القواعدُ
التي يُحاسَبُ على أساسِها العبادُ
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الطبعة الأولى
2009 م-1430 هـ
((بهانج- دار المعمور ))
(( حقوق الطبع لكل مسلم ))(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن يوم الحساب والجزاء يوم عصيب ، يحاسب الله تعالى فيه المخلوقات على أعمالهم التي فعلوها بمحض إرادتهم في دار الدنيا، قال تعالى : {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (47) سورة الأنبياء
ويضع الله تعالى الميزان العادل للحساب في يوم القيامة، ولا يظلم هؤلاء ولا غيرهم شيئًا، وإن كان هذا العمل قدْرَ ذرة مِن خير أو شر اعتبرت في حساب صاحبها. وكفى بالله محصيًا أعمال عباده، ومجازيًا لهم عليها. (1)
وعَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ » . (2)
__________
(1) - التفسير الميسر - (5 / 466)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (7512 ) وصحيح مسلم- المكنز - ( 2395 )(1/1)
وهناك قواعد هامة يجب معرفتها حول الحساب والجزاء يوم القيامة ، وهي خمسة قواعد :
القاعدة الأولى-العدلُ التام الذي لا يشوبه ظلم
القاعدة الثانية-الأصل أن لا يؤخذ أحد بجريرة غيره
القاعدة الثالثة-إطلاع العباد على ما قدموه من أعمال
القاعدة الرابعة-مضاعفة الحسنات دون السيئات
القاعدة الخامسة-إقامة الشهود على الكفرة والمنافقين
ومعرفة هذه القواعد تجعل المرء مستعدا ليوم المعاد قبل مجيئه .
وهذه القواعد قد ذكرت في بعض مواقع النت بشكل مختصر ، ولكني فصلت القول فيها .
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) } [الحشر : 18 - 20]
نسال الله تعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره والدال عليه في الدارين .
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 12 جمادى الآخرة 1430 هـ الموافق ل 6/6/2009 م
- - - - - - - - - - - -(1/2)
تمهيد حول الحساب
قال تعالى : {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } (47) سورة الأنبياء
" يخبر تعالى عن حكمه العدل، وقضائه القسط بين عباده إذا جمعهم في يوم القيامة، وأنه يضع لهم الموازين العادلة، التي يبين فيها مثاقيل الذر، الذي توزن بها الحسنات [ ص 525 ] والسيئات، { فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ } مسلمة أو كافرة { شَيْئًا } بأن تنقص من حسناتها، أو يزاد في سيئاتها.
{ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ } التي هي أصغر الأشياء وأحقرها، من خير أو شر { أَتَيْنَا بِهَا } وأحضرناها، ليجازى بها صاحبها، كقوله: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }
وقالوا { يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا }(1/3)
{ وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } يعني بذلك نفسه الكريمة فكفى به حاسبا أي عالما بأعمال العباد حافظا لها مثبتا لها في الكتاب عالما بمقاديرها ومقادير ثوابها وعقابها واستحقاقها موصلا للعمال جزاءها " (1)
وفي الظلال : " والحبة من خردل تصور أصغر ما تراه العيون وأخفه في الميزان ، وهي لا تترك يوم الحساب ولا تضيع.
والميزان الدقيق يشيل بها أو يميل! فلتنظر نفس ما قدمت لغد. وليصغ قلب إلى النذير. وليبادر الغافلون المعرضون المستهزءون قبل أن يحق النذير في الدنيا أو في الآخرة. فإنهم إن نجوا من عذاب الدنيا فهناك عذاب الآخرة الذي تعد موازينه ،فلا تظلم نفس شيئا ، ولا يهمل مثقال حبة من خردل.
وهكذا ترتبط موازين الآخرة الدقيقة ، بنواميس الكون الدقيقة ، بسنن الدعوات ، وطبائع الحياة والناس. وتلتقي كلها متناسقة موحدة في يد الإرادة الواحدة مما يشهد لقضية التوحيد وهي محور السورة الأصيل. " (2)
وقال الشعراوي رحمه الله : " نقلهم الحق سبحانه من إنكار وتكذيب وتسفيه كلام الرسول، وعدم الإيمان بالوحي، وصَمِّ آذانهم
__________
(1) - تفسير السعدي - (1 / 524)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2381)(1/4)
عن الخير إلى مسألة الحساب والميزان القسط، فلماذا هذه النَّقْلة؟ ليُنبههم ويلفت أنظارهم إلى أن هذا الكلام الذي قابلتموه بالتكذيب والتشكيك كان لمصلحتكم، وأن كل شيء محسوب، وسوف يُوزَن عليكم ويُحْصَى، وكأنه ينصحهم، فما تزال رحمانية الله بهم وحِرْصه على نجاتكم.
وكلمة (موازين) جمع: ميزان، وهو آلة نُقدِّر بها الأشياء من حيث كثافتها، لأن التقدير يقع على عدة أشياء: على الكثافة بالوزن، وعلى المسافات بالقياس.. الخ، وقد جعلوا لهذه المعايير ثوابت، فمثلاً: المتر صنعوه من البلاتين حتى لا يتآكل، وهو موضوع الآن - تقريباً - في باريس، وكذلك الياردة. وجعلوا للوزن معايير من الحديد: الكيلو والرطل.. إلخ.
وقديماً كانوا يَزِنُون قطعةً من الحجارة تساوي كيلو مثلاً، ويستعملونها في الوزن؛ لأن لها مرجعاً، لكن هذه القطعة تتآكل من كثرة الاستعمال، فلا بُدَّ من تغييرها.
وهنا تكلَّم عن الشيء الذي يَوزَن، ولم يذكر المعايير الأخرى، قالوا: لأن الأشياء التي لها كثافة هي الأكثر، وكاوا يختبرون الأولاد يقولون: كيلو الحديد أثقل، أم كيلو القطن؟ فالولد ينظر إلى القطن فيراه هَشَّاً مُنتفِشاً فيقول: القطن، والقطن أزيد من الحديد في الحجم،(1/5)
لكن كثافته يمكن أن تستطرق، فنُرقّق القطن إلى أن يتحول إلى مساحة طول وعرض. إذن: العُمْدة في التقدير: الثقل.
وفي موضع آخر قال تعالى:{ وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ }[الرحمن: 7] فهل هي موازين متعددة، أم هو ميزان واحد
الخَلْق جميعاً سيُحاسبون مرة واحدة، فلن يقفوا طابوراً ينتظر كل منهم دَوْره، بل في وقت واحد؛ لذلك لما سُئِل الإمام على - كرَّم الله وجهه: كيف يُحاسب الله الخَلْق جميعاً في وقت واحد؟ قال: كما يرزقهم جميعاً في وقت واحد. فالمسألة صعبة بالنسبة لك، إنما سهلة ميسورة للحق سبحانه.
والقِسْط: صفة للموازين، وهي مصدر بمعنى عدل، كما تقول في مدح القاضي: هذا قاضٍ عادل. أي: موصوف بالعدل، فإذا أردتَ المبالغة تقول: هذا قاضٍ عَدْل، كأنه هو نفسه عَدْل أي (معجون بالعدل)؛ لذلك نقول في أسماء الحق سبحانه: الحكم العدل. ولا نقول: العادل.
وهذه المادة (قسط) لها دور في اللغة، فهي من الكلمات المشتركة التي تحمل المعنى وضده، مثل (الزوج) تُطلق على الرجل والمرأة، و(العَيْن) تطلق على العين: العين الباصرة، وعلى عين الماء، وعلى الجاسوس، وعلى الذهب والفضة.(1/6)
كذلك (القِسْط) نقول: القِسْط بالكسر مثل: حِمْل بمعنى العدل من قَسَط قِسْطَاً. ومنه قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }[المائدة: 42] ونقول: القَسْط بالفتح يعني: الظلم من قسط قُسوطاً وقَسْطاً، ومنه قوله تعالى:{ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً }[الجن: 15] أي: الجائرون الظالمون. ... ...
والقِسْط بمعنى العدل إذا حكم بالعدل أولاً وبداية، لكن أقسط يعني كان هناك حكم جائر فعدَّله إلى حكم بالعدل في الاستئناف.
ومن هذه المادة أيضاً قوله تعالى:{ ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ... }[الأحزاب: 5] فأقسط هنا: أفعل تفضيل، تدل على أن حكم محمد صلى الله عليه وسلم في مسألة زيد كان عَدْلاً وقِسْطاً، إنما حكم ربه تعالى هو أقسط وأعدل.
ومعلوم من قصة زيد بن حارثة أنه فضَّل رسول الله واختاره على أهله، وكان طبيعياً أنْ يكافئه رسول الله على محبته وإخلاصه ويُعوِّضه عن أهله الذين آثر عليهم رسولَ الله، وكانت المكافأة أن سماه زيد بن محمد.
إذن: الحق سبحانه عدل لرسوله، لكن عدل له العدل لا الجوْر، وعَدْل الله أَوْلى من عدل محمد لذلك قال:{ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ... }[الأحزاب: 5] أما عندكم أنتم فقد صنع محمد عَيْن العَدْل.(1/7)
وقوله تعالى:{ ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ.. }[الأحزاب:5] جاء ليبطل التبني؛ ليكون ذلك مقدمة لتشريع جديد في الأسرة والزواج والمحارم وأمور كثيرة في شرع الله لا تستقيم في وجود هذه المسألة، وإلاّ فكيف سيكون حال الأسرة حين يكبر المتبنّي ويبلغ مَبلغ الرجال؟ وما موقفه من الزوجة ومن البنت، وهو في الحقيقة غريب عن الأسرة؟
ومسألة الموازين هذه من المسائل التي وجد فيها المستشرقون تعارضاً في ظاهر الآيات، فجعلوا منها مَأخَذاً على كتاب الله، من ذلك قولهم بالتناقض بين الآيتين: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ... } [الأنبياء: 47] وقوله تعالى:{ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً }[الكهف: 105] حيث أثبت الميزان في الأولى، ونفاه في الثانية.
وقلنا: إن هؤلاء معذورون؛ لأنهم لا يملكون الملكَة اللغوية التي تمكِّنهم من فَهْم كلام الله. ولو تأملنا اللام في{ نُقِيمُ لَهُمْ... }[الكهف: 105] لا نحلَّ هذا الإشكال، فاللام للملك والانتفاع، كما يقولون في لغة البنوك: له وعليه. والقرآن يقول:{ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ... }[البقرة: 286].
فالمعنى:{ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً }[الكهف: 105] أي: وزناً في صالحهم، إنما نقيم عليهم وندينهم. كذلك نجد أن كلمة الوزن(1/8)
تُستعمل في اللغة إمَّا لوزن الماديّ، أو لوزن المعنى، كما نقول: فلان لا وَزْنَ له في الرجال.
وعلى هذا يكون المعنى: أنهم لا وَزْنَ لذواتهم ومادتهم، إنما الوزن لأعمالهم، فلا نقول: كان من الأعيان، كان أصله كذا وكذا، وهذه المسألة واضحة في قصة ابن نوح عليه السلام:{ قَالَ يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ... }[هود: 46].فالنبوة هنا بُنوّة عمل وإيمان، لا بُنوة ذات.
وقد ظَنَّ الكفار والعصاة أن لهم وَزْناً عند الله، ومنزلة ستكون لهم في الآخرة، كما كانت لهم في الدنيا، كما جاء في قصة صاحب الجنتين الذي قال لأخيه متباهياً مفتخراً.{ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَاذِهِ أَبَداً * وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [الكهف: 34-36].
لكن هيهات أنْ يكون لهم وَزْنٌ في الآخرة، فالوزن في القيامة للأعمال، لا للأعيان.إذن: المعنى لا نقيم لذواتهم، إنما نزن أعمالهم؛ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَأَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ، قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء] ، قَالَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللهِ(1/9)
لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا ، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا ، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا." (1)
فالذوات والأحساب والأنساب لا قيمة لها في هذا الموقف.
وقوله تعالى: { فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً... } [الأنبياء: 47] مع أن القاعدة:{ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ.. }[البقرة: 194] وهؤلاء قد ظلموا الحق سبحانه ظُلْماً عظيماً حين أشركوا به، وظلموا رسول الله لما قالوا عنه: ساحر، وكاذب ومجنون، ومع ذلك فلن نردّ هذا الاعتداء بمثله بظلمهم.
وقوله تعالى: { وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا... } [الأنبياء: 47] والخردل: مثال للصِّغَر، للدلالة على استقصاء كل شيء، ولا يزال الخردل هو المقياس العالمي للكيلو، فقد وجدوا حَبَّ الخردل مُتَساوياً في الوزن، فأخذوا منه وحدة الكيلو الآن، وقد أتى بها القرآن منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً من الزمان.
ومعنى: { أَتَيْنَا بِهَا... } [الأنبياء: 47] أي: لهم أو عليهم، فإنْ كانت لهم علموا أنَّ الله لا يظلمهم، ويبحث لهم عن أقلِّ القليل من
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (14 / 486) (6549) وصحيح البخارى- المكنز - (2753 )(1/10)
الخير، وإنْ كانت عليهم علموا أن الله يستقصي كل شيء في الحساب، وحَبّة الخردل تدل على صِغَرها على الجحم، وكلمة مثقال تدل على الوزن، فجمع فيها الحجم والوزن.
ثم يُعقِّب سبحانه على هذه المسألة: { وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء: 47] فلا أحد يُجيد هذه المسألة ويُدقِّقها كما نفعل نحن، فليست عندنا غفلة بل دِقَّة وضبَطْْ لمعايير الحساب.
ولا تظن أن مسألة الحساب والميزان مسألة سهلة يمكن أن تصل فيها إلى الدقة الكاملة مهما أخذتَ من وسائل الحيطة، فأنت بشر لا تستطيع أنْ تزِنَ الوزن المضبوط؛ لأن المعيار الحديد الذي تزن به عُرْضة في استعماله للزيادة أو النقصان.
فقد يتراكم عليه الغبار ويقع عليه مثلاً نقطة زيت، وبمرور الوقت يزيد المعيار ولو شيئاً ضيئلاً، وهذا في صالح الموزون له، وقد يحدث العكس فينقص الميزان نتيجة الملامسة للأشياء، ولك أن تنظر مثلاً إلى (أكرة) الباب تراها لامعةً على خلاف ما حولها. إذن: أي ملامسة أو احتكاك للأشياء يُنقصها.
حتى في الموازين الحديثة التي تضمن لك أقصى درجات الدقة فبشرية الإنسان لا يمكن أن تُعطى الدقة المتناهية، وهذا معنى{ وَكَفَى بِاللَّهِ(1/11)
حَسِيباً }[الأحزاب: 39] { وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء: 47] لأن معياره تعالى لا يختلف، ولا ينسى شيئاً، ولا يغفل عن شيء." (1)
وقال تعالى : {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (49) سورة الكهف
وَوَضَعَ بَيْنَ يَدَيْ كُلِّ فَرْدٍ كِتَابُ أَعْمَالِهِ ، وَفِيهِ جَمِيعُ مَا عَمِلَهُ فِي حَيَاتِهِ ، مِنْ حَسَنٍ وَقَبِيحٍ ، وَمِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ . وَيَرَى المُجْرِمُونَ أَعْمَالَهُمُ القَبِيحَةُ مُحْصَاةً بِتَمَامِهَا ، لَمْ يَنْقُصْ مِنْهَا شَيءٌ ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ العَذَابَ وَاقِعٌ بِهِمْ ، فَيُشْفِقُونَ مِمَّا سَيَحُلُّ بِهِمْ ، وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ : يَا وَيْلَتَنَا ، وَيَا حَسْرَتَنَا ، عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيا ، مَا لِهَذا الكِتَابِ لاَ يَتْرُكُ صَغِيراً مِنْ أَعْمَالِنَا وَذُنُوبِنَا ، وَلاَ كَبِيراً إِلاَّ أَحْصَاهُ وَوَعَاهُ؟ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ حَاضِراً لِيُحَاسَبُوا عَلَيْهِ ، وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ
وَإِنَّمَا يُحَاسِبُ العِبَادَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بِالعَدْلِ التَّامِّ . (2)
__________
(1) - تفسير الشعراوي - ( / 2512)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2189)(1/12)
فهذا هو سجل أعمالهم يوضع أمامهم ، وهم يتملونه ويراجعونه ، فإذا هو شامل دقيق. وهم خائفون من العاقبة ضيقو الصدور بهذا الكتاب الذي لا يترك شاردة ولا واردة ، ولا تند عنه كبيرة ولا صغيرة : «وَيَقُولُونَ : يا وَيْلَتَنا. ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ، إِلَّا أَحْصاها؟» وهي قولة المحسور المغيظ الخائف المتوقع لأسوأ العواقب ، وقد ضبط مكشوفا لا يملك تفلتا ولا هربا ، ولا مغالطة ولا مداورة : «وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً» ولا قوا جزاء عادلا : «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» .. (1)
قوله تعالى: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ } [الكهف: 49] أي: وضعته الملائكة بأمر من الله تعالى، فيعطون كل واحد كتابه، فهي ـ إذن ـ صور متعددة، فمَنْ أخذ كتابه بيمينه فرح وقال: { هَآؤُمُ اقْرَءُواْ كِتَابيَهْ }[الحاقة: 19] يعرضه على ناس، وهو فخور بما فيه؛ لأنه كتاب مُشرِّف ليس فيه ما يُخجل؛ لذلك يتباهى به ويدعو الناس إلى قراءته، فهو كالتلميذ الذي حصل على درجات عالية، فطار بها ليعرضها ويذيعها.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2274)(1/13)
وهذا بخلاف مَنْ أوتي كتابه بشماله فإنه يقول:{ يالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَآ أَغْنَىا عَنِّي مَالِيَهْ * هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ }[الحاقة: 25-29]
إنه الخزي والانكسار والندم على صحيفة مُخْجِلة.
{ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } [الكهف: 49] أي: خائفين يرتعدون، والحق سبحانه وتعالى يصور لنا حالة الخوف هذه لِيُفزع عباده ويُحذِّرهم ويُضخِّم لهم العقوبة، وهم ما يزالون في وقت التدارك والتعديل من السلوك، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده.فحالتهم الأولى الإشفاق، وهو عملية هبوط القلب ولجلجته، ثم يأتي نزوع القول: { وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا } [الكهف: 49] يا: أداة للنداء، كأنهم يقولون: يا حسرتنا يا هلاكنا، هذا أوانُك فاحضري.
ومن ذلك قوله تعالى في قصة ابني آدم ـ عليه السلام ـ لما قتل قابيل هابيل، وكانت أول حادثة قتل، وأول ميت في ذرية آدم؛ لذلك بعث الله له غراباً يُعلِّمه كيف يدفن أخاه، فقال:{ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَاذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي.. }[المائدة: 31]{ يَاوَيْلَتَا }[المائدة: 31] يا هلاكي كأن يتحسَّر على ما أصبح فيه، وأن الغراب أعقل منه، وأكثر منه خبرة؛ لكي لا(1/14)
نظلم هذه المخلوقات ونقول: إنها بهائم لا تَفهم، والحقيقة: ليتنا مثلهم.
قوله تعالى: { مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [الكهف: 49] أي: لا يترك كبيرة أو صغيرة إلا عدَّها وحسبها { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً } [الكهف: 49] فكل ما فعلوه مُسجَّل مُسطّر في كُتبهم { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [الكهف: 49] لأنه سبحانه وتعالى عادل لا يؤاخذهم إلا بما عملوه." (1)
وعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - جَلِيسٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يُكَذِّبُونَنِي وَيَخُونَنِي وَيَعْصُونَنِي، فَأَضْرِبُهُمْ وَأَسُبُّهُمْ، فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " بِحَسْبِ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَّبُوكَ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ كَانَ فَضْلًا لَكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ كَانَ كَفَافًا لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمْ اقْتَصَّ لَهُمْ مِنْكَ الْفَضْلَ الَّذِي يَبْقَى قِبَلَكَ "، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَبْكِي بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيَهْتِفُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَا لَهُ ؟ أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى
__________
(1) - تفسير الشعراوي - ( / 2173)(1/15)
بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء: 47] "، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَجِدُ شَيْئًا خَيْرًا لِي مِنْ فِرَاقِ هَؤُلَاءِ، أُشْهِدُكَ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُمْ " (1)
وعن يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ ؛ قَالَ : سَمِعْتُ الْمَأْمُونَ يَخْطُبُ خُطْبَةَ يَوْمِ الْعِيدِ ؛ فَأَثْنَى عَلَى اللهِ ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَوْصَاهُمْ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَذَكَرَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ ، ثُمَّ قَالَ : عِبَادَ اللهِ ! عَظُمَ قَدْرُ الدَّارَيْنِ ، وَارْتَفَعَ جَزَاءُ الْعَامِلِينَ ، وَطَالَتْ مُدَّةُ الْفَرِيقَيْنِ ؛ فَوَاللهِ ! إِنَّهُ لَلْجَدُّ لا اللَّعِبُ ، وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ لا الْكَذِبُ ، وَمَا هُوَ إِلا الْمَوْتُ وَالْبَعْثُ وَالْمِيزَانُ وَالْحِسَابُ وَالْفَصْلُ وَالصِّرَاطُ وَالْعِقَابُ وَالثَّوَابُ ؛ فَمَنْ نَجَا يَوْمَئِذٍ ؛ فَقَدْ فَازَ ، وَمَنْ هَوَى يَوْمَئِذٍ ؛ فَقَدْ خَابَ ؛ فَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الْجَنَّةِ ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ فِي النَّارِ . قَالَ : وَخَطَبَ يَوْمَ الْفِطْرِ ؛ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللهَ وَالصَّلاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالْوَصِيَّةِ ؛ فَقَالَ : اطْلُبُوا إِلَى اللهِ حَوَائِجَكُمْ ، وَاسْتَغْفِرُوهُ لِتَفْرِيطِكُمْ ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ : لا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ ، وَلا قَلِيلَ مَعَ إِصْرَارٍ ، بَادِرُوا عِبَادَ اللهِ بِالأَمْرِ الَّذِي اعْتَدَلَ فِيهِ يَقِينُكُمْ ، وَلا يَحْتَضِرُ الشَّكُّ فِيهِ أَحَدًا مِنْكُمْ ، وَهُوَ الْمَوْتُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْكُمْ ؛ فَإِنَّهُ لا يُقَالُ بَعْدَهُ عَثْرَةٌ ، ولا تحظر قَبْلَهُ تَوْبَةٌ ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لا شَيْءَ قَبْلَهُ إِلا دُونَهُ ، وَلا شَيْءَ بَعْدَهُ إِلا فَوْقَهُ ، وَلا يُعِينُ عَلَى
__________
(1) - شعب الإيمان - (11 / 87) (8223 ) وصحيح الجامع (8039) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 557)(26401) 26933- صحيح(1/16)
جَزَعِهِ وَعَلَزِهِ وَكَرْبِهِ وَلا يُعِينُ عَلَى الْقَبْرِ وَوَحْشَتِهِ وَظُلْمَتِهِ وَهَوْلِ مَطْلَعِهِ وَمَسَائِلِ مَلائِكَتِهِ ؛ إِلا الْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ ؛ فَمَنْ زَلَّتْ عِنْدَ الْمَوْتِ قَدَمُهُ ؛ فَقَدْ ظَهَرَتْ نَدَامَتُهُ وَفَاتَتْهُ اسْتِقَالَتُهُ ، وَعَايَنَ الرجعة إلا ما يُجَابُ إِلَيْهِ ، وَبَذَلَ مِنَ الْفِدْيَةِ مَا لا يُقْبَلُ مِنْهُ ؛ فَاللهَ اللهَ عِبَادَ اللهِ ! فَكُونُوا قَوْمًا سَأَلُوا الرَّجْعَةَ ، فَأُعْطُوهَا إِذْ مُنِعَهَا الَّذِينَ طَلَبُوهَا ، لَيْسَ يَتَمَنَّى الْمُتَقَدِّمُونَ إِلا هَذَا الأَجَلَ الْمَبْسُوطَ لَكُمْ ؛ فَاحْذَرُوا مَا حَذَّرَكُمُ اللهُ ، وَاتَّقُوا الْيَوْمَ الَّذِي يَجْمَعُكُمْ فِيهِ لِوَضْعِ مَوَازِينِكُمْ وَلِنَشْرِ صُحُفِكُمُ الْحَافِظَةِ لأَعْمَالِكُمْ مَا قَدْ نَسِيتُمُوهُ وَأُحْصِيَ عَلَيْكُمْ ، وَلْيَنْظُرْ عَبْدٌ مَا يَضَعُ فِي مِيزَانِهِ مَا يَثْقُلُ بِهِ ، وَمَا يَمْلأُ بِهِ صَحِيفَتَهُ الْحَافِظَةَ عَلَيْهِ وَلَهُ ؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : مَا قَالَ الْمُفَرِّطُونَ عِنْدَهَا إِذْ طَالَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْهَا ؟ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فيه } [ الكهف : 49 ] ، وَقَالَ : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ ليوم القيامة } [ الأنبياء : 47 ] الآية ، وَلَسْتُ أَنْهَاكُمْ عَنِ الدُّنْيَا بِأَعْظَمِ مَا نَهَتْكُمُ الدُّنْيَا عَنْ نَفْسِهَا ، { وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور } [ لقمان : 33 ، فاطر : 5 ] ، وَقَالَ : { إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لعب ولهو } الآية [ الحديد : 20 ] ؛ فَانْتَفِعُوا بِمَعْرِفَتِكُمْ بِهَا وَبِإِخْبَارِ اللهِ تَعَالَى عَنْهَا ، وَاعْلَمُوا أَنَّ قَوْمًا مِنْ عِبَادِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَدْرَكَتْهُمْ عَظَمَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ فحذورا مَصَارِعَهَا ،(1/17)
وَجَانَبُوا خَدَائِعَهَا ، وَآثَرُوا طَاعَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا ؛ فَأَدْرَكُوا الْجَنَّةَ بِمَا تركوا منها ." (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَالِحٍ الْعِجْلِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ؛ قَالَ : خَطَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَوْمًا ؛ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ قَالَ : عِبَادَ اللهّ ! لا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ؛ فَإِنَّهَا دَارٌ بِالْبَلاءِ مَحْفُوفَةٌ ، وَبِالْفَنَاءِ مَعْرُوفَةٌ ، وَبِالْغَدْرِ مَوْصُوفَةٌ ، وَكُلُّ مَا فِيهَا إِلَى زَوَالٍ ، وَهِيَ بَيْنَ أَهْلِهَا دُوَلٌ وَسِجَالٌ ، لَنْ يَسْلَمَ مِنْ شَرِّهَا نُزَّالُهَا ، بَيْنَمَا أَهْلُهَا فِي رَخَاءٍ وَسُرُورٍ ؛ إِذْ هُمْ مِنْهَا فِي بَلاءٍ وَغُرُورٍ ، الْعَيْشُ فِيهَا مَذْمُومٌ ، وَالرَّخَاءُ فِيهَا لا يَدُومُ ، وَإِنَّمَا أَهْلُهَا فِيهَا أَغْرَاضٌ مُسْتَهْدَفَةٌ تَرْمِيهِمْ بِسِهَامِهَا وَتَقْضِمُهُمْ بِحِمَامِهَا . عِبَادَ اللهِ ! وَإِنَّكُمْ وَمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا عَنْ سَبِيلِ مَنْ قَدْ مَضَى مِمَّنْ كَانَ أَطْوَلَ مِنْكُمْ أَعْمَارًا ، وَأَشَدَّ مِنْكُمْ بَطْشًا ، وَأَعْمَرَ دِيَارًا ، وَأَبْعَدَ آثَارًا ؛ فَأَصْبَحَتْ أَصْوَاتُهُمْ هَامِدَةً خَامِدَةً ، مِنْ بَعْدِ طُولِ تَقَلُّبِهَا ، وَأَجْسَادُهُمْ بَالِيَةً ، وَدِيَارُهُمْ خَالِيَةً ، وَآثَارُهُمْ عَافِيَةً ، وَاسْتُبْدِلُوا بِالْقُصُورِ الْمُشَيَّدَةِ ، وَالسُّرُرِ وَالنَّمَارِقِ الْمُمَهَّدَةِ ، الصُّخُورَ وَالأَحْجَارَ الْمُسْنَدَةِ فِي الْقُبُورِ ، الْمِلاطِيَّةِ الْمُلْحَدَةِ الَّتِي قَدْ بَيَّنَ الْخَرَابُ قِبَاؤُهَا ، وَشُيِّدَ بِالتُّرَابِ بناؤها ، فمحلها مُقْتَرِبٌ ، وَسَاكِنُهَا مُغْتَرِبٌ بَيْنَ أَهْلِ
__________
(1) - المجالسة وجواهر العلم - (7 / 104) (2993)(1/18)
عُمَارَةٍ مُوحِشِينَ وَأَهْلِ مَحِلَّةٍ مُتَشَاغِلِينَ ، لا يَسْتَأْنِسُونَ بِالْعُمْرَانِ ، وَلا يَتَوَاصَلُونَ تَوَاصُلَ الْجِيرَانِ ، عَلَى مَا بَيْنَهُمْ مِنْ قُرْبِ الْجِوَارِ ، وَدُنُوِّ الدَّارِ ، وَكَيْفَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ تَوَاصُلٌ ، وَقَدْ طَحَنَهُمْ بِكَلْكَلِهِ الْبِلَى ، وَأَكَلَتْهُمُ الْجَنَادِلُ وَالثَّرَى ؛ فَأَصْبَحُوا بَعْدَ الْحَيَاةِ أَمْوَاتًا ، وَبَعْدَ غَضَارَةِ الْعَيْشِ رُفَاتًا ، فُجِعَ بِهِمُ الأَحْبَابُ ، وَسَكَنُوا التُّرَابَ ، وَظَعِنُوا فَلَيْسَ لَهُمْ إِيَابٌ ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ ! ! { كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يوم يبعثون } [ المؤمنون : 100 ] ، وَكَأَنْ قَدْ صِرْتُمْ إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ [ص:283] الْوِحْدَةِ وَالْبِلَى فِي دَارِ الْمَوْتَى ، وَارْتَهَنْتُمْ فِي ذَلِكَ الْمَضْجَعِ ، وَضَمَّكُمْ ذَلِكَ الْمُسْتَوْدَعِ ؛ فَكَيْفَ بِكُمْ لَوْ قَدْ تَنَاهَتِ الأُمُورُ ، وَبُعْثِرَتِ الْقُبُورُ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ، أَوَقَفْتُمْ لِلتَّحْصِيلِ بَيْنَ يَدَيْ مَلِكٍ جَلِيلٍ ، فَطَارَتِ الْقُلُوبُ لإِشْفَاقِهَا مِنْ سَالِفِ الذُّنُوبِ ، وَهُتِكَتْ عَنْكُمُ الْحُجُبُ وَالأَسْتَارُ ، وَظَهَرَتْ مِنْكُمُ الْعُيُوبُ وَالأَسْرَارَ ، هُنَالِكَ : {تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [ غافر : 17 ] ، ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَؤُا بِمَا عِمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى ) [ النجم : 31 ] ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ( 49 ) ) [ الكهف : 49 ] . جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ(1/19)
عَامِلِينَ بِكِتَابِهِ ، مُتَّبِعِينَ لأَوْلِيَائِهِ ، حَتَّى يُحِلَّنَا وَإِيَّاكُمْ دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فضلة ؛ إِنَّهُ حُمَيْدٌ مَجِيدٌ" (1)
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - المجالسة وجواهر العلم - (5 / 282) (2130 ) والزُّهْدُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا ( 203 ) فيه انقطاع(1/20)
أهم القواعد التي يحاسب على أساسها العباد
لو عذَّب الله جميع خلقه لم يكن ظالماً لهم ، لأنهم عبيده ، وملكه ، والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء ، لقوله تعالى : {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (23) سورة الأنبياء
فالله تعالى لا يُسأل عما يفعل؛ لأن السائلَ له مراتب مع المسئول، والعادة أن يكون المسئول في مرتبة أَدْنى من السائل؛ لذلك لا أحدَ يسأل الله تعالى عَمَّا يفعل، أمّا هو سبحانه فيسأل الناس.
لذلك قال بعض الظرفاء: الدليل على أن الله لا شريك له، خَلْقه لفلان، لأنه له كان له شريك كان عارضه في هذه المسألة.
إذن: لا أحدَ أعلى من الله، حتى يسأله: لِمَ فعلتَ كذا وكذا؟ (1)
وعَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ لَهُ: وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنَ الْقَدَرِ فَحَدِّثْنِي بِشَيْءٍ لَعَلَّ اللهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يُذْهِبَهُ مِنْ قَلْبِي، فَقَالَ: " لَوْ أَنَّ اللهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ، وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ، وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقَتْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا تَقَبَّلُهُ اللهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا
__________
(1) - تفسير الشعراوي - ( / 2488)(1/21)
أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، ولَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ " . قَالَ: ثُمَّ لَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ فَقَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَحَدَّثَنِي عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَ ذَلِكَ " (1)
ولكن الحق تبارك وتعالى يحاكم عباده محاكمة عادلة،لم تشهد البشرية لها مثيلاً من قبل ، وقد بين لنا ربنا في كثير من النصوص جملة القواعد التي تقوم عليها المحاكمة والمحاسبة في ذلك اليوم .
وسنذكر من ذلك ما ظهر لنا من تلك القواعد .
القاعدة الأولى-العدلُ التام الذي لا يشوبه ظلم
القاعدة الثانية-الأصل أن لا يؤخذ أحد بجريرة غيره
القاعدة الثالثة-اطلاع العباد على ما قدموه من أعمال
القاعدة الرابعة-مضاعفة الحسنات دون السيئات
القاعدة الخامسة-إقامة الشهود على الكفرة والمنافقين
__________
(1) - شعب الإيمان - (1 / 353) (179 ) وسُنَنُ أَبِي دَاوُدَ (4140 ) صحيح(1/22)
القاعدة الأولى
العدلُ التام الذي لا يشوبه ظلم
يُوَفِّي الحقُّ - عز وجل - عباده يوم القيامة أجورهم كاملة غير منقوصة ، ولا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل ( ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) [ البقرة : 281 ] .
وقال لقمان في وصيته لابنه معرفاً إياه بعدل الله : ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) [ لقمان : 16 ] .
وقال الحق في موضع آخر : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ) [ النساء : 40 ] ، وقال : ( وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) [ النساء : 77 ] . وقال : ( وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) [ النساء: 124 ] .
وقال تعالى : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) [ الزلزلة : 7-8 ] ، فقد أخبر الحق تبارك وتعالى في هذه النصوص أنه يُوفِّي كل عبدٍ عمله، وأنه لا يضيع منه ، ولا ينقص منه مقدار الذرة ، وهي الهباءة التي في أشعة الشمس إذا(1/23)
دخلت من الطاق،ولا مقدار الفتيل ولا النقير ، والفتيل هو الخيط الذي يكون في شق النواة ، والنقير : النقرة الصغيرة التي تكون في ظهر النواة .
وقال تعالى : {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (281) سورة البقرة
وَاحْذَرُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ ذَلِكَ اليَوْمَ العَظِيمَ ، يَوْمَ القِيَامَةِ الذِي تَتَفَرَّغُونَ فِيهِ مِنْ مَشَاغِلِكُمُ الجَسَدِيَّة وَالدُّنْيَويَّةِ التِي كَانَتْ تَصْرِفُكُمْ عَنْ رَبِّكُمْ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنيا ، وَيُجَازِي اللهُ كُلا ًبِعَمَلِهِ ، إنْ خَيْراً فَخَيْراً ، وَإِنْ شَرّاً فَشَرّاً ، وَلا تُنْقَصُ نَفْسٌ مِنْ ثَوَابِها ، وَلاَ يُزَادُ فِي عِقَابِهَا .
وقال تعالى : {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (161) سورة آل عمران.
يُنَزِّهُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيةِ رَسُولَهُ الكَرِيمَ عَنْ أخْذِ شَيءٍ مِنَ المَغْنَمِ خِلْسَةً ( عَنِ الغُلُولِ ) ، وَعَنِ الخِيَانَةِ فِي أَدَاءِ الأَمَانَةِ ، فَقَالَ تَعَالَى : مَا يَنْبَغِي لِنَبيٍّ أنْ يَغُلَّ لأنَّ اللهَ عَصَمَهُ مِنْ ذَلِكَ وَيُهَدِّدُ اللهُ تَعَالَى مِنْ يَغُلُّ بأنَّهُ سَيَأتِي يَوْمَ القِيَامَةِ وَهُوَ يَحْمِلُ مَا غَلَّ لِيُحَاسَبَ عَلَيهِ ، وَاللهُ لاَ يَظْلِمُ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ . (1)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 454)(1/24)
فيوفيهم الحقُّ عز وجل يوم القيامة أجورهم كاملة غير منقوصة وإن كان مثقال حبة من خردل، قال تعالى {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (40) سورة النساء
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِأَنَّهُ سَوْفَ يُوَّفِيِهِمْ أُجُورَ أَعْمَالِهِمْ كَامِلَةً ، وَلاَ يَظْلِمُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ مِثْقَالَ ( أَيْ ثِقْلَ ) حَبَّةِ خَرْدَلٍ ، وَلاَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ، وَإِنَّمَا يُوَفِّي كُلَّ عَامِلٍ عَمَلَهُ ، وَيُضَاعِفُ الحَسَنَاتِ لِفَاعِلِيهَا ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ، وَيُؤْتِي مِنْ لَدُنْهُ الجَنَّة لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ ، وَهِيَ الأَجْرُ العَظِيمُ الذِي وَعَدَهُمْ بِهِ (1)
وقال تعالى في موضع آخر (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)( الزلزلة 7-8).
فَمَنْ عَمِلَ عَمَلَ خَيْرٍ فَإِنَّهُ سَيَجِدُ ثَوَابَهُ مَهْمَا كَانَ حَقِيراً ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ فِي وَزْنِ الذَّرَّةِ . فعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ » (2) .
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ « يَا عِبَادِى إِنِّى حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 533)
(2) - صحيح مسلم(6857 )(1/25)
فَلاَ تَظَالَمُوا يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِى أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِى أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِى أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِى أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّى فَتَضُرُّونِى وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِى فَتَنْفَعُونِى يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِى مُلْكِى شَيْئًا يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِى شَيْئًا يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِى فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِى إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ » (1) .
وَمَنْ عَمِلَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ سُوءٍ فَإنَّهُ وَاجِدٌ جَزَاءَهُ عِنْدَ رَبِّهِ فِي ذَلِكَ اليَوم.
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6737 )(1/26)
ثم يكون الجزاء الحق من الحق تبارك وتعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (124) سورة النساء
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى عَمَلاً صَالِحاً ، وَهُوَ مُطْمَئِنُ القَلْبِ بِالإِيمَانِ بِاللهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، فَإِنَّ اللهَ يُكَافِئُهُ عَلَى أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ بِإِدْخَالِهِ الجَنَّةَ ، وَلاَ يُنْقِصُهُ شَيْئاً مِنْ عَمَلِهِ وَلَوْ كَانَ شَيْئاً بَسِيطاً جِدّاً ( نَقِيراً ) .النَّقِيرُ - نُقْطَةٌ دَاخِلَ نَوَاةِ التَّمْرِ لاَ وَزْنَ لَهَا . (1)
وجاءت كلمتا " ذكر " و" أنثى " هنا حتى لا يفهم أحد أن مجيء الفعل بصيغة التذكير في قوله (يعمل) أن المرأة معفية منه؛ لأن المرأة في كثير من الأحكام نجد حكمها مطموراً في مسألة الرجل، وفي ذلك إيحاء بأن أمرها مبني على الستر.
لكن الأشياء التي تحتاج إلى النص فيها فسبحانه ينص عليها. { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى }. وجاء سبحانه هنا بلفظة (مِن) التي تدل على التبعيض.. أي على جزءٍ من كلّ فيقول: { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ } ولم يقل: " ومن يعمل الصالحات " لأنه يعلم خلقه. فلا يوجد إنسان يعمل كل الصالحات، هناك من يحاول عمل
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 617)(1/27)
بعضٍ من الصالحات حسب قدرته. والمطلوب من المؤمن أن يعمل من الصالحات على قدر إمكاناته ومواهبه.
وتبدأ الأعمال الصالحة من أن يترك الإنسان الأمور الصالحة على صلاحها، فإبقاء الصالح على صلاحه معناه أن المؤمن لن يعمل الفساد، هذه هي أول مرتبة، ومن بعد ذلك يترقى الإنسان في الأعمال الصالحة التي تتفق مع خلافته في الأرض، وكل عمل تصلح به خلافة الإنسان في الأرض هو عمل صالح؛ فالذي يرصف طريقاً حتى يستريح الناس من التعب عمل صالح، وتهيئة المواصلات للبشر حتى يصلوا إلى غايتهم عمل صالح، ومن يعمل على ألاّ ينشغل بال البشر بأشياء من ضروريات الحياة فهذا عمل صالح.
كل ما يعين على حركة الحياة هو عمل صالح. وقد يصنع الإنسان الأعمال الصالحة وليس في باله إله كعلماء الدول المتقدمة غير المؤمنة بإله واحد. كذلك العلماء الملاحدة قد يصنعون أعمالاً صالحة للإنسان، كرصف طرق وصناعة بعض الآلات التي ينتفع بها الناس، وقاموا بها للطموح الكشفي، والواحد من تلك الفئة يريد أن يثبت أنه اخترع واكتشف وخدم الإنسانية ونطبق عليه أنه عمل صالحاً، لكنه غير مؤمن؛ لذلك سيأخذ هؤلاء العلماء جزاءهم من الإنسانية التي عملوا لها، وليس لهم جزاء عند الله.(1/28)
أما من يعمل الصالحات وهو مؤمن فله جزاء واضح هو:{ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً }[النساء: 124]
قد يقول البعض: إن عدم الظلم يشمل من عمل صالحاً أو سوءا ونجد من يقول: من يعمل السوء هو الذي يجب أن يتلقى العقاب، وتلقيه العقاب أمر ليس فيه ظلم،والحق هو القائل:{ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا }[يونس: 27]
ومن يصنع الحسنة يأخذ عشرة أمثالها. وقد يكون الجزاء سبعمائة ضعف ويأتيه ذلك فضلا من الله، والفضل من الله غير مقيد وهو فضل بلا حدود، فكيف يأتي في هذا المقام قوله تعالى: { وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } وهم قد أعطوا أضعافاً مضاعفة من الجزاء الحسن، ونقول: إن الفضل من الخلق غير ملزم لهم، مثل من يستأجر عاملاً ويعطيه مائة جنيه كأجر شهري، وفي آخر الشهر يعطيه فوق الأجر خمسين جنيهاً أو مائة، وفي شهر آخر لا يعطيه سوى أجره، وهذه الزيادة إعطاؤها ومنحها فضل من صاحب العمل. ... ...
أما الفضل بالنسبة لله فأمره مختلف. إنه غير محدود ولا رجوع فيه. وهذا هو معنى { وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } ، فسبحانه لا يكتفي بجزاء صاحب الحسنة بحسنة، بل يعطي جزاء الحسنة عشر أمثالها وإلى(1/29)
سبعمائة ضعف، ولا يتراجع عن الفضل؛ فالتراجع في الفضل - بالنسبة لله - هو ظلم للعبد. ولا يقارن الفضل من الله بالفضل من البشر. فالبشر يمكن أن يتراجعوا في الفضل أما الله فلا رجوع عنده عن الفضل.
وهو القائل:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }[يونس: 58]
وأصحاب العمل الصالح مع الإيمان يدخلون الجنة مصداقاً لقوله تعالى: { فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } والنقير هو: النقرة في ظهره النواة، وهي أمر ضئيل للغاية. وهناك شيء آخر يسمى " الفتيل " وهو المادة التي تشبه الخيط في بطن نواة التمر، وشيء ثالث يشبه الورقة ويغلف النواة واسمه " القطمير ".
وضرب الله الأمثال بهذه الأشياء القليلة لنعرف مدى فضله سبحانه وتعالى في عطائه للمؤمنين." (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - تفسير الشعراوي - ( / 611)(1/30)
القاعدة الثانية
الأصل أن لا يؤخذ أحد بجريرة غيره
قاعدة الحساب والجزاء التي تمثل قمة العدل ومنتهاه أن الله يجازي العباد بأعمالهم ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، ولا يحمل الحق تبارك وتعالى أحداً وزر غيره ، كما قال تعالى : { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (164) سورة الأنعام .
وَاللهُ تَعَالَى يُجَازِي كُلَّ نَفْسٍ يَوْمَ القِيَامَةِ ، عَلَى مَا فَعَلَتْهُ وَكَسَبَتْهُ فِي الدُّنْيا ، إِنْ خَيْراً فَخَيْراً ، وَإِنْ شَرّاً فَشَرّاً ، وَلاَ يَحْمِلُ أَحَدٌ مِنْ خَطِيئَةِ أَحَدٍ شَيْئاً ، وَهَذَا مِنْ عَدْلِ اللهِ تَعَالَى . ثُمَّ تَرْجِعُونَ إلى اللهِ فَيُخْبِرُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ أَدْيَانِكُمْ المُخْتَلِفَةِ ، وَيَتَولَّى جَزَاءَكُم عَلَيهِ وَحْدَهُ . (1)
وقال الطبري : " يَقُولُ : وَلَا تَجْتَرِحُ نَفْسٌ إِثْمًا إِلَّا عَلَيْهَا ، أَيْ لَا يُؤْخَذُ بِمَا أَتَتْ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَرَكِبَتْ مِنَ الْخَطِيئَةِ سِوَاهَا ، بَلْ كُلُّ ذِي إِثْمٍ فَهُوَ الْمُعَاقَبُ بِإِثْمِهِ وَالْمَأْخُوذُ بِذَنْبِهِ . وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى يَقُولُ : وَلَا تَأْثَمُ نَفْسٌ آثِمَةٌ بِإِثْمِ نَفْسٍ أُخْرَى
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 954)(1/31)
غَيْرَهَا ، وَلَكِنَّهَا تَأْثَمُ بِإِثْمِهَا وَعَلَيْهِ تُعَاقَبُ دُونَ إِثْمِ أُخْرَى غَيْرَهَا . وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ لَهُمْ ، يَقُولُ : قُلْ لَهُمْ : إِنَّا لَسْنَا مَأْخُوذِينَ بِآثَامِكُمْ ، وَعَلَيْكُمْ عُقُوبَةُ إِجْرَامِكُمْ ، وَلَنَا جَزَاءُ أَعْمَالِنَا . وَهَذَا كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ : لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينٌ " (1)
فهذا هو العدل الذي لا عدل فوقه ، فالمهتدي يقطف ثمار هدايته ، والضال ضلاله على نفسه قال تعالى : {إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (41) سورة الزمر
يَأْمُرُ اللهُ رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ يُخْبِر النَّاسَ جَمِيعاً ، أَنَّ الذِي جَاءَهُمْ بِهِ هُوَ الحَقُّ الذِي لاَ مِرْيَةَ فِيهِ ، فَمَنْ اهْتَدَى وَاتَّبَعَهُ ، فَإِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَمَنْ ضَلَّ عَنْهُ ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ وَبَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ . كَمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ : أِنَّهُ رَسُولُ اللهِ إِلَى الخَلْقِ كَافَّةً ، وَإِنَّهُ نَذِيرٌ لَهُمْ غَيْرُ مُوَكَّلٍ بِهِدَايَتِهِمْ ، وَلاَ بِمُسَيْطِرٍ عَلَيْهِمْ ، وَإِنَّمَا الهَادِي هُوَ اللهُ " (2)
__________
(1) - تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة - (12 / 286)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1473)(1/32)
وقال تعالى :{ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) } [الإسراء/15 ]
مَنِ اسْتَقَامَ عَلَى طَرِيقِ الحَقِّ وَاتَّبَعَهُ ، وَاتَّبَعَ النُّورَ الذِي بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدُ - صلى الله عليه وسلم - فِإِنَّهُ يَكُونُ قَدِ اهْتَدَى ، وَتَكُونُ عَاقِبَةُ هُدَاهُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَمَنْ ضَلَّ عَنِ الحَقِّ ، وَزَاغَ عَنْ سَبِيلِ الرَّشَادِ ، فَإِنَّمَا يَجْنِي عَلَى نَفْسِهِ ، وَيَعُودُ وَبَالُ سَعْيهِ عَلَيْهِ هُوَ ، وَلاَ يَحْمِلُ أَحَدٌ ذَنْبَ أَحَدٍ ، وَلاَ يَجْنِي جَانٍ إِلاَّ عَلَى نَفْسِهِ .
وَيَقُولُ تَعَالَى : إِنَّهُ لاَ يُعَذِّبُ أَحَداً إِلاَّ بَعْدَ قِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِ ، يَدْعُونَهُ إِلَى الحَقِّ . (1)
وهذه القاعدة العظيمة التي اتفقت الرسالات السماوية على تقريرها ، قال تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) [النجم/36-41])
{ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ } هذا المدعي { بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } أي: قام بجميع ما ابتلاه الله به، وأمره به من الشرائع وأصول
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2045)(1/33)
الدين وفروعه، وفي تلك الصحف أحكام كثيرة من أهمها ما ذكره الله بقوله: { أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى } أي: كل عامل له عمله الحسن والسيئ، فليس له من عمل غيره وسعيهم شيء، ولا يتحمل أحد عن أحد ذنبا
{ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى } في الآخرة فيميز حسنه من سيئه، { ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى } أي: المستكمل لجميع العمل الحسن الخالص بالحسنى، والسيئ الخالص بالسوأى، والمشوب بحسبه، جزاء تقر بعدله وإحسانه الخليقة كلها، وتحمد الله عليه، حتى إن أهل النار ليدخلون النار، وإن قلوبهم مملوءة من حمد ربهم، والإقرار له بكمال الحكمة ومقت أنفسهم، وأنهم الذين أوصلوا أنفسهم وأوردوها شر الموارد، وقد استدل بقوله تعالى: { وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى } من يرى أن القرب لا يفيد (3) إهداؤها للأحياء ولا للأموات قالوا لأن الله قال: { وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ مَا سَعَى } فوصول سعي غيره إليه مناف لذلك، وفي هذا الاستدلال نظر، فإن الآية إنما تدل على أنه ليس للإنسان إلا ما سعى بنفسه، وهذا حق لا خلاف فيه، وليس فيها ما يدل على أنه لا ينتفع بسعي غيره، إذا أهداه ذلك الغير له،(1/34)
كما أنه ليس للإنسان من المال إلا ما هو في ملكه وتحت يده، ولا يلزم من ذلك، أن لا يملك ما وهبه له الغير من ماله الذي يملكه. (1)
وقد يعارض البعض هذا القول بقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) [العنكبوت/12-14])
وَقَالَ كُفَّارُ قَريشٍ لِمَنْ آمنَ مِنْهُمْ ، واتَّبَعُوا الرَّسُولَ - صلى الله عليه وسلم - : ارجِعُوا إِلى دِيننكُمُ الأَوَّلِ ، وَعُودُوا فِيهِ ، وإِذا كَانَ هُنَاكَ بَعْثٌ وَحِسَابٌ فإِنَّهُمْ سَيَحْمِلُونَ عَنْهُمْ تَبِعَةَ آثامِهِمْ ، وهيَ في رِقَابِهِمْ ، وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالى عَلَيهِمْ مُكَذِّباً : إِنَّهُ لا يَحْمِلُ أَحَدٌ ، فَكُلُّ امْرِئٍ بِمَا اكْتَسَبَ رَهِينٌ .
وَسَيَحْمِلُ الدُّعاةُ إٍِلى الكُفْرِ والضَّلاَلَةِ ، يَومَ القِيَامَةِ ، أَوْزَارَ أَنْفُسِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ ، وَمِثلَ أَوْزَارِ مَنْ أَضَلُّوهُمْ مِنَ النَّاسِ ، وَصَرفُوهُمْ عَنِ الهُدَى مِنْ غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِ أولئِكَ شَيْءٌ ، وَسَيُحَاسَبُ هؤلاءِ المُضِلُّونَ يومَ القِيَامَةِ عَلَى مَا يَخْتَلِقُونَهُ مِنَ البُهْتَانِ ، وَيُعَذِّبُونَ بِهِ .
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 821)(1/35)
وقوله تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) [النحل/24، 25])
وَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ المُسْتَكْبِرِينَ : مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالُوا مُعْرِضِينَ عَنِ الجَوَابِ : لَمْ يُنْزِلْ شَيْئاً ، إِنَّمَا هَذا الذِي نَسْمَعُهُ هُوَ مِنْ أَسَاطِيرِ الأَوَّلِينَ ، مَأْخُوذٌ مِنْ كُتُبِهِمْ وَقَصَصِهِمْ .
وَلَقَدْ قَالُوا مَا قَالُوهُ عَنِ الرَّسُولِ وَعَنِ القُرْآنِ ، وَعَنْ رِسَالَةِ اللهِ ، لِتَكُونَ عَاقِبَتُهُمْ أَنْ يَتَحَمَّلُوا آثَامَهُمْ وَخَطَايَاهُمْ ، وَأَوْزَارَ كُفْرِهِمْ ، وَلِيَتَحَمَّلُوا مَعَهَا مِنْ خَطَايَا وَأَوْزَارِ الذِي يُضِلُّونَهُمْ ، وَيَحْمِلُونَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ ، { وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً } (1) .
وهذا موافق لما تقدم وليس بمعارض ، فالإنسان يتحمل إثم ما ارتكب من ذنوب ، وإثم الذين أضلهم بقوله وفعله ،كما أن دعاة الهدى ينالون أجر ما عملوه ومثل أجر من اهتدى بهديهم ، فإضلال هؤلاء لغيرهم هو فعل يعاقبون عليه. (2)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1927)
(2) - توسع أ . د . عمر الأشقر في بحث هذه المسألة في كتابه ( مقاصد المكلفين ) .(1/36)
قال القرطبي : " { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } يعني ما يحمل عليهم من سيئات من ظلموه بعد فراغ حسناتهم . روي معناه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقد تقدّم في «آل عمران» (1) .
وعَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ ؛ فِي قَوْلِهِ : {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاًَ مَعَ أَثْقَالَهِمْ} قَالَ : كَانَ أَبُو جَهْلٍ وَصَنَادِيدُ قُرَيْشٍ يَتَلَقَّوْنَ النَّاسَ إِذَا جَاؤُوا إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُسْلِمُونَ ، فَيَقُولُونَ : إِنَّهُ يُحَرِّمُ الْخَمْرَ ، وَيُحَرِّمُ الزِّنَا ، وَيُحَرِّمُ مَا كَانَتْ تَصْنَعُ الْعَرَبُ ، فَارْجِعُوا ، فَنَحْنُ نَحْمِلُ أَوْزَارَكُمْ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ : {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ}. (2)
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَجِيءُ الظَّالِمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى إِذَا كَانَ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ بَيْنَ الظُّلْمَةِ وَالْوُعْرَةِ لَقِيَهُ الْمَظْلُومُ فَعَرَفَهُ وَعَرَفَ مَا ظَلَمَهُ بِهِ ، فَمَا يَبْرَحُ الَّذِينَ ظُلِمُوا يَقُصُّونَ مِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا حَتَّى يَنْزِعُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْحَسَنَاتِ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ حَسَنَاتٌ رُدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ حَتَّى يُورَدَ الدَّرْكَ الْأَسْفَلَ مِنَ النَّارِ " . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (3)
__________
(1) - تفسير القرطبي ـ موافق للمطبوع - (13 / 331)
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (20 / 242) (37722) حسن مرسل
(3) - المعجم الأوسط للطبراني - (6138 ) حسن
برح : زال - الدَّرَكُ بالتحريك، وقد يُسَكَّن : واحدُ الأدْراك، وهي مَنازل في النار. والدَّرَكُ إلى أسفل(1/37)
وعَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " يَجِيءُ الرَّجُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْحَسَنَاتِ مَا يَظُنُّ أَنْ يَنْجُوَ بِهَا فَلَا يَزَالُ يَقُومُ رَجُلٌ قَدْ ظَلَمَهُ مَظْلِمَةً فَيُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَيُعْطَى الْمَظْلُومَ حَتَّى لَا تَبْقَى لَهُ حَسَنَةٌ ، ثُمَّ يَجِيءُ مَنْ قَدْ ظَلَمَهُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْءٌ فَيُؤْخَذُ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ فَتُوضَعُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ " . " (1) .
وعَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : " صَاحِبُ الْمَوَازِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، قَالَ : يَا جِبْرِيلُ ، زِنْ بَيْنَهُمْ ، فَرَدَّ عَلَى الْمَظْلُومِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ حُمِّلَ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ ، فَيَرْجِعُ الرَّجُلُ عَلَيْهِ مِثْلُ الْجِبَالِ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ : وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ " (2)
وقال قتادة : من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء . ونظيره قوله تعالى : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ النحل : 25 ] .
ونظير هذا ما وري عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى صَدْرِ النَّهَارِ قَالَ فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِى النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ مُتَقَلِّدِى السُّيُوفِ عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ بَلْ كُلُّهُمْ
__________
(1) - الْبَحْرُ الزَّخَّارُ مُسْنَدُ الْبَزَّارِ( 2206 ) والْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ (6031 ) صحيح لغيره
(2) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (13104 ) حسن(1/38)
مِنْ مُضَرَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلاَلاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ « (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) وَالآيَةَ الَّتِى فِى الْحَشْرِ (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ) تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ - حَتَّى قَالَ - وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ». قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ - قَالَ - ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَىْءٌ ». (1) .
__________
(1) - صحيح مسلم(2398 ) وصحيح ابن حبان - (ج 8 / ص 101)(3308)
المجتاب : اللابس - المذهبة : الشىء المموه بالذهب -النمار : جمع نمرة وهى كساء فيه خطوط بيض وسود تلبسه الأعراب
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : هَذَا الْخَبَرُ دَالٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَ اللهِ جَلَّ وَعَلاَ {لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام] أَرَادَ بِهِ بَعْضَ الأَوْزَارِ لاَ الْكَلَّ ،(1/39)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ سَنَّ سُنَّةَ ضَلَالٍ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا ، كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةَ هُدًى فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا ، كَانَ لَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ " (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : " مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ ، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا " (2)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ « أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ فَاتُّبِعَ فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ وَلاَ يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا وَأَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ وَلاَ يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ». " خرجه ابن ماجة في السنن . (3)
وعَنِ الرَّبِيعِ : لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمِنْ أَوْزَارَ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ فَاتُّبِعَ ، فَإِنَّ عَلَيْهِ مِثْلَ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ
__________
(1) - مُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (10381 ) صحيح لغيره
(2) - صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ ( 112 ) صحيح
(3) - سنن ابن ماجه- المكنز - (210) حسن(1/40)
يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ ، وَأَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ ، فَلَهُ مِثْلَ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ" (1)
وقَالَ أَبُو حَاتِمٍ : هَذَا الْخَبَرُ دَالٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَ اللهِ جَلَّ وَعَلاَ {لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام] أَرَادَ بِهِ بَعْضَ الأَوْزَارِ لاَ الْكَلَّ ، إِذْ أَخْبَرَ الْمُبَيِّنُ عَنْ مُرَادِ اللهِ جَلَّ وَعَلاَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً ، فَعَمِلَ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ ، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ ، فَكَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلاَ قَالَ : لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى إِلاَّ مَا أَخْبَرَكُمْ رَسُولِي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهَا تَزِرُ ، وَالْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ ، وَلاَ خَصَّ عُمُومَ الْخِطَابِ بِهَذَا الْقَوْلِ إِلاَّ مِنَ اللهِ ، شَهِدَ اللَّهُ لَهُ بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ : {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم] - صلى الله عليه وسلم - ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلاَ : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال] فَهَذَا خَطَّابٌ عَلَى الْعُمُومِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام] ، ثُمَّ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ ، فَأَخْبَرَ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ السَّلَبَ لاَ يُخَمَّسُ وَأَنَّ الْقَلِيلَ يَكُونُ مُنْفَرِدًا بِهِ ، فَهَذَا تَخْصِيصُ بَيَانٍ لِذَلِكَ الْعُمُومِ الْمُطَلِّقِ. (2)
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (19657 ) صحيح مقطوع
(2) - صحيح ابن حبان - (ج 8 / ص 101)(3308)(1/41)
وقال الكلاباذي : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رِضَيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا " فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْ سِنِينَ إِثْمُ مَنْ عَمِلَ بَعْدَهُ ، كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُطْرَحَ سَيِّئَاتُ مَنْ عَمِلَهَا عَلَى مَنْ لَمْ يَعْمَلْهَا ، فَابْنُ آدَمَ إِنَّمَا قَتَلَ نَفْسًا وَاحِدَةً وَيُطْرَحُ عَلَيْهِ آثَامُ كُلِّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَذَلِكَ جَزَاءُ فِعْلِهِ ، كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ عُقُوبَةَ ابْنِ آدَمَ فِي النَّارِ إِثْمَهَ وَآثَامَ الْقَاتِلِينَ ، لَا أَنْ يَكُونَ يُؤَاخَذُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ ، وَيُعَاقَبُ عَلَى مَعْصِيَةٍ لَمْ يَعْمَلْهَا ، كَذَلِكَ الظَّالِمُ جَعَلَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ أَنْ يُعَاقَبَ بِآثَامِ مَنْ ظَلَمَهُ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ ، وَعَلَى مَا اكْتَسَبَهُ ، لَا أَنْ يَكُونَ مُؤَاخَذًا بِذَنْبِ غَيْرِهِ ، أَوْ مُعَاقَبًا بِمَا لَمْ يَجْنِهِ ، فَحَصَلَ آخِرُ الْأَمْرِ أَنْ يُجَازَى الْمَظْلُومُ عَلَى ظُلْمِهِ ثَوَابَ حَسَنَاتِ ظَالِمِهِ ، وَذَلِكَ جَزَاؤُهُ الَّذِي جَازَاهُ اللَّهُ بِهِ ، وَعِوَضُ مَا أُخِذَ مِنْهُ أَوْ جُنِيَ عَلَيْهِ ، وَثَوَابُ صَبْرِهِ عَلَى مَا أَصَابَهُ ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَيُعَاقَبُ الظَّالِمُ بِذَهَابِ حَسَنَاتِهِ ، وَعُقُوبَةِ مَا جَنَى الْمَظْلُومُ ، وَذَلِكَ جَزَاءُ ظُلْمِهِ ، وَعُقُوبَةُ مَا جَنَتْهُ يَدُهُ وَلِسَانُهُ ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ ظُلْمٌ وَلَا جَوْرٌ ، وَلَا الْقَوْلُ بِالْإِحْبَاطِ كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً وَمَاتَ عَلَيْهَا حَبِطَتْ حَسَنَاتُهُ الَّتِي اكْتَسَبَهَا مُدَّةَ عُمْرِهِ ، وَلَمْ يَنْفَعْهُ(1/42)
إِيمَانُهُ بِاللَّهِ فِي مُدَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً ، وَلَا طَاعَتُهُ الَّتِي اكْتَسَبَهَا ، بَلْ هُوَ فِي النَّارِ خَالِدًا مُخَلَّدًا مَعَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ . وَأَمَّا الَّذِي قُلْنَاهُ فَإِنَّ هَذَا الظَّالِمَ لَمْ تَحْبَطْ أَعْمَالُهُ , بَلْ أُسْقِطَتْ حَسَنَاتُهُ عِنْدَ عُقُوبَاتٍ كَثِيرَةٍ ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ اقْتَصَّ مِنْهُ فَوَفَّتْ حَسَنَاتُهُ بِجِنَايَاتِهِ ، أَوْ نَقَصَتْ جِنَايَاتُهُ وَزَادَتْ حَسَنَاتُهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَإِنَّ زَادَتْ جِنَايَاتُهُ فَإِنَّمَا يُعَاقَبُ فِي النَّارِ بِقَدْرِ مَا زَادَ مِنْ جِنَايَتِهِ فَيَكُونُ عُقُوبَتُهُ أَخَفَّ ، وَمُدَّةُ لَبْثِهِ فِي النَّارِ أَقَلَّ ، وَلَوْلَا حَسَنَاتُهُ لَطَالَ لَبْثُهُ فِي النَّارِ ، وَاشْتَدَّتْ عُقُوبَتُهُ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا " (1)
وعَنْ عَقِيلِ بن شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عَوْفُ بن مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ:"أُمَّتِي ثَلاثُ أَثْلاثٍ: فَثُلُثٌ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ، وَثُلُثٌ يُحَاسَبُونَ حِسَابًا يَسِيرًا، ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَثُلُثٌ يُمَحَّصُونَ وَيُكْشَفُونَ، ثُمَّ يَأْتِي الْمَلائِكَةُ، فَيَقُولُونَ: وَجَدْنَاهُمْ يَقُولُونَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَيَقُولُ اللَّهُ: صَدَقُوا لا إِلَهَ إِلا أَنَا، أَدْخِلُوهُمُ الْجَنَّةَ بِقَوْلِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَاحْمِلُوا خَطَايَاهُمْ عَلَى أَهْلِ التَّكْذِيبِ، فَهِيَ الَّتِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهَمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ"[العنكبوت آية 13] وَتَصْدِيقَهَا فِي الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا
__________
(1) - بَحْرُ الْفَوَائِدِ الْمُسَمَّى بِمَعَانِي الْأَخْيَارِ لِلْكَلَابَاذِيِّ (348 )(1/43)
الْمَلائِكَةَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا"[فاطر آية 32] فَجَعَلَهُمْ ثَلاثَةَ أَفْوَاجٍ، وَهُمْ أَصْنَافٌ كُلُّهُمْ "فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ"[فاطر آية 32] فَهَذَا الَّذِي يُكْشَفُ وَيُمَحَّصُ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَهُوَ الَّذِي يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، "وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ"[فاطر آية 32] فَهَذَا الَّذِي يَلِجُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ بِإِذْنِ اللَّهِ يَدْخُلُونَهَا جَمِيعًا لَمْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمْ "يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهِبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ"[فاطر آية 33]. (1)
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (12 / 454) (14572) حسن(1/44)
القاعدة الثالثة
إطلاع العباد على ما قدموه من أعمال
من إعذار الله لخلقه ، وعدله في عباده أن يطلعهم على ما قدموه من صالح أعمالهم وطالحها ، حتى يحكموا على أنفسهم ، فلا يكون لهم بعد ذلك عذر ، قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (105) سورة المائدة .
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه ألزموا أنفسكم بالعمل بطاعة الله واجتناب معصيته، وداوموا على ذلك وإن لم يستجب الناس لكم، فإذا فعلتم ذلك فلا يضركم ضلال مَن ضلَّ إذا لزمتم طريق الاستقامة، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، إلى الله مرجعكم جميعًا في الآخرة، فيخبركم بأعمالكم، ويجازيكم عليها. (1)
وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} (30) سورة آل عمران .
__________
(1) - التفسير الميسر - (2 / 279)(1/45)
َيُحَذِّرُ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ مِنْ هَوْلِ يَوْمِ القِيَامَةِ ، وَهُوَ يَوْمٌ تَجِدُ فِيهِ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا حَاضِراً أَمَامَهَا ، فَمَا رَأَتْهُ مِنْ أَعْمَالِهَا حَسَناً سُرَّتْ بِهِ وَفَرِحَتْ ، وَمَا رَأتْهُ قَبِيحاً تَودُّ لَوْ أنّها تَبَرَّأتْ مِنْهُ ، وَأنْ يَكُون بَيْنَها وَبَيْنَهُ أمَدٌ بَعِيدٌ ، وَيُحَذِّرُ اللهُ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ عِقَابِهِ ، لأَنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ يُحِبُّ أنْ يَسْتَقِيمُوا عَلَى صِرَاطِهِ المُسْتَقِيمِ ، وَدِينِهِ القَوِيمِ . (1)
وقال تعالى (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) [الانفطار/4، 5])
وَإِذَا تَحَرَّكَتِ الأَرْضُ بِالقُبُورِ فَتَبَعْثَرتْ ، وَقُلِبَ تُرَابُهَا ، وَخَرَجَ الأَمْوَاتُ مِنْهَا .إِذَا حَصَلَ كُلُّ ذَلِكَ يَكُونُ مَوْعِدُ قِيَامِ السَّاعَةِ قَدْ حَانَ ، وَحَانَ البَعْثُ وَالحِسَابُ . وَحِينَئِذٍ تَعْلَمُ كُلُّ نَفْسٍ مَا قَدَّمَتْ مِنْ عَمَلٍ وَلَمْ تُقَصِّرْ فِيهِ ، وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ عَمَلٍ وَتَكَاسَلَتْ عَنْ أَدَائِهِ . (2)
وقال تعالى : {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (49) سورة الكهف.
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 324)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5710)(1/46)
وَوَضَعَ بَيْنَ يَدَيْ كُلِّ فَرْدٍ كِتَابُ أَعْمَالِهِ ، وَفِيهِ جَمِيعُ مَا عَمِلَهُ فِي حَيَاتِهِ ، مِنْ حَسَنٍ وَقَبِيحٍ ، وَمِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ . وَيَرَى المُجْرِمُونَ أَعْمَالَهُمُ القَبِيحَةُ مُحْصَاةً بِتَمَامِهَا ، لَمْ يَنْقُصْ مِنْهَا شَيءٌ ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ العَذَابَ وَاقِعٌ بِهِمْ ، فَيُشْفِقُونَ مِمَّا سَيَحُلُّ بِهِمْ ، وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ : يَا وَيْلَتَنَا ، وَيَا حَسْرَتَنَا ، عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيا ، مَا لِهَذا الكِتَابِ لاَ يَتْرُكُ صَغِيراً مِنْ أَعْمَالِنَا وَذُنُوبِنَا ، وَلاَ كَبِيراً إِلاَّ أَحْصَاهُ وَوَعَاهُ؟ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ حَاضِراً لِيُحَاسَبُوا عَلَيْهِ ، وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ .وَإِنَّمَا يُحَاسِبُ العِبَادَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بِالعَدْلِ التَّامِّ . (1)
وإطلاع العباد على ما قدموه يكون بإعطائهم صحائف أعمالهم. وقراءتهم لها فقد أخبرنا ربنا - تبارك وتعالى - أنه وكل بكل واحد منا ملكين يسجلان عليه صالح أعماله وطالحها ، فإذا مات ختم على كتابه ،كما قال تعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) [الإسراء/13، 14])
وَالإِنْسَانُ مُلْتَزِمٌا بِعَمَلِهِ ، وَمَسْؤُولٌ عَنْهُ . وَهَذا العَمَلُ مُلْتَصِقٌ بِالإِنْسَانِ ، وَمُلاَزِمٌ لَهُ مُلاَزَمَةَ القِلاَدَةِ لِلعُنُقِ ، لاَ يَنْفَكُ عَنْهُ بِحَالٍ ،
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2189)(1/47)
وَسَيُؤَاخِذُهُ اللهُ عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، فَيُخْرِجُ لَهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ صَحِيفَةَ أَعْمَالِهِ كُلِّهَا ، لاَ يَغِيبُ عَنْهَا عَمَلٌ صَغِيرٌ وَلاَ كَبِيرٌ ، لِيُحَاسَبَ عَلَى هذِهِ الأَعْمَالِ جَمِيعِهَا .
وَطَائِرُ الإِنْسَانِ هُنَا عَمَلُهُ الذِي سَبَّبَ الخَيْرَ وَالشَّرَّ ، وَكَانَتِ العَرَبُ تَزْجُرُ الطَّيْرَ ، فَإِذَا طَارَ الطَّائِرُ يَمِيناً تَيَمَّنُوا وَتَفَاءَلُوا بِالخَيْرِ ، وَإِنْ طَارَ شِمالاً تَشَاءَمُوا وَتَوَجَّسُوا خِيْفَةً مِنَ الشَّرِّ . وَالعَرَبِ تَضْرِبُ مَثَلاً لِلشَّيءِ الذِي يُلاَزِمُ الإِنْسَانَ وَلاَ يُفَارِقُهُ أَبَداً ، فَتَقُولُ : أَلْزَمْتُهُ إِيَّاهُ فِي عُنُقِهِ .
وَيُقَالُ لِكُلِّ وَاحِدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ : اقْرَأْ كِتَابَكَ الذِي يَحْوِي أَعْمَالَكَ كُلَّهَا ، صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا ، يَكْفِيكَ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ المُحَاسِبَ عَلَى نَفْسِكَ ، وَقَدْ عَدَلَ مَعَكَ مَنْ جَعَلَكَ حَسِيباً عَلَى نَفْسِكَ . (1)
وفي التفسير الميسر :
" وكل إنسان يجعل الله ما عمله مِن خير أو شر ملازمًا له، فلا يحاسَب بعمل غيره، ولا يحاسَب غيره بعمله، ويخرج الله له يوم القيامة كتابًا قد سُجِّلت فيه أعماله يراه مفتوحًا.
يقال له: اقرأ كتاب أعمالك، فيقرأ، وإن لم يكن يعرف القراءة في الدنيا، تكفيك نفسك اليوم محصية عليك عملك، فتعرف ما عليها
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2043)(1/48)
من جزاء. وهذا من أعظم العدل والإنصاف أن يقال للعبد: حاسِبْ نفسك، كفى بها حسيبًا عليك. " (1)
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - التفسير الميسر - (5 / 7)(1/49)
القاعدة الرابعة
مضاعفة الحسنات دون السيئات
ومن رحمته تعالى أن يضاعف أجر الأعمال الصالحة {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} (17) سورة التغابن.
مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ مَالٍ فِي طَاعَةِ اللهِ ، وَتَقَرُّباً إِليهِ ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَعُدُّ ذَلِكَ الإِنْفَاقَ مُقَدَّماً إِلَيه تَعَالَى ، وَهُوَ يُخْلفُهُ وَيَرُدُّهُ إِلَى المُنْفقِينَ - أَضْعَافاً كَثِيرَةً - الحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِها إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ - وَيَمْحُو عَنْكُمْ بِها سَيِّئَاتِكُمْ ، وَيَسْتُرُهَا عَلَيْكُمْ ، وَاللهُ شكُورٌ يَجْزِي عَلَى القَلِيل بِالكَثِيرِ ، وَهُوَ كَثِيرُ الحِلْمِ وَالمَغْفِرَةِ ، يَغْفِرُ وَيَسْتُرُ ، وَلاَ يُعَاجِلُ بِالعُقُوبَةِ عِبَادَهُ عَلَى الذُّنُوبِ وَالأَخْطَاءِ لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ وَيَرْجِعُونَ مُسْتَغْفِرْينَ . (1)
وتبارك اللّه. ما أكرمه! وما أعظمه! وهو ينشئ العبد ثم يرزقه. ثم يسأله فضل ما أعطاه. قرضا. يضاعفه ..
ثم .. يشكر لعبده الذي أنشأه وأعطاه! ويعامله بالحلم في تقصيره هو عن شكر مولاه ..! يا للّه!!!
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5094)(1/50)
إن اللّه يعلمنا - بصفاته - كيف نتسامى على نقصنا وضعفنا ، ونتطلع إلى أعلى دائما لنراه - سبحانه - ونحاول أن نقلده في حدود طاقتنا الصغيرة المحدودة. وقد نفخ اللّه في الإنسان من روحه. فجعله مشتاقا أبدا إلى تحقيق المثل الأعلى في حدود طاقته وطبيعته ، ومن ثم تبقى الآفاق العليا مفتوحة دائما ليتطلع هذا المخلوق إلى الكمال المستطاع ، ويحاول الارتفاع درجة بعد درجة ، حتى يلقى اللّه بما يحبه له ويرضاه. (1)
وأقل ما تضاعف به الحسنة عشرة أضعاف قال تعالى : {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (160) سورة الأنعام
مَنْ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ رَبَّهُ بِخَصْلَةٍ حَسَنَةٍ ، مِنْ خِصَالِ الطَّاعَاتِ ، جَزَاهُ اللهُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا ، مِنْ عَطَاءِ اللهِ غَيْرِ المَحْدُودِ . وَمَنْ جَاءَ بِسَيِّئَةٍ ، فَلا يُجَازَى إلاَّ بِعُقُوبَةٍ سَيِّئَةٍ ، مِثْلِهَا ، وَاللهُ لاَ يَظْلِمُ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ عَمَلاً عَمِلَهُ ، فَلاَ يَزِيدُ فِي ذَنْبِ المُسِيءِ ، وَلاَ يَبْخَسُهُ شَيْئاً مِنْ أَعْمَالِهِ الحَسَنَةِ .وهذا مقتضى عدله تبارك وتعالى
وقد تصل مضاعفة الحسنة إلى سبعمائة ضعف ، وأكثر من ذلك كما قال تعالى: { مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3591)(1/51)
أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (261) سورة البقرة
يَحُثُّ اللهُ المُؤْمِنِينَ عَلَى إِنْفَاقِ أمْوالِهِمْ فِي سَبيلِ اللهِ ، وَابْتِغاءِ مَرْضَاتِهِ ( فِي الحَجِّ وفِي الجِهَادِ وَفِي الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ ) وَيَضْرِبُ لَهُمُ الزَّرْعَ مَثَلاً عَلَى تَنْمِيَتِهِ ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، الأعْمَالَ الصَّالِحَةَ لأِصْحَابِها ، فَكَمَا يَنْمُو الزَّرْعُ لِمَنْ بَذَرَهُ ، كَذَلِكَ يَتَضَاعَفُ العَمَلُ الصَّالِحُ عَنْدَ اللهِ ، وَاللهُ يُضَاعِفُ الأجْرَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، فَيَزِيدُهُ زِيَادَةً لا حَصْرَ لَهَا بِحَسَبِ إخْلاصِ العَبْدِ فِي عَمَلِهِ ، وَاللهُ وَاسِعُ الفَضْلِ لاَ يَنْحَصِرُ فَضْلُهُ ، وَلا يُحَدُّ عَطَاؤُهُ ، وَهُوَ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ هَذِهِ المُضَاعَفَةَ وَبِمَنْ لاَ يَسْتَحِقُّهَا . (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ » (2) .
وعَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 268)
(2) - صحيح مسلم (354 )(1/52)
إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْ فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ رَبِّ ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ فَقَالَ ارْقُبُوهُ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ" (1)
وعَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ ، أَنَّ أَبَا ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ،أَنَّهُ قَالَ : الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا،أَوْ أَزِيدُ ، وَالسَّيِّئَةُ وَاحِدَةٌ ،أَوْ أَغْفِرُهَا،وَلَوْ لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا مَا لَمْ تُشْرِكٍ بِي ، لَقِيتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً" (2)
ومن الأعمال التي أخبر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنها تضاعف قراءة القرآن والذكر والإنفاق والجهاد والحج والصوم والصبر وغيرها كثير مما لم نحصره هنا ، فعن عَبَِْد اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ قَرَأَ
__________
(1) - صحيح مسلم (185 )
(2) - المستدرك للحاكم (7605) صحيح(1/53)
حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لاَ أَقُولُ الم َرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلاَمٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ » (1) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا تَصَدَّقَ عَبْدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ طَيِّبًا ، وَلاَ يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ طَيِّبٌ إِلاَّ كَأَنَّمَا يَضَعُهَا فِي يَدِ الرَّحْمَنِ ، فَيُرَبِّيهَا لَهُ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ وَفَصِيلَهُ ، حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ أَوِ التَّمْرَةَ لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِثْلَ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ. (2)
وعَنْ عَائِشَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ لَيُرَبِّي لأَحَدِكُمُ التَّمْرَةَ وَاللُّقْمَةَ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ أُحُدٍ. (3)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَأَقَامَ الصَّلاَةَ ، وَصَامَ رَمَضَانَ ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ هَاجَرَ ، فِى سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ جَلَسَ فِى أَرْضِهِ الَّتِى وُلِدَ فِيهَا » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نُنَبِّئُ النَّاسَ بِذَلِكَ . قَالَ « إِنَّ فِى الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِهِ ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز - (3158 ) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (1 / 504) (270) وصحيح البخارى- المكنز - (1410) وصحيح مسلم- المكنز - (2389) الفلو المهر
(3) - صحيح ابن حبان - (8 / 111) (3317) صحيح(1/54)
بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ » (1) .
وأما الأعمال التي تضاعف أضعافاً لا تدخل تحت حصر ، ولا يحصيها إلا الذي يجزى بها : الصوم ، فعَنْ أَبِى صَالِحٍ الزَّيَّاتِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قَالَ اللَّهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ ، فَإِنَّهُ لِى ، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ . وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ ، أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّى امْرُؤٌ صَائِمٌ . وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ ، وَإِذَا لَقِىَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ » (2) .
والسر في كون الصائم يعطى من غير تقدير ، أن الصوم من الصبر ، والصابرون يوفون أجورهم بغير حساب ، قال تعالى : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ الزمر : 10 ] ، قال القرطبي : "
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (7423 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1904 )
الجنة : الوقاية - الخلوف : تغير ريح الفم -يرفث : يفحش أو يجامع(1/55)
وقال أهل العلم : كل أجر يكال كيلاً ، ويوزن وزناً إلا الصوم ، فإنه يحثى ويغرف غرفا " (1)
ومن الصبر : الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها وكربها التي يبتلي الله بها عباده ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ - الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ - أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) [ البقرة : 155-157 ] .
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ بِأَنَّهُ سَيَبْلُوهُمْ وَيَخْتَبِرُهُمْ بِقَليلٍ ( بِشَيءٍ ) مِنْ الخَوْفِ والجُوعِ ، وَبِذَهَابِ بَعْضِ المَالِ ، وَبِمَوتِ بَعْضِ الأَصْحَابِ وَالأَقَارِبِ وَالأَحْبَابِ ، وَبِنَقْصِ غِلاَلِ المَزَارِعِ . . . فَمَنْ صَبَرَ عَلَى قَضَاءِ اللهِ وَحُكْمِهِ أَثَابَهُ ، وَمَنْ قَنَطَ وَلَجَّ أَحَلَّ بِهِ عِقَابَهُ .
أّمَّا الصَّابِرُونَ الذِينَ خَصَّهُمُ اللهُ بِالبُشْرَى فَهُمُ الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الخَيْرَ وَالشَّرَّ مِنَ اللهِ ، وَإِذَا نَزَلَتْ بِهِمْ مُصِيبَةٌ صَبَرُوا ، وَتَمَسَّكُوا بِقَولِهِمْ : إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِليهِ رَاجِعُونَ ، أَيْ إِنَّهُم عَبيدُ اللهِ وَمُلْكُهُ ، وَإِنَّهُمْ رَاجِعُونَ إِليهِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ . يُثنِي اللهُ جَلَّ شَأْنُهُ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّابِرِينَ ، وَيُخْبِرُ بَأَنَّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ، وَأَنَّهُمْ يَجِدُونَ أَثَرَهَا فِي بَرْدِ قُلُوبِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ المُصِيبَةِ ، وَأَنَّهُمْ هُمُ المُهْتَدُونَ إِلى طَريقِ الخَيْرِ ، وَإِلى
__________
(1) - تفسير القرطبي ـ موافق للمطبوع - (15 / 240)(1/56)
الحَقِّ والصَّوابِ ، وَأَنَّهُمُ اسْتَسْلَمُوا لِقَضَاءِ اللهِ فَلَمْ يَسْتَحْوِذِ الجَزَعُ عَلَيهِمْ . (1)
فلا بد من تربية النفوس بالبلاء ، ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد ، وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات .. لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة ، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف. والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى. فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين. وكلما تألموا في سبيلها ، وكلما بذلوا من أجلها .. كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها. كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها .. إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم : لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيرا مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء ، ولا صبروا عليه .. وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها ، مقدرين لها ، مندفعين إليها .. وعندئذ يجيء نصر اللّه والفتح ويدخل الناس في دين اللّه أفواجا ..
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 162)(1/57)
ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى. فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد. والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون ، والران عن القلوب.
وأهم من هذا كله ، أو القاعدة لهذا كله .. الالتجاء إلى اللّه وحده حين تهتز الأسناد كلها ، وتتوارى الأوهام وهي شتى ، ويخلو القلب إلى اللّه وحده. لا يجد سندا إلا سنده. وفي هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات ، وتتفتح البصيرة ، وينجلي الأفق على مد البصر .. لا شيء إلا اللّه .. لا قوة إلا قوته .. لا حول إلا حوله .. لا إرادة إلا إرادته .. لا ملجأ إلا إليه .. وعندئذ تلتقي الروح بالحقيقة الواحدة التي يقوم عليها تصور صحيح ..
والنص القرآني هنا يصل بالنفس إلى هذه النقطة على الأفق : «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا : إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» ..
إنا للّه .. كلنا .. كل ما فينا .. كل كياننا وذاتيتنا .. للّه .. وإليه المرجع والمآب في كل أمر وفي كل مصير .. التسليم .. التسليم(1/58)
المطلق .. تسليم الالتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجها لوجه بالحقيقة الوحيدة ، وبالتصور الصحيح.
هؤلاء هم الصابرون .. الذين يبلغهم الرسول الكريم بالبشرى من المنعم الجليل .. وهؤلاء هم الذين يعلن المنعم الجليل مكانهم عنده جزاء الصبر الجميل : «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» .. صلوات من ربهم .. يرفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه .. وهو مقام كريم .. ورحمة .. وشهادة من اللّه بأنهم هم المهتدون .. (1)
وعندما يرى أهل العافية عظم أجر الصابرين يتمنون أن تكون جلودهم قرضت بالمقاريض لينالوا أجر الصابرين ، فعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ بِالْمَقَارِيضِ مِمَّا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ أَهْلِ الْبَلَاءِ " (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , قَالَ:يُؤْتَى بِالشَّهِيدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُنْصَبُ لِلْحِسَابِ , وَيُؤْتَى بِالْمُتَصَدِّقِ فَيُنْصَبُ لِلْحِسَابِ , ثُمَّ يُؤْتَى بِأَهْلِ الْبَلاءِ وَلا يُنْصَبُ لَهُمْ مِيزَانٌ , وَلا يُنْشَرُ لَهُمْ دِيوَانٌ , فَيُصَبُّ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 145)
(2) - شعب الإيمان - (12 / 316) (9451 ) صحيح(1/59)
عَلَيْهِمُ الأَجْرُ صَبًّا , حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْعَافِيَةِ لَيَتَمَنَّوْنَ فِي الْمَوْقِفِ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ قُرِضَتْ بِالْمَقَارِيضِ مِنْ حُسْنِ ثَوَابِ اللَّهِ لَهُمْ. (1)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ ، أَنَّ أَبَا مَالِكٍ الأَشْعَرِيَّ حَدَّثَهُ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ شَطْرُ الإِيمَانِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ ، وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَالصَّلاَةُ نُورٌ ، وَالزَّكَاةُ بُرْهَانٌ ، وَالصَّدَقَةُ ضِيَاءٌ ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو ، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا ، أَوْ مُوبِقُهَا. (2)
وعَنِ الزُّهْرِيِّ ، أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، قَالَ : فُرِضَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ ، ثُمَّ نُقِصَتْ حَتَّى جُعِلَتْ خَمْسًا ، ثُمَّ نُودِيَ : يَا مُحَمَّدُ ، إِنَّهُ لا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ، وَإِنَّ لَكَ بِهَذِهِ الْخَمْسِ خَمْسِينَ . " (3)
وأخبرنا رسولنا صلوات الله وسلامه عليه أيضاً أن الذكر يضاعف عشرة أضعاف ،فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضى الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « خَلَّتَانِ لاَ يُحْصِيهِمَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَلاَ وَهُمَا يَسِيرٌ وَمَنْ يَعْمَلُ بِهِمَا قَلِيلٌ يُسَبِّحُ اللَّهَ فِى دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ عَشْرًا وَيَحْمَدُهُ عَشْرًا وَيُكَبِّرُهُ عَشْرًا ». قَالَ فَأَنَا
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (10 / 325) (12658 ) حسن
(2) - صحيح ابن حبان - (3 / 124) (844) وصحيح مسلم- المكنز - ( 556 )
(3) - مسند أبي عوانة(269 ) صحيح(1/60)
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَعْقِدُهَا بِيَدِهِ قَالَ « فَتِلْكَ خَمْسُونَ وَمِائَةٌ بِاللِّسَانِ وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فِى الْمِيزَانِ وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ تُسَبِّحُهُ وَتُكَبِّرُهُ وَتَحْمَدُهُ مِائَةً فَتِلْكَ مِائَةٌ بِاللِّسَانِ وَأَلْفٌ فِى الْمِيزَانِ فَأَيُّكُمْ يَعْمَلُ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةِ سَيِّئَةٍ ». قَالُوا وَكَيْفَ لاَ يُحْصِيهَا قَالَ « يَأْتِى أَحَدَكُمُ الشَّيْطَانُ وَهُوَ فِى صَلاَتِهِ فَيَقُولُ اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا. حَتَّى يَنْفَتِلَ فَلَعَلَّهُ أَنْ لاَ يَفْعَلَ وَيَأْتِيهِ وَهُوَ فِى مَضْجَعِهِ فَلاَ يَزَالُ يُنَوِّمُهُ حَتَّى يَنَامَ ». (1)
وقد يضاعفها أكثر من ذلك ، وقد تصل المضاعفة إلى سبعمائة ضعف ، وأكثر من ذلك ، ومن ذلك أجر المنفق في سبيل الله ، قال تعالى : ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) [ البقرة : 261 ]
يَحُثُّ اللهُ المُؤْمِنِينَ عَلَى إِنْفَاقِ أمْوالِهِمْ فِي سَبيلِ اللهِ ، وَابْتِغاءِ مَرْضَاتِهِ ( فِي الحَجِّ وفِي الجِهَادِ وَفِي الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ ) وَيَضْرِبُ لَهُمُ الزَّرْعَ مَثَلاً عَلَى تَنْمِيَتِهِ ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، الأعْمَالَ الصَّالِحَةَ لأِصْحَابِها ، فَكَمَا يَنْمُو الزَّرْعُ لِمَنْ بَذَرَهُ ، كَذَلِكَ يَتَضَاعَفُ العَمَلُ الصَّالِحُ عَنْدَ اللهِ ، وَاللهُ يُضَاعِفُ الأجْرَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، فَيَزِيدُهُ زِيَادَةً لا
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز - (3739 ) صحيح -ينفتل : ينصرف(1/61)
حَصْرَ لَهَا بِحَسَبِ إخْلاصِ العَبْدِ فِي عَمَلِهِ ، وَاللهُ وَاسِعُ الفَضْلِ لاَ يَنْحَصِرُ فَضْلُهُ ، وَلا يُحَدُّ عَطَاؤُهُ ، وَهُوَ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ هَذِهِ المُضَاعَفَةَ وَبِمَنْ لاَ يَسْتَحِقُّهَا . (1)
قال ابن كثير : هذا مثل ضربه الله لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته ، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. فقال : ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) [ البقرة : 261 ] قال سعيد بن جبير : " يعني في طاعة الله " . وقال مكحول : يعني به الإنفاق في الجهاد من رباط الخيل وإعداد السلاح وغير ذلك . وعن ابن عباس : الجهاد والحج يضعف الدرهم فيها إلى سبعمائة ضعف " (2)
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ ، أَنَّ رَجُلاً تَصَدَّقَ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فِي سَبِيلِ اللهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَتَأْتِيَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِسَبْعِمِائَةِ نَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ." (3)
ومن فضل الله تبارك وتعالى أن المؤمن الذي يهم بفعل الحسنة ، ولكنه لا يفعلها تكتب له حسنة تامة ، والذي يهم بفعل السيئة ، ثم تدركه مخافة الله ، فيتركها تكتب له حسنة تامة ، ففي صحيح البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 268)
(2) - تفسير ابن كثير - دار طيبة - (1 / 691)
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 828)(17094) 17222- صحيح(1/62)
عليه وسلم - فِيمَا يَرْوِى عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ قَالَ « إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً ، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً ، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً » (1) .
ومن واسع رحمته وفضله تبارك وتعالى أن يبدل السيئات حسنات كما قال تعالى { إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (70) سورة الفرقان
إلا مَنْ تَابَ في الدُّنْيا ، وأخْلَصَ التوبةَ وهو مُؤْمنٌ ، وقدْ عَمِلَ الصالحاتِ ، ورجَعَ إلى رَبِّهِ مُسْتَغْفِراً مُنِيباً ، فإنَّ اللهَ تَعالى يتوبُ عليه ، ويُحْسِنُ عاقِبَتَهُ ، ( وفي ذلك دَلالةٌ على صِحَّةِ توبةِ القَاتل ) ، وهؤلاءِ هُمُ المُؤمنون ، كانُوا قبلَ إيْمَانِهِمْ يَعْمَلُونَ السَّيّئاتِ ، فَحَوَّلَهُمُ اللهُ تَعالى إلى الحَسَناتِ ، وأبْدَلَهُمْ مَكَانَ السَّيئاتِ الحَسَنَاتِ ، واللهُ غفورٌ لذُنُوبِ عِبادِه ، رَحيمٌ بِهمْ . فأي فضل بعد هذا الفضل؟
وعَنْ طَوِيلٍ شَطَبٍ الْمَمْدُودِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : أَرَأَيْتَ رَجُلا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا فَلَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6491 )(1/63)
، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لا يَتْرُكُ حَاجَةً أَوْ دَاجَةً إِلا اقْتَطَعَهَا بِيَمِينِهِ ، فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ تَوْبَةٍ ؟ قَالَ : هَلْ أَسْلَمْتَ ؟ قَالَ : أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : نَعَمْ ، تَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ وَتَتْرُكُ الشَّرَّاتِ فَيَجْعَلُهُنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْخَيْرَاتِ كُلِّهِنَّ قَالَ وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى" (1)
وتبلغ رحمة الله بعباده وفضله عليهم أن يبدِّل سيئاتهم حسنات ، ففي الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنِّى لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً الْجَنَّةَ وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا. فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ فَيُقَالُ عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا. فَيَقُولُ نَعَمْ. لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ
__________
(1) - الآحاد والمثاني - (4 / 560) (2718) والمعجم الكبير للطبراني - (6 / 475) (7085 ) حسن
قَالَ أَبُو الْمُغِيرَةِ : سَمِعْتُ الْمَيْسِرَ بْنَ عُبَيْدٍ وَكَانَ عَارِفًا بِالنَّحْوِ وَالْعَرَبِيَّةِ قَالَ : الْحَاجَةُ : الَّذِي يَقْطَعُ عَلَى الْحَاجِّ إِذَا تَوَجَّهُوا وَالدَّاجَةُ : الَّذِي يَقْطَعُ عَلَيْهِمْ إِذَا رَجَعُوا " الهرم : كِبر السّن وضعفه - فجر : مال عن الحق إلى الباطل والكذب -الفجرات : جمع فجرة وهي المرة من الفجور وهو اسم جامع لكل شر(1/64)
ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ. فَيُقَالُ لَهُ فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً. فَيَقُولُ رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لاَ أَرَاهَا هَا هُنَا ». فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. (1)
وعن مُطَرِّفَ بْنِ طَرِيفٍ ، وَعَبْدٍِ الْمَلِكِ بْنِ أَبْجَرَ ، سَمِعَا الشَّعْبِيَّ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَّ مُوسَى ، قَالَ : رَبِّ ، أَيُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَدْنَى مَنْزِلَةً ؟ فَقَالَ : رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَمَا يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ ، فَيُقَالُ : ادْخُلِ الْجَنَّةَ ، فَيَقُولُ : كَيْفَ أَدْخُلُ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ ، فَيُقَالُ لَهُ : تَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِنَ الْجَنَّةِ مِثْلَ مَا كَانَ لِمَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا ، قَالَ : فَيَقُولُ : نَعَمْ أَيْ رَبِّ ، فَيُقَالُ : لَكَ هَذَا وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ ، فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ رَضِيتُ ، فَيُقَالُ لَهُ : إِنَّ لَكَ هَذَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهِ مَعَهُ ، فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ رَضِيتُ ، فَيُقَالُ لَهُ : لَكَ مَعَ هَذَا مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ." (2)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إِنِّي لَأَعْرِفُ آخِرَ رَجُلٍ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ رَجُلٌ خَرَجَ زَحْفًا ، فَقِيلَ لَهُ : ادْخُلِ الْجَنَّةَ ، فَيَدْخُلُ ، ثُمَّ يَخْرُجُ ، فَيَقُولُ : يَا رَبِّ ، قَدْ أَخَذَ النَّاسُ الْمَنَازِلَ ، فَيُقَالُ لَهُ :
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (487 ) -النواجذ : جمع ناجذ وهو أقصى الأضراس
(2) - صحيح ابن حبان - (16 / 446) (7426) صحيح(1/65)
أَتَذْكُرُ الزَّمَانَ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ فِي الدُّنْيَا ، فَيَقُولُ : نَعَمْ ، فَيَقُولُ : تَمَنَّهْ ، فَيَقُولُ : يَا رَبِّ ، تَنَافَسَ أَهْلُ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ ، وَتَضَايَقُوا فِيهَا ، فَأَنَا أَسْأَلُكَ مِثْلَهَا ، فَيَقُولُ : لَكَ مِثْلَهَا وَعَشَرَةَ أَضْعَافِ ذَلِكَ ، فَهُوَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلاً." (1)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ حَدَّثَهُمْ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : يَكُونُ فِي النَّارِ قَوْمٌ مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ يَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ فَيَكُونُونَ فِي أَدْنَى الْجَنَّةِ ، فَيُغَسَّلُونَ فِي عَيْنِ الْحَيَاةِ ، فَيُسَمِّيهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَهَنَّمِيُّونَ لَوْ طَافَ بِأَحَدِهِمْ أَهْلُ الدُّنْيَا لَأَطْعَمَهُمْ وَسَقَاهُمْ وَفَرَشَهُمْ ، قَالَ : وَأَحْسِبُهُ ، قَالَ : وَزَوَّجَهُمْ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدَهُ." (2)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (16 / 447) (7427) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (16 / 448) (7428) صحيح(1/66)
القاعدة الخامسة
إقامة الشهود على الكفرة والمنافقين
أعظم الشهداء في يوم المعاد على العباد هو ربهم وخالقهم وفاطرهم ، الذي لا تخفى عليه خافية من أحوالهم ، قال تعالى : {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (61) سورة يونس
يُخْبِرُ اللهَ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَالِمٌ بَجِمِيعِ أَحْوَالِ رَسُولِهِ وَأُمُورِهِ ، سَوَاءٌ مِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌ بِهِ ، أَوْ مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِشُؤُونِ الدَّعْوَةِ ، وَأَنَّهُ لاَ يَتْلُو مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مِنْ قُرْآنٍ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ اللهُ تَعَبُّداً وَتَهَجُّداً بِهِ ، أَوْ تَبْلِيغاً لَهُ لِلنَّاسِ ، وَلاَ يَقُومُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ ، مِنَ المُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ ، بِعَمَلٍ صَالِحٍ أَوْ غَيْرِ صَالِحٍ ، كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ ، إِلاَّ كَانَ اللهُ تَعَالَى رَقِيباً عَلَيْهِمْ فَيَحْفَظُهُ لَهُمْ ، وَيَجْزِيهِمْ بِهِ ، وَأَنَّهُ تَعَالَىلاَ يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيءٌ صَغُرَ أَوْ كَبُرَ حَتَّى وَلَوْ كَانَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ، أَوْ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ ، فَكُلُّ شَيءٍ مُحْصًى عِنْدَهُ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ . (1)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1426)(1/67)
ولكن الله يحبُّ الإعذار إلى خلقه فيبعث من مخلوقاته شهداء على المكذبين الجاحدين حتى لا يكون لهم عذر ، وقد أشارت أكثر من آية إلى الشهداء الذين يشهدون على العباد ، كقوله تعالى : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) [ غافر : 51 ] ، وقوله تعالى : ( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء ) [الزمر :69] .
وأول من يشهد على الأمم رسلها ، فيشهد كل رسول على أمته بالبلاغ كما قال تعالى: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) [النساء/41، 42] }
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ عَنْ هَوْلِ يَوْمِ القِيَامَةِ وَشِدَّةِ أَمْرِهِ ، فَإِذَا كَانَ لاَ يَضِيعُ مِنْ عَمَلِ العَامِلِ مِثْقَالُ ذَرَّةْ فَكَيفُ يَكُونُ الأَمْرُ وَالحَالُ ، يَوْمَ القِيَامَةِ ، حِينَ يَجْمَعُ اللهُ الخَلاَئِقَ ، وَيَجِيءُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَاهِدٍ عَلَيهَا ( هُوَ نَبِيًّها ) ، وَيَأتِي بِمُحَمَّدٍ شَاهِداً عَلَى قَوْمِهِ ( هَؤُلاَءِ ) ؟ وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ هِيَ عَرْضُ أَعْمَالِ الأُمَمِ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، وَمُقَابَلَةُ عَقَائِدِهِمْ وَأَخْلاَقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بِعَقَائِدِ الأَنْبِيَاءِ ، وَأَعْمَالِهِمْ وَأَخْلاَقِهِمْ ، فَمَنْ(1/68)
شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ أَنَّهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ ، وَمَا أَمَرَ النَّاسُ بِالعَمَلِ بِهِ فَهُوَ نَاجٍ ، وَمَنَ تَبَرَّأَ مِنْهُ الأَنْبِيَاءُ فَهُوَ مِنَ الأَخْسَرِينَ .
فِي ذَلِكَ اليَوْمِ يَتَمَنَّى الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ ، وَعَصَوْا رَسُولَهُ ، لَوْ أنَّ الأَرْضَ انْشَقَّتْ وَابْتَلَعَتُهُمْ مِمَّا يَرَونَ مِنْ هَوْلِ المَوْقِفِ ، وَمِمَّا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الخِزِي وَالفَضِيحَةِ وَالتَّوبِيخِ . فَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ يَجْمَعُ اللهُ الخَلاَئِقَ فِي بَقِيعٍ وَاحِدٍ ، فَيَقُولُ المُشْرِكُونَ : إنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئاً إلاَّ مِمَّنْ وَحَدَّهُ ، فَتَعَالُوا نَجْحَدْ . فَيَسأَلُهُمْ رَبُّهُمْ ، فَيَقُولُونَ : وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ . فَيَخْتِمُ اللهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ ، وَيَسْتَنْطِقُ جَوَارِحَهُمْ ، فَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ ، فَعِنْدَئِذٍ يَتَمَنَّوْنَ لَوْ أنَّ الأَرْضَ سُوِّيَتْ بِهِمْ ، وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً . (1)
وقوله تعالى : {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (89) سورة النحل
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِكُفَّارِ قَوْمِكَ مَا سَيَحْصُلُ يَوْمَ القِيَامَةِ ، إِذْ يُحْضِرُ اللهُ نَبِيَّ كُلِّ أُمَّةٍ لِيَكُونَ شَاهِداً عَلَيْهَا ، عَلَى أَنَّهُ دَعَاهَا إِلَى اللهِ ، وَأَنْذَرَها عِقَابَهُ ، وَحَذَّرَهَا عَذَابَهُ ، ثُمَّ نَأْتِي بِكَ لِتَشْهَدَ عَلَى قَوْمِكَ ( هَؤُلاءِ ) ، وَمَا أَجَابُوكَ بِهِ حِينَ دَعَوْتَهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ . وَقَدْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 534)(1/69)
القُرْآنَ لِنُبَيِّنَ لِلنَّاسِ عِلْمَ كُلِّ شَيءٍ يَحْتَاجُهُ النَّاسُ ، فِي أَمْرِ دِينِهِمْ ، وَفِي أُمُورِ مَعَاشِهِمْ ، وَهُوَ هُدًى لِلْقُلُوبِ ، وَرَحْمَةٌ مْنَ اللهِ بِعِبَادِهِ ، إِذْ يَدُلُّهُمْ عَلَى طَرِيقِ الخَيْرِ وَالرَّشَادِ ، وَفِيهِ بُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ الذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ الجَنَّةَ . (1)
وقوله : ( شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ، هم الرسل ، لأن كل أمة رسولها منها ، كما قال تعالى : ( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ) [ التوبة : 128 ] وقال تعالى : ( وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ) [ القصص : 75 ] .
وكما يشهدون على أممهم بالبلاغ يشهدون عليهم بالتكذيب ، ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) [المائدة : 109] ، وقال: ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ - فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ ) [الأعراف : 6-7] .
قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى : " هذا إخبار عما يخاطب الله به المرسلين يوم القيامة عما أجيبوا به من أممهم الذين أرسلوا إليهم ، ... وقول الرسل : ( لا علم لنا ) قال مجاهد والحسن البصري والسدي : إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم .. وقال ابن عباس : لا علم لنا إلا
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1990)(1/70)
علم أنت أعلم به منا ، رواه ابن جرير ثم اختاره ، ولا شك أنه قول حسن ، وهو من باب التأدب مع الله عز وجل ، أي لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء ، فنحن وإن كنا أجبنا وعرفنا ما أجبنا ، ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره لا علم لنا بباطنه ، وأنت العليم بكل شيء ، المطلع على كل شيء ، فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا شيء " (1)
وقوله تعالى : { وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (75) سورة القصص .
وَيومَ القِيامَةِ يَنْزِعُ اللهُ تَعَالى مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَاهِداً عَلَيها ، هُوَ نَبيُّها ، فَيشْهَدُ عَلَيها بما أَجَابَتهُ بهِ أُمَّتُهُ حينَ دَعَاها إِلى اللهِ ، وأَبلَغَها رَسَالاَتِ رَبِّهِ ، ويَقُولُ اللهُ تَعَالى لِلمُخَالِفينَ مِنْهُم : هَاتُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنْ حُجَّةٍ وَبُرهَانٍ على صِحَّةِ ما ادَّعيتُمُوهُ مِنْ أَنَّ للهِ شُرَكَاءَ . وَحِينئذٍ يَعلَمُونَ أَنَّهُ لا إلهَ إلاَّ اللهُ المَلِكُ الحَقُّ ، وَلا حَقَّ غَيرُهُ ، فَلا يَنطِقُونَ ، ولا يُجِيبُونَ بِشَيءٍ عَنْ سُؤالِ الرَّبِّ العَظيمِ ، وَيَتَلاشَى باطِلُهُمْ ، وَمَا كَانُوا يَدْعُونَهُ مِنْ دُون اللهِ . (2)
__________
(1) - تفسير ابن كثير - دار طيبة - (3 / 222)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3209)(1/71)
وقال تعالى: {وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} (21) سورة ق.
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ في ذَلِكَ اليَوْمِ رَبَّها وَمَعَهَا سَائِقٌ يَسُوقُها إليهِ ، وَشَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيها بِمَا عَمِلَتْ في الدُّنيا مِنْ خَيرٍ وَشَرٍّ . (1)
وقال السعدي : " { وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ } يسوقها إلى موقف القيامة، فلا يمكنها أن تتأخر عنه، { وَشَهِيدٌ } يشهد عليها بأعمالها، خيرها وشرها، وهذا يدل على اعتناء الله بالعباد، وحفظه لأعمالهم، ومجازاته لهم بالعدل، فهذا الأمر، مما يجب أن يجعله العبد منه على بال، ولكن أكثر الناس غافلون، ولهذا قال: { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا } أي: يقال للمعرض المكذب يوم القيامة هذا الكلام، توبيخًا، ولومًا وتعنيفًا أي: لقد كنت مكذبًا بهذا، تاركًا للعمل له فالآن { كشفنا عَنْكَ غِطَاءَكَ } الذي غطى قلبك، فكثر نومك، واستمر إعراضك، { فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } ينظر ما يزعجه ويروعه، من أنواع العذاب والنكال.
أو هذا خطاب من الله للعبد، فإنه في الدنيا، في غفلة عما خلق له، ولكنه يوم القيامة، ينتبه ويزول عنه وسنه، ولكنه في وقت لا يمكنه أن يتدارك الفارط، ولا يستدرك الفائت، وهذا كله تخويف من الله
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4530)(1/72)
للعباد، وترهيب، بذكر ما يكون على المكذبين، في ذلك اليوم العظيم." (1)
ومن الأشهاد الأرض والليالي تشهد بما عمل فيها وعليها ، ويشهد المال على صاحبه، ويشهد على العبد أيضاً ملائكة الرحمن الذين كانوا يسجلون عليه صالح أعماله وطالحها ، كما قال تعالى : ( وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) [ق : 21] ، والسائق والشهيد الملكان اللذان كانا موكلين بتلك النفس .
وتشهد الملائكة على العباد بما كانوا يعملون ، ( وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ ) [ هود : 18 ]
فإذا لجَّ العبد في الخصومة وكذب ربه وكذب الشهود الذين شهدوا عليه ، أقام الله عليه شاهدا منه ، فتشهد على المرء أعضاؤه ، كما قال تعالى: { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) [فصلت : 19 -21] }
__________
(1) - تفسير السعدي - (1 / 805)(1/73)
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ المُكَذِّبِينَ حَالَ الكُفَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ وَيَرْتَدِعُونَ عَنْ غِوَايَاتِهِمْ ، فَفِي ذَلِكَ اليَومِ يُسَاقُ الكَفَرَةُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ ، فَتَحْبِسُ الزَّبَانِيَةُ أَوَلَّهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ ( أَيْ تَقِفُهُمُ المَلاَئِكَةُ حَتَّى يَتَلاَحَقُوا ، وَيَتَكَامَلَ جَمْعُهُمْ )
حَتَّى إِذَا وَصَلُوا إِلَى النَّارِ وَوَقَفُوا عَلَيْهَا ، شَهِدَتْ عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ ( سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ ) بِمَا كَانُوا يَجْتَرِحُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ المَعَاصِي ، وَبِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالٍ ، لاَ يَكْتُمُونَ مِنْهَا شَيْئاً .
فَيَقُولُ المُجْرِمُونَ لِجُلُودِهِمْ ، وَهُمْ يَلُومُوَنَها عَلَى شَهَادَتِهَا عَلَيْهِمْ : لِمَاذَا شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا؟ فَتَرُدُّ الجُلُودُ قَائِلَةً : إِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الذِي أَنْطَقَهَا ، وَهُوَ تَعَالَى الذِي خَلَقَهَا وَخَلَقَهُمْ ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ، فَهُوَ تَعَالَى لاَ يُخَالَفُ وَلاَ يُمَانَعُ . (1)
وقال تعالى :{ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4116)(1/74)
ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) [فصلت/19، 23]
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ المُكَذِّبِينَ حَالَ الكُفَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ وَيَرْتَدِعُونَ عَنْ غِوَايَاتِهِمْ ، فَفِي ذَلِكَ اليَومِ يُسَاقُ الكَفَرَةُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ ، فَتَحْبِسُ الزَّبَانِيَةُ أَوَلَّهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ ( أَيْ تَقِفُهُمُ المَلاَئِكَةُ حَتَّى يَتَلاَحَقُوا ، وَيَتَكَامَلَ جَمْعُهُمْ )
حَتَّى إِذَا وَصَلُوا إِلَى النَّارِ وَوَقَفُوا عَلَيْهَا ، شَهِدَتْ عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ ( سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ ) بِمَا كَانُوا يَجْتَرِحُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ المَعَاصِي ، وَبِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالٍ ، لاَ يَكْتُمُونَ مِنْهَا شَيْئاً .
فَيَقُولُ المُجْرِمُونَ لِجُلُودِهِمْ ، وَهُمْ يَلُومُوَنَها عَلَى شَهَادَتِهَا عَلَيْهِمْ : لِمَاذَا شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا؟ فَتَرُدُّ الجُلُودُ قَائِلَةً : إِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الذِي أَنْطَقَهَا ، وَهُوَ تَعَالَى الذِي خَلَقَهَا وَخَلَقَهُمْ ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ، فَهُوَ تَعَالَى لاَ يُخَالَفُ وَلاَ يُمَانَعُ . (1)
إنها المفاجأة الهائلة في الموقف العصيب. وسلطان اللّه الذي تطيعه جوارحهم وتستجيب. وهم يوصمون بأنهم أعداء اللّه. فما مصير أعداء اللّه؟ إنهم يحشرون ويجمع أولهم على آخرهم وآخرهم على أولهم كالقطيع! إلى أين؟ إلى النار! حتى إذا كانوا حيالها وقام
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4116)(1/75)
الحساب ، إذا شهود عليهم لم يكونوا لهم في حساب. إن ألسنتهم معقودة لا تنطق ، وقد كانت تكذب وتفتري وتستهزئ. وإن أسماعهم وأبصارهم وجلودهم تخرج عليهم ، لتستجيب لربها طائعة مستسلمة ، تروي عنهم ما حسبوه سرا. فقد يستترون من اللّه. ويظنون أنه لا يراهم وهم يتخفون بنواياهم ، ويتخفون بجرائمهم. ولم يكونوا ليستخفوا من أبصارهم وأسماعهم وجلودهم. وكيف وهي معهم؟ بل كيف وهي أبعاضهم؟! وها هي ذي تفضح ما حسبوه مستورا عن الخلق أجمعين. وعن اللّه رب العالمين! يا للمفاجأة بسلطان اللّه الخفي ، يغلبهم على أبعاضهم فتلبي وتستجيب!
«وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ : لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟» ..فإذا هي تجبههم بالحقيقة التي خفيت عليهم في غير مواربة ولا مجاملة : «قالُوا : أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ»؟ أليس هو الذي جعل الألسنة هي الناطقة؟ وإنه لقادر على أن يجعل سواها. وقد أنطق كل شيء فهو اليوم يتحدث وينطق ويبين.
«وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ..فإليه المنشأ وإليه المصير ، ولا مفر من قبضته في الأول وفي الأخير.
وهذا ما أنكروه بالعقول. وهذا ما تقرره لهم الجلود! وقد تكون بقية التعليق من حكاية أقوال أبعاضهم لهم. وقد تكون تعقيبا على الموقف(1/76)
العجيب : «وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ» ..فما كان يخطر ببالكم أنها ستخرج عليكم ، وما كنتم بمستطيعين أن تستتروا منها لو أردتم! «وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ» ..وخدعكم هذا الظن الجاهل الأثيم وقادكم إلى الجحيم : «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» ..ثم يجيء التعقيب الأخير : «فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» ..يا للسخرية! فالصبر الآن صبر على النار وليس الصبر الذي يعقبه الفرج وحسن الجزاء. إنه الصبر الذي جزاؤه النار قرارا ومثوى يسوء فيه الثواء!
«وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ» ..فما عاد هناك عتاب ، وما عاد هناك متاب. وقد جرت العادة أن الذي يطلب العتاب يطلب من ورائه الصفح والرضى بعد إزالة أسباب الجفاء. فاليوم يغلق الباب في وجه العتاب. لا الصفح والرضى الذي يعقب العتاب! (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ تَبَسَّمَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَلا تَسْأَلُونِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتُ ؟ فَقَالَ : عَجِبْتُ مِنْ مُجَادَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، يَقُولُ : يَا رَبِّ ، أَلَيْسَ وَعَدْتَنِي أَنْ لاَ تَظْلِمَنِي ؟ قَالَ : بَلَى ، قَالَ : فَإِنِّي لاَ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 3118)(1/77)
أَقْبَلُ عَلَيَّ شَهَادَةَ شَاهِدٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِي ، فَيَقُولُ : أَوْ لَيْسَ كَفَى بِي شَهِيدًا ، وَبِالْمَلائِكَةِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ ؟ قَالَ : فَيُرَدِّدُ هَذَا الْكَلامَ مَرَّاتٍ ، فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ ، وَتَكَلَّمُ أَرْكَانُهُ بِمَا كَانَ يَعْمَلُ ، فَيَقُولُ : بُعْدًا لَكُمْ وَسُحْقًا ، عَنْكُمْ كُنْتُ أُجَادِلُ" (1)
والأرض، تشهد بما عمل فيها وعليها ، قال تعالى : { إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)} [الزلزلة : 1 - 5]
كَانَ الكُفَّارُ كَثِيراً مَا يَسْأَلُونَ عَنِ السَاعَةِ وَالحِسَابِ ، وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ ، فَذَكَرَ اللهَ تَعَالى فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلاَمَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ .
إِذَا زُلْزِلَت الأَرْضُ وَاضْطَرَبَتْ ، وَتَحَرَّكَتْ مِنْ أَسْفَلِهَا حَرَكَةً شَدِيدَةً
وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ مَا فِي جَوْفِهَا مِنْ أَمْوَاتٍ وَسَوَائِلَ مُنْصَهِرَةٍ وَمَعَادِنَ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالى { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ }
وَيَقُولُ الأَحْيَاءُ الذِينَ يَشْهَدُونَ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ ، وَهُمْ مَشْدُوهُونَ مِنْ هَوْلِ مَا يَرَوْنِ : مَا الذِي وَقَعَ لِهَذِهِ الأَرْضِ؟ فَبَعْدَ أَنْ كَانَتْ سَاكِنَةً مُسْتَقِرَّةً ، صَارَتْ مُتَحَرِّكَةً مُضْطَرِبَةً ، لَقَدْ أَتَاهَا مِنْ أَمْرِ رَبِّهَا مَا أَتَاهَا
__________
(1) - المستدرك للحاكم (8778) صحيح(1/78)
فإِذَا وَقَعَتِ الزَّلْزَلَةُ ، وَاضْطَرَبَتِ الأَرْضُ ، وَتَحَرَّكَتْ مِنْ أسْفَلِهَا حِينَئِذٍ تُحَدِّثُ الأَرْضُ بِمَا عَمِلَ العَامِلُونَ عَلَى ظَهْرِهَا .
وَقَدْ حَدَثَ كُلُّ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمرَهَا بِأَنْ تَتَزَلْزَلَ وَتَنْشَقَّ وَتَتَحَدَّثَ بِمَا فَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى ظَهْرِهَا فَأَطَاعَتْ أَمْرَ رَبِّهَا. (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَرَأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذِهِ الآيَةَ : {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة] ، قَالَ : أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ ، وَأَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا ، أَنْ تَقُولَ : عَمِلَ كَذَا وَكَذَا فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا. (2)
ثم إن الأمم تكذب رسلها ، وتقول كل أمة ما جاءنا من نذير ، فتأتي هذه الأمة : أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتشهد للرسل بالبلاغ ، كما قال تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) [البقرة : 143] .
وكما هديناكم -أيها المسلمون- إلى الطريق الصحيح في الدين، جعلناكم أمة خيارًا عدولا لتشهدوا على الأمم في الآخرة أن رسلهم
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 6016)
(2) - صحيح ابن حبان - (16 / 360) (7360) صحيح(1/79)
بلَّغتهم رسالات ربهم، ويكون الرسول في الآخرة كذلك شهيدًا عليكم أنَّه بلَّغكم رسالة ربه. (1)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ : هَلْ بَلَّغْتَ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ يَا رَبِّ ، فَيَقُولُ لِأُمَّتِهِ : هَلْ بَلَّغَكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ. فَيُقَالُ : مَنْ يَشْهَدُ لَكَ ؟ فَيَقُولُ : مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأُمَّتُهُ. قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : فَيَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ ، وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} . وَالْوَسَطُ : الْعَدْلُ. (2)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَجِيءُ النَّبِيُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَعَهُ الرَّجُلُ ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلاَنِ ، وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، فَيُدْعَى قَوْمُهُ ، فَيُقَالُ لَهُمْ : هَلْ بَلَّغَكُمْ هَذَا ؟ فَيَقُولُونَ : لاَ . فَيُقَالُ لَهُ : هَلْ بَلَّغْتَ قَوْمَكَ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ . فَيُقَالُ لَهُ : مَنْ يَشْهَدُ لَكَ ؟ فَيَقُولُ : مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ . فَيُدْعَى مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ ، فَيُقَالُ لَهُمْ : هَلْ بَلَّغَ هَذَا قَوْمَهُ ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ . فَيُقَالُ : وَمَا عِلْمُكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : جَاءَنَا نَبِيُّنَا ، فَأَخْبَرَنَا : أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ : {وَكَذَلِكَ
__________
(1) - التفسير الميسر - (1 / 157)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (4487) وصحيح ابن حبان - (14 / 397) (6477)(1/80)
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قَالَ : يَقُولُ : عَدْلاً ، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} " (1)
- - - - - - - - - - -
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 148)(11558) 11579- صحيح
وانظر : http://www.alqasas.com/articles-action-show-id-364.htm(1/81)
ثمرات الإيمان باليوم الآخر
لما كانَ الإيمان باليوم الآخر أحدَ أصولِ الإيمان الستةِ التي لا يصحُّ إيمانُ مسلمٍ بدونها.
ولما لذلك الإيمانِ من أثرٍ في حياة المسلمِ وطاعته لأوامر الله (عزَّ و جلَّ) واجتنابِ نواهيه، ولما له من أثرٍ في صلاحِ القلوبِ وصلاحِ الناس وسعادتهِم في الدنيا والآخرة، ولما في نسيانِ ذلك اليوم العظيم ِوالغفلةِ عنه من خطرٍ على حياةِ الناس ومصيرهِم.. فلا غرابةَ إذن أن يردَ ذكرُ هذا اليوم كثيراً في القرآن الكريم ، حتى لا تكاد تخلو منه صفحةٌ من صفحاتهِ.
وإذا كانَ الكتابُ والسنَّةُ قد اهتما غاية الاهتمامِ بتفاصيل ذلك اليوم المشهودِ، وبأحوال هذا النبأ العظيم؛ فإنه من الحمقِ والجهلِ ألا نهتمَّ بما اهتمَّ به الوحيانِ.
إنَّ أعظمَ قضيةٍ يجبُ أن ينشغلَ بها كلُّ واحد منا هي: قضيةُ وجودهِ وحياتهِ والغايةِ منها، وقضيةُ مستقبلهِ ومصيرهِ وشقائهِ وسعادتهِ، فلا يجوزُ أن يتقدمَ ذلك شيءٌ مهما كان، فكلُّ أمر دونه هينٌ ،وكلُّ خطبٍ سواه حقيرٌ. وهل هناكَ أعظمُ وأفدح ُمن أن يخسرَ الإنسانُ حياتَه وأهلَه، ويخسرَ مع ذلك سعادتَه وسعادتَهم، فماذا يبقى بعد(1/82)
ذلك؟ قال تعالى : {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (15) سورة الزمر . وقال تعالى : {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} (45) سورة الشورى .
وأهميةُ هذا الموضوع تتجلَّى فيما يلي:
1- انفتاح الدنيا الشديد على كثير من الناس في هذا الزمان وما صحب ذلك من مكر الليل والنهار بأساليب جديدة ودعايات خبيثة تزين الدنيا في أعين الناس وتصدهم عن الآخرة، ومع ما كان عليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان والتقوى، فقد كانَ يحذرهم من الاغترار بالدنيا وضرورة الاستعداد للآخرة، مع أنَّ الدنيا لم تنفتحْ عليهم مثل اليوم، فلا شكَّ ولا ريبَ أننا أحوجُ منهم بكثير إلى أن نتذكرَ الآخرة ويذكّرَّ بعضُنا بعضاً، بعظمةِ شأنها وأهمية الاستعداد لها.
2- ركونُ كثيرٍ من الناس للدنيا، ولقد ترتبَ على ذلك أن قستِ القلوب، وتحجرتِ الأعينِ، وهُجِرَ كتابُ الله (عز وجل)، وإذا قرأ أحدُنا القرآن قرأهُ بقلب لاهٍ، فأنَّّى لمثل ذلك القلب أن يخشعَ لذكر(1/83)
اللهِ؟ وأنَّّى لعينيهِ أن تمعَ خوفاً من الله، وقد انعكس ذلك على الصلاةِ ، فقلّ الخاشعونَ والمطمئنون فيها.. والله المستعان.
3- لما في تذكُّرِ ذلك اليومِ ومشاهدهِ العظيمةِ من حثٍّ على العملِ الصالحِ ، والمبادرةِ لفعل الخيراتِ وترك المنكراتِ ، بل ما تكاسلَ المتكاسلون في عمل الصالحات سواءٌ الواجب منها والمسنونُ إلا بسببِ الغفلةِ عن الآخرة والانشغالِ عنها، يقول تعالى في وصف عباده الصالحين: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (37) سورة النور ، وقال تعالى : {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (9) سورة الزمر.
4- لمَّا ظهرَ في عصرنا اليومَ من المشكلاتِ المعقدةِ والأمراضِ المزمنةِ، التي نشأتْ عنها الأمراضُ النفسيةُ المتنوعةُ من القلقِ والاكتئابِ، اللذين يؤديانِ غالباً إلى حياةٍ يائسةٍ، ومن أسبابِ ذلك: البعدُ عن الله تعالى، وعن تذكُّرٍ اليومِ الآخر.
5- لمَّا تميزَ به زماننا اليومَ من كثرةِ المظالم في بعض المجتمعاتِ واعتداءِ الناس بعضهم على بعضٍ، من أكلٍ لأموالٍ غيرهِم بدونِ(1/84)
وجهِ حقٍّ، وكذلك النيلُ من الأعراضِ، والحسدِ والتباغضِ، والفرقةِ والاختلافِ، وبخاصة بين بعضَ الدعاةِ وطلبةِ العلم، ولا شكَّ أنه لا شيءَ مثلَ تذكرِ اليومِ الآخرِ، وتذكُّرِ الوقوف بين يدي الله (عز وجل) علاجاً لتلك الأمراضٍ.
6- ولما كان الركونُ إلى الدنيا والغفلةُ عن الآخرةِ من أعظمِ الأسبابِ في وهن النفوس وضعفها كان لا بدَّ من التذكيرِ المستمرِّ بذلك اليوم ،وما فيه من نعيمٍ أو جحيمٍ، لأنَّ في هذا التذكير أكبرَ الأثر في نشاط الهممِ وعدم الاستسلامِ للوهنِ واليأسِ رجاءَ ثواب اللهِ (عزَّ وجلَّ) وما أعدَّهُ للمجاهدين في سبيله الداعين إليه.
7- ولمَّا قلَّ في برامجِ الدعوةِ والتربيةِ الاعتناءُ بهذه الجانب العظيمِ من التربية مما له الأثرُ الكبيرُ في الاستقامةِ على الجادة ، والدعوةِ إلى الله على بصيرةٍ، ولكنْ نرى من بعضِ المهتمينَ بالدعوة من يستهينُ بهذا الجانبِ العظيمِ حتى صارَ بعضُهم يقللُ من أثرِ التذكرةِ بالآخرة بقوله: إن هذا الأمرَ يغلبُ عليه الوعظُ أو هذا مقالٌ عاطفيٌّ وعظيٌّ ... إلخ.. مع أنَّ المتأملَ لكتابِ الله (سبحانه) وسنَّةِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - يرَى بجلاءٍ جانبَ الوعظِ بارزاً بالربطِ بين الدنيا والآخرةِ والثوابِ والعقابِ.. نسأل اللهَ أن يهدينا جميعاً ،وأنْ يوفقَنا للاقتداءِ بالسنَّةِ والسيرِ على نهجِها.(1/85)
الآثارُ المرجوةُ لليقين باليوم الآخر:
إنَّ في اليقين باليوم الآخر وأنبائه العظيمة لآثاراً واضحةً وثماراً طيبةً، لابدَّ أن تظهر في قلب العبد وعلى لسانه وجوارحه، وفي حياته كلِّها، ولكنَّ هذا اليقين وحده لا يكفي حتى ينضمَّ إليه الصبر ومجاهدة الشهوات والعوائقِ، لأن الواحد منا ـ مع يقينهِ باليوم الآخر وأهواله ـ يرى في حياته أن ثمراتِ هذا اليقين ضعيفةٌ، فلابد إذن من سببٍ لهذا الأمر.
- - - - - - - - - - -(1/86)
أهم المصادر
1. أيسر التفاسير لأسعد حومد
2. صحيح مسلم- المكنز -
3. تفسير الشعراوي
4. تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة -
5. تفسير السعدي
6. تفسير القرطبي ـ موافق للمطبوع -
7. مصنف ابن أبي شيبة
8. المعجم الأوسط للطبراني
9. الْبَحْرُ الزَّخَّارُ مُسْنَدُ الْبَزَّارِ
10. الْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ
11. جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ
12. صحيح ابن حبان
13. مُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
14. سنن ابن ماجه- المكنز -
15. بَحْرُ الْفَوَائِدِ الْمُسَمَّى بِمَعَانِي الْأَخْيَارِ لِلْكَلَابَاذِيِّ
16. التفسير الميسر
17. فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع -
18. المستدرك للحاكم
19. الآحاد والمثاني(1/87)
الفهرس العام
تمهيد حول الحساب ... 3
القاعدة الأولى ... 23
العدلُ التام الذي لا يشوبه ظلم ... 23
القاعدة الثانية ... 31
الأصل أن لا يؤخذ أحد بجريرة غيره ... 31
القاعدة الثالثة ... 45
إطلاع العباد على ما قدموه من أعمال ... 45
القاعدة الرابعة ... 50
مضاعفة الحسنات دون السيئات ... 50
القاعدة الخامسة ... 67
إقامة الشهود على الكفرة والمنافقين ... 67
ثمرات الإيمان باليوم الآخر ... 82(1/88)