القول الرشيد
في سرد فوائد التوحيد
القسم الأول
تأليف
الشيخ : وليد بن راشد بن سعيدان
وبه أستعين
( رب يسر وأعن وسدد ووفق )
... الحمد لله الحميد المجيد الهادي إلى القول الرشيد الفعال لما يريد ، الموفق للاعتقاد السديد في سائر أبواب التوحيد، أحمده سبحانه حمدًا أستلهم به منه المزيد، من التوفيق والرشاد والتأييد، وأشهد ألا إله إلا هو وحده لا شريك له شهادةً هي نجاتنا يوم الوعيد ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير من ألقى السمع وهو شهيد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ثم أما بعد :(1/1)
... فإنه حال قراءتي لبعض كتب العقيدة والتوحيد ، يمر بي بعض الفوائد والشوارد التي لا يستغني عن معرفتها طالب المزيد ، بعضها مشهور وبعضها مغمور ، فرأيت أن من الفائدة أن أقيدها لنفسي ولمن شاء الله من إخواني ؛ تحقيقًا لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه )) فإني قد وقفت سمعي وبصري ويدي وقلمي وكتبي لله العلي الحميد راجيًا بذلك رضاه عني والعفو عن زللي وتقصيري ، فأنا المذنب الظالم الذي أسرف على نفسه بالغفلة واتباع الشهوات ، وقصر في علمه وعمله وعبادته ، فأسأله بمنه وكرمه وعفوه أن يتجاوز عني ما جنته يداي ، وما زل به لساني وقلمي ، ألا فاشهدوا يا أهل الأرض والسماء أني بريء من كل قولٍ يخالف قول الشريعة ومن كل عمل يخالف المنهج السليم والقول الصحيح ، وإني أدعو كل من اطلع على خلل أو فسادٍ في الذي قلته أو كتبته أن يبادر بإصلاحه ، وأن يسارع في نصحي إن كنت حيًا وأما إذا مت فالوصية لإخواني بالاستغفار الكثير لأخيهم الضعيف الذي أفضى إلى ما قدم ، فيا ليت قلمي ما جرى بشيء وليتني أخرج من هذه الدنيا كفافًا عفافًا لا لي ولا علي ، وإني إن ألوم نفسي على شيء فإني ألومها على الدخول في هذه المسالك التي هي وقف على أهل العلم فما للجهال وما لها ، وما تأخرت وترددت في طباعة ما كتبته إلا لهذا السبب ، فإن المكتبة الإسلامية غنية عن هذه الكتابات ، ثم إني إذا نظرت إلى عملي زادت الحسرة وبانت الفضائح ، فإلى الله المشتكى وإليه المفزع ، فيا رب غفرانك ، يا رب غفرانك إن عفوك أرجى لي من عملي وإن رضاك أشهى إلى قلبي من كل شيء ، فارحم عبدًا لاذ بجنابك وأثقلته ذنوبه عن السير إليك ، لكن إذا نظرت إلى أن الله تعالى قد أخذ العهد على من علم شيئًا أن يعلمه وأن من كتم علمًا ألجمه الله بلجامٍ من نارٍ ، أقول في نفسي لعل بث العلم وتعليمه للناس وتدوينه يكون سببًا للمغفرة ، فإذا غلبت الأمر الأول تركت(1/2)
القلم وقلت : السلامة لا يعدلها شيء ، وإذا غلبت الثاني أمسكت به وقلت : توكلت على الله ، فنظرت فإذا الأدلة بمجموعها تغلب جانب الرجاء وحسن الظن بالله تعالى وألا يحقر أحدنا من المعروف شيئًا ، فعزمت على مواصلة المشوار ولعل هذا - إن شاء الله تعالى - يكون آخر ما أدونه لنفسي ، ومن حسن الفأل أنه في التوحيد فعسى الله أن يختم لي بالتوحيد ، فإن من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة ، فالله أسأل أن ينفع به كاتبه وقارئه وشارحه والناظر فيه ، وأن يجعله عملاً صالحًا مقبولاً مباركًا فيه ، وأن يشرح له الصدور ، ويفتح فيه الأفهام ، وأسميته : ( القول الرشيد في سرد فوائد التوحيد ) وقد لا يعجبك ترتيبها ؛ لأن مسألة الترتيب عندي ليست بتلك الأهمية ، فخذ منه ما شئت ودع ما شئت وإن تجد عيبًا فسد الخللا فجل من لا عيب فيه وعلا ، فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل وحسن التحقيق .
(1) فائدة
... اعلم أرشدنا الله وإياك للعمل النافع والعمل الصالح أن الأحاديث التي فيها أن من قال أو مات على لا إله إلا الله دخل الجنة وردت مطلقة في مكان ، ومقيدة في مكان .
... فمن المطلق قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ما من عبدٍ قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة )) متفق عليه من حديث أبي ذر ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : (( من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة )) ونحوها .(1/3)
... وأما المقيدة فكقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( من مات وهو يعلم ألا إله إلا الله دخل الجنة )) ، وكقوله لأبي هريرة : (( فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد ألا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشره بالجنة )) ، وكقوله : (( أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه )) ، وكقوله : (( أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيها فيحجب عن الجنة )) ، وكقوله : (( فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله )) ، ونحو ذلك .(1/4)
... وقد تقرر في الأصول أن المطلق يبنى على المقيد إذا اتفقا في الحكم وحينئذٍ فيقال : لا تفرحوا أيها المرجئة بالأحاديث المطلقة فإن الواجب هو بناؤها على المقيدة ، وحينئذٍ فيكون قلوها لوحده ليس بكافٍ لترتب الأثر ، بل لابد فيه من تحقيق القيود المذكورة في الأحاديث الأخرى كالإخلاص ، والعلم ، والصدق ، واليقين ، والمحبة ، والقبول ، والانقياد ، والكفر بالطاغوت ، وعلى هذا فليست الأحاديث المطلقة بحجة في أن من قال لا إله إلا الله ومات عليه فإلى الجنة مباشرة وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما يقوله هؤلاء الأغبياء الحمقى ، بل لابد من حمل المطلق على المقيد ، وهذا فيه جمع بين الأدلة ، وقد تقرر أن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن ، هذا أولاً . وثانيًا يقال : إن الأحاديث المطلقة إنما فيها قوله : (( دخل الجنة )) لكن لم يبين هذا الدخول ، هل هو ابتدائي ؟ أم انتقالي ؟ ولا داعي أن نقحم في كلام الشارع ما ليس منه فنقول : نعم إن من قالها سيدخل الجنة حتمًا ؛ لأنه لن يخلد في النار أحد مات على التوحيد ، لكن من أين لكم أنه دخول ابتدائي ؟ فإن هذا شيء فهمتموه من الأدلة ، وفهمكم هذا لا حجة فيه ؛ لأنه مخالف لظواهر الأدلة وحينئذٍ فيقال : إن من مات عليها - إذا كان عنده بعض الذنوب - فلا يخلو إما أن يغفر الله له ، فهذا يدخل الجنة ابتداءً ، وإما أن يعذبه في النار ثم يخرجه إلى الجنة فهذا دخلها انتقالاً إذا هو دخل الجنة ، فالحديث صدق لا ريب في ذلك ، لكن بقي تحديد نوعية الدخول راجعة إلى مشيئة الله تعالى ، وهذان الجوابان كلاهما صحيح إلا أن الأول كأنه أقرب إلى الصحة ، والله ربنا أعلى وأعلم .
(2) فائدة(1/5)
... إن قال قائل : إننا قد درسنا أن من شروط كلمة التوحيد القبول والانقياد فما الفرق بينهما ؟ فأقول : الفرق بينهما ظاهر لمن تدبر ، وهو أن القبول أمر قلبي باطني فهو من أعمال القلب ولا يطلع عليه إلا الله تعالى ، لكن جعل الله عليه علامة يغلب على الظن مع وجودها وجوده ، وهي الأعمال الظاهرة - أعني أعمال الجوارح - وهي القيام بحقوق هذه الكلمة من موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين والتبري منهم باللسان والصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك من مقتضيات هذه الكلمة وهذا هو الانقياد ، أي أن الانقياد عمل الظاهر والقبول عمل الباطل ، فهو قبل بقلبه وانقاد بجوارحه ، فالانقياد ثمرة القبول وعلامة صدقه ، فإن المتخلف عن الانقياد في الظاهر لم يتخلف انقياده إلا لخلل في القبول في الباطن وعلى مدى صدق القبول وكماله يزداد الانقياد أو ينقص ، فالانقياد وهو قبول الجوارح لمقتضى هذه الكلمة ، والقبول هو قبول القلب لها ، والله يحفظنا وإياك ، وهو أعلم وأعلى .
(3) فائدة
... قال لي بعض الطلاب يومًا : كيف يكون النذر عبادة وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه كما في الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النذر وقال : (( إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل )) فكيف يجتمع كونه عبادة وكونه منهي عنه ؟ فقلت : هذا سؤال جيد وقليل من تعرض له فضلاً عن ذكر الجواب ، وجوابه يسير بفضل الله وحسن توفيقه وتعليمه وبيانه أن يقال: إن لنا في النذر ثلاث نظرات: نظرة في أصل عقده - أي في إنشائه - ، ونظرة فيمن يعقد به ، ونظرة في الوفاء به بعد عقده .(1/6)
... فإذا فرقت بين هذه الأشياء الثلاثة عرفت الجواب - بإذن الله تعالى - ولكن قبل أن تدخل في الجواب عليك أن تعلم أن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن وهذا مهم جدًا ، إذا علمت هذا فاعلم أن الجزئية التي نهت عنها الأدلة إنما هي الأولى فقط ، أي أن الدليل نهى عن إنشاء النذر وذلك لأمرين :
... الأول : أنه بالنذر يُلزم الإنسان نفسه بشيء ليس بلازم له شرعًا وما يدريه لعله لا يستطيع ولا يقدر على القيام به ، فرحمة من الشارع وإحسانًا بالمكلفين نهاهم عن إنشاء النذر .(1/7)
... الثاني : أنه نهى عن النذر لسد ذريعة تعلق القلب بغيره - جل وعلا - فإن الناذر قد يظن أنه بهذا النذر يقدم لله شيئًا ليعطيه بدله ، فكأن الأمر فيه نوع منه ، أي أن الناذر للصدقة أو الصلاة أو الصوم مثلاً لسان حاله يقول : إن أعطيتني هذا الشيء تصدقت وصليت وصمت ، فبالله عليك ماذا تفهم لو أن الله لم يعط العبد ذلك ، فإنه لن يأتي بهذه الصلاة ولا الصوم ولا الصدقة ، وهذا هو عين البخل فإن النفس المؤمنة تقوم بذلك اختيارًا وطواعية من غير إلزام ولذلك قال : (( إنه لا يأتي بخير )) أي لا يظن الناذر أنه بهذا النذر سيحصل له ما يريده من الخير ، وإنما يستخرج به من البخيل الذي تأبى نفسه فعل الخير ابتداءً وهذا الناذر قد تعلق قلبه بنذره ، ولذلك نهتنا الشريعة عن إنشائه ، فالمنهي عنه في حديث ابن عمر إنما هو إنشاؤه فقط ، لكن لو عقده فإنه مأمور ألا يعقده إلا بالله تعالى ، وإذا عقده بالله تعالى فإنه يجب عليه الوفاء به إن كان من قبيل نذر التبرر ، لقوله : { يوفون بالنذر } ، وقوله : { وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه } . وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه )) إذًا النذر باعتبار إنشائه وابتدائه منهي عنه ، وباعتبار عقده لله والوفاء به عبادة ، والعبادة قد تكون منهي عنها باعتبار ومأمور بها باعتبار ، ألا ترى أن القرآن منهي عنه حال الركوع والسجود ؟ ولكنه مأمور به في حال القيام في غير الرفع من الركوع ، وأن الصلاة تطوعًا منهي عنها حال وقت النهي ومأمور بها في غيره . إذًا جهة النهي ليست هي جهة الأمر وكذلك كثرة الحلف منهي عنه ، لكن لو حلف فإنه يلزمه الوفاء بيمينه ، إذًا لا يتعبد لله بإنشاء النذر وإنما يتعبد لله بالوفاء به بعد عقده ، وحيث ثبت أن الله امتدح المؤمنين فيه ، فهذا دليل على أنه عبادة ، وحيث كان عبادة فلا يصرف إلا لله تعالى .(1/8)
... ولعلي بهذا قد أحسنت في إيصال المعلومة إليك فإن فهمت ذلك وإلا فهو من تقصيري في الشرح ، والله يغفر عن الخطأ والزلة ، والله أعلى وأعلم .
(4) فائدة
... اعلم وفقنا الله وإياك للعلم النافع والعمل الصالح أن الأشاعرة هم أتباع أبي الحسن الأشعري - عفا الله عنه وتجاوز عن خطئه - ومذهبهم في الأسماء والصفات هو أنهم يثبتون لله تعالى كل الأسماء ، ولا يثبتون له من الصفات إلا سبعًا فقط ، وهي الحياة ، والكلام ، والبصر ، والسمع ، والإرادة ، والعلم ، والقدرة ، ويحرفون الباقي ، فإذا واجهت أحدًا منهم فأول شيء تسأله عنه هو طلب الفرق بين الصفات التي أثبتها والصفات التي نفاها ، أي لماذا أثبت هذه السبع ونفى الباقي ؟ ما هو القانون المستقيم والفرقان المبين لذلك وما المبرر لهذا ؟ فأنت إذا سألته عن ذلك فإنه سيجيبك بجوابين لا ثالث لهما :(1/9)
... الجواب الأول : سيقول : إن الصفات التي أثبتها لله تعالى لا تقتضي تمثيله بخلقه ، والصفات التي نفيتها تقتضي ذلك ، فإذا قال ذلك فقل له : إنه قد تقرر في القواعد أن باب الصفات باب واحد ، وأن القول في بعضها كالقول في بعضها ، فإن كنت نفيت ما نفيت بحجة أن إثباته يقتضي تمثيلاً أو تشبيهًا فإن هذا المحذور يلزمك فيما أثبته أيضًا ، فإن المخلوق له سمع ، وبصر ، وكلام ، وإرادة ، وقدرة ، وحياة . فإن قال : أنا أثبت هذه السبع على الوجه اللائق به - جل وعلا - . فقل : فهلا قلت ذلك في كل الصفات واسترحت وأرحت . فإن قال : إن الرحمة رقة تعتري قلب الراحم ، والغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام . فقل له : وكذلك الإرادة التي تثبتها هي ميل النفس لجلب نفع أو دفع ضرر . فإن قال : كلامك هذا إنما هو في إرادة المخلوق . فقل له : وكلامك في الرحمة والغضب أيضًا هو في رحمة المخلوق وغضبه . فإن قال : أنا أثبت إرادة لا تماثل إرادة المخلوقين . فقل له : وكذلك أثبت غضبًا ورحمة ورضى ويدًا ونزولاً ووجهًا لائقًا بالله لا كصفة المخلوق ، فما كان جوابه عن إلزامنا له فيما أثبته فهو جوابنا عليه فيما نفاه ؛ لأن الصفات باب واحد والمفرق فيه بين بعضها البعض متناقض . فيا أيها الأشعري إما أن تثبت الجميع وتلحق بركب أسيادك أهل السنة ، وإما أن تنفي الجميع وتلحق بركب إخوانك من المعتزلة ، أما أن تنفي البعض وتثبت البعض ، فهذا هو عين التناقض والتضارب ، فهذا هو جوابه الأول والقاعدة في الجواب عليه أن تقول : القول في بعض الصفات كالقول في بعضها .
... وأما جوابه الثاني : فهو أن يقول : إن الصفات التي أثبتها دل العقل على ثبوتها ، فإن الفعل الحادث دليل القدرة ، والإحكام دليل العلم ، والتخصيص دليل الإرادة ، وهي لا تقوم إلا بحي والحي إما أن يكون سميعًا بصيرًا متكلمًا وإما لا ، وانتفاؤها نقص ، فوجب إثباتها .(1/10)
... وأما الصفات التي نفيتها فإني لم أنفها إلا لأن العقل لم يدل على إثباتها ، فأنت تراه هنا قد جعل الفرق هو دلالة العقل ، فإذا قال ذلك فقل له : لنا على ذلك أجوبة :
... الأول : إن باب الصفات من الأبواب الغيبية التي لا مدخل للعقل فيها ، وقد تقرر عند عقلاء الإنس والجن أن باب الغيب مبناه على التوقيف ، وأن إقحام العقل في الغيب مخالف أصلاً ؛ لأن الله تعالى جعل للعقل طاقات وقدرات يكون تفكيره سليمًا إذا كان في حدود ما خلق له ، وأما إذا تجاوزنا به حده وطاقته فإنه سيضل ويتيه ، وباب الصفات من الأبواب الغيبية ، فالمرجع في إثباتها الدليل لا العقل .
... الثاني : سلمنا أن عقلك لم يدلك على إثباتها ، فهل عدم قدرته على إثباتها دليل على انتفائها في نفس الأمر بالطبع لا ، فإن عقلك إذا لم يثبتها فإنه قد أثبتها النص ، والنص دليل مستقل بنفسه لا يعرض على العقول ؛ لأن عدم دلالة عقلك عليها إنما هو لقصوره ، وقصور عقلك ليس بحجة في نفي ما جاء به النص ، ولا تجعل عدم علمك بما بقي من الصفات دليلاً على انتفائها ؛ لأن عدم العلم ليس علمًا بالعدم ، فلا تقف حيث وقف عقلك بل قف حيث وقف النص .(1/11)
... الثالث : إن عقلك أيها الأشعري استطاع أن يثبت سبعًا فقط ، لكن عقل أخيك المعتزلي أبى ذلك ؛ لأن المعتزلة ينفون الصفات كلها ، ويثبتون الأسماء ، وعقل أخيكم الجهمي لم يستطع إثبات الأسماء ولا الصفات ؛ لأن الجهمية ينفونها جميعًا ، عقول إخوانكم الفلاسفة نفوا الإثبات أصلاً ، فهم لا يصفون الله إلا بالسلوب فقط ، فيقولون : املأ الدنيا نفيًا ، لكن لا تثبت صفة واحدة ، وعقل إخوانكم الغلاة من القرامطة نفى النقيضين ، فبالله عليكم بأي عقل نزن الكتاب والسنة ، أبعقل الأشعري ؟ أم بعقل المعتزلي ؟ أم بعقل الجهمي ؟ أم بعقول الفلاسفة ؟ أم بعقول غلاة الغلاة ، وهذا فيه نسف للشريعة من أساسها ، إذ كل من لم يرد فعل شيء سيقول إن عقلي لم يدل عليه ، وهذه تربية إبليسية شيطانية ، فإن عقل أبيكم إبليس لم يقبل الأمر بالسجود لآدم - عليه الصلاة والسلام - والمخرج من ذلك هو اعتماد ما جاء به النص والإيمان به ولا يعارض بعقول ولا آراء ولا أقيسة باطلة - عافانا الله وإياك من كل سوءٍ وبلاء - .
... الرابع : نقول : ومن الذي قال لك أيها الأشعري : أن العقل لم يدل على إثبات كثير مما نفيته ، فإن العقول السليمة تعرف طريق إثبات ذلك ، أفلا ترى أن إكرام الطائعين بأنواع الإكرام وإدخالهم الجنة دليل على محبتهم والرضا عنهم ، وأن معاقبة الكافرين الظالمين بأنواع العقوبات وإعداد النار لهم وتعذيبهم دليل على سخط الله وغضبه ومقته ، وأن إمساك السماء والأرض أن تزولا ونصب هذه الجبال العظيمة دليل على القوة .
... ولذلك قال أهل السنة : إن صفات الله إما خبرية محضة وإما خبرية ، وللعقل فيها مجال ، وقالوا : كل كمال في المخلوقات لا نقص فيه ، فالله أحق به ؛ لأن معطي الكمال أولى بالكمال ، وكل نقص في المخلوق لا كمال فيه فالله أحق أن ينزه عنه ، فالأمر واضح وضوح الشمس في رابعة النهار ، ولكن عميت عنها عيون الخفافيش ، والله أعلم .(1/12)
... الخامس : ماذا تقول للمعتزلي إذا أنكر عليك إثباتك لهذه السبع ، فإن جوابك على إيراده دفاعًا عن مذهبك هو بعينه جوابنا عليك فيما نفيته .
... قال أبو العباس في التدمرية : ( فهذا المفرق بين بعض الصفات وبعض يقال له كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته ) اهـ .
... السادس : أن يقال : أيها الأشعري هل أنت تقول : إن ذات الله ليست كالذوات ؟ سيقول : نعم أنا أقول ذلك . فقل له : إذًا يلزمك أن تثبت أيضًا أن صفاته - جل وعلا - ليست كالصفات ؛ لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، فإذا كانت ذات الله تعالى لائقة به لا تماثل ذوات المخلوقين فإن صفاته أيضًا لائقة به لا تماثل صفات المخلوقين ؛ لأن اختلاف الذوات يلزم منه اختلاف الصفات ، وبهذا تكون قد سددت عليه الأبواب وأقمت عليه الحجة ، فإن استجاب ورجع فالحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا ، وإن عاند واستكبر فلا يضر إلا نفسه ، والله المستعان وعليه التكلان .
(5) فائدة
... أقول : من القواعد المهمة العظيمة عند أهل السنة والجماعة قاعدة المجملات ونصها يقول : الألفاظ المجملة لا تقبل مطلقًا ولا ترد مطلقًا بل توقف على الاستفصال حتى يتميز حقها فيقبل من باطلها فيرد ، وذلك لأننا لو رددناها مطلقًا لاستلزم ذلك رد ما فيها من الحق والحق لا يرد ، إذًا كيف نفعل ؟
... أقول : نعمل بمقتضى هذه القاعدة ، وهي أننا قبل قبولها أو ردها نستفصل فيها ، فإذا تميز الحق قبلناه والباقي يرد على صاحبه ، وهذه القاعدة من توفيق الله تعالى لأهل السنة والجماعة وهي مستمدة من قاعدة الوسطية ، وتوضيحًا لها أضرب لك بعض الأمثلة عليها لترى كيف أهميتها فأقول :(1/13)
... من الأمثلة : لفظ الظاهر ، إذا قيل : هل ظاهر آيات الصفات مراد أم غير مراد ؟ فنقول : إن لفظ الظاهر صار لتعدد الاستعمال من الألفاظ المجملة ، والألفاظ المجملة موقوفة على التفصيل ، فلا نقول : مراد ولا غير مراد ، بل نقول : إن كنت تريد بالظاهر ما يتبادر للفهم للعقول السليمة التي لم تتلوث بعفن علم الكلام وأعني بالعقول السليمة عقول أهل السنة فلاشك أن هذا الظاهر مراد ، وإن كنت تريد بالظاهر ما يفهمه المبتدعة من النصوص مما يعتقدون أنه ظاهرها فهذا الظاهر غير مراد ؛ لأنهم يفهمون من ظاهرها مماثلة الله بخلقه ، وهذا ليس هو ظاهرها في الحقيقة ، لكن هم يفهمون منها ذلك ، فإن كان يريد بالظاهر الأول فهو مراد ، وإن كان يريد الثاني فهو ليس بمراد ، وهذا هو الحق في هذه المسألة ولم نصل إليه إلا بإعمال هذه القاعدة ، والله أعلم .
... ومن الأمثلة : إذا قيل : هل أسماء الله مترادفة أم متباينة ؟ فإياك أن تقول : مترادفة أو تقول متباينة ؛ لأن الترادف والتباين بحسب استعمال الطوائف الضالة له صار من الألفاظ المجملة والألفاظ المجملة موقوفة على الاستفصال ، فنقول : إن كنت تريد بالترادف أنها تدل على ذاتٍ واحدة فهي بهذا الاعتبار مترادفة ، وإن كنت تريد بالترادف اتحاد دلالة صفاتها فهذا خطأ محض وضلال مبين ، وإن كنت تريد بالتباين تباين الذات التي تدل عليها فهذا هو الكفر بعينه ؛ لأنه يلزم منه تعدد الآلهة ، وإن كنت تريد بالتباين اختلافها فيما تضمنته من الصفات أي أن كل اسم يدل على صفة غير صفة الاسم الآخر فهي بهذا الاعتبار متباينة ، إذًا لا نقول هي مترادفة مطلقًا ولا متباينة مطلقًا ، بل نقول : هي مترادفة من حيث الذات ، متباينة من حيث الصفات ، والله أعلم .(1/14)
... ومن الأمثلة أيضًا : إذا قيل : هل آيات الصفات من قبيل المحكم أمن من قبيل المتشابه ؟ فلا تقل من المحكم مطلقًا ولا من المتشابه مطلقًا ؛ وذلك لأن الأمر مجمل يحتاج إلى تفصيل ، فأقول : إن المراد بالمحكم ما اتضح المراد منه ، والمتشابه ما لم يتضح المراد منه ، وبناءً فإن كنت بقولك : آيات الصفات من المحكم أي باعتبار معانيها في لغة العرب فإنها لاشك من قبيل المحكم ؛ لأن المراد منها معروف في لساننا ، فالقرآن نزل باللسان العربي فيجب علينا حمل هذه الألفاظ على ما تقرر في لساننا العربي ، فالبصر رؤية الأشياء ، والسمع إدراك المسموع ، والوجه ما تحصل به المواجهة ، والاستواء المتعدي بعلى معناه العلو والاستقرار ، وهكذا في سائر الصفات فهي من قبيل المحكم باعتبار معانيها .
... ومن قال إنها متشابهة في معانيها فإنه لم يصب وقد سلك بذلك مسلك المفوضة الذين قولهم شر أقوال أهل البدع كما حكاه الشيخ تقي الدين ، وإن كنت تريد بقولك آيات الصفات من المتشابه أي في حقائقها وكيفياتها التي هي عليه في الواقع فإن هذا صحيح لا غبار عليه ، فإن الكيفية التي عليها صفات الله تعالى لا تعلم لأننا لم نر الله وليس له نظير يستدل به عليه ، ولم يخبرنا الصادق عن كيفية صفته ، ولذلك قال أهل السنة نحن مفوضة في كيفية لا في معانيها ؛ لأن كيفياتها لم يتضح المراد منه وأما معانيها فإنه قد اتضح المراد منه ، وبهذا التفصيل يزول الإشكال ويتحرر الجواب ، والله أعلم .(1/15)
... ومنها : قولهم : هل يوصف الله بالجهة أم لا ؟ فأقول: أما لفظ الجهة فإننا لا نتكلم به؛ لأنه لم يرد ذكره لا في الكتاب ولا السنة ، وأما معناه فإننا نستفصل فيه فإن أريد به جهة سفل فهذا لا يصح ؛ لأن السفل نقص والله منزه عن النقص ، وإن أريد بها جهة علو محيطة بالله - جل وعلا - فأيضًا لا يصح ؛ لأن الله تعالى لا يحيط به شيء من مخلوقاته ، وإن أريد بها جهة علو غير محيطة به فهذا معنى صحيح وهو الواجب لله تعالى ، لكن يعبر عنه أهل السنة بقولهم : الله في العلو المطلق ، فانظر كيف بركة هذه القاعدة فإن بها يتميز الحق من الباطل ، والله أعلم .
... ومنها : إن قيل : هل يقال الله في مكان أم ليس في مكان ؟ فإياك أن تجيب بالإيجاب أو السلب ؛ لأن اللفظ مجمل والألفاظ المجملة موقوفة على البيان والاستفصال ، فإن أريد به مكان سفل فهذا منتفٍ ؛ لأنه نقص ، وإن أريد به مكان علوٍ محيط فهذا منتفٍ أيضًا ؛ لأنه نقص ، وأن أريد به مكان علو غير محيط فهذا حق ، ولكن لا نقول : في مكان وإنما نعبر عنه بأنه استوى على عرشه بائن من خلقه .(1/16)
... ومنها : إن قيل : هل الله جسم أم لا ؟ فإياك إياك أن تبادر بالجواب قبل الاستفصال ؛ لأن لفظ الجسم لفظ مجمل يحتمل حقًا وباطلاً ، فأما اللفظ فإننا ننزه ألسنتنا عنه ؛ لأنه لفظ محدث لم يرد في كلام الشارع وأما معناه فإننا نستفصل فيه فإن أريد به ما هو معهود في حقنا فهذا لا يجوز على الله تعالى ؛ لأنه قول أهل التمثيل الذين ما قدروا الله حق قدره ، وإن أريد به الذات المتصفة بصفات الكمال المنعوتة بنعوت الجمال والجلال فهذا حق وصدق وهو الواجب لله تعالى ، لكن لا نقول : هي جسم وإنما نقول ذاتًا وصفاتٍ وما وقع المعتزلة في نفي الصفات إلا لهذه الشبهة فإنهم قالوا : إنه لا يوصف إلا ما كان جسمًا والأجسام متماثلة فلزم من ذلك مماثلة الله بخلقه فلم يجبروا بدًا من إنكار الصفات وتحريفها ، أما أهل السنة فإن الله تعالى قد هداهم إلى هذه القاعدة العظيمة التي بها ميزوا بين الحق والباطل فقبلوا ما كان حقًا وردوا ما كان باطلاً ولم يلزم عليهم أي لازم باطل فالحمد لله على هذه الهداية ونسأله جل وعلا أن يثبتنا عليها إلى أن نلقاه .
... ومنها : إن قيل : هل وسائل الدعوة توقيفية أم اجتهادية ؟ فقل : الأمر يحتاج إلى تفصيل ، فنقول : هي اجتهادية وتوقيفية ، فهي اجتهادية فيما لم يكن مخالفًا لشيء من الأدلة وتوقيفية فيما كان مخالفًا للأدلة بمعنى أنه إذا عرفت وسيلة للدعوة جديدة وليست مخالفة لشيء من الأدلة فالأمر في ذلك واسع ، وأما إذا كانت هذه الوسيلة مخالفة لشيء من الأدلة فإنها مرفوضة وهذا هو القول التي يجتمع به شمل الأدلة ، والله أعلم .(1/17)
... ومنها : لفظ الإرهاب ، فإنه صار بعرف الاستعمال من الألفاظ المجملة التي لا تقبل مطلقًا ولا ترد مطلقًا ، بل هو موقوف على التفصيل فإن أريد به التزام المسلم بشعائر دينه الظاهرة من إعفاء اللحية والصلاة جماعة وتقصير الثوب أو كان يراد به شجرة الجهاد تحت راية الإمام فهذا لا نسلم رده ، بل هو مأمور به شرعًا ، وتسمية الغرب وأذنابهم من العرب لذلك إرهابًا لا يجعلنا نترك ما نحن مأمورون به شرعًا إرضاءً لهم فإن من ابتغى رضى الناس بسخط الله سخط الله وأسخط عليه الناس ، وإن أريد به الخروج على إمام المسلمين وترويع الآمنين وقتل الأبرياء وإراقة الدماء بلا حق وإفساد الأموال وإتلاف الممتلكات بلا مسوغ شرعي فهذا إرهاب مرفوض ومسلك ممنوع شرعًا ، فانظر أي الأمرين يريدون ، فلا تنسق وراء الشعارات المضللة ولا الرايات المنحرفة عن منهج الله فتكون من الخاسرين ، والله أعلم .
... ومنها : لفظ التجمعات ، فإنه أيضًا صار من الألفاظ المجملة التي فيها حق وباطل ، فقبوله مطلقًا لا ينبغي ، ورده مطلقًا لا ينبغي ، فالأمر موقوف على الاستفصال فإنه أريد به الاجتماعات المأمور بها شرعًا أمر إيجاب أو استحباب كالاجتماع للصلاة أو لتعليم العلم فإنها اجتماعات حق لا ريب فيها ، ومن داخله الشك فيها أو وصمها بأصابع الاتهام فهو المتهم فيه دينه وولائه للمؤمنين ، وإن أريد بها الاجتماع للتخطيط لقتل من لم تدل الأدلة على قتله أو لإتلاف شيء لم تأت الشريعة بإتلافه ونحو ذلك فإن هذا الاجتماع اجتماع فاسد يجب الحذر منه والتحذير عنه ، فانظر أي الأمرين يريدون فإنني رأيت من يتحفظ من الاجتماع للعلم والتوجيه والإرشاد خوفًا من أن يوصف بأن عنده تجمعات ، وهذا حور وجبن وهلع مكروه شرعًا ، والله ربنا أعلى وأعلم .
... وفروع هذه القاعدة كثيرة ولعل فيما مضى كفاية في فهمها ومعرفة كيفية التخريج ليها ، والله أعلى أعلم .
(6) فائدة(1/18)
... اعلم وفقنا الله وإياك للهدى ودين الحق وجعل أعمالنا موافقة لما يحبه الله ويرضاه أن التنجيم قسمان : علم التسيير ، وعلم التأثير .
... فأما علم التسيير فمعناه معرفة أوقات الزراعة مثلاً أو معرفة أوقات نزول الأمطار أو الاستدلال بها على جهة القبلة أو معرفة الجهات وهذا جائز لا ريب في جوازه ، فمن تعلم علم النجوم لهذه المقاصد فإنه لا بأس بذلك ، قال تعالى : { وعلامات وبالنجم هم يهتدون } ، وقال تعالى : { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } .
... وأما علم التأثير فهو قسمان أيضًا :
... الأول: اعتقاد أن حركة النجوم هي المحدثة للحوادث الأرضية فهذا شرك أكبر مخرج عن الملة بالكلية وهو شرك في الربوبية وهو شرك الصابئة قوم إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ، وهو شرك بعض الفلاسفة أيضًا .(1/19)
... والثاني : اعتقاد أن حركة النجوم سبب من أسباب الحوادث الأرضية أو السماوية لكن لا على وجه الأحداث وإنما على وجه السببية فقط ، وهذا شرك أيضًا ، لكنه شرك أصغر ؛ لأنه قد اعتقد سببًا ما ليس بسبب ، ولأنه وسيلة للشرك الأكبر وما كان وسيلة للشرك الأكبر فإنه شرك أصغر ، إذًا علم التأثير ممنوع بنوعيه ، وأما علم التسيير فإنه لا بأس به ، فقول الشيخ محمد في كتاب التوحيد : ( وكره قتادة تعلم منازل القمر ولم يرخص فيه ابن عيينة ذكره حرب عنهما ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق ) قوله هذا في ذكر الخلاف أظنه والله أعلم من قبيل الخلاف اللفظي ، ذلك لأن الجميع متفقون على أن تعلم علم النجوم العلم التيسيري جائز ، وأما تعلمها العلم التأثيري فإنه ممنوع ، إلا إذا كان من كرهه يريد سد هذا الباب جملة وتفصيلاً فله وجه ، لكن الصواب خلافه ؛ لأن الأدلة على جوازه إنما منعت الأدلة الثاني منه ، وبهذا التفصيل يزول الإشكال ويتحرر القول الصحيح في هذا الباب فقولنا في النونية : ( إياك والتنجيم فهو مناقض للدين فاحذر يا أخا العرفان ) إنما نريد به علم التأثير لا التسيير ، ودليل ذلك أنا ذكرنا بعد هذا البيت الحكمة في خلق النجوم فقلت :
إن النجوم لها ثلاث مصالح ... وذكرت لها في محكم التنزيل
للرجم والتزيين أعني للسما ... وللاهتداء وليس ثمة ثاني
من قال شيئًا غير ذلك فهو في ... دون الضلال وباء بالخسران
... فالأمر واضح إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم وأعلى .
(7) فائدة(1/20)
... من الأمور المهمة في باب التوحيد أن تفرق بين ما كان من قبيل العبادة وما ليس بعبادة ، فإن العلماء ذكروا أن الدعاء ، والخوف ، والتوكل ، والرجاء ، والذبح ، والاستعانة ، والاستعاذة ، والاستغاثة ، والمحبة ، أنها عبادة ، لكن ليس كل ذلك عبادة بكل فروعه وأجزائه، بل منه ما هو عبادة ومنه ما ليس بعبادة ، فلابد من التفريق ، فإذا دخلت هذه المذكورات في حيز العبادة فإنها تكون حقًا لله تعالى لا يجوز صرفها لغيره ، ومن صرفها لغيره فإنه يكون واقعًا في الشرك الأكبر - عافانا الله وإياك - ، وأما إذا خرجت عن حيز العبادة فلا تعطى حكمًا شرعيًا ، وبيان ذلك بالتفصيل .
... فأقول : الدعاء : أعني به دعاء المسألة ، فإنه لا يخلو من حالتين : فإن كان في شيء لا يقدر عليه إلا الله فهو عبادة فلا يجوز صرفه لغيره ، وعلى ذلك دلت الأدلة الكثيرة الشهيرة ، فمن دعا غير الله في أمرٍ لا يقدر عليه إلا الله فإنه يكون واقعًا في الشرك الأكبر المخرج عن الملة بالكلية ، وأما إذا دعا غير الله في أمر يقدر عليه المدعو فهذا لا يكون شركًا ؛ لأنه حينئذٍ لا يدخل في حيز العبادة وإنما هو سؤال أو طلب وليس هو الدعاء الشرعي الذي أمرت الأدلة بألا يصرف إلا لله تعالى ، وفي ذلك قلت :
فدعاؤك المخلوق شرك أكبر ... إن كان ليس له بذاك يدان
... فمن لم يعرف هذا التفصيل فإنه يوشك أن يحكم بالشرك على من لا يستحق ذلك ، والله أعلم .
... ومن ذلك : الخوف : فإن الذي يكون صرفه لغير الله شركًا إنما هو الخوف الخفي ، أي خوف السر كالخوف من قبر أو ميت أو شجر أو حجر ويتعبد له بهذا الخوف ، فصاحب ذلك الخوف هو الذي قد وقع في الشرك الأكبر ، وأما الخوف الطبيعي كالخوف من النار والحية والذئب ، فإن هذا لا يلام فيه الإنسان ، والله أعلم .(1/21)
... ومن ذلك : الذبح : فإن الذبح الذي يكون صرفه لغير الله شرك هو الذبح للغير تعبدًا وتقربًا له كالذبح للأولياء والصالحين وأصحاب القبور ، وكذبح السحرة ومن يأتيهم للشياطين ونحو ذلك ، وأما الذبح للغير بنية إكرامه فلا شيء فيه ، بل هو مأمور به أمر إيجاب أو استحباب ، وأما الذبح بنية الاستمتاع باللحم فهذا أقل أحواله الإباحة ، وبهذا التفصيل يتحرر هذا الباب ، والله أعلم .
... ومن ذلك : الاستعانة والاستعاذة والاستغاثة : فالقول فيها واحد ، فإنها إذا صرفت لغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهذا الصرف هو الشرك الأكبر المخرج عن الملة بالكلية ، وأما إذا كانت في أمور يقدر عليها المستعاذ والمستغاث أو المستعان به فهذا لا بأس به ولا يكون من العبادة في شيء ، والله أعلم .
... ومن ذلك : الرجاء : فإن صرفه لغير الله شرك أكبر إذا كان في أمر لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، وأما إذا كان رجاءك لغيرك في أمر يقدر عليه هذا الغير فلا يكون رجاءك له شركًا ، وأيضًا يقال ذلك في التوكل فمن توكل على غير الله في أمر لا يقدر عليه إلا الله فقد وقع في الشرك الأكبر ، وأما إذا كان في أمر يقدر عليه المتوكل عليه فهذا لا بأس به ، إلا أنه بهذا الاعتبار يكون بمعنى الوكالة ، فإذا قلت لغيرك توكلت عليك في هذا الأمر وهو يقدر عليه فكأنك قلت وكلت في إنهائه .
... ومن ذلك : المحبة : فإن منها ما هو طبيعي كمحبة الزوجة والولد والمال ، فهذا لا يكون من العبادة في شيء ، وأما محبة التعبد فهي من خصائص الله تعالى لا يجوز صرفها لغيره ، قال تعالى : { والذين آمنوا أشد حبًا لله } ، وأما محبة الطاعة والاتباع فهي ثابتة في حق نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، فلابد حينئذ من التفريق بين متعلق المحبة ، وبهذا التفريق يزول كثير من الإشكالات التي قد تثور في ذهن البعض فتنبه له فإن من أوتيه فقد أوتي خيرًا كثيرًا ، والله يحفظنا وإياك ، والله أعلى وأعلم .
(8) فائدة(1/22)
... قسم أهل العلم - رحمهم الله تعالى - زيارة القبور إلى قسمين : شرعية ، وبدعية . وقالوا : إن الشرعية هي ما كان قصد الزائر فيها ثلاثة أمور :
... الأول : أن يدعو للأموات على وجه العموم أو الخصوص .
... الثاني : أن يقصد التذكر والاتعاظ بهذه الزيارة .
... الثالث : أن يقصد الزائر الاستنان ، أي اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الزيارة فإنها سنة .
... وأما الزيارة البدعية فهي ما عدا ذلك ، والباطل لا يحصر غالبًا ، فمن ذلك : زيارتهم للدعاء للنفس أو لدعائهم من دون الله تعالى في تفريج الهموم وتنفيس الكربات ، أو للذبح عندها أو النذور لأصحابها أو لإسراجها والسدانة عليها أو للبقاء عندها بقصد البركة من أصحابها أو أخذ شيء من ترابها أو لتسجيتها بالحرير والديباج والثياب أو لمخاطبة أصحابها بما حصل لأقاربهم الأحياء من المصائب أو الأفراح ، وأعظم من ذلك إن كان القصد الطواف حولها أو الركوع أو السجود لها من دون الله تعالى أو للصلاة عندها أو وضع الورود عليها كما يفعله بعض أهل البدع تشبهًا بالكفرة ، أو لمجرد الوقوف عندها وحني الرأس أو وضع اليد على الصدر كما يفعله بعض الجهلة عند قبور من يزعمون أنهم من العظماء ، وغير ذلك مما لا يحضرني الآن ، كل ذلك من المنكرات العظيمة والبدع الوخيمة التي عمت بها البلوى وطمت في بلاد المسلمين والعرب ، ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى ، فعلينا جميعًا التحذير من ذلك ، نسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا وأن يهدي ضال المسلمين ، والله أعلم .
(9) فائدة(1/23)
... اعلم أن الطامة الكبرى والمصيبة العظمى التي أدت إلى إهلاك الأمم والشعوب وأدخلت على أهلها الشرك والوثنية هي الغلو في الدين ، وهو مجاوزة الحد ، وهو من الأشياء التي شددت شريعتنا فيه وحذرت الرعية منه ؛ لأنه باب كل بلاء ومصدر كل فتنة وأساس كل رزية ومخالفة ، ولذلك قال تعالى : { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو )) رواه مسلم من حديث ابن عباس ، ولذلك فإن الشريعة سدت كل الطرق المفضية إليه ، فمن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله )) متفق عليه من حديث ابن عمر ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكرٍ خليلاً ألا وإن من قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك )) رواه مسلم .
... ولما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك : (( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا من قبور أنبيائهم مساجد )) يحذر ما صنعوا ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا .
... وأول شرك وقع في الأمة إنما كان سببه الغلو كما في قوله تعالى : { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودًا ولا سواع ويغوث ونسرًا } قال ابن عباس : ( هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى أقوالهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت ) رواه البخاري . قال ابن القيم : قال غير واحد من السلف : لما ماتوا عكفوا على قبورهم وصوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمر فعبدوهم . اهـ(1/24)
... فما عبدت القبور إلا للغلو في أصحابها وما دعي غير الله إلا للغلو في المدعو ، وما طيف حولها إلا بسبب الغلو ، وما ذبح لغير الله وما عبدت الأصنام والأشجار والأحجار والملائكة إلا بسبب الغلو ، وما وقع النصارى فيما وقعوا فيه في أمر عيسى - عليه الصلاة والسلام - إلا بسبب الغلو ، وما رفع البناء على القبور وعظمت بالسجود والركوع عندها وصرف النذور والقرابين لأصحابها إلا بسبب الغلو ، وما وقع أهل التمثيل في ذلك إلا بسبب الغلو في جانب الإثبات ، وما وقع أهل العطيل في ذلك إلا بسبب الغلو في جانب التنزيه ، وما وقع الكفر الصراح والردة الواضحة في الرافضة إلا بسبب غلوهم في آل البيت ، وما خرجت الخوارج على عثمان وعلي - رضي الله عنهما - إلا بسبب الغلو والتأويل الفاسد ، وما أطاع من أطاع الأمراء والعلماء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله إلا بسبب الغلو فيهم ، وما طلبت البركة في حجرٍ أو شجرٍ أو قبرٍ أو بشرٍ إلا بسبب الغلو فيه ، وما عظم كثير من الشعراء بعض الملوك بالقصائد التي فيها عظيم المدح والثناء والوصف بالصفات التي لا تكون إلا لله تعالى إلا بسبب الغلو فيهم ، وما عبدت النصارى الصليب وعلقوه على صدورهم وفي بيوتهم وأنديتهم وكنائسهم إلا بسبب الغلو فيه ، وما وقعت الجبرية فيما وقعت فيه من نفي قدرة العبد واختياره إلا بسبب الغلو في جانب إثبات القدر ، ولا وقع المرجئة فيما وقعوا فيه من اعتقادهم عدم تأثير الكبائر في الإيمان إلا للغلو في جانب الوعد والرجاء ، ولا وقع الوعيدية فيما وقعوا فيه من تكفير مرتكب الكبيرة وتخليده في النار إلا للغلو في جانب الوعيد ، وما حُلف بغير الله كالحلف بالنبي أو الأمانة أو الشرف أو حياة أحدٍ من الناس أو بالكعبة أو بالقبر الفلاني أو بالولي الفلاني إلا بسبب الغلو فيه ، ولذلك في الحديث : (( أيها الناس قولوا ببعض قولكم لا يستجرينكم الشيطان )) وهكذا كل بلية فإنك تجد سببها الغلو ،(1/25)
فوجب الحذر منه وعلاجه أن نسلك مسلك الوسطية التي وصفت بها أمتنا في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطًا } ، فهذا هو الحل مع طلب العلم النافع المقرون بالعمل الصالح ، والله يحفظنا وإياك من هذه البلية ويكفي الأمة شرها ، والله أعلم وأعلى .
(10) فائدة
... ويذكرني الكلام على الغلو بقضية مهمة أيضًا وهي أن الشريعة سلكت في مسألة القبور مسلك الوسطية كعادتها في سائر شئونها ومختلف مجالاتها فلا إفراط ولا تفريط ، فنهت عن الجلوس عليها والوطء عليها وأعظم من ذلك قضاء الحاجة عليها ، ونهت عن المشي بينها بالنعال وعن رفع الصوت باللغط وكلام الدنيا عندها ، كل ذلك كرامة لأصحابها .
... وأمرت الشريعة أن يرفع القبر قيد شبر فقط حتى يعرف فلا يهان ، ولا يجوز في شريعتنا قبر اثنين في قبر واحد إلا لضرورة ككثرة الموتى وقلة من يدفنهم ، كل ذلك صيانة لحق الميت ، ولا يجوز الاعتداء عليها بالنبش ؛ لأن الأرض هذه حق لهم وشرعت زيارتهم ، وسنت للزائر السلام عليهم ، وهذا كله من رفع شأن أصحابها ، لكن في الجانب الآخر نهت رفعها أكثر من شبر أي البناء عليها أو تجصيصها أو الكتابة عليها أو الدعاء للنفس عندها أو الذبح لأصحابها أو الطواف على قبورهم وطلب البركة منهم ، أو صرف النذر لهم ؛ وذلك لأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا وفاقد الشيء لا يعطيه ، فالشريعة بذلك لم تنزلهم عن مرتبتهم ولم ترفعهم عنها ، بل سلكت فيهم مسلك الوسطية ، وأنك بالتتبع لمذاهب الأمم لا تجد أمة أعطت أصحاب القبور حقهم هذا إلا هذه الأمة زادها الله شرفًا ورفعة ، والله أعلى وأعلم .
(11) فائدة
... أقول : اعلم أن القاعدة في الشرك الأصغر تقول : كل ما كان وسيلة للشرك الأكبر فشرك أصغر .
... فوسائل الشرك كلها محرمة وتوصف بأنها شرك أصغر ، والفرق بين الشركين معروفة ، ومنها : أن التحريم في الشرك الأكبر تحريم مقاصد ، وأما في الشرك الأصغر فتحريم وسائل .(1/26)
... ويتضح ذلك بالمثال : فالتمائم كلها شرك ولاشك ، لكن إذا كان يعتقد أنها سبب من أسباب دفع البلاء فقط وأن الله تعالى هو الدافع فهذا شرك أصغر ؛ لأنه وسيلة لاعتقاد أنها الفاعلة بذاتها وهذا شرك أكبر ، فسدًا لذريعة الوقوع في الأكبر نمنع تعليقها مطلقًا ، وكذلك الحلف بغير الله من غير تعظيم هو شرك ، لكنه شرك أصغر ؛ لأنه وسيلة للشرك الأكبر الذي هو الحلف بغير الله تعظيمًا له كتعظيم الله .
... وكذلك نسبة المطر والرياح إلى النوء الفلاني فإنه شرك أصغر إذا كان نسبة سبب ؛ وذلك لأنه وسيلة للشرك الأكبر الذي هو نسبة إحداث وإيجاد ، فسد الباب الأول ؛ لأنه ذريعة للوقوع في الأمر الثاني .
... ومن ذلك الطواف حول القبر أو الدعاء للنفس عندها أو طلب البركة منها ، كل ذلك شرك أصغر ؛ لأنه وسيلة للوقوع في الشرك الأكبر وهو تعظيم أصحابها التعظيم المفضي إلى دعائهم والذبح والنذر لهم ، ومن ذلك طلب البركة من شجرٍ أو حجرٍ هو شرك أصغر ؛ لأنه مفضٍ إلى الاعتقاد في هذا الشجر أو الحجر بأنه يجلب الخير أو يدفع الشر أو أن له تصرفًا في الكون ، ومن ذلك يسير الرياء أيضًا هو شرك أصغر ؛ لأنه وسيلة إلى قصد المخلوق بالعمل ، ومن ذلك شرك الألفاظ كقول ما شاء الله وشئت ولولا فلان لهلكنا ، ولولا الله وأنت ونحو ذلك ، كل ذلك من الشرك الأصغر ؛ لأنه وسيلة إلى الشرك الأكبر وهو تسوية المخلوق بالخالق في المشيئة والحفظ ، ومن ذلك البناء على القبور ورفعها وإسدال الستور عليها وكسوتها وتزويقها وجعل السدنة عليها كل ذلك شرك أصغر ؛ لأنه مفضٍ إلى الشرك الأكبر الذي هو عبادتها من دون الله تعالى وعلى ذلك فقس ، والله تعالى أعلى وأعلم .
(12) فائدة
... أقول : من المسائل العظيمة المهمة في باب التوحيد وغيرها من أبواب الدين مسألة قيام الحجة .
... متى تقوم الحجة ، هل ببلوغ الدليل ، أم لا بد مع البلوغ فهمه ؟
... هما قولان لأهل العلم :(1/27)
... فقال بعضهم : إن مجرد البلوغ كافٍ في قيامها ، فمن بلغه الكتاب والسنة قامت الحجة عليه ، سواءً فهمها أم لم يفهمها ، وأشهر من نقل عنه هذا القول الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب وأحفاده وتلاميذه - رحمهم الله تعالى - ، وسوف ترى أن هذا النقل فيه شيء من القصور وسوء الفهم لكلام الشيخ أو أن من نقل عنه ذلك إنما اعتمد على نصٍ واحد من كلام الشيخ وترك بقية نصوصه في هذه المسألة ، وهذا يقع فيه الكثير ، فإن كلام العالم قد يكون مطلقًا في مكان ومقيدًا في مكانٍ آخر ، وعامًا في مكانٍ وخاصًا في موضع آخر ، فإذا أردت أن تنسب لأحدٍ قولاً فلابد أن تقرأ كلامه وتجمعه وتؤلف بينه حتى يتبين لك حقيقة قوله ، وأما أن تنسب إليه القول بمجرد قراءة شيء من نصوصه فهذا عين الخطأ ، فكم من الأقوال التي تنسب لبعض العلماء وهو منها براء ، وكل يحاسبه الله تعالى ، والمراد أن أصحاب هذا القول استدلوا بعدة أدلة :
... الأول : قوله تعالى : { وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } ووجه الاستشهاد منه أن الله تعالى أوحى إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - هذا القرآن لينذر به الناس وينذر به من بلغه هذا القرآن فكل من بلغه القرآن فإنه قد قامت عليه النذارة بهذا البلاغ ولم يشترط الفهم وإنما اشترط البلوغ ، فمن اشترط الفهم فإنه يكون بهذا مشترطًا لشيء زائد على ما في القرآن ، فلو كان الفهم شرطًا في قيام الحجة لذكره ، فلما لم يذكره دل على أنه ليس بشيء .(1/28)
... الثاني : قوله تعالى : { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا } ومعنى { أن يفقهوه } أي حتى لا يفقهوه ، فبين الله سبحانه وتعالى أنهم لم يفهموه فلم يعذرهم لكونهم لم يفهموا ، بل عذبهم على ذلك مع تخلف الفهم فلو كان الفهم شرطًا كقيام الحجة لقالوا : ربنا لقد جعلت على قلوبنا أكنة وجعلت في آذاننا وقرًا فلم نفهم كتابك ولم تعرف مراد كلامك فكيف تعذبنا مع عدم فهمنا ، فلما لم يحتجوا بذلك وعذبهم دل على عدم اشتراط الفهم وإنما الشرط هو البلاغ ، إذ لو كان في عدم فهمهم حجة لهم لما عذبهم ؛ لأنهم لا يستحقون العذاب ، وتعذيب من لا يستحق العذاب ظلم ، والله منزه عن الظلم فلم يبق إلا أن يقال إن الفهم ليس بشرط في قيام الحجة ، وهذا هو المطلوب .
... الثالث : قوله تعالى : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً } فأخبر - جل وعلا - أنهم لا يسمعون سماع استجابة ولا يعقلون ما يقال لهم وأنهم كالأنعام بجامع عدم الفهم ، بل هم أشد من حال البهائم ، فإذا كانت البهائم لا تسمع ولا تعقل فهؤلاء أشد ، ومع ذلك عذبهم ولم يعذرهم لعدم فهمهم ، مما يدل على أن الفهم ليس بشرط في قيام الحجة وإنما المشترط البلاغ فقط ، والله أعلم .
... الرابع : قوله تعالى عن قوم شعيب : { ما نفقه كثيرًا مما تقول } فأخبروا صراحة أنهم لا يفهمون ما يقول شعيب - عليه السلام - ومع ذلك استحقوا العذاب واللعنة ، فلو كان الفهم شرطًا لقيام الحجة لعذرهم الله تعالى ، فلما لم يعذرهم وعذبهم ، دل على أن الفهم ليس بشرط في قيام الحجة وأن قيامها يكون بالبلوغ فقط ، والله أعلم .(1/29)
... الخامس : قوله تعالى : { إن عليك إلا البلاغ والله بصير بالعباد } ، وكذلك قوله تعالى : { ما على الرسول إلا البلاغ } فأخبر الله سبحانه وتعالى مهمة النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هي البلاغ فقط ، ويستفاد ذلك من أسلوب الحصر ، أي ليس عليك هدايتهم هداية التوفيق والإلهام ولا تفهيمهم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أرسله الله تعالى لإقامة الحجة على العباد ، وليس عليه إلا البلاغ ، فدل ذلك على أنه بالبلاغ فقط تقوم الحجة ، وليس للفهم ذكر ، فدل على أنه ليس بشرط في قيامها ، والله أعلم .
... السادس : قوله تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين } فأمره - جل وعلا - بإبلاغ ما أنزل إليه منه وتوعده على عدم إبلاغه ذلك الناس ، وليس فيه ذكر للفهم وإنما المأمور به إنما هو البلاغ فقط ، مما يدل على أن الحجة تقوم به ولا يشترط فهم المبلغين لما بلغوا به ، والله أعلم .
... السابع : قوله تعالى عن أهل النار : { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } فأخبر تعالى عن حالهم في الدنيا مع رسلهم وأنهم لم يعقلوا ما جاءت به الرسل ، والعقل هنا هو الفهم ، ومع ذلك هم من أصحاب السعير ، مما يدل على عدم اشتراط الفهم لقيام الحجة ، والله أعلم .(1/30)
... الثامن : قوله تعالى : { ولقد ذرأنا لجنهم كثيرًا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ... } الآية ، فأخبر - جل وعلا - أنه سلب الكافرين أدوات الفهم وعطلها عن وظائفها المعنوية ، فالقلب لا يفقه - أي لا يفهم - الكلام ولا يعرف معناه والعين لا تبصر الحق ، والأذن لا تسمع الهدى ، فأدوات الفهم عندهم معطلة ، ومع ذلك أخبر أنه ذرأهم لجهنم أي جعلهم حطبًا لها ووقودًا يحترقون فيها ، فلو كان الفهم شرطًا لقيام الحجة لما ذرأهم لجهنم ، لكن لما عذبهم مع عدم فهمهم دل ذلك على أن المشترط فقد إنما هو البلوغ وأن الفهم ليس يشترط ، والله أعلم .
... التاسع : قوله تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } فلم يشترط إلا السماع فقط ، وما ذلك إلا لأن الفهم ليس بشرط ، وإنما هو السماع فقط ، والسماع هو المراد بالبلوغ ، والله أعلم .
... العاشر : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث الدعاة والرسل إلى ملوك الأقاليم المجاورة ولا يأمرهم إلا بالبلوغ فقط ، ولم ينقل عنه في نص واحدٍ أنه أوصاهم أن يتأكدوا من فهم السامعين مما يدل على أن الحجة قائمة على هؤلاء بمجرد البلاغ ، فدل على أن الفهم ليس بشرط ، والله أعلم .
... الحادي عشر : دعوى الإجماع على أن كل من بلغته دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن حجة الله عليه قائمة ، فكل من بلغه القرآن فليس بمعذور وإن لم يتحقق له فهمها ، والله أعلم .
... فهذه هي مجمل أدلتهم ويتبين منها أنها بنيت على أمور :
... منها : لفظ البلاغ وما تصرف منه ، فإن أصحاب هذا القول يرون أن البلاغ إنما هو مجرد وصول الكلام وسماعه لا فهمه ، فالفهم عندهم لا يتعلق بالبلاغ ، والأدلة السابقة لم تشترط إلا البلاغ فقط ، فاشتراط الفهم يعتبر اشتراط زائد على ما قضت به هذه الأدلة وعلى مشترطه الدليل ؛ لأنه خلاف الأصل .
... ومنها : ضعف النظر في أدلة أصحاب القول الثاني الآتية إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .(1/31)
... وذهب جمع من أهل العلم - رحمهم الله تعالى - إلى أنه لا تقوم الحجة إلا بمجموع البلوغ والفهم ، واستدلوا بأدلة كثيرة أذكر منها ما يلي :
... الأول : قوله تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } فأخبر - جل وعلا - أنه أنزل الذكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم والتبيين درجة من درجات الفهم ، فمن لم يفهم لم يتبين له ، وأما من تبين له فإنه لابد يكون قد فهم ، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مأمورًا أن يبين للناس ما نزل إليهم فإنه يكون مأمورًا بتفهيمهم ما نزل إليهم ؛ ذلك لأن البيان درجة بعد الفهم ، والله أعلم .
... الثاني : قوله تعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب تبيانًا لكل شيء } وهو في وجه الاستشهاد وكسابقه .
... الثالث : أنه لما نزل قوله تعالى : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } عمد عدي بن حاتم - رضي الله عنه - إلى عقالين ووضعهما عند وساده فصار يأكل وينظر إليهما فلما بنينا إذا الصبح قد طلع فأخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( إن وسادك لعريض إنما هو نور الفجر وظلمة الليل )) ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقضاء ذلك اليوم ، مما يدل على أنه غير مكلف بذلك لعدم فهمه لهذه الآية . وهنا قد تحقق سماعه لكن تخلف الفهم لها ، فأسقط النبي - صلى الله عليه وسلم - القضاء ؛ لأن الحجة لم تقم عليه بهذه الآية لعدم فهمه لها ، مما يدل على اشتراط الفهم لقيام الحجة وهذا صريح في محل النزاع .(1/32)
... الرابع : إجماع العلماء قاطبة على عدم تكليف المجنون والصبي غير المميز ، وذلك لعدم فهمهما للخطاب ، أما المجنون فبالأصالة أي لفقدان عقله أصلاً والعقل وسيلة الفهم ، وأما الصغير فلأن عقله التكليفي لم ينضج بعد ، واختلفوا في الصبي المميز على قولين هما روايتان في المذهب ، والأصح أنه ليس بمكلف أيضًا ، والذين قالوا بتكليفه قالوا : لأنه يفهم الخطاب ويرد الجواب فجعلوا مناط تكليفه فهمه ، فكذلك البالغ العاقل إذا لم يفهم الخطاب فهو غير مكلف بجامع عدم الفهم ، وكما أن بلوغ الخطاب لهؤلاء لا يكفي لقيام الحجة عليهم فكذلك المكلف لا يكفي لقيام الحجة عليه بلوغ الخطاب فقط بلا فهم ، وهذا واضح .
... الخامس : أن المراد بالشرائع السماوية جميعها تعريف المكلف ما يجوز له ، وما يجب عليه ، وما يحرم عليه ، أي القصد منها الامتثال بفعل المأمور وترك المحظور ، وهذا لا يكون إلا بفهم ، فليس المراد من الشرائع مجرد بلوغها مسامع الناس ، وإنما المراد وعيها وفهمها .
... السادس : حديث الأسود بن سريع أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئًا ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في فترة . فأما الأصم فيقول : رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئًا ، وأما الأحمق فيقول : رب قد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر ، وأما الهرم فيقول : رب قد جاء الإسلام وما أعقل شيئًا ، وأما الذي مات في فترة فيقول : رب ما أتاني من رسول الله ، فيأخذ ميثاقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار ، فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا )) رواه أحمد وابن حبان وهو حديث صحيح بشواهده .
... فعدم عقل الأحمق والهرم صار مانعًا من عذاب الله لهم فهي حجة مقبولة ، مما يدل على أن الحجة لم تكن قامت عليهم لعدم فهمهم مما يدل على اشتراط الفهم لقيامها .(1/33)
... إذا علمت هذا فاعلم - يا رعاك الله - أنه بعد النظر في أدلة الفريقين والمقارنة بينهما تبين لي - والله أعلم - أن الخلاف لفظي ، وإنما الآفة في القصور في فهم كلام العلماء الذين تكلموا في هذه المسألة ، فإن كلام العلماء لا يختلف ولا اضطراب فيه ، فالمتتبع لكلامهم في هذه المسألة يجده لا غبار عليه .(1/34)
... وبيان ذلك أن تفرق بين الفهم المطلق ومطلق الفهم ، فأما الفهم المطلق فاتفق الفريقان جميعًا على أنه ليس بشرك في قيام الحجة ، والمراد بالفهم المطلق أي الفهم الكامل التام الذي يكون مؤثرًا في العمل كفهم أبي بكر وعمر وجلة الصحابة والسلف الصالح ، فإن هذا الفهم بهذا الاعتبار ليس بشرط في قيام الحجة عند العلماء قاطبة ، وأما مطلق الفهم وهو أدنى درجات الفهم فإنه شرط عند العلماء كافة ، والمراد بمطلق الفهم أي أن يعرف المراد سواءً امتثل أو لم يمتثل ، فأصحاب القول الأول إنما نفوا اشتراط الفهم المطلق ولكنهم لم ينفوا مطلق الفهم ، وأصحب القول الثاني إنما يريدون إثبات مطلق الفهم ، لكنهم لا يريدون الفهم المطلق ، وعليك أن تعرف أن أي آية فيها الأمر بالبلاغ فإن المراد بها البلاغ التام الذي لا يبقى معه لبس وذلك يرجع لأمرين : لوضوح القرآن ولكمال المبلغ ، فإذا اجتمع الأمران فإن البلاغ يكون حينئذٍ تامًا ، وأما الفقه المنفي في التي استدل بها أصحاب القول الأول فإنما هو الفقه المؤثر في النفس الموصل إلى الامتثال بفعل المأمور وترك المحظور ، وأما مطلق الفقه فهو متحقق فيهم ، فالمشركون يعرفون معرفة يقينية المراد من كلام الله تعالى ( ألم تر ) إلى قوله تعالى : { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعرٍ مجنون } ، وقوله تعالى : { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } ، وقوله تعالى : { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } ، وقوله تعالى : { يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } ، فالكفار يعرفون المراد من كلام الله تعالى ويفهمونه ويعرفون دلالاته وبخاصة القرآن الذي نزل بلغتهم ولسانهم الذي يتقنونه ، ولذلك كان يأخذ بمجامع قلوبهم وأسماعهم لكنهم لم يمتثلوا ما فيه ، بل كذبوه وكفروا به ، فعندهم مطلق الفهم لا الفهم المطلق ، والحجة يكفي لقيامها مطلق الفهم ، فإذا سمعت القرآن وعرفت(1/35)
المراد مما سمعت قامت عليك الحجة ، لكن إن امتثلت فعندك فهم آخر وهو فهم الامتثال وهذا كهداية التوفيق والإلهام فهي من الله تعالى ، ففهم الامتثال من الله تعالى أيضًا . وبهذا التحقيق تعلم أن الفهم المطلق ليس بشرط عند الجميع وأن مطلق الفهم شرط عند الجميع .
... فما هو الفهم الذي ينفيه أصحاب القول الأول والذي يثبته أصحاب القول الثاني ؟
... أقول : الفهم الذي ينفيه أصحاب القول الأول هو الفهم الزائد على مطلق الفهم ، والفهم الذي يثبته أصحاب القول الثاني هو مطلق الفهم أي معرفة المراد .
... فالخلاف إذًا لفظي ، وسببه عدم تحرير محل النزاع ، ولعلي بهذا الشرح قد أوصلت لك شيئًا من شرح هذه المسألة ، والله أعلم .
(13) فائدة
... إن مسألة التكفير من المسائل المهمة أيضًا وهي أن يقال : هل كل من وقع في الكفر كفر ، أو في الفسق فسق ، أو في البدعة بدع ، أو في أمرٍ لعن فاعله فهل يلعن أم لا ؟
... أقول : هذه المسألة لا تقل خطرًا عن سابقتها ، ولابد من بسط القول فيها ؛ لأن بعض ممن يتزين بزي أهل العلم في هذا الزمان زلت أقدامهم فيها ونسبوا لأهل السنة ما هم براء منه ، ووقعوا في أعراض إخوانهم من المسلمين تكفيرًا أو تبديعًا أو تفسيقًا بلا حجة ولا برهان ، فلابد من بسط القول في هذه المسألة .(1/36)
... وبيان ذلك أن يقال : من المعلومات البديهية الاضطرارية أن هناك فرقًا بين الفعل والفاعل ، فالفعل هو الحدث ، والفاعل هو المحدث للحدث ، فقولنا : ( أكل محمد ) فهنا فعل وفاعل ، فالفعل هو الأكل ، والفاعل هو محمد ، وإن من السفسطة في العقليات أن تقول : الفعل هو الفاعل ، أي أن الأكل هو محمد ، ومحمد هو الأكل وأن الحدث هو المحدث ، والمحدث هو الحدث ، وهذا لا أظنه يصدر إلا ممن سقط عنه التكليف لآفةٍ في عقله ، بل لا أظن المجنون يقول هذا ، ولذلك فرق النحاة بين الفعل والفاعل ، وكذلك علماء الشريعة أيضًا فرقوا بين الفعل والفاعل ، بحيث قد يوصف الفعل بأوصافٍ لا تتعداه إلى فاعله ، بل لا يجوز وصف الفاعل بها ، وقبل الدخول في الأدلة أذكر أولاً القاعدة المقررة عند أهل السنة والجماعة في هذا الباب ، وهي قولهم : ليس من فعل الكفر يكفر ، أو البدعة يبدع ، أو الفسق يفسق ، أو المعصية يأثم ، إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع ، هذا هو قولهم الذي لا يجوز نسبة غيره إليهم ، فإذا فعل الإنسان كفرًا أو بدعة أو فسقًا فلابد من النظر إلى هذه المسألة باعتبارين :
... الأول : باعتبار الفعل لذاته بِغَضِّ النظر عن فاعله ويعطى هذا الفعل حكمًا يخصه لا يتعداه إلى فاعله ، فالكفر كفر ، والبدعة بدعة ، والفسق فسق ، والمعصية معصية ، فإذا عرفنا حكم الفعل فننظر الاعتبار الثاني وهو الفاعل ، فنسأل أنفسنا : هل ينطبق حكم الفعل على الفاعل ؟ الجواب : لا إلا إذا توفرت شروط انطباقه وانتفت موانعه ، فقد يكون الفعل كفرًا لكن لا يكفر الفاعل لتخلف شرطٍ أو وجود مانع ، وقد يكون الفعل بدعة ، لكن فاعلها لا يبدع لاختلال شرط أو وجود مانع ، وهكذا في الفسق والمعصية ، إذًا لا تلازم بين حكم الفعل وفاعله لذاتهما ، وإنما يتم التعلق بينهما بتوفر شروط معينة وانتفاء موانع معينة ، إذا علم هذا فإليك الأدلة الدالة على صحة ذلك :(1/37)
... فمن الأدلة : حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - في الصحيحين قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب من أحدكم كان على راحلته بأرضٍ فلاة... )) إلى أن قال : (( اللهم أنت عبدي وأنا ربك )) ففي هذا الحديث لابد من التفريق بين أمرين : بين الفعل والفاعل ، فأما الفعل فهو كفر ولاشك إذ فيه تعبيد الرب وتربيب العبد ، وهذا كفر ، لكن هل كفر الفاعل ؟ الجواب : لا لم يكفر لوجود مانعٍ وهو شدة الفرح التي أغلقت على عقله فلم يعرف معنى ما يقول ، فلو كان هناك تلازم ذاتي بين الفعل والفاعل لكفر ذلك الرجل ، لكن ليس كل من قال الكفر أو فعله حكم عليه بمقتضاه وهذا واضح ، فالفعل في الحديث له حكم والفاعل له حكم آخر ، والله أعلم .
... ومنها : أن معاذًا - رضي الله عنه - لما قدم من الشام سجد بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال - عليه الصلاة والسلام - : (( ما هذا يا معاذ )) ؟ قال : أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( فلا تفعلوا فإني لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها )) رواه ابن ماجه والحاكم والبيهقي وفيه مقال ، لكن على فرض صحته فإنه متوافق مع الأصول لا مخالف لها ، فعندنا فعل وفاعل ، فأما الفعل فهو السجود لغير الله تعالى ، وهذا كفر لا يختلف فيه أحد من أهل العلم ، وأما الفاعل الذي هو معاذ فحاشاه أن ينطبق عليه حكم فعله ، ولذلك لم يحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه بمقتضى فعله ، بل عذره لأنه جاهل بالحكم ، ففرق - صلى الله عليه وسلم - بين الفعل والفاعل ، فأما الفعل فأنكره بقوله : (( فلا تفعلوا )) وأما الفاعل فتثبت فيه وقال : (( ما هذا يا معاذ )) ؟ فيا ليت أهل زماننا يفقهون هذا الأدب ولا يستعجلون في أمر جعل الله فيه سعة .(1/38)
... الثالث : حديث أبي هريرة في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( كان في من كان قبلكم رجل أسرف على نفسه بالذنوب والمعاصي فحضرته الوفاة فقال لأولاده : إذا مت فأحرقوني ثم ذروني في يوم ريح حتى لا يقدر عليَّ ربي فيعذبني ، فبعثه الله بين يديه فقال : ما حملك على ما قلت ؟ فقال : خوفك . فقال : أشهدكم أني قد غفرت له )) فهذا الرجل قد وقع في أمرين عظيمين : الأول : إنكار البعث . الثاني : إنكار القدرة . وهما كفر صريح ، فالفعل كفر ولاشك ، لكن هذا الرجل لم ينطبق عليه حكم فعله بدليل آخر الحديث ، وذلك لوجود مانع وهو الخوف الشديد من الله تعالى خوف أغلق عليه عقله فجعل ذلك الخوف الشديد مانع من كفره وهو صريح في أنه لا تلازم بين الوقوع في الكفر والحكم على الفاعل بمقتضاه وما ذلك إلا دليل على وجوب التفريق بين الفاعل والفعل .(1/39)
... الرابع : ما فعله حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - فإنه لما همَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بغزو قريش كتب حاطب كتابًا لهم يخبرهم بمسير الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم وأرسله مع ضعينة من فوضعته في قرونها ، فجاء الخبر من السماء ، فأرسل النبي علي بن أبي طالب والمقداد والزبير وأخبرهم بخبر هذه الضعينة وأنهم يجدونها في روضة خاخ ، فأدروكها تسير على بعير لها في ذلك المكان ، فسألوها عن الكتاب ، فقالت : ليس معي كتاب . قال : فأنخناها فتلمسنا فلم نرى كتابًا . فقلنا : ما كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتخرجن الكتاب أو لنجردنك ، فلما رأت الجد أهوت إلى حجرتها وهي متحجرة بكساء فأخرجته ، فجاءوا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا حاطبًا فقال : (( ما هذا يا حاطب )) ؟ فقال : والله ما بي إلا أن أكون مؤمن بالله ورسوله أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي . فقال : (( صدق ولا تقولوا له إلا خيرًا )) . فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق ، إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إنه قد شهد بدر وما يدريك لعل الله أطلع على من شهد بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )) ، فدمعت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم . رواه البخاري(1/40)
... فانظر إلى هذا الحديث العظيم فإن حاطبًا - رضي الله عنه - وقع في أمر خطير وهو التجسس على جيوش المسلمين وموالاة الكفار ظاهرًا وهي معصية قد تصل بصاحبها إلى الكفر ، إلا أنها في حق حاطب ليست بكفر ؛ لأنه نفى عن نفسه موالاة الكفار في الباطن ، فهي معصية فقط ، ولهذا اعتبرت مكفرة في حقه ؛ لأنه من أهل بدر الذين غفر الله لهم ولو كان كفرًا لما كفره حضوره بدرًا ؛ لأن الكفر والشرك لا تكفره إلا التوبة النصوح ، فعذره النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمرهم ألا يقولوا له إلا خيرًا ؛ لأن حكم فعله وهو المعصية لم ينطبق عليه ، فحاطب لم يسمى عاصيًا بهذا الفعل بل فعله معصية ، وفرق بين قولنا فعل معصية وقولنا وهو عاصٍ ، فإن ما فعله حاطب لم يصبه حكمه لوجود المانع وهو شهوده بدر ، فإن شهوده بدرًا جعل كالكفارة لهذه المعصية ، والله أعلم .
... الخامس : ما ورد في تفسير قوله تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } الآية .
... فقد روى غير واحدٍ من أصحاب الكتب المعتمدة أن عمارًا عذبته قريش عذابًا شديدًا لينال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنال منه مكرهًا فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باكيًا فقال له : (( ما يبكيك يا عمار )) ؟ فقال : فعلوا بي كذا وكذا من العذاب على أن أنال منك فنلت منك . فقال له : (( يا عمار كيف تجد قلبك )) ؟ قال : مطمئنًا بالإيمان . فقال : (( إن عادوا فعد )) .
... فهنا فعل وفاعل ، فأما الفعل فهو النيل من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أي بالسب والشتم ، وهذا الفعل لاشك أنه كفر ، وأما الفاعل الذي هو هنا عمار بن ياسر - رضي الله عنهما - فلاشك أنه لم ينطبق عليه حكم هذا الفعل ، وذلك لوجود مانع وهو الإكراه بالتعذيب الشديد ، فمجرد وقوع عمار - رضي الله عنه - في فعل هو كفر لم يستلزم ذلك أن يكفر ؛ لأنه لا تلازم بين حكم الفعل وحكم الفاعل ، فالفعل شيء والفاعل شيء آخر .(1/41)
... فلو أن من قال الكفر أو فعله انطبق عليه حكم قوله أو فعله مباشرة لاستلزم ذلك كفر من تقدم في الأدلة وهذا ضلال وخطأ عظيم والنجاة منه هو المعرفة التامة أن لا تلازم بين الفعل والفاعل كما هو مقتضى هذه القاعدة ، والله أعلم .
... السادس : أن الخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كانوا يعتقدون أن ديار الإسلام ديار كفر وحرب واستباحوا ديار المسلمين وفعلوا بهم الأفاعيل ، ومع ذلك لم يثبت عن أحدٍ من الصحابة والسلف فيما أعلم أنه كفرهم بهذه الأفعال والاعتقادات التي هي في ذاتها كفر ، فإن استباحة الحرام المعلوم حرمته من الدين بالضرورة كفر ، وهم استحلوا دماء المسلمين وديارهم وأموالهم ومع ذلك لم يكفرهم أحد فيما أعلم ، بل أنزلهم الصحابة منزلة البغاة الخارجين على ولي الأمر فلم يجهزوا على جريحهم ولم يتبعوا مدبرهم ولم يستحلوا أموالهم ؛ لأنهم مسلمون مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتالهم وقتلهم وأخبر أنهم كلاب النار وتوعد لإن هو أدركهم ليقتلنهم قتل عاد ، ولكن لم يكفرهم الصحابة والسلف الصالح لوجود مانع من موانع التكفير وهو التأويل ، وكان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إذا سئل عنهم أكفار هم ؟ قال : من الكفر فروا وإنما هم إخوان لنا بغوا علينا ، أو كما قال .
... فإذًا لابد من التفريق بين الفعل والفاعل كما فعل الصحابة مع الخوارج فإنهم نظروا إلى فعلهم بنظر ونظروا إلى ذواتهم بنظرٍ آخر وهذا شبه إجماع على صحة هذه القاعدة، والله أعلم .
... السابع : أن رجلاً من الصحابة يقال له عياض بن حمار ، وكان شاربًا للخمر ، فكان كثيرًا ما يؤتى به فيجلد فيها ، فأتي به مرة فنال منه بعض الحاضرين فزجره النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : (( إني لا أعلم إلا أنه يحب الله ورسوله )) أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - .(1/42)
... فانظر إلى هذا الحديث مع قوله : (( لعنت الخمرة على عشرة أوجه )) وذكر منها : (( وشاربها )) ، فالشارب لها ملعون ، ومع ذلك أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك الذي لعن عياضًا ، وذلك يدل على التفريق بين الفعل والفاعل ، فلاشك أن شرب الخمر موجب للعنة ، لكن شارب الخمر لا نتعرض له بلعنة ولا سب وإنما نقيم عليه الحد فقط ، فالشرب شيء والشارب شيء آخر، واللعن العام شيء ولعن المعين شيء آخر، فأين من يتدبر هذا الأمر ، والله المستعان .
... الثامن : أنه لما ظهرت الفتنة بالقول بخلق القرآن تولى كبرها المأمون - عفا الله عنه - مع المعتزلة وساموا فيها المسلمين عامة وعلمائها العذاب حتى استجاب خلق كثير وصمد بعض الأئمة من أبرزهم الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - إمام أهل السنة والجماعة ، وقال كلمته المشهورة : ( من قال بخلق القرآن فهو كافر ) وأجمع على ذلك أهل السنة والجماعة ، ومع ذلك فقد ثبت عنه أنه كان يصلي وراء المأمون ويدعو له واستغفر له في آخر حياته وحلله وسرى فعله هذا بين علماء أهل السنة ولم ينكره منهم أحد ممن يعتد به مما يدل على أن الفعل شيء والفاعل شيء آخر .
... فقولهم : ( من قال بخلق القرآن فهو كافر ) إنما هو منصب على الفعل فقط ، لكن لو جاءنا رجل يقول بخلق القرآن فهذا شيء آخر فلا نحكم عليه بمقتضى فعله إلا بعد قيام الشروط وانتفاء الموانع ، بل إني لا أعلم أحدًا من أهل السنة كفر الأشاعرة مع نفيهم لكثير من صفات الله ، وقد قال أهل السنة : ومن جحد صفة من صفات الله كفر .
... ولا أعلم أحدًا كفر المعتزلة مع نفيهم للصفات جملة وتفصيلاً وقولهم بخلق القرآن ، وهذا يفيد أن التكفير العام لا يستلزم انطباقه على كل فردٍ من أفراده ، فالعام شيء والمعين شيء آخر ، والفعل شيء والفاعل شيء آخر ، والله يهدينا وإياك .(1/43)
... التاسع : أن قدامة بن مظعون - رضي الله عنه - شرب الخمر متأولاً على عهد عمر بن الخطاب فجيء به إليه فقال : أتشربها وأنت من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاحتج بقوله تعالى : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات ... } الآية . فقال عمر : لو اتقيت الله ما شربتها ، فأقام عليه الحد ، ومع ذلك فإنه لم يتعرض له أحد من الصحابة بشيء من التفسيق أو التبديع مما يدل على التفريق بين الفعل والفاعل ، والأدلة على ذلك كثيرة ولكن المقام مقام اختصار .
... فهذه الأدلة تفيدك - إن شاء الله تعالى - إفادة قطعية التفريق بن الفعل والفاعل ، وأنه ليس كل من فعل الكفر كفر ، أو البدعة بدع ، أو الفسق فسق ، أو المعصية أثم ، ولذلك فنحن نقرر في كثير من المناسبات أنه لا يؤثر فعل المنهي عنه إلا بذكر وعلم وإرادة .
... فإن قلت : فما هي هذه الشروط التي تقول عنها : إلا بتوفر الشروط وانتفاء الموانع ؟ أقول : هي مقررة عند أهل العلم وأسوقها لك باختصار ، وهي كما يلي :
... الأول : العقل ، وضده الجنون ، فالعقل شرط ، والجنون مانع ، وبناءً عليه فلو أن فاعل ذلك ليس بعاقل فإنه لا ينطبق عليه حكم فعله .
... الثاني : البلوغ ، وضده الصغر ، فالبلوغ شرط ، والصغر مانع ، وبناءً عليه فلو أن فاعل ذلك كان صغيرًا فإنه لا ينطبق عليه حكم فعله .
... الثالث : العلم ، وضده الجهل ، فالعلم شرط ، والجهل مانع ، وبناءً عليه فلو أن فاعل ذلك كان جاهلاً جهلاً يعذر فيه فإنه لا ينطبق عليه حكم فعله .
... الرابع : الاختيار ، وضده الإكراه ، فالاختيار شرط والإكراه مانع ، وبناءً عليه فلو كان أن فاعل ذلك كان مكرهًا فإنه لا ينطبق عليه حكم فعله .
... الخامس : القصد ، وضده قول الشيء أو فعله غفلة ونسيانًا أي بلا قصد ، وبناءً عليه فلو أن فاعل ذلك لم يكن قاصدًا فإنه لا ينطبق عليه حكم فعله .(1/44)
... السادس : عدم التأويل ، وضده وجود التأويل ، وبناءً عليه فلو أن فاعل ذلك كان متأولاً تأويلاً سائغًا فإنه لا ينطبق عليه حكم فعله .
... إذا علمت هذا فاعلم - يا رعاك الله - أن هذا الكلام إنما هو في انطباق حكم الفعل على فاعله ، وأما التكفير أو التبديع بالوصف العام أو الأعم فإنه جائز بإجماع أهل السنة .
... وأما تكفير المعين ولعنه وتفسيقه فإن القول الصحيح فيه عند أهل السنة أنه لا يتحقق فيه إلا بعد توفر هذه الشروط السابقة وانتفاء الموانع ، والذي جعلني أنبه على هذه المسألة المهمة أمران :
... الأول : أن بعض الناس ينسب إلى أهل السنة جواز تكفير المعين مطلقًا ، كمن نسب إلى الإمام الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب أنه يقول بذلك ، وهذا خطأ على أهل السنة وتقويل للشيخ ما لم يقله ، بل الشيخ محمد - رحمه الله تعالى - موافق في هذه لأهل السنة ، بل هو سيد من سادات أهل السنة والجماعة وإمام من الأئمة ، ونصوصه في ذلك مشهورة معروفة عند من يقرأ كتب الشيخ ورسائله الشخصية ، بل قد ألف كتابًا حافلاً في هذه المسألة بعينها .
... وكذلك من نسب إلى الشيخ تقي الدين أنه يقول بذلك ، فقد أخطأ على الشيخ خطأ بالغًا ، بل قد نص هو - رحمه الله تعالى - أنه لا يكفر المعين إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع .
... وبالجملة فهذا أصل متفق عليه عند جميع أهل السنة ، وكل من يثبت عنه منهم أنه كفر أحدًا بعينه فإنما ذلك لثبوت الشروط عنده وانتفاء موانعه ، والله أعلم .(1/45)
... الثاني : أنني رأيت كثيرًا ممن ينتسب للعلم والفقه يستدل على كفر المعين بالدليل العام فيقول مثلاً : فلان يقول بخلق القرآن فهو إذًا كافر ؛ لأن من قال بخلق القرآن فهو كافر ، وهذا خطأ ، فكلام الأئمة هذا عام ، وأنت تريد أن تستدل على كفر المعين ، وقد تقرر في الأصول أن تناول النص العام لأفراد ليس بقطعي بل ظني ، فالذين قالوا هذه العبارات العامة لم يقصدوا انطباقها على كل قائليها ، وإنما هو بيان منهم لحكم القول نفسه أو الفعل نفسه ويبقى انطباقها على أحدٍ بعينه مفتقرًا لاجتهادٍ آخر .
... إذا علمت هذا فاحفظ لسانك - حفظك الله تعالى - عن الوقوع في أعراض إخوانك بزلل ، أو إخراجهم من دائرة الإسلام أو دائرة السنة بخطأ فتكون ممن تكلم في عرض أخيه بغير حق ، فإنك مسئول عن ذلك يوم القيامة ، فحاسب نفسك عليه فلا تعرض نفسك لأمرٍ أنت في حل منه وسعة ، واعلم أن أعراض الناس عند الله غالية وبخاصة العلماء الذين هم أولياء الله تعالى ، فإن لحومهم مسمومة وعادة الله في منتهكي أعراضهم معلومة ، ومن وقع في أعراضهم بالثلب عاقبه الله تعالى قبل موته بموت القلب ، واطلب العذر لإخوانك فإن اللبيب من عذر ، ومن الإنصاف أن يغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه ، فكل معرض للخطأ والغفلة والزلة ، فعامل الناس بما تحب أن يعاملك الله به ، قال تعالى : { وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم } واسلك سبيل السابقين الأولين في التعامل والحكم على الآخرين واحذر من زلل اللسان وإياك من السبل المعوجة من مسالك أهل الأهواء والبدع ، عافانا الله وإخواننا من كل قولٍ أو فعلٍ موجب لغضبه وسخطه وإنما المقصود النصيحة لنفسي ولعامة المسلمين ، والله أعلى وأعلم .
(14) فائدة
... إن قيل : ما الجهل الذي يعذر به صاحبه ، وهل يعم مسائل الاعتقاد والعمل ، أم هو خاص بمسائل العمل فقط ؟(1/46)
... وهذه المسألة مما كثر الكلام فيها وتشعبت فيه الآراء وتباينت فيها المذاهب وابتعد البعض عن ربط هذه المسألة بالكتاب والسنة ، فجاءوا بأقوالٍ ممجوجة مخالفة للوحيين ، ولأنها من المسائل التي كثر فيها الخلاف في زماننا ، أحببت أن أشارك بشيء من الكلام عليها مؤيدًا ذلك بالكتاب والسنة ورابطًا ذلك بالفروع والمسائل ، فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل وحسن التحقيق :
... اعلم - رحمك الله تعالى - أنه لا تكليف إلا بعلم ، وهذه قاعدة كبرى من قواعد أهل السنة والجماعة ، والأدلة عليها كثيرة جدًا وسيمر بنا طرف صالح منها - إن شاء الله تعالى - ، ولذلك جعل الأصوليون - رحمهم الله تعالى - من شروط الشيء المكلف به أن يكون معلومًا لدى المكلف ، أي أن يعلم المكلف أنه مأمور به أو منهي عنه ويعلم ما هيته وحقيقته الشرعية وما يتعلق به من صحة أو فساد ونحو ذلك ، إذا علمت هذا فإليك الأدلة الدالة على هذا الأصل العظيم ، فأقول :
... الأول : قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } فنفى الله تعالى عن نفسه أن يعذب أحدًا قبل بعثة رسولٍ يهدي الناس للصراط المستقيم هداية دلالة وإرشاد ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويعلمهم ما يعبدون به ربهم ويقيم الحجة عليهم ، فمن أطاعه دخل الجنة ، ومن عصاه دخل النار ، أما قبل بعثة الرسول فلا عذاب ولا عقاب ؛ لأن الناس حينئذٍ في جهل وضلال لا يعرفون ما أمرهم الله به وما نهاهم عنه والعقول لا تستقل بإدراك الشرع ، فقبل بعثة الرسول لا عذاب ؛ لأنه لا تكليف وبعد بعثته ثبت التكليف لوجود العلم حينئذٍ ، إذًا لا تكليف إلا بعلمٍ ولا عقوبة إلا بعد إنذار ، والله أعلم .(1/47)
... الثاني : قوله تعالى : { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } والقول بثبوت التكليف قبل العلم فيه تحميل لنا ما لا نطيق وهو منتفٍ شرعًا ، إذ كيف تكلف بأمرٍ لا تعلمه ، فهذا داخل تحت تكليف ما لا يطاق وليس في الشريعة الإسلامية شيء من التكاليف لا يطاق ولله الحمد ، فالعدل الرباني يقتضي أنه لا تكليف إلا بعلم ولا عذاب إلا بعد إنذار ، والله أعلم .
... الثالث : حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه - في فهمه لقوله تعالى : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } وتقدم ، والشاهد منه أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بقضاء ذلك اليوم لعدم علمه بمراد الآية فارتبط التكليف بالعلم ، فعدي رضي الله عنه كان جاهلاً بمراد الآية فصار جهله عذرًا عند الشارع .
... الرابع : حديث ابن عمر في الصحيحين أن رجلاً صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح فمر على قوم في مسجد قباء وهم يصلون لغير القبلة ، فقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة . فاستقبلوها فاستداروا كما هم إلى الكعبة .
... ووجه الاستشهاد منه أنهم افتتحوا الصلاة للقبلة المنسوخة ومن شروط الصلاة استقبال القبلة ، فلما بنوا على صلاتهم ولم يستأنفوها ولم يأمرهم - صلى الله عليه وسلم - بقضاء هذه الصلاة دل ذلك على أنه عذرهم لعدم علمهم بالناسخ ، فدل على أن الجهل بالحكم عذر فلا تكليف إلا بعلم ، ويزاد على هذا أن خبر تغيير القبلة إذا كان تأخر وصوله إلى من بجوار المدينة كمن في بقاء ، فإنه يعلم يقينًا من باب أولى أنه لن يصل إلى من بمكة أو ممن بالحبشة إلا متأخرًا ، ومع ذلك لم يأمر أحدًا منهم بقضاء أو إعادة مما يدل على أن الجميع يعذرون بجهلهم ، فدل على أن الجهل عذر وأنه لا تكليف إلا بعلم ولا عقوبة إلا بعد إنذار ، والله أعلم .(1/48)
... الخامس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى إليه رجل زق خمر فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( ألم تعلم أنها حرمت )) ، قال : ففتح الرجل الزق فأراقه . وهو عند مسلم . فهذا الرجل جاء بهذا الخمر يهديه للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول التحريم ولعن فاعلها وحاملها وشاربها والإخبار أنها من عمل الشيطان ، ومع ذلك لم يعنف على الرجل ولم يؤثمه لجهله فصار جهله عذرًا مقبولاً مما يدل على أنه لا تكليف إلا بالعلم .
... السادس : في الصحيحين من حديث أنس أن أعرابيًا دخل المسجد فبال فنهره الصحابة - رضي الله عنهم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تزرموه ودعوه )) ، فلما قضى بوله أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذنوبٍ من ماءٍ فأهريق عليه ، فلاشك أن للمسجد حرمته وقدسيته لاسيما الحرمين ، مسجد مكة والمدينة وهذه الواقعة وقعت في مسجد المدينة مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب لما رأى بزاقًا في المسجد حتى احمر وجهه وأمر بحكها ودفنها وقال : (( لا أحل المسجد لحائضٍ ولا جنب )) ، وهذا الأعرابي يأتي يبول في ثاني الحرمين الشريفين لاشك أنه فعل يستحق صاحبه العقوبة البليغة التي تردعه من ذلك ، لكن لم يحصل شيء من ذلك ؛ لأن الأعرابي لم يقصد شيئًا من ذلك وإنما فعل ذلك جاهلاً الحكم فعذره النبي - صلى الله عليه وسلم - لجهله مما يدل على أن الجهل بالحكم عذر شرعي ، ولذلك علمه الحكم بعده ، فقال له : (( إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من هذا الأذى والقذر إنما هي للصلاة والتسبيح والتهليل وقراءة القرآن )) ، والله أعلم .(1/49)
... السابع : روى مسلم بسنده عن معاوية بن الحكم السلمي أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فعطس رجل من القوم فقال معاوية : يرحمك الله ، قال : فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت : واثكل أمياه ماذا صنعت ، فجعلوا يضربون على أفخاذهم ، فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فبأبي هو وأمي والله ما رأيت معلمًا قط أفضل منه ، فوالله ما كهرني ولا نهرني ولكن قال : (( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما التسبيح والتكبير وقراءة القرآن )) وهذا مع أنه قد تقرر أن الكلام في الصلاة مبطل لها ؛ لأن في الصلاة شغلاً وأن الله يحدث من أمره ما يشاء وإنه مما أحدث ألا يتكلم في الصلاة ، لكن ومع كلام معاوية في الصلاة أكثر من مرة لم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة ، فدل ذلك أن كلامه هذا لا أثر له وذلك لجهله بالحكم فجعل جهله مانعًا من إبطال الصلاة مما يدل على أن الجهل بالحكم عذر من الأعذار الشرعية وأنه لا تكليف إلا بعلم .
... الثامن : روى البخاري ومسلم من حديث عمار بن ياسر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه في حاجة فأجنبت ، قال : فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له فقال : (( إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا ... )) الحديث ، وفي بعض الروايات الصحيحة أنه كان معه عمر رضي الله عنه وأنه لم يصل ، فعندنا عدة أمور :
... منها : أن الطهارة الشرعية صفتها توقيفية وما فعله عمار ليس هو التيمم الشرعي فلما صلى بهذا التيمم فكأنه صلى بغير طهارة ومع ذلك لم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعادة هذه الصلوات التي صلاها بهذه الطهارة ، مما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عذر عمارًا لجهله ، فدل ذلك على أنه لا تكليف إلا بعلم .(1/50)
... ومنها : أن عمر - رضي الله عنه - بقي هذه المدة ولم يصل ولم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بقضاء ذلك ؛ لأن عمر كان يجهل أن التيمم رافع للحدث الأكبر ، فعد النبي - صلى الله عليه وسلم - جهله هذا مانعًا من تكليفه أي من أمره بالقضاء مما يدل على أن الجهل بالحكم عذر شرعي يعذر الإنسان به في ترك الواجب أو فعل المحرم .
... التاسع : قوله تعالى : { لأنذركم به ومن بلغ } ، وقوله : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } ومثل هذا في القرآن كثير ومتعدد ، ليبين سبحانه أنه لا يعاقب أحدًا حتى يبلغه ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
... العاشر : حديث المستحاضة وهن ثلاث : حمنة بنت جحش ، وفاطمة بنت أبي حبيش ، وزينب بنت جحش ، وفي هذه الأحاديث أن أمر الاستحاضة يشكل على إحداهن حتى تدع الصلاة ، ففي حديث فاطمة أنها قالت : إني امرأة أستحاض فلا أطهر أندع الصلاة ، وفي حديث حمنة : إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة تمنعني من الصلاة والصوم ، وفيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتيهن بوجوب الصلاة زمن دم الاستحاضة وأنها لا تسقط وجوب الصلاة والصوم ، ولم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهن بقضاء الصلاة والصوم الذي فاتهن مما يدل على أنه عذرهن بالجهل بهذا الحكم الشرعي مما يدل على أن الجهل عذر شرعي ، والله أعلم .
... الحادي عشر : أنه لما زيد في صلاة الحضر حين هاجر إلى المدينة كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - كان من كان بعيدًا عنه مثل من كان بمكة وبأرض الحبشة يصلون ركعتين ولم يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعادة شيء من ذلك ؛ لأنه عذرهم لجهلهم للحكم وهذا يدل على أن حكم الناسخ لا يلزم إلا لمن بلغه ، والله أعلم .(1/51)
... الثاني عشر : ثبت في الصحيحين أنه سئل بالجعرانة عن رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة وهو متضمخ بالطيب ، فلما نزل عليه الوحي قال : (( انزع عنك الجبة واغسل عنك أثر الخلوق واصنع في عمرتك ما كنت صانعًا في حجك )) ، وهذا فعل محظورًا في الحج وهو لبس المخيط واستعمال الطيب ، ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك بالكفارة ، مما يدل على أنه عذره للجهل فدل ذلك على أنه لا تكليف إلا بعلم ، وقررنا بذلك قاعدة وهي قولنا : لا يؤثر فعل المحظور إلا بذكرٍ وعلمٍ وإرادةٍ ، والله أعلم .
... الثالث عشر : ثبت في الصحيحين أن أعرابيًا وهو خلاد بن رافع دخل المسجد فصلى ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد عليه وقال : (( ارجع فصل فإنك لم تصل )) فرجع الرجل فصلى كما كان صلى ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد عليه وقال : (( ارجع فصل فإنك لم تصل )) ثلاثًا . ثم قال : والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني . فقال : (( إذا قمت إلى الصلاة فكبر ... )) الحديث المعروف .
... والشاهد منه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بإعادة الصلوات التي صلاها بهذه الطريقة الخاطئة مما يدل على أنه معذور بهذا الجهل ، وأما أمره بإعادة هذه الصلاة فلأن وقتها لا يزال باقيًا فهو مخاطب بها ، والتي صلاها لم تبرأ بها الذمة فأمر بإعادتها وهذا من أوضح الأدلة أن الإنسان يعذر بجهله ، والله أعلم .(1/52)
... الرابع عشر : حديث حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة ، وليسرى على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون : أدركنا آباءنا على هذه الكلمة : لا إله إلا الله فنحن نقولها )) . فقال له صلة : ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة ؟ فأعرض عنه حذيفة ، ثم ردها عليه ثلاثًا كل ذلك يعرض عنه ثم أقبل في الثالثة فقال : يا صلة تنجيهم من النار ، ثلاثًا . رواه ابن ماجه والحاكم وإسناده صحيح ، فهذا الحديث وإن كان يتحدث عن حال الناس في آخر الزمان لكن فيه دليل على العذر بالجهل ، حيث يعم الجهل بالكتاب والسنة بموت العلماء وترئيس الجهال ودروس العلم وتفاقم البدع ويضعف نور النبوة فتخفى على الناس كثير من الأحكام الظاهرة المتواترة كوجوب الصلاة والصوم فلا يبقى عندهم إلا الإقرار الذي عليه مدار النجاة ، وهذا الجهل بهذه الأحكام الظاهرة لا يلزم أن يكون عامًا لأهل الأرض ، بل في زمانٍ دون زمان ومكانٍ دون مكان لحديث : (( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك )) ، والله أعلم .
... الخامس عشر : حديث أبي واقدٍ الليثي قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرةٍ فقلنا : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال : (( الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة . قال إنكم قوم تجهلون } لتركبن سنن من كان قبلكم )) رواه الترمذي وصححه .(1/53)
... فالذي طلبه من الصحابة أعني من كان منهم حديث عهد بكفرٍ حكمه شرك ولاشك ، ولذلك شبهه النبي - صلى الله عليه وسلم - بطلب بني إسرائيل من موسى - عليه السلام - أن يجعل لهم إلهًا كما لهؤلاء آلهة ، وأقسم على أنه مثله ولكنهم لم ينطبق عليهم حكم قولهم هذا - حاشا وكلا - ؛ وذلك لأنهم حدثاء عهد بكفرٍ ، مما يدل دلالة واضحة أن جهلهم بحقيقة ما قالوا صار عذرًا لهم في ذلك ، فدل على أنه لا تكليف إلا بعلم ، والله أعلم .
... السادس عشر : قصة سجود معاذ بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقدمت ، ووجه الاستشهاد بها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عذر معاذًا في فعله هذا لجهله بحقيقة الأمر وعدم علمه بحكم ما فعله مما يدل على أن الجهل عذر وأنه لا تكليف إلا بعلم .
... فهذه الأدلة تفيدك إفادة قطعية - إن شاء الله تعالى - أن الجهل عذر من الأعذار الشرعية ، وظهر بذلك صواب القاعدة المقررة عند أهل السنة والجماعة أنه لا تكليف إلا بعلم وأما مع الجهل فإن الإنسان لا يعد مكلفًا ، وما مضى هو المسألة الأولى ، أي أننا نكون بذلك قد عرفنا قاعدة لا تكليف إلا بعلم وسقنا عليها ما حضرنا من الأدلة ، والله أعلم .
... وأما المسألة الثانية : فهي أن يقال : بعد أن تقرر من الأدلة السابقة أن الجهل عذر من الأعذار ، فهل هو عذر في المسائل العلمية أي العقدية والعملية أي الفقهية ، أم هو عذر في الثانية دون الأولى ؟(1/54)
... والجواب عن ذلك أن يقال : اعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة الذي تظافرت الأدلة على نصره هو أن العذر بالجهل عام في جميع المسائل جليها ودقيقها ، سواءً المسائل العلمية أو العملية ، الأصولية أو الفروعية ، هذا هو مذهبهم المشهور عنهم ، ونقله غير واحدٍ ومن أشهرهم أبو العباس بن تيمية - رحمه الله تعالى - ، وذكر - قدس الله روحه - أن القول بالتفريق بالجهل بين العقائد والشرائع قول مبتدع مأخوذ عن المبتدعة من المعتزلة وغيرهم، بل لو تدبرنا الأدلة السابقة لوجدنا بعضها في لب العقيدة كحديث سجود معاذ بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وحديث الأنواط ، وحديث خلاد بن رافع فإنه في الصلاة وهي من الأصول ، وحديث الذي قال : ( إذا مت فأحرقوني ) وغيرها ، بل عمومات الآيات والأحاديث قاضية بذلك ، فإنها وإن وردت على أسباب خاصة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وقد تقرر في الأصول أن الأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص فتلخص من هذا أن الجهل عذر في كل المسائل ، أي سواءً العلمية أو العملية ، والله أعلم .
... وأما المسألة الثالثة : ما الجهل الذي يعذر به صاحبه ؟ أقول : هذا هو لب القاعدة .
... اعلم - رحمك الله تعالى - أن مسألة العذر بالجهل من المسائل التي كثر فيها الخلاف قديمًا وحديثًا وحصل بسببها بعض الفرقة والنزاع بين بعض أهل العلم ، وما ذلك إلا لعدم تحرير محل النزاع ، ولأنه قد دخل في الكلام فيها من لم يبلغ درجة الكلام في مثل هذه المسائل ، ودخل فيها ضيق العين وقليل الحياء الذي يرشق مخالفه بزخات من عفن الكلام وسوء الأدب حتى إنه لا يعرف لكبير قدرًا ولا لصغير نظرًا ، بل قوله هو المقدم في الحال والمآل ، وكل قولٍ يخالف قوله فهو ضلال ومحال ، وهذا لا يجوز ، بل هو من الكبر والجهل والاعتداء ، والمقصود أن مسألة العذر بالجهل لها اعتباران :(1/55)
... الأول : اعتبار الجهل عذرًا شرعيًا وهذه - إن شاء الله تعالى - من أصول المسائل عند أهل السنة لكثرة أدلتها وصراحة ودلالتها ، واشتهار أمرها بين العامة والخاصة ، ولا أظن أحدًا منهم يخالف في ذلك ، والأدلة المذكورة في رأس هذه المسألة هي غيض من فيض أدلة كثيرة لا تدع مجالاً لمنصف أن يشك في أن الجهل عذر ، بل أقول : إن المخالف لذلك موصوف بالبدعة .
... والاعتبار الثاني : فهو في نوع الجهل الذي يعد عذرًا شرعيًا ، فهذا هو الذي كثر الخلاف فيه ، مع اتفاقهم على الأول ، فبعضهم يرى أن هذا النوع من الجهل عذرًا ، وبعضهم لا يراه كذلك ، وخلافهم هذا - في نظري - يدرج بعضه تحت مسائل الاجتهاد التي يسوغ فيها الخلاف ، ولا يجوز فيها إلزام الآخرين بأقوالنا ولا توجب المخالفة فيها عداءً ولا تدابرًا ولا تشاحنًا ولا مسابة ولا غيرها ، مما لا يليق بحملة العلم وطلابه ، إذا علم هذا فإني أذكر لك - إن شاء الله تعالى - طرفًا من الكلام على أنواع الجهل وتعريفاته وتفريعاته وما يتخرج على النصوص السابقة من أنواعه ، وعسى أن أوفق في حصر هذا الموضوع الدقيق تحت ضوابط مؤيدة بالأدلة لتخف حدة النزاع ، وما هي إلا اجتهادات واستنباطات قابلة للأخذ والاطراح ، وإنما المقصود النصيحة ، والله يحفظنا وإياك من زلل البنان واللسان ، فأقول :
... الأمر الأول : علما اللغة - رحمهم الله تعالى - ذكروا أن الجهل له معانٍ :
... منها : خلو النفس من العلم ، بمعنى أنك لا تعلم هذا الشيء أصلاً ، كمن يسأل عن شيء فيقول : لا أدري ، فهو جاهل به ، لأنه خال من علمه وهو ما يسميه المناطقة بالجهل البسيط ، وهذا النوع من الجهل هو الذي تعرفه العامة ، إذ هو المشهور بينهم .(1/56)
... ومنها : فهم الشيء على غير وجهه ، فإذا فهم الإنسان قولاً أو فعلاً على غير مراد صاحبه فهو جاهل به ، لكن هذا الجهل إنما ينصب على فهم المعنى لا الألفاظ ، ذلك أن اللفظ قد بلغه لكنه لم يفهم معناه الفهم الذي يقصده صاحبه ، وهو الذي يسميه المناقطة بالجهل المركب . ويقول فيه الأصوليون : هو اعتقاد الشيء على غير ما هو عليه .
... ومنها : فعل الشيء على خلاف ما حقه أن يفعل عليه ، وكأن هذا النوع ليس نوعًا جديدًا ، بل هو نتيجة للنوع الثاني ، والله أعلم .
... فهذه أنواع الجهل ، ينبغي مراعاتها في مسألة العذر بالجهل مع مراعاة الضوابط الآتية - إن شاء الله تعالى - .
... الأمر الثاني : اعلم أن الجهل ليس صفة ذاتية لازمة للإنسان ، بل هو من العوارض التي تذهب بزوال أسبابها ، فالجهل بالشيء يذهب ويزول إذا تعلمه الإنسان ، إذا علم هذا فليعلم أن الله تعالى قد أمرنا برفع الجهل ، وذلك في قوله تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } والأمر للوجوب فيما علمه واجب ، وللاستحباب فيما علمه مستحب .
... فتعلم كيفية الصلاة مثلاً واجب عيني ، فيكون حكم رفع الجهل في هذه المسألة بعينها واجب عيني ، وأما تعلم كيفية صلاة الاستسقاء مثلاً فهو سنة ، فيكون حكم رفع الجهل فيها سنة ، وبه تعلم أن رفع الجهل من الأحكام التكليفية ؛ ذلك لأنه يكون واجبًا فيما علمه واجب وسنة ، فيما علمة سنة وبقاؤه واجب ، فيما علمه محرم وسنة ، فيما علمه مكروه ، وفيما عدا ذلك فرفعه مباح ، فجرت عليه الأحكام التكليفية الخمسة ، فهو إذًا حكم تكليفي ، وحيث ثبت ذلك فيجري عليه لزامًا ما يجري على الأحكام التكليفية من الشروط ، فكل شرط للمطالبة بالتكليف فهو شرط للمطالبة برفع الجهل ، فمن ذلك البلوغ ، والعقل ، والقدرة ، وكذلك يسقطه ما يسقطه من الصغر والجنون والعجز عن رفعه ، وهذا أمر مهم لابد من فهمه عند البحث عن مسألة العذر بالجهل والبحث في أنواعه ، والله أعلم .(1/57)
... الأمر الثالث : وهو خلاصة هذا المبحث في هذه المسألة أن ضابط العذر بالجهل هو مراعاة القدرة على رفعه من عدمها ، فالجهل الذي يشق الاحتراز منه ولا يتمكن المكلف من رفعه هو الذي يعد عذرًا من الأعذار الشرعية ، أما الجهل الذي يتمكن المكلف من رفعه بيسر وسهوله لكنه فرط وأهمل فإنه لا يعذر عذرًا في الشريعة ، ومن صور الجهل الذي يشق الاحتراز منه ولا يتمكن المكلف من رفعه كالذي أسلم في دار الحرب ولا يستطيع الهجرة منها لعذرٍ من الأعذار ، فإنه إذا ترك مأمورًا أو فعل محظورًا في هذه الحالة وادعى أنه كان جاهلاً بوجوب هذا أو حرمة هذا ، فإنه يقبل منه ذلك ؛ لأن دار الحرب غالبًا لا يظهر فيها علم أهل الإسلام ، بل هي خالية من أحاد المسلمين غالبًا فضلاً عن العلماء وطلاب العلم ، فالجهل فيها مما لا يمكن المكلف رفعه ، ورفع الجهل واجب على المكلف في حكم هو واجب عليه ، والواجبات تسقط بالعجز عنها كما هو مقرر في القواعد ، وهو عاجز عن رفع الجهل فيسقط عنه ؛ لأنه لا واجب مع العجز ، وهذه الصورة من النوع الأول من أنواع الجهل وهو خلو النفس عن العلم .(1/58)
... ومنها : من نشأ ببادية بعيدة عن العلم والعلماء ولا يمكنه الاتصال بهم ، ففعل محظورًا أو ترك مأمورًا وادعى أنه كان جاهلاً بذلك ، فهو معذور بهذا الجهل ؛ لأنه في هذه الحالة لا يقدر على رفع الجهل عن نفسه ولا واجب مع العجز ، فالجهل في البوادي البعيدة هو مما يشق التحرز منه أي أن التحرز من وقوع الجهل في هذه الأماكن من الأمور الشاقة جدًا ، وهذه الصورة أيضًا من النوع الأول وهو خلو النفس عن العلم ، ويمثل لذلك بحال الأعرابي الذي بال في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والأعرابي الذي جاء بزق خمرٍ فأهداه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبجهل من هاجر إلى الحبشة بزيادة صلاة الحضر فإنهم لم يعلموا بذلك إلا بعد مدة ومثلها عدم علمهم بنسخ القبلة وهم معذورون في ذلك لبعدهم عن دار العلم ، وكذلك حديث خلاد بن رافع فإنه ليس من أهل المدينة وإنما من الأعراب فعذر بجهله السابق؛ لأنه كان في دارٍ بعيدة ، ونحو ذلك.(1/59)
... ومنها : حداثة الإسلام ، فإن من أسلم حديثًا يغلب عليه طابع الجهل ببعض الأحكام الشرعية سواءً العقدية أو الفقهية ، فجهله هذا يكون عذرًا مانعًا من انطباق حكم فعله عليه ، وعلى ذلك حديث أبي واقد الليثي - رضي الله عنه - السابق في سياق الأدلة ، والشاهد منه قوله : ( ونحن حدثاء عهدٍ بكفرٍ ) أي لا زلنا بعد لم نتفقه ولم نتعلم ولم تذهب منا عادات قومنا زمن الكفر ، وذلك لحداثة الإسلام ، وهذا يكون فيمن أسلم حديثًا سواءً في دار الإسلام أو في دار الكفر أوضح ، لكن حتى الكافر في دار الإسلام قد لا يعرف كثيرًا من أحكام الإسلام لعدم اهتمامه بها واشتغاله بغيرها ، فجهل حديث الإسلام ببعض شرائعه يشق الاحتراز منه إذ من الصعب جدًا أن تعلم الكافر قبل أن يسلم جميع الشرائع حتى لا يدخل في الإسلام إلا على بصيرة ، وإنما الواجب هو النطق بالشهادتين أولاً وإن لم يك عالمًا بمعناهما عرف معناهما ، وهذه الصورة أيضًا هي من النوع الأول ، وهو خلو النفس عن العلم ، والله ربنا أعلم .(1/60)
... ومنها : من نشأ في بلدةٍ من بلاد الإسلام لكن يغلب عليها البدعة كبدعة الصوفية بطرقها الضالة ، أو القبورية ، والكلمة فيها لعلماء السوء الذين ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا وضلوا عن سواء السبيل ، وكبلاد الشيعة التي لا تكاد فيها تجد للسنة طريقًا ولا كلمة ولا راية ، ولا طريق للعلم الصحيح لبعده عن بلاد أهل السنة أو لاعتقاده صواب نفسه ، فهذا معذور - إن شاء الله تعالى - حتى تقام عليه الحجة الرسالية ؛ لأنه جاهل جهلاً لا يتمكن من رفعه عن نفسه ، ولأن الجهل في هذه الأماكن مما يشق التحرز منه ، وما أكثر البلاد التي تسودها البدعة بعلمائها المنحرفين الضالين الذين يمنعون نور الهدى أن يصل للناس ، فأولئك عليهم وزرهم ووزر من أضلوه لأنهم دعاة فتنة وأبواب الشر ، وقد رأينا بأعيننا في بعض البلاد التي تنتسب إلى الإسلام أن نار البدعة فيها مضطربة تتوقد والناس يحترقون فيها وعلماء البدعة يفتون بجوازها وأنها من لب الشريعة وينكرون على من أنكرها وهي بدع شركية كالذبح للقبور والنذر لها ودعائها من دون الله تعالى ، والناس في هذه البلاد أعني العوام منهم لم يسمعوا كلمة الحق لقلة من يذهب لهم من الدعاة ولسيطرة علماء البدعة على مناصب الإفتاء ، ومنعهم دخول كتب أهل السنة لبلادهم ، فمثل هؤلاء الأتباع يعذرون - إن شاء الله تعالى - ؛ لأنهم يجهلون حقيقة الأمر الذي هم فيه ولا تكليف إلا بعلم ومثل جهل هؤلاء يشق التحرز منه ، ولا ينبغي التعجل في إخراج أحدٍ من دائرة الإسلام بمثل ذلك ، فنسأل الله تعالى أن يعين الدعاة من أهل السنة ليوصلوا كلمة الحق إلى هؤلاء الضعفاء الذين هم في حاجة إلى سماعها أكثر من حاجتهم إلى طعامهم وشرابهم ، ومن العجب أنك تسمع من يهون الأمر ويقول : إن التوحيد مفهوم للجميع ، وهذه كلمة جاهل لا يدري عن الواقع ، والله المستعان .(1/61)
... فهذه بعض الصور التي يذكرها العلماء في الجهل الذي يعذر به صاحبه ويجمعها قولنا : كل جهل يشق الاحتراز منه ولا يتمكن المكلف من رفعه فيعذر به في ترك المأمور أو فعل المحظور وما لا فلا ، ويتفرع عن هذه القاعدة قواعد كثيرة جدًا من أهما قولهم : أن التكليف مشروط بالقدرة على العلم والعمل . ومنها قولهم : إن الخطاب لا يثبت حكمه إلا بالبلوغ . ومنها : لا يثبت الناسخ إلا بالعلم . ومنها قولهم : ما تركه المكلف لجهله بالوجوب فإنه لا يعيده ، ويعينون بالجهل أي الذي يعذر به صاحبه . ومنها قولهم : لا مؤاخذة إلا بعلم ولا عقوبة إلا بعد إنذار .
... وهذه القواعد معناها : إن الأحكام الشرعية لا تثبت في حق المكلفين ولا يطالبون بها إلا بعد أن تبلغ ويتمكنوا من فهمها مطلق الفهم ، وما سبق ذلك من عبادات أو معاملات فإنهم يقرون عليه ما دام المفسد قد زال ولا يؤمرون بإعادته ، والله ربنا أعلى وأعلم .
... بقي أن يقال : كيف العمل في حديث عدي رضي الله عنه لما أحل بعد طلوع الفجر وقد نزل قوله تعالى : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } ، فعدي - رضي الله عنه - قد بلغه الدليل ، ومع ذلك خالفه ولم يؤمر بالقضاء ، وكذلك حديثه في التيمم فإنه كان يعلم أن التيمم رافع لحدث الجنابة وتيمم على صفة غير مشروعة ومع ذلك لم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعادة الصلاة التي صلاها بهذا التيمم ، والدليل قد بلغه ، فما نوع الجهل في هذين الحديثين ؟ أقول : إن قولنا : ( بلوغ الدليل ) لا نعني به مجرد بلوغ الألفاظ وسماعها ، فإن ذلك لوحده لا تقوم به الحجة ، بل نعني بكلمة ( بلوغ الدليل ) أي البلوغ التام المركب من سماع اللفظة وفهمه على وجهه الصحيح ، وهذا قد قررناه في مسألة الشيء الذي تقوم به الحجة ، وقلنا سابقًا : إن الجهل أنواع :
... منها : خلو النفس عن العلم أصلاً .(1/62)
... ومنها : اعتقاد الشيء على غير ما هو عليه وفعله على غير ما حقه أن يفعل ، فعدي رضي الله عنه بلغه الدليل ولاشك وسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنه أخطأ - رضي الله عنه - في فهمه ، واعتقده على غير وجهه الصحيح وظن مع ذلك صواب نفسه فعمل به ممتثلاً لا مخالفًا ، فهو يوصف بالجهل في هذه المسألة ، وبهذا الاعتبار لا يخرج في فهمه هذا عن حد الجهل الذي يعذر به صاحبه ؛ لأنه لم يتمكن من رفعه لظنه صواب نفسه فهو جاهل ، لكنه يظن أنه مصيب ولذلك لم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقضاء لتحقق عدم قيام الحجة عليه لجهله بمراد الدليل لا بلفظ الدليل إذ ليس كل من قرأ النص فهم المراد منه ، والحجة لا تقوم إلا بالبلوغ ومطلق الفهم ، ولم يكن من عادته - صلى الله عليه وسلم - أن يشرح لهم المراد من كل آية تنزل ، ولم يكن من عادة القوم أيضًا أن يسألوا عن ذلك إلا أحيانًا وإلا فهم في الغالب يوكلون إلى فهمهم لأنهم أهل لسان والقرآن نزل بلسانهم ، وعدي رضي الله عنه فهم الخيط على وجهه الصحيح المتقرر عنده في اللغة فلذلك عمد إلى عقالين أبيض وأسود وأكل حتى تبين أحدهما من الآخر فهو لم يفهم شيئًا بعيدًا عن معنى الآية ، لكن اختلف المراد بالخيط في الآية وعدي جهل اختلاف المراد بالخيط وعمل بما غلب على ظنه أنه المراد فلذلك لم يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جريًا على العادة الغالبة ، لكن لما ظهرت له المخالفة سأل فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المراد بالخيط نور الفجر وظلمة الليل ولم يؤمر بالقضاء ؛ لأنه معذور بجهله ، والله أعلم .(1/63)
... وأما عمار وحديثه في التيمم فأقول فيه : إن عمارًا - رضي الله عنه - عنده علم جملي أن التيمم يرفع الحدث الأكبر ، لكنه كان يجهل صفته أعني يجهل صفة التيمم عن الحدث الأكبر ولا يتمكن من رفع هذا الجهل في هذه الحالة لبعده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والصلاة لا يجوز تأخيرها عن وقتها فلم يكن منه رضي الله عنه إلا أنه اجتهد بالقياس ، فرأى أنه لما كان يلزم تعميم البدن بالماء في الاغتسال فكذلك يجب تعميم البدن بالتراب في التيمم فتمرغ وصلى بهذا التيمم ولم يؤمر بالقضاء وإنما اخبر بصفة التيمم الصحيحة لأنه كان جاهلاً بها والجاهل معذور وجهله هذا كان معناه خلو النفس من العلم ، وكلا الحديثين أعن حديث عدي وحديث عمار لا يخرجان عن الضابط المتقرر وهو أن الجهل الذي يعذر به صاحبه هو الجهل الذي يشق رفعه ولا يتمكن المكلف من إزالته عن نفسه أما في حديث عدي فلظنه صواب نفسه وأما في عمار فلبعده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا شيء من الكلام على مسألة الجهل وخلاصتها في الأمور التالية :
... الأول : أن الأدلة دلت على أن من جملة الأعذار الشرعية الجهل .
... الثاني : أن الجهل الذي يعذر به صاحبه هو الذي لا يقدر على رفعه ويكون مما يشق التحرز منه .
... الثالث : أن العذر بالجهل متوافق مع روح الشريعة في رفع الحرج وإرادة التخفيف والتيسير على المكلفين ، والله ربنا أعلى وأعلم .
... الرابع : حيث تقرر أن الجهل عذر فهو عذر عام في كل المسائل أي العلمية والعملية ، والله أعلم .
(15) فائدة(1/64)
... أقول : هذه الأصول والقواعد التي سأذكرها لك هي من مهمات القواعد عند أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات ولا تتم المعرفة بمنهج أهل السنة في هذا الباب إلا بمعرفتها وفهمها وإجادة التفريع عليها ، وقد شرحتها في كتابي القواعد المذاعة في مذهب أهل السنة والجماعة ، وأنا أسردها لك الآن سردًا ؛ لأنني رأيت عائدتها الطيبة علي فأحببت أن أنقلها إليك لأني أحب لك ما أحب لنفسي ، فعسى أن يجعلنا الله وإياك ممن تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، فأقول وبالله التوفيق :
... منها قولهم : الأصل في باب الغيب التوقيف على الدليل ، وبناءً عليه فالأصل في الأسماء والصفات أنها توقيفية على الدليل الصحيح الصريح .
... ومنها قولهم : أهل السنة والجماعة لا يأخذون معتقدهم إلا من الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة والعقل وسيلة لفهم النقل .
... ومنها : أهل السنة والجماعة وسط بين فرق الأمة وسطية الأمة بين الأمم ، فهم وسط في باب الأسماء والصفات بين الممثلة والمعطلة ، ووسط في باب القدر بين الجبرية والقدرية ، ووسط في باب مرتكب الكبيرة بين الوعيدية والمرجئة ، ووسط في باب الصحابة بين الخوارج والروافض .
... ومنها قولهم : الأصل هو إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ونفي ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - مع إثبات كمال الضد .
... ومنها : أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، فكما أننا نؤمن بأن لله ذاتٍ ليست كالذوات فكذلك له صفات ليست كالصفات .
... ومنها : الكلام في الصفات كالكلام في بعضها .
... ومنها : أن أسماء الله تعالى مترادفة من حيث الذات متباينة من حيث ما تضمنته من الصفات .
... ومنها : أن ما أضافه لنفسه لا يخلو فإن كان لا يقوم بذاته فإضافة صفة إلى موصوفها ، وإن كان يقوم بذاته فإضافة تشريف أو خلقٍ .(1/65)
... ومنها : أن الاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في الصفات أي ليس كل شيئين اتفقا في اسمهما يكونان قد اتفقا في صفاتها فإنه لا تلازم في ذلك أبدًا .
... ومنها قولهم : الصفات التي هي كمال باعتبار ونقص باعتبار فإنها تثبت لله حال كمالها وتنفى عنه حال نقصها .
... ومنها قولهم : نحن نثبت لله الصفات على وجه التفصيل وننفي صفات النقص على وجه الإجمال وبعبارة أخرى نقول : أهل السنة والجماعة يثبتون إثباتًا مفصلاً وينفون نفيًا مجملاً .
... ومنها قولهم : أسماء الله تعالى تدل على الصفات دلالة مطابقة وتضمن والتزام .
... ومنها قولهم : إن معاني الصفات معلومة وأما كيفياتها فمجهولة .
... ومنها قولهم : أسماء الله تعالى لا تحصر بعددٍ معين .
... ومنها قولهم : الإيمان الكامل بالأسماء هو أن تؤمن بأنها اسم وتؤمن بما تضمنته من الصفات ، وإن كان لها أثر متعدٍ فتؤمن به أيضًا .
... ومنها قولهم : إنه لا يمكن أبدًا أن يتعارض نص ثبتت صحته وعقل ثبتت صراحته .
... ومنها : صفات الله تعالى ثبوتية وسلبية ، والثبوتية ذاتية وفعلية .
... ومنها : باب الصفات أوسع من باب الأسماء ، وباب الأخبار أوسع من باب الصفات ، والمتقرر عند أهل السنة أن باب الأخبار توقيفي على صحة نسبة ذلك الخبر إلى الله تعالى .
... ومنها : الأصل في آيات الصفات حقائقها المتقررة في اللغة ؛ لأن الأصل في الكلام الحقيقة .
... ومنها : القاعدة في المجملات ، وتقدم الكلام عليها .
... ومنها قولهم : كل معطل ممثل وكل ممثل معطل .
... ومنها قولهم : صفات الله تعالى إما خبرية محضة وإما خبرية وللعقل فيها مجال .
... ومنها قولهم : الاتفاق في الاسم الكلي العام لا يستلزم الاتفاق بعد الإضافة والتقييد والتخصيص .
... ومنها : أن أخبار الأخبار الصحيحة حجة في باب المعتقد .
... ومنها قولهم : أسماء الله تعالى أعلام وأوصاف .
... ومنها قولهم : كل صفة أثبتتها الأدلة لله تعالى فله - جل وعلا - كمالها المطلق وغايتها وأعلاها .(1/66)
... فهذه بضع وعشرون أصلاً من أحصاها فإنه يكون بهذا متقنًا هذا الباب ، فاشْدُد عليها يديك وراجعا في مظانها من كتب أهل السنة ، وفقنا الله وإياك لسلوك هذا المنهج وكفانا مسالك الغواية والضلال ، وهو أعلى وأعلم .
(16) فائدة
... في الفرق بين قولنا : ( لا نكفر أحدًا بذنب ) وقولنا : ( لا نكفر بكل ذنب ) .
... والذي دعاني لتسطيرها تشابه اللفظتين وتقاربهما واختلاط الأمر على بعض الطلبة وكثرة السؤال عنها .
... فأقول : اعلم - رحمك الله تعالى - أن أهل السنة والجماعة لا يكفرون بكل ذنب إلا بدليل ، أي أننا لا نحكم على كل أحدٍ وقع في ذنب أنه كافر إلا إذا دل الدليل على تكفيره به .
... وبالتفصيل نقول : إن الذنوب عندنا قسمان : صغائر وكبائر ، كما دلت على ذلك الأدلة المعروفة كقوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } ، وقوله تعالى : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } . وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ... )) الحديث ، وقوله : (( اجتنبوا السبع الموبقات ... )) الحديث ، وحديث ابن مسعود : (( أي الذنب أعظم عند الله ... )) الحديث .
... فدل ذلك على أن الذنوب منها ما هو كبير ومنها ما هو صغير ، وبها يتبين لك ما أريد إثباته هنا ، وهو أن أهل السنة - رحمهم الله تعالى - لا يكفرون أحدًا بفعله لشيء من الصغائر أيًّا كانت هذه الصغيرة ما لم يستحلها ، وهذا باتفاقهم . وأما الكبائر فهي عندنا نوعان : كبائر مكفرة ، وكبائر غير مكفرة ، فالكبائر المكفرة كترك الصلاة ، والشرك بأنواعه ، وتصديق الكهان والسحرة ونحوها ، وغير المكفرة كالزنا ، والقتل ، وشهادة الزور ، وعقوق الوالدين ، ونحوها .(1/67)
... والقاعدة عندنا أن الأصل عدم التكفير إلا بدليل ، فإذا دل الدليل الصحيح على أن الوقوع في هذه الكبيرة كفر فهو كفر وما لا فلا ، فإذًا أهل السنة والجماعة يكفرون ببعض الكبائر ولا يكفرون ببعضها ، فصدق عليهم أنهم لا يكفرون بكل ذنب ؛ لأنهم إنما يكفرون ببعض الذنوب فقط ، فالصغائر لا يكفرون بها ، والكبائر التي لم يدل على أنها كفر لا يكفرون بها أيضًا ، وبناءً عليه فقول القائل : لا نكفر أحدًا بذنب ما لم يستحله ، أنه لا تصح نسبته لأهل السنة ، بل هو عين مذهب المرجئة ، الذين يقولون : إن فعل الذنوب غير الشرك لا تأثير له في نقص الإيمان ما دام أصل الإسلام باقيًا ، فليس عندهم شيء يكفر به من الذنوب خلا الشرك أو الاستحلال ، فهم الذين يصدق عليهم قول : ( لا نكفر أحدًا بذنب ) .
... أما أهل السنة فإنهم يكفرون بالذنوب التي دلت الأدلة على أنها كفر ، أي أن بعض الذنوب يوجب كفرًا وبعضها لا يوجب كفرًا .(1/68)
... وخلاصة الفرق بين الكلمتين أن قولهم : ( لا نكفر بذنب ) نكرة في سياق النفي ، فـ(لا) نافية ، و(ذنب) نكرة ، وقد تقرر في الأصول أن النكرة في سياق النفي تعم ، فيدخل في ذلك عموم الذنوب فلا نفكر أحدًا وقع في شيء منها ، وأما قولنا : ( لا نكفر بكل ذنب ) فإن المنفي هنا هو عموم كلية الذنوب لا عموم تكفير الذنوب ، وبينهما فرق لمن تأمله ، ويتضح هذا بالمثال : إذا قلت : ليس في المكتبة كتاب فهذا يعتبر أن المكتبة خالية من الكتب أي ليس فيها ولا كتاب واحد ، فالمنفي هنا هموم الكتب ، لكن لو قلت : ليس في المكتبة كل الكتب ، فهذا لا يفيد ما أفاده الأول ، بل يفيد أن المكتبة فيها بعض الكتب ، لكن ليس كل الكتب ، فالمنفي هنا هو عموم كلية الكتب ، فقولهم : ( لا نكفر بذنب ) أي ليس هناك ذنب نكفر به ، وقولهم : ( لا نكفر بكل ذنب ) أي ليس كل الذنوب تكفر به ، ويستفاد أن هناك بعض الذنوب نكفر به ، وبه يتضح - إن شاء الله تعالى - أهمية التفريق بينهما وأن مذهب أهل السنة هو قولنا : ( لا نكفر بكل ذنب ) ، وأما ( لا نكفر بذنب إلا مع الاستحلال ) فإنه مذهب المرجئة ، وأسأله جل وعلا أن يعفو عمن نسبه لأهل السنة وأن يتجاوز عنا وعنه خطأنا وجهلنا . ...
... فإن قلت : ما رأيك في هذا القول : ( لا نكفر بذنب إلا بدليل ) ؟ فأقول : هذه الكلمة بهذا القيد المهم كلمة صحيحة لا غبار عليها أي أن الأصل عدم التكفير بالوقوع في الذنب إلا إذا قام الدليل الصحيح على أنه كفر فنقول بمقتضاه ، فهذا القيد صحح هذه الكلمة ، فاحذر يا رعاك الله من بعض الألفاظ المجملة والغامضة وأرجعها إلى أهل العلم العارفين بها لبيان وجه الصواب فيها ، والله يحفظنا وإياك .
(17) فائدة
... إن قيل : كيف يكون عيسى - عليه السلام - في السماء الثانية وإدريس في الرابعة وهارون في الخامسة ويوسف في الثالثة مع أن عيسى - عليه الصلاة والسلام - أفضل من هؤلاء - صلوات الله وسلامه عليهم - ؟(1/69)
... فيقال : إننا لا نشك طرفة عين أن عيسى - عليه الصلاة والسلام - أفضل من هارون وإدريس ويوسف - عليهم الصلاة والسلام - إلا أن التفضيل في المراتب إنما يكون بعد الموت وعيسى لم يمت الميتة التي كتب الله عليه ، بل رفعه الله حيًا فهو في السماء الثانية ، ولأنه سينزل في آخر الزمان كما صحت بذلك الأدلة ، فكان في الثانية ليكون أسمح لنزوله ، كما أن آدم - عليه الصلاة والسلام - في السماء الأولى مع أنه أبو الأنبياء وذلك ليكون شاهدًا على أعمال بنيه ، مع أننا نجزم جزمًا أنه إذا مات عيسى - عليه الصلاة والسلام - فإن درجته ستكون أرفع ومرتبته أعلى ؛ لأنه من أولي العزم ، فهذا إيراد غير وارد ، والله تعالى أعلم .
(18) فائدة
... أقول : اعلم - رحمك الله تعالى - أن العبادات كلها ترجع إلى عبادة واحدة وهي الدعاء، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( الدعاء هو العبادة ))، ويروى عنه أنه قال: (( الدعاء مخ العبادة )).
... وبيان ذلك : أن الدعاء قسمان : دعاء عبادة ، ودعاء مسألة .
... والمراد بدعاء العبادة : أن يفعل الإنسان عباد يقصد بها جلب خير أو دفع ضر ، فهذه العبادة تتضمن دعاءً ، إلا أنه خرج في صورة عبادة فهو دعاء عبادة ، فالصلاة دعاء عبادة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، والذبح ، والوفاء بالنذر ، وبر الوالدين ، وأداء الأمانات ، والصدق في الحديث ، وإعانة المحتاج ، وتعلم العلم ، ونحو ذلك كله من دعاء العبادة ؛ لأنك تفعلها وأنت ترجو بها ثواب الله تعالى وتخاف عقابه ، وهذا هو حقيقة الدعاء ، فإن الدعاء هو سؤال الله تعالى تحصيل مرغوب أو النجاة من مرهوب ، وهذه العبادات أنت تقصد بها ذلك ، أي أنك تفعلها لتحصل بها محبوبًا وتنجو بها من مرهوب ، إلا أنه دعاء خرج في صورة عبادة فسمي دعاء العبادة ، وهذا النوع من الدعاء يدخل فيه جميع ما شرعه الله من العبادات البدنية والقلبية .(1/70)
... وأما دعاء المسألة : فهو أن ترفع يديك وتسأل الله تعالى ، وهو الدعاء المعروف عندنا ، كدعاء الاستسقاء ، والقنوت ، ونحوها ، فصدق بذلك أن العبادات كلها ترجع للدعاء ، أي لا تخرج عن كونها دعاء عبادة أو دعاء مسألة ، ولذلك قال : (( إن الدعاء هو العبادة )) ، إذا علمت هذا بقي عليك أن تفهم مسألتين :
... المسألة الأولى : القاعدة في ذلك هي أن دعاء العبادة متضمن لدعاء المسألة ، ودعاء المسألة مستلزم لدعاء العبادة ، أي أن العبادة التي تفعلها تتضمن سؤال الله تعالى تحصيل نفع أو دفع نهي تتضمن دعاء المسألة ، فلو قيل : لماذا تصلي ؟ لقلت : أرجو ثواب الله . ولو قيل : لماذا تبر والديك؟ لقلت : أرجو ثواب الله، وهكذا ، فكل دعاء عبادة فإنه يتضمن دعاء المسألة.
... وأما دعاء المسألة فإنك إذا رفعت يديك إلى الله وتعلق قلبك به وبثثت إليه جوانحك وشكوت إليه حالك فإنك بهذا الفعل قد دعوته دعاء مسألة هو في ذاته عبادة ، أي أنك تتعبد لله تعالى برفع اليدين إليه والانكسار له والخضوع إليه والانطراح عند عتبة بابه ، فصورة الطلب عبادة ، إذًا دعاء المسألة مستلزم لدعاء العبادة ولتلازمهما وعدم انفكاكهما قرر العلماء هذه .
... المسألة الثانية : وهي أنه إذا ورد خلاف في تفسر لفظ الدعاء الوارد في الآيات فقال بعضهم : هو بمعنى السؤال . وقال بعضهم : هو بمعنى العبادة ، أنه يكون من قبيل الخلاف اللفظي .
... والقاعدة تقول : إذا احتمل اللفظ معنيين فأكثر لا تنافي بينهما حمل عليهما ، فلفظ الدعاء الوارد يحتمل أن يراد به دعاء المسألة أو دعاء العبادة ، وهذه فائدة مهمة ، وقد يترجح إرادة أحدهما على الآخر ببعض القرائن ، ومثال ذلك : قوله تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } فقيل : أي اسألوني . وقيل : أي اعبدوني ، وكلاهما صحيح يصدق عليه اللفظ ولا تنافي بينهما فهو من قبيل خلاف التنوع لا التضاد .(1/71)
... ومثال آخر : قوله تعالى : { ادعوا ربكم تضرعًا وخفية } فقيل : أي اسألوا . وقيل : أي اعبدوا . قلت : وكلاهما صحيح ؛ لأن اللفظ يحتملها لتلازمهما فهو من خلاف التنوع لا التضاد .
... ومثال آخر : قوله تعالى : { وادعوه مخلصين له الدين } فقيل : أي اسألوه . وقيل : اعبدوه ، أي أنه فسر بدعاء المسألة وبدعاء العبادة ، وكلاهما صحيح ؛ لأن اللفظ يحتملها ولا تنافي بينهما .
... ومثال آخر : قوله تعالى : { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له } فقيل : أي إن الذين تسألونهم من دون الله . وقيل : إن الذين تعبدونهم من دون الله ، وكلاهما صحيحٌ لاحتمال اللفظ لهما ولتلازمهما ؛ ولآن دعاء العبادة متضمن دعاء المسألة ودعاء المسألة مستلزم لدعاء العبادة .
... ومثال آخر : قال تعالى : { قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم } فقيل : لولا سؤالكم له وتضرعكم إليه . وقيل : لولا عبادتكم إياه ، وكلاهما صحيح وهو من خلاف التنوع .
... ومثال آخر : قال تعالى : { قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدًا } فقيل : أي أسأل ربي . وقيل : أعبده ، وكلاهما صحيح لاحتمال اللفظ لهما وليس بينهما اختلاف في الحقيقة .
... ومثال آخر : قال تعالى : { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون } فقيل في لفظي الدعاء الوارد في هذه الآية كلا القولين السابقين ، ففسر بدعاء العبادة وفسر بدعاء المسألة ، وكلا القولين صواب ، وهو من خلاف التنوع لا التضاد .
... فهذه الأمثلة تفيدك أنهما متداخلان أحدهما بالتضمن والثاني بالالتزام ، فعادت الشريعة كلها إلى عبادة واحدة وهي الدعاء بنوعيه ، فما كان من العبادات من قبيل دعاء العبادة فاعلم أنه متضمن لدعاء المسألة ، وما كان من قبيل دعاء المسألة فاعلم أنه مستلزم لدعاء العبادة ، والله يحفظنا وإياك ، وهو أعلى وأعلم .
(19) فائدة(1/72)
... اعلم - أرشدك الله لطاعته - أن من المهمات لطالب العلم التفريق بين شرعية الأصل وشرعية الوصف ، فإن الخلط بينهما يوجب للطالب شيئًا من الاضطراب في الجواب عما يورده المبتدعة من الأدلة التي يستدلون بها على إثبات بدعهم ، فالمبتدعة كلهم إنما يستدلون على إثبات بدعهم في غالب أحيانهم بالأدلة التي تثبت أصل العبادة فقط وهو يربط هذه العبادة بصفةٍ معينة أو مكانٍ أو زمانٍ معين، فيستدل على بدعته بدليل الأصل ، وإذا سبرت أحوال المبتدعة وجدتها كذلك فقل لهم : إن شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف ؛ وذلك لأن الوصف شيء زائد على الأصل يتطلب دليلاً آخر غير الدليل المثبت للأصل ، فدليل الأصل للأصل ويبقى هذا التقييد به وصف معين أو زمانٍ أو مكانٍ معين مفتقرًا إلى دليل آخر ؛ وذلك لأن الأصل في العبادات الإطلاق حتى يرد المقيد ، فإنك إذا راعيت ذلك سهل عليك الأمر وعرفت كيف ترد البدعة ، ومن باب التوضيح أضرب لك بعض الأمثلة فأقول :
... إن الذين يحتفلون بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - يستدلون على ما يفعلونه بأدلة عامة كالأدلة التي توجب محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقديم محبته على كل أحدٍ والتي توجب توقيره وتعزيه ونحو ذلك ، وإذا نظرت إلى هذه الأدلة وجدتها إنما تثبت أصل الحب والتعظيم والتعزير إلا أنهم يخرجون هذا الحب على صفةٍ معينة في أوقات معينة ، ونحن إنما نطلب الدليل على هذه الصفة المعينة ولاحق لهم أن يستدلوا على إثباتها بالأدلة العامة فإن أدلة الأصل للأصل ويبقى الوصف محتاجًا إلى دليل آخر غير دليل الأصل ؛ لأن شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف ، ثم يأتي بعد ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله وكذلك الخلفاء الراشدون ومن بعدهم إلى عصور متأخرة ، لكن بالتفريق بين أصل الشيء ووصه يسهل عليك فهم المسألة وأنها أصلاً بنيت على غير أساس ، والله أعلم .(1/73)
... ومن الأمثلة أيضًا : قول : صدق الله العظيم عقيب كل قراءة ، واعتقاد أن ذلك سنة ثابتة أو واجب متحتم ويستدلون على ذلك بقوله تعالى : { ومن أصدق من الله قيلا } ، { ومن أصدق من الله حديثًا } ، { وقل صدق الله } .
... وأقول : إن هذه الأدلة إنما تثبت أصل هذا الشيء وهو لب الدين وجماع الإسلام ، فلا أحد أصدق من الله حديثًا ولا قيلا ، لكن الذي نطلبه الآن هو الدليل على اعتقاد مشروعية هذا القول عقيب كل قراءة فإنه لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من وجه صحيح أنه كان يقولها ولا أعلم ذلك ثابتًا عن أحدٍ من الصحابة ، فلو كان خيرًا لسبقونا إليه ، والأصل في العبادات التوقيف وشرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف ، والله أعلم .
... ومن الأمثلة أيضًا : أن بعض الناس يقول : ( استعنا بالله ) أو ( بالله نستعين ) عند قول الإمام في الجهرية : { إياك نعبد وإياك نستعين } ، وهذا القول إذا نظرت إليه من ناحية أصله لوجدته لا بأس به ، إذ العبد ينبغي له أن يستعين بالله في كل أموره ، لكن اعتقاد شرعية هذا القول في هذا الوقت بعينه هو الذي يحتاج إلى دليل ، ولا يكتفى بالاستدلال عليه بالأدلة التي تثبت الأصل ، فإن شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف ، والله أعلم .
... ومن الأمثلة أيضًا : الطواف حول قبور الأولياء والصالحين ، والنذر عندها بكسوتها ، أو الذبح لها ودعاء أصحابها من دون الله ، وغير ذلك مما يُفعل عند قبورهم إنما دليل من يفعل ذلك قوله تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } فبالله عليك ماذا تفيد هذه الآية ، هل تفيد ما يفعلونه مطابقة أو تضمنًا أو التزام ؟ فإن من عنده أدنى معرفة بأوجه الاستدلال وكيفيته يعلم علمًا قطعيًا أنها تفيد بيان منزلة الأولياء عند الله تعالى ، ومجرد وجود منزلة عالية لهم عند الله عز وجل لا يلزم منه فعل ذلك عند قبورهم ؛ لأن شرعية الأصل لا يستلزم شرعية الوصف ، والله أعلم .(1/74)
... ومن الأمثلة أيضًا : التمسح بمقام إبراهيم وبالركنين الشاميين وبسائر جدران الكعبة وأستارها أو بالحجرة النبوية على سكانها وصاحبيه أفضل الصلاة والسلام ، فإن هذه الأماكن وإن كان لها عظمة وحرمة إلا أن اعتقاد ذلك لا يوجب طلب البركة منها لأن شرعية الأصل هو عظمتها وحرمتها وقدسيتها لا يستلزم شرعية الوصف الذي هو التبرك بها والتمسح بجدرانها ونحو ذلك ، فانظر كيف أهمية التفريق بين الأصل والوصف فإنك تقضي بذلك على البدع كلها لأنه كما قدمت أن المبتدعة يستدلون على بدعهم إما بالأحاديث الضعيفة جدًا أو الموضوعة أو بأدلة صحيحة لكن لا تدل إلا على إثبات الأصل فقط ، والله يتولانا وإياك .
... وإذا أردت أمثلة أكثر فارجع إلى تحرير القواعد ومجمع الفرائد وعند شرحنا لهذه القاعدة ، والله أعلم .
(20) فائدة
... اعلم - رحمك الله تعالى - أن الصفات من حيث إثباتها لله تعالى ونفيها عنه لا تخلو من ثلاثة أقسام : صفات هي كمال بكل اعتبار كالعلم والحياة والسمع والبصر والقدرة والقوة والهيمنة والعلو ونحوها ، فهذه تثبت لله مطلقًا . وصفات هي نقص بكل اعتبار كالخيانة والضعف والعجز والإعياء والبخل والغش والظلم ونحوها ، فهذه تنفى عن الله مطلقًا . وصفات هي كمال من وجه ونقص من وجه أي ليست كمالاً مطلقًا فتلحق بالقسم الأول ولا نقصًا مطلقًا فتلحق بالقسم الثاني ، بل فيها كمال ونقص ، وحكم أهل السنة في هذا القسم أنها تلحق بالقسم الأول حال كونها كمالاً وبالقسم الثاني حال كونها نقصًا ، وذلك كالمكر فإنه ابتداءً نقص ؛ لأنه ظلم وأما من باب الجزاء والمقابلة فإنه كمال ، فالمكر الذي يوصف الله تعالى به هو ما كان من قبيل الجزاء والمقابلة، قال تعالى: { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } ، وقال : { ومكروا مكرًا ومكرنا مكرًا وهم لا يشعرون } .(1/75)
... وكذلك صفة الكيد فإنه ابتداءً نقص ينزه الله عنه ، وأما من باب الجزاء والمقابلة فهو كمال ، فالكيد الذي يوصف الله به هو ما كان من قبيل الجزاء والمقابلة ، قال تعالى : { إنهم يكيدون كيدًا وأكيد كيدًا } .
... وكذلك صفة المخادعة فإنها ابتداءً نقص ينزه الله عنها لأنها نوع من الظلم والله منزه عنه ، وأما من باب الجزاء والمقابلة فهي كمال ، فالمخادعة التي يوصف الله بها هي ما كانت من باب الجزاء والمقابلة ، قال تعالى : { يخادعون الله وهو خادعهم } .
... وكذلك صفة النسيان فإنه معنيان :
... الأول : الذهول والغفلة عن الشيء فهذا نقص فينزه الله عنه وهو المنفي بقوله : { وما كان ربك نسيًا } ، وقوله : { لا يضل ربي ولا ينسى } .
... الثاني : الترك عن علمٍ وعمدٍ جزاءً ومقابلة ، وهذا كمال ، فالنسيان الذي يوصف الله به هو بمعنى الترك عن علمٍ وعمدٍ جزاءً ومقابلة ، وهو المراد بقوله تعالى : { نسوا الله فنسيهم } ، وقوله : { فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم } .
... وكذلك صفة العجب فإن له سببين :
... الأول : عجب سببه خفاء أسباب المتعجب منه ، فهذا نقص فينزه الله عنه ؛ لأن الله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء .
... الثاني : عجب سببه خروج الشيء عن حكم نظائره ، فهذا كمال ، فيوصف الله تعالى به ، قال تعالى : { بل عجبتُ ويسخرون } بقراءة ضم التاء فإنها سبعية متفق عليها ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره )) وقوله : (( لقد عجب ربكما من صنيعكما بضيفيكما البارحة )) ، وحديث : (( يعجب ربك إلى الشاب ليس له صبوة )) ، وبالتفريق بين هذه الأنواع ينحصر لك باب الصفات ويسهل فهمه - إن شاء الله تعالى - ، والله ربنا أعلى وأعلم .
(21) فائدة
... اعلم أن لفظ ( التأويل ) له عندنا ثلاث معانٍ : ...(1/76)
... الأول : حقيقة الشيء التي هو عليها ، وهذا استخدام القرآن في غالب استعمالاته لهذا اللفظ إن لم يكن في كلها ، وهو الموافق لمدلوله اللغوي فإنه تفعيل من آل يؤول إذا رجع ، أي رجع الشيء إلى حقيقته التي هو عليها ، فتأويل الشيء هو وقوع حقيقته ، وبناءً عليه فتأويل الرؤيا وقوعها في الشاهد ، فإذا وقعت الرؤيا في عالم الشهادة فوقوعها هو تأويلها كما قال تعالى عن يوسف : { يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقًا } أي هذا الشيء الواقع وهو سجود أبويه وإخوته له هو حقيقة رؤياي صارت حقًا .
... وتأويل الأمر امتثاله وتنفيذه ، كما في الصحيح من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن ) ، ومعناه : أي يوقع حقيقة ما أمره الله به في القرآن من قوله تعالى : { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا } فأي أمرٍ امتثلته فقد تأولته ؛ لأنك أوقعت حقيقته ، وتأويل النهي اجتنابه وهكذا .
... وتأويل ما أخبر الله به عن اليوم الآخر هو وقوعه كما قال تعالى : { هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله } أي هل ينتظر هؤلاء المكذبون لليوم الآخر إلا وقوع حقيقته يوم تقع حقيقته على ما أخبرنا به حينئذٍ يؤمنون به ، ولكن لا ينفعهم هذا الإيمان ، فتأويل اليوم الآخر هو وقوع حقيقته كما أخبرت به الأدلة .
... وتأويل الصفات هي حقيقتها التي هي عليها في الواقع ، فهذا هو المعنى الأول : ومن ذلك قوله تعالى عن الخضر أنه قال لموسى : { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا } أي سأخبرك بحقيقة ما رأيت من الأمور ، ثم قال بعد ذلك : { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرًا } أي هذا الذي بينته لك هو الحقيقة التي يؤول إليها ما فعلته ، فهذا هو المعنى الأول .(1/77)
... وأما الثاني : فهو بمعنى التفسير ومنه قول الإمام ابن جرير الطبري : القول في تأويل قوله الله كذا وكذا كذا وكذا ، أي تفسيره ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - داعيًا لابن عباس : (( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل )) أي تفسير القرآن ، ومنه قوله تعالى : { وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث } أي تفسيرها ، وقد قيل في بعض الآيات التي ورد فيها لفظ التأويل أنها بمعنى التفسير ، وهذا من خلاف التنوع لا التضاد ، فهذان المعنيان صحيحان متفق عليهما بين السلف ، وهما المأثوران عنهم ، وأما المعنى الثالث فهو التأويل بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى معناه المرجوح ، وهذا النوع من التأويل إنما أحدثه المتأخرون من المتكلمين في الفقه والأصول والفلسفة ، ولا يعرف عن السلف - رحمهم الله تعالى - ، وهو يحتمل حقًا وباطلاً وقد تقرر عند أهل السنة أن ما كان يحتمل الحق والباطل فإنه موقوف على الاستفصال ، وبناءً عليه فأقول : إن كان هذا الصرف قد اقتضاه الدليل الصحيح الصريح فأهلاً وسهلاً ، وأما إذا كان صرفًا اقتضته الشهوات ولا برهان عليه فإنه مردود على صاحبه ؛ لأن الأصل هو البقاء على الظاهر الراجح ولا ننتقل إلى المرجوح إلا بدليل ، ولأن الأصل في الكلام الحقيقة فلا ينتقل إلى المجاز إلا لصارف صحيح ، ولأن هذا الصرف تحكمٌ في كلام المتكلم بلا إذنٍ منه وهذا لا يجوز في آحاد كلا م الخلق فكيف بكلام الشارع الحكيم العليم الخبير ، ولأن أدلة الشريعة إنما جاءت لإرادة البيان والهدى لا الإلغاز والتعمية ، فكيف يخاطبنا الشارع بكلام له ظاهر وهو في حقيقة الأمر لا يريد منا أن نعتقد ظاهره من غير بيانٍ منه لذلك ، فهذا في الحقيقة وإن سماه أصحابه تأويلاً ليروج على من يجهل حقيقة مؤداه ونتيجته فإنه عند أهل السنة تحريف النص وقلب لحقائقها وتعطيلها عن معانيها الصحيحة التي نزلت من أجلها ، ولذلك جعله ابن القيم من جملة الطواغيت التي(1/78)
أفسدت كثيرًا من علوم المسلمين وأدخلت عليهم التمثيل والتعطيل والجبر وإنكار القدر والوقيعة في خيار الأمة وسلفها ، فنعوذ بالله منه ونسأله - جل وعلا - أن يسلمنا من الوقوع فيه ، وخلاصة الأمر هو أن التأويل له ثلاث معان :
... الأول : يطلق ويراد به حقيقة الشيء التي يؤول إليها الأمر .
... الثاني : يطلق ويراد به تفسير الشيء وبيان معناه .
... الثالث : يطلق ويراد به صرف الكلام عن معناه الراجح إلى المعنى المرجوح ، وهذا الأخير قسمان : إن كان لدليل فهو صرف مقبول ، وإن كان بلا دليل فهو مردود .
... وإليك هاتين المسألتين وبها نتم الكلام على هذه الفائدة ، فأقول :
... المسألة الأولى : اختلف السلف في الوقوف في قوله تعالى : { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } هل يوقف على لفظ الجلالة ، أو يوقف على كلمة ( العلم ) ؟ فيه قولان ، وكلاهما صحيح باعتبار ، فإن الوقوف يختلف باختلاف قصد القارئ فإن قام في قلبه إرادة معنى التأويل الأول فإن الوقف يكون على لفظ الجلالة لأنه لا يعلم حقيقة ما يؤول إليه الأمر ولا كنهه على وجه الحقيقة إلا الله تعالى وإنما نحن نعلم معانيه وليس للراسخين في العلم تجاه ذلك إلا أن يقولوا : { آمنا به كل من عند ربنا } ، وأما إن قام في قلب القارئ إرادة معنى التأويل الثاني وهو التفسير فيكون الوقف على لفظ ( العلم ) ، ذلك لأن الراسخين لهم الحظ الأكبر في معرفة تفسيره ولذلك قال ابن عباس : ( أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله ) وهذا هو خلاصة ما حققه الشيخ تقي الدين - رحمه الله تعالى - ، والله أعلم .(1/79)
... المسألة الثانية : إن مذهب المعطلة في صفات الله تعالى هو صرفها عن ظاهرها إلى معانٍ أخرى فيقولون في الاستواء : هو الاستيلاء ، ويقولون في الوجه : أنه الذات ، وفي اليد أنها النعمة أو القدرة ، وفي القدم أنها طائفة من الخلق ، وفي العلو أنه علو القدر والقهر فقط لا علو الذات ، وفي العين أنها العلم ، وفي الرحمة أنها إرادة الثواب ، وفي الغضب أنه إرادة الانتقام ، وفي النزول أنه نزول الرحمة أو الملك أو الأمر ، وفي الإتيان والمجيء أنه إتيان الرحمة ومجيئها أو الأمر ، وفي الرؤية أنها رؤية الثواب والنعيم ، وغير ذلك .
... وإذا نظرت إلى هذا الكلام وجدت أنه صرف للكلام عن حقيقته وظاهره إلى معانٍ أخرى بلا مقتضى لهذا الصرف ، بل الدليل دل على وجوب الأخذ بالظاهر والبقاء عليه فما فعله هؤلاء هو في حقيقته تحريف وليس تأويلاً وهو نوع من الإلحاد في آيات الله الشرعية ولاشك في تحريمه ، بل قد يكون موجبًا لصاحبه الكفر ، فالتأويل بالمعنى الثالث في حالة كونه بلا دليل هو الذي دخل منه هؤلاء على النصوص بالتحريف والتعطيل والتمثيل ، وسموه تأويلاً ليروج وتقبله النفوس وإلا فهو تحريف باطل من أصله وتعدي على كلام الشارع وقلة أدب وذهاب حياء ، وهو من الموروثات اليونانية الفلسفية التائهة الغبية ، عافانا الله وإياك من كل سوء وبلاء وهو أعلى وأعلم .
(22) فائدة
... ما حكم الاحتجاج بالقدر وكيف الجواب عمن يحتج به ؟
... أقول : إن هذا السؤال سؤال عظيم جدًا وجوابه من أنفع ما تعرفه النفوس وذلك لتعلقه بالعمل ، وبيان ذلك أن يقال : إن الاحتجاج بالقدر يجوز في حالات ويمنع في حالات .(1/80)
... فأما حالات جوازه فهي أن يحتج بالقدر عند حلول المصائب وحصول ما يخالف شهوة النفس وما تريده ، كالموت والأمراض وسائر البلايا ، فيجوز للإنسان أن يقول : الله قدرها علي وذلك لحديث : (( فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل )) ، وقال تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير . لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ... } الآية ، ومن ذلك أن يحتج بالقدر على معصية قد تاب منها كأن يكون ممن يشرب الخمر مثلاً ثم تاب منه توبة نصوحًا وقيل له : لم شربت الخمر ؟ فيقول : الله قدره علي ، فهذا لا بأس به ، ويستدل على جوازه بقول آدم - عليه السلام - لموسى - عليه السلام - : (( أتلومني على أمرٍ قدره الله علي ... )) الحديث .
... فهنا قد احتج آدم - عليه الصلاة والسلام - على موسى أنه فعل المعصية بالقدر لكنه قد تاب من هذه المعصية وقبل الله توبته ، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - : (( فحج آدم موسى )) .
... وأما حالة عدم جوازه فهو أن يحتج بالقدر على المعاصي ليجعل نفسه عذرًا للاستمرار فيها ، فيقع في الشرك أو الزنا أو السرقة مثلاً ثم يقول : الله قدرها علي فكيف تلومنني على أمرٍ قدره الله علي ، وهو يريد بذلك أن يستمر على معصيته هذه ، فإن هذه الحجة باطلة محرمة لا يجوز ، ووجه بطلانها عدة أمور :(1/81)
... منها : أن القرآن أبطلها غاية الإبطال وجعلها كذبًا ووصفها بالزور والبهتان، قال تعالى: { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } ، وقال تعالى : { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } ، وقال تعالى : { أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت بها وكنت من الكافرين } ، فهي إذًا حجة داحضة باطلة ظاهرة البطلان وما كان باطلاً فإنه لا يسوغ للعاقل أن يتمسك به ، والله أعلم .
... ومنها : أن حجة الله على عباده قد قامت بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، ولا حجة للعباد في ترك المأمور أو فعل المحظور ، فإن الله تعالى قد بين لنا طريق الخير من الشر فالحجة قد قامت والمحجة قد بانت ، فلم يبق لأحدٍ بعد إنزال الكتب وإرسال الرسل حجة لمحتج ، والله أعلم .
... ومنها : أن الاحتجاج بالقدر لو كان حجة مقبولة لأدى ذلك إلى إبطال الشرائع ، وذلك أنه يسوغ لكل أحدٍ قد وقع في المخالفة أن يقول : قدره الله علي ، وكل الأشياء بقدر الله تعالى فلا داعي إذًا إلى الشرائع ولا إلى خلق النار ولا إلى حساب وعذابٍ إذ كل أحدٍ سيحتج به ، فدليل بطلانه أنه موصل لهذه النتيجة الباطلة بالإجماع .(1/82)
... ومنها : اتفاق السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم على بطلان هذه الحجة ، فإنهم - رضي الله عنهم - لم يؤثر عن أحدٍ منهم شيء من ذلك ، بل كانوا ينكرون على المخالف ويعاقبون من وقع في المحظور أو ترك المأمور ، بلا نظر في أن ذلك كان مقدرًا عليه ، ولاشك أن الإجماع حجة قاطعة ، فمن نصح لنفسه فعليه سلوكه فإنه من سبيل المؤمنين ، والله أعلم .
... ومنها : أن الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي مع مخالفته للمنقول فهو أيضًا مناقض للمعقول ، وبيان ذلك أن الإنسان قبل فعل هذه المعصية هل كان يعلم أن الله قدرها عليه ؟ بالطبع لا ، فيكون هو الذي أقدم على فعلها اختيارًا منه لا اضطرارًا ، ولماذا لا يتركها ويقول : لم يقدرها الله علي ؟ بل لماذا لا يقبل على فعل الطاعة ويقول : الله قدر علي في هذا الوقت أن أفعل هذه الطاعة ؟ فإن هذا نادر من يفعله ، أما أن يقتحم في المعاصي ويخالف أمر ربه ويرتكب المحرمات وموبقات الآثام ويقول : الله قدرها علي ، فهذا خائب خاسر تائه ضائع ، ولا ينفعه ذلك يوم القيامة ، فالعبد لا يعلم ماذا قدر له ، والله أعلم .
... ومنها : أن الاحتجاج بالقدر فيه تعطيل للأسباب التي جاءت الشريعة بإثباتها والأمر بها ، فإن الشريعة قد ربطت الأسباب بآثارها ، فمن أراد هذا الأثر فعليه بسلوك طريق السبب ، أما أن يريد آثار الأسباب من غير تحصيل لأسبابها فإن هذا قدح في الشرع وعجز وكسل وخور ، فإن من أراد الولد فلابد أن يحصل الزواج ، لكن لو ترك الزواج وقال إن قدر لي ولد فسيأتيني ولو بلا زواج ، فهذا هو الحمق بعينه والجنون بعروقه . ولو قال : أنا لن أذهب للعمل ، وإذا كان الله مقدرًا حصول الراتب آخر الشهر فسيأتيني ، فإني لا أظن أحدًا يتوقف عن اتهام عقل هذا الرجل بآفة . ولو قال قائل : لن أذاكر ولن أحضر الدروس وإن كان الله قد قدر لي النجاح فسأنجح ، فبالله عليك ما رأيك في هذا الكلام الجاهلي الشيطاني .(1/83)
... وهذا يبين لك أن الأشياء قد ربطت بأسبابها ، والتفريق بين الآثار وأسبابها قدح في الشريعة وتعطيل للأسباب ، فنقول : وكذلك الهداية ودخول الجنة فإنها قد ربطت بالأسباب ولذلك في الحديث : (( فاستهدوني أهدكم )) ، وفي الحديث الآخر : (( اعقلها وتوكل )) ، وقبل ذلك قوله تعالى : { أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاءً بما كانوا يعملون } ، فنقول : يا من تحتج بالقدر ، اعلم أنك لا تحتج به إلا في ترك أمور الطاعة وفعل الحرام فقط ، لكن في أمور الدنيا لا نراك تحتج بالقدر على ترك أسبابها ، بل تفني نفسك ووقتك في تحصيل أسباب المعاش وتقول : لابد من الأخذ بالأسباب . وأما أمور الطاعة والأخذ بأسباب دخول الجنة من تحصيل الهداية والاستقامة فإنك تقول : لم يقدر الله هدايتي وإذا قدرها سأهتدي ، وهذا تناقض مما يدل على أن الاحتجاج بالقدر حجة إبليسية المصدر والتأصيل آدمية التفريع والتنفيذ، فيكون مع كونه مخالفًا للنقل والعقل فكذلك مخالفًا للحس أيضًا ، والله المستعان ، وهو أعلم وأعلى .
... ومنها : أن الاحتجاج بالقدر مفضٍ إلى ترك العمل المأمور به شرعًا ، فإن الشريعة أمرت بعدة أعمال من توحيد ، وصلاة ، وصيام ، وزكاة ، وحج ، وبر بالوالدين ، وصلة الأرحام ، ونحو ذلك . ونهت عن أشياء كالزنا ، واللواط ، وشرب الخمر ، والسرقة ، ونحوها .(1/84)
... والاحتجاج بالقدر يجعل العبد يترك العمل بالكلية اعتمادًا منه على ما كتب عليه ، وهذا لا يجوز ، بل فيه أنه جعل القدر معارضًا للشرع ، فيحتج بالمقدور على ترك المأمور وهذا غاية الخسارة والضلال ، ولذلك لما قال الصحابة - رضي الله عنهم - : ففيم العمل يا رسول الله ؟ قال : (( اعملوا فكل ميسر لما خلق له )) أي أن أهل الجنة ييسرون لعمل أهل الجنة ، وأهل النار ييسرون لعمل أهل النار ، فأخبرهم بالقدر السابق إجمالاً وأمرهم بالعمل ، فلا تعارض في الشريعة بين القدر والشرع ، ولذلك فإن الذي يحتج بالقدر تجده من أبعد الناس عن العمل وتحصيل الأسباب وهذا فيه فتح باب ترك العمل ، فاحذر يا رعاك الله من ذلك ، والله أعلم .
... ومنها : أن العباد مطالبون بالنظر فيما أمروا به فيفعلوه وفيما نُهُوا عنه فيتركوه ، هذا هو الذي تعبدنا الله به ، وهو الذي سنسأل عنه يوم القيامة ، ولسنا مأمورين بالنظر فيما قدر لنا ؛ وذلك لأن القدر غيب لا يطلع عليه أحد إلا من شاء الله تعالى ، فنحن مأمورون بالاجتهاد في العمل لا في مطالعة الأقدار ، فالمحتج بالقدر ترك ما هو مأمور به من العمل ونظر فيما لم يؤمر به من مطالعة القدر ، فأشغل نفسه في مطالعة ما لا يعود عليه بالنفع العاجل ولا الآجل ، بل أشغل نفسه فيما يعود عليه بالضرر ؛ لأن الهدى والصلاح والبر التقوى إنما هي في متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرًا ونهيًا ، لا في مجرد النظر فيما قدر لنا ، فالله المستعان .(1/85)
... ومنها : أن العبد مأمور بالتوبة إذا وقع منه الزلل أمر إيجاب قال تعالى : { وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } ، وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحًا } ، والاحتجاج بالقدر قاتل لانبعاث التوبة في القلب ، وبيان ذلك أنه قد سوغ لنفسه الاستمرار على هذه المعصية بأن الله قد قدرها عليه ، فلا يفكر أن يتوب منها ؛ لأنه وإن رآها خطأ إلا أنه يرى أنه معذور في فعلها ؛ لأنها مما قدر وكتب عليه ، فتراه مستمرًا عليها لا ينزجر عن فعلها ولا يرعوي عن مقارفتها والتوبة أمر مقصود شرعًا ، والاحتجاج بالقدر يدفع هذا المقصود وما دافع المقصود الشرعي وناقضه فهو باطل ، فدل ذلك على أن الاحتجاج بالقدر باطل ؛ لإفضائه إلى باطل .
... ومنها : أن الاحتجاج بالقدر لو كان حجة مقبولة لبادر الشيطان بالاحتجاج بها في عدم السجود لأبينا آدم - عليه السلام - ، فإنه لو كان يعلم علم اليقين أنها ليست مما ينفع ولو أنه اعتذر لما قبلها الله منه ، فدل ذلك على بطلانها ، والله الموفق والهادي ، وهذا ما حضرني حال الكتابة من الأوجه ، وقد يتبين بعد التأمل غير ذلك ، والله تعالى أعلى وأعلم .
(23) فائدة
... أقول : اعلم - رحمك الله تعالى - أن الناس انقسموا في تعليق الكلام بالمشيئة إلى ثلاث فرق : طرفين ، ووسط .(1/86)
... فقسم يعلقون كلامهم كله بالمشيئة مطلقًا من غير فرق بين كلام وكلام ، وقسم لا تكاد تسمع منه هذه الكلمة أبدًا ، وكلا الفريقين مقصر ، وخير الأمور الوسط وهو أن الكلام يعلق بالمشيئة في أحوال ولا يعلق بالمشيئة في أحوال أخرى ، وعلى هذا قد دلت الأدلة من الكتاب والسنة والمعقول الصحيح . فأما الحالات التي يعلق فيها الكلام بالمشيئة فهو فيما إذا كان الكلام على أمر مستقبلي غير متحقق الوقوع ، فهنا يجب تعليق الكلام بالمشيئة كما قال تعالى : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله } وهذا دأب أنبياء الله تعالى ، فهذا موسى يقول للخضر - عليهما السلام - : { قال ستجدني إن شاء الله صابرًا ولا أعصي لك أمرًا } ، وهذا إسماعيل يقول لأبيه - عليهما الصلاة والسلام - لما أراد ذبحه : { قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين } ، وذلك لأن الصبر منهما أي من موسى وإسماعيل - عليهما السلام - أمر مستقبلي لم يتحققا وقوعه فعلقاه بالمشيئة ، وأعظم من ذلك قوله تعالى : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } وهذا التعليق ليس لعدم تحقق الوقوع وإنما لتربية المؤمنين على ذلك ، وقال - عليه الصلاة والسلام - لكعب بن مالك لما طلب منه أن يأتيه فيصلي في بيته فيتخذه مصلى : (( سأفعل إن شاء الله )) وهذا من سلوك الأدب مع الله تعالى ، فإن ما سيأتي علمه عند الله تعالى فلا تجزم به ، بل رده إلى عالمه ، فإن الجزم به تخرص وظن وتطاول ، وكم من الأمور التي تفلتت علينا ولم نوفق للقيام بها لأننا جزمنا بفعلها من غير ردٍ للعلم إلى عالمه ، فإن قلت : لماذا قلت : ( غير متحقق الوقوع ) ؟ فأقول : قلت ذلك لأن ذلك إن كان متحقق الوقوع بإخبار الأدلة الصحيحة الصريحة فإنه يعلم يقينًا وقوعه وما علم يقينًا وقوعه فلا يعلق بالمشيئة كخروج الدجال ونزول عيسى بن مريم - عليه الصلاة والسلام - ودخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ونحو(1/87)
ذلك ، كل ذلك من الأمور المستقبلية التي قد تحققنا وقوعها بالأدلة فلا تعلق بالمشيئة ، والله أعلم .
... والحالة الثانية من الحالات التي لابد من تعليق الكلام بالمشيئة : هي أن يكون الكلام في الأمور الغيبية ، فإذا كان الكلام في أمرٍ غيبي فإنه لابد أن يعلق بالمشيئة ولا يجوز الجزم به ؛ وذلك لأن أمور الغيب وقف على الله تعالى ، وسواءً كان هذا الأمر في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، قال تعالى : { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } ، وقال تعالى : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا ... } الآيات بعدها ، وقد أنكر الله على قومٍ جزموا لأنفسهم بالخير فقال : { اطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدًا } .
... فالأمور الغيبية موقوفة على الدليل من الكتاب والسنة وليست اجتهادًا مفتوحًا ، إذا تكلمت بالأمر الغيبي فلا تجزم به إلا معلقًا ذلك بالمشيئة وذلك كقولك : قد قبل مني هذه الصلاة إن شاء الله ؛ وذلك لأن القبول أمر غيبي لا يطلع عليه البشر .
... ومن ذلك يأتي خلاف العلماء في مسألة الاستثاء في الإيمان، هل يجوز أم يحرم أم يجب؟ فإن المستثنى لا يخلو إن كان باستثنائه شاكًا في أصل الإيمان فهذا لا يجوز ؛ لأن الشك في أصل الإيمان كفر ، وإن كان للشك في كماله فهذا يجب الاستثاء ؛ لأن كمال الإيمان من الأمور الغيبية التي لا يطلع عليها أحد ، ولأنه لو لم يستثن لعد ذلك تزكية لنفسه ، وقد قال تعالى : { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } ، وقال تعالى : { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا تظلمون فتيلاً } ، وإن كان لم يقصد لا هذا ولا هذا فهو جائز ، وهذا هو قول جمهور أهل السنة والجماعة .
... فهاتان الحالتان وهما : إن كان الكلام في الأمور المستقبلية أو الأمور الغيبية ، هاتان الحالتان يجب فيمها تعليق الكلام بالمشيئة لما ذكرته لك ، والله أعلم .(1/88)
... وأما إن كان الكلام دعاءً ، فإنه يحرم تعليقه بالمشيئة ؛ وذلك لأمور :
... منها : ثبوت النص بالنهي عن ذلك كما في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت وليعزم الرغبة فإن الله لا مكره له )) ، وحقيقة النهي التحريم كما هو المتقرر في الأصول .
... ومنها : أن الاستثناء في الدعاء مشعر بعدم الرغبة الكاملة الأكيدة في حصول المدعو والدعاء يطلب فيه إظهار الافتقار والرغبة التامة فيما دعوت به .
... ومنها : أن الله تعالى لا يكرهه أحد على إعطائك سؤالك ما لم يكن قد قام في قلبك إعظام الرغبة له سبحانه وتعالى ، والاستثناء في الدعاء مشعر بشيء من الاستغناء عن المدعو به ، وفيه شيء من مجانبة الأدب مع الله ، فلذلك لا يجوز تعليق الكلام بالمشيئة إن كان الكلام دعاءً ، بل لابد في الدعاء من إعظام الرغبة والعزيمة في الطلب مع إظهار الافتقار والذل ، فهذا هو حقيقة العبادة .(1/89)
... وكذلك لا ينبغي تعليق الكلام بالمشيئة إذا كان الكلام في أمر قد مضى وتحقق وقوعه ؛ لأنه لما وقع علمنا جزمًا أن الله قد شاءه إذ لا يقع شيء في ملكه إلا وهو يشاء وقوعه بالمشيئة العامة الشاملة ، وهذا هو الذي يخالف فيه الكثير ، فتأتي لأحدهم واسمه محمد فتقول : ما اسمك ؟ فيقول : محمد إن شاء الله تعالى ، أو يكون له أربعة من الولد وتقول له : كم لك من الولد ؟ فيقول : أربعة إن شاء الله ، فما الفائدة من هذا التعليق ؟ فقل له : اطمئن لقد شاء الله أن يكون اسمك محمد وأن يكون لك أربعة من الولد ، وهذا الأمر تظهر خطورته إذا كان الكلام في أمر يطلب فيه الجزم كقولك له : من نبيك ؟ فيقول : محمد إن شاء الله ، وهذه طامة كبرى ومأزق كبير لا يتم الخروج منه إلا بالعلم الموافق للكتاب والسنة ، فهذا شيء حصل وتحقق وقوعه فَلِمَ يُعلق بالمشيئة ؟ إني أظن والله أعلم أن تعليق الكلام في الأمور الواقعة والمتحققة فرع من فروع مذاهب السوفسطائية الشكاكين في الأشياء، فانتبه لهذا بارك الله فيك.
... وخلاصة الأمر : أن الكلام يعلق بالمشيئة في حالتين ولا يعلق في حالتين ، فيعلق بالمشيئة في الأمور الغيبية والمستقبلية التي لم يتحقق وقوعها ، ولا يعلق في الدعاء وفي الأمور الماضية التي تحققنا وقوعها ، وبهذا التفصيل يظهر لك أن هذا القول قول وسط بين من لا يعلق الكلام بالمشيئة مطلقًا وبين من يعلق بالمشيئة مطلقًا ، والقول الوسط هو الراجح في غالب الأمور ؛ ذلك لأننا الأمة الوسط كما قال تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطًا } فلا إفراط ولا تفريط ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة ، والله أعلى وأعلم .
(24) فائدة
... إن قلت : هل يصح إطلاق القول بأن ألفاظنا بالقرآن مخلوقة أو القول بأن ألفاظنا بالقرآن ليست بمخلوقة ؟(1/90)
... فأقول : لا يصح إطلاق القول لا بهذا ولا بهذا ، ولا التحدث به أصلاً ، بل الواجب هو السكوت عنه وعدم الخوض فيه ، وهذا هو الأسلم للمرء في دينه ، لكن إذا ابتليت بمن يسأل عن ذلك أو ثارت فتنة في زمنك قيل فيها أحد هذين القولين ، فأجب بما يلي : إن المتقرر عند أهل السنة والجماعة أن الألفاظ المجملة لا تقبل مطلقًا ولا ترد مطلقًا ، وإنما هي موقوفة على الاستفصال ليتميز حقها من باطلها فيقبل الحق ويرد الباطل ، وهاتان الكلمتان الواردتان هما من الألفاظ المجملة ، فمن أطلق القول بأن ألفاظنا بالقرآن مخلوقة فهو جهمي ، ومن أطلق القول بأن ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة فهو مبتدع ، هكذا ورد عن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل - رحمة الله عليه وعلى سائر علماء أهل السنة - .
... فالأمر فيه تفصيل ، إذ أنه لابد أن يفرق بين اللفظ والملفوظ به ، فمن قال لفظي بالقرآن مخلوق ، إن كان يقصد لفظه هو من نبرات صوته وحركة لسانه فهذه لاشك أنها مخلوقة ، وإن كان يقصد الملفوظ به فهو قول باطل ؛ لأن الملفوظ به هو القرآن والقرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، فالصوت والألحان صوت القارئ ، لكنما المتلو والمقروء كلام الله تعالى .(1/91)
... وأصل هذه الكلمة إنما قالها المعتزلة لما خبت نارهم وانكسرت شوكتهم في عهد المتوكل ولم يستطيعوا أن يصرحوا بمذهبهم الباطل في القرآن فبحثوا عن كلمة مجملة يستطيعون بها نفث سمومهم بين أهل السنة من حيث لا يشعر بهم أحد ، فبدل أن يقولوا : القرآن مخلوق ، قالوا : ألفاظنا بالقرآن مخلوقة ، واستعجل بعض الغيورين من أهل السنة عفا الله عنه وأراد أن يرد كلمتهم هذه بما يناقضها فقال : ( ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة ) وكلا الإطلاقين مجمل كما تقدم ، وقد تبين لنا أن من قال لفظي بالقرآن مخلوق إن كان يقصد به نبرات صوته وحركات لسانه ولهاته وشفتيه فهذا صحيح ، وإن كان يقصد ما تلفظ به ، فهذا باطل ؛ لأن الذي تلفظ به هو القرآن وهو كلام الله غير مخلوق ، ولذلك قال أهل السنة : إن القرآن وإن كتب في المصاحف أو حفظ في الصدور أو نطقت به الألسنة لم يخرج بذلك عن كونه كلام الله ، فهذا بالنسبة للفظة الأولى .
... وأما من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فلا يخلوا من حالتين :
... 1- إن كان يقصد ما تلفظ به وهو القرآن فهو صحيح لا غبار عليه .
... 2- وإن كان يقصد صوته وحركات لسانه وشفتيه فقد أخطأ؛ لأن هذه الأشياء مخلوقة.
... وبهذا التفصيل يزول الإشكال - إن شاء الله - .
... فإن قلت : لماذا قال الإمام أحمد - رحمه الله - : ( من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع ) ؟
... فأقول : إنما قال كلمته الأولى لأن أصل هذه اللفظة صادرة من المعتزلة ويقصدون بها معناها الباطل وهم من الجهمية ؛ لأنهم ينكرون الصفات ومن أنكر الصفات فهو جهمي وخصوصًا كلام الله تعالى ، وأما قوله : من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع فبيان ذلك أنه قد رد البدعة ببدعة وتكلم بشيء مجمل يحتمل الحق والباطل وجاء بشيء لم يرد عن سلف هذه الأمة ، والمقصود بيان حقيقة هاتين اللفظتين وتوضيح ما فيهما من الحق والباطل ، والله أعلم .
(25) فائدة(1/92)
... أقول : إنك تجد بعض المصنفين في العقيدة والأصول يقولون : وهذا من أصول الدين وهذا من فروع الدين ، فهل هذا التقسيم صحيح أو غير صحيح ؟
... فأقول : إن هذا اللفظ بحسب الاستعمال صار من الألفاظ المجملة التي تحتمل الحق والباطل وقد تقدم أن قاعدة أهل السنة والجماعة في المجملات أنها موقوفة على التفصيل ليتميز حقها من باطلها فيقبل الحق ويرد الباطل .
... فنقول : إن كان قائل ذلك يقصد بالأصول أمور الاعتقاد فقط ، وبالفروع أمور الفقه فقط ، فإن هذا التقسيم محدث وباطل ولا يعرف عن السلف ، بل أول من تكلم به أهل كلام اليونان البغيض من المعتزلة والأشاعرة ، ويقصدون بذلك أن الأصول لا يقبل فيها إلا المتواترات وأما الآحاد فلا يقبل ، وهذا فيه نسف لكثير من الشريعة ، وهو مخالف للمعروف عن السلف ، فإن السلف - رحمهم الله تعالى - يقبلون ما صحت به الأخبار من غير نظرٍ إلى كونه آحادًا أو متواترًا ، فالعمدة عندهم إنما هو صحة النص إلى المعصوم - صلى الله عليه وسلم - كما قد شرحناه في الأصول والعقيدة ، فهذا التقسيم بهذا الاعتبار محدث مردود ؛ لأنه تنتج عنه نتائج لا تتوافق مع مذهب السلف .
... وإن كان يقصد بالأصول ما أجمع عليه أهل العلم مطلقًا أي سواءً في مسائل العقيدة أو الفقه ، وبالفروع ما ثبت فيه الخلاف ، فهذا لا بأس به حينئذٍ والأصح من ذلك هو ما اختاره أبوالعباس - رحمه الله تعالى - من أن الأصول هو ما اشتهر علمه ولو كان من المسائل الخلافية ، وبالفروع دقائق المسائل التي قد ينفرد بمعرفتها بعض الناس ممن لهم اشتغال بهذا الفن .(1/93)
... فهذان التقسيمان الأخيران صحيحان لكن الأخير أصح ، والأسلم للمرء في دينه أن لا يتلفظ بهذا اللفظ إلا عند من يعرف الحق فيه ، وأن يقول إذا أراد التقسيم : الدين علميات وعمليات ، أو يقول : عقائد وشرائع ، وليحذر المسلم من قولهم : الدين لب وقشور ، فإنه تقسيم محدث باطل باطني صوفي ، ووراء الأكمة ما وراءها ، وعلى كل فالمقصود : أن تعرف حقيقة هذه الألفاظ ، والله يحفظنا وإياك من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، والله أعلم .
(26) فائدة
... اتفق أهل السنة على أن لله يدين اثنتين لائقتين بجلال الله وعظمته ، واتفقوا على أن إحداهما يمين في الاسم وفي الخير والعطاء والإنفاق ، واتفقوا على أن الأخرى يمين في البذل والعطاء ، ولكن هل تسمى شمالاً ؟ هذا مما اختلفوا فيه على قولين : فمنهم من منع تسميتها بالشمال ، ومنهم من أجاز ذلك ، ولكل أدلته .
... واستدل المانعون بالأحاديث التي فيها قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( وكلتا يديه يمين )) فإنه نص صريح صحيح في أنهما يمين في الاسم كما أنهما يمين في البذل والعطاء ، وليس بعد قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء .
... واستدل المجيزون بما رواه مسلم من حديث ابن عمر مرفوعًا : (( يطوي الله سمواته فيأخذهن بيمينه ثم يهزهن ويقول : أنا الملك أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ثم يطوي الأرضين ويأخذهن بشماله ... )) الحديث ، وهو نصح صريح صحيح في أنها شمال في الاسم ، وليس بعد قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء .
... قال المانعون : إن هذه اللفظة شاذة والشاذ قسم من أقسام الضعيف .
... قال المجيزون : إن دعوى الشذوذ لا تقبل إلا إذا ثبتت المخالفة أي مخالفة الثقة للثقات ، وهنا لا مخالفة ، بل هذه اللفظة تعتبر تفسيرًا لقوله : (( ويأخذهن بيده الأخرى )) فهي زيادة من ثقة فسرت المراد باليد الأخرى ؛ ولأن دعوى الشذوذ فيه إهدار لشيء من كلام الشارع .(1/94)
... وقد تقرر في الأصول أنه يجب إعمال الكلام ما أمكن وأن الجمع بين الأدلة واجب وأن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما ما أمكن ، وهنا يمكن أن نعمل لفظة ( الشمال ) بلا تكلف ، وذلك أن نقول هي شمال في الاسم ويمين في البذل والعطاء ، وهذا القول هو الأقرب وهو الموافق للقواعد والأصول ، ونقول فيها كقولنا في سائر الصفات من أننا نؤمن بها من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل فهي شمال لا كشمالنا ، ولا يلزم من ذلك نقص بوجهٍ من الوجوه ، وهذا القول هو الذي يعمل الأدلة كلها ، ولا ينبغي أن نلغي هذه اللفظة بعد ثبوتها في صحيح مسلم من أجل توهم نقصٍ في هذه الشمال ؛ وذلك لأن هذه الشمال مضافة إلى الله تعالى وقد تقرر في القواعد أن الصفة تكون لائقة بمن أضيفت إليه ، وتقرر أيضًا أن الاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في الصفات فكما أننا نثبت وجهًا لا كوجوهنا وعينًا لا كأعيننا ويدًا لا كأيدينا ، فكذلك نقول : وله شمال لا كشمالنا ، ولا أظن من تربى على قواعد أهل السنة في إثبات الصفات يجد في نفسه حرجًا من إثبات الشمال .
... وخلاصة الكلام : أن اليد الأخرى شمال في الاسم لكنها يمين في البذل والإنفاق والعطاء ، والله أعلم .
(27) فائدة
... اعلم أرشدك الله لطاعته وجنبنا وإياك أسباب الزيغ والهلاك أن القدرية والجبرية ضلوا في باب القدر .(1/95)
... وسبب ضلالهم هو أنهم لم يفرقوا بين المشيئة والمحبة ، بل جعلوها شيئًا واحدًا وقالوا : كل شيء يشاؤه الله فهو يحبه ويرضاه ، فالإرادة عندهم شيء واحد فقط وهو الإرادة الشرعية التي معناها المحبة ، فلما نظروا في الأشياء الواقعة وجدوا أن فيها كفرًا وزنًا ولواطًا وشربًا للخمر وبدعة وشركًا وقتلاً للنفس بغير حق وسرقة وقذفًا ، ونحو ذلك ، والمرادات عندهم محبوبة ، فخاف القدرية من أن ينسبوا هذه الأشياء إلى مشيئة الله فقالوا إن العبد هو الذي يخلق فعله ، ولا علاقة بين مشيئة العبد ومشيئة الله تعالى ، وذلك فرارًا منهم من أن يقولوا : شاء الله من العبد هذه الأشياء ثم عاقبه عليه ، ولكنهم فروا من شيء ووقعوا في شيء شرٍ منه وهو أنه يلزم عليهم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله ، فهم كالمستجير من الرمضاء بالنار ، ويلزم عليهم أيضًا إثبات خالق بشيء من المحدثات مع الله تعالى فهم يصدق عليهم أنهم مجوس هذه الأمة .
... وأما الجبرية فقالوا بما أنها وقعت فإنه لا يقع شيء إلا والله يشاؤه والمشيئة عندهم المحبة فلزم من قولهم أن الله يحب هذه الأشياء وأن العبد مجبور على مواقعتها ، فتجد الواحد منهم لا يبالي بما وقع فيه من الذنب والمعصية ؛ لأنها واقعة بمحبة الله .
... ومبدأ ضلال الفريقين أنهم لم يفرقوا بين الإرادتين .
... وأما أهل السنة فإن الله هداهم إلى الفرق بين الإرادتين ، إرادة كونية ، وإرادة شرعية ، وفرقوا بينهما بأن الإرادة الكونية لازمة الوقوع ولا تستلزم المحبة ومرادة لغيرها ، وأما الشرعية فليست بلازمة الوقوع وتستلزم المحبة ومرادة لذاتها ، فالأشياء التي تقع في الكون مما لا يحبه الله ولا يرضاه هي من قبيل الإرادة الكونية ، وبهذا التفريق تتفق الأدلة وتتآلف ولا يبقى في شيء منها أي إشكال كعادتها ، جعلنا الله وإياك من أتباعها ، والمقصود هو أن تعرف سبب ضلال هؤلاء في باب القدر ، والله أعلم .
(28) فائدة(1/96)
... هنا سؤال مشهور وهو قولهم : كيف يريد الله شيئًا وهو لا يحبه ولا يرضاه ؟
... فأقول في جوابه : إن هذا من إقحام النفس فيما لا مدخل لها فيه ، ودس للأنف في شيء لا شأن لنا به ، فإنه سبحانه : ( لا يسأل عن ما يفعل وهم يسألون ) وهو من التعدي المحرم ، فحق السائل أن يزجر ويعنف عليه ، لكن ومع ذلك فإن العلماء - رحمهم الله تعالى - قد أجابوا عنه فشفوا وكفوا فقالوا : إن المراد نوعان : مراد لنفسه ، ومراد لغيره .
... فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته لما فيه من الخير فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد .
... وأما المراد لغيره فإنه قد لا يكون مقصودًا للمراد ولا فيه مصلحة بالنظر إلى ذاته وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده ، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته ، مراد له من حيث إفضاؤه وإيصاله إلى مراده فيجتمع فيه الأمران : بغضه وإرادته ، ولا يتنافيان ، وذلك لاختلاف متعلقهما ، أي أنه مكروه باعتبار ذاته محبوب باعتبار ما يترتب عليه من المصالح ، وهذا كالدواء الكريه إذا علم المتناول له أن فيه شفاءً ، فإنه يتجرعه تجرعًا لا يكاد يسيغه ولكنه يُكره نفسه على ذلك لعلمه بالمصلحة المترتبة على ذلك ، وكقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده ، وكقطع المسافة الشاقة إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه ، فالشيء قد يكون محبوبًا من وجه مكروهًا من وجه فلا يكون هذا من التعارض في شيء ، وأضرب لك مثالاً واحدً على ذلك وهو خلق إبليس الذي هو مادة فساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات ، وسبب لشقاوة كثير من العباد وعملهم بما يغضب الرب تبارك وتعالى ، ومع ذلك فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه ، ووجودها أحب إليه من عدمها وإليك بيانها :(1/97)
... فمن ذلك : أنه تظهر للعباد قدرة الرب على خلق المتضادات المتقابلات ، فخلق هذه الذوات التي هي أخبث الذوات وشرها ، وهي سبب كل شر في مقابلة ذات جبريل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها ، وهي مادة كل خير ، فتبارك خالق هذا وهذا ، كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار ، والكفر والإيمان ، والداء والدواء ، والحياة والموت ، والحسن والقبيح ، والخير والشر ، وذلك من أدل دليل على كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه فهو المستحق أن يُعبد لا إله غيره ولا رب سواه .
... ومن ذلك : ظهور آثار أسمائه وصفاته القهرية مثل القهار والمنتقم والعدل والضار والشديد العقاب والسريع الحساب وذي البطش الشديد والخافض والمذل ، فإن هذه الأسماء والأفعال كمال ولابد من وجود متعلقها ولو كان الجن والإنس على طبيعة الملائكة لم تظهر آثار هذه الأسماء .
... ومن ذلك : ظهور آثار أسمائه وصفاته المتضمنة لعلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وأنه الرؤوف الكريم البر الرحيم الودود اللطيف ، فلو لا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إلى ظهور هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد وقد قال - عليه الصلاة والسلام - : (( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولأتى بقومٍ يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم )) رواه مسلم .
... ومن ذلك : ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها اللائقة بها فهو أعلم حيث يجعل رسالته ، وأعلم بأهل الجنة من أهل النار ، وأهل الإيمان من أهل الكفر والعصيان كل ذلك على ما تقتضيه حكمته وعلمه وخبرته .(1/98)
... ومن ذلك : حصول العبودية المتنوعة التي لو لم يخلق إبليس لما حصلت ، فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه ، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة لله سبحانه وتعالى والمعاداة فيه ، ومن ذلك عبودية التوبة والرجوع إلى الله تعالى فإنها لم تكن لتحصل لو لم يخلق إبليس الداعي إلى المعصية فيتوب العبد منها فتحصل منه هذه العبودية التي يفرح الله لها فرحًا عظيمًا لائقًا بجلاله وعظمته وغير ذلك .
... ومن ذلك : أنه خلقه ابتلاءً لعباده ليميز الخبيث من الطيب وأمرهم بالصبر عن مقارفة الشهوات ووعدهم على ذلك الأجر الذي لا حد له ، ولا يتأتى ذلك لو لم يخلق إبليس ويسلطه عليهم فيدعوهم إلى الشهوات فيتحقق منهم الصبر عن ذلك فيعطيهم الثواب الجزيل والأجر العظيم الذي لا حد له ولا غاية { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } وغير ذلك من الحكم والمصالح التي لا يحيط بها على وجه الحصر إلا الله تعالى .
... ومن الأمثلة أيضًا : قوله تعالى : { ظهر الفساد في البر والبحر } وهذا من جملة إرادة الله الكونية القدرية فهو من هذه الجهة مكروه له - جل وعلا - ، لكن باعتبار غاياته والمصالح والحكم المترتبة عليه محبوب كما قال تعالى : { ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } فصارت الغاية حميدة والعاقبة مرادة لذاتها فاجتمع في هذا الأمر أنه مكروه من جانب ومحبوب من جانب آخر ، وكذلك قبض روح عبده المؤمن فإنه من الأشياء التي يكرهها الله تعالى ويتردد فيها ترددًا يليق بجلاله وعظمته إلا أنه يريد بذلك إكرامه بما أعده له في الجنة من النعيم المقيم والدرجات العلى وهو لا يدخلها إلا بالموت، فقبض روح العبد اجتمع فيه الأمران : فهو مكروه من جانب أنه مساءة للعبد ، ومحبوب باعتبار أنه سبب للوصول للكرامة والنعيم في الجنة .(1/99)
... والأمثلة كثيرة وبه يتقرر صحة ما ذهب إليه أهل السنة - رحمهم الله تعالى - من التفريق بين الإرادتين والتقديرين ، فالإرادة شرعية وكونية ، والقدر شرعي وكوني ، والله تعالى أعلى وأعلم .
(29) فائدة
... أقول : إن من الصفات التي تنوعت الأدلة واتفقت على إثباتها صفة العلو ، فالله له العلو المطلق على ما يليق بجلاله وعظمته ، وقد دل على علوه النقل ، والعقل ، والفطرة ، والحس ، والمراد هنا بيان أوجه دلالة النصوص على إثبات هذه الصفة العظيمة وهي كما يلي :
... منها : التصريح بها كقوله تعالى : { سبح اسمك ربك الأعلى } ، وقوله : { وهو العلي الحكيم } ، وقوله : { وهو العلي الكبير } .
... ومنها : التصريح بأنه فوق الخلق كقوله تعالى : { يخافون ربهم من فوقهم } ، وقوله تعالى : { يد الله فوق أيديهم } ومن لوازم الفوقية العلو ، بل هي تتضمنه ، ومثله قوله تعالى : { وهو القاهر فوق عباده } .
... ومنها : التصريح بأنه في السماء كقوله تعالى : { أأمنتم من في السماء } ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - للجارية : (( أين الله )) ؟ قالت : في السماء . فقال : (( أعتقها فإنها مؤمنة )) ، ومن لوازم كونه في السماء أنه في العلو ؛ لأن السماء هنا يراد بها العلو .
... ومنها : أن الأشياء تنزل من عنده كما قال تعالى : { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده } ، وقوله تعالى : { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } ، وقوله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } وغير ذلك ، ومن المعلوم أنه لا تنزل الأشياء إلا ممن هو في السماء .
... ومنها : التصريح برفع الأشياء وصعودها وعروجها إليه كما قال تعالى : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } ، وقال تعالى: { تعرج الملائكة والروح إليه... } الآية.(1/100)
... ومنها : التصريح بأنه استوى على العرش كما في الآيات السبع المعروفة ، فإن من لوازم الاستواء العلو ؛ لأن العرش أعلى المخلوقات وهو سقفها والله مستوٍ عليه استواءً يليق بجلاله وعظمته فيكون عاليًا العلو المطلق .
... ومنها : الإشارة الحسية إليه كما أشار إليه من هو أعلم به وبما يجب ويمتنع عليه من جميع البشر لما كان بالمجمع الذي لم يجتمع لأحدٍ مثله في اليوم الأعظم في المكان الأعظم قال لهم : (( أنتم مسئولون عني غدًا فماذا أنتم قائلون )) ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت . فرفع إصبعه الكريمة إلى السماء رافعًا لها إلى من هو فوقها وفوق كل شيء قائلاً : (( اللهم فاشهد )) .
... وكذلك رفع الأيدي عند دعائه دليل على أنه في العلو كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن ربكم حيٌّ كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه يدعوه أن يردهما إليه صفرًا )) إسناده حسن .
... وحديث أنس في الصحيحين في استسقائه - صلى الله عليه وسلم - على المنبر قال : فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه وقال : (( اللهم أغثنا ... )) الحديث ، وغير ذلك .
... فهذه الصفة من أعظم الصفات التي جاءت بها الأدلة فنحن نؤمن بها إيمانًا خاليًا من الزلل ونصدق بها تصديقًا سليمًا من الخطل ، والله أعلى وأعلم وأجل .
(30) فائدة
... إن قيل : كيف نجمع بين علوه وقربه ؟ وبين علوه وأنه قبل وجه المصلي ؟ وبين علوه وأنه معنا ؟ فالجواب مجمل ومفصل .(1/101)
... فأما المجمل : فإن مثل هذه الأسئلة والواردات لا ترد إلا على من لم يقدر الله حق قدره وعلى من اعتقد أن صفاته كصفات خلقه ولم يعظم ربه - جل وعلا - حق تعظيمه ، فإنه من علم أنه ليس كمثله شيء ولا يعجزه شيء وأنه أعظم وأجل وأكبر من كل شيء فلا يتعاظمه شيء ، لم تجد هذه الشبه على قلبه وعقله سبيلاً ، فضلاً عن كونها أسئلة تفتقر إلى جواب عنده ، ولذلك فإنه لا يعرف عن الصحابة والسلف مثل هذه الأسئلة ، مع أن هذه الآيات والأحاديث يسمعونها ليلاً ونهارًا ، لكن القوم يعلمون العلم اليقيني بالفارق بين الخالق والمخلوق فلا يتطرق إلى أذهانهم شيء من ذلك ، وإنما يأتي بمثل هذه الإشكالات أهل البدع والشك والاضطراب من الذين تربوا على زبالات أذهان الفلاسفة وتشربوا قواعد أهل اليونان المناقضة للمعقول والمخالفة للمنقول ، وإلا فما لنا ولها ، فنحن في سلامة وعافية ما لم ندخل في مثل هذه الإشكالات الشيطانية والشبهات الإبليسية التي يقصد بها تكدير صفاء المعتقد وتلويث منبعه ، والله المستعان .
... وأما الجواب المفصل : فهو كما يلي :
... الأول : أن الأدلة جاءت بهذا وبهذا فجمعت بينهما ، والأدلة لا يمكن أن تأتي بمحال أبدًا ، وكما ذكرنا سابقًا أن الأدلة لا تأتي بما يتعارض مع العقل ، ولكن أحيانًا تأتي بما يحار فيه العقل ، فالعقل لضعف إدراكه ومحدودية طاقته يحار في إدراك بعض الأدلة الإدراك الكامل وإن كان يعلم بها من حيث الإجمال .
... الثاني : أن هذه الأشياء يمكن اجتماعها في حق المخلوق الضعيف العاجز الناقص ، فالقمر في السماء ، ويقول المسافرون : ما زلنا نسير والقمر معنا ، فاجتمع في حقه العلو والمعية ، ولله المثل الأعلى . ويقولون : لا زلنا نسير والشمس قبل وجوهنا ، وهي في العلو فاجتمع في حقها المقابلة والعلو ، فإذا كان ذلك متصورًا اجتماعه في حق المخلوق الضعيف الناقص العاجز فلأن يكون متصورًا في حق الخالق القوي الكامل القادر من باب أولى .(1/102)
... الثالث : سلمنا جدلاً أنه غير متصور في حق المخلوق فإنه ليس كل شيء ممتنعًا في حق المخلوق يكون ممتنعًا على الخالق ؛ لأنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته وهو سبحانه العلي في دنوه ، والقريب في علوه ، والله تعالى أعلم وأعلم .
(31) فائدة
... أقول : من الأشياء المهمة لفهم العقيدة وسلامة التصور هو أن تعرف الفروق والتقاسيم التي يكون بمعرفتها مجانبة سبيل الضالين ، ومن هذه الفروق والتقاسيم أن تعلم أن الإرادة قسمان : كونية وشرعية . وأن القضاء نوعان : كوني وشرعي ، ومثله القدر . وأن الأمر نوعان : كوني وشرعي . وأن الإذن نوعان : كوني وشرعي . وأن الحكم نوعان : كوني وشرعي . وأن الكتاب نوعان : كوني وشرعي . وأن التحريم قسمان : كوني وشرعي . وأن الكلمات نوعان : كونية وشرعية .
... فالإرادة والقضاء والقدر والإذن والحكم والكتاب والأمر والتحريم والكلمات كل منها ينقسم إلى كوني وشرعي .
... فالإرادة الكونية : كقوله تعالى : { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم } . والإرادة الشرعية : كقوله تعالى : { يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } .
... وأما القضاء الكوني : فكقوله تعالى : { فقضاهن سبع سموات في يومين } . والقضاء الديني : كقوله تعالى : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } .
... وقد ضل في الإرادة والقضاء الجبرية والقدرية .
... وأما الأمر الكوني : فكقوله تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون } ، ومنه قوله تعالى : { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرًا } ، فتفسير الأمر هنا بأنه الأمر الكوني هو أصح الأقوال في تفسيرها . وأما الأمر الشرعي : فكقوله تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } ، وكقوله : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } .(1/103)
... وأما الإذن الكوني : فكقوله تعالى : { وما هم بضارين به من أحدٍ إلا بإذن الله } . والإذن الشرعي : مثاله قوله تعالى : { ما قطعتم من لينةٍ أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين } .
... وأما الكتاب الكوني : فكقوله تعالى : { وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب } ، ومنه قوله تعالى : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } . وأما الكتابة الشرعية : فكقوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس العين بالعين ... } الآية ، وكقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } ، وكقوله تعالى : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقًا على المتقين } .
... وأما الحكم الكوني : ففي قوله تعالى عن ابن يعقوب - عليه السلام - : { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي } ، وقوله تعالى : { قال رب احكم بالحق } . والحكم الشرعي : كقوله تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد } ، وقوله تعالى : { ذلكم حكم الله يحكم بينكم } .
... وأما التحريم الكوني : ففي قوله تعالى : { قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض } ، وقوله تعالى : { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } . وأما التحريم الشرعي : فكقوله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم } ، وقوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ... } الآية .
... وأما الكلمات الكونية : ففي قوله تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلاً } ، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر )) . وأما الكلمات الشرعية الدينية : فكقوله تعالى: { وإذ ابتلى إبراهيمَ رَبُّه بكلماتٍ فأتمهن } .(1/104)
... وهذه التقاسيم كلها جار على أصل أهل السنة والجماعة ، فاعرف ذلك فإنه نافع جدًا في فهم النصوص ، والله أعلى وأعلم .
(32) فائدة
... من المتقرر عند كثير من أهل العلم أن هناك فرقًا بين النبي والرسول .
... والفرق المشهور : هو أن الرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه ، والنبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه ، ولكن هذا الفرق فيه نظر من أوجه :
... الأول : أن الدليل أثبت أن النبي من جملة من أرسلوا ، كما قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ... } الآية .
... الثاني : أن ترك البلاغ كتمان للوحي الذي أوحي إليه ، والله تعالى لم ينزل وحيه ليكتم ويدفن في صدر واحدٍ من الناس ثم يموت هذا العلم بموته .
... الثالث : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( عُرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد )) ، فهذا يدل على أن الأنبياء مأمورون بالبلاغ وأنهم يتفاوتون في مدى الاستجابة .
... الرابع : أنه لا فائدة للعامة في الوحي إذا لم يؤمر بإبلاغه إذ كيف يعرفون مراد الله تعالى وما يتعبدون به ويأتمرون به وينتهون عنه إلا إذا أمر النبي بالبلاغ .
... فصار تعريف النبي بذلك منافٍ للمقصود من الوحي أصلاً ؛ لأن المقصود بالوحي هداية الناس وهذا لم يؤمر بإبلاغه فكيف يهتدون ، وهذا واضح .
... فإذا قلت : فما التعريف المختار ؟ أقول : التعريف المختار : هو أن الرسول من أوحي إليه بشرع جديد ، والنبي من بعث لتقرير شرع من قبله .
... وقد كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، وأنبياء بني إسرائيل كلهم مبعوثون بشريعة موسى - عليه الصلاة والسلام - وهي التوراة ، فهذا التعريف أقرب إلى الأدلة من التعريف المشهور ، والله أعلم .
(33) فائدة
... إذا قيل : هل صفات الله هي الله أم غيره ؟(1/105)
... فقل : لا يجوز هذا السؤال ؛ لأنه سؤال مبتدع مجمل موهم وهو في حد ذاته شبهة يجب الحذر والتحذير منه فإن من كان أحرص منا على العلم والهدى لم يوردوه ولم يتفوهوا به ، فلو كان جواب هذا السؤال من العلم النافع لكان السلف أحرص منا على طرحه ، لكن أهل السنة - رحمهم الله تعالى - أجابوا عن هذا السؤال ؛ لأنهم ابتلوا بمن يثيره بين العوام وحصل به نوع فتنة .
... فقالوا : إن هذا السؤال سؤال مجمل يحتمل الحق والباطل ، وقد تقدم مرارًا أن القاعدة في المجملات أنها موقوفة على الاستفصال حتى يتميز حقها فيقبل من باطلها فيرد .
... وهذا الإجمال في لفظ ( غير ) فإن أريد به أن هناك ذاتًا مجردة قائمة بنفسها منفصلة عن الصفات الزائدة عليها ، فهذا غير صحيح ؛ لأنه مفضٍ إلى تعطيل الله عن صفاته ، بل يتضمن نفي وجود الله تعالى ؛ لأنه ما من ذاتٍ في الخارج إلا ولها صفات ، فإذا نفوا الصفات أو قالوا إن صفات الله تعالى منفصلة عن ذاته فهم بذلك ينفون وجود الذات ، وهذا ليس قولهم صراحة وإنما هو من لوازم قولهم .
... وإن أريد به أن الصفات زائدة على الذات فيفهم من معناها شيئًا غير ما يفهم من معنى الذات فهذا حق ، أي أن الصفات أضافت إلى الذات معنى زائدًا على معناها ، فهذا لاشك في صحته ، وأن منها ما هو ملازم للذات لا ينفك عنها ومنها المتعلق بالمشيئة ، وهذا هو قول أهل السنة .
... إذًا لا يصح إطلاق القول بأن صفات الله هي الله أو أن صفات الله غير الله ، بل الصواب هو التفصيل في ذلك وهو الذي نريد إثباته في هذه الفائدة ، والله أعلم .
(34) فائدة
... من المعلوم أن المعتزلة ينفون الرؤية - أعني رؤية الله في الآخرة - ويحرفونها إلى رؤية الثواب ، واستدلوا على ذلك بأدلة :(1/106)
... منها : قوله تعالى : { لا تدركه الأبصار } فقالوا: نفي الإدراك دليل على نفي الرؤية، وهذا وَهْمٌ منهم ، فإن المنفي في هذه الآية إنما هو الإدراك ، والإدراك أمر يعقب الرؤية ، فهي تراه ولكنها لا تحيط بها رؤية كما أنها تعلمه ولا تحيط به علمًا ، فهي دليل لأهل السنة لا لهم ، فليس كل شيء تراه تدركه كله ، فهذه السماء نراها ولكننا لا نحيط بها رؤية ، وكذلك الجبال والأرض ونحو ذلك ، نراها ولكن لا نحيط بها رؤية ، بل وأعظم من ذلك قوله تعالى : { فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا } ، فأثبت الرؤية ونفى الإدراك ، فهم فهموا أن معنى قوله : ( تدركه ) أي ( تراه ) وهذا خطأ ، بل الإدراك هو الإحاطة ، فمعنى الآية : أن الأبصار إذا رأته فإنها لا تدركه رؤية ، وهذا النفي - أي نفي الإدراك - يتضمن ثبوتًا وهو عظمة الله وكبره ، والله أعلم .
... ومنها : قوله تعالى عن موسى : { قال رب أرني أنظر إليك . قال لن تراني } فقالوا : وهذا صريح في عدم إمكانية رؤية الله تعالى ، وهذا استدلال الأعاجم والطماطم الذين لا يفقهون عن الله مراده ولا يعرفون لغة ولا أدبًا ، وإنما هو الجهل والتعصب والهوى .
... والجواب عن استدلالهم بهذه الآية وجوه :
... الأول : أن ( لن ) لا تفيد النفي المؤبد حتى وإن قرنت بالتأبيد ، بدليل قوله تعالى عن اليهود : { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدًا } ، ومع ذلك فهم يتمنونه في الآخرة إذا دخلوا النار كما في قوله تعالى : { وقالوا يا مالك ليقضي علينا ربك } .
... وخلاصة هذا الوجه هو أن نفي الرؤية في ذلك الوقت لا يلزم منه انتفاؤها مطلقًا ، وإنما هذا شيء قاله بعض صناديد المعتزلة ، ولذلك قال ابن مالك :
ومن يرى النفي بلن مؤبدًا ... فقوله اردد وسواه فاعضدا
... الثاني : أن الله تعالى قال : { لن تراني } ولم يقل : إني لا أرى أو لست بمرئي أو لا تجوز رؤيتي .(1/107)
... والفرق بين الجوابين ظاهر من قوله : { لن تراني } دليل على أنه يرى ، ولكن موسى - عليه السلام - لا تحتمل قواه رؤيته في هذا الدار لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى .
... الثالث : أن الله تعالى بين أن السبب في عدم رؤيته إنما هي لعدم تحمل النفس ذلك بدليل أنه تعالى لما تجلى للجبل حصل للجبل ما حصل من الاندكاك ، فأعلمه بذلك أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار فكيف بالبشر الذي خلق من ضعف ؟
... فهذا دليل على أن المانع من الرؤية ليس هو أن الله لا يرى وإنما المانع ضعف القوى البشرية عن رؤيته ، ولذلك فإن هذه القوى تضاعف في الجنة حتى يتمكن أهلها من رؤيته كما ثبتت بذلك الأدلة .
... الرابع : أنه لو كانت رؤيته تعالى محال لما كان كليم الله تعالى يتكلف السؤال عنها لأنه أعلم الناس بربه في زمانه فلا يتصور منه أن يسأل ما لا يجوز على الله ، فلما سألها موسى علم بذلك أنها مما يمكن ولكن ثمة مانع وهو الضعف البشري ، فلا يمكن أبدًا أن يكون هؤلاء الحمقى أشد تنزيهًا لله من كليمه ورسوله الكريم .
... الخامس : أنه تعالى تجلى للجبل ، فإذا جاز أن يتجلى للجبل الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب فكيف يمتنع أن يتجلى لرسله وأوليائه في دار كرامته ؟ لكن الله تعالى أعلم موسى بأن الرؤية الآن لا تمكن لوجود هذا الضعف .(1/108)
... السادس : سلمنا جدلاً أن هذه الآية فيها شيء من النقاش فلا تعدو بذلك أن تكون من المتشابه ، وقد تقرر في الأصول أن المتشابه يرد إلى المحكم ، والأدلة المثبتة للرؤية من الكتاب والسنة كثيرة جدًا ، بل هي من جملة متواتر السنة ، فإذا قدروا على أن يحرفوا دلالة هذه الآية فهل يقدرون على تحريف هذا الكم الكثير من النصوص المثبتة للرؤية ؟ بالطبع لا ، إلا مع العناد والاستكبار ، كيف والآية من قبيل المحكم الذي قد اتضح معناه وبانت دلالته ولكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ، وحري بمن أنكر الرؤية أن يحرمها يوم القيامة ؛ لأن الجزاء من جنس العمل ، والله أعلى وأعلم .
(35) فائدة
... أقول : لقد جرت عادة العلماء أن يضبطوا بعض مسائل العلم ببعض الأحرف ويجمعونها لتكون كلمة ، وكل حرف منها يعبر عن مسألة من المسائل .
... ومن ذلك أنهم اختلفوا في الحوض والميزان والصراط أيهما الأول ؟ أي اختلفوا في ترتيبها ، والحق في ذلك أن الحوض أولاً ، ثم الميزان ، ثم الصراط ، هكذا جاءت الأدلة .
... فنأخذ من الحوض حرف ( الحاء ) ، ونأخذ من الميزان حرف ( الميم ) ، ونأخذ من الصراط حرف ( الصاد ) ، فتكون ( حمص ) .
... فحفظ هذه الكلمة ييسر عليك معرفة السابق واللاحق في هذه العرصات ، وأقد أفادنا هذه الفائدة فضيلة شيخنا عبدالعزيز السدحان في شرحه للامية شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - ، والله أعلم .
(36) فائدة
... أقول : بحث ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه المفيد ( الروح ) بعض المسائل المتعلقة بالروح ، وأطال النفس في ذلك كعادته - رحمه الله تعالى - في بحث بعض المسائل التي كثر الخلاف فيها وطال الجدل حولها ، وأنا أسوق إليك رأس المسألة والراجح فيها من باب التذكير بالمسائل لا من باب البحث والتحقيق ، فأقول :(1/109)
... من ذلك : ذهب بعض الفلاسفة إلى أن الروح قديمة ، ولكن هذا القول مخالف لما أجمع عليه الرسل ، فإن الرسل قد أجمعت على أن الروح محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة ، كانت بعد أن لم تكن ، وعلى ذلك اتفق أهل السنة ، وقد نقل إجماعهم على ذلك محمد بن نصر المروزي ، وابن قتيبة - رحمهما الله تعالى - .
... ومن ذلك : اختلف أهل القبلة في الروح هل هي جسم أم عرض من الأعراض ؟
... والحق في ذلك هو أنها جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس وهو جسم نوراني علوي خفيف متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري سري الماء في الورد وسريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم ، وهذا هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ، والدليل على ذلك قوله تعالى : { الله يتوفى الأنفس ... } ففيها الإخبار بتوفيها وإمساكها وإرسالها ، وهذا دليل على أنها جسم لا عرض ، والآيات في ذلك المعنى كثيرة ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( إن الروح إذا قبض تبعه البصر )) ففيه وصفه بالقبض وأن البصر يراه ، مما يدل على أنها جسم لا عرض ، وفي حديث بلال : (( إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم حين شاء )) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه )) .
... فالمتقرر بالأدلة والإجماع - أعني إجماع أهل السنة - ومقتضى العقل هو أن هذه الروح جسم من الأجسام لا أنها عرض من الأعراض ، والله أعلم .
... ومن ذلك : خلافهم هل الروح هي النفس ؟ أم هما حقيقتان متغايرتان ؟
... فالتحقيق في ذلك أنهما شيء واحد ، فالنفس تطلق على الروح ، ولكن غالب ما تسمى نفسًا إذا كانت متصلة بالبدن ، وأما إذا أخذت مجردة عن البدن فتسمية الروح أغلب عليها ، والله أعلم .(1/110)
... ومن ذلك : ما قد وقع في كلام بعض الناس أن لابن آدم ثلاث أنفس : مطمئنة ، ولوامة ، وأمارة بالسوء . وهذا مجانب للصواب ، بل الحق في هذه المسألة أنها نفس واحدة لها ثلاث صفات ، فهي : أمارة بالسوء ، فإذا عارضها الإيمان صارت لوامة تفعل الذنب ثم تلوم صاحبها وتلوم بين الفعل والترك ، فإذا قوي الإيمان صارت مطمئنة ، والله أعلم .
... ومن ذلك : قولهم : هل الروح تموت أم لا ؟
... فالتحقيق في ذلك أنه إن كان المراد بموتها مفارقتها للبدن فقط ، فهي تموت بهذا الاعتبار ، وإن كان المراد بموتها فناؤها كأنها لم تكن فهي لا تموت بهذا الاعتبار ، فقد دلت الأدلة أنها باقية بعد خلقها في نعيم أو عذاب ، والله أعلم .
... ومن ذلك : خلافهم في مستقر الأرواح بعد مفارقتها للبدن .
... والتحقيق في ذلك أن أرواح المؤمنين في الجنة على اختلاف منازلهم فيها بحسب أعمالهم ، وأرواح الكفار في النار على اختلاف منازلهم فيها بحسب أعمالهم .
... ومن ذلك : حالات تعلق الروح بالبدن ، فإن الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام :
... أحدها : تعلقها به في بطن الأم جنينًا .
... الثاني : تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض .
... الثالث : تعلقها به في حال النوم ، فلها تعلق به من وجه ومفارقة من وجه .
... الرابع : تعلقها به في البرزخ ، فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقًا كليًا ، بحيث لا يبقى لها إليه التفات البتة .
... الخامس : تعلقها به يوم بعث الأجساد وهو أكمل أنواع التعلق ولا تفارقه بعد هذا التعلق أبدًا ، والله أعلم .
... فهذه بعض مسائل الروح من كتاب ( الروح ) ، والله تعالى يتولانا وإياك ، وهو أعلم وأعلى .
(37) فائدة(1/111)
... خلاصة قول أهل السنة والجماعة في التبرك ، هو أن لفظ ( تبارك ) لا يجوز إطلاقه إلا على الله تعالى ، فلا يقال : تبارك فلان ، أو تباركت علينا يا فلان ، أو فلان بارك في هذا الشيء ، فهذه الإطلاقات لا تجوز ، وإنما ذلك من خصائصه جل وعلا فالله وحده هو الذي يبارك فيما يشاء سبحانه وتعالى .
... ويقولون : إن طلب البركة لا يخلو إما أن يكون من الأعيان وإما أن يكون من مكان أو زمان .(1/112)
... فأما الأعيان فاتفق أهل السنة - رحمهم الله تعالى ورفع منزلهم في الجنة - أنه لا يجوز التبرك بشيءٍ من الأعيان والذوات إلا بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك لأن الأصل في طلب البركة من شيء التوقيف على الدليل ، فإذا ورد الدليل بجواز طلبها من هذه العين جاز ذلك وإلا فالأصل المنع ، ولم يأت الدليل بطلبها في شيء من الأعيان والذوات إلا بذات نبينا - صلى الله عليه وسلم - فقد كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يتبركون بنخامته وبعرقه وبالطيب الذي يسيل من مفرقه وبفضل وضوئه وبشعره وبملابسه كما ثبتت بذلك الأدلة الصحيحة الصريحة في ذلك ؛ وذلك لأنه جل وعلا جعل ذاته - صلى الله عليه وسلم - مباركة ، وأما سائر الذوات فلم يأت في جواز طلب البركة منها دليل ، فنقف موقف المنع ، ولا يجوز قياس غيره عليه ؛ لأن القياس لابد فيه من الاتفاق بين الأصل والفرع في العلة ، وجواز التبرك به - صلى الله عليه وسلم - ليس لصلاحه فقط ، بل لأنه رسول الله وخاتم النبيين وخليل رب العالمين وخير عباد الله أجمعين وصاحب الشفاعة العظمى والمعجزة الكبرى والحوض المورود وغير ذلك من صفاته العظيمة التي لا يشركه فيها أحد ن فكيف يقاس غيره عليه ، والصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك مع خير هذه الأمة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، فلو كان ذلك سائغًا لفعلوه ، وبناءً على ذلك فما يفعله كثير من الصوفية من التمسح بمن يرونه من الأولياء والصالحين وأخذ آثاره من الثياب والنعال ونحوه ، كل ذلك بدعة مخالف لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك طلب البركة من القبور وأصحابها أو طلبها من بعض الأشجار كذات أنواط التي كان المشركون يعكفون عندها ويعلقون عليها أسلحتهم طلبًا لبركتها كل ذلك لا يجوز ، بل هو من الشرك الأصغر الذي قد يكون أكبر في بعض الصور كما سيأتي تفصيله - إن شاء الله تعالى - ، وكذلك ما يفعله بعض الناس من التمسح بمقام إبراهيم وبجدران الكعبة(1/113)
والتعلق بأستارها ، كل ذلك من البدع ، وذلك لأنهم يعتقدون أن بركة هذه الأشياء متعدية ، وهذا فهم منكوس مغلوط ، فهذه الأماكن أعني الحرمين الشريفين والمسجد الأقصى فيها بركة لاشك إلا أن بركتها لازمة وليست بمتعدية ، أي أن بركتها في مضاعفة الأجر لمن صلى فيها ، أما أن يعتقد الإنسان بأنه إذا تمسح بجدرانها وستورها أن بركتها تنتقل إليه فهذا خطأ محض ولاشك .
... فالضابط عندنا في هذا أنه لا يجوز التبرك بذاتٍ إلا بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن هل هذا الاعتقاد محرم فقط أم يصل إلى درجة الشرك ؟ أقول : بل هو شرك ، إلا أنه إن كان يعتقد أن التمسح به سبب للبركة فقط وأن الله هو واضع البركة فهذا شرك أصغر ؛ لأنه اعتقد سببًا ما ليس بسبب ولأنه وسيلة للشرك الأكبر ، وأما إذا اعتقد أن ما تمسح به هو الذي يعطيه البركة ابتداءً فهذا شرك أكبر مخرج عن الملة ، وكذلك إذا اعتقد أنه بتمسحه بهذا الشجر أو الحجر أو القبر أو تمرغه عليه أنه بذلك يتوسط له عند الله ويكون سببًا يوصله ويقربه إليه ، فهذا أيضًا يكون شركًا أكبر ، فالواجب الحذر من هذه المسألة التي عمت بها البلوى وطمت - عافانا الله وإياك من كل سوءٍ وبلاء والله أعلم - ، فهذا بالنسبة للبركة في الذوات ، ولله در عمر بن الخطاب في قوله لما استلم الحجر الأسود : ( أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك ) متفق عليه .(1/114)
... فإن قلت : أوليس المسلم مباركًا ؟ فأقول : بلى كل مسلم فيه بركة بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم )) فدل هذا على أن في كل مسلم بركة ، وفي الصحيح أن أسيد بن حضير قال : ( ما هذه بأول بركاتكم يا آل بكر ) فهذه البركة التي أضيفت لكل مسلم وأضيفت لآل أبي بكر ليست بركة ذاتية ولكنها بركة عمل ، وهي راجعة إلى الإيمان والعلم والدعوة والعمل ، فهي بركة ما معه من الإسلام وما يحمله في قلبه من الإقرار بالألوهية والربوبية والأسماء والصفات وما ضبط به ظاهره من الاتباع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهذه البركة كما ذكرت بركة عمل لا بركة ذات ، فلا يجوز التمسح بأحدٍ وإن بلغ في صلاحه ما بلغ ، فإن أصلح هذه الأمة وأفضلها بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - أبو بكرٍ وعمر ولم يكن الصحابة يتمسحون بهما فلو كان ذلك من الخير لكان القوم أحرص على تطبيقه منا ، وهذا الترك دليل على أن الفعل ليس من الشريعة ، بل هو كالتواتر القطعي على ذلك مع أن أبا بكرٍ وعمر فيهما بركة ولاشك لكنها ليست بركة ذاتية وإنما بركة عمل وعلم ودعوة وإيمان ، والله أعلم .
... وأما المصحف فإنه مبارك ولا مرية في ذلك قال تعالى : { كتاب أنزلناه إليك مبارك } وغير ذلك من الآيات إلا أن بركته ليست ذاتية أي لا يجوز أن يوضع على الرأس أو يتمسح به أو يوضع على الجبهة والصدر طلبًا لبركته ، فإن هذا فعل مبتدع لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا صحابته ولا أحد من السلف ، أو يلمس باليد ثم تقبل اليد أو يمسح بها وجهه ، ونحو ذلك كل ذلك لا يجوز .(1/115)
... ومثله وضعه في السيارة طلبًا لبركته في حفظ السيارة لا يجوز أيضًا ، فإن قلت : فما معنى كونه مباركًا ؟ أقول : معنى ذلك أن يتبرك بتلاوته وتدبره وتعقله والإيمان به وحفظه والعمل به بتصديق أخباره وتنفيذ أوامره واجتناب زواجره والوقوف عند حدوده وهكذا ، فهذا هو الذي يجب اعتقاده أما أن يظن الشخص أنه بمجرد لمس الأوراق أنه حلت البركة في يده فهذا فهم غير صحيح ، والله أعلم .
... وأما بالنسبة لبركة الأمكنة والأزمنة فإن الأصل فيها التوقيف أيضًا أي أنه لا يجوز ادعاء البركة في زمانٍ أو مكانٍ معين إلا وعلى ذلك الادعاء دليل صحيح ؛ لأن ذلك إثباتًا لحكم شرعي وقد تقرر في القواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة .
... فمن الأزمنة المباركة شهر رمضان ، ومعنى بركته أنه سبب لمغفرة الذنوب ومضاعفة الحسنات كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا : (( من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه )) وفي الحديث الآخر : (( من قام رمضان )) وفي الحديث الآخر : (( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر )) ، ومن بركته أن فيه ليلة هي خير من ألف شهر كما في الآية ، ومن بركته أنه شهر تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب النيران وتصفد فيه الشياطين ومن بركته أنه جنة لصحابه وأن صاحبه المحافظ عليه موعود بباب الريان الذي لا يدخله إلا الصائمون ومن بركته أن جزاءه إلى الله كما في الحديث : (( إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به )) ، وغير ذلك مما ثبت به الدليل الصحيح ، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - : (( أتاكم رمضان شهر مبارك )) .(1/116)
... ومن الأزمنة المباركة أيضًا العشر الأول من ذي الحجة ، ومعنى بركتها مضاعفة الثواب والأجر للعاملين فيها كما في الحديث الصحيح : (( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب من هذه العشر ... )) الحديث . ولذلك استحب العلماء مضاعفة الجهد بأنواع العبادة طلبًا لبركتها ، والله أعلم .
... ومن الأزمنة الفاضلة المباركة العشر الأواخر من رمضان ، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها ، ومن ذلك ليلة القدر فإنها ليلة مباركة كما قال تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } ومعنى بركتها أنها خير من ألف شهر ، والراجح فيها أنها في الأوتار من العشر الأواخر من رمضان .
... ومن الأزمنة المباركة أيضًا يوم عرفة ويوم عاشوراء ، كما في حديث أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم عرفة فقال : (( يكفر السنة الماضية والباقية )) رواه مسلم .
... فيستحب صيامه لغير أهل عرفة ، ولما سئل عن صوم يوم عاشوراء أخبر أنه يكفر السنة الماضية وقد تواترت الأدلة بالأمر بصيامه مع يوم قبله أو بعده ، وكل ذلك لما فيه من البركة .(1/117)
... والأمثلة كثيرة ، والمعتبر في ذلك الدليل فما وردت الأدلة بالاهتمام بزمنٍ معين والحث على العمل فيه أكثر من غيره فإنما ذلك لتحصيل بركة ذلك اليوم ، وبناءً عليه فلا يجوز طلب البركة في أيامٍ لم تأت الأدلة بجواز ذلك فيها ، كما يفعله المبتدعة في يوم مولده - صلى الله عليه وسلم - ، فإنما يفعلون ذلك طلبًا للبركة ، ولكن لا دليل على ذلك فهو من محدثات الأمور وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ، وإحداث في الدين ما ليس منه ، وفي الحديث : (( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد )) و(( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) ، ومن ذلك ما يفعله الجهلة في الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج فإنهم حددوا ليلة من شهر رجب يعتقدون أنها هي ليلة الإسراء والمعراج فتراهم يفعلون فيها من العبادات الزائدة والأذكار المختلفة ما يعلم الواقف عليه أنها ليست من الشريعة في شيء ، بل هي خرافات شيطانية وموهمات إبليسية وإحداث في الدين ما ليس منه ، فالواجب الحذر من ذلك .
... ومن ذلك تعظيم الصوفية لمن يدعون فيه الولاية ، فتراهم يجتمعون من كل أقطار الدنيا عند قبره في يوم مولده أو وفاته وتضرب حول قبره الخيام وتراق الدماء وتسرج السرج ويعلو صوت المجاورين والعاكفين بالصراخ والدعاء مع ضرب الدفوف والرقص وتوزيع المأكول والمشروب كل ذلك تقربًا لروح صاحب الضريح ظنًا منهم أن روحه حاضرة وأنه يتوسط لكل من يفعل ذلك ، وكل ذلك من الشرك الذي لا يفعل ذلك ، وكل ذلك من الشرك الذي لا شبهة فيه ، فتعظيم هذه الأزمنة لا أصل له في الشريعة لعدم الدليل فضلاً عن أن الدليل أصلاً ورد بالمنع من ذلك ، والله المستعان .(1/118)
... ومن ذلك تعظيم بعض المخدوعين بعادات الغرب ليوم مولدهم ، فتراهم في كل عام يعظمون الليلة التي ولدوا فيها ويخصصونها من بين سائر أيام العام ولياليه بشيء زائد من المأكول والمشروب وإيقاد الشموع ، ودعوة الأقارب والإنشاد والدعاء بطول البقاء ، وكل ذلك من البدع المحدثة في الإسلام ، فإنهما عيدان فقط : عيد الفطر وعيد الأضحى . وأما أعياد الميلاد فإنها دخول في جحر الضب حيث دخل القوم ومساواة لهم حذو القذة بالقذة ، والله المستعان .
... وجماع ذلك أن من عظيم زمانًا بنوع من أنواع التعظيم أو اجتهد فيه بنوع زائد من العبادات فإنه مطالب بالبرهان ؛ لأن الأصل في ذلك التوقيف ، والله أعلم .
... وكما مضى : أن الأصل استواء الأزمنة إلا ما خصته الشريعة بزيادة فضل ، لأن واضع البركة هو الله تعالى ، وهي من أمور الغيب التي مبناها على الدليل الصحيح الصريح لا على الأهواء والموروثات البدعية الباطلة والله يحفظنا وإياك .(1/119)
... وأما بركة الأمكنة فيقال فيها أيضًا ما قيل في بركة الأزمنة من أن الأصل فيها التوقيف على الدليل الصحيح الصريح فلا يجوز اعتقاد البركة في مكانٍ معين إلا وعلى ذلك برهان ساطع من الكتاب أو صحيح السنة ، فلا يعظم إلا المكان الذي عظمته الشريعة ؛ لأن المكلفين تبع لها لا العكس ، وبناءً عليه فمن عظم مكانًا معينًا أو اعتقد أنه مبارك فإنه مخالف للأصل ومن خالف الأصل فإنه مطالب بالدليل ، هذا أولاً ، وثانيًا : ينبغي لك أن تعلم أن المكان الذي وردت الأدلة بأنه مبارك إنما بركته بركة معنوية لا ذاتية أي أنها لازمة غير متعدية بمعنى أنه لا يجوز أن يتمسح بهذا المكان ويعتقد أن بركته تنتقل إليه ، كما يفعله البعض وكما قدمنا شيئًا من الأمثلة ، بل بركة هذه الأمكنة معنوية لازمة لا ذاتية منتقلة ، فانتبه لهذا فإن المخالفين فيه كثير ، أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يهديهم ويردهم إلى جادة الحق والصواب ويوفقنا وإخواننا لما فيه صلاح القول والعمل .
... ثم اعلم أيضًا أن الأمكنة التي ورد الدليل بأن فيها بركة لا يجوز أن يفعل فيها إلا ما ورد الدليل بجواز فعله فيها ، فليس الأمر مفتوحًا للشهوات والأذواق ، بل هو وقف على الدليل ، ومن الأمكنة التي وردت الأدلة ببركتها المسجد الحرام والمشاعر والمسجد النبوي والمسجد الأقصى والوادي المقدس طوى .
... وإتمامًا للفائدة أذكر لك بعض الفروع على هذه القاعدة المباركة ، أعني قاعدة الأصل في البركة التوقيف على الدليل .
... فمن ذلك : اعلم أن التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - من لباسه وشعره ونعله جائز في حياته وبعد مماته عند أهل السنة والجماعة ، كما كان الصحابة والتابعون يفعلونه ، كما في صحيح البخاري عن عيسى بن طهمان قال : ( أخرج إلينا أنس نعلين جرداوين لهما قبالات فحدثني ثابت البناني بعدُ عن أنس : أنهما نعلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) .(1/120)
... وفيه أيضًا عن أبي بردة قال : ( أخرجت لنا عائشة - رضي الله عنها - كساءً ملبدًا ، وقالت : في هذا نزع روح النبي - صلى الله عليه وسلم - ) .
... وفيه أيضًا عن عاصم الأحول قال: (رأيت قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أنسٍ وكان قد انصدع).
... وجاء في صحيح مسلم - رضي الله عنه - أن أسماء بنت أبي بكرٍ الصديق - رضي الله عنهما - : أخرجت جبة طيالسة وقالت : ( هذه كانت عند عائشة حتى قبضت فلما قبضت فبضتها وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبسها فنحن نغسلها للمرضى ليستشفى بها ) .
... وفي صحيح البخاري عن ابن سيرين - رحمه الله تعالى - أنه قال : قلت لعبيدة : عندنا من شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصبناه من قبل أنس أو من قبل أهل أنس . فقال : ( لأن تكون عنده شعرة منه أحب إلي من الدنيا وما فيها ) .
... وفي صحيح البخاري أيضًا عن عثمان بن موهب - رضي الله عنه - قال : ( أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماءٍ فأخرجت لنا جلجلاً من فضة فيه من شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان إذا أصاب الإنسان عين بعث إليها فخضضت الشعر في الماء فيشربه المريض ويشفى بإذن الله تعالى ) .
... فهذه الأدلة تفيد جواز التبرك بآثاره - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته ، لكن هل بقي من آثاره شيء في هذه الأزمنة ؟ الجواب بالطبع : لا ، لم يبق شيء من آثاره البتة ، وكل ما يدعيه المخرفون الدجالون من أن هذا شعره وهذا سيفه وهذا لباسه كله كذب واختلاق ودجل ليسرقوا به أموال الناس ويخدعوهم في دينهم ، فإن دعواهم هذه خالية عن البرهان مخالفة للحس ، فاحذر من تصديقهم والركون إلى دعواهم فإنها ضلال مبين وخرافة واضحة لا يقبلها إلا سفيه العقل ملوث الفطرة ، والله أعلم .(1/121)
... ومن ذلك : ما حكم قول بعض الناس : نتبرك بالصالحين ؟ أقول : هذا القول قول مجمل موقوف على الاستفصال ، فإن أراد بذلك الانتفاع بعلمهم والاستماع إلى مواعظهم ونصائحهم والاهتداء بسمتهم وتحصيل بركة مجالس الذكر معهم والانتفاع بدعائهم له ، فإن هذا لا بأس به ، بل هو المشروع ، فمن قال : نتبرك بالصالحين أو قال : أنا في بركة الصالحين ويقصد به ذلك فلا حرج عليه .
... وأما إن كان يقصد بهذا القول التمسح بمهم لاعتقاده أن أبدانهم مباركة بركة ذاتية منتقلة كما يفعله الصوفية بمن يعظمونه من مجانينهم الذين يدعون أنهم مشائخ فترى الواحد إذا قابلهم خنع رقبته لهم ومسح بيده على عضديه أو فخذيه أو مسح الغبار عن رجليه ونعليه ، وإذا سلم عليه وضع يده بعد السلام على رأسه أو مسح به وجهه أو صدره ونحو ذلك ، فهذا كله من البدع ، بل هي من الشرك الأصغر ؛ لأنه وسيلة إلى الشرك الأكبر ، فاللهم اهدنا سبل الرشاد وثبتنا إلى أن نلقاك ، والله أعلم .
... ومن ذلك : لاشك أن ماء زمزم ماء مبارك شريف ، لكن كما ذكرت لك أن ما ثبتت بركته بالأدلة فإنه لا يجوز لنا أن نفعل فيه أو به إلا ما وردت الأدلة به ، فلا نتعدى القرآن والحديث ، وقد ثبت الدليل بطلب بركة ماء زمزم بشربه فقط ، لحديث جابر - رضي الله عنه - مرفوعًا : (( ماء زمزم لما شرب له )) وحسنه ابن القيم - رحمه الله تعالى - .
... لكن قد تجاوز بعض المسلمين ذلك إلا ما لا دليل عليه فتراهم يغسلون نقودهم وثيابهم ومتاعهم به ، وكل ذلك بدعة ؛ لأنه لا دليل عليه ، والله أعلم .
... ومنها : التبرك بأستار الكعبة والتمسح بمقام إبراهيم أو بأعمدة المسجد الحرام ، كل ذلك من البدع التي لا دليل عليها ، فهي داخلة تحت قوله : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) ، وقوله : (( وكل بدعة ضلالة )) .(1/122)
... ومنها : التمسح بالسياج الذي على قبره - صلى الله عليه وسلم - وقبر صاحبيه ، فإنك ترى من ذلك العجب العجاب والذي يدل على غربة التوحيد في هذه الأزمنة ، والله المستعان .
... ومنها : التبرك بصخرة بيت المقدس ، فإنه لا دليل عليه ، بل هذه الصخرة لا حكم لها عندنا في الشريعة ولا يثبت لها شيء من الخصائص ، وكل ما روي فيها من الفضائل والأحكام فإنه كذب مختلق أو من الإسرائيليات التي لا حكم لها ولا زمام ، ولله در أبي حفص الفاروق لما لم يقبل قول كعب في قوله : تصلي خلف الصخرة ؟ فقال له عمر : ( ضاهيت اليهودية بل أصلي حيث صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) فتقدم إلى القبلة وصلى .
... وقد غلا فيها بعض الصوفية حتى نقلوا عن كعب الأحبار أن الله قال لها : ( أنتِ عرشي الأدنى ) ، وهذا كذب . ويزعم بعضهم أن على الصخرة أثر قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن عليها أثر عمامته ، وكل ذلك من الكذب الصريح والإفك المبين الذي لا يروج إلا على السذج والسقطة ، والله أعلم .
... ومنها : التبرك ببعض القبور ، كقبر الحسين والسيدة زينب والعيدروس والبدوي وبعض آل البيت ، كل ذلك محرم وشرك ومصيبة وضلال وهوس وخبل في العقل - عافانا الله وإياك وإخواننا من كل بلاء وفتنة - .
... ومنها : التبرك بمكان مولده - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يزال ذلك إلى الآن ، وهذا لا يشك عالم في تحريمه وأنه من البدع الموصلة إلى الشرك ، وبعض أهل العلم يمنع ذلك للاختلاف في مكان ولادته - صلى الله عليه وسلم - وهذا ضعيف ، بل حتى لو علمنا يقينًا أنه ولد هنا أو هناك فإنه لا يجوز لنا اتخاذ هذا الموضع عيدًا أو مزارًا ومعظمًا ، وذلك لأن الأصل في ذلك كما ذكرنا لك الحظر والتوقيف حتى يرد الدليل من الكتاب وصحيح السنة ، وبالله عليك هل كان الصحابة أو التابعون يفعلون ذلك ؟ ولكنها الأهواء المضلة والشهوات المحكمة ، والله المستعان .(1/123)
... وإنه يجب وجوب عين على ولاة الأمور - وفقهم الله تعالى - إزالة البناء الشاخص في هذا المكان ومنع الناس من ارتياده والمقام فيه أو فعل شيء عنده وهم على ذلك قادرون وعنه محاسبون ، والله يتولانا وإياهم لما فيه صلاح المسلمين وحماية عقيدتهم ، والله أعلم .
... ومنها : صعود جبل النور للتبرك بالغار الذي فيه ، وهذا بلية عمَّت وطامة فشت ، فترى كثيرًا من زائري البيت الحرام لحجٍ أو عمرةٍ يتكلفون صعود هذا الجبل ويكابدون المتاعب ويواجهون الأخطار ليصلوا إلى غار حراء فيصلون عنده ويأخذون من ترابه أو يدْعون عنده ، وغير ذلك ؛ طلبًا لبركة هذا المكان ، وهذا كله محرم وبدعة وإحداث في الدين ما ليس منه ، بل مجرد صعوده للفرجة لا يجوز ؛ لأن صورة الفعل واحدة ، ففيه خداع للناس ، ولسد الذريعة . ولم يثبت عن أحد من الصحابة فعل ذلك أو الترغيب فيه ، بل هو نفسه - صلى الله عليه وسلم - لم يثبت عنه بعد بعثته أنه كان يأتيه ، بل كان ذلك قبل البعثة ، فلو كان خيرًا لسبقونا إليه ، فالواجب على ولاة الأمر منع الناس من صعوده سدًا لباب الافتتان به ولا يكتفى بمنع الناس بالكلام فقط ؛ لأن ولادة الأمر يستطيعون أن يغيروا هذا المنكر بأيديهم ويجب أيضًا تعزير سائقي الحافلات الذين يجلبون الناس إلى هذا المكان بسحب الرخص منهم ومنعهم من مزاولة العمل هذا الموسم أو حبسهم أو جلدهم ؛ لأنهم يعينون على هذه البدعة ، والله يحفظنا وإياكم من الإحداث في الدين ، والله أعلم .(1/124)
... ومنها : شد الرحل إلى طور سيناء للصلاة هناك أو التبرك بالتراب وأخذ شيء منه ، كل ذلك لا يجوز لعدم الدليل وكون هذا المكان مقدس لا يسوغ لنا أن نفعل فيه ما لا دليل عليه وقد ثبت في الحديث : (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى )) ، بل أقول : وحتى زيارة هذا المكان بلا شد رحل بقصد التقرب فيه بشيء أو لفعل شيء من العبادات قولية أو فعلية لا يجوز وهو من البدع التي بجب الحذر والتحرز منها ، والله المستعان .
... والفروع على ذلك كثيرة ويجمعها أن يقال : الأصل في اعتقاد البركة في زمان أو مكان أو عين التوقيف على الدليل الصحيح الصريح ، فما ثبت به الدليل فأهلاً وسهلاً ، وما لا فلا .
... ونعوذ بالله من الشبه المضلة والآراء المعتلة المخالفة للمنقول والمناقضة للمعقول ، والله أعلى وأعلم ، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم .
(38) فائدة
... هذه بعض الفوائد والترجيحات التي ثبت رجحانها بالدليل ، أذكرها لك مختصرة لتنتفع بها ، وإذا أردتها مبسوطة بأدلتها وأقوالها فعليك بكتب الشيخين الجليلين الكريمين أبي العباس وتلميذه ابن القيم - عليهما رحمات الله المتتابعة وجمعنا بهم في الجنة - وهي كما يلي :
... الراجح من أقول أهل العلم أن الخضر نبي .
... والراجح أيضًا أنه مات .
... والراجح أن أولاد المشركين إذا ماتوا صغارًا أنهم يمتحنون في العرصات ، والله أعلم بما كانوا عاملين .
... والراجح أن كل حديث في زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - على وجه الخصوص أنه كذب موضوع .
... والراجح أن مؤمن الجن في الجنة ينعمون بما ينعم به مؤمني الإنس ويتفاوت نعيمهم بتفاوت أعمالهم كما هو في أهل الجنة من الإنس .
... والراجح أن إبليس من الجن باعتبار أصله ومن الملائكة باعتبار صورته ومثاله .(1/125)
... والراجح جواز التسمي بأسماء الله تعالى بثلاثة شروط : الأول : أن لا يكون من الأسماء الخاصة كاسمه ( الله ، والرحمن ، ورب العالمين ، ونحو ذلك ) . الثاني : أن يكون مجردًا عن الألف واللام . الثالث : أن لا يراقب فيه معنى الصفة .
... والراجح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ير ربه رؤية يقضة وإنما هي رؤية منامية .
... والراجح أن الرضا عند نزول المصيبة مستحب لا واجب .
... والراجح إثبات اسم الشمال لليد الأخرى لكنها يمين في الخير والعطاء والبذل والكرم ، فهي شمال في الاسم فقط .
... والراجح أن الولدان المخلدون من جملة نعيم الجنة لا أنهم من مات صغيرًا .
... والراجح أن العدوى المنفية هي العدوى ابتداءً وهو الذي كان يعتقده أهل الجاهلية ، وأن العدوى المثبتة هي العدوى الانتقالية بتقدير الله تعالى .
... والراجح أن الجنة التي أسكنها آدم وحواء - عليهما السلام - هي جنة الخلد ، بل نقل الشيخ تقي الدين أن هذا قول السلف وما عداه فإنما هو من أقوال أهل الكتاب والمبتدعة ، والله أعلم .
... والراجح أن التمائم من القرآن ممنوعة أيضًا .
... والراجح أن كل حديث في التوسل بجاهه - صلى الله عليه وسلم - فهو كذب مختلق .
... والراجح أن البسملة آية من مجمل القرآن لا من كل سورة ولا من الفاتحة .
... والراجح أن السماع المنفي عن أهل القبور هو سماع الانتفاع الذي يعقبه الاتباع ، وأما السماع المثبت لهم فهو السماع المجرد عن ذلك .
... والراجح أن ميزان الآخرة واحد لكنه جميع باعتبار تعدد الموزون فيه .
... والراجح في أهل الفترة أنهم يمتحنون في العرصات ، والله أعلم بما سبق من علمه فيهم .
... والراجح أن الصلاة في المسجد الذي بني على ضريح باطلة لا تبرأ الذمة بها سواءً أكان القبر في قبلته أو في مؤخرته أو عن جوانبه ما دام في محيط المسجد .
... والراجح أن التصوير بكل أنواعه ومختلف وسائله محرم ولنا فيها بحث مستقل .(1/126)
... والراجح أن الاستعانة بمسلمي الجن في الرقية لا يجوز ، سدًا للذريعة .
... والحق أن هذه الذبائح التي تذبح عند قدوم الملوك على بعضهم في طريقهم لا يجوز أكلها ؛ لأنها نوع تقرب لهم وغلو في تعظيمهم .
... والراجح أيضًا أن ذبائح الصلح لا تجوز ؛ لأنهم يجعلونها أمام من يريدون إرضاءه ويريقون الدم تعظيمًا وإجلالاً له لا يريدون به القربة لله جل وعلا وإنما أراقه لأجل إرضاء فلان ، بل إذا كان قصد الذابح لها التعظيم والتقرب للمذبوح له فهو شرك وأكبر مخرج عن الملة بالكلية وإن لم يكن يقصد التقرب والتعظيم فهي حرام فقط .
... والحق أن ما يفعله بعض المعالجين من أمر المريض بجمع التراب الذي سقط عليه أو رش الماء عليه لا أصل له في الشريعة ، بل هو علاج بدعي قد يفضي بصحابه إلى أمورٍ خطيرة ، وكون بعض الناس استفاد من ذلك لا يدل على جوازه .
... والراجح أن الرياء إن كان من أصل العمل فالعمل باطل ، وإن كان طارئًا عليه فلا يخلو إما أن يدافعه ويجاهده وإما أن يسترسل معه ويرضى به ، فإن كان الأول فالعمل صحيح وله أجر على هذه المجاهدة ، وإن كان الثاني فلا يخلو ذلك العمل إما أن ينبني صحة أوله على آخره وإما لا فإن كان الأول فالعمل كله باطل ، وإن كان الثاني فلا يبطل إلا ما وقع فيه الرياء فقط ، والله أعلم .
... والراجح فيمن أنكر شيئًا من الصفات أنه لا يخلو إما أن يكون إنكار جحود وتكذيب وإما أن يكون إنكار تأويل ، فإن كان الأول فهو كفر ، وإن كان الثاني فلا يكون كفرًا ، بل هو فسق اعتقاد ، وهذا فيما إذا كان التأويل مما يسوغ في لسان العرب ، والله أعلم .
... والراجح أن اسم عبدالمطلب لا يجوز أيضًا ، فقول ابن حزم : ( حاشا عبدالمطلب ) لم يوفق فيه للصواب .
... والراجح أن القديم والدهر ليسا من أسماء الله .
... والراجح أن النشرة إن كانت بالقرآن وصحيح الأدعية فإنها جائزة ، وأما إن كانت بسحر مثله فإنه محرم لا يجوز .(1/127)
... والراجح أن اسم ( عزرائيل ) لم يثبت من طريق صحيح أنه اسم لملك الموت ، وإنما هو من النقول الإسرائيلية التي لا خطام لها ولا زمام ، وهو في شريعتنا يقال له : ( ملك الموت ) كما قال تعالى : { قل يتوفاكم ملك الموت } .
... والراجح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دل الأمة على خلافة أبي بكرٍ بالإخبار برضاه عنها وأرشدهم إليها بأمورٍ متعددة من أقواله وأفعاله ، بل همَّ - صلى الله عليه وسلم - بكتابة كتابٍ بذلك ، لكنه علم أن المسلمين لا يختلفون عليه وسيجمعون على خلافته فترك ذلك اكتفاءً بما علم أن الله يختاره والمؤمنون ووجود شيء من الخلاف في بداية الأمر ليس بدليلٍ على عدم النص على ذلك فإن الصحابة يتفاوتون في فهم النصوص كما هو معلوم ، والله أعلم .
... والراجح أن العرش مخلوق قبل القلم .
... والراجح أن القضاء والقدر كالإيمان والإسلام إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا .
... والراجح أن إهداء ثواب الأعمال للنبي - صلى الله عليه وسلم - بدعة لا أصل له من عمل السلف ولا داعي له ؛ لأن كل من يعمل صالحًا فإن للنبي - صلى الله عليه وسلم - مثل أجره ؛ لأنه هو الذي دعاه له دله عليه وأوضحه له وبلغه إياه ، والله أعلم .
... والحق أن لفظ ( الرب ) هكذا مطلقًا معرفًا لا يجوز إطلاقه إلا على الله جل وعلا ، وإذا أطلق عليه غيره فلابد فيه من حذف ( أل ) التعريف وأن يكون مقيدًا كرب الدار ، ورب الدابة ، ونحو ذلك .
... والحق أنه لا يستعمل في حق المولى جل وعلا إلا قياس الأولى وهو أن كل كمالٍ في المخلوق لا نقص فيه ، فالله أحق بالاتصاف به وكل نقصٍ في المخلوق لا كمال فيه ، فالله أحق أن ينزه عنه .
... والراجح أن خديجة أفضل باعتبار أثرها في أول الإسلام ، وعائشة أفضل باعتبار أثرها في الأخير من إبلاغ الشريعة ونشر السنة .(1/128)
... والراجح أن الملائكة أفضل من البشر باعتبار البداية ، وصالحي البشر أفضل من الملائكة باعتبار النهاية أي بعدد دخول الجنة - جعلنا الله وإياك من أهلها - .
... والحق الذي استقر عليه قول أهل السنة هو أن عثمان - رضي الله عنه - أفضل من علي - رضي الله عنه - .
... والحق أن عليًا - رضي الله عنه - كان أقرب إلى الصواب من معاوية رضي الله عنهما وعن سائر أصحابه - صلى الله عليه وسلم - .
... والصواب أنه ليس من شروط الأمر الإرادة .
... والصواب أن له صيغة تخصه .
... والصواب أن خبر الآحاد مقبول مطلقًا إن صح في سنده .
... والصواب الذي لا مرية فيه أن الذبيح إسماعيل ، لا كما يزعمه أهل الكتاب أنه إسحاق - عليهما الصلاة والسلام - .
... والحق أن سؤال الله بحق أحدٍ من خلقه لا يجوز ، بل هو بدع من القول ، لأنه ليس لأحدٍ على الله حق واجب كما يجب للمخلوق على المخلوق ، وإنما هو حق تفضل به وأوجبه على نفسه سبحانه ، ولأن بذلك يكون قد سأل الله بأمر أجنبي لا سبب له في الإجابة ، واختاره أبو العباس شيخ الإسلام ، فرحم الله أبا العباس شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وعامة علماء أهل السنة والجماعة رحمة واسعة وجمعنا بهم في الجنة وأعاننا وإخواننا على إتمام مسيرتهم في نصر الحق وإعلاء شأنه .. آمين ، والله أعلم .
(39) فائدة(1/129)
... أقول : من المسائل الكبار المهمة في الشريعة : مسألة الحكم بغير ما أنزل الله ، فهذه المسألة خطيرة جدًا ؛ وذلك لتعلقها بالحاكم ، ولأنه قد زل في فهم النصوص الواردة فيها بعض الطوائف والأفراد فنتج عن ذلك تكفير بعض الملوك بأعيانهم وعدم السمع والطاعة لهم ، بل ومحاولة الخروج عليهم بالاغتيال تارة وبتحريش العوام عليهم تارة ، وقد تعدى الأمر إلى من يعمل موظفًا عند هذه الحكومات فوقعوا فيهم تكفيرًا وتجريحًا ، بل وأباحوا سفك دمائهم وأخذ أموالهم ، كل ذلك سببه الفهم المنكوس والهوى المتبع وعدم تقدير المصالح والمفاسد ، وهذا لا يجوز فنحن لا نريد أن يعود علينا عصر الخوارج الذين فعلوا بالمسلمين الأفاعيل العظيمة ، بل الواجب فيما أشكل عليك أن ترده للعلماء الراسخين الربانيين الذين يعلمون حدود ما أنزل الله على رسوله ، وقف حيث وقف القوم .
... وقبل أن أدخل في تفصيل هذه المسألة أحب أن أنبهك على أمرٍ مهم وهو أنني إذا قلت : فإذا كان كذلك فهو كافر ، فأعني به التكفير العام ولا كلام لنا في الأعيان ، فلا يحمل الكلام على أحدٍ بعينه ولا طائفةٍ بعينها ، فاحذر من ذلك ونزه لسانك عنه - عفانا الله وإياك من كل بلاءٍ وفتنة - ، فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد العون والفضل والتأييد :
... فالأول : حال الحاكمين بغير ما أنزل الله تعالى :
... والكلام فيه هذه المسألة مفصل في أقسام :(1/130)
... القسم الأول : واضع هذا القانون الأول أي الذي قرره أولاً وعارض به شريعة الله تعالى ، فهذا لاشك في أنه كافر ؛ لأنه طاغوت يقرر التحاكم لغير شريعة الله تعالى ، بل هو معارض للشرع في أحكامه هذه الذي وضعها ، ولا ننظر هل كان مستحلاً أو لا ، فإن هذا سخف من القول وبلاهة ظاهرة ، ولا أظن عالمًا يقول به ، فهذا القسم الأول لا أظن فيه خلافًا ، وهو من الطواغيت ؛ لأنه دعا الناس إلى عبادة نفسه عبادة الطاعة والانقياد وهو راضٍ بذلك ، فيحل لهم الحرام ويحرم عليهم الحلال وهو عالم أنه بذلك يخالف ويناقض شريعة العزيز الحكيم ، فإذا كان من أطاعة في ذلك عالمًا قيل بكفره ، فكيف به هو ؟ لاشك أنه كافر ولا أطيل في هذا القسم لأنه واضح - إن شاء الله تعالى - .(1/131)
... القسم الثاني : الحاكم بهذا القانون ، أي الذي أطاع الواضع الأول وبدأ يحكم بهذا القانون فلا تراه يحكم بشرع الله بتاتًا وإنما النظام المعتمد في دولته هو هذا القانون وزاد على ذلك أنه ألزم أفراد دولته بالتحاكم لهذا القانون وجعله دستورًا لا يجوز تجاوزه ولا التقصير في تطبيقه ، بل وجند جنوده وزبانيته لمحاربة كل من يعارض تطبيقه حتى يحملهم عليه قسرًا وقهرًا بقوة الحديد والنار ، فهذا كافر أيضًا الكفر الأكبر المخرج عن الملة بالكلية فإنه يدخل دخولاً أوليًا في قوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } وهو بذلك يكون مؤمنًا بحكم الطاغوت الذي سنَّ هذا القانون وقد قال تعالى : { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدًا } ، وقد ذكر الله تعالى أن من جملة ما كفر به النصارى أنهم اتخذوا رهبانهم أربابًا من دون الله تعالى ، وقد فسرها الحديث بأن سبب ذلك هو طاعتهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال ، وهذا الحاكم نسف التحاكم إلى الشريعة مطلقًا ، أفيتوقف عالم في كفره ؟ لا أظن ذلك ، إلا أن بعض أهل العلم قال : لابد لكفره من أن يكون مستحلاً لذلك الاستحلال القلبي .(1/132)
ولكن هذا القول ضعيف جدًا ، بل الحق أنه كافر ولو لم يستحل ، بل فعله هذا دليل على استحلاله القلبي إذ يمتنع في العادة أن يكون مقرًا بوجوب التحاكم إلى الشريعة في قلبه ويفعل ذلك من عدم الحكم بها مطلقًا ومن إلزام الناس بالتحاكم إلى القانون ومحاربة من يخالفه في ذلك وحث المحاكم في بلده على تطبيق هذا القانون في حكمهم على الناس ، ونقول بعد ذلك : لابد من التأكد من أنه يستحل ذلك ؟ هذا ما لا يكون أبدًا بل فاعل ذلك كافر الكفر الأكبر من غير نظرٍ هل هو مستحل أو غير مستحل ، بل أظن - والله أعلم - أن اشتراط الاستحلال هنا فرع من فروع مذهب المرجئة الذين يجعلون الإيمان هو إقرار القلب وتصديقه فقط ، فاحذر من ذلك ، لكن كما ذكرت لك أن التفكير هنا هو التكفير العام ، وقد علمت أن القاعدة تقول : إن التكفير العام لا يستلزم تكفير الأفراد إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع ، والله أعلم .
... القسم الثالث : من يحكم بغير ما أنزل الله مرة أو مرتين أو ثلاثٍ ، لكن مع اعتقاده أنه عاصٍ بذلك وإنما حمله على ذلك الهوى وشهوة النفس وإلا فهو عالم بأنه في هذه القضية حاكم بغير ما أنزل الله ، فهذا لا يكفر وإنما له حكم أصحاب الكبائر ، فالأصل فيه هو أنه يحكم بما أنزل الله ، فهذا لا يقتضي خروجه من الدين بالكلية لكنه نوع فسق يوجب له أن يكون من أصحاب الكبائر ، لكن بشرط أن لا يكون ذلك ديدنًا له وطبيعة فيه وإلا لَلَحِقَ بالقسم الثاني ، وعلى هذه الحالة يحمل قول ابن عباس : ليس هو الكفر الذين تذهبون إليه ولكنه كفر دون كفر ، والله أعلم .
... فهذه الأقسام الثلاثة هي في الحاكمين بغير ما أنزل الله ، وأعيدها مختصرة :
... الأول : واضع القانون الأول وحكمنا عليه بأنه كافر الكفر الأكبر .
... الثاني : الحاكم بذلك القانون في كل قضاياه وحكمنا عليه بأنه كافر الكفر الأكبر .(1/133)
... الثالث : الحاكم بذلك في قضية معينة مع علمه بأنه عاصٍ وأنه مخالف وليس ذلك ديدنًا له فهذا كفر دون كفر ، أي أنه من أصحاب الكبائر ، فهو تحت المشيئة إن مات من غير توبة ، والله أعلم .
... وأما حال المتحاكمين إلى من يحكم بغير ما أنزل الله فهم قسمان :
... القسم الأول : من يتحاكم إليهم وهو راضٍ بذلك ومحبًا له ومقدمًا له على حكم الشريعة فهذا كافر الكفر الأكبر ؛ لأنه بذلك يعتقد بأن هدي غير الشارع أكمل من هديه وهذا ناقض من نواقض الإسلام ، ولأنه يعتقد أن في وسعه الخروج عن الشريعة في هذا التحاكم وهذا ناقض أيضًا ، ولأنه راضٍ بحكم الطاغوت محب له ومقدم له على حكم الشريعة ، وهذا هو الكفر بعينه ، وقد قال تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا } ، بل هذا نوع من النفاق الاعتقادي كما قال تعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدًا } ، وقال تعالى : { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون } .
... وكما قال العلماء : إنه لا تجتمع إرادة التحاكم إلى الطاغوت مع الإيمان بالله ، بل هذا ينفي هذا ، فالحمد لله على السلامة والعافية من ذلك ، فنحن في بلاد الحرمين رفع الله منارها وحفظ قادتها وعلماءها ليس عندنا شيء من ذلك ولله الحمد ؛ لأن دولتنا دولة إسلامية سنية سلفية وعلماؤها وأمراؤها هم قادة أهل السنة وعز الإسلام ، نسأل الله أن يثبتنا على ذلك وأن يخرس أفواه أهل الحسد الذين يحسدوننا على ديننا وأمننا ، والله أعلم .(1/134)
... القسم الثاني : أن يكون المتحاكم إلى ذلك لا يريد أصلاً التحاكم إليه ولا يرضاه من قلبه وإنما أجبر على ذلك إجبارًا لاستخراج حقه حتى لا يضيع ولا سبيل له يتوصل به إلى حقه إلا التحاكم إلى ذلك ، فتحاكم إليه اضطرارًا لا اختيارًا ، وإكراهًا لا رضًا ، فهذا لا نتصور أحدًا يحكم بكفره ولا بفسقه ، وإنما البحث فيه في الجواز من عدمه ، أي هل يجوز له ذلك أم لا ؟ فيه خلاف والأقرب - والله أعلم - أنه إن علم أن حقه لن يصل إليه إلا برفع الأمر إلى القاضي القانوني فله ذلك ؛ لأن الشريعة أصلاً تحكم بأن هذا حقه ويجب رده إليه وتسليمه له ولكن لا طريق إلى ذلك إلا بالمحاكم القانونية ، فرفع الأمر إليهم لعلمه أن حكمهم فهيا يوافق حكم الشريعة ، وهذا جائز ، وإلا نقول ذلك فإنه سيضيع كثير من الحقوق ، ولا أتكلم عن بلادنا - حماها الله من كل سوء - وإنما أتكلم عن البلاد الأخرى التي لا أثر لحكم الشريعة فيها ، وإنما لا يعرف فيها إلا التحاكم إلى القوانين ، والمقصود أن هذا المتحاكم إلى هذه القوانين بلا رضى ولا إرادة قلبية ولا محبة وإنما الذي دعاه إلى ذلك هو أنه لا يستطيع استخراج حقه إلا بذلك لا شيء عليه ، بل ولا إثم ولا عقوبة ، أسأله جل وعلا أن يهدي حكام المسلمين إلى العودة إلى منهج الشريعة في التحاكم ، والله أعلم .
... فهذا بالنسبة للمتحاكمين لمن يحكم بغير ما أنزل الله ، وأقول أيضًا في القسم الثاني : لو أنه ترك المطالبة بذلك الحق ولم يأت لهذه المحاكم لكان أحسن وأفضل وفيه الخروج من الخلاف والتورع عن الشبهات ، والله أعلم .
... وأما حال الدول بالنسبة للحكم بغير ما أنزل الله ، فهي قسمان أيضًا :
... القسم الأول : إن كان الحكم بغير ما أنزل الله في هذه الدول فاشيًا ظاهرًا ومقرًا وتبنى له الربط والمدارس وتقرر فيه المناهج ويحمل عليه الأفراد حملاً ولا يطبق فيها إلا الحكم بغير ما أنزل الله فهذه دار كفر ولاشك ، أي أن الدولة دولة كفر .(1/135)
... القسم الثاني : إن كان الحكم بغير ما أنزل الله في هذه الدولة قليلاً خفيًا أو قليلاً ظاهرًا ولكنه ينكر ولا يقر وإنما الغالب عليها هو الحكم بما أنزل الله تعالى فهذه الدولة دولة إسلام والأرض أرض إسلام ، ووجود بعض الشركيات التي تنكر في بعض البلاد الإسلامية لا يخرجها عن كونها إسلامية ، وبهذا التفصيل يتضح المقام ويتحدد الكلام وبه تجتمع كلمة أهل العلم ولا تجد مضادة بين قول عالم وعالم ولا تشتبه المسألة ، والله أعلم .
... وقبل ختام المسألة أحب أن أرسمها لك رسمًا بيانيًا لتجتمع أطرافها في ذهنك وهي هكذا:
الحكم والتحاكم بغير ما أنزل الله
(40) فائدة
... اعلم - رحمك الله تعالى - أن خلاصة مذهب أهل السنة في قول (لو) هو أنه لا يجوز استعمالها في حالات ، ويجوز في حالات .
... فأما الحالات التي لا يجوز استعمالها فيها فهي كما يلي :(1/136)
... الحالة الأولى : أن يقولها متسخطًا على ما نزل من القدر فهذا محرم لا يجوز وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل )) ، ولأنه بهذا القول يفتح عمل الشيطان كما في قوله : (( فإن ( لو ) تفتح عمل الشيطان )) ولأنه بهذا القول لن يستفيد شيئًا ، بل قولها مما يقلب عليه المواجع ويضعف الديانة ويزيد في الألم ، ومثال ذلك قول الله تعالى حاكيًا عن الكفار أنهم قالوا لمن مات في الجهاد : { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } ، وكم أصابه حادث في طريق فقال : لو أني لم أدخل مع لما أصابني ذلك الحادث ، أو يقول بعد خسارة تجارته : لو أني لم أدخل في هذه التجارة لما خسرت ونحو ذلك ، كل ذلك لا يجوز ؛ لأنه مشعر بعدم الصبر على ما نزل من القدر وهو نوع من الجزع المنهي عنه عند حلول المصيبة ، بل الواجب الصبر الذي هو حبس اللسان عن التسخط وحبس الجوارح عمَّا لا يليق من الأعمال والمخرج من ذلك أن يقول : قدر الله وما شاء فعل ، فهذا هو الحالة الأولى .
... وأما الحالة الثانية : فهي أن يقولها متطلعًا بقولها فعل المعصية ، كمن يرى أصحاب الأموال وهم يعيثون في أموالهم بالفساد من سفرٍ وتبذيرٍ في أمور لا ترضي الله تعالى فيقول ذلك الغبي : لو أن عندي مثل ما لهم لفعلت فيه مثل الذي فعلوا ، فهو بهذا القول وهذه الأمنية مشارك لهم في الوزر كما في الحديث الآتي - إن شاء الله تعالى - .
... فهاتان الحالتان لا يجوز قول ( لو ) فيهما .(1/137)
... وأما حالة جواز قولها فهي أن يقولها متطلعًا لدرك أمرٍ قد فات من أمور الخير ، وذلك كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه لما أمرهم بالحل بعد الطواف والسعي وأن يجعلوها عمرة : (( لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة )) ، وكما في حديث الأربعة وفيه : (( رجل آتاه مالاً وعلمًا فهو ينفقه في وجوه الخير ورجل آتاه الله علمًا ولم يؤته مالاً فيقول : لو أن عندي مثل مال فلان لفعلت فيه مثل الذي فعل ، فهما في الأجر سواء )) أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - ، فهذا هو الخلاصة .
... والأدلة المذكورة في هذا الباب لا تخرج عن هذه الأقسام الثلاثة وفي ذلك قلت في النونية :
إياك ( لو ) إن كان فيه تسخط ... أو كان فيه تطلع العصيان
فاللو تفتح كل بابٍ للأسى ... وتزيد في عمل الخبيث الواني
قل قدر الله العظيم وكل ما ... شاء الإله يكون دون تواني
... والله أعلى وأعلم .
(41) فائدة
... أقول : هذه جملة قواعد مفيدة جدًا في باب الرد على المخالفين ودحض شبهاتهم ، وهي كما يلي :
القاعدة الأولى : إن كنت ناقلاً فالصحة ، وإن كنت مدعيًا فالدليل :(1/138)
... كما قال تعالى : { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } فكل دعوى لابد من دليل يصدقها ، وفي الحديث : (( لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر )) ، وقال تعالى : { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات ائتوني بكتابٍ من قبل هذا أو أثارة من علمٍ إن كنتم صادقين } ، وقال : { أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين } ، فالدعوى التي لم يقم عليها برهان ليست بشيء ، وكذلك من نقل شيئًا محتجًا به فإنه يلزمه أن يثبت صحته ، وإذا أحكمت ذلك فقد حصلت خيرًا كثيرًا ؛ لأن أهل البدع كثيرًا ما تجدهم يستدلون على بدعهم بنقل ضعيف أو موضوع أو دعاوى فجة لا برهان عليها ولا حجة تعضدها ، فالشيعة الرافضة يكثر عندهم الاستدلال بالنقول الموضوعة والضعيفة ويشاركهم في هذا الطائفة المتصوفة ، وأما الفلاسفة فإنهم أفسد الناس عقولاً لأن دعاواهم وقواعدهم لا أساس لها من الصحة ، بل هي تخالف المنقول وتناقض المعقول ، فمن نقل شيئًا فإنه مطالب بالصحة ومن ادعى شيئًا فإنه مطالب بالبرهان ، والله أعلم .
القاعدة الثانية : موافقة النص لفظًا ومعنى خير من موافقته معنى فقط :
... أقول : احرص - بارك الله فيك - في حال المناظرة أو التأليف ونحو ذلك أن توافق ألفاظ النصوص ما استطعت إلى ذلك سبيلاً ، وذلك لأن متابعة الكتاب والسنة لفظًا ومعنى أكمل وأتم من متابعتها معنى فقط ، ولا أدل على ذلك من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنهما - لما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - الذكر عند النوم فلما أعاده البراء قال: ( وبرسولك الذي أرسلت ) فقال له : (( لا ونبيك الذي أرسلت )) تحقيقًا لكمال المتابعة وتمام الموافقة .(1/139)
... ولذلك استحب أهل السنة أن يعبر في الصفات بقول : نثبت لله الصفات من غير تمثيل ، فهذا أفضل من قول : بلا تشبيه ؛ وذلك لأن التمثيل هو الوارد في القرآن في قوله تعالى : { ليس كمثل شيء } ، فأسعد الناس بالحق هو من وافق الكتاب والسنة لفظًا ومعنى ، ولذلك شدد بعض المحدثين ومنع نقل الحديث بالمعنى ، وممن أجازه منهم اشترط أن يكون الراوي عالمًا بما يحيل المعنى من اللفظ ، ولأن لفظ الشارع لا يأتيه الخلل ولا الاضطراب ولا يدخله التناقض البتة ، وأما ألفاظنا فهي تحتمل ذلك ، والله أعلم .
القاعدة الثالثة : الحق لا يعرف بالرجال ولكن يعرف الرجال بالحق :
... وهذه قاعدة عظيمة ، فلا تقل : هذا حق لأن فلانًا قاله ، بل قل : لأن فلانًا على الحق الموافق للكتاب والسنة ، فما قاله حق ، فاعرف الرجال بما يحملونه ويعتقدونه من الحق ولا تعكس الأمر ، وما ظهر التعصب للأشخاص إلا لمخالفة هذه القاعدة ، فمن الناس من يعتمد شيخًا أو عالمًا فيتلقف منه كل أقواله معتقدًا أنها الحق الذي لا يجوز تعديه وتحرم مخالفته ، فالحق ما وافق الدليل من غير التفاتٍ إلى كثيرة المقبلين أو قلة المعارضين ، ولو لم يكن على موافقة الدليل إلا أنت وحدك فأنت على الحق ، فلا تغتر بكثرة القائلين ولا بكثرة النافرين عن الحق فالحق لا يعرف بالكثرة ولا يعرف بالأعيان ولا بالمذاهب المختلفة ، وإنما الحق ما وافق الكتاب والسنة ، وهذا يفيدك أن كل الأقوال فهي تابعة لقول الشريعة لا تتقدم عليها أبدًا ، فما وافق الشرع من الأقوال فهو الحق وإن قال به الأقل ، وما خالفه فهو الباطل وإن كان هو قول الأكثر ، فانتبه لهذا ويزداد وضوحًا .
بالقاعدة الرابعة : أقوال العلماء يستدل لها لا يستدل بها :(1/140)
... نعم هذا هو المنهج السليم الذي لا ينبغي تعديه ، فإن الأدلة هي في الكتاب والسنة وما تفرع عنهما من الإجماع والقياس ، وأما أقوال أهل العلم فإنها كالدعاوى المفتقرة إلى أن يستدل لها ، فاحذر من أن تجعلها دليلاً مستقلاً بذاته ، وقد عانيت من ذلك كثيرًا ، فإذا قال القائل قولاً خالف به بعض كبار أهل العلم رماه الناس عن قوسٍ واحدة وكأنه خالف الإسلام أو خالف دليلاً صحيحًا صريحًا فيوصف بالخروج عن الجماعة وبشق عصا الطاعة فيا ويله وويل أمه من تبعات هذه المخالفة ، فأقفل في بعض البلاد باب الاجتهاد ونسفت معالمه وحورب رجاله ، وما ذلك إلا للتعصب المميت لا كثر الله أهله وعافانا الله وإياك من كل بلاءٍ وفتنة .
... ولذلك فإنك تجد العلماء الربانيين يحرصون كل الحرص على ذكر الدليل بعد ذكر الأحكام مراعاة لهذه القاعدة واعتقادًا منهم أن أقوالهم إنما يستدل لها لا يستدل بها ، فكن على وفق طريقهم فإنه النجاة والسلامة والخير كله ، والله تعالى أعلى وأعلم .
القاعدة الخامسة : يجب الوقوف حيث وقف النص :(1/141)
... وخصوصًا في مسائل الاعتقاد ، ذلك لأن هذه الشريعة كاملة كما قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا } فكل مسألة من مسائل الشريعة ولاسيما مسائل الاعتقاد لا يحكم فيها نفيًا ولا إثباتًا إلا بدليل ، فما ورد الدليل بإثباته أثبتناه ، وما ورد بنفيه نفيناه ، وما لم يرد بإثباته ولا نفيه فلا حق لأحد أن يثبته ولا أن ينفيه ، بل نتوقف فيه ، ولا يعني هذا أن المسألة خلية عن الدليل ، بل عليها دليل ولكننا لا نعلمه ، فالواجب علينا الوقوف إما مطلقًا أو لحين وجدان الدليل ، قال تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً } ، وقال تعالى : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } ، وقال تعالى : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب . إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون } . وفي الحديث المشهور : (( وسكت عن أشياء من غير نسيانٍ فلا تبحثوا عنها )) وصححه الحافظ ابن كثير في تفسيره - عليه وعلى سائر علماء الإسلام سحائب الرحمن والرضوان والغفران ورفع نزلهم في أعالي الجنان وألحقنا بهم ولا حرمنا بركة الانتفاع بعلمهم - .
... وبناءً على ذلك فاسكت عن سؤال الكيف في الصفات ؛ لأن الدليل سكت عنه ، واسكت عن الألفاظ المجملة التي يطلقها بعض المبتدعة كالجسم والجهة والخير والحيِّز والمكان ونحوها ، فلا تنف ولا تثبت ، واطلب فيها الاستفصال ، ولا تحرم ما لا دليل عليه ؛ لأن الشارع سكت عنه فهو عفو ، ولا تحكم ببطلان عبادةٍ بما لم تأت الأدلة بأنه مبطل لها ، ولا توجب على عباد الله ما لم يوجبه عليهم ، واسكت عن الأسئلة والتنطعات في باب القدر ، بل قف حيث وقف الدليل ، فإن السلامة لا يعدلها شيء، والله يحفظنا وإياك وهو أعلى وأعلم.
القاعدة السادسة : الحق يقبل ممن جاء به والباطل يرد ممن جاء به :(1/142)
... وقولي : ( ممن جاء به ) في الجملتين أي بغض النظر عن قائله أحر هو أو عبد ، أمسلم هو أو كافر ، أصغير هو أو كبير ، أإنسٌ هو أو جن ، بل الحق مقبول لذاته والباطل يرد لذاته .
... وهذه القاعدة بها تعرف مقدار الإنصاف من نفسك ، فليس من السهل على النفس أن ترجع عن قولها ولو استبان لها خطؤه إلا من وفقه الله تعالى وهم القلة ، وليس سهلاً قبول الحق من أي أحد ، فادع الله دائمًا أن يلهمك رشدك وأن يقيك شر نفسك ، والله أعلى وأعلم .
القاعدة السابعة : لا تجادل معاندًا :
... ذلك لأن السلف - رحمهم الله تعالى - قد شددوا في باب المناظرة والمجادلة ، فضيقوه جدًا ، والمأثور عنهم من الأقوال في ذلك الشيء الكثير ، ولذلك فإنه مع كثرتهم إلا أن الذي نقل عنهم من المناظرات قليل جدًا ؛ وذلك لأن المجادلة وسيلة للوصول للحق والاقتناع به ، فحيث تبين الحق وجب التوقف عنده واعتماده مع أي واحدٍ منكما ، لكن المعاند والمكابر لا يريد حقًا ولا يبحث عن الصراط المستقيم وإنما يريد إثارة البلابل وزعزة الثقة بما يعتقده خصمه وبث الشبه ليكدر به صفاء الحق ، ومثل هذا لا يحل لأحدٍ أن يدخل معه في نقاشٍ ، بل يترك ويفوض أمره إلى الله تعالى ؛ لأن الأوقات ثمينة فلا تضيع مع مثل هذا والحق غالٍ ومكانته عالية فلا يمكن مثل هذا الجاهل أن يبتذله بقولٍ أو كلمة ، واحذر من أن تكون أنت سببًا في ذلك ، وذل ك كمناظرة السوفسطائية المنكرين للمحسوسات والمعقولات والذين يشككون فيها ، فإياك إياك من أن تدخل معهم في أي جدال ، وتذكر دائمًا قوله تعالى : { ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون } وقوله تعالى : { يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون } . وقوله - عليه الصلاة والسلام - : (( ما ضل قوم بعد هدى إلا أتوا الجدل )) ، والله أعلم .
القاعدة الثامنة : أقوالنا تحتمل الرد وأقوال غيرنا تحتمل القبول :(1/143)
... أقول : وهذا في باب المجادلة في الأمر الذي يسوغ فيه الاجتهاد وهذا مسلك العدل والإنصاف ، فلا تجعل قولك نصًا في المسألة يجب على غيرك قبوله ، بل اجعله راجحًا ، محتمل الرد ولا تجعل قول خصمك ضلالاً وخطأً من كل وجه ، بل اجعله محتمل القبول ، فإنك إذا فعلت ذلك ووطنت نفسك عليه فسيكون الرجوع عن قولك إن كان مخالفًا للدليل سهلاً يسيرًا جدًا ، وسيكون قبول قول مناظرك عند التبين أنه الحق سيكون قبوله عليك سهلاً ، وهذا الأمر عسير إلا أنه يسير على من يسره عليه ، وعليك بالإكثار من دعاء الله تعالى أن يقتل فيك شهوة النفس ، والله أعلم .
القاعدة التاسعة : الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل :
... وذلك لأن الحق أحق أن يتبع ، والحق ضالة المؤمن العاقل فأنَّى وجده فهو أحق به ، فلا يستهوينك الشيطان بتسويله ووسوسته فترد الحق غضبًا لنفسك وكبرًا وعلوًا عن قبوله فتحشر مع المتكبرين الذي يريدون علوًا في الأرض وفسادًا ، ولا عاقبة لهم إلا الخسارة في الدارين ، بل عظِّم الحق في قلبك واجعله المعتمد عندك وإن جاء به خصمك ، أعاننا الله وإياك على فعل ذلك تطبيقًا كما أعاننا على قوله وتسطيره نظريًا ، والله أعلم .
القاعدة العاشرة : لا يحكم على الغير بلازم قوله إلا بعد عرضه وقبوله :
... نعم وهذا من العدل والإنصاف الذي تميز به أهل السنة والجماعة ، فإن الناس يغفلون عن لوازم قولهم فقد يقول الواحد منهم قولاً له لوازم هو أصلاً غافل عنها ، فكان من العدل أن لا نحكم بلازم قوله إلا بعد أن نعرضه عليه ، فإذا عرضناه عليه فلا يخلو إما أن يلتزمه وإما لا ، فإن التزمه فيحكم عليه بمقتضاه وإن رده وتبرأ منه فلا يحكم عليه به ، وهذا في الحقيقة نوع من التثبت والرفق في الحكم على الآخرين كما ذكرناه في ( قواعد في الحكم على الآخرين ) ، والله أعلم .
القاعدة الحادية عشرة : كل تأويل يرجع على أصل النص أو ظاهره المتبادر بالبطلان فهو تحريف باطل :(1/144)
... وذلك كتأويل الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وأهل الحلول والاتحاد والرافضة ، فكل ما جاء به هؤلاء من التأويلات المخالفة لظواهر النصوص وصادمو به مذهب أهل السنة كله تحريف باطل مردود عليهم لا حظ له من القبول بوجهٍ من الوجوه ؛ وذلك لأن هذه التأويلات تعود على أصل النص أو ظاهره وبالإبطال فهي الباطلة المردودة ، وأما النصوص الشرعية فإنها كاملة من كل وجه لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ؛ لأنها من عند حكيم حميد ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، والله أعلم .
القاعدة الثانية عشرة : عدم العلم بالدليل ليس علمًا بعدمه في نفس الأمر :
... أقول : وذلك لأن كثيرًا من المتجادلين قد يجعل عمدته في نفي وجود أمرٍ ما عدم علمه بالدليل على وجوده ، فتأتي هذه القاعدة رادة على هذا الصنف من الناس قائلة لهم : إن عدم علمكم هذا ليس دليلاً على عدم الدليل المعين ، وعدم وجدانكم للدليل ليس نفيًا للوجود ، وهذا المسلك - أعني نفي الدليل لعدم العلم به - مسلك الهالكين كما قال تعالى : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } ومهما حصل الإنسان من العلم فلابد أن يفوته أشياء ، قال تعالى : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } وهذا ما وقع فيه الأشاعرة لما نفوا بقية الصفات بحجة أن عقولهم لا تعلمها ، وكثير من الطوائف تنفي بعض المغيبات كالملائكة والقدر والجن وأحوال البرزخ والمعاد ، لعدم قيام دليل الحس والمشاهدة أو دليل العقل على إثباتها ، وهذا كله ضلال مبين واعوجاج عن الصراط المستقيم ، فتأتي هذه القاعدة ردًا على هذه الطوائف ، وهذا مما يبين لنا أهمية التربية على التأصيل والتقعيد ، والله أعلم .
... فهذا طرف من القواعد في هذا الباب ، عسى الله تعالى أن ينفعني وإياك بها وأن يوفقنا وإخواننا للثبات على طريق أهل السنة إلى الممات وهو أعلى وأعلم .
(42) فائدة(1/145)
... إن قلت : كيف دل القرآن على بطلان عبادة ما سوى الله تعالى ؟
... فأقول : دلالات القرآن على ذلك كثيرة جدًا ، إما بالمطابقة أو التضمين أو اللزوم ، وبيان ذلك في الأوجه التالية :
... الأول : التصريح ببطلانها ، كقوله تعالى : { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل } .
... الثاني : النهي الصريح عن عبادة ما سوى الله ، قال تعالى : { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذًا من الظالمين } ، وقوله تعالى : { ولا تجعل مع الله إلهًا فتقعد مذمومًا مخذولاً } في آيات كثيرة .
... الثالث : سلب خصائص الإله عنها وهذا كثير في القرآن ، كقوله تعالى : { واتخذوا من دون الله آلهة لا يخلقون شيئًا وهم يُخلقون ولا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا ولا يملكون موتًا ولا حياة ولا نشورًا } ، وكقوله تعالى: { يا أبتِ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئًا } ، وكقوله تعالى : { أيشركون ما لا يخلق شيئًا وهم يُخلقون ولا يستطيعون لهم نصرًا ولا أنفسهم ينصرون } ، والآيات في هذا المعنى كثيرة .
... الرابع : الإخبار الصريح بأن هذه المعبودات لا تملك شيئًا وأنها لا تستجيب لداعيها ولا تسمع دعاءه ، وأنها تتبرأ من عبادته يوم القيامة ، قال تعالى: { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } ، وقال تعالى : { ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير } ، وقال تعالى : { ومن أضل ممن يدعو من دونه الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرين } ، وقال تعالى : { إن الذين يدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين } .(1/146)
... الخامس : الإخبار بأنها مفتقرة في وجودها وحفظها إليهم ، قال تعالى : { أتعبدون ما تنحتون } ، وقال تعالى : { واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون } أي أن عابدهم اتخذها آلهة لتنصره ، وهي في حقيقتها لا تستطيع ، بل عابدها جندي لها يحفظها ممن أرادها بمكروه فكيف يرجو منها أن تنصره وهي مفتقرة أصلاً لحفظه ونصره ، فإن فاقد الشيء لا يعطيه .
... السادس : نفي هذه الآلهة بـ (لا) النافية للجنس في قوله تعالى في آيات كثيرة : { لا إله إلا الله } فإن قوله : ( لا إله ) نكرة في سياق النفي ، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم ، وهذا نفي صريح لكل ما عبد من دون الله تعالى فلا يصلح أن يكون إلهًا .
... السابع : الاستدلال عليهم بما هو متقرر في العقول والحس ولا ينكره إلا المكابر والظلوم الجهول ، كما في قوله تعالى : { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } أي أيرضى أحدكم أن يكون عبده شريكًا له في ماله فهو وهو فيه على السواء ينفق منه كما ينفق ويتصرف فيه كما يتصرف فيه ، فإن أحدكم يأنف من ذلك ولا يرضاه ، أي أنه لا يرضى أن يكون عبده شريكًا في حقه ، فكيف تجعلون لله أندادًا من خلقه وتصرفون لهم ما هو من خالص حقه ؟ كيف ترضون لله ما لا ترضونه لأنفسكم ؟ فأنتم لا ترضون أن يشارككم عبيدكم في أموالكم وما تملكونه وأنتم تجعلون له شركاء في عبادته التي هي حقه الصرف ، فإن هذا أمر لا يرضاه الله أيضًا كما قال تعالى : { ولا يرضى لعباده الكفر } فاجتمع في هذا الدليل أنه عقلي حسي .(1/147)
... ومثال آخر في قوله تعالى : { ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلمًا لرجل هل يستويان مثلاً } أي هذا عبد له أسياد كثر كلهم يأمر بأمره والعبد يدور بينهم قد صرفت همته لإرضائهم ، فتراه مشوش الفكر لا يدري من يرضي ولا ممن يتلقى الأوامر ، وهذا العبد له سيد واحد فقط قد عرفه فهو قائم على خدمته مرتاح النفس هادئ الخاطر غير منزعج ، وكذلك المشرك فإنه يعبد آلهة كثيرة فقد كان حول الكعبة قبل فتحها ستون وثلاثمائة صنم ، فالواحد منهم مشوش الفكر لا يدري من هو إلهه منهم ، وأما المؤمن الموحد فإنه لا يعبد إلا إلهًا واحدًا قد صرف همته في عبادته ونيل مرضاته ، فهل يستويان مثلاً ، وهذا إقناع عقلي لمن أراد الله هدايته ، والله أعلم .
... الثامن : الإخبار بضعف هذه المعبودات كما قال تعالى : { يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب } ، فكيف تترك عبادة القوي القادر من كل وجه ، ويعبد الضعيف العاجز من كل وجه .
... التاسع : الاستدلال على أحقيته بالعبادة بتوحيد الربوبية أي بأفعاله من الخلق والرزق والإحياء والإماتة ونحو ذلك ، وهذا الأمر آياته لا تكاد تحصى ، بل هو غالب القرآن .
... العاشر : الإخبار بأن هذه المعبودات معهم في النار ، قال تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } ، فيدخل في ذلك كل ما عبد من الحجر والشجر ، ومن عُبد وهو راضٍ بذلك ، وأما من عبد وهو لا يرضى أصلاً هذه العبادة فإنه مستثنى بقوله تعالى : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } .(1/148)
... الحادي عشر : الإخبار في آيات كثيرة بأنها لا تضر ولا تنفع كما قال تعالى : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } ، فكيف تترك عبادة من بيده النفع والضر ويعبد ما لا ينفع ولا يضر ، وقال تعالى : { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو } ، وقال تعالى : { قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمةٍ هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } ، وقال تعالى : { فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادهم غير تخسير } .
... الثاني عشر : مناظرة إبراهيم - عليه السلام - لقومه ، فإنها من البراهين الواضحة والحجج الدامغة المثبتة لعدم صلاحية وبطلان عبادة ما سوى الله تعالى ، كما هو مذكور في مناظرته في سورة البقرة مع الذي آتاه الله الملك حين قال له : { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأْت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين } ، فأثبت بذلك عجزه والعاجز لا يصلح أن يكون إلهًا ؛ لأن الإله هو القادر على كل شيء وذلك هو الله وحده لا شرك له ، وكمناظرته مع قومه في عدم صلاحية الشمس والقمر والنجوم لأن تكون آلهة كما في سورة الأنعام ، ولذلك قال الله بعدها : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجاتٍ من نشاء إن ربك عليم حكيم } ، فعليك بقراءتها والاطلاع على تفسيرها فإنها برد اليقين .(1/149)
... الثالث عشر : أنها ليست بشركاء له جل وعلا وإنما هو ظن منهم وتخرص وكذب وأسماء اخترعوها هم وآباؤهم كما قال تعالى : { ولله ما في السموات وما في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } ، وقال تعالى : { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } ، فعبادة المشركين لهذه الأشياء مبناها على الهوى والظن الكاذب والتخرص .
... الرابع عشر : إبطال عبادتها ورجاء نفعها بقياس الأولى ، فالله تعالى أبطل ما يعتقده بعض المشركين في الملائكة وأخبر عنهم بقوله تعالى : { بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } ، وقال تعالى : { وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئًا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } ، وقال تعالى : { يوم يقوم الروح والملائكة صفًا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابًا } .
... وأبطل أيضًا ما يعتقده بعض الطوائف من صفات الإلهية في النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال آمرًا له أن يقول : { قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون } ، وقال تعالى عنه : { قل إني لا أملك لكم ضرًا ولا رشدًا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدًا } الآية بعدها .
... فإذا كانت عبادة الملائكة على عظم خلقها وعظيم جاهها عند الله تعالى باطلة ، وكذلك عبادة الأنباء على علو مرتبتهم وكبير فضلهم باطلة ، فكيف بعبادة ما سواها من الأشجار والأحجار والقبور والأموات وبعض الصالحين فإنها لا شك باطلة من باب أولى .
... فهذا استدلال على بطلان عبادة ما سوى الله تعالى بطريق الأولى ، والله أعلم .(1/150)
... فهذه بعض الأوجه على سبيل التمثيل فقط لا على وجه الحصر ، وإلا فالقرآن كله من أوله إلى آخره قد قرر هذه القضية على أكمل الوجوه بمختلف الأدلة ، والله أعلم .
(42) فائدة
... أقول : لقد أحدث كثير من الناس في الدعاء أشياء لا أساس لها في شريعتنا وليست مما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي داخلة في قوله - عليه الصلاة والسلام - : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) وفي رواية : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) ، وفي حديث : (( وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة )) .
... فمن ذلك : ما يسميه أهل العلم بالسماع الشيطاني وهو نوع من الذكر والدعاء يخرجه أصحابه على نغماتٍ معلومة مع ضرب الدفوف في كثير الأحيان وقد يصاحبه رقص واختلاط بين الرجال والنساء ، وهذا لاشك أنه محرم وبدعة وإن أطبقت على فعله كثير من البلاد .
... ومن ذلك : التمايل عند الذكر والدعاء ، فإن هذه الطائفة تتكلف عند الذكر والدعاء حركات يزعمون أنها من غياب القلب في حقيقة الذكر ومن الوصول إلى مراتب عالية في الاتصال بين الفاني والباقي من تحرك واهتزاز وضرب بالأرجل وللصدور وبعضهم يصعق ويصفق ويرقص ويحدث لبعضهم غشيان وبعضهم يصرخ بأعلى صوته ، ولاشك أن ذلك من دين الكفار عباد العجل ، وأما شريعة الإسلام فإنها بريئة من ذلك ، فهذه الأحوال أحوال شيطانية لا رحمانية فهي مردودة على صاحبها ؛ لأن المتقرر في الشريعة أن كل إحداث في الدين فإنه رد .
... ومن ذلك : مسح الجسد باليدين بعد الدعاء ، فإنه لا أصل له ؛ لأن الأصل في العبادات التوقيف ولم يكن يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه ولم ينقل عن أحدٍ من السلف فهو بدعة .
... ومن ذلك : الترنم والتلحين في الذكر والدعاء ، وهو مشهور عند فرقة الرافضة والصوفية ومن سلك سبيلهم ، وهو بدعة إضافية كما قرره أهل العلم .(1/151)
... ومن ذلك : قصد المقابر أو قبور بعض الصالحين لدعاء الله عندها ، وهذا ليس ببدعة فقط ، بل هو شرك أصغر ؛ لأنه وسيلة إلى الشرك الأكبر الذي هو دعاء أصحاب القبور من دون الله تعالى .
... ومن ذلك : تخصيص بعض الأدعية بزمانٍ أو مكانٍ معين لم تأت به الأدلة هو بدعة أيضًا ، لأن الأصل في الذكر الإطلاق ، فمن قيده بزمانٍ أو مكانٍ معين فإنه مطالب بدليل إثبات ذلك .
... ومن ذلك : التوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا أمرٌ لا يجوز وكل حديث في التوسل بجاهه - صلى الله عليه وسلم - فهو موضوع .
... ومن ذلك : رفع اليدين في دعاء الخطيب على المنبر لغير الاستسقاء ، فإنه لم يرد فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يزيد على رفع أصبعه السبابة فقط ، ولذلك أنكر عمار بن رؤيبة على بعض خلفاء بين أمية لما رآه يرفع يديه بالدعاء وهو على المنبر .
... ومن ذلك : السجعات المتكلفة المصنوعة وتحريها ، فإنها صارفة للقلب عن مقصود الدعاء الذي هو جمعية القلب وخضوعه وتدبره لما يقول .
... ومن ذلك : بعض الألفاظ المحدثة البدعية الشركية التي أحدثها الزنادقة والصوفية من الاستغاثة بالأموات والاستنجاد بالأنبياء والأولياء، وهذا لا يتوقف مسلم في تحريمه وأنه شرك.
... ومن ذلك : سؤال الله تعالى بحق أحدٍ من المخلوقين كائنًا من كان ذلك المخلوق فإنه بدعة واعتداء ، إذ أن الله تعالى لا يجب على حق كما يجب للمخلوق على المخلوق ، ولأنه سؤال بأمر أجنبي لا دخل له في إجابة الدعاء .
... وجماع ذلك أن الدعاء عبادة فاحذر مما أحدثه فيه المحدثون ، وتمسَّك بجادة الحق ، واتبع ولا تبتدع ، وفقنا الله وإياك للهدى ودين الحق ، والله أعلم .
(43) فائدة
... اعلم - رحمك الله تعالى - أن هناك مسائل وبحوث مفيدة جدًا في عقيدتنا في أحوال القبور وأهلها ، وهي طويلة وفيها شيء من الخلاف ، ومن باب الفائدة أذكرها لك هاهنا مختصرة محررة عسى الله أن ينفعني وإياك بها ، وهي على شكل مسائل :(1/152)
المسألة الأولى : هل عذاب القبر دائم أم منقطع ؟
... أقول : منه ما هو دائم ومنه ما هو منقطع .
... فأما الدائم فعلى الكفار والمشركين والمنافقين نفاقًا اعتقاديًا ، فإن عذاب هؤلاء دائم أبدًا لا ينقطع .
... وأما عصاة الموحدين أي الذين ماتوا وهم مصرون على شيء من المعاصي فإن عذابهم منقطع وهو بمثابة الكفارة للذنوب والمعاصي التي ماتوا عليها ، والله أعلم .
المسألة الثانية : هل عذاب القبر أو نعيمه على الروح فقط أم البدن فقط أم كلاهما ؟
... أقول : فيه خلاف بين أهل القبلة ، وأهل السنة - رحمهم الله تعالى - يقولون : بل هو على الروح والبدن جميعًا ، فالروح تنعم أو تعذب أصلاً ويتنعم أو يعذب معها البدن تبعًا ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : هل عذاب القبر وسؤاله خاص بهذه الأمة أم هو عام لكل الأمم ؟(1/153)
... أقول : فيه خلاف ، والراجح منه أنه عام لكل الأمم ، فكل أمةٍ تُسأل عن متابعة نبيها الذي أمرت بالإيمان به ، وذلك لأن الأدلة في ذلك قد ورد كثير منها بصيغة العموم ، كقوله في حديث أنس في الصحيح : (( إن العبد إذا وضع في قبره )) فهذا مفرد دخلت عليه الألف واللام المفيدة للاستغراق ، وقد تقرر في الأصول أن الواجب هو البقاء على دلالة العام حتى يرد المخصص ، وما ورد في بعض الأحاديث من ذكر على هذه الأمة فلا يصلح أن يكون مخصصًا ؛ لأن هذا ذكر للعام ببعض أفراده ، وذكر العام ببعض أفراده لا يكون تخصيصًا ، بل وفي الحديث : (( إن أبي وأباك في النار )) وأبوه - صلى الله عليه وسلم - مات قبل البعثة فليس هو من أمته ، بل من أهل الفترة وفي صحيح مسلم من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنهما - أنهم كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حائطٍ لبني النجار وهو على بغلةٍ له إذ حادت به وكادت تلقيه فإذا أقبر ستة أو خمسة فقال: (( من يعرف أصحاب هذه الأقبر )) ؟ فقال رجل: ( أنا ) . قال: (( متى ماتوا )) ؟ قال: في ( الشرك ) الحديث . أي ماتوا في الجاهلية ، وهذا دليل على أنه عام على كل الأمم ، والله أعلم .
المسألة الرابعة : اعلم أن عذاب القبر أو نعيمه من أمور الآخرة :(1/154)
... فهو من الأمور الغيبية التي لا نستطيع إدراكها بحواسنا الضعيفة ، وأمور الغيب توقيفية على النص ولا يجوز إقحام العقل فيها ؛ لأن العقل لا مجال له فيما كان من أمور الغيب ، فالواجب الوقوف حيث وقف النص ، وقد أثبت النص لكل من مات أنه إما أن ينعم أو يعذب ، فهذا حاصل لكل من مات سواء قبر أو لم يقبر ، وسواء احترق وصفته الريح أو غرق وأكلته الأسماك ، أو صلب وبقي مصلوبًا إلى أن تفلت لحمه وأكل عظمه أو أكلته السباع أو غير ذلك ، فكل هؤلاء يُسألون وينعمون أو يعذبون ، أي أنه يصل إليهم ما كتب لهم من النعيم أو العذاب ؛ لأن الأمر مرده إلى القدرة الإلهية والله تعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، والله أعلم .
المسألة الخامسة : هل السؤال متحقق لمن هو غير مكلف كالمجنون ومن مات صغيرًا ؟
... أقول : فيه خلاف ، والأقرب - إن شاء الله تعالى - أن هؤلاء لا يُسألون في قبورهم ؛ لأنهم غير مكلفين ، فلم يتحقق فيهم معنى السؤال الذي هو الابتلاء والاختبار ، وهؤلاء ليسو من أهله في الدنيا فلا معنى لسؤالهم في القبر ، والله أعلم .
المسألة السادسة : اعلم أن أكبر أسباب عذاب القبر هو الكفر والشرك :
... ومن أسبابه أيضًا : النميمة ، ومن أسبابه : عدم التنزه من البول ، وجملة ذلك : أن كل معصية يموت العبد عليها مصرًا فإنها سبب لعذاب القبر إلا أن يتجاوز الله عنه ، والله أعلم .(1/155)