن خلاله عدم وجود جمود في القواعد الأصوليّة ، كما أُثْبِت ـ أيضاً ـ عُمْق العلاقة بَيْن الفقه والأصول ، وكيْف اسْتَخْرَج الفقهاءُ الأحكامَ على ضَوْء هذه القواعد .
ومِن خلال بَحْثي ودراستي لِقاعدة سَدّ الذّرائع اتَّضَح أنّها أَثَّرَتْ في الأحكام تأثيراً عظيماً ، بَدَا ذلك في بعض القواعد والفروع الفقهيّة .
وقَدْ خَصَّصْتُ مطلباً لأثَر سَدّ الذّرائع في القواعد الفقهيّة ، ومطلباً ثانياً لِبَيْع العِينة مُنْفَرِداً ؛ لأنّه كان محلاًّ لِنزاع كبير بَيْن العلماء ، ومطلباً ثالثاً لِبعض الفروع الفقهيّة المبنيّة على سَدّ الذّرائع .
المطلب الأول
أَثَر سَدّ الذّرائع في القواعد الفقهية
إنّ الناظر في القواعد الفقهية يَرَى أنّ هناك قواعد مَبْنِيّةً ومُرْتَبِطةً بسَدّ الذّرائع ، نَذْكُر منها هذه القواعد الثلاث :
القاعدة الأولى : ( مَن اسْتَعْجَل شيئاً قَبْل أوانه عُوقِب بحرمانه ) .
ومِن فروعها :
1- حرمان القاتل مِن الميراث ..
وجْه التفريع : أنّا لو وَرَّثْنَا القاتل مِن قتيله ( مُوَرِّثه ) لَكان في ذلك ذريعة لِقَتْل الوارثين مُوَرِّثيهم ، ولِذا حَرَّم الشَّرْع توريثهم ؛ سدّاً وقَطْعاً لِهذه الذريعة المُوصلة إلى الحرام ، وهي في ذاتها حرام .
2- تخليل الخمر بطَرْح شيء فيها لا يُطَهّرها (1) ..(1/46)
وجْه التفريع : أنّ الخمر المتخلَّلة بطرح شيء فيها لو حَكَمْنَا بطهارتها لَكان ذلك ذريعةً لِطرْح شيء في الخمر لِتُصْبِح خَلاًّ ، فسَدّاً لِهذه الذريعة حَكَم الشَّرْع بنجاستها .
(1) تُرَاجَع هذه القاعدة وفروعها في : الأشباه والنظائر لِلسيوطي /195 ، 196
القاعدة الثانية : ( ما حَرُم استعماله حَرُم اتخاذه ) .
ومِن فروعها :
1- اتخاذ آلات الملاهي ..
وجْه التفريع : أنّ استعمال آلات الملاهي مُحَرَّم ، فكذلك ما كان وسيلةً إليه ، واتخاذها في البيوت دُون استعمالها ذريعة لِلاستعمال ، فسَدّاً لِهذه الذريعة حَرَّم الشَّرْع اتخاذها في البيوت .
2- اتخاذ الخَمْر والحرير (1) ..
وجْه التفريع : أنّ شُرْب الخَمْر ولِبْس الحرير كِلاَهما مُحَرَّم ، والثاني حُرْمته قاصرة على الرجال ، ولَمّا كان اتخاذ الخَمْر والحرير دُون استعمالهما ذريعةً لِلمُحَرَّم ـ وهو الاستعمال ـ حَرَّم الشَّرْع اتخاذهما سدّاً لِذريعة الاستعمال وهو المُحَرَّم .
القاعدة الثالثة : ( إذا اجْتَمَع الحلال والحرام غلب الحرام ) .
ومِن فروعها :
1- إذا اشْتَبَهَتْ مَحْرَم بأجنبيّات محصورات لم تَحِلّ ..
وجْه التفريع : أنّ نكاح المَحارم حرام ، ونكاح الأجنبيّات المحصورات ذريعة لِذلك ، ولِذا حَرَّم الشَّرْع نكاح الجميع خشيةَ الوقوع في الحرام وهو نكاح المَحارم .
(1) تُرَاجَع هذه القاعدة وفروعها في : الأشباه والنظائر لِلسيوطي /193
2- إذا اشْتَبَه مُذَكَّى بمَيْتَة لم يَجُزْ تَناوُل شيء منها (1) ..
وجْه التفريع : أنّ أكْل المَيْتَة مُحَرَّم ، وأكْل المُذَكَّى المشتبِه بالمَيْتَة ذريعة لِذلك ، ولِذا حرم الأكل منهما سدّاً لِذريعة الوقوع في الحرام وهو أكْل المَيْتَة .
(1) تُرَاجَع هذه القاعدة وفروعها في : الأشباه والنظائر لِلسيوطي /139 ، 140
المطلب الثاني
بَيْع العِينة(1/47)
بَيْع العِينة هو : أنْ يَبِيع سلعةً بثَمَن معلوم إلى أَجَل ثُمّ يشتريها مِن المُشْتَرِي بأَقَلّ لِيبقى الكثير في ذمّته (1) .
حُكْم بَيْع العِينة :
اخْتَلَف العلماء في حُكْم بَيْع العِينة على أقوال :
القول الأول : حرمة بَيْع العِينة .
وهو ما عليه جمهور العلماء مِن الحنفية والمالكية والحنابلة (2) .
واسْتَدَلّوا لِذلك بأدلّة ، منها :
الدليل الأول : قوْل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - { إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُم } (3) ..
(1) يُرَاجَع : كَشْف الأسرار لِعلاء الدين البخاري 3/409 والشرح الكبير لِلدردير /89 والمُغْنِي لابن قدامة 4/256
(2) سُبُل السلام 3/42
(3) أَخْرَجه أبو داود في كتاب البيوع : باب في النهي عن العِينة برقم ( 3003 ) وأحمد في مُسْنَد المُكْثِرين مِن الصحابة برقم ( 4765 ) ، كلاهما عن عبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما .
وجْه الدلالة : أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَر بَيْع العِينة ضِمْن أسباب أو أصناف أربعة تَسْتَجْلِب نزول البلاء وتسليط الذُّلّ على المُسْلِمين ، وكِلاَهما لا يَحْدُث إلا بأمر مُحَرَّم ، فدَلّ ذلك على حرمة بَيْع العِينة (1) .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :(1/48)
وأَرَى مُنَاقَشَة هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم لكم أنّ الحديث دالّ على حرمة بَيْع العِينة لأنّها أحد أسباب نزول البلاء والذُّلّ ، وإنّما السبب الحقيقيّ لِذلك هو آخِر الأصناف الأربعة ، وهو : تَرْك الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام ، الذي إنْ تَرَكْنَاه حَلّ البلاء والذُّلّ والمهانة ، ولِذا كان تَرْكه حراماً ، وأمَّا الأصناف الثلاثة الأُولى ـ وهي : بَيْع العِينة ، والأخذ بأذناب البقر ، والرضا بالزرع ـ فما هي إلا إحدى نبوءات النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لِمَا سيَكون عليه حال أُمّته في آخِر الزمان ، وليس تحريماً لها .
واليوم في عَصْرنا الحاضر قَدْ تَحَقَّقَتْ هذه الأصناف الأربعة ، فحَلّ الذُّلّ بالأُمَّة بتَرْكهم الجهاد ، أمَّا الأصناف الثلاثة الأُولى فقد انْتَشَرَتْ بصورة لم يَسْبِقْ لها نظير ؛ فقَدْ رَأَيْنَا مَزارع لِلأبقار حتّى في أرْض الجزيرة العربية ، ومَزارع لِلفواكه والحبوب ،
(1) يُرَاجَع نَيْل الأوطار 5/206 - 208
وابتاع الناس وتَعامَلوا بالعِينة ، وشاع ذلك في مجتمَعاتنا الإسلامية فلو حَرَّمْنَا بَيْع العِينة بمُقْتَضَى هذا النَّصّ لَكان مِن باب أَوْلى تحريم إنشاء أو إقامة مَزارع البقر وزراعة المحاصيل الزراعية حبوباً وخضاراً وفاكهةً ، وهذا ما لم يَقُلْ به أحد ، فدَلّ ذلك على جواز بَيْع العِينة .(1/49)
الدليل الثاني : قوْل السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ حينما أُخْبِرَتْ أنّ زَيْد بن أَرْقَم - رضي الله عنه - (1) ابتاع عبداً مِن امرأة بألْف درهم إلى أَجَل ثُمّ ابتاعته منه بخمسمائة حالّة :" بِئْسَمَا بِعْتِ وَبِئْسَمَا اشْتَرَيْتِ .. أَخْبِرِي زَيْداً أَنَّهُ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلاَّ أَنْ يَتُوب " ، فقالت المرأة السائلة :" أرأيتِ إنْ أَخَذْتُ رأْس مالي ورَدَدْتُ عليه الفضل ؟ " فقالت :" { فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَف } (2) " (3) ..
وجْه الدلالة : أنّ السيدة عائشة رضي الله عنها بَيَّنَتْ أنّ هذا
(1) زَيْد بن أَرْقَم : هو الصّحابيّ الجليل أبو عمرو سيدنا زَيْد بن أَرْقَم بن زَيْد بن قَيْس الخزرجي الأنصاري - رضي الله عنه - ، غَزَا مع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - سَبْع عشرة غزوةً ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالكوفة سَنَة 66 هـ .
سِيَر أعلام النبلاء 3/165 - 168 والإصابة 2/589
(2) سورة البقرة مِن الآية 275
(3) يُرَاجَع : كَشْف الأسرار لِلبخاري 3/409 وتخريج الفروع على الأصول /180 ، 181
البيع ( بَيْع العِينة ) مِن زَيْد بن أَرْقَم - رضي الله عنه - أَبْطَل جهادَه وأَحْبَط عَمَلَه ، ولا يُحْبِط العملَ إلا مُحَرَّم ، فدَلّ ذلك على حرمة بَيْع العِينة .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نُوقِش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : ما احْتَجّ به الإمام الشافعي - رضي الله عنه - بضَعْف هذا الدليل ؛ لأنَّه لا يَثْبُت ؛ لِوجود مجهولين فيه .
الوجه الثاني : سَلَّمْنَا ـ جَدَلاً ـ ثبوت هذا الأثر ، وحينئذٍ تَكون السيدة عائشة رضي الله عنها عابت عليها بَيْعها إلى العطاء ؛ لأنّه أَجَل غَيْر معلوم ، وهذا ما لا نجيزه ، لا أنّها عابت عليها ما اشْتَرَتْ بنَقْد وقَدْ باعَتْه إلى أَجَل .(1/50)
وإذا اخْتَلَف بعض أصحاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في شيء كان أصْل ما نَذْهَب إليه أنّا نأخذ بقول الذي معه قياس ، والذي معه القياس قوْل زَيْد - رضي الله عنه - لا يبيع إلا ما يَرَاه حلالاً ولا يبتاع إلا مِثْله ، ولو أنّ رَجُلاً باع شيئاً أو ابتاعه نَرَاه نَحْن حراماً وهو يَرَاه حلالاً لم نَزْعُمْ أنّ الله تعالى يُحْبِط مِن عملِه شيئاً .
والقياس الذي رَجَّح قوْل زَيْد - رضي الله عنه - : أنّ المِلْك في المَبِيع قَدْ تَمّ بالقبض لِلمُشْتَرِي ، فيَجوز بَيْعه مِن البائع بما شاء كالبيع مِن غَيْره
وكالبيع بمِثْل الثَّمَن منه (1) .
الدليل الثالث : أنّ الربا حرام ، وما كان ذريعةً إليه كان كذلك ، وحيث إنّ بَيْع العِينة ذريعة إلى رباً فإنّه كان مُحَرَّماً ؛ سَدّاً لِذريعة الوقوع في الربا (2) .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ ناقَش الماوردي (3) ـ رحمه الله تعالى ـ هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم أنّ بَيْع العِينة ذريعة إلى الربا ، وإنّما هو سبب يَمْنَع مِن الربا الحرام ، وما مَنَع مِن الحرام كان ندباً ..
ألاَ تَرَى إلى حديث أبي سعيد الخدريّ - رضي الله عنه - (4) أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اسْتَعْمَل رَجُلاً على خيبر فجاءه بتمر جَنِيب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(1) الجوهر النَّقِي لابن التركماني مع السُّنَن الكبرى لِلبيهقي 5/231
(2) يُرَاجَع : سُبُل السلام 3/42 والحاوي الكبير 5/288
(3) الماوردي : هو القاضي أبو الحَسَن عَلِيّ بن محمد الماوردي البصري الشافعي رحمه الله ..
مِن مصنَّفاته : الحاوي الكبير ، أدب الدنيا والدِّين ، الإقناع في الفقه ، الأحكام السلطانية .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 450 هـ .
طبقات الشافعية الكبرى 5/267 - 269 وشذرات الذهب 3/285(1/51)
(4) أبو سعيد الخدري : هو الصّحابيّ الجليل أبو سعيد سيدنا سَعْد بن مالك بن سنان الخدريّ الأنصاريّ - رضي الله عنه - ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 74 هـ .
سِيَر أعلام النبلاء 1/96 والإصابة 3/77
{ أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا } قال :" لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاَثَة " فقال - صلى الله عليه وسلم - { لاَ تَفْعَلْ .. بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ وَاشْتَر بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبا } (1) ، والجَمْع هو التمر المختلِف الرديء ، والجَنِيب هو الجَيِّد ، فجعل ذلك ذريعةً إلى تَرْك الربا وندب إليه (2) .
القول الثاني : جواز بَيْع العِينة .
وهو قوْل الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ، وعليه الشافعية ، ورُوِي عن عبد الله بن عُمَر (3) رضي الله عنهما .
واحْتَجّوا لِذلك بأدلّة :
الدليل الأول : قوْله تعالى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوا } (4) ..
وجْه الدلالة : أنّ الله تَبَارَك وتعالى جَعَل البيع حلالاً
(1) أَخْرَجه البخاري في كتاب البيوع : باب إذا أراد بَيْع تَمْر بتمر خَيْر منه برقم ( 2050 ) ومُسْلِم في كتاب المساقاة : باب بَيْع الطعام مِثْلاً بمِثْل برقم ( 2984 ) والنسائي في كتاب البيوع : باب بَيْع التمر بالتمر متفاضِلاً برقم ( 4477 ) .
(2) يُرَاجَع الحاوي الكبير 5/289
(3) ابن عُمَر : هو الصّحابيّ الجليل أبو عبد الرحمن عبد الله بن عُمَر بن الخطّاب القرشي العدوي رضي الله عنهما ، أحد الأعلام في العِلْم والعمل ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بمكة سَنَة 74 هـ .
التاريخ الكبير 5/125 وتذكرة الحُفّاظ 1/37 والطبقات الكبرى لابن سعد 4/142 187
(4) سورة البقرة مِن الآية 275
والربا حراماً ، وبَيْع العِينة ليس رباً ولا شبيهه ، وإذا كان كذلك كان بَيْع العِينة حلالاً وجائزاً (1) .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :(1/52)
ويُمْكِن أنْ يناقَش هذا الدليل : بأنّ بَيْع العِينة فيه زيادة يَحْصُل عليها البائع ؛ لِلفَرْق بَيْن بَيْع الأَجَل بسعر أَكْثَر ويشتريه حالاًّ بسعر أَقَلّ ، وهذه الزيادة أمَارة الربا ، فدَلّ ذلك على أنّ بَيْع العِينة حرام لأنّه رِبا .
الجواب عن هذه المُنَاقَشَة :
ويُمْكِن رَدّ هذه المُنَاقَشَة : بأنّ الزيادة تَكون رِباً إذا كان عقداً واحداً ، أمَّا إذا كان عقْديْن مُنْفَصِليْن فلا ، وإنّما هُمَا عقدان صحيحان اسْتَوْفَيَا الأركان والشروط .
الدليل الثاني : ما رُوِي أنّ عُمَر بن الخطّاب - رضي الله عنه - (2) خَطَب النّاسَ فقال :" إِنَّ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَداً بِيَد " فقال له
(1) يُرَاجَع : أحكام القرآن لِلشافعي 1/653 وبداية المُجْتَهِد 2/107
(2) سيدنا عُمَر : هو أبو حفْص الفاروق عُمَر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى العدوي القرشي - رضي الله عنه - ، وُلِد سَنَة أربعين قَبْل الهجرة ..
مِن السابقين في الإسلام الذين أَعَزَّ الله بهم دينه ، تَوَلَّى الخلافة سَنَة 13 هـ ، وهو الخليفة الراشد الثاني ..
قُتِل - رضي الله عنه - شهيداً سَنَة 23 هـ .
الفتح المبين 1/54 - 57
عبد الرحمن بن عَوْف - رضي الله عنه - (1) :" فَنُعْطِي الْجَنِيبَ وَنَأْخُذُ غَيْرَه ؟ " قال :" وَلَكِنِ ابْتَعْ بِهَذَا عَرَضاً ، فَإِذَا قَبْضَتَهُ وَكَانَ لَهُ فِيهِ نِيَّةٌ فَاهْضِمْ مَا شِئْتَ وَخُذْ أَيَّ نَقْدٍ شِئْت " (2) ..
وجْه الدلالة : أنّ عُمَر - رضي الله عنه - أَمَر ببَيْع الجنيب ، فإذا قَبَضَه كان له الخيار بأنْ يَشْتَرِي غَيْرَه ، ولِذا كان هذا البيع جائزاً ومندوباً ؛ لأنّه ذريعة إلى تَرْك الربا وندب إليه .
الدليل الثالث : اتَّفَق العلماء على أنّ مَن باع السلعةَ التي اشتراها مِمَّنْ اشتراها منه بَعْد مُدّة فالبيع صحيح ، فلا فَرْق بَيْن التعجيل في ذلك والتأجيل ..(1/53)
فدَلّ على أنّ المُعْتَبَر في ذلك وجود الشرط في أصْل العقد وعدمه .
وإنْ تَشارَطَا على ذلك في نَفْس العقد فهو باطِل ، أو قَبْله ثُمّ وقع العقد بغَيْر شَرْط فهو صحيح ، ولا يخفى الوَرَع (3) .
القول الثالث : كراهة بَيْع العِينة .
(1) عبد الرحمن بن عَوْف : هو الصّحابيّ الجليل أبو محمد سيدنا عبد الرحمن بن عَوْف بن عبد عوف الزهري القرشي - رضي الله عنه - ، أحد العشرة المُبَشَّرين بالجَنَّة ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة ودُفِن بالبقيع سَنَة 32 هـ .
الإصابة 4/346 - 349
(2) فَتْح الباري 4/400
(3) فَتْح الباري 4/401 بتصرف .
وهو ما عليه بعض الحنفية والشافعية (1) .
ووُجْهتهم فيما أَرَى : أنّ بَيْع العِينة فيه مظنّة الوقوع في الربا ، والوقوع في الربا حرام ، وما غلب ظنّ إفضائه إلى الحرام كان مكروهاً ، ولِذا كان بَيْع العِينة مكروهاً ؛ سَدّاً لِذريعة الوقوع في الربا .
ويُمْكِن رَدّ هذا القول : بأنّا نُسَلِّم الحرمة أو الكراهة لِبَيْع العِينة إن تَيَقَّنَّا الوقوع في الربا أو غَلَب على الظَّنّ ذلك ، وكلاهما غَيْر مُتَحَقِّق في بَيْع العِينة ، ولِذا كان بَيْع العِينة حلالاً .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على أقوال العلماء في بَيْع العِينة يَتَّضِح لنا ما يلي :
1- أنّ أصحاب القول الأول حَرَّموا بَيْع العِينة لأنّه ذريعة إلى الربا واسْتَدَلّوا بأدلّة جميعها لم تَسْلَمْ مِن المناقَشة ، ولِذا كان القول الأول مبنيّاً على سَدّ الذّرائع .
2- أنّ أصحاب القول الثاني جَوَّزوا بَيْع العِينة ليس فتحاً لِلذرائع وعدم القول بسَدّها ، وإنّما لِلمنع مِن الوقوع في الحرام كما ذَكَر الماوردي ، وما مَنَع مِن الحرام كان ندباً ، فَبَيْع العِينة وسيلة
(1) يُرَاجَع : حاشية ابن عابدين 5/265 وروضة الطالبين 3/419
يَتَخَلَّص بها العاقدان مِن الربا (1) .(1/54)
3- أنّ أصحاب القول الثاني جَوَّزوا بَيْع العِينة بناءً على قاعدتهم ( العِبْرَة في العقود بالألفاظ لا بالنيات ) .
وفي ذلك يقول النووي (2) رحمه الله تَبارَك وتعالى :" لأنّ الاعتبار عندنا بظاهر العقود لا بما ينويه العاقدان ، ولِهذا يَصِحّ بَيْع العِينة " (3) ا.هـ .
4- أنّ أدلّة القول الثاني سَلِمَتْ جميعها مِن المُنَاقَشَة والاعتراض ، وفي المقابِل لم تَسْلَمْ أدلّة القوْليْن الآخَريْن ( الأول والثالث ) ، ولِذا كان القول الثاني ـ عندي ـ هو الأَوْلى بالقبول والاختيار ، وأنّ بَيْع العِينة جائز وغَيْر مُحَرَّم .
5- ومِمَّا تَقَدَّم يَتَّضِح لنا أنّ جَعْل بَيْع العِينة محلّ النزاع أو محكّ النزاع بَيْن القائلين بسَدّ الذّرائع والقائلين بعدم سَدّها ـ كما ذَهَب
(1) يُرَاجَع الحاوي الكبير 5/289
(2) النووي : هو محيي الدِّين أبو زكريّا يَحْيَى بن شرف بن مرّي الحِزامي النووي الدمشقي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد في نوى مِن أعمال دمشق سَنَة 631 هـ ..
مِن مصنَّفاته : بستان العارفين ، رياض الصّالحين ، الأذكار ، منهاج الطّالبين ، شَرْح صحيح مُسْلِم .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بـ" نوى " سَنَة 676 هـ .
طبقات الشّافعيّة الكُبْرَى 8/395 - 400
(3) المجموع 9/248
بعض الأصوليّين (1) ـ يَحتاج إلى نظرٍ ؛ لأنّ القائلين بحرمة بَيْع العِينة أَخَذوا بسَدّ الذّرائع ، والقائلين بجوازه لم يَفْتَحوا الذّرائع ، بلْ سَدّوها ـ أيضاً ـ واعْتَبَروا الألفاظ في العقود دُون النيات والقصود .
(1) يُرَاجَع : الفروق 3/266 والموافَقات 3/192
المطلب الثالث
بعض الفروع الفقهيّة المبنيّة على سَدّ الذّرائع
وفيه عشرة فروع :
الفرع الأول : الفرار مِن المجذوم .
الفرع الثاني : الحِدَاد على الزوج .
الفرع الثالث : الاستمناء .
الفرع الرابع : شَدّ إزار الحائض عند المباشَرة .
الفرع الخامس : الوصيّة لِلمخالعة في مرض الموت .(1/55)
الفرع السادس : الخلوة بالأجنبيّة .
الفرع السابع : نكاح العاجز عن الوطء .
الفرع الثامن : قَتْل المُتَتَرَّس بهم مِن المُسْلِمين .
الفرع التاسع : البول في الجُحْر .
الفرع العاشر : التفريق بَيْن الأولاد في المَضاجع .
الفرع الأول
الفرار مِن المجذوم
والفرار مِن المجذوم مأمور به بمُقْتَضَى قوْله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ ، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَد } (1) .
وفي ذلك يقول الشوكاني رحمه الله تعالى :" وأمَّا الأمر بالفرار مِن المجذوم : فمِن باب سَدّ الذّرائع ؛ لِئَلاّ يَتَّفِق لِلشخص الذي يخالِفه شيء مِن ذلك بتقدير الله تعالى ابتداءً ، لا بالعدوى المنفيّة فيَظُنّ أنّ ذلك بسبب مخالَطته فيَعتقد صحّة العدوى فيَقَع في الحَرَج فأَمَر بتَجَنُّبه حسماً لِلمادّة " (2) ا.هـ ..
وجْه التفريع : أنّ إصابة العبد السليم بالجذام مَفْسَدَة قَدْ تَحَقَّقَتْ مِن مخالَطة المجذوم ، ولِذا كانت مخالَطة المجذوم ذريعةً لِلإصابة بالجذام ، فسَدّاً لِلذريعة أَمَر الشارع بالفرار مِن المجذوم .
(1) أَخْرَجه البخاري في كتاب الطِّبّ : باب الجذام 5/2158 والبيهقي في السُّنَن الكبرى 7/135 عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(2) نَيْل الأوطار 7/377
الفرع الثاني
الحِدَاد على الزوج
والحِدَاد على الزوج مأمورة به الزوجة وواجب عليها بمُقْتَضَى قوْله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ ؛ فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا } (1) .
وفي ذلك يقول المرغيناني (2) رحمه الله تعالى :" والمَعْنَى فيه ( الحِدَاد ) وجهان :
أحدهما : ما ذَكَرْنَاه مِن إظهار التأسف .
والثاني : أنّ هذه الأشياء دواعي الرغبة فيها ، وهي ممنوعة(1/56)
(1) أَخْرَجه البخاري في كتاب الجنائز : باب إحداد المرأة على غَيْر زَوْجها برقم ( 1201 ) ومُسْلِم في كتاب الطلاق : باب وجوب الإحداد في عِدّة الوفاة وتحريمه في غَيْر ذلك برقم ( 2730 ) والترمذي في كتاب الطلاق واللعان عن رسول الله : باب ما جاء في عِدّة المُتَوَفَّى عنها زَوْجها برقم ( 1116 ) ، كُلّهم عن السيدة أُمّ حبيبة رضي الله عنها .
(2) المرغيناني : هو برهان الدين أبو الحَسَن عَلِيّ بن أبي بَكْر المرغيناني الحنفي رحمه الله ..
مِن مُصَنَّفاته : الهداية ، بداية المُبْتَدِي في الفروع ، التجنيس والمزيد ، المَنَاسك .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 593 هـ
سِيَر أعلام النبلاء 21/232 وكَشْف الظنون 1/227
عن النكاح ، فتَجتنبها كَيْ لا تَصِير ذريعةً إلى الوقوع في المُحَرَّم " (1) ا.هـ .
وجْه التفريع : أنّ نكاح الحادّة مُحَرَّم وممنوع ، واستعمال الزينة وإظهارها داعٍ وذريعة لِلرغبة فيه ، ولِذا حَرَّمَها الشَّرْع وسَدّها حتّى لا تَقَع في الحرام .
(1) الهداية 2/31 ، 32 ويُرَاجَع حاشية ابن عابدين 3/531
الفرع الثالث
الاستمناء
والاستمناء مُحَرَّم بمُقْتَضَى قوْله - صلى الله عليه وسلم - { لَعَنَ اللَّهُ النَّاكِحَ يَدَه } (1) .
وفي ذلك يقول الماوردي رحمه الله تَبارَك وتعالى :" ولأنّه ذريعة إلى تَرْك النكاح وانقطاع النسل ، فاقْتَضَى أنْ يَكون مُحَرَّماً كاللواط " (2) ا.هـ .
وجْه التفريع : أنّ انقطاع النسل وتَرْك النكاح مَفْسَدَة ومَضَرّة تَلْحَق الأُمَّةَ الإسلاميّةَ ، والاستمناء وسيلة وذريعة لِذلك ، ولِذا حَرَّمه الشارع سَدّاً لِذريعة انقطاع النسل .(1/57)
(1) قال ابن حَجَر :" أَخْرَجه الأزدي في الضعفاء وابن الجوزي مِن طريق الحَسَن بن عرفة في جزْئه المشهور مِن حديث أَنَس بلفظ { سَبْعَةٌ لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِم ... } فذَكَر منهم الناكح يده ، وإسناده ضعيف ، ولأبي الشيخ في كتاب الترهيب مِن طريق أبي عبد الرحمن الحنبلي ، وكذلك رواه جعفر الفريابي مِن حديث عبد الله بن عمرو ، وفيه ابن لهيعة ، وهو ضعيف " .. ا.هـ ..
تلخيص الحبير 3/188
(2) الحاوي الكبير 9/320
الفرع الرابع
شَدّ إزار الحائض عند المباشَرة
وشَدّ الحائض إزارَها عند المباشَرة مأمور به بمُقْتَضَى رواية أُمّ المُؤْمِنين السيدة ميمونة بنت الحارث (1) رضي الله عنها أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أنْ يباشِر امرأةً مِن نسائه وهي حائض أَمَرَها أنْ تَتَّزِر ثُمّ يباشِرها وهي حائض (2) .
وفي ذلك يقول ابن عبد البَرّ (3) رحمه الله تعالى :" هذا الحديث
(1) السيدة ميمونة : هي أمّ المؤمِنين السيدة ميمونة بنت الحارث الهلاليّة رضي الله عنها ، وقيل : كان اسمها " برّة " فغَيَّره النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، تَزَوَّجها النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - سَنَة 7 هـ ، روت ستّةً وأربعين حديثاً ..
تُوُفِّيَتْ رضي الله عنها بسرخس سَنَة 51 هـ .
أسد الغابة 7/271 والإصابة 4/411
(2) أَخْرَجه أبو داود في كتاب النكاح : باب في إتيان الحائض ومباشَرتها برقم ( 1852 ) وعَبْد بن حميد في مُسْنَده /447 وابن عبد البَرّ في التمهيد 5/262
(3) ابن عبد البَرّ : هو الحافظ أبو عُمَر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري القرطبي المالكي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 368 هـ ..
مِن مُصَنَّفاته : التمهيد ، الاستيعاب في معرفة الأصحاب ، آداب العِلْم ، الاستذكار لِمذاهب أئمّة الأمصار .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالأندلس سَنَة 463 هـ .
وفيات الأعيان 7/66 وكَشْف الظنون 1/43(1/58)
إذا رُتِّب مع الذي قَبْله دَلاَّ على أنّ شَدّ الإزار على الحائض مَعْنَاه لِقَطْع الذريعة والاحتياط " (1) ا.هـ .
وجْه التفريع : أنّ إتيان الحائض وقْت حَيْضتها مُحَرَّم ، ورَفْع إزارها عند المباشَرة ذريعة لإتيانها ، فسَدّاً لِهذه الذريعة ومنعاً لها أُمِرَت الحائض بِشَدّ إزارها عند المباشَرة .
(1) التمهيد 5/262
الفرع الخامس
الوصيّة لِلمخالعة في مَرَض الموت
يَرَى الحنابلة أنّ الزوج إذا خالَع زَوْجتَه في مَرَض مَوْته كان خُلْعه صحيحاً ، فإذا أَوْصَى لها بَعْدما خالَعها : فإنْ كان ما أَوْصَى به لها أَقَلّ مِمَّا كانت تَسْتَحِقّه مِن الميراث لو كانت زوجةً أو مِثْلَه صَحَّتْ هذه الوصيّة ، وإنْ كانت الوصيّة أَكْثَر مِمَّا كانت تَسْتَحِقّه بالإرث بطل ما زاد عنه ، ولا تَلْزَم الوصيّة إلا بمقداره ؛ لأنّ الزوج ـ حينئذٍ ـ مُتَّهَم بإدخال الضرر على بقيّة الورثة ، واتَّخَذ الخُلْع والوصيّة ذريعةً لِيعطيها أَكْثَر مِن حقّها (1) .
وجْه التفريع : أنّ الإضرار بالورثة مُحَرَّم ، والوصيّة لِلزوجة المخالعة في مَرَض الموت بأكثر مِمَّا تَسْتَحِقّ كزوجة ذريعة إلى تحقيق ذلك ، فمنعاً لِلوصول إلى الحرام وسَدّاً لِهذه الذريعة حُرِّمَت الوصيّة لِلمخالعة بأَكْثَر مِمَّا تَسْتَحِقّه ميراثاً كزوجة .
(1) المُغْنِي لابن قدامة 8/356 بتصرف .
الفرع السادس
الخلوة بالأجنبيّة
لقَدْ حَذَّر الشَّرْع مِن الخلوة بالأجنبيّة ونَهَى عن ذلك بمُقْتَضَى قوْله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ يَخْلُوَنَّ أَحَدُكُمْ بِامْرَأَةٍ ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا } (1) .
وفي ذلك يقول الشاطبي رحمه الله تعالى :" وحرم الخلوة بالأجنبيّة حَذَراً مِن الذريعة إلى الفساد " (2) ا.هـ .
وجْه التفريع : أنّ الزنا حرام ، والخلوة بالأجنبيّة طريق له وذريعة إليه ، ولِذا حَرَّمَها الشَّرْع سدّاً لِلذريعة ومنعاً لِلوقوع في الحرام .(1/59)
(1) أَخْرَجه ابن حبّان في صحيحه 10/436 والحاكم في المُسْتَدْرَك 1/199 والإمام أحمد 1/18عن عُمَر - رضي الله عنه - .
(2) الاعتصام 2/118
الفرع السابع
نكاح العاجز عن الوطء
لقَدْ حرم النكاح على العاجز عن الوطء ؛ لِمَا فيه مِن تعريض الزوجة لِلزنا (1) .
وجْه التفريع : أنّ الزنا حرام ، ونكاح العاجز عن الوطء ذريعة لِتعريض الزوجة لِلزنا ، وسدّاً لِهذه الذريعة حرم عليه النكاح .
(1) إجابة السائل 1/207
الفرع الثامن
قَتْل المُتَتَرَّس بهم مِن المُسْلِمين
قال الأنصاري (1) رحمه الله تعالى :" وجاز رَمْي كفار متَتَرِّسين في قتال بذراريهم أو بآدميّ مُحْتَرَم ـ كمُسْلِم وذِمِّيّ ـ إنْ دَعَتْ إليه فيهما ضرورة : بأنْ كانوا بحيث لو تُرِكوا غَلَبونا ، كما يجوز نَصْب المنجنيق على القلعة وإنْ كان يصيبهم ، ولِئَلاّ يَتَّخِذوا ذلك ذريعةً إلى تعطيل الجهاد أو حيلةً على استبقاء القِلاَع لهم ، وفي ذلك فساد عظيم " (2) ا.هـ .
وجْه التفريع : أنّ هزيمة المُسْلِمين مَفْسَدَة عظيمة ، وعَدَم قَتْل المُتَتَرِّس بهم الكفار مِن الذراري أو المُسْلِمين أو الذِّمِّيِّين ذريعة
(1) زكريّا الأنصاري : هو شَيْخ الإسلام زَيْن الدين زكريّا بن محمد بن أحمد بن زكريّا الأنصاري الشافعي رحمه الله تعالى ، قاضي القضاة ، وُلِد سَنَة 826 بقرية سنيكة بالشرقية ..
مِن مصنَّفاته : شَرْح الفصول المهمّة في مواريث الأُمّة ، اللؤلؤ النظيم في روم التعلم والتعليم .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقاهرة سَنَة 926 هـ ودُفِن بالقرافة .
شذرات الذهب 4/134 - 136 وكَشْف الظنون 1/392
(2) فَتْح الوهاب 2/300
ووسيلة لِتحقيق هذه المَفْسَدَة ، ولِذا مَنَع الشارع هذه الذريعة وقَطَعَها بجواز قَتْل هؤلاء لِتَحقيق الغلبة لِلمُسْلِمين .
الفرع التاسع
البول في الجُحْر(1/60)
لقَدْ نَهَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عن البول في الجُحْر ؛ ففي حديث قتادة (1) : " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُبَالَ فِي الْجُحْر " (2) ، وما ذاك إلا لأنّه قَدْ يَكون ذريعةً إلى خروج حيوان يؤذيه ، وقَدْ يَكون مِن مَساكن الجنّ ؛ فيؤذيهم بالبول وبما آذَوْه " (3) .
وجْه التفريع : أنّ إيذاء الإنسان مَفْسَدَة ، والبول في الجُحْر ذريعة إلى تحقيق ذلك ، ولِذا قَطَع الشارع هذه الوسيلةَ ومَنَعها بتحريم البول في الجُحْر .
(1) قتادة : هو أبو الخطاب قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي البصري رحمه الله تعالى وُلِد سَنَة 60 هـ ، فقيه مُفَسِّر ، كان ممَّن يُضرَب به المَثَل في العِلْم وقوّة الحِفْظ ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بواسط سَنَة 118 هـ .
طبقات ابن سعد 7/229 وسِيَر أعلام النبلاء 5/269 - 283
(2) أَخْرَجه أبو داود في كتاب الطهارة : باب النهي عن البول في الجُحْر برقم ( 27 ) والنسائي في كتاب الطهارة : باب كراهية البول في الجُحْر برقم ( 34 ) وأحمد في أول مُسْنَد البصريّين برقم ( 19847 ) .
(3) يُرَاجَع أعلام الموقِّعين 3/150
الفرع العاشر
التفريق بَيْن الأولاد في المَضاجع
لقَدْ أَمَر الشَّرْع بالتفريق بَيْن الأولاد في المَضاجع ، وأنْ لا يُتْرَك الذَّكَر ينام مع الأنثى في فِراش واحد ، وذلك بمُقْتَضَى قوْله - صلى الله عليه وسلم - { مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعٍ ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِع } (1) ، وهذا التفريق في الفِراش سَدّاً لأبواب الشيطان والمعاشَرَة المُحَرَّمة (2) .(1/61)
وجْه التفريع : أنّ المعاشَرَة الجنسيّة بَيْن الأولاد مُحَرَّمة ، واجتماعهم في فِراش واحد عند النوم مَدْعَاة وذريعة لِذلك ، ولِذا أَمَر الشَّرْع بالتفريق بَيْنهم في المَضاجع سدّاً لِذريعة الوقوع في الحرام .
(1) أَخْرَجه أبو داود في كتاب الصلاة : باب مَتَى يؤمَر الغلام بالصلاة برقم ( 418 ) وأحمد في مُسْنَد المُكْثِرين مِن الصحابة برقم ( 6402 ) ، كلاهما عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما .
(2) يُرَاجَع أعلام الموقِّعين 3/150
الخاتمة
الحمد لله الذي أَسْبَغ علينا نِعَمه ظاهرةً وباطنةً ، ومنها الاشتغال بدراسة هذه القاعدة الأصولية وبَحْثها ..
وصلاةً وسلاماً على سيدنا محمد وعلى آله وصَحْبه ومَن تَبِع هُدَاهم إلى يَوْم الدِّين ..
وبَعْد ..
فلقدْ أَكْرَمَني الله تعالى بإتمام بَحْث قاعدة سَدّ الذّرائع ، والذي كان لي فيه ـ بعَوْن الله وتَوْفيقه ـ بعض النظرات والوقفات مع كُلّ جزئيّة ومَطْلَب ؛ كيْ أُسْهِم مع السابقين في توطيد دعائم هذا العِلْم الذي أَكْرَمَنَا الله تعالى بدراسته وتدريسه ..
ولِذا .. فإنّه يُمْكِن في ختام هذا البحثِ التوصلُ إلى النتائج التالية وَفْق الراجح عندي :
1- أنّ الذّرائع في اللغة هي الوسائل ، وسَدّها يعني إغلاق الوسائل والأسباب المُوصلة إلى الشيء .
2- أنّ الكثرة مِن الأصوليّين اكْتَفَوْا بتعريف الذريعة ، وهي ( كُلّ فِعْل مباح يُتَوَصَّل به إلى الحرام ) ..
ولِذا كان سَدّها ومَنْعها مفهوماً مِن مَعْنَاهَا إنْ لم يَكُنْ لازماً لها .
3- أنّ سَدّ الذّرائع عندي هي ( مَنْع كُلّ فِعْل يُفْضِي إلى الحرام ) .
4- أنّ الأصل الذي بُنِي عليه سَدّ الذّرائع عند بعض الأصوليّين هو المَقاصد ، وعند البعض هو مآلات الأفعال ، ومنهم مَن بَنَاهَا على سَبْق القصد إلى الممنوع ، لكنّي أَرَى أنّ الأَوْلى بناؤها على مقدِّمة الحرام ؛ قياساً على مقدِّمة الواجب .(1/62)
5- أنّ الأصوليّين لم يَتَّفِقوا على اعتبار سَدّ الذّرائع دليلاً مِن الأدلّة ..
وعندي : أنّها ليست دليلاً مُسْتَقِلاًّ تُبْنَى عليه الأحكام ، وإنّما تَسْتَمِدّ أصْلها مِن حرمة الحرام ، ولِذا يجب أنْ يَكون مَوْقعها الأصوليّ مَبْحَث الحرام في الحُكْم التكليفي ، فهي كما قال ابن القيّم رحمه الله تَبَارَك وتعالى :" أحد أرباع التكليف أو أحد أرباع الدِّين " (1) ا.هـ .
6- أنّ أقسام الذّرائع ستّة :
الأول : ذريعة ممنوعة في ذاتها لأنّها تُوصل إلى الحرام .
وهذه يجب سَدّها .
(1) أعلام الموقِّعين 3/159
الثاني : ذريعة مباحة لكنّها تُوصل إلى الحرام قَطْعاً .
وهذه يجب سَدّها أيضاً .
الثالث : ذريعة مباحة لكنّها تُوصل إلى الحرام نادراً .
وهذه جائزة .
الرابع : ذريعة مباحة لكنّها تُوصل إلى الحرام غالباً .
وهذه يجب سَدّها .
الخامس : ذريعة مباحة لكنّها تُوصل إلى الحرام كثيراً لا غالباً .
وهذه محلّ نزاع .
السادس : ذريعة مباحة لكنّها اخْتَلَطَتْ بما يُوصل إلى الحرام .
وحُكْمها حُكْم الوسيلة المختلطة .
7- أنّ محلّ النزاع الحقيقي هو حُجِّيَّة سَدّ الذّرائع مُطْلَقاً ، وليس بيوع الآجال ( بَيْع العِينة ) ونَحْوه كما ذَهَب بعض الأصوليّين .
وهذا النزاع ـ بناءً على ترجيحي ـ محصور بَيْن ابن حَزْم ـ رحمه الله تعالى ـ والجمهور ، وليس بَيْن المالكية والحنابلة مِن جهة والشافعية والحنفية مِن جهة أخرى كما ذَهَبَت الكثرة مِن الأصوليّين .
8- أنَّه قَدْ ثَبَت عَمَل الإماميْن أبي حنيفة والشافعي ـ رضي الله عنهما ـ بسَدّ الذّرائع ، ولِذا كانت نسبة عدم أخْذهما بسَدّ الذّرائع
فيها نظر .
9- أنّي حَصَرْتُ مذاهب الأصوليّين في حُجِّيَّة سَدّ الذّرائع في مذْهبيْن :
الأول : أنّها حُجَّة .
وهو ما عليه الجمهور .
الثاني : أنّها ليست حُجَّةً .
وهو ما عليه ابن حَزْم رحمه الله تعالى .
وإنّي مع الجمهور في حُجِّيَّة سَدّ الذّرائع .(1/63)
ويكفي دليلاً على ذلك :
مِن الكتاب العزيز : قوْله تعالى { وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوَا بِغَيْرِ عِلْم } (1) .
ومِن السُّنَّة المطهّرة : قوْله - صلى الله عليه وسلم - { مَا خَلاَ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ وَكَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا } (2) .
ومِن عمل الصحابة : قَتْل الجماعة بالواحد .
ولِذا فحُجِّيَّتها ثابتة بالكتاب والسُّنَّة وعمل الصحابة .
10- عدم التوسع في سَدّ الذّرائع ؛ حتّى لا نُغْلِق أبواباً كثيرةً
(1) سورة الأنعام مِن الآية 108
(2) سَبَق تخريجه .
مِن الحلال أو نُضَيِّق واسعاً ، بلْ لا بُدّ مِن تَيَقُّن إفضاء الذريعة إلى الحرام قَطْعاً أو غالباً حتّى نَسُدّها .
11- أنّ الشَّرْع أباح فَتْح الذّرائع التي يجب سَدّها إذا كانت هناك مَصْلَحة راجحة .
12- أنّ الحِيَل لَفْظ عامّ لأنواع أسباب التخلص ..
وهي قِسْمان :
حِيَل مذمومة ، وهي التي تُوصل إلى استحلال الحرام وإسقاط الواجب .
وحِيَل جائزة ومحمودة ، وهي التي تُوصل إلى فِعْل مباح .
13- أنّ الحِيَل ليس جميعها مُحَرَّماً وباطلاً ؛ بلْ ثَبَت جوازها بالكتاب وبعمل الصحابة ، وهذه هي الحِيَل الشَّرْعيَّة الجائزة .
14- أنّ الحِيَل المحمودة والجائزة مناقضة لِسَدّ الذّرائع ؛ لأنّ الأُولى تُوصل إلى فِعْل جائز ، والثانية تُوصل إلى فِعْل مُحَرَّم ، وأنّ الحِيَل الممنوعة مُتَّفِقة مع سَدّ الذّرائع في الحرمة ، بلْ حُرْمَتها أَشَدّ ، ومَن أجازها ـ ولا أَظُنّ أحداً يقوله ـ تَكون حينئذٍ مناقضةً لِسَدّ الذّرائع .
15- أنّ سَدّ الذّرائع قاعدة أصوليّة بُنِي عليها كثير مِن الفروع والقواعد الفقهيّة .
16- أنّ العلماء اخْتَلَفوا في بَيْع العِينة على قوْليْن :
الأول : حُرْمته ؛ سدّاً لِذريعة الربا .
والثاني : جوازه ؛ سدّاً لِلوقوع في الحرام ..(1/64)
وهو الراجح عندي كما ذَهَب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - .
وختاماً .. فهذا بَحْثي في قاعدة أصوليّة حاولْتُ أنْ أُحَقِّق الغاية مِن ورائه ، فإنْ تَحَقَّقَتْ أو قارَبَتْ فهذا مِن فَضْل الله تعالى وتوفيقه وإنْ كانت الأخرى فمِن نَفْسي ومِن الشيطان ، وفي كلتا الحالتيْن أَلْتَمِس العفو والصفح مِن شيوخي وأساتذتي الأجلاّء وزملائي الأفاضل الذين هُمْ أهْل لِذلك ، آمِلاً أنْ لا يَحرموني مِن توجيهاتهم السديدة ونصائحهم الرشيدة .
واللهَ تعالى أسأل أنْ يَجعل عملي هذا خالصاً لِوجْهه الكريم ؛ لِيَكون حُجَّةً لنا عنده يَوْم الدِّين .
وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصَحْبه أجمعين .
أهمّ المراجع
أولاً : القرآن الكريم وعلومه
* القرآن الكريم .
* أحكام القرآن لابن العربي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* أحكام القرآن لِلشافعي .. دار الكتب العلمية - بيروت .
* تفسير القرآن العظيم لابن كثير .. دار البيان العربي - القاهرة .
* الجامع لأحكام القرآن لِلقرطبي .. دار الكتب العلمية .
* جامِع البيان في تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري .. دار
الفكر - بيروت .
ثانياً : الحديث الشريف وعلومه
* تلخيص الحبير لِلحافظ ابن حَجَر العسقلاني .. المدينة المنوّرة
1964 م .
* الجوهر النقي لابن التركماني ( مطبوع مع السُّنَن الكبرى
لِلبيهقي ) .. حيدر آباد – الهند .
* سُبُل السلام لِلصنعاني .. دار إحياء التراث العربي - بيروت .
* سُنَن ابن ماجة .. دار إحياء التراث العربي – بيروت .
* سُنَن أبي داود .. دار الحديث – حمص 1969 م .
* سُنَن الترمذي .. دار الفكر – بيروت .
* سُنَن الدارقطني .. دار المحاسن – القاهرة .
* سُنَن الدارمي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* السُّنَن الكبرى لِلبيهقي .. حيدر آباد – الهند 1355 هـ .
* سُنَن النسائي .. دار الفكر – بيروت .
* شَرْح صحيح مسلم لِلنووي .. دار إحياء التراث العربي –
بيروت .(1/65)
* صحيح البخاري .. دار الشعب – القاهرة .
* فتح الباري بشرح صحيح البخاري لِلحافظ ابن حجر العسقلاني
المكتبة السلفية – القاهرة .
* المُسْتَدْرَك لِلحاكم .. دار الكتاب العربي – بيروت .
* مُسْنَد الإمام أحمد .. دار صادر – بيروت .
* الموطأ لِلإمام مالك .. دار النفائس – بيروت 1400 هـ .
* نَيْل الأوطار لِلشوكاني .. دار الجيل - بيروت .
ثالثاً : أصول الفقه
* الإبهاج في شرح المنهاج لِلسبكي وولده .. مكتبة الكليات
الأزهرية – القاهرة 1401 هـ .
* إحكام الفصول لِلباجي .. دار الغرب الإسلامي - بيروت .
* الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم .. دار الكتب العلمية –
بيروت 1404 هـ .
* إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق مِن عِلْم الأصول لِلشوكاني ..
مكتبة الحلبي - القاهرة 1356 هـ .
* أصول الفقه لِلشيخ محمد أبي زهرة .. دار الفكر العربي -
القاهرة .
* الاعتصام لِلشاطبي .. دار الكتب العلمية - بيروت .
* أعلام الموقِّعين عن رَبّ العالَمين لابن قَيِّم الجوزيّة .. دار الجيل
بيروت .
* البحر المحيط للزركشي .. أوقاف الكويت 1413 هـ .
* تخريج الفروع على الأصول لِلزنجاني .. مؤسسة الرسالة –
بيروت 1404 هـ .
* التمهيد في أصول الفقه لِلكلوذاني .. جامعة أم القرى – مكة
المكرمة 1406 هـ .
* التمهيد في تخريج الفروع على الأصول لِلإسنوي .. مؤسسة
الرسالة – بيروت 1404 هـ .
* جَمْع الجوامع مع حاشية العطّار .. دار الكتب العلمية - بيروت .
* حاشية العطار على شَرْح المحلّي مع جَمْع الجوامع .. دار الكتب
العلمية - بيروت .
* حقائق الأصول شرح منهاج الوصول لِلأردبيلي ( تحقيق
د./ إسماعيل محمد علي عبد الرحمن [ الجزء الأول ] ، د./ قاسم
عبد الدايم [ الجزء الثاني ] ) .. رسالة ماجستير بكلية الشريعة
بالأزهر .
* شَرْح تنقيح الفصول لِلقرافي .. المكتبة الأزهرية لِلتراث –
القاهرة 1414 هـ .
* شَرْح الكوكب المنير لِلفتوحي .. جامعة أم القرى – مكة المكرمة(1/66)
1400 هـ .
* شَرْح مختصر الروضة لِلطّوفي .. مؤسسة الرسالة – بيروت .
* العدة في أصول الفقه لِلقاضي أبي يعلى .. الرياض -
السعودية .
* الفروق لِلقرافي .. مكتبة عالَم الكتب - بيروت .
* قواطع الأدلّة لابن السمعاني .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* قواعد الأحكام في مصالح الأنام لِلعز بن عبد السلام .. دار
الكتب العلمية - بيروت .
* كشْف الأسرار على أصول فخر الإسلام البزدوي لِعلاء الدين
البخاري دار الكتاب العربي – بيروت 1411 هـ .
* مختصر المنتهى لابن الحاجب ( مع شرح العضد ) .. المكتبة
الأزهرية لِلتراث – القاهرة .
* المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل لابن بدران الدمشقي ..
مؤسسة الرسالة - بيروت .
* المستصفى مِن عِلم الأصول لِلإمام الغزالي .. دار الكتب العلمية
بيروت 1403 هـ .
* معراج المنهاج لِلجزري .. مكتبة الحسين الإسلامية – القاهرة
1413 هـ .
* الموافقات في أصول الأحكام لِلشاطبي .. دار الفكر – بيروت .
* نهاية السول في شرح منهاج الوصول لِلإسنوي .. دار الكتب
العلمية – بيروت 1405 هـ .
* الواضح في أصول الفقه لابن عقيل .. مؤسسة الرسالة -
بيروت .
* الوجيز في أصول الفقه د./ عبد الكريم زيدان .. مؤسسة الرسالة
بيروت .
رابعاً : الفقه وقواعده
* إجابة السائل شَرْح بغية الآمل لِلصنعاني .. مؤسسة الرسالة - بيروت .
* الأشباه والنظائر لابن السبكي .. دار الكتب العلمية - بيروت .
* الأشباه والنظائر لابن نجيم .. دار الكتب العِلْمِيّة - بيروت
1983 م .
* الأشباه والنظائر لِلسيوطي .. دار الكتب العِلْمِيّة - بيروت
1983 م .
* الأُمّ لِلإمام الشافعي .. دار المعرفة - بيروت .
* بداية المجتهد لابن رشد .. دار المعرفة – بيروت 1401 هـ .
* التمهيد لابن عبد البَرّ .. الأوقاف المغربيّة .
* حاشية ابن عابدين لِمحمد أمين .. دار الفكر - بيروت .
* الحاوي الكبير لِلماوردي .. دار الكتب العلمية - بيروت .(1/67)
* الحُجَّة لِلشيباني .. عالَم الكتب - بيروت .
* روضة الطالبين وعمدة المتقين لِلنووي .. المكتب الإسلامي -
بيروت - 1405 هـ .
* الشرح الكبير لأبي البركات الدردير .. دار الفكر العربي –
القاهرة .
* الفتاوى لابن تيمية .. دار الكتب العلمية - بيروت .
* فَتْح الوهّاب لِلأنصاري .. دار الكتب العلمية - بيروت .
* القواعد لابن المقري .. جامعة أُمّ القُرَى .
* كشّاف القناع لِلبهوتي .. دار الفكر - بيروت .
* المُبْدِع لابن مفلح الحنبلي .. المكتب الإسلامي - بيروت .
* المجموع لِلإمام النووي .. دار الفكر - بيروت .
* المغني لابن قدامة المقدسي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* المُهَذَّب في فقه الإمام الشافعي لِلشيرازي .. دار القلم – دمشق
1412 هـ .
* موسوعة جمال عبد الناصر .. المجلس الأعلى لِلشئون الإسلامية
القاهرة .
* الهداية شَرْح البداية لِلمرغيناني .. المكتبة الإسلامية - بيروت
خامساً : التراجم والمَعاجم وعلوم أخرى
* أبجد العلوم لِلقنوجي .. دار الكتب العلمية - بيروت .
* أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الجزري .. مكتبة الحياة –
بيروت .
* الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني .. مكتبة المثنى
بغداد .
* الأعلام لِلزركلي .. دار العلم لِلملايين – بيروت 1384 هـ .
* تاج العروس لِلزبيدي .. المطبعة الخيرية .
* تذكرة الحُفّاظ لِلذهبي .. دار الكتب العلمية - بيروت .
* تهذيب الصحاح لِلزنجاني .. دار المعارف - القاهرة .
* الديباج المُذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون
المالكي .. دار التراث - القاهرة .
* شجرة النور الزكية في طبقات المالكية لِلشيخ محمد حسنين
مخلوف .. دار الفكر – بيروت .
* طبقات الشّافعيّة الكبرى لابن السبكي .. دار إحياء الكتب العربية
القاهرة .
* الفتح المُبِين في طبقات الأصوليّين لِلشيخ عبد الله المراغي ..
عبد الحميد حنفي - القاهرة .
* القاموس المحيط .. مؤسسة الرسالة - بيروت .(1/68)
* لسان العرب لابن منظور .. دار صادر – بيروت .
* مختصر سيرة ابن هشام .. دار النفائس - بيروت .
* المُعْجَم الوسيط ( مجمع اللغة العربيّة ) .. القاهرة .
* البداية والنهاية لابن كثير .. مكتبة المعارف – بيروت 1985 م .
* البدر الطالع في مَحاسن مَن بَعْد القَرْن السابع لِلشوكاني .. دار
المعرفة - بيروت .
* التاريخ الكبير لِلإمام البخاري .. دار الكتب العلمية - بيروت .
* الدُّرَر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حَجَر العسقلاني ..
حيدرآباد - الهند .
* سِيَر أعلام النبلاء لِلذهبي .. مؤسسة الرسالة – بيروت .
* شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب لابن العماد الحنبلي .. دار
المسيرة - بيروت .
* الصحاح لِلجوهري .. دار الكتاب العربي - بيروت .
* الطبقات الكبرى لابن سعْد .. دار الفكر - بيروت .
* العِبَر في خبر مَن غَبَر لِلذهبي .. مطبعة حكومة الكويت .
* معجم المؤلِّفين لِعُمَر رضا كحالة .. دار إحياء التراث العربي -
بيروت .
* النجوم الزاهرة في ملوك مِصْر والقاهرة لابن تغربردي .. دار
المعرفة - بيروت .
* نور اليقين في سيرة سَيِّد المرسَلين .. دار الباز - مكّة
المُكَرَّمَة .
* وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان .. دار صادر –
بيروت .
فهرس
الموضوع ... ص
المقدمة...................................................... ... 2
المبحث الأول : تعريف سدّ الذّرائع وأقسامها : ... 6
المطلب الأول : تعريف سدّ الذّرائع لغةً....................... ... 7
المطلب الثاني : تعريف سدّ الذّرائع اصطلاحاً................ ... 9
المطلب الثالث : الأصل الذي بُنِي عليه سدّ الذّرائع........... ... 19
المطلب الرابع : سدّ الذّرائع عند الأصوليّين.................. ... 24
المطلب الخامس : أقسام سدّ الذّرائع.......................... ... 30
المبحث الثاني : حُجِّيَّة سَدّ الذّرائع ، والفَرْق بَيْنها وبَيْن الحِيَل :(1/69)
المطلب الأول : مذاهب الأصوليّين في حُجِّيَّة سَدّ الذّرائع...... ... 38
المطلب الثاني : مذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - في سَدّ الذّرائع.... ... 39
المطلب الثالث : أدلّة المذاهب مع الترجيح.................... ... 44
المطلب الرابع : فَتْح الذّرائع.................................. ... 51
المطلب الخامس : الفَرْق بَيْن الذّرائع والحِيَل................. ... 64
المبحث الثالث : أَثَر سَدّ الذّرائع في الأحكام : ... 66
74
الموضوع ... ص
التمهيد في : أثر القواعد الأصوليّة في الأحكام الشَّرْعيَّة...... ... 75
المطلب الأول : أَثَر سَدّ الذّرائع في القواعد الفقهيّة............ ... 77
المطلب الثاني : بَيْع العِينة.................................... ... 80
المطلب الثالث : بعض الفروع الفقهيّة المبنيّة على سَدّ الذّرائع :
الفرع الأول : الفرار مِن المجذوم............................. ... 91
الفرع الثاني : الحِدَاد على الزوج............................ ... 92
الفرع الثالث : الاستمناء..................................... ... 93
الفرع الرابع : شَدّ إزار الحائض عند المباشَرة............... ... 95
الفرع الخامس : الوصيّة لِلمخالعة في مرض الموت.......... ... 96
الفرع السادس : الخلوة بالأجنبيّة............................. ... 98
الفرع السابع : نكاح العاجز عن الوطء....................... ... 99
الفرع الثامن : قَتْل المتَتَرَّس بهم مِن المُسْلِمين................ ... 100
الفرع التاسع : البول في الجُحْر.............................. ... 101
الفرع العاشر : التفريق بَيْن الأولاد في المَضاجع............. ... 103
الخاتمة...................................................... ... 104
أهمّ المَراجع................................................. ... 105
111(1/70)