|
الشيخ مشهور حسن حفظه الله
تم استيراده من نسخة : أ/علي عبد الباقي
الشيخ منشهور حسن حفظه اللهالكلمات النيرات في شرح الورقات
(1/1)
تعريف ببعض مصطلحات علم الأصول
* قال الماتن رحمه الله: والفقه أخص من العلم والعلم: معرفة المعلوم على ما هو به واقع.
و الجهل: تصور الشيء على خلاف ما هو به في الواقع.
والعلم الضروري: ما لا يقع عن نظر و استدلال كالعلم الواقع بإحدى الحواس الخمس الظاهرة وهي السمع و البصر والشم و الذوق و اللمس أو بالتواتر.
و أما العلم المكتسب: فهو الموقوف على النظر و الاستدلال.
و النظر: هو الفكر في حال المنظور إليه.و الاستدلال: طلب الدليل.
و الدليل: هو المرشد إلى المطلوب.
و الظن: تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر.
و الشك: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.
وأصول الفقه: طرقه على سبيل الإجمال و كيفية الاستدلال بها، ومعنى قولنا: كيفية الاٍستدلال بها ترتيب الأدلة في الترتيب و التقديم و التأخير و ما يتبع ذلك من أحكام المجتهدين.*
قال الشيخ مشهور حفظه الله: علم الأصول مأخوذ من مقدمات فيها رسوم و ألفاظ في علم المنطق و علم اللغة ومأخوذة من استقراء النصوص الشرعية ( الكتاب و السنة و فهم الصحابة ) وبعض الأصوليين يلج في المنطق و يتكلموا و يأخذوا بمباحثه و لا سيما في الرأي و القياس و يطولوا النفس في ذلك على وجه لا تظهر ثمرة عملية و إن كان الثمرة تبقى في الذهن منطقية لكن لا ينبني عن ذلك ثمرة عملية ولذا ألف بعض إخواننا أطروحة علمية سماها " ما ليس من الأصول في كتب الأصول “.
كتب الأصول محشية مليئة بالمباحث الكثيرة التي لا ينبني عليها إلا الخلاف التصوري الذهني الذي لا ثمرة له في لخارج إلا في الأندر النادر، و المصنف ذكر بعض المصطلحات يستفاد منها لذاتها و لتعلقها بمباحث تأتي في الكتاب.
(2/1)
الأصوليين يذكرون من علم المنطق المقدمات التي تعين على ماهية تصور الأشياء فحسب وإلا فقواعدهم التي يبنون عليها أصولهم واستدلالاتهم إنما هي مأخوذة من استقراء الشرع، مع الاعتراف أن في كتب الأصول من الأمور المنطقية المذمومة قائمة على أصول عقدية فاسدة ومن أمثلة ذلك هل للأمر صيغة أم لا ؟ فمن نفى الصيغة يقول كلام الله نفسي.
قال الشيخ مشهور: العلم جنس و الفقه نوع من أنواع هذا الجنس فكل فقه علم وليس كل علم فقها
وعرف الماتن العلم بالمعلوم فعرف الشيء بنفسه وهذا دور و تسلسل وهذا عيب في التعريف، والفرق بين العلم و المعرفة أن العلم لا يسبقه جهل بخلاف المعرفة.
ومعرفة الشيء على ما هو عليه هو أن نعرف مثلا الإنسان عاقل يفكر و أما أن نعرف الشيء ليس على ما هو عليه فيسمى تخيلا.
هناك تعريفات أخرى للعلم: العلم: هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع.
العلم: صفة راسخة يدرك بها الكليات و الجزئيات.
العلم: حصول صورة الشيء في العقل.
وفي كل هذه التعريفات العلم يفارق التخيل و العلم أن تصيب الصورة في الذهن الصورة في الواقع وبمقدار هذا التطابق كان العلم دقيقا.
والجهل قسمان: أ- جهل بسيط: أن تسأل عن الشيء فتقول لا أعلم
ب- الجهل المركب: وهو أن تعلم الشيء على خلاف ما هو عليه.
قال الخليل بن أحمد: الناس أربعة؛ رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه، و رجل يدري و لا يدري أنه يدري فذلك غافل فنبهوه، و رجل لا يدري و يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فعلموه، و رجل لا يدري و لا يدري أنه لا يدري فذلك مارق فاحذروه.
العلم قسمان: الأول: قديم وهو ما يختص بالله عز و جل.
الثاني: حادث وهو نوعان: ضروري و كسبي.
وقال الماتن الحواس الخمس الظاهرة احترازا عن الحواس الباطنة مثل حديث النفس و الإلهام و المنام و العلم الضروري يعرف بالتواتر سواء كان في الماديات أو في التصورات أو في التصديقات، و المعلوم من الدين بالضرورة كذلك من العلم الضروري.
(2/2)
و النظر في اللغة تأمل الشيء بالعين، و النظر على ضربين بالعين و بالقلب، وحد النظر بالعين هو إدراك المنظور بالبصر، وحد النظر بالقلب هو التفكر في حال المنظور فيه.
وحد المنظور فيه: هو الأمارات و الأدلة الموصلة إلى المطلوب.
الدليل هو المرشد إلى المطلوب سواء كان على وجه الظن أو على وجه اليقين، ولذا من الأدلة عند علماء الأصول الظاهر و المؤول و القياس وهذا يفيد الظن، أما علماء الكلام فيفرقون بين الذي يؤخذ باليقين و القطع فيقولون عنه دليل و الذي يفيد الظن يقولون عنه أمارة.
وقال الماتن الظن هو تجويز أمرين وفي هذا مؤاخذة فليس الظن هو التجويز و إنما هو الراجح من المُجَوَزين و المرجوح يسمى وهم.
عندما يتساوى احتمال أمرين يكون شكا؛ مثلا يقول أحدهم اسم فلان محمد أو أحمد فلا أدري فإذا قال يحتمل 50% أحمد و 50% محمد فهذا شك و إذا قال 30% أحمد و 70% محمد فقوله محمد ظن (راجح ) وقوله أحمد وهم ( مرجوح ) فالظن يقين ولكن عند أهل اللغة الظن يدور بين الشك و اليقين، و الظن يقين تدبر لا يقين عيان فاليقين العيان لا يسمى ظنا في العربية و إنما يسمى علما و يقين التدبر يسمى ظنا فأحاديث الصحيحين تفيد يقين التدبر.
في تعريفه لأصول الفقه قال طرقه: الهاء عائدة على الفقه، أي طرق الفقه ثم قال وكيفية الاستدلال بها وهذا يجر إلى صفات من يستدل بها وهو المفتي و المجتهد؛ فعلم الأصول يتكون من ثلاث جمل ( أنواع ):
معرفة الأدلة الجملية: وهي القواعد الكلية كمعرفة الكتاب أي القرآن و علومه من عام وخاص و مطلق و مقيد …الخ من هذه القواعد، فلأصولي يضع هذه القواعد بين يدي الفقيه ليستنبط منها الأحكام الجزئية.
كيفية الاستدلال بها أي متى نقدم الحاظر على المبيح و الخاص على العام وهكذا.
معرفة حال المجتهدين و المستفتين.
(2/3)
قال إمام الحرمين في كتابه البرهان: أن أصول الفقه هي نفس الأدلة الكلية و ترتيب هذه الأدلة وليس هو معرفة هذه الأدلة الكلية، وقال بهذا كذلك الخطيب الرازي في المحصول وابن قدامة في الروضة وقال البيضاوي في المنهاج: أن أصول الفقه هو معرفة الأدلة الكلية وقال بهذا كذلك ابن الحاجب في مختصره وهذا تدقيق زائد.
قال الماتن: ومعنى قولنا كيفية الاستدلال بها ….الخ؛ فمثلا إذا جاءت نصوص شرعية فإن الأقيسة و قدح الذهن وإعمال الفكر لا وزن له فالنص مقدم على الاستنباط و الكتاب و السنة الصحيحة الظاهرة الجلية تقدم على قول الصحابي إذا خالف، فمن شأن الأصولي أن يعرف ترتيب الأدلة.
أقسام الكلام
* قال الماتن رحمه الله: فأما أقسام الكلام: فأقل ما يتركب منه الكلام اسمان أو اسم وفعل أو اسم وحرف أو حرف وفعل.
والكلام ينقسم إلى أمر ونهي وخبر واستخبار وينقسم أيضا إلى تمنٍ وعرض وقسم.
ومن وجه آخر ينقسم إلى حقيقة و مجاز؛ والحقيقة: ما بقي في الاستعمال على موضوعه و قيل ما استعمل في ما اصطلح عليه في المخاطبة، والمجاز: ما تجوز عن موضوعه.
والحقيقة إما لغوية أو شرعية أو عرفية، والمجاز إما أن يكون بزيادة أو نقصان أو نقل أو استعارة؛ فالمجاز بالزيادة مثل قوله تعالى " ليس كمثله شيء " و المجاز بالنقصان مثل قوله تعالى " و اسأل القرية " و المجاز بالنقل كالغائط يخرج من الإنسان و المجاز بالاستعارة كقوله تعالى " جدارا يريد أن ينقض “. *
قال الشيخ مشهور حفظه الله:
الكلام اصطلاحا: اللفظ المفيد فائدة يحسن السكوت عليها، وينقسم الكلام إلى أنواع من حيثيات مختلفة:
(2/4)
أولا:من حيث ما يتركب منه الكلام: وهو أنواع: فأقل ما يتركب منه اسمان: مثل العلم مفيد، وقد يتكون الكلام من كلمة واحدة ولكن يكون لها متعلق مضمر ( وهو أن يكون فعل وضمير مستتر )، وقد يتركب من اسم وفعل مثل أكل فلان، ثم قال الماتن واسم وحرف أو حرف وفعل؛ وهذا مما أخذ عليه لأن الفعل و الحرف أو الاسم و الحرف ليس من أقسام الكلام كما استقر عليه أهل البلاغة وقال ابن الفركاح أما التركيب من فعل و حرف فالأكثرون على إنكاره، وقد مثّل التركيب من فعل وحرف من ادعاه: بقول القائل: لم يقم وفي هذا التمثيل نظر لأن الجملة ليست مركبة من الفعل و الحرف بل مكونة من الفعل و الضمير فيه فالتقدير لم يقم هو، والتركيب من اسم وحرف مثلوا له بقول يا زيد وهو كالذي قبله والتقدير أدعو زيدا.
ثانيا : من حيث حال المتكلم : فالمتكلم إذا تكلم فلا بد أن يكون كلامه إما يقبل الصدق و الكذب و هذا يسمى خبرا و إما أن يكون لا يقبل الصدق و الكذب وهذا يسمى إنشاءً مثل الأمر و النهي .
ثالثا: من حيث الكلام نفسه المتكلم به: مثل التمني هو طلب مالا طمع فيه أو ما فيه عسر كقول الشاعر: يا ليت الشباب يعود يوما، والعرض طلب برفق و أما التحضيض ما كان فيه طلب بحثٍّ، و القسم هو الحلف مثل تالله لفعلنّ كذا.
رابعا: من حيث أنه حقيقة أو مجاز:
المجاز:هو عبارة عن نقل الكلام من معناه الأصلي إلى معنىً آخر لمناسبة بين هذين المعنيين، وأما الحقيقة هو بقاء اللفظ على معناه الأول، و أما التأويل هو ترك اللفظ عن معناه إلى معنىً آخر فاسد.
نحن نقر بأن الشرع نقل معنىً حقيقي إلى معنىً آخر شرعي و أصبح هذا المعنى حقيقيا لا مجاز فالشرع هو الذي ينقل من حقيقية لغوية إلى حقيقة شرعية، أما ترك اللفظ لتوهمنا أنه يحمل في ظاهره ضلالا أو كفرا أو كذبا فهذا من أبطل الباطل فلا نعرف في ظاهر نص من آية أو حديث نبوي كفرا أو ضلالا أو كذبا و العقل السليم لا يفهم من ظواهر النصوص ذلك.
(2/5)
الأصل في كلام العربية أنه على الحقيقة وإذا نقلناه فننقله إلى حقيقة شرعية أو حقيقة عرفية ويبقى في دائرة الحقيقة و لا يسمى مجازا.
الحقيقة نوعان: أ- الحقيقة الإفرادية: وهي حقيقة اللفظ بمفرده مثل أن نقول عين، بحر.
ب- الحقيقة التركيبية: وهي المفهومة من الكلام.
العرب لا تنظر حين التركيب إلى المفردات و إنما تنظر إلى دلالة الألفاظ، فالألفاظ حال التركيب لا تدل على معنى اللفظ المجرد بل يختلف معنى اللفظ في التركيب من معنى إلى معنى آخر بحسب ما يضاف إليه فمثلا: الآية" يد الله فوق أيديهم " قالت المعتزلة: إذا قلنا بظاهر الآية بأن الله له يد فنحن شبهناه بالبشر فهذا اللفظ فيه كفر فلا ينبغي أن يكون حقيقة فهو مجاز و الواجب تأويله.
فالمعتزلة شبهوا ثم حرفوا ثم عطلوا و الأمر ليس كذلك فالصفات لما تنسب إلى ذوات متعددات فإن الصفات تختلف باختلاف الذوات مثلا: رأس تختلف باختلاف الذات المضافة إليها فنقول رأس إبرة و رأس جبل و رأس إنسان و رأس كلب ….الخ فهذا في حق المخلوق ففي حق الخالق أولى فعندما ننسب الصفة إلى الخالق تختلف عن المخلوق فيد الله ثابتة ولكن ليست كيد المخلوق و لانعرف كيفيتها ولا نعطلها ولا نحرفها ولا نمثلها. فظاهر كلام الله على حقيقته ولو كل صفة أثبتها الله لنفسه في الكتاب والسنة نقول أنها ليست مرادة لأن البشر يتصفون بها سنصل إلى قول القرامطة و الزنادقة بأن الله ليس بحق فالإنسان يتصف بالوجود و الحياة و العلم ….الخ .
آيات القرآن ليست مجازا و إنما هي حقيقة مع التفريق بين دلالة اللفظ و الدلالة التركيبية والعرب تنظر في التركيب إلى دلالة الألفاظ لا إلى دلالة معانيها.
(2/6)
المجاز لم يعرف في العصور الأولى ولم يذكر في كتب علماء تلك الفترة وإنما عرف المجاز في القرن الرابع الهجري لما ظهرت الفرق الضالة و على رأسها المعتزلة لأنه انقدح في بالهم أن ظواهر القرآن كفر لاسيما آيات الصفات فسموها مجازا وحرفوها وعطلوها، فأول من قسم المجاز هم المعتزلة
قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى ج: 7 ص: 88- 89
الحقيقة والمجاز من عوارض الألفاظ وبكل حال فهذا التقسيم هو اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة لم يتكلم به أحد من الصحابة ولا التابعين لهم باحسان ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم كمالك والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي بل ولا تكلم به أئمة اللغة والنحو كالخليل وسيبويه وأبي عمرو بن العلاء ونحوهم وأول من عرف أنه تكلم بلفظ المجاز أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه ولكن لم يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة وإنما عنى بمجاز الآية ما يعبر به عن الآية ولهذا قال من قال من الأصوليين كأبي الحسين البصري وأمثاله أنها تعرف الحقيقة من المجاز بطرق منها نص أهل اللغة على ذلك بأن يقولوا هذا حقيقة وهذا مجاز فقد تكلم بلا علم فانه ظن أن أهل اللغة قالوا هذا ولم يقل ذلك احد من أهل اللغة ولا من سلف الأمة وعلمائها وإنما هذا اصطلاح حادث والغالب انه كان من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين فانه لم يوجد هذا في كلام احد من أهل الفقه والأصول والتفسير والحديث ونحوهم من السلف وهذا الشافعي هو أول من جرد الكلام في أصول الفقه لم يقسم هذا التقسيم ولا تكلم بلفظ الحقيقة والمجاز وكذلك محمد بن الحسن له في المسائل المبنية على العربية كلام معروف في الجامع الكبير وغيره ولم يتكلم بلفظ الحقيقة والمجاز وكذلك سائر الأئمة لم يوجد لفظ المجاز في كلام أحد منهم إلا في كلام أحمد بن حنبل فانه قال في كتاب الرد على الجهمية في قوله تعالى " أنا ونحن " ونحو ذلك في القرآن هذا من مجاز اللغة يقول الرجل إنا سنعطيك
(2/7)
إنا سنفعل فذكر أن هذا مجاز اللغة وبهذا احتج على مذهبه من أصحابه من قال إن في القرآن مجازا كالقاضي أبى يعلى وابن عقيل وأبى الخطاب وغيرهم وآخرون من أصحابه منعوا أن يكون في القرآن مجاز كأبي الحسن الخرزى وأبى عبدالله بن حامد وأبى الفضل التميمى بن أبى الحسن التميمى وكذلك منع أن يكون في القرآن مجاز محمد بن خويز منداد وغيره من المالكية ومنع منه داود بن علي وابنه أبو بكر ومنذر بن سعيد البلوطى وصنف فيه مصنفا وحكى بعض الناس عن أحمد في ذلك روايتين وأما سائر الأئمة فلم يقل أحد منهم ولا من قدماء أصحاب أحمد إن في القرآن مجازا لا مالك ولا الشافعي ولا أبو حنيفة فان تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز إنما اشتهر في المائة الرابعة وظهرت أوائله في المائة الثالثة وما علمته موجودا في المائة الثانية اللهم إلا أن يكون أو أواخرها والذين أنكروا أن يكون أحمد وغيره نطقوا بهذا التقسيم قالوا إن معنى قول أحمد من مجاز اللغة أي مما يجوز في اللغة أن يقول الواحد العظيم الذي له أعوان نحن فعلنا كذا ونفعل كذا ونحو ذلك قالوا ولم يرد أحمد بذلك أن اللفظ استعمل في غير ما وضع له انتهى كلام ابن تيمية.
قال الماتن: ما تجوز عن موضوعه أي عما وضع له؛ يريد أن يقول: المجاز ما تجاوز المتكلم به عن الموضوع الذي وضع له.
الحقيقة ثلاثة أقسام: لغوية و شرعية و عرفية.
مثال: الدابة في اللغة: ما يدب على الأرض وفي العرف الحيوان الذي له أربع قوائم فلو أن رجلا قال لآخر يا دابة يغضب، عند التنازع و التعارض يقدم العرفية على اللغوية وهذا عند الجمهور إلا الحنفية فيقدمون اللغوية والصواب ما قاله الجماهير.
فلو أن رجلا حلف وقال والله لا أؤذي دابة فآذى أخا له هل عليه كفارة ؟ على قول الجماهير لا كفارة ليمينه وعلى قول الحنفية يكفّر عن يمينه .
(2/8)
مثال آخر:صلى في اللغة دعا، و الصلاة في الشرع أقوال و أفعال مخصوصة متتابعة تبدأ بكذا وتنتهي بكذا والصلاة بمعنى جاءت بنصوص شرعية فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم صل على فلان " ولما أصبحت الصلاة طاعة معينة فنقل الشرع المعنى اللغوي إلى حقيقة شرعية.
وقد تكون الحقيقة الشرعية أضيق من الحقيقة اللغوية و العكس وكذلك قد ينقل الناس سواء أهل شرع أو أهل ديانة أو أهل بلد أو غير ذلك الكلام اللغوي إلى حقيقة عرفية والثمرة من ذلك عند تزاحم هذه الأمور فماذا نقدم ؟
مثال: الغائط في اللغة هو المكان المنخفض و الأصل في الغائط المكان الذي يواري الإنسان ولما كان العرب يقضون حاجتهم في هذه الأماكن التي تهجر ولا ينزل فيها فأصبح الشيء الذي ينزل من صاحب الحاجة في هذا المكان يسمى غائط فأصبح الغائط شيء عرفي فهذا ليس بمجاز بل حقيقة تركيبية، فلذا يشترط العلماء من صفات المفتي أن يعرف عادات من يستفتونه حتى يعرف النازلة وكيف يتصورها فمثلا البلد التي فيها بحار قد يطلقوا على السمك لحم والبلاد التي لا يوجد فيها بحر لا يطلقون على السمك لحم و يفرقون بين اللحم و السمك فلوأبدانهم.وقال حلفت بالله لا آكل لحما فأكلت سمكا ماذا عليّ ؟ و الله أطلق على السمك لحما فقال " تستخرجون منه لحما طريا " فالسمك في اللغة لحم وفي بعض البلاد يطلقون على السمك لحما وبعض البلاد يفرقون بين السمك واللحم فالمفتي عليه أن يعرف عرف السائل وهذا النصيب الذي يتغير بتغير الزمان و المكان فالحكم الشرعي ثابت ولكن إن أنيط بعرف فقد يتغير بتغير الزمان و المكان لأن العرف يتغير بتغير هذين العاملين وكان يقول ابن القيم الذي يفتي الناس على اختلاف أعرافهم بفتوى واحدة كالطبيب الذي يداوي الناس بدواء واحد على اختلاف أمراضهم فذاك يجني على أديانهم وهذا يجني على أبدانهم.
(2/9)
لما تتزاحم الحقائق نقدم الشرعية ولا يجوز لنا أن نفهم القرآن بمعزل عن السنة ولا يجوز أن نفهم السنة بمعزل عن القرآن ولا يجوز أن نفهم السنة بمعزل عما كان عليه الصحابة وهذا من باب تقديم الحقيقة الشرعية فالشرع لا يفهم أصالة إلا بتقديم الحقيقة الشرعية فإن لم يوجد تبقى الحقيقة اللغوية والعرفية وهنا وقع الخلاف أيهما يقدم ؟
فالحنفية يقدمون اللغوية والجماهير يقدمون العرفية ويقولون الألفاظ قوالب المعاني ولا نقدس الألفاظ والله عز وجل يريد منا حقائق الأشياء ويتعبدنا بحقائق الأشياء لا بالألفاظ ولا بالرسوم لذا نقدم العرف لأن عرف الناطق يدلل على المعنى الذي يريده فالرجل الذي حلف أن لا يأكل لحما و أكل سمكا فهل عليه كفارة ؟ فعند الحنفية عليه كفارة وعند الجماهير ليس عليه كفارة إن وجد بين قوم يفرقون بين اللحم و السمك فاختلفت الحقيقة اللغوية عن العرفية .
مثال آخر: رجل مسلم أعجمي قال لزوجته أنتَ طالق بصيغة التذكير ماذا عليه وهو يريد طلاقها ؟ من قدم اللغوية قال لا تطلق ومن قدم العرفية قال تطلق.
واستقر الأمر عند المتأخرين أن علم البلاغة ثلاثة أقسام: المعاني والبيان والبديع والبيان يقسمونه أيضا إلى أقسام يدخل فيه المجاز و الاستعارة و التشبيه والكناية واستقر الأمر إلى أن قالوا حقيقة و مجاز والمجاز قسموه إلى قسمين أ- المجاز العقلي: وهو إذا أسند الفعل إلى غير من يفعله نحو " نبت الكلأ ومات فلان "
ب_ المجاز اللغوي: ويقسم إلى قسمين: مفرد ويكون بالزيادة والنقصان، ومركب وهو مجاز استعارة أو كناية.
(2/10)
والعرب عندهم حقيقة إفرادية وتركيبية وقال أئمة اللغة إن العرب توسعت في كلامها فمثلا من الأبواب المذكورة في الكتاب لسيبويه قال: باب استعمال الفعل في اللفظ لا في المعنى لاتساعهم في الكلام وللإيجاز و الاختصار، فقال: فمن ذلك أن تقول على هذا القول كم صيد عليه؟ فقيل صيد عليه يومان وإنما المعنى صيد عليه الوحش في يومين وهذا من التوسع وقال: ومما جاء على اتساع الكلام والاختصار قوله تعالى " وسئل القرية التي كنا فيها و العير التي أقبلنا فيها " قال إنما يريد أهل القرية فاختصر وعمل الفعل في القرية كما كان عاملا في الأهل ومثل ذلك من كلامهم بنو فلان يطأهم الطريق والمراد أهل الطريق.
وعلى نحو هذا كلام الفراء في كتابه معاني القرآن عند قوله تعالى " فما ربحت تجارتهم " ربما قال القائل كيف تربح التجارة وإنما يربح التاجر ؟ وذلك من كلام العرب ربح بيعك و خسر بيعك فحسن القول بذلك لأن الربح و الخسران إنما يكون في التجارة فعلم معناه ومن مثل ذلك قول العرب هذا ليل النائم ومثله قوله تعالى " فإذا عزم الأمر " فإن العزيمة للرجال.
وقال الإمام الشافعي وهو من أئمة اللغة: في الرسالة ص 62-64
فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها
(2/11)
ونحو ذلك ما قاله الله تبارك وتعالى " وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إنما تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون " فابتدأ جل ثناؤه ذكر الأمر بمسألتهم عن القرية الحاضرة البحر فلما قال: إذ يعدون في السبت الآية دل على أنه إنما أراد أهل القرية لأن القرية لا تكون عادية ولا فاسقة بالعدوان في السبت ولا غيره وأنه إنما أراد بالعدوان أهل القرية الذين بلاهم بما كانوا يفسقونا وكذلك قال الله تبارك وتعالى وهو يحكي قول إخوة يوسف لأبيهم “ما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين وسئل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون “ فهذه الآية في مثل معنى الآيات قبلها لا تختلف ثم أهل العلم باللسان أنهم إنما يخاطبون أباهم بمسألة أهل القرية وأهل العير لأن القرية والعير لا ينبئان عن صدقهم انتهى كلام الشافعي.
والشاهد: ( وسئل القرية ) ليست مجاز لأن الذهن لا ينصرف أبدا لما نسمع وسئل القرية أي وسئل الحيطان، والمجاز أن نعطل المعنى و الحقيقة التركيبية أن تنقل المعنى وأنت لما تقول وسئل القرية لا تعطل المعنى ولكن تنقل المعنى من الجدران والحيطان إلى الأهل وهذا يسمى حقيقة تركيبية.
قال الماتن: المجاز بالزيادة كقوله تعالى " ليس كمثله شيء " كمثله: منصوبة محلا على أنها خبر ليس مقدم ومجرورة لفظا، والكاف للتشبيه فقالوا هذا مجاز بالزيادة وذلك لأن أصل الآية ليس مثله شيء والكاف زائدة
ولو لم تكن الكاف زائدة لصار المعنى ليس مثل مثله شيء فأثبتنا لله مثل ونفينا أن يكون لهذا المثل مثل ولذا قالوا هذا مجاز بالزيادة أي أن الكاف زائدة.
(2/12)
قال الشيخ مشهور حفظه الله: والذي تطمئن إليه نفسي ويقوى عندي أنه لا يوجد شيء في القرآن زائد وكل شيء في القرآن له معنى والكاف هنا ليست زائدة وإنما هي للتأكيد و العرب عندما تبالغ في النفي تقول لا يوجد لمثل هذا ند وعلى فرض أنه يوجد له مثل فإن هذا المثل لا يوجد له مثل.
ثم قال الماتن: والمجاز بالنقصان مثل قوله تعالى " وسئل القرية " أي وسئل أهل القرية وهذا كذلك ليس من المجاز وهو من الانتقال من الحقيقة الإفرادية إلى الحقيقة التركيبية كما قال الشافعي في الرسالة، ثم قال الماتن و المجاز بالنقل كالغائط في مثل ما يخرج من الإنسان وقلنا أن هذا نقل من الحقيقة اللغوية إلى العرفية ثم قال الماتن المجاز بالاستعارة مثل قوله تعالى " جدارا يريد أن ينقض " قالوا:الإرادة من صفات الأحياء وليست من صفات الجمادات فاستعيرت الإرادة من الحي إلى الجماد وهذا مجاز بالاستعارة، والصواب:أن العرب تعرف الجماد ما ليس فيه حركة ظاهرة ولا يقال ما ليس فيه حياة وهذا الذي يتناسب مع الجمود لأن الجمود عكس الحركة والجماد فيه حياة هكذا علمنا ربنا وعلمنا نبينا ولكن لا ندرك هذه الحياة من مثل ذلك قوله تعالى " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض فأبين أن يحملنها و أشفقن منها " وهذا الإشفاق حقيقي وكذلك حب جبل أحد للصحابة وحنين الجذع للنبي عليه السلام وكل هذا حقيقي وهذه حقيقة تركيبية.
الأمر
(2/13)
* قال الماتن:والأمر: استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب، و صيغته افعل وهي عند الإطلاق و التجرد عن القرينة تحمل عليه إلا ما دل الدليل على أن المراد منه الندب أو الإباحة فيحمل عليه، ولا يقتضي التكرار على الصحيح إلا ما دل الدليل على قصد التكرار، ولا يقتضي الفور لأن الغرض منه إيجاد الفعل من غير اختصاص بالزمان الأول دون الزمان الثاني، و الأمر بإيجاد الفعل أمر به وبما لا يتم الفعل إلا به كالأمر بالصلاة أمر بالطهارة المؤدية إليها وإذا فعل يخرج المأمور عن العهدة. *
قال الشيخ مشهور حفظه الله: استدعاء أي طلب وبقوله طلب يخرج النهي لأنه ترك، قوله بالقول: العمل يشمل الفعل و القول؛ القول باللسان والفعل بالأركان أي بالجوارح ولذا الأمر استدعاء العمل لأن العمل يشمل قول اللسان ويشمل الفعل وقوله الفعل فهذا يكون فقط بالجوارح و الأوامر تكون بالجوارح و بالقلب و باللسان فالخوف والرجاء و النية أعمال قلبية والشهادتين باللسان.
و أما قول الماتن بالقول فسببه أن التكاليف الشرعية جاءت من خلال كلام ربنا و كلام نبينا ولأن الأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم لا يثبت فيها أمر فخرج بقوله بالقول أفعال النبي عليه السلام و إشارته ولكن يثبت الوجوب بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في صورة واحدة وهي: إذا امتثل لأمر قولي في الكتاب فبينه بفعله بصورة واحدة لا ثاني لها؛ فمثلا قال الله تعالى " و السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " لم يأت نص لا في كتاب ولا في السنة القولية في بيان مكان القطع وكان النبي عليه السلام يقطع من مكان واحد واستفاض ذلك عنه في جميع الحوادث فيصبح هذا الفعل واجبا.
(2/14)
أما قوله ممن هو دونه: يعني الآمر يكون أعلى من المأمور، والعلو شرف الآمر وعلو منزلته والاستعلاء أن يكون الأمر على وجه الغلظة و الترفع و القهر، وعلماء الأصول منهم من يضع في حد الأمر: أن يكون الأمر على سبيل الاستعلاء ومنهم من يضع في حد الأمر: أن يكون الأمر على سبيل العلو، فالمأمور دون الآمر.
وقال الله تعالى حكاية عن فرعون " فماذا تأمرون " وهذا يشوش على هذا القيد لأن في اللغة لا يشترط أن يكون الآمر أعلى من المأمور وأما اصطلاحا فالآمر هو النبي صلى الله عليه وسلم. فإن كان المأمور مثل الآمر يسمى في العربية التماس فإن طلبت ممن هو أرفع منك يسمى دعاء.
وأما قوله على سبيل الوجوب: لأن في القرآن أوامر ليست تشريع وإنما هي لمعان بلاغية مثل " ذق إنك أنت العزيز الكريم " فهذا للتحقير وليس للتشريع، وكذلك بقوله على سبيل الوجوب يخرج المندوب وقد يقتضي كلام الماتن أن المندوب ليس مأمورا به والصواب أنه مأمور به ويدخل تحت مطلق الأمر.
وأما قوله: وصيغته افعل أي صيغة الأمر؛ أي صيغة فعل الأمر يثبت بها الأمر وكذلك يثبت الأمر بصيغ أخر منها:
الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر: مثل؛ فليحذر، وليطوفوا.
اسم فعل الأمر: مثل؛ عليكم.
المصدر النائب عن فعله: مثل؛ فضرب الرقاب أي اضربوا ضرب الرقاب.
المشتقات من فعل الأمر: مثل؛ يأمركم.
الخبر الذي يراد به الإنشاء:مثل؛ "ومن دخله كان آمنا " قال ابن كثير: هذا خبر يراد به إنشاء أي يا أيها المسلمون أمّنوا الذين يدخلون البيت، فمن قال من الزنادقة أنه حدث قتل في البيت الحرام فنقول له هذا ليس خبر يصدق و يكذب وإنما المراد هنا الإنشاء، وكذلك مثل " والوالدات … “.
(2/15)
أما قول الماتن: عند الإطلاق و التجرد عن القرينة؛ الإطلاق هو العاري عن ذكر الوصف والمرة و الشرط أي صيغة مطلقة غير مقيدة؛ فمثلا ( إن جاءك فلان فأعطه دينارا ) هذا مقيد بشرط ومثلا ( أعط الطالب الناجح جائزة ) هذا مقيد بصفة، وكذلك القرينة إما تكون متصلة أو منفصلة.
اختلف العلماء في صيغة افعل الواردة في نصوص الشرع على ثلاثة أقوال:
الأول : أنها أصالة للوجوب .
الثاني: هي للندب.
الثالث: هي القدر المشترك بين الوجوب والندب وتحتاج إلى قرينة لنعرف هل هي للوجوب أم للندب.
والصحيح والراجح أن صيغة الأمر هي للوجوب ولا تصرف عن الوجوب إلا بقرينة وذلك للأدلة التالية:
الآية " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة " فرتب الله على مخالفة الأمر فتنة وفي هذا دلالة على أن الأمر للوجوب أصالة.
لو أن سيدا قال لعبده اسقني ماء فقصر فعاقبه فلا يلام لأن الأصل في اسقني الوجوب.
قد يستفاد من صيغة افعل الندب أو الإباحة إذا دل على ذلك قرائن فهناك ضوابط وقرائن وقواعد يستطيع العلماء من خلالها أن يميزوا متى تكون صيغة افعل للوجوب ومتى تكون غير ذلك ومن هذه القواعد:
أولا: [ الأمر الوارد بعد الحظر لا يدلل على الوجوب دائما ] ومن الأمثلة على ذلك:
قول الله تعالى " و إذا حللتم فاصطادوا “.
قوله تعالى " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا ".
قوله تعالى " فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ".
وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ألا كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزورها "
(2/16)
ثانيا:محظورا بحق المحرم فعند إحلاله يباح له الصيد فحكم قبل ورود الحظر مباحا والانتشار والبيع و الشراء بعد انقضاء صلاة الجمعة مباحا بعد أن كان محظورا في وقت الصلاة وإتيان المرأة بعد تطهرها من الحيض مباحا وزيارة القبور مندوبة بعد أن كانت محظورة؛ فهذه الأمور كلها مباحة ولا نقول واجبة لورود صيغة الأمر لأن هناك قرينة تدل على عدم الوجوب وهي ورود صيغة الأمر بعد الحظر فكانت هذه الأمور مباحة قبل ورود الحظر ثم حظرت لعلة معينة ثم أبيحت.
ثانيا : [ الأمر الوارد بعد السؤال أو الاستئذان لا يدلل على الوجوب ] ومن الأمثلة على ذلك :
1- ما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة ثم أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوضأ من لحوم الغنم قال إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا توضأ قال أتوضأ من لحوم الإبل قال نعم فتوضأ من لحوم الإبل قال أصلي في مرابض الغنم قال نعم قال أصلي في مبارك الإبل قال لا.” ولو لم يأتي حديث " من أكل لحم جزور فليتوضأ " لما ثبت وجوب الوضوء من لحوم الإبل وذلك لأنه سأل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال له نعم صلِ وهذا أمر يدلل على الإباحة.
2- عندما سأل الصحابة عما أخذوه بصيد الجوارح ( صيد الكلاب المعلمة ) فأنزل الله تعالى " فكلوا مما أمسكن عليكم " رجل أمسك عليه كلبه المعلم ولا يريد أن يأكله فلا إثم عليه لأن الأمر هنا للإباحة.
ثالثا: [ قرائن منفصلة تصرف صيغة الأمر من الوجوب إلى غير الوجوب ] من الأمثلة على ذلك:
1 – النبي صلى الله عليه وسلم حج ورمى ثم حلق وقال خذوا عني مناسككم ثم سأله رجل وكان حلق ثم رمى فقال له النبي لا حرج فدلت هذه القرينة المنفصلة على عدم وجوب الترتيب.
2 – قال الله تعالى " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا "
النبي لم يكاتب عبيده وكذلك لم يكاتب جميع الصحابة عبيدهم فدلت هذه القرائن المنفصلة على عدم وجوب المكاتبة.
ثم قال الماتن: ولا يقتضي التكرار ….الخ
(2/17)
صيغة النهي فعل سلبي والفعل السلبي يلزم منه عدم الظهور ويقتضي ذلك التكرار فالعلماء مجمعون على أن النهي يقتضي التكرار فمثلا قال الله تعالى " ولا تقربوا الزنا “ هذا نهي وهو فعل سلبي ويجب أن لا يظهر فيقتضي ذلك تكرار ترك الزنا حتى لا يظهر؛ فلو أن رجلا ترك الزنا مرة واحدة وقال أنا امتثلت أمر الله فأريد أن أزني المرة الثانية نقول له لا يجوز ذلك لأن هذا نهي يقتضي التكرار ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " و إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " ولازم الاجتناب تكرار ترك الفعل.
وأما صيغة افعل المجردة هي فعل إيجابي يجب أن يظهر و يوجد وأقل الوجود مرة فتعلق العدد بفعل الأمر ليس أصالة وإنما اقتضاء ففعل الأمر لا يقتضي التكرار وهذا عند جماهير الأصوليين و الفقهاء فعندما يأمر الله أمرا وأمتثل هذا الأمر فقد أديته و أوجدته فبرأت الذمة.
أما إذا جاء دليل أو قرينة يستفاد منه التكرار فتصبح صيغة افعل تدل على التكرار بالقرينة؛ هناك أوامر استقرت من حيث العدد كالحج في قوله تعالى " ولله على الناس حج البيت " والنبي صلى الله عليه وسلم بين أنه لو أوجبه كل عام ما استطعنا وأن المرة الواحدة تجزئ، وهناك أمور علقها الشرع على صفة أو على شرط وهناك أمور يقع فيها تداخل وللعلماء في هذا التداخل وجهات نظر وهي محل اجتهاد فمنهم من يفطن لقيد ومنهم من لا يفطن على حسب ورود الدليل، مثلا: علق الشرع على الشرط بعض الأوامر فقال الله تعالى:
(2/18)
" وإن كنتم جنبا فاطهروا “ فكلما حصلت الجنابة وجب التطهر وهذا يقتضي التكرار، ومثلا: علق الشرع على الصفة فقال تعالى " والسارق و السارقة فاقطعوا أيديهما " فكلما سرق تقطع يده وكقوله تعالى " والزاني و الزانية " فكلما زنى وجب عليه الحد ويتكرر الحكم بتكرار الشرط أو الصفة، ومثال آخر: قال الله تعالى " إن الله وملائكته يصلون على النبي " والعلماء مجمعون على وجوب الصلاة على النبي مرة واحدة في العمر لقوله تعالى " صلوا عليه وسلموا تسليما " ولكن وقع خلاف بينهم فمنهم من أوجب الصلاة عليه إن ذكر ولو مرة واحدة يعني إن ذكر النبي مرات عديدة الواجب أن تصلي عليه مرة واستدلوا بحديث في صحيح ابن خزيمة
ج: 3 ص: 192 عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رقي المنبر فقال آمين آمين آمين فقيل له يا رسول الله ما كنت تصنع هذا فقال قال لي جبريل أرغم الله أنف عبد أو بعد دخل رمضان فلم يغفر له فقلت آمين ثم قال رغم أنف عبد أو بعد أدرك والديه أو أحدهما لم يدخله الجنة فقلت آمين ثم قال رغم أنف عبد أو بعد ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت آمين “.
ومنهم من احتج بحديث " أيما قوم جلسوا فأطالوا الجلوس ثم تفرقوا قبل أن يذكروا الله ويصلوا على نبيه صلى الله عليه وسلم إلا كانت عليهم من الله ترة إن شاء الله عذبهم وإن شاء غفر لهم " فأوجب الصلاة على النبي في كل مجلس وهذا هو الراجح فيجب على المسلم المكلف في كل مجلس يجلسه أن يصلي على النبي و أن يكون الله ذكر فيه ولو بأقل الذكر فهذا التكرار لم نأخذه من عموم الآية ولكن من قيد آخر وهو الحديث.
هناك أشياء فيها ما يسعف بالقول بالتكرار إما لصفة أو شرط وأشياء فيها ما يسعف بعدم التكرار و أشياء هي محل نظر واجتهاد فمثلا: قال النبي صلى الله عليه وسلم " كل غلام مرتهن بعقيقته عن الذكر شاتان وعن الأنثى شاة " فمن ولد له ولدان عليه أربع شياة فقوله " كل غلام " يشير للتكرار.
(2/19)
مثال آخر قول النبي صلى الله عليه وسلم " من صلى على جنازة فله قيراط " رجل صلى على جنازتين معا نوبة واحدة ماذا له من الأجر ؟ كذلك من اقتنى كلبا ينقص من أجره قيراط، رجل اقتنى كلبين ماذا عليه من الوزر ؟ هنا الماتن:مر مشكلا ولا يوجد في النصوص ما يسعف إلا الفهم و الاستنباط الذي تتفاوت فيه الأفهام.
قال الماتن : ولا تقتضي الفور …الخ
قال الشيخ مشهوبالخيرات.ه: الراجح في هذه المسألة أن صيغة افعل تقتضي الفور خلافا لما قاله المؤلف وفي بعض نسخ الورقات فيها ولا تقتضي الفور ولا التراخي لكن جل النسخ فيها ولا تقتضي الفور فقط ويتأيد هذا بأن الماتن شافعي المذهب والشافعية عندهم لا يدلل على الفور وإنما يكون على التراخي، والصواب كما قلنا أن الأمر يقتضي الفور وهو مذهب أحمد وأصحابه و المالكية وبعض الحنفية و بعض الشافعية و الأدلة على ذلك كثيرة منها:
عموم المسارعة بالخيرات .
الجواب: في صيغة افعل تدلل على الفور؛ لو أن سيدا قال لعبده: اسقني ماء فجاءه بالماء بعد أسبوع هل أدى ما عليه ؟ الجواب:لا ولو عاقبه سيده لا يلام لأنه يُفهم من صيغة افعل الأمر على الفور وليس الأمر على التراخي ولو كان الأمر على الالامتناع. له حدا وغاية وهذه الغاية مجهولة لا نعلم نصا يحددها وهذا من مدعاة القول بالتكليف بالمجهول وهذا لا يصح عند المحققين من علماء الأصول.
قول الله عز وجل لإبليس " ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك " فلو كان الأمر على التراخي لقال أسجد فيما بعد ولكنه عوقب بمجرد الامتناع .
الإنسان طويل الأمل و التسويف عنده كثير فلو كانت الأوامر كلها على التراخي لكان هذا من مدعاة عدم الاستجابة و أن يفتح الشارع للمكلف أبوابا يستطيع من خلالها أن يتكاسل ويترك فعل المأمورات.
هل هناكنعم:من معرفة هذه المسألة ؟ الجواب نعم:
(2/20)
فمثلا: رجل عنده مال بلغ النصاب وحال عليه الحول فيجب عليه أن يدفع الزكاة لمستحقيها فأخرجها على مهل وتراخى في تأديتها؛ على القول أن الأمر يقتضي الفور يأثم وعلى القول لا يقتضي الفور لا يأثم. وكذلالماتن:رجلا نذر طاعة وماطل في تأديتها مع استطاعته على تأديتها يأثم على القول بالفور ولا يأثم على القول بعدم الفور.
قال الماتن : والأمر بإيجاد الفعل …الخ
مثلا:أصوليون: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقالوا مالا يتم المندوب إلا به فهو مندوب وتوسع بعضهم وقال مالا يتم المشروع إلا به فهو مشروع.
مثلا : صلاة الجماعة واجبة ولا يتحصل هذا الواجب إلا بالسعي والمشي فيكون هذا السعي واجبا
القاعدة ( مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب ) يقسمونها العلماء إلى أقسام:
ما لا يتم الواجب إلا بها وهي ليست تحت القدرة: مثل زوال الشمس للصلاة وهذه ليست واجبة
(2/21)
لذا الماتن:هم: ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب بخلاف الواجب المعلق على شرط ليس تحت القدرة فليس بواجب والقاعدة ( مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب ) ليست صحيحة على الإطلاق فلا بد لها من قيد بل هناك مالا يتم الواجب إلا به ويقع تحت قدرة العبد والعبد مخير في أدائه مثل النصاب للزكاة فغير مطالب بتحصيله وتجميعه مع القدرة على ذلك كأن رجلا معه مالا كثيرا ولكن ينفق كثيرا ومن مثل ذلك الإقامة لوجوب الصيام فالإقامة مقدور عليها ولكن غير مطالب بتحصيلها؛ ولذا العلماء يفرقون بين قولهم ( مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب ) وقولهم ( مالا يتم الوجوب إلا به فهو واجب ) فالنصاب و الإقامة ( لا يتم الوجوب ) ولذا تكون القاعدة [ مالا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب ومالا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب ] فهذان قيدان مهمان يذكران في هذا الباب وكما يذكر هذا في المفروضات فإنه يذكر في المندوبات فكما ذكرنا في صلاة الجماعة نذكر في صلاة القيام في رمضان فمن السنة أن نصلي قيام رمضان في المسجد ولا يتحصل هذا المندوب إلا بالسعي فهذا السعي مندوبا وكذلك الصلاة لا تكون إلا بالقيام فإن لم يقدر العبد على القيام يصلي جالسا.
قال الماتن : وإذا فعل …الخ
الحديث عن الأمر المطلق العبد المكلف إفيه: الواجب بشروطه الشرعية وبامتثاله الأمر تبرأ ذمته ويسقط عنه الإثم ولو مات المكلف قبل أن يمتثل للأمر لا تبرأ ذمته فلو مات المكلف وعليه دين ولم يؤده يؤخذ من ماله وكذلك لو أن رجلا نذر أن يصوم يوما ثم مات قبل أن يصوم لا تبرأ ذمته ويصوم عنه وليه.
من يدخل في الأمر و النهي ومن لا يدخل فيه :
* قال إمام الحرمين: يدخل في خطاب الله تعالى المؤمنون، الساهي و الصبي و المجنون غير داخلين في الخطاب.
و الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وبما لاتصح إلا ببضده.الإسلام؛ حكاية عن الكفار ما سلككم في سقر لقوله تعالى" قالوا لم نك من المصلين “.
(2/22)
و الأمر بالشيء نهي عن ضده و النهي عن الشيء أمر بضده . *
قال الشيخ مشهور حفظه الله: المقصود بخطاب الله هو الخطاب التكليفي لأننا فرقنا بين الخطاب التكليفي و الوضعي بإدخال غير المكلفين في الخطاب الوضعي، وأما قوله المؤمنون أي الذكور و الإناث فقد قالتعالى:صلى الله عليه وسلم " النساء شقائق الرجال "؛ هناك قاعدة تقول: إن الخطاب إذا كان للرجال تدخل فيه النساء تبعا إلا إذا جاءت قرينة تخرج النساء من هذا الخطاب و إن كان الخطاب للنساء لا يدخل فيه الرجال إلا مع وجود القرائن. وكذلك قوله المؤمنون يشمل النبي عليه السلام فكل خطاب خاطب الله فيه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فيدخل فيه سائر المسلمين تبعا ما لم ترد قرينة تبين أن هذا الأمر خاص للنبي عليه وسلم مثل قوله تعالى :" خالصة لك من دون المؤمنين " فهذه القرينة لم تأت عبثا دلت أن الله إن خص نبيه بشيء بينه ونصص عليه وما لم يقع هذا التنصيص فالخطاب الموجه للنبي يشمل جميع أفراد أمته .
وأما قوله: الساهي والصبي …الخ
مسألة:ير مأمور بذاته أي لا يدخل في التكليف ولكن ولي أمره مأمور بأن يأمره من باب الدربة فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " مرو صبيانكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع "هذا أمر لأولياء الأمور فإن لم يأمر الأب ابنه بالصلاة فالذي يأثم الأب والصبي لا يأثم وهذا من مؤيدات القول بأن الأمر بالأمر ليس بأمر فالصبي ليس بمأمور والشرع أمر وليه أن يأمره.
(2/23)
مسألة: هل رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم يكون في أفعال الترك والطاعات أم في الترك فقط ؟ مسألة:رفوع فقط في الترك فالصبي إن صام وصلى وحج وزكى فهو غير مأمور أمر إيجاب ولكن إن أوقع هذه العبادات بشروطها فهو مأجور لكن فعل الحج مثلا لا يسقط من ذمته ما لم يفعله وهو بالغ وفعله قبل البلوغ يؤجر عليه والذي يدل على ذلك أن امرأة رفعت ابنها للنبي وقالت ألهذا حج قال نعم ولك أجره ولازم قول النبي "نعم " أي له ثوابه.
مسألة : قال النبي صلى الله عليه وسلم " مروا صبيانكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع " وقال " خير موضوع الصلاة " فالشرع لم يجوِّز للأب وهو صاحب سلطة مادية ومعنوية على ابنه أن يضربه إلا إذا بلغ العشر على خير موضوع وهو الصلاة فعدم جواز الضرب قبل سنة العاشرة على غير الصلاة من باب أولى فلا يجوز لولي الأمر أن يضرب ابنه قبل سن العاشرة لأن التمييز و الإدراك ضعيف .
مسألة: متى يجري التكليف على الصبي ؟
يجري التكليف على الصبي بإحدى هذه الأمور:
1- الاحتلام: ظهور الماء في اليقظة الذي يكون منه الحمل والدليل على ذلك قوله تعالى " وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستئذنوا " وقوله تعالى " وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح " ويبلغ النكاح برؤية المني وقول النبي صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاث عن المجنون المغلوب على عقله وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم " وذكرنا أن المراد برفع القلم ترك كتابة الشر دون كتابة الخير.
السن:يض و الحبل في حق الأنثى: وهذا أمر مجمع عليه و يستأنس بقول أم سلمة مرفوعا " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار "
السن : وقع خلاف شديد بين العلماء في السن الذي يحكم على الصبي أنه بلغ به فمنهم من قال أربع عشرة سنة ومنهم من قال خمس عشرة سنة ومنهم من قال ثمان عشرة سنة ؛
(2/24)
فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف عن الثوري قال سمعنا أن الحلم أدناه أربع عشرة وأقصاه ثمان عشرة فإذا جاءت الحدود أخذنا بأقصاها قال عبد الرزاق والناس عليه وبه نأخذ.
لكن الراجح أن دون الثامن عشر يكلف و الصبي يكلف إذا بلغ خمس عشرة سنة وهو مذهب جماهير أهل العلم وهو مذهب الشافعية و الحنابلة و الأوزاعي وأبو يوسف وهنالك رواية عن أحمد قال خمس عشرة سقال: حق الذكر أما الأنثى فلا بد لها من الحيض، و الدليل على ذلك ما رواه الشيخان" عن بن عمر قال عرضني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في القتال وأنا بن أربع عشرة سنة فلم يجزني وعرضني يوم الخندق وأنا بن خمس عشرة سنة فأجازني قال نافع فقدمت على عمر بن عبد العزيز وهو يومئذ خليفة فحدثته هذا الحديث فقال إن هذا لحد بين الصغير والكبير فكتب إلى عماله أن يفرضوا لمن كان بن خمس عشرة سنة ومن كان دون ذلك فاجعلوه في العيال "
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن الصبي يبلغ بثمان عشرة سنة وروي عنه بسبع عشرة سنة واحتجوا بقوله تعالى " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده " وقد صح عن ابن عباس أنه قال : حتى يبلغ أشده ابن ثمان عشرة سنة .
قال الشيخ مشهور: ولا يلزم من الآية البلوغ فخبر ابن عمر أن حد البالغ خمس عشرة سنة أقوى و أوضح في الدلالة و أخص في المسألة.
الإنبات: قال به جمع على رأسهم مالك و الشافعي و أحمد و أبي ثور و الليث بن سعد وقالوا المراد به: أن ينبت الشعر الخشن حول ذكر الرجل وحول فرج المرأة فمتى حصل هذا الإنبات فحينئذ يكون الذكر والأنثى في عداد المكلفين و الذمة حينئذ تخاطب.
قال الإمام مالكا: بمجرد الإنبات لا تقام الحدود ولكن هو يبلغ به.
والدليل على الإنبالمالكية:ه أحمد و النسائي و أبو داود وابن ماجه من حديث عطية القرظي قال: “عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قرية فكان من أنبت قتل ومن لم ينبت خلي سبيله فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي "
(2/25)
بعض العلامات عند المالكية : وهذه لم يرد عليها دليل وليس بمجرد حصولها يحدث البلوغ ولكن هي أمارات البلوغ وهي : نتن الإبط ، غلظ الصوت ، بروز ثدي المرأة ، اخضرار الشارب ، نزول العارضين ، ظهور أثر اللحية من جهة شعر الرأس .
مسألة:: ويختلف البلوغ حسب الأكل و البيئة والحرارة و الفساد فلذلك يذكرون العلماء السن فقد يعيش الإنسان في بيئة عفيفة ولا يحتلم ويصل إلى العشرينات فهذا لا يلزم منه ما زال صبيا و أن ذمته لا تشغل فلذلك قالوا بوصول سن الخامس عشرة سنة يحدث البلوغ.
مسألة : مآل الصبيان أولاد المشركين والمجانين و المعتوهين ومن أدركوا الإسلام على كبر !
على أرجح الأقوال ووردت في ذلك نصوص عديدة تبين أن مآلهم يوم الدين أن تشعل النيران ويمتحنون امتحانا شاملا ويؤمرون باقتحامها فإذا اقتحموها نجوا ودخلوا الجنة و إن أبوا هلكوا و دخلوا النار.
الناسي و الساهي و الغافل لا يدخلون في الخطاب:
الناسي: النسيان بشيء سبق العلم به ولكن حال فعله لم يقع تذكره ؛ يعني أنا أفعل فعلا أعلمه سابقا ولكن النسيان وقع مني حال العمل ففعلته ناسيا ففي حال فعلي لم أذكر علمي به وهذا بالعلم السابق الحاصل عندي لكن وقعت مني غفلة أو ذهول لما فعلته .
الغفلة: تتعلق بما سيكون وليس بما كان؛ أغفل عنه أي لا أعلمه.
الساهي: يشمل الأمرين ( الغافل و الناسي ) فالسهو إما يقع بنسيان أو بغفلة.
الجواب:ل كل سهو ونسيان لا يؤاخذ به العبد بإطلاق ؟
(2/26)
الجواب: لا؛ فالأمر متى غفل عنه المكلف البالغ العاقل ونسيه فإنه غير آثم بعدم فعله بعذر النسيان ولكن لا يسقط من الذمة بإطلاق والنبي عليه السلام يقول: " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها " فالذمة مشغولة متى زال النسيان وحصل التذكر وكذلك رجل مر على الميقات ولم يحرم بحج أو بعمرة وبعد مروره عنه تذكر هل نقول أنه غير مكلف وليمض على ما هو عليه ؟ الجوالماتن:الواجب عليه أن يعود وكذلك رجل لبس المخيط ناسيا وهو محرم نقول هو غير مؤاخذ والواجب عليه بمجرد التذكر أن يخلع المخيط وأن يعود إلى أصل التكليف و الإثم مرفوع.
قال الماتن : و الكفار مخاطبون …الخ
الثمرة من هذه المسألة: رجل عنده امرأة كتابية هل يجب عليه أن يأمرها بالحجاب الشرعي وهل هي مكلفة بذلك ؟ورجل اتهم زوجته الكتابية بالزنا هل تقع بينهم ملاعنة ؟ رجل جاءه ضيف كتابي في نهار رمضان فأراد أن يقدم له شايا فهل له ذلك ؟ فمن قال الكفار مخاطبون بفروع الشريعة فيجب أن تؤمر الكتابية بالحجاب وتقع الملاعنة ويجب عدم تقديم الشاي، ومن قال أن الكفار غير مخاطبين لا يجب ذلك.
(2/27)
قال الشيخ مشهور: لا خلاف بين العلماء أبدا أن الكفار مخاطبون بأصول الشريعة و الإيمان وأنهم مخاطبون بأحكام المعاملات و ما يترتب عليها لأنهم يعيشون بين المسلمين وهم أهل ذمة فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين فلآثار المترتبة على المعاملات واجبة عليهم بعقد الذمة حتى على القول المخالف الذي يقول أن الكفار غير مخاطبين بالفروع يقول الواجب عليهم فاليهودية.ت ما يجب على المسلمين بعقد الذمة وكذلك ما يترتب على العقوبات كالحدود والقصاص فهذا يجب عليهم بعقد الذمة ومن قال من علمائنا أنهم مخاطبون بفروع الشريعة قالوا هو واجب عليهم ديانة، وهذا الحد غير مختلف فيه بين الفقهاء وفيما عدا ذلك اختلفوا هل هم مخاطبون بمعنى أن الله يوقفهم يوم القيامة ويحاسبهم على جميع الفروع على الصلاة و الزكاة وغير ذلك أم لا ؟
هذا مما وقع فيه الخلاف والراجح ما قرره الماتن بأنهم مخاطبون وهذا أقوى الروايات عن أحمد فإنه قال في كتاب الطاعة وهو كتاب مفقود يكثر القاضي أبو يعلى الحنبلي في كتبه ولا سيما في كتابه العدة في أصول الفقه فنقل عنه أنه قال في قوله تعالى " و الذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء … " الآية الظاهر أن هذا الحكم وهو اللعان يقع على الأمة والنصرانية و اليهودية .
(2/28)
وذكره عنه ابذلك:مة في المغني و صاحب المسودة في أصول الفقه ذكروا عنه قولين و رجحا أن أصح القولين عن أحمد أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وهذا ظاهر مذهب الإمام الشافعي فقد نقل الزركشي في البحر المحيط عنه فقال: نص الشافعي عليه في مواضع منها تحريم ثمن الخمر عليهم يعني لو أنك بعت واشتريت مع كتابي خمرا والخمر في الشرع مال ولكن مال غير محترم، فالقول بأن الكافر مخاطب بالفروع لا يلزمك القاضي المسلم أن تدفع ثمن الخمر للكتابي وإن لم يكن الكافر مخاطبا يلزمك القاضي بالدفع فالثمار كثيرة على المسألة وهذا مذهب المالكية وإليه ذهب بعض الحنفية كأبي بكر الرازي وهذا مذهب أهل الحديث و أكثر المعتزلة وهو الصواب.
والأدلة على ذلك :
قول النبي صلى الله عليه وسلم " بني الإسلام على خمس … " الحديث فالشالأمر.بالنسبة لسائر الأركان كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة فكما أن الصلاة لا تقبل إلا بالوضوء فإن الصلاة لا تقبل إلا بالشهادتين و أصل الإسلام مبني على هذه الأصول الخمسة فلو كان الكافر فقط مكلف بالشهادتين لما كانت الأصول الخمسة هي أركان الإسلام فالمسلم عليه أن يقيم الإسلام بأركانه وبما أن الكافر مخاطب بالشهادتين أيضا مخاطب بسائر الأركان.
الكفار داخلون في النهي و النهي أحد شقي التكليف فإذاً هم داخلون في الأمر .
قالوا لا يوجد شيء مستحيل عقلا فما الذي يمنع من دخول الكفار في فروع الشريعة ؟ فالكافر عاقل بالغ مدرك مميز كالمسلم فلماذا هذا يشغل وهذا لا يشغل ومناط التكليف عند الطرفين هو هو.
احتجوا بآيات كثيرة منها:
أ – " و لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " أل في الناس للاستغراق فيشمل المؤمن و الكافر.
ب – " ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين " فجرمهم ليس الكفر فقط وإنما جرمهم بترك الصلاة وعدم إطعام المسكين.
(2/29)
ج- “لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة، رسول من الله يتلو صحفا مطهرة، فيها كتب قيمة، وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة، ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة."
د- “ والذين لا يدعون مع لله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم لله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ثم يضاعف له العذاب يوم لقيامة ويخلد فيه مهانا " سبب مضاعفة العذاب الأمور الثلاثة؛ الكفر و القتل و الزنا فلو كان الكافر غير مخاطب بفروع الشريعة لما كانت المضاعفة لها معنى. فالكافر الذي لا يزني ولا يقتل ليس كالكافر الذي يزني ويقتل فمضاعفة العذاب ورد في الآية من جميع المحظورات فإذا ضوعف العذاب بمجموع ذلك دل على أن الزنا و القتل يدخل فيه فثبت كون ذلك محظورا عليه فيستفاد من ذلك أن الكافر مخاطب بفروع الشريعة.
و- " كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق
فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى" فذم الكفار على ترك الصدقة وعلى ترك الصلاة فدل على أنهم مخاطبون.
ز- " وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون " فتوعد الله المشركين بالويل وسبب ذلك أنهم لا يؤتون الزكاة وكفرهم بالآخرة.
ح- " الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب " فرتب الله زيادة العذاب على الكفر وعلى الصد.
5- قالوا المقتضى لوجوب الفروع من العبادات قائم في حق الكافر، فربنا يقول " يا أيها الناس اعبدوا ربكم "
والكافر من الناس و الله خلق الإنس و الجن ليعبدوه فالمقتضى قائم فالبتالي هو داخل في هذه العمومات.
6- الكفار ذمهم الله وبين عقابهم على قتلهم الأنبياء وتكذيبهم الرسل فكان هذا العمل يعاقبون عليه كما يعاقبون على الكفر بالله.
(2/30)
وهناك قول آخر للعلماء قال به أغلب الحنفية ومال إليه ابن خويز منداد من المالكية وهو قول لأحمد ورواية عن الشافعي يقولون: إن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة. واحتجوا بأدلة بعيدة عن المسألة وبلوازم عقلية وشوشوا على بعض الأدلة السابقة ولم يتعرضوا لبعضها فمثلا قالوا في تفسير الآية " وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة" أي لا يزكون أنفسهم بالتوحيد وهذا مأثور عن بعض السلف وله محل من النظر لكن الناظر في جل أدلة القائلين بأن الكافر مخاطب بالفروع يجد أنه هو الصواب.
ومن أدلة القائلين بأن الكافر غير مخاطب بالفروع:
1=ما ثبت في الصحيحين: " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن فقال ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم "فالنبي ما أمرهم بالصلاة حتى يشهدوا فلازم هذا أنهم لا يخاطبون بالصلاة حتى يشهدون فالكافر غير مخاطب بالصلاة.
(2/31)
الجواب على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بأن يخاطبهم بداية بالصلوات لأن الصلاة غير مقبولة من الكافر فأمره أن يأمرهم بالشهادتين لا لأن الصلاة غير مطلوبة من الكافر بل لأنه طلب منه أن يأمرهم بالشهادتين حتى تصح صلاتهم، وإلا ففي الحديث نفسه في آخره قول النبي صلى الله عليه وسلم " فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوك بذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم " فلو كان استنباطكم واستدلالكم صحيحا لكان يفهم من الحديث أن الشخص لا يؤمر بالزكاة حتى يصلي و أنتم لا تقولون بذلك فأنتم تقولون أن ذمة غير المصلي المسلم مشغولة بالزكاة فعلى استنباطكم السابق لو كان صحيحا لكان هذا المعنى صحيحا وأنتم لا تقولون به فإذاً لا بد حمل الحديث على أن المراد أن النبي أمر معاذا بالبدء بالتوحيد لأن بصلاح التوحيد تصلح العبادات وليس لأن ذمة الكفار غير مشغولة بالصلاة، ثم على فرض صحة استدلالكم فدلالة الحديث على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع هي من دلالة المفهوم واللازم و النصوص السابقة دلالتها بالمنطوق ودلالة المنطوق مقدمة على المفهوم واللازم.
2= أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر وكسرى ودعاهما إلى التوحيد ولم يدعهما إلى صلاة أو زكاة أو غير ذلك من الفروع.
والجواب على ذلك: هذا لا يلزم منه أنهم غير مخاطبين بالفروع فالعاقل يدعو الناس الأولى فالأولى.
3= لو صح تكليفهم بالفروع فلو أدوها لصحت منهم وأنتم لا تقولون ذلك.
الجواب على ذلك: الجنب مخاطب بالصلاة ولا تصح منه لأنه قبل الصلاة مطلوب منه الغسل فالكفار مكلفون بالفروع ومكلفون بالذي لا تصح إلا به وهو الإسلام.
4= لو كانوا مخاطبين بفروع الشريعة لاستحقوا الضرب والقتل على تركها ولو أسلموا لوجب عليهم القضاء وهذا لم يقع في حياة النبي.
(2/32)
والجواب على ذلك: هؤلاء كفار ولهم أحكام خاصة بينها ربنا عز وجل فقال " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " فهذه الآية قائمة على التأسيس وهم مخصوصون بهذه الأحكام.
وأما قول الماتن: والأمر بالشيء نهي عن ضده …الخ
لا يستفاد من لفظ الأمر أنه نهي عن ضده وإنما يستفاد من معنى الأمر و مقتضاه أنه نهي عن ضده، فمثلا: أمر الشرع المصلي بأن يقوم في صلاته هذا نهي عن الجلوس أو الاضطجاع فلازم ومقتضى معنى القيام للمصلي المستطيع أن لا يجلس أو أن لا يضطجع.
والصواب أن يقال الأمر بالشيء نهي عن أضداده فمتى أمر الشرع بشيء فإن فحوى ذلك ولازمه ومقتضاه أنه نهي عن جميع هذه الأضداد.
وكذلك الصواب أن يقال والنهي عن الشيء أمر بأحد أضداده فمثلا الآية " ولا تقربوا الزنى " هذا نهي عن الزنى فلازم ومعنى هذا النهي الزواج بالحرة أو بملك اليمين أو بنكاح الأمة أو الاستعفاف أو الصيام فهو أمر بأحد هذه الأضداد.
النهي:
*قال إمام الحرمين : والنهي استدعاء الترك بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب ويدل على فساد المنهي عنه .
وترد صيغة الأمر و المراد به الإباحة أو التهديد أو التسوية أو التكوين .*
قال الشيخ مشهور حفظه الله : ما يقال عن الأمر يقال عن النهي والأمر طلب فعل و النهي طلب كف ( ترك ) والشريعة فعل وترك ، فالأصوليون يقولون للأمر صيغة وللنهي صيغة وأن ثمرة من أتى بالأمر فإنه يخرج عن العهدة أي تبرأ ذمته وتنفذ العقود ، والنهي من تجنبه برأت ذمته .
ولا خلاف بين الأصوليين أن النهي على الفور فمتى نهاك المشرع وجب عليك الامتثال ولا يجوز لك التراخي ،ولا خلاف بين الأصوليين أن النهي يقتضي التكرار فلو أن الشرع أمر المكلف بأن لا يسرق فامتثل مرة واحدة فامتثاله مرة لا يجوّز له أن يسرق مرة ثانية .
(2/33)
صيغة النهي : لا تفعل ؛ والنهي في اللغة المنع والنُهى هي العقول وتجتمع النهى و العقول في معنى وهو الكف و الترك والمنع عما يشين ؛ فالعقل سُمي عقل لأنه يعقِّل صاحبه والنُهى سُمي نُهى لأنه يمنع صاحبه عن الردى .
والنهي في الاصطلاح : وقع خلاف كثير في تعريفه
ولو أسقط الماتن في تعريفه للنهي "القول " لكان حسنا لأن طلب الترك قد يقع بالفعل ، وأما قول الماتن :"ممن هو دونه" أي من الأعلى إلى الأدنى ، وأما قوله "على سبيل الوجوب " فأخرج المكروه من النهي .
ولو قال الماتن :النهي :هو استدعاء الترك ممن هو دونه على وجه الاستعلاء، لكان التعريف أفضل، والأصل في النهي التحريم حتى تأتي قرينة تصرفه عن التحريم .
مسألة :
الأصل في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم أن ننزهها عن المكروه فالمكروه يشين المكلف فكيف بالنبي ّ! والنبي صلى الله عليه وسلم إن نهى عن شيء وفعله فمن الخطأ أن نقول إن النهي هنا يكون للكراهة لأن فعله صرف النهي من التحريم إلى الكراهة .
ولكن الصواب أن نقول متى نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء وفعله فإنما يكون النهي عن علة ولما فعله تكون هذه العلة قد تخلفت عن هذا الأمر المنهي عنه ؛ ومن أمثلة ذلك :
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائما وشرب قائما ؛ فلا يقال أن الشرب قائما مكروه لأن النبي فعله وإنما يقال الشرب قائم مشروع عند الحاجة و الأصل فيه محظور .
نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستلقي الرجل على ظهره ويضع رجله فوق رجله وفعل النبي ذلك في المسجد ؛ فالنهي كان لعلة كشف العورة فإذا أمن النائم أن تستر عورته فله أن يفعل هذا ولا يقال أن الفعل مكروه و النهي حرام .
(2/34)
قال النبي صلى الله عليه وسلم " ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش البذيء " والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه أعرابي و قد ثبت عليه الزنى وأراد أن يرجمه حتى الموت وهذا الأعرابي لا يفهم الأمور بالتكنية فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إما أن يهدر دمه أو يذكر له الجماع صراحة فقال له النبي " أنكتها " وهذه كلمة فيها فحش فلا نقول أن الفحش مكروه لأن النبي قاله ونهى عنه بل قاله لضرورة .
مسألة : هل يقتضي النهي الفساد ؟
قال الشيخ مشهور حفظه الله : النهي إما أن يكون في العبادات أو في المعاملات ؛ وثمرته في العقود و المعاملات نفوذ العقد وفي العبادات أن يعتد بها والعلماء مجمعون على أن العبادة مع وقوع النهي تنفذ ويعتد بها و في بعض الأحايين لا يعتد بها .
وهذه القاعدة ألف العلائي الفقيه مجلد كبير في تفصيل هذه القاعدة سماه " تحقيق المراد في هل النهي يقتضي الفساد "
في المسألة أقوال :
الأول : أن النهي إن ورد على أي جهة كان سواء كان على ذات الشيء أو على صفة الشيء وسواء كانت هذه الصفة تنفك أو لا تنفك لازمة أو غير لازمة أو كان هذا النهي منصبا على ركن فيه أو على شرط من شروطه فإنه يقتضي الفساد ، وهذا مذهب الظاهرية وقول عند الحنابلة .
الثاني : يفرقون بين المنهي عنه بأصله و المنهي عنه بوصفه ولذا يفرقون بين الفاسد و الباطل فالعقود والعبادات الباطلة لا تنفذ ولا تبرأ الذمة منها وأما العقود و العبادات الفاسدة تنفذ وتبرأ الذمة منها مع الإثم ؛ يقولون ننظر إلى النهي فإذا كان النهي متعلق بذات الشيء فهذا يقتضي البطلان و إذا كان النهي لا يتعلق بذات الشيء ولا بأصله وإنما يتعلق بوصف من أوصافه فهذا لا يقتضي البطلان مع الإثم ،وهذا قول الأحناف .
(2/35)
الثالث :النهي إذا تعلق بعين المنهي عنه أو بوصف لازم له فإنه يقتضي الفساد وأما إن تعلق بوصف غير لازم له فإنه لا يقتضي الفساد ، وهذا مذهب الشافعية بل مذهب الجمهور قاله جمع من المالكية والحنابلة .
فمثلا : الربا ؛ هل الزيادة فيه تنفك عن أصل الربا أم لا تنفك ؟الزيادة وصف لازم ، الجمهور يقولون: الربا باطل لأن النهي يقتضي الفساد لأنه تعلق بوصف لازم .
ومثلا : رجل صلى وبيده خاتم ذهب ،هل لبس الذهب صفة تنفك عن الصلاة أم لا ؟ الصلاة صحيحة لأن الجمهور :إذا تعلق النهي بالذات فيدل على البطلان .
ومثلا: رجل غصب ( سرق) ماء وتوضأ به ؛وجود في الغسل وصف لازم فعلى هذا الغسل و الوضوء باطل .
ومثلا : رجل نذر أن يصوم يوم العيد ماذا عليه ؟ على القول الثاني وهو قول الأحناف يصوم يوما غيره لأنهم قالوا أن النهي هنا ليس متعلق بذات الشيء فجعلوا صفة الصوم في يوم العيد هي المنهي عنها أما مطلق الصوم فهو مشروع و أما على القول الثالث وهو قول الجماهير هذا نذر باطل لأنه تعلق بوصف لازم .
الرابع : إذا كان النهي متعلق بالذات أو بركنه أو بشرط من شروطه أو بوصفه الملازم الذي لا ينفك عنه فيدلل على الفساد و إلا فلا ؛ وهذا مذهب بعض الحنابلة .
فمثلا : البيع وقت الجمعة منهي عنه لذاته فالذي يشتري وقت الجمعة عقده لا ينفذ والمال الذي بيد البائع و السلعة التي بيد المشتري حرام لا يملكها ملكا شرعيا لأن النهي انصب على ذات وقت الجمعة ، وكذلك رجل صلى وستر عورته بثوب حرير ( وستر العورة من شروط صحة الصلاة ) فصلاته باطلة لأن النهي تعلق بشرط و أما إن لبس عمامة من حرير أو خاتم ذهب فصلاته صحيحة لأن النهي لم يتعلق بالشرط ، ... وكذلك في المعاملات مثل الغش في الميزان خارجة عن الأمور المذكورة فهو غير متعلق لا بالذات ولا بوصف لازم و لا بشرط ولا بركن .
(2/36)
قلنا النهي المنصب على الذات مثل الخمر والزنا، والمنهي عنه لوصف لازم أي يكون الشرع قد جاء بالنهي من أجل هذا الوصف مثل قوله تعالى" ولا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى " ومثل حديث النبي عليه الصلاة والسلام " لا يصلي أحدكم وهو يدافع الأخبثين ".
هل لبس الحرير في الصلاة وصف لازم أم لا ؟ الجواب :لا لكن من زاد كأصحاب القول الرابع كالتعلق بالشرط أو الركن فخرج عنده بطلان صلاة لابس الحرير إن سترت العورة وأما على القول الثالث فالصلاة جائزة .
الصلاة في الأرض المغصوبة ؛ على اعتبار القول الرابع المكان شرط للصلاة فالصلاة باطلة وعلى القول الثاني جائزة ؛فعلى التخريج على هذه القواعد تختلف الأحكام على حسب اعتبار القاعدة فهذه القواعد مأخوذة من استقراء الشرع ؛ فالنهي باعتبار الشرع كقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يتوضأ " فصلاة غير المتوضأ غير مقبولة ، والنهي باعتبار الركن مثل البيع .
الركن هو ما تقوم عليه ماهية الشيء . والماهية يعرفونها ما يصلح جوابا لسؤال ما هو ؟ فمثلا ما هو البيع ؟ هو بائع و مشتري بينهم إيجاب وقبول وسلعة البيع المثمن . فأركانه ثلاثة : السلعة ، القبول و الإيجاب ، البائع والمشتري .
ما هي أركان الزواج : إيجاب وقبول ، رجل و امرأة . ومن ضمن الشروط التي تخص الركن رضى ولي الأمر ؛ لو وقع نكاح من غير إذن ولي الأمر فهذا النكاح المنهي عنه شرعا ليس كالمعدوم حسا دائما وهو كالمعدوم حسا أحيانا ، وكذلك حكم المآتم التي يقرأ فيها القرآن ليست مشروعة وحكم الإنصات للقرآن واجب ، فلا يجوز أن تتقصد أن لا تنصت للقرآن لأن هذا في مأتم وهو منهي عنه شرعا فهو كالمعدوم حسا .
دخل رجل في مسجد مسبوقا فوجدهم يصلون في صف مقطوع ؛ هل يقف معهم أم يقف وحده ؟
تخرج على القواعد ؛ فعشرات المسائل تحتاج أن يتأنى بها وان تخرج وان ينظر فيها بنظرة تروٍ لأصولها والقواعد المعمول بها عند العلماء .
(2/37)
قلنا المنهي عنه بركن فيه وذكرنا البيع وقلنا من أركان البيع المثمن ، فلو كان المثمن خنزيرا أو خمرا فهذا النهي يقتضي الفساد وهكذا .
المازري له كتب كثيرة في الأصول وهو عقلية دقيقة، وشيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى نقل مذهبه وارتضاه في هذه المسألة والقلب يميل إليه وشوش تعلى كلام المازري العلائي في كتابه تحقيق المراد بكلام ظاهره القوة ولكن يستدرك عليه ويبقى الكلام مطردا وهذا الذي أراه صوابا في المسألة ( أي مذهب المازري ) فوضع المازري حدا سهلا في متى النهي يقتضي الفساد ومتى لا يقتضي فقال المازري : إذا كان النهي بحق الله تعالى فهو يقتضي الفساد وإذا كان النهي بحق العبد فهو لا يقتضي الفساد .
فقال العلائي مشوشا على ذلك : لا نعرف حقا للعبد إلا ويشوبه حق لله. فالزنى حق لله والذي زُني بعرضه له حق والسرقة حق لله و المسروق له حق ؛ فما من حق للعبد و إلا لله فيه حق وما من حق لله إلا وللعبد فيه حق ؛ ولكن ذكر المحققون من العلماء فيصلا وضابطا بين حق الله وحق العبد وبناء على هذا الفيصل ننظر فالذي في حق الله يقتضي الفساد والذي هو في حق العبد لا يقتضي الفساد فقالوا : حق الله مالا مدخل للصلح فيه كالحدود و الكفارات وحق العبد ما يتعلق به مصلحة خاصة كحرمة ماله وهو الذي يقبل المعاوضة و الإسقاط والصلح .
مثلا : السرقة ؛ لو أن المسروق قال للقاضي أنا سامحت السارق ولا تقم الحد عليه فالقاضي لا يجوز له أن يعطل الحد فهي حق لله من حيث إقامة الحد ،لكن رجل سرق سكينا وهي دون الحد و ذبح شاة بها فهذه الشاة تؤكل لأنه يمكن أن يعاوض صاحب السكين بمال فيرضى .
(2/38)
وأما ذات عملية الزنى وذات عملية الربا لا تقبل المعاوضة إلا التوبة ؛فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم وكذلك رجل باع و اشترى يوم الجمعة في وقت الصلاة هذا لا يقبل المعاوضة وأما رجل غصب أرضا يقبل المعاوضة ورجل سرق ماء توضأ به يقبل المعاوضة كذلك ؛ لذا الأقوال السابقة لا تهدر وتذكر .
ومن الأمور المفيدة التي ينبغي أن تذكر : أن الصفة التي قلنا عنها اللازمة وغير اللازمة عبر عنها بعض الأصوليين بقولهم هل النهي يقبل الانفكاك أم لا يقبل ووجهات النظر تختلف في بعض المسائل فمثلا الصلاة في الأرض المغصوبة ؛ فمنهم من قال : أنها لا تقبل الانفكاك لأن الصلاة حركات و الحركات لا بد لها من مكان ولا يتصور صلاة في هواء ، ومنهم من قال : تقبل الانفكاك فيجوز الصلاة على أرض الغير ثم يمشي الإنسان بعد الصلاة ولا يلزم من الصلاة الغصب ، فحتى لضبط القواعد على فرض أننا ضبطنا قاعدة ما من القواعد المذكورة فإن تنزيل بعض المسائل مثل الانفكاك وغيره و الوصف اللازم وغير اللازم يقبل اختلاف وجهات النظر ،ولذا الخلاف بين العلماء في مسألة متى يقتضي النهي الفساد ومتى لا يقتضي ذلك من الأمور التي ينبغي التأني فيها .
ومن الأمور التي تساعد على هذا التفريق قول النبي صلى الله عليه وسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " والظاهر أن العمل هنا الذي يخص الله وليس في المعاملات وإنما في حقوق الله التعبدية ومعنى فهو رد أي باطل والحديث فيه إشارة إلى أن النهي إن كان بحق الله فهو باطل .
ثم قال الماتن : وترد صيغة الأمر …..الخ
قال الشيخ مشهور : يريد أن يقول الماتن أن الأصل في الأمر أنه للتشريع في الفعل و الأصل في النهي للتشريع في طلب الترك ، ولكن قد يأتي أوامر بصيغة افعل في القرآن ويراد بها أمور على ما تفهمه العرب وليس المراد بها أمور تشريعية .
المراد في صيغة الأمر غير التشريع هي :
(2/39)
الإهانة : فلما يذكر لفظ يراد به الإكرام ويكون المراد ضده فحينئذ يكون هذا الأمر للإهانة مثل قوله تعالى " ذق إنك أنت العزيز الكريم "
التهديد : مثل قوله تعالى" اعملوا ما شئتم أنه بما تعملون بصير "
التعجيز : مثل قوله تعالى " فادرءوا عن أنفسكم الموت " وقوله تعالى " فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين " .
المشورة : مثل قوله تعالى " فماذا تأمرون "
التصبر :مثل قوله تعالى " لا تحزن إن الله معنا "
الإنذار : مثل قوله تعالى " ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل "
التعجب : مثل قوله تعالى " انظر كيف ضربوا لك الأمثال "
التسليم : مثل قوله تعالى " فاقض ما أنت قاض "
الاعتبار: مثل قوله تعالى " قل سيروا في الأرض فانظروا …" وقوله تعالى " انظروا إلى ثمره إذا أثمر "
الإرشاد :مثل قوله تعالى " وأشهدوا إذا تبايعتم " والنبي تبايع دون إشهاد ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم " كلوا الزيت وادهنوا به "
الدعاء : مثل قوله تعالى " اهدنا الصراط المستقيم "
الامتنان : وهو غير المباح فالإباحة تكون مجرد الفعل أو الترك وأما الامتنان فغالبا يذكر مع قرينة احتياج الخلق له وعدم قدرتهم عليه مثل قوله تعالى " كلوا من طيبات ما رزقناكم "
التكوين و السخرية : مثل قوله تعالى " كونوا قردة خاسئين "
والمراد في صيغة النهي غير التشريع وهي :
الإياس: مثل قوله تعالى" لا تعتذروا اليوم "
التقليل و التحقير : مثل قوله تعالى " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم "
الإرشاد : مثل قوله تعالى " لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم "
الدعاء : مثل قوله تعالى " ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به "
(2/40)
الكلمات النيرات في شرح الورقات
للشيخ مشهور حسن سلمان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،
أما بعد فهذا شرح لمتن الورقات لإمام الحرمين الجويني الذي بدأ شرحه الشيخ مشهور حسن سلمان حفظه الله يوم الجمعة في الثالث عشر من شهر شوال عام اثنين وعشرين وأربعمائة هجرية وقد تم نقلها من الأشرطة المسجلة لهذه الدروس.
ترجمة مؤلف متن الورقات: أخذت من البداية والنهاية لأبن كثير
هو عبد الملك ابن( الشيخ أبي محمد ) عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه، أبو المعالي الجويني ( جوين من قرى نيسابور ) الملقب بإمام الحرمين لمجاورته بمكة أربع سنين، كان مولده في سنة تسع عشرة وأربعمائة، سمع الحديث وتفقه على والده الشيخ أبي محمد الجويني ودرّس بعده في حلقته وتفقه على القاضي حسين ودخل بغداد وتفقه بها وروى بها الحديث وخرج إلى مكة فجاور فيها أربع سنين ثم عاد إلى نيسابور فسلم إليه التدريس والخطابة والوعظ.
وصنف نهاية المطلب في دراية المذهب والبرهان في أصول الفقه وغير ذلك في علوم شتى، واشتغل عليه الطلبة ورحلوا إليه من الأقطار وكان يحضر مجالسه ثلاثمائة متفقه ، وقد استقصيت ترجمته في الطبقات وكانت وفاته في الخامس والعشرين من ربيع الأول من سنة ثمان وسبعين وأربعمائة عن سبع وخمسين سنة ، ودفن بداره ثم نقل إلى جانب والده رحمه الله تعالى .
(3/1)
قال ابن خلكان : كانت أمه جارية اشتراها والده من كسب يده من النسخ ،وأمرها أن لاتدع أحدا يرضعه غيرها فاتفق أن امرأة دخلت عليها فأرضعته مرة فأخذه الشيخ أبو محمد فنكسه ووضع يده على بطنه ووضع إصبعه في حلقه ولم يزل به حتى قاء ما في بطنه من لبن تلك المرأة ، قال : وكان إمام الحرمين ربما حصل له في مجلسه في المناظرة فتور ووقفة فيقول : هذا من آثار تلك الرضعة ، قال : ولما عاد من الحجاز إلى بلده نيسابور سلم إليه المحراب والخطابة والتدريس و مجلس التذكير يوم الجمعة وبقي ثلاثين سنة غير مزاحم ولا مدافع وصنف في كل فن وله النهاية التي ما صنف في الإسلام مثلها .
قال الحافظ أبو جعفر : سمعت الشيخ أبا إسحاق الشيرازي يقول لإمام الحرمين : يا مفيد أهل المشرق والمغرب أنت اليوم إمام الأئمة .
(3/2)
ومن تصانيفيه : الشامل في أصول الدين , البرهان في أصول الفقه , تلخيص التقريب ,الإرشاد , العقيدة النظامية وغياث الأمم وغير ذلك مما سماه ولم يتمه ، وصلى عليه ولده أبو القاسم وغلقت
(3/3)
ا???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? ???? ? ? ??*???? ? ? ? ? @ ??"?? ?? ??????: ? ??????????????? ???????? ? ?? ?? ...
(3/4)
- ! " # $ % & ??( ) * + , ??. / 0 1 2 3 4 5 6 7 8 9 : ; < = > ? @ A B C D E F G H I J K ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? ? ? ?'?? ?'?? ? ? ? ? ? ? ? ?>? ?<? ?"? ?? ?????????????? ? ?? ? ? ? ? ? ? ??? ??? ??????????? ?
??? ?? ???? ?? ? ? ?0 ?( ? ? ? ?B ? ? ? S? ? ? ? ? ... ? ? ? ? ? ? ? مفيد C:\My Documents\MOFEED.doc مفيد
D:\MOFEED.doc مفيد
D:\MOFEED.doc مفيد
D:\MOFEED.doc مفيد
D:\MOFEED.doc مفيد
D:\MOFEED.doc مفيد
D:\MOFEED.doc مفيد
D:\MOFEED.doc مفيد
D:\MOFEED.doc? ? ?è ? F?*???????( ? ? 0? 1? 0? ?? ?????? ? Times New Roman ?? ????? ? ? Symbol ?? ?????? ? Arial ٍ?² ? @ Traditional Arabic " ?? ? ? ???آ ... ? ? ??´´?? ?? مفيد مفيد DocumentSummaryInformation 8??????? ? CompObj ?????? j 0Table ?????? ? ?????? ???? ?? ??????: ? ????? ??? ? ? ?????????????????? ???? ? ? ???? ?? ? ?? ??? ?? ? ?" ??????0 ? ? ?!? ?????????? ??????0 ? ? ?!? ?????????? ??????? ?? ??? ??????? ? ??? ? ????? ??D ????? ???AG? ?? ? ? ? ???? ? ? ? ? ? ? ? ? ] ? E ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?
?
? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? $ ? ? ? : ? 8 ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? : ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?
????? ? ? ? Root Entry ????? ? A ? ????????B ? 1Table ? ?? ? WordDocument ? ???? M ? SummaryInformation (? ?? ' ? ???? ...
. ?? ) 9 ( ! " # $ % & ' / * + , - 0 ??????????????????: ; < = > ??@ _ ??? ????????????????????N ] ??R S T U V W X Y Z [ \ ??????` a ??????????????????????????????????????????????????????????????
[ &?? & Normal ??? <???< Default Paragraph Font 0? ?0 ... Body Text
(3/5)
???? ? ?? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?l ? ? ?, R?$ ??????????? ? @? ? ???÷???? ??? ? ? ??? ??? ??? ??? ? ??? ??? ? ??? ? ?? ? ??????? ??? ?? ? ? ? ? ? ??? ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? ???? ?
? ??*? ? ? ??"???"?? ?? ??????: ? سائر حواسه سليمة ولا يفكر تفكيرا سليما إلا وجميع حواسه موجودة فكذلك الحكم الفقهي لا يؤخذ من نص بمعزل عن سائر النصوص فأي حكم فقهي لا يؤخذ من نص واحد يجب جمع جميع الأدلة لهذا الحكم ثم استنباط الحكم بإعمال قاعدة الجمع بين الأدلة فإن تعذر الجمع لا بد من أن نرتب الأدلة والترتيب يكون على أصول علمية وليست على هوى وتشهِّي فمن حيث الاستنباط يوجد قواعد للعلماء في الترتيب فنرجح الجلي على الخفي فمثلا عندنا نص يؤخذ منه حكم سيق النص من أجله وهذا يسمى نص وعندنا نص آخر يدل على الحكم بظاهره ولا نعرف أن النص قد سيق من أجله وهذا يسمى الظاهر ولذا العلماء يقولون النص مقدم على الظاهر وهذا المراد بتقديم الجلي على الخفي وكذلك الظاهر مقدم على المؤول فالنص الجلي الواضح البين الذي لا يعتريه احتمالات وسيق من أجل الحكم أصالة يقدم على النص الظاهر الجلي الذي لا يعتريه الاحتمالات أيضا ولكن ما سيق أصالة للحكم ولذا الفقهاء المدققون يقولون ظاهر النص يقول كذا ومنطوق النص يقول كذا وهكذا .
(3/6)
ومن قواعد الترجيح أن الموجب للعلم مقدم على الموجب للظن وهذا ترتيب من حيث القوة فمثلا عندنا نص دل على حكم وهذا الحكم يخالف حكما مقررا في سائر نصوص الشريعة فأشبه ما يكون بالمحكم والمتشابه فنحمل المتشابه على المحكم فبعض النصوص في مرتكبي الكبائر تشير إلى تكفيره ونصوص كثيرة شهيرة قطعية واضحة بيّنة تبين أن مرتكب الكبيرة أمره إلى الله فنحمل الأمر المحتمل على الأمر القطعي فالموجب للعلم مقدم على الموجب للظن عند التعارض وعدم إمكانية الجمع فنقدم القطعي على الظني والظني بمعنى غير المتواتر فنقدم الأقوى فالأقوى فنقدم المتفق عليه على المختلف فيه ولكن ما ينبغي أن نتعجل في ذلك فقد ذكر الآمدي في كتابه الإحكام أكثر من مائة طريقة للتوفيق بين الأدلة المتعارضة ومن هذه الطرق التي ذكرها تقديم الحديث الذي في الصحيحين على غيره ولكن هذا تقديم جملي فلا يلزم أن كل حديث في مسلم أصح من كل حديث في مسند أحمد مثلا ففي مسند أحمد ثلاثيات كثيرة أما عند مسلم لا يوجد عنده ثلاثيات وكلما علا الإسناد كان مظنة القوة والضبط .
ومن قواعد الترجيح : تقديم النطق على القياس فيقدم المنطوق على المستنبط وحتى القياس ليس سواء فالقياس الجلي ليس كالقياس الخفي والقياس الأولى مقدم على القياس المساوي والمساوي مقدم على الأدنى وهكذا .
ومن قواعد الترجيح أيضا : أن الحقيقة مقدمة على المجاز وأن ما كان مدلوله نهيا مقدم على ما كان مدلوله أمرا لأن أكثر النهي جاء دفعا للمفسدة وأكثر الأمر جاء جلبا للمصلحة واهتمام العقلاء بدفع المفسدة أشد وقالوا لأن النهي يدل على الدوام بخلاف الأمر يدل على المرة فالذي يفيد الدوام أقوى من الذي لا يفيد الدوام ولذا جاءت قاعدة الحاظر مقدم على المبيح ومن الأمثلة على أن الأمر يدلل على المرة الواحدة قول النبي ( "اصبغوا وخالفوا المشركين " وقوله " كلوا الزيت وادهنوا به " فلو صبغت مرة وادهنت مرة لأديت الواجب .
(3/7)
ومن القواعد كذلك :ما كان مدلوله على الوجوب مقدم على ما كان مدلوله على الإباحة وهذا يسمى مراعاة الاحتياط والعمل بالاحتياط وهي مسألة شائكة جدا وفصّل في المسألة الشاطبي في الموافقات .
ومن القواعد : الأقل احتمالا يقدم على الأكثر احتمالا : فلو أن عندنا نصين تعارضا من جميع الوجوه وكلا النصين فيه لفظ مشترك أحدهما مشترك بين معنيين والثاني مشترك بين ثلاثة معاني فنقدم الأقل احتمالا وهذه صورة فرضية عقلية تفريعية احتمالية ولكن قد تلزم في بعض المسائل النادرة .
ومن القواعد التي تخص الأخبار : ترجيح الخبر بكثرة الرواة فإن خالف راو مجموعة من الرواة نقدم المجموعة غالبا فلما يتعارض الرواة ننظر لعدة أشياء من بينها العدد فلو روى عشرة عن الزهري لفظة وخالفهم واحد فالعشرة أضبط ولكن قد يكون حال هؤلاء العشرة ممن لم يضبطوا عن الزهري وفي حفظهم شيء وخالفوا إماما جهبذا له خصوصية بالزهري ملازم له فيكون هذا الواحد من هذه الحيثية مقدم على العشرة .
كذلك الإسناد العالي مقدم على النازل وكذلك خبر الراوي الفقيه مقدم على خبر الراوي غير الفقيه فهذه ترجيحات موجودة ولكن إسقاطها على بعض الأمثلة ينازع فيه ويتوسع بعضهم فيه ، ويرجح أحيانا بالعلم في العربية وأحيانا بالأفضلية فقول أبي بكر وعمر مقدم على غيره ، وكذلك يرجح بحال الراوي إن كان هو صاحب الواقعة وهذا يستأنس به فمثلا : هل يقع طلاق الحائض ، أي من طلق زوجته وهي حائض هل تحسب تطليقة ؟ حدث هذا مع ابن عمر أنه طلق زوجته وهي حائض فأمره النبي ( أن يرجعها فوقع خلاف بين أهل العلم هل يقع طلاق الحائض أم لا ؟
(3/8)
فكان من أقوى أدلة الجمهور على إيقاع الطلاق قول ابن عمر أنها حسبت تطليقة وهذا ورد معلقا في البخاري لأن ابن عمر أعلم واحد في هذه المسألة لأنها حدثت معه ، ومنهم من يرجح بوقت الرواية فيقدم خبر من تحمل الخبر وهو بالغ على من تحمل الخبر وهو صبي لأن الكبير مظنة الضبط بخلاف الصغير ويقدم من تحمل الخبر وهو مسلم على من تحمل الخبر وهو كافر ، وهناك ترجيح للأخبار في ما يخص وقت ترجيح الخبر فمثلا أخبار المسح على الخفين رواها أبو هريرة وهو ممن تأخر إسلامه ولذا الأخبار التي وردت في المدينة في الأحكام الشرعية مقدمة على الأخبار التي وردت في مكة .
قول الماتن " فإن وجد في النطق ما يغير الأول " أي إذا جاء دليل نقلي يغير العدم الأصلي عملنا بالنقل وإلا نبقى على الأصل ونستصحب الحال .
شروط المفتي
* قال الماتن : ومن شرط المفتي :أن يكون عالما بالفقه أصلا وفرعا خلافا ومذهبا ،و أن يكون كامل الآلة في الاجتهاد عارفا بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام من النحو واللغة ومعرفة الرجال وتفسير الآيات الواردة في الأحكام والأخبار الواردة فيها *.
قال الشيخ مشهور : ممن أفرد هذا الموضوع بالتصنيف ابن الصلاح في كتابه أدب المفتي والمستفتي واعتمد عليه ابن القيم في الإعلام وحرر كلام ابن الصلاح وممن أولى كتاب ابن الصلاح عناية كبيرة وزاد عليه وفرع على وجه حسن الإمام النووي في مقدمة المجموع .
(3/9)
شروط المفتي من الأمور المهمة ولا سيما لطلبة العلم والفتوى أمرها خطير ويجب التأني فيها وورع الصحابة والتابعين والصالحين في الفتوى معروف لذلك من سُأل عن مسألة وهو في شك منها فليقل لا أدري ولذا قالوا لا أدري نصف العلم وليس المراد بالنصف أن يكونا نصفين متساويين فالعلم قسمان تعلمه وتجهله فالذي تعلمه نصف وإن كان قليلا والذي لا تعلمه النصف الآخر ولذا قالوا في الفرائض نصف العلم لأن العلم شيء يخص في الحياة وشيء يخص بعد الوفاة وقالوا في علم الطهارة نصف العلم لأن العلم وسائل ومقاصد فالوسائل نصف العلم وبهذا يعرف مدى ورع ذاك الرجل من التابعين لما قال : لا أدري لماذا لا أدري نصف العلم فلما نقول عن شيء نصف العلم لا يلزم المساواة بين النصفين .
المفتي غير القاضي فخبر المفتي معلم وخبر القاضي ملزم ويجب على كليهما أن يكون مجتهدا .
من شروط المفتي أن يكون عالما بالمسائل الفقهية أصلا وفرعا خلافا ومذهبا فالأصل فيه أن يعلم المسائل المتفق عليها من المسائل المختلف فيها حتى لا يجتهد في مسألة متفق عليها والأصل فيه أن يعرف خلاف الفقهاء والعلماء ولذا كان قتادة يقول :من لم يعرف خلاف الفقهاء لم يشم أنفه رائحة الفقه .
(3/10)
قول الماتن " أصلا وفرعا " اختلف شراح الورقات في معناها فبعضهم قال أصلا أي كتابا وسنة في مسائل الفقه وقواعده وأصوله الأدلة الكلية والأصل في الأدلة الأصلية الكتاب والسنة والأدلة الفرعية الاجتهاد والقياس ، ومنه من قال أن مراده أصلا أي علم الأصول وجعله من الفقه تغليبا له إذ ثمرة علم الأصول الفقه ،ومنه من قال أن يكون عالما في الفقه أصلا بقواعده الكلية وبفروعه أي المسائل المبنية على تلك القواعد ، وكل هذه الأمور يجب أن تتوفر في المجتهد فالمجتهد يجب عليه أن يعلم شيئا من كتاب الله ويعلم علم الأصول والأدلة الكلية والقواعد والخلاف والفقه أصلا وفرعا خلافا ومذهبا يراد بالمذهب قواعد كل مذهب فلا يتعلق بأقوال شاذة في بعض المذاهب ويجب عليه أن يعرف عبارات ومصطلحات الفقهاء وإلا يضل ولا يفهم كلام العلماء .
(3/11)
قال الماتن " وأن يكون كامل الآلة .." أي أن يكون له مَلَكَة فقهية فنحن لسنا بحاجة لمن يحفظ الفروع نحن بحاجة إلى من يحسن استنباط الفروع في النوازل التي لا يكون لها نظير سابق ، والملكة هيئة راسخة في النفس يدرك بها ما من شأنه أن يعلم من جهة استنباط الأحكام الشرعية الفقهية فالعالم الفقيه تكون هذه الهيئة راسخة في نفسه لا تنفك عنه مثل عضو من أعضائه فيجب على المفتي أن يكون عنده صحة ذهن وجودة فهم فإن الحرف قد يؤثر على الحكم فمثلا لو رجل قال لزوجته " لو فعلت كذا سأطلقك " أو قال " لو فعلت كذا أنت طالق " وفعلت فعلى اللفظ الأول لا تطلق وعلى الثاني تطلق فمن شروط المجتهد أن يكون كامل الآلة في الاجتهاد عارفا فيما يحتاج إليه في استنباط الأحكام وهذا يشمل أشياء كثيرة أن يكون عنده معرفة في النحو لأن دلالة الألفاظ تعرف من خلال النحو وأن يكون عنده معرفة في اللغة لأن معرفة معاني الألفاظ تؤخذ من اللغة ومعرفة المقيد والمطلق والخاص والعام كل هذا له صلة باللغة العربية ولذا من بديع كتب الأسنوي كتاب الكواكب الدرية ذكر فيه خلاف الفروع الفقهية المبنية على أصول نحوية وعلى المفتي والمجتهد أن يكون عارفا بالرجال وبطرق الجرح والتعديل فلما انفك الفقه عن الحديث وقعت طامات والخلاف والانفصام بين الفقه والحديث من الأمور البدعية ما أنزل الله بها من سلطان فالأصل في الفقيه أن يكون محدثا والأصل في المحدث أن يكون فقيها ، أصبحت كتب المتأخرين من الفقهاء تعج بالأحاديث الضعيفة والواهية مما جعل الأمر شاقا وأوقع طلبة العلم في ربكة فالموفق والسعيد من انتبه إلى ضرورة الحديث وضرورة الفقه وألف الخطيب البغدادي رسالة " نصيحة أهل الحديث " نصحهم وبين لهم ما الفائدة من الحديث إن لم ينبني عليه فقه، فيجب على المجتهد أن يكون عارفا فيما يحتاج إليه في استنباط الأحكام ؛فيثبت الحكممعنى بديلا متساويا من جميع النواحي عن معنى آخر؛ فالتأليف هو
(3/12)
التركيب ولكن التأليف أخص من التركيب فهو تركيب وزيادة وهذه الزيادة وقوع الألفة بين الجزأين ( تركيب مع ألفة ) فالمركب قد تقع فيه ألفة وقد لا تقع فإن وقع بين الأمور المركبة ألفة سُمي
تأليفا قال الله تعالى " ولكن الله ألف بين قلوبهم " أي جمعها ووقعت بينها الألفة وفي صحيح البخاري تأليف أبو بكر القرآن.
فأصول الفقه مؤلف أي مركب تركيبا بين قسميه ألفة أي انسجام، مفردين أي أصول مفردة و الفقه مفردة؛
فهو مؤلف من جزأين مفردين أحدهما الأصول والآخر الفقه فلا يمكن الشروع في تعلم علم حتى يتصور ماهية هذا العلم، فعرف أصول الفقه باعتباره مركبا لا باعتباره لقبا أي نفرق بين مفردتيه و نعرف كل مفردة لوحدها
الأصل مفرد أصول وهو ما ينبني عليه غيره والفرع ما يبنى على غيره فأصل الشجرة أي عروقها ينبني عليها الساق ثم الفروع ثم الأوراق والثمرة والأصل مجمع الفروع فقال الله تعالى " ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء "
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين ج: 1 ص: 173- 175
(3/13)
وفي هذا المثل من الأسرار والعلوم والمعارف ما يليق به ويقتضيه علم الذي تكلم به وحكمته فمن ذلك أن الشجرة لا بد لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر فكذا شجرة الإيمان والإسلام ليطابق المشبه المشبه به فعروقها العلم والمعرفة واليقين وساقها الإخلاص وفروعها الأعمال وثمرتها ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة والصفات الممدوحة والأخلاق الزكية والسمت الصالح والهدى والدل المرضي فيستدل على غرس هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور فإذا كان العلم صحيحا مطابقا لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به والاعتقاد مطابقا لما أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله والإخلاص قائم في القلب والأعمال موافقة للأمر والهدي والدل والسمت مشابه لهذه الأصول مناسب لها علم أن شجرة الإيمان في القلب أصلها ثابت وفرعها في السماء وإذا كان الأمر بالعكس علم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ومنها أن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها فإذا قطع عنها السقي أوشك أن تيبس فهكذا شجرة الإسلام في القلب إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل وقت بالعلم النافع والعمل الصالح والعود بالتذكر على التفكر والتفكر على التذكر وإلا أوشك أن تيبس وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الإيمان يخلق في القلب كما يخلق الثوب فجددوا أيمانكم "وبالجملة فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك ومن هنا تعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر الله به من العبادات على تعاقب الأوقات وعظيم رحمته وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده بأن وظفها عليها وجعلها مادة لسقي غراس التوحيد الذي غرسه في قلوبهم ومنها أن الغرس والزرع النافع قد أجرى الله سبحانه العادة أنه لا بد أن يخالطه دغل ونبت غريب ليس من جنسه فإن تعاهده ربه ونقاه وقلعه كمل الغرس والزرع واستوى وتم نباته وكان أوفر لثمرته وأطيب
(3/14)
وأزكى وإن تركه أوشك أن يغلب على الغرس والزرع ويكون الحكم له أو يضعف الأصل ويجعل الثمرة ذميمة ناقصة بحسب كثرته وقلته ومن لم يكن له فقه نفس في هذا ومعرفة به فإنه يفوته ربح كثير وهو لا يشعر فالمؤمن دائما سعيه في شيئين سقي هذه الشجرة وتنقية ما حولها فبسقيها تبقى وتدوم وبتنقية ما حولها تكمل وتتم والله المستعان وعليه التكلان هذا نهاية كلام ابن القيم .
فائدة: هناك كتاب اسمه الفروع لابن مفلح الذي قال فيه ابن تيمية هو مفلح إن شاء الله ويسمى عند الحنابلة مكنسة المذهب لأنه ما ترك صغيرة ولا كبيرة ولا رواية ولا قول في المذهب إلا أتى به.
الفقه: معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد.
و الآن ينبغي أن نذكر أن الأصل في اصطلاح العلماء يطلق على معانٍ كثيرة فمنها: أ- الدليل؛ فيقولون الأصل في صيام رمضان قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصلاة " ب- الأصل الذي نقيس عليه؛ فالقياس له أربعة أركان: أصل و فرع و علة وسريان العلة من الأصل إلى الفرع. ج- القاعدة المستمرة؛ فنقول الأصل حمل الكلام على الحقيقة الشرعية لا على الحقيقة العرفية ونقول إباحة الميتة للمضطر خلافا للأصل.
الشريعة الإسلامية جاءت بأخبار و أوامر قطعية معلومة من الدين بالضرورة لم يقع فيها خلاف قررت بمنطوق النصوص لم تعرف بالاجتهاد و لا بالاستنباط فهذه الأمور المسلمات المقررات ليست موضوع الفقه و إنما موضوع الفقه معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد.
الحكم: المنع؛ حكم القاضي على فلان بكذا أي منعه و في الاصطلاح إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه مثلا: زيد قائم: أثبت القيام لزيد
تدرك الأحكام بثلاثة أمور: أ- بالعقل ( الأحكام العقلية ) مثلا: النصف أقل من الكل
ب- بالعادة: مثلا: زيت الخروع يمشي البطن
ج- بالشرع ( الأحكام الشرعية )
(3/15)
إذن الفقه هو إدراك الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد. فخرج من هذا التعريف أولا: الأحكام العقلية ثانيا: الأحكام التي تعرف بالعادة ثالثا: الأمور والأخبار الشرعية المعلومة من الدين بالضرورة التي لا تحتاج إلى اجتهاد.
الفقه بالمعنى المجمل الذي كان في زمن السلف يشمل معرفة التوحيد والتفسير …الخ لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس " اللهم فقهه في الدين " وهذا الفقه العام أما عند العلماء الفقه هو معرفة الأحكام الشرعية فقط ومن خلال تعريفنا للأصل وحده والفقه وحده نستطيع تعريف أصول الفقه بدمجهما مع بعضهما فنقول
أصول الفقه: معرفة القواعد التي تبنى عليها الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد.
**قال إمام الحرمين أبو المعالي: الأحكام سبعة: الواجب والمندوب و المباح والمحظور و المكروه والصحيح و الباطل *.
قال شيخنا مشهور حسن حفظه الله:يؤخذ على المؤلف في تقسيمه للأحكام أمران: الأول دمج بين نوعين من الأحكام حيث أن الأحكام الشرعية قسمان أ- الأحكام التكليفية وهي عند جماهير أهل العلم خمسة: الوجوب و الندب و الإباحة والحظر و الكراهة ب- الأحكام الوضعية وهي عند جماهير أهل العلم خمسة: السبب و الشرط و المانع و الصحة و البطلان.
الحكم الشرعي: هو خطاب الله المتعلق بفعل المكلف من حيث أنه مكلف به أو هو خطاب الله المتعلق بفعل المكلف بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع.
(3/16)
الوضع أحكام وضعية خاصة و الأحكام التكليفية تكون بالاقتضاء أو التخيير فإذا كان المقتضى افعل على وجه الإلزام فهو الوجوب وإذا كان المقتضى افعل على غير وجه الإلزام فهو الندب وإذا كان المقتضى لا تفعل على وجه الإلزام فهو الحظر وإذا كان المقتضى لا تفعل على غير وجه الإلزام فهو الكراهة و إذا كان المقتضى فيه تخيير فهو الإباحة.ومعنى ( من حيث أنه مكلف به ) أي يخص المكلف من حيث أنه مكلف به ففيما يخص الله وصفاته و أفعاله وفيما يخص الجمادات و فيما يتعلق بالمخلوق من حيث خلق الله له فهذه كلها ليست أحكاما شرعية فقوله تعالى " و يوم نسير الجبال " و قوله "الله خالق كل شيء " ليست أحكاما شرعية.
ثم الأحكام الوضعية ليس فيها تكليف للمكلف وإنما هي تعلق شيء بشيء وربط هذا الشيء بالحكم فالشيء المُتَعَلَق بالحكم الوضعي هو الحكم التكليفي فمثلا يقول الله تعالى " أقم الصلاة لدلوك الشمس “ فأوجب الله الصلاة وعلق وجوبها بالشمس فوجوب الشمس ليس حكما تكليفيا فالشيء الذي له تعلق بشيء آخر وله ارتباط به من السبب و الشرط والمانع والصحة والبطلان هذا حكم وضعي وخطاب الله المتعلق بالمكلف بالاقتضاء أو التخيير هذا حكم تكليفي.
الأمر الثاني: الحكم التكليفي يستنبط من تكليف الشرع أي من النصوص فمثلا قوله تعالى " و أقيموا الصلاة " في هذه الآية وجوب أو إيجاب الصلاة و لا نقول واجب الصلاة فالواجب هو الثمرة المتعلقة بالحكم الشرعي، فقول الماتن الأحكام سبعة الواجب و المندوب ….الخ فهذه ثمرات الأحكام و ليست الأحكام.
الفرق بين الحكم التكليفي و الحكم الوضعي:
1-الحكم التكليفي يشترط فيه استطاعة المكلف و الوضعي لا يشترط فيه ذلك فقد يكون مقدورا للمكلف وقد لا يكون مقدورا له. فمثلا شرط الصلاة حكم وضعي وهو غير مقدور عليه.
(3/17)
2-الحكم التكليفي لا يتعلق إلا بفعل المكلف الذي توفرت فيه شروط التكليف، أما الوضعي فيتعلق بفعل المكلف وغير المكلف؛ فمثلا إذا تسبب صبي بخراب شيء يضمن أهل الصبي ذلك وهو حكم وضعي.
3-الحكم الوضعي خطاب إخبار و إعلام جعله الشارع علامة على حكمه و ربط فيه بين أمرين بخلاف التكليفي فإنه خطاب طلب فعل أو طلب ترك أو تخيير.
4-الحكم التكليفي يتعلق بكسب و مباشرة المكلف نفسه بخلاف الوضعي فقد يكلف أشخاص بفعل غيرهم مثل الدية قد يدفعها أشخاص لم يتسببوا في القتل.
5-الفعل في الحكم الوضعي قد يكون مقدورا للمكلف و لا يؤمر به بخلاف التكليفي؛ مثل نصاب الزكاة فغير مأمور بتجميع النصاب مع أنه قادر على ذلك.
6-الحكم التكليفي يشترط فيه أن يكون معلوما للمكلف و أن يعلم أن التكليف به صادر من الله تعالى حتى يصح فيه القصد و النية بخلاف الوضعي فإنه لا يشترط فيه علم المكلف؛ فمثلا الميراث من الأحكام الوضعية، فإن مات لك قريب ولم تعلم ذلك لا تحرم الميراث، وكذلك من زوج ابنته بشروط العقد ولم تعلم صح زواجها.
*قال الماتن رحمه الله: فالواجب: ما يثاب على فعله و يعاقب على تركه، و المندوب: ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه، و المباح: مالا يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه، و المحظور: ما يثاب على تركه ويعاقب على فعله، والمكروه: ما يثاب على تركه ولا يعاقب على فعله، و الصحيح: ما يتعلق به النفوذ ويعتد به، و الباطل: ما لا يتعلق به النفوذ و لايعتدبه.
قال الشارح:هنا مؤاخذات كلية على كلام الماتن:
المؤاخذة الأولى: أنه ما فرق بين الأحكام التكليفية و الأحكام الوضعية.
المؤاخذة الثانية: أنه عد حكمين من الأحكام الوضعية و فاته ثلاثة ( الشرط والعلة والمانع ).
(3/18)
المؤاخذة الثالثة: أنه يوجد خلاف عند علماء الأصول في الأحكام التكليفية فالحنفية يجعلون الأحكام التكليفية سبعة وليست خمسة فيزيدون الفرض والكراهة التحريمية ويفرقون بين الوجوب و الفرض وبين التحريم و الكراهة التحريمية فالفرض والتحريم ما ثبت بدليل قطعي والكراهة التحريمية و الوجوب ما ثبت بدليل ظني.
ومما ينبغي أن يذكر أن الحنفية أنهم ما صنف أئمتهم كتبا في الأصول و إنما استخرجوا أصولهم من خلال الفروع و هذا التقسيم الذي عندهم إنما هو مأخوذ على وجه جملي أغلبي لا كلي استقرائي تام فمثلا لو أنك بحثت عن حكم لبس الرجل الحرير يقولون هو حرام مع أن الأحاديث التي تنص على حرمته ليست متواترة وإذا قلنا لهم لم تقولون لبس الحرير للرجل حرام مع أن الأحاديث في ذلك غير متواترة يقولون هكذا نصص أئمتنا وفي بعض الأحايين يتجوزون ويلحقون المكروه كراهة تحريمية بالحرام ويلحقون الوجوب بالفرض، مع القول بأنه من حيث الثمرة لا فرق عند الحنفية بين الوجوب و الفرض والحرام والكراهة التحريمية وذلك لأن من ترك الواجب أو الفرض ومن فعل الحرام أو الكراهة التحريمية هو آثم عندهم ومن فعل الواجب أو الفرض ومن ترك الحرام أو الكراهة التحريمية يثاب على ذلك عندهم، وإنما تظهر هذه الفروق في البطلان و عدمه فمثلا حكم قراءة الفاتحة في الصلاة عندهم واجبة و ليست فرض ومن ترك الواجب عندهم صلاته صحيحة وهو آثم ولذا لما تعرض ابن حجر في الفتح لهذه المسألة قال: فتح الباري ج: 2 ص: : 242
((لا ينقضي عجبي ممن يتعمد ترك قراءة الفاتحة منهم وترك الطمأنينة فيصلى صلاة يريد أن يتقرب بها إلى الله تعالى وهو يتعمد ارتكاب الإثم فيها مبالغة في تحقيق مخالفته لمذهب غيره.)) انتهى كلام بن حجر
(3/19)
ولذا كل الأمور المستجدة من المحرمات يقولون عنها مكروهة كراهة تحريمية؛ فعندهم الدخان مكروه كراهة تحريمية ولكنهم ينصصون على حرمة الحشيشة وهذا يؤكد ما قلنا أن هذه الأمور عندهم جاءت من خلال استقراء أحكام أئمتهم ومن خلالها أخذوا الأصول.
المؤاخذة الرابعة: الكلام الذي سمعناه؛ الواجب ما يثاب على فعله …..الخ هذا الثواب والعقاب يكون في الآخرة بلا شك وهذا من حيث الثمرة والشيء إن عرف من حيث الثمرة يحتاج إلى تعريف من حيث الماهية.
المؤاخذة الخامسة: ينقص في هذه التعريفات من الواجب إلى المكروه كلمة ( قصداً ) وذلك لأن الأحكام أخروية و ليست دنيوية و يحتاج العمل حتى يقبل في الآخرة إلى القصد و النية و لذا قال النبي صلى الله عليه و سلم " لا أجر لمن لا حسبة له “.
المؤاخذة السادسة: هناك خلاف لفظي في صيغة العد فعند الأصوليين؛ الوجوب و التحريم والكراهة و الندب و الإباحة إذ هو الخطاب و عليه فهو ذات الحكم عندهم فمذهبهم كون الحكم علما على نفس خطاب الشارع الذي يطلب من المكلف بينما عند الفقهاء الحكم الشرعي هو ما ثبت بالخطاب الشرعي أي أثره المترتب عليه لا نفس الخطاب فهم نظروا إليه من ناحية تعلقه بفعل المكلف لذا يقولون؛ الواجب و الحرام و المكروه و المندوب و المباح.
الحكم الأول الواجب:
(3/20)
يمكن أن يفعل العبد فعلا تبرأ به ذمته ويسقط التكليف عنه و لا يثاب عليه، فمثلا ورد في الشرع عدة نصوص تشوش على تعريف إمام الحرمين من مثل ما أخرجه مسلم في صحيحه برقم ( 2230) قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة"والسؤال هنا ليس سؤال امتحان ولو كان سؤال امتحان حتى يتبرهن له حاله فهذا جائز فقد ذهب النبي عليه السلام لابن صياد فامتحنه وكان كذابا عرافا و القصة في صحيح مسلم أما من سأله مستأنسا وغير مصدق له لا تقبل صلاته أربعين يوما وهناك إجماعا عند الفقهاء أنه من أتى عرافا وصلى فصلاته سقطت من ذمته ولا قضاء عليه ولا إعادة و أما المراد لا تقبل أي لا يثاب على فعلها و من أمثلة ذلك كذلك قول رسول الله عليه السلام " إذا أبق العبد فلا تقبل له صلاة " و قول رسول الله عليه السلام " من شرب الخمر لا تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد لا تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه " و الفقهاء مجمعون على أن العبد الآبق وشارب الخمر إذا صلى فصلاته تسقط من ذمته وليس عليه إعادة ولا قضاء والمقصود من عدم القبول أي لا ثواب له عليها، فإذن يؤخذ على المؤلف أنه ليس كل من فعل الواجب يثاب عليه.
ومن بديع ما أصله ابن القيم في كتابه المنار المنيف ج: 1 ص: 32- 33
والقبول له أنواع قبول رضا
? ومحبة واعتداد ومباهاة وثناء على العامل به بين الملأ الأعلى وقبول جزاء وثواب وإن لم يقع موقع الأول وقبول إسقاط للعقاب فقط وإن لم يترتب عليه ثواب وجزاء كقبول صلاة من لم يحضر قلبه في شيء منها فإنه ليس له من صلاته إلا ما عقل منها فإنها تسقط الفرض ولا يثاب عليها وكذلك صلاة الآبق وصلاة من أتى عرافا فصدقه فإن البعض قد حقق أن صلاة هؤلاء لا تقبل ومع هذا فلا يؤمرون بالإعادة يعني أن عدم قبول صلاتهم إنما هو في حصول الثواب لا في سقوطها من ذمتهم.
(3/21)
لذا كان عمر يتمنى أن الله قبل له سجدة كان يريد قبول الرضى والمحبة و المباهاة.
وكذلك ممكن أن يفعل العبد الكبيرة و الذنب ويترك الواجب ولا يقع العقاب ويعفو الله عنه فهذا يشوش على تعريف المؤلف مع إضافة كلمة قصدا، وهناك عقيدة عند أهل السنة و الجماعة وهي عقيدة الوعد والوعيد ومفاد هذه العقيدة " أن الله إن وعد لا يخلف وعده و إن أوعد فقد يخلف وعيده من باب فضله و كرمه "
جاء عمرو بن عبيد رأس المعتزلة إلى أبي عمرو بن العلاء من علماء السنة و أئمة اللغة فقال يا أبا عمرو أيخلف الله وعده ( وكان يريد وعيده ) فقال أبو عمرو: لا فقال المعتزلي أفأريت من وعده الله على عمل عقابا أيخلف الله وعده فيه فقال له أبو عمرو: من العجمة أتيت أبا عثمان إن الوعد غير الوعيد؛ إن العرب لا تعد عارا و لا خلفا أن تعد شرا ثم لا تفعل ترى ذلك كرما وفضلا إنما الخلف أن تعد خيرا و لا تفعل قال ابن عبيد:أوجد لي هذا من كلام العرب قال: نعم و أنشد أبو عمرو شعرا لعامر بن طفيل:
وإني و إن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي و منجز موعدي
إذن الأحسن في تعريف الواجب ما قاله ابن قدامة في الروضة " ما توّعد على العقاب بتركه " أي قد يقع العقاب وقد لا يقع ولم يذكر ما يثاب على فعله خوفا من الاستدراك عليه.
تتمات تلحق بالواجب:
أقسام الواجب:
القسم الأول: باعتبار ذاته وهو نوعان: أ- واجب معين ( مخصص ): وهذا حال أكثر الواجبات والمراد فيه شيء معين مخصص ويريده الشرع مثل الصلاة و الزكاة والحج وعتق رقبة و أداء الدين و النذر فمثلا كفارة القتل عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فلا يجوز للمكلف أن ينتقل إلى صيام الشهرين المتتابعين مع وجود الرقبة
(3/22)
ب – واجب مخير ( مبهم ):وهو الفعل الذي طلبه الشارع طلبا جازما لا بعينه بل خيّر فيه بين أفراده المحصورة. هنا لم يعلق الشرع الوجوب على خصلة معينة وعلى فعل معين و إنما علقه على مجموعة أشياء و المكلف يختار أي نوع من هذه الأنواع فإنه يسقط من ذمته؛ فمثلا كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة وهذا مخير فإن لم يجد أي نوع من هذه الأنواع فالصيام فيصبح معينا فهو من جهة مخير ومن جهة معين وكذلك مثل فدية الأذى فمن كان في رأسه أذى وهو محرم فاحتاج إلى حلق فهو مخير لقوله تعالى " فمن كان منكم مريضا أو به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " فالمكلف إن فعل واحدة من هذه الثلاثة فقد برأت ذمته
وقد جاء تفصيل هذه الخصال في صحيح البخاري ج: 2 ص: 645
عن عبد الله بن معقل قال ثم جلست إلى كعب بن عجرة رضي الله عنه فسألته عن الفدية فقال نزلت في خاصة وهي لكم عامة حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى تجد شاة فقلت لا فقال فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع.
القسم الثاني: باعتباره وقته: وهو نوعان أ- مضيق: وهو ما لا يسع وقته لفعله من جنسه إلا هو مثل الصيام.
ب- الموسع: ما يسع وقته من جنسه غيره مثل الصلاة.
الحنفية يطلقون على الواجب المضيق المعيار، مثلا النبي صلى الله عليه و سلم قال " من صام رمضان و أتبعه ستا من شوال كمن صام الدهر كله " فالست من شوال موسع فله أن يصوم أي يوم من شوال ومضيق إن تلبس بالفعل ولكن إن أفطر فلا شيء عليه ويصوم يوما غيره لما ثبت في مسند أحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الصائم أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر "
(3/23)
ملاحظة: إن ضيق على المكلف بقرائن فهذا لا يلغي توسعة الشرع؛ فمثلا رجل حكم عليه بالإعدام في الساعة الواحة والنصف و الظهر يدخل وقته في الساعة الثانية عشرة و النصف وما صلى ثم أجل عنه الحكم وصلى بعد الوقت الذي كان متيقنا فيه أنه سيموت فهل يصلي قضاءً أم يصلي حاضرا ؟ الجواب يصلي حاضرا لأن القرائن لا تلغي توسعة الشرع.
القسم الثالث: باعتبار فاعله: وهو نوعان: أ- عيني: وهو ما يتحتم أدائه على مكلف بعينه، وسمي بالعين لأن الفعل الذي تعلق به الإيجاب منسوب إلى العين و الذات.
ب- كفائي: لم يرد الشارع ذاتا بعينها إنما أراد الشارع ذات الفعل فإن لم يقع الفعل فالكل آثم و إن وقع الفعل من أحد سقط عن الجميع و إن فقد الواجب الكفائي قد يتعين على آحاد الناس من الأمة من يجد في نفسه القدرة على أداء هذا الواجب، فمثلا رجل أتاه الله ذاكرة قوية يجب أن يحفظ القرآن في السطور و الصدور و الأمة آثمة اليوم لأنه لا يوجد العدد الواجب من حفظة القرآن.
ما يثبت الواجب به:
قال الإمام ابن القيم في بدائع الفوائد ج: 4 ص: 810- 811
(3/24)
ويستفاد كون الأمر المطلق للوجوب من ذمه لمن خالفه وتسميته إياه عاصيا وترتيبه عليه العقاب العاجل أو الآجل ويستفاد الوجوب بالأمر تارة وبالتصريح بالإيجاب والفرض والكتب ولفظة على ولفظة حق على العباد وعلى المؤمنين وترتيب الذم والعقاب على الترك وإحباط العمل بالترك وكل فعل عظمه الله ورسوله ومدحه أو مدح فاعله لأجله أو فرحه به أو أحبه أو أحب فاعله أو رضي به أو رضى عن فاعله أو وصفه بالطيب أو البركة أو الحسن أو نصبه سببا لمحبته أو لثواب عاجل أو آجل أو نصبه سببا لذكره لعبده أو لشكره له أو لهدايته إياه أو لإرضاء فاعله أو لمغفرة ذنبه وتكفير سيئاته أو لقبوله أو لنصرة فاعله أو بشارة فاعله بالطيب أو وصف الفعل بكونه معروفا أو نفي الحزن والخوف عن فاعله أو وعده بالأمن أو نصبه سببا لولايته أو اخبر عن دعاء الرسل بحصوله أو وصفه بكونه قربة أو أقسم به أو بفاعله كالقسم بخيل المجاهدين وإغارتها أو ضحك الرب جل جلاله من فاعله أو عجبه به فهو دليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب هذا نهايةكلام ابن القيم.
ولخص الشيخ مشهور حفظه الله الألفاظ التي يثبت بها الواجب:
1-اسم فعل الأمر مثل عليكم أنفسكم
2-الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر مثل فليحذر
3-المصدر النائب عن فعله مثل فضرب الرقاب
4-الأمر بصيغة الخبر وهي من أقوى ألفاظ الوجوب مثل والوالدات يرضعن أولادهنّ
5-صيغة أمر ومشتقاتها
6-صيغة افعل
الحكم الثاني: المندوب
ما يثاب على فعله يخرج منه المباح و المكروه و الحرام ولا يعاقب على تركه يخرج منه الواجب.
والتكليف في الاصطلاح: إلزام ما فيه مشقة وفي اللغة تقول كلف الشيء كلفه تجشمه على مشقة و عسر وكلفه تكليفا أي أمره بما يشق عليه.
(3/25)
ومقتضى التكليف في الشرع أمران فعل و ترك والفعل و الترك إنما يخصان الأفعال لا الذوات فالصدقة محمودة و محببة إلى الله عز وجل سواء كانت على مسلم أو كتابي بل لو كانت على دابة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول
"في كل ذات كبد حرّى أجرٌ “.
الكف ( الترك ) فعل وهذا الراجح عند علماء الأصول وينبني على ذلك أحكام فمثلا لو أن رجلا حبس رجلا في مكان ما ومنع عنه الطعام والشراب حتى مات فالذي قتله الساجن لأنه منعه من الأكل و الشرب فهو فعل ترك.
ومن الأدلة على أن الترك فعل:
1-قوله تعالى " لولا ينهاهم الربانيون و الأحبار عن قولهم الإثم و أكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون " كانوا يتركون النهي عن قول الإثم و أكل السحت والصنع في اللغة أخص من الفعل
2-قوله تعالى " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " فعدم نهيهم سماه الله فعلا
3-قوله تعالى " قال رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا "
4-قول النبي صلى الله عليه وسلم " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده "
5-حديث الغار و فيه الرجل الذي ترك الزنا
6-قول الصحابي في غزوة الخندق " لان قعدنا و النبي يعمل لذاك منا العمل "
المندوب بالماهية: ما أمر به أمرا غير جازم.
هل المندوب مأمور به ؟
الراجح عند الأصوليين أن المندوب مأمور به، والأدلة على ذلك كثيرة منها:
1-قوله تعالى " وافعلوا الخير " والخير يشمل المأمور به أمرا جازما وغير جازم.
2-قوله تعالى " وأمر بالمعروف " الألف و اللام في المعروف للاستغراق فتشمل الطاعة الواجبة والمندوبة.
3-3-قوله تعالى " إن الله يأمر بالعدل والإحسان و إيتاء ذي القربى " ومن الإحسان وإيتاء ذي القربى ما ليس بواجب بل هو مندوب
قال ابن القيم في بدائع الفوائد ج: 4 ص: 821 - 823
فائدة الأمر المطلق ومطلق الأمر
(3/26)
الأمر المطلق والجرح المطلق والعلم المطلق والترتيب المطلق والبيع المطلق والماء المطلق غير مطلق الأمر والجرح والعلم إلى آخرها والفرق بينهما من وجوه:
أحدها: أن الأمر المطلق لا ينقسم إلى أمر الندب وغيره فلا يكون موردا للتقسيم ومطلق الأمر ينقسم إلى أمر أيجاب وأمر ندب فمطلق الأمر ينقسم والأمر المطلق غير منقسم.
الثاني: أن الأمر المطلق فرد من أفراد مطلق الأمر ولا ينعكس.
الثالث: أن نفي مطلق الأمر يستلزم نفي الأمر المطلق دون العكس.
الرابع: أن ثبوت مطلق الأمر لا يستلزم ثبوت الأمر المطلق دون العكس.
الخامس: أن الأمر المطلق نوع لمطلق الأمر ومطلق الامر جنس للأمر المطلق.
السادس: أن الأمر المطلق مقيد بالإطلاق لفظا مجرد عن التقييد معنى ومطلق الأمر مجرد عن التقييد لفظا مستعمل في المقيد وغيره معنى.
السابع : أن الأمر المطلق لا يصلح للمقيد ومطلق الأمر يصلح للمطلق والمقيد .
الثامن: أن الأمر المطلق هو المقيد بقيد الإطلاق فهو متضمن للإطلاق والتقييد ومطلق الأمر غير مقيد وإن كان بعض أفراده مقيدا.
التاسع: أن من بعض أمثلة هذه القاعدة الإيمان المطلق ومطلق الإيمان فالإيمان المطلق لا يطلق إلا على الكامل الكمال المأمور به ومطلق الإيمان يطلق على الناقص والكامل ولهذا نفى النبي المطلق عن الزاني وشارب الخمر والسارق ولم ينف عنه مطلق الإيمان لئلا يدخل في قوله والله ولى المؤمنين ولا في قوله قد أفلح المؤمنين ولا في قوله إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم إلى آخر الآيات ويدخل في قوله فتحرير رقبة مؤمنة وفي قوله وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا وفي قوله لا يقتل مؤمن بكافر رواه البخاري و الترمذي والنسائي وأمثال ذلك
(3/27)
فلهذا كان قوله تعالى قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا نفيا للإيمان المطلق لا لمطلق الإيمان لوجوه منها أنه أمرهم أو أذن لهم أن يقولوا أسلمنا والمنافق لا يقال له ذلك ومنها أنه قال قالت الأعراب ولم يقل قال المنافقون ومنها أن هؤلاء الجفاة الذين نادوا رسول الله من وراء الحجرات ورفعوا أصواتهم فوق صوته غلظة منهم وجفاء لا نفاقا وكفرا ومنها أنه قال ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ولم ينف دخول الإسلام في قلوبهم ولو كانوا منافقين لنفى عنهم الإسلام كما نفى الإيمان ومنها أن الله تعالى قال وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا أي لا ينقصكم والمنافق لا طاعة له ومنها أنه قال يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم فأثبت لهم إسلامهم ونهاهم أن يمنوا على رسول الله ولو لم يكن إسلاما صحيحا لقال لم تسلموا بل أنتم كاذبون كما كذبهم في قولهم نشهد أنك لرسول الله لما لم تطابق شهادتهم اعتقادهم ومنها أنه قال بل الله يمن عليكم ولو كانوا منافقين لما من عليهم ومنها أنه قال أن هداكم للإيمان ولا ينافي هذا قوله قل لم تؤمنوا فإنه نفى الإيمان المطلق ومن عليهم بهدايتهم إلى الإسلام الذي هو متضمن لمطلق الإيمان ومنها أن النبي لما اقسم القسم قال له سعد أعطيت فلانا وتركت فلانا وهو مؤمن فقال أو مسلم ثلاث مرات رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وأثبت له الإسلام دون الإيمان وفي الآية أسرار بديعة ليس هذا موضعها والمقصود الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان فالإيمان المطلق يمنع دخول النار ومطلق الإيمان يمنع الخلود فيها
(3/28)
العاشر: إنك إذا قلت الأمر المطلق فقد أدخلت اللام على الأمر وهى تفيد العموم والشمول ثم وصفته بعد ذلك بالإطلاق بمعنى أنه لم يقيد بقيد يوجب تخصيصه من شرط أو صفة وغيرهما فهو عام في كل فرد من الأفراد التي هذا شأنها وأما مطلق الأمر فالإضافة فيه ليست للعموم بل للتمييز فهو قدر مشترك مطلق لا عام فيصدق بفرد من أفراده وعلى هذا فمطلق البيع جائز والبيع المطلق ينقسم إلى جائز وغيره والأمر المطلق للوجوب ومطلق الأمر ينقسم إلى الواجب والمندوب والماء المطلق طهور ومطلق الماء ينقسم إلى طهور وغيره والملك المطلق هو الذي يثبت للحر ومطلق الملك يثبت للعبد فإذا قيل العبد هل يملك أم لا يملك كان الصواب إثبات مطلق الملك له دون الملك المطلق وإذا قيل هل الفاسق مؤمن أم غير مؤمن فهو على هذا التفصيل والله تعالى أعلم فبهذا التحقيق يزول الإشكال في مسألة المندوب هل هو مأمور به أم لا وفي مسألة الفاسق هل هو مؤمن أم لا هذا نهاية كلام ابن القيم.
أقسام المندوب:
العلماء يقولون: السنة هي ما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليها.
المستحب ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم و لم يواظب عليه
و النفل و التطوع ما يدخل تحت الندب الشرعي دخولا صحيحا ولم يفعله النبي عليه السلام.
وهذه الاصطلاحات لا مشاحة فيها فهي عند بعض الأصوليين واحدة و لا يفرقون بينها ومن فرق اعتبرها
مسألة : من ابتدأ بالندب هل يجب عليه أن يتمه ؟
العلماء مجمعون على أن من بدأ بحج أو عمرة عليه أن يتمها لقوله تعالى " و أتموا الحج و العمرة لله " و الخلاف فيما لا نص فيه فالعلماء في ذلك على قولين:
الأول: من بدأ بمندوب يجب عليه الإتمام وهو قول الأحناف واستدلوا بمايلي:
" "و لا تبطلوا أعمالكم " الآية
حديث الأعرابي في صحيح مسلم ج: 1 ص: 40
(3/29)
عن أبي سهيل عن أبيه أنه سمع طلحة بن عبيد الله يقول ثم جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس صلوات في اليوم والليلة فقال هل علي غيرهن قال لا إلا أن تطوع وصيام شهر رمضان فقال هل علي غيره فقال لا إلا أن تطوع وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة فقال هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع قال فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلح إن صدق.
3- حديث عائشة و حفصة في موطأ مالك وفي سنن البيهقي وعند الطبراني
ان عائشة وحفصة زوجي النبي صلى الله عليه وسلم أصبحتا صائمتين متطوعتين فأهدي لهما طعام فأفطرتا عليه فدخل عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة فقالت حفصة وبدرتني بالكلام وكانت بنت أبيها ثم يا رسول الله إني أصبحت أنا وعائشة صائمتين متطوعتين فأهدى إلينا طعام فأفطرنا عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقضيا مكانه يوما آخر.
الثاني : من بدأ بمندوب لا يجب عليه الإتمام إلا ما ورد بدليل خاص مثل الحج و العمرة ، وهو قول الشافعية و الحنابلة ، و استدلوا بما يلي :
قول النبي عليه السلام " الصائم أمير نفسه إن شاء صام و إن شاء أفطر "
2- في مسند أحمد ج: 4 ص: 211
(3/30)
عن أبي سعيد بن المعلى قال" ثم كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم اجبه حتى صليت فأتيته فقال ما منعك أن تأتيني قال قلت يا رسول الله إني كنت أصلي قال ألم يقل الله عز وجل يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ثم قال لأعلمنك أعظم سورة في القرآن أو من القرآن قبل أن تخرج من المسجد قال فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت يا رسول الله انك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قال نعم الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته "، فبين له النبي أن الإتمام ليس بواجب عليه.
3-ثبت في مصنف عبد الرزاق ج: 4 ص: 271 عن ابن عباس أنه قال: من أصبح صائما تطوعا إن شاء صام وإن شاء أفطر وليس عليه قضاء.
4- دليل عقلي: آخر المندوب من جنس أوله فكما أنه مخير بالابتداء فهو مخير بالانتهاء.
ردهم على أدلة القول الأول: قالوا: أما الآية فمن أولها " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم " المعنى أنكم بترككم الطاعة تبطلوا أعمالكم وقال ابن عباس ولا تبطلوا أعمالكم أي بالرياء فلا علاقة للآية في هذه المسألة، وأما حديث الأعرابي فالاستثناء هنا منقطع للجمع بين الأحاديث والجمع أولى من الترجيح، وحديث حفصة و عائشة ضعيف.
والراجح والله اعلم أن من ابتدأ بمندوب فله أن يتمه إذا شاء وله أن يقطعه إذا شاء وان منعناه من القطع فالمنع يحتاج إلى دليل خاص وإلا فالشروع بالمندوب مندوبا ولا يصبح واجبا.
ألفاظ المندوب:
1-الأمر الصريح الذي قامت قرينة على صرفه من الوجوب إلى الندب مثل قوله تعالى " وكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " ومن الصحابة من لم يكاتب عبيده وأقرهم النبي على ذلك وهذه قرينة صارفة.
2-التصريح بلفظة سنة أو سنتي.
(3/31)
ملاحظة مهمة:عند إطلاق السنة يراد بها أمران الحكم التكليفي والمصدر التشريعي ثم إن السنة مصدر تشريعي مثل الكتاب ولا يجوز لنا أن نفهم آية من الكتاب على خلاف السنة ولا يجوز أن نقول ننظر في الكتاب فإن لم نجد ننظر بالسنة كما ورد في حديث معاذ و هذا حديث ضعيف جدا فالكتاب و السنة مصدر واحد نفهم الإسلام منهما معا ففيهما أحكام الدين كله.
و يجب أن نفرق بين لفظة السنة على أنها حكم تكليفي وبين لفظة السنة على أنها مصدر تشريعي فقول النبي عليه السلام " وسننت لكم قيامه " أي قيام الليل وهذا تكليف وقول النبي عليه السلام " فعليكم بسنتي " هذا مصدر التشريع.
3-فعل سنّ وقد يأتي بمعنى شرع.
4-كل فعل جاء به ترغيب أو جاء به حث أو رتب عليه حب الله وهي من الألفاظ المشتركة بين الوجوب والندب.
5-فعل عجب مثل ما في صحيح البخاري في سبب نزول قوله تعالى " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان به خصاصة " قال النبي " إن الله عجب من صنيعكما " وقد تدلل على بغض الفعل مثل قوله تعالى " فإن تعجب فعجب قولهم “.
الحكم الثالث: المباح
ماهيته: ما أذن الله للمكلف بفعله و تركه مطلقا من غير ذم ولا مدح في أحد طرفيه لذاته.
أقسام الإباحة: أ- إباحة شرعية: وهي ما نصص عليها الشارع.
ب- إباحة عقلية: وهي البراءة الأصلية.
الثمرة من هذا التفريق:
إن جاء نص يحرم شيئا قد ثبت فيه إباحة شرعية يسمى نسخا و إن جاء نص في رفع الإباحة الأصلية فلا يسمى نسخا فالنسخ النص المتأخر الذي يرفع نصا سابق و إن كان مباحا.
كيف يكون المباح حكما تكليفيا ؟
في هذه المسألة أقوال: أ- ذكرت من باب تكميل العدد وهو اختيار الشنقيطي وهو ضعيف
ب- المراد اعتقاد هذا الحكم مثل اعتقاد أن الطعام مباح ويرد بأن كل الأحكام يجب اعتقادها أنها أحكام تكليفية.
(3/32)
ج- المباح حكم تكليفي بمعنى أنه مأمور به يعني يجب على المكلف حيث أنه ترك للحرام وقالوا لا يتم ترك الحرام إلا بفعل المباح وحينئذ يكون المباح حكم تكليفي لأنه متلازم لترك الحرام فقالوا بالسكوت يترك الكذب وهذا قول الكعبي وأبي بكر الدقاق وأبي فرج المالكي وهذا كلام غير صحيح فأصل في المباح المتساوي الطرفين وليس بكونه ذريعة إلى أمر آخر وكذلك لا يوجد تلازم بين الكذب و السكوت فقد يسكت وهو لا يكذب و يلزم من قولهم أن السرقة واجبة إن شغلت السارق عن الزنى لأنه أكبر.
والصواب: أن تناول المباح لا يصح أن يكون صاحبه محاسبا عليه بإطلاق و إنما يحاسب على التقصير بالشكر عليه، وقد يقال إن المباح حكم تكليفي من حيث الجنس لا من حيث الأفراد فالمكلف يجب عليه أن يأكل و يشرب و ينام و ينكح ويدل على ذلك حديث الرهط الثلاثة الثابت في صحيحي البخاري ومسلم
" عن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول ثم جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني “.
صيغ الإباحة: قال ابن القيم في بدائع الفوائد ج: 4 ص: 811
(3/33)
وتستفاد الإباحة من الإذن والتخيير والأمر بعد الحظر ونفي الجناح والحرج والإثم والمؤاخذة والإخبار بأنه معفو عنه وبالإقرار على فعله في زمن الوحي وبالإنكار على من حرم الشيء والإخبار بأنه خلق لنا كذا وجعله لنا وامتنانه علينا به وإخباره عن فعل من قبلنا له غير ذام لهم عليه فإن اقترن بإخباره مدح فاعله لأجله دل على رجحانه ومن لفظ الإحلال ورفع الجناح والإذن والعفو وإن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل من الامتنان بما في الأعيان من المنافع وما يتعلق بها من الأفعال نحو من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ونحو وبالنجم هم يهتدون ومن السكوت عن التحريم ومن الإقرار على الفعل في زمن الوحي وهو نوعان إقرار الرب تبارك وتعالى وإقرار رسوله إذا علم الفعل فمن إقرار الرب تعالى قول جابر كنا نعزل والقرآن ينزل رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي ومن إقرار رسوله قول حسان لعمر كنت أنشد وفيه من هو خير منك هذا نهاية كلام ابن القيم.
الحكم الرابع و الخامس: المحظور و المكروه:
ملاحظة: الحرام يختلف عن الواجب لأنه فعل ترك والعلماء متفقون على أن النهي يجب على الفور و يقتضي التكرار ومختلفون في أن الواجب يجب على الفور أم لا وهل يقتضي التكرار أم لا.
ملاحظة : فعل الواجب مرهون بالاستطاعة وأما فعل المحظور و المكروه لا يحتاج إلى استطاعة و الدليل على ذلك قول النبي عليه السلام " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم و إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " ومما ينبغي أن يذكر أن حرص الصحابة على الواجب و المندوب من حيث الفعل سواء فالزهد عندهم في المباح وليس في المندوب وحرصهم في ترك المكروه و الحرام سواء ومما ينبغي أن يذكر أيضا أن فعل المأمور مقدم على ترك المحظور في الشرع لذا أفضل الصبر عند الله و أحبه له أن تصبر على فعل الطاعات وترك المأمور أغلظ من فعل المحظور فكان عقاب إبليس بسبب تركه للسجود أعظم و أغلظ من عقاب آدم بسبب أكله من الشجرة .
(3/34)
المكروه عند السلف هو الحرام وكذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك على لسان الأئمة الأربعة، فقال تعالى في سورة الإسراء " كل ذلك كان عند ربك مكروها " وقال النبي عليه السلام " لقد كره الله لكم قيل و قال و كثرة السؤال و إضاعة المال " وسئل الشافعي عن الجمع بين المرأة و أختها فقال أكره ذلك و سئل أحمد عن لبس الرجل الذهب و الحرير فقال أكره ذلك.
ألفاظ الحرام و المكروه:
قال ابن القيم في بدائع الفوائد ج: 4 ص: 810-813
ويستفاد كون النهي للتحريم من ذمة لمن ارتكبه وتسميته عاصيا وترتيبه العقاب على فعله ويستفاد كون النهي للتحريم من ذمة لمن ارتكبه وتسميته عاصيا وترتيبه العقاب على فعله ويستفاد الوجوب بالأمر تارة وبالتصريح بالإيجاب والفرض والكتب ولفظة على ولفظة حق على العباد وعلى المؤمنين وترتيب الذم والعقاب على الترك وإحباط العمل بالترك وغير ذلك ويستفاد التحريم من النهي والتصريح بالتحريم والحظر والوعيد على الفعل وذم الفاعل وإيجاب الكفارة بالفعل وقوله لا ينبغي فإنها في لغة القرآن والرسول للمنع عقلا أوشرعا ولفظة ما كان لهم كذا ولم يكن لهم وترتيب الحد على الفعل ولفظة لا يحل ولا يصلح ووصف الفعل بأنه فساد وأنه من تزيين الشيطان وعمله وإن الله لا يحبه وأنه لا يرضاه لعباده ولا يزكي فاعله ولا يكلمه ولا ينظر إليه ونحو ذلك
(3/35)
وكل فعل طلب الشارع تركه أو ذم فاعله أو عتب عليه أو لعنه أو مقته أو مقت فاعله أو نفي محبته إياه أو محبة فاعله أو نفي الرضى به أو الرضاء عن فاعله أو شبه فاعله بالبهائم أو بالشياطين أو جعله مانعا من الهدى أو من القبول أو وصفه بسوء كراهة أو استعاذ الأنبياء منه أو أبغضوه أو جعل سببا لنفي الصلاح لعذاب عاجل أو آجل أو لذم أو لوم أو لضلالة أو معصية أو وصف بخبث أو رجس أو نجس أو بكونه فسقا أو أسما أو سببا لإثم أو رجس أو لعن أو غضب أو زوال نعمة أو حلول نقمة أو حد من الحدود أو قسوة أو خزي أو ارتهان نفس أو لعداوة الله أو لمحاربته أو للاستهزاء به وسخريته أو جعله الرب سببا لنسيانه لفاعله أو وصف نفسه بالصبر عليه أو بالحلم والصفح عنه أو دعا إلى التوبة منه أو وصف فاعله بخبث أو احتقار أو نسبة إلى عمل الشيطان وتزيينه أو تولى الشيطان لفاعله أو وصفه بصفة ذم مثل كونه ظلما أو بغيا أو عدوانا أو إثما أو تبرأ الأنبياء منه أو فاعله أو شكوا إلى الله من فاعله أو جاهروا فاعله بالعداوة أ نصب سببا لخيبة فاعله عاجلا أو آجلا أو ترتب عليه حرمان الجنة أو وصف فاعله بأنه عدو لله وان الله عدوه أو اعلم فاعله بحرب من الله ورسوله أو حمل فاعله إثم غيره أو قيل فيه لا ينبغي هذا ولا يصلح أو أمر بالتقوى عند السؤال عنه أو أمر بفعل يضاده أو هجر فاعله أو تلاعن فاعلوه في الآخرة وتبرأ بعضهم من بعض أو وصف فاعله بالضلالة أو أنه ليس من الله في شيء من الرسول وأصحابه أو قرن بمحرم ظاهر التحريم في الحكم والخبر عنهما بخبر واحد أو جعل اجتنابه سببا للفلاح أو فعله سببا لإيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين أو قيل لفاعله هل أنت منته أو نهى الأنبياء عن الدعاء لفاعله أو رتب عليه إبعادا وطردا ولفظة قتل من فعله أو قاتل الله من فعله أو أخبر أن فاعله لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكيه وإن الله لا يصلح عمله ولا يهدي كيده وإن فاعله
(3/36)
لا يفلح ولا يكون يوم القيامة من الشهداء ولا من الشفعاء أو أن الله يغار من فعله أو منه على وجه المفسدة فيه أو أخبر أنه لا يقبل من فاعله صرفا ولا عدلا أو أخبر أن من فعله قيض له شيطان فهو له قرين أو جعل الفعل سببا لإزاغة الله قلب فاعله أو صرفه عن آياته وفهم كلامه أو سؤال الله تعالى عن علة الفعل لم فعل نحو لم تصدون عن سبيل الله لم تلبسون الحق بالباطل ما منعك أن تسجد لم تقولون ما لا تفعلون ما لم يقترن به جواب من المسئول فإن اقترن به جواب كان بحسب جوابه فهذا ونحوه يدل على المنع من الفعل ودلالته على التحريم أطرد من دلالته على مجرد الكراهة وأما لفظة يكرهه الله تعالى ورسوله أو مكروه فأكثر ما تستعمل في المحرم وقد يستعمل في كراهة التنزيه وأما لفظة أما أنا فلا أفعل فالمتحقق من الكراهة كقوله أما أنا فلا آكل متكئا وأما لفظه ما يكون لك وما يكون لنا فاطرد استعمالها في المحرم نحو ما يكون لك أن تتكبر فيها وما يكون لنا أن نعود فيها ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق نهاية كلام ابن القيم.
الحكم السادس والسابع: الصحيح و الباطل:
قلنا أن الجادة المسلوكة عند الأصوليين أن هذين النوعين هي من الأحكام الوضعية و التي تنقسم إلى خمسة أقسام وهي السبب و الشرط و المانع و الصحيح و الباطل.
مثال: من شروط الصلاة دخول الوقت فدخول الوقت أمارة على وجوب الصلاة وهو ليس بمقدور المكلف و الشرع لا يخاطب المكلف به، فدخول الوقت حكم وضعي فهو أمارة أو علامة وضعها الشارع وعلق بها حكما وهو وجوب الصلاة وهذا الأخير حكم تكليفي فالأحكام المتعلقة بهذه العلامات هي الأحكام التكليفية.
(3/37)
الماتن رحمه الله ذكر الصحيح و الباطل وهما على المتعارف عليه عند الأصوليين آخر نوعين من أنواع الحكم الوضعي لكن الناظر في المطولات و المتمعن في كلام العلماء يخرِّج للماتن مخرجا فذهب مثلا الرازي في المحصول و البيضاوي في المنهاج إلى أن الصحة و الفساد تلحق بالأحكام التكليفية و ليس من الأحكام الوضعية؛ فالثمرة من الصحة النفوذ و إباحة الانتفاع و الثمرة من البطلان عدم النفوذ و تحريم الانتفاع فلما نقول البيع صحيح يفيد صحة الملك و النكاح صحيح يفيد حل الوطء ولما نقول البيع باطل فإنه لا يفيد حل الملك، فقال الرازي و البيضاوي: الصحة و البطلان يتعلق بهما حكم تكليفي ( حل الانتفاع و حرمة الانتفاع ) ولا يبعد عندي أن الماتن لما ذكرهما و ألحقهما بالأحكام التكليفية أراد أنهما من الحكم التكليفي وليس من الحكم الوضعي و لم يذكر الحكم الوضعي للاختصار. وهذا المسلك ليس مسلك الجماهير وكذلك ليس مسلكا صحيحا لأمرين:
1-حل أو حرمة الانتفاع هو ثمرة الصحة و البطلان وليس هو الصحة والبطلان فالصحة والبطلان علامة على حكم أي يترتب عليهما حكم تكليفي ولا يتعلق بهما أمر أو نهي أو تخيير …الخ فمثلا لو اشتريت شيئا شراء صحيحا و ما انتفعت به ووهبته قبل أن تقبضه فأنت غير مقصر و لا مطالب بالانتفاع منه.
2-بيع الخيار بيع صحيح أن تقول لا خلابة أي معي خيار ثلاثة أيام و لي أن أرجع في البيع والمشتري لا ينتفع بهذا الشيء في مدة الخيار إذن الصحة علامة وليست تكليف.
"النفوذ" يتعلق بفعل المكلف، “ ويعتد به" يتعلق بفعل الشرع؛ فالتعلق بالنفوذ من حيث تصرف المكلف به" وما يعتد به" من حيث حكم الشارع له فالشرع يعتد به و المكلف ينفذ هذا الحكم في حقه.
النفوذ في الاصطلاح: تصرف لا يقدر صاحبه على رفعه.
(3/38)
يتعلق: أي يترتب، النفوذ عند العرب: نفذ السهم أي إذا بلغ المقصود بالرمي؛ وكذلك العقد لما يقول نفذ العقد إذا بلغ مقصود المكلف من إبرام هذا العقد أي حصل المكلف غايته و مقصده منه؛ فالنفوذ وصول الشيء إلى غايته.
وهنا يلاحظ أن النفوذ إنما يذكر في كتب الفقهاء و الأصوليين فيما يتعلق بالعقود دون العبادات؛ فالعبادات تذكر بالاعتداد ولذا مما يؤخذ على الماتن في تعريفه للصحيح أن هذا التعريف إنما هو محصور في العقود و المعاملات دون العبادات، ولكن عرّف غير واحد الصحيح بقوله: "ترتب أثرٍ مطلوبٍ من فعل عليه " وهذا يجمع ما يتعلق بالمعاملات و العبادات.
الصحيح في العبادات ما يحصل به الإجزاء و يسقط به القضاء؛ مثلا يترتب على الصلاة أنها تجزأ عن صاحبها إذن الأثر المترتب على فعل الصلاة هو الإجزاء عن صاحبها.
والباطل ما لا يتعلق به النفوذ و لا يعتد به وهذا أيضا يشمل المعاملات و العقود و أما في العبادات فما لا يحصل به الإجزاء و لا يسقط به القضاء.
الصحة لفظة اصطلاحية و الذي يرد في نصوص الشرع لفظة " لا يقبل " فيقول تعالى " لا يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا " و يقول النبي عليه السلام " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " و لا يلزم من عدم القبول عدم الصحة وهناك ضابط بينه ابن العراقي في طرح التثريب متى يكون عدم القبول بمعنى عدم الصحة و متى لا يكون ذلك فقال: إذا اقترن مع عدم القبول ذكر معصية فمعنى عدم القبول نفي الثواب و إن لم يقترن ذكر المعصية و إنما ذكر شرط فيكون المراد عدم الصحة "
الصحيح لغة خلاف السقم والباطل مقابل للصحيح ويقولون: أبطل الشيء إذا ذهب فكأن الأصوليين جعلوا من الشيء إذا لم يحصل مقصود صاحبه كأنه غير موجود أي ذهب فالباطل هو الذاهب فالأثر لم يترتب على الفعل و الفاعل يريد أثرا معينا من فعله والشرع حكم عليه بعدم هذا الترتب فهذا يكون هو الباطل.
(3/39)
مسألة:الذي يحكم على أي عمل من العبادات أو المعاملات هو الشرع، والشرع قد يعلق بعض الأمور على إرادة و قبول ورضي المكلف وقد لا يعلق؛ فمثلا لو أن رجلين تبايعا و اتفقا و تراضيا على بيع الخمر فالبيع هنا باطل مع أن شروط البيع متوفرة لأن الشرع لم يأذن في مثل هذا البيع، ولكن حتى يصح عقد النكاح لا بد من إذن المرأة فعلق الشرع إرادتها لصحة العقد، إذن الحاكم هو الشرع فإن تواطىء الناس على الربا فالربا باطل و إن وقع الرضى، فالصحة و البطلان من قبل الشرع و الاعتداد من قبل الشرع كذلك، فالنفوذ من قبل الشرع لكن الثمرة في النفوذ النفع.
مسألة:
عند جماهير الفقهاء الفاسد و الباطل سيان لا فرق بينهما خلافا للحنفية فيقولون:
الباطل: ما لا يشرع بأصله و لا بوصفه، مثل بيع الخمر و الخنزير و المضامين ( ما في أصلاب الفحول من ماء) و الملاقيح ( ما في البطون من أجنة ).
والفاسد: ما شرع بأصله دون وصفه، مثل الربا لأن الربا درهم بدرهمين فلو نزعنا الدرهم الثاني لكان البيع حلالا و أصل البيع حلال، ومثل صوم العيد فلو أن رجلا نذر أن يصوم يوم العيد عند الحنفية يصوم يوما مكانه لأن النذر عمل ووقت فالنذر مشروع بأصله وهو العمل وممنوع بوصفه وهو وقته يوم العيد.
مع قولنا أن الجماهير لا يفرقون بين الباطل و الفاسد لكن نجد عندهم هذا التفريق ولكنهم يضيقون مراعاة لخلاف الحنفية فيما يجب فيه الاحتياط فيذكرون هذا التفريق في بابين من أبواب الفقه الحج و النكاح.
فمثلا: امرأة ديّنة صيّنة عفيفة محتشمة تعظم دين الله حنفية المذهب زوجت نفسها بنفسها بغير إذن وليها عند مأذون حنفي وبعض الحفاظ يحسن حديث " أيما امرأة زوجت نفسها بنفسها فهي زانية " فهل يجوز لشافعي أن يقول لها يا زانية ؟ الجواب لا فالجماهير يقولون هذا نكاح فاسد و لا يقولون باطل مراعاة لخلاف الحنفية.
(3/40)
إذن الحنفية لا يفرقون مطلقا و الجماهير لا يفرقون إلا عند المضايق مراعاة للخلاف فالشيء المتفق عليه يقولون عنه باطل أما المختلف فيه فيقولون فاسد.
(3/41)
الأفعال :
قال الماتن رحمه الله تعالى :
*فعل صاحب الشريعة لا يخلو إما أن يكون على وجه القربة والطاعة أو غير ذلك . فإن دل دليل على الاختصاص به يحمل على الاختصاص وإن لم يدل لا يختص به لأن الله تعالى يقول :" لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " فيحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا ، ومن أصحابنا من قال : يحمل على الندب ومنهم من قال : يتوقف عنه فإن كان على وجه غير القربة والطاعة فيحمل على الإباحة في حقه وحقنا . وإقرار صاحب الشريعة على القول الصادر من أحد هو قول صاحب الشريعة وإقراره على الفعل من أحد كفعله . وما فعل في وقته في غير مجلسه وعلم به ولم ينكره فحكمه حكم ما فعل في مجلسه . *
قال الشيخ مشهور حفظه الله : مبحث أفعال النبي صلى الله عليه وسلم مبحث جليل خصه أهل العلم بالتصنيف فأفرده غير واحد من الأقدمين والمعاصرين بكتب خاصة ومن أشهر هؤلاء في ما تذكر لنا كتب التراجم ذكر لنا مثلا ابن عساكر في كتابه تبيين كذب المفتري أن لأبي الحسن الأشعري كتاب اسمه أفعال الرسول لا نعرف له أثرا وأيضا ذكر النديم في كتابه الفهرست في أسماء الكتب أن للدولابي كتاب اسمه أفعال الرسول وهذا الكتاب لا نعرف له أثر أيضا ومن الكتب المخطوطة المحفوظة التي لا تزال لها أصول كتاب الحافظ الفقيه النحوي الأصولي المحدث المتفنن العلائي له كتاب سماه تفصيل الإجمال في تعارض الأقوال و الأفعال ( أي للنبي صلى الله عليه وسلم ) ومن الكتب طبعت من قريب كتاب أبي شامة المقدسي شيخ الإمام النووي وتلميذ ابن الصلاح له كتاب مطبوع بعنوان المحقق من علم الأصول فيما يتعلق في أفعال الرسول ومن الكتب المطبوعة في مجلدين كتاب العاقولي بعنوان الرصف لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الفعل و الوصف .
(4/1)
وأما المحدثون فقد ألف غير واحد في هذا الباب ومن أوعب وأمتن وأجود ما كتب في هذا الباب كتاب للأستاذ محمد سليمان الأشقر أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أطروحته للدكتوراه من جامعة الأزهر مطبوع في مجلدين وألف ايضا الأصولي الشهير المصري المقيم في مكة محمد العروسي عبد القادر له كتاب مطبوع في مجلد اسمه أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وألف ايضا محمود احمد عبد الله كتابا سماه أفعال النبي صلى الله عليه وسلم قدم الماتن الأفعال وخصها من الأخبار وبلا شك أن الأفعال قسم من أقسام الخبر المرفوع فالماتن لو أنه سلك الجادة و السابلة ( الطريق المسلوكة ) التي عرفت عند الأقدمين لكان أفضل .
معرفة أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من الأمور المهمة التي تقرب إلى الله وتجعل الإنسان على بصيرة من أمره بحيث يحسن أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم وأن يعرف الأشياء التي يقتدى بها النبي صلى الله عليه وسلم .
الأفعال من الفعل والفعل عند علماء المنطق : حركة البدن أو النفس .
فائدة : إذا أردنا أن نعرف مصطلحا من المصطلحات التي يكثر دورانها في كتب الأصول والمنطق والتفسير وعلم الحديث مثل العلم الضروري والماهية …الخ نرجع إلى بعض الكتب الخاصة بذلك مثل التعريفات للجرجاني أو كشاف اصطلاحات الفنون للتهاوني أو الكليات لأبي البقاء الكفوي أو الحدود للباجي أو التعريفات لابن الكمال أو التوقيف في مهمات التعريف للمناوي أو الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة لزكريا الأنصاري أو المفردات للأصفهاني أو الحدود لابن عرفة والرصاع شرح الحدود لابن عرفة ومن المستشرقين الذين كتبوا في هذا الباب المستشرق ( دوزي ) عمل عملين : الأول : معجم الملابس ؛ أخذ جميع الملابس الموجودة في تراثنا وفي أحاديث نبينا والآثار وكتب علمائنا وعرف بها واستفاد من التعريف من خلال الموجود في المتاحف من هذه الملابس .
(4/2)
والعمل الثاني : تكملة للمعاجم العربية مطبوع منه إحدى عشر مجلدا ؛ أخذ الألفاظ الغريبة من خلال النظر في كتب الطب و الأدوية و الرحلات و الجغرافيا و التاريخ و الأدب فأخذ الكلمة الغريبة وعرضها على القواميس فالموجودة في القاموس تركها و الغير موجودة وضعها .
عرف الجرجاني الفعل في كتاب التعريفات بقوله :الفعل : هو الهيئة العارضة للمؤثر في غيره بسبب التأثير كالهيئة الحاصلة للقاطع بسبب كونه قاطعا .
ابن حزم له كتاب في الحدود مطبوع ضمن مجموعة رسائل لابن حزم التي جمعها إحسان عباس بعنوان رسائل لابن حزم ففي الجزء الخامس له كتاب اسمه التقريب فقال فيه : الفعل ينقسم إلى ما يبقى أثره بعد انقضائه كفعل الحراث و النجار وما لا يبقى أثره بعد انقضائه كفعل السابح والماشي و المتكلم .
فالفعل عند الأصوليين المتكلمين ليس هو الفعل عند أهل الصرف واللغة فمثلا : مات ،عاش، اسود ، ابيض ، كان ، صار هي أفعال عند الصرفيين وليست أفعالا عند الأصوليين لأنها نسبت إلى من لم يفعلها فالفعل عندهم يحتاج إلى فاعل أما إذا نسب الشيء إلى من لم يفعله فهذا فعل عند الصرفيين وليس بفعل عند الأصوليين .
الإمام الزركشي في كتابه البحر المحيط قسم السنة إلى أقسام كثيرة : قول وفعل وتقرير وما هم به صلى الله عليه وسلم والإشارة والكتابة والترك و التنبيه على العلة ، ولكنّ ما هم به وما أشار إليه والكتابة وما أقر بكتابه والترك والتنبيه على الفعل كلها من الأفعال ، فالحصر الصحيح عند الأصوليين أن السنة محصورة إما في القول أو الفعل .
(4/3)
مثلا: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - الشهر هكذا وأشار ثلاثا وقبض مرة فهذا شرع بفعل الإشارة وكذلك سئل في حجته فقال له رجل ذبحت قبل أن أرمي فأشار بيده أي لا حرج فكان جوابه بفعله وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن ويكثر الهرْج قيل يا رسول الله وما الهرج فقال هكذا بيده فحرفها كأنه يريد القتل وكذلك حديث عائشة وهو عن أسماء بنت أبي بكر قالت أتيت عائشة حين خسفت الشمس فإذا الناس يصلون وإذا هي قائمة تصلي فقلت ما للناس لماذا يجتمعون في هذا الوقت فأشارت عائشة برأسها إلى السماء يعني خسوف وكذلك سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أوقات الصلاة فقال صل معنا هذين اليومين فصلى معه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما بين هذين الوقتين وقت .فهذه بعض الأدلة التي تدل على أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة .
قول الماتن : صاحب الشريعة .
مسألة : هل يجوز أن نقول أن النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الشريعة أو مشرع وهل يجوز أن نقول إن المفتي مشرع ؟
المشرع هو الله عز و جل لقوله تعالى " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا …" ولقول ابن مسعود في صحيح مسلم " إن الله شرع لكم سنن الهدى " أما النبي صلى الله عليه وسلم فهو المبلغ والعلماء و المفتون لكل اسمه ويجب ضبط هذه العبارات المفتي و العالم و القارئ و الحافظ و الفقيه .
وقول الماتن أنه صاحب الشريعة فهذا على سبيل التجوز وقال الإمام الشاطبي في هذه المسألة : إن المفتي شارع من وجه لأن ما يبلغه من الشريعة إما منقول عن صاحبها و إما مستنبط من المنقول فالأول يكون فيه مبلغا والثاني يكون فيه قائما مقامه في إنشاء الأحكام ، انتهى كلامه
(4/4)
قال الشيخ مشهور : يعجبني كلام بعض المعاصرين لما قال : كان المسلمون طوال تاريخهم يعطون علمائهم أسماء ذات دلالة مقصودة فيقولون المجتهد الفقيه ، القارئ ، الحافظ وهي كلمات تحمل معاني التبعية لا الاستقلال في أمر التشريع و الأحكام إذ الأمر كله لله تعالى وليس للناس إلا اتباع حكمه وبذل الوسع في تعريف أمره وتلمس الحق الذي يريده بما شرع لهم من طرق وسن لهم من قواعد ولهم أجرهم طالما كانوا في دائرة هذا الاجتهاد الصحيح ولو أخطئوا .
قال الشيخ مشهور : هنالك أفعال هي في حقيقتها أقوال أو أقوال أوهمت التعبير عنها بأنها فعل مثلا : ما ورد في الحديث : تشهد النبي صلى الله عليه وسلم ، سبح ، لبّى ، أثنى ، أمر ، نهى ، لعن ، دعا هذه كلها أقوال ؛ معنى سبح : قال سبحان الله فهذه أقوال لكن قد يفهم منها أنها أفعال وهذه حكمها حكم الأقوال و إن كانت أوهمت الفعل .
لو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أن يعمل عملا فهل يجوز لهذا الرجل المأمور بهذا العمل أن يتخلف عن أمره ؟ لا يجوز ، ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر قال لرجل من أصحابه اذهب فأتنا بخبر القوم أو قال لرجل عليك بأن تسم هذه الدابة ( العلامة ) أو هذه النعم ( بقرة أو إبل ) فهل يجوز لهذا المأمور أن يتخلف ؟ لا يجوز له ذلك ، لماذا ؟ لأن الأمر بالنسبة إليه قول .فلما أمره النبي أن يفعل ففعل من غير وجود أي قرينة أخرى مجرد فعل هذا الرجل الذي امتثل فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، الراجح عند الأصوليين أنه يجب عليه أن يفعل وفعله بالنسبة يلحق بأصل فعله صلى الله عليه وسلم فكأنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بيده ففعله يكون بالنسبة إلينا سنة وليست بفريضة .
هل لهذا الأصل من ثمرة ؟نعم له ثمرة ، مثلا أخرج الإمام النسائي في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببدنة فأشعر في سنامها من الشق الأيمن ثم سلت الدم عنها وقلدها نعلين "
(4/5)
نحن قررنا من أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفعل يكون واجبا على من أُمر عليه أن يمتثل وأما بالنسبة إلى سائر الأمة فيكون أصل الفعل سنة ويلحق بأصل فعله صلى الله عليه وسلم إذ لا يلزم من كل فعل ورد في السنة أن يكون قد قام به هو بنفسه وإنما قد يكون أوكل القيام به لغيره فلما نقول رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا فهذا لا يلزم منه أن النبي هو الذي رجم وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يد سارق رداء صفوان وهذا لا يلزم منه أنه هو الذي قطع لكن حكم قطع يد السارق ورجم الزاني واجب وهذا لا يناقض ما قررناه بأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم أو من أوكل له الفعل من أصحابه هو على الاستحباب وذلك لأن حكم فعله صلى الله عليه وسلم أو فعل من أمره إن كان بيانا لمجمل فيأخذ حكم المجمل فإن ورد أمر قولي بهذا العمل فالفعل حكمه كحكم الأمر القولي فمثلا : قال الله تعالى " السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما " هذا أمر قولي يدلل على الوجوب وهذا الفعل بيان لمجمل فحكمه حكم الأصل المجمل
فاستفدنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع سارق رداء صفوان الوجوب لا لذات الفعل و إنما لورود الأمر بالقطع وهناك حد مجمع عليه عند أهل العلم من أن من فعله يدلل على الوجوب وهو إن كان فعله امتثالا لأمر قولي أي إن كان الله أمر بأمر وفعله النبي ولم يفعله إلا على جهة واحدة وعلى نحو واحد فيصبح فعله واجبا فمثلا لا يوجد نص قولي فيه تحديد مكان القطع لكن لم يعرف عن النبي قد قطع من غير الرسغ وكان هذا القطع امتثالا لأمر رباني قولي وداوم عليه
(4/6)
والإشعار ( إشعار الهدي ) لم يأت أمر قولي بوجوبه وهو مشروع عند جماهير أهل العلم ووقع خلاف شديد عند الحنفية ونقل عن بعض أئمتهم أن الإشعار مثلى وبعض المشتغلين بعلم الحديث يقولون هذا لم يقله أئمتنا ومنهم من قال إن أئمتنا قالوا إن الإشعار مثلى لما رأوا غلو الناس فيه وإيذاء الحيوان وليس في هذا إنكار للإشعار الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الشاهد أنه أمر ببدنة فأشعرها .
قال ابن حزم في المحلى ج7 / ص110 : ليس في هذا الخبر أنه أمر بالإشعار ولو كان فيه لقلنا بإيجابه مسارعين وإنما فيه أمر ببدنة فأشعر في سنامها فمقتضاه أنه أمر بها فأدنيت إليه أي قربت منه فأشعر في سنامها لأنه هو الذي تولى بيده إشعارها .
يريد أن يقول ابن حزم لو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أن يشعرها لكان فعله بالنسبة إلينا أمرا واجبا لكن بما أن هذا الرجل لم يشعرها بيده وإنما النبي هو الذي أشعرها بيده أصبح حكم هذا الفعل مسنونا .
هل كل من أراد أن يشعر يجب عليه أن يأمر غيره بإحضار الدابة ؟ على مذهب ابن حزم الجواب نعم وعلى تأصيلنا وتقعيدنا الجواب لا فالرجل يمتثل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن فعله بالنسبة لنا يساوي فعل النبي بالنسبة إلينا أي لا يدلل على الوجوب أصالة بل على الندب وهذا مذهب جماهير الأصوليين .
(4/7)
قال الشيخ مشهور : أفعال النبي صلى الله عليه وسلم إما أن تكون تعبدا أو جبلية فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر أي يوجد أشياء يفعلها بجبليته وهناك أفعال جبلية صرفة يفعلها الإنسان وتقع منه اضطرارا دون قصد منه وهناك أفعال فيها وصف جبلي خلقي للنبي صلى الله عليه وسلم مثل عرض المنكبين ولم يكن بالطويل ولا بالقصير و أكحل العينين فلا يجوز أن يقال لرجل عريض المنكبين أنت على السنة وكذلك هناك أفعال يفعلها هي مما فطر الله عليها البشر مثل الهواجس التي تخطر بالبال وحركات الجسم والنوم والأكل والشرب والوجود والسكنى والبلدة والقبيلة وهناك أفعال جبلية اختيارية صدرت منه على وجه فيه عادة وتكرار وله فيها سمت مثل طريقة النوم ومثل جبلية الطعام وهيئة اللباس وغطاء الرأس وهي في أصلها جبلية فلا بد للإنسان أن يلبس ويأكل ويشرب لكن صدرت منه على وجه فيه عادة راتبة له كأن يأكل جالسا ويشرب على دفعات وينام على شقه الأيمن هذه تدخل تحت فعله على وجه الطاعة و القربة والاقتداء بالنبي في هذه الأمور سنة ودل على ذلك عموم الآيات كقوله تعالى " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا " هدي النبي صلى الله عليه وسلم ثقيل على النفس ليس بمفرداته ولكن باجتماع هذه المفردات وبتكرارها والثبات عليها ومداومتها ولا يفلح أحد بأن يقتدي بالنبي إلا إذا توفرت فيه صفات ذكرها الله في الآية فالإنسان الذي يستشعر بمراقبة الله وقلبه مربوط بالجنة والنار يحسب حسابا للحسنة والسيئة ويكثر من ذكر الله وهذا بركة المراقبة أو سببها فمن كان هذا حاله فإن السنة على نفسه هنيئة مريئة وإلا فالسنة صعبة ثم أستغرب من حال كثير من الناس يأخذ شيئا من السنة ويدعو إليها بقوة وهو بعد لم يتطبع بهدي النبي صلى الله عليه وسلم بالجملة في سمته وهديه وحلمه و أناته لم توجد فيه بعد هناك حديث يجب نقف عنده طويلا وأن نحاسب
(4/8)
أنفسنا عليه كثيرا حديث أنس قال صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات فلم يقل لي لشيء فعلته لم فعلته ولا شيء لم أفعله لِمَ لم تفعله " وكذلك إذا كان النبي كره شيئا ما كان يعنف ورئي ذلك في وجهه ونحن سلفيون في عقيدتنا ومنهجنا وأحكامنا وأخلاقنا هكذا ينبغي أن تكون السلفية ليست قولا يدّعى بل منهجا يطبق ومن ضمن منهج مهم جدا الذي ما ينبغي أن نغفل عنه التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل أحواله والاقتداء بهديه ولا يكون الإنسان شتاما طعانا لعانا يغضب ويثور ولا يضع الأشياء في أماكنها على أتفه الأسباب .
(4/9)
إذا الشيء الذي يفعله النبي وهو جبلي ولكنه اختياري وداوم على هيئة له وعلى وجه واحد محدد أو على أكثر من وجه ثابت عنه فهذا أمر يتعبد الله فيه ولاسيما إن علمنا أن أسلافنا قد فعلوا ذلك عبادة ، ودلل على ذلك قوله تعالى " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" وقوله " واتبعوه لعلكم تفلحون " وقول النبي صلى الله عليه وسلم " خير الهدى هدى محمد" قال القاضي عياض في الشفا : إن سيرة السلف إنهم يحبون كل شيء يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في المباحات وشهوات النفس فهذا أنس بن مالك يقول " لما علمت أن النبي يحب القرع أحببته " ويقول حين رأى النبي يتتبع الدباء من حوالي القصعة قال فما زلت أحب الدباء إلى يومئذ " و الدباء حلوى كانت توضع على الطعام وهذا فيه دليل على جواز أن لا يأكل الإنسان مما يليه إن وجد في القصعة عدة أنواع ومن هذه الأنواع ما هو بعيد عنه ففي هذه الحالة مأذون له بفعل ذلك ولا يدخل تحت " كل مما يليك " وقد ورد عن الحسن بن علي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر أنهم أتوا سلمى خادمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلبوا منها أن تصنع لهم طعاما كان يحبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكان ابن عمر يلبس النعال التي يلبسها النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتتبع آثاره حتى في السفر حتى قال بعضهم لو رأيت ابن عمر وهو يتتبع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - لقلتم عنه إنه لمجنون وفي هذا إشارة إلا أن حتى الأفعال الجبلية التي جبل الله نبيه عليها إن فعلت على وجه التقرب و العبادة فهذا أمر حسن ويثاب صاحبه عليه ، أخرج أبو يعلى في مسنده بسنده إلى ثابت البناني عن أنس قال : كان شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى شحمة أذنيه ثم نظر أنس فرآني فقال كشعر ثابت هذا قال فالله ما فرحت بمثلها " هذا شيء جبلي إلا أن الشيء الجبلي إن فعله الإنسان كلبس القلنسوة واقتدى بالنبي- صلى الله عليه وسلم - في سائر هيئاته التي لا
(4/10)
ينفك عنها البشر والتي واظب عليها النبي- صلى الله عليه وسلم - وواظب عليها أصحابه فإن فعلت على وجه القربى فهذا الفعل سنة مستحبة ومال إلى هذا جمع من الأصوليين وذكرها أبو شامة في كتابه المحقق في علم الأصول وعللها ولكني عجبت من تمثيله قال : في الأفعال التي يكاد يقطع بخلوها من القربة كهيئة وضع أصابعه اليمنى في التشهد [ لكن هذه قربى لأنها في الصلاة فهذا ليس موفق فيه لأن الصلاة أصلها قربى فكل أفعال الصلاة قربى فيستحب المحافظة عليه والأخذ بها ما أمكن تدريبا للنفس الجموح وتمرينا لها على أخلاق صاحب الشرع لتعتاد ذلك فإن النفس مهما سومحت في اليسير تشوفت إلى المسامحة فيما فوقه ] ثم قال فهذا ونحوه هو الذي يظهر أن عبد الله بن عمر كان يلاحظه ويراقبه فأخذ نفسه بالمحافظة على جميع آثاره حتى قال نافع مولاه لو نظرت لابن عمر إذا اتبع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقلت مجنون " انتهى كلام أبو شامة .
مسألة : الأصل في فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عام والأصل في فعله أنه للامتثال و الخصوصية تحتاج إلى دليل خاص .
خصوصيات النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتنى بها العلماء وألف في ذلك جمع من أهل العلم مثل : نهاية السول في خصوصيات الرسول- صلى الله عليه وسلم - ابن يحيى الكلبي وغاية السول في خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم - لابن الملقن والخصائص الكبرى للسيوطي وهو أوعبها وذكر أكثر من ألف خاصية جلها ضعيف أو موضوع وهذبه الشيخ عبد الله التليدي في كتاب سماه تهذيب الخصائص الكبرى وألف الشيخ أبو الحسن المصري مصطفى بن إسماعيل كتابا سماه كشف الغمة ببيان خصائص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمة .والشاطبي في الموافقات ذكر أربعين خاصية للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
(4/11)
ومن الأشياء التي أعجبتني أن علماء الشافعية و المالكية اعتنوا عناية قوية بخصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا سيما في كتاب النكاح مثل النووي في الروضة و الرملي في نهاية المحتاج و الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير ويمدون النفس في ذلك ومن الذين مد النفس في ذلك الرافعي في الشرح العزيز شرح الوجيز ( وجيز الغزالي ) ومن الذين اعتنوا بأحاديث الشرح الكبير ابن الملقن في البدر المنير ولخصه ابن حجر في التلخيص الحبير وهو مطبوع باسم تلخيص الحبير وهذا خطأ لأن الحبير صفة للتلخيص وليس للملخص فقال ابن حجر فيه ج3 / ص117 : وذكرت ( أي خصائص النبي- صلى الله عليه وسلم -) في النكاح لكونها فيه أكثر ..الخ كلامه .
أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - التي قيل فيها إنها خاصة به على دربين : درب الخصوصية تلمح فيه وتؤخذ بالاستنباط مثل : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ جريدة وشقها نصفين وجعلها على قبرين بقصد التخفيف من عذاب صاحبي القبرين " هذا فعل عند المحققين من العلماء خاص به ، أخذنا هذه الخصوصية بلوازم واستنباط وفهم وليس بالتنصيص وعلق الإمام البخاري في كتاب الجنائز أن بريدة بن الحصيب الأسلمي أوصى أن يوضع قبره جريدتان فهذا العمل لم يكن خاصا عند الصحابة ولعل بريدة عممه ومن قال بالخصوصية الخطابي وله كلام جميل جدا فقال : أن هؤلاء كانا يعذبان وما أدرانا أنهما يعذبان وأنهما سيخفف عنهما العذاب فهذه لوازم تعرف من خلالها الخصوصية .
(4/12)
ودرب الخصوصية تؤخذ بالتنصيص والتصريح مثل قوله تعالى " وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين " ولو كان في الأصل أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الخصوصية لكان قوله تعالى خالصة لغوا وحاشاه ذلك سبحانه فدل قوله خالصة على أن أصل الفعل الذي يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - عام يشترك معه أمته والفعل ليس خاصا به لولا قوله خالصة وقول الله تعالى " فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج "فمن تبنى ولدا وكانت لهذا الولد امرأة فطلقها فله أن يتزوجها وهذا يدل على أن الأصل في فعله- صلى الله عليه وسلم - عام لأمته وكذلك لما سأل عمر بن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمه عن قبلة الصائم فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لها أخبريه أني أقبل وأنا صائم فيدل ذلك على أن فعله عام وكذلك من الأدلة على ذلك قوله " صلوا كما رأيتموني أصلي " " خذوا عني مناسككم " وكذلك ثبت في البخاري أن ابن جريج سأل ابن عمر فقال له يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعا لم أر من أصحابك يصنعها قال وما هي قال ابن جريج : لا تمس من الأركان إلا اليمانيين ( الحجر الأسود والذي قبله ) في الطواف وتلبس النعال السبتية وتصبغ بالصفرة وإذا كنت في مكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل حتى يكون يوم التروية فقال عبد الله : إني رأيت رسول الله يفعلها فاستدلال ابن عمر يدلل على أن الأصل في فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عام للأمة وكذلك من الأدلة أنه من يُعَظم في الناس ومن كان كبيرا عالما في الناس فإن طباعهم أمرا مركوزا في مجاراته وحبه واتباعه والتأسي به ولذا من سنة الله التي لا تنفك عن الأفراد أن الصغير يحاكي الكبير والولد يحاكي الوالد والبنت تحاكي أمها والجاهل يحاكي العالم و الأمة المغلوبة تحاكي الأمة الغالبة ، وكذلك من الأشياء التي تدلل على الخاصية أن
(4/13)
يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلا وأن ينهى أمته عنه مثل : أمر لمن أسلم وتحته خمسة وبعضهم تحته عشرة من النسوة فقال : أمسك أربعا وفارق سائرهن وهذا منطوق دل على حرمة الزواج بأكثر من أربعة ولما رأينا النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عقد ودخل بأكثر من أربع علمنا أن أكثر من أربع خاصا به ، وكذلك أن يقع تعليل من قبله على فعل لا يتصور إلا أن يكون خاصا به كما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يواصل اليومين والثلاثة في الصيام ونهى أمته عن هذه المواصلة وعلل ذلك بقوله إني أبيت عند ربي فيطعمني ويسقيني فهذا خاص به .
ملاحظة : قولنا أنا أحب الأكل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأكل ونعبد بذلك فهذا غير صحيح لأن أصل الأكل والنوم والشرب مثلا لأن هذا فعل جبلي اضطراري فلا بد للإنسان من طعام وشراب ..الخ وأما قولنا : أحب القرع لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبه وأحب الحلو البارد لأنه يحبه فهذا فعل جبلي اختياري الاقتداء به بنية الطاعة فيه أجر .
قررنا فيما مضى أن الترك فعل ومن بين التروك التي هي فعل السكوت فلو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يفعل فعلا وسكت عنه فهذا شرع وكذلك قررنا أن السنة لها ثلاثة أقسام : قول وفعل وتقرير.
قول الماتن : يحمل على الوجوب ( أي الفعل ) عند بعض أصحابنا . هذا كلام نسب إلى ابن سريج من علماء الشافعية ونسب إلى ابن أبي هريرة وإلى أبي علي بن خيرون وإلى أبي سعيد الإصطخري وكلهم من علماء الشافعية وهو رواية عن أحمد واختاره ابن السمعاني .
مسألة : هل كل فعل للنبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل على الوجوب ؟ قال الله تعالى " وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا "
(4/14)
أولا نقرر الآتي :وما أتاكم أي ما أعطاكم ، ما بلغكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، هذه الآية تشمل كل الدين ومن نباهة الإمام الشافعي وحذقه ودقة فهمه أنه جلس ذات يوم في بيت الله الحرام وقال للناس : سلوني يا أهل مكة فما منكم من أحد يسأل سؤالا إلا و أجيبه عنه من القرآن الكريم ( شيء عجيب ما من سؤال إلا والجواب من القرآن ) فقام إليه رجل وقال : يا أبا عبد الله لقد قتلت زنبورا ( جندب ) فما جزائي من كتاب الله ؟ فقرأ الإمام الشافعي قوله تعالى " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " ثم ذكر إسناده إلى العرباض بن سارية وذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عليكم بسنة الخلفاء المهديين الراشدين عضوا عليها بالنواجذ " ثم ذكر إسناده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن رجل قتل زنبورا فقال عمر لا شيء عليه فقال هذا جوابي على سؤالك من كتاب الله . إذا الآية عامة تشمل كل شيء أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد يقول قائل : الأصل في الأمر الوجوب وما آتانا به يشمل القول والفعل والتقرير فهذا واجب قلنا له : لا ليس هذا الأمر على هذا الإطلاق لأن الآية كما تعلمون من سورة الحشر والسياق في مال الفيء والله عز وجل يأمرهم بأن يقبلوا ما أعطاهم رسول الله من مال الفيء وأن يكفوا عما نهاهم عن أخذه ( والإيتاء هنا بمعنى الإعطاء ) والأمر بأخذ المال أمر إباحة وليس أمر إيجاب مثل الميراث ومن الملاحظ أن المال لما يعطى للإنسان من غير كسب ولا تعب فإن النفس تتشوف وتطمع فمال الميراث مثلا يتولى قسمته الله وهو مال يكسب بدون تعب ولو ترك للناس فالكل يطمع فيه كله ولا يقبل أن يأخذ نصيبه والله الذي خلق الإنسان ونفس الإنسان هو الذي تولى قسمة هذا المال وكذلك هذا المال الذي يؤخذ من الكفار من غير قتال يتولى قسمته الله ففي هذا السياق قال الله تعالى " وما آتاكم الرسول فخذوه .. " الآية أي لا تطمعوا في غيره هذا جواب
(4/15)
على الآية أي لا صلة لها بأفعاله - صلى الله عليه وسلم - على هذا التوجيه أي الشيء الذي أعطاكم إياه وكتبه لكم خذوه ولا تطمعوا في غيره ، والتوجيه الثاني للآية ما قاله ابن جريج : ما آتاكم الرسول من طاعتي فاقبلوه وما نهاكم عن معصيتي فاجتنبوه فالإيتاء هنا يكون بمعنى الأمر القولي بدليل أن الذي يقابله قول الله تعالى " وما نهاكم " فهنا النهي قول على هذا القول فتكون الآية أيضا لا صلة لها بالأفعال وإنما تكون صلتها بالأقوال بدليل أن قوله وما نهاكم عنه فانتهوا وهذا النهي لا يكون بالفعل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - منزه عن المعاصي فإذا آتاكم بمعنى أمركم وهو يقابل نهاكم وفي هذا دليل على أن القول يتعدى إلينا فيكون بمعنى العطية وهذا يكون مثل قوله تعالى " خذوا ما آتيناكم بقوة " أي خذوا ما أمرناكم فإذا وما آتاكم هنا بمعنى ما أمرناكم مقابل نهيناكم وعلى أي حال من الأحوال لو سلمنا أن المؤتي في قوله تعالى وما آتيناكم يراد بهذا المؤتي الأفعال فهذا قولا واحدا لا يدل على وجوب جميع الأفعال بل على اتباعها على ما هي عليه من الأحكام وهنا مسألة مذكورة في كتب الأصول يطلقون عليها وجوب المساواة وبعضهم يطلق عليها القول بالمساواة فما كان واجبا في حقه - صلى الله عليه وسلم - فهو واجب في حقنا وما كان مندوبا في حقه فهو مندوبا في حقنا وما كان مباحا في حقه فهو مباح في حقنا ، وما آتاكم الرسول فخذوه على الحال الذي هو فيه والذي عليه فإن كان واجبا فواجب وإن كان مندوبا فمندوب وإلا لو أننا أطلقنا القول بالوجوب هكذا على عواهنه فبلا شك أن ذلك ليس بمراد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خصص الأمر بل ربنا قال : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه "وفي هذا دلالة على الفرق بين عموم الأمر وعموم النهي فالأمر ليس واجبا بعمومه وإنما
(4/16)
يجب الأمر على المسلم على قدر استطاعته وأما النهي فواجب الكف عنه بعمومه لأنه فعل سلبي فهو فعل لا يحتاج إلا إلى إرادة ، وقد أعجبني كلام لابن حزم يناقش فيه القائلين بعموم وجوب أفعاله - صلى الله عليه وسلم - ويمتاز ابن حزم من بين سائر الأصوليين إلى أنه عرض علم الأصول ليست على الطريقة المعهودة وأنه أيضا أعمل ذهنه في الآيات و الأدلة ، وقع في شطط في بعض الأحايين لكن بالجملة أتى بأشياء جميلة وجيدة فقال في كتابه الإحكام : وأما من ادعى أن أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فرض علينا أن نفعل مثلها فقد أغفل جدا( أي وقع في غفلة شديدة ) وأتى بما لا برهان على صحته وما كان هكذا فهو دعوى كاذبة لأن الأصل أن لا يلزمنا حكم حتى يأتي نص قرآن أو سنة بإيجابه وأيضا فإنه قول يؤدي إلى ما لا يعقل لو قلنا بوجوب جميع أفعاله على الأمة ولزمه أنه يجب على كل مسلم أن يسكن حيث سكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن يجعل رجليه حيث جعلها وأن يصلي حيث صلى وأن يصوم فرض الأيام التي كان يصومها وأن يجلس حيث جلس وأن يتحرك مثل كل حركة كان يتحركها وأن يحرم الأكل متكئا وعلى خوان ( مائدة ) وأن يحرم الشبع من خبز البر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما شبع من خبز البر وأن يحرم أكل الخبز مأدوما ثلاثة أيام وأن يوجب أكل الدباء وتتبعه وهذا لا يقوله أحد فتبين بما ذكرنا أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - يستحيل أن تكون واجبة علينا إذ لم يأت على ذلك دليل بل قام الدليل والبرهان على أن ذلك غير واجب بالآية ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة …) الآية فكل من له أقل علم بالعربية فإنه يعلم أن ما قيل فيه هذا لك أنه غير واجب قبوله بل مباح له تركه إن أحب كالمواريث وما خيرنا فيه وإنما إن جاء بلفظ عليك كذا فهذا هو الملزم لنا ، فلما قال الله تعالى " لقد كان لكم …الآية كنا مندوبين إلى ذلك وكان مباح لنا أن لا نتأسى غير راغبين عن الإتساء به
(4/17)
لكن عالمين أن الذي تركنا أفضل والذي فعلنا مباح كجلوس الإنسان وتركه أن يصلي تطوعا فليس إثما بذلك ولو صلى تطوعا لكان أفضل .ومن بديع كلامه في الرد على من زعم على أن الأصل في أفعاله الخصوص قوله : وبعضهم تعلق في هذه الأفعال بأنه خصوص له ومن فعل ذلك فقد تعرض لغضب رسول الله ومن تعرض لغضب رسول الله تعرض لغضب الله فقد غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضبا شديدا إذ سألته امرأة الأنصاري والأنصاري عن قبلة الصائم فأخبر عليه السلام أني أفعل ذلك فقال قائل لست مثلنا يا رسول الله أنت قد غفر الله لك ذنبك فغضب رسول الله حينئذ غضبا شديدا وأنكر هذا القول فمن أضل ممن تعرض لغضب الله وغضب رسوله - صلى الله عليه وسلم - انتهى كلام ابن حزم .
إذا القول بوجوب أفعاله - صلى الله عليه وسلم - كلها على الأمة أمر مستحيل وليس بممكن وإنما الأصل أنها على الندب والأصل فيها أنها مشروعة وأنها ليست على الخصوص .ومما ينبغي أن يعلم أن التأسي بفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبلغ من التأسي بقوله لذا لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في صلح الحديبية أن يتحللوا من الإحرام أبوا فخشي عليهم الهلكة وكانت معه أم سلمة فأشارت عليه أن يركب ناقته وأن يحلل أمامهم ويرجع فلما فعل اقتدوا به . وأما من حيث القوة فالقول أقوى من الفعل ولذا القاعدة عند العلماء أن القول والفعل إن تعارضا نقدم القول إن تعذر الجمع بينهما .
(4/18)
مثال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في العقيقة " عن الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة " وعق عن الحسن بكبش أملح وعن الحسين بكبش ، ففعله كبش وقوله كبشين ، فلما تعرض الشوكاني لهذه المسألة في نيل الأوطار قال : نوفق بين الفعل والقول فنقول القول فيه كمال السنة والفعل فيه أصل السنة فإن عق الأب عن ابنه بشاة واحدة فقد أتى بأصل السنة وإن عق بشاتين فقد أتى بكمال السنة وهذا كلام قوي لأن الأصل الجمع ولكن من يدرس طرق وأسانيد حديث عق بكبش يجد أقوى الطرق في سنن النسائي ولفظها : عق عن الحسن والحسين بكبشين أملحين فحينئذ تكون السنة القولية والفعلية مجتمعتين .
(4/19)
وقد يكون الجمع بالتنبيه على أمر فيه خفاء مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - " من مس ذكره فليتوضأ " وجاءه رجل فسأله فقال :إن هو إلا بضعة منك " فإذا المس الذي يتوضأ منه الإنسان إن كان على نحو ليس كسائر أعضاء الإنسان ولا يكون ذلك كذلك إلا إن كان بشهوة هذا غير هذا لا صلة له بالفعل لكن هذا التنبيه و التنويه على المعنى .وكذلك في فعله في الشرب فشرب واقفا ولم يشرب واقفا إلا لعلة فشرب واقفا في عرفة ليبين للناس أنه مفطر ومع هذا ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشرب قائما وقال " من شرب واقفا فليستقيئ " ورأى رجلا يشرب واقفا فقال له أتحب أن يشرب معك هر قال :لا فقال له :كيف وقد شرب معك الشيطان " نقل النووي عن الجماهير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك حتى ينزل مرتبة النهي من الحرمة إلى الكراهية وهذا جمع ليس بحسن لأن الأصل أن نجل رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عن فعل المكروه والأصوب من هذا أن نقول إن الأصل في الشرب قائما الحرمة إلا إن دعت الحاجة لشرب قائما فلا حرج . نقول فعله - صلى الله عليه وسلم - أبلغ في النفوس والأصل في فعله وقوله أن نجمع بينهما عند التعارض ، لأن الشرع علمنا أن الله عز وجل قد خص نبيه بأشياء و لم يخص آحاد من الناس بأشياء على الراجح والشريعة عامة ثابتة مستقرة خالدة فلما رأينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - له خصوصيات فجاءنا فعل وقول وقدمنا القول على الفعل بدليل استقراء الشريعة لعل هذا الفعل من خصوصياته ولذا العلماء لما يذكرون مسألة استقبال واستدبار القبلة فالنبي قال لنا في حديثه " لا تستقبلوا القبلة بول أو غائط ولكن شرقوا أو غربوا " وفي صحيح البخاري صعد ابن عمر على سطح بيت أخته حفصة قال : فنظرت فوقعت عيناي على النبي وهو يبول متجه القبلة بين لبنتين " هذا فعل خالف القول فالراجح من أقوال العلماء على ما قرره ابن القيم في مقدمة زاد المعاد أن الراجح
(4/20)
حرمة استقبال واستدبار القبلة بول أو غائط لأن أبا أيوب الأنصاري قال : لما كنا في الشام وبنيت المراحيض كنا ننحرف ونستغفر وفي هذا دلالة على أنه لا فرق إن كان هناك بنيان أو لم يكن هنالك بنيان لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فعله لم يفعله مشرعا فهذا العمل الذي نقله ابن عمر لم يتقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - التشريع للأمة ووقعت عيناي ابن عمر عليه بقدر الله ولكن الذي أراده منا بلسان عربي مبين قوله شرقوا وغربوا ، فالأصل أن نطيع قوله وأن نحمل فعله على أمر خاص ويتأكد ذلك بما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - " من تنخم تجاه القبلة تأتي نخامته يوم القيامة بي عينيه " فإذا كانت النخامة تأتي بين عينيه وهي أقل من البول والغائط إذا الأصل أن نجمع بين القول والفعل وإن لم نجد سبيلا للجمع نقدم القول على الفعل لأن الشرع علمنا أن لنبينا - صلى الله عليه وسلم - خصوصيات .
أنواع الأفعال : قال الشوكاني في إرشاد الفحول ج: 1 ص: 72
(4/21)
اعلم أن أفعاله صلى الله عليه وسلم تنقسم إلي سبعة أقسام : القسم الأول : ما كان من هواجس النفس والحركات البشرية كتصرف الأعضاء وحركات الجسد فهذا القسم لا يتعلق به أمر باتباع ولا نهي عن مخالفة وليس فيه أسوة ولكنه يفيد أن مثل ذلك مباح القسم الثاني: ما لا يتعلق بالعبادات ووضح فيه أمر الجبلة كالقيام والقعود ونحوهما فليس فيه تأس ولا به اقتداء ولكنه يدل على الإباحة ثم الجمهور ونقل القاضي أبو بكر الباقلاني عن قوم انه مندوب وكذا حكاه الغزالي في المنخول وقد كان عبد الله ابن عمر رضي الله عنه يتتبع مثل هذا ويقتدي به كما هو معروف عنه منقول في كتب السنة المطهرة القسم الثالث : ما احتمل أن يخرج عن الجبلة إلي التشريع بمواظبته عليه على وجه معروف ووجه مخصوص كالأكل والشرب واللبس والنوم فهذا القسم دون ما ظهر فيه أمر القربة وفوق ما ظهر فيه أمر الجبلة على فرض انه لم يثبت فيه إلا مجرد الفعل واما إذا وقع منه صلى الله عليه وسلم الإرشاد إلى بعض الهيآت كما ورد عنه الإرشاد إلى هيئة من هيآت الأكل والشرب واللبس والنوم فهذا خارج عن هذا القسم داخل فيما سيأتي وفي هذا القسم قولان للشافعي ومن معه يرجع فيه إلى الأصل وهو عدم التشريع أو إلى الظاهر وهو التشريع والراجح الثاني وقد حكاه الأستاذ أبو إسحاق عن اكثر المحدثين فيكون مندوبا القسم الرابع: ما علم اختصاصه به صلى الله عليه وسلم كالوصال والزيادة على اربع فهو خاص به لا يشاركه فيه غيره وتوقف إمام الحرمين في انه هل يمنع التأسي به أم لا وقال ليس عندنا نقل لفظي أو معنوي في أن الصحابة كانوا يقتدون به صلى الله عليه وسلم في هذا النوع ولم يتحقق عندنا ما يقتضي ذلك فهذا محل التوقف وفرق الشيخ أبو شامة المقدسي في كتابه في الأفعال بين المباح والواجب فقال ليس لأحد الاقتداء به فيما هو مباح له كالزيادة على الأربع ويستحب الاقتداء به في الواجب عليه كالضحى والوتر وكذا فيما هو محرم
(4/22)
عليه كأكل ذي الرائحة الكريهة وطلاق من تكره صحبته والحق انه لا يقتدي به فيما صرح لنا بأنه خاص به كائنا ما كان إلا بشرع يخصنا فإذا قال مثلا هذا واجب علي مندوب لكم كان فعلنا لذلك الفعل لكونه ارشدنا إلى كونه مندوبا لنا لا كونه واجبا عليه وان قال هذا مباح لي أو حلال ولم يزد على ذلك لم يكن لنا أن نقول هو مباح لنا أو حلال لنا وذلك كالوصال فليس لنا أن نواصل هذا على فرض عدم ورود ما يدل على كراهة الوصال لنا أما لو ورد ما يدل على ذلك كما ثبت انه صلى الله عليه وآله وسلم واصل أياما تنكيلا لمن لم ينته عن الوصال فهذا لا يجوز لنا فعله بهذا الدليل الذي ورد عنه ولا يعتبر باقتداء من اقتدى به فيه كابن الزبير واما لو قال هذا حرام علي وحدي ولم يقل حلال لكم فلا بأس بالتنزه عن فعل ذلك الشيء أما لو قال حرام علي حلال لكم فلا يشرع التنزه عن فعل ذلك الشيء فليس في ترك الحلال ورع القسم الخامس: ما ابهمه صلى الله عليه وآله وسلم لإنتظار الوحي كعدم تعيين نوع الحج مثلا فقيل يقتدي به في ذلك وقيل لا قال إمام الحرمين في النهاية وهذا عندي هفوة ظاهرة فان إبهام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محمول على انتظار الوحي قطعا فلا مساغ للإقتداء به من هذه الجهة القسم السادس: ما يفعله مع غيره عقوبة له فاختلفوا هل يقتدى به فيه أم لا فقيل يجوز وقيل لا يجوز وقيل هو بالإجماع موقوف على معرفة السبب وهذا هو الحق فإن وضح لنا السبب الذي فعله لأجله كان لنا أن نفعل مثل فعله ثم وجود مثل ذلك السبب وإن لم يظهر السبب لم يجز واما إذا فعله بين شخصين متداعيين فهو جار مجرى القضاء فتعين علينا القضاء بما قضى به القسم السابع: الفعل المجرد عما سبق فان ورد بيانا كقوله صلوا كما رأيتموني اصلي وخذوا عني مناسككم وكالقطع من الكوع بيانا لآية السرقة فلا خلاف انه دليل في حقنا وواجب علينا وان ورد بيان لمجمل كان حكمه حكم ذلك المجمل من وجوب وندب كأفعال
(4/23)
الحج وافعال العمرة وصلاة الفرض وصلاة الكسوف .انتهى كلام الشوكاني
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - صلوا كما رأيتموني أصلي ، وصلاته كما نعلم فيها المسنون أي فيها السنة سنة الهيئة وسنة الأبعاض على مذهب الشافعية ، الصلاة عند الشافعية شروط وأركان و سنن والسنن قسمان : سنن أبعاض وسنن هيئات ويقولون من فاتته سنة الأبعاض يسجد للسهو ومن فاتته سنة الهيئات لا يسجد للسهو وعند غيرهم كالحنفية والمالكية والحنابلة يقولون الصلاة عبارة عن شروط وأركان وواجبات وسنن ويقولون من فاته الواجب يسجد للسهو فالواجبات عند غير الشافعية تعادل سنن الأبعاض عند الشافعية ويحسن بطالب العلم أن يحفظ سنن الأبعاض والواجبات في كل مذهب وقد اعتنى بها عناية جيدة ابن نجيم في رسالة له مطبوعة . والشاهد أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - صلوا كما رأيتموني أصلي ، هذا القول يشمل جميع الأفعال والأفعال ليست كلها سواء فهذه الأفعال إن وقعت مبينة بفعله فعلى البيان فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ترك أشياء وجبرها بالسهو فهي ليست كالأركان وهي معنية تحت صلوا كما رأيتموني أصلي فإن لم يكن هنالك مجمل وبقيت أفعال مجردة لا تدخل تحت الأقسام السابقة فهنا وقع خلاف بين أهل العلم في حكمها هذه الأفعال المجردة علام تحمل أصالة ؟ على الوجوب أم على الندب أم على التوقيف ؟ هذا هو المعني بقول صاحب المتن فيحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا وهؤلاء الأصحاب مجموعة من الشافعية كأبي سعيد الأصطخري وابن سريج وابن خيران وابن أبي هريرة وقول الإمام أحمد وأكثر أصحابه . ومنهم من يحملها على الندب فقد قال إمام الحرمين في البرهان وفي كلام الشافعي ما يدل عليه وقال في التلخيص وإليه صار أصحاب الشافعي وهو رواية عن أحمد ونقله الشيرازي في التبصرة عن الصيرفي والقفال وأبي حامد من علماء الشافعية واختاره إمام الحرمين في البرهان وقال : الأصل فيه الندب .ومنهم من يتوقف فيه وهو قول
(4/24)
الشيرازي والغزالي والرازي صاحب المحصول والصيرفي والدقاق من علماء الشافعية والكرخي من الحنفية ورواية أيضا عن أحمد وصحح هذه الرواية وصحح هذا الاختيار الباقلاني .
وجنح الشوكاني إلى القول بالوجوب وقال الوجوب أي وجوب اتباع الفعل أما عين الفعل فيبقى حكمه إما على الندب أو على السنية ، يعني بمعنى أننا لو أردنا أن نقتدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في فعل مجرد فلسنا مخيرين بأن نفعل في العبادة غير فعله وغير هيئته فالعبادة على صفة فعله أمر واجب وهذا صحيح لكن أصل العبادة لها أحكامها المقررة من الشريعة فنحن نقول مثلا الأخذ بخبر الآحاد واجب أي لا يجوز أن نعطله أو نقول ليس بحجة مع أن الحديث قد يدلل على المباح .
القول بأن الفعل المجرد يحمل على الوجوب هو الصواب على معنى أن من عبد الله عز وجل فهو ليس مخير بين أن يأخذ بهديه أم لا لكن التلبس بهذا الفعل يعرض على الشريعة فإن كان مسنونا و أردت أن تعبد الله فيه فيجب عليك أن تصلي ركعتي السنة على الهيئة التي صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن حكم الركعتين سنة إن لم تفعلهما فأنت لست آثما وليس هذا ببعيد عندي أن يكون هو المعنى بقول الله تعالى " وما آتاكم الرسول …" الآية أي خذوه بهيئته فيجب عليكم فأصبح للآية ثلاث توجيهات : الأول ، خاص بالأموال الثاني ، ما آتاكم بالأقوال الثالث ، الأقوال و الأفعال في طريقة وهيئة التعبد أما أصل الفعل فيختلف فما كان مندوبا فمندوب وما كان واجبا فواجب وهكذا .
قال الماتن : فإن كان ( أي الفعل ) على وجه غير القربة والطاعة فيحمل على الإباحة في حقه وحقنا .
إن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلا على غير العبادة أي فعل جبلي فهذا المعنى يدلل على الإباحة في حقه وحقنا وهنا لفتة ينبغي أن نزيد إيضاحها وقد أومأت إليها وهي الأصل أن نجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فعل ما فيه عقاب أو عتاب وعن فعل المحرم و المكروه .
(4/25)
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أشياء كثيرة وفعلها وكثير من العلماء يحملون فعله من أجل إنزال النهي من الحرمة إلى الكراهة وهذا المسلك إن جاز فإنما يجوز عند المضايق وإلا الأصل أن نحمل نهيه على حالة و أن نحمل فعله على حالة أخرى ، مثال في الصحيحين نهى النبي- صلى الله عليه وسلم - أن يستلقي الرجل على ظهره في المسجد وأن يضع رجله فوق الأخرى وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك ، فبعض أهل العلم قالوا إن المراد بفعله أن يبين لنا أن ذاك النهي ليس حراما بل مكروه وهذا ليس بحسن والأحسن منه أن نقول : إن الاستلقاء على الظهر ووضع الرجل فوق الرجل مع احتمال كشف العورة حرام وإن أمنت كشف العورة فمباح يعني نتعلق بالمعاني والله أعلم .
فائدة : الغزالي بتشديد الزاي توفي 505 هجري وهو صاحب عقل عجيب جدا ومتفنن وكان ضعيفا في علم الحديث فراجت عليه أحاديث موضوعة كثيرة واشتغل بالفلسفة فألف كتابه إحياء علوم الدين ووقعت فيه طامات وأراد أن يتدارك ما وقع فيه فمات وهو يقرأ صحيح البخاري رحمه الله لكن له أشياء قال بها لا سيما في الإحياء مما جعلت بعض علماء المغاربة يحرق كتابه وبعضهم كان يسميه إماتة علوم الدين ففيه كاد أن يميل في بعض الأحايين أن الوحي ليس خاصا بذاك الزمن ، وأحسن من تكلم في الإحياء ابن تيمية وكلامه منثور في كتبه وكم بودي لو طبع الإحياء وبذيله كلام ابن تيمية فلو تتبع أحد الأشخاص أقوال الغزالي في كل كتب ابن تيمية وينزلها على الإحياء مع تعليقات العراقي التي سماها المغني عن الأسفار في تخريج أحاديث الإحياء فيكون النفع أكبر ولا سيما أن الإحياء مترجم لأكثر من لغة وكذلك علق على أحاديث الكتاب السبكي في طبقات الشافعية عند ترجمته لأبي حامد الغزالي فذكر الأحاديث التي لا أصل لها في الإحياء .
(4/26)
فائدة : أولا :قول الصحابي في التفسير ليس حكمه حكم المرفوع خلافا لما قرره الحاكم في علوم الحديث ورد عليه ابن حجر في النكت على ابن الصلاح ، ثانيا : معظم الخلاف بين الصحابة والتابعين في التفسير هو خلاف تنوع وليس تضاد .
إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - :
قال الشيخ مشهور حفظه الله : كما أن فعله - صلى الله عليه وسلم - حجة فإن سكوته حجة ومن مقتضيات السكوت الإقرار فالنبي- صلى الله عليه وسلم - بعث مبلغا وقام بمهمته ونصح الأمة وبلغ وأشهد الله على أنه قام بذلك فقال في خطبة الوداع اللهم أني قد بلغت فاشهد ومن تبليغه أن لا يقر أحدا على حرام ولذا إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة وهو يؤيد ما قررناه سابقا من أن الترك فعل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما يقر يسكت فترك الأمر إن رأى منكرا مثلا فترك النهي عن المنكر فعل وسكوته فعل بدلالة أنه يترتب على سكوته إقرار وهذا الإقرار حجة .
قول الماتن: إقرار صاحب الشريعة …الخ
إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - على الفعل من أحد كفعله فإن أقر قول أحد فكأنه قاله وإن أقر فعل أحد فكأنه فعله ، والمراد بصاحب الشريعة هو النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقول الماتن : ما فعل في وقته في غير مجلسه وعلم به ولم ينكره فحكمه حكم ما فعل في مجلسه " قال الشيخ مشهور : لو أن رجلا فعل فعلا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبلغ هذا الفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي أقر وسكت فيصبح هذا الإقرار مثل الذي فعل في مجلسه .
هذا الإقرار إن أردنا أن ننوعه وأن نفصله فسنتكلم عنه بشيء من إسهاب ذاكرين بعض ما قد يشوش على حجية الإقرار من بعض الحوادث النادرة التي كانت أو وقعت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... والإقرار ثلاثة أقسام :
(4/27)
القسم الأول : أن يقع القول أو الفعل من غيره - صلى الله عليه وسلم - ويقره النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ هذا نوع من أنواع التروك أن النبي- صلى الله عليه وسلم - يترك الأمر أو يترك النهي ويقر ما يرى ويقر ما يسمع هذا النوع الذي بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدل إلا على أنه مباح فقط فهو ليس بموجب لأحد ولا بنادب لأحد فمثلا : رجل فعل فعلا أو قال قولا والنبي- صلى الله عليه وسلم - أقر هذا الفعل وهذا القول فسكت فترك أي ترك النهي ففعله ، فهذا يدلل على الإباحة فحسب فلا يدلل على الوجوب ولا على الندب لأن الله عز وجل افترض على النبي- صلى الله عليه وسلم - التبليغ وأخبره أنه يعصمه من الناس وأوجب عليه أن يسن للناس ما نزل إليه ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن النبي رأى فعلا أو سمع قولا يغضب الله وسكت عنه فيصبح سكوته عن الفعل أو القول وتركه للإنكار من ضمن التبيين الذي بينه النبي- صلى الله عليه وسلم - فلو كان مندوبا لأرشدن إليه ولو كان واجبا لأمرنا به ولكن سكوته يدل على أن هذا الفعل فعله وتركه سيان ، الآن قد يشوش على هذا قصة ابن صياد ( أو ابن صاف ) :شاب يهودي أظهر الإسلام وكانت تصدر منه حركات غريبة يحاول أن تكون له صلة بالغيب وكان صورته صورة الدجال وشك بعض الصحابة فيه هل هو الدجال أم لا ووقع في زمنه فتنة عظيمة حتى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجماعة معه دخلوا حديقة وكان فيها وكان يهمهم ويخرج أصواتا وكان النبي يتسمع عليه حتى يعرف حاله فرأته أمه ( رأت أم ابن صياد النبي ) فقالت: محمد محمد محمد فسكت فقال النبي- صلى الله عليه وسلم - لو سمعته لعلمت حاله وسمعه يقول " دخ " يريد أن يتنبأ بالدجال فقال النبي- صلى الله عليه وسلم - اخسأ فإنك لن تعد قدرك وأظهر هذا ابن صياد الإسلام وله قصة مع أبي سعيد الخدري في
صحيح مسلم ج: 4 ص: 2242
(4/28)
عن أبي سعيد الخدري قال ثم خرجنا حجاجا أو عمارا ومعنا بن صائد قال فنزلنا منزلا فتفرق الناس وبقيت أنا وهو فاستوحشت منه وحشة شديدة مما يقال عليه قال وجاء بمتاعه فوضعه مع متاعي فقلت إن الحر شديد فلو وضعته تحت تلك الشجرة قال ففعل قال فرفعت لنا غنم فانطلق فجاء بعس فقال اشرب أبا سعيد فقلت إن الحر شديد واللبن حار ما بي إلا أن أكره أن أشرب عن يده أو قال آخذ عن يده فقال أبا سعيد لقد هممت أن آخذ حبلا فأعلقه بشجرة ثم أختنق مما يقول لي الناس يا أبا سعيد من خفي عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي عليكم معشر الأنصار ألست من أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كافر وأنا مسلم أوليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عقيم لا يولد له وقد تركت ولدي بالمدينة أوليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل المدينة ولا مكة وقد أقبلت من المدينة وأنا أريد مكة قال أبو سعيد الخدري حتى كدت أن أعذره [قال الشيخ مشهور : طبعا الدجال لا يدخل مكة والمدينة عند بعثته أما في الأول يدخل بدليل أنه ثبت في الصحيحين أن النبي- صلى الله عليه وسلم - رأى الدجال يطوف حول الكعبة وهذه الرؤية من قبل النبي للدجال حق ورؤى الأنبياء حق فهو يمنع هذه الصفات عند بعثته ] ثم قال أما والله إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن قال قلت له تبا لك سائر اليوم" لذا ذهب جماهير العلماء أنه دجال من الدجاجلة ووقع خلاف شديد بين أهل العلم هل هو الدجال الأكبر أم لا وقد ذكر ابن كثير في كتابه البداية والنهاية أنه فقد يوم الحرة وهذا يؤكد أنه الدجال عند من يرى ذلك الشاهد من هذه القصة أن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما كانا يقسمان بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ابن صياد هو الدجال والنبي - صلى الله عليه وسلم - أقرهما لم ينههما ولم يأمرهما بأن يكفرا عن يمينهما فقد
(4/29)
يقول قائل النبي أقر وهذا الإقرار لا يلزم منه تبعاته قلنا له نعم لكن ابن عمر وعمر حلفا على شيء غالب على ظنهما ومن حلف على شيء غالب على ظنه فتبرهن له فيما بعد أنه ليس على ما حسب وظن فلا شيء عليه .
النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذاك الوقت لم يكن قد أوحي إليه شيء حول ابن صياد فلما النبي أقرهما في هذه المسألة فإقراره أو عدمه في هذه المسألة من هذه الحيثية لا حجية فيها ، لماذا ؟ لأن المسألة قائمة على اجتهاد أصلا والنبي صلى الله عليه وسلم ينتظر الوحي وانتظار النبي الوحي في هذه الفترة لا يقتدى به في فترة انتظار النبي صلى الله عليه وسلم الوحي في فعله أو قوله كيف نتأسى بالنبي نحن والنبي يأتيه الوحي من عند ربه فانتظار النبي للوحي هذا من الأفعال الخاصة به صلى الله عليه وسلم إذاً بهذا التخريج يبقى إقراره حجة صلى الله عليه وسلم وهذه الصورة خاصة في انتظاره الوحي فالنبي - صلى الله عليه وسلم - سكت لأنه لم يوح إليه بعد شيء بشأن ابن صياد .
القسم الثاني : أن يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا : هذا القسم يحتاج إلى تأصيل وتفصيل وله ثمرة مهمة وبسبب عدم وضوح هذا الترك بجميع أقسامه في هذا الزمان يختلط الحابل بالنابل عند كثير من الناس .
القسم الثالث : إقرار الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ؛ هل إقرار الله للنبي حجة أم لا ؟ وهذه مسألة تحتاج كذلك إلى توضيح .
(4/30)
حتى نحسن البناء والتفريع نتذكر تأصيل مسألة هل الترك فعل أم لا ؟ الترك فعل لأدلة كثيرة منها : " قال ربي إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " الآية والهجران ترك القراءة وهو فعل لأن الله جعله اتخاذا ومنها " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون " فتركهم النهي عن الإثم و أكل السحت عده الله صنعا ومنها ما ثبت في الحديث من قصة الرجل الذي كان له ابنة عم فطلب منها الزنا فرضيت لحاجتها للمال فلما أقبل إليه قالت اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فتركها وتوسل بهذا الترك بقوله " إن كنت قد فعلت ذلك من أجلك .." الشاهد قوله فعلت وهو ترك الزنا وعده فعلا واستجاب له الله ومنها الحديث " عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها إماطة الأذى عن الطريق ووجدت في مساوئ أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن " فعد ترك دفن النخامة من العمل السيء .
نقول كما أن النبي- صلى الله عليه وسلم - بين بفعله المجرد وبين بقوله المجرد وبين بفعله الذي يساعده القول فإنه أيضا بين لأمته أحكاما شرعية بتركه المجرد أحيانا وبتركه الذي يساعده القول أحيانا أخرى فإذا ترك النبي فعل وقد نستفيد من ترك النبي- صلى الله عليه وسلم - شيئا زائدا عن المباح بل إذا بين النبي- صلى الله عليه وسلم - الترك من أجل أن لا يفرض على الأمة فإن الأصل في تركه يكون سنة فقد يترك النبي سنة مخافة أن تصبح فرضا ولذا من بديع كلام الشاطبي رحمه الله في الموافقات قال : إن كان الفعل المندوب مظنة لاعتقاد الوجوب فبيانه بالترك أو بالقول الذي يجتمع إليه الترك .انتهى كلامه
(4/31)
إن كان الفعل المندوب مظنة لاعتقاد الوجوب فبيانه من قبل النبي سنة فيكون بالترك أو بالقول الذي يجتمع مع الترك ومن هنا ينبغي أن ننظر إلى التروك التي تركها النبي- صلى الله عليه وسلم - بعين فيها اعتبار ولا سيما إن وجدنا النبي- صلى الله عليه وسلم - قد فعل شيئا وواظب عليه ولم يتركه في موضوع وترك ذاك الشيء في نوع آخر في عبادة أخرى فحينئذ يكون تركه واجبا ، مثال ذلك صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلوات الخمس ولم نعرف عنه صلى ولو مرة واحدة إلا بأذان فهو واجب وكذلك النبي- صلى الله عليه وسلم - صلى صلوات من غير أذان مثل صلاة العيد والكسوف والخسوف فالنبي فعل فعلا وواظب عليه في نوع وتركه في نوع آخر فالترك هنا واجب وعليه فعدم الأذان في صلاة العيد والكسوف والخسوف واجب وإن فعلنا أثمنا .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :" ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأذان في العيدين مع وجود ما يكون مقتضيا وزوال المانع سنة كما أن فعله سنة وقال فلما أمر بالأذان في الجمعة وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة كان ترك الأذان فيهما سنة وليس لأحد أن يزيد في ذلك بل الزيادة في ذلك كالزيادة في أعداد الصلاة وأعداد الركعات " انتهى كلامه .
النبي- صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات الخمس بعدد معين من الركعات وما زاد عليها وواظب على هذه الركعات وفعله هذا هو امتثال وبيان لأجمال فيصبح فعله واجبا وكذلك الجهر في الصلاة فالنبي- صلى الله عليه وسلم - أسر في بعض الركعات وجهر في بعضها فلا يجوز لنا أن نترك أحواله ؛ فيقول لنا قائل هذا فعل من النبي - صلى الله عليه وسلم - والفعل يدلل على السنية قلنا له لو أننا صلينا الظهر جهرا نكون قد تركنا سنة فقط وهذا غير صحيح فترك النبي يكون أحيانا واجبا .
(4/32)
نقول تروك النبي - صلى الله عليه وسلم - على أقسام كما قلنا وليست كلها في منزلة واحدة فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إن ترك وأقر غيره من قول أو فعل رآه أو بلغه هذا لا يحمل إلا على الإباحة .
ولو ترك النبي- صلى الله عليه وسلم - شيئا فهو على أقسام :قسم مباح وقسم مسنون وقسم واجب فهذه الأقسام هي كالآتي :
أولا : الترك الداعي للجبلة البشرية لا يدلل في حقنا تحريم ولا على كراهة إن فعلناه مثل : ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل الضب وقال إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه " فترك أكل الضب حكمه الإباحة لأنه ترك جبلي لذا رأى خالدا يأكله على مائدته وسكت عنه ومثلا : ترك النبي التنشيف بعد الغسل في الحديث الثابت وهو حديث ميمونة لما جاءته بخرقة فردها ولم ينشف بها وثبت أنه استخدمها في حديث آخر فالنبي - صلى الله عليه وسلم - تركها لشيء للتبرد مثلا فالترك هنا لا يدلل على أن التنشيف مكروه فإن فعله دل على الجواز وتركه له لأمر جبلي قال ابن دقيق العيد في كتابه الإحكام : رد النبي - صلى الله عليه وسلم - المنديل واقعة حال ( أي حادثة لها ملابسات خاصة بها ) يتطرق إليها الاحتمال فيجوز أن لا يكون لكراهة التنشيف بل لأمر يتعلق بالخرقة أو غير ذلك " انتهى كلامه
ثانيا : الترك الذي قام دليل على إختصاصه به .
فهناك أشياء تركها النبي - صلى الله عليه وسلم - لخصوصية به كالأفعال تماما مثل ترك أكل الصدقة فقال النبي- صلى الله عليه وسلم - " إنا معشر آل محمد لا تحل لنا الصدقة " فلا يجوز لمحتاج منا أن يقول أنا لا آخذ الصدقة لأن النبي لم يأخذها لأن هذا شيء خاص به وبآله وكذلك ترك ما يشتبه أنه صدقة فثبت أنه مر النبي- صلى الله عليه وسلم - فوجد تمرة ملقاة فقال لو لا أني أخشى أنها من تمر الصدقة لأكلتها " .
(4/33)
ثالثا : الترك بيانا أو امتثالا لمجمل معلوم الحكم . في هذا النوع يجب علينا أن نتقيد فيه بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما سميناه سابقا بمساواة التأسي ومعنى الآية " وما آتاكم الرسول …" المباح بحق النبي مباح في حقنا والواجب في حقه واجب في حقنا أي خذوا على النحو الذي أخذه فان أخذه على وجه السنية فتأخذه على وجه السنية وأما باعتبار وجوب اعتباره فهو أمر واجب ونعني بوجوب اعتباره أي أن لا يهمل وأن يكون مصدر في التحليل والتحريم فهذا أمر واجب .وما آتاكم الرسول فخذوه على اعتبار أن التشريع من كتاب الله وسنة رسوله فهذا الأخذ لهذا الإتيان واجب أما كحكم تكليفي ليس كل ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم واجبا وعلماء الأصول يقولون هذا الأمر في حقه صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلينا مساواة التأسي أي نتأسى به بالمساواة وبعضهم قال وجوب التأسي وصاحب فواتح الرحموت يذكر أن الوجوب فقط بالاعتبار وأما من حيث الفعل في الأحكام بالمفردات فتكون بمساواة التأسي فالمباح في حقه نأخذه مباحا والمسنون نأخذه مسنونا والمفروض نأخذه مفروضا وهكذا القواعد بالقواعد المتبعة المعروفة عند أهل العلم وهناك نوع من أنواع التروك يكون امتثالا أو بيانا لأمر مجمل معلوم الحكم في القرآن مثل قوله تعالى عن المنافقين في خطاب الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم " ولا تصلي على أحد منهم مات أبدا " الآية النبي ترك الصلاة على المنافقين بعد الآية فحكم ترك النبي واجب بالآية امتثالا لأمر معلوم الحكم وكذلك لما حج النبي صلى الله عليه وسلم مع صحابته تحلل صحبه من إحرامهم والنبي ترك التحلل لأن النبي ساق الهدي وحج قارنا فالصحابة تحللوا والنبي لم يتحلل وقال اني لبدت رأسي وقلدت هدي فلا أحل حتى أنحر وقال لا يحل مني حرا حتى يبلغ الهدي محله وهذا امتثال لقول الله تعالى " ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله " فعله هذا في ترك التحلل واجب لأنه بيان
(4/34)
وامتثال لأمر الله تعالى نهاه الله تعالى عن التحلل حتى يبلغ الهدي محله .
رابعا : الترك المجرد كما في الفعل المجرد ، أي ترك ليس امتثالا لأمر الذي حكمه معروف ولا ترك النبي بداعي الجبلة ، ولا ترك شيئا خاصا به ، فالترك المجرد إما أن يعلم الحكم في حقه صلى الله عليه وسلم ولو بالاستنباط فالذي تركه على سبيل السنة نتركه على سبيل السنة والذي تركه على سبيل الفرض نتركه على سبيل الفرض وهكذا فالذي يعلم حكمه نقتدي فيه ولذا يعجبني كلام الشوكاني في إرشاد الفحول " تركه- صلى الله عليه وسلم - للشيء كفعله له في التأسي به فيه ، " ترك النبي للتأسي كالفعل فكما نتأسى به في الفعل نتأسى به في الترك .
أو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تركه ولم يعلم حكمه فينظر هل تركه النبي للتعبد فإن تركه تعبدا فإن فعلناه يكون ذلك مكروها مثل ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - رد السلام حتى يتيمم هذه سنة إن الإنسان يذكر الله على كل أحواله وهو طاهر حتى في رد السلام . وإن تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه ليس فيه تعبدا هذا شبيه بالأمر الجبلي فالنبي جلس في ناحية هيئ له أن يجلس هنا ولم يهيئ له أن يجلس في غيرها أو سار في طريق من الطرقات وما سار في طريق آخر فالسير في هذا الطريق ليس سنة هذا أقرب ما يكون للفعل الجبلي لكن هنالك أمور ينبغي أن ينظر إليها بعين الاعتبار ونحن نتكلم عن الفعل المجرد هنالك ضوابط مهمة في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - لا بد أن ينظر إليها منها :[ 1 ] تكرار الترك : لو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك شيئا وكرر الترك إلى يوم الدين ولا سيما إن كان تركه في نوع من أنواع العبادات وفعله في نوع آخر من جنس نوع العبادات وكان في هذا الذي تركه قد كرر هذا الترك ولم يفعله ولو مرة فحينئذ فعله تشريع لنا وهذا ما يسميه بعضهم بالاستقراء مثل صلاة النبي- صلى الله عليه وسلم - على الراحلة ( الصلوات فرائض و سنن )
(4/35)
والنبي صلى السنن على الراحلة وترك صلاة الفريضة على الراحلة وكرر الترك إلى مماته ولم يصلها ولو مرة فثبت في الصحيح عن ابن عمر كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومئ برأسه " وفي رواية للبخاري " إلا الفرائض " وفي رواية لمسلم " غير أنه لم يصل عليها المكتوبة " ودخول وقت الفريضة للمسافرين أمر كثير فترك الصلاة لها دائما مع فعل النوافل على الراحلة يشعر بالتفريق بين حكم الفريضة وحكم النافلة ، الذي أشعرنا بالتفريق التكرار وعدم انخرام الفعل فتكرار فعله للنافلة على الراحلة وعدم فعله الفريضة على الراحلة ولو مرة دل على وجوب صلاة الفريضة على الأرض مع عدم الإيماء إلا عند الضرورة ففي حديث عمران ابن حصين "صل قائما فإن لم تستطع فجالسا " يعني يومئ إيماء والعلماء ألحقوا بها الصلاة بالسفينة إذا كانت لا تستقر أما إذا كانت تستقر ويستطيع الإنسان أن يركع ويسجد فلا يجوز له أن يومئ . ويلحق بالصلاة بالسفينة الصلاة بالطائرة فإن كنت تستطيع أن تركع وتسجد في الطائرة فلا يجوز لك أن تومئ وإن كنت لا تستطيع إلا بالإيماء فبالإيماء ، واستفاد جماهير أهل العلم في بيان أن الوتر ليس فريضة لأنه ثبت أن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان يوتر على الراحلة وثبت عنه أنه لم يصل الفريضة على الراحلة وكان يتنفل على الراحلة فأصبحت الوتر تلحق بالنوافل .
(4/36)
[ 2 ] : ينبغي أن ينظر للسبب : فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ترك أشياء لأسباب متنوعة وهو على أقسام : الأول :ترك الفعل المستحب أحيانا خشية أن يفرض على أمته: وهذا من رحمته بنا قالت عائشة رضي الله عنها : إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم " وكذلك تركه قيام رمضان فقام ليلتين أو ثلاثة ثم تداعى الناس للقيام معه وفي هذا دلالة على أنه قيام رمضان في المساجد جماعة أحب من أدائها في البيوت خلافا لمطلق القيام فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - تداعي الناس قال : إنه لم يخف علي مكانكم ولكن خشيت أن تفرض عليكم " لذا لما جمع عمر الرجال على أبي وجمع النساء على تميم الداري وقال نعمة البدعة هذه فهذا لا يدلل على أنه يوجد بدعة حسنة في الدين ولكن مقصود عمر الأمر الجديد الذي أذن فيه الشارع أو الذي أذن فيه النبي ولم يفعله لعلة وزالت العلة والتحق النبي بالرفيق الأعلى واستقر حكم صلاة القيام أنها مسنونة فجمع الناس عليها وإلا فالنبي- صلى الله عليه وسلم - أذن لنا بالصلاة فقال " من صلى مع الإمام حتى ينصرف كتبت له قيام ليلة "
(4/37)
الثاني : ترك الفعل المستحب خشية أن يظن البعض أنه واجب : وهو غير الأول ، فالأول خشية أن يفرض على الأمة والثاني خشية أن يظن البعض أنه واجب فهو يشابهه وليس مثله فالنبي- صلى الله عليه وسلم - من هديه أنه كان يتوضأ لكل صلاة ويوم فتح مكة صلى الخمس صلوات بوضوء واحد فقال عمر يا رسول الله فعلت اليوم شيئا لم تكن تفعله فقال عمدا فعلته يا عمر " فتعمد ترك المسنون حتى يعلم الناس في هذا الجمع أنه ليس بفريضة ، قال الطحاوي في مشكل الآثار : يحتمل أن يكون ذلك واجبا عليه ثم نسخ يوم فتح مكة ويحتمل أنه كان يفعله استحبابا ثم خشي أن يظن به الوجوب فتركه لبيان الجواز " قال الحافظ ابن حجر في الفتح " الثاني أقرب ، أي أن النبي ترك المسنون لئلا يظن الناس أنه واجب ، ويسن الاقتداء بالنبي في هذا القسم إن كان إنسانا مرموق أو كان عالما يقتدى به . قال الشاطبي في الموافقات " لا ينبغي لمن التزم عبادة من العبادات البدنية الندبية أن يواظب عليها مواظبة يفهم الجاهل منها الوجوب إذا كان منظورا إليه مرموقا أو مظنة لذلك "بل الذي ينبغي له أن يدعها في بعض الأوقات حتى يعلم أنها غير واجبة مثل السجدة يوم الجمعة ؛ السنة أن يقرأ الإمام في صلاة الفجر يوم الجمعة في الركعة الأولى سورة السجدة ، نقل القرافي في الفروق عن شيخه المنذري قال " يسن للإمام في بعض الأحايين أن لا يقرأ في الركعة الأولى يوم الجمعة سورة السجدة لأن عوام أهل مصر يظنون أن الواجب في الركعة الأولى في صلاة فجر الجمعة أن يسجد الإمام ثلاث سجدات " .
الثالث : الترك لأجل المشقة التي تلحق بالأمة بالاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - :
(4/38)
النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك أشياء ولم يداوم عليها مخافة أن يلحق بالأمة المشقة مثل حديث ابن عباس في البخاري قال " ولم يمنعه - صلى الله عليه وسلم - أن يرمل في الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم إلا الرحمة بهم " فالنبي كان يرمل بثلاثة أشواط ويترك أربعا في أول قدوم الرمل ( الهرولة ) .ومما يلاحظ لا يستحب الرمل في الأشواط كلها لأن الأحكام قد استقرت وإن زال السبب .
من هذا النوع (عدم إلحاق المشقة )ترك النبي بعض الأشياء في أمثلة قد تقبل التخريج عليها وقد لا تقبل ذلك :
مثل ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - ستر الفخذ عند وضع رجليه في الماء وهذا لا يدل على أن الفخذ ليس عورة فقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم - في حديث جرهد " غط فخذك فإن الفخذ عورة " لكن ترك النبي لستر فخذه لأنه كان في ماء ويلحقهم في ذلك شيء من المشقة فإن رفع الإنسان ثوبه وأمن الفتنة فهذا الترك لا حرج فيه فهذا الترك على هذا الحال يخرج على هذا المعنى والله أعلم .
الرابع : ترك المطلوب خشية حصول مفسدة أعظم منه : كقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة " ومثل ذلك تركه قتل المنافقين قال "لا أريد أن يقول الناس أن محمدا يقتل أصحابه " .
خامسا : تركه لبعض الأعمال على سبيل العقوبة : مثل تركه الصلاة على المدين ولم يصل على ماعز ولم ينه عن الصلاة عليه وتركه للصلاة على من قتل نفسه وهكذا .
سادسا : ترك الامتثال لأمر شرعي لمانع : كتركه لصلاة الفجر لما نام .
[ 3 ] : ينبغي أن يفرق بين تركه لشيء قام المقتضى عليه وتركه لشيء لم يقم المقتضى عليه :
(4/39)
فإن كان هناك مقتضى لعمل والنبي - صلى الله عليه وسلم - والمقتضى قائم فتركه يصبح حجة ويجب التقيد بها ويتعبد الله به ومن فعل خلافه فهذه بدعة وأما إن لم يقم المقتضى على فعله في زمنه فحينئذ تعرض كل مسألة على الشريعة فمنها الذي يقبل ومنها الذي يرد . وهذا هو الفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة .
ومن الأمثلة على تركه مع وجود المقتضى : تركه للأذان في صلاة العيد وجهره في بعض الصلوات دون بعض فالأذان للعيد بدعة والصلاة سرا في صلاة جهر بدعة .
ومن الأمثلة على تركه مع عدم وجود المقتضى : الأذان بمكبر الصوت مصلحة مرسلة لأنه لم يكن موجودا في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن المقتضى قائم لاستعماله فالنبي أمر من رأى الأذان أن يلقيه على من أندى منه صوتا وأرفع صوتا لذا الفقهاء يقولون يحسن بالمؤذن أن يكون صيِّتا أي ذو صوت مرتفع . وكذلك قراءة القرآن بالنظارات مصلحة مرسلة .وقد اعترض بعضهم على ذلك كما قال ابن القيم في الإعلام " إن قيل من أين لكم أنه لم يفعله وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم فقال ابن القيم : فهذا سؤال بعيد جدا عن معرفة هديه وسنته وما كان عليه ولو صح هذا السؤال وقبل لاستحب لنا الأذان في التراويح واستحب لنا الغسل لكل صلاة والحجة أنه من أين لكم أنه لم ينقل وانفتح باب البدعة …." انتهى كلامه
وقال ابن دقيق العيد في الأحكام عند حديث " أنه سجد للسهو " قال : سجد ولم يذكر التشهد بعد سجود السهو ولذا يستدل على عدم الفعل أن المقتضى قائم فلو فعله لنقل مثل التكبيرات لسجود التلاوة .
(4/40)
فائدة : بعض الفقهاء يقولون نكبر في سجود التلاوة عند السجود وعند القيام وبعضهم يقولون نكبر عند السجود وعند القيام ونسلم وبعضهم يقولون لا نكبر لا عند السجود ولا عند القيام وهذا الأخير الأقرب للسنة لأنه لم يرد شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا سيما والمقتضى قائم ولكن لا نقول من كبر في سجود التلاوة أنها بدعة لأنه ثبت عن ابن مسعود أنه سجد وكبر فنقول إن كان الإمام بين عوام لا يفهمون السنة ولا يعظمونها يكبر وإلا فلا .
فائدة : سكوت الله تعالى عن النبي- صلى الله عليه وسلم - إقرار معتبر ولذا يوجد آيات عتاب في القرآن للنبي لما فعل خلاف الأولى فإن لم يعاتبه فيكون الشيء الذي فعله والذي قاله رضيه الله منه على أنه شرع له .وكذلك لو أن الصحابة فعلوا فعلا واشتهر وانتشر وأقرهم النبي- صلى الله عليه وسلم - عليه ولم ينزل الله فيه محذورا فهذا نوع من أنواع الإقرار كقول أبي سعيد " كنا نعزل والقرآن ينزل "أي كنا نعزل في زمن النبي- صلى الله عليه وسلم - فالعزل جائز بإذن الزوجة ولكن ثبت عند أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن العزل قال " ذلك الوأد الخفي " فهو فيه نوع كراهة لقول النبي المنفر لهذا العمل .
(4/41)
الأخبار :
* قال الماتن رحمه الله : وأما الأخبار : فالخبر ما يدخله الصدق والكذب .
والخبر ينقسم إلى قسمين : آحاد ومتواتر :
فالمتواتر : ما يوجب العلم وهو أن يروي جماعة لا يقع التواطؤ على الكذب من مثلهم وهكذا إلى أن ينتهي إلى المخبر عنه ويكون في الأصل عن مشاهدة أو سماع لا عن اجتهاد .
والآحاد : هو الذي يوجب العمل ولا يوجب العلم وينقسم إلى مرسل ومسند .
فالمسند : ما اتصل إسناده ، والمرسل : ما لم يتصل إسناده ؛ فإن كان من مراسيل غير الصحابة فليس بحجة إلا مراسيل سعيد بن المسيب فإنها فتشت فوجدت مسانيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
والعنعنة تدخل على الأسانيد .
وإذا قرأ الشيخ يجوز للراوي أن يقول : حدثني وأخبرني ، وإن قرأ هو على الشيخ يقول : أخبرني ولا يقول :حدثني .
وإن أجازه الشيخ من غير قراءة فيقول : أجازني أو أخبرني إجازة . *
قال الشيخ مشهور حفظه الله : قول الماتن " فالخبر ما يدخله …" هنا مأخذ على الماتن عرّف الخبر بنوعه لا بجنسه فالخبر نوعان :صدق إن طابق الواقع وكذب إن لم يطابق الواقع والتعريف يكون بالجنس لا بالنوع .
فالخبر : كلام يفيد بنفسه إضافة أمر إلى أمر نفيا أو إثباتا. ومنهم من قال :أنه لا يوجد رسم لتعريف الخبر لأن الخبر معرف بنفسه فإن عرفناه فإنه سيقع تسلسل فالخبر لا رسم له .
الخبر ما يدخله الصدق والكذب ؛ الصدق الإخبار عن شيء مما يوافق الواقع والكذب الإخبار عن شيء مما لا يوافق الواقع .وهناك فرق بين الباطل والكذب فالكذب الذي يقبل أن ينطلي عليك أما الباطل فإنه كلام هدر واضح الخطأ فمثلا :لو أن رجلا قال : الشمس الآن طالعة ( في وقت الليل ) هذا باطل .
(5/1)
المراد من قوله فالخبر ما يدخله الصدق أي الخبر يحتمل الصدق والكذب عقلا بالنظر إلى حقيقة نوعيه مع قطع النظر عن المخبر ، الكلام هنا عن الكلام المجرد فقد تأتينا قرائن تجعلنا نقول هذا الخبر لا يحتمل إلا الصدق وهذا الخبر لا يحتمل إلا الكذب كما أخبر الله تعالى أنه واحد فرد صمد فالقرائن من الخارج قامت على أن هذا الخبر لا يحتمل إلا الصدق وكما قال الكفار عن الله عز وجل " إن الله اتخذ ولدا ، صاحبة ، ثالث ثلاثة " هذا خبر لا يحتمل إلا الكذب وعلمنا الكذب من القرائن .
كلام العرب قسمان : خبر وطلب ، والطلب أقسام : أمر ، نهي ، تمني ، استفهام . وهي لا تحتمل الصدق والكذب فمثلا : لو أن رجلا قال لك : قم ، هذا أمر لا يحتمل الصدق و لا الكذب .
(5/2)
الأخبار التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث وإن تضمنت الأوامر و النواهي نحتاج إلى قواعد لضبطها وأخذها وبيان ما يحتج منه وما لا يحتج ، فهذا هو المبحث فمهد لتعريف الخبر المجرد عن كل شيء لأنه قد كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والكذب له أسباب وهنالك أشياء مظنونة والغالب على الظن أنها لم تصدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن ليس فيها كذّابا مثل المرسل فشروط قبول الخبر غير متوفر في المرسل فنرده لكن لا نجزم أنه كذب على مذهب الجماهير من العلماء ولذا قال الخبر ينقسم إلى قسمين : آحاد ومتواتر ، فالمتواتر ما يوجب العلم أي المتواتر لا يحتمل الظن البتة فمن أنكر المتواتر حكمه حكم من أنكر القرآن فهو كافر ، كيف بلغنا القرآن بالتواتر ؟ نقول : نأتي بجموع الحفاظ في الدنيا ونجمعهم في مكان واحد نستطيع أن نحصل بما هو قطع من غير أدنى ريب وأدنى ظن بنسخة من القرآن الكريم ولو أتينا بالجيل الذي قبلهم والذين قبلهم حتى يصل الأمر إلى عصر إنزال القرآن فنستطيع أن نحصل على ذلك فالقرآن الكريم محفوظ في السطور وفي الصدور فهو خبر متواتر يستحيل أن يتواطأ الحفظة عربهم وعجمهم ذكرهم وأنثاهم عالمهم وجاهلهم من غير اجتماع وتواطؤ على حفظ هذا الكم بتزوير وتدليس واختراع وكذب وكذلك تواتر المعلوم من الدين بالضرورة فمثلا : لو أن رجلا قال أنا أؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - لكني لا أؤمن أن محمدا المذكور في النصوص هو ابن عبد الله بن عبد المطلب الذي عاش في مكة والذي أذاه قومه وأخرجوه من مكة إلى المدينة هذا كافر هذا أنكر متواتر فنحن على يقين بالتواتر أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - الذي يجب أن نؤمن به إنسان عربي أبوه فلان أمه فلانة هو الذي نزل عليه القرآن وهو الذي عاش في مكة …الخ .
(5/3)
فالأمة كلها تواطأت واجتمعت على أن المدينة هي مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن مكة هي مكة وأن هذا القرآن بحروفه هو الذي نزل على محمد وأن أداءه يكون بالطريقة التي هي كذا وكذا نؤمن بهذا فاسم هذا إقلاب وهذا إخفاء ولا يضير معرفة التسمية ولكن المهم أن تؤدي الثمرة المهم أن تقرأ كما يقرر العلماء ، فالعربية مثلا منقولة بالرواية سبروا العلماء هذه المرويات فوضعوا علم النحو من فاعل ومفعول ..الخ و علماء الحديث سبروا فقالوا عندنا قواعد في التصحيح والتضعيف وكذلك علماء الفقه سبروا فقالوا المياه ثلاثة أقسام وهكذا فالعبرة ليست وراء هذه الألفاظ إنما العبرة بما يترتب عليها من نتائج فلو جاءنا اليوم واحد مهبول وقال لا يوجد أحكام تلاوة وتجويد فنقول له المهم أن تؤدي كما يؤدي أهل الأداء ولا تقول إقلاب وإدغام نحن مسامحينك نحن نسامحك في الاسم ولا نسامحك في كيفية الأداء ، فإخواني أن نبقى على الجادة وأن نبقى نسبر وراء اصطلاحات العلماء خير من أن نشوش على أنفسنا وعلى غيرنا فنحدث ألفاظا جديدة فمثلا : أحدهم يقول : لا يوجد كفر عملي فنقول له ماذا تقول في الرجل الذي يأتي امرأته من دبرها هل هو كافر ؟ فيقول لا إذن اتفقنا في المعنى فما الطائل من إحداث ألفاظا غير ألفاظ العلماء ؟ لا الجواب لا فائدة .
الخبر الذي نريده هنا هو طريق ثبوت السنة أو طريق ثبوت الشريعة إلينا والشريعة لا تثبت إلا بالسند والسند بمثابة السلم للبيت فلا يصل الإنسان إلى سطح بيته إلا من خلال السلم وقد قال العلماء قديما لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ولذا الإسناد يفضح الكذابين وهو الطريق الموصل إلى ما هو ثابت أصيل وإلى ما هو كذب دخيل .
(5/4)
الأصل في الأحاديث إما كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإما ثابتة صحيحة ولكن لما بعد العهد بيننا وبين النبي- صلى الله عليه وسلم - وأصبح بيننا وبينه جملة من الرواة فحينئذ دخل أنواع فالشيء الذي نتيقن أنه قاله من غير أدنى شك هو المتواتر وهو ما رواه عدد من الرواة يستحيل تواطؤهم على الكذب في كل طبقة من طبقات الإسناد .
وهناك الآحاد الذي يكون فيه عدد الرواة في كل طبقة من طبقات السند يحتمل الكذب ولا يستحيل بسبب قلة عددهم . والآحاد يقسمونه إلى أقسام : غريب ، مشهور ، عزيز ، مستفيض. ومرادهم لما يقولون متواتر وآحاد كلما عدا المتواتر يجعلونه تحت الآحاد بجميع الأصناف ولا سيما الأصوليين لأن الأصوليين يتكلمون عن اليقين وعدمه ويبنون الأحكام على هذا فلما يقولون آحاد ومتواتر فمرادهم بالآحاد ما دون المتواتر بجميع الأصناف المذكورة إن كانت في دائرة الاحتجاج فجميع الأصناف يراد بها هنا غير المتواتر بالآحاد .
ما يدل عليه المتواتر في الحقيقة هو من شأن أهل الصنيعة الحديثية ، الأصوليون يقسمون تقسيمات كلية لا يراعون فيها بعض المفردات وعند الفحص نجد أن بعض المفردات عند من يقيمون ثمرة ووزنا لهذا التقسيم تكون الأمور عندهم غير مضبوطة مثل الحنفية أكثر من يقيم وزنا للأحكام العملية بناء على التواتر والآحاد ومع هذا لما نتعرض للمفردات نجد أن تقسيماتهم غير منضبطة فمثلا : الحنفية يفرقون بين الفرض والواجب من جهة وبين المكروه كراهة تحريمية والحرام من جهة أخرى فالواجب والكراهة التحريمية ما ثبت بغير المتواتر والفرض والحرام ما ثبت بالمتواتر فمثلا لبس الحرير للرجال لم يثبت بالتواتر فمذهب الحنفية يقولون استفاض واشتهر حرمة الحرير فنلحقه بالمتواتر فتارة يلحقونه وتارة لا يلحقونه ، فالذي أريد أن أصل إليه أن جماهير الأصوليين لا يقيمون وزنا لما ثبت بالتواتر والآحاد والحنفية يقيمون الوزن الكبير لهذا الأمر .
(5/5)
وقع خلاف شديد في العدد الذي يستحيل تواطؤه على الكذب عند الأصوليين : فمنهم من قال أقل عدد للتواتر أربعة لأنه هو أكثر نصاب الشهادة وتراق به الدماء .ومنهم من قال أقل عدد هو اثنا عشر لقول الله تعالى" وبعثنا منهم اثنا عشر رسولا" ولكن الله بعث الرسل لأكثر من قوم فلا فائدة لهذا العدد فلو أن رجلا قال يحتاج التواتر إلى مائة وذكر عددا في القرآن فهذا لا يفيد ولذا بعضهم قال أقل عدد للتواتر هو سبعين لقوله تعالى " واختار موسى قومه سبعين رجلا " ومنهم من قال ثلاثمائة كعدد أصحاب بدر ومنهم من قال ألف وخمسمائة على عدد بيعة الرضوان ومنهم من قال اثنان ومنهم قال خمسة أقوال كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان ومن هنا نعلم أن إقامة وزن كبير لموضوع التواتر والآحاد ولا سيما بعد انقطاع عصر الرواية لا ينبغي أن يعلق عليه كبير أمر .
مسألة : هل تؤخذ العقيدة بخبر الواحد أم لا ؟ الجواب : تؤخذ
(5/6)
قول الماتن " فالمتواتر ما يوجب العلم …الخ" أي ما يوجب اليقين القطعي من غير ظن ويوجبه بنفسه من غير قرينة ،فمثلا لو حصل حدث ما في مكان ما وجاء جمع من الناس لا يعرفون بعضهم فأخبروا بهذا الحدث فهؤلاء يستحيل تواطؤهم على الكذب فإن أخبروا أن فلانا قال كلمة معينة بحروفها هذا يسمى تواتر لفظي وإن لم يطبقوا على لفظة بعينها وإنما تواطؤا على نقل حدث ما من قول أو فعل دون نقل لفظ معين هذا يسمى تواتر معنوي ؛ مثلا : أحاديث الدجال وأحاديث نزول عيسى عليه السلام وخروج المهدي والمسح على الخفين تواترها تواتر معنوي لا يوجد نص بعينه وبحروفه من السنة فيها ولكن حديث " من كذب علي متعمدا …" فهو متواتر تواترا لفظيا فرواه جمع كبير وعدد غفير من الصحابة وكذلك من التابعين ومن أتباع التابعين وأتباعهم إلى عصر التدوين فالعلماء مطبقون على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذا الكلام بحروفه فما دخل عليه نبذوه العلماء فمثلا بعض الكذابين قال " من كذب علي متعمدا ليضل الناس .." فقال بعضهم بناء على اللفظ الزائد كنوح ابن مريم وغيره ممن أخزاهم الله وصلبوا على الزندقة لما كانوا يكذبون على رسول الله يقول نحن نكذب لرسول الله وهذا مردود .
(5/7)
قال الماتن في تعريف التواتر " أن يروي جماعة …الخ " أي متى خلت طبقة من طبقات السند عدد التواتر لم يكن متواترا فمعنى تواتر الشيء في اللغة التواصل ؛ تواتر الشيء أي تواصل الشيء بعد الشيء فإن تتابع شيئان بمهلة بينهما فهذا هو التواتر في اللغة ؛ ولذا قوله أن يروي جماعة لا يقع التواطؤ على الكذب من مثلهم المراد التتابع أيضا وكذلك في كل طبقة من الطبقات إلى أن ينتهي إلى المخبر عنه يعني تواتر الحديث حتى ينتهي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وتواتر الأثر حتى ينتهي إلى الصحابي أو التابعي وهكذا ، وفي التواتر لما يستحيل التواطؤ على الكذب لا نفحص عن عدالة الراوي أو عن ضبطه لأنه لا معنى له هنا ونحن نبحث عن العدالة والضبط حتى نتأكد أنه لم يطرأ وهم أو زيادة أو إدخال حديث في حديث أو نقصان على ما سمع .
قول الماتن " ويكون في الأصل عن مشاهدة…" فلو حصل هذا الإخبار عن اجتهاد من أنفسهم عن شيء لم يروه بأعينهم ولم يسمعوه بآذانهم وإنما اجتهدوا فهذا الأمر دخله الظن وتطرق إليه وخرج عن خبر التواتر فمثلا لو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل فعلا محتملا أو قال قولا بلغه لنا جماعة حضروا المجلس ولم يسمعوا كانوا في أطراف المجلس مثلا فهذا الأمر إن أخذه التابعون من الصحابة وكان هذا حالهم فهذا لا يسمى تواترا ، لكن الصحابة عدول لا يقولون قال رسول الله حتى يتيقنوا وإن وقع وهم من واحد فيسدده ويصوبه الآخر وإن وقع نسيان يذكره الآخر كما نسي عمر وذكر عمار في قصة التيمم .
(5/8)
إذاً التواتر يكون فيه تواطؤ عن شيء مشاهد ومرئي ومسموع ما دخل الحامل في الطبقة الأولى من الحاملين للخبر ما دخلهم ظن ، تيقنوا أن فلانا قاله أو أن النبي قاله أو فعله ثم بلغوه لمن بعدهم فانتشر الخبر وبقي هذا الانتشار موجودا حتى بلغ طبقة المصنفين ، لماذا نقول مصنفين ؟ حتى لا نلغي التواتر لأن عصر الرواية انقطع والمحدثون الذين يسندون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الآن غير موجودين إلا في كتاب أو تحت تراب إلا عدد قليل وجل الإسناد اليوم مأخوذ من إجازات عامة .
قول الماتن " والآحاد وهو الذي يوجب العمل …" يؤخذ على الماتن أنه عرّف الآحاد بالثمرة والتعريف بالثمرة ليس بمَرْضٍ عند العلماء ولو قال الآحاد ما ليس بالمتواتر لكان أفضل فالمراد بالآحاد ما لم يبلغ حد التواتر .
مسألة : الآحاد يوجب العمل و لا يوجب العلم :
في هذه المسألة خلاف شديد، عند العلماء أن الآحاد يوجب العمل أي يفيد الأحكام العملية ولكن هل يفيد العلم اليقيني هذا موطن الخلاف : فمنهم من قال أنه يفيد اليقين: وهذا مروي عن أحمد ودافع ابن حزم في الإحكام ( ج1 ، ص115 ) عن هذا القول بقوة وسفه غير هذا الرأي ونصر هذا القول ابن القيم في مختصر الصواعق المرسلة .
ومنهم من قال يفيد العمل ويفيد العلم بقرينة : وتكاد تقول أن هذا رأي جماهير الأصوليين وجماهير علماء المصطلح ويقولون الحديث الذي في الصحيحين يفيد اليقين بقرينة إجماع أهل العلم بعد التتبع والفحص والاستقراء على صحة أسانيد ما في الصحيحين فصار مجرد الاستقراء قرينة .
(5/9)
كلام الأصوليين على أن الآحاد الذي لم يبلغ حد التواتر لا يفيد العلم كلام باطل قطعا حتى عند الجماهير لأننا ينبغي أن نبقى على تذكر بأن مرادهم بالآحاد ما ليس بمتواتر ومذهب جماهير الأصوليين والمحدثين أن الآحاد إذا لحقته قرينة ولو كان فردا غريبا فإنه يفيد اليقين والعلم كأن يوجد حديثا غريبا في الصحيحين أو في أحدهما فهذه قرينة كما بينا قبل قليل فما بالكم إن كان للحديث شواهد وطرق وما شابه ولذا هذا الحد أمره إلى المحدثين وإلى أهل الصنعة الحديثية وليس إلى من لا يعرف من هذه الألفاظ إلا الرسوم والمصطلحات ولا يعرف حقائق الأشياء .
(5/10)
قصة حدثت مع الشيخ : أذكر مرة أن شابا سألني عن الآحاد هل يؤخذ به في العقيدة أم لا ؟ فقلت ما يقرره أهل السنة والجماعة من أن الآحاد يؤخذ به في العقيدة وسفهت القول الآخر فقال لي : أنا أريد أن أستزيد قلت ما عندي مانع فجاءني ومجموعة فطرقوا الباب وأنا نسيت الموعد وقالوا : بيننا وبينك موعد مناظرة قلت : والله أنا لا أعرف أن بيني وبين أحد مناظرة فقال : أنا سألتك الجمعة الماضية قلت : أنت سألتني وأردت الاستزادة ولم تطلب المناظرة لكن تفضلوا فدخل هو ومجموعة فقال لي أستاذ لهم : جئنا لنناظر هل الآحاد يؤخذ في العقيدة أم لا ؟ قلت والله لا يوجد عندي صبر على أن أسمع الباطل في بيتي فإن شئتم قلت أنا حجة وأنتم تنقضوها ثم أنتم قلتم وأنا أنقض قال : ابدأ قلت : خبر الآحاد نوع من أنواع السنة وثبتت حجية السنة بالقرآن فكيف تنكرون هذا النوع قالوا : خبر الآحاد يفيد الظن لأنه واحد عن واحد ( وأنا أفهم أنهم يرددون ألفاظا لا يعرفون معانيها ) فقلت له : افرض أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمشي مع أبي هريرة وليس معهما ثانٍ فأخبر النبي أبا هريرة حديثا في العقيدة أتأخذ به في العقيدة ؟ فسكت ثم قال : أنا لا آخذ فقلت : أنت زنديق وهذه زندقة والكلام الذي تقوله حتى من تقرأ كلامه لا يقولونه فأنت تردد كلاما لا تفهمه أتريد من أبي هريرة حتى يصدق النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه يحتاج إلى سبعين محمد يرسل إليه ومحمد ينبغي أن يرسل له سبعين جبريل ، فالشرع كله عن ربنا عن جبريل عن محمد هذه الطبقة ما أحد يشك فيها أنها واحد عن واحد الخلاف فيما بعدها .فقال : لا ، ابن حزم يقول خبر الواحد لا يؤخذ به في العقيدة قلت : أين يقول هذا قال: في الفصل قلت : تفضلوا ها هو الفصل فابن حزم يقول قال بعض النوكة أي بعض الحمقى خبر الواحد لا يؤخذ به في العقيدة " انتهت القصة
(5/11)
إذاً خبر الواحد الذي قد لا يفيد اليقين والعلم الفرد الغريب الذي إن فحص قد لا يوجد في العقيدة أصلا يعني يصبح الخلاف في حد المسألة مع الجماهير أشبه ما يكون بالخلاف اللفظي النظري حتى على اعتبار قول الجماهير يصبح الخلاف خلافا لفظيا ،لا نعرف عقيدة لنا لم تثبت إلا بنص بحديث واحد لنا عقائد كثيرة ثبتت بغير التواتر ونأخذها ولكنها ليست مثبتة ولا يوجد لها إلا إسنادا واحدا .
قال الماتن " والآحاد ينقسم إلى مرسل ومسند "
المرسل لغة ،تقول العرب أرسلت الشيء أطلقته ،وهو أقسام :
أولا :مرسل التابعي: أن يحدث تابعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير واسطة الصحابي
ثانيا : المنقطع: أن يحدث الرجل عمن من لم يسمع منه ، فالمرسل والمنقطع عند المتقدمين كان لمعنى واحد فالبيهقي مثلا في كثير من كتبه فيما يقوله الحسن البصري عن النبي يقول هو منقطع ، واستقرت كلمة المتأخرين من أهل الاصطلاح على أن المرسل ما سقط منه اسم الصحابي .
ثالثا : مرسل الصحابي : أن يكون قد سمع حديثا من صحابي آخر فرفعه للنبي- صلى الله عليه وسلم - مباشرة مثل قول ابن عباس " لا ربا إلا النسيئة " فلما حوقق به قال لم أسمعه من النبي وإنما سمعته من أسامة بن زيد ، ومرسل الصحابي حجة .
رابعا : المرسل الخفي : هو الحديث الذي رواه الراوي عن من عاصره ولم يلقه ولم يسمع منه ، والفرق بينه وبين التدليس أن التدليس هو أن تروي عن من عاصرت وعمن سمعت منه لكن هذه الرواية التي دلست فيها تكون لم تسمعها من الشيخ فالتدليس فيه لقيا ولكن لم تسمع هذه الرواية والمرسل الخفي ليس فيه لقيا ، في التدليس العيب في الرواية .
(5/12)
و من أسباب التدليس : حتى لا يحدث الراوي عمن دونه ؛ يعني يمكن أن أسمع حديث من طبقة ممن هو دوني من تلميذ من تلاميذي مثلا فيعز علي أن أقول حدثني فلان ثم أذكر قرينا لي أو أن أذكر شيخا لي فأصل إلى شيخي من خلال تلميذي فأسقط تلميذي موهما السامع أنني سمعت الشيخ ولا يجوز لي البتة أن أقول حدثني شيخي لو قلت هذا لكذبت وسقطت جميع مروياتي ولكن أدلس وأقول عن شيخي أنا متيقن أن تلميذي ضابط فلماذا أذكر الواسطة والعبرة في الخبر ولذا المدلسين على طبقات كما قسمهم ابن حجر : فمنهم من لا يدلس إلا عن ثقة فهؤلاء أخرج لبعضهم أصحاب الصحيحين ومنهم من يدلس عن المجاهيل والمتروكين والكذابين هؤلاء لا نقبل روايتهم حتى نعرف الواسطة بينهم وبين من رواه عنه أو أن يصرح بالتحديث فإن وقع التصريح أمن التدليس .
وأشهر المدلسين المكيين أبو الزبير محمد بن مسلم بن تادرس المكي والتدليس كثير في بلاد الشام جل المدلسين شاميون ولعل من أسباب التدليس : راوٍ جالس بين أناس شيعة مثلا عنده حديث أراد أن يأخذ به المستمعون فإن صرح برجل لا يأخذه أهل التشيع فيرد الحديث فيسقط الرجل بعنعنة وهذا من أسباب إرسال الحسن البصري فكان الحسن يروي عند الكوفيين وأكثرهم شيعة فيريد الحسن أن يقول حديثا عن معاوية فيسقطه ويقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(5/13)
وقلنا من أسباب التدليس العلو في الإسناد لأن النزول في الإسناد مذموم عند العلماء ومن أسباب رواية مسلم في صحيحه عن بعض الضعفاء من طبقة شيوخه العلو بالسند لأنه سمع الحديث عن عشرات وتيقن أن شيخه ضبط لكن إذا يريد أن يصل إلى شيخ شيخه يريد طبقتين أو ثلاث فينزل فيأخذ بالعالي وإن كان متكلما فيه لأنه متيقن أن شيخه قد ضبط الحديث ولذا جل الرواة المتكلم فيهم في الصحيحين من طبقة شيوخ البخاري وشيوخ مسلم وأمثال مسلم والبخاري ماذا يأخذون عن مشايخهم وماذا لا يأخذون لذا من خطأ الحاكم أنه كل راوٍ روى عنه مسلم جعله من شرط مسلم وكل راوٍ روى عنه البخاري جعله من شرط البخاري فلم ينتبه إلا أنهما تخيرا ومن خطأ ابن حزم أن الراوي المتكلم فيه ولو كان من طبقة شيوخ البخاري ومسلم يقول هذا كذاب في الصحيح ونبه على هذه النقطة المهمة ابن القيم في الفروسية .
والمسند : ما اتصل إسناده أي أن يروي شخص عن شخص إلى المخبر عنه ، أصل الإسناد التلقي ولذا العلماء يقولون أخرج مسلم وأخرج البخاري وأخرج الترمذي ..الخ الإخراج هنا بمعنى الإظهار أي إظهار السند .
وهناك فرق بين خرّج وأخرج : أخرج أي أظهر السند وخرّجه أي أوصله إلى مصنفه وأصبحت خرّجه تذكر على عملية من أظهر السند يعني نقول الزيلعي خرّج أحاديث نصب الراية أي جمع الأحاديث وبين أسانيد أصحاب الدواوين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن الخطأ أن نقول أخرج البخاري تعليقا لأن الإخراج إظهار السند والمعلق لا سند له ولكن يقال ذكر البخاري تعليقا أو علقه.
آخر من جلس في الأزهر بعد الجمعة وكان يسند الأحاديث إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - المرتضى الزبيدي صاحب تاج العروس والتاج مفيد في ضبط الأسماء .
حكم المسند : إن توفرت فيه شروط الصحة فهو حجة .
(5/14)
حكم المرسل : ليس بحجة إلا أن يكون من مراسيل الصحابة ، والناظر في مذاهب العلماء ولا سيما مذاهب الأئمة المتبوعين يجد أن العلماء كلما تقدم بهم الزمن توسعوا بالاستدلال بالمرسل فالحنفية يرون أن المرسل حجة بإطلاق فاعتمدوا على بطلان وضوء من قهقه في الصلاة بمرسل أبي العالية " من قهقه في الصلاة فقد انتقض وضوءه" لذا الشافعي لما التقى مع أحمد بن الحسن قال له أخبرني عن رجل قهقه في وضوءه ماذا عليه؟ قال تنقض صلاته ووضوءه عليه الإعادة قال :أخبرني عن رجل قذف محصنة في صلاته ماذا عليه؟ قال يعيد صلاته ولا يعيد الوضوء قال سبحان الله يقضي في المحصنة توجبون عليه إعادة الصلاة دون الوضوء ويقهقه يوجبون عليه إعادة الوضوء والصلاة إن هذا لشيء عجاب "فالشافعي ممن اعتمد دراسة الأسانيد دراسة دقيقة وقد وقع خبط وخلط في مذهبه في المرسل : مالك رأى حجية المرسل إن عضده عمل أهل المدينة ، الشافعي لم ير حجية المرسل إلا إن قامت شواهد على صحته ، أحمد لم ير حجية المرسل بالكلية ، فالمرسل كلما تقدم الزمن توسعوا في الاستدلال به .
(5/15)
بعض العلماء قالوا مراسيل غير الصحابة عند الشافعي ليست بحجة إلا مراسيل سعيد بن المسيب كما قال الماتن وهو شافعي كما هو معلوم وهذا الكلام على هذا الإطلاق ليس بصحيح ، الناظر في كلام الشافعي وأصحابه الذين يعرفون كلامه وسبروه وقرروا مذهبه يرون أن الشافعي أقام وزنا كبيرا لمراسيل كبار التابعين وخص من بينهم مراسيل سعيد فمراسيل سعيد ينظر إليها بعين فيها مهابة ولكنه لا يرى حجيتها بإطلاق فمتى وجد مرسلا لسعيد ولم يعضده شيء رده ومتى وجد مرسلا لغيره ولو كانت مراسيله رياحا أو شبيهة بالرياح كمراسيل الحسن البصري وقامت شواهد أو ما يعضدها قبلها فمراسيل سعيد يوليها اهتماما خاصا من حيث أنها في جملتها يوجد لها شواهد فهي ليست بحجة لأنها مراسيل سعيد كما أوهمت عبارة الماتن وإنما هي حجة لأنه قد قام ما يعضدها في جل مفرداتها فمتى انفرد سعيد بالإرسال فهذا ليس بحجة هذا المذهب وجدته منقولا عنه من قبل حذاق أصحابه عن الشافعي و أطلت النفس في تقريره في تعليق لي على تعظيم الفتيا لابن الجوزي وأنقل لكم شيئا مما ذكره العلماء مما يقوّي ما ذكرت فمثلا قال البيهقي في كتابه مناقب الشافعي ( ج2 ص 32 ) قال " قلت : فالشافعي رحمه الله يقبل مراسيل كبار التابعين إذا انضم إليها ما يؤكدها وقد ذكرنا في كتاب المدخل من أمثلتها بعضها وإذا لم ينضم إليها ما يؤكدها لم يقبله سواء كان مرسل ابن المسيب وغيره ثم قال : وقد ذكرنا في غير هذا الموضع مراسيل لابن المسيب لم يقل بها الشافعي حين لم ينضم إليها ما يؤكدها ومراسيل لغيره قد قال بها حين انضم إليها ما يؤكدها وزيادة ابن المسيب على غيره في هذا أنه أصح التابعين إرسالا فيما زُعم "
(5/16)
ثم وجدت نقلا مطولا في رسالة بديعة منهجية مهمة ذكرها البيهقي إلى أبي محمد الجويني وقد طبعت ناقصة مشوهة في مجموع الرسائل المنيرية والنقل موجود منقول عن نسخ خطية ولا يوجد في القسم المطبوع فيوجد في هذه الرسالة ما نصه قال : " إنما ترك الشافعي مراسيل من بعد كبار التابعين كالزهري وابن مكحول والنخعي ومن في طبقتهم ورجح به قول بعض أصحاب النبي إذا اختلفوا وترك مراسيل كبار التابعين ما لم يقترن به ما يشده من الأسباب التي ذكرها في الرسالة أو وجد من الحجج ما هو أقوى منها قال وقد احتج الشافعي في أحكام القرآن بمرسل الحسن " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " وقال هذا وإن كان منقطعا دون النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن أكثر أهل العلم يقولون به قال هو ثابت عن ابن عباس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - تأكد مرسله بقوله بما انضم إليه من الصحابة وبأن أكثر أهل العلم يقولون به [إذاً : المرسل لو جاء قول صحابي صحيح فهذا يعضد هذا لأن العلة سقوط الصحابي فجاء قول الصحابي وثبت من طريق آخر فإذاً أصبح قول الصحابي إن صح عنه مع المرسل هذا يعضد هذا ؛ هذا ضعف يقبل الجبر فالضعف يسير وليس بشديد] قال : كما أكد مرسل ابن المسيب في النهي عن بيع اللحم بالحيوان بقول الصديق وبأنه روي من وجه آخر مرسلا بمرسل الحسن في كتاب الصرف في النهي عن بيع الطعام بالطعام وقال بمرسل طاووس في كتاب الزكاة والحج والهبة وغير ذلك وبمرسل عروة بن الزبير وأبي أمامة بن سهل بن حنيف وعطاء بن رباح وعطاء بن يسار وسلمان بن يسار وابن سيرين وغيرهم من كبار التابعين في مواقع من كتبه حين اقترن بها ما أكده ولم يجد ما هو أقوى منه وترك عليهم من مراسيلهم ما لا يجد معه ما يؤكده أو وجد ما هو أقوى منه قال : كما لم يقل بمرسل سعيد حيث روى عنه بإسناد صحيح أن النبي- صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر مدين من حنطة وبمرسله في كذا وكذا ثم قال ما نصه : وهذا هو الشاهد
(5/17)
قال وعلى هذا فتخصيص مرسل ابن المسيب بالقبول دون من كان في مثل حاله من كبار التابعين على أصل الشافعي لا معنى له " انتهى .
وبعضهم قال أن للشافعي قولان في مرسل سعيد وهذا غير صحيح فقول الشافعي هو هو ومن ينظر في كلام أصحابه المحررين ككلام الخطيب في كتابه الكفاية ( ص571،572 ) وكلام الزركشي في النكت على ابن الصلاح وكلام جمع من المحررين المحققين من أهل العلم يجد أن للشافعي مذهبا واحدا .
والمقولة التي اشتهرت عن الشافعي " أن مراسيل سعيد أصح المراسيل " قال بها ابن معين وأسند ذلك الدوري في تاريخه وقال بها أحمد فالشافعي قالها على معنى قول ابن معين وأحمد أنه بالسبر وجدنا أنظف و أصح المراسيل مراسيل سعيد ولكنها ليست حجة بذاتها ، ولذلك قول الماتن " إلا مراسيل سعيد فإنها فتشت …" ليس بصحيح فالذي فتش ووجد له ما يعضده من قول صحابي أو حديث في ضعف يسير مرفوع فهذا يقبل وإلا فلا .
قول الماتن "والعنعنة …" الإسناد الخبر المرفوع للنبي - صلى الله عليه وسلم - تقبل العنعنة وهذا الذي جرى عليه الإمام مسلم في صحيحه بشرطين : 1- أن تكون معاصرة 2- أن لا يعرف عنه تدليس . وحينئذ يحمل الخبر على الاتصال وليس على الانقطاع وقد كادت تطبق كلمة المخرجين من الناحية العملية على صحة هذا المذهب فلا نعرف كتابا خرج الأحاديث على منهج الذي ينسبونه للبخاري بل وجدنا البخاري في أحاديث كثيرة لم يقع فيها التصريح باللقيا وإنما بالمعاصرة وعدو معرفة الراوي بالتدليس في أحاديث في صحيحه وأحاديث كثيرة شهيرة سأله عنها تلميذه أبو عيسى الترمذي فحسّنها وصححها ولذا يقول البخاري في التاريخ الكبير في تراجم العلماء يقول فلان عن فلان ويقول عن فلان منقطع ويقول سمع فلان فبفرق بين عن فلان منقطع وسمع فلان بقوله عن فلان فقط وهذا الصنيع ينبأ إن صح أنه اشترط اللقيا فإنما هذا هو شرط لأعلى الصحة عنده وليس لأصل الصحة .
(5/18)
ومن ضمن ما يلحق بالرواية : القراءة على الشيخ : أن يقرأ التلميذ على الشيخ أو يقرأ الشيخ على التلميذ
وكذلك الإجازة والمناولة وما شابه .
قول الماتن " وإذا قرأ الشيخ …." أنت تسمع الشيخ يحدث عن النبي- صلى الله عليه وسلم - فيجوز لك أن تقول :أخبرني فلان أو حدثني فلان [وهذا غير مذهب مسلم في تدقيقه ففرق :فما سمعه التلميذ من فم الشيخ يقول حدثني فإن كان سمعه من الشيخ مع غيره قال : حدثنا ، فإن قرأ على الشيخ وحده قال أخبرني وإن كان معه غيره قال أخبرنا .]
وله أن يقول سمعته إن سمع الشيخ وهذا مذهب جماهير العلماء من الأصوليين المحدثين بل بعضهم يقول يجوز له أن يقول : قال لنا مع مراعاة أن لفظة " قال لنا " يستخدمها العلماء عند المذاكرة وليس عند التحديث .
وإذا قرأ هو على الشيخ والشيخ ساكت يقول أخبرني لأن سكوته إقرار مع أن جماعة من المغاربة يسوون بينهما فيجوزون أن يقول في هذه الحالة حدثني وجرى العمل على هذا عند المتأخرين كما في فتح المغيث ( ج2 ص 34 ) وفي فتح الباري ( ج1 ،ص 145) وبعضهم يجوّز أن تقول حدثني بشرط زيادة قراءة عليه فصارت هي هي ،ابن حزم لا يجوّز أن تقول أخبرني ولا حدثني إلا إن أقر الشيخ إن أخذت إذنه وهذا كلام لم يرضه منه سائر العلماء فقال الخطيب البغدادي في الكفاية : متى نصب الشيخ نفسه للقراءة عليه وأنصت التلميذ إليه مختارا لذلك غير مكره وكان متيقظا غير غافل جازت الرواية عنه لما قرأ عليه ويكون إنصاته واستماعه قائما مقام إقراره .
(5/19)
قول الماتن " وإن أجاز الشيخ من غير قراءة …" يعني لا هو قرأ على الشيخ ولا الشيخ قرأ عليه فيقول أخبرني إجازة ؛ الإجازة :أن يخبر الشيخ الطالب كتبا معينة وأحاديث مخصصة كأن يقول : أنا أجزتك هذا الكتاب ، وأن يقول له أجزتك ما اشتملت عليه فهرستي ، كل عالم له فهرسة له كتب يرويها بالسند هذا يسمى عند المغاربة الأسبات وعند المشارقة الفهارس والمرويات فهذا ما يسمى بالإجازة .
ابن حزم يروي أن الإجازة العامة كذب؛ أن يقول الشيخ للتلميذ أجزتك كل مروياتي، هذا كذب لا بد أن تعين الكتاب والأحاديث وجماهير أهل العلم يقبلون الإجازة على الإطلاق ويقولون هي على درجات : أعلاها : أن تناوله الإجازة ( إجازة مع مناولة ) بل بعضهم اعتبرها بمنزلة السماع والتحديث فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى عماله كتبا وكتب أبو بكر وعلي كتباً إلى عمالهم وكانوا يأخذون بالكتب والكتب لا يقرؤوها على الشيخ ولا الشيخ قرأها عليه فالإجازة يؤخذ بها وهي حجة ومن ضمن ما يذكر تحت الإجازة الإجازة مع المكاتبة ولذا يقولون أحيانا أخبرني مشافهة ، أخبرني إجازة ، أخبرني مناولة ، أخبرني مكاتبة وهذا دلالة على أن بعضهم يلحق بالإجازة يعني يجعل التصريح بالتحديث والسماع بمنزلة الإجازة .
(5/20)
التعارض بين الأدلة
*قال الماتن رحمه الله : إذا تعارض نطقان فلا يخلو ؛ إما أن يكونا عامين أو خاصين أو أحدهما عاما والآخر خاصا أو كل واحد منهما عاما من وجه وخاصا من وجه .
فإن كانا عامين : فإن أمكن الجمع بينهما جمع وإن لم يمكن الجمع بينهما يتوقف فيهما إن لم يعلم التاريخ فإن علم التاريخ ينسخ المتقدم بالمتأخر ، وكذا إن كانا بالخاصين .
وإن كان أحدهما عاما و الآخر خاصا فيخصص العام بالخاص .
وإن كان أحدهما عاما من وجه وخاصا من وجه آخر فيخص عموم كل واحد منهما بخصوص الآخر .*
قال الشيخ مشهور حفظه الله : الآلية المتبعة من ناحية عملية في الترجيح محصورة في خطوات ثلاث :
الخطوة الأولى : الجمع بين النصوص ؛ولذا القاعدة الفقهية الأصولية التي يكثر تردادها عند العلماء وهي مهمة جدا وهي " الجمع مقدم على الترجيح أو الإعمال أولى من الإهمال " فإعمال جميع النصوص مقدم على الأخذ بنص وترك نص آخر والجمع بين النصين الذين في ظاهرهما التعارض مقدم على أن نرجح نص دون نص لأن النصوص جميعها وحي من الله عز وجل، إذن آلية عمل الفقيه عندما يجد تعارضا في الظاهر يتمثل في خطوات ثلاث الأولى الجمع كما تقدم وإن تعسر الجمع يدرس إمكانية النسخ .
الخطوة الثانية : دراسة إمكانية النسخ : ومن شروط النسخ التناقض بين الخبرين بين الناسخ والمنسوخ فإن لم يقع التناقض فلا نسخ وإنما الجمع .
الخطوة الثالثة : الترجيح
التعارض في اللغة : تعارض تفاعل والتفاعل يكون من طرفين ولذا يشترط في التعارض أن يكون عندنا نصين تفاعل فيه ، التفاعل فيه لا بد من المشاركة ، فالتعارض على وزن تفاعل وهو مأخوذ من العرض بضم العين وهو الناحية أو الجهة فكان الكلام المتعارض يقف بعضه في عرض بعض يقف بعضه في جهة بعض وناحيته فيمنعه من النفاذ إلى حيث وجه .
(6/1)
في التعارض شيئان يتقابلان فكل منهما يمنع الآخر من النفوذ من الطرف الآخر هذا يسمى التعارض ويطلق على التمانع فيقال عرض لي كذا أي إذا استقبلك في الاتجاه الذي قصدته ؛ إن اتجهت إلى شيء تقصده فيعرض لك في الطريق شيء فيقول عرض لي كذا ولهذا سمى الله عز وجل السحاب عرضا لمنعه شعاع الشمس وحرارتها وذلك في قوله تعالى " وقالوا هذا عارض ممطرنا " قال أبو البقاء في كلياته : عرض الشيء بالضم ناحيته ما منه الإعراض ومنه عرض الحياة الدنيا وهو حطامها ومنه قول الله تعالى " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " أي لا تكون مانعا معترضا بينكم وبين عمل البر وعمل التقوى .
والتعارض يطلق أيضا على البينات ويطلق أيضا على اعتراضات الفقهاء على بعضهم بعضا في توجيه الأدلة فمثلا واحد يقول حكما ويستدل عليه بنقل فالفقيه يعترض على وجه الاستدلال من الحكم فهذا يسمى تعارض الفقهاء فيما بينهم وكذلك في القضاء تعارض البينات فتعارض البينات كل بينة تقابل الأخرى فتمنع من نفوذها وتمنع القاضي من العمل بها كما أن الحجج تتعارض فكل حجة تقابل الأخرى فتمنع الفقيه من القول بها إن كانت لها محل في الطريق هذا هو التعارض في الشرع .
التعارض في الاصطلاح عند الأصوليين يقرب من هذا المعنى ولذا عبر عنه الأصوليين بمعان متقاربة وألفاظها مختلفة والمعاني بالجملة مؤتلفة، فقال في الإبهاج : التعارض هو تقابل الدليلين على سبيل التمانع . وقال ابن الهمام في التحرير : اقتضاء كل من الدليلين عدم مقتضى الآخر ( دليل يقتضي شيئا وآخر يقتضي شيئا آخر فيتمانعان أو يتعارضان) وعرّف الغزالي التعارض قال : هو التناقض .
(6/2)
وفي الحقيقة التناقض ليس هو التعارض وإن قيل إنه تناقض فهذا فيه تجوّز والشريعة منزهة أن يقع فيها تعارض وتناقض على الراجح ، فالتعارض بالنسبة إلى ما في أفهامنا لا بالنسبة إلى ما في حقيقة النصوص ، التعارض ما يطرأ على المجتهد كأن يقع للقاضي لمّا تقع بينات أحدهما بريء والآخر متهم لكن السبيل لإثبات الإدانة يقع فيه التعارض فالسبيل لإثبات الحكم للبرهنة على حكم ما ، هذا السبيل في الاحتجاج في أثناء السير للحكم ؛ إعمال الدليل للوصول للحكم في هذا الطريق تقع الأدلة المتعارضة وإلا الشرع أثبت حكما واحدا لمسألة واحدة ، فالتعارض في عمل المجتهد وفي عملية الاستنباط .
(6/3)
التناقض هو اختلاف قضيتين مطلقا ولا يلزم من هاتين القضيتين أن تكونا في الشريعة ، فالتعارض محل العمل فيه في نصوص الشرع والتناقض في أمور المنطق وليس في أصول ولا فروع الشريعة ، فالتناقض اختلاف قضيتين مطلقا بشرط توارد الإيجاب والسلب على شيء واحد كأن يقال : هذا المسجل أبيض أسود هذا الكلام متناقض لأني لا أرى فيه بياضا لكن وجود مشاحات أو أشياء فيه أبيض فقلت هذا الكلام فممكن هذا الكلام يُؤًوًّل فإذا صار الكلام فيه وجه للتأويل صار فيه تعارض ولذا عند علماء المنطق لا يجدون تناقضا بين القول والفعل لكن في التعارض يوجد بين القول والفعل يعني لو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال قولا وفعل فعلا وبادئ الرأي أن كلا منهما في اتجاه ويؤخذ من كل منهما حكم يختلف عن الآخر هذا يقع فيه تعارض لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - مشرع بالتجوز لكن عند أهل المنطق التناقض لا يكون إلا بين الأقوال الخبرية ، لو أن رجلا تمنى أو أمر فالأوامر عندهم لا يدخلها التناقض ، أما في الشرع يدخلها التعارض لأننا نأخذ من أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - حكما ونأخذ من أوامره حكما ومن نهيه حكما ، فعند المناطقة التناقض يكون بين قضيتين كليتين سواء يشترط فيهما أن يقع الإيراد فيهما على إيجاب وسلب في وقت واحد على شيء واحد .
الفرق بين التعارض والتناقض :
التعارض الأصولي محله الأدلة الشرعية والتناقض المنطقي مورده ما يقتضيه العقل .
التناقض لا يكون بين الأمرين ولا النهيين ولا بين الأمر والخبر وإنما يشترط أن يكون بين خبرين عند المناطقة والتعارض يكون بين ذلك كله ؛ بين الأمرين وبين الأمر والخبر وبين الخبرين وهكذا .
التعارض يطلق على القولين فيما بينهما وعلى الفعلين فيما بينهما وعلى القول والفعل والتناقض لا يكون إلا بين القولين .
(6/4)
التنافي في التعارض يكون صوريا والتنافي في التناقض يكون حقيقيا أصليا ولذا قال الله تعالى " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" هذا الاختلاف الكثير منفي وهذا إعجاز عجيب للقرآن فالعقول البشرية مهما أوتيت من حكمة وذكاء فإن العوار يظهر في أحكامها مع مضي الزمن ويظهر العوار في نتاجها مع تداخل الأشياء فهناك قوانين وضعها أناس ذو ثقافة عالية وذكاء وقد تظهر فيها مصلحة في بادي الرأي ولكن مع تقلب الزمن تظهر المفاسد .
أضرب مثالا على ذلك : إن زنى رجل مع امرأة باختيارها فهذه حرية شخصية في قانونهم ويقولون إن زنى رجل على فراش امرأة متزوجة فهذا اعتداء على حق الزوج وللزوج أن يطالب بحق يقدره له القانون وهو حق محصور لصاحب الفراش لا يورث أي لا يطالب فيه ابنه مثلا ويقولون لو أن رجلا أراد أن يُقتل وتحقق من القتل فدافع عن نفسه فقتل قاتله فهذا لا حرج فيه .الآن نفترض صورة رجل دخل على بيته فوجد رجلا يزني في زوجته فهم بقتل الزاني فدافع الزاني عن نفسه فقتل الزوج ففي القانون الوضعي لا شيء عليه ومن هنا يتبين عوار هذه القوانين والأمثلة كثيرة .
الشرع من لدن حكيم خبير فلا تعارض في أوامره ولا تناقض وإنما التعارض فقط في استخراج الحكم عند المجتهد أما الشريعة في نفسها فهي منزهة عن وقوع التعارض فضلا عن التناقض وهذا مذهب جماهير أهل العلم .
قال الإمام الشافعي فيما نقله عنه الشوكاني في إرشاد الفحول قال: لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثان صحيحان متناقضان ينفي أحدهما ما يثبته الآخر من غير جهة الخصوص والعموم والإجمال والتفصيل إلا على وجه النسخ . ومن هذا النص نحسن أن نفهم لماذا مثل الماتن بالعموم و الخصوص ، لا يوجد نصان في الشريعة فيهما تعارض إلا العام والخاص وعند إعمال كل نص في مكانه يزول التعارض ، والنسخ لا تناقض فيه وإنما فيه تعارض لاختلاف الزمان .
(6/5)
وقال الخطيب البغدادي في كتابه الكفاية أسند إلى إمام الأئمة ابن خزيمة رحمه الله قال : لا أعرف أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثين بإسنادين صحيحين متضادين قال: فمن كان عنده شيء من ذلك فليأتني به فأعمل على التأليف بينهما .
الإمام الطحاوي ابتدأ حياته العلمية في التوفيق بين المتعارضات والمشكلات وختم حياته في هذا الباب فابتدأ بشرح معاني الآثار واختتم بمشكل الآثار فمادة مشكل الآثار أزالت التعارض بين الأحاديث وأقوال الصحابة وبين الآيات و الأحاديث فهو يسند أقوال ظاهرها التعارض ثم يأتي بنص ثالث في الغالب يوفق بين نصين وأجمل نوع من أنواع التوفيق أن يقع التوفيق بنص فمثلا ربنا يقول " لا تدركه الأبصار " ويقول " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول " سترون ربكم كما ترون القمر " فالقمر يرى ولا يدرك ففي الحديث توفيق بين الآيتين .
ومن الذين ألفوا في هذا الباب ابن قتيبة ومن خاتمة من جمع بين الآيات التي ظاهرها التعارض الشيخ الشنقيطي رحمه الله في كتابه دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب .
(6/6)
قال الشاطبي رحمه الله في الموافقات : إن كل من تحقق بأصول الشريعة فأدلتها عنده لا تتعارض كما أن كل من حقق مناط المسائل فلا يكاد يقف في متشابهه أجمع المسلمون على تعارضهما بحيث وجب عليهم الوقوف أي التوقف والامتناع بادي الرأي على إظهار حكم الله في المسألة هذا لا يوجد إن المسلمون يجمعون ويقولون ويقفون ويقولون هذا تعارض لا نعرف حكم الله تعالى هذا أمر غير موجود أبدا في الشريعة قال بعد كلام: إذا تقرر هذا فعلى الناظر في الشريعة بحسب هذه المقدمة عليه أن ينتبه إلى أمران :أحدهما : أن ينظر إلى الشريعة بعين الكمال ولا ينظر إليها على أن فيها تعارض وأن يوقن أن لا تضاد بين آيات القرآن ولا بين الأخبار النبوية ولا بين أحدهما مع الآخر فإذا أدى بادي الرأي إلى ظاهر الاختلاف فواجب عليه أن يعتقد انتفاء الخلاف لأن الله قد شهد أن لا اختلاف فيه فليقف وقوف المضطر السائل عن وجه الجمع أو المسلم من غير اعتراض .[ ولما غفل عن هذا الأمر بعضهم كتبوا عجبا فقال بعض الزنادقة في هذا العصر أن قصص القرآن جاءت من باب التحدي وليس لها وجود في الواقع ، والعجيب والذي يحير أن العلم بتقدمه يبرهن على صحة ما تستشكله العقول على ظواهر النصوص فعلماء الفلك يقولون في قول الله تعالى" و إنا لموسوعون " يقولون موسوعون بحق وحقيقة فيقولون بعض علماء الغرب في هذا الزمان أن الحياة في آخر أمرها ستكون غير مضبوطة بأمور المادة وستكون فيها خلود دائم بقواعد علمية يعني يصلون لليوم الآخر لكن لا يستطيعون التفصيل وديننا يفصل ويجيب كل إنسان عالم وجاهل عن أسئلته من أين وإلى أين ولماذا وكيف ..الخ ومن الأمثلة العجيبة لما قال الله تعالى " إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت " وجدوا أن خيط العنكبوت أقوى من الفولاذ في ذاته فجمع باحث عشرة آلاف عنكبوت في مكان واحد حتى يأخذ خيطان كثيرة فما وجد إلا أن العنكبوتات كلها قد أكلها واحد فيحسن في الولاية ولاية المؤمنين
(6/7)
بعضهم لبعض أن تكون ولاية الكفار كالعنكبوت ، حدثني بعض المتخصصين في علم الفيزياء قال حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما أربعون عاما بين بناء الكعبة والأقصى قال هو على ظاهره لأن السنة قديما لم تكن كالسنة حديثا وهذا أمر ثابت ف ي علومهم ، أربعون عاما على الظاهر وهذا أمر يعمل مشكلة عند بعض الفقهاء لكن الذي أريد أن أصل إليه وأبرهن عليه ولست في شك من أمري حتى ألجأ للعلوم وأنا أرى أن إعجاز الشريعة في التحليل والتحريم كافي لمعرفة كل من عنده شك أن يعلم أن هذه الشريعة من عند الله أقول أنا أضرب هذا حتى أبرهن على أن الواجب على كل مسلم أن ينظر إلى الشريعة بعين الكمال ]
والأمر الثاني : إن قوما قد أغفلوا ولم يمعنوا النظر حتى اختلف عليهم الفهم في القرآن والسنة فأحالوا بالاختلاف عليهما وهو الذي عاب عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حال الخوارج حيث قال " يقرؤون القرآن ولا يجاوز تراقيهم ولا يجاوز حناجرهم " انتهى كلام الشاطبي
نعود إلى كلام الماتن: أكثر شيء فيه إشكال في الجمع عند العلماء النوع الثالث ( العام من وجه والخاص من وجه ) فالوجه الثالث يحتاج إلى قرائن خاصة وأما إن كانا عامين فعلى الغالب اللغة تسعف في الجمع أو الأحوال التي تقترن مع كل عام من العامين ؛ نأخذ حالة حالة من الحالات التي ذكرها الماتن وهي ثلاث حالات :
(6/8)
الحالة الأولى : إن كانا عامين : إن أمكن الجمع بينهما جمع وهذا الغالب فمثلا : ثبت عند مسلم من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " إذا دبغ الإهاب فقد طهر " وثبت في السنن من حديث عبد الله بن عكيم رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إليهم لا تنتفعوا من الميتة بإهاب " ظاهر الحديثين التعارض الحديث الأول يدلل على جواز الانتفاع و الثاني يدلل على عدم الانتفاع من الميتة بإهاب ، والإهاب في اللغة اسم لما لم يدبغ إذن : لا تنتفعوا من الميتة بإهاب أي قبل دبغه فإذا دبغ طهر فتنتفع به ولذا قال الصنعاني في سبل السلام قال : وهذا جمع حسن ما في خلاف.
ومثله ما أخرجه مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها " دل الحديث بمنطوقه على خير شهادة وهو خير الشهداء وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يكون بعدهم قوم يشهدون قبل أن يستشهدون " وفي رواية عند مسلم " ثم يخلف قوم يحبون السمانة يشهدون قبل أن يستشهدون " فدل هذا الحديث على أن هؤلاء الأقوام يخلفون أولئك وقد ذكروا في معرض فيه ذم وليس فيه مدح فظاهر الأمرين تعارض ولكن التوفيق بينهما أن الأول له حال والثاني له حال فخير الشهداء الذي يؤدي شهادته قبل أن يسألها وهذه الشهادة يكون الحق فيها مرهونا بقوله وأما تلك فهو يأتي ويستشهد ولا داعي لها ويأتي للحلف ويأتي ليحمل نفسه شيئا من شأن أهل الخير أن لا يحملوه وأن يتورعوا عنه .
(6/9)
قول الماتن " يتوقف فيهما " أي يتوقف عن العمل بما فيهما إن لم يعلم تاريخ كل نص بمعنى إن ظهر لنا مرجح عملنا به وإن لم يظهر لنا مرجح ولم نعرف التاريخ نتوقف عن العمل حتى نقدح الذهن في الترجيح وكما قلنا إن ظهر الجمع فحسن وإن لم يظهر لنا الجمع قبل ما نبذل ونجتهد في الترجيح ندرس إمكانية النسخ فإن لم يوجد إمكانية للنسخ نعمل على الترجيح .
من الأمثلة التي استشكلها بعض الصحابة وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه في الجمع بين الأختين بملك اليمين فالله عز وجل يقول " أو ما ملكت أيمانكم " هذا عموم بغض النظر عن الأخوات ويقول الله تعالى " وأن تجمعوا بين الأختين" فالآية الأولى تجوّز الجمع بين الأختين بملك اليمين والثانية تمنع فلما سئل عثمان عن ذلك قال : أحلتهما آية وحرمتهما آية . وذهب جماهير الفقهاء إلى أن التحريم أغلب قالوا إعمالا لأصل مقرر عند العلماء في أن الأصل في الفروج الحرمة فلما وقعنا في إشكال رجعنا إلى الأصل بناء على إعمال الاحتياط في الفروج وهم في حقيقة الأمر أوقفوا العمل بالآيتين ورجعوا إلى أصل القاعدة التي أيدت " وأن تجمعوا بين الأختين " وللشنقيطي مبحث عجيب في هذه الآية .
نرجع لكلام الماتن : فإن علم التاريخ ينسخ المتقدم بالمتأخر
الحالة الثانية :إن كانا خاصين نجمع بينهما إن أمكن فمثلا : ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ وغسل رجليه وعند النسائي والبيهقي أنه توضأ وغسل يديه وغسل رجليه وهي في نعليه ورش عليهما الماء ، هذان حديثان خاصان هذا في حادثة وهذا في حادثة وقع في تتمة الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحالة الثانية الذي رش الماء على رجليه وهما في نعليه قال هذا وضوء من لم يحدث " أي رجل توضأ وصلى ثم دخلت صلاة أخرى ولم يحدث فأحب أن يتوضأ فله أن لا يبالغ في غسل رجليه فإذن هذان خاصان فإن أمكن الجمع بينهما فهذا الواجب وإلا نتوقف حتى تظهر القرينة .
(6/10)
ومن الأشياء التي وقع فيها تعارض زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من ميمونة هل كان محلا أو محرما ؟ نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - المحرم أن ينكح أو يُنكِح "وقد ثبت في البخاري ومسلم من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم " هذا إشكال. ابن عباس رأى الحادثة وهو صغير وثبت في مسلم عن ميمونة نفسها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو حلال . ميمونة أدرى من ابن عباس هذان نصان خاصان في مسألة واحدة تعارضا لا يمكن الجمع بينهما فنعمل بالقرائن فنعمل بخبر ميمونة لأن ميمونة أدرى منه في هذه الحادثة من ابن عباس وهذه الحادثة خاصة بميمونة فهي أدرى بها من غيرها ويتأكد هذا بما ثبت عند الترمذي من حديث أبي رافع قال تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - من ميمونة وكنت الرسول بينهما وقال أبي رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حلالا . وهذه قرينة زائدة تؤيد أن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان حلالا .
ومن الأمثلة : أن النبي- صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرجل ما يحل له من امرأته فقال : ما فوق الإزار وهذا لفظ أبي داود وعند مسلم قال : " اصنعوا كل شيء إلا النكاح "والمراد " إلا النكاح " أي إلا الوطء ، الآن الاستمتاع بما تحت الإزار من غير وطء هل هو حلال أو حرام ؟ هنا تعارض النصان ففي الحديث الأول يمنع ذلك وفي الثاني يجوّز ذلك فبعضهم رجح التحريم احتياطا وهذا كلام الشافعية والمالكية في المشهور عندهم وبعضهم جوّز ذلك بناء على أن الحِل هو الأصل مع الزوجة وأن المنع من أجل أن لا يكون هنالك ذريعة للوطء فإن أمنت هذه الذريعة فالأمر يوجد فيه سعة وهذا مذهب أبي حنيفة .
(6/11)
الحالة الثالثة : إن كان أحدهما عاما والآخر خاصا فيخصص العام بالخاص : لما يقع عندنا لفظ عام ولفظ خاص نسلط الخاص على العام كقوله تعالى " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " هذا عام وقول النبي- صلى الله عليه وسلم - " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا " فالسرقة التي تقطع فيها اليد هذا نص خاص فالخاص يسلط على العام فلا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا.
ومثلا : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " فيما سقت السماء العشر " وهو في الصحيحين فَخُص بقوله " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقه " وهنا لا ينظر للتاريخ كما ذكرنا في مبحث التخصيص خلافا لمذهب الحنفية فالخاص لما نسلطه على العام لا ينظر في التاريخ ولا نحتاج إلى أن نعرف أن الخاص جاء بعد العام فمع جهلنا في التاريخ نخصص على القول الراجح عند العلماء .
الحالة الرابعة : أن يكون أحدهما عاما من وجه وخاصا من وجه فحينئذ نعمل بالجمع إن أمكن والجمع يحتاج إلى قرائن واجتهاد ودقة .
مثال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا بلغ الماء قلتين فإنه لا ينجس " وقوله " الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه " الحديث الأول خاص في القلتين إذا بلغ الماء القلتين لا ينجس عام في المتغير وغيره والحديث الثاني خاص بالتغير عام في القلتين وما دونهما .
فالآن أيهما يخصص الآخر ؟ فهل عموم الأول بخصوص الثاني فيحكم بأن ما دون القلتين ينجس وإن لم يتغير هذا مذهب الشافعية أن النجاسة إن جاءت فيما دون القلتين أصبح الماء نجسا سواء تغير أم لم يتغير بناء على أن منطوق الثاني على أن عموم الثاني خصص الأول . والمالكية عكسوا قالوا :هذا مفهوم مخالفة فلا بد من التغير فيما دون القلتين لأن المنطوق أقوى من المفهوم ؛ ما دون القلتين لا ينجس مفهوم مخالفة والماء لا ينجس إلا ما غلب على ريحه أو طعمه هذا منطوق فالماء يبقى على طهارته حتى يتغير .
(6/12)
فإذن أصبح تداخل بين النصوص التي هي عام من وجه خاص من وجه .
مثال آخر : صلاة تحية المسجد في وقت الكراهة من حيث النصوص الواردة في صلاة تحية المسجد خاصة ومن حيث الوقت عامة ، نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة بعد الفجر ، هذا نص عام فإذا أردنا أن نصلي تحية المسجد في هذا الوقت هذا النص العام يمنع ذلك فأيهما نسلط ؟ هذا موضع نظر عند أهل العلم والذي ذهب إليه المحققون أن الأحاديث الخاصة التي في الصلاة التي لها سبب تقضي على عموم النهي لكن هذا النص اعتراه خصوص وعموم ؛ خصوص من حيث تحية المسجد عموم من حيث النصوص العامة التي فيها كراهية الوقت.
ومن هذا الباب قول الله تعالى " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " فالذين لفظ عام فهو عام في الحامل وغيرها وهو خاص بالمتوفى عنها زوجها والآية الأخرى " وأولات أجلهن أن يضعن حملهن " فهذه خاصة بالحامل عامة في المتوفى عنها وغيرها فالآن عندنا امرأة مات زوجها وهي حامل فوضعت حملها أو أسقطت مضغة مخلقة ، والصورة التي يتعارض فيها الخصوص والعموم هي صورة المرأة التي توفى عنها زوجها وهي حامل فوضعت حملها فإن عملنا بعموم الآية الأولى قلنا أربعة أشهر وعشرا وإن عملنا بخصوص الآية الثانية قلنا أن تضع حملها لذا ورد عن ابن عباس وعلي لما سئلا في حكم المرأة التي تلد قال تعتد بأبعد الأجلين ولكن ثبت في البخاري ومسلم من حديث الأسلمية أنها وضعت بعد وفاة زوجها بثلاث ليال فأفتاها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تتزوج فصار عندنا قرينة لمذهب جماهير أهل العلم في أن المرأة التي تضع حملها قبل عموم الآية أربعة أشهر وعشرا فأفتاها النبي بالزواج .
(6/13)
هناك شيء آخر أن التخصيص لا يكون في مثل هذه المسألة أو في مثل هذه الحالة الرابعة ينبغي أن ينظر إلى القرائن بقوة فمثلا : قال النبي- صلى الله عليه وسلم - " من بدل دينه فاقتلوه " هذا عام في الذكر و الأنثى ولكن خاص في التبديل وكذلك نهى النبي- صلى الله عليه وسلم - أن تقتل النساء وهذا عام في الحربيات والمرتدات فوقع تعارض في المرأة المرتدة هل تقتل أم لا ؟ فإن عملنا بالأول نقتل المرتدة وإن عملنا في الثاني لا نقتلها فحينئذ ننظر في القرائن فوجدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل امرأة مرتدة كانت تطعن فيه فأصبح " لا تقتلوا النساء " خاص في الحربيات وهذا مذهب جماهير أهل العلم .
الإجماع :
*قال الماتن : وأما الإجماع : فهو اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة . ونعني بالعلماء : الفقهاء ونعني بالحادثة : الحادثة الشرعية .
وإجماع هذه الأمة حجة دون غيرها لقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا تجتمع أمتي على ضلالة "والشرع ورد بعصمة هذه الأمة .
والإجماع حجة على العصر الثاني وفي أي عصر كان .
ولا يشترط في حجيته انقراض العصر على الصحيح ، فإن قلنا انقراض العصر شرط فيعتبر قول من ولد في حياتهم وتفقه وصار من أهل الاجتهاد ولهم أن يرجعوا عن ذلك الحكم .
والإجماع يصح بقولهم وبفعلهم وبقول البعض وبفعل البعض وانتشار ذلك القول أو الفعل وسكوت الباقين عنه . *
قال الشيخ مشهور : الأدلة الإجمالية هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، والإجماع والقياس ليسا بدليلين مستقلين وإنما هما دليلان تابعان للكتاب والسنة فيستحيل أن يقع إجماع بين أهل العلم من غير دليل وإن كان لا يشترط في حجية الإجماع إبراز الدليل ولا سيما عند العوام .
(6/14)
لو قال الماتن في تعريف الإجماع : اتفاق علماء أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على حكم فقهي .لكان أفضل وفات الماتن قيد مهم في التعريف وهو أن يكون الإجماع بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا عبرة باتفاق الناس أو باتفاق علماء الأمة في عصره - صلى الله عليه وسلم - أو في حياته .
الإجماع في اللغة : يطلق على العزم والتصميم ومنه قول الله تعالى " أجمعوا أمركم ثم كيدون فلا تنظرون " أي اعزموا أمركم وصمموا ، ويطلق أيضا على الاتفاق ولذا يقولون أجمع القوم على كذا أي إن لم يقع بينهم خلاف .
ومما ينبغي ذكره أن العلماء يقولون : الإجماع ، أجمع العلماء ، اتفق العلماء ، عليه الإجماع ، عليه الاتفاق وكلها بمعنى واحد .وممن كتب في الإجماعات ابن المنذر له كتاب اسمه "الإجماع "وهو مطبوع وهو موجود بكامله في المجموع والمغني موزع على الأبواب وابن المنذر تجوّز في الإجماع فإن رأى قولا قال به الجماهير قال عليه الإجماع فأصبحوا الفقهاء يتجوّزون في الإجماع بل أصبح علماء الحديث كأحمد وغيره لما يذكرون مسألة أو حكما بدليل كان الناس يقولون الإجماع على خلاف هذا واشتهر عن الإمام أحمد أنه قال " من ادعى الإجماع فقد وهم ومن ادعى الإجماع فقد كذب " وليس مراده نفي الإجماع ولكن مراده أن كثيرا من الإجماعات مزعومة وعند التحقيق ليست بصحيحة وإنما هي دخيلة ولذا الفلاّني في الإيقاظ والمقري في قواعده حذروا من إجماعات ابن عبد البر واتفاقات ابن رشد ، ابن رشد في بداية المجتهد يذكر الاتفاقات وينوع تنويعا حسنا .
قيود الإجماع :
لا بد من تحقق الاتفاق : بأن يصدر هذا الاتفاق من العلماء المجتهدين فلا يصح الإجماع مع مخالفة بعضهم وكذلك لا يصح الإجماع باتفاق غير المجتهدين ، نرى في كلام الفقهاء يقولون : اتفق الناس على ذلك ، اتفق المسلمون وهذا فيه تجوّز فلا عبرة باتفاق العامة ولا المسلمين .
(6/15)
أن يكون اتفاقا من المجتهدين الموجودين في ذاك العصر : فلا عبرة بمن مات ولا عبرة بالفقيه الذي سيأتي وإنما العبرة بالإجماع باتفاق علماء عصر ما من العصور فالإجماع حجة بمجرد اجتماعهم ، ولا يكون الإجماع نافذا حتى يموتوا أو حتى يأتي مجتهد جديد فيوافقهم هذا أمر لا يتصور.
لا بد أن يكون المجمعون مسلمين ولا عبرة بإجماع الأمم الأخرى .
يكون الإجماع حجة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - : ففي حياته لا عبرة بكلام الناس إجماعهم أو خلافهم .
أن يقع هذا الإجماع على أمر شرعي : فلا عبرة بالإجماع على أمور عقلية أو لغوية أو غيرها .
الإجماع حجة إن تحقق فيه هذه الشروط ولكن لا يتصور تحققها ووقوعها إلا في العصر الأول عصر الصحابة ولذا قسموا العلماء الإجماع إلى أقسام من حيثيات مختلفة .
أقسام الإجماع عند العلماء :
الإجماع قولي : وهو الصريح على فرض إن استطعنا أن نحدد الفقهاء والعلماء فجمعناهم فكلٌ يقول أنا أرى هذا الحكم كلٌ يقول وينطق بلسانه قولا لا يحتمل وجها آخر فهذا إجماع قولي صريح وهذا أقوى أنواع الإجماع وهو حجة قاطعة بلا نزاع وهذا أمر لا يتصور إلا في عصر الصحابة لأنهم محدودون معروفون .
(6/16)
الإجماع السكوتي ( الإقراري) : كأن يشتهر قول من الأقوال بين فقهاء عصر من الأعصار بأنهم قالوا كذا وكذا فيطرق هذا قول سمع الآخرين فيسكتوا ولا يبدوا مخالفة فهذا يسمى إجماع سكوتي وبعضهم يسميه إجماع استقرائي بأن يستقرأ كلام العلماء في المسألة فلا يعلم بينهم خلاف هذا بعد مُضِيِّهم أما في حياتهم الأدق أن يسمى سكوتي .وهذا النوع من الإجماع فيه خلاف فهل سبب الخلاف الرضى وعدمه ؟وهل ينسب للساكت قول أم لا ؟ فمن رجح جانب الرضى وجزم به جعله حجة قاطعة ومن رجح جانب الرضى ولم يجزم به جعله حجة غير قاطعة ومن لم يجزم بجانب الرضى لم يجعله حجة أصالة فوقع الخلاف فيه على ثلاثة أقوال والراجح أن هذا النوع حجة ظنية وينظر إلى الأدلة الأخرى وكل نوع من هذا النوع ينظر فيه إلى القرائن التي تحتف به وينظر في كل مسألة بالأدلة التي تحتف به فقد نقبله وقد نرده على حسب القواعد التي قامت على هذا النوع .
هنالك من قسم الإجماع إلى حال المجمعين إلى قسمين :
إجماع عامة : هو إجماع من ليس للفقهاء وهو المعلوم من الدين بالضرورة وما تعارف عليه المسلمون مثل أن الصلوات خمس وأن محمدا رسول الله والزنى حرام ..الخ وهذا النوع لا يلزم منه فقه ولا علم .
(6/17)
إجماع خاصة : وهي المسائل التي تحتاج إلى فقه وإلى علم ؛ وهناك أنواع لإجماع الخاصة مثل إجماع أهل المدينة ،و إجماع أهل البيت عند الشيعة وإجماع أهل المدينة ليس حجة بإطلاق وإنما هو حجة في عصر الصحابة والتابعين فيما تعارفوا عليه وأصبح من ضروريات الدين كمقدار المكيال والصاع وما شابه هذا شيء كان موجودا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لما جاء أبو يوسف من العراق والتقى مع الإمام مالك إمام دار الهجرة وقع نزاع في مقدار الصاع ومالك لا يحب النقاش وكان له تلميذ اسمه أسد بن الفرات يسأل ثم يفرع عن المسألة فيسأله ثم يأت بمسألة فكان مالك يزجره ويقول له هذه سلسلة أخت سلسلة فإن أردت أن تبقى على هذا إلحق بالعراق إلحق بأبي حنيفة ليس هذا فقهي فلما اختلف مع أبي يوسف جاء يحمل في اليوم الثاني الصاع الذي كان يكيل به النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر قال هذا كيله - صلى الله عليه وسلم - انتهت القصة .يعني الأمر لا يحتاج لخلاف فما كان عليه الصحابة في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة من البيع والشراء والمعاملات هو الذي تركهم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الإجماع حجة لاستحالة أن تقع الأمة في الخطأ بالجملة فالأمة معصومة وقد وقع خلاف بين العلماء في ذكر الأدلة أدلة الإجماع .
(6/18)
ومن اللطائف ما أسنده الإمام البيهقي في كتابه أحكام القرآن إلى الربيع والمزني صاحبي الشافعي قالا : كنا يوما عند الشافعي إذ جاءه شيخ فقال له : أسأل ؟ قال له الشافعي سل فقال أيش الحجة في دين الله ؟ فقال الشافعي : كتاب الله فقال: وماذا ؟ قال : سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : وماذا ؟ قال اتفاق الأمة قال : ومن أين قلت اتفاق الأمة من كتاب الله ؟ فتدبر الشافعي رحمه الله تعالى ساعة ( فترة ) وسكت فقال له الشيخ أجلتك ثلاثة أيام تعطيني آية فيها حجية الإجماع فتغير لون الشافعي ثم إنه ذهب فلم يخرج لتلاميذه أيام قال : فخرج من البيت في اليوم الثالث فلم يكن بأسرع أن جاء الشيخ فسلم وجلس فقال : حاجتي فقال الإمام الشافعي : نعم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله عز وجل :" ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " فقال الشافعي : لا يصليه جهنم على خلاف سبيل المؤمنين إلا وهو فرض فقال الشيخ : صدقت وقام فذهب فقال الشافعي رحمه الله قرأت القرآن في كل يوم وليلة ثلاث مرات حتى وقعت على هذا الجواب .
أدلة الإجماع :
(6/19)
قال الله تعالى " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى …." الآية اتباع غير سبيل المؤمنين حرام وعليه يكون اتباع سبيل المؤمنين واجبا ، ومما ينبغي ذكره أنه لا يصح أن يكون الذم المذكور في الآية إنما هو جزاء مشاقة الرسول فقط أو جزاء اتباع غير سبيل المؤمنين فقط لأنه حينئذ لا يكون ذكر الشيء الآخر فيه فائدة .ولذا قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( ج19 / 178 –193 ) قال " ولحوق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر لا تدل عليه الآية فإنما الوعيد فيها إنما هو على المجموع ويقي القسم الآخر بأن كل من الوصفين يقتضي الوعيد لأنه مستلزم للآخر " انتهى كلامه . بمعنى أن من اتبع غير سبيل المؤمنين شاق الرسول ومن شاق الرسول اتبع غير سبيل المؤمنين فالعلاقة بين الأمرين علاقة لزوم ، ولعل في هذا إشارة إلى أن الإجماع لا يمكن أن يتصور إلا مع وجود دليل نقلي إذ يستحيل أن تجتمع العقول على غير دليل ولكن قد يكون الدليل ظاهرا وقد يكون خفيا وقد يعرف من خلال مقاصد الشريعة العامة. ولذا وقع خلاف بين العلماء هل يجوز إحداث قول ثالث إن وقع خلاف بين الصحابة على قولين ؟ الراجح أنه لا يجوز إلا إحداث قول فيه تفصيل ولا يلغي هذا التفصيل القولين وإنما يجمع بينهما ، مثال :اختلف الصحابة في توريث الجد مع الأخوة في الصورة التالية :مات رجل وترك زوجة وبنات وجد وأخوة فهل يرث الأخوة مع الجد ؟ فمنهم من قال : الجد أب ويحرم الأخوة لقول ابن عباس في البخاري " الجد أب " وذكر الإمام البخاري قول الله تعالى على لسان يوسف " واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب " فجعل الجد أبا .
ومنهم من قال : لا يحرم الأخوة ويرثون مع الجد . فلا يجوز أن نحدث قولا ثالثا فنقول إن الأخوة يجبون الجد .
(6/20)
مثال آخر : اختلف الصحابة في متروك التسمية ( الذبيحة التي لم يسم عليها عند الذبح ) منهم من قال تؤكل ومنهم من قال لا تؤكل يمكن هنا أن نحدث قولا ثالثا فنقول إن تعمد ترك التسمية لا تؤكل وإن نسي التسمية تؤكل وهذا القول لا يلغي قولي الصحابة إنما يجمع بينهما فهذا جائز .
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا تجتمع أمتي على ضلالة " ورد هذا الحديث عند الترمذي وابن أبي عاصم والحاكم وغيرهم عن ابن عمر وفيه سليمان بن سفيان المدني وهو ضعيف أعله به الدار قطني وقال تفرد به ولكن الحديث بالجملة صحيح له طرق عديدة جدا منها بلفظ " إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة " أخرجه ابن ماجة وابن أبي عاصم وعبد بن حميد وفيه راو ضعيف وورد أيضا من حديث أبي مالك الأشعري ومن حديث ابن عباس وعن الحسن البصري مرسلا ومن حديث أبي مسعود البدري وهذه الطرق لا تسلم من مقال ولكن الحديث بالمجموع صحيح ولذا قال الزركشي في كتابه المعتبر " واعلم أن طرق هذا الحديث كثيرة لا تخلو من علة وإنما أوردت منها ذلك ليتقوى بعضها ببعض " ثم قال "ومن شواهده ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس قال مُرَّ على النبي- صلى الله عليه وسلم - بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال وجبت ثم مُرَّ بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال وجبت فقيل يا رسول الله لم قلت لهذا وجبت ولهذا وجبت فقال شهادة القوم المؤمنين شهداء الله في الأرض " .انتهى كلامه .
(6/21)
لا يشترط في المجمعين بلوغ حد التواتر والإجماع إن وقع في عصر فهو حجة على المسلمين ماضية في سائر العصور فالإجماع الذي وقع في عصر الصحابة هو ملزم لسائر أفراد الأمة ما بقيت الحياة حتى لو كان إجماعا سكوتيا من مثل إجماع على الدية ؛ ففي الشرع تختلف الدية باختلاف حال القتل فدية العمد في مال القاتل ودية الخطأ في مال العاقلة ( الحمولة أو العشيرة ) وقد صح عن عمر وعن علي رضي الله عنهما أنهما جعلا دية القتل الخطأ في العصبة في ثلاث سنين كل سنة تؤدى ثلثها فأصبح هذا الأمر شاع وذاع بين الصحابة قال ابن قدامة في المغني قال : ولا يعرف لهما في الصحابة مخالفا فاتبعهم على ذلك أهل العلم فالآن مال دية الخطأ تؤدى أثلاثا في ثلاث سنوات بخلاف دية القتل العمد تؤدى مرة واحدة من مال القاتل حتى أنه يسأل الناس حتى يقع الذل في حقه إن عفا عنه أولياء المقتول ، الشاهد أن الإجماع يبقى حجة فإن وقع في عصر فهو حجة على العصر الذي بعده .
مسألة : الإجماع يجب أن يقع بين مجتهدي أمة محمد هل هذا الاجتهاد هو الاجتهاد المطلق أم العبرة بالاجتهاد ؟
(6/22)
هذه المسألة قائمة على أصل هل يقبل الاجتهاد التجزؤ أم لا ؟ الراجح أن الاجتهاد يقبل التجزؤ فالعبرة في الإجماع باتفاق المجتهدين في هذه المسألة ولا عبرة بخلاف إمام من أئمة اللغة مثلا إن كانت المسألة فقهية ، ولذا الإمام ابن القيم رحمه الله يقول في مختصر الصواعق المرسلة فإن الاعتبار في الإجماع على كل أمر من الأمور الدينية بأهل العلم به دون غيرهم بالمتقنين لهذا العلم انتهى كلامه. لو أن أبله جاء فخالف فاستنبط من آية حكما ولكن على غير الجادة وقال أنا معي دليل هل نقول هذا شذ ؟ هل الإجماع ينخرق وليس بحجة ؟ لا ، مثل ما ذكر السيوطي في كتابه الإكليل [ في هذا الكتاب اشترط السيوطي أن يمر على جميع آيات القرآن ويذكر ما استنبط منه جميع الناس لذلك تجد فيه الأعاجيب ] فقال مثلا: وقد استنبط بعضهم من قوله تعالى " وجعلنا الليل لباسا " على جواز صلاة العاري في الليل لأن الليل لباس فهذا ليس بصحيح وهذا شذ ولا عبرة بشذوذه [ السيوطي منهجه في كتبه قمّش ولا تفتش ].
يشترط في المجمعين الإسلام ولا عبرة بمجتهد كافر ، واختلف العلماء في هل يشترط عدالة المجمعين ؟ المسألة محل اجتهاد ونظر وهو ما لم يظهر فسقه يدخل مع المجمعين لأننا لا نستطيع أن نخرجه من أمته ولا أن نكفره والله أعلم .
مسألة: لا عبرة بقول الأكثر وليس قول الأكثر هو القول الصواب دائما وإن كان من مظنة مخالفة الجماهير الخطأ لكن لا يلزم منه الخطأ فشيخ الإسلام ابن تيمية خالف الأئمة الأربعة في مسألة الطلاق الثلاث أطلق طلقة طلقة وأوذي وسجن على هذه المسألة وكتب فيها كما قال تلميذه ابن القيم أربعة آلاف ورقة ولم يقل بها أحد إلا عدد قليل من أشياعه منهم ابن رجب ثم تحت ضغط المكثرين ألف ابن رجب رسالة نقض اختياره الأول ودارت عجلة الزمان وثبت الآن عند القاصي والداني وفي جميع المحاكم الشرعية في جميع البلاد الإسلامية يعمل بقول ابن تيمية لكثرة " التيس المستعار " .
(6/23)
مسألة: من الإجماع الخاص إجماع أهل المدينة وهو ليس على درجة واحدة فما يجري مجرى النقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا حجة باتفاق مثل نقلهم مقدار المد والصاع ومثل المعاملات التي عرفت واشتهرت وانتشرت أيام الصحابة وفعلها التابعيون ولذا ذكر ابن تيمية في القواعد النورانية أن أدق وأصح المذاهب بالجملة في المعاملات المالية أهل المدينة لأنها شيء موروث. العمل القديم من عمل أهل المدينة حجة لأنه يلتقي مع القول بحجية أفعال وأقوال الصحابة أما إذا تعارضت الأدلة في المسألة الواحدة وكان مع أهل المدينة بعض الأدلة ومع غيرهم بعض الأدلة فلا عبرة بقول أهل المدينة .
مسألة : يشترط في المجمعين أن يكونوا أحياء موجودين وأما الأموات فلا عبرة بقولهم وكذلك الذين لم يوجدوا بعد ولذا يقولون: إن الماضي لا يعتبر والمستقبل لا ينتظر في الإجماع . والمعتبر في كل إجماع أهل عصره من المجتهدين على فرض التحقق من اجتماعهم وقلنا يستحيل أن نحصر جميع المجتهدين لاحتمال طروء حصول ملكة اجتهاد عند شخص لا يعلمه أحد فلا يتصور الإجماع إلا في عصر الصحابة لمعرفة أعيانهم .
مسألة : الذي اختاره الماتن من عدم اشتراط انقراض العصر هو قول الجماهير من الأصوليين فالمعتبر اجتماع المجتهدين في عصر واحد واتفاقهم ولو لحظة واحدة فمتى اتفقت كلمتهم واستقر رأيهم على حكم من الأحكام يصبح حجة واشتراط انقراض العصر متعذر لتلاحق المجتهدين فيدخل مجتهد جديد في مجتهد قديم وهكذا .
(6/24)
مسألة : لا بد من التثبت والتأكد من حصول الاتفاق وعدم الافتراق وهذا الأمر تجوّز فيه من ألف في الإجماع ، وألف ابن حزم كتابا جيدا سماه " مراتب الإجماع " ودافع بقوة أنه يعسر ويستحيل أن يقع إجماع إلا بين الصحابة إلا أن يكون هذا الإجماع على أمر معلوم من الدين بالضرورة ولابن حزم في هذا الكتاب بعض الهنات وألف ابن تيمية كتابا بذيل كتاب ابن حزم في نقده ، للإمام الشافعي كلمة جيدة قوية في كتابه الرسالة قال : والأمر المجتمع عليه بالمدينة أقوى من الأخبار المنفردة فكيف تكلف أن حكى لنا الأضعف من الأخبار المنفردة وامتنع أن يحكي لنا الأقوى اللازم من الأمر المجتمع عليه ( يعني كيف الشرع أتانا بأشياء ضعيفة وترك الأشياء القوية ) قلنا إن قال لك قائل لقلة الخبر وكثرة الإجماع عن أن يحكى وأنت قد تصنع مثل هذا فتقول هذا أمر مجمع عليه قال :لست أقول ولا أحد من أهل العلم هذا مجتمع عليه إلا لما لا تلقى عالما أبدا إلا قاله لك وحكاه من قبلك .."انتهى كلام الشافعي .
مسألة : ويصح الإجماع بقولهم وبفعلهم ولا يتصور الفعل لخفائه فالفعل مع الاتفاق لا يتصور إلا من المعلوم من الدين بالضرورة مثل مشروعية الختان فالختان فعل مجمع عليه لكن لو دققنا لنظرنا أن المشروعية راجعة إلى القول .
مسألة : الإجماع له أحكام متربة عليه منها :
يجب اتباع الأمر المجمع عليه ولا يجوز مخالفته :فالإجماع حق وصواب لا يحتمل الخطأ ولذا يستحيل أن يقع إجماع على خلاف النقل أو تقع إجماعات متناقضات .
من أنكر إجماعا من المعلوم من الدين بالضرورة كفر .
لا يجوز الاجتهاد في الأمر المجمع عليه ولا يجوز إحداث قول ثالث إذا أجمع المسلمون على قولين كما بينا .
في الإجماع تكثير للأدلة .
(6/25)
المسألة التي وقع فيها إجماع قد يكون دليلها ظني ولن لوقوع الإجماع تنقلب إلى قطعية فمثلا أخبار الآحاد تفيد الظن ولكن أخبار الآحاد الموجودة في الصحيحين تفيد اليقين لإجماع العلماء على صحة ما في كتابي مسلم والبخاري باستثناء أحرف يسيرة كما قال ابن الصلاح .
قول الصحابي
*قال الماتن رحمه الله :" وقول الواحد من الصحابة ليس بحجة على غيره على القول الجديد وفي القديم حجة . *
قال الشيخ مشهور حفظه الله :قول الماتن " على غيره " أي على غيره من الصحابة وعلى غيره ممن بعده هذا الذي قرره الماتن في البرهان ، والقول بأن قول الواحد من الصحابة ليس بحجة على غيره ليس بصحيح والصواب أن مذهب الشافعي الجديد والقديم سواء ولا يستلزم من العدول عن مسألة ما فيها احتجاج بقول صحابي إلى قول آخر أن الشافعي لا يرى حجية قول الصحابي ، واعتمد من زعم أن مذهب الشافعي في الجديد أنه لا يرى حجية قول الصحابي الواحد على غيره على أمرين :
الأمر الأول : وجدوا بعض المسائل وهي معدودة ذكر فيها أقوالا للصحابة وناقشها ومال لقول آخر وهذا الصنيع بمجردة لا يلزم منه أنه لا يرى حجية قول الصحابي ، الشافعي في كثير من المسائل أورد أحاديث وناقشها واختار قولا آخر فلا يجوز أن يقال أنه لا يرى حجية الحديث وإنما مال للقول الآخر لقرائن رجحت عنده فلا يقال لوجود أمثلة قليلة معدودة ناقش فيها في هذه المسائل بعينها قول الصحابي فمال لحديث مرفوع لا يقال أن عنده أصلا عاما فيه الرجوع عما قعده في مذهبه القديم .
(6/26)
الأمر الثاني : وهو أضعف من الأول قالوا : الشافعي في أواخر حياته لما كان يحتج بأقوال الصحابة كان لا يذكرها منفردة وإنما كان دائما يذكر معها إما حديثا وإما دليلا من القياس من الأشباه والنظائر أو ما شابه وهذا أيضا لا يستفاد منه مذهب له من أنه رجع عن مذهبه السابق لماذا؟ لأن الفقهاء في جل صنيعهم يذكرون جميع ما ورد أو ما وصل إليهم من الأدلة النقلية والعقلية فيقولون الصلاة واجبة بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والمعقول فلما يوردون حديثا بعد آية لا يجوز لعاقل أن يقول أنهم لا يرون حجية الحديث أو لا يرون حجية الآية .
(6/27)
أفضل كتاب تكلم عن حجية قول الصحابي كتاب إعلام الموقعين لابن القيم فذكر في جل مجلدات الكتاب هذا المبحث ففي مبحث التقليد أفتى بحرمة التقليد إلا تقليد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولما ذكر الرأي أفتى بحرمة القول بالرأي إلا رأي أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لما تعرض للأدلة جعل من الأدلة الأصلية الشرعية قول الصحابي وبين أن قول الصحابي لا يجوز أن يعدل عنه بل هو ضابط لعمومات الوحيين الشريفين التي تحتمل أكثر من معنى وفهمهم لا يجوز أن يتعدى عليه وهو الفيصل في فهم الكتاب والسنة ولذا نعى على المقلدين في الموطن الأول فقال رحمه الله : هذا منطق عجيب أنتم تحرمون تقليد من يجوز تقليده وتوجبون تقليد من يحرم تقليده " وفصل في هذا وتعرض على وجه الإيجاز إلى فضل الصحابة ثم في الموطن الثاني رتب أقوال الصحابة فصّل فيها وردّ على مثل كلام الماتن الذي زعم أن الشافعي في مذهبه الجديد لا يرى حجية قول الصحابي فزيّف هذه الدعوى وأبطلها وذكر أنها ليست مذهبه المنصوص وأن مذهبه المنصوص في الجديد والقديم وأورد نقولات عن الشافعي من خلال تلاميذه المصريين كالربيع مثلا وهذا مذهبه الجديد أن مذهبه الجديد والقديم الأخذ بقول الصحابي وأن من اتكأ على هذا القول اعتمد على لزومات لا تلزم قال : بقول الشافعي : رأي الصحابة لنا خير من رأينا لأنفسنا قال : ونحن نقول ونصدق رأي الشافعي والأئمة لنا خير من رأينا لأنفسنا فماذا يجيب على هذا بقوله أنكم أول مخالف لرأيه هذا ولا ترون رأيهم لكم خيرا من رأي الأئمة لأنفسهم بل تقولون رأي الأئمة لأنفسهم خير لنا من رأي الصحابة لنا فإذا جاءت الفتيا من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسادات الصحابة وجاءت الفتيا عن الشافعي وأبي حنيفة ومالك تركتم ما جاء عن الصحابة وأخذتم ما أفتى به الأئمة فهلا كان رأي الصحابة لكم خيرا من رأي الأئمة لكم لو نصحتم لأنفسكم ثم قال : إن هذا لا يوجب صحة تقليد من سوى
(6/28)
الصحابة لما خصهم الله تعالى من العلم والفهم والفضل والفقه عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وشاهدوه الوحي والتلقي عن رسول الله بلا واسطة ونزول الوحي بلغتهم وهي غضه طرية لم تشب ومراجعتهم إلى رسول الله فيما أشكل عليهم في القرآن والسنة حتى يجليها لهم فمن له هذه الميزة بعدهم ومن شاركهم في هذه المنزلة حتى يقلد كما يقلدون فضلا عن وجوب تقليدهم وسقوط تقليدهم أو تحريمه كما صرح به الغلاة منهم وتالله إن بين علم الصحابة وبين من قلدتموه من الفضل كما بينكم ( أي المقلدين ) وبين أئمتكم .
(6/29)
قال الشافعي في الرسالة القديمة : وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به عليهم وآرائهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا . ثم قال : لقد أثنى الله تعالى على الصحابة في القرآن والتوراة والإنجيل وسبق لهم من الفضل على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما لم يسبق لأحد بعدهم ففي الصحيحين عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " قال خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه " وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما تقبل منه ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " وعن ابن مسعود قال " إن الله نظر في قلوب عباده فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد ثم نظر في قلوب الناس بعده فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم الله تعالى لصحبته وجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسنا وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح " .وقد أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنة الخلفاء الراشدين واتباع سنة الخليفين الراشدين أبي بكر وعمر بقوله " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " وكان أبو سعيد يقول : كان أبو بكر أعلمنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود بالعلم ودعا لابن عباس بأن يفقهه الله بالدين وأن يعلمه التأويل وضمه إليه مرة وقال اللهم علمه الحكمة وناول عمر في المنام القدح الذي شرب منه حتى رأى الري يخرج من بين أظفاره وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن القوم إذا أطاعوا أبا بكر وعمر يرشدوا وأخبر أنه لو كان نبي بعده لكان عمر وأخبر أن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه وقال رضيت لكم ما رضي لكم ابن أم عبد ( يعني ابن مسعود ) ثم قال : وفضائلهم ومناقبهم وما خصهم الله تعالى به
(6/30)
من العلم والفضل أكثر من أن يذكر فهل يستوي تقليد هؤلاء وتقليد من بعدهم ممن لا يدانيهم ولا يقاربهم ثم ذكر أن المسلمين اختلفوا في حجية قول الصحابي وقال أكثر العلماء بل المنصوص عن الأئمة أنهم يرون أقوال الصحابة حجة يجب اتباعها ويحرم الخروج عنها كما سيأتي حكاية ألفاظ الأئمة في ذلك ثم قال : وأن من حكى عنه قولين ( أي عن الشافعي ) في ذلك فإنما حكى لازم قوله لا صريحه وإذا كان قول الصحابي حجة مقبول قوله واجب متعين وقبول قول من سواه أحسن أحواله أن يكون سائغا إذا الصحابة أقوالهم حجة وقول الماتن هنا : "وقول الواحد من الصحابة ليس بحجة على غيره " أي ممن هو مثله أو ممن جاء بعده , قال : ليس بحجة على غيره على القول الجديد هذا الكلام ليس بصحيح ؛ وهذا الذي فصله إبن القيم في كتابه الإعلام فقال :" أن قول الصحابي الذي لم يعرف عنه الأخذ من أهل الكتاب فيما ليس من الرأي وإنما هو من الغيب حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يصرح هذا الصحابي بنسبة هذا القول للنبي صلى الله علية وسلم فقول صحابي في أشرط الساعة وعذاب القبر والجنة والنار وأسباب النزول ممن لم يعرف عنه الأخذ من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام ومن مثل سلمان الفارسي ومن مثل عبد الله بن عمر بن العاص الذي وقعت له صحف في أجنادين وكان يحفظها ومن مثل أبي هريرة الذي كان يكثر من السماع ومدارسة كعب الأحبار ومنهم من ألحق بهم عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم وهؤلاء وأمثالهم فغير هؤلاء كإبن مسعود وعمر وغيرهم ممن لم يعرف عنهم أخذ عن أهل الكتاب إن قالوا قولا مما لا يدرك بالاجتهاد ولا بالعقل كما قلنا كأقوالهم في القبر و أشراط الساعة والجنة والنار فهذه الأقوال حجة لها حكم الرفع وإن لم يصرحوا بنسبتها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بل ألحق الحاكم في كتابه معرفة علوم الحديث أن قول الصحابي في التفسير له حكم الرفع وهذا الكلام ليس بصحيح استدرك
(6/31)
عليه ابن حجر في النكت على ابن الصلاح وقال الصحابي قد يجتهد في تفسير اللغة أما في الأمور الغيبية التي لا تحتمل الاجتهاد فقوله فيها حكمه حكم المرفوع أما قول الصحابي في الغريب ( غريب اللغة ) وفي الألفاظ الواردة في القرآن الغريبة فهذه ليست لها حكم الرفع على مذهب جماهير المحدثين والأصوليين ، ثم إن الصحابة إن أجمعوا فأطبقوا على قول ولم يعرف عنهم خلاف فيه فقولهم حجة إما بالإجماع أو من باب سبيل المؤمنين كما أومأنا إليه في الدرس الماضي ثم إن فعل صحابي فعلا أو قال قولا واشتهر عنه أو قاله أو فعله على مرأى من سائر الصحابة فأقروه فحينئذ قوله حجة مثل لما رأى عمارة بن رؤيبة بشر بن مروان وكان والي الكوفة يدعو على المنبر ويرفع يديه ويدعو فقام إليه عمارة وهو صحابي بدري فقال قبح الله هاتين اليدين ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا يشير بالسبابة يدعوا بها فمن السنة خطيب الجمعة لما يدعو يشير بالسبابة إلى السماء هذا فعل صحابي على مسمع جميع الصحابة قال العجلي في الثقات قال : ونزل الكوفة ألف وخمسمائة من أصحاب رسول الله يعني لما قال هذه الكلمة كان في الكوفة ألف وخمسمائة صحابي وما عرف عن واحد أنه جادله أو ناقشه أو اعترض عليه أو قال قولا غير قوله فهذا قوله حجة .
مسألة : عند مخالفة صحابي صحابيا آخر :
(6/32)
قال ابن القيم : إذا قال الصحابي قولا فإما أن يخالفه صحابي آخر أو لا يخالفه فإن خالفه مثله لم يكن قول أحدهما حجة على قول الآخر وإن خالفه أعلم منه كما إذا خالف الخلفاء الراشدين أو بعضهم غيرهم من الصحابة ممن هو دونهم فالشق الذي فيه الخلفاء الراشدون أو بعضهم حجة على الآخرين هذا هو أرجح الأقوال وهو أولى من أن نأخذ بقول الآخرين فكيف إذا كان الأربعة في شق والآخرون في شق وهذا أمر لا يتصور إلا إن كان قد انفرد الصحابي بقول ثم تراجع عنه فكان عبد الله بن عباس يفتي بأنه لا ربا إلا في النسيئة ولا ربا في الفضل حتى أوقفه غير واحد من الصحابة على الربا في النوع الآخر فتراجع عنه وهكذا في المسح على القدمين فيما يذكر عنه إن صح وفي المتعة ثم تراجع عنه ثم قال : إن لم يخالف الصحابي صحابي آخر فإما أن يشتهر قوله في الصحابة أو لا يشتهر فإن اشتهر فالذي عليه جماهير الطوائف من الفقهاء أنه إجماع وحجة وقالت طائفة هو حجة وليس بإجماع وقالت شرذمة من المتكلمين وبعض الفقهاء المتأخرين لا يكون إجماعا ولا حجة وهذا ضعيف جدا ثم قال : وإن لم يشتهر قوله أو لم يعلم هل اشتهر أم لا فاختلف الناس فيه والذي عليه جمهور الأمة أنه حجة وهذا قول الحنفية وصرح به محمد بن الحسن وذكره عن أبي حنيفة نصا وهو مذهب مالك وأصحابه وهو تصرفه في موطأه وهو ابن راهويه وأبي عبيد القاسم بن سلام وهو منصوص الإمام أحمد وهو اختيار جمهور أصحابه وهو منصوص الشافعي في القديم والجديد أما القديم فأصحابه يقرّون به وأما الجديد فكثير منهم يحكي عنه أنه ليس بحجة وفي هذه الحكاية عنه نظر فإنه لا يحفظ عنه في الجديد حرف واحد أن قول الصحابي ليس بحجة وغاية ما يتعلق به من نقل ذلك أنه يحكي أقوالا للصحابة في الجديد ثم يخالفه وهذا تعلق ضعيف جدا فإن مخالفة المجتهد الدليل المعين لما هو أقوى منه في نظره لا يدل على أنه لا يراه دليلا من حيث الجملة بل هو خالف دليلا لدليل هو
(6/33)
أرجح عنده منه وقد تعلق بعضهم بأنه يرى في الجديد أن مذهب الشافعي في قول الصحابي ليس بحجة بأنه يحكيها ولا يعتمد عليها وحدها وهذا أيضا تعلق أضعف من الذي قبله فإن تظافر الأدلة وتعاضدها وتناصرها من عادة أهل العلم قديما وحديثا ولا يدل ذكرهم دليلا ثانيا وثالثا على أن ما ذكروه قبل ليس بدليل عندهم وقد صرح الإمام الشافعي في الجديد من رواية الربيع بأن قول الصحابي حجة يجب المصير إليها ثم نقل من كلام الربيع فقال ( الربيع من أصحابه في مصر ينقل عنه الجديد ) :قال الإمام الشافعي : المحدثات من الأمور ضربان أحدهما ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو إجماعا أو أثرا فهذه البدعة الضلالة فجعل الأثر مع الكتاب والسنة والقياس وقال الشافعي أقاويل الصحابة إذا تفرقوا فيها نصير إلى ما وافق الكتاب والسنة أو الإجماع وإذا قال الواحد منهم القول لا يحفظ عن غيره فهم فيه له موافقة ولا خلاف صرت إلى اتباع قوله إذا لم أجد كتابا ولا سنة ولا إجماع ( هذا القول يفيد أن الشافعي يحتج بقول الصحابي ) ثم قال في كتابه اختلافه مع مالك : ما كان من الكتاب والسنة موجودين فالعذر على من سمعه مقطوع فإن لم يكن ذلك صرنا إلى أقاويل الصحابة أو واحد منهم ثم كان قول الأئمة أبي بكر وعمر وعثمان إذا سرنا إلى التقليد أحب إلينا ." انتهى ما في الإعلام لابن القيم
إن اختلفت أقوال الصحابة نرجح بمؤيدات وقرائن أحد القولين ولا يجوز لنا أن نحدث قولا ثالثا .
(6/34)
الحظر و الإباحة
* قال الماتن : وأما الحظر فمن الناس من يقول : إن الأشياء على الحظر إلا ما أباحته الشريعة فإن لم يوجد في الشريعة ما يدل على الإباحة يتمسك بالأصل وهو الحظر.
ومن الناس من يقول بضده وهو أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما حظره الشرع .
ومنهم من قال بالتوقف .*
قال الشيخ مشهور حفظه الله : مما ينبغي أن يتنبه أن قول الماتن هنا ( وأما الحظر ….) هذا يعود على ما ذكره في أول الكتاب فقد قال ( أبواب أصول الفقه : أقسام الكلام والأمر والنهي ….حتى قال وأما الحظر ….).
الحظر : المراد به المنع والمسألة ظاهرة والكلام عليها واضح والمراد بالأصل بالأشياء بعد البعثة ( بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ولذا قال الآمدي في الإحكام قال: مذهب أهل الحق أنه لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود الشرع وهذا اختيار غير واحد بل نقول اختيار جماهير الأصوليين .
هنا الكلام عن الأشياء التي لا نص فيها فإن ورد نص فالنص هو الفيصل .
قال الماتن " فمن الناس من يقول أن الأشياء على الحظر …" هذا قول ابن أبي هريرة من الشافعية وأبو بكر الأبهري من المالكية والحلواني وأبي يعلى القاضي الفراء وابن حامد من الحنابلة وقال به بعض الحنفية وهذا مذهب معتزلة بغداد ومذهب الرافضة الجعفرية أو الإمامية وهؤلاء يحتجون بأن الأصل في ملك الأشياء لله ويقولون والأصل في ملك الغير أنه ممنوع حتى يأذن المالك وهذا أقوى دليل لهم .
قال الماتن " ومن الناس من يقول بضده …" وهذا مذهب جماهير الأصوليين والمحققين وهو اختيار غير واحد من أئمة الهدى .
(7/1)
وهناك مذهب ثالث وهو التوقف حتى يأتي دليل وقال به ابن عقيل من الحنابلة واختاره صاحب روضة الناظر ابن قدامة وهذا كلام ابن حزم في الإحكام قال " وقال آخرون وهم جميع أهل الظاهر وطوائف من أصحاب القياس ليس لها حكم في العقل أصلا لا بحظر ولا بإباحة وإن كل ذلك موقوف على ما ترد به الشريعة قال ابن حزم عن هذا القول : وهذا الحق الذي لا يجوز تمييزه .
ويعجبني كلام الشنقيطي في المذكرة أن هذه الأشياء على أقسام وهو القول الرابع وهو قول التفصيل قال: واعلم أن لعلماء الأصول في هذا المبحث تفصيلا وهو أن الأعيان لها ثلاث حالات :
يكون فيها ضرر محض ولا نفع فيها البتة كأكل الأعشاب السامة القاتلة .
يكون فيها نفع محض ولا ضرر فيها أصلا .
يكون فيها نفع من جهة وضرر من جهة .
فإن كان فيها الضرر وحده ولا نفع فيها أو كان ضررها أرجح من نفعها أو مساويا له فهي حرام لقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا ضرر ولا ضرار "
وإن كان نفعها خالصا لا ضرر معه أو معه ضرر خفيف والنفع أرجح فأظهر الأقوال الجواز .انتهى كلام الشنقيطي .وهذا الذي ذكره الشنقيطي هو ما ذكره ابن تيمية في مواطن كثيرة من مجموع الفتاوى فقال بالحل ما لم يكن فيه ضرر ، فالأصل الحل لأن الله عز وجل قال " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا"وهذا من باب الامتنان والامتنان لا يكون إلا بالحلال وقال تعالى " والأرض وضعها للأنام"
وكذلك هذا امتنان وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " أعظم الناس جرما من سأل عن مسألة لم تحرم فحرمت من أجل مسألته " فدل هذا الحديث أن هذه المسألة قبل السؤال كانت حلالا والذي جعلها حراما المسألة .
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى ج: 21 ص: 535
(7/2)
فاعلم أن الأصل في جميع الأعيان الموجودة على اختلاف أصنافها وتباين أوصافها أن تكون حلالا مطلقا للآدميين وأن تكون طاهرة لا يحرم عليهم ملابستها ومباشرتها ومماستها وهذه كلمة جامعة ومقالة عامة وقضية فاضلة عظيمة المنفعة واسعة البركة يفزع إليها حملة الشريعة فيما لا يحصى من الأعمال وحوادث الناس وقد دل عليها أدلة عشرة مما حضرني ذكره من الشريعة وهي كتاب الله وسنة رسوله واتباع سبيل المؤمنين المنظومة في قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم وقوله إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ثم مسالك القياس والاعتبار ومناهج الرأي والاستبصار.وله كلام في مجموع الفتاوى(21/ 539) و ( 29 / 151) و( 7 /45 ،46).
يذكر في هذا الباب أمور :
الأمر الأول : أن ابن السبكي لما وجد بعض الشافعية قد قالوا بأن الأصل في الأشياء المنع قال انطلى عليهم قول المعتزلة فاعتذر لهم قائلا في الإبهاج:لم تكن لهؤلاء قدم راسخة في هذا الكلام وربما طالعوا كتب المعتزلة فاستحسنوا هذه العبارات منهم فذهبوا إليها غافلين عن تشعبها عن أصول القدرية قال القاضي مع علمنا ما اقتحموا مسالكهم وما اتبعوا مقاصدهم "انتهى
(7/3)
الأمر الثاني : أن الشوكاني في رسالته إرشاد السائل إلى دلالة المسائل وهي مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل السلفية سئل عن عدة مسائل وتعرض لهذه القاعدة أثناء إجابته عن المسألة الحادية عشرة وهي هل يجوز استعمال شجرة التنمباك ( الدخان ) ؟ فقال : الأصل الذي يشهد له القرآن والسنة المطهرة هو أن كل ما في الأرض حلال ولا يحرم شيء من ذلك إلا بدليل خاص كالمسكر والسم القاتل ما فيه ضرر عاجل أو آجل كالتراب ونحوه وما لم ترد فيه دليل خاص فهو حلال استصحابا بالبراءة الأصلية وتمسكا بالأدلة العامة كقوله تعالى " خلق لكم ما في الأرض جميعا " وقوله "قل لا أجد فيما أوحي إلي على طاعم يطعمه محرما إلا أن يكون ميتة …" [ وهذا الراجح عندي أن الأصل في الحيوانات الحل ولا يحرم شيء منها إلا بدليل يخصصه كالناب من السباع والمخلب من الطير والكلب والخنزير وسائر ما ورد فيه دليل يدل على تحريمه ] قال الشوكاني : إذا تقرر هذا علمت أن هذه الشجرة الذي سماها بعض الناس التنمباك وبعضهم التتن لم يأت فيها دليل يدل على تحريمها وليست من جنس المسكرات ولا السموم ولا من جنس ما يضر عاجلا أو آجلا فمن زعم أنها حرام فعليه الدليل . انتهى
الدخان في زمن الشوكاني كان يستخدم علاجا كان يعطى إبر شرجية لقتل الدود الذي في الأمعاء ، الآن الدخان بإجماع العقلاء أنه يضر في الآجل والعاجل فهو محرم لضرره ولخبثه ، المباركفوري في التحفة نقل كلام الشوكاني ورد عليه ( 5/ 397 ) .
مسألة : هل التحسين والتقبيح عقلي محض أو شرعي محض ؟ لو قلنا أنهما عقليان فقط لقوي عندنا ترجيح التفصيل ولو قلنا أنهما شرعيان محض ولا ينظر فيه للمعنى والشريعة ليست معللة لقلنا بالتوقف ولو جمعنا بين القولين لقلنا أيضا بالتفصيل .
(7/4)
وهذه مسألة مبسوطة لها محل اتفاق ولها محل اختلاف ، العلماء يقولون ومتفقون على أن العقل والذوق يحسّن ويقبح ولكن الخلاف هل هذا ينبني عليه أحكاما شرعية أو له صلة بالأحكام الشرعية أو له صلة بالتحليل والتحريم والثواب والعقاب أم لا ؟ كل عقلاء الدنيا يقولون الخبز غير الغائط بالذوق والعقل لكن هل هذا التفريق له أثر على الأحكام الشرعية أم لا ؟
فالأشاعرة وهو مذهب الجماهير المنتسبين إلى أهل السنة أن الأفعال لا تتصف بكونها حسنة ولا سيئة إلا ما ورد فيه الشرع فالشرع فقط هو الذي يحسن وهو الذي يقبح حتى أن بعضهم مثل الإيجي في كتابه المواقف صرح وقال الشرع هو المثبت للتحسين والتقبيح والمبين له فلو عكس الشرع القضية فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر انتهى فعلى كلام الأشاعرة يمكن أن يبعث الله معجزة مع نبي دعي ( أي كاذب ) وممكن أن يكون الخمر والزنا حلالا والماء حراما وهذا ليس بصحيح .
المعتزلة يقولون :إن التحسين والتقبيح أمران عقليان محض فلا يتوقف معرفتهما ولا أخذهما على الدليل النصي ويجعلون الحسن والقبح صفات ذاتية لازمة للفعل أو للشيء ويجعلون الشرع كاشفا عن تلك الصفات لا سببا لشيء من تلك الصفات .
ابن القيم تعرض لهذه المسألة في مفتاح دار السعادة بكلام رائع بديع لما بين فساد وعوار قول الأشاعرة ألزمهم بقوله أنه يجوز ظهور المعجزة على يد الكاذب وقال وظهور المعجزة ليس بقبح عندكم عقلا وألزمهم أنه يجوز نسبة الكذب إلى أصدق الصادقين وأنه ليس بقبيح وأنه يستوي التثليث والتوحيد قبل ورود الشرع والعقلاء يفرقون بين التوحيد والتثليث قبل ورود الشرع ..الخ كلامه .
(7/5)
ذكر أئمة الهدى قولا وسطا بين الطائفتين فقال ابن القيم في مفتاح دار السعادة ( 2 / 57 ) : ما منكم أيها الفريقين إلا من معه حق وباطل ونحن نساعد كل فريق على حقه ونصير إليه ونبطل ما معه من الباطل ونرده عليه فنجعل حق الطائفتين مذهبا ثالثا يخرج من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين .
وحاصل قوله أن الحسن والقبيح يدركان بالعقل ولكن ذلك لا يستلزم حكما في فعل العبد بل يكون الفعل صالحا باستحقاق الأمر والنهي والثواب والعقاب من الحكيم الذي لا يأمر بنقيض ما أدرك العقل حسنه أو ينهى عن نقيض ما أدرك العقل قبحه لأن ما أدرك العقل حسنه أو قبحه راجح ونقيضه مرجوح بمعنى أن صفة الحسن في الفعل يرجح جانب الأمر به وصفة القبح في الفعل ترجح جانب النهي عنه .
وهذا هو القول الفصل وهذا يرجح التفصيل إذا : الأصل في الأشياء الحل والإباحة وليس الحظر ولا المنع إلا إن كانت المضرة غالبة فتكون الحرمة من أجل المضرة ويشملها عموم قوله صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار " والحديث حسن .
الاستصحاب
* قال الماتن : ومعنى استصحاب الحال أن يستصحب الأصل عند عدم الدليل الشرعي *
قال الشيخ مشهور حفظه الله :حسن بالمؤلف أن يذكر الاستصحاب بعد الحظر والإباحة وذلك لأن قولنا الأصل في الأشياء الحل نحن نستصحب الحال نستصحب نصوصا عامة .
بإيجاز معنى الاستصحاب هو إثبات ما كان على ما كان عليه ؛ فإن كان ما كان إثباتا أبقينا الإثبات حتى يأتينا دليل يحولنا عنه وإن كان ما كان نفيا أبقينا النفي حتى يأتينا ما يحولنا عنه .
ومن العبارات الجيدة التي ذكرها ابن القيم في الإعلام قال :الاستصحاب استدامة إثبات ما كان ثابتا أو نفي ما كان نفيا ؛أي بقاء الحكم نفيا أو إثباتا حتى يقوم الدليل على تغيير الحالة .
(7/6)
مثال : قيام رمضان :يبدأ قيام رمضان من أول ليلة في رمضان فالقيام يسبق الصيام لأن الليل قبل النهار لا يجوز لنا أن نجتمع ونتداعى للقيام في غير رمضان لكن يجوز قيام الليل جماعة من غير تداعي كما وقع لابن عباس عند خالته ميمونة ويجوز للزوج والزوجة يرش في وجهها الماء وترش في وجهه الماء وما عدا ذلك لا يجوز التداعي لقيام الليل جماعة في غير رمضان حتى لو كان هناك فتن لكن في أيام الفتن نذكر الناس بالله وبقيام الليل كلٌ على حده وهكذا فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " سبحان الله ما أنزل الله في هذه الليلة من يوقظ صويحبات الحجرات " إذن قيام رمضان يبدأ برؤية الهلال قبل رؤية الهلال نستصحب النفي وعند رؤية الهلال نتحول إلى الإثبات ونبقى على الإثبات حتى في الليلة الأخيرة المشكوك فيها فنصلي فيها استصحابا للأصل فقبل رؤية هلال رمضان نستصحب الأصل وهو منع القيام جماعة وعند دخول رمضان يصبح الأصل القيام جماعة ولا نتحول عن هذا الأصل ونستصحبه حتى يخرج رمضان .
الاستصحاب حجة نبقي ما كان على ما كان عليه من غير تحول،والفقهاء يذكرون الاستصحاب في مسائل كثيرة منها :
المسألة الأولى : رجل تيمم وصلى وهو في الصلاة علم أن الماء قد جاء يكمل صلاته أم لا ؟ الجواب يستصحب الحال ويكمل صلاته .
المسألة الثانية : رجل حج متمتعا فلم يقدر على شراء الهدي فعليه الصوم بدأ بالصوم وهو في الثلاثة التي في الحج رزق مالا ماذا يفعل؟ الجواب يستصحب الصيام ما دام جاز لك في الأول فحاله كحال من صام الثلاثة أيام ورجع إلى أهله ودخل في السبع فوجد مالا فعليه أن يستصحب الصيام ، الإمام أبو حنيفة قال :لا ، إذا قدر على الهدي وهو صائم في الحج يجب عليه الهدي و لا يوجد استصحاب فالاستصحاب عند أبي حنيفة ضعيف .
(7/7)
ومن اللفتات التي ينبغي يُنتبه إليها أن من يعمل المعاني يضعف الاستصحاب ومن يضيق المعاني ويعمل النصوص يقوّي الاستصحاب ؛ فالاستصحاب قوي في مذهب الشافعية والحنابلة ضعيف عند الحنفية والمالكية لأن فقههم بالجملة قائم على المعاني .
المسألة الثالثة :هل ينقض الوضوء من النجاسات التي تخرج من غير السبيلين أم لا ؟ والفقهاء عندهم أن الدم والقيء من النجاسات ، الجواب : أنه لا ينقض استصحابا للحال فلا نتحول إلى النقض إلا بدليل ويفترض أن يكون هذا مذهب الشافعي ، أما أبو حنيفة قال أجعل ما يخرج من غير السبيلين ملحقا بما يخرج من السبيلين إن كان نجسا وعنده الدم والقيء نجسان ، والأحاديث الواردة في نقض الوضوء بالدم والقيء ضعيفة .
قال النووي : مذهبنا أنه لا ينقض الوضوء بخروج شيء من غير السبيلين ،وأحسن ما أعتقده في المسألة أن الأصل أن لا نقض حتى يثبت بالشرع ولم يثبت والقياس ممتنع في هذا الباب لأن علة النقض غير معلومة .انتهى
قال جلال الدين المحلي على شرحه على جمع الجوامع قال : الخارج النجس من غير السبيلين لا ينقض الوضوء عندنا استصحابا لما قبل الخروج من بقائه المجمع عليه .انتهى
فرع : إذا خرج البول من مخرج صناعي أن يفتح فتحة في الجنب هل هذا البول ينقض الوضوء أم لا ؟
الحنابلة يقولون البول والغائط من أي مخرج خرج ينقض الوضوء ويقولون المخرج الصناعي له حكم الفرج في المخرج لا في الملمس لأن عندهم لمس الفرج ينقض الوضوء .
المسألة الرابعة : إرث المفقود ، رجل له زوجة وأولاد فُقِد وله مال كيف نعامله ، نستصحب حياته في حق نفسه وفي حق غيره أم نستصحب حياته في حق نفسه ولا نستصحبها في حق غيره أم نجعل حدا ؟
الشافعية يقولون : نستصحب حياته ما لم يأتينا دليل على وفاته في حق نفسه ( لا نقسم ماله ) وفي حق غيره ( لو مات ابنه نصيبه نحفظه له ) أو حتى تمضي مدة على حياته يعيش غالبا مثلها الإنسان .
(7/8)
مذهب أبو حنيفة : نستصحب حياته في ماله لكن لا يقوى الاستصحاب عندي فأجعل الحق ينتقل من ذمة إليه أما الشيء الذي له يبقى له فاستصحب أبو حنيفة حياته في حق نفسه والتفت إلى عدم وجوده في حق غيره .
مذهب أحمد : اعتمد الإمام أحمد على الأثر وقال : الفروج أعظم عند الله من الأموال والخلفاء الراشدين قضوا بزوجة المفقود فطلقوها منه بعد أربع سنين فقال أحمد : استصحب حياته في حق نفسه وفي حق غيره أربع سنين وبعد الأربع سنين أجعل حاله كحال الزواج لأن الفروج أعظم من الأموال فنعتبره ميت بعد أربع سنين ونوزع ماله وإن مات ابنه بعد أربع سنوات من فقده نجعله في عداد الأموات .
قال الخطيب الشربيني في مغني المحتاج : الأصل بقاء الحياة فلا يورث إلا بيقين أما عند البينة فظاهر وأما مضيه مدة مع الحكم فلتنزيله منزلة قيام البينة .انتهى
قال الشافعي في الأم : وكان معقولا عن الله عز وجل ثم عن رسول الله ثم في لسان العرب وقول عوام أهل العلم عندنا أن امرأ لا يكون موروثا أبدا حتى يموت فإذا مات كان موروثا وأما الأحياء فخلاف الموتى فمن ورث حيا دخل عليه والله أعلم خلاف حكم الله عز وجل وحكم رسوله فقلنا والناس معنا بهذا لم يختلف في جملته وقلنا فيه في المفقود وقلنا لا يقسم ماله حتى يعلم يقين وفاته .انتهى
والقلب يميل إلى كلام أحمد رحمه الله .
الاستصحاب حجة ولكن قد تتداخل المسائل وتخرج على أكثر من قاعدة فحينئذ تكون المسألة فيها نوع من نظر واستنباط .
المسألة الخامسة : الوتر ليلة المزدلفة ،هل تصلى أم لا تصلى ؟
(7/9)
في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن جمع جمْع تأخير في المزدلفة فورد في الحديث أنه ما صلى بعدها شيئا وفي رواية ما صلى حتى الصبح ، منهم من قال ما صلى شيئا حتى الوتر لم يصله ، منهم من قال المراد أن النبي ما قام الليل ، أما الوتر كان النبي يصليه عادة في سفره وهذا سفر والمقصود أن النبي تعجل في المبيت وأن النبي لم يقم تلك الليلة فمن نظر إلى عموم النص الذي معنا قال لا تصل الوتر ومن نظر إلى فعله في سفره قال تصلى الوتر ،ولذا من أحاجي الفقهاء ليلة يكره القيام فيها هي ليلة المزدلفة ، وهذه عين المسألة التي فيها صلاة الرواتب حال الجمع بين الصلاتين تتنازعها المسائل وهذا يذكر أيضا في كيفية الجمع بين الصلاتين في عرفة ومزدلفة ، ورد أن النبي جمع في عرفة ومزدلفة بأذان وإقامتين لذلك يجمع في السفر والحضر بأذان وإقامتين وذلك استصحاب الجمع ، حتى كلمة الجمع ( لما ورد أن النبي جمع ) صار كل كلمة جمع تستصحب فيها الكيفية التي وردت عن النبي فالاستصحاب باب مهم ، فلما نجد أن الشرع نقل اللفظ من المعنى اللغوي إلى المعنى الشرعي نستصحب هذا المعنى على إطلاقه ولا نحيد عنه إلا بنص ، فنقول لمن قال لنا ما الدليل أن النبي جمع بين المغرب والعشاء في وقت ؟ هذا سؤال خطأ لأن الجمع أصبح مصطلح شرعي فكل ما ورد فيه جمع نستصحب معنى الجمع في الشرع وإلا لقلنا لكم كيف القصر ولو طالبنا في كل حالة فيها قصر نريد تفصيل ؟الشريعة قواعد مضطردة واصطلاحات معينة تفعل باضطراد.
فنقول لهم كيف تجمعون في السفر يقولون بأذان وإقامتين فنقول لهم كما أخذتم هذه الكيفية في السفر ايذنوا لنا أن نأخذها في الحضر .
ترتيب الأدلة
* قال الماتن : أما الأدلة : فيقدم الجلي منها على الخفي والموجب للعلم على الموجب للظن والنطق على القياس والقياس الجلي على الخفي ، فإن وجد في النطق ما يغير الأصل وإلا فيستصحب الحال *.
(7/10)
قال الشيخ مشهور حفظه الله : ترتيب الأدلة باب مهم تظهر ثمرته في الترجيح عند التعارض وللعلماء مباحث مطولة ومصنفات مفردة في التعارض والترجيح وأفضل ما وقعت عيناي عليه كتاب مطبوع في العراق لباحث اسمه عبد اللطيف عبد الله البرزنجي واسم الكتاب التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية مطبوع في مجلدين .
الأصل والقاعدة المتبعة عند العلماء أن الجمع مقدم على الترجيح فمتى استطعنا أن نجمع بين الأدلة فهذا هو الواجب لأن بالجمع إعمال بالأدلة كلها وبالترجيح لبعض دون بعض ولذا القاعدة التي يكثر دورانها في الكتب ( الإعمال أولى من الإهمال ) ومما ينبغي أن يذكر أيضا أن الحكم الفقهي لا يؤخذ من الشريعة أخذا أوليا فكما أن الإنسان لا ينطق بلسانه إلا وسائر حواسه سليمة ولا يفكر تفكيرا سليما إلا وجميع حواسه موجودة فكذلك الحكم الفقهي لا يؤخذ من نص بمعزل عن سائر النصوص فأي حكم فقهي لا يؤخذ من نص واحد يجب جمع جميع الأدلة لهذا الحكم ثم استنباط الحكم بإعمال قاعدة الجمع بين الأدلة فإن تعذر الجمع لا بد من أن نرتب الأدلة والترتيب يكون على أصول علمية وليست على هوى وتشهِّي فمن حيث الاستنباط يوجد قواعد للعلماء في الترتيب فنرجح الجلي على الخفي فمثلا عندنا نص يؤخذ منه حكم سيق النص من أجله وهذا يسمى نص وعندنا نص آخر يدل على الحكم بظاهره ولا نعرف أن النص قد سيق من أجله وهذا يسمى الظاهر ولذا العلماء يقولون النص مقدم على الظاهر وهذا المراد بتقديم الجلي على الخفي وكذلك الظاهر مقدم على المؤول فالنص الجلي الواضح البين الذي لا يعتريه احتمالات وسيق من أجل الحكم أصالة يقدم على النص الظاهر الجلي الذي لا يعتريه الاحتمالات أيضا ولكن ما سيق أصالة للحكم ولذا الفقهاء المدققون يقولون ظاهر النص يقول كذا ومنطوق النص يقول كذا وهكذا .
(7/11)
ومن قواعد الترجيح أن الموجب للعلم مقدم على الموجب للظن وهذا ترتيب من حيث القوة فمثلا عندنا نص دل على حكم وهذا الحكم يخالف حكما مقررا في سائر نصوص الشريعة فأشبه ما يكون بالمحكم والمتشابه فنحمل المتشابه على المحكم فبعض النصوص في مرتكبي الكبائر تشير إلى تكفيره ونصوص كثيرة شهيرة قطعية واضحة بيّنة تبين أن مرتكب الكبيرة أمره إلى الله فنحمل الأمر المحتمل على الأمر القطعي فالموجب للعلم مقدم على الموجب للظن عند التعارض وعدم إمكانية الجمع فنقدم القطعي على الظني والظني بمعنى غير المتواتر فنقدم الأقوى فالأقوى فنقدم المتفق عليه على المختلف فيه ولكن ما ينبغي أن نتعجل في ذلك فقد ذكر الآمدي في كتابه الإحكام أكثر من مائة طريقة للتوفيق بين الأدلة المتعارضة ومن هذه الطرق التي ذكرها تقديم الحديث الذي في الصحيحين على غيره ولكن هذا تقديم جملي فلا يلزم أن كل حديث في مسلم أصح من كل حديث في مسند أحمد مثلا ففي مسند أحمد ثلاثيات كثيرة أما عند مسلم لا يوجد عنده ثلاثيات وكلما علا الإسناد كان مظنة القوة والضبط .
ومن قواعد الترجيح : تقديم النطق على القياس فيقدم المنطوق على المستنبط وحتى القياس ليس سواء فالقياس الجلي ليس كالقياس الخفي والقياس الأولى مقدم على القياس المساوي والمساوي مقدم على الأدنى وهكذا .
(7/12)
ومن قواعد الترجيح أيضا : أن الحقيقة مقدمة على المجاز وأن ما كان مدلوله نهيا مقدم على ما كان مدلوله أمرا لأن أكثر النهي جاء دفعا للمفسدة وأكثر الأمر جاء جلبا للمصلحة واهتمام العقلاء بدفع المفسدة أشد وقالوا لأن النهي يدل على الدوام بخلاف الأمر يدل على المرة فالذي يفيد الدوام أقوى من الذي لا يفيد الدوام ولذا جاءت قاعدة الحاظر مقدم على المبيح ومن الأمثلة على أن الأمر يدلل على المرة الواحدة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "اصبغوا وخالفوا المشركين " وقوله " كلوا الزيت وادهنوا به " فلو صبغت مرة وادهنت مرة لأديت الواجب .
ومن القواعد كذلك :ما كان مدلوله على الوجوب مقدم على ما كان مدلوله على الإباحة وهذا يسمى مراعاة الاحتياط والعمل بالاحتياط وهي مسألة شائكة جدا وفصّل في المسألة الشاطبي في الموافقات .
ومن القواعد : الأقل احتمالا يقدم على الأكثر احتمالا : فلو أن عندنا نصين تعارضا من جميع الوجوه وكلا النصين فيه لفظ مشترك أحدهما مشترك بين معنيين والثاني مشترك بين ثلاثة معاني فنقدم الأقل احتمالا وهذه صورة فرضية عقلية تفريعية احتمالية ولكن قد تلزم في بعض المسائل النادرة .
ومن القواعد التي تخص الأخبار : ترجيح الخبر بكثرة الرواة فإن خالف راو مجموعة من الرواة نقدم المجموعة غالبا فلما يتعارض الرواة ننظر لعدة أشياء من بينها العدد فلو روى عشرة عن الزهري لفظة وخالفهم واحد فالعشرة أضبط ولكن قد يكون حال هؤلاء العشرة ممن لم يضبطوا عن الزهري وفي حفظهم شيء وخالفوا إماما جهبذا له خصوصية بالزهري ملازم له فيكون هذا الواحد من هذه الحيثية مقدم على العشرة .
(7/13)
كذلك الإسناد العالي مقدم على النازل وكذلك خبر الراوي الفقيه مقدم على خبر الراوي غير الفقيه فهذه ترجيحات موجودة ولكن إسقاطها على بعض الأمثلة ينازع فيه ويتوسع بعضهم فيه ، ويرجح أحيانا بالعلم في العربية وأحيانا بالأفضلية فقول أبي بكر وعمر مقدم على غيره ، وكذلك يرجح بحال الراوي إن كان هو صاحب الواقعة وهذا يستأنس به فمثلا : هل يقع طلاق الحائض ، أي من طلق زوجته وهي حائض هل تحسب تطليقة ؟ حدث هذا مع ابن عمر أنه طلق زوجته وهي حائض فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرجعها فوقع خلاف بين أهل العلم هل يقع طلاق الحائض أم لا ؟
فكان من أقوى أدلة الجمهور على إيقاع الطلاق قول ابن عمر أنها حسبت تطليقة وهذا ورد معلقا في البخاري لأن ابن عمر أعلم واحد في هذه المسألة لأنها حدثت معه ، ومنهم من يرجح بوقت الرواية فيقدم خبر من تحمل الخبر وهو بالغ على من تحمل الخبر وهو صبي لأن الكبير مظنة الضبط بخلاف الصغير ويقدم من تحمل الخبر وهو مسلم على من تحمل الخبر وهو كافر ، وهناك ترجيح للأخبار في ما يخص وقت ترجيح الخبر فمثلا أخبار المسح على الخفين رواها أبو هريرة وهو ممن تأخر إسلامه ولذا الأخبار التي وردت في المدينة في الأحكام الشرعية مقدمة على الأخبار التي وردت في مكة .
قول الماتن " فإن وجد في النطق ما يغير الأول " أي إذا جاء دليل نقلي يغير العدم الأصلي عملنا بالنقل وإلا نبقى على الأصل ونستصحب الحال .
شروط المفتي
* قال الماتن : ومن شرط المفتي :أن يكون عالما بالفقه أصلا وفرعا خلافا ومذهبا ،و أن يكون كامل الآلة في الاجتهاد عارفا بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام من النحو واللغة ومعرفة الرجال وتفسير الآيات الواردة في الأحكام والأخبار الواردة فيها *.
(7/14)
قال الشيخ مشهور : ممن أفرد هذا الموضوع بالتصنيف ابن الصلاح في كتابه أدب المفتي والمستفتي واعتمد عليه ابن القيم في الإعلام وحرر كلام ابن الصلاح وممن أولى كتاب ابن الصلاح عناية كبيرة وزاد عليه وفرع على وجه حسن الإمام النووي في مقدمة المجموع .
شروط المفتي من الأمور المهمة ولا سيما لطلبة العلم والفتوى أمرها خطير ويجب التأني فيها وورع الصحابة والتابعين والصالحين في الفتوى معروف لذلك من سُأل عن مسألة وهو في شك منها فليقل لا أدري ولذا قالوا لا أدري نصف العلم وليس المراد بالنصف أن يكونا نصفين متساويين فالعلم قسمان تعلمه وتجهله فالذي تعلمه نصف وإن كان قليلا والذي لا تعلمه النصف الآخر ولذا قالوا في الفرائض نصف العلم لأن العلم شيء يخص في الحياة وشيء يخص بعد الوفاة وقالوا في علم الطهارة نصف العلم لأن العلم وسائل ومقاصد فالوسائل نصف العلم وبهذا يعرف مدى ورع ذاك الرجل من التابعين لما قال : لا أدري لماذا لا أدري نصف العلم فلما نقول عن شيء نصف العلم لا يلزم المساواة بين النصفين .
المفتي غير القاضي فخبر المفتي معلم وخبر القاضي ملزم ويجب على كليهما أن يكون مجتهدا .
من شروط المفتي أن يكون عالما بالمسائل الفقهية أصلا وفرعا خلافا ومذهبا فالأصل فيه أن يعلم المسائل المتفق عليها من المسائل المختلف فيها حتى لا يجتهد في مسألة متفق عليها والأصل فيه أن يعرف خلاف الفقهاء والعلماء ولذا كان قتادة يقول :من لم يعرف خلاف الفقهاء لم يشم أنفه رائحة الفقه .
(7/15)
قول الماتن " أصلا وفرعا " اختلف شراح الورقات في معناها فبعضهم قال أصلا أي كتابا وسنة في مسائل الفقه وقواعده وأصوله الأدلة الكلية والأصل في الأدلة الأصلية الكتاب والسنة والأدلة الفرعية الاجتهاد والقياس ، ومنه من قال أن مراده أصلا أي علم الأصول وجعله من الفقه تغليبا له إذ ثمرة علم الأصول الفقه ،ومنه من قال أن يكون عالما في الفقه أصلا بقواعده الكلية وبفروعه أي المسائل المبنية على تلك القواعد ، وكل هذه الأمور يجب أن تتوفر في المجتهد فالمجتهد يجب عليه أن يعلم شيئا من كتاب الله ويعلم علم الأصول والأدلة الكلية والقواعد والخلاف والفقه أصلا وفرعا خلافا ومذهبا يراد بالمذهب قواعد كل مذهب فلا يتعلق بأقوال شاذة في بعض المذاهب ويجب عليه أن يعرف عبارات ومصطلحات الفقهاء وإلا يضل ولا يفهم كلام العلماء .
(7/16)
قال الماتن " وأن يكون كامل الآلة .." أي أن يكون له مَلَكَة فقهية فنحن لسنا بحاجة لمن يحفظ الفروع نحن بحاجة إلى من يحسن استنباط الفروع في النوازل التي لا يكون لها نظير سابق ، والملكة هيئة راسخة في النفس يدرك بها ما من شأنه أن يعلم من جهة استنباط الأحكام الشرعية الفقهية فالعالم الفقيه تكون هذه الهيئة راسخة في نفسه لا تنفك عنه مثل عضو من أعضائه فيجب على المفتي أن يكون عنده صحة ذهن وجودة فهم فإن الحرف قد يؤثر على الحكم فمثلا لو رجل قال لزوجته " لو فعلت كذا سأطلقك " أو قال " لو فعلت كذا أنت طالق " وفعلت فعلى اللفظ الأول لا تطلق وعلى الثاني تطلق فمن شروط المجتهد أن يكون كامل الآلة في الاجتهاد عارفا فيما يحتاج إليه في استنباط الأحكام وهذا يشمل أشياء كثيرة أن يكون عنده معرفة في النحو لأن دلالة الألفاظ تعرف من خلال النحو وأن يكون عنده معرفة في اللغة لأن معرفة معاني الألفاظ تؤخذ من اللغة ومعرفة المقيد والمطلق والخاص والعام كل هذا له صلة باللغة العربية ولذا من بديع كتب الأسنوي كتاب الكواكب الدرية ذكر فيه خلاف الفروع الفقهية المبنية على أصول نحوية وعلى المفتي والمجتهد أن يكون عارفا بالرجال وبطرق الجرح والتعديل فلما انفك الفقه عن الحديث وقعت طامات والخلاف والانفصام بين الفقه والحديث من الأمور البدعية ما أنزل الله بها من سلطان فالأصل في الفقيه أن يكون محدثا والأصل في المحدث أن يكون فقيها ، أصبحت كتب المتأخرين من الفقهاء تعج بالأحاديث الضعيفة والواهية مما جعل الأمر شاقا وأوقع طلبة العلم في ربكة فالموفق والسعيد من انتبه إلى ضرورة الحديث وضرورة الفقه وألف الخطيب البغدادي رسالة " نصيحة أهل الحديث " نصحهم وبين لهم ما الفائدة من الحديث إن لم ينبني عليه فقه، فيجب على المجتهد أن يكون عارفا فيما يحتاج إليه في استنباط الأحكام ؛فيثبت الحكم أولا ثم يفهم الحكم على النحو الذي أنزله الله فلا يفهم
(7/17)
الحكم بأعجمية أو ما طرأ أو دخل عليه من معنى زائف ليس له وجود في الشريعة وقد يقع للكبراء مثل هذا بأن يتسلل لأذهانهم شيء ، قال ابن العطار في ترجمة النووي : ينقل عن شيخه النووي يقول : كنت أفهم حديث" إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل " أنه إذا قرقع البطن وجب الغسل فكلما قرقع بطني أغتسل حتى تشقق جلد ظهري .انتهى
الاعتماد على الأئمة النقاد من أئمة الحديث أئمة الجرح والتعديل هذا الاعتماد ليس تقليدا كمسائل الفقه هؤلاء سبروا وعرفوا وأحكامهم أشبه ما تكون بخبر الثقة وليست بحكم الثقة .
(7/18)
يجب على المفتي أن يكون عارفا بتفسير الآيات الواردة في الأحكام ،اختلفوا أولا هل يشترط حفظها فكان السمعاني في قواطع الأدلة يقول يشترط حفظ آيات الأحكام لأن الحفظ أضبط لمعانيها بينما ذهب جماهير الأصوليون إلى عدم اشتراط الحفظ وإنما على معرفتها ومعرفة مواقعها من كتاب الله فلو غابت ألفاظها عنه فلا تغيب معانيها .ثم اختلفوا في عددها منهم من قال هي مائة ومنهم من قال خمسمائة وجلهم يقول خمسمائة وبعضهم كابن دقيق العيد وهذا الذي أراه راجحا أنها تختلف باختلاف القرائح والأذهان وما يفتحه الله عز وجل على عباده من وجوه الاستنباط فيصعب ويعسر جدا أن يقال أن آيات الأحكام كذا وكذا فقد يفتح الله على عالم فيستنبط من آية لا تعد من آيات الأحكام يستنبط حكما وكان هذا ذريعة لقول من اشترط حفظ القرآن ، ووقع خلاف في السنة وينبغي للمفتي أن يكون على ذكر من أحاديث الأحكام مع الاعتراف كما قال الشافعي :لا تحقق أحاديث النبي مجموعة لشخص واحد فيستحيل شخص يجمع جميع أحاديث النبي .ومن كلام الزركشي في البحر المحيط قال : وظاهر كلامهم ( جماهير الأصوليين ) أنه لا يشترط حفظ السنة أي بالجملة بلا خلاف لعسره وأكد ابن جزي في تقريب الأصول على ضرورة فهم السنة وقال غير واحد من الأصوليين لو أن عنده أصول أحاديث ويستطيع أن يصل بهذه الأحاديث وتكون هذه الأصول مضبوطة لكفاه ذلك مثل ما قالوا في آيات الأحكام .
(7/19)
ومنهم من قال أن يكون المفتي عارفا بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام أن يكون عارفا بعلم الكلام وهذا الكلام ضعيف إذ لا صلة بين علم الكلام وبين الفتوى فضلا عن العلم الشرعي المضبوط بالوحي فعلم الكلام يحتاجه الأصولي المتبحر وأنه لا يشترط التبحر في العلوم المذكورة آنفا ولا يشترط في الإمام الذي يعرف النحو أن يكون كسيبويه هذا أمر عسر جدا وإنما يكفيه أن يكون عارفا بأصل هذه العلوم وجل المسائل فيه وأن يحصل المقصود من وراء هذا الاشتراط سواء علم اللغة أو علم النحو أو في معرفة قواعد الأئمة في تثبيت الأخبار أو قواعد الاستنباط وكذلك في أحاديث الأحكام وآيات الأحكام .
قول الماتن " والأخبار الواردة " أي أحاديث الأحكام والأحاديث الواردة في أسباب نزول الآيات ولا سيما آيات الأحكام حتى تفهم على مراد الله .
ومن الشروط التي ذكرها بعضهم على المفتي أن يكون عدلا وهذا لم يذكره الماتن فمن لم يكن عدلا صاحب ديانة يحجر عليه لا يسمع له ولذا قالوا المفتي الماجن ( يرتكب المعاصي ) يحجر عليه فقد يفتي لمحب مالا يفتي لمبغض .
ومنهم من اشترط أن يكون المفتي ذكرا وهذا ليس صحيحا فعائشة كانت تفتي ومرجعا لكبار الصحابة فهذا الاشتراط يحتاج إلى دليل مع القول والمشاهد أن العلماء الذكور في هذه الأمة أكثر من الإناث وكان يقول الزهري علم الحديث ذكر لا يحبه إلا الذكور ومع هذا عرف بعض المشتغلات بعلم الحديث كما بينت ذلك بمؤلف مفرد سميته عناية النساء بالحديث النبوي .
(7/20)
ومما ينبغي ذكره أن المفتين المجتهدين أقسام فمنهم من يضبط المذهب ضبطا حسنا ويعرف قواعده وأصوله ويحفظ نقولات الإمام ويحسن تفريع وتخريج المسائل النازلة على القواعد المذكورة في المذهب وهذا يسمونه مجتهد مذهب ، ومنهم من يسمى مجتهد مطلق يعرف قواعد الشريعة ويتحرى المذهب ومما يذكر في هذا الباب قيل هل أن هذه الشروط قد تعطلت وامتنعت وباب الاجتهاد قد أغلق أم أنه مفتوح ؟ من الخطأ أن يقال أن هنالك باب اجتهاد وإنما يقال أن هنالك شروط للمفتي وهنالك شروط للاجتهاد فلا يوجد للاجتهاد باب حتى نقول هذا الباب مفتوح أو مغلق فإن أصل المسألة خطأ وإنما يوجد للاجتهاد شروط فمن توفرت فيه هذه الشروط اجتهد ومن تعطلت سكت وأمسك .
مسألة : هل الاجتهاد يتجزأ أم لا ؟ العلماء مختلفون على أقوال فمنهم من يمنع التجزأ بالكلية ومنهم من يجوّزه في المسألة ومنهم من يجوّزه في الباب والذي يميل إليه قلبي وأراه راجحا هو جواز الاجتهاد في الباب وليس في المسألة يعني من أراد أن يجتهد في الميراث يجتهد في مسائل الميراث جميعا فأن يجتهد في مسألة وينسى سائر المسائل فلا لأن الشريعة معللة والشريعة أشباه ونظائر ولما تتقن أشباه ونظائر المسألة في نفس الباب يحسن الاجتهاد فالراجح أن الاجتهاد يتجزأ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ وأفرضهم زيد " فهذا دلالة على التجزأ ولكنه مرسل ووقعت آثار كثيرة جدا عن عمر وغيره فيها أن فلانا أفقه من فلان بكذا فعطاء أفقه الناس في الحج وهكذا وهذا يؤكد جواز الاجتهاد في الباب .
مسألة : هل يجوز للمجتهد أن يقلد غيره ؟
التقليد ليس بعلم فإن ضاق الوقت في حق المجتهد واحتاج حاجة ماسة إلى حكم يضيق الوقت عن بذله ما يستطيع من جهد حتى يقف على حكم الله فيقلد ضرورة فقط في مثل هذه الحالة وما عدا ذلك فلا يجوز .
شروط المستفتي
(7/21)
* قال الماتن : ومن شرط المستفتي :أن يكون من أهل التقليد فيقلد المفتي في الفتيا. وليس للعالم أن يقلد وقيل يقلد. والتقليد قول القائل بلا حجة،فعلى هذا قبول قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمى تقليدا .ومنهم من قال :التقليد قبول قول القائل وأنت لا تدري من أين قاله .فإن قلنا :إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بالقياس فيجوز أن يسمى قبول قوله تقليدا .*
قال الشيخ مشهور حفظه الله :الناس أصناف في الطلب وأصعب أحكام نسقطها على المتحيرين فيه لا هو طالب علم مجد ولا هو عامي جاهل وهو متذبذب في الطلب فهذا نوع محير لكن بعضهم هو أقرب لطالب العلم الذي عليه الاتباع وبعضهم أقرب للعوام على حسب مظنته وتحصيله وعلى حسب مكنته وعمره في الطلب ،ليس المطلوب من جميع الناس أن يكونوا فقهاء أو علماء ، والواجب على كل أحد أن يكون طالب علم ولكن قد يكون طالب العلم أمي لا يعرف شيئا ،والاجتهاد والمفتي له شروط فلا يجوز للجاهل أن يتجرأ ويضبط الأحكام دون أن يكون أهلا لذلك ويكون كامل الآلة ومن لم يكن من هذا النوع فالواجب عليه أن يسأل "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " الذي لا يعلم يسأل من يعلم .
(7/22)
التقليد هو اتباع الإنسان غيره ممن يعتقد فيه الديانة والعلم في قول أو فعل معتقدا أن هذا القول إن صدر منه يكون صوابا فكأنه لما يستفتيه يجعل قوله أو فعله قلادة في عنقه ،والتقليد كالميتة لا يجوز إلا عند الضرورة والتقليد ليس علما والواجب على من لا يعلم أن يستفتي من يثق به وبدينه بحيث لا يفتي المحب بجواب ويفتي المبغض بجواب آخر ويطمئن أن الآلات عنده وأنه أهل للفتوى ، اليوم يوجد فوضى في الفتوى والذي يحسم هذه الفوضى ما كان عليه أسلافنا فكان الرجل لا يجلس للفتوى حتى يجيزه أهل العلم المعتبرين ويشهدوا له وكانت علامة الإجازة عندهم أن يقدموه لصلاة التراويح يعني أصبح إماما يسأل ويجلس ويعلم الناس أما اليوم فالناس يسأل من كان أطول لحية أو أجمل جبة وهكذا وبعضهم يعتني بهذه المظاهر لترويج بضاعته ولا نقول للمتقدم في العلم أن يهمل نفسه فله أن يعتني بنفسه وبمظهره بما أذن له الشرع وأن تكون عليه مهابة العلماء .
مشكلة التقليد كثر فيها الخبط والكلام فبعض طلبة العلم يصير من أول يوم في طلبه مجتهدا وهذا خطأ كبير وبعض الناس يعيش ويموت وهو عاكف على متن من متون الفقهاء وهذا خطأ كبير ،التقليد ضعيف والإنسان يقلد من يحب من شيخ أو أستاذ لكن كلما تقدم الإنسان في العلم عرف الحق من الباطل وعرف الصواب من الخطأ وأصبحت له انفرادات حتى عن قول مشايخه لذا كان أيوب السختياني يقول : إذا أردت أن تعرف خطأ شيخك فجالس غيره .
المستفتي من أهل التقليد يقلد ضرورة والعالم الذي عنده مكنة الآلة في الاجتهاد لا يجوز له التقليد وإنما الواجب عليه أن يأخذ من النبع الصافي .
(7/23)
لا يجوز للمستفتي إن سأل سؤالا وقلد رجلا ولم يطمئن قلبه ولم ينشرح صدره لقول وهو يبتغي الحق أن يكتفي به فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال " من قضيت له من حق أخيه شيئا فإنما أقضي له بقطعة من نار "فالمستفتي إن سأل سؤالا فأخذ الجواب وحدثت معه الحادثة مرة أخرى عليه أن يسأل مرة أخرى فلعل قد طرأ ما يستجد في النازلة من قيود وشروط وهو لا ينتبه لذلك وينتبه إليها المفتي .ولا يجوز للإنسان أن يستفتي تعنتا ولا ممتحنا كان الشعبي رحمه الله يسأل ما اسم امرأة إبليس فكان يقول ذاك عرس لم أشهده .ولا يجوز للمستفتي أن يتفرع ويتكلم في أمور متصورة وما وقعت أو أن يسأل بالتعنت بل الواجب عليه أن يسأل عن ما يلزمه ولا يجوز للمستفتي أن يتتبع الرخص فقد قالوا قديما قال غير واحد من السلف :من تتبع الرخص تزندق،فإن تتبعت الرخص فقد اجتمع فيك الشر كله ؛نبيذ أهل الكوفة وإتيان النساء في المحاش على رأي أهل مكة والغناء من أهل المدينة فكل مصر قديما وُجد فيه فقهاء لهم رخصة في مسألة فلا يجوز للإنسان وهو ينوي أن يبحث عن الأرخص عن أكثر المفتين ترخصا فينتقل من شخص لآخر حتى يجد الجواب الذي يوافق هواه فهذا غير مشروع فلو أخذنا رخص الزواج في المذاهب لخرجنا بزنا فلو أخذنا بعدم المهر الممول من الشافعي فجعلنا المهر "قل هو الله أحد " وعدم رضا الولي من أبي حنيفة وعدم الشهود من مالك وعدم الإشهار من الأئمة الثلاثة فنصل إلى الزنا .
ولا ينفك العالم عن التقليد فلا يلزم في العالم أن يعرف كل المسائل في جميع العلوم معرفة تفصيلية ولكن باتساع علوم ومعارف العالم يتخلص من التقليد وقد نودي في بغداد أنه لا يقلد إلا غبي أو جاهل في فترة أبي جعفر الطحاوي في القرن الرابع .
(7/24)
فالتقليد يحتاج إليه الطالب في البدايات وينفك عنه في النهايات والموفق الذي يبقى على الجادة يسير بقواعد أهل العلم فقد يخالف فتاويهم بقواعدهم وقد اشتط في هذا الباب اثنان هما طرفي نقيض طرف نادى بالتجديد مثل مدرسة الترابي فقالوا من أين لنا بهذه القواعد والأصول ومن أين لنا أن البخاري ومسلم كل ما فيه صحيح ومن أين لنا كذا وكذا فأرادوا منا أن نخرج عن ديننا ،فالقواعد المسلوكة المتبعة عند العلماء لا اجتهاد فيها وطرف جعل قول الفقيه والعالم كأنه نص مقدس فعاش المسلمون بين إفراط وتفريط والواجب أن نتسلح بقواعد أهل العلم وأن نسير وراءهم .
قول الماتن " فعلى هذا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسمى تقليدا " هذا كلام ليس بحسن ولا صحيح فالنبي - صلى الله عليه وسلم - له شأن آخر ليس كسائر الناس وقوله واجب الاتباع والله أمر باتباعه ولذا نقول اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نقول تقليده فهو مدعم بالوحي ولو قلنا أننا نقلده يلزم من هذا أن يكون تابعا لغيره ولا يكون متبوعا يعني هو قلد غيره فالعبارة ليست بحسنة وشأن المُقَلَد الخطأ والصواب خلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو معصوم فإن بلغنا شيء عنه ثابت عنه فإن قلوبنا مطمئنة إلى كونه حقا وصدقا ويعجبني كلام ابن القيم في مدارج السالكين قال : من بلغه شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت عنده فليستحضر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطبه به مواجهة فإن حاد عنه فليعد لذلك جوابا .
فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة بذاته لا بضميمة أخرى ولكن فعل السلف ضابط مهم حتى نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات على هذا وأن هذا ما طرأه تغيير وأن هذا هو مراده وليس مجرد احتمالات .
(7/25)
المستفتي يجوز أن يستفتي أباه وشريكه وأخاه وابنه ومن لا تجوز الشهادة له ( فبعض الناس لا يجوز له أن يشهد لآخر لمانع ولكن يستفتيه ) ولا يجوز للمستفتي أن يعطي المفتي مالا على الفتوى فالأصل في الفتوى أن تكون ديانة ولكن يجوز أن يأخذ المفتي من بيت مال المسلمين مالا مقابل تفرغه ومقابل كونه وظيفة له ولذا اختلف العلماء في هل يجوز للمستفتي أن يهدي المفتي ؟ فإن كان للفتوى فلا وإن كانت لمعنى العلاقة بينهما فلا حرج .
الاجتهاد:
* قال الماتن : وأما الاجتهاد فهو بذل الوسع في بلوغ الغرض ،فالمجتهد إن كان كامل الآلة في الاجتهاد فإن اجتهد في الفروع فأصاب فله أجران وإن اجتهد فيها وأخطأ فله أجر واحد .
ومنهم من قال : كل مجتهد في الفروع مصيب ولا يجوز أن يقال كل مجتهد في الأصول الكلامية مصيب لأن ذلك يؤدي إلى تصويب أهل الضلالة من النصارى والمجوس والكفار والملحدين .
ودليل من قال :ليس كل مجتهد في الفروع مصيب قوله- صلى الله عليه وسلم - " من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد " ووجه الدليل أن النبي- صلى الله عليه وسلم - خطأ المجتهد تارة وصوبه أخرى . *
قال الشيخ مشهور حفظه الله :الاجتهاد أوسع من الفتوى فهي فرع من فروعه .
الاجتهاد في اللغة بذل الوسع لإدراك أمر شاق ومنه من قال استفراغ الوسع في أي شيء ، واصطلاحا : استفراغ الفقيه وسعه في طلب العلم بالأحكام الشرعية بطريق الاستنباط من أدلة الشرع . لذا لو وجد نص في الشرع في العقائد الظاهرة مثلا هذا ليس اجتهاد لأن ليس فيه وسعا أو كوجود حكم مقطوع به كوجوب الصلاة والزكاة والحج والصيام فهذا ليس اجتهاد فالأدلة الصريحة الواضحة التي لا تحتمل الظن لا في الثبوت ولا في الدلالة فهذه مسائل لا يوجد فيها اجتهاد وهذه الأمور الثلاثة العقائد والأمور قطعية الدلالة قطعية الثبوت والأمور المقطوع بحكمها هي التي يقال عنها لا اجتهاد مع ورود النص .
(7/26)
من خلال التعريف هناك قيود وشروط للاجتهاد :
الشرط الأول :أن يبذل الجهد إلى منتهى الطاقة .
الشرط الثاني : أن يكون الباذل فقيها تحققت قدرته على الاستفادة من نصوص الوحي .
الشرط الثالث : أن يكون المطلوب في التوصل إليه حكم فقهي فلو استفرغ الفقيه وسعه إلى منتهى الطاقة في بناء بيت هذا ليس اجتهاد شرعي .
الشرط الرابع : أن يكون طريقة التوصل إلى الحكم بطريق البحث واستفراغ الجهد .
الشرط الخامس : أن يكون ذلك عن طريق النظر في أدلة الشرع .
وجود المجتهدين في الأمة فرض كفائي قال الله تعالى " فلو نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين .."الآية فيجب في الأمة أن يكون هناك فرقة تسأل ويستنبط من قوله تعالى " فاسألوا أهل الذكر " بدلالة اللازم وجود أناس يُسألون .
مسألة : هل كل مجتهد في الفروع مصيب ؟ اختلف الناس وانقسموا إلى فريقين :
الفريق الأول : المصوِّبة : كل مجتهد عند الله مصيب .
الفريق الثاني : المخطئة : المصيب واحد وما عداه خطأ.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر " فجعل اجتهاد الحاكم بين الصواب والخطأ ويستحيل أن يكون لله في المسألة الواحدة حكمان كما أنه يستحيل أن يقال لون هذا أسود وأبيض معا فالراجح مذهب المخطئة .
(7/27)
فائدة : انتشر عند الناس أن الدين كمل بالمذاهب الأربعة والأئمة الأربعة ولا يجوز الاجتهاد بعدهم وهذا كلام خطأ فالحوادث لا تتناهى والنوازل كثيرة والشرع بقواعده العامة مصلح للزمان والمكان وفيه غنية لإلحاق ما نزل من خلال الاجتهاد لنظائر أو أشباه وتخريج على مسائل أو استنباط من خلال الدلالات بالطريقة المعتبرة عند أهل العلم فالقول ببطلان الاجتهاد وانتهائه كأن باعثه القول بعصمة أولئك ولما انتشر هذا القول جمد الناس على قول الأقدمين وكم استغربت لما قرأت في فيض الباري شرح صحيح البخاري للكشميري أن مفتي قازان في روسيا أفتى الناس بحرمة استخدام الأسلحة النارية وقال سقطت روسيا في يد الشيوعيين لما شاعت هذه الفتوى في الناس .
مسألة : الاجتهاد لا ينقض الاجتهاد : لو أن فقيها رجع عن قوله إلى قول آخر فيبقى القول السابق قول معتد به معتبرا كما قضى عمر في الجد والجدة في الميراث فأقواله محفوظة والعلماء يعتبرون القول الأول والثاني ولذا رجح النووي في مقدمة المجموع عدة مسائل أفتى بها الشافعي في القديم .
وبهذا ينتهي شرح متن الورقات ولله الحمد والمنة
(7/28)
العام :
قال إمام الحرمين : * و أما العام : فهو ما عم شيئين فصاعدا من قولك : عممت زيدا وعمرا بالعطاء وعممت جميع الناس بالعطاء .
وألفاظه أربعة : الاسم الواحد المعرف باللام واسم الجمع المعرف بالألف واللام والأسماء المبهمة مثل " من " فيمن يعقل و " ما " فيما لا يعقل و " أي " في الجميع و " أين " في المكان و " متى " في الزمان و "ما " في الاستفهام و الخبر وغيره و "لا " في النكرات كقولك " لا رجل في الدار " .
و العموم من صفات النطق ولا تجوز دعوى العموم في غيره من الفعل وما يجري مجراه .*
قال الشيخ مشهور حفظه الله : جل الأحكام الثابتة في الكتاب إنما ثبتت بنصوص عامة و بالاستقراء وجدنا أن أغلب النصوص العامة قد استثنيت ولذا من قواعدهم الأصولية ما من عام إلا وقد خصص .
والعام والخاص من المباحث المشتركة بين الكتاب و السنة وذلك مثل مباحث الأمر و النهي والفرق بينهما أن الأمر و النهي يستنبط من عبارة أو لفظ و أما العموم و الخصوص يستنبط من صيغ وضعها علماء الأصول فمبحث العام و الخاص ليس مبحث النظر في اللفظ و النظر في المعنى ولازم المعنى والعلة والشيء الذي ينبغي أن يقدر ومنطوق النص ودلالة النص ولكن يؤخذ من الصيغ .
التعريف المذكور عند الماتن للعام إنما هو تعريف لغوي ؛ فعم الشيء أي شمله والشمول هو جوهر العموم(أي الشمول دفعة واحدة ) والشمول ينبغي أن يكون لشيئين فصاعدا وأما الواحد لاداعي للشمول فيه ، ونفهم من تعريف الماتن أن أقل الجمع اثنان عنده .
مسألة : ما هو أقل الجمع ؟
فيها قولان : الأول : أن أقل الجمع اثنان
الثاني : أن أقل الجمع ثلاثة
ويستدل على القول الأول بجملة من النصوص :
(8/1)
قوله تعالى : " إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما " فدلت الآية بإشارتها على أن أقل الجمع اثنان لأن الله قال إن تتوبا بصيغة التثنية ثم قال قلوبكما بصيغة الجمع و المراد بالقلوب قلوب التائبَين السابقين فلازم هذا المعنى أن القلوب تستعمل للاثنين وهي صيغة جمع فإذا أقل الجمع اثنان .
قوله تعالى :" فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون " فالخطاب لاثنين ( موسى وهارون ) وقال معكم وهي صيغة جمع .
قوله تعالى : " عسى الله أن يأتيني بهم جميعا" فيعقوب عليه السلام عنى يوسف و أخيه ثم قال بهم جميعا بصيغة الجمع .
قوله تعالى في قصة الخصمين مع داود " وهل أتاك نبؤا الخصمين إذ تسوروا المحراب " فهما اثنان وقال تسوروا بصيغة الجمع .
قوله تعالى في داود وسليمان " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ….وكنا لحكمهم شاهدين " فهما اثنان وقال لحكمهم بصيغة الجمع .
وهناك حديث يستدلون به على هذه المسألة وهو " اثنان فما فوقهما جماعة " قال ابن حجر : جاء هذا الحديث من حديث أبي موسى الأشعري وأبي أمامة الباهلي و أنس بن مالك وورد من حديث عمروا بن شعيب عن أبيه عن جده و أسانيده كلها ضعيفة .
أهمل الماتن تعريف العام في الاصطلاح ومن أحسن التعاريف التي ذكرت هو :
العام : اللفظ الدال على استغراق جميع الأفراد بحسب وضع واحد التي يصدق عليها معناه دفعة واحدة دون حصر .
في هذا التعريف أربعة أركان وهي :
اللفظ الدال على استغراق جميع الأفراد : مثال ؛ رجل معه عشرة دنانير فلو أنه تصدق بسبعة أو ثمانية أو تسعة دنانير لا يجوز له أن يقول تصدقت بالمال الذي معي أو يقول تصدقت بجميع مالي أو بكل مالي .
بحسب وضع واحد : أن يكون هذا اللفظ موضوع لمعنى واحد في اللغة وليس لمعان متعددة و أما اللفظ الموضوع لعدة معاني يسمى لفظ مشترك :
(8/2)
مثال : العين مفرد فيه ( ال ) من ألفاظ العموم لكن العين لم يوضع لغة على معنى واحد إنما وضع على معانٍ متعددة فإن جاء في سياق فهذا مشترك فما لم تقيد العين بالإضافة لا تكون من ألفاظ العموم لأن المعاني التي تنطبق على العين مشتركة ومتفاوتة ومتباعدة ويشترط في ألفاظ العموم أن تكون المعاني كلها مشتركة من جنس واحد ، فالعين في العربية تطلق على الذهب وعين الماء و العضو و الجاسوس ولذا إذا أردنا أن نقول عين ونجعله لفظا عاما لا بد أن نستخدم الإضافة نحو فقأت عيون جميع الناس فهذا اللفظ يصبح عاما ؛ فمثلا رجل له خمس عيون ماء فقلت خربت عيون ماءه جميعا هذا يدل على العموم أما إذا قلنا ( اعتديت على العين ) العين معلومة ومحصورة في معان مشتركة ولكن ما في عموم العين هذه أصبحت محتملة فلا تدل على العموم .
يصدق عليها معناه دفعة واحدة :
فالعموم صيغة تدل على استغراق جميع الأفراد والتي ينطبق عليها ذلك المعنى دفعة واحدة فمثلا : يقول الله تعالى " قد أفلح المؤمنون " المؤمنون جمع محلى بالألف و اللام فهو من ألفاظ العموم والمؤمنون وضع لمعنى واحد فهو يستغرق جميع الأفراد والتي ينطبق عليها معناه دفعة واحدة دون حصر أو استثناء وعلى هذا فالحكم الذي أسند إلى هذا اللفظ العام ثابت لكل فرد من أفراده بخصوصه وليس ثابتا للمجموع من حيث هو مجموع ؛ فالعموم يشمل أفراده دفعة واحدة ولذا يصح الاستثناء فمثلا كلمة الطلاب لفظ عام فيصح أن نقول " نجح الطلاب إلا زيد " فاللفظ العام يشمل جميع أفراده بالشمول و الاستغراق لا بالتناوب و البدل .
مسألة : الفرق بين العام والمطلق :
المطلق : هو المتناول لواحد لا بعينه باعتبار حقيقة شاملة لجنسه ( هذا ليس من كلام الشيخ وإنما أوخذ من روضة الناظر ) فيدل على العموم البدلي أو التناوبي لا العموم الشمولي الاستغراقي .
(8/3)
مثال : رجل معه عشرة دنانير ( 1،2،3، ….، 10) وقلنا أنفق دينارا ؛ كلمة دينار مطلق فأخذ أي دينارا من هذه الدنانير فأنفقه تبرأ ذمته وذلك لأن شمول الإطلاق لهذه العشرة ليست دفعة واحدة وإنما تشمل كل دينار بالتناوب .
مثال آخر : رجل عنده خمسة من الرقاب وحلف يمينا أو ظاهر وكفارته إعتاق رقبة " فتحرير رقبة " الآية رقبة لفظ مطلق فأي رقبة أخذ يجزأ ولو قيل أعتق الرقاب التي عندك لوجب عليه أن يعتق كل الرقاب التي عنده وما جاز له أن يستثني منها أحدا لأن دلالة العام على أفراده دلالة شمول و استغراق ودلالة الإطلاق على أفراده دلالة بدل وتناوب أي هذا بدل هذا .
دون حصر : فإذا حصرت بتثنية أو عدد فهذا لا يكون عاما فمثلا : رجل عنده مئات الألوف فتصدق بخمسة آلاف فلا يجوز أن نقول تصدق بجميع ماله لأن العام يجب أن يشمل جميع الأفراد دفعة واحدة دون حصر .
ألفاظ العموم :
من الملاحظات على الماتن :
أنه لم يذكر جميع ما ذكره الأصوليون من ألفاظ العموم مثل : ( كل ، جميع ، المفرد المعرف بالإضافة ، والجمع المعرف بالإضافة ، النكرة في سياق النفي والنهي والشرط ) .
قول الماتن " الأسماء المبهمة كمن فيمن يعقل " لو قال فيمن يعلم لكان أحسن وذلك لأن الله جل في علاه أطلق على نفسه بمن في قوله" ولئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض ليقولن الله " والله لا يوصف بالعاقل وحاشاه أن يوصف بذلك وإنما يقال يعلم حتى يدخل لفظ الجلالة وهو من ألفاظ العموم .
ثم قوله فيمن يعقل هذا على التغليب فقد ذكرت من في القرآن وأطلقت على غير من يعلم وعلى غير من يعقل كقوله عز وجل " ومنهم من يمشي على أربع " وهذا عن الدواب وكذلك ( ما ) فيما لا يعقل وسواء قلنا فيما لا يعقل أو فيما لا يعلم فلا يوجد مشكلة وكذلك ما تكون على الغالب فيما لا يعقل فقد ذكرت في القرآن على العاقل كقوله تعالى "ولا تنكحوا ما نكح آبائكم"
فما أطلقت على النساء .
(8/4)
أما قوله " أي في الجميع " فنقول تصويباً على ما قدمنا أي فيمن يعلم وفيما لا يعلم أو فيمن يعلم وفيما لا يعقل ؛ لأن الله عز وجل أطلق على نفسه بأي فقال" قل أي شيء أكبر شهادة قل الله "
أما ألفاظ العموم فهي :
1- الاسم الواحد المعرف بالألف و اللام : الألف واللام إما تكون للعهد و إما للاستغراق فإن كانت للعهد فهي ليست من ألفاظ العموم وإن كانت للاستغراق فهي من ألفاظ العموم ؛ والألف و اللام التي للعهد تعرف إما باللفظ من خلال السياق أو ما سميناه في درس مضى الحقيقة التركيبية و إما تعرف بالذهن والقرائن :
مثال :قال الله تعالى " كما أرسلنا إلى فرعون رسولا ؛ فعصى فرعون الرسول ؛ " الرسول مفرد ومعرف بالألف و اللام ولكن ليست من ألفاظ العموم لأن فرعون عصى موسى ففهمنا من السياق أن الألف و اللام للعهد وليست للاستغراق .
مثال آخر : قال النبي صلى الله عليه وسلم " استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه " هنا البول اسم مفرد معرف بالألف واللام ولكن ليست من ألفاظ العموم لأن الألف واللام للعهد وفهمنا ذلك بشيء ذهني بالنظر إلى سائر الأدلة فعلمنا أن ليس كل بول نجس مثل بول ما يؤكل لحمه فالبول المقصود في الحديث شيء خاص معهود لنا وليس كل بول .
(8/5)
مسألة : الحقائق ثلاثة أقسام يرتبها الجمهور من الأقوى إلى الأضعف فيقولون : الحقيقة الشرعية ثم العرفية ثم اللغوية و أما الأحناف فيقولون : الشرعية ثم اللغوية ثم العرفية ؛ ويترتب على هذا الخلاف فوائد فقهية : مثلا : رجل مسلم أعجمي قال لزوجته " أنتَ طالق " بلفظ التذكير فعن الجمهور تطلق لأنهم يقدمون العرف على اللغة وعند الحنفية لا تطلق لأنهم يقدمون اللغة على العرف . الآن نقول قد يكون الاسم المفرد الذي قبله الألف و اللام قد يفهم العموم منه لكن يتعارض عندنا العموم الذي هو الحقيقة اللغوية مع الحقيقة الشرعية فيكون الشرع قد نقل هذا الاصطلاح بعينه من معناه اللغوي العام إلى معناه المعهود فتصبح عندنا قرينة أن الألف و اللام لا تكون للعموم اللغوي و إنما تكون للعهد .
مثال : ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الصلاة :" تحريمها التكبير و تحليلها التسليم " والتكبير والتسليم من ألفاظ العموم لأنهما اسمان دخل عليهما الألف و اللام ؛ والتكبير يشمل : الله أكبر ، الله كبير ، الله أعظم وهذا بالحقيقة اللغوية ولكن الشرع نقل هذه الحقيقة اللغوية المحضة إلى حقيقة شرعية فأصبح التكبير يراد به على وجه الحصر بالله أكبر ، وكذلك التسليم يشمل : سلام عليكم ، عليك السلام ، سلام على قوم مؤمنين ولكن الشرع نقل هذه الحقيقة اللغوية إلى شرعية فأصبح التسليم محصورا بالسلام عليكم .
فكأننا نقول أن الألف واللام في التكبير و التسليم كأنها أصبحت للعهد وليست للاستغراق ولذا لا يدخل في الصلاة إلا بلفظ الله أكبر و لا يخرج منها إلا بلفظ السلام عليكم .
(8/6)
ثم مثل الماتن على أن الاسم الواحد المعرف بالألف واللام من ألفاظ العموم بقوله تعالى " و العصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات .." الآية فالإنسان اسم مفرد عرف بالألف و اللام فهو من ألفاظ العموم وتأكد ذلك بالاستثناء " إلا الذين آمنوا " فلو لم يكن الإنسان للعموم لما أفاد الاستثناء الحصر ولكان الكلام معيبا وكلام الله ينزه عن هذا .
وكذلك من الأمثلة على هذا النوع : السارق و السارقة و الزاني و الزانية .
2- المفرد المعرف بالإضافة : من أمثلة ذلك : قوله تعالى " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم …." الآية أمر : مفرد وهو مضاف والهاء مضاف إليه يعود على محمد صلى الله عليه وسلم فهذا يشمل كل من خالف أمر من أوامر النبي عليه السلام فأمره من ألفاظ العموم ، مثال آخر : قوله تعالى " و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " نعمة : مفرد وهو مضاف و أضيف إلى لفظ الجلالة فهي عامة تشمل جميع النعم المادية والمعنوية .
مثال آخر : قول النبي صلى الله عليه وسلم " هو الطهور ماءه الحل ميتته " فالميتة مفرد مضاف و الهاء مضاف إليه فكل ميتة من البحر حلال وكل ماء من البحر طهور .
3-كل ،جميع : كل أقوى من جميع :
كل :يفيد هذا اللفظ عموم أفراد ما أضيف إليه فلفظ كل يأتي مضاف والذي بعده مضاف إليه ولملازمة الإضافة للفظ كل فإن هذا اللفظ لا يدخل إلا على الأسماء ويضاف كل إلى العقلاء و إلى غير العقلاء .
ومن الفوائد كذلك أن النكرة إذا أضيفت إلى كل أفادت عموم الأفراد و أن المعرفة إذا أضيفت إلى كل أفادت جميع الأجزاء .
مثال : " كل نفس ذائقة الموت " ، " كل نفس بما كسبت رهينة " ، " كلَ يعمل على شاكلته " الآيات ؛ فأضيفت كل إلى نكرات ( نفس في الآية الأولى والثانية وتقدير كلمة أحد عوضا عن التنوين ) فأفادت عموم الأفراد .
(8/7)
مثال : قرأت كل الكتاب ؛ الكتاب معرفة فأفادت جميع الأجزاء فلا نقول قرأت عموم أفراد الكتاب بل قرأت جميع الأجزاء .
فلفظ كل من الصيغ الظاهرة جدا من ألفاظ العموم في أصل وضعها اللغوي فمثلا قال الله تعالى " الله خالق كل شيء " وقال " كل نفس ذائقة الموت " فكل شيء يشمل كل شيء مخلوق مربوب
ولفظ جميع كذلك هي من الألفاظ الظاهرة ولكن كل أقوى منها .
تفيد لفظة جميع بأن الحكم يتعلق بالمجموع من حيث هو مجموع .
هناك ثلاثة أنواع للعموم :
عام مؤكد : وهذا عندما ينضم لفظان عامان مع بعضهما فمثلا ( حيث ، أين ، ما ) من ألفاظ العموم فقد تأتي ما مقترنة مع ( أين وحيث ) مثل : أينما تكونوا فهذا عام مؤكد أي أكد لفظ عام بلفظ عام آخر ومثل : كلهم أجمعون ومثل : كلما.
عموم نصي ( نص في العموم ) مثل لفظ كل .
ظاهر في العموم : مثل لفظ جميع ؛ والعموم النصي أقوى من الذي ظاهره العموم .
4-النكرة في سياق النفي و النهي و الشرط هذا ظاهر في العموم وإذا جاءت هذه النكرة مسبوقة بحرف مِن كانت نصا في العموم مثل قوله تعالى " ما لكم من إله غيره " وقوله تعالى " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها "
النكرة تدلل على فرد مبهم فإذا وقعت في موضع فيه نهي أو نفي انسحب عليه حكم النفي ولزم ذلك عقلا العموم ؛النكرة تدلل عل أي فرد من الأفراد ( مشاع ) يسبقها نفي أو نهي أو شرط فلزم من هاتين المقدمتين عقلا العموم وذلك أن العقل يحكم أن انتفاء الفرد المبهم لا يتحقق إلا بانتفاء جميع الأفراد .
[ الأمثلة على أن النكرة في سياق النفي للعموم ]:
قوله تعالى " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " يشمل كل نفس ( نفس : نكرة ، لا:نافية)
قوله تعالى " و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد .. " بشر : نكرة ، وما : نافية فإذاً كل من ينطبق عليه اسم البشر لا بد أن يموت .
قوله تعالى " لا جناح عليكم … "
(8/8)
قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم " امرأة : نكرة و لا: نافية وهذا حكم يشمل كل امرأة صغيرة ،كبيرة ،جميلة ، قبيحة، لها زوج ، ليس لها زوج وهكذا .
قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع " العبد نكرة ولا نافية فكل من كان عبدا مكلفا فإنه يوم القيامة لا بد أن يسأل عن هذه الأسئلة الأربع .
وكذلك قد يكون النفي بغير حرف ( لا ) مثل : لن ، ما ، ليس . ومن أمثلة ذلك قول الله عز وجل " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " لن : أقوى صيغة من صيغ النفي تسمى نفي التأبيد ، سبيل : نكرة و لن : نفي فلا يكون للكافرين على المؤمنين سبيلا وقد استنبط بعض الفقهاء من هذه الآية حرمة الخدمة المهانة من قبل المسلم للكافر كأن يعمل عبدا ذليلا أو يعمل عملا حقيرا فهذا العمل يجعل للكافر سبيلا على المسلم .
وقوله تعالى : " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " ليس نافية و سلطان نكرة ؛ فكل سلطان للشيطان منفي عن عباد الله على من تحققت فيهم عبودية الله .
[الأمثلة على أن النكرة في سياق النهي من ألفاظ العموم ]:
قوله تعالى " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا " لا : ناهية ، أحد : نكرة فتشمل كل واحد من المنافقين بذاته وعينه فلا يصلي عليهم .
[ الأمثلة على أن النكرة في سياق الشرط ] :
قوله تعالى " وإن يروا آية يعرضوا عنها ويقولوا سحر مستمر " آية نكرة في سياق الشرط فتشمل كل آية فالكفار يعرضوا عن كل آية لذا صدق من قال من السلف ( من لم يتعظ بالموت ومن لم يتعظ بالقرآن لو أن الجبال قامت وتناطحت بين يديه فلن يتعظ بشيء "
وقوله تعالى " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و إلى الرسول " شيء نكرة جاءت في سياق الشرط فتفيد العموم ؛ أي سواء كان هذا الشيء جليلا أو دقيقا أو عظيما أو حقيرا فيجب رده إلى الله والرسول عند التنازع .
(8/9)
[ النكرة في سياق الامتنان ]
اختلف العلماء في النكرة في سياق الامتنان هل هي من ألفاظ العموم أم لا ؟
فمثلا: قول الله عز ودجل " جعل لكم من أنفسكم أزواجا " أزواج : نكرة جاءت في سياق الامتنان فبعض الأصوليون قالوا هي من ألفاظ العموم فحصر الأزواج في كونهم من الأنفس فلما تكون من ألفاظ العموم وحصر هذا العموم فقط في أن تكون من الأنفس فهذا يقوي منع زواج الإنسي من الجنية وهذا هو الراجح من حيث المسألة .
وقال الله تعالى " و أنزلنا من السماء ماء طهورا " ماء نكرة في سياق الامتنان فكل ماء نزل من السماء فهو طاهر .
5 – الجمع المعرف بالألف و اللام الاستغراقية أو الإضافة فالجمع المعرف بالألف و اللام العهدية ليست من ألفاظ العموم .
مثال : لو أن رجلا وضع أمامه طعاما و شرابا فأكله كله فقيل له ماذا أكلت قال : أكلت الطعام وشربت الشراب هنا الألف و اللام في الطعام و الشراب للعهد فليس المقصود أنه أكل كل الطعام الذي في الدنيا ولكن الطعام الذي كان أمامه .
من أمثلة الجمع المعرف بالألف و اللام الإستغراقية : قوله تعالى " والمؤمنون و المؤمنات .. "
ومن أمثلة الجمع المعرف بالإضافة قوله تعالى " خذ من أموالهم " أموال مضاف و الضمير مضاف إليه .
الجمع النكرة ليس من ألفاظ العموم مثل :" رأيت طلابا "فهذا ليس عاما
6-اسم الجمع المعرف بالألف واللام : اسم الجمع : ما ليس له واحد من لفظه ومعناه معا
مثلا : طلاب مفردها طالب من لفظه ومعناه ولكن إبل لا واحد له من لفظه وإنما له واحد من معناه فهذا اسم جمع .
اسم جنس جمعي : هذا الذي يكون مفرده بإضافة ياء النسبة أو التاء المربوطة مثل شجر مفردها شجرة ، تفاح مفردها تفاحة ، عرب مفردها عربي .
اسم الجنس : ما ليس له واحد مثل الناس
7-الألفاظ التالية [ معاشر ، كافة ، عامة ، سائر ] :
معاشر : مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم " نحن معاشر الأنبياء لا نورث "
(8/10)
كافة : مثل قوله تعالى " وما أرسلناك إلا كافة للناس "
عامة : مثل : عامة الطلاب يقرؤون .
سائر : فيها تفصيل : أصل كلمة سائر " سَوَرَ " فإن كانت مأخوذة من السور الذي يحيط بكل شيء فحينئذ تكون أصالة مستخدمة للعموم مثل : أكرم سائر العلماء وإن كانت سائر مأخوذة من السؤر بمعنى ما تبقى في الكأس من الماء فهي ليست للعموم مثل : أعط المتفوقين جائزة و أما سائر الطلبة فلا تعطهم شيئا . و السياق يرجح أحد المعنيين .
8- الأسماء المبهمة :
معنى الإبهام : أن ( من ، ما ) تحتاج إلى صلة تبين المراد منها فإن حذفت الصلة تصبح أسماء مبهمة أي غير معروف وغير معينة فمثلا : لو قلت : أتاني من . ثم سكت تفهم أني أوتيت ولكن لا تفهم من جاءني ويحتاج ( من ) إلى صلة حتى يفهم المراد فلو قلت " أتاني من أحب " نفهم المراد لذلك سميت بالأسماء المبهمة .
ومن الأسماء المبهمة :
أولا: أسماء الشرط [ من ،ما ، حيث ، أين ] ؛ اسم الشرط أي يكون عندنا شرط ويكون جزاء مرتب على الفعل المشروط فمثلا : ( من جاءني أكرمته ) فالإكرام مشروط بالمجيء .
- أين الشرطية : مثل ( أين تذهب أذهب )هنا الصيغة كصيغة العموم ولا يشوش كون الجواب على الصيغة أنها ليست للعموم فإن قلت لك أين تذهب ؟ فأين هذه تدلل على ألفاظ العموم فأي جواب أجبته يكون صالحا فأنت تجيب بمكان معين ولولا أن أين للعموم لما صلح المكان المعين أن يكون جوابا على السؤال .
أمثلة على صيغة ( من ) : قوله تعالى " فمن شهد منكم الشهر فليصمه "
وقوله تعالى " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم "
وقوله تعالى" من يعمل سوءا يجز به "
فمن في هذه الأمثلة تتناول كل الأفراد ولا نخرج أحدا إ لا بدليل خاص .
أين موضوعة أصالة لعموم الأمكنة وكذلك إذا كانت أين مقترنة بما كقوله تعالى " أينما تكونوا يدرككم الموت "
(8/11)
ما الشرطية : من الأمثلة عليها :قوله تعالى" وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه " فكل ما يصدر من الإنسان من أفعال الخير فإن الله يعلمه وإن صاحبه يجده وينتفع به ولا نخرج شيئا إلا بدليل خاص .
حيث موضوعة أصالة لعموم الأمكنة و كذلك إذا اقترنت بما مثل قوله تعالى " وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره "
أي كذلك لعموم المكان
ثانيا : أسماء الاستفهام :
لو قلت أين تذهب ؟ هذا للاستفهام فأي جواب أجبت يصلح لأين فيصلح الجواب بأي مكان أو زمان .
أسماء الاستفهام { من ، ما ، أين ، أي ، متى }
من الأمثلة على ذلك : قوله تعالى " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " هنا من للاستفهام وتشمل جميع الأفراد وكذلك قوله تعالى " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " وهذا يشمل جميع الشافعين .
ثالثا : الأسماء الموصولة : وهي { من ، ما ، الذي ، التي ، اللذين ، اللاتي ، اللائي ، اللواتي } وهذه كلها تفيد العموم .
من الأمثلة : قوله تعالى " ألم تر أن الله يسجد له من في السموات والأرض " أي يسجد له الذي في السموات و الأرض فمن هذه تشمل كل عبد في السموات و الأرض .
وقوله تعالى " ما عندكم ينفد وما عند الله باق " وقوله تعالى" إن الذين يأكلون أموال اليتامى إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا " فالذين تشمل كل من يأكل ولا يجوز الأكل إلا بدليل خاص .
وقوله تعالى " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " فكل من يموت وله زوجة يجب الاعتداد سواء كانت زوجته صغيرة أو كبيرة أو كان غائبا عشر سنين فمات وهو في غيبته فيجب أو كان مريضا عليها الاعتداد لعموم الآية حتى قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : [ وقد أجمع أهل العلم على أن غير المدخول بها إن مات زوجها فيجب عليها العدة للعموم ] .
(8/12)
وقوله تعالى " واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن " وقوله تعالى " واللائي يأسن من المحيض فعتهن ثلاثة أشهر " فاللاتي من ألفاظ العموم تشمل كل ناشز وكذلك اللائي تشمل كل امرأة على الصفة المذكورة في الآية .
ملاحظة أولى : اليائسة من المحيض هي التي ليست من ذوات الحيض كأن تكون صغيرة أو أن تكون مسنة قد يأست وانقطع الدم عنها فحينئذ تنتقل عدتها من الحيضات إلى الأشهر ، وهذه الآية دلت بإشارتها على جواز نكاح الصغيرة لأن الله رتب لها عدة .
ملاحظة ثانية : أن ( من ) إذا كانت استفهامية أو شرطية فهي عامة و أما إذا كانت موصولة فهي عامة ولكن ليست دائما فعمومها وهي موصولة أضعف من عمومها وهي شرطية أو استفهامية فقد تقع (من ) موصولة في سياق تكون الصلة فيها معهودة كالألف و اللام للعهد فقد تكون الصلة معهودة وقد تكون عامة وذلك مثل قوله تعالى : " ومنهم من ينظر إليك " هذه الآية في ناس معهودين معلومين من المنافقين فليست هذه من للعموم ومثل قوله تعالى " ومنهم من يستمع إليك " فمن هنا كذلك معهودة بقوم معينين وهم المنافقين .
ملاحظة ثالثة : يشترط في (ما) حتى تكون عامة أن تكون شرطية أو استفهامية أو معرفة لتدل على العموم وأما إذا كانت نكرة فإنها لا تدل على العموم فمثلا : ( اشتريت ما أعجبك ) فهذه ما هنا بمعنى شيء أي اشتريت شيئا أعجبك فهي نكرة لا تدل على العموم فإذا كانت (ما ) مضافة فتحتاج أن تكون معرفة وإلا تكون نكرة فإذا كانت نكرة لا تدلل على العموم لأن النكرة في سياق الإثبات لا تعم ، وما لما تكون نكرة في سياق الإثبات [ اشتريت ما أعجبك ] فحينئذ لا تدلل على العموم .
ملاحظة رابعة : ( ما ) قد تأتي مع ( أي ) فيتقوى العموم كقوله تعالى : " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا … " الآية فأي مع ما عموم مؤكد .
(8/13)
ملاحظة خامسة : الأصل في الشريعة أنها وضعت للعموم وليست للخصوص ولذا إخراج الفرد وهو التخصيص من اللفظ العام يحتاج إلى دليل خاص ، فالنص الذي خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم هو خطاب لأمته ، وخطاب الشرع للرجال يدخل فيه النساء تبعا ومن الأدلة على أن النساء يدخلن في خطاب الرجال أولا: قول النبي صلى الله عليه وسلم " النساء شقائق الرجال "
ثانيا : إجماع أهل اللغة على تغليب الذكور على الإناث في الجمع فإن اجتمع الذكور مع الإناث فإن الرجال يغلبون ، ثالثا: العرف الشرعي يدلل على ذلك فقال عن مريم " وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين " فالقانتين جمع مذكر سالم وقوله تعالى " قلنا اهبطوا منها جميعا " ومن بين هؤلاء حواء .
ملاحظة سادسة : العام يعرف من المنطوق لا من المفهوم .
قال الماتن: والعموم من صفات النطق …الخ
العموم من صفات النطق أي يستفاد من المنطوق وهو صيغ معينة فمدار الاستفادة من العموم إنما هو اللفظ لا المعنى فاللفظ الذي يشمل أكثر من معنيين جملة واحدة لا بلفظه وإنما بمعناه فهو ليس من ألفاظ العموم مثل العين تدل على أكثر من معنى ( العضو ، الذهب ، عين الماء ، الجاسوس ) وهذه ليست من ألفاظ العموم لأن العموم هنا يستفاد من المعنى وليس من اللفظ .
قال الماتن أن الفعل لا عموم له : المراد بالفعل هنا فعل النبي صلى الله عليه وسلم
سنة النبي صلى الله عليه وسلم إما قول أو فعل أو تقرير فأما قوله فيعرض إذا كان من صيغ العموم أم لا .
المسألة : هل يستفاد من فعل النبي صلى الله عليه وسلم العموم ؟
(8/14)
جمع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر وهذا فعل ، وكلمة سفر مفرد محلى بالألف و اللام الاستغراقية لكن ليست كلمة السفر من قول النبي هي ممن حكى فعله فهل يجوز أن يستنبط من أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في السفر أنه يجوز الجمع في السفر الطويل والقصير وسفر الطاعة و المعصية ونجعل كلمة السفر الواردة في فعله من كلام الراوي لا من كلامه صلى الله عليه وسلم أن نجعلها من ألفاظ العموم ؟ الجواب : لا ؛ ولذا قال الماتن لأن العموم مأخوذ من المنطوق فإنه لا يجري في المعاني .
وأما قول الراوي جمع الرسول صلى الله عليه وسلم في السفر هذا ينقل معنى ، لكن لو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : السفر قطعة من عذاب " فالسفر هنا من ألفاظ العموم فيشمل كل سفر و أما السفر الذي لم يقله النبي وإنما الذي حكى الراوي قصره أو جمعه فيه لا يشمل كل سفر .وكذلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة فعلها بحالة معينة فالحالة التي فعلها بقيودها وشروطها يستنبط منها بهذه الشروط فإذا أردنا أن نجردها عن هذه الشروط نحتاج إلى دليل خاص فلا يستفاد من فعل النبي العموم .
أما قول الماتن : وما يجري مجراه نحو القضاء .
فمثلا : قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة للجار . الجار من ألفاظ العموم ولكن ليس كل مايسمى جار يقضى له بالشفعة وذلك لأن الأصل في العموم أنه من عوارض الألفاظ وأنه من صفات النطق وليس من صفات المعاني و لا تعلق له بالمعاني .
مسألة : هل للمفاهيم عموم ؟
وذلك أن الأصل في العموم أنه للمنطوق و أنه من عوارض الألفاظ ؛ من العلماء من يرى أن للمفهوم عموم ومنهم من لا يرى ذلك والصواب العموم و أن العموم إنما هو راجع إلى معنى المنطوق لا إلى لفظه .
العمومة له أقسام من حيث الاستعمال :
قد يكون العموم مطلقا
قد يكون العموم مقيدا
قد يكون اللفظ العام عاما من وجه وخاصا من وجه وهذا يسمى العموم الوجهي
(8/15)
مثال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا دخل أحدكم المسجد فليصل ركعتين " هنا إذا شرطية وهي للعموم فكل داخل للمسجد ينبغي أن يصلي ركعتين قبل أن يجلس ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس " لا نافية و صلاة نكرة فهذا نكرة في سياق النفي فيفيد العموم : هنا تعارض عموم مع عموم عندنا عموم يشمل جميع الأوقات وعموم يشمل جميع الصلوات فتعارضت صلاة بعينها مع وقت بعينه فأي النصين نسلط بعضه على بعض وهذا التسليط فيه نوع إعمال واجتهاد ونظر .
فالشافعية والحنابلة يقولون : الصلاة التي لها سبب تصلى في وقت الكراهة كصلاة تحية المسجد وسنة الوضوء و الاستخارة .
والحنفية و المالكية يقولون : أن الصلاة التي لها سبب والتي ليس لها سبب قد قضى الشرع بالكراهة فلا تصلى أبدا .
هنا لما يعارض عموم عموما آخر نحتاج إلى القرائن ، فمثلا ورد حديث " يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف في البيت أو صلى في أي ساعة من ساعات الليل أو النهار " هذا يدل على أنه يجوز الصلاة في أي ساعة فيمن دخل البيت ولذا استنبط بعض العلماء من هذا الحديث فجعله قرينة لتقوية الصلاة في وقت الكراهة .
قال بعض العلماء : العمومان تعارضا لذا تساقطا فاحتجنا لدليل آخر فلم نجد دليلا آخر إلا أن واحدا منهم يبيح والآخر يحرم فنقدم الحاظر على المبيح فخرج من هذا نتيجة أن لا نصلي .
وتسليط العموم على العموم يقوى ويضعف بحسب القرائن ولذا قال الشوكاني في نيل الأوطار : وأنا أتوقف في هذه المسألة وإن كان القلب يميل بقوة إلى ما مذهب الشافعي و أحمد من خلال النظر إلى نظائر المسائل و أشباهها
الخاص :
* قال الماتن رحمه الله :الخاص : يقابل العام والتخصيص تمييز بعض الجملة وهو ينقسم إلى متصل و منفصل ؛ فالمتصل :الاستثناء والتقييد بالشرط و التقييد بالصفة .
(8/16)
والاستثناء: إخراج ما لولاه لدخل في الكلام ، وإنما يصح بشرط أن يبقى من المستثنى منه شيء ومن شرطه أن يكون متصلا بالكلام .
ويجوز تقديم الاستثناء على المستثنى منه ويجوز الاستثناء من الجنس ومن غيره .
والشرط : يجوز أن يتأخر عن المشروط ويجوز أن يتقدم عن المشروط .
والمقيد بالصفة يحمل عليه المطلق كالرقبة قيدت بالإيمان في بعض المواضع وأطلقت في بعض المواضع فيحمل المطلق على المقيد .
ويجوز تخصيص الكتاب بالكتاب وتخصيص الكتاب بالسنة وتخصيص السنة بالكتاب وتخصيص السنة بالسنة وتخصيص النطق بالقياس ؛ ونعني بالنطق قول الله سبحانه وتعالى وقول الرسول صلى الله عليه وسلم . *
قال الشيخ مشهور حفظه الله :
العام يقابله الخاص إذ أن الخاص خلاف العام فالعام ما عم اثنين فصاعدا ، فالخاص مالا يعم شيئين فصاعدا .
دلالة العام هي العموم ودلالة الخاص هي الخصوص .
قلنا في دروس ماضية أن العام أقسام : عام مطلق ، عام من وجه دون وجه ، والعام المخصوص .
وقلنا العام المطلق أي المطلق عن القرائن المخصصة والمطلق عن نفي التخصيص فهو الذي لم يصحبه دليل ينفي تخصيصه وينفي إرادة العموم منه .
العلماء متفقون فيما بينهم أن العام المطلق يشمل جميع أفراده التي ينطبق عليها معناه دون حصر وهو حجة في جميع الأفراد ،ويقولون الحكم الثابت لهذا العام ثابت لكل فرد من أفراده بخصوصه دون حصر واستثناء ويجب بالتالي إجراء العام على عمومه والعمل به ما لم يقم دليل على تخصيصه بمعنى أن العام حجة يشمل جميع الأفراد .
ثم اتفق الأصوليون على أنه بالنظر إلى استخدام الشرع للنصوص أن الشريعة جاءت بكليات ومجملات وأمور عامة وهذه الأمور التي جاءت بها الشريعة قد يراد بها الشمول والعموم إن أطلقت وقد يراد بها التخصيص أي قد يراد بها بعض ما يتناوله هذا اللفظ من أفراد وتكون بعض الأفراد قد خرجت بدليل مستقل .
(8/17)
وقد وقع التخصيص في نصوص الكتاب والسنة على وجه كثير حتى قالوا في أمثلتهم ما من عام إلا وقد خصص قالوا : لا نعرف عاما في القرآن إلا وله تخصيص إذن التخصيص في النصوص كثير .
العام يدل على سائر أفراده دلالة قطعية يقينية لكن لطروء عرف الشرع في الاستعمال ( العام ) وكثرت وجود المخصصات مما جعل جماهير أهل العلم يقولون إن دلالة العام على سائر أفراده دلالة ظنية وليست بدلالة قطعية والحنفية يقدمون الحقيقة اللغوية على العرفية خلاف الجمهور
إذن دلالة العام عند الحنفية دلالة قطعية وعند الجماهير دلالة ظنية وذلك مبني على تقديم الحقيقة العرفية على اللغوية أو العكس إذ الحقيقة اللغوية هو أن دلالة العام قطعية و العرفية أن دلالة العام ظنية .
العجيب أن عبارة ( ما من عام إلا وقد خصص ) ذكر على أنه أثر فمثلا الشاطبي رحمه الله قال في كتابه الموافقات أن ابن عباس قال : ليس في القرآن عام إلا مخصص إلا قوله تعالى " والله بكل شيء عليم " وهذا الكلام ليس بصحيح .
غالوا في التخصيص حتى قول الله تعالى " الله خالق كل شيء " وهذا لفظ عام ،قالوا : هذه مخصصة فقول الله تعالى" قل أي شيء أكبر شهادة قل الله " فالله أطلق على نفسه شيء وهذه لا تدخل تحت قوله تعالى " الله خالق كل شيء " .
وقالوا أيضا أن الله عز وجل يقول " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء " استدل فرقة المعتزلة :بهذه الآية أن القرآن شيء ( لم يوح إليه شيء ) وعليه فالقرآن مخلوق ؛فردوا عليهم أن قوله تعالى " ولم يوح إليه شيء " هذه شيء كشيء في قوله تعالى " قل أي شيء أكبر شهادة … " فقولكم في هذه الآية الأخيرة قولنا في تلك الآية .
(8/18)
الحقيقة أن عرف الشرع أكثر من استخدام العموم والاحتجاج بالعموم ولكن لا يجوز لنا بأي حال من الأحوال أن نعطل دلالة العموم على سائر أفراده ولا يجوز لنا كذلك ألا يكون اللفظ العام حجة حتى نبحث له عن مخصص فاللفظ العام حجة فإن وجدنا المخصص خصصناه و إن لم نجد المخصص بقي على حاله .
هنالك كلام بديع جدا لشيخ الإسلام أومأ فيه إلى الطعن في أثر ابن عباس ولم ينسبه إليه فقال في
مجموع الفتاوى ج: 6 ص: 441 – 442
وأما من سلم أن العموم ثابت وانه حجة وقال هو ضعيف أو اكثر العمومات مخصوصة وانه ما من عموم محفوظ إلا كلمة أو كلمات فيقال له أولا : هذا سؤال لا توجيه له فان هذا القدر الذي ذكرته لا يخلو إما أن يكون مانعا من الاستدلال بالعموم أو لا يكون فان كان مانعا فهو مذهب منكرى العموم من الواقفة والمخصصة [ الذين يتوقفون في حجية العموم وهذا مذهب الضلال أو الذين لا يعتبرون للعموم حجة أصالة وهذا ليس بمرضي ]وهو مذهب سخيف لم ينتسب إليه وان لم يكن مانعا من الاستدلال [ أي كثرة وجود العموم لا يمنع من الاستدلال بالعموم ] فهذا كلام ضائع غايته أن يقال دلالة العموم اضعف من غيره من الظواهر وهذا لا يقر فانه ما لم يقم الدليل المخصص وجب العمل بالعام ثم يقال له ثانيا :من الذي سلم لكم أن العموم المجرد الذي لم يظهر له مخصص دليل ضعيف أم من الذي سلم أن اكثر العمومات مخصوصة أم من الذي يقول ما من عموم إلا قد خص إلا قوله بكل شئ عليم فان هذا الكلام وان كان قد يطلقه بعض السادات من المتفقهة وقد يوجد في كلام بعض المتكلمين في أصول الفقه فانه من أكذب الكلام وأفسده والظن بمن قاله أولا :أنه إنما عنى أن العموم من لفظ كل شيء مخصوص إلا في مواضع قليلة كما قوله تدمر كل شيء وأوتيت من كل شيء فتحنا عليهم أبواب كل شيء و إلا فأي عاقل يدعى هذا في جميع صيغ العموم في الكتاب والسنة وفى سائر كتب الله وكلام أنبيائه وسائر كلام الأمم عربهم وعجمهم .
(8/19)
انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله
والشاهد من هذا النقل أن ما من عام إلا وقد خصص ليس من الأثر في شيء والعلماء غالوا في هذه العبارة وإن وقع كثرة التخصيص في النصوص فإن العام يبقى على حجيته وليست كثرة التخصيص على هذا النحو من المبالغة بحيث يقال لم يبق من عموم الكتاب و السنة إلا كلمة أو كلمات وإنما هناك عموم كثير وهذا لا يعارض ما قررنا .
اتفق العلماء أن العام إذا خصص بدليل خاص فدلالة العام على ما بقي من أفراده دلالة ظنية و ليست قطعية أي عندنا نص عام وجاء نص يخصص هذا العام فتبقى دلالة العام على سائر أفراده دلالة ظنية ، وعليه فدلالة العام المطلق على سائر أفراده أقوى من دلالة العام المخصص مع القول بأن الجماهير يقولون أن دلالة العام المطلق ظنية ويوافقون الحنفية على أن دلالة العام المخصص ظنية .
ووقع خلاف على دلالة العام المطلق على شمول أفراده فالحنفية يقولون قطعية إعمالا للمنطق اللغوي و أن الحقيقة اللغوية للفظ العام ثابتة به قطعا وبمجرد الاحتمال العقلي لوجود المخصص فلا يؤثر ذلك في دلالة العام على سائر أفراده بينما ذهب جماهير الأصوليين إلى أن دلالة العام المطلق على سائر أفراده دلالة ظنية وقالوا أن استعمال الشرع لهذا اللفظ كثير وثبت كثرة المخصصات وهي قرينة قوية أورثت شبهة واحتمالات في كل نص عام في أن الشرع أراد بعضا من أفراده وليس جميع أفراده .
علماء الحنفية يقولون في كتبهم : العام حجة قطعية على كل أفراده تناولا وحكما ، ويقولون : العام بين في نفسه صريح في مدلوله لا يفتقر إلى دليل يبين المراد منه .
أما الجمهور فمن عباراتهم التي يكثر دورانها في كتبهم يقولون : العام ظاهر في العموم وليس صريحا أو قطعي الدلالة عليه ، ويقولون : العام حجة ظنية على ما يتناوله من أفراده ، ويقولون: العام ليس بينا في نفسه بل هو مفتقر إلى بيان المراد منه .
والآن نقرر ما يلي :
(8/20)
لا ثمرة من الخلاف في مدى قوة دلالة العام التشريعية قبل وجود المخصص فعلا أما عند وجود المخصص فهنا تظهر الثمرة يعني إن بقي عندنا عام مطلق فدلالته على أفراده حجة عند الجميع ولا ثمرة من هذا الخلاف ولا تظهر الثمرة إلا عند وجود المخصص .
العام حجة والخاص حجة والخاص أقوى من العام وهذا أيضا أمر متفق عليه .
الخاص يعرفه علماء الأصول بقولهم : قصر العام على بعض ما يتناوله بدليل مطلقا . الدليل المطلق يعني : سواء كان الدليل متصل أو منفصل ، ظني أو قطعي .
وعليه فالجماهير يقولون أنه لا يوجد تعارض أصلا بين العام والخاص ( لما يأتينا عام وخاص لا تعارض بينهما ) لأن الظني لا يعارض القطعي ( دلالة الخاص قطعية ) ويقولون التخصيص هو مجرد تفسير للعام .
تفصيلا لما قال الجماهير : حيث يتوارد العام و الخاص كان العام مرادا به الخاص في القدر المشترك بينهما ولا يجعلون تعارضا بينهما لذا موضوع القطع و الظن في الدلالة لا كبير أثر لها عند الجمهور خلافا للحنفية و الجماهير يتوسعون في إعمال قاعدة الإعمال مقدم على الإهمال والحنفية يجمدون هذه القاعدة في أمور كثيرة وذلك لأن عندهم الظن لا يقوى على معارضة القطع وبالتالي متى تعارض القطع مع الظن نهمل الظن لازم هذا أن الإعمال عندهم ليس بواسع .
هناك قواعد تقضي بالإهمال وهي قائمة على فلسفة العام و الخاص وموقع كل واحد منهما من الآخر ، فالحنفية يقولون : العام قطعي و الخاص قطعي فهما أصالة متعارضان ولذا إن جاء الظني مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب " يعارض قول الله عز وجل " فاقرءوا ما تيسر منه " فيهدرون الظني فهم لا يقولون بركنية الفاتحة بل هي واجبة عندهم من تركها تسقط الصلاة من ذمته مع الإثم .
مثال : قال الله عز وجل " فاقرءوا ما تيسر منه " ما هنا عامة
(8/21)
المراد به الفاتحة أصالة ثم الزيادة عليها لكن الفاتحة من المعاني المشتركة بين الحديث و الآية ولكن عند الحنفية الآية و الحديث متعارضان و الحديث لا يقوى على تخصيص العام لأنه ظني فهم يكثرون من الإهمال والأصل كما ذكرنا الإعمال مقدم على الإهمال .
هناك ثلاثة شروط للمخصص عند الحنفية :
أن يكون مستقلا أو أن يكون جملة تامة أو أن يؤخذ منه حكم بذاته ولا يكون جزءا من الكلام .
الماتن يقول : التخصيص ينقسم إلى متصل ومنفصل و المتصل بالاستثناء و والتقييد بالشرط و التقييد بالصفة .
الاستثناء و الصفة و الشرط عند الحنفية ليست مخصصات فلا يوجد عند الحنفية إلا المخصص المنفصل ويسمون هذه قصرا فيفرقون بين القصر و التخصيص ؛ فالصفة و الشرط و الاستثناء إن جاءت في سياق الكلام هذه ليست جملة تامة ولا يستنبط منها بمجردها حكم مستقل .
أن يكون مقارنا في زمن تشريعه أو تاريخ نزوله أو وروده أو صدوره وأن لا يكون متراخيا عنه فإذا تراخى عنه يسموه نسخا.
النسخ هو رفع حكم متقدم بنص متأخر .
(8/22)
قد يكون الرفع جزئيا ؛ الرفع الجزئي يسمى عند العلماء التخصيص أما الحنفية يفرقون بين النسخ الجزئي والتخصيص والثمرة من ذلك أن من شروط المخصص عند الحنفية أن يكون مقارنا في زمن التشريع أو في سبب النزول في الآية أو في سبب ورود الحديث فإن جاء متأخرا عنه وإن عارضه في بعض الوجود لا يقولون تخصيصا وإنما يقولون نسخا جزئيا ويترتب على ذلك إن قالوا تخصيص أصبح عام مخصص فإن صار عام مخصص أصبح ظنيا فإن أصبح ظنيا فالمخصص الظني يقوى عليه فهم حتى يحفظوا العموم وقطعية دلالة العموم قالوا هذا نسخ جزئي بمعنى أن سائر الأفراد عدا النسخ الجزئي يبقى عام مطلق ولا يسمونه عاما مخصصا وهذا أيضا يوسع في دائرة الإهمال عندهم ؛ فمثلا هناك نصين عام وخاص ولم نعرف تاريخ الورود يقولون يتساقطان وإن اضطررنا للترجيح فنرجح بقرائن ومقويات ومؤيدات وهذا أيضا يوسع دائرة الإهمال عندهم .
أن يكون مساويا للعام من حيث القطعية و الظنية .
لذا إذا أردنا أن نعرف التخصيص عند الحنفية فنقول : التخصيص : قصر العام المطلق على بعض أفراده بدليل مستقل مقارن مساو له من حيث القطعية أو الظنية .
مثال :قال الله عز وجل " وأحل الله البيع وحرم الربا "
البيع من ألفاظ العموم فيشمل كل ما يسمى بيعا والربا بيع لكن قال الله تعالى" وحرم الربا " هذا دليل مستقل له معنى بذاته ومقارن ومساو فالله أحل البيع إلا الربا فهو مخصص من البيع ؛ "حرم الربا " تخصيص لعموم البيع .
مثال : قال الله تعالى " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " من : من ألفاظ العموم لأنها شرطية وقال الله تعالى في نفس الآية " فمن كان مريضا أم على سفر فعدة من أيام أخر " فهذا تخصيص لعموم من فهو دليل مستقل مقارن مساو .فهذا تخصيص عند الحنفية والجمهور .
(8/23)
مثال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " ما سقت السماء ففيه العشر " هذا الحديث الأول وقال " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" وهذا الحديث الثاني . الحديث الأول عام والثاني عام كذلك ولا نعرف أيهما قبل الآخر :
فالجمهور يقولون : الحديث الثاني (ليس فيما دون … ) تخصيص لعموم الحديث الأول ويسلطون الثاني على عموم الأول ويقولون : أصالة المراد من قوله ( ما سقت السماء … ) هو القدر المشترك ما بين النصين الذي هو الخمسة فأكثر أما الأقل فليس فيه زكاة .
أما الحنفية فيقولون : تعارضا تساقطا ما لم نعلم تاريخ الصدور أو الورود أو النزول أو عندنا مرجح ، ولو نظرنا في كتبهم لقالوا : عموم ما سقت السماء ولا ينظرون إلى الخمسة أوسق إعمالا لمصلحة الفقير واحتياطا للذمة و لم يعملوا على تسليط الثاني على الأول لأن شروط التخصيص لم تكتمل ( فتوفر شرطان هما جملة مستقلة و المساواة والشرط الذي تخلف المقارنة ) .
الخاص يقابل العام والتخصيص تمييز بعض الجملة وهو ينقسم إلى متصل ومنفصل ؛ و المتصل يعني يكون في أثناء الكلام ويتصور أن يكون في المجلس نفسه مثلا أو أن يكون له صلة بالكلام نفسه :
مثلا :قال الله تعالى " فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس " يسمى هذا استثناء ، المستثنى منه مخصوص خص من عموم كلهم وخص من عموم أجمعون ؛ ومما ينبغي أن نعرفه أن من أهم المخصصات عند الجماهير هو الاستثناء وأنه أوضحها وله أحكام كثيرة وقد ألف الإمام القرافي (المتوفى سنة 682 هجري ) كتابا بديعا سماه [ الاستغناء في أحكام الاستثناء ] كاد أن يستوعب فيه جميع الآيات وجميع التفريعات على موضوع الاستثناء وهو مطبوع في العراق في ( 790 ) صفحة .
(8/24)
ومما يكثر ذكره في الاستثناء عبارة ما ينبغي أن لا نهملها ونحن نتكلم عن الاستثناء يقول الأصوليون : الاستثناء معيار العموم . أي أن اللفظ إذا كان يصح أن يستثنى منه فهذه دلالة على أنه عام فلما نقول ( لا رجل في الدار ) هذا عام ثم نقول ( إلا خالدا ) فلولا أن كلمة ( رجل ) من ألفاظ العموم لما جاز لك الاستثناء ولكان قولك ( إلا خالدا ) حشوا لا فائدة منه .
ذكر الماتن أنواع المخصصات المتصلة وهي الاستثناء و التقييد بالشرط و التقييد بالصفة .
أما الشرط : قد يأتي بإن و إذا ومن …الخ ( من جاءني أكرمته ) وهكذا وقد لفظ عام ثم يأتي التخصيص من خلال ذكر شرط ؛
مثلا : أكرم طلبة العلم إن حفظوا القرآن : طلبة العلم لفظ عام فخصص الإكرام لطلبة العلم بشرط حفظهم للقرآن وهذا مخصص متصل بالسياق و اللفظ .
الشرط أقسام والمراد بالشرط هنا الشرط اللغوي المحض وليس الشرط الذي يتصور من خلال السياق أو من خلال الحس أو من خلال العقل أو من خلال الشرع ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " المسلمون عند شروطهم " هذا شرط شرعي يسمى ولا نريده هنا .
واشرط يجوز أن يتأخر عن المشروط ويجوز أن يتقدم عليه فمثلا نقول ( أكرم العالم إن جاءك ) ويجوز أن نقول ( إن جاءك العالم فأكرمه ) .
أما الصفة :فهي تخصص بعض أفراد العموم فمثلا نقول ( اقرأ الكتب ) هذا لفظ عام يعني جميع الكتب الضارة و النافعة و الشرعية وغير الشرعية ..الخ لكن لو زدنا صفة عليها فهي تخصص هذا العموم كأن تقول ( اقرأ الكتب النافعة ) هنا خصصنا الكتب النافعة و أخرجنا الضارة .
والصفة هنا تشمل النعت و الحال وعطف البيان كما هو مقرر في كتب النحو ؛ فمثلا لو قلنا ( أكرم أبا محمد ) وعندنا أكثر من واحد يلقب بأبي محمد ومنهم رجل اسمه نبيل فنقول ( أكرم أبا محمد نبيلا ) هذا يسمى عطف بيان بقولنا هذا خرج الباقون ممن يلقب بأبي محمد .
(8/25)
وكذلك لو كانت الصفة شبه جملة كأن تقول ( اقرأ الكتب كل يوم أو في كل صباح ) هذا مقيد بالصفة .
وكذلك مما ينبغي قوله أن أكثر ما يظهر التقييد بالصفة في المطلق وليس في العام والأصوليون يفرقون بين المطلق و العام وجعلوا التقييد بالصفة من مباحث المطلق والمقيد وليس من مباحث العموم و التخصيص؛ فمثلا : ( فتحرير رقبة مؤمنة ) مؤمنة صفة لرقبة هذا تقييد وليس تخصيص.
أما الاستثناء :يصح الاستثناء بشرط أن يبقى من المستثنى منه شيء حتى يكون عندنا تخصيص فإن أردنا أن نخرج بعض الأفراد لا بد أن يبقى أفراد أخرى لم تخرج ومن شرط الاستثناء أن يكون متصلا بالكلام أي بالنطق لأن الاستثناء من المخصصات المتصلة و المراد الاتصال بالنطق يعني أن يكون معه أو ما يفهم أنه معه فلو قطع بينهما بسعال أو ما شابه بوقت قليل فهذا لا يخرجه أن يكون متصلا ، وكذلك يجوز تقديم الاستثناء على المستثنى منه :
مثال : أكرم العلماء إلا زيدا ؛ ولك أن تقول أكرم إلا زيدا العلماء.
وكذلك يجوز الاستثناء من الجنس ومن غيره كقول الله عز وجل " فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس " فإبليس ليس من الملائكة فالمستثنى منه ليس من جنس المستثنى .
وقع خلاف شديد بين الأصوليين في أنه يجوز الاستثناء من غير الجنس أم لا ولكن قول جماهيرهم وهذا الذي جزم به في الورقات ولم يذكر غيره وكذلك الذي رجحه في سائر كتبه إمام الحرمين أنه يجوز الاستثناء من الجنس ومن غيره ؛ أما من الجنس كأن تقول ( أكرم الطلبة إلا فلانا ) وهو من الطلبة .
لا يوجد عند الحنفية تخصيصات متصلة ويسمون التخصيص بالشرط والصفة و الاستثناء قصرا .
التخصيصات المنفصلة : أي ما كان مستقلا بكلام آخر فإذا كان في جملة أخرى من حيث الإنشاء أو الدليل الذي دل عليه العموم فهذا الذي يسمى الدليل المنفصل أو الاستثناء المنفصل .
(8/26)
الحنفية يتشددون في التخصيص ويشترطون شروطا ثلاثة كما أسلفنا مما يجعلهم يعملون بالإلغاء لما يخالف الآحاد الظني ( الأحاديث ) العام القطعي ( نصوص القرآن ) ولذا يسمي العلماءُ الحنفيةَ أهل الرأي واعتمادهم على الأحاديث ولا سيما النصوص الظنية ضعيف .
و قلنا من شروطهم أن يكون المخصص مستقلا أما المتصل فيسمونه قصرا ، والوضع اللغوي يساعد على هذه التسمية ولذا أغلب المخصصات هي في حقيقة أمرها منفصلة وليست متصلة والذي ينظر في الشرط أو الصفة في الاتصال يجد أن القول بالقصر أو بالتخصيص إنما هي أمور اصطلاحية والاختلاف إنما يدور مع أحكام التخصيص في المنفصل وليس في المتصل ،
الشاطبي يميل إلى أن الاستثناء المتصل إنما هو من المخصصات ولكن الخلاف في الاصطلاح
قال الشاطبي في كتابه الموافقات " فإن كان بالمتصل كالاستثناء والصفة والغاية وبدل البعض وأشباه ذلك فليس في الحقيقة بإخراج لشيء بل هو بيان لقصد المتكلم في عموم اللفظ أن لا يتوهم السامع ما قصد وهو ينظر إلى قول سيبويه زيد الأحمر ثم من كزيد وحده ثم وبيان ذلك أن زيدا الأحمر هو الاسم المعرف به مدلول زيد بالنسبة إلى قصد المتكلم كما كان الموصول مع صلته هو الاسم لا أحدهما وهكذا إذا قلت الرجل الخياط فعرفه السامع فهو مرادف لزيد فإذا المجموع هو الدال ويظهر ذلك في الاستثناء إذا قلت عشرة إلا ثلاثة فإنه مرادف لقولك سبعة فكأنه وضع آخر عرض حالة التركيب وإذا كان كذلك فلا تخصيص في محصول الحكم لا لفظا ولا قصدا ولا يصح أن يقال إنه مجازا أيضا لحصول الفرق ثم أهل العربية يفرقون بين قولك ما رأيت أسد يفترس الأبطال وقولك ما رأيت رجلا شجاعا وأن الأول مجاز والثاني حقيقة والرجوع في هذا إليهم لا إلى ما يصوره العقل في مناحي الكلام. انتهى كلام الشاطبي
(8/27)
يريد أن يقول الشاطبي من خلال هذا الترجيح أن بعض الألفاظ قد يفهم منها التخصيص بغير المخصصات اللفظية وإنما من خلال التركيب ( الكلمة لها معنى بإفرادها ومعنى في التركيب ) فأحيانا يستلزم حسا وعقلا و إعمالا للعربية ولعرف المتكلم التخصيص من خلال مقصد المتكلم و إن لم يقع تخصيص بالمخصصات المذكورة عند الأصوليون .
والعام يعرف من خلال النطق فلو أن رجلا قال : والله لأضربن من في الدار ، وهذا من ألفاظ العموم ، فهل يخطر ببال أحد إن ضرب جميع من في الدار ولم يضرب نفسه هل يخطر في بال أحد أنه يريد نفسه فاستثناء نفسه وقع من مقصد المتكلم ولم يقع بأي نوع من أنواع المخصصات اللفظية لا المتصلة ولا المنفصلة ، ولذا من المخصصات : قصد المتكلم ، الكلام التركيبي ، العرف
إذن الاستثناء و الشرط و الصفة هذه كلها ليست من التخصيص الذي ينبني عليه كبير ثمرة ولذا الحنفية أراحوا أنفسهم و أخرجوه من التخصيص أصالة .
المخصصات المنفصلة :
أولا : تخصيص الكتاب بالكتاب :
مثلا : " المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " المطلقات لفظة عامة دلت الآية بمنطوقها أن كل مطلقة عليها العدة ( ثلاثة قروء ) لكن المطلقة غير المدخول بها خصصت بدليل منفصل وهو قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) فغير المدخول بها لا عدة عليها وأما المرأة التي عقد عليها ولم يدخل بها ومات زوجها فعليها العدة ( أربعة أشهر وعشرا ) لعموم الدليل " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " لم يخص المدخول بها عن غير المدخول بها
فعدة الطلاق خصصت أما عدة المتوفى عنها زوجها لم تخص وقوله تعالى " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " وهذا مخصص منفصل للمطلقة الحامل .
(8/28)
وقد قال علي رضي الله عنه وبعض العلماء أن عدة الحامل ابعد الأجلين : وضع الحمل أو ثلاثة قروء فإذا ولدت قبل الثلاثة قروء فعدتها ثلاثة قروء وإن وضعت بعد الثلاثة قروء فعدتها الوضع .
مثال آخر :قال الله تعالى " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " الزاني والزانية من ألفاظ العموم فيشمل كل زان وزانية من غير فرق ولا استثناء إلا ما خص بالآية التي خصت الإماء اللاتي أحصن وهي قولة تعالى " فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب " . الإحصان في القرآن له معاني وهي الحرائر ، الإسلام ، أن لا تكون المرأة بغيا .
مثال آخر : قوله تعالى " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " المشركات لفظ عام فتشمل كل مشركة فمن يقول أن عزيرا ابن الله ( وهم اليهود ) و أن المسيح ابن الله ( وهم النصارى ) مشرك بنص الكتاب فقال الله تعالى " وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ….إلى قوله تعالى : سبحانه عما يشركون " فتدخل الكتابيات في عموم المشركات وكذلك تدخل المجوسية و الوثنية و الدهرية ولكن جاءت آية تخص الكتابيات من هذا العموم وهي قوله تعالى" والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب "
فحكم نكاح الكتابية إن أحصنت إن لم تكن بغيا و إن حفظت فرجها وإن لم تفسد فراش زوجها فحكم نكاحها الحل ، لكن اليوم لا أرى لأحد أن يتزوج كتابية و أرى أن الزواج منها حلال ولكن من يتزوج من الكتابية بغربة الدين لن يسلم من إثم فاليوم يكون الرجل على هدى وتقي وطالب علم وزوجته كذلك وبالكاد يسلم له الأولاد فكيف لما تكون الزوجة فاجرة تلبس البنطال وأخواتها وإخوانها وخالاتها وغيرهم من الأقارب على فساد فالولد يتأثر ولذا النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذات الدين وأجاز الله نكاح الكتابية المحصنة أي العفيفة أما الكتابية غير العفيفة والتي شبع منها الرجل بالحرام لا يجوز له أن يتزوجها كما هو في ديار الغرب .
ثانيا : تخصيص الكتاب بالسنة : وهذا كثير
(8/29)
مثال : قال تعالى " يوصيكم الله في أولادكم … " الآية أولادكم لفظة عامة تشمل كل ولد
وجاء مخصص من السنة " لا يرث القاتل " وكذلك " لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم "
فالولد الذي يقتل والده لا يرث فخص من عموم الآية والولد الكافر لا يرث والده المسلم والعكس .
جاءت فاطمة رضي الله عنها لأبي بكر تطلب ميراث أبيها واحتجت بعموم قول الله تعالى " يوصيكم الله في أولادكم " وهذا دليل على أن العموم حجة فاستدل عليها أبو بكر بقوله سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " إنا معاشر الأنبياء لا نورث " هي ما بلغها إلا العموم فاحتجت به وهذا الأصل الاحتجاج بالعموم حتى برد المخصص وأبو بكر كان عنده مزيد علم وهو المخصص .
أبو حنيفة حمل " لا يرث المسلم الكافر " على أهل ملتين وقال يرث الولد والده الكتابي و العكس والمراد بالملة الكفر و أما جميع الأديان فهي ملة واحدة وشرط أبي حنيفة في التخصيص عسر والغريب ما قاله تلميذ ابن تيمية محمد بن عبد الهادي في العقود الدرية في ترجمة ابن تيمية قال : أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان في آخر حياته يميل في هذه المسألة إلى مذهب الحنفية وهذا أمر عجيب مع أن القواعد قاضية أن الآحاد يخصص القطعي ولا يشترط المساواة في القوة وهذه أصول ابن تيمية في عشرات المسائل .
ملاحظة : يقاد الولد بأبيه أي إن قتل الولد والده يقتل به أما إن قتل الوالد ولده لا يقتل به عند الجماهير إلا المالكية والجماهير لا يقتلون بناء على شبهة و الحدود و القصاص تدرأ بالشبهات وللوالد شبهة ملك بابنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أنت ومالك لأبيك " لفظ مطلق قيده قول الله تعالى " ولأبويه لكل واحد منهما السدس " فلو كان أنت ومالك لأبيك على إطلاقها لما كان هناك من معنى للآية السابقة فمعنى أنت ومالك لأبيك أي أن الأب يده مبسوطة في مال ابنه فيأخذ متى احتاج ومتى أضطر و الأصل في الابن و الأب أن يعيشا في مستوى واحد .
(8/30)
مثال : قال الله تعالى" حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتك وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما . والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم "
( ما ):من ألفاظ العموم لأنها موصولة أي أحل لكم الذي وراء المذكور وخص جمع المرأة مع عمتها أو مع خالتها في السنة ففي الصحيح " نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين المرأة وبين عمتها وبين المرأة وبين خالتها " وفي خارج الصحيح وقع التعليل فقال إنكم إن فعلتم ذلكم قطعتم أرحامكم . ولذا أنت لما تتزوج فلانة من الناس مالك أن تمنعها من خالتها أو عمتها وبنص الحديث أن الخالة والعمة رحم ولما يجتمع في عصمة الرجل العمة والخالة مع الزوجة فهذا مدعاة البغض و الكراهية وهذا يترتب عليه القطيعة .
مثال : قال الله تعالى " وآتوا حقه يوم حصاده " المفرد المضاف ( حقه ) أي حق الزرع من ألفاظ العموم فيشمل جميع الزرع ، فكل زرع له حق بغض النظر عن نوعية الزرع أو كميته وهذا مذهب أبي حنيفة وذكرنا سابقا كلامه لما تعارض العمومان عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم " فيما سقت السماء العشر " وعموم " ما دون خمسة أوسق ليس فيهن صدقة " فقال عمومان تعارضان لأننا لم نعرف التأريخ فتساقطا فرجح جانب الفقير ومصلحة الفقير من جهة والاحتياط في العبادات من جهة أخرى وإعمالا لعموم الآية .
قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض"
مما أي من الذي فهي موصولة من ألفاظ العموم فكل ما يخرج من الأرض بالعموم .
(8/31)
وآتوا حقه يوم حصاده والحديث " فيما " هذه أيضا عموم ، والحنفية يقولون : أن كل زرع بغض النظر عن نوعه وكميته تجب فيه الزكاة وقد يستثنون بعض الأنواع بقرائن ومؤيدات أخرى ليس لها صلة بمبحث العموم .
أما في الكمية فقول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " ولمعرفة الوسق كم هو بالنسبة لمقاييس عصرنا هناك بعض الكتب منها : الميزان في الأوزنة و المكيال لعلي مبارك باشا وكتاب تقدير المسافات لمحمود شكري الألوسي وهناك كتاب لعالم ألماني عرب وطبع في الجامعة الأردنية . فإذن عموم وآتوا حقه وعموم مما أخرجنا لكم من الأرض وعموم فيما سقت السماء العشر خصص بالحديث " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " وكذلك ورد حديث أخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن وإسناده صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل معاذا و أبا موسى الأشعري إلى اليمن فقال لهما : لا تأخذوا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة أي الشعير و الحنطة و الزبيب و التمر وورد آثار كثيرة من أشهرها ما أخرجه أبو عبيد عن ابن عمر وإسناده صحيح أنه أوجب الزكاة في نوعين من الثمار هما النخل و العنب فبالنظر إلى ما ورد في هذا الباب يكون العموم هنالك خصص في المقدار وخصص في النوع
وهذا مذهب أبي عبيد القاسم بن سلام وتلميذه ابن زنجويه كلاهما في كتاب الأموال قالوا : لا زكاة في الثمار إلا النخل و العنب ولا في الحبوب إلا في الشعير و الحنطة .
ثالثا : تخصيص السنة بالكتاب :
قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " صلاة من ألفاظ العموم لأنها مفرد مضاف فتشمل جميع حالات الصلاة وجميع أنواع الصلاة فالله لا يقبلها ما لم يتوضأ الإنسان خصص هذا العموم قوله تعالى " وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا " فيقبل الله الصلاة بالتيمم مع فقدان الماء .
(8/32)
فوائد:- لامستم النساء فيه قولان لأهل العلم الجماع و اللمس والراجح الجماع حتى يصح التنويع في الآية على جميع الصور فالمرض والسفر أنواع مختلفة والغائط حدث أصغر وحتى يصح التنويع فيجب أن تكون الملامسة حدث أكبر فيجب أن تكون بمعنى المجامعة وحتى لا يقع التكرار.
فلم تجدوا ماء : فيها عموم وذلك في كلمة تجدوا ؛ تجد فعل مضارع يشمل حدث وزمن حاضر وزمن مستقبل ويحمل في طياته فاعل نكرة فيكون المعنى بجميع أنواع الوجود فقد نجد الماء ولكن استخدامه يؤذي بسبب مرض أو يحول بيننا وبينه عدو أو سبع ؛ فالعموم هنا نكرة في سياق النفي والمراد بالنكرة هنا الفاعل المستور داخل فعل تجدوا ( العموم هو الوجدان سواء كان وجدان حسي أو وجدان معنوي ) .
فلم تجدوا ماء .. الآية خاصا من وجه ( تخصيص الحديث ) وعاما من وجه آخر .
رابعا : تخصيص السنة بالسنة :
مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم " فيما سقت السماء العشر " خص بقوله عليه الصلاة والسلام " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " .
خامسا : تخصيص النطق بالقياس :
المقصود بالقياس هنا القياس الواضح الجلي المنصوص على علته غير المختلف بها فإذا كان القياس صحيحا واضح العلة وتقع المماثلة الشرعية فحينئذ القياس يخصص عموم النطق (الكتاب والسنة)
(8/33)
مثال : قال الله تعالى " الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " هذا لفظ عام ( مفرد محلى بالألف و اللام ) وهذا العموم خص بقوله تعالى " فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب " قال ابن عباس : فإذا أحصن أي تزوجن والأمة إذا زنت عليها خمسون جلدة سواء كانت مسلمة أو كافرة والحكم المقرر عند جماهير أهل العلم أن الأمة إن زنت سواء كانت مسلمة أو كافرة عليها خمسون ، قال ابن كثير مع أن مفهوم الآية يقتضي انه لا حد على غير المحصنة ممن زنى من الإماء وقد اختلفت أجوبة العلماء عند ذلك فأما الجمهور فقالوا لا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم وقد وردت أحاديث عامة في إقامة الحد على الإماء ؛ المفهوم إذا أحصن والمنطوق من مثل ما أخرجه مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه قال : يا أيها الناس أقيموا الحد على إمائكم من أحصن منهن ومن لم يحصن فإن أمة لرسول الله زنت فأمرني رسول الله أن اجلدها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن جلدتها أن اقتلها فذكرت ذلك للنبي فقال أحسنت … الخ
الشاهد أن هذه الآية خصت عموم الزاني والزانية فالزانية الحرة البكر عليها مائة جلدة والأمة الزانية عليها خمسون جلدة والفرق بين الصورتين هو وجود الرق وهذا يسمى إلغاء الفارق ولما نضع احتمالات لعلل متعددات وتحصر العلة في أمر واحد ويضعف كون جميع الأمور الأخرى ليست هي العلة هذا يسمى تنقيح المناط فلما نلغي الفرق يحصل التطابق ومع وجود الفرق يحصل الاختلاف .
واختلف العلماء في هذا الأمر ، هل هو من ضمن المفهوم أو هو من ضمن القياس ؟ والراجح أنه من ضمن المفهوم ولذا يخصص عموم الكتاب و السنة بالمفهوم سواء كان مفهوم موافقة أو كان مفهوم مخالفة .
العبد إذا زنى عليه خمسون جلدة فخصصنا العبد من عموم الآية بالقياس على الأمة أو بالإلحاق بالأمة لأنه لا فرق بين الرجل و العبد إلا الرق فحصل التخصيص بالقياس أو بالمفهوم .
(8/34)
سادسا : تخصيص السنة العملية ( فعل النبي صلى الله عليه وسلم ) عموم القرآن :
مثال : قال الله عز وجل " ولا تقربوهن حتى يطهرن "
دل منطوق الآية على حرمة إتيان المرأة وهي الحائض ودل مفهوم الآية ( مفهوم الغاية) على حرمة قربانها إلى الطهر ودلت الآية بمفهوم المخالفة على جواز إتيان المرأة عندما تطهر من حيضها .
ولا تقربوهن : لا ناهية وهناك نكرة ولكنها مستورة موجودة في الفعل المضارع وهو فاعل نكرة مستور داخل الفعل المضارع ؛ معنى ذلك أنه يحرم على الرجل أن يقرب الحائض بجميع أنواع القربات ولكن ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر الواحدة منهن إن حاضت أن تتزر ثم يباشرها ففعل النبي صلى الله عليه وسلم خص عموم الآية .
مفهوم الموافقة : هو دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق لغير المنطوق للاشتراك في معنى يعرفه كل عارف باللغة .
مثال : "و لا تقل لهما أف " الآية دلت الآية بمنطوقها على حرمة قول " أف " ودلت بمفهومها على حرمة الشتم و الضرب وهذا يسمى دلالة الأولى وهو القسم الأول من أقسام مفهوم الموافقة
مثال : " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا .. " الآية فدلت بمنطوقها على حرمة أكل مال اليتيم وبمفهومها على إتلافه وهدره وإضاعته وهذا يسمى دلالة المساواة وهو القسم الثاني من أقسام مفهوم الموافقة .
مثال : قال النبي صلى الله عليه وسلم "ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته " يحل عرضه أي القدح فيه وشكواه للناس في المجالس وعقوبته أي سجنه ، لي الواجد معناه : إنسان عليه دين ويجد السداد ويماطل كما في حديث آخر " مطل الغني ظلم "
(8/35)
الواجد لفظ عام يشمل كل من كان واجدا أصالة فهو معني بذاته فيدخل الأب تحت هذا المعنى فيمكن أن يكون للابن دين على أبيه ويكون الأب واجدا وأما حديث " أنت ومالك لأبيك " فمعناه أن الأب يده مبسوطة في مال الابن له متى احتاج أن يأخذ وليس المعنى على ظاهره ولو كان الحديث على إطلاقه لكان قول الله تعالى " ولأبويه لكل واحد منهما السدس " لغوا ولا فائدة منه .
أخرج الأب بمفهوم الموافقة من قوله تعالى " ولا تقل لهما أف " فلا يجوز للابن إن كان أبوه واجدا وماطل شكايته أو عقوبته .
فائدة : ألف في حديث " أنت ومالك لأبيك " مصنفات منهم الإمام الشاب محمد بن عبد الهادي الذي توفي وعمره أربعين سنة وقالوا لو أن الله رزقه عمرا لكان كالدارقطني و المزي على فضله وسعة علمه ودرايته ولما كان المزي يجلس في مجالس ويشكل عليه راو يقول لمحمد بن عبد الهادي هل عندك حل لهذا الإشكال ؟ وكان يقول تاج الدين السبكي كنت أخرج من بيتي في الصباح وأذهب للمشايخ فلما كنت أرجع في المساء فيقول لي والدي ( تقي الدين السبكي وهو عالم كبير ) من أين فكنت أقول له من عند الذهبي ومن عند ابن القيم ومن عند ابن تيمية ولما كنت أقول له من عند المزي كان ينبسط ويقول ذلكم الشيخ ذلكم الشيخ .
مفهوم المخالفة : دلالة اللفظ على ثبوت نقيض حكم المنطوق لغير المنطوق . فمثلا إن علق الحكم للمنطوق بقيد معتبر شرعا من صفة أو شرط أو غاية فعندنا منطوق معلق بهذه الصفة فإذا سقطت هذه الصفة سقط الحكم وأصبح عندنا الحكم الذي يثبت على خلاف حكم المنطوق وهذا يسمى مفهوم المخالفة .
مثال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " الماء طهور لا ينجسه شيء " الماء لفظ عام وشيء لفظ عام لأنه نكرة في سياق النفي ؛ فمعنى ذلك أنه لا يوجد شيء مهما كان ينجس الماء ؛ لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث " يفهم من منطوق الحديث
(8/36)
(مفهوم الموافقة ) أن الماء إذا بلغ القلتين لا يحمل الخبث والقلتين خمس جرار من جرار أهل مكة تقريبا ثلاثمائة ونيف من اللترات ومفهوم المخالفة من هذا الحديث أن الماء إذا لم يبلغ القلتين حمل الخبث ونجسه فأصبح مفهوم المخالفة من قوله إذا بلغ القلتين يخصص عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم الماء طهور لا ينجسه شيء .
المطلق و المقيد
العام يشمل جميع الأفراد على وجه شمولي و المطلق يشمل أفراده على وجه تناوبي ؛ فلو أن رجلا عنده عشرة من الرقاب فقيل له أعتق رقبة فهذا مطلق يشمل كل رقبة على حده ولما يقال له أعتق الرقاب فلو أعتق تسعة ما أدى الذي عليه ؛فتناوب المطلق بدلي فأصالة نريد به فرد واحد أما العام نريد به أصالة الشمول .
لما نقول تخصيص العام فمقتضى تخصيص العام أن الفرد الذي قد خصص قد دخل في العام ثم أخرج منه ولما نقول حمل المطلق على المقيد فنحن نقول أن المطلق أصلا الذي قد أطلق والشرع لا يريده وما دخل أصالة هذا هو الفرق الجوهري بين المطلق وبين العام .
القاعدة التي نعرفها كما أن العام يبقى على عمومه وأن العام حجة ما لم يأت دليل مخصص فإن المطلق حجة ما لم يأت دليل مقيد فالعام على عمومه حجة والمطلق على إطلاقه حجة ولذا القاعدة العامة أن ما أطلقه الشرع نطلقه وما قيده الشرع نقيده .
مثال : قال الله تعالى " و السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " هنا الأيدي جاءت مطلقة فتشمل رؤوس الأصابع وتشمل الرسغ وتشمل المرفق وتشمل الذراع كله وتشمل اليد اليمنى واليسرى وجاءت السنة وقيدت هذا الإطلاق فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقطع إلا من مكان معين في اليد اليمنى مداومته صلى الله عليه وسلم على هذا العمل وفعله على هذا النحو هو المقدار الذي أوجبه الله من قوله " أيديهما " فأصبح هذا التقييد واجب و الأيدي ليست على إطلاقها وإنما قيدت بفعله .
(8/37)
مثال : قال الله تعالى :" وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم " هنا قيد اللاتي دخلتم بهن فالرجل يجوز له أن يتزوج ابنة المرأة التي عقد عليها ولم يدخل بها .
مسألة : لماذا نحمل المطلق على المقيد ولا نحمل المقيد على المطلق ؟
نحن نحمل المطلق على المقيد لأسباب أشهرها اثنان :
أولا : المطلق ساكت ليس فيه بيان والمقيد فيه بيان ونحن نحمل الساكت الذي ليس فيه بيان على الذي فيه بيان ولذا قلنا المطلق المقيد أصلا لما قيده الشرع ، الشرع لم يرده إلا مقيدا وهذا فرق جوهري بينه وبين التخصيص .
ثانيا : أننا إن لم نحمل المطلق على المقيد نكون قد أهدرنا القيد ويكون القيد الذي ذكره الشرع لا فائدة منه والأصل أن يصان كلام العقلاء عن الهدر وعن عدم الفائدة ثم لما نحمل المطلق على المقيد فيه إعمال لجميع الأدلة فإن المطلق لا يراد إلا وهو مقيد فلو أهدرنا القيد وأعملنا المطلق نكون قد أهملنا دليلا ، لذا نستطيع أن نقول أن قاعدة الإعمال أولى من الإهمال تدخل فيها قواعد كثيرة جدا ومن ضمن القواعد التي تدخل تحتها هذه القاعدة وما اجدر هذه القاعدة بالتصنيف والجمع وذكر الفروع التي تحتها .
قال أبو عبيدة حفظه الله : مدار كلام العلماء على الإطلاق والتقييد إنما هو من حيثيتين وهاتان الحيثيتان قد تلتقيان وقد تفترقان فتصبح على مبدأ الإحتمالات أربعة صور ، والحيثيتان التي يركب عليها التقيد وعدمه في حمل المطلق والمقيد هو الحكم والسبب ؛ الحكم الذي جاء في النص والسبب الذي ورد النص من اجله :
الحالة الأولى :أن يتحد الحكم والسبب معا ؛في هذه الحالة يجب حمل المطلق على المقيد اتفاقا .
الحالة الثانية : أن لا يتحد الحكم و لا يتحد السبب ؛ في هذه الحالة لا يجوز حمل المطلق على المقيد اتفاقا .
الحالة الثالثة : أن يختلف الحكم ويتحد السبب .
الحالة الرابعة : أن يتحد الحكم ويختلف السبب .
(8/38)
الصورتان الأخيرتان لا يوجد فيهما إجماع ولكن يوجد فيهما قول راجح وبه قال جماهير العلماء ، ومن مظنة اختلاف الحكم أن يكون القيد معتبرا ولذا ذهب جمهور علماء الأصول أن الحكم إذا اتفق واختلف السبب فيحمل المطلق على المقيد وإذا الشرع بين الأحكام فما خولف الحكم إلا لأن القيد معتبر وحينئذ في مثل صورة اختلاف الحكم واتفاق السبب لا يحمل المطلق على المقيد .
أمثلة على الحالة الأولى :1- قال الله تعالى " حرمت عليكم الميتة والدم " الدم هنا مطلق بجميع صور الدم ، ثم قال الله تعالى " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا " الدم هنا مقيد
الحكم في الآيتين هو حرمة أكل الدم ؛ في الآية الثانية يوجد حصر ولذا اعتمد الإمام مالك على هذه الآية وجعلها أصلا في تحريم المطعومات وما عداها أحله ولذا أوسع المذاهب على الإطلاق في المطعومات مذهب مالك الدم في الآية الأولى مطلق وفي الثانية مقيد والحكم في الآيتين متفق وهو حرمة أكل الدم والسبب في الآيتين متفق وهو التأذي من أكل الدم ولذا يجب حمل المطلق على المقيد بالإجماع ومعنى ذلك : أن الدم لا يكون حراما إلا إن كان مسفوحا .
لو بقي الدم على الإطلاق دون التقييد لأنه لكان يشمل الكبد والطحال ومعلوم أن أكلهما حلال وجاء الحديث الصريح " أحلت لنا ميتتان ودمان ؛ السمك والجراد والكبد والطحال "
فائدة : قد يجتمع في اللفظ الواحد عموم و إطلاق فالدم من حيث الشمول لجميع الأنواع هو عام ومن حيث صفة كون هذا الدم مسفوح أو غير مسفوح فهو مطلق .
2- الآية " فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه "
لفظ منه : من قال هي تبعيضية اشترط أن يكون هنالك غبار وهو كلام الشافعية ، ومن قال هي استئنافية لا يشترط الغبار في التيمم .
(8/39)
أيديكم :لفظ مطلق يشمل جميع أنواع اليد ؛ تشمل اليد للرسغ في التيمم وتشمل اليد للمرفق وهكذا ، وثبت في الصحيحين حديث عمار قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لما تمعك عمار وكان مع عمر فلم يجدوا ماء فتمعك عمار في التراب وذلك عندما كان في غزوة مع عمر فأصبح جنبا وهو يعلم التيمم و لم يستحضر صورته فتمعك في التراب فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فقال له " إنما يكفيك هكذا وضرب بكفيه الأرض ونفخ فيهما ومسح وجهه وكفيه " .
إذن لفظ أيديكم مطلقة في الآية وقيدها في الحديث ، الحكم في الحديث والآية متفق وهو وجوب الطهارة للصلاة أو وجوب مسح الوجه والكفين والسبب التيمم وبذلك يحمل المطلق على المقيد وجوبا بالإجماع .
فائدة : الماء على تقسيم الفقهاء ثلاثة أقسام هي : طاهر مطهر ، طاهر غير مطهر ، نجس .
بعض العلماء كالحنابلة يقولون يوجد ماء مستعمل والتراب كالماء فيقولون المتيمم أول ما يفعله ينوي ثم يبسمل ثم يضرب يديه بالتراب ويبدأ بالوجه ( يمسح الوجه برؤوس الأصابع ويترك البطن ) ثم يبدأ بالكفين باطن اليمنى على ظاهر اليسرى وباطن اليسرى على ظاهر اليمنى فإن فعلت هكذا لا يصبح التراب مستعملا هذا كلام الحنابلة وهو كلام ليس عليه دليل ولو كان صحيحا لقام المقتضى وفعل ونقل ولم يقع .
فائدة أخرى : الأحناف يقولون التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين للمرفقين ويستشكل في أننا قررنا اتفاق العلماء على وجوب حمل المطلق على المقيد عند اتحاد الحكم والسبب وهنا الأحناف يخالفون هذا الاتفاق .والجواب على ذلك أن الأحناف يستدلون على التيمم بحديث ضعيف وهو " التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين للمرفقين " ولا يستدلون بحديث عمار فهم قيدوا الآية بنص اتحد الحكم والسبب فيهما .
(8/40)
أمثلة على الحالة الثانية : قال الله تعالى " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " وقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق "
اليد في الآية الأولى مطلقة وفي الثانية مقيدة ، الحكم المستنبط من الآية الأولى وجوب قطع يد السارق ومن الثانية وجوب غسل اليدين في الوضوء إلى المرافق فالحكم مختلف ،وسبب القطع في الأولى هو السرقة وفي الثانية هو الوضوء ، إذن لا يجوز أن يحمل المطلق على المقيد لأن الحكم مختلف و السبب مختلف فلا يجوز أن نقيد القطع بآية الوضوء فلا يجوز القطع إلى المرفقين . لأن الحكم مختلف و السبب مختلف فلا يجوز أن نقيد القطع بآية الوضوء فلا يجوز القطع إلى المرفقين .
أمثلة على الحالة الثالثة : عند جماهير أهل العلم لا يحمل المطلق على المقيد إذا اختلف الحكم واتحد السبب لأن الحمل ضعيف دلنا على ذلك اختلاف الحكم فقد يكون اختلاف الحكم من العلة في الإطلاق و التقييد فما الشرع خالف الحكم في هاذين النصين إلا لأن الشرع يريد التقييد هنا ويريد الإطلاق هنا .
مثال 1: قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم و أيديكم إلى المرافق " وقال تعالى " فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه "
السبب في الآيتين واحد وهو إسقاط الحدث للصلاة ، في الآية الأولى قيدت اليد إلى المرافق وفي الثانية أطلقت والحكم مختلف في الأولى وجوب غسل اليدين في الوضوء وفي الثانية وجوب المسح في التيمم ، فمذهب الجماهير هنا لا يحمل المطلق على المقيد خلافا للحنفية فإنهم يحملون ، لذا فعندهم إذا صح الحديث أو لم يصح يحملون فلو نظرنا في أدلة الحنفية في صفة التيمم من المسح يقولون هذه صفة ثابتة في الكتاب اعتمادا على القاعدة .
(8/41)
وقول الجمهور ( عدم الحمل ) هو الراجح ويؤيد ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي بين أن الرسول لم يحمل وإنما اكتفى في التيمم بضربة إلى الرسغين .
مثال 2 :قال الله تعالى " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير . فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا " الرقبة هنا مطلقة ووقت أدائها مقيد ( من قبل أن يتماسا ) وصيام الشهرين مقيد بالتتابع ومن قبل التماس فمن لم يستطع فعليه الإطعام .
حكم الإطعام يختلف عن حكم الصيام فالإطعام غير الصيام والسبب متحد فعلى مذهب الحنفية ( حمل المطلق على المقيد عند اتحاد السبب واختلاف الحكم ) يشترطون التتابع في الإطعام ويشترطون الإطعام قبل التماس أما على مذهب الجمهور ( عدم حمل المطلق على المقيد عند اتحاد السبب واختلاف الحكم ) على المظاهر أن يطعم ستين مسكينا إن لم يستطع الصيام ولك أن تمس اهلك قبل الإطعام ولك أن تطعم بالتنجيم ( التفريق ) أي تطعم الستين دفعة واحدة متفرقين .
لو واحدا أطعم ستين وجبة يجزئه أم لا ؟ هنا يوجد خلاف ؛ الحنفية يرون التتابع ويقولون لو أطعمت ستين مرة واحدة يجزأ بناء على المطلق و المقيد . لذا إخواني لما نقرأ خلاف الفقهاء في المسائل ينبغي أن نعرف منشأ الخلاف وكيف جاء الخلاف وما هي قوة الخلاف وما القاعدة التي يتركب عليها الخلاف وما هي قوة القاعدة فحينئذ يصبح عندنا دربة وملكة .
إذن مذهب الجمهور : لا يجب في الإطعام التتابع ولا يجب أن يكون هذا الإطعام قبل أن يتماسا .
عندنا الآن تذنيب وتفريع :
" والذين يظاهرون منكم " الذين لفظ عام يشمل كل الناس تشمل الذكور و الإناث وقد قضى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة ظاهرت من زوجها تابعية بأن عليها كفارة .
الذمي خارج من هذا الخطاب بلفظ " منكم "
(8/42)
السؤال : هل هذا اللفظ يشمل العبيد ؟ أي لو أن عبدا ظاهر من زوجته هل عليه كفارة؟
قال صاحب أضواء البيان :" والذين يظاهرون من نسائهم "عام وعليه فهو داخل في عموم قوله " والذين يظاهرون " ولا يقدح في هذا ( يتكلم عن ظهار العبيد ) أن قوله فتحرير رقبة لا يتناوله لأنه مملوك لا يقدر على العتق لدخوله في قوله " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين " فالأظهر صحة ظهار العبد وانحسار كفارته في الصوم لعدم قدرته على العتق و الإطعام ، والذمي لا يصح ظهاره لأن الظهار منكر من القول وزور يكفره الله بالعتق و بالصوم وبالإطعام والكافر لا يكفر عنه العتق أو الصوم فبدلالة الأولى الكافر يقول منكر من القول وزور أشد من الظهار ( أمر يخص العقيدة ) .
ما معنى : ثم يعودون لما قالوا في الآية ؟ هل يشترط في الظهار أن يعاوده قائله مرتين، أي أن يقول ثم يقول فحينئذ يجب عليه الكفارة ؟ هذا قيد "والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا"لا بد من الظهار والعود أم ماذا ؟
والذين يظاهرون من نسائهم وهم يريدون أن يعودوا من مثل قوله تعالى " إذا قمتم إلى الصلاة " أي إذا أردتم القيام وكقوله " إذا قرأت القرآن " أي إذا أردت قراءة القرآن ،فمعنى الآية " ثم يعودون " أي ثم أرادوا أن يعودوا فيطئوا ويجعلوا الزوجات زوجات فالواجب عليهم كفارة فلا يشترط كما قال ابن حزم إعمالا لظاهريته لا يشترط في الظهار حتى تجب فيه الكفارة أن يكرر الرجل لفظ الظهار مرتين .
أمثلة على الحالة الرابعة : وهي اتحاد الحكم واختلاف السبب : وعلى قول الجمهور يحمل المطلق على المقيد
مثال 1 : قال الله تعالى " ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " الرقبة هنا مقيدة والحكم وجوب عتق رقبة والسبب قتل الخطأ ، وقال الله تعالى " فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا " الحكم وجوب عتق رقبة والسبب الظهار
(8/43)
فهنا اتحد الحكم واختلف السبب فعلى قول الجماهير في كفارة الظهار لا تجزأ إلا الرقبة المؤمنة حملا للمطلق على المقيد لأن الحكم اتفق في الحالتين وهذه القاعدة مختلف فيها والقول بالحمل هو مذهب الشافعية و الحنابلة وقد نصص عليها كثير من المالكية خلافا للحنفية .
مثال 2 : قال الله تعالى في الدين " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " ولفظ الشهيدين هنا مطلق والحكم وجوب شهادة رجلين والسبب هو الدين .
وقال الله تعالى في مراجعة الزوج زوجته لما يطلقها وهي في العدة " وأشهدوا ذوي عدل منكم " الحكم وجوب الشهادة والسبب إرجاع المطلقة ،فاتحد الحكم واختلف السبب فحينئذ يجب حمل المطلق على المقيد فلا يجوز شهادة الدين إلا أن يكونا رجلين عدلين ، وحرر هذه المسألة وفصل فيها الإمام ابن القيم في كتابه الطرق الحكمية .
(8/44)
فائدة:صلة العام بفعل السلف :
عبر الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات بعبارات فيها تمهيد لكي يؤسس ويقعّد أنه لا ينبغي أن يكون هناك عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبر عن ذلك بعبارات متعددة فقال : كل ما جاء مخالفا لما عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه وقال لا يوجد فرقة من الفرق الضالة ولا أحدا من المختلفين في الأحكام الفرعية و الأصولية يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر الأدلة ثم قال : المطلق إذا وقع العمل به على وجه لم يكن حجة في غيره ثم قال :ما سكت عنه في الشريعة على وجهين : أحدهما أن تكون مظنة العمل به موجودة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يشرع له أمر زائد على ما مضى فيه فلا سبيل إلى مخالفته لأن تركهم لما عمل به هؤلاء مضاد له فمن استلحقه صار مخالفا للسنة حسبما تبين في كتاب المقاصد والثاني أن لا توجد مظنة العمل به ثم توجد فيشرع له أمر زائد يلائم تصرفات الشرع في مثله وهي المصالح المرسلة وهي من أصول الشريعة المبني عليها إذ هي راجعة إلى أدلة الشرع حسبما تبين في علم الأصول فلا يصح إدخال ذلك تحت جنس البدع وأيضا فالمصالح المرسلة عند القائل بها لا تدخل في التعبدات البتة وإنما هي راجعة إلى حفظ أصل الملة وحياطة أهلها في تصرفاتهم العادية ولذلك تجد مالكا وهو المسترسل في القول بالمصالح المرسلة مشددا في العبادات أن لا تقع إلا على ما كانت عليه في الأولين فلذلك نهى عن أشياء وكره أشياء وإن كان إطلاق الأدلة لا ينفيها بناء منه على أنها تقيدت مطلقاتها بالعمل فلا مزيد عليه .
(9/1)
ثم مثل الشيخ مشهور فقال : الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الآذان كان المقتضى بفعلها قائم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أما الآذان في مكبرات الصوت كان المقتضى غير قائم فينظر لو كان المقتضى قائما في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على فعله ولم يفعله ففعله بدعة ، فالمقتضى لما كان موجودا في زمنه صلى الله عليه وسلم وحاد عنه وحاد عنه أصحابه ولم يفعلوه فلا يجوز أن نتعبد الله به كما لا يجوز أن نصلي ركعة خامسة في الظهر أو أن نزيد في أي طاعة من الطاعات ، مثال آخر : قراءة القرآن على الأموات المقتضى هنا قائم وبالتالي لا يجوز لنا أن نقرأ القرآن على الأموات إلا بدليل فمن قرأ القرآن على الأموات محتجا بدليل هو أصاب في القاعدة ، هو فعل حقا ولكن قد يكون عدلا أو ظلما وقد يكون الدليل غير صحيح فشبه إليه أنه دليل وهو ليس بدليل ؛ ولذا ينبغي في العموم أن ينظر إلى هذا الجانب وإلى جانب آخر مهم وهو أن العام لا يحتج به على عمومه والمطلق لا يحتج به على إطلاقه في جميع أفراده التي تتحملها اللغة وإنما ينبغي أن يحتج بالعموم والمطلق على استعماله الذي وضعه الشرع له وهذا فيه إعمال لقاعدة وهي أن الحقيقة الشرعية مقدمة على العرفية واللغوية فإن علمنا أن الشرع أطلق في اتجاه ما أو عمم في اتجاه ما فلا يجوز لنا إلا أن نبقى على الاستعمال الشرعي للإطلاق أو للعموم من غير توسعة ولذا باب النصوص قد يحملها بعض الناس ما لا تحتمل ، مثلا : " من أحيا أرضا مواتا فهي له " الحديث أي من وجد أرضا عامة مشاعا فاستثمرها وزرعها فهي له في الشرع ، ومن المسائل المستجدة مسألة شتل الجنين وهي أن تكون امرأة عندها مبيض وبويضة ولكن لا يوجد عندها رحم لتحمل الحمل فتنقل البويضة بعد تلقيحها إلى رحم امرأة أخرى ثم يأتي الولد ، واختلف العلماء في جواز هذه العملية فمنهم أباح ومنهم منع والمبيحون اشترطوا شروطا منها أن تكون المرأة التي توضع البويضة
(9/2)
الملقحة فيها متزوجة وبإذن زوجها ونفقتها في أثناء حملها على الأب صاحب البويضة واختلفوا في الولد هل هو لصاحبة البويضة أو للوالدة فمن قال للوالدة احتج بعمومات وحملت مالا تحتمل ومنها " إن أمهاتهم إلا اللائي ولدهن " ومنها " من أحيا أرضا مواتا فهي له " والأصل النظر في الاستعمال الشرعي .
أكد الشاطبي على أن العام لا يجوز أبدا أن يحمّل إلا على وفق الاستخدام الشرعي وليس على الاستخدام اللغوي المحض والذي يجعلنا نعلم الاستخدام الشرعي هو فعل السلف .
مثال : أحاديث اعفوا اللحى مطلقة وعلى أصله اللغوي يشمل الإعفاء ولو أصبح طول اللحية أمتار ( قد ذكر الكناسي في كتابه درة الحجال وهو ذيل على وفيات الأعيان لابن خلكان ذكر فيه في ترجمة ضياء الدين القزويني وكان عالما وفقيها من فقهاء الحنفية قال : كانت لحيته تجر على الأرض وكان إذا نام وضعها في كيسين ) فهذا أخذ بالعموم اللغوي وليس بالعموم الاستعمالي .
(9/3)
بعض الصحابة الذين رووا أحاديث إعفاء اللحية أخذوا ما بعد القبضة ، إما أنهم خالفوا الحديث وهذا ممتنع وإما فهموه على الاستعمال الشرعي وهو الصحيح ولم يثبت الأخذ ما بعد القبضة فقط عن ابن عمر عند تحلله من الإحرام ولكن ثبت عن جمع من الصحابة بل قال الحسن كانوا يأخذون ( أي الصحابة ) ما بعد القبضة وهذا ثابت في صحيح ابن خزيمة فمن نظر إلى المعنى اللغوي لا يجيز الأخذ ومن نظر إلى استخدام الشرع الذي اتضح بفعل السلف يجيز ذلك لكن هناك بعض الألفاظ تسعف من قال بالمعنى اللغوي ومنها ما أخرجه أحمد في مسنده بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أرخوا عثانينكم " والعثنون هو رأس الشعر ولكن على أي حال ثبت عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس وبعض التابعين عن الأخذ ما بعد القبضة وورد في الترخيص عن عائشة وفصل في المسألة ابن جرير في تفسير قول الله تعالى في سورة الحج عند الآية " ثم ليقضوا تفثهم " وفصل كذلك في المسألة الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة تحت حديث" كان يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من طول لحيته وعرضها "
المجمل والمبين :
*قال الماتن رحمه الله : والمجمل : ما افتقر إلى البيان . والبيان : إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي . والمبين : هو النص . والنص : ما لا يحتمل إلا معنى واحدا . وقيل :ما تأويله تنزيله . وهو مشتق من منصة العروس وهو الكرسي . *
الظاهر والمؤول :
قال الماتن : والظاهر : ما احتمل أمرين أحدهما أظهر من الآخر . ويؤول الظاهر بالدليل ، ويسمى الظاهر بالدليل .
مقدمة :
(9/4)
قال الشيخ مشهور حفظه الله :دلالة الألفاظ الشرعية من الكتاب والسنة على معانيها ليست سواء وكذلك اللغة وبلا شك أن اللغة أوسع من نصوص الشرع ، فاللفظ الذي لا يدل إلا على معنى واحدا هذا يسمى عند الأصوليين النص ،فمثلا : لو أن رجلا قال :أكلت خبزا فيقول آخر هذا لا يريد الخبز إنما يريد التمر فنحكم عليه بالجنون لأن كلمة الخبز نص لا تحمل إلا معنى واحدا .
النص محكم يجب العمل به ما لم يثبت النسخ من مثل قول الله تعالى " تلك عشرة كاملة " هذا نص ولا يجوز أن نقول المقصود تسعة فهذا لا يحتمل إلا معنى واحدا .
هنالك كلام في العربية وهو أمر موجود كذلك في نصوص الشرع الكتاب والسنة يحتمل اكثر من معنى وقبل أن يقوم الدليل على معنى من هذه المعاني هذا يسمى المجمل ولا يجوز العمل بالمجمل حتى يظهر المبين والمفسر له .
إذا وجد عندنا لفظ يحتمل عدة معانٍ وعندنا معنى راجحا من ضمن هذه المعاني والرجحان إما يكون لأنه هو الحقيقة أو لأن عرف الشرع في الاستعمال إنما يقع على هذا الاستعمال أو ما شابه ، فالمعنى الراجح يسمى عند الأصوليين الظاهر والمرجوح هو المعنى المغلوب و يسمى المؤول .
لما نقول هذا مجمل يلزم من ذلك أن يكون هنالك مبين له أو مفسر له ، فإن لم يقم دليل من الشرع على وجود المبين لا يكون مجملا وإنما يصبح مشكلا ؛ فالمشكل والمجمل بينهما عموم وخصوص ، انتهت المقدمة .
قال الشيخ مشهور :
(9/5)
المجمل : معناه في اللغة الإبهام ؛ أجمل الشيء أي أبهمه ، وأيضا تقول العرب : أجمل الشيء أي إذا جمعه بعد تفرقه لذا أجمل الحساب أي جمعه ولذا قال الراغب في مفرداته : حقيقة المجمل المشتمل على أشياء أو على جملة أشياء كثيرة غير ملخصة ؛ فالمجمل مشتمل على أشياء كثيرة غير واضحة ولذا استخدم النبي صلى الله عليه وسلم الإجمال في قوله :"قاتل الله اليهود إن الله عز وجل لما حرم عليهم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه"صحيح مسلم ج:3ص:1207 فالإجمال هو الشيء غير الواضح المخلوط بعضه ببعض .
اختلف العلماء في تعريف المجمل فمنهم من قال المجمل ما افتقر إلى البيان وهو قول الماتن ومنهم من قال المجمل ما لا ينبأ عن المراد بنصه ويحتاج إلى قرينة تفسره ومنهم من قال المجمل ما لم تضح دلالته ومنهم من قال ما لا يعرف معناه من لفظه .
مثال : قال الله تعالى " وأقيموا الصلاة " الصلاة لفظ مجمل فلا نعرف معنى الصلاة الشرعية وكيفيتها من هذا اللفظ .
وعرف البزدوي المجمل بقوله ما ازدحمت فيه المعاني واشتبه المراد منه اشتباها لا يدرك بنفس العبارة بل يدرك بالرجوع إلى الاستفسار فاللفظ عاجز وناقص عن أن ندرك المعنى من خلاله بل لا بد أن نعرف المعنى من مبين ( نص آخر ) ومنهم من قال المجمل هو اللفظ الذي خفيت دلالته على المراد منه خفاء ناشئا من ذاته ولا يمكن إدراك المعنى المراد منه إلا ببيان من الشارع .
(9/6)
المشكل هو ما خفيت دلالته على المعنى المراد منه خفاء ناشئا من ذات الصيغة تماما مثل المجمل ولكن المشكل لا يدرك إلا بالتأمل والنظر والفحص و الاجتهاد وجمع النظير بالنظير والنظر في فهم العلماء ولذا باب الإشكال باب الاجتهاد فيه مفتوح وقد يفتح الله على المتأخر ما لم يفتح على المتقدم ولذا نجد في بعض الآيات المشكلة كلاما للعلماء المتأخرين لم نجده للمتقدمين ولذا ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابا مطبوع في مجلدين سماه تفسير آيات مشكلة وزعم البقاعي في بعض كتبه أن الله فتح عليه ففسر جملة من الآيات في كتابه نظم الدرر على وجه لم يَسبق إليه والصواب لا يحتمل إلا ما قال وذكر الأدلة . أما الإجمال يبين بالنص .
أمثلة : قال الله تعالى " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " هذه ألفاظ مجملة وجاءت السنة العملية وفصلت هذا الإجمال فصلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال " صلوا كما رأيتموني أصلي " وبين الزكاة وأمر أن تكتب مقادير الزكاة في كتاب لأبي بكر الصديق وكذلك الحج جاء مجملا في القرآن وبينته السنة العملية من مثل حديث جابر الطويل في صحيح مسلم .
المجمل قبل ورود البيان جاء على أنواع : (1) ، الإجمال الشبيه بالغريب الذي يحتاج إلى معنى وهذا النوع لا تنبني عليه أحكاما فقهية وهو اللفظ المفرد الذي يعتريه الإبهام بسبب غرابته مثل قوله تعالى " إن الإنسان خلق هلوعا " فكلمة هلوع غريبة يبين بالآيات بعدها فقال " إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا " فالإنسان الهلوع الذي يكثر من الشكوى ويكثر الضجر إذا مسه الشر وإذا أعطي الخير يمنع ولا يتصدق ولا يؤدي حق الله .
(9/7)
(2) ، اللفظ المشترك الذي تزاحمت فيه المعاني ولم تقم قرينة من القرائن تسعف المجتهد في تبيين المعنى المراد ولم يصدر من المشرع معنى لهذا الأمر المشترك وهذا وقوعه نادر جدا في الشريعة وقد لا يأتي المبين الذي يخصه ولكن يأتي في الشرع مؤيدات لمعنى من المعاني مثل قوله تعالى " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء "؛ قروء جمع مفرده قرء بفتح القاف المعجمة أو بضمها والفتح أشهر وأصوب ومن معاني القرء الأصلية الطهر و الحيض ولذا وقع خلاف بين العلماء في تحديد المعنى الصحيح ولكن لما ذكر الشرع بديلا لمن لم تكن حائضا فجعله البديل ثلاثة أشهر كان المراد من القرء الحيض ويتأكد ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة الحائض " دع صلاتك أيام أقراءك " أي أيام حيضتك .
(3) ، نقل الشرع لألفاظ من المعاني اللغوية إلى المعاني الشرعية فيقع الإجمال مثل الزكاة التي هي النماء والصلاة التي هي الدعاء فالشرع نقل الصلاة من معناها اللغوي المحض إلى معنى اصطلاحي معين فوقع إجمال بعد هذا النقل .
أما الإشكال فجله في الأمور التصورية وليست في الأمور العملية فالأمور العملية إما يأتي مبين وإما يأتي قرائن ومؤيدات لقول من الأقوال .
سبب الإجمال في الشريعة أن الله عز وجل يريد منا أن نفهم وأن نعمل الذهن وأن نقيس الشبيه بالشبيه والنظير بالنظير وهذا يؤكد أن الشريعة معللة وأنها قواعد مضطردة وأن الأصل في طالب العلم في البدايات أن يضبط المنصوصات وأن يعرف متى يتجاوز النصوص فيعمل المعاني ومتى يقف عند الألفاظ ولا يعمل المعاني بعد إتقان هذه الأمور الكلية يحسن أن يقول هذا مبين وهذا الإشكال يراد منه كذا وهكذا .
قلنا أكثر من مرة أن الخير كله دائما في الحق والعدل والحق يتأكد أن هذا من دين الله والعدل أن تضع الشيء في مكانه ، ومن أسباب خلاف الفقهاء إما أنه لا يوجد حق كأن يستدلوا بحديث لم يثبت أو أن لا يضعوا النص في مكانه .
أسباب الإجمال :
(9/8)
[ أولا ] : تعدد مرجع الضمير : عندنا سياق والضمير المذكور يحتمل أكثر من معنى فيقع خلاف بين العلماء في هذا الضمير على ماذا يعود فمثلا : قال الله تعالى " ويطعمون الطعام على حبه " الهاء في حبه تعود على الله أو على الطعام فمنهم من قال هذا ( يطعمون على حب الله ) ومنهم من قال هذا ( يطعمون مما يحبون ) ، لذا ورد عن غير واحد من السلف كما في زهد هناد أنهم كان الواحد منهم يتصدق بالذي يشتهي وبالذي يحب .
مثال آخر : قال الله تعالى " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " الهاء في كلمة يرفعه تعود على الله أي أن الله هو الذي يرفع العمل الصالح ( أي يعود إليه ) وهذا محتمل والعمل الصالح لا يرتفع إلا بكلمة التوحيد وهو الكلم الطيب فيحتل أيضا أن الهاء عائدة إلى الكلم الطيب ( أي الذي يرفع العمل الصالح هو الكلم الطيب ) .
مثال آخر : قال الرسول صلى الله عليه وسلم " لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره " الهاء في جداره عائدة على الغارز أو على الجار وكلاهما محتمل وينبني على هذا حكم فقهي ؛ يعني أنا لي جار وبيني وبينه جدار وأريد أن أغرز خشبة في هذا الحائط فإذا كانت الهاء عائدة على جدار الغارز يعني ذلك أن أغرز الخشبة في الحائط من طرفي وإذا كانت الهاء عائدة على جدار الجار فيجوز لي أن أغرزها في جدار الجار من طرفه قال بالأول الجمهور ؛ المالكية و الحنفية والشافعية وبالثاني قال به أحمد وجماعة من أصحاب الحديث .
مثال آخر : في صحيح مسلم ج: 3 ص: 1207
(9/9)
عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول عام الفتح وهو بمكة إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال لا هو حرام ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك قاتل الله اليهود إن الله عز وجل لما حرم عليهم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه . "
الضمير هو على ماذا يعود ؟ قال بعض الفقهاء الضمير عائد إلى شحوم الميتة ، يطلى بها السفن ، يدهن بها الجلود ، ويستصبح بها الناس :فكل هذه الأشياء حرام ولا يجوز من الميتة إلا الجلد المدبوغ وورد في ذلك أحاديث .
ومنهم من قال : قوله هو حرام المراد منه البيع وذلك لأسباب منه أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم أشياء و أجاز أن تعلف للدواب فالحرمة تقبل الانفكاك ثم في بداية الحديث قال النبي حرم بيع الخمر و الميتة والخنزير ثم سألوا سؤالهم فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يخبرهم أولا عن تحريم الانتفاع وإنما أخبرهم عن تحريم البيع فأخبروه أنهم يبتاعوه لهذا الانتفاع فلم يرخص لهم في البيع فإذن الضمير يعود على البيع .
[ ثانيا ]: تعدد مرجع الصفة : تأتي عندنا صفة في نص وهذه الصفة يحتمل أن يقع فيها إجمال وتحتمل أكثر من معنى فمثلا نقول : زيد طبيب ماهر فيحتمل أن زيدا ماهر في طبه أو أنه طبيب وماهر فمهارته عامة .
مثال : قال الله تعالى " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " كلمة ( حسنا) صفة على ماذا تعود ؟ يحتمل أنها تعود للمفعول المطلق ( الإقراض ) وعليه يكون الإقراض الحسن هو الخالص لوجه الله الذي لا يتبعه منا و لا أذى ويحتسب فاعله من الله ، ويحتمل أنها تعود على القطعة من المال وعليه يكون معنى القرض الحسن المال الحسن والمال يكون حسنا إذا كان من خيار المال وكان حلالا ، فالصفة هنا إما صفة الإقراض أو صفة المال .
(9/10)
وجل ما ورد في هذا الباب في الأمور الخبرية .
مثال : قال الله تعالى : " ذو العرش المجيد " فإذا كانت المجيد مرفوعة تكون صفة لله وإذا كانت مكسورة تكون صفة للعرش .
مثال : قال الله تعالى " لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا " فيها يحتمل أنها تعود على المساجد أو تعود على كل الأمور المذكورة .
[ ثالثا ] : تعدد مرجع الإشارة : يكون عندنا اسم إشارة ويحتمل يعود إلى أكثر من شيء فيحدث الإجمال
مثال : قال الله تعالى " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين " ذلك يحتمل أن تعود على الزنى أو على زواج الزاني وينظر في هذا الباب تحت آية رقم 196 من سورة البقرة في أضواء البيان وفي تفسير القرطبي .
[ رابعا ] : تعدد متعلق الظرف : عندنا ظرف فيتعدد تعلقه فقد يحتمل تعلقه بشيء ويحتمل تعلقه بشيء آخر فيحدث الإجمال .
مثال : السنن الكبرى ج: 6 ص: 240 : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي سنة فهو عنده على العرش وأنه أنزل من ذلك الكتاب آيتين ختم بهما سورة البقرة وإن الشيطان لا يلج بيتا قرئتا فيه ثلاث ليال " ثلاث ليال تتعلق بلفظ قرأت فيه ثلاث ليال أو تتعلق بكلمة يلج فالشيطان لا يلج البيت الذي قرأت فيه سورة البقرة ثلاث ليال هذا معنى إن عاد الضمير قرأت فيه على يلج وهناك معنى آخر أن الشيطان لا يلج مدة ثلاثة أيام البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة وهناك معنى آخر أن الشيطان لا يلج البيت مطلقا إن قرأ صاحبه سورة البقرة فيه أي كرر قراءتها ثلاث مرات.
[ خامسا ] : التردد الحاصل من إرادة فرد معين من أفراد حقيقية وضع اللفظ لكل منها .
مثال : القرء يتردد بين معنيين هما الحيض والطهر .
(9/11)
مثال آخر : قال الله تعالى " إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " الذي بيده عقدة النكاح أمر محتمل ممكن أن يكون الزوج أو ولي الأمر ، فذهب الشافعي في القديم ومالك في رواية أنه ولي الزوجة وذهب أحمد و الشافعي في الجديد إلى أنه الزوج وقال مالك المراد والد البكر وسيد الأمة .
[ سادسا ] : التردد الحاصل من تغير الشكل و الضبط ، وهذا سبب ولج فيه أهل البدع .
أهل البدع قاعدتهم " اعتقد ثم استدل " وأهل السنة قاعدتهم " استدل ثم اعتقد " أي ليكن معتقدك على حسب ما يوصل إليه الدليل .
من الأمثلة على ذلك : قالت المعتزلة : وكلم اللهَ موسى تكليما . فيكون المتكلم موسى فنقول لهم إن كان موسى هو المتكلم فهل يحتاج إلى تأكيد وهو بشر فما فائدة التأكيد ، فالتأكيد يكون إذا كان الكلام غير معتاد فهذا التأكيد من مقتضياته أن يكون المتكلم هو الله ثم ماذا يقولون في قوله تعالى " فلما جاء لميقاتنا وكلمه ربه "
ومن الأمثلة كذلك : قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا نورث ما تركناه صدقةٌ " صدقةٌ خبر مرفوع فالشيعة حرفوا ذلك وقالوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يورث ما تركناه صدقةً " أي الذي يتركه يأخذه أهله صدقة لا ميراثا لذلك نقموا على أبي بكر لأنه منع فاطمة من الميراث ، ولذا مسلم في صحيحه أخرج بلفظ "ما تركنا فهو صدقةٌ"
ليقطع الاشتباه .
[ سابعا ] : التحريف إما سبق معنى أو سبق لفظ أو ما شابه :
مثال : سنن ابن ماجه ج: 1 ص: 353
عن أبي هريرة وعن أبي سفيان عن جابر قالا جاء سليك الغطفاني ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أصليت ركعتين قبل أن تجيء قال لا قال فصل ركعتين وتجوز فيهما"
(9/12)
فكل من يقول بسنية الجمعة القبلية يعتمد على لفظة تجيء عند ابن ماجه ولفظ الصحيحين " أصليت قبل أن تجلس " ولفظة تجيء فيها تحريف ومن الأمثلة على ذلك أيضا ما استدل به ابن الهمام الحنفي صاحب فتح القدير على صلاة ركعتين بعد السعي بحديث " إذا فرغ من سعيه فليصل ركعتين " وهذا خطأ لأن الحديث " إذا فرغ من سبعه فليصل ركعتين " فوقع تحريف في كلمة سبعه بالباء الموحدة من تحت إلى سعيه بالياء المثناة من تحت .
مثال آخر : قال النبي صلى الله عليه وسلم " ذكاةُ الجنين ذكاةُ أمه " ذكاةُ مرفوعة بالضم في كلا الموضعين ومعنى الحديث أن لو رجلا ذبح شاة فوجد في داخلها جنينا يكون حلالا ، ومنهم من قال في لفظ الحديث " ذكاةُ الجنين ذكاةِ أمه " ذكاة مرفوعة في الموضع الأول ومجرورة في الموضع الثاني ومعنى هذا أن ذكاة الجنين مثل ذكاة أمه أي بالذبح فلذلك من ذبح شاة ووجد فيها جنينا فهو حرام لأنه لم يذكى بالذبح .
مثال : صحيح مسلم ج: 2 ص: 856
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خمسٌ فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفارة والكلب العقور والحديا" خمس بتنوين الضم يعني أنه وصف الخمس بالفواسق وأشعر بأن الحكم ترتب على الوصف وأن القتل معلل بما جعل وصفا وهو الإيذاء والإفساق فإذا كل ما يمكن أن يؤذي يلحق بهذه الخمس .
وأما على ضبط " خمسُ فواسقٍ " يكون المعنى تخصيص الخمس ولا يجوز إلحاق غير الخمس بها
مثال : ورد في سنن البيهقي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع الحب حتى يَفْرِكَ أو قال حتى يُفْرَك " معنى يُفرَك : ممنوع أن يباع الحب في سنبله وذهب إلى ذلك بعض الشافعية ومعنى يَفرِك : حتى يشتد ويبيض فيجوز بيعه في سنبله بشرط أن ينضج .
قال البيهقي :
سنن البيهقي الكبرى ج: 5 ص: 303
(9/13)
ولم أر أحدا من محدثي زماننا ضبط ذلك والأشبه أن يكون يفرك بخفض الراء الموافقة معنى من قال فيه حتى يشتد والله أعلم ، انتهى كلامه ومعنى كلامه أنه جاءت رواية بلفظ " حتى يشتد "
[ ثامنا ] : التردد بين كون الكلمة اسما أو فعلا .
مثال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلَكَهم أو أهلَكُهم " أهلَكَهم : فعل بمعنى جعلهم في هلاك أي جعلهم يهلكون ، و أهلَكُهم أي أشدهم هلاكا .
[ تاسعا ] : الوقف و الابتداء
كما في قوله تعالى " وما يعلم تأويله إلا الله ، والراسخون في العلم يقولون … " الآية فالواو إما تكون عطف أو استئنافية .
فائدة : ومن التحريف الذي وقع ما حرفه بعض المتعصبين في أن صلاة قيام رمضان عشرين ركعة فهناك حديث عند أبي داود فيه أن عمر بن الخطاب جمع الناس على أبي بن كعب فكان يصلي لهم عشرين ليلة ولا يقنت بهم إلا في النصف الباقي فإذا كانت العشر الأواخر تخلف فصلى في بيته فكانوا يقولون أبق أبي " فبعضهم حرفها في بعض النسخ عشرين ركعة بدل ليلة وهذا جعل بعض علماء الهند يبحثون في المخطوطات و شروح سنن أبي داود حتى تيقنوا أن هذا تحريف مقصود .
ومن هنا نقول أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال " ستتبعن سنن الذين قبلكم .. " الحديث فوقع عندنا غلو وتحريف كما حدث عند من قبلنا ولكن من نعمة الله علينا أن الله حفظ ديننا فحفظ القرآن بنفسه والسنة بتيسير علماء الحديث الذين يذبون عن السنة ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وتأويل المبطلين " وقال عبد الله بن المبارك : لو أن رجلا كذابا بيّت النية في المساء أن يكذب على رسول الله ليسّر الله له في الصباح رجلا من علماء الحديث فيكشف كذبه .
وقال الزهري : لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء .
هنا بعض الملاحظات :
(9/14)
الملاحظة الأولى : الراجح يسمى ظاهرا والمرجوح يسمى مؤولا ، يجب العمل بالنص ولا يجوز العدول عنه إلا بالنسخ والمجمل يتوقف فيه حتى يأتي المبين والظاهر حجة لا يعدل عنه إلا بدليل آخر أقوى منه وعملية صرف اللفظ من ظاهر إلى ظاهر أقوى منه تسمى تأويلا والتأويل قد يكون ممدوحا أو مذموما فإن كان السبب شرعيا حقيقيا بوجود ما يقضي بصرف اللفظ من ظاهر إلى ظاهر أقوى منه فيكون هذا التأويل مقبولا مستساغا وإن كان غير ذلك فهو مردود .
ويقع عند المتأخرين التأويل الفاسد ولا سيما في باب الصفات لظنهم أن ظاهر القرآن فيه كفر وقد صرح بذلك الصاوي في حاشيته على الجلالين أن ظواهر القرآن فيها كفر فيجب أن لا نأخذ بهذا الظاهر ويجب أن نحمله على أي معنى آخر حتى ننزه القرآن عن الكفر ، انتهى كلام الصاوي وهذا كلام مردود بالكتاب والسنة والعقل فقال الله تعالى " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات الصفات لله مثل اليد والنزول وغيرها من الصفات وكذلك النافون للصفات يثبتون الحياة والعلم والقدرة لله مع أن الإنسان له هذه الصفات .
الملاحظة الثانية : الفرق بين المجمل والمبهم : المبهم أعم من المجمل فكل مجمل مبهم وليس كل مبهم مجملا ، مثلا : لو قلت تصدق بهذا الدينار على رجل . الرجل هنا مبهم وليس مجملا لأنه لا يحتمل أكثر من معنى بل له معنى واحد ولكن تعيين هذا الرجل في عماء .
الملاحظة الثالثة : اللفظ المجمل قد يكون واضح الدلالة من وجه ومجملا من وجه آخر ، فالإجمال نسبي
مثال : قال الله تعالى " وآتوا حقه يوم حصاده " فإنه واضح الدلالة في وجوب الإيتاء ومجمل في مقداره
(9/15)
الملاحظة الرابعة : للإجمال فوائد : منها : إعمال الذهن وذلك لأن الأفهام تتفاوت مع أن بيان المجمل من الشرع لكن الاهتداء لهذا البيان يحتاج لإعمال الذهن ، ومنها : اختبار العبد ؛ وذلك ليعرف قدر نفسه وأن العبد إذا لم يتبين له الإجمال فيعلم أنه بحاجة إلى فضل الله وأن لا يستقل بالفهم وأن يحتاط ولا يتعجل وأن ينظر إلى العلماء بعين الاحترام و أنه لا يستغني عنهم ، ومنها : توطئة للنفس من أجل قبول الحق ؛ يأتي ثم يأتي المبين ففي هذا تربية من الله للعبد ومنها : أنه يورد الإجمال ثم يأتي البيان ففي هذا تشريف للعبد بكثرة الخطاب .
الملاحظة الخامسة : الإشكال لا يقع في الأحكام التكليفية العملية ومشكل الكتاب والسنة جلها في أمور تصورية ، منهم من قال : لا يتصور أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا المجمل ، وهذا صحيح بشرط أن نعترف بوجود المشكل فيصبح الخلاف لفظيا ، وألف ابن قتيبة تأويل مختلف الحديث وألف الطحاوي مشكل الآثار .
البيان : في اللغة : بين الشيء أظهره وبين فارق لذا يقال هذا فيه بون أي فرق ومدار فعل بين على التميز وكشف الخفاء وانجلاء الأمر ، والبيان هو الظهور والوضوح والبيان في اللغة مداره على الظهور والوضوح .
والبيان في الاصطلاح اختلف العلماء في تعريفه : فقال الماتن : إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي .وقال بعضهم : البيان هو الدليل الذي حصل به الإيضاح وبعضهم قال : هو العلم الحاصل من الدليل .
هناك بعض المؤاخذات التي تنبني على مسألة هل يشترط في كل بيان أن يسبقه خفاء ؟
ذهب جماهير الأصوليون إلى أن البيان يشترط فيه إظهار ما فيه خفاء فالشيء الذي لم يكن فيه خفاء هذا لا يسمى أي لا يكن هنالك بيان هو نص بأصله .
(9/16)
قال الماتن البيان إخراج …الخ لا يستلزم من الإخراج الدخول فلم ينصص الماتن في تعريفه أنه يسبق البيان خفاء وكذلك التبيين أمر غير مادي بل هو معنوي والأمر المعنوي لا يوصف بالاستقرار في الحيز لأن الحيز وضع للشيء المادي .
بماذا يقع البيان ؟
عند جماهير الأصوليين يجوز بيان المتواتر من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بأخبار الآحاد ويجوز بيان المنطوق بالمفهوم وبيان المفهوم بالمنطوق وبيان المنطوق بالمنطوق وبيان المفهوم بالمفهوم .
مثال : بيان المنطوق بالمنطوق ، قال الله تعالى " إلا ما يتلى عليكم " في معرض التحريم وهذا منطوق وهذا بين بمنطوق مثله وهو قول الله تعالى " حرمت عليكم الميتة ….الخ " .
مثال : بيان المفهوم بالمفهوم ، قال الله تعالى "والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب " المحصنات أي العفيفات ، لكن العفيفات الحرائر أو الإماء ؟ هنا وقع خلاف لأن لفظ الإحصان يشمل عدة معان : الحر و المتزوج والمسلم فقالوا : لا يجوز الزواج من الكتابية الأمة من مفهوم الآية ولكن هذا المفهوم بُين بمفهوم آخر من آية أخرى وهي " ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات " فمفهوم الآية هنا عدم زواج الأمة غير المؤمنة وهذا المفهوم بين المفهوم في الآية السابقة .
مثال : بيان مفهوم بمنطوق ، قال الله تعالى " هدى للمتقين " مفهوم الآية أن القرآن ليس هدى لغير المتقين وهذا المفهوم بُين بمنطوق آية أخرى " والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى " فصلت .
نستطيع أن نقول ونجمل أن مذهب الأصوليين هو " أنه يصح بيان الإجمال بكل ما يزيل الإشكال " .
المبينات :
إن البيان يقع بالقول وأقوى شيء في البيان القول .
(9/17)
مثال : على فرض أن البقرة التي أُمر بنو إسرائيل بذبحها أنها مجملة ( ووقع خلاف في أنها مجملة تحتاج إلى بيان أو مبهمة وتجزأ أي بقرة ولكنهم تعنتوا ) فبينها الله بالقول " إنه بقرة لا فارض و لا بكر … " الآيات .
كذلك يقع البيان بالفعل :
بين الرسول صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى " وأقيموا الصلاة " بفعله فقال " صلوا كما رأيتموني أصلي " وبين قول الله تعالى " و أتموا الحج والعمرة لله " بفعله فقال " خذوا عني مناسككم "
أشار الشاطبي في الموافقات أن البيان بالأفعال أوقع في النفوس من البيان بالأقوال وأدل شيء على ذلك قصة الحديبية .
والآية " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم " فبين الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن مع أن أحاديث تفسير القرآن قليلة ولكن كان بيانه الفعلي أكثر وقالت عائشة " كان خلقه القرآن " وهذا الكلام لا يخرج إلا من إمام عالم حاذق فقولها بليغ جدا فالنبي صلى الله عليه وسلم في خلقه وفعله بل وفي نظره هو تفصيل القرآن وكم تعجبت لما وجدت نقلا للشاطبي عزاه للشافعي قال : ما من حديث إلا وله صلة بالقرآن ، قال الشيخ مشهور : وكم نحن بحاجة إلى الموائمة بين الكتاب والسنة وكم تعجبت لما نظرت وبحثت عن مؤلف في بيان آيات وأحاديث الأحكام معا فما وجدت ، فمثلا في سورة يس ( ونكتب ما قدموا و آثارهم ) أورد ابن جرير قول النبي صلى الله عليه وسلم "يا بني سلمة دياركم إنها تكتب آثاركم " فمعنى آثاركم خطاكم إلى المسجد .
(9/18)
ملاحظة : بعض التابعين لما فسروا بعض الآيات لم يذكروا في تفسيرهم كل المراد وإنما نظروا إلى أمر قد استجد فأسقطوا الآية عليه من باب تبيين المجمل ولم يكن في بالهم أن فقط هذا هو المراد ولذا أحسن ابن جرير لما كان يذكر أقوال التابعين وكان يميل غالبا إلى أن يذكر معنى الآية بجميع ما ذكره السلف فمثلا : قال عكرمة في " والذين يجتنبون الزور " قال : أعياد المشركين وليس فقط هو المعنى وإنما كان أناس يشابهون المشركين في أعيادهم .
ومن البيان بالفعل الكتابة فقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر رضي الله عنه كتابا بين فيه مقادير الزكوات وكتب كتابا إلى آل عمر ابن حزم فيه مقادير الأروش ( ديات الأعضاء ) .
ويقع البيان بالإشارة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول الشهر هكذا وهكذا ويشير بيده .
ويقع البيان بالمعنى فقد ينصص النبي صلى الله عليه وسلم على معنىً من المعاني فمثلا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الدافة فبين معنى .
وبعضهم قال يقع البيان باجتهاد العلماء ومرادهم أن النصوص الخفية والمعاني الدقيقة التي أخذت من الاستقراء في مضايق المسائل يلتفت إليها .
قال الماتن : والنص مشتق من منصة العروس هنا لا يريد الاشتقاق اللغوي وإنما يريد تقريب المعنى فالعروس لما تجلس على كرسي في مكان مرتفع تتميز عن غيرها فلا تحتاج إلى تمييز وكذلك النص .
الظاهر و المؤول :
من التعريفات الجيدة للظاهر : ما دل بنفسه على معنىً راجح مع احتمال غيره ، فأخرج المجمل في قوله ما دل بنفسه وأخرج المؤول بقوله على معنى راجح وأخرج النص بقوله مع احتمال غيره .
(9/19)
الظاهر ينبغي العمل به ولا يجوز بأي من الأحوال أن يهدر وليس العمل بالظاهر من مذهب أهل الظاهر فقط وإنما هو أمر تتفق الكلمة على حجيته ، قال ابن حجر في كتابه الدرر الكامنة في ترجمة أبي حيان الأندلسي وكان ظاهريا فقال : محال أن يرجع عن مذهب الظاهرية من علق بذهنه ، والظاهر فيه إعمال للنصوص . انتهى كلامه وهذه كلمة نقلها عنه الشوكاني في البدر الطالع في ترجمته وعلق عليها قائلا : لقد صدق أبو حيان في مقاله فمذهب الظاهر هو أول الفكر وآخر العمل عند من منح الإنصاف ولم يرد على فطرته ما يغيرها عن أصلها وليس هو مذهب داود الظاهري وأتباعه فقط بل هو مذهب أكابر العلماء المتقيدين بنصوص الشرع من عصر الصحابة إلى الآن وداود واحد منهم وإنما اشتهر عنه الجمود في مسائل وقف فيها على الظاهر حيث لا ينبغي الوقوف وأهمل من أنواع القياس ما لا ينبغي لمنصف إهماله وبالجملة فمذهب الظاهر هو العمل بظاهر الكتاب والسنة بجميع الدلالات وطرح التحويل على محض الرأي الذي لا يرجع بوجه من وجوه الدلالة وأنت إذا أمعنت النظر في مقالات أكابر المجتهدين المشتغلين بالأدلة وجدتها من مذهب الظاهر بعينه بل إذا رزقت الإنصاف وعرفت العلوم الاجتهادية كما ينبغي ونظرت في علوم الكتاب والسنة حق النظر كنت ظاهريا عاملا بظاهر الشرع منسوبا إليه ولست منسوبا إلى داود الظاهري فإن نسبتك و إياه إلى الظاهر متفقة وهذه النسبة هي مساوية للنسبة إلى الإيمان والإسلام .انتهى كلام الشوكاني
قال ابن حزم : وما أنا إلا ظاهري وإنني على ما بدا حتى يقوم الدليل .
(9/20)
وقال ابن القيم في اعلام الموقعين ( صفحة 245 من الجزء الرابع ) : الفائدة الخامسة والخمسون إذا سئل عن تفسير آية من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس له أن يخرجها عن ظاهرها بوجوه التأويلات الفاسدة لموافقة نحلته وهواه ومن فعل ذلك استحق المنع من الإفتاء والحجر عليه وهذا الذي ذكرناه هو الذي صرح به أئمة الإسلام قديما وحديثا قال أبو حاتم الرازي حدثني يونس بن عبد الأعلى قال قال لي محمد بن إدريس الشافعي الأصل قرآن أو سنة فإن لم يكن فقياس عليهما وإذا اتصل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح الإسناد به فهو المنتهي واستمر كلامه حتى صفحة 254 .
إذاً الظاهر يجب العمل به ولا يجوز أن يهدر ولا أن يهمل ولا يُتحول عنه والمنتقد على ابن حزم أنه وقف على ظاهر فألغى معان أرادها الشارع أو جمد على لفظ قام ظاهر يدل على أنه ليس بمراد فالمؤاخذة عليه لأنه جمد على لفظ وترك ظاهر لفظ آخر وترك معنى دل عليه الشرع ولو بالإيماء .
فائدة : الإنسان لا يستقل بفهمه وعليه أن يتهم نفسه ولذا كان الإمام أحمد يقول إياك والمسألة التي ليس لك فيها إمام والصواب الصحيح أننا لا نعلم ظاهر نص لم يتشرف عالم من علماء الأمة بالعمل به حتى كلام الترمذي في كتابه العلل :جميع ما في هذا الكتاب من الحديث فهو معمول به وقد أخذ به بعض أهل العلم ما خلا حديثين حديث بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر ولا مطر وحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه وقد بينا علة الحديثين جميعا في الكتاب . انتهى كلام الترمذي
ولكن خفي على الترمذي أنه عمل بهذين الحديثين علماء كثر .
(9/21)
المؤول : من الأًوْل وهو الرجوع واصطلاحا : ما حمل لفظه على المعنى المرجوح والتأويل يطلق على التفسير والتأويل الصحيح إذا جاء نص صريح يؤيد معنى التأويل يسمى ظاهرا.
(9/22)
القياس :
* قال الماتن رحمه الله : وأما القياس : فهو رد الفرع إلى الأصل [ في الحكم ] بعلة جامعة تجمعهما في الحكم .
وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام : قياس علة ، قياس دلالة ، وقياس شبه .
فقياس العلة : ما كانت العلة فيه موجبة للحكم .
وقياس الدلالة : هو الاستدلال بأحد النظيرين على الآخر وهو أن تكون العلة دالة على الحكم ولا تكون موجبة للحكم .
وقياس الشبه : هو الفرع المتردد بين أصلين فيلحق بأكثرهما شبها ولا يصار إليه مع إمكان ما قبله .
ومن شروط الفرع : أن يكون مناسبا للأصل .
ومن شرط الأصل : أن يكون ثابتا بدليل متفق عليه بين الخصمين .
ومن شرط العلة : أن تطرد في معلولاتها فلا تنتقض لفظا ولا معنى .
ومن شرط الحكم : أن يكون مثل العلة في النفي والإثبات .
والعلة هي الجالبة للحكم والحكم هو المجلوب للعلة .*
مقدمة :
قال الشيخ أبو عبيدة حفظه الله : القياس مرتبته من حيث الحجية بإجماع أهل العلم متأخرة عن حجية الأخبار من الكتاب والسنة والأثر ، فالنظر متأخر عن النص فالحكم المستنبط بالنظر ليس بالقوة كالحكم المنصوص ولذا كما هو معلوم أنه متى جاء نهر الله بطل نهر معقل وقال ابن تيمية " الشرع قاضٍ والعقل شاهد ويجوز للقاضي أن يطرد الشاهد متى شاء " وقال الراسي فقيه الشافعية " إذا جالت النقول في ميادين طارت العقول على أسنة الرماح " .
مسألة : هل القياس حجة بذاته أم أنه عملية استنباط واجتهاد ؟
بمعنى لو لم يوجد المجتهد فالقرآن موجود والآثار موجودة ولكن القياس هل له تعلق بالمجتهد أم أنه موجود كدليل منفصل مستقل كالكتاب والسنة ؟ الراجح كما هو معلوم عند علماء الأصول وعند المحققين من علماء الأثر أن القياس دليل استنباطي وفي مآله ورده يعود إلى النصوص .
(10/1)
القياس لغة التقدير فتقول قست الشيء بغيره أو قسته على غيره إذا قدرته على مثاله ، ومن أسهل تعاريف القياس في الاصطلاح :هو إلحاق واقعة لا نص على حكمها بواقعة ورد النص بحكمها لاشتراكهما في علة ذلك الحكم .
القياس له أركان وهي : أصل وفرع وعلة وإلحاق العلة من الأصل إلى الفرع ؛ فالأصل هو المقيس عليه والفرع الذي سنبحث عن حكمه والعلة تستنبط وهي موجودة في الفرع والأصل ثم سريان هذه العلة بحيث تنقل من الأصل إلى الفرع فيكون حكم الفرع كحكم الأصل فالحكم الناتج من هذه الثمرة يسمى قياسا فقسنا حكما على حكم بعلة جامعة بينهما وذلك لأن الأمر قائم على التعليل .
مسألة : هل الشريعة معللة ؟
بعض نفاة القياس يقولون : إن الشريعة لا تقبل التعليل وهي فقط نصوص والنصوص تغني عن غيرها. وهذا الكلام في الحقيقة ليس بصحيح ولا سديد ولا بأي صورة من صوره فالشريعة قواعد كلية مطّردة معللة خاطبت العقول .
الظاهرية عندهم حق كثير وأصولهم بالجملة مستقيمة ولا يعابون لأنهم يأخذون بالظاهر فقد رأينا أن كبار أهل العلم المحققين على اختلاف الأعصار والأمصار يقفون عند ظواهر النصوص فليس عيبا أن يأخذ ابن حزم وأستاذه من قبله داود الظاهري بظاهر النصوص لكن داود وابن حزم ومن سار على هذا المشرب واستقى منه نفوا القياس فإطلاق قول نفاة القياس عليهم أحسن و أضبط من إطلاق لفظ الظاهرية .
إذاً يجب التأكيد على أن الشريعة معللة وأن الله خاطبنا لنعي ونفهم لا لكي نمتثل كالدواب على صوت الآمر فالدواب أجلكم الله يردها صوت ويمشيها صوت ولذا من الخطأ الشنيع أن يقال أن في الشريعة شيء ثبت خلاف القياس ، والقول بأن الشريعة غير معللة في الحقيقة هو هدر لعلم أصول الفقه .
(10/2)
وجد ابن حزم نفسه في بيئة فيها مالكية وحنفية يتوسعون في إعمال المعاني توسعة غير مرضية تعدوا فيها على النصوص مما جعله يكيل بلسان شديد على الفقهاء وأبدى هذا الغضب على وجه كبير في كتابه الإعراب ، وهناك كتاب اسمه ملخص إبطال القياس نسب إلى ابن حزم خطأً وهو للذهبي واسم كتاب ابن حزم هو إبطال القياس والذهبي يرد في كتابه على ابن حزم .
إذاً : هناك قوما توسعوا بالاستدلال بالقياس حتى أن بعضهم استدل عليه فقالوا : النصوص متناهية محصورة والحوادث والوقائع والنوازل غير متناهية فأنى للمتناهي أن يتسع لغير المتناهي فلا بد من القياس وهذا كلام ردده الجويني في أكثر من كتاب من كتبه وغيره من الأصوليين وهذا في كلام صحيح إن نفينا التعليل وأما إن أعملنا المعاني فنقول إن الشريعة شاملة ولا أقول صالحة لكل زمان ومكان وإنما هي مصلحة لكل مكان وزمان فالشريعة بمعانيها تفي النوازل ولذا القياس هو نوع من إعمال المعاني فمخطئٌ من جعل القياس دليلا مستقلا فالقياس مداره على النصوص ولذا لما التقى أحمد بالشافعي كان من سؤال أحمد للشافعي قال أحمد :القياس فقال له الشافعي : للضرورة . وهذا هو الفيصل في حجية القياس أن القياس حجة عند الضرورة .
الناظر في أركان القياس يجد أن موضوع القياس هو اجتهاد ؛ إلحاق غير المنصوص بالمنصوص فعاد أمره إلى حجية النصوص وقد يكون هذا الإلحاق صحيحا أو غير صحيح لذا يوجد قياس صحيح وقياس فاسد وقد يكون هذا الإلحاق واضح جلي فالعلة مجمع عليها ومنصوص عليها وقد تكون العلة مستنبطة ولذا يوجد قياس من حيث الظهور وعدمه فيوجد قياس جلي وقياس خفي .
(10/3)
ومما أعجبني في إعمال المعاني كلام بديع للإمام ابن القيم ذكره في عدة من كتبه ووظّف أمرين مهمين في إثبات أن الشريعة معللة ؛ [ فالأمر الأول ]: الأمثال في القرآن الكريم فالناظر في هذه الأمثال يجد أن المثل عبارة عن مشبه ومشبه به ووجه جامع بينهما وهذا شبيه بالقياس فالقياس أصل وفرع وعلة ولذا ابن القيم قبل أن يتكلم عن القياس في كتابه إعلام الموقعين سرد جملة طيبة من أمثال القرآن وكذلك فعل في الرد على نفاة التعليل في كتابه مدارك السالكين وكتابه مفتاح دار السعادة .
فقال ابن القيم في مدارج السالكين ج: 1 ص: 240_ 242
(10/4)
وكم في القرآن من مثل عقلي وحسي ينبه به العقول على حسن ما أمر به وقبح ما نهى عنه فلو لم يكن في نفسه كذلك لم يكن لضرب الأمثال للعقول معنى ولكان إثبات ذلك بمجرد الأمر والنهي دون ضرب الأمثال وتبيين جهة القبح المشهودة بالحسن والعقل والقرآن مملوء لهذا لمن تدبره كقوله تعالى ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون يحتج سبحانه عليهم لما في عقولهم من قبح كون مملوك أحدهم شريكا له فإذا كان أحدكم يستقبح أن يكون مملوكه شريكه ولا يرضى بذلك فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء تعبدونهم كعبادتي وهذا يبين أن قبح عبادة غير الله تعالى مستقر في العقول والفطر والسمع نبه العقول وأرشدها إلى معرفة ما أودع فيها من قبح ذلك وكذلك قوله تعالى ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون احتج سبحانه على قبح الشرك بما تعرفه العقول من الفرق بين حال مملوك يملكه أرباب متعاسرون سيئو الملكة وحال عبد يملكه سيد واحد قد سلم كله له فهل يصح في العقول استواء حال العبدين فكذلك حال المشرك والموحد الذي قد سلمت عبوديته لإلهه الحق لا يستويان وكذلك قوله تعالى( 2 /264 ) ممثلا لقبح الرياء المبطل للعمل والمن والأذى المبطل للصدقات ب صفوان وهو الحجر الأملس عليه تراب غبار قد لصق به فأصابه مطر شديد فأزال ما عليه من التراب فتركه صلدا أملس لا شيء عليه وهذا المثل في غاية المطابقة لمن فهمه ف الصفوان وهو الحجر كقلب المرائي والمان والمؤذي والتراب الذي لصق به ما تعلق به من أثر عمله وصدقته والوابل المطر الذي به حياة الأرض فإذا صادفها لينة قابلة نبت فيها الكلأ وإذا صادف الصخور والحجارة الصم لم ينبت فيها شيئا فجاء هذا الوابل إلى التراب الذي على الحجر فصادفه رقيقا فأزاله فأفضى إلى حجر غير قابل
(10/5)
للنبات وهذا يدل على أن قبح المن والأذى والرياء مستقر في العقول فلذلك نبهها على شبهه ومثاله وعكس ذلك قوله تعالى ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير فإن كانت هذه الجنة التي بموضع عال حيث لا تحجب عنها الشمس والرياح وقد أصابها مطر شديد فأخرجت ثمرتها ضعفي ما يخرج غيرها إن كانت مستحسنة في العقل والحس فكذلك نفقة من أنفق ماله لوجه الله لا لجزاء من الخلق ولا لشكور بل بثبات من نفسه وقوة على الإنفاق لا يخرج النفقة وقلبه يرجف على خروجها ويداه ترتعشان ويضعف قلبه ويخور عند الإنفاق بخلاف نفقة صاحب التثبيت والقوة ولما كان الناس في الإنفاق على هذين القسمين كان مثل نفقة صاحب الإخلاص والقوة والتثبيت كمثل الوابل ومثل نفقة الآخر كمثل الطل وهو المطر الضعيف فهذا بحسب كثرة الإنفاق وقلته وكمال الإخلاص والقوة واليقين فيه وضعفه أفلا تراه سبحانه نبه العقول على ما فيها من استحسان هذا واستقباح فعل الأول وكذلك قوله أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تفكرون فنبه سبحانه العقول على ما فيها من قبح الأعمال السيئة التي تحبط ثواب الحسنات وشبهها بحال شيخ كبير له ذرية ضعفاء بحيث يخشى عليهم الضيعة وعلى نفسه وله بستان هو مادة عيشه وعيش ذريته فيه النخيل والأعناب ومن كل الثمرات فأرجى وأفقر ما هو له وأسر ما كان به إذ أصابه نار شديدة فأحرقته فنبه العقول على أن قبح المعاصي التي تغرق الطاعات كقبح هذه الحال وبهذا فسرها عمر وابن عباس رضي الله عنهم لرجل غني عمل بطاعة الله زمانا فبعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله ذكره البخاري في صحيحه أفلا تراه نبه العقول على
(10/6)
قبح المعصية بعد الطاعة وضرب لقبحها هذا المثل ونفاة التعليل والأسباب والحكم وحسن الأفعال وقبحها يقولون ما ثم إلا محض المشيئة لا أن بعض الأعمال يبطل بعضا وليس فيها ما هو قبيح لعينه حتى يشبه بقبيح آخر وليس فيها ما هو منشأ لمفسدة أو مصلحة تكون سببا لها ولا لها علل غائية هي مفضية إليها وإنما هي متعلق المشيئة والإرادة والأمر والنهي فقط والفقهاء لا يمكنهم البناء على هذه الطريقة البتة فكلهم مجمعون إذا تكلموا بلسان الفقه على بطلانها إذ يتكلمون في العلل والمناسبات الداعية لشرع الحكم ويفرقون بين المصالح الخالصة والراجحة والمرجوحة والمفاسد التي هي كذلك ويقدمون أرجح المصلحتين على مرجحهما ويدفعون أقوى المفسدتين باحتمال أدناهما ولا يتم لهم ذلك إلا باستخراج الحكم والعلل ومعرفة المصالح والمفاسد الناشئة من الأفعال ومعرفة ربها . نهاية كلام ابن القيم
والشاهد من هذا الكلام أن الناظر في الأمثال يتأكد له أن الشريعة جاءت معللة وأن الله ما ضرب هذا المثل حتى نلتمس المعنى والعلة من وراء هذا المثل ولذا الأمثال كانت دقيقة جدا من نظر في المثل ودرسه دراسة عميقة ونظر في السياق و فيمن ضرب له والوجه الجامع بينهما يجد عجبا .
أقام ابن حزم كتابه الإحكام على أدلة منطقية كالبرهان الضروري والبرهان الحسي والعقلي وتوسع في ما يسمى البراءة الأصلية والاستصحاب فهرب من شيء ووقع في شيء .علماء الأصول استقرءوا النصوص فاصطلحوا على مصطلحات خاصة بهم أخذوها من خلال اللغة ومن خلال الاستقراء العقلي المنطقي ومن خلال النظر في النصوص والمعاني والعلل ووجدوا أن النصوص قد أطبقت على معنى واحد فصاغوا منها قواعد واصطلحوا على أسماء ولذا من الخطأ المناقشة في حجية علم أصول الفقه والتشديد على الألفاظ لأن في التركيز على الألفاظ والبحث عن دليل الألفاظ هو هدر للمعاني .
وقال ابن القيم في مدارج السالكين ج: 1 ص: 242
(10/7)
وكذلك الأطباء لا يصلح لهم علم الطب وعمله إلا بمعرفة قوى الأدوية والأمزجة والأغذية وطبائعها ونسبة بعضها إلى بعض ومقدار تأثير بعضها في بعض وانفعال بعضها عن بعض والموازنة بين قوة الدواء وقوة المرض وقوة المريض ودفع الضد بضده وحفظ ما يريدون حفظه وعمله مبني على معرفة الأسباب والعلل والقوى والطبائع والخواص فلو نفوا ذلك وأبطلوه وأحالوا على محض المشيئة ( كما نعلم أن المرض وما شابه هو ضمن مشيئة الله الكونية والنصوص الشرعية ضمن المشيئة الشرعية فعاملوا هذا مثل هذا ) وصرف الإرادة المجردة عن الأسباب والعلل وجعلوا حقيقة النار مساوية لحقيقة الماء وحقيقة الدواء مساوية لحقيقة الغذاء ليس في أحدهما خاصية ولا قوة يتميز بها عن الآخر لفسد علم الطب ولبطلت حكمة الله فيه …الخ كلامه قال الشيخ مشهور : فأنتم بنفي التعليل أفسدتم مصالح الأبدان وأفسدتم الأديان ولذا لابد ضرورة أن نعمل العلل وأن نفهم عن الله عز وجل مراده وأن نعرف متى نقف عند النص ومتى نتجاوزه إلى المعنى ، والموائمة بين النص والمعنى هو علم الفقه وبهذا امتاز السلف الصالح عن غيرهم كانوا يحسنون متى يتجاوزون إلى المعنى ومتى يقفون عند اللفظ .
(10/8)
[ الأمر الثاني ] :الذي أكد عليه وهو من بديع استنباطه ، وهو المنامات فالمنامات والرؤى تؤكد أن الشريعة معللة فتأويل الرؤى هو إعمال المعاني، الناظر في صنيع المعبرين المؤولين للأحلام يجد أن عندهم قواعد ومن بديع قوله رحمه الله قال بعد أن ذكر جملة من الأمثال : قد ضرب الله الأمثال وصرفها قدرا وشرعا ويقظة ومناما ودل عباده على الاعتبار بذلك وعبورهم من الشيء إلى نظيره واستدلهم بالنظير إلى النظير قال : بل هذا أصل عبارة الرؤيا (أن تقول عبرت عبرت انتقلت من مكان إلى مكان ، والقياس انتقال من مكان إلى مكان ، عبرت الرؤيا أنت نقلت معناها من حال إلى حال) التي هي جزء من أجزاء النبوة ( جزء من ست وأربعين جزء وفي رواية جزء من بضع وسبعين جزء والإمام الطبري له كلام مطول جدا في تهذيب الآثار وهذا ثابت وهذا على حسب اقتداء النائم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبعضهم قال النبي- صلى الله عليه وسلم - مكث ستة أشهر يرى الرؤيا فتقع مثل فلق الصبح ثم مكث الفترة المتبقية ( 23 سنة ) ينزل عليه الوحي فستة أشهر بالنسبة للفترة المتبقية جزء من ستة وأربعين جزء فمنهم من قال ست وأربعون ومنهم من حمل هذا الأمر وهذا في انفكاك أجزاء النبوة ، والقرافي في البحر والفروق حاول يقول تتبعت حتى أوصلت بضع وعشرين خصلة وأنا في تتبع الباقي ولي فترة أتتبع الباقي وذكرها عنه الحافظ ابن حجر ورد هذا الكلام وما قبله .إذاً : تعبير المنام هو أصلا إعمال المعاني ) ونوع من أنواع الوحي فإنها مبنية عن القياس والتمثيل واعتبار المعقول بالمحسوس ألا ترى أن الثبات في التأويل كالقمص تدل على الدين فما كان منها من طول أو قصر أو نظافة أو دنس فهو في الدين كما أول النبي - صلى الله عليه وسلم - القمص بالدين والعلم والقدر المشترك بينهما أن كلا منهما يستر صاحبه ويجمله فالدين يستر صاحبه ويجمله والثوب كذلك ولذا من رأى في المنام أن ثوبه طويل فهذا دلالة على حسن دين
(10/9)
وكذا إن رآه نظيفا على خلاف ما لو رآه قصيرا أو وسخا فالقميص يستر بدنه والعلم والدين يستر روحه وقلبه ويجمله بين الناس ومن هذا تأويل اللبن بالفطرة لما في كل منهما من التغذية الموجبة للحياة وكمال للنشأة وأن الطفل إذا خلي وفطرته لم يعدل عن اللبن فهو مفطور على إيثاره على ما سواه وكذلك فطرة الإسلام التي فطر الله الناس عليها لذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال جبريل : اخترت طعام الفطرة لما شرب اللبن وقدمه على الخمر والعسل ومن هذا ….الخ كلامه
فالمؤولون في الحقيقة يعملون المعاني وعندهم فراسة ومعرفة في أحوال الرائي يصيبون بقوة نفس أولا أو بفراسة جيدة وبصدق فهذا المزيج ( مهارة ومعرفة جيدة بحال الرائي مع معرفة القواعد ) مثل الملكة كالفقيه فهو عنده ملكة بين نصوص وقواعد .
قال ابن القيم بكلام بديع في إعلام الموقعين عن أركان القياس إذ بين أركان القياس الأربعة في آية فقال :قوله تعالى "وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم من يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين "فهذا قياس جلي يقول سبحانه إن شئت أذهبتكم واستخلفت غيركم كما أذهبت من قبلكم واستخلفتكم فذكر أركان القياس الأربعة علة الحكم وهي عموم مشيئته وكمالها والحكم وهو إذهابه بهم وإتيانه بغير والأصل وهو من كان من قبل والفرع وهم المخاطبون .
القياس عملية اجتهادية فإن وقع الخطأ في أمثلة عديدة قد نجدها عند الأرائيين فهذا لا يلغي أصل القياس .
من الأدلة التي تثبت أن القياس حجة :
قوله تعالى " فاعتبروا يا أولي الأبصار " وقالوا العبور الانتقال ؛ الانتقال من سورة إلى سورة ومن قوم لقوم فإن حصل عند قوم أفعال فعاقبهم الله فعلينا أن نعتبر ومنه تؤخذ العبرة والعبرة الشيء الذي يسيل من العين أي الدمعة فالانتقال والعبور وهو الانتقال من مكان إلى مكان وأصل القياس انتقال وإلحاق شيء بشيء .
(10/10)
قوله تعالى : " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات و أنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط " فالميزان هو العدل والقياس الصحيح من الميزان فالميزان الذي يوزن فيه الشبيه بالشبيه والنظير بالنظير فتلحقه به فجعل التسوية بين المتماثلين والتفرقة بين المختلفين هو أصل عملية القياس ولذا جاءت أدلة عديدة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها إلحاق النظير بالنظير منها حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي فيه أن النبي- صلى الله عليه وسلم - عندما قال وفي بضع أحدكم صدقة قالوا يا رسول الله :أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر فقال - صلى الله عليه وسلم - أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر ، فهذا الحديث فيه إعمال معنى وكذلك الحديث الصحيح وهو حديث أبي هريرة يقول أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول لي غلام أسود فقال له النبي هل لك من إبل قال نعم قال ما ألوانها قال حمر قال هل فيها من أورق قال نعم قال فأنى ذلك قال لعله نزعة عرق قال فلعل ابنك هذا نزعة عرق" فجعل ابنه مثل الإبل وهذا قياس ، هذا إعمال معنى وكذلك حديث ابن عباس وفيه جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت يا رسول الله إن أبي مات وعليه صوم نذر فأصوم عنه فقال - صلى الله عليه وسلم - أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه قالت نعم قال فدين الله أحق أن يقضى " فجعل الصوم مثل قضاء الدين ، بعض أهل العلم ألحق الصلاة بهذا وهذا الإلحاق ليس بصحيح لأن الصلاة عبادة محصورة بين وقتين والصوم والنذر عبادة غير محصورة والعبادة إن حصرت بين وقتين ففاتت لا تجب بالأمر الأول وإنما قضائها يحتاج إلى أمر جديد لكن العبادة غير المحصورة ففاتت تقضى بالأمر الأول لأن الشرع ما وضع لها حدا لذا ناسب أن يكون بين الصوم والنذر مشابهة وكذلك حديث عمر لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القبلة للصائم قال
(10/11)
"أرأيت لو تمضمضت " فجعل مقدمة شرب الماء المضمضة ومقدمة الجماع القبلة فكما أن المضمضة لا تفطر فالقبلة لا تفطر وأما حديث معاذ وفيه " اجتهد رأيي ولا آلو " هذا ضعيف
كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري ومما جاء فيه " وقايس الأمور عندك واعرف الأمثال " فعمر يرشد أبا موسى في قضائه أن يقايس بين الأمور وقال له واعرف الأشباه فيعرف الأشباه ليقيس عليها فإذاً القياس أمر معروف وقع في كتاب ربنا وعلى لسان نبينا وفي آثار الصحابة ولذا قال المزني : الفقهاء من عصر النبي- صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا و هلم جرا استعملوا المقاييس في جميع الأحكام في أمر دينهم وأجمعوا على أن نظير الحق حق ونظير الباطل باطل .
(10/12)
نص الرسالة كما في سنن البيهقي:كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما أن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم حق لا نفاذ له وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك البينة على من ادعى واليمين على من أنكر والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا ومن ادعى حقا غائبا أو بينة فاضرب له أمدا ينتهي إليه فإن جاء ببينة أعطيته بحقه فإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية فإن ذلك أبلغ في العذر وأجلى للعمى ولا يمنعك من قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه لرأيك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق لأن الحق قديم لا يبطل الحق شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل والمسلمون عدول بعضهم على بعض في الشهادة إلا مجلود في حد أو مجرب عليه شهادة الزور أو ظنين في ولاء أو قرابة فإن الله عز وجل تولى من العباد السرائر وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ليس في قرآن ولا سنة ثم قايس الأمور ثم ذلك وأعرف الأمثال والأشباه ثم أعمد إلى أحبها إلى الله فيما ترى وأشبهها بالحق وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس ثم الخصومة والتنكر فإن القضاء في مواطن الحق يوجب الله له الأجر ويحسن به الذخر فمن خلصت نيته في الحق ولو كان على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين لهم بما ليس في قلبه شأنه الله فإن الله تبارك وتعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصا وما ظنك الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته " نهاية نص الرسالة .
(10/13)
اعترض ابن حزم على رسالة عمر إلى أبي موسى وقال مدارها على كذاب وفي الحقيقة لها ثلاثة طرق وهي ثابتة واعتمد ابن حزم في نفي القياس على مثل قوله تعالى " ما فرطنا في الكتاب من شيء " وقوله " فردوه إلى الله وإلى الرسول " وقال الشرع جاء بكل شيء ؛ والأمر في الحقيقة أن الشرع جاء بكل شيء وهذا صحيح مع النظر في التوسع في المعاني والشرع لم يأت بكل شيء بنص خاص حتى نلغي المعاني فلا بد من إعمال المعاني وبعضهم استدل ببعض الأحاديث الضعيفة في منع القياس من مثل حديث " تعمل هذه الأمة برهة بالكتاب وبرهة بالسنة وبرهة بالقياس فإذا فعلو ذلك فقد ضلوا "وهذا ضعيف .
وعلة الفقه والعلم اليوم فقهاء لا ينظرون في الحديث ومحدثون لا يعرفون قواعد الفقه هذه مشكلة ولذا من بديع مصنفات الخطيب البغدادي كتاب " النصيحة لأهل الحديث " نصحهم فيها أن ينظروا إلى الفقه وما عرفنا انفكاكا بين الفقه والحديث في العصور الأولى ولما درجت المذاهب وأصبح الإنسان يتحجج لمذهبه فشاعت الأحاديث الموضوعة .
انتهت المقدمة .
للقياس أربعة أركان ، الجويني ذكر ثلاثة أركان في تعريفه ، وهي :
الركن الأول : الأصل : وهو المقيس عليه والأصل الذي يبنى عليه .
الركن الثاني : الفرع : وهو الذي نريد أن نخرج حكما له وهو ما ينبني على غيره .
الركن الثالث : وجود علة مشتركة بين الأصل والفرع .
فأن نعدي العلة من الأصل إلى الفرع أو أن نلحق الفرع بالأصل لوجود هذه العلة الجامعة بينهما فيأخذ الفرع حكما كحكم الأصل وهذه العملية تسمى عند الأصوليين قياسا .
مثال : منع الله عز وجل البيع في وقت الجمعة حتى لا نتأخر عن الصلاة ولا ننشغل عنها فالأصل البيع في وقت الجمعة والعلة الانشغال عن الصلاة فالآن هل يجوز الإجارة في وقت الجمعة ( هذا فرع) لا يجوز لوجود نفس العلة في الإجارة وكذلك أي عقد ( زواج ، وكالة …الخ ) لا يجوز في وقت الجمعة لأن العلة حاصلة في الجميع .
(10/14)
قال الماتن : القياس :رد الفرع إلى الأصل ، وانتقد بعض العلماء ذلك فقالوا الأصح أن يقول رد الفرع إلى حكم الأصل فقالوا : أنه عرّف القياس وذكر فيه ثلاثة أركان ولم يذكر أربعة أركان والرابع هو حكم الأصل ، ولكن الجويني تقصد إسقاط ذكر حكم الأصل لأنه في كتابه الكافية في الجدل لما تعرض للقياس أكد أن العبرة في القياس بالأصل لا بحكمه فالعبرة أن نرد الفرع إلى الأصل .
أدق تعريف عندي للقياس هو أنه : إلحاق فرع بأصل في حكم بعلة جامعة . وهذا التعريف يشمل الأركان الأربعة وهي : الأصل ،الفرع ، العلة وحكم الأصل ، وثمرة القياس ( نتيجته ) هي حكم الفرع .
شروط أركان القياس :
[الركن الأول] : الأصل : وهو محل الحكم المعلوم ثبوته فيه . فالأصل هو المقيس عليه وهو ما انبنى عليه غيره وهو الذي ورد النص بحكمه .مثلا: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " البر بالبر والشعير بالشعير .." الحديث أصناف الربا ، اختلف العلماء في علة ربوية هذه الأصناف ( البر والشعير والتمر والزبيب ) فمنهم من قال العلة الكيل ومنهم من قال الوزن ومنهم من قال القوت الذي يقبل الادخار فلو قلنا العلة هي القوت مع الادخار فلو استبدلت كتابا بكتابين أو سيارة بسيارتين أو دارا بدارين فالعلة هنا غير متحققة فيجوز لي ذلك بل هذه الأمثلة الثلاثة لا خلاف فيها عند العلماء لأنها ليست قوتا ولا موزونة ( أي لا تباع بالوزن ) ولا مكيلا .
هنا يوجد تداخل بين الأصل وحكم الأصل فعرف الجويني القياس بناء على أن الأصل ليس هو المراد بذاته بل المراد هو حكم الأصل ، فعند ذكر شروط الأصل سنضطر إلى ذكر شيء يتعلق بحكم الأصل .
شروط الأصل : ( الشروط التي يجب أن تتوفر في الأصل )
أولا : أن يكون الحكم ثابتا بنص أو إجماع : فالحكم الذي ثبت بقياس لا يكون أصلا ، والنص هو كتاب أو صحيح سنة وهذا شرط لا خلاف فيه .
(10/15)
ثانيا : أن لا يكون هذا الحكم قد عدل به عن أصل( أي أن لا يكون قد عدل به عن قاعدة عامة في الشريعة) ؛ فالشرع جوّز أشياء يسميها العلماء قضايا أعيان فهذه ليست على الأصل وهي أمور مستثناة وذلك مثل شهادة خزيمة بن ثابت :وذلك أن يهوديا جاء يتقاضى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد قضيتك قال اليهودي بينتك قال فجاء خزيمة الأنصاري فقال أنا أشهد أنه قد قضاك فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما يدريك قال إني أصدقك بأعظم من ذلك أصدقك بخبر السماء( وهذا عمل بدلالة الأولى وهو نوع من أنواع القياس ويسميه الشافعي القياس الجلي ) فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادتين "
فشهادة خزيمة أمر خاص له فليست هي الأصل .
[الركن الثاني] : الفرع ؛ وهو الواقعة التي لم يرد نص فيها وهو الشيء الذي نبحث له عن حكم مثل الوكالة هل يجوز أن تعقد في وقت الجمعة أم لا ؟ مثلا : الخمر أصل والنبيذ فرع والعلة في تحريم الخمر الإسكار فإن وجدت هذه العلة في الفرع أعطينا الفرع حكم الأصل فأصبح النبيذ حراما .
فالفرع هو محل الحكم المطلوب إثباته فيه وهو الواقعة التي لم يرد فيها نص .
شروط الفرع :
أولا : أن لا يباين موضوعه موضوع الأصل ( أن يكون الموضوع واحدا ) فلا يجوز أن نقيس البيع على النكاح لأن الناس يقيمون البيع على المماسكة والمشاحة والربح ويقيمون النكاح على المساهلة والسخاء وحسن الخلق فهذان أمران متباينان فلا يمكن أن نلحق مسألة في النكاح على مسألة في البيع .
ثانيا : وجود علة الأصل في الفرع ؛ لأنه مناط تعدية الحكم هذا الفرع لا بد أن يوجد فيه العلة الموجودة في الأصل لأن ثمرة القياس أن تتعدى العلة من الأصل إلى الفرع .
ثالثا : أن لا يكون منصوصا عليه لأن القياس مع ورود النص لا يعمل به فإن وجدنا نصا في هذا الفرع من كتاب أو سنة أو في أقوال الصحابة فنحن أهنئ بأقوالهم من القياس .
(10/16)
[الركن الثالث ]: حكم الأصل : شروطه :
أولا : أن يكون الحكم شرعيا عمليا ثبت بنص ؛ قولهم حكم شرعي لخروج الحكم العقلي والحكم العادي والحكم المأخوذ بالتجربة ، وقولهم عملي لخرج الأحكام المتعلقة بالعقيدة والأخلاق والتزكية ، وقولهم ثبت بنص هنا يتداخل مع الأصل عندما تكلمنا عن شروطه .
ثانيا : أن يكون هذا الحكم معقول المعنى ؛ ومن المعلوم عند العلماء أن الأعداد والتقديرات الشرعية والعبادات المحضة الأصل فيها عدم الالتفات إلى المعاني بخلاف المعاملات والعادات ، فالعبادات لا تثبت بالقياس لتخلف هذا الشرط ولأن الأصل في العبادات أنها موضوعة للابتلاء وليست موضوعة من أجل التماس المعاني .
ثالثا : أن لا يكون حكما مختصا بالأصل : مثلا في قتل العمد يقتل القاتل والعلة إزهاق النفس والعدوان ولذا يلحق العلماء القتل بالمثقل بالقتل بالمحدد وهذا مذهب جماهير أهل العلم فالناس من عادتهم أن يقتلون بما له حد كالسكين والرمح والمسدس والسيف فلو جاء رجل وألقى صخرة كبيرة على رأس رجل آخر فقتله هذا قتل بمثقل فمذهب الجماهير هنا القاتل يقتل وهو القول المعتمد عند الحنفية خلافا لمذهب أبي حنيفة ولكن أصحابه من مثل أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي ومحمد بن الحسن الشيباني والحسن بن زياد اللؤلؤي يقولون بقتله وذلك لأن العلة حاصلة في هذه الحالة .
هناك حكم مختص بهذا الأصل وهو الوالد إن قتل ابنه فثبت في الحديث " لا يقاد الوالد بولده " فلو أن والدا قتل ولده فإنه لا يقتل به فالوالد له حكم خاص فلا يجوز أن نقيس غيره عليه .
لما نذكر الشروط التي ذكرها العلماء للأصل ولحكم الأصل نجد تطابقا بينها فشروط الأصل هي عين شروط حكم الأصل لذا لصنيع الماتن وجه في إسقاط حكم الأصل إذ العبرة بالأصل ولا ينفك الأصل عن حكمه فلما ذكر الماتن رد الفرع إلى الأصل المراد تحصيل حاصل حكم الأصل .
رابعا : أن لا يكون منسوخا ؛ إذا كان الحكم منسوخا فلا يقاس عليه .
(10/17)
ملاحظات مهمة :
الملاحظة الأولى : مما ينبغي أن يعلم أن القياس لا يثبت حكما شرعيا ولكن هو يكشف عن حكم كان ثابتا للأصل ونحن نلحق النظير بالنظير فالقياس في أصله هو إعمال لشيء له مستند في الشرع وهذا يشبه الإجماع فيستحيل أن تجتمع العقول على شيء غير منصوص ولكن لا يلزم من حجية الإجماع إبراز الدليل وكذلك لا يلزم من حجية القياس معرفة هذه العملية بالتطويل أي أن تقول فرع وأصل ..الخ ولكن يذكر أن هذا ثبت بالقياس ، فغاية ما في القياس أنه إظهار لحكم في المقيس تأخر إلى أن كشفه المجتهد فتبرهن عنده وجود علة الحكم لهذا الشيء الذي اجتهد فيه فالقياس مظهر للحكم وليس مثبتا له فعادت الحجية للنصوص فالقول بحجية القياس لا يلغي حجية النصوص ومن الخطأ التوسع في القياس إذ مداره أنه كشف عن شيء ورد في نص ثم نقل إلى صورة شبيهة به .
الملاحظة الثانية : القياس ضرب من ضروب الاجتهاد ولكن القياس أضيق من الاجتهاد فمخطئ من لم يفرق بين الاجتهاد والقياس فكل قياس اجتهاد وليس كل اجتهاد قياس ، فالاجتهاد هو بذل الوسع في إظهار الحكم الشرعي أي أن يستفرغ المجتهد وسعه في أن يظهر الحكم الشرعي وقد يكون هذا بإلحاق وقد يكون بغير إلحاق وقد يكون الإلحاق من الشرع بعلة منصوصة وهكذا فالقياس أضيق من الاجتهاد .
[ الركن الرابع ] : العلة :
العلة : هي الوصف الذي يبنى عليه الحكم بناء على وجوده في الفرع . والأحكام تدور مع العلل وجودا وعدما فإن وجدت العلة وجد الحكم وإن تعطلت العلة تعطل الحكم ، والعلة هي المعاني التي أرادها الشرع من وراء الحكم الذي يفترض أن ننقله من الأصل إلى الفرع .
يعرف الأصوليون العلة بأنها وصف ظاهر منضبط ؛ فلا بد من أن تكون العلة وصفا ظاهرا ولا تكون وصفا خفيا ولا بد أن يكون هذا الوصف منضبطا ولا يجوز أن يكون مضطردا نسبيا فمثلا: ما علة الجمع أو القصر أو الإفطار في السفر ؟
(10/18)
فلو قلنا العلة هي المشقة ولكن المشقة أمر باطن ليس ظاهر ونسبي غير منضبط فقد يسافر أحدهم ويقول لا مشقة في السفر وقد يسافر آخر معه ويقول هناك مشقة في السفر فهذا أمر غير منضبط فلا تعتبر علة فالمشقة هي الحكمة من القصر فقد تتخلف المشقة ويبقى الحكم وأما العلة هي السفر فالسفر أمر ظاهر فأن تركب دابة وتضع طعاما وتمشي مسافة فأنت مسافر وكذلك السفر منضبط بخلاف المشقة فقد يكون هناك مشقة لطالب عنده توجيهي فلا يجوز له الإفطار لأن المشقة ليست علة الحكم وكذلك لو أن إنسانا فرّان والجو حار فعليه مشقة فلا يجوز له أن يفطر وأما ملك سافر سفرا مرفها وعنده أحسن وسائل الراحة فله أن يفطر لوجود العلة فالحكم الشرعي يدور مع العلة ولا يدور مع الحكمة ، وقد تنوب الحكمة في بعض المسائل فتعامل معاملة العلة ولكن في أمور ضيقة تكون عندنا أشياء تأذن بمثل هذا الإلحاق تكون قد وردت في النصوص مثل " أراد أن لا يحرج أمته " فالحرج أمر غير منضبط لكن ورد فيه نص ولما يرد الحرج وينصص عليه فنعامله معاملة العلة وتنوب الحكمة عن العلة وإن كانت الحكمة غير العلة والأصل في الأحكام أن تدور مع عللها ولا تدور مع حكمها وهكذا في سائر الأشياء فعلة قتل القاتل هو العمد والعدوان وحرم السرقة حفاظا لأموال الناس فيوجد حِكَم وعلل ولكن الشرع وضع قيودا معينة للعملية أو للشيء الذي يناط به الحكم فتبقى الحكمة على سعتها والعقول تصول وتجول في الحكم والأمر في استنباط الحكم يعود إلى مقدار ما في الإنسان من فهم والأمر فيها واسع فالعلماء يتوسعون في موضوع الحكم والذي يسمونه العلماء أسرار التشريع لكن العلل تحتاج إلى ضوابط أكثر وتحتاج لمسالك معينة منصوص عليها مذكورة في كتب الأصول ، فكما قلنا قد توجد الحكمة ولا يربط بها الحكم كالمشقة فقد توجد مشقة في وجه أبرز وأظهر للعيان ويتخلف الحكم عنها والمكتبة الإسلامية تفتقر إلى الكتب التي تبحث في حكم التشريع ( أسرار
(10/19)
التشريع ) وممن اعتنى بأسرار التشريع بتأصيل وتمثيل قليل ابن القيم في الإعلام وممن اعتنى بأسرار التشريع من المعاصرين محمد رشيد رضا في تفسيره المنار ومجلته المنار وهنالك أشياء في الحكم تبهر العقول ويحتار فيها الإنسان وهذا كله يؤكد أن الشريعة من لدن حكيم خبير ، فالعلة وصف ظاهر منضبط والحكمة وصف غير ظاهر ولا يلزم أن يكون ظاهرا ولا منضبط .
فالأصوليون يعرفون العلة :بأنها وصف ظاهر منضبط تدور معها الأحكام الفقهية وجودا وعدما ،وأقوى العلل هي العلل النصية التي ثبتت بالنص من مثل " ألا إني قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكر بالآخرة " فالعلة هي التذكير بالآخرة ومنها " نهى الحاج أن يدخر الأضاحي من أجل الدافة التي دفّت " فعلة عدم الادخار هو وجود الفقراء فنستطيع أن نحمل فنقول :
الحكمة : هي المصلحة التي قصد الشارع تحقيقها بتشريعه الحكم والعلة هي الوصف الظاهر المنضبط الذي بني عليه الحكم .
شروط العلة :
الشرط الأول : أن يكون الوصف ظاهرا :
(10/20)
النسخ :
*وأما النسخ : فمعناه لغة الإزالة ، يقال : نسخت الشمس الظل إذا أزالته ورفعته . وقيل معناه النقل من قولهم : نسخت ما في هذا الكتاب أي نقلته .
وحده : هو الخطاب الدال على رفع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه .
ويجوز نسخ الرسم وبقاء الحكم ، ونسخ الحكم وبقاء الرسم ، والنسخ إلى بدل وإلى غير بدل ، وإلى ما هو أغلظ وإلى ما هو أخف .
ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب ، ونسخ السنة بالكتاب ، ونسخ السنة بالسنة ، ونسخ المتواتر بالمتواتر منهما ، ونسخ الآحاد بالآحاد والمتواتر .
ولا يجوز نسخ المتواتر بالآحاد ولا نسخ الكتاب بالسنة ولا المتواتر بالآحاد لأن الشيء ينسخ بمثله وبما هو أقوى منه .*
قال الشيخ مشهور حفظه الله : أنزل الله عز وجل كتبا وله شرائع ونسخ دين الإسلام الشرائع السابقة فكل شرع لا يوصل إلى رضاه ولا إلى جنته غير الإسلام وكما أن الله عز وجل ينسخ الأديان بالجملة فإنه أيضا ينسخ بعض الأحكام والنسخ في الأحكام يكون في الأوامر دون الأخبار فالشرائع أخبار وعقائد وأوامر ونواهي فالعقائد مؤتلفة غير مختلفة ولكن قد يقع تفصيل في عقيدة ما كما قال - صلى الله عليه وسلم - "ما من نبي إلا وقد أنذر قومه الدجال إلا أني أزيدكم فأقول إنه أعور " فزاد ، فأخبرنا بشيء لم يخبر عنه نبي قبله والحديث في صحيح البخاري والفضيل بن عياض يقول " ما زينت الجنة لأمة كما زينت لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أفلا أجد لها مثمرا " .
الشيء الذي ينسخ هو المباح والحرام والواجب ولا نعرف مكروها ولا مسنونا نسخ فقد ينسخ الحرام إلى المسنون كقوله - صلى الله عليه وسلم - " كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزورها " .
(11/1)
النسخ في اللغة يطلق على عدة معان قال الفيروز أبادي في القاموس : نسخه :أزاله وغيره وأبطله وأقام شيئا مقامه ، مدار فعل نسخ على الإزالة وقد يكون هذا الزوال يزول من شيء إلى شيء وقد يزول من غير أثر ، فتقول العرب : نسخت الشمس الظل ، نسخت الريح الآثار ، فالنسخ الأول انتقال من مكان لآخر والنسخ الثاني نسخ من غير بقاء ومنه المناسخات في علم المواريث : وهي موت ورثة بعد ورثة وأصل الميراث قائم لم يقسم .
جماهير الأصوليين يقولون : إن النسخ حقيقة في الإزالة وقد يستخدم في النقل مجازا وقوله نسخت ما في هذا الكتاب أي نقلته يشوش عليه في أن نسخ الكتاب ليس نقلا لما في الأصل وإنما هو إيجاد مثل ما كان في الأصل في مكان آخر ولو قال الكتابة تطلق على ما يشبه النقل مع بقاء أصلها بعينه لكان أحسن .
اختلف الأصوليون في تعريف النسخ ووقع خلاف في مفهومه في النصوص الشرعية ؛ فعرفه البيضاوي في المنهاج قال "النسخ هو بيان انتهاء حكم شرعي بطريق شرعي متراخ عنه " هذا التعريف عليه ملاحظات من أهمها :
قوله "انتهاء" فقد ينتهي الحكم الشرعي الذي له غاية بطريق شرعي متراخ عنه ولا يسمى نسخا فمثلا الصيام هو الامتناع عن الطعام والشراب والوطء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فانتهاء منع الحكم وتناول الطعام بعد غروب الشمس انتهاء حكم شرعي بطريق شرعي متراخ عنه فالانتهاء لا يلزم منه النسخ ، لو أن رجلا أجّر رجلا دارا لمدة سنة وانتهت السنة نقول انتهى عقد الإيجار بطريق شرعي وهذا لا يسمى نسخا .
عرّف ابن قدامة في الروضة : النسخ هو رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متراخ عنه .هنا الرفع أدق من الانتهاء مع أنه ليس كل رفع نسخ فقد يرفع الحكم بعذر شرعي مثل الوفاة أو الجنون أو انعدام المحل هذا يسمى رفع فلو أن رجلا تأجر من آخر دارا فهدمت الدار في أثناء مدة الإيجار نقول رفع العقد لأن محله انعدم ونقول عن إنسان عاقل جن رفع عنه القلم .
(11/2)
ويؤخذ على تعريف الماتن للنسخ بأن هذا حد للناسخ وليس للنسخ فالخطاب هو الناسخ . ويمكن تعريف النسخ من ألفاظ الماتن فنقول : النسخ هو رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب آخر لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه .
تعود الهاء في " لولاه " على الخطاب الثاني واسم كان في " لكان ثابتا " هو الحكم أي لولا الخطاب الثاني لكان الحكم الذي ثبت بالدليل الأول ثابتا . " تراخيه عنه " تراخي الخطاب الثاني عن الخطاب الأول .
قيود التعريف 1- رفع الحكم المتعلق بفعل المكلف : حتى تخرج الأخبار ، الحكم المتعلق بفعل المكلف إيجادا وعدما فعلا وكفا ( الكف فعل كما قررنا ) فقد ينسخ الواجب والحرام و المباح ، أما الأحكام أو النصوص الشرعية والخطابات الشرعية المتعلقة بغير أفعال المكلف بل متعلقة بتصوراته و بأخباره فهذه كلها لا تنسخ مثل صفة الجنة والنار وأن الله حق وأن الأنبياء حق .
2- لا يوجد نسخ لشيء لم يثبت أصلا في الشرع : لأن الأصل في الأشياء البراءة أو الإباحة ولكن العلماء يفرقون بين البراءة الأصلية و الإباحة فيقولون : ما لم يرد فيه نص فهو على البراءة الأصلية وما ورد فيه نص بالحل وجواز التمتع به فهو مباح ،فلما فرض الله علينا الصلاة (وكانت من قبل غير مفروضة علينا ) لا نقول أن الخطاب الذي فرض فيه الصلاة نسخ عدم فرض الصلاة لأن عدم فرض الصلاة لم يثبت بدليل شرعي فهي على البراءة فلا يسمى نسخا ، ولكن ممكن أن يأمر الله بأمر ولم يقع بعد فيلحقه نسخ فمثلا لما أمر الله عز وجل في المعراج أمة محمد بخمسين صلاة ثم حطها إلى خمس صلوات فالخمس نسخت الخمسين مع عدم الفعل .
3- لا يوجد نسخ لحكم ثبت شرعا ولكن رفع بعارض من العوارض مثل الجنون ؛ فالمجنون رفع عنه التكليف ليس بالخطاب الآخر وكذلك من مات رفع عنه التكليف ولكن ليس بخطاب جديد .
(11/3)
4- الحكم الذي ثبت بدليل شرعي وله غاية ومدة محددة وانتهت مدته لا يسمى نسخا : مثلا في صلاة الجمعة قال الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة … فإذا قضيت الصلاة فانتشروا .. " الآية فمتى انتهت الصلاة يجوز للناس أن ينتشروا في الأرض وهذا لا يسمى نسخا .
5- يجب التراخي بين الناسخ و المنسوخ : فإذا كان مع الخطاب صفة أو شرط أو استثناء ليس متراخيا عنه فلا يسمى نسخا .
مما ينبغي أن يذكر أن النسخ في النصوص الشرعية أوسع منها في هذا الاصطلاح ومن أسباب ضلال كثير من الناس أن يفهموا النصوص على الاصطلاحات الحادثة عند المتأخرين فمثلا التأويل عند المتأخرين وهو صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر بقرينة . لكن في النصوص الشرعية التأويل من معانيه التفسير فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن أي يفسره ، فالنسخ في نصوص الشرع لا يسمى رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب آخر …الخ فالنسخ في نصوص الشرع أوسع من ذلك فالشيء القلق غير الواضح إن بينه الشرع وأزال المعاني المحتملة يسمى نسخا وكذلك تخصيص العام وتقييد المطلق يسمى نسخا ، وممن نبه على معنى النسخ عند السلف بكلام جيد جمع من الأقدمين منهم : الحارث المحابي في كتابه فهم القرآن ثم تبعه بعض المحققين منهم ابن تيمية وابن القيم والشاطبي .
في صحيح مسلم ج: 1 ص: 115
(11/4)
عن أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير قال فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا أي رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير( قال الشيخ مشهور : العقل أمام النقل لا وجود له كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية الشرع قاض والعقل شاهد ويجوز للقاضي أن يطرد الشاهد متى شاء ) فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم فأنزل الله في إثرها آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل الله عز وجل لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال نعم ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال نعم ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به قال نعم واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين قال نعم " وقد نقل عن جمع كابن مسعود وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس والحسن والشعبي وابن سيرين وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء الخرساني و السدي ومحمد بن كعب القرظي ومقاتل والكلبي وابن زيد أنهم قالوا : ليست بمنسوخة ، إذن ظاهر الأمر فيه تعارض .(وابن تيمية له كتاب في هذه المسألة اسمه التحفة العراقية في الأعمال القلبية ) فعند التحقيق لا خلاف بين السلف في الآية فالمراد
(11/5)
بقول أبي هريرة " ثم نسخها الله " ليس النسخ المعروف عند الأصوليين بحده الذي ذكرناه .
قال ابن تيمية : وفصل الخطاب أن لفظ النسخ مجمل فالسلف كانوا يستعملونه فيما يظن دلالة في الآية عليه إن كانت آية دلالتها على شيء مظنون فكانوا يسمونه نسخا من عموم أو إطلاق أو غير ذلك كما قال من قال إن قوله تعالى " اتقوا الله حق تقاته " و " جاهدوا في الله حق جهاده " نسخ بقوله تعالى " فاتقوا الله ما استطعتم " وفي الحقيقة أن هذا ليس نسخا لأنه لو أثبتنا " اتقوا الله حق تقاته " على أنها منسوخة والذي نسخها " اتقوا الله ما استطعتم " لأثبتنا التكليف بالمحال لأنه كلفنا شيئا فوق الاستطاعة وهو حق التقوى وهذا لا يقول به أحد ومن قال بجواز التكليف بالمحال أيضا اعتمد على هذا فوقع خلط في الكثير من الفروض بل في بعض المسائل الأصولية بسبب الغفلة عن تحرير وتحقيق معنى النسخ عند السلف , قال ابن تيمية :وليس بين الآيتين تناقض لكن قد يفهم بعض الناس من قوله حق تقاته وحق جهاده الأمر بما لا يستطيعه العبد فينسخ ما فهمه هذا كما ينسخ الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته وإن لم يكن نسخ ذلك بل نسخ ما أنزله الشيطان إما من الأنفس ومن الأسماع أو من اللسان وكذلك ينسخ الله ما يقع في النفوس من فهم معنى وإن كانت الآية لا تدل عليه لكنه معنى محتمل معنى قد يخطر في البال ، كما خطر في بال الصحابة فمعنى النسخ أن الآية الثانية وضحت وبينت وأزالت ما قد يفهم خطأ من الآية فصار النسخ عند السلف معناه تخصيص العام وتقييد المطلق والشيء الذي قد يفهم على وجه خطأ ينسخ الله عز وجل المعنى هذا المحتمل الذي قد يلقى في النفوس فينسخه عز وجل بمعنى التبيين و التوضيح وإزالة الإجمال وتعيين المراد ولذا النسخ عند السلف أوسع من النسخ كاصطلاح أصولي .
(11/6)
قال : وكذلك ينسخ الله ما يقع في النفوس من فهم معنى وإن كانت الآية لم تدل عليه لكنه محتمل وهذه الآية من هذا الباب ، معنى فنسخ الله " : يعني أحكم الله تعالى ما يريد وبين ما يريد وأزال ما قد وقع في نفوس الصحابة من ظنهم أن الله تعالى قد كلفهم ما لا يقدرون أو ما لا يستطيعون فإن قوله " وإن تبدو ما في أنفسكم … " الآية إنما تدل على أن الله يحاسب بما في النفوس لا على أنه يعاقب على كل ما في النفوس فالعمل القلبي قسمان ؛خواطر تهجم عليه فهذا غير مؤاخذ فيه وأشياء تحت قدرته ومكنته مكتسبة فهذا يؤاخذ عليه ويدل على ذلك حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فهما في الأجر سواء ، فهما في الوزر سواء من فعل ومن تمنى ( من فعل فعلا قلبيا مكتسبا ) قال فهما في الأجر سواء وهما في الوزر سواء ..الخ كلام ابن تيمية انظر الجزء 14 صفحة 101 من مجموع الفتاوى .
قامت اليوم عند بعض الكتاب فألف بعضهم كتابا سماه " لا نسخ في القرآن " وأنكر النسخ بالكلية وهذه نغمة خرجت من السوربون من فرنسا على ألسنة اليهود الجدد ورددها للأسف بعض المسلمين وتعلقوا بأشياء ما أنزل الله بها من سلطان ولم يقل أحد من علمائنا السابقين بمنع النسخ أعني المعتبرين وذكرنا سابقا أن الاجتهاد الذي ندعو إليه والذي نحث الطلبة عليه أن يعرفوا ما عليه أسلافنا وأن يتبعوهم وأن يكونوا متبعين غير مبتدعين وما كان دينا فهو دين وما لم يكن دينا فهو ليس بدين ويستحيل أن يصيب الحق في هذا الأمر الكلي شخص وأن نضلل شخصا أحب إلينا من أن نضلل جميع علمائنا السابقين من أتانا بشيء من هذا فأن نقول هو ضال أحب إلينا من أن نقول جميع علمائنا قد ضلوا .
(11/7)
أقول بعض الناس أنكر وقوع النسخ بالكلية ولم يؤثر هذا عن أحد من الأقدمين ولكن يذكر عن رجل من المعتزلة يكنى أبا مسلم الاصفهاني كان ينكر وقوع النسخ وعند المحاققة والمباحثة كما قال الشوكاني في إرشاد الفحول وهو يسمي النسخ باسم آخر هو يعترف بحقيقة النسخ لكن يسميه اسما آخر غير النسخ فإذن عاد الأمر إلى لا مشاحة في الاصطلاح وأن نبقى نستخدم الاصطلاح الشائع عند العلماء أضبط وأحسن من أن نحدث اصطلاحا جديدا استدل أبو مسلم الاصفهاني على منع النسخ في النصوص من الكتاب والسنة بدليل نقلي وآخر عقلي وردده معه وتعلق به وتشبث به من ألف في هذا الباب من المعاصرين قال يقول الله عز وجل في سورة فصلت " وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " فقال إن الله عز وجل بين ونفى عن كتابه إتيان الباطل فلو نسخ شيئا لكان باطلا وقالوا النسخ فيه عقيدة البداء أو البدو وهي العقيدة التي يقولها اليهود أي أن الله عز وجل ظهر له شيئا بعد أن خفي عليه فأمر بشيء ثم ظهر له أن الخير والصواب في خلافه فقالوا لو قلنا بجواز النسخ في الأخبار لقلنا بعقيدة البداء ، وفي الحقيقة هذا كلام ساقط وليس بصحيح ورد العلماء على هذا المذهب بأن الباطل المذكور في القرآن هو الكذب وشتان بين الكذب والنسخ أو أن الباطل الوارد في الآية معناه منع الإبطال فلم يتقدمه ما يبطله ولن يلحقه ما يبطله فهو محكم بخلاف الشرائع السابقة فلو سلمنا إن النسخ فيه إبطال الحكم فالباطل غير الإبطال فلو سلمنا أن القرآن يبطل وفيه إبطال للحكم ؛ الحكم السابق بحكم لاحق فهذا غير الباطل فالنسخ حق لا باطل فيه وإن كان فيه إبطال لحكم سبقه ، ثم القول بالبداء هذا جهل فنقول إن الله لما أمر بالتكليف الأول أمرهم بما هو عالم أنه سيرفعه في وقت النسخ وإن لم يطلعنا عليه .
(11/8)
وجماهير أهل العلم جوزوا النسخ ووقوع النسخ في النصوص الشرعية بل نقل بعض الأصوليين الإجماع عليه فمثلا قال الباجي في كتابه " إحكام الفصول " قال كافة المسلمين على القول بجواز النسخ وقال أبو الخطاب الكلداني الحنبلي في كتابه التمهيد قال : يحسن نسخ الشرائع عقلا وسمعا وهو قول عامة الفقهاء والمتكلمين وقال الرازي في كتابه المحصول النسخ جائز عقلا ونقلا وسمعا وقال الكمال بن الهمام في كتابه التحرير أجمع أهل الشرائع على جواز وقوعه .
والأدلة على جواز وقوع النسخ كثيرة منها الدليل العقلي فالناس في اعتقاد أن أفعال الله عز وجل معللة أولا على قولين منهم من قال أن أفعال الله معللة ومنهم من قال أن الله أفعاله لا تقبل التعليل فعلى القول على أن أفعال لا تقبل التعليل فالله له أن يفعل ويأمر بما شاء فسقطت أصل المسألة وبالتالي الله عز وجل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون فله سبحانه أن يأمر و أن ينهى بما شاء .
وعلى القول بأن أفعال الله تقبل التعليل فحينئذ يكون وقوع النسخ من أجل حكمة ومصلحة وذلك أن لله عز وجل شرائع وشريعة الإسلام كما أنها نسخت الشرائع السابقة فقد يقع في مفردات هذه الشريعة ما ينسخ بعضها بعضا فالكل دين والكل شرع فما الذي منع سابقا وما الذي جوّز سابقا ومنع لاحقا وكذلك الناس مختلفون بحسب خلاف الأزمنة ولكل زمان نوع من التدبير وحظ من اللطف و المصلحة تختص بزمان دون زمان وبأمة دون أمة وهذا المعنى فيه بيان أن الله يربي عباده ويؤدبهم وينقلهم من عمل إلى عمل فحينئذ النسخ عقلا ليس بممنوع .
(11/9)
أما الأدلة النقلية فقد التصريح بالنسخ في كتاب الله في قوله تعالى " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " فهذه الآية دلت بمنطوقها على أن الله عز وجل ينسخ آية ويأتي بمثلها أو بخير منها وهنا دلالة على تفاضل آيات القرآن ولا يلزم من الأفضلية القدح في المفضول وكذلك قول الله تعالى في سورة النحل "وإذا بدلنا آية مكان آية " فهاتان آيتان دلتا على جواز النسخ .
قلنا أن أبا مسلم الاصفهاني المعتزلي من وفيات 459 هجري أنكر النسخ ووقع خلاف في معنى إنكاره فقيل إنه لم ينكر أصل وقوعه عقلا وإنما أنكر وجوده في النصوص الشرعية وقيل العكس وقيل إنه أنكر النسخ فقط .
استهجن أهل العلم حتى المعتزلة هذا القول فقال صاحب المعتمد أبو الحسين البصري وهو معتزلي : اتفق المسلمون على حسن نسخ الشرائع إلا حكاية شاذة عن بعض المسلمين . وقال الشوكاني في إرشاد الفحول : النسخ جائز عقلا وواقع شرعا بلا خلاف في ذلك بين المسلمين إلا ما يروى عن أبي مسلم الاصفهاني فإنه قال إنه جائز غير واقع وإذا صح هذا عنه فهو دليل على أنه جاهل بهذه الشريعة المحمدية جهلا فظيعا وأعجب من جهله بها حكاية من حكى عنه الخلاف في كتب الشريعة فإنه إنما يعتد بخلاف المجتهدين لا بخلاف من بلغ في الجهل إلى هذه الغاية وعلى كلا التقديرين فذلك جهالة منه عظيمة للكتاب والسنة ولأحكام العقل فإنه إن اعترف بأن شريعة الإسلام ناسخة لما قبلها من الشرائع فهذا بمجرده يوجب عليه الرجوع عن قوله .
(11/10)
فائدة: لا يلزم من كل ما يمنع عقلا أن يقع شرعا وكل ما وقع شرعا يلزم منه أن يقبله العقل فلا معارضة بين النص الصريح والعقل الصحيح وإذا حصلت المعارضة نتهم العقل قال الراسي في أحكام القرآن : إذا جالت النصوص في ميادين الكفاح طارت العقول على أسنة الرماح . انتهى كلامه فمثلا رؤية الله في الدنيا غير واقعة شرعا لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " لن ير أحدكم ربه حتى يموت " أما عقلا فهي واقعة وجائزة لأن الله أخبر موسى برؤيته بشرط استقرار الجبل وكان بالإمكان استقرار الجبل أما في الآخرة فالرؤية واقعة شرعا وعقلا .
قال الشيخ مشهور : ما الذي يمنع أن السيد يأمر الآن بأمر ثم بعد حين يأمر بأمر آخر وما الذي يمنع صدور أوامر مختلفة في أوقات مختلفة لأشخاص مختلفين فكما أن الله أمر اليهود والنصارى بأشياء وأمر المسلمين بأشياء فلا يمنع أن يأمر المسلمين في أول الأمر بأشياء ثم في آخر الأمر يستقر الحال على أشياء أخرى .
وقال الآمدي: وقد اتفق أهل الشرائع على جواز النسخ عقلا وشرعا ولم يخالف في ذلك من المسلمين سوى أبي مسلم الاصفهاني فإنه منع من ذلك شرعا وجوّزه عقلا . وقال الرازي في المحصول : اتفقت الأمة على جواز نسخ القرآن وقال أبو مسلم الاصفهاني لا يجوز .
يمكن تعريف النسخ بأنه : رفع حكم شرعي عملي جزئي ثبت بالنص بحكم شرعي عملي جزئي ثبت بالنص ورد بخلافه في وقت متأخر عنه ليس متصلا به .
من خلال التعريف يمكن معرفة شروط النسخ وهي :
أن يكون الحكمان شرعيين :فالحكم العقلي والعادة وسنة الله في الأقوام وما شابه لا ينسخ .
أن يكونا عمليين أي ليس في العقيدة .
أن يكونا جزئيين فلا تنسخ قاعدة من قواعد الشريعة الكلية .
أن يكونا ثابتين بالنص .
(11/11)
أن يكونا متناقضين في المعنى : التناقض غير التضاد ؛ المتناقضان لا يجمع بينهما أما المتضادان يجمع بينهما ، فالناسخ والمنسوخ العلاقة بينهما التناقض فإن ظهر تعارض في بادئ الرأي ثم وفقنا بينهما وأعملنا كلا منهما هذا لا يسمى نسخا لأنه ما رفع حكم واحد منهما لذا اشترط في الحكمين أن يكونا متناقضين .
أن يكونا منفصلين : فلو جاء استثناء أو صفة ورفعت الصفة ورفع الاستثناء أو ذكر شرط وألغي الشرط هذا يسمى تخصيص وتقييد ولا يسمى نسخا .
أن يكون الناسخ متأخرا عن المنسوخ في تشريعه .
ومن خلال ذلك نعرف الآتي :
أولا : أنه لا يجوز النسخ في الأخبار وعلى رأس هذه الأخبار التوحيد والصفات وسائر الاعتقاد لعدم وقوع التناقض بينهما لا في شريعة نبينا مع شريعة من قبله ولا في شريعة نبينا في المتقدم منها مع المتأخر فلا نسخ في التوحيد .
ثانيا : لا نسخ في الأخبار بشكل عام ، مثل قصص الأنبياء ، الأخبار التي أخبر بها ربنا والتي أخبر بها نبينا - صلى الله عليه وسلم - فهذه لا تقبل النسخ .
ملاحظة : القاعدة المقررة عند العلماء أن الأخبار لا تقبل النسخ لكن هل أخبار الوعيد تلحق النسخ أم لا ؟ عندنا وعد ووعيد ومذهب أهل السنة أن ما وعد الله به من ثواب وجنة وحسنه فلا بد أن يتحقق والوعيد تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى وهنالك فلتة وقع بها بعض أهل العلم فجوزوا النسخ في الوعيد وهذا أمر خطأ محض فلا يجوز النسخ في الأخبار حتى في أخبار الوعيد لا يجوز النسخ فيها لأن الله عز وجل علق وعيده بمشيئته فإن شاء عذب وإن شاء رحم كما هو الشأن في عصاة الموحدين والنسخ لا يقع في أمر منجز أو معلق بنفس دلالة الخبر ، في نفس دلالة الخبر علّق الأمر بالرحمة بمن شاء فهذا لا يسمى نسخا ؛ فلو تخلف الوعيد هذا لا يسمى نسخا ، لم ؟ لأنه عُلّق بنفس الخبر ، عُلّق الأمر بالمشيئة أصلا في النصوص ولذا مخطئ من قال إن النسخ يجوز في أخبار الوعيد .
(11/12)
ثالثا : لا يتصور النسخ في الفضائل ( فضائل الأعمال ) لأنها ليست حكم عملي ، أخبار أيضا ، ولا يتصور النسخ في الأخلاق فمثلا الله يحثنا على الكرم ثم يقول :لا الآن أنتم كونوا بخلاء هذا غير متصور .
رابعا : لا يقع في مقاصد الشريعة الكلية في المحافظة على الأمور الخمسة ولا في القواعد الكلية .
خامسا : لا يجوز النسخ في الأحكام الجزئية العملية التكليفية إن اقترنت بما دل على تأبيدها ، كما ثبت في الصحيح في حديث المعراج فقد النبي - صلى الله عليه وسلم - "هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي " وكذلك ثبت عند أبي داود من حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " هذا الحكم دل على أن الهجرة معلقة بالتوبة وأن التوبة معلقة بطلوع الشمس من المغرب فإذن الهجرة حكم محكم باق إلى يوم الدين .
سادسا: لا بد أن يكون النسخ في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فبعد وفاة النبي- صلى الله عليه وسلم - فالحكم محكم ولا يأتي ما ينسخه ، ولذا لا نسخ بقول الصحابي ولا بالإجماع ، فمن قال ينسخ بالإجماع فهذا إجماع غير صحيح فمثلا الأعراف الدولية في عصرنا مجمعة على حقوق الأسرى ولا يوجد رق وهذا الإجماع باطل ولا ينسخ الرق وكذلك وطئ النساء التي تؤسر في الحرب ( السبايا ) ولكن إن تحققنا بيقين دون شك ولا تخمين أننا إن لم نطأ نسائهم حافظوا على نسائنا فيجب علينا أن لا نطأ نسائهم ليس حرمة لهن ولكن حرمة لنسائنا .
وكذلك لا يوجد نسخ بالقياس أو بالرأي .
سابعا : النسخ مرتبط بنزول الوحي وأن الشريعة محكمة وتركنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك .
(11/13)
قول الماتن : والنسخ إلى بدل وإلى غير بدل . قال الشيخ مشهور : الحقيقة هذا الكلام عزاه بعضهم إلى الجمهور وهو ليس بدقيق بل وجدت في كلام الشافعي رحمه الله ما يشير إلى أنه لا يقبل هذا الكلام فقال الشافعي : وليس ينسخ فرض أبدا إلا أثبت مكانه فرض كما نسخت قبلة بيت المقدس فأثبتت مكانها الكعبة وكل منسوخ في كتاب وسنة هكذا . انتهى كلامه فيستفاد من كلام الشافعي أنه لا ينسخ إلى غير بدل وإنما لابد من البدل وقال الإمام الشنقيطي رحمه الله ( المجلد الثالث / ص 362 ، أضواء البيان في تفسير سورة النحل ) قال : اعلم أن ما يقوله بعض أهل الأصول كالمالكية والشافعية وغيرهم من جواز النسخ بلا بدل وعزاه غير واحد للجمهور إنه باطل بلا شك والعجب ممن قال به من العلماء الأجلاء مع كثرتهم مع أنه مخالف مخالفة صريحة لقوله تعالى " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " فلا كلام البتة لأحد مع كلام الله ومن أصدق من الله قيلا ومن أصدق من الله حديثا فقد ربط جل وعلا في هذه الآية الكريمة بين النسخ وبين الإتيان ببدل منسوخ على سبيل الشرط والجزاء ومعلوم أن الكذب والصدق في الشرطية يتواردان على الربط فيلزم أنه كلما وقع النسخ وقع الإتيان بخير من المنسوخ أو مثله كما هو ظاهر وما زعمه بعض أهل العلم من أن النسخ وقع في القرآن بلا بدل وذلك في قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة " نسخ بقوله تعالى " ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات " ولا بدل لهذا المنسوخ [قال هذه نسخت كان في أول الإسلام من أراد أن يخاطب محمدا - صلى الله عليه وسلم - فكان ينبغي أن يتصدق قبل أن يخاطبه هذه نسخت قالوا نسخت إلى غير بدل فأصبحت المناجاة فهم يمثلون فقط في هذا المثال وألفت النظر هنا إلى أمر مهم أن التأصيل من مثال غالبا يقع فيه خلاف أغلب الأمور التي يقع فيها الخلاف القوي بين الأصوليين لما تدور الأمور
(11/14)
على مثال واحد فتوجيه المثال يختلف باختلاف الأفهام وحينئذ تبقى القاعدة فيها تذبذب وليست مستقرة ، لا نعرف لهم مثلا غير هذا المثل ويمكن أن يعترض عليهم بقولنا نقرأ كلام الشنقيطي ] قال : فالجواب أن له بدلا وهو أن وجوب تقديم الصدقة أمام المناجاة لما نسخ بقي استحباب الصدقة وندبها. انتهى كلامه
قال ابن القيم في الجواب الكافي
فان الرب تعالى ما أمر بشيء ثم أبطله رأسا بل لا بد أن يبقى بعضه أو بدله كما أبقى شريعة الفداء وكما أبقى استحباب الصدقة عند المناجاة وكما أبقى الخمس صلوات بعد رفع الخمسين وأبقى ثوابها" انتهى كلامه
هناك كلام لابن تيمية في مجموع الفتاوى موهم يعني كأنه يرجح هذا الكلام ليس في عين المسألة ولكنه يدور حولها وذلك عندما تكلم عن معنى الآية " ما ننسخ من آية …" مجلد 17 ص184 – 195 فقال إن الأفعال المأمور بها كل منها في وقتها أفضل فالصلاة إلى القدس قبل النسخ كانت أفضل وبعد النسخ كانت إلى مكة أفضل ثم قال فيتوجه الاحتجاج بهذه الآية على أنه لا ينسخ القرآن إلا القرآن كما هو مذهب الشافعي وهو أشهر الروايتين عن أحمد بل هي المنصوصة عنه صريحا أن لا ينسخ القرآن إلا قرآن يجيء بعده وعليه عامة أصحابه و عليها عامة أصحابه و ذلك لأن الله قد و عد أنه لابد للمنسوخ من بدل مماثل أو خير و وعد بأن ما أنسأه المؤمنين فهو كذلك و أن ما أخره فلم يأت وقت نزوله فهو كذلك و هذا كله يدل على أنه لا يزال عند المؤمن القرآن الذي رفع أو آخر مثله أو خير منه و لو نسخ بالسنة فإن لم يأت قرآن مثله أو خير منه فهو خلاف ما و عد الله و إن قيل بل يأتى بعد نسخه بالسنة كان بين نسخه و بين الإتيان بالبدل مدة خالية عن ذلك و هو خلاف مقصود الآية فإن مقصودها أنه لابد من المرفوع أو مثله أو خير منه.انتهى كلامه .
(11/15)
فائدة : المفاضلات يقع فيها ظلم فهناك قواعد للمفاضلات وهنالك فقه للمفاضلات وممن أصّل قواعد المفاضلات وفقه المفاضلات ابن القيم في بدائع الفوائد ونحن بحاجة إلى كتاب يبين مسائل الفقه غير الموجودة في كتب الفقه مثل فقه المنامات وفقه الأعمال ومراتبها ( الجنة والنار والكبيرة والصغيرة ) ونحن بحاجة إلى موسوعة في المفاضلات وقد كتب رسالة في المفاضلات في العقيدة فقط وكلام أهل العلم مجموع وسهل وجميل وحقيقة الذي يقرأ في المفاضلات ينقدح الذهن ويقوي الملكة كلٌ ينبه على شيء .
أنواع النسخ :
أولا : نسخ القرآن بالقرآن : وهذا من الأقسام التي اتفق عليها العلماء مثل قوله تعالى " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين و الأقربين بالمعروف " خيرا أي مالا ؛ فالله سمى المال خيرا ولذا القول بأن المال والغنى مذموم في الشرع هذا خرافة جاءنا ذلك من الصوفية ، فهذه الآية نسخت بآية المواريث وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " قال بعض الأصوليين : ما من حديث قيل فيه إنه نسخ القرآن إلا ويوجد في القرآن إما عموم أو خصوص يدلل على نسخ تلك الآية وهذا أمر بالاستقراء يكاد يكون صحيحا ومن دقة الإمام الشافعي المتناهية أنه أشار إليه في كلامه .
ثانيا : نسخ السنة بالسنة :
ثالثا : نسخ السنة بالقرآن :مثل نسخ استقبال قبلة بيت المقدس التي ثبتت في السنة باستقبال الكعبة التي ثبتت بالقرآن.
رابعا : نسخ القرآن بالسنة : في هذا خلاف ؛ والذي أراه أن السنة مبينة لآية فيها عموم فيها ما يدل على نسخ آية أخرى .
الوجوه التي يقع فيها النسخ :
نسخ الحكم وبقاء الرسم:مثل قوله تعالى " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم.." نسخ بقوله " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " .
(11/16)
نسخ الرسم ( التلاوة ) وبقاء الحكم : مثاله آية الرجم ؛ فقد ثبت عن عمر قال : إن الله عز وجل قد بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها وعقلناها فرجم رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف .انتهى قال الشيخ مشهور : وهذا أصل في إعمال القرائن وعند مالك قال : ذكر الآية المنسوخة "الشيخ والشيخة فارجموهما البتة " .
نسخ الرسم والحكم : ومثاله ما أخرجه مسلم من حديث عائشة قالت " فيما كان أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات " بعضهم نازع ف ينسخ التلاوة مثل الغماري ألف كتابا سماه ذوق الحلاوة في بيان منع نسخ التلاوة " وهو محجوج بالأحاديث التي في البخاري ومسلم .
نسخ الأخف بالأثقل : مثاله ؛ أنه كان الإنسان في أول العهد مخيرا بين الإطعام والصوم المنصوص عليه في قوله تعالى " وعلى الذين يطيقونه …"الآية ثم نسخ إلى وجوب صوم رمضان بقوله تعالى " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " وكذلك حكم المرأة الزانية كانت تحبس ثم نسخ بالجلد أو الرجم .
نسخ الأثقل بالأخف : نسخ وجوب المصابرة ( مصابرة الواحد أمام عشرة من الكفار ) فأصبح الواجب أن يصبر أمام اثنين ؛ انظر سورة الأنفال الآيات ( 65 ، 66 ) .وكذلك عدة المرأة المتوفى عنها زوجها نسخ من حول إلى أربعة أشهر وعشرا ؛ سورة البقرة ( الآية 234 و الآية 240 ) .
مسألة : هل يمكن أن يقع نسخ قبل التمكن من فعله ؟
الراجح؛نعم : لأن النسخ إنما وقع من باب الابتلاء ومثاله : الصلاة الخمسين نسخت قبل الفعل وكذلك قصة إبراهيم .
(11/17)
قال الشيخ : لا بد من قراءة كلام الشافعي في الرسالة ويبدأ كلامه من صفحة 106 فقرة 312 في طبعة أحمد شاكر .
فائدة : النسخ الجزئي اصطلاح معروف عند الحنفية فقط لما وضع الحنفية شروطا للمخصص ومن شروطهم المخصص بقوة العام أي لا يقوى الآحاد على تخصيص المتواتر وذلك مثل الآية " فاقرءوا ما تيس منه " مع الحديث " لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب " فعند الجماهير الفاتحة ركن للحديث و عند الحنفية واجب لأن الحديث لا يقوى على تخصيص الآية.
والعام قسمان : عام مطلق وعام مخصص فالعام المطلق دلالته على سائر أفراده إذا ورد في الكتاب يدلل على القطع إن جاء ما يخصصه فالعام المخصص وإن كان ثابتا بالتواتر فلورود ما يصلح لتخصيصه يسمونه يفيد الظن الآن يفيد الظن فلما وجد الحنفية بعض النصوص لا يوجد فيها شروط التخصيص واضطروا لاستثناء بعض الأحكام ما قالوا هذا مخصص قالوا هذا نسخ جزئي حتى يُبقوا ما عدا النسخ الجزئي في دلالته على سائر أفراده قطعيا فيبقى الآحاد لا يقوى على تخصيصه فهو اصطلاح عند الحنفية خاص بهم .
فائدة : بعض المؤلفات في الناسخ والمنسوخ :
قتادة بن دعامة السدوسي أول من ألف في الناسخ والمنسوخ وكتابه مطبوع باسم " الناسخ والمنسوخ "
الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد القاسم بن سلام وكتابه مطبوع
الناسخ والمنسوخ لأبي داود السجستاني غير مطبوع ولكن حفظه المزي في تحفة الأشراف
النسخ والقرآن الكريم لمصطفى زيد
الناسخ والمنسوخ لابن العربي المالكي _ رسالة دكتوراه
حقائق ناسخ الحديث ومنسوخه لابن الجوزي .
(11/18)