السُّنَّّةُ النبويةُ وأثرُها في اختلافِ الفقهاء
إعدادُ
الباحث في القرآن والسنَّة
علي بن نايف الشحود
الطبعة الأولى
1430 هـ 2009 م
بهانج دار المعمور
(( حقوق الطبع لكل مسلم ))(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإنه لا خلاف بين أهل العلم أن السنة النبوية تعتبر المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد القرآن الكريم .
ولكن السنَّة النبوية لم تنقل إلينا كما نقل القرآن الكريم بالتواتر ، بل غالبها أحاديث آحاد .
وفيها الصحيح وغيره ، ومن ثم نشأ علم الجرح والتعديل لتمييز صحيح السنة من منخولها ، وقد اختلف العلماء اختلافاً متنوعاً في شروط صحة الخبر ، وفي شروط العمل به .
وإن كانوا - من حيث الجملة - مجمعين على وجوب العمل بخبر الآحاد .
واليوم قد تباينت الآراء تبايناً شديداً حول إثبات السنة النبوية وحول فهمها وحول العمل بها .
فمنهم من يدعو لترك العمل بالسنة النبوية بحجة أنها آحاد ، أو أن فيها الصحيح وغيره ، أو أنها تخالف عقله - القاصر - وأن القرآن الكريم يكفي في هذا الأمر ، وهؤلاء أصحاب المدرسة العقلية التي تأثرت بالغرب وحضارته العفنة ، وتحقيقاته المزيفة .
ومنهم من يفرق بين السنَّة التشريعية وغير التشريعية ، فيأخذ بالأولى ، ويدع الثانية ، بل يزعم أنها مخالفة للعقل والواقع على حدِّ زعمه .
ومنهم من يدعو للتمسك بالسنَّة بعجرها وبجرها دون تمييز بين مقبول ومردود .(1/1)
ومنهم من يظن أن صحة الحديث تزيل النزاع بين الفقهاء ، ومن ثم يدعو إلى توحيد المذاهب لتكون مذهباً واحداً ....
وفات هؤلاء أن المشكلة الأهم ليست في صحة السنة النبوية أو عدم صحتها ، بل في دلالتها على المعنى المراد،فالقرآن الكريم قطعي الثبوت ولكنه ليس قطعي الدلالة بل ظني الدلالة ،على على المعنى المراد ، والسنة النبوية كذلك تماماً، ومن ثم فقد قيل : (( ما من عام إلا وقد خُصِّص )) .
وفي كتابنا هذا قد تعرضنا لهذا الموضوع الجلل بشكل مفصل ، وأزحنا النقاب عن كثير من إشكالاته . ورددنا على كثير من الشبهات التي تحاك ضد السنة النبوية .
وقد سرت فيه على الشكل التالي :
الباب الأول= حجية السنَّة النبوية ، وفيه مباحث ...
المبحث الأول-الأدلة على حجية السنة النبوية
المبحث الثاني-السنَّة النبوية وحي من الله تعالى
المبحث الثالث-هل اجتهادُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ينافي كون السنَّة وحيٌ ؟
الباب الثاني=أسباب ترك بعض الفقهاء الاحتجاج بالحديث ...
أولا-ذكر الأسباب مفصلة
السَّبَبُ الْأَوَّلُ-عدم بلوغ الحديث للفقيه
السَّبَبُ الثَّانِي-عدم ثبوت الحديث عند الفقيه
السَّبَبُ الثَّالِثُ-اعْتِقَادُه ضَعْفِ الْحَدِيثِ
السَّبَبُ الرَّابِعُ-اشْتِرَاطُهُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ الْحَافِظِ شُرُوطًاً يُخَالِفُهُ فِيهَا غَيْرُهُ
السَّبَبُ الْخَامِسُ-أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَهُ وَثَبَتَ عِنْدَهُ لَكِنْ نَسِيَهُ ...
السَّبَبُ السَّادِسُ-عَدَمُ مَعْرِفَتِهِ بِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ
السَّبَبُ السَّابِعُ-اعْتِقَادُهُ أَنْ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ
السَّبَبُ الثَّامِنُ-اعْتِقَادُهُ أَنَّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ قَدْ عَارَضَهَا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُرَادَةً(1/2)
السَّبَبُ التَّاسِعُ-اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ أَوْ نَسْخِهِ...
السَّبَبُ الْعَاشِرُ-مُعَارَضَتُهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ أَوْ نَسْخِهِ أَوْ تَأْوِيلِهِ مِمَّا لَا يَعْتَقِدُهُ غَيْرُهُ
الباب الثالث= مَن تَرَكَ الْعَمَلَ بِحَدِيثِ ما فَلَا يَخْلُو مِن ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ...
أمثلة على اختلاف الفقهاء .....
المثال الأول- حول ربا الفضل وربا الأجل
المثال الثاني- إتيان النساء في أدبارهن
المثال الثالث - حول تحريم الخمر
المثال الرابع- حول لعن الواصلة والموصولة
المثال الخامس - حول آنية الفضة
المثال السادس - النهي عن قتال المسلم لأخيه
المثال السابع - الأمر بالجماعة والنهي عن الاختلاف
المثال الثامن - ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة
الباب الرابع= أثر التنازع بين الفقهاء في العبادات الظاهرة ...
أمثلة أخرى هامة وقع التنازع بين المسلمين بسببها
أولا-صلاة الظهر بعد الجمعة
ثانياً-اختلاف المطالع
الثالث-التراويح في رمضان
الرابع-صلاة الوتر في رمضان جماعة
الخامس-رمي الجمرات أيام التشريق قبل الزوال
الباب الرابع= قضايا هامة حول هذا الموضوع ، وفيه مباحث ....
المبحث الأول-هل صحة الحديث تزيل الخلاف بين الفقهاء ؟ ...
المبحث الثاني-شرح قاعدة ( إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي ) ...
المبحث الثالث-هل الحنفية بضاعتهم في الحديث مزجاة ؟ ...(1/3)
المبحث الرابع-هل يمكن الاستغناء بالقرآن عن السنة النبوية ؟
المبحث الخامس-بيان الفرق بين أهل الحديث وأصحاب الرأي
فإن أصبت فلله الحمد والمنة ، وإن أخطأت فمن تقصيري وأستغفر الله .
أسأل الله تعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه والدال عليه وناشره في الدارين .
قال تعالى على لسان النبي شعيب عليه السلام : { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (88) سورة هود .
أعده
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 21 جمادى الآخرة لعام 1430 هـ الموافق ل 15/6/2009 م
- - - - - - - - - - - - -(1/4)
الباب الأول
حجية السنَّة النبوية
من المعلوم عند علماء المسلمين جميعا أن السنة المطهرة هي المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله، أجمعت على ذلك أمةُ الإسلام منذ عهد رسولنا صلى الله عليه وسلم وإلى زماننا هذا.
ومعنى كون السنة هي المصدر الثاني للتشريع أنها واجبة الاتباع والتنفيذ، وهي في ذلك مثل القرآن الكريم سواء، ولكن أعداء الإسلام ومعهم بعض من ينتسبون زورا وبهتانا إليه لا يروقهم ذلك، وهم ما فتئوا بين الحين والآخر يشككون في السنة، ويحاولون النيل منها، حتى يصلوا في النهاية إلى الكيد للإسلام كختام الرسالات السماوية جميعا.
ومن بين أقوالهم الزائفة قولهم: علينا بالاكتفاء بالقرآن الكريم فقط، فهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل، من بين يديه ولا من خلفه، وهو المصدر الأول للإسلام وهو الذي سلم من التغيير والتبديل الخ، ويحاولون أن يستدلوا على دعواهم الزائفة هذه بحديث موضوع ينسبونه زورا وبهتانا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول هذا الحديث المختلق المصنوع الذي يرويه القائلون بعدم استقلال السنة بالتشريع، " إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق فخذوه، وما خالف فاتركوه " (1)
__________
(1) - هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق :
أَحدهَا: من رِوَايَة عَلّي كرم الله وَجهه، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة جبارَة بن الْمُغلس - وَهُوَ ضَعِيف - عَن أبي بكر بن عَيَّاش ، عَن عَاصِم بن أبي النجُود ، عَن زر ، عَن عَلّي رَفعه : «إِنَّهَا سَيكون بعدِي رُوَاة يروون عني الحَدِيث، فأعرضوا حَدِيثهمْ عَلَى الْقُرْآن، فَمَا وَافق الْقُرْآن فَخُذُوا بِهِ، وَمَا لم يُوَافق الْقُرْآن فَلَا تَأْخُذُوا بِهِ» .
ثمَّ قَالَ: هَذَا وهم، وَالصَّوَاب عَن عَاصِم عَن زيد بن عَلّي مُرْسلا عَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ .
الثَّانِي : من حَدِيث ابْن عمر، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه من حَدِيث الْوَضِين بن عَطاء، عَن سَالم، عَن أَبِيه مَرْفُوعا: «مَا أَتَاكُم من حَدِيثي فاقرأوا كتاب الله واعتبروه، فَمَا وَافق كتاب الله فَأَنا قلته ، وَمَا لم يُوَافق كتاب الله فَلم أَقَله» .
الْوَضِين قَالَ أَحْمد: مَا بِهِ من بَأْس. وَلينه غَيره .
الطَّرِيق الثَّالِث : من حَدِيث ثَوْبَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيث يزِيد بن ربيعَة، عَن أبي الْأَشْعَث ، عَن ثَوْبَان مَرْفُوعا: «إِن رَحى الإِسلام دَائِرَة» قَالُوا: كَيفَ نصْنَع يَا رَسُول الله؟ قَالَ: «اعرضوا حَدِيثي عَلَى الْكتاب، فَمَا وَافقه فَهُوَ مني، وَأَنا قلته » .يزِيد هَذَا قَالَ البُخَارِيّ: أَحَادِيثه مَنَاكِير. وَقَالَ النَّسَائِيّ : مَتْرُوك .
الطَّرِيق الرَّابِع : من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، رَوَاهُ الْهَرَوِيّ فِي ذمّ الْكَلَام من حَدِيث صَالح بن مُوسَى، عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: « إِنَّه سَيَأْتِيكُمْ عني أَحَادِيث مُخْتَلفَة، فَمَا جَاءَكُم مُوَافقا لكتاب الله وسنتي فَهُوَ مني، وَمَا جَاءَكُم مُخَالفا لكتاب الله وسنتي فَلَيْسَ مني » .
وَصَالح هَذَا هُوَ الطلحي الواهي . قَالَ النَّسَائِيّ : مَتْرُوك .
وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة من حَدِيث أبي جَعْفَر رَفعه: «مَا جَاءَكُم عني فاعرضوه عَلَى كتاب الله فَمَا وَافقه فَأَنا قلته، وَمَا خَالفه فَلم أَقَله » .
قَالَ الشَّافِعِي فِي رسَالَته : هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ رجل مَجْهُول، وَهُوَ مُنْقَطع، وَلم يروه أحد يثبت حَدِيثه .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَجْهُولِ خَالِد بن أبي كَرِيمَة، فَلم يعرف من ذَلِك مَا يثبت بِهِ خَبره .
قلت : إِن كَانَ هُوَ الرَّاوِي عَن عِكْرِمَة وَمُعَاوِيَة بن قُرَّة فقد عرف، رَوَى عَنهُ شُعْبَة ووكيع وَجَمَاعَة، وَوَثَّقَهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد.
وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَقَالَ ابْن معِين: ضَعِيف الحَدِيث.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ من أوجه أخر كلهَا ضَعِيفَة قد بينتها فِي الْمدْخل .
قلت : أخرجه فِي الْمدْخل من حَدِيث الْأَصْبَغ بن مُحَمَّد بن أبي مَنْصُور بلاغاً بِنَحْوِهِ .
ثمَّ قَالَ : رِوَايَة مُنْقَطِعَة عَن رجل مَجْهُول .
ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ، ثمَّ من وَجه آخر ضَعِيف.
وَقَالَ: هَذَا إِسْنَاد لَا يحْتَج بِهِ .
وَقَالَ فِي كتاب الْمدْخل إِلَى دَلَائِل النُّبُوَّة : الحَدِيث الَّذِي رُوِيَ فِي عرض الحَدِيث عَلَى الْقُرْآن بَاطِل لَا يَصح .
قَالَ: وَهُوَ ينعكس عَلَى نَفسه بِالْبُطْلَانِ ، فَلَيْسَ فِي الْقُرْآن دلَالَة عَلَى عرض الحَدِيث عَلَى الْقُرْآن .
[قلت : فَهَذَا الحَدِيث لَهُ طرق كَمَا ترَى .
وَمن الْأَعَاجِيب قَول بعض شرَّاح هَذَا الْكتاب: إِنَّه غير مَعْرُوف ] من حَدِيث أبي هُرَيْرَة .
وَقَالَ: تفرد بِهِ صَالح الطلحي، وَهُوَ ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ ، قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ. انظر موضوعات الصغاني - (ج 1 / ص 4) وكشف الخفاء ومزيل الإلباس( 220) وتذكرة المحتاج إلى أحاديث المنهاج - (ج 1 / ص 27)(1/5)
يقول نقاد الحديث وصيارفته الذين هم أعلمهم بالحديث وصناعته:
إن هذا الحديث افتراء وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إنه يحمل الدليل على كذبه وزيفه بين طياته، فقد عرضنا هذا الحديث على كتاب الله تعالى فوجدناه مكذوبا؛ لأن الله تعالى لم يطلب من أن نعرض كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على(1/6)
القرآن الكريم، بل طلب منا أن نطيع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أمرنا به، ونهانا عنه من غير عرض على القرآن الكريم، فقال سبحانه: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } (7) سورة الحشر، إذن فالقرآن الكريم يردُّ هذا الحديث ويدحضه.
ومن عجيب الأمر، بل ومن عظمة الإسلام ومعجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه عليه الصلاة والسلام تنبأ بوجود هذه الطائفة، فقال عليه الصلاة والسلام: " « أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِى شَبْعَاناً عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ. أَلاَ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الأَهْلِىِّ وَلاَ كُلُّ ذِى نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ أَلاَ وَلاَ لُقَطَةٌ مِنْ مَالِ مُعَاهِدٍ إِلاَّ أَنْ يَسْتَغْنِىَ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُمْ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُمْ فَلَهُمْ أَنْ يُعْقِبُوهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُمْ » (1) .
ويعلق فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو شهبة رحمه الله تعالى على هذا الحديث، فيقول: قوله: يوشك رجل شبعان.. يحذر بهذا القول من مخالفة السنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما ليس له في القرآن ذكر، على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض، فإنهم تمثلوا بظاهر القرآن، وتركوا السنن التي تضمن بيان الكتاب فتحيروا وضلوا وأراد بقوله: متكئ على أريكته، أنه من أصحاب الترف والدعة الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا العلم منه , وقد دلَّ الحديث على معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد ظهرت فئة في القديم والحديث تدعوا إلى هذه الدعوة الخبيثة، وهي الاكتفاء بالقرآن عن الحديث. وغرضهم هدم نصف الدين، أو إن شئت فقل تفويض الدين كله؛ لأنه إذا أهملت الأحاديث والسنن فسيؤدي ذلك، ولا ريب، إلى استعجام كثير من القرآن على الأمة وعدم معرفة المراد منه، وإذا أهملت الأحاديث واستعجم القرآن فقل على الإسلام العفاء، روى عبد الله بن المبارك عن عمران بن حصين ، أن رجلا أتاه فسأله عن شيء فحدثه ، فقال الرجل : حدثوا عن كتاب الله ولا تحدثوا عن غيره ، فقال : « إنك امرؤ أحمق ، أتجد في كتاب الله أن صلاة
__________
(1) - مسند أحمد (17637) صحيح = يقرى : يكرم الضيف ويقوم بحق ضيافته(1/7)
الظهر أربعا لا يجهر فيها ، وعدد الصلوات وعدد الزكاة ونحوها ، ثم قال : أتجد هذا مفسرا في كتاب الله ، إن الله قد أحكم ذلك والسنة تفسر ذلك » (1)
إذن فالسنُّة واجبة الاتباع مثل القرآن الكريم، على ذلك قامت الأدلة الظاهرة من القرآن والسنة، وأننا سنجتهد في ذكر كثير من الأدلة المتعددة تأكيدا للمسألة، وضربا بسهم في الدفاع عن سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل الله تعالى يتفضل فيسجل ذلك في ميزان الحسنات بفضله وكرمه إن شاء الله.
===================
__________
(1) - مسند عبد الله بن المبارك (234) حسن(1/8)
المبحث الأول
الأدلة على حجية السنة النبوية
1. الأدلةُ من القرآن على حجية السنة
لقد اشتدت عناية القرآن الكريم بتلك المسألة فوجه إليها آيات كثيرة تربوا على أربعين آية، تنوعت بين آيات تأمر في وضوح باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين آيات أخرى تنهى عن مخالفته، وتحذر من ذلك وتبين جزاء المخالفين.
ولا شك أن هذا العدد الضخم من الآيات ينبئ في جلاء عن العناية الفائقة التي انصبت على إثبات حجية السنة الشريفة وضرورة التمسك بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونحن لن نستطيع ذكر هذه الآيات كلها، وإلا طال المقام بنا جدا، ولكننا سننبه إلى بعض هذه الآيات فقط، ودلالتها على التمسك بالسنة الشريفة. من هذه الآيات قول الله تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) [آل عمران/31، 32] } ، في هاتين الآيتين يذكر الله تعالى الدليل على حب العبد لربه، ولا يكون ذلك إلا باتباع سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، فالذي يقول إنه يحب الله تعالى، عليه اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر به ونهى عنه.
ونستطيع، تأسيسا على مفهوم الآية، أن نقرر أن الذين يزعمون أنهم يحبون الله تعالى ثم لا يتبعون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول نستطيع أن نصفهم في أقل درجات الوصف، بأنهم كاذبون في دعواهم الحب لله تعالى.
ثم لا ينبغي أن تغيب عن أذهاننا دلالة ختام الآيتين السابقتين، بقول الله تعالى: ( فَإِنْ تَوَلَّوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ) لأن هذا حكم من الله تعالى على الذين تولوا عن اتباع السنَّة، وأعرضوا عنها، وجحدوا حجيتها بأنهم كافرون.(1/9)
ومن الآيات الدالة على وجوب اتباع السنة، قول الله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } (59) سورة النساء .
ودلالة الآية على حجية السنة من عدة وجوه:
• النداء بوصف الإيمان في مستهل الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) ومعنى ذلك أن المؤمنين لا يستحقوا أن ينادوا بصفة الإيمان، إلا إذا نفذوا ما بعد النداء وهو طاعة الله تعالى وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأولي الأمر.
• تكرار الفعل أطيعوا مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم يدلُّ على أنها مطلوبة مثل طاعة الله تعالى، بل ومساوية لها تماما، أما أولو الأمر فليست لهم طاعة واجبة على سبيل الاستقلال، بل طاعتنا لهم مرتبطة بطاعتهم هم لله ورسوله، فإن هم أطاعوا الله ورسوله فلهم علينا حق السمع والطاعة، وإلا فلا؛ لأنه "لا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ". (1) .
• الأمرُ برد التنازع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعليق ذلك على الإيمان كما في قوله تعالى: ( إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ )، ومعنى ذلك أن الذين يردون التنازع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هم فقط المؤمنون حقا كما وصفتهم بذلك الآية الكريمة، أما غيرهم فلا ينطبق هذا الوصف عليهم.
ثم يحدثنا الله تعالى بعد هذه الآية مباشرة، عن أناس يزعمون أنهم يؤمنون بالله ورسوله، ومقتضى هذا الإيمان أن يحكِّموا رسوله في شئون حياتهم، ولكنهم، لا يفعلون ذلك، وإنما يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، مع إنهم قد أمروا أن يكفروا به { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} (61) سورة النساء.
ففي نهاية الأمر حكم اللهُ تعالى على من يعرض عن حكم الله تعالى ورسوله ويتحاكم إلى الطواغيت بأنهم منافقون.
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني(14795) وبنحوه عند الترمذي ( 1809) صحيح(1/10)
فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى قوله تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ..} (64) سورة النساء، نجد أن الله تعالى يقرر هنا قاعدة ليست في حق نبينا صلى الله عليه وسلم فقط، بل في حق الأنبياء جميعا، وهذه القاعدة هي: أن كل رسول جاء من عند الله يجب أن يطاع. والأصلُ في ذلك أن الله تعالى لا يرسل رسولا إلا إذا كانت هناك بيئة محتاجة إليه من الناحية العقلية والخلقية والاجتماعية: وكل مناحي الحياة.
وكلُّ رسول يأتي بالمنهج الذي يصلح الخلل في تلك البيئة، فإذا كانت هناك بيئة محتاجة، ورسول يأتي بما يلبي تلك الحاجة، فلماذا لا يطاع هذا الرسول، إن عدم الطاعة، حينئذ، هو نوع من العناد والجحود والتكبر، كما أن في عدم الطاعة اتهاما للرسالة بالقصور واتهاما للرسول، وكل ذلك غير جائز.
ومن أهم الآيات دلالة على وجوب التمسك بالسنة أيضا، قول الله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء ، إن الله تعالى في هذه الآية يقسم، وحينما يقسم الله تعالى فإن الأمر خطير، ويقسم الله تعالى بنفسه وهي مرات قليلة في القرآن الكريم، تلك التي أقسم الله تعالى فيها بنفسه ليدلنا على أهمية ما يطرحه بعد القسم، فالمقسِم هو الله، والمقسَم به أيضا هو الله تعالى، والمقسم عليه هو أن إيمان المؤمنين لا يتمُّ ولا ينعقد إلا إذا حكَّموا الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شأن من شئون حياتهم، ومن المعلوم بالضرورة أننا نحكِّم الرسول صلى الله عليه وسلم بذاته وهو حيٌّ، فإذا انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى حكّضمنا سننه.
على أنه ليس فقط أن نحكم الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته، بل لا بد وأن تمتلئ قلوبنا بالرضا والسعادة بهذا الحكم النبوي، وأن نخضع له خضوعا كاملا مع التسليم التام.
وقد يسأل سائل، لماذا اشتراط الرضا بالحكم النبوي ؟ ألا يكفي أن نطبقه ؟ والجواب هو: ولماذا لا نرضى بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم، هل لأننا نشعر أننا ظلمنا ؟ هل لأننا نبحث عن حكم آخر أفضل منه ؟ كلا وحاشا، إن كل ذلك لا يجوز مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/11)
يجب أن يعتقد المسلم اعتقادا راسخا أن منهج الله تعالى ورسوله هو المنهج الحق الذي يجب ألا يتعداه المسلم، وأن كل ما خلا ذلك باطل، ألم يقل الله تعالى { فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } (32) سورة يونس ، إن المسلم يجب أن يعتقد أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يدعوانه إلى شيء إلا إذا كانت فيه الحياة الآمنة المطمئنة الموافقة بإذن الله تعالى، يتجلى ذلك في قول الحق سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } (24) سورة الأنفال ، فإذا قفزنا سريعا، متجاوزين آيات كثيرة في سور متعددة وكلها تدعوا إلى التمسك بالسنة.
أقول إذا قفزنا إلى سور النور، فسنجد أن الله تعالى يحدثنا عن طائفتين من الناس، طائفة تقول إنها آمنت بالله ورسوله، فما موقفها من اتباع منهج الحق سبحانه ؟ يجيب الله تعالى قائلا: (وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) [النور/47-51])، ولكن فريق المؤمنين على عكس ذلك تمام. إنهم يبادرون إلى السمع والطاعة من غير تردد، إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم، ويؤكد الله تلك المسألة، فيقول سبحانه :( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) [النور/51-53]) .
وينتقل إلى سورة الأحزاب، مرورا بآيات كثيرة أيضا، لنجد أن الله تعالى يقرر أن رسوله فقط، هو القدوة، لكل مؤمن يؤمن بالله ويرجو ما عنده من الثواب والتوفيق في اليوم الآخر { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (21) سورة الأحزاب ، ويجب أن يعلم المؤمن أنه إذا قضى الله ورسوله أمرا فليس لمؤمن اختيار في أن يفعل أو لا يفعل؛ لأنه ليس أمامه إلا أن يطبق حكم الله(1/12)
تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتردد هنا نوع من المعصية؛ لأن معنى التردد هو أن يبحث الإنسان عن حكم آخر أصلح من هذا الحكم الذي يتردد بشأنه، وذلك لا يجوز مع حكم الله ورسوله أن. يتأكد هذا المعنى جليا في قول الله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا } (36) سورة الأحزاب.
ونختم المطاف في الآيات الدالة على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بما أشرنا إليه سابقا من قول الله تعالى في سورة الحشر { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } (7) سورة الحشر.
وهناك آيات كثيرة لم نتعرض لذكرها خشية الإطالة، في سورة المائدة، والأنفال، والقتال، والفتح، والمجادلة وغيرها كثير وكثير.
فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى الآيات التي تحذر من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وتنهى عن مخالفته نجدها كثيرة ونشير أيضا إلى بعضها.
• قال تعالى : { وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } (14) سورة النساء.
• وفي سورة التوبة: { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} (63) سورة التوبة .
• في سورة النور: { لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (63) سورة النور.
• وفي سورة القتال: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ } (32) سورة محمد
• وفي سورة المجادلة: { إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } (5) سورة المجادلة(1/13)
• وفي سورة المجادلة أيضا { إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ } (20) سورة المجادلة.
إن مخالفة منهج الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومجادلتهما ومشاققتهما كل ذلك يدخل النار، ولهم فيها العذاب المهين ويورث أصحابه الذل والخزي والفتنة والكبت ويحبط العمل، فليختر المسلم لنفسه ما يشاء.
2-الأحاديث الدالة على حجية السنة:
فإذا انتقلنا إلى السنة فسنجد فيها أحاديث كثيرة، منها
• عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « دَعُونِى مَا تَرَكْتُكُمْ ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَىْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ » (1) .
• وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، إِلاَّ مَنْ أَبَى » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ « مَنْ أَطَاعَنِى دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ أَبَى » (2) .
• وعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا بَعْدَ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِىٌّ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلاَلَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ».. (3)
__________
(1) - صحيح البخاري ( 7288 )
(2) - صحيح البخاري ( 7280 )
(3) - سنن الترمذى(2891) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. = النواجذ : جمع ناجذ وهو أقصى الأضراس(1/14)
• وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَنْ أَطَاعَنِى فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ يَعْصِنِى فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِى وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِى ». (1)
• وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا : كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي ، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ" (2)
* وفي الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ ( 230 ) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ : " السُّنَّةُ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِلتَّنْزِيلِ , وَالْمُوضِحَةُ لِحُدُودِهِ وَشَرَائِعِهِ , أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ حِينَ ذَكَرَ الْحُدُودَ , فَقَالَ : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ , فَجَعَلَهُ حُكْمًا عَامًّا فِي الظَّاهِرِ , عَلَى كُلِّ مَنْ زَنَا , ثُمَّ حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فِي الثَّيِّبَيْنِ بِالرَّجْمِ , وَلَيْسَ هَذَا بِخِلَافِ الْكِتَابِ , وَلَكِنَّهُ لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا عَنَى بِالْآيَةِ الْبِكْرَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا وَكَذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ الْفَرَائِضَ , فَقَالَ : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ , فَكَانَتِ الْآيَةُ شَامِلَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ , وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ , لَمْ يَكُنْ هَذَا بِخِلَافِ التَّنْزِيلِ , وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا عَنَى بِالْمُوَارَثَةِ أَهْلَ الدِّينِ الْوَاحِدِ دُونَ أَهْلِ الدِّينَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ , وَكَذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ الْوُضُوءَ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ , ثُمَّ مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَأَمَرَ بِهِ , تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا عَنَى بِغُسْلٍ الأَرْجُلِ , إِذَا كَانَتِ الْأَقْدَامُ بَادِيَةً , لَا خِفَافَ عَلَيْهَا , وَكَذَلِكَ شَرَائِعُ الْقُرْآنِ كُلُّهَا , إِنَّمَا نَزَلَتْ جُمَلًا حَتَّى فَسَّرَتْهَا السُّنَّةُ "
(231) عَنْ قَتَادَةَ : أَنَّ عِكْرِمَةَ , أَنْكَرَ مَسَحَ الْخُفَّيْنِ , فَقُلْتُ لَهُ : إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ قَالَ : " ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا خَالَفَ الْقُرْآنَ لَمْ يُؤْخَذْ عَنْهُ " قَالَ هَمَّامٌ فِي هَذَا
__________
(1) - صحيح البخاري( 2737 ) و صحيح مسلم(4852)
(2) - المستدرك للحاكم(319) صحيح لغيره(1/15)
الْحَدِيثِ : عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : قُلْتُ لِعِكْرِمَةَ : لَوْلَا ابْنُ عَبَّاسٍ مَا سَأَلَكَ أَحَدٌ عَنْ شَيْءٍ قُلْتُ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنْ عِكْرِمَةَ , وَإِنَّمَا مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عِنْدَهُ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ , وَحَمَلَ الْآيَةَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا عِكْرِمَةُ عَلَى مَا ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ , أَنَّ الْمُرَادَ بِغَسْلِ الْأَرْجُلِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَسْتُورَةً بِالْخِفَافِ , أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَتْ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "
( 232 ) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ , أَنَّهُمْ تَذَاكَرُوا عِنْدَهُ الْأَحَادِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : دَعَوْنَا مِنَ الْحَدِيثِ , وَهَاتُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى , فَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ : " إِنَّكَ لَأَحْمَقُ , أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الصَّلَاةَ مُفَسَّرَةً , فِي كِتَابِ اللَّهِ الصِّيَامُ مُفَسَّرٌ ؟ , الْكِتَابُ أَحْكَمَهُ وَالسُّنَّةُ فَسَّرَتْهُ "
(233) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : أَنَّ رَجُلًا , أَتَاهُ فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ , فَحَدَّثَهُ , فَقَالَ الرَّجُلُ : حَدِّثُوا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ , وَلَا تُحَدِّثُوا عَنْ غَيْرِهِ , فَقَالَ : " إِنَّكَ امْرُؤٌ أَحْمَقُ , أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ , أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ أَرْبَعٌ لَا يُجْهَرُ فِيهَا ؟ - وَعَدَّ الصَّلَوَاتِ , وَعَدَّ الزَّكَاةَ وَنَحْوَهَا ثُمَّ قَالَ : أَتَجِدُ هَذَا مُفَسَّرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ قَدْ أَحْكَمَ ذَلِكَ , وَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ ذَلِكَ "
(234)عَنِ الْحَسَنِ : أَنَّ رَجُلًا , قَالَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : يَا أَبَا نُجَيْدٍ , إِنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونَا بِأَحَادِيثَ , اللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِهَا , حَدِّثُونَا بِالْقُرْآنِ قَالَ : " الْقُرْآنُ وَاللَّهِ نَعَمْ , أَرَأَيْتَ لَوْ رَفَعْنَا إِلَيْهِ , وَقَدْ وَجَدْتَ فِي الْقُرْآنِ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ , ثُمَّ لَمْ نَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , كَيْفَ سَنَّ لَنَا , كَيْفَ نَرْكَعُ , كَيْفَ كُنَّا نَسْجُدُ , كَيْفَ كُنَّا نُعْطِي زَكَاةَ أَمْوَالِنَا قَالَ : فَأَفْحَمَ الرَّجُلُ "
( 235) عَنِ الْحَسَنِ , قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : يَا أَبَا نُجَيْدٍ , حَدِّثْنَا بِالْقُرْآنِ , قَالَ : " أَلَيْسَ تَقْرَأُ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ , أَكُنْتُمْ تَعْرِفُونَ مَا فِيهَا , وَمَا رُكُوعُهَا وَسُجُودُهَا , وَحُدُودُهَا , وَمَا فِيهَا ؟ أَكُنْتَ تَدْرِي كَمِ الزَّكَاةُ فِي الْوَرِقِ وَالذَّهَبِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ , وَأَصْنَافِ الْمَالِ ؟ شَهِدْتَ وَوَعَيْتَ فَرْضَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ(1/16)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فِي الزَّكَاةِ كَذَا وَكَذَا " قَالَ الرَّجُلُ : أَحْيَيْتَنِي يَا أَبَا نُجَيْدٍ , أَحْيَاكَ اللَّهُ كَمَا أَحْيَيْتَنِي قَالَ : فَمَا مَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ حَتَّى كَانَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ "
والأحاديث غير ذلك كثيرة.
3- الإجماعُ:
أجمعت أمة الإسلام قديما وحديثا على حجية السنة وضرورة التمسك بها والعض عليها بالنواجذ، وضرورة تطبيقها والسير على هديها في كل جوانب حياة المسلمين، ولم يمار في هذه الحقيقة الساطعة إلا نفر ممن لا يعتد بخروجهم على إجماع الأمة من الخوارج والروافض، قال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى: والحاصل أن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في دين الإسلام. (1) .
4-دليلُ الإيمان:
يطالب الله تعالى من عباده المؤمنين أن يؤمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم، فيقول سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (136) سورة النساء .
ويقول عز من قائل: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (158) سورة الأعراف.
فمقتضى ذلك أن تؤمن بالله وبرسوله، ثم إن الإيمان والتصديق بكل ما جاء به هذا الرسول، وإن حدث عكس ذلك كان شكًّا وارتيابا في الرسالة والرسول معا، وحينئذ لا يكون هناك إيمان أبدا، ويقول الإمام الشافعي في رسالته: قال : " الشافعي " : وضع الله رسوله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من دينه وفرْضِه وكتابه الموضعَ الذي أبان - جل ثناؤه - أنه جعله عَلَمًا لدينه بما افترض من طاعته وحرَّم من معصيته وأبان من فضيلته بما قَرَن من
__________
(1) - المدخل إلى مذهب الإمام أحمد - الرقمية - (ج 1 / ص 97) وإرشاد الفحول - (ج 1 / ص 97)(1/17)
الإيمان برسوله مع الإيمان به ،فقال تبارك وتعالى : " فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا : ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ . إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ( 171 ) " [ النساء ]
وقال : " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ( 62 ) " [ النور ]
فجعل كمال ابتداء الإيمان الذي ما سواه تَبَع له : الإيمانَ بالله ورسوله ، فلو آمن عبد به ولم يؤمن برسوله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: لم يقع عليه اسم كمال الإيمان أبداً حتى يؤمن برسوله معه .
وهكذا سَنَّ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في كل من امتحنه للإيمان .
أخبرنا " مالك " عن " هلال بن أسامة " عن " عطاء بن يسار " عن " عُمَر بن الحَكَم " قال : " أتَيْتُ رسولَ اللهِ بِجَارِيَةٍ فَقُلْتُ : ياَ رَسُولَ اللهِ عَلَيَّ رَقَبَةٌ أَفَأَعْتِقُهَا ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ : أَيْنَ اللهُ ؟ فَقَالَتْ : فِي السَّمَاءِ . فَقَالَ : وَمَنْ أَنَا ؟ قَالَتْ : أَنْتَ رَسُولُ اللهِ . قَالَ : فَأَعْتِقْهَا " قال " الشافعي " : وهو " معاوية بن الحكم " وكذلك رواه غيرُ مالك وأظن مالكً .
قال " الشافعي : " ففرض الله على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله، فقال في كتابه : " رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ . إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 129 ) " [ البقرة ]
وقال جل ثناؤه : " كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ( 151 ) " [ البقرة ]
وقال : " لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ( 164 ) " [ آل عمران ]وقال جل ثناؤه : " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ( 2 ) " [ الجمعة ](1/18)
وقال : " وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ( 231 ) " [ البقرة ]
وقال : " وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ( 113 ) " [ النساء ]
وقال : " وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ [ ص 78 ] اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ . إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ( 34 ) " [ الأحزاب ]
فذكر الله الكتاب وهو القُرَآن وذكر الحِكْمَة فسمعتُ مَنْ أرْضى من أهل العلم بالقُرَآن يقول : الحكمة سنة رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ، وهذا يشبه ما قال والله أعلم
لأن القُرَآن ذُكر وأُتْبِعَتْه الحكمة وذكرَ الله منَّه على خَلْقه بتعليمهم الكتاب والحكمة فلم يَجُزْ - والله أعلم - أن يقال : الحكمة هاهنا إلا سنةُ رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله وأن الله افترض طاعة رسوله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وحتَّم على الناس اتباع أمره فلا يجوز أن يقال لقول : فرضٌ إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله لِمَا وصفنا من أنَّ الله جَعَلَ الإيمان برسوله مقروناً بالإيمان به ، وسنة رسول الله مُبَيِّنَة عن الله معنى ما أراد دليلاً على خاصِّه وعامِّه ثم قرن الحكمة بها بكتابه فاتبعها إياه ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله
باب : فرْض الله طاعةَ رسول الله مقرونةً بطاعة الله ومذكورةً وحدها
قال الله : " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ( 36 ) " [ الأحزاب ]
وقال : " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ( 59 ) " [ النساء ]
فقال بعض أهل العلم : أولوا الأمر : أمراء سرايا رسول الله - والله أعلم - وهكذا أُخبرنا وهو يُشْبِه ما قال - والله أعلم - لأن كلَّ من كان حوْل مكة من العرب لم يكن يعرف(1/19)
إمارة وكانت تأنَف أن يُعْطِيَ بعضُها بعضا طاعةَ الإمارة ،فلما دانت لرسول الله بالطاعة لم تكن ترى ذلك يَصلح لغير رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ .
فأُمِروا أن يُطِيعوا أولي الأمر الذين أَمَّرَهم رسول الله لا طاعةً مطلقة بل طاعة مُسْتَثْناة فيما لهم وعليهم فقال : " فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ ( 59 ) " [ النساء ] يعني : إن اختلفتم في شيء وهذا - إن شاء الله - كما قال في أولي الأمر إلا أنَّه يقول : " فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ " يعني - والله أعلم - هم وأُمَراؤهم الذين أُمِروا بطاعتهم " فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ " يعني - والله اعلم - إلى ما قال الله والرسول صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إن عرفتموه فإن لم تعرفوه سألتم الرسولَ عنه إذا وصلتم أو من وَصَلَ منكم إليه ، لأن ذلك الفرضُ الذي لا مُنَازَعَة لكم فيه لقول الله : " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ( 36 ) [ الأحزاب ]
ومن تنازع ممن بعد رسول الله رَدَّ الأمر إلى قضاء الله ثم قضاء رسوله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فإن لم يكن فيما تنازعوا فيه قضاء نصًّا فيهما ولا في واحد منهما رَدُّوه قِياساً على أحدهما كما وصفْتُ مِنُ ذكر القبلة والعدل والمثل مع ما قال الله في غير آية مثلَ هذا المعنى ، وقال : " وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ( 69 ) [ النساء ]
وقال : " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( 20 ) " [ الأنفال ]
باب : ما أمر الله من طاعة رسوله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
قال الله - جل ثناؤه - : " إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ . يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( 10 ) " [ الفتح ]
وقال : " مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ( 80 ) " [ النساء ]
فأعْلَمَهم أنَّ بَيْعَتهم رسولَه بيعتُه وكذلك أعْلمهم أنَّ طاعتَهم طاعتُه
وقال : " فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ( 65 ) " [ النساء ](1/20)
نزلت هذه الآية فيما بلغنا - والله أعلم - في رجل خاصَمَ " الزُّبَيْر " في أرضٍ فقضى النبي بها " للزبير "
وهذا القضاء سنة من رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لا حُكْمٌ منصوص في القُرَآن
والقُرَآن يدلُّ - والله أعلم - على ما وصفْتُ لأنه لو كان قضاءً بالقُرَآن كان حُكماً منصوصاً بكتاب الله وأشبَهَ أن يكونوا إذا لم يُسَلِّموا لحكم كتاب الله نصًّا غيرَ مُشْكِل الأمر أنَّهم ليسوا بِمُؤمنين إذا رَدُّوا حكمَ التنزيل إذا لم يسلموا له.
وقال تبارك وتعالى : " لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا . قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا [ ص 84 ] فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 63 ) " [ النور ]
وقال : " وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ( 48 ) . وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ( 49 ) . أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ؟ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ( 50 ) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ( 51 ) . وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ ( 52 ) " [ النور ]
فأعلم اللهُ الناسَ في هذه الآية أنَّ دعاءهم إلى رسول الله ليحكم بينهم : دعاء إلى حكم الله لأن الحاكم بيْنهم رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وإذا سلَّموا لحكم رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فإنما سلموا لحكمه بفرض الله
وأنَّه أعْلَمَهم أن حكمَه : حكمُه على معنى افتراضه حكمَه وما سبق في علمه - جل ثناؤه - مِن إسْعاده بعِصْمته وتوفيقه وما شَهِد له به من هِدايتِه واتباعِه أمْرَه ، فأَحْكَمَ فرضَه بإلزام خَلْقِه طاعةَ رسوله وإعْلامِهم أنها طاعتُه .فَجَمَعَ لهم أنْ أعْلمَهم أنَّ الفرض عليهم اتباعُ أمره وأمرِ رسوله وأن طاعة رسوله : طاعتُه ثم أعلمهم أنه فَرَضَ على رسوله اتباعَ أمرِه - جل ثناؤه(1/21)
باب : ما أبان الله لخلْقه من فرضه على رسوله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ اتباعَ ما أَوْحَى إليه وما شَهِد له به من اتباع ما أُمِرَ به ومِنْ هُداه وأنه هاد لمن اتبعه قال " الشافعي " : قال - الله جل ثناؤه - لنبيه : " يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ . إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 1 ) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ . إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( 2 ) " [ الأحزاب ]
وقال : " اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ ( 106 ) " [ الأنعام ]
وقال : " ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ( 18 )"[ الجاثية ]
فأعْلَمَ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ منَّه عليه بما سبق في علمه من عِصْمته إيَّاه من خلقه فقال : " يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ ( 67 ) " [ المائدة ]
وشهد له - جل ثناؤه - باستمساكه بما أمره به والهدى في نفسه وهدايةِ مَنْ اتبعه فقال : " وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي : مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 52 ) " [ الشورى ]
وقال : " وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ [ ص 87 ] وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ( 113 ) " [ النساء ]
فأبان الله أنْ قدْ فرَضَ على نبيه اتباعَ أمره وشهِدَ له بالبلاغ عنه وشهد به لنفسه ونحن نَشْهَدُ له به تَقَرُّبًا إلى الله بالإيمان به وتوَسُّلاً إليه بِتَصْديق كَلِمَاتِه
أخبرنا " عبد العزيز " عن " عمرو بن أبي عمرو " مَوْلى " المُطَّلِب " عن " المطلب بن حَنْطَبٍ " أنَّ رسول الله قال : " مَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا أمَرَكُمْ اللهُ بِهِ إِلاَّ وَقَدْ أمَرْتُكُمْ بِهِ وَلاَ تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا نَهَاكُمْ اللهُ عَنْهُ إلاَّ وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ "(1/22)
قال " الشافعي " : وما أعلمنا الله مما سبق في علمه وحتْمِ قضائه الذي لا يُرَدُّ من فضله عليه ونعمته : أنه منعه من أنْ يَهُمُّوا به أن يُضلُّوه وأعلمه أنهم لا يضرونه من شيء
وفي شهادته له بأنه يهدي إلى صراط مستقيم صراط الله والشهادة بتَأدية رسالته واتباع أمره وفيما وصفتُ من فرضه طاعتَه وتأكيدِه إياها في الآي ذكرتُ : ما أقام الله به الحجة على خلقه بالتسليم لحكم رسول الله واتباع أمره .
قال " الشافعي " : وما سَنَّ رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فيما ليس لله فيه حكمٌ فبِحُكْم الله سنَّه . وكذلك أخبرنا الله في قوله : " وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 52 ) صِرَاطِ اللَّهِ . . . ( 53 ) " [ الشورى ]
وقد سن رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم َمع كتاب الله وسنَّ فيما ليس فيه بعَيْنه نصُّ كتاب ،وكل ما سن فقد ألزمنا الله اتباعه وجعل في اتباعه طاعته وفي العُنُود عن اتباعها معصيتَه التي لم يعذر بها خَلْقاً ، ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله مَخْرجاً لما وصفتُ وما قال رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أخبرنا " سفيان " عن " سالم أبو النضْر " مولى " عُمَر بن عبيد الله " سمع " عبيد الله بن أبي رافع " يحدِّثُ عن أبيه أنَّ رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال : " لاَ أُلْفِيَنَّ أحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأُمْرُ مِنْ أمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ به أَوْ نَهَيْتُ عنه فيقولُ : لاَ أَدْرِي ماَ وَجَدْنَا فِي كِتَاِب اللهِ اتَّبَعْناَهُ " ( 1 ) قال " سفيان " : وحَدَّثَنِيه " محمد بن المُنْكَدِر " عن النبي مُرْسلاً
قال " الشافعي " : الأريكة : السرير
وسُنَنُ رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مع كتاب الله وجهان :
أحَدُهما : نص كتاب فَاتَّبَعَه رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كما أنزل الله والآخر : جملة بَيَّنَ رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فيه عن الله معنى ما أراد بالجملة وأوضح كيف فرَضَها عامَّاً أو خاصاً وكيف أراد أن يأتي به العباد وكلاهما اتبع فيه كتاب الله
قال : فلم أعلم من أهل العلم مخالفاً في أن سُنن النبي من ثلاثة وجوه فاجتمعوا منها على وجهين ،والوجهان يجْتَمِعان ويتفرَّعان :(1/23)
أحدهما : ما أنزل الله فيه نص كتاب فبَيَّنَ رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مثلَ ما نصَّ الكتاب والآخر : مما أنزل الله فيه جملةَ كتاب فبيَّن عن الله معنى ما أراد وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما
والوجه الثالث : ما سنَّ رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فيما ليس فيه نص كتاب
فمنهم من قال : جعل الله له بما افترض من طاعته وسبق في علمه من توفيقه لرضاه أن يَسُنَّ فيما ليس فيه نص كتاب ومنهم من قال : لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب كما كانت سُنَّته لتبيين عدد الصلاة وعملها على أصل جملة فرض الصلاة وكذلك ما سنَّ من البُيُوع وغيرها من الشرائع لأن الله قال : " لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ( 29 ) " [ النساء ] وقال : " وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ( 275 ) [ البقرة ] فما أحلَّ وحرَّم فإنما بيَّن فيه عن الله كما بَيَّن الصلاة .
ومنهم من قال : بل جاءته به رسالةُ الله فأثبتتْ سنَّتَه
ومنهم من قال : أُلْقِيَ في رُوعه كلُّ ما سَنَّ وسنَّتُه الحكمةُ : الذي أُلقي في رُوعه عن الله فكان ما ألقي في روعه سنتَه.
أخبرنا " عبد العزيز " عن " عمرو بن أبي عمرو " عن " المطلب " قال : قال رسول الله : " إنَّ الرُّوحَ الأمِيَن قَدْ ألْقَى فِي رُوعِي أنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزُْقَهَا فَأجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ "
فكان مما ألقَى في روعه سنَّتَه وهي الحكمة التي ذكَرَ اللهُ وما نَزَل به عليه كتابٌ فهو كتاب الله وكلٌّ جاءه من نِعَمِ الله كما أراد الله وكما جاءته النِّعَم تَجْمعها النعمة وتَتَفَرَّقُ بأنها في أمورٍ بعضُها غيرُ بعض ونسأل الله العصمة والتوفيق ى .
وأيُّ هذا كان فقد بيَّن الله أنه فرَضَ فيه طاعة رسوله ولم يجعل لأحد من خلقه عذراً بخلاف أمرٍ عرَفَه من أمر رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأنْ قد جعل الله بالناس الحاجةَ إليه في دينهم وأقام عليهم حجتَه بما دلَّهم عليه من سنن رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مَعَاني ما أراد الله بفرائضه في كتابه ليعلم مَن عرَف منها ما وصَفْنا أن سنته - صلى الله عليه - إذا كانت سنة مبيِّنة عن الله معنى ما أراد من مَفْروضه فيما فيه كتابٌ يتْلونَه وفيما(1/24)
ليس فيه نصُّ كتاب أخْرَى فهي كذلك أيْنَ كانت لا يختلف حكمُ الله ثم حكمُ رسوله بل هو لازم بكلِّ حال وكذلك قال رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في حديث " أبي رافع " الذي كتبنا قبْل هذا اهـ (1)
وأخيرا فإننا نختتم هذا المبحث المهم ببعض مواقف للصحابة رضوان الله تعالى عليهم يستبين منها مسارعتهم إلى تطبيق سنة النبي صلى الله عليه وسلم واتباع منهجه، وأن ذلك واجب بل هو الإيمان عينه.
روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ ، وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى ، مَالِى لاَ أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ فِى كِتَابِ اللَّهِ ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) (2) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالنَّامِصَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ. قَالَ فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِى أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِى عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَمَا لِىَ لاَ أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ لَوْحَىِ الْمُصْحَفِ فَمَا وَجَدْتُهُ. فَقَالَ لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ فَإِنِّى أَرَى شَيْئًا مِنْ هَذَا عَلَى امْرَأَتِكَ الآنَ. قَالَ اذْهَبِى فَانْظُرِى. قَالَ فَدَخَلَتْ عَلَى امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا فَجَاءَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا. فَقَالَ أَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكِ لَمْ نُجَامِعْهَا. (3)
عَنْ قَبِيصَةَ بن ذُؤَيْبٍ، قَالَ: جَاءَتِ الْجَدَّةُ ِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تَطْلُبُ مِيرَاثَهَا مِنِ ابْنِ ابْنِهَا أَوِ ابْنِ ابْنَتِهَا لا أَدْرِي أَيَّتَهُمَا هِيَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لا أَجِدُ لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ
__________
(1) - الرسالة للشافعي [ ص 75 ] فما بعدها
(2) - صحيح البخارى( 5931 )
المتفلجات : جمع متفلجة وهى التى تطلب الفلج وهو فرجة ما بين الثنايا والرباعيات
الواشمات : الوشم أن يغرز الجلد بإبرة ثم يحشى بكحل أو نيل فيزرق أثره أو يخضر
(3) - صحيح مسلم(5695 )(1/25)
شَيْئًا , وَمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي لَكِ بِشَيْءٍ , وَسَأَسْأَلُ النَّاسَ الْعَشِيَّةَ , فَلَمَّا صَلَّى الظُّهْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: إِنَّ الْجَدَّةَ أَتَتْنِي تَسْأَلُنِي مِيرَاثَهَا مِنِ ابْنِ ابْنِهَا أَوِ ابْنِ ابْنَتِهَا , وَإِنِّي لَمْ أَجِدْ لَهَا فِي الْكِتَابِ شَيْئًا , وَلَمْ أَسْمَعِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى لَهَا بِشَيْءٍ , فَهَلْ سَمِعَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا شَيْئًا؟ فَقَامَ الْمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ فَقَالَ:شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي لَهَا بِالسُّدُسِ، فَقَالَ: هَلْ سَمِعَ ذَلِكَ مَعَكَ أَحَدٌ؟ فَقَامَ مُحَمَّدُ بن مَسْلَمَةَ، فَقَالَ:شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي لَهَا بِالسُّدُسِفَأَعْطَاهَا أَبُو بَكْرٍ السُّدُسَ , فَلَمَّا كَانَتْ خِلافَةُ عُمَرَ جَاءَتْهُ الْجَدَّةُ الَّتِي تُخَالِفُهَا، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: إِنَّمَا كَانَ الْقَضَاءُ فِي غَيْرِكِ , وَلَكِنْ إِذَا اجْتَمَعْتُمَا فَالسُّدُسُ بَيْنَكُمَا , وَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا . (1)
وهذا يدلُّ على أن أبا بكر يفهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرع تماما مثل القرآن الكريم، وأن طاعته واجبة مثل طاعة الله تعالى.
وعَنْ عَلِىٍّ قَالَ رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَامَ فَقُمْنَا وَقَعَدَ فَقَعَدْنَا. يَعْنِى فِى الْجَنَازَةِ. (2)
وعن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - قَالَ لِلرُّكْنِ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ ، وَلَوْلاَ أَنِّى رَأَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ . فَاسْتَلَمَهُ ، ثُمَّ قَالَ فَمَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ . ثُمَّ قَالَ شَىْءٌ صَنَعَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلاَ نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ . (3)
وَقَوْلُهُ وَلَوْلَا : أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُك مَا قَبَّلْتُك تَبْيِينٌ بِأَنَّ تَقْبِيلَهُ وَتَعْظِيمَهُ لَيْسَ لِذَاتِهِ وَلَا لِمَعْنًى فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَعَ ذَلِكَ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ اسْتِلَامَ الْحَجَرِ وَتَقْبِيلَهُ لِمَنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَوَجَدَ إِلَيْهِ سَبِيلًا
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني (17440 ) صحيح
(2) - صحيح مسلم(2274)
(3) - صحيح البخارى(1605 )(1/26)
اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَقْبِيلِهِ إِيَّاهُ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ تَقْبِيلَهُ لِزِحَامٍ أَوْ غَيْرِهِ اسْتَلَمَهُ بِيَدِهِ ، ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ . (1)
وعَنْ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إِنَّا نَجِدُ صَلاَةَ الْحَضَرِ وَصَلاَةَ الْخَوْفِ فِى الْقُرْآنِ وَلاَ نَجِدُ صَلاَةَ السَّفَرِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْنَا مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- وَلاَ نَعْلَمُ شَيْئًا فَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَا مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- يَفْعَلُ. (2)
ولقد كانوا يقاطعون من يفهم من قوله، حتى ولو كان لا يقصد، مجرد شبهة الاعتراض على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يعلمون يقينا أنه واجب السمع والطاعة على ذلك كان عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين من بعدهم وكل من سار على نفس درب الهدي الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وانعقد ذلك إجماع أمة المسلمين.
====================
__________
(1) - المنتقى - شرح الموطأ - (ج 2 / ص 360)
(2) - سنن ابن ماجه (1119) وموطأ مالك (336) صحيح(1/27)
المبحث الثاني
السنَّة النبوية وحي من الله تعالى
عرفنا فيما سبق أن السنَّة هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وتقريراته.. إلخ فهل هذا يعني أن السنَّة شيء يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه ؟ أم أنها وحي أوحى الله به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ؟.
والجواب: أن الله سبحانه وتعالى قد أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم - معجزة الدهر ودستور الحياة - كما أوحى إليه معه بيانه الحكيم إتماما للنعمة ، ومنعاً للقول في دين الله بغير ما جاء عن الله ورسوله ، والأدلة على أن السنَّة وحي كالقرآن كثيرة ومتعددة منها:
1- أنه قد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم اقترنت فيها الحكمة بالقرآن ، بعض هذه الآيات يؤكد نزولها مع القرآن ، كقوله تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) [ سورة البقرة /231 ].
وكقوله تعالى: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً). [ سورة النساء /113 ].
وبعض الآيات تؤكد أنها وحي مثل القرآن، كقوله تعالى: { ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} (39) سورة الإسراء.
وبعض الآيات تؤكد أن الله امتنَّ على هذه الأمة ببعثة نبيها منها ، وأن من مهمته تعليمهم الكتاب والحكمة ، يقول تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ..) [ سورة آل عمران /1645 ].
ويقول تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ). [ سورة البقرة / 151 ].(1/28)
ويقول تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [ سورة الجمعة /2 ].
ولذلك خاطب الله نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) [ سورة الأحزاب /34 ]. فالحكمة تتلى في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن الكريم.
والذي عليه جمهور العلماء والمحققين أن الحكمة شيء آخر غير القرآن وهي ما ينطق به صلى الله عليه وسلم من كلام نافع يهدي إلى الرشد والفلاح ويأمر بهما ، ويمنع من الجهل والضلال وينهى عنهما ، ويعبر العلماء عنها بالسنَّة.
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: (قَالَ الشَّافِعِيُّ : ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْكِتَابَ وَهُوَ الْقُرْآنُ ، وَذَكَرَ الْحِكْمَةَ (1) ، فَسَمِعْتُ مَنْ أَرْضَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ يَقُولُ : الْحِكْمَةُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهَذَا يُشْبِهُ مَا قَالَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْقُرْآنَ وَأَتْبَعَهُ الْحِكْمَةَ وَذَكَرَ مَنَّهُ عَلَى خَلْقِهِ بِتَعْلِيمِهِمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ، فَلَمْ يَجُزْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، الْحِكْمَةُ هَا هُنَا إِلَّا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ أَنَّهَا مَقْرُونَةٌ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ طَاعَةَ رَسُولِهِ وَحَتَّمَ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ أَمْرِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِقَوْلٍ : هُوَ فَرْضٌ إِلَّا لِكِتَابِ اللَّهِ ، ثُمَّ سُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْإِيمَانَ بِرَسُولِهِ مَقْرُونَا بِالْإِيمَانِ بِهِ فَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنَةٌ عَنِ اللَّهِ مَعْنَى مَا أَرَادَ دَلِيلَهُ عَلَى خَاصِّهِ وَعَامِّهِ ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ هَذَا لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ غَيْرَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (2) .
__________
(1) - الحكمة في اللغة على عدة معان منها: العلم والفقه ، والعدل ، والحلم ، والنبوة ، انظر: لسان العرب ، مادة: حكم ، المعجم الوسيط 1/190.
(2) - السُّنَّةُ لِلْمَرْوَزِيِّ (339 ) والْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ (252) والرسالة - (ج 1 / ص 72) ومعرفة السنن والآثار للبيهقي(3)(1/29)
وقال الحسن وقتادة: الكتاب: هو القرآن ، والحكمة هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ، وفسر ابن حزم الحكمة بأنها: (والآيات ما أنزل تعالى من القرآن والحكمة ما أوحى من السنة) (2) .
وقال المفسرون (3) : " يَتْلُو عَلَيهِمْ آياتِ اللهِ ، وَيُعَلِّمُهُمُ القُرآنَ ( الكِتَابَ ) وَيُعَلّمُهُمْ أَسْرَارَ الشَّرِيعَةِ وَمَقَاصِدَهَا بِسِيرَتِهِ فِي المُسْلِمِينَ ، فَيَكُونُ قُدْوَةً لَهُمْ ( السُّنَّةُ ) وَيُفَقِّهُهُمْ فِي الدِّينِ ( يُعَلِّمُهُمُ الحِكْمَةَ ) أَيْ إِنَّ الرَّسُولَ يُعَلِّمُهُمُ الخَيْرَ فَيَفْعَلُونَهُ ، وَيُبَصِّرُهُمْ بِالشَّرِّ فَيَجْتَنِبُونَهُ ، وَيُخْبِرُهُمْ بِرِضَا اللهِ عَنْهُمْ إِذَا أَطَاعُوهُ ، لِيسْتَكْثِرُوا مِنْ طَاعَتِهِ ، وَيَجْتَنِبُوا مَا يُسْخِطُهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ )"
وما ذكره العلماء هو عين الصواب: لأن الله ذكر الكتاب وعطف عليه الحكمة ، والعطف هنا يقتضي المغايرة: أي: أنهما شيئان لا شيء واحد ، وليس هناك شيء آخر مناسب غير " السنَّة " لاسيما وأنها ذكرت في مقام التفضل والامتنان من الله علينا بتعليمنا إياها ، وتزكيتنا ، وهدايتنا ، كما أنه تعالى ذكر ذلك في مقام الجزم أيضا إذ أوضح أنه لا مناص من بيان وتأكيد المعاني الشرعية التي أرادها إلا بالرجوع إلى سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا اعتبرت السنَّة هي المفسِّر الثاني للكتاب العزيز بعد الكتاب نفسه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَمَا أَحْسَنُ طُرُقِ التَّفْسِيرِ ؟
فَالْجَوَابُ : أَنَّ أَصَحَّ الطُّرُقِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ ؛ فَمَا أُجْمِلَ فِي مَكَانٍ فَإِنَّهُ قَدْ فُسِّرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمَا اُخْتُصِرَ مِنْ مَكَانٍ فَقَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَإِنْ أَعْيَاك ذَلِكَ فَعَلَيْك بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ : كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ
__________
(1) - انظر:الفقيه والمتفقه للخطيب 1/88 بتصرف.
(2) - النبذ في أصول الفقه ص 57.
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (ج 1 / ص 136)(1/30)
وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } [ النساء: 105] ، وقال تعالى: { وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ النحل: 44] ، وقال تعالى: { وَمَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [النحل: 64] .
وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ " (1)
وَالسُّنَّةُ أَيْضًا تَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ كَمَا يَنْزِلُ الْقُرْآنُ ؛ لَا أَنَّهَا تُتْلَى كَمَا يُتْلَى وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةِ كَثِيرَةٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذَلِكَ . وَالْغَرَضُ أَنَّك تَطْلُبُ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فَمِنَ السُّنَّةِ كَمَا { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ « كَيْفَ تَقْضِى ». فَقَالَ أَقْضِى بِمَا فِى كِتَابِ اللَّهِ. قَالَ « فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِى كِتَابِ اللَّهِ ». قَالَ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ « فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ». قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِى، قَالَ « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- » (2) . وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمَسَانِدِ وَالسُّنَنِ بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ .
وَحِينَئِذٍ إذَا لَمْ نَجِدْ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ رَجَعْنَا فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَا ؛ وَلِمَا لَهُمْ مِنْ الْفَهْمِ التَّامِّ وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ؛ لَا سِيَّمَا عُلَمَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ : " مِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ "
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبري : حَدَّثَنَا أَبُو كريب قَالَ أَنْبَأَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ أَنْبَأَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ : وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ " (3)
__________
(1) - مسند أحمد(17637) صحيح
(2) - سنن الترمذى(1377 ) حديث حسن
(3) - مجموع الفتاوى - (ج 13 / ص 363) وانظر تفسير ابن كثير 1/3.(1/31)
2- إن الله سبحانه وتعالى قد حدد مهمة النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن فجعلها البيان، قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ...) [ سورة النحل /44 ].
ثم بين في آية القيامة أن بيان النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن ليس نابعاً من تلقاء نفسه وإنما هو وحي من ربه، يقول تعالى: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه) [ سورة القيامة / 18، 19 ]. فقد نسب الحقُّ سبحانه وتعالى البيان إلى نفسه بضمير العظمة الإلهية لينبه إلى أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يأتي بشيء من قبل نفسه، وإنما هو كما وصفه ربه (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) [ سورة النجم / 3-5 ].
يقول ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ): (أَيْ بَعْد حِفْظه وَتِلَاوَته نُبَيِّنهُ لَك وَنُوَضِّحهُ وَنُلْهِمك مَعْنَاهُ عَلَى مَا أَرَدْنَا وَشَرَعْنَا... وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَعَطِيَّة الْعَوْفِيّ " ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانه" تَبْيِين حَلَاله وَحَرَامه وَكَذَا قَالَ قَتَادَة .) (1)
ويقول ابن حزم: " إن الله تعالى أنزل الذكر على النبي صلى الله عليه وسلم ليبينه للناس، والبيان هو الكلام، فإذا تلاه النبي صلى الله عليه وسلم فقد بينه، ثم إن كان مجملا لا يفهم معناه من لفظه، بينه حينئذ بوحي يوحى إليه إما متلواً أو غير متلو كما قال تعالى: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه) فأخبر تعالى أن بيان القرآن عليه عز وجل، وإذا كان عليه فبيانه من عنده تعالى والوحي كله متلوه وغير متلوه فهو من عند الله عز وجل، وقد قال عز وجل (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [ سورة النساء / 176 ] (2) .
ويقول الدكتور الأحمدي أبو النور: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (3) ، (أي بيانه وإظهاره بلسانك فتقرؤه كما أقرأك جبريل،وعلينا كذلك بيانه، أي تبيين ما فيه من الأحكام، وما يتعلق بها
__________
(1) - تفسير ابن كثير 4/449 بتصرف.
(2) - الإحكام في أصول الأحكام 1/78.
(3) - جاءه هذا التعليم ليطمئنه إلى أن أمر هذا الوحي ، وحفظ هذا القرآن ، وجمعه ، وبيان مقاصده . . كل أولئك موكول إلى صاحبه . ودوره هو ، هو التلقي والبلاغ . فليطمئن بالاً ، وليتلق الوحي كاملاً ، فيجده في صدره منقوشاً ثابتاً . . وهكذا كان . . فأما هذا التعليم فقد ثبت في موضعه حيث نزل . . أليس من قول الله؟ وقول الله ثابت في أي غرض كان؟ ولأي أمر أراد؟ وهذه كلمة من كلماته تثبت في صلب الكتاب شأنها شأن بقية الكتاب . . ودلالة إثبات هذه الآيات في موضعها هذا من السورة دلالة عميقة موحية على حقيقة لطيفة في شأن كل كلمات الله في أي اتجاه . . وفي شأن هذا القرآن وتضمنه لكل كلمات الله التي أوحى بها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُخرم منها حرف ، ولم تند منها عبارة .فهو الحق والصدق والتحرج والوقار! في ظلال القرآن - (ج 7 / ص 401)(1/32)
من الحلال والحرام، والتفصيل والإجمال والتقييد والإطلاق،وما إلى ذلك والبيان بهذا المعنى الثاني هو ما تكفلت به السنة) (1) .
وقال الحافظ ابن حجر: قوله (بَيَانَهُ) جنس مضاف فيعم جميع أصنافه من إظهاره وتبيين أحكامه، وما يتعلق بها من تخصيص وتقييد ونسخ وغير ذلك (2) .
3- أن الله سبحانه وتعالى قال عن نطق نبيه صلى الله عليه وسلم: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى) [ سورة النجم /3-4 ].
وقد جاءت الآيتان بأسلوب القصر عن طريق النفي والاستثناء - وهذا واضح في إثبات أن كلامه صلى الله عليه وسلم محصور في كونه وحيا فهو لا يتكلم إلا به وليس بغيره.
يقول ابن حزم: " لما بينا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجدناه عز وجل يقول فيه واصفا لرسوله صلى الله عليه وسلم: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى).
فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله إلى قسمين:
أحدهما: وحي متلو مؤلف تأليفا معجز النظام وهو القرآن.
والثاني: وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو لكنه مقروء وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المبين عنه، عز وجل، مراده منا (3) .
ويقول أيضا في موضع آخر: " قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى) وقال تعالى آمراً لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) [ سورة الأحقاف /9 ]، وقال تعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).
__________
(1) - شذرات من علوم السنة 1/17.
(2) - فتح الباري 7/555.
(3) - الإحكام 1/93.(1/33)
فصحَّ أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحيٌ من عند الله وجل لا شك في ذلك (1) .
و يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى) أَيْ إِنَّمَا يَقُول مَا أُمِرَ بِهِ يُبَلِّغهُ إِلَى النَّاس كَامِلًا مَوْفُورًا مِنْ غَيْر زِيَادَة وَلَا نُقْصَان كَمَا رَوَاهُ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا يَزِيد حَدَّثَنَا جَرِير بْن عُثْمَان عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن مَيْسَرَة عَنْ أَبِي أُمَامَة أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول " لَيَدْخُل الْجَنَّة بِشَفَاعَةِ رَجُل لَيْسَ بِنَبِيٍّ مِثْل الْحَيَّيْنِ - أَوْ مِثْل أَحَد الْحَيَّيْنِ - رَبِيعَة وَمُضَر " فَقَالَ رَجُل يَا رَسُول اللَّه وَمَا رَبِيعَة مِنْ مُضِرّ ؟ قَالَ" إِنَّمَا أَقُولُ مَا أُقَوَّلُ " (2)
وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن الْأَخْنَس أَخْبَرَنَا الْوَلِيد بْن عَبْد اللَّه عَنْ يُوسُف بْن مَاهَك عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو قَالَ كُنْت أَكْتُب كُلّ شَيْء أَسْمَعهُ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيد حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي قُرَيْش فَقَالُوا إِنَّك تَكْتُب كُلّ شَيْء تَسْمَعهُ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّم فِي الْغَضَب فَأَمْسَكْت عَنْ الْكِتَاب فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ " اُكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنِّي إِلَّا الْحَقّ" (3) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ مُسَدَّد وَأَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد الْقَطَّان بِهِ . (4)
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بَكْر الْبَزَّار حَدَّثَنَا أَحْمَد اِبْن مَنْصُور حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن صَالِح حَدَّثَنَا اللَّيْث عَنْ اِبْن عَجْلَان عَنْ زَيْد بْن أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " مَا أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْد اللَّه فَهُوَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ " ثُمَّ قَالَ لَا نَعْلَمهُ يُرْوَى إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد (5) .
__________
(1) - الإحكام في أصول الأحكام 1/114.
(2) - مسند أحمد (22872) وأخرجه أبو داود، كتاب العلم، باب في كتابة العلم ( رقم 3646) وإسناده صحيح
(3) - سنن أبى داود(3648) و أحمد(6666 ) صحيح
(4) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 9 / ص 49)(26957)
(5) - مسند البزار(8900) حديث حسن(1/34)
وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا يُونُس حَدَّثَنَا لَيْث عَنْ مُحَمَّد بْن سَعِيد بْن أَبِي سَعِيد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " لَا أَقُول إِلَّا حَقًّا " قَالَ بَعْض أَصْحَابه فَإِنَّك تُدَاعِبُنَا يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ " إِنِّي لَا أَقُول إِلَّا حَقًّا " (1) .
وهذا الحديث يؤكد أن كل ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم في كل أحواله وحي لا فرق بين حال الرضا وحال الغضب.
---------------
- شبهةٌ حول هذا الدليل وردها:
هذا وقد حرف منكرو السنة معنى آية ( النجم ) و جزموا بأن (إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى) وصف للقرآن وحده، ولا تدخل السنَّة في هذا الوحي بحال (2) .
قلت: ويقدح في هذا الجزم سياق الآيات:
(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى).
فقد فرق منكرو السنة بين الضمير المستتر في (يَنْطِقُ) وهو فاعل النطق فجعلوه للنبي أو أبقوه على دلالته الظاهرة - وهذا حق لا نزاع فيه - وبين الضمير الظاهر المنفصل في (إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى) فجعلوا الضمير (هُوَ) عائدا على القرآن وحده.
وهذا تعسف محضٌ ؛ لأن القرآن لم يرد له ذكر هنا حتى يعود عليه الضمير، ولأن لهذا الضمير مرجعاً في الآية قبله، وهو (النطق) المفهوم من الفعل المضارع (يَنْطِقُ) أي: وما نطقه صلى الله عليه وسلم إلا وحي يوحى. سواء في ذلك القرآن والسنَّة. ولأن المقام مقام ثناء وتزكية لرسول الله صلى الله عليه وسلم من طهارة قلب، وصدق لسان.
وقد أكد الحقُّ عز وجل هذا الثناء بالتوكيد القسمي (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى).
ثم نزه الله رسوله بعد ذلك فنفَى عنه الضلال والغواية (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى).
__________
(1) - مسند أحمد ( 8705) صحيح و تفسير ابن كثير - (ج 7 / ص 443)
(2) - انظر: الكتاب والقرآن للدكتور محمد شحرور ص 545.(1/35)
ثم نفى تأثير أهواء النفس في قوله وحديثه (نطقه) (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)، ثم حصر نطقه في كونه وحيا.
فمن أين فهم هؤلاء المرجفون أن الضمير في (إِنْ هُوَ) عائد على القرآن وحده؟.
إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان ينطق بالسنَّة كما ينطق بالقرآن، فكان حريا بهم -لو كانوا منصفين - أن يقولوا إن الضمير في (إِنْ هُوَ) شامل لما نطق به النبي صلى الله عليه وسلم كله، سواء كان نطقه قرآنا، أو سنة مراداً بها التبليغ عن الله عز وجل، ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم ينطق بالقرآن وبالسنة وقد سميت هذه السنة وحيا كما تقدم، وقد فرق كثير من العلماء بين وحي القرآن ووحي السنة.
- فوحي القرآن ما كان باللفظ والمعنى، ولا تجوز بحال روايته بالمعنى فحسب.
ووحي السنة ما كان بالمعنَى، واللفظ من عند النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز روايتها عنه - عليه الصلاة والسلام - بالمعنى عند الضرورة. نطقا لا كتابة.
- أو أن القرآن وحيٌ جليٌّ،والسنَّةُ وحيٌ خفيٌّ وكون السنَّة من عند الله، بأي كيفية أعلم الله بها رسوله،هذا المعنى يؤيده القرآن الحكيم مرة أخرى في قوله تعالى: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) [ سورة النساء: 113 ].
فهل - بعد هذا - يكون لهذه الشبهة رواج أو قبول، عند ذوي العقول.
ولا يقدح في كون السنَّة وحيٌ معنًى لا وحيَ ألفاظٍ، أن بعض الأحاديث تختلف رواياتها بوضع لفظ مكان آخر أو بالزيادة والنقص، أو بالتقديم والتأخير.
لأن هذه "الاختلافات" كانت بسبب اختلاف السماع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كل راو يروي ما سمع كما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرة نطق بهذا، ومرة نطق بذاك حتى وإن ترتب على ذلك اختلاف المعنى.
وما أشبه هذا في السنَّة الصحيحة باختلاف القراءات في القرآن، والقراءات الصحيحة كلها قرآن، ولا تقدح هذه القراءات في مصدرية القرآن، وهو الوحي المتعبد بتلاوته (1) .
__________
(1) - انظر: الشبهات الثلاثون للدكتور عبدالعظيم المطعني ص 77-80.(1/36)
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ الْقَارِىَّ حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِى الصَّلاَةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِى سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ . قَالَ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَقُلْتُ كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ إِنِّى سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَرْسِلْهُ اقْرَأْ يَا هِشَامُ » . فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِى سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ » . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ » . ثُمَّ قَالَ « اقْرَأْ يَا عُمَرُ » . فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِى أَقْرَأَنِى ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ » . (1)
4- عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ الْكِنْدِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِى شَبْعَاناً عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ. أَلاَ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الأَهْلِىِّ وَلاَ كُلُّ ذِى نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ أَلاَ وَلاَ لُقَطَةٌ مِنْ مَالِ مُعَاهِدٍ إِلاَّ أَنْ يَسْتَغْنِىَ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُمْ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُمْ فَلَهُمْ أَنْ يُعْقِبُوهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُمْ ». (2)
ففي هذا الحديث نجد الفعل (أوتيت) جاء مبنيا لما لم يسمَّ فاعله - للمجهول- وهو يدلُّ على أن الله تعالى قد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ومثله معه، فإذا ذهبنا نبحث عن المماثل للقرآن، فإننا نجد المماثلة لا تتحقق في شيء غير السنة النبوية، لأن
__________
(1) - صحيح البخارى(4992 ) =أساور : أواثب وأقاتل = لبب : جمع ثيابه عند صدره ثم جره
(2) - مسند أحمد (17637) {4/131} صحيح = يقرى : يكرم الضيف ويقوم بحق ضيافته(1/37)
الرسول صلى الله عليه وسلم جاءنا بهذين الأصلين معا: القرآن والسنة، فدلَّ ذلك على أن السنَّة وحي من الله عز وجل.
يقول الإمام الخطابي: (أوتيت الكتاب ومثله معه) يحتمل وجهين من التأويل:
أحدهما: أن معناه أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلو مثل ما أعطى من الظاهر المتلو.
الثاني: أنه أوتي الكتاب وحيا يتلى، وأوتي من البيان مثله، أي: أذن له أن يبين ما في الكتاب، ويعم ويخص، وأن يزيد عليه فيشرع ما ليس له في الكتاب ذكر، فيكون ذلك في وجوب الحكم،ولزوم العمل به، كالظاهر المتلو من القرآن (1)
وفي عون المعبود (2) : " الْوَحْي الْبَاطِن غَيْر الْمَتْلُوّ أَوْ تَأْوِيل الْوَحْي الظَّاهِر وَبَيَانه بِتَعْمِيمٍ وَتَخْصِيص وَزِيَادَة وَنَقْص ، أَوْ أَحْكَامًا وَمَوَاعِظ وَأَمْثَالًا تُمَاثِل الْقُرْآن فِي وُجُوب الْعَمَل ، أَوْ فِي الْمِقْدَار قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : هَذَا الْحَدِيث يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ أَحَدهمَا أَنَّهُ أُوتِيَ مِنْ الْوَحْي الْبَاطِن غَيْر الْمَتْلُوّ مِثْل مَا أُوتِيَ مِنْ الظَّاهِر الْمَتْلُوّ ، وَالثَّانِي أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أُوتِيَ الْكِتَاب وَحْيًا يُتْلَى ، وَأُوتِيَ مِثْله مِنْ الْبَيَان أَيْ أُذِنَ لَهُ أَنْ يُبَيِّن مَا فِي الْكِتَاب فَيَعُمّ وَيَخُصّ وَأَنْ يَزِيد عَلَيْهِ فَيُشَرِّع مَا لَيْسَ فِي الْكِتَاب لَهُ ذِكْر فَيَكُون ذَلِكَ فِي وُجُوب الْحُكْم وَلُزُوم الْعَمَل بِهِ كَالظَّاهِرِ الْمَتْلُوّ مِنْ الْقُرْآن
( أَلَا يُوشِك ) : قَالَ الْخَطَّابِيُّ : يُحْذَر بِذَلِكَ مُخَالَفَة السُّنَن الَّتِي سَنَّهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا لَيْسَ لَهُ ذِكْر فِي الْقُرْآن عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْخَوَارِج وَالرَّوَافِض مِنْ الْفِرَق الضَّالَّة فَإِنَّهُمْ تَعَلَّقُوا بِظَاهِرِ الْقُرْآن وَتَرَكُوا السُّنَن الَّتِي ضُمِّنَتْ بَيَان الْكِتَاب فَتَحَيَّرُوا وَضَلُّوا اِنْتَهَى "
وقال الشوكاني: ((أوتيت الكتاب ومثله معه): أي أوتيت القرآن وأوتيت مثله من السنَّة التي لم ينطق بها القرآن) (3) .
__________
(1) - معالم السنن للخطابي مع مختصر للمنذري والتهذيب لابن القيم 7/7-8.
(2) - عون المعبود - (ج 10 / ص 124)
(3) - إرشاد الفحول ص 33.(1/38)
وقال الزركشي : " قَالَ الْحَافِظُ الدَّارِمِيُّ : يَقُولُ : { أُوتِيتُ الْقُرْآنَ ، وَأُوتِيتُ مِثْلَهُ } مِنْ السُّنَنِ الَّتِي لَمْ يَنْطِقْ بِهَا الْقُرْآنُ بِنَصِّهِ ، وَمَا هِيَ إلَّا مُفَسِّرَةٌ لِإِرَادَةِ اللَّهِ بِهِ ، كَتَحْرِيمِ لَحْمِ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ ، وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ ، وَلَيْسَا بِمَنْصُوصَيْنِ فِي الْكِتَابِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ مِنْ طَرِيقِ ثَوْبَانَ فِي الْأَمْرِ بِعَرْضِ الْأَحَادِيثِ عَلَى الْقُرْآنِ ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " : مَا رَوَاهُ أَحَدٌ ثَبَتَ حَدِيثُهُ فِي شَيْءٍ صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ ، وَقَدْ حَكَمَ إمَامُ الْحَدِيثِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ ، وَضَعَتْهُ الزَّنَادِقَةُ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ " : قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ : الزَّنَادِقَةُ وَالْخَوَارِجُ وَضَعُوا حَدِيثَ : { مَا أَتَاكُمْ عَنِيفًا عَرِّضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنْ وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَأَنَا قُلْته ، وَإِنْ خَالَفَ فَلَمْ أَقُلْهُ } .
قَالَ الْحَافِظُ : وَهَذَا لَا يَصِحُّ ، وَقَدْ عَارَضَهُ قَوْمٌ ، وَقَالُوا : نَحْنُ نَعْرِضُهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَوَجَدْنَاهُ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ ؛ لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ فِيهِ : لَا يُقْبَلُ مِنْ الْحَدِيثِ إلَّا مَا وَافَقَ الْكِتَابَ ، بَلْ وَجَدْنَا فِيهِ الْأَمْرَ بِطَاعَتِهِ ، وَتَحْذِيرَ الْمُخَالَفَةِ عَنْ أَمْرِهِ حَكَمَ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
انْتَهَى .
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً } : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ يُقَالُ فِيهَا : آيٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " فِي بَابِ فَرْضِ طَاعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ تَعَالَى : { مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } وَكُلُّ فَرِيضَةٍ فَرَضَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ كَالْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لَوْلَا بَيَانُ الرَّسُولِ مَا كُنَّا نَعْرِفُ كَيْفَ نَأْتِيهَا ، وَلَا كَانَ يُمْكِنُنَا أَدَاءُ شَيْءٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ ، وَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ مِنْ الشَّرِيعَةِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ كَانَتْ طَاعَتُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ طَاعَةً لِلَّهِ . " (1)
5- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَىْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِى قُرَيْشٌ وَقَالُوا أَتَكْتُبُ كُلَّ شَىْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِى الْغَضَبِ وَالرِّضَا فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ فَذَكَرْتُ
__________
(1) - البحر المحيط - (ج 5 / ص 126)(1/39)
ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ « اكْتُبْ فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلاَّ حَقٌّ ». (1) .
وفي هذا الحديث إقرار بكتابة (كل شيء) يتفوه به النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أمر وحث على ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، دون استثناء شيء، وليس هذا فقط بل مع وصف (كل شيء) نطق به النبي صلى الله عليه وسلم بأنه حق، وليس هذا فقط، بل إن هذا الوصف (وهو الحق) مع شموله (كل شيء) نطق به النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء الحديث ليؤكد أنه وصف لا يتخلف حتى في حالة غضبه صلى الله عليه وسلم،وهي أولى الحالات البشرية التي قد يجتهد فيها الإنسان فيخطئ.
بل في الحديث: (أن الاستدلال ببشرية النبي صلى الله عليه وسلم لزعم أن بعض ما يقوله صلى الله عليه وسلم ليس بوحي استدلال باطل، لا من جهة نفي البشرية عنه صلى الله عليه وسلم، بل هو بشر صلى الله عليه وسلم، لكنه معصوم بالوحي عن قول ما سوى الحق، ومعصوم اجتهاده صلى الله عليه وسلم عن الإقرار على الخطأ.
وبذلك يكون هذا الحديث من أقوى الأحاديث دلالة على وجوب اعتقاد عصمة كل ما نطق به النبي صلى الله عليه وسلم، لكونه وحيا من الله تعالى: ابتداءً أو مالاً) (2) .
6- عَنْ حَسَّانَ قَالَ : كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ. (3)
7-وعَنْ أَبِى أُمَامَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ رَجُلٍ لَيْسَ بِنَبِىٍّ مِثْلُ الْحَيَّيْنِ أَوْ مِثْلُ أَحَدِ الْحَيَّيْنِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ ». فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا رَبِيعَةُ مِنْ مُضَرَ فَقَالَ « إِنَّمَا أَقُولُ مَا أُقَوَّلُ ». (4) .
__________
(1) - سنن أبى داود(3648 ) صحيح
(2) - إضاءات بحثية في علوم السنة النبوية، ص 19.
(3) - سنن الدارمى( 599) صحيح مرسل
(4) - مسند أحمد(22872) صحيح(1/40)
8- عَنِ ابْنِ نُضَيْلَةَ ،أوعُبَيْدُ بْنُ نُضَيْلَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي عَامِ سَنَةٍ : سَعِّرْ (1) لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَسْأَلُنِي اللَّهُ عَنْ سُنَّةٍ أَحْدَثْتُهَا فِيكُمْ لَمْ يَأْمُرْنِي بِهَا ، وَلَكِنْ سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ " (2)
ومن هذه الأحاديث الثلاثة الأخيرة يتضح أن السنَّة توحى إليه صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه وتعالى، وأنه لا يقولها من خاطره، وإنما يؤمر بقولها، كما أنه صلى الله عليه وسلم لا يسنُّ ما لم يؤمر به .
والرأي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس ظنا ولا تكلفا،وإنما هو ما يطلعه الله عليه، وهو في هذا يختلف عن الأمة، وهذا معنى قول الله سبحانه: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)[ سورة النساء / 105 ] (3) .
وَعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , أَنَّهُ قَالَ : إِيَّاكُمْ وَالرَّأْيَ , فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَدَّ الرَّأْيَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ : إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً . فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ : أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ , فَقَالَ : إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ , وَلَمْ يَقُلِ : احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا رَأَيْتَ ". (4)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ ، قَالَ : قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ ؛ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " (5)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ الرَّأْيَ إنَّمَا كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصِيبًا ، إنَّ اللَّهَ كَانَ يُرِيهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَّا الظَّنُّ وَالتَّكَلُّفُ . (6)
__________
(1) - أي عام جدب .
(2) - مَعْرِفَةُ الصِّحَابَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ (4268 ) حسن
(3) - انظر: السنة النبوية للدكتور عبدالمهدي ص 25.
(4) - الْإِبَانَةُ الْكُبْرَى لِابْنِ بَطَّةَ (818 ) حسن
(5) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ ( 1195 ) حسن
(6) - سنن أبى داود(3588 ) وفيه انقطاع(1/41)
قال ابن القيم (1) :" قُلْت : مُرَادُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاك اللَّهُ } فَلَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ غَيْرَ مَا أَرَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ ، وَأَمَّا مَا رَأَى غَيْرُهُ فَظَنٌّ وَتَكَلُّفٌ "
=================
__________
(1) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 70)(1/42)
كيف يكون الحديث النبوي منسوبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نقول عنه إنه من الوحي الذي أوحي إليه؟
تساؤل:
قررنا فيما سبق أن السنَّة وحيٌ كالقرآن، غير أنها وحيٌ غير متلو، الأمر الذي يطرح تساؤلا وهو: كيف يكون الحديث النبوي منسوبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نقول عنه إنه من الوحي الذي أوحي إليه؟
والجواب عن هذا التساؤل:
أن الوحي بالنسبة إلى السنة النبوية ينقسم إلى قسمين:
الأول: قسمٌ أوحى الله تعالى بمعناه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظ من عنده، وهذا القسم هو الأعم الأغلب من السنة النبوية المطهرة.
الثاني: هو ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتهاده.
وما صدر عنه صلى الله عليه وسلم باجتهاده: إمَّا أن يقرَّ عليه من ربه عز وجل وهو الغالب، فيكون بهذا الإقرار منزها عن الخطأ، وإمَّا أن يصوَّب اجتهادُه بنزول الوحي عليه بكتاب أو سنَّة ببيان أنه أخطأ وأن الصواب كذا وكذا، وهو بهذا التصويب عُصِم من نقص البلاغ أو تكذيب الواقع لخطابه صلى الله عليه وسلم.
يقول الدكتور عبد المهدي: (والوحي إليه صلى الله عليه وسلم قسمان:
أ - إعلامي: وفيه يعلمه الله سبحانه وتعالى الشيء بكيفية من كيفيات هذا النوع وستأتي.
ب - إقراري: وفيه يجتهد صلى الله عليه وسلم في المسألة، ويراقبه الوحي، فإن أصاب أقرَّه وإلا نبهه) (1) .
كيفيات الوحي الإعلامي:
وللوحي الإعلامي كيفيات متعددة هي:
__________
(1) - السنة النبوية، مكانتها، عوامل بقائها، تدوينها ص 26.(1/43)
الكيفية الأولى:أن يوحي إليه بواسطة الإلهام، فيلقي الله في قلبه المعاني، مع العلم اليقيني أن هذا من عند الله سبحانه وتعالى، وهذه الكيفية هي المرادة من قول الله سبحانه وتعالى: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (51) سورة الشورى ، وبهذا قال أكثر المفسرين.
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ الطُّرُقَ التِي يُوحِي بِهََا أَوَامِرَهُ إِلَى مَنْ يَخْتَارُهُمْ مِنْ عِبَادِهِ :
أ - أَنْ يُحسَّ الرَّسُولُ بِمَعَانٍ تُلْقَى فِي قَلْبِهِ فَلاَ يَتَمَارَى فِي أَنَّهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى ، وَمِثَالُ ذَلِكَ مَا رويَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ " . (1)
ب - أَوْ يَرَى فِي نَوْمِهِ مَنَاماً لاَ يَشُكُّ فِي أَنَّهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، كَرُؤْيَا إِبْرَاهِيمَ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، أَنَّهُ يَذْبَحُ ابْنَهُ .
ج - أَنْ يَسْمَعَ كَلاَماً مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، كَمَا سَمِعَ مُوسَى ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فِي وَادِي الطُّورِ دُونَ أَنْ يُبْصِرَ مَنْ يُكَلِّمُهُ .
د - أَنْ يُرْسِلَ اللهُ تَعَالَى إِلَى رَسُولِهِ مَلَكاً فَيُوحِي ذَلِكَ المَلَكُ مَا يَشَاءُ إِلَى النَّبِيِّ .
واللهُ تَعَالَى قَاهِرٌ فَوْقَ عِبَادِهِ ، حَكِيمٌ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ بِعِلْمٍ وَحِكْمَةٍ . (2)
الكيفية الثانية: أن يكلمه الله سبحانه وتعالى من وراء حجاب، فلا يرى صلى الله عليه وسلم ربه، وإنما يسمع كلامه سبحانه وتعالى، مع اليقين بأنه يكلمه الله تعالى، وهذا مفهوم من قول الله سبحانه: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (51) سورة الشورى فقوله سبحانه (أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ) هي الكيفية المذكورة هنا.
__________
(1) - مُسْنَدُ الشِّهَابِ الْقُضَاعِيِّ(1068 ) صحيح لغيره
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (ج 1 / ص 4202)(1/44)
وتكليم الله نبيه صلى الله عليه وسلم إما في اليقظة، كما في ليلة الإسراء حين فرض سبحانه الصلاة، (1) فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِى وَأَنَا بِمَكَّةَ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِى ، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ، فَأَفْرَغَهُ فِى صَدْرِى ثُمَّ أَطْبَقَهُ ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِى فَعَرَجَ بِى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ افْتَحْ . قَالَ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا جِبْرِيلُ . قَالَ هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ قَالَ نَعَمْ مَعِى مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَالَ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ . فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا ، فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى ، فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ . قُلْتُ لِجِبْرِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا آدَمُ . وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِى عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى ، حَتَّى عَرَجَ بِى إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَقَالَ لِخَازِنِهَا افْتَحْ . فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُ فَفَتَحَ » . قَالَ أَنَسٌ فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِى السَّمَوَاتِ آدَمَ وَإِدْرِيسَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، وَإِبْرَاهِيمَ فِى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ . قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ بِالنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِإِدْرِيسَ قَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ . فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا إِدْرِيسُ . ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ . قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا مُوسَى . ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى فَقَالَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِىِّ الصَّالِحِ . قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا عِيسَى . ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِىِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ . قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا إِبْرَاهِيمُ - صلى الله عليه وسلم - » . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِى ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الأَنْصَارِىَّ كَانَا يَقُولاَنِ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « ثُمَّ عُرِجَ بِى حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلاَمِ »
__________
(1) - صحيح البخارى(349 )
الأسودة : جمع سواد وهو الشخص = الصريف : صوت جريانها بما تكتبه من أقضية الله تعالى ووحيه =ظهرت : علوت(1/45)
. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِى خَمْسِينَ صَلاَةً ، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ قُلْتُ فَرَضَ خَمْسِينَ صَلاَةً . قَالَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ . فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى قُلْتُ وَضَعَ شَطْرَهَا . فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ، فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ ، فَرَاجَعْتُهُ . فَقَالَ هِىَ خَمْسٌ وَهْىَ خَمْسُونَ ، لاَ يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ . فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ . فَقُلْتُ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّى . ثُمَّ انْطَلَقَ بِى حَتَّى انْتَهَى بِى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِى مَا هِىَ ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ ، فَإِذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ » .
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ , قَالَ : يَا رَبِّ , أَرِنَا الَّذِي أَخْرَجَنَا وَنَفْسَهَ مِنَ الْجَنَّةِ , فَأَرَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ , فَقَالَ : أَنْتَ أَبُونَا آدَمُ ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمُ : نَعَمْ , قَالَ : أَنْتَ الَّذِي نَفَخَ اللَّهُ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ , وَعَلَّمَكَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا , وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ ؛ فَسَجَدُوا لَكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : فَمَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنَ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ لَهُ آدَمُ : وَمَنْ أَنْتَ ؟ , قَالَ : أَنَا مُوسَى , قَالَ : أَنْتَ مُوسَى نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي كَلَّمَكَ اللَّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ َبَيْنَك وبَيْنَهُ رَسُولًا مِنْ خَلْقِهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : فَمَا وَجَدْتَ أَنْ ذَلِكَ كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فِيمَ تَلُومُنِي فِي شَيْءٍ سَبَقَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ الْقَضَاءُ قَبْلِي ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عِنْدَ ذَلِكَ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى , فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى " وَأَمَّا الْكَلَامُ بِالرِّسَالَةِ , فَهُوَ إِرْسَالُهُ الرُّوحَ الْأَمِينَ بِالرِّسَالَةِ إِلَى مِنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ , قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (1)
وعَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ بَعَثَ عُمَرُ النَّاسَ فِى أَفْنَاءِ الأَمْصَارِ يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ ، فَأَسْلَمَ الْهُرْمُزَانُ فَقَالَ إِنِّى مُسْتَشِيرُكَ فِى مَغَازِىَّ هَذِهِ . قَالَ نَعَمْ ، مَثَلُهَا وَمَثَلُ مَنْ فِيهَا مِنَ النَّاسِ
__________
(1) - الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ لِلْبَيْهَقِيِّ (411 ) صحيح(1/46)
مِنْ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ مَثَلُ طَائِرٍ لَهُ رَأْسٌ وَلَهُ جَنَاحَانِ وَلَهُ رِجْلاَنِ ، فَإِنْ كُسِرَ أَحَدُ الْجَنَاحَيْنِ نَهَضَتِ الرِّجْلاَنِ بِجَنَاحٍ وَالرَّأْسُ ، فَإِنْ كُسِرَ الْجَنَاحُ الآخَرُ نَهَضَتِ الرِّجْلاَنِ وَالرَّأْسُ ، وَإِنْ شُدِخَ الرَّأْسُ ذَهَبَتِ الرِّجْلاَنِ وَالْجَنَاحَانِ وَالرَّأْسُ ، فَالرَّأْسُ كِسْرَى ، وَالْجَنَاحُ قَيْصَرُ ، وَالْجَنَاحُ الآخَرُ فَارِسُ ، فَمُرِ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَنْفِرُوا إِلَى كِسْرَى . وَقَالَ بَكْرٌ وَزِيَادٌ جَمِيعًا عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ فَنَدَبَنَا عُمَرُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْنَا النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَرْضِ الْعَدُوِّ ، وَخَرَجَ عَلَيْنَا عَامِلُ كِسْرَى فِى أَرْبَعِينَ أَلْفًا ، فَقَامَ تُرْجُمَانٌ فَقَالَ لِيُكَلِّمْنِى رَجُلٌ مِنْكُمْ . فَقَالَ الْمُغِيرَةُ سَلْ عَمَّا شِئْتَ . قَالَ مَا أَنْتُمْ قَالَ نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ كُنَّا فِى شَقَاءٍ شَدِيدٍ وَبَلاَءٍ شَدِيدٍ ، نَمَصُّ الْجِلْدَ وَالنَّوَى مِنَ الْجُوعِ ، وَنَلْبَسُ الْوَبَرَ وَالشَّعَرَ ، وَنَعْبُدُ الشَّجَرَ وَالْحَجَرَ ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ ، إِذْ بَعَثَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرَضِينَ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَجَلَّتْ عَظَمَتُهُ إِلَيْنَا نَبِيًّا مِنْ أَنْفُسِنَا ، نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ ، فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ ، وَأَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا - صلى الله عليه وسلم - عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ فِى نَعِيمٍ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا قَطُّ ، وَمَنْ بَقِىَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُمْ . (1)
وإما في النوم كما في حديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَتَانِى اللَّيْلَةَ رَبِّى تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِى أَحْسَنِ صُورَةٍ قَالَ أَحْسَبُهُ قَالَ فِى الْمَنَامِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَدْرِى فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى قَالَ قُلْتُ لاَ. قَالَ فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَىَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَىَّ أَوْ قَالَ فِى نَحْرِى فَعَلِمْتُ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ قَالَ يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَدْرِى فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ فِى الْكَفَّارَاتِ. وَالْكَفَّارَاتُ الْمُكْثُ فِى الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ وَالْمَشْىُ عَلَى الأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِى الْمَكَارِهِ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ وَكَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِذَا صَلَّيْتَ فَقُلِ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ
__________
(1) - صحيح البخارى( 3159 )(1/47)
الْمَسَاكِينِ وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِى إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ قَالَ وَالدَّرَجَاتُ إِفْشَاءُ السَّلاَمِ وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ وَالصَّلاَةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ ». (1)
الكيفية الثالثة: الرؤيا الصادقة، حيث يرى صلى الله عليه وسلم الشيء في الرؤيا فيكون كما رأى، لأن رؤيا الأنبياء وحي، وكانت أول مراتب الوحي في حق نبينا الرؤيا الصالحة في النوم، فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِى النَّوْمِ ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِىَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا ، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِى غَارِ حِرَاءٍ ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ . قَالَ « مَا أَنَا بِقَارِئٍ » . قَالَ « فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ اقْرَأْ . قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ . فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ اقْرَأْ . فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ . فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّالِثَةَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) » . فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضى الله عنها فَقَالَ « زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى » . فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ « لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِى » . فَقَالَتْ خَدِيجَةُ كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ . فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ - وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِىَّ ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِىَ - فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ . فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِى مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَ مَا رَأَى . فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعًا ، لَيْتَنِى أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
__________
(1) - سنن الترمذى (3541) صحيح(1/48)
صلى الله عليه وسلم - « أَوَمُخْرِجِىَّ هُمْ » . قَالَ نَعَمْ ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِىَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا . ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّىَ وَفَتَرَ الْوَحْىُ . (1) .
وواضح من قولها رضي الله عنها - (أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِى النَّوْمِ ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ) أن الرؤيا الصالحة كيفية من كيفيات الوحي، وقد جاء ذلك مصرحا به في أحاديث منها:
عَنْ عَمْرٍو عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بِتُّ عِنْدَ خَالَتِى مَيْمُونَةَ لَيْلَةً ، فَقَامَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ اللَّيْلِ ، فَلَمَّا كَانَ فِى بَعْضِ اللَّيْلِ قَامَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءًا خَفِيفًا - يُخَفِّفُهُ عَمْرٌو وَيُقَلِّلُهُ - وَقَامَ يُصَلِّى فَتَوَضَّأْتُ نَحْوًا مِمَّا تَوَضَّأَ ، ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ - وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ عَنْ شِمَالِهِ - فَحَوَّلَنِى فَجَعَلَنِى عَنْ يَمِينِهِ ، ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ اضْطَجَعَ ، فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ ، ثُمَّ أَتَاهُ الْمُنَادِى فَآذَنَهُ بِالصَّلاَةِ ، فَقَامَ مَعَهُ إِلَى الصَّلاَةِ ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ . قُلْنَا لِعَمْرٍو إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَنَامُ عَيْنُهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ . قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْىٌ ، ثُمَّ قَرَأَ {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (102) سورة الصافات . (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا , قَالَ:رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ. (3)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، أَنَّ سَعِيدًا ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : بَيْنَا ، أنا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ عَلَيْهَا دَلْوٌ فَنَزَعْتُهُ فَنَزَعْتُ
__________
(1) - صحيح البخارى (3 )
المؤزر : القوى = جذعا : شابا فتيا =يتحنث : يتعبد =الروع : الفزع =زمل : لف وغطى =زمل : لف وغطى =المعدوم : الشىء المعدوم الذى لا يجدونه أو الفقير الذى صار كالمعدوم =فتر : انقطع =تقرى : تكرم الضيف وتقوم بحق ضيافته =تكسب : تعطى المال للفقير =الكل : أصله الثقل ويدخل فى حمل الكل الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال =الناموس : الوحى
(2) - صحيح البخارى(138 )
(3) - المعجم الكبير للطبراني(12136 ) صحيح(1/49)
مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ فَنَزَعَ مِنْهَا ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ثُمَّ اسْتحَالَتْ غَرْبًا فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ فَلَمْ أَرَ عَبْقرِيًا مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ . وَكذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : رُؤْيَا الْأَنبيَاءِ وَحْيٌ ، وَقَوْلُهُ " وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ " قِصَرُ مُدَّتِهِ وَعَجَلَةُ مَوْتِهِ وَشُغْلُهُ بِالْحرْبِ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ عَنِ الِافْتِتَاحِ وَالتَّزَيُّدِ الَّذِي بَلَغَهُ عُمَرُ فِي طُولِ مُدَّتِهِ أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ , ثنا أَبُو الْعَبَّاسِ , أنا الرَّبِيعُ ، قَالَ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ ، فَذَكَرَهُ " (1)
الكيفية الرابعة: أن يوحي إليه بواسطة الملك، وقد تمثل له الملك رجلا، فيكلمه بما أمر به من الوحي، فيعي عنه ما يقول، فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رضى الله عنها - أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ - رضى الله عنه - سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْىُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَحْيَانًا يَأْتِينِى مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ - وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَىَّ - فَيُفْصَمُ عَنِّى وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِىَ الْمَلَكُ رَجُلاً فَيُكَلِّمُنِى فَأَعِى مَا يَقُولُ » . قَالَتْ عَائِشَةُ رضى الله عنها وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْىُ فِى الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا . (2)
وقد كان جبريل عليه السلام يأتي رسول الله صلي الله عليه وسلم على صورة دحية الكلبي، فيبلغه عن الله ما أمره سبحانه وتعالى به، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَاضِعاً يَدَيْهِ عَلَى مَعْرَفَةِ فَرَسٍ وَهُوَ يُكَلِّمُ رَجُلاً قُلْتُ رَأَيْتُكَ وَاضِعاً يَدَيْكَ عَلَى مَعْرَفَةِ فَرَسِ دِحْيَةَ الْكَلْبِىِّ وَأَنْتَ تُكَلِّمُهُ قَالَ « وَرَأَيْتِيهِ ». قَالَتْ نَعَمْ. قَالَ « ذَاكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَهُوَ يُقْرِئُكِ السَّلاَمَ ». قَالَتْ وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ جَزَاهُ اللَّهُ خَيْراً مِنْ صَاحِبٍ وَدَخِيلٍ فَنِعْمَ الصَّاحِبُ وَنِعْمَ الدَّخِيلُ. قَالَ سُفْيَانُ الدَّخِيلُ الضَّيْفُ . (3)
__________
(1) - الِاعْتِقَادُ لِلْبَيْهَقِيِّ (318) صحيح
(2) - صحيح البخارى(2 ) - الصلصلة : صوت الجرس = يتفصد : يسيل = يفصم : يقلع عنى
(3) - مسند أحمد (25873) حسن وانظر حديثها الطويل في غزوة الخندق في مسند أحمد ( 25839)
المعرفة : منبت عرف الفرس وقيل هو اللحم الذى ينبت عليه العرف(1/50)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- بِمِثْلِهِ قَالَ وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَأْتِي النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فِى صُورَةِ دِحْيَةَ. (1)
فعن ابن عمر قال: (وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلي الله عليه وسلم في صورة دحية)(8).
ودحية هذا صحابي جليل، شهد المشاهد مع رسول الله صلي الله عليه وسلم خلا بدر، وكان جميل الهيئة، وهذه الكيفية نادرة،
ومنها حديث جبريل الطويل فعَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِى الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِىُّ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِىُّ حَاجَّيْنِ أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ فَقُلْنَا لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلاَءِ فِى الْقَدَرِ فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلاً الْمَسْجِدَ فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِى أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِى سَيَكِلُ الْكَلاَمَ إِلَىَّ فَقُلْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ - وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ - وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لاَ قَدَرَ وَأَنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ. قَالَ فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّى بَرِىءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّى وَالَّذِى يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ قَالَ حَدَّثَنِى أَبِى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِى عَنِ الإِسْلاَمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِىَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً. قَالَ صَدَقْتَ. قَالَ فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنِ الإِيمَانِ. قَالَ « أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ». قَالَ صَدَقْتَ. قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنِ الإِحْسَانِ. قَالَ « أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ
__________
(1) - مسند أحمد ( 5992) صحيح(1/51)
تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ». قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنِ السَّاعَةِ. قَالَ « مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ». قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنْ أَمَارَتِهَا. قَالَ « أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِى الْبُنْيَانِ ». قَالَ ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ لِى « يَا عُمَرُ أَتَدْرِى مَنِ السَّائِلُ ». قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ ».. (1)
الكيفية الخامسة: أن يوحي إليه بواسطة الملك ولا يرى الملك، وإنما يعلم بمجئ وحي بظهور علامات تدلُّ على ذلك، من دوي كدوي النحل، أو صلصلة كصلصلة الجرس، فيكلمه الملك بالوحي، وهذه الكيفية يدل لها حديث الحارث بن هشام السابق، وفيه: (أَحْيَانًا يَأْتِينِى مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ - وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَىَّ) فهي أثقل الكيفيات حتى قَالَتْ عَائِشَةُ رضى الله عنها : وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْىُ فِى الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا .. (2)
ويدل لها أيضا حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن ِ عَبْدٍ الْقَارِىِّ سَمِعْتُ عُمَرَ بْن َ الْخَطَّابِ يَقُولُ كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْوَحْىُ يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ دَوِىٌّ كَدَوِىِّ النَّحْلِ فَمَكَثْنَا سَاعَةً فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ « اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلاَ تَنْقُصْنَا وَأَكْرِمْنَا وَلاَ تُهِنَّا وَأَعْطِنَا وَلاَ تَحْرِمْنَا وَآثِرْنَا وَلاَ تُؤْثِرْ عَلَيْنَا وَارْضَ عَنَّا وَأَرْضِنَا ». ثُمَّ قَالَ « لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَىَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ ». ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) حَتَّى خَتَمَ الْعَشْرَ. (3)
وعن صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ يَعْنِى عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الْخَلُوقِ أَوْ قَالَ صُفْرَةٍ فَقَالَ كَيْفَ تَأْمُرُنِى أَنْ أَصْنَعَ فِى عُمْرَتِى فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَسُتِرَ بِثَوْبٍ وَوَدِدْتُ أَنِّى قَدْ رَأَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ . فَقَالَ عُمَرُ تَعَالَ أَيَسُرُّكَ أَنْ
__________
(1) - صحيح مسلم(102 )
الأُنف : المستأنف الذى لم يسبق به قدر =يتقفر : يطلب ويتتبع ويجمع
(2) - صحيح البخارى( 2 ) يتفصد : يسيل =يفصم : يقلع عنى
(3) - مسند أحمد (228) صحيح(1/52)
تَنْظُرَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْوَحْىَ قُلْتُ نَعَمْ . فَرَفَعَ طَرَفَ الثَّوْبِ ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ لَهُ غَطِيطٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ كَغَطِيطِ الْبَكْرِ . فَلَمَّا سُرِّىَ عَنْهُ قَالَ « أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْعُمْرَةِ اخْلَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ أَثَرَ الْخَلُوقِ عَنْكَ ، وَأَنْقِ الصُّفْرَةَ ، وَاصْنَعْ فِى عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِى حَجِّكِ » (1) .
الكيفية السادسة: أن يوحي إليه بواسطة الملك، دون أن يرى الملك، ودون أن يكلمه، وإنما يلقي الملك في قلبه صلى الله عليه وسلم ما أمر به من الوحي.
فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ رَوْحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِيَ أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ وَلَا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ " (2)
الكيفية السابعة: أن يوحى إليه بواسطة الملك، وقد ظهر الملك على صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح، كل جناح قد سد الأفق.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جِبْرِيلَ فِى صُورَتِهِ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا قَدْ سَدَّ الأُفُقَ يَسْقُطُ مِنْ جَنَاحِهِ مِنَ التَّهَاوِيلِ وَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ. (3)
وعن عَاصِمَ بْنِ بَهْدَلَةَ قَالَ سَمِعْتُ شَقِيقَ بْنَ سَلَمَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « رَأَيْتُ جِبْرِيلَ عَلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ ». قَالَ سَأَلْتُ عَاصِماً عَنِ الأَجْنِحَةِ فَأَبَى أَنْ يُخْبِرَنِى قَالَ فَأَخْبَرَنِى بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْجَنَاحَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. (4)
__________
(1) - صحيح البخارى(1789 )
البكر : الفتى من الإبل = الخلوق : طيب مركب من الزعفران وغيره من أنواع الطيب تغلب عليه الحمرة والصفرة = الغطيط : الصوت الذى يخرج من نفس النائم
(2) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ( 14849) صحيح لغيره
(3) - مسند أحمد(3821) صحيح
(4) - مسند أحمد(3939) حسن(1/53)
وعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ يَا أَبَا عَائِشَةَ ثَلاَثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ. قُلْتُ مَا هُنَّ قَالَتْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ. قَالَ وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِى وَلاَ تَعْجَلِينِى أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ) ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ). فَقَالَتْ أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِى خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ». فَقَالَتْ أَوَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ (لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أَوَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ) قَالَتْ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ وَاللَّهُ يَقُولُ (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ). قَالَتْ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِى غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ وَاللَّهُ يَقُولُ (قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ ). (1)
ومنها الصور التالية :
فعَنْ أَبِى ذَرٍّ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَتَانِى آتٍ مِنْ رَبِّى فَأَخْبَرَنِى - أَوْ قَالَ بَشَّرَنِى - أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِى لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ » . قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ « وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ » (2) .
وعن عِكْرِمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - يَقُولُ إِنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ - رضى الله عنه - يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - بِوَادِى الْعَقِيقِ يَقُولُ « أَتَانِى اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّى فَقَالَ صَلِّ فِى هَذَا الْوَادِى الْمُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةً فِى حَجَّةٍ » (3) .
__________
(1) - صحيح مسلم( 457 ) -أنظرى : أخرى وأمهلى
(2) - صحيح البخارى( 1237)
(3) - صحيح البخارى ( 1534)(1/54)
وعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ ، قَالَ : عَرَّسَ بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ , فَافْتَرَشَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا ذِرَاعَ رَاحِلَتِهِ فَانْتَبَهْت بَعْضَ اللَّيْلِ فَإِذَا نَاقَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ قُدَّامَهَا أَحَد , فَانْطَلَقْت أَطْلُبُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ قَيْسٍ قَائِمَانِ ، قَالَ : قُلْتُ أَيْنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؟ قَالاَ : لاَ نَدْرِي ، غَيْرَ أَنَّا سَمِعْنَا صَوْتًا فِي أَعْلَى الْوَادِي ، فَإذا مِثْلُ هَزِيرِ الرَّحَى ، فَلَمْ نَلْبَثْ إلاَّ يَسِيرًا حَتَّى أَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَخَيَّرَنِي أَنْ يُدْخِلَ نِصْفَ أُمَّتِي الْجَنَّةَ وَبَيْنَ الشَّفَاعَةِ , وَإِنِّي اخْتَرْت الشَّفَاعَةَ ، قَالَ : فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ , نَنْشُدُك اللَّهَ وَالصُّحْبَةَ لَمَا جَعَلْتَنَا مِنْ أَهْلِ شَفَاعَتِكَ ، قَالَ : فَأَنْتُمْ مِنْ أَهْلِ شَفَاعَتِي ، قَالَ : فَأَقْبَلْنَا مَعَانِيقَ إلَى النَّاسِ ، قَالَ : فَإِذَا هُمْ قَدْ فَزِعُوا وَفَقَدُوا نَبِيَّهُمْ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَخَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ يُدْخِلَ نِصْفَ أُمَّتِي الْجَنَّةَ وَبَيْنَ الشَّفَاعَةِ , وَإِنِّي اخْتَرْت الشَّفَاعَةَ , فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ , نَنْشُدُك اللَّهَ وَالصُّحْبَةَ , لَمَا جَعَلْتَنَا مِنْ أَهْلِ شَفَاعَتِكَ ، فَلَمَّا أَضَبُّوا عَلَيْهِ ، قَالَ : فَإِنِّي أُشْهِدُ مَنْ حَضَرَ أَنَّ شَفَاعَتِي لِمَنْ مَاتَ مِنْأُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا. (1)
وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ أَنَّهَا قَالَتْ أَتَيْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ ، وَإِذَا هِىَ قَائِمَةٌ تُصَلِّى فَقُلْتُ مَا لِلنَّاسِ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ . فَقُلْتُ آيَةٌ فَأَشَارَتْ أَىْ نَعَمْ . فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَّنِى الْغَشْىُ ، وَجَعَلْتُ أَصُبُّ فَوْقَ رَأْسِى مَاءً ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ « مَا مِنْ شَىْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ إِلاَّ قَدْ رَأَيْتُهُ فِى مَقَامِى هَذَا حَتَّى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِى الْقُبُورِ مِثْلَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ - لاَ أَدْرِى أَىَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - يُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ - أَوِ الْمُوقِنُ لاَ أَدْرِى أَىَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا ، فَيُقَالُ نَمْ صَالِحًا ، فَقَدْ عَلِمْنَا
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة(ج 11 / ص 486)(32410) صحيح(1/55)
إِنْ كُنْتَ لَمُؤْمِنًا ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ - أَوِ الْمُرْتَابُ لاَ أَدْرِى أَىَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ لاَ أَدْرِى ، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ » . (1)
وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ ، لِكَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِيَّاهَا وَثَنَائِهِ عَلَيْهَا ، وَقَدْ أُوحِىَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ لَهَا فِى الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ . (2)
وعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِى خُطْبَتِهِ « أَلاَ إِنَّ رَبِّى أَمَرَنِى أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِى يَوْمِى هَذَا كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلاَلٌ وَإِنِّى خَلَقْتُ عِبَادِى حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِى مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلاَّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَالَ إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِىَ بِكَ وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لاَ يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِى أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا فَقُلْتُ رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِى فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً قَالَ اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ. قَالَ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاَثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِى قُرْبَى وَمُسْلِمٍ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ - قَالَ - وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ الضَّعِيفُ الَّذِى لاَ زَبْرَ لَهُ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا لاَ يَتْبَعُونَ أَهْلاً وَلاَ مَالاً وَالْخَائِنُ الَّذِى لاَ يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلاَّ خَانَهُ وَرَجُلٌ لاَ يُصْبِحُ وَلاَ يُمْسِى إِلاَّ وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ ». (3)
وفي رواية عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَخِى بَنِى مُجَاشِعٍ قَالَ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ خَطِيبًا فَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِى ». وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ
__________
(1) - صحيح البخارى(184 ) = تجلى : أصابنى شىء من الإغماء =الغشى : الإغماء
(2) - صحيح البخارى (5229 )
(3) - صحيح مسلم( 7386 )
يثلغ : يكسر = اجتال : أضل =الزبر : العقل =الشنظير : سيئ الخلق =نغزك : نعينك(1/56)
هِشَامٍ عَنْ قَتَادَةَ وَزَادَ فِيهِ « وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَىَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلاَ يَبْغِى أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ». وَقَالَ فِى حَدِيثِهِ « وَهُمْ فِيكُمْ تَبَعًا لاَ يَبْغُونَ أَهْلاً وَلاَ مَالاً ». فَقُلْتُ فَيَكُونُ ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ وَاللَّهِ لَقَدْ أَدْرَكْتُهُمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَرْعَى عَلَى الْحَىِّ مَا بِهِ إِلاَّ وَلِيدَتُهُمْ يَطَؤُهَا. (1)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِى عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ « لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِى عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ، فَلَمْ يُجِبْنِى إِلَى مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِى ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِى ، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِى ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِى فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ ، فَنَادَانِى مَلَكُ الْجِبَالِ ، فَسَلَّمَ عَلَىَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا » (2) .
قلت : وقد ذكر البيهقي ذلك في الأسماء والصفات ، وهذا قوله ، فعَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ بَعَثَ عُمَرُ النَّاسَ فِى أَفْنَاءِ الأَمْصَارِ يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ ، فَأَسْلَمَ الْهُرْمُزَانُ فَقَالَ إِنِّى مُسْتَشِيرُكَ فِى مَغَازِىَّ هَذِهِ . قَالَ نَعَمْ ، مَثَلُهَا وَمَثَلُ مَنْ فِيهَا مِنَ النَّاسِ مِنْ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ مَثَلُ طَائِرٍ لَهُ رَأْسٌ وَلَهُ جَنَاحَانِ وَلَهُ رِجْلاَنِ ، فَإِنْ كُسِرَ أَحَدُ الْجَنَاحَيْنِ نَهَضَتِ الرِّجْلاَنِ بِجَنَاحٍ وَالرَّأْسُ ، فَإِنْ كُسِرَ الْجَنَاحُ الآخَرُ نَهَضَتِ الرِّجْلاَنِ وَالرَّأْسُ ، وَإِنْ شُدِخَ الرَّأْسُ ذَهَبَتِ الرِّجْلاَنِ وَالْجَنَاحَانِ وَالرَّأْسُ ، فَالرَّأْسُ كِسْرَى ، وَالْجَنَاحُ قَيْصَرُ ، وَالْجَنَاحُ الآخَرُ فَارِسُ ، فَمُرِ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَنْفِرُوا إِلَى كِسْرَى . وَقَالَ بَكْرٌ وَزِيَادٌ جَمِيعًا عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ فَنَدَبَنَا عُمَرُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْنَا النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَرْضِ الْعَدُوِّ ، وَخَرَجَ
__________
(1) - صحيح مسلم( 7389 )
(2) - صحيح البخارى (3231)(1/57)
عَلَيْنَا عَامِلُ كِسْرَى فِى أَرْبَعِينَ أَلْفًا ، فَقَامَ تُرْجُمَانٌ فَقَالَ لِيُكَلِّمْنِى رَجُلٌ مِنْكُمْ . فَقَالَ الْمُغِيرَةُ سَلْ عَمَّا شِئْتَ . قَالَ مَا أَنْتُمْ قَالَ نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ كُنَّا فِى شَقَاءٍ شَدِيدٍ وَبَلاَءٍ شَدِيدٍ ، نَمَصُّ الْجِلْدَ وَالنَّوَى مِنَ الْجُوعِ ، وَنَلْبَسُ الْوَبَرَ وَالشَّعَرَ ، وَنَعْبُدُ الشَّجَرَ وَالْحَجَرَ ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ ، إِذْ بَعَثَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرَضِينَ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَجَلَّتْ عَظَمَتُهُ إِلَيْنَا نَبِيًّا مِنْ أَنْفُسِنَا ، نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ ، فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ ، وَأَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا - صلى الله عليه وسلم - عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ فِى نَعِيمٍ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا قَطُّ ، وَمَنْ بَقِىَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُمْ . رواه البخاري (1)
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَمَّا فُتِنَ أَصْحَابُهُ بِمَكَّةَ أَشَارَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَلْحَقُوا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فَخَرَجْنَا أَرْسَالًا ، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَصَبْنَا خَيْرَ دَارٍ ، وَأَصَبْنَا قَرَارًا ، وَجَاوَرْنَا رَجُلًا حَسَنَ الْجِوَارِ ، وَائْتَمَرَتْ قُرَيْشٌ أَنْ يَبْعَثُوا إِلَيْهِ فِينَا رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَأَنْ يُهْدُوا إِلَيْهِ مِنْ طَرَائِفِ بِلَادِهِمْ مِنَ الْأُدُمِ وَغَيْرِهِ ، وَكَانَ الْأُدُمُ يَعْجَبُ النَّجَاشِيَّ أَنْ يُهْدَى إِلَيْهِ ، وَأَنْ يُهْدُوا لِبَطَارِقَتِهِ فَفَعَلُوا أَوْ بَعَثُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ ، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ حَتَّى قَدِمُوا عَلَيْنَا ، فَلَمَّا قَدِمَا قَدَّمَا لِلْبَطَارِقَةِ الْهَدَايَا وَوَصَفَا حَاجَتَهُمْ عِنْدَهُمْ ، ثُمَّ دَخَلَا عَلَى النَّجَاشِيِّ ، فَقَالَا : أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّ شُبَانًا فِينَا خَرَجُوا ، وَقَدِ ابْتَدَعُوا دِينًا سِوَى دِينِكَ وَدِينِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِنَا وَدِينٍ لَا نَعْرِفُهُ مِنَ الْأَدْيَانِ فَارَقُوا بِهِ أَشْرَافَهُمْ وَخِيَارَهُمْ وَأَهْلَ الرَّأْيِ مِنْهُمْ فَانْقَطَعُوا بِأَمْرِهِمْ مِنْهُمْ ، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَيْكَ لِتَمْنَعَهُمْ مِنْ عَشَائِرِهِمْ وَآبَائِهِمْ ، وَكَانُوا هُمْ بِهِمْ أَعْلى عَيْنًا فَارْدُدْهُمْ إِلَيْنَا لِنَرُدَّهُمْ عَلَى آبَائِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ ، فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ : صَدَقُوا أَيُّهَا الْمَلِكُ فَارْدُدْهُمْ فَهُمْ أَعْلَمُ بِقَوْمِهِمْ فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ ، ثُمَّ قَالَ : وَاللَّهِ مَا أَفْعَلُ ، قَوْمٌ نَزَلُوا بِلَادِي ، وَلَجَئُوا إِلَيَّ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا فَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ ، فَقَالُوا : مَا تَكَلَّمُونَ بِهِ الرَّجُلَ ، فَقَالُوا : نُكَلِّمُهُ بِالَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ ، فَأَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ فَجَمَعَ بَطَارِقَتَهُ وَأَسَاقِفَتَهُ ، وَأَمَرَهُمْ فَنَشَرُوا الْمَصَاحِفَ حَوْلَهُ فَتَكَلَّمَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي
__________
(1) - صحيح البخارى(3159 ) و الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ لِلْبَيْهَقِيِّ (412) فما بعدها(1/58)
طَالِبٍ ، وَقَالَ لَهُمُ النَّجَاشِيُّ : إِنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ فَارَقْتُمْ دِينَهُمْ ، وَلَمْ تَتَّبِعُوا دِينِي وَلَا دِينَ الْيَهُودِ فَأَخْبِرَانِي بِدِينِكُمُ الَّذِي فَارَقْتُمْ بِهِ قَوْمَكُمْ ، فَقَالَ جَعْفَرٌ : كُنَّا عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْرِهِمْ فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَعَفَافَهُ ، وَأَمَرَنَا بِالْمَعْرُوفِ ، وَنَهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَأَمَرَنَا بِإِقَامِ الصَّلَاةِ ، وَالصِّيَامِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَكُلِّ مَا تَعْرِفُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ ، وَتَلَا عَلَيْنَا تَنْزِيلًا لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ غَيْرُهُ فَصَدَّقْنَاهُ ، وَآمَنَّا بِهِ ، وَعَرَفْنَا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَفَارَقْنَا عِنْدَ ذَلِكَ قَوْمَنَا فَآذُونَا وَقَسُونَا ، فَلَمَّا بَلَغَ مِنَّا مَا نَكْرَهُ وَلَمْ نَقْدِرْ عَلَى الِامْتِنَاعِ أَمَرَنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَخْرُجَ إِلَى بِلَادِكَ اخْتِيَارًا لَكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ لِتَمْنَعَهُمْ مِنَ الظُّلْمِ ، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ : فَهَلْ مَعَكُمْ مِمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ تَقْرَءُونَهُ عَلَيَّ فَقَالَ جَعْفَرٌ : نَعَمْ ، فَقَرَأَ جَعْفَرٌ كهيعص ، فَلَمَّا قَرَأَهَا عَلَيْهِ بَكَى النَّجَاشِيُّ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ ، قَالَ : وَأُرَاهُ قَالَ : وَلِحَاهُمْ ، ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ : وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَالْكَلَامَ الَّذِي جَاءَ مُوسَى لَيَخْرُجَانِ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ ، ثُمَّ قَالَ : وَاللَّهِ لَا أُسْلِمُهُمُ إِلَيْكُمَا وَلَا أُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمَا فَالْحَقَا بِشَأَنْكُمَا قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : فَخَرَجَا مَقْبُوحَيْنِ مَرْدُودٌ أَمْرُهُمَا ، فَقَالَ : عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ : وَاللَّهِ لَآتِيَنَّهُ غَدًا بِقَوْلٍ أَبْتَرُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ لِلْقَوْمِ رَحِمًا ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا فَمَا نُحِبُّ أَنْ يَبْلُغَ مِنْهُمْ ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ دَخَلَا عَلَيْهِ ، فَقَالَا : أَيُّهَا الْمَلِكُ ، إِنَّهُمْ يُخَالِفُونَكَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ عَبْدٌ , فَسَلْهُمْ عَنْ ذَلِكَ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ ، فَمَا نَزَلَ بِنَا قَطُّ مِثْلُهَا ، قَالُوا : قَدْ عَرَفْتُمْ أَنَّ عِيسَى إِلَهُهُ الَّذِي يُعْبَدُ ، وَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنَّ نَبِيَّكُمْ جَاءَكُمْ بِأَنَّهُ عَبْدٌ ، وَأَنَّ مَا يَقُولُونَ هُوَ الْبَاطِلُ ، فَمَاذَا تَقُولُونَ ؟ فَقَالُوا : نَقُولُ بِمَا جَاءَ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ ، فَقَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ؟ فَقَالَ جَعْفَرٌ : نَقُولُ إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ فَأَخَذَ النَّجَاشِيُّ عُودًا ، وَقَالَ : مَا عَدَا عِيسَى مَا تَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا الْعُودِ قَالَ فَنَخِرَتْ أَسَاقِفَتُهُ ، فَقَالَ : وَإِنْ نَخِرْتُمُ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ شُيُومٌ بِأَرْضِي يَقُولُونَ : أَنْتُمْ آمِنُونَ مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ مَا أُحِبُّ أَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ وَأَنَّ لِي دَبْرًا مِنْ ذَهَبٍ ، وَالدَّبْرُ بِلِسَانِهِمُ الْجَبَلُ ، وَاللَّهِ مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّي رِشْوَةً حِينَ رَدَّ عَلَيَّ(1/59)
مُلْكِي ، وَمَا أَطَاعَ اللَّهُ فِيَّ النَّاسَ فَأُطِيعَهُمْ فِيهِ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : فَجَعَلْنَا نَتَعَرَّضُ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَصَاحِبِهِ أَنْ يَسُبَّانَا فَيُغَرِّمَهُمَا ، فَخَرَجَا خَائِبَيْنِ ، وَأَقَمْنَا فِي خَيْرِ دَارٍ وَفِي خَيْرِ جِوَارٍ ، فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ قَدْ آمَنَّا ، وَاطْمَئْنَنَّا إِذْ شَعَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَنَازَعَهُ فِي الْمُلْكِ ، فَمَا عَلِمْنَا أَصَابَنَا خَوْفٌ أَشَدَّ مِمَّا أَصَابَنَا عِنْدَ ذَلِكَ فَرَقًا مِنْ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَيَتَبَوَّأَ مِنَّا مَنْزِلَنَا وَيَأْتِينَا رَجُلٌ لَا يَعْرِفُ مِنَّا مِثْلَ مَا كَانَ يَعْرِفُ النَّجَاشِيُّ ، وَكُنَّا نَدْعُو لَيْلًا وَنَهَارًا أَنْ يُعِزَّهُ اللَّهُ وَيُظْهِرَهُ فَخَرَجَ النَّجَاشِيُّ سَائِرًا إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ ، فَقُلْنَا : مَنْ يَنْظُرُ لَنَا مَا يَفْعَلُ الْقَوْمُ ؟ فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ : أَنَا ، وَكَانَ أَحْدَثَهُمْ سِنًا فَأَخَذَ قِرْبَةً ، فَفَتَحَهَا ، ثُمَّ رَبَطَهَا فِي صَدْرِهِ ، ثُمَّ وَقَعَ فِي النِّيلِ وَهُوَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ، ثُمَّ الْتَقَى الْقَوْمُ نَاحِيَةَ الْقُصْوَى فَهُزِمَ جُنْدُ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَأَقْبَلَ الزُّبَيْرُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ شَطِّ النِّيلِ أَلَاحَ بِثَوْبِهِ وَصَرَخَ أَبْشِرُوا فَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ النَّجَاشِيَّ وَأَظْهَرَهُ ، وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ تَقُولُ : فَمَا أَذْكُرُنِي فَرِحْتُ فَرَحًا قَطُّ مِثْلَهُ حِينَ بَدَا أَنْ يَقُومَ قَوْمٌ يَأْتُوا مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ كُرْهٍ " (1)
قال البيهقي : قُلْتُ : وَقَدْ كَانَ لِنَبِّينَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ ,
أَمَّا الرِّسَالَةُ فَقَدْ كَانَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَأْتِيهِ بِهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَأَمَّا الرُّؤْيَا فِي الْمَنَامِ , فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ أَنَّهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَهُمْ وَمُقَصِّرِينَ , فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ حِينَ نَحَرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ : أَيْنَ رُؤْيَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهَ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا يَعْنِي النَّحْرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ , ثُمَّ رَجَعُوا فَفَتَحُوا خَيْبَرَ , ثُمَّ اعْتَمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ , فَكَانَ تَصْدِيقُ رُؤْيَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ " "
أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ , أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي , ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ , ثنا آدَمُ , ثنا وَرْقَاءُ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , فَذَكَرَهُ وَرُوِّينَا عَنْ عَائِشَةَ , رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ
__________
(1) - مسْنَدُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ ( 1647) صحيح(1/60)
الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ تُرِيدُ ضِيَاءَ الصُّبْحَ إِذَا انْفَلَقَ
وَأَمَّا التَّكْلِيمُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى , ثُمَّ كَانَ فِيمَا أَوْحَى إِلَيْهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ خَمْسِينَ صَلَاةٍ , فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُ رَبَّهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِهِ حَتَّى صَارَ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ , وَقَالَ لَهُ رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : إِنِّي لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلَ لَدَيَّ , هِيَ كَمَا كَتَبْتُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ , وَلَكَ بِكُلِّ حَسَنَةِ عَشْرُ أَمْثَالِهَا , هِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ , وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ , وَقَدْ مَضَى الْحَدِيثُ فِيهِ ,
وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي رُؤْيَتِهِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ , فَذَهَبَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرَهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ , وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ , وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْأَخْبَارَ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَا وَقَدْ ذَهَبَ الزُّهْرِيُّ , رَحِمَهُ اللَّهُ , فِي تَقْسِيمِ الْوَحْيِ إِلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ , وَذَلِكَ فِيمَا
414 أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ , أنا أَبُو الْحَسَنِ الْمَحْمُودِيُّ , ثنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَافِظُ , ثنا أَبُو مُوسَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى , ثنا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ , ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ , عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ , سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ , حِينَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ , عَزَّ وَجَلَّ : وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ الْآيَةَ قَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَعُمُّ مَنْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ مِنَ النَّبِيِّينَ " , قَالَ : فَالْكَلَامُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي كَلَّمَ بِهِ مُوسَى مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ , وَالْوَحْيُ مَا يُوحِي اللَّهُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ , فَيُثَبِّتُ اللَّهُ تَعَالَى مَا أَرَادَ مِنْ وَحَيِّهِ فِي قَلْبِ النَّبِيِّ , فَيَتَكَلَّمُ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ , وَيُبَيِّنُهُ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَوَحْيُهُ , وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ لَا يُكَلِّمُ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ , وَلَكِنَّهُ سِرُّ غَيْبٍ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ , وَمِنْهُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ , وَلَا يَكُتُبُونَهُ لِأَحَدٍ , وَلَا يَأْمُرُونَ بِكِتَابَتِهِ , وَلَكِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بِهِ النَّاسَ حَدِيثًا , وَيُبَيِّنُونَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُمْ أَنْ يُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ وَيُبَلِّغُوهُمْ وَمِنَ الْوَحْيِ مَا يُرْسِلُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مَنِ اصْطَفَى مِنْ مَلَائِكَتِهِ ؛ فَيُكَلِّمُونَ أَنْبِيَاءَهُ مِنَ النَّاسِ , وَمِنَ الْوَحْيِ مَا يُرْسِلُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ ؛ فَيُوحُونَ بِهِ وَحْيًا فِي(1/61)
قُلُوبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ رُسُلِهِ , وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَنَا فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ يُرْسِلُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ : قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ , وَذَكَرَ أَنَّهُ الرُّوحُ الْأَمِينُ , فَقَالَ : وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ الْآيَةَ ، فَذَهَبَ فِي الْوَحْيِ الْأَوَّلِ إِلَى أَنَّهُ مَا يُوحِي اللَّهُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ فَيُثَبِّتُ مَا أَرَادَ مِنْ وَحْيِهِ فِي قَلْبِهِ , فَيَتَكَلَّمُ بِهِ النَّبِيُّ , وَهَذَا يَجْمَعُ حَالَ الْيَقَظَةِ وَالنَّوْمِ وَذَهَبَ فِيمَا يُوحِي اللَّهُ تَعَالَى إِلَى النَّبِيِّ بِإِرْسَالِ الْمَلَكِ إِلَيْهِ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى نَوْعَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " : أَنْ يَأْتِيَهُ الْمَلَكُ فَيُكَلِّمَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَكْلِيمًا , " وَالْآخَرُ " : أَنَّهُ يَأْتِيهِ فَيُلْقِي فِي رَوْعِهِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ , وَكُلُّ ذَلِكَ بَيِّنٌ فِي الْأَخْبَارِ اهـ
هذه هي كيفيات الوحي الإعلامي، منها ما هو بدون ملك، ومنها ما فيه الملك، ومنها ما يكون في اليقظة، ومنها ما يكون في النوم، والصفة العامة في كل هذه الكيفيات أنه صلى الله عليه وسلم يحدث عنده علم يقيني بأن هذا من الله عز وجل.
===============(1/62)
الوحيٌ الإقراري:
أما الوحي الإقراري فهو أن يجتهد صلى الله عليه وسلم في الأمر فيسلك فيه مسلكا ما، فإن كان صوابا أقره الوحي، وإن كان غير صواب نبهه الوحي، وحينئذ يكون إعلاميا، فالوحي التقريري هو ما أقرَّ الله سبحانه وتعالى نبيه فيه على صواب فعله من تلقاء نفسه.
وعليه فما صدر منه صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو إقرار دائر بين حالين:
أ - حال الإيحاء، بأن يوحي الله إليه بالأمر ابتداء فيمتثل، أو يوحي إليه انتهاء ليعرفه سبحانه ما يتفق وشريعته، وهذا قليل نادر، ومثاله ما حدث في أسرى بدر.
فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا ، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ : " اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي ، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي ، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ " ، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ ، وَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ ، قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ : فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ : بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ : أَقْدِمْ حَيْزُومُ ، فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ ، وَشُقَّ وَجْهُهُ ، كَضَرْبَةِ السَّوْطِ فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ ، فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ ، فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : " صَدَقْتَ ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ " ، فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ ، قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَلَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ : " مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى ؟ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ ، فَقَالَ(1/63)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ " قُلْتُ : لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ ، فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ ، وَتُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ نَسِيبًا لِعُمَرَ ، فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا ، فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جِئْتُ ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمِ الْفِدَاءَ ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا فَأَحَلَّ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ " (1)
وهذه الحال الكثير الغالب، فكثيرا ما ابتدأه الوحي،فعَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَمَرَنِى جِبْرِيلُ بِرَفْعِ الصَوْتِ فِى الإِهْلاَلِ فَإِنَّهُ مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ ». (2)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : أَمَرَنِي جِبْرِيلُ أَنْ أُكَبِّرَ أَوْ قَالَ : أَنْ قَدِّمُوا التَّكْبِيرَ ، (3)
وعَنْ سُلَيْمَانَ مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِىٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالْبِشْرُ يُرَى فِى وَجْهِهِ فَقَالَ « إِنَّهُ جَاءَنِى جِبْرِيلُ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ أَمَا يُرْضِيكَ يَا مُحَمَّدُ أَنْ لاَ يُصَلِّىَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إِلاَّ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا وَلاَ يُسَلِّمَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إِلاَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا ». (4)
__________
(1) - صحيح مسلم (4687)
(2) - مسند أحمد(8537) صحيح لغيره
(3) - المعجم الكبير للطبراني(406) حسن
(4) - سنن النسائى (1303 ) حسن(1/64)
وعَنْ خَلاَّدِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « جَاءَنِى جِبْرِيلُ فَقَالَ لِى يَا مُحَمَّدُ مُرْ أَصْحَابَكَ أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ ». (1)
وعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَخَرَةٍ إِذَا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ فَأَرَادَ أَنْ يَنْهَضَ قَالَ : " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ ، عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي ، فَاغْفِرْ لِي ، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ " قَالَ : فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ هَذِهِ كَلِمَاتٌ أَحْدَثْتَهُنَّ ؟ قَالَ : " أَجَلْ ، جَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، هُنَّ كَفَّارَاتُ الْمَجْلِسِ " (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ارْتَقَى عَلَى الْمِنْبَرِ فَأَمَّنَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ قَالَ : " تَدْرُونَ لِمَ أَمَّنْتُ ؟ " قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : " جَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَأَخْبَرَنِي : أَنَّهُ مَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ دَخَلَ النَّارَ ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ ، فَقُلْتُ : آمِينَ ، وَمَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا ، فَلَمْ يَبَرَّهُمَا دَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ ، فَقُلْتُ : آمِينَ ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ دَخَلَ النَّارَ ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ ، فَقُلْتُ : آمِينَ " (3)
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « قَالَ لِى جِبْرِيلُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ ، أَوْ لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ ، قَالَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ وَإِنْ » (4) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ {وآمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (90) سورة يونس ، قَالَ قَالَ لِى جِبْرِيلُ يَا مُحَمَّدُ لَوْ رَأَيْتَنِى وَقَدْ أَخَذْتُ حَالاً مِنْ حَالِ الْبَحْرِ فَدَسَّيْتُهُ فِى فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ الرَّحْمَةُ » (5) .
__________
(1) - سنن النسائى(2765 ) صحيح
(2) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي ( 10188) حسن
(3) - الْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ(12388 ) صحيح لغيره
(4) - صحيح البخارى (3222 )
(5) - مسند أحمد( 2874) حسن -الحال : الطين الأسود(1/65)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كُنَّ أَزْوَاجُ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَهُ لَمْ يُغَادِرْ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِى مَا تُخْطِئُ مِشْيَتُهَا مِنْ مِشْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا فَلَمَّا رَآهَا رَحَّبَ بِهَا فَقَالَ « مَرْحَبًا بِابْنَتِى ». ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ سَارَّهَا فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا فَلَمَّا رَأَى جَزَعَهَا سَارَّهَا الثَّانِيَةَ فَضَحِكَتْ. فَقُلْتُ لَهَا خَصَّكِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ بَيْنِ نِسَائِهِ بِالسِّرَارِ ثُمَّ أَنْتِ تَبْكِينَ فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَأَلْتُهَا مَا قَالَ لَكِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ مَا كُنْتُ أُفْشِى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سِرَّهُ. قَالَتْ فَلَمَّا تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قُلْتُ عَزَمْتُ عَلَيْكِ بِمَا لِى عَلَيْكِ مِنَ الْحَقِّ لَمَا حَدَّثْتِنِى مَا قَالَ لَكِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ أَمَّا الآنَ فَنَعَمْ أَمَّا حِينَ سَارَّنِى فِى الْمَرَّةِ الأُولَى فَأَخْبَرَنِى « أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ الْقُرْآنَ فِى كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ وَإِنَّهُ عَارَضَهُ الآنَ مَرَّتَيْنِ وَإِنِّى لاَ أُرَى الأَجَلَ إِلاَّ قَدِ اقْتَرَبَ فَاتَّقِى اللَّهَ وَاصْبِرِى فَإِنَّهُ نِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ ». قَالَتْ فَبَكَيْتُ بُكَائِى الَّذِى رَأَيْتِ فَلَمَّا رَأَى جَزَعِى سَارَّنِى الثَّانِيَةَ فَقَالَ « يَا فَاطِمَةُ أَمَا تَرْضَىْ أَنْ تَكُونِى سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ ». قَالَتْ فَضَحِكْتُ ضَحِكِى الَّذِى رَأَيْتِ. (1)
وعَنِ الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُتِىَ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ ، وَلَبَنٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا ، ثُمَّ أَخَذَ اللَّبَنَ ، فَقَالَ جِبْرِيلُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ ، وَلَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ . (2)
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَا زَالَ يُوصِينِى جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ » (3)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا ، فَأَحِبَّهُ . فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ، فَيُنَادِى جِبْرِيلُ فِى أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ
__________
(1) - صحيح مسلم(6467 )
(2) - صحيح البخارى(5576 )
(3) - صحيح البخارى(6014 )(1/66)
اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا ، فَأَحِبُّوهُ . فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِى أَهْلِ الأَرْضِ » (1) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- تَلاَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى إِبْرَاهِيمَ ( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى) الآيَةَ.
وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ « اللَّهُمَّ أُمَّتِى أُمَّتِى ». وَبَكَى فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ - فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَا قَالَ. وَهُوَ أَعْلَمُ. فَقَالَ اللَّهُ يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِى أُمَّتِكَ وَلاَ نَسُوءُكَ. (2)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ عَنِّى وَعَنْ أُمِّى قَالَ فَظَنَنَّا أَنَّهُ يُرِيدُ أُمَّهُ الَّتِى وَلَدَتْهُ. قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ عَنِّى وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قُلْنَا بَلَى. قَالَ قَالَتْ لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِىَ الَّتِى كَانَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فِيهَا عِنْدِى انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ فَاضْطَجَعَ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلاَّ رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا فَجَعَلْتُ دِرْعِى فِى رَأْسِى وَاخْتَمَرْتُ وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِى ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ فَلَيْسَ إِلاَّ أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ فَقَالَ « مَا لَكِ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيَةً ». قَالَتْ قُلْتُ لاَ شَىْءَ. قَالَ « لَتُخْبِرِينِى أَوْ لَيُخْبِرَنِّى اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ». قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى. فَأَخْبَرْتُهُ قَالَ « فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِى رَأَيْتُ أَمَامِى ». قُلْتُ نَعَمْ. فَلَهَدَنِى فِى صَدْرِى لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِى ثُمَّ قَالَ « أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ ». قَالَتْ مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ نَعَمْ. قَالَ « فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِى حِينَ رَأَيْتِ فَنَادَانِى فَأَخْفَاهُ مِنْكِ
__________
(1) - صحيح البخارى(6040 )
(2) - صحيح مسلم (520 )(1/67)
فَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِى فَقَالَ إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِىَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ ». قَالَتْ قُلْتُ كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « قُولِى السَّلاَمُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلاَحِقُونَ ». (1)
وعن ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِى أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ لَبِسَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا قَبَاءً مِنْ دِيبَاجٍ أُهْدِىَ لَهُ ثُمَّ أَوْشَكَ أَنْ نَزَعَهُ فَأَرْسَلَ بِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقِيلَ لَهُ قَدْ أَوْشَكَ مَا نَزَعْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ « نَهَانِى عَنْهُ جِبْرِيلُ ». فَجَاءَهُ عُمَرُ يَبْكِى فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَرِهْتَ أَمْرًا وَأَعْطَيْتَنِيهِ فَمَا لِى قَالَ « إِنِّى لَمْ أُعْطِكَهُ لِتَلْبَسَهُ إِنَّمَا أَعْطَيْتُكَهُ تَبِيعُهُ ». فَبَاعَهُ بِأَلْفَىْ دِرْهَمٍ. (2)
وعَنِ ابْنِ السَّبَّاقِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ أَخْبَرَتْنِى مَيْمُونَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَصْبَحَ يَوْمًا وَاجِمًا فَقَالَتْ مَيْمُونَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدِ اسْتَنْكَرْتُ هَيْئَتَكَ مُنْذُ الْيَوْمِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ وَعَدَنِى أَنْ يَلْقَانِى اللَّيْلَةَ فَلَمْ يَلْقَنِى أَمَ وَاللَّهِ مَا أَخْلَفَنِى ». قَالَ فَظَلَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَهُ ذَلِكَ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ وَقَعَ فِى نَفْسِهِ جِرْوُ كَلْبٍ تَحْتَ فُسْطَاطٍ لَنَا فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ مَاءً فَنَضَحَ مَكَانَهُ فَلَمَّا أَمْسَى لَقِيَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ « قَدْ كُنْتَ وَعَدْتَنِى أَنْ تَلْقَانِى الْبَارِحَةَ ». قَالَ أَجَلْ وَلَكِنَّا لاَ نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ. فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَئِذٍ فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلاَبِ حَتَّى إِنَّهُ يَأْمُرُ بِقَتْلِ كَلْبِ الْحَائِطِ الصَّغِيرِ وَيَتْرُكُ كَلْبَ الْحَائِطِ الْكَبِيرِ. (3)
__________
(1) - صحيح مسلم(2301 )
أجاف : أغلق = الحشيا : وقع عليك الحشا وهو الربو والنهيج =أحضر : عدا عدوا
الرابية : التى أخذها الربو وهو التهيج وتواتر النفس الذى يعرض للمسرع فى مشيه = تقنعت : لبست =اللهدة : الدفع الشديد فى الصدر =لهد : دفع بشدة فى الصدر
(2) - صحيح مسلم (5540 ) -القباء : نوع من الثياب
(3) - صحيح مسلم(5635)
الجرو : الكلب الصغير = الحائط : البستان =فسطاط : المراد به بعض أستار البيت =الواجم : من اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام(1/68)
وربما سئل عن الشيء فسكت حتى جاءه الوحي، ومن أمثلة ذلك:
فعن صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ يَعْنِى عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الْخَلُوقِ أَوْ قَالَ صُفْرَةٍ فَقَالَ كَيْفَ تَأْمُرُنِى أَنْ أَصْنَعَ فِى عُمْرَتِى فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَسُتِرَ بِثَوْبٍ وَوَدِدْتُ أَنِّى قَدْ رَأَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ . فَقَالَ عُمَرُ تَعَالَ أَيَسُرُّكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْوَحْىَ قُلْتُ نَعَمْ . فَرَفَعَ طَرَفَ الثَّوْبِ ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ لَهُ غَطِيطٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ كَغَطِيطِ الْبَكْرِ . فَلَمَّا سُرِّىَ عَنْهُ قَالَ « أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْعُمْرَةِ اخْلَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ أَثَرَ الْخَلُوقِ عَنْكَ ، وَأَنْقِ الصُّفْرَةَ ، وَاصْنَعْ فِى عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِى حَجِّكِ » . (1)
وعن ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ. فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً كَادَ يُصْرَعُ مِنْهَا فَقَالَ لِمَ تَدْفَعُنِى فَقُلْتُ أَلاَ تَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ الْيَهُودِىُّ إِنَّمَا نَدْعُوهُ بِاسْمِهِ الَّذِى سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ اسْمِى مُحَمَّدٌ الَّذِى سَمَّانِى بِهِ أَهْلِى ». فَقَالَ الْيَهُودِىُّ جِئْتُ أَسْأَلُكَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَيَنْفَعُكَ شَىْءٌ إِنْ حَدَّثْتُكَ ». قَالَ أَسْمَعُ بِأُذُنَىَّ فَنَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِعُودٍ مَعَهُ. فَقَالَ « سَلْ ». فَقَالَ الْيَهُودِىُّ أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « هُمْ فِى الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ ». قَالَ فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً قَالَ « فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ ». قَالَ الْيَهُودِىُّ فَمَا تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَالَ « زِيَادَةُ كَبِدِ النُّونِ » قَالَ فَمَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى إِثْرِهَا قَالَ « يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِى كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا ».
__________
(1) - صحيح البخارى(1789 )
البكر : الفتى من الإبل - الخلوق : طيب مركب من الزعفران وغيره من أنواع الطيب تغلب عليه الحمرة والصفرة -الغطيط : الصوت الذى يخرج من نفس النائم(1/69)
قَالَ فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ قَالَ « مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ». قَالَ صَدَقْتَ. قَالَ وَجِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ شَىْءٍ لاَ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ إِلاَّ نَبِىٌّ أَوْ رَجُلٌ أَوْ رَجُلاَنِ. قَالَ « يَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ ». قَالَ أَسْمَعُ بِأُذُنَىَّ.
قَالَ جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنِ الْوَلَدِ قَالَ « مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ فَإِذَا اجْتَمَعَا فَعَلاَ مَنِىُّ الرَّجُلِ مَنِىَّ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللَّهِ وَإِذَا عَلاَ مَنِىُّ الْمَرْأَةِ مَنِىَّ الرَّجُلِ آنَثَا بِإِذْنِ اللَّهِ ». قَالَ الْيَهُودِىُّ لَقَدْ صَدَقْتَ وَإِنَّكَ لَنَبِىٌّ ثُمَّ انْصَرَفَ فَذَهَبَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَقَدْ سَأَلَنِى هَذَا عَنِ الَّذِى سَأَلَنِى عَنْهُ وَمَا لِى عِلْمٌ بِشَىْءٍ مِنْهُ حَتَّى أَتَانِىَ اللَّهُ بِهِ ». (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ النَّاسَ فَذَكَرَ الإِيمَانَ بِاللَّهِ وَالْجِهَادَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ أَفْضَلِ الأَعْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنَا صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرَ مُدْبِرٍ كَفَّرَ اللَّهُ عَنِّى خَطَايَاىَ قَالَ « نَعَمْ ». قَالَ « فَكَيْفَ قُلْتَ ». قَالَ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَوْلَ كَمَا قَالَ. قَالَ « نَعَمْ ». قَالَ « فَكَيْفَ قُلْتَ ». قَالَ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَوْلَ أَيْضاً. قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ صَابِراً مُحْتَسِباً مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ كَفَّرَ اللَّهُ عَنِّى خَطَايَاىَ قَالَ « نَعَمْ إِلاَّ الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ سَارَّنِى بِذَلِكَ ». (2)
وعَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ حَدَّثَنَا أَنَسٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلاَمٍ بَلَغَهُ مَقْدَمُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ ، فَأَتَاهُ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ ، فَقَالَ إِنِّى سَائِلُكَ عَنْ ثَلاَثٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ نَبِىٌّ مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَمَا بَالُ الْوَلَدِ يَنْزِعُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ قَالَ « أَخْبَرَنِى بِهِ جِبْرِيلُ آنِفًا » . قَالَ ابْنُ سَلاَمٍ ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ . قَالَ « أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ ، فَزِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ ، وَأَمَّا الْوَلَدُ ، فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَتِ الْوَلَدَ » . قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ لاَ إِلَهَ
__________
(1) - صحيح مسلم(742 ) -النون : الحوت
(2) - مسند أحمد (8296) صحيح(1/70)
إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ . قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ ، فَاسْأَلْهُمْ عَنِّى قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلاَمِى ، فَجَاءَتِ الْيَهُودُ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَىُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ فِيكُمْ » . قَالُوا خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا وَأَفْضَلُنَا وَابْنُ أَفْضَلِنَا . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ » . قَالُوا أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ . فَأَعَادَ عَلَيْهِمْ ، فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . قَالُوا شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا . وَتَنَقَّصُوهُ . قَالَ هَذَا كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ . (1)
ب - حال عدم الإيحاء: وذلك بتركه صلى الله عليه وسلم وشأنه فيتصرف صوابا، فيقرُّه الله سبحانه وتعالى على ذلك.
وهذه الحال من مستلزمات سلامة الدين، فما كان الله عز وجل ليترك خطأ يصدر من رسوله صلى الله عليه وسلم المبلغ عنه، مما يترتب عليه وقوع الأمة فيه اتباعا، وإذا كانت الحكمة من إرسال الرسل ألا تكون للناس حجة {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } (165) سورة النساء ، فإن ذلك يتمُّ بعصمة المرسَل من الوقوع في أي خطأ، وإلا نبهه كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ أَيُكَفِّرُ اللَّهُ عَنِّى خَطَايَاىَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « نَعَمْ ». فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ نَادَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَوْ أَمَرَ بِهِ فَنُودِىَ لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « كَيْفَ قُلْتَ ». فَأَعَادَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « نَعَمْ إِلاَّ الدَّيْنَ كَذَلِكَ قَالَ لِى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ». (2)
ولقد كان معلوما لدى الصحابة أن إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم إقرار من الله سبحانه وتعالى، وأنه لو حدث أمر يخالف الإسلام لجاء الوحي فأنكر عليهم ذلك، لقد
__________
(1) - صحيح البخارى(3938 ) 89/5
(2) - سنن النسائى (3169 ) صحيح(1/71)
كانوا يعرفون أن الوحي قريب وكثير، فلن يترك أمرا مخالفا يمرُّ، فما أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم دون وحي فإنما هو من الإسلام وإلا جاء الوحي.
يشهد لذلك ما روي عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ.لَوْ كَانَ شَيْئًا يُنْهَى عَنْهُ لَنَهَانَا عَنْهُ الْقُرْآنُ. (1)
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ : كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ فَلاَ نُنْهَى. (2)
وعَنْ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ وَكَانَ عَقَبِيًّا بَدْرِيًّا - قَالَ كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ يُفْتِى النَّاسَ فِى الْمَسْجِدِ - بِرَأْيِهِ - فِى الَّذِى يُجَامِعُ وَلاَ يُنْزِلُ. فَقَالَ أَعْجِلْ بِهِ فَأُتِىَ بِهِ فَقَالَ يَا عَدُوَّ نَفْسِهِ أَوَ قَدْ بَلَغْتَ أَنْ تُفْتِىَ النَّاسَ فِى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِرَأْيِكَ قَالَ مَا فَعَلْتُ وَلَكِنْ حَدَّثَنِى عُمُومَتِى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ أَىُّ عُمُومَتِكَ قَالَ أُبَىُّ بْنُ كَعْب وَأَبُو أَيُّوبَ وَرِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ فَالْتَفَتُّ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ مَا يَقُولُ هَذَا الْفَتَى ؟ فَقُلْتُ كُنَّا نَفْعَلُهُ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ فَسَأَلْتُمْ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِهِ فَلَمْ نَغْتَسِلْ. قَالَ فَجَمَعَ النَّاسَ وَأَصْفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنَ الْمَاءِ إِلاَّ رَجُلَيْنِ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالاَ إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ وَجَبَ الْغُسْلُ. قَالَ فَقَالَ عَلِىٌّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِهَذَا أَزْوَاجُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَأَرْسَلَ إِلَى حَفْصَةَ فَقَالَتْ لاَ عِلْمَ لِى. فَأَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ وَجَبَ الْغُسْلُ. قَالَ فَتَحَطَّمَ عُمَرُ - يَعْنِى تَغَيَّظَ - ثُمَّ قَالَ لاَ يَبْلُغُنِى أَنَّ أَحَداً فَعَلَهُ وَلَمْ يَغْتَسِلْ إِلاَّ أَنْهَكْتُهُ عُقُوبَةً. (3)
ويظهر لي من كلام جابر هذا: أن جابرا استدلَّ على شرعية العزل بتقرير الله سبحانه وتعالى، وعليه فجابر يرى أن الوحي لا يقتصر على مراقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يراقب الأمة كلها، فأيما فعل فعلوه مخالفا الإسلام نبه الوحي عليه، وأيما فعل فعلوه زمن الوحي وأقرهم عليه الوحي فهو من الإسلام.
__________
(1) - صحيح البخارى (5208) وصحيح مسلم( 3632 ) واللفظ له
(2) - مصنف ابن أبي شيبة(ج 4 / ص 219) (16856) صحيح
(3) - مسند أحمد (21692) صحيح - تحطم : تغيظ = أصفق : اجتمع(1/72)
والذي يظهر لي أن هذا - إقرار الوحي الأمة - هو الذي يفيده حديث جابر الذي معنا وتفيده نصوص أخرى (1) ففي رواية لحديث جَابِرٍ قَالَ كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ . (2)
ففيه تصريح بنزول الوحي مع إضافته لعهده صلى الله عليه وسلم، مما يشعر أنه يلحظ قضية إقرار الوحي الأمة على ما تفعل أو ينكر.
وهذا هو الذي يفيده حديث ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ: كُنَّا نَتَّقِى الْكَلاَمَ وَالاِنْبِسَاطَ إِلَى نِسَائِنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - هَيْبَةَ أَنْ يُنْزَلَ فِينَا شَىْءٌ فَلَمَّا تُوُفِّىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - تَكَلَّمْنَا وَانْبَسَطْنَا . (3)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَسِيرُ فِى بَعْضِ أَسْفَارِهِ ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلاً ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ شَىْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا عُمَرُ ، نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، كُلُّ ذَلِكَ لاَ يُجِيبُكَ . قَالَ عُمَرُ فَحَرَّكْتُ بَعِيرِى ثُمَّ تَقَدَّمْتُ أَمَامَ الْمُسْلِمِينَ ، وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ فِىَّ قُرْآنٌ ، فَمَا نَشِبْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِى - قَالَ - فَقُلْتُ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِىَّ قُرْآنٌ . وَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ « لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَىَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِىَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ، ثُمَّ قَرَأَ ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) » (4) .
وعَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِىِّ قَالَ : كُنْتُ امْرَأً أُصِيبُ مِنَ النِّسَاءِ مَا لاَ يُصِيبُ غَيْرِى ، فَلَمَّا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ خِفْتُ أَنْ أُصِيبَ فِى لَيْلِى شَيْئاً فَيَتَتَابَعَ بِى ذَلِكَ إِلَى أَنْ أُصْبِحَ - قَالَ - فَتَظَاهَرْتُ إِلَى أَنْ يَنْسَلِخَ ، فَبَيْنَا هِىَ لَيْلَةً تَخْدُمُنِى إِذْ تَكَشَّفَ لِى مِنْهَا شَىْءٌ ، فَمَا لَبِثْتُ أَنْ نَزَوْتُ عَلَيْهَا ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ خَرَجْتُ إِلَى قَوْمِى فَأَخْبَرْتُهُمْ وَقُلْتُ : امْشُوا مَعِى
__________
(1) - استغرب ابن دقيق هذا، فقال: استدلال جابر بالتقرير من الله غريب (إحكام الأحكام 2 / 208).
(2) - صحيح البخارى(5209) ومسلم (3632 )
(3) - صحيح البخارى(5187 )
(4) - صحيح البخارى(4177 ) = ثكلت : فقدت = نزرت : ألححت عليه(1/73)
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالُوا : لاَ وَاللَّهِ لاَ نَمْشِى مَعَكَ مَا نَأْمَنُ أَنْ يَنْزِلَ فِيكَ الْقُرْآنُ أَوْ أَنْ يَكُونَ فِيكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَقَالَةٌ يَلْزَمُنَا عَارُهَا ، وَلَنُسْلِمَنَّكَ بِجَرِيرَتِكَ. فَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ خَبَرِى فَقَالَ :« يَا سَلَمَةُ أَنْتَ بِذَاكَ؟ ». قُلْتُ : أَنَا بِذَاكَ. قَالَ : « يَا سَلَمَةُ أَنْتَ بِذَاكَ؟ ». قُلْتُ : أَنَا بِذَاكَ.
قَالَ : « يَا سَلَمَةُ أَنْتَ بِذَاكَ؟ ». قُلْتُ : أَنَا بِذَاكَ ، وَهَا أَنَا ذَا صَابِرٌ نَفْسِى ، فَاحْكُمْ فِىَّ مَا أَرَاكَ اللَّهُ.
قَالَ :« فَأَعْتِقْ رَقَبَةً ». قَالَ : فَضَرَبْتُ صَفْحَةَ رَقَبَتِى فَقُلْتُ : وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَصْبَحْتُ أَمْلِكُ رَقَبَةً غَيْرَهَا. قَالَ :« فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ». قُلْتُ : وَهَلْ أَصَابَنِى الَّذِى أَصَابَنِى إِلاَّ فِى الصِّيَامِ؟ قَالَ :« فَأَطْعِمْ وَسْقاً مِنْ تَمْرٍ سِتِّينَ مِسْكِيناً ». فَقُلْتُ : وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ بِتْنَا لَيْلَتَنَا وَحْشَى مَا لَنَا طَعَامٌ.
قَالَ :« فَانْطَلِقْ إِلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِى زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا إِلَيْكَ ، وَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً وَسْقاً مِنْ تَمْرٍ ، وَكُلْ بَقِيَّتَهُ أَنْتَ وَعِيَالُكَ ». قَالَ : فَأَتَيْتُ قَوْمِى فَقُلْتُ : وَجَدْتُ عِنْدَكُمُ الضِّيقَ وَسُوءَ الرَّأْىِ وَوَجَدْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- السَّعَةَ وَحُسْنَ الرَّأْىِ ، وَقَدْ أَمَرَ لِى بِصَدَقَتِكُمْ. (1)
ومن إنكار الوحي عليهم حديث عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىِّ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ « هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ » . قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ « أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِى مُؤْمِنٌ بِى وَكَافِرٌ ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِى وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِى وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ » (2) .
__________
(1) - سنن الدارمى (2328) صحيح = الصفحة : الجانب = الوحش : الجائع
(2) - صحيح البخارى(846 )
السماء : المطر = النوء : المنزلة من منازل القمر وكانت العرب تنسب المطر إليها(1/74)
وهكذا يتضح أن الوحي كان يراقب تصرفاته صلى الله عليه وسلم ويراقب الأمة أيضا، فأي خطأ ارتكبوه يظنونه صوابا نبههم القرآن عليه، وربما فعلوا الشيء فسألوه صلى الله عليه وسلم، فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ - رضى الله عنه - قَالَ انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَىٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَىِّ ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَىْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَىْءٌ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَىْءٌ ، فَأَتَوْهُمْ ، فَقَالُوا يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ ، إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ ، وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَىْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَىْءٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَعَمْ وَاللَّهِ إِنِّى لأَرْقِى ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضِيِّفُونَا ، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً . فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الْغَنَمِ ، فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ ، فَانْطَلَقَ يَمْشِى وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ ، قَالَ فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِى صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ اقْسِمُوا . فَقَالَ الَّذِى رَقَى لاَ تَفْعَلُوا ، حَتَّى نَأْتِىَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِى كَانَ ، فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا . فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرُوا لَهُ ، فَقَالَ « وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ - ثُمَّ قَالَ - قَدْ أَصَبْتُمُ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِى مَعَكُمْ سَهْمًا » . فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (1)
وعَنْ عَلِىٍّ - رضى الله عنه - قَالَ بَعَثَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - سَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ ، فَغَضِبَ فَقَالَ أَلَيْسَ أَمَرَكُمُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تُطِيعُونِى . قَالُوا بَلَى . قَالَ فَاجْمَعُوا لِى حَطَبًا . فَجَمَعُوا ، فَقَالَ أَوْقِدُوا نَارًا . فَأَوْقَدُوهَا ، فَقَالَ ادْخُلُوهَا . فَهَمُّوا ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا ، وَيَقُولُونَ فَرَرْنَا إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ النَّارِ . فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتِ النَّارُ ، فَسَكَنَ غَضَبُهُ ، فَبَلَغَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، الطَّاعَةُ فِى الْمَعْرُوفِ » (2) .
__________
(1) - صحيح البخارى(2276 ) = القلبة : العلة
(2) - صحيح البخارى(4340)(1/75)
وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رضى الله عنهما - قَالَ خَطَبَنَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الأَضْحَى بَعْدَ الصَّلاَةِ فَقَالَ « مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَإِنَّهُ قَبْلَ الصَّلاَةِ ، وَلاَ نُسُكَ لَهُ » . فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ خَالُ الْبَرَاءِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَإِنِّى نَسَكْتُ شَاتِى قَبْلَ الصَّلاَةِ ، وَعَرَفْتُ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونَ شَاتِى أَوَّلَ مَا يُذْبَحُ فِى بَيْتِى ، فَذَبَحْتُ شَاتِى وَتَغَدَّيْتُ قَبْلَ أَنْ آتِىَ الصَّلاَةَ . قَالَ « شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ » . قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَإِنَّ عِنْدَنَا عَنَاقًا لَنَا جَذَعَةً هِىَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ شَاتَيْنِ ، أَفَتَجْزِى عَنِّى قَالَ « نَعَمْ ، وَلَنْ تَجْزِىَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ » (1) .
وعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ احْتَلَمْتُ فِى لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِى غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلاَسِلِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِى الصُّبْحَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ ». فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِى مَنَعَنِى مِنَ الاِغْتِسَالِ وَقُلْتُ إِنِّى سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ (وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. (2)
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ خَرَجْنَا فِى سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلاً مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِى رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ هَلْ تَجِدُونَ لِى رُخْصَةً فِى التَّيَمُّمِ فَقَالُوا مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ « قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلاَّ سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِىِّ السُّؤَالُ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ ». أَوْ « يَعْصِبَ ». شَكَّ مُوسَى « عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ ». (3)
وربما فعلوه ظانين صوابه فلم يسألوا فجاء الوحي فنبه/ كما في أسرى بدر. (4)
__________
(1) - صحيح البخارى(955 )
الجَذعة : ما استكمل سنة ولم يدخل فى الثانية = العناق : الأنثى من ولد المعز أتى عليها أربعة أشهر
(2) - سنن أبى داود(334 ) صحيح
(3) - سنن أبى داود(336) حسن = العي : الجهل
(4) - انظر: السنة النبوية للدكتور عبد المهدي ص 32 - 35.(1/76)
وبهذا يتضح أن السنَّة وحيٌ: حالا أو مآلا، أي إنها وحيٌ: ابتداء، أو انتهاء (بالإقرار أو التصويب).
وبذلك تصحُّ تلك الأوامر المطلقة والنصوص العامة التي وردت في الكتاب والسنة، من مثل قوله تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (7) سورة الحشر ،
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، إِلاَّ مَنْ أَبَى » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ « مَنْ أَطَاعَنِى دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ أَبَى » (1) .
فهذه النصوص الدالة الدلالة القطعية على وجوب تصديق خبره صلى الله عليه وسلم وطاعة أوامره صلى الله عليه وسلم (وبعد وفاته) لا يحتمل أن يكون في أقواله وأخباره ما لم يقرَّه الله تعالى، وبالتالي: فجميع ما لم يصوَّب من أقواله صلى الله عليه وسلم فكلُّه وحيُّ من الله تعالى، وما صوب فقد بلغ صلى الله عليه وسلم ذلك التصويب، وبقي هذا التصويب دليلا من أدلة نبوته صلى الله عليه وسلم، لأن مدعي النبوة كذبا لن يحرص على الدلالة على أنه قد وقع في الخطأ ! والأهم في ذلك: أنه بهذا التبليغ للتصويب قد تمَّ البلاغ وحفظ الدين وعصمت السنة من أي سببٍ يدعو إلى التردد في الطاعة أو التصديق.
فعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، يَقُولُ : " فِيمَ الرَّمَلَانُ الْيَوْمَ وَالْكَشْفُ عَنِ المَنَاكِبِ وَقَدْ أَطَّأَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ ، وَنَفَى الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ مَعَ ذَلِكَ لَا نَدَعُ شَيْئًا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (2)
وبذلك يتضح أنه لا فرق بين ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بوحي ابتداء وما صدر عنه صلى الله عليه وسلم باجتهاد في وجوب التصديق لخبره والطاعة لأمره، فكما كان الموحَى به إليه ابتداء لا خلاف في وجوب ذلك فيه، فكذلك الاجتهاد منه صلى الله
__________
(1) - صحيح البخارى (7280 )
(2) - سنن أبى داود( 1889 ) صحيح
، وَحَاصِله أَنَّ عُمَر كَانَ قَدْ هَمَّ بِتَرْكِ الرَّمَل فِي الطَّوَاف لِأَنَّهُ عَرَفَ سَبَبه وَقَدْ اِنْقَضَى فَهَمَّ أَنْ يَتْرُكهُ لِفَقْدِ سَبَبه ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون لَهُ حِكْمَة مَا اِطَّلَعَ عَلَيْهَا فَرَأَى أَنَّ الِاتِّبَاع أَوْلَى "عون المعبود - (ج 4 / ص 279)(1/77)
عليه وسلم، لأنه موحَى به إليه انتهاء بالإقرار. فلا فرق بين سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فكلُّها وحيٌ يوجبُ التصديق والطاعة، بدلالة عمومات النصوص السابقة في الكتاب والسنة، والتي لم تخصص سنَّة من سننه صلى الله عليه وسلم: لا سنَّة الوحي ابتداء ولا سنَّة الوحي انتهاء، ولا سنَّة الدين ولا سنَّة الدنيا، فالعمومات تشملُ جميع السنَّة، ولم تخرج منها شيئا. (1)
قال الشاطبي - رحمه الله - (كل ما أخبر به رسول الله صلي الله عليه وسلم من خبر فهو كما أخبر، وهو حق وصدق معتمد عليه فيما أخبر به وعنه، سواء انبني عليه في التكليف حكم أم لا، كما أنه إذا شرع حكما أو أقر أو نهي فهو كما قال عليه الصلاة والسلام، لا يفرق في ذلك بين ما أخبر به الملك عن الله، وبين ما نفث في روعه والقي في نفسه، أو رآه رؤية كشف واطلاع علي مغيب علي وجه خارق للعادة، أو كيف ما كان فذلك معتبر يحتج به، ويبنى عليه في الاعتقادات والأعمال جميعا، لأنه صلي الله عليه وسلم مؤيد بالعصمة، وما ينطق عن الهوى) (2)
هناك شبهة يتشبث بها بعض الذين تأثروا بعفن الحضارة الغربية ونتنها ، حيث يستدلون بقصة تدابير النخل ، على غير ما ذكرنا ليتهربوا من الالتزام بالسنَّة ، وبالتالي من أحكام الإسلام العلمية ، وهذا نص الحديث :
فعن رَافِعَ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ قَدِمَ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ فَقَالَ « مَا تَصْنَعُونَ ». قَالُوا كُنَّا نَصْنَعُهُ قَالَ « لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا ». فَتَرَكُوهُ فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ - قَالَ - فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ « إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ رَأْىٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ». (3)
قَالَ الْعُلَمَاء : قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مِنْ رَأْي ) أَيْ فِي أَمْر الدُّنْيَا وَمَعَايِشهَا لَا عَلَى التَّشْرِيع . فَأَمَّا مَا قَالَهُ بِاجْتِهَادِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرَآهُ شَرْعًا يَجِبُ الْعَمَل بِهِ ، وَلَيْسَ إِبَارُ النَّخْل مِنْ هَذَا النَّوْع ، بَلْ مِنَ النَّوْع الْمَذْكُور قَبْله ، مَعَ أَنَّ لَفْظَةَ الرَّأْي إِنَّمَا
__________
(1) - انظر: إضاءات بحثية في علوم السنة النبوية ص 23، 24.
(2) - الموافقات - (ج 4 / ص 464) دار ابن عفان
(3) - صحيح مسلم (6276 ) يأبر : يلقح = نفضت : أسقطت ثمرها(1/78)
أَتَى بِهَا عِكْرِمَة عَلَى الْمَعْنَى لِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيث : قَالَ عِكْرِمَة : أَوْ نَحْو هَذَا ، فَلَمْ يُخْبِرْ بِلَفْظِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَقَّقًا . قَالَ الْعُلَمَاء : وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْل خَبَرًا ، وَإِنَّمَا كَانَ ظَنًّا كَمَا بَيَّنَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَات . قَالُوا : وَرَأْيه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمُور الْمَعَايِش وَظَنّه كَغَيْرِهِ ، فَلَا يُمْتَنَعُ وُقُوع مِثْل هَذَا ، وَلَا نَقْص فِي ذَلِكَ ، وَسَبَبه تَعَلُّق هِمَمهمْ بِالْآخِرَةِ وَمَعَارِفهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . (1)
قلت : فلا تعلق لهم بهذا الخبر بتاتاً ، ومن ثم لو قال أي قول في الطب أو الأمور الحياتية ، فلا يمكن أن تكون إلا وحيا ، طالما أن الله تعالى لم ينبهه عليها ، وهو صلى الله عليه لا يمكن أن يقول شيئا من عند نفسه ، وهو لم يكن على معرفة دراية تامة به ، معاذ الله تعالى ، فكل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم وحيٌ بلا ريب ، ولكن هذا الوحي غير المتلو على درجات من حيث الصحة أو من حيث الاحتجاج ، ففيه الواجب وفيه السنَّة وفيه المباح وفيه المكروه وفيه الحرام .
قال الشيخ محمد صالح المنجد :
" هذا الخبر إن دل على شيء فإنما يدل على أن الأمور الدنيوية التي لا صلة لها بالتشريع تحليلاً أو تحريماً أو صحة أو فساداً ، بل هي من الأمور التجريبية ، لا تدخل تحت مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم كمبلّغ عن ربه ، بل هذا الحديث يدل على أن مثل هذه الأمور خاضعة للتجربة ، والرسول صلى الله عليه وسلم بهذا كان قدوة عملية لحثنا على أن الأمور الدنيوية البحتة التي لا علاقة لها بالتشريع ينبغي علينا أن نبذل الجهد في معرفة ما هو الأصلح من غيره ، وأن نبحث ونستكشف بإجراء التجارب وتحليل المشاهدات وغيرها سائر ما ينفعنا في مجالات التطوير والتحسين في أمور الزراعة والصناعة والبناء وغيرها وأنّ الأمر الذي سكتت فيه الشّريعة فلم تأت فيه بحكم معيّن فالعمل فيه مباح لنا بحسب الضوابط الشّرعية العامة كقاعدة لا ضرر ولا ضرار وهكذا .
وشتان بين هذه الحادثة ومدلولاتها وبين أن يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا حلال أو حرام ، أو أن هذا الأمر موجب للعقوبة أو غير موجب ، أو أن هذا البيع
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (ج 8 / ص 85)(1/79)
صحيح أو غير صحيح ، إلى آخر ذلك في أمور الدنيا والدين لأن هذه الصور من صلب وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أوجب الله علينا طاعته في كل ما يبلغ عن ربه . (1)
والذين يحاولون حصر الدّين في الشّعائر التّعبدية فقط كالصلاة والصيام والحجّ ويريدون عزل الدّين عن التحكّم في مجالات الحياة المختلفة كالمجال الاجتماعي والاقتصادي والسّياسي ويقولون إنّ هذا من شأن البشر يفعلون فيه ما يريدون ويحكمون ويشرّعون ما يشتهون ويشاؤون هم كفرة مجرمون لا يريدون أن يجعلوا لشريعة الله سلطانا على حياة النّاس ولا يريدون أن يضبط الإسلام شؤون البشر مع أنّ الله أنزله حاكما ومنظّما وضابطا لا تصلح الحياة إلا به ولا تحصل السّعادة إلا بحكمه ، والنّاس بدونه في تخبّط وضياع وظلم كما نشاهد اليوم في جميع المجتمعات التي لا تحكمها شريعة الله . نسأل أن يهدينا للحقّ ويفتح أبصارنا لمعرفته ويرزقنا قبوله واتّباعه ، وصلى الله على نبينا محمد .اهـ (2)
وقال أيضاً : "إننا ننتبه غاية الانتباه لقول من يُريد أن يطْعن في تبليغه للوحي من خلال كونه صلى الله عليه وسلم قد يُخْطئ في أمور الدنيا ، وشتّان ما بين هذا وهذا ، وكذلك أن ننتبه للضالين الذين يقولون إنّ بعض الأحكام الشّرعية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم هي اجتهادات شخصيّة قابلة للصواب والخطأ أين هؤلاء الضلال من قول الله تعالى . وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) [النجم/3-5] ) ، نسأل الله أن يجنّبنا الزّيغ وأن يعصمنا من الضلالة ، والله تعالى أعلم ، والله أعلم . " (3)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - الموسوعة الفقهية 1/45
(2) - الإسلام سؤال وجواب (1053 )
(3) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 5838)(1/80)
المبحث الثالث
هل اجتهادُ النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ينافي كون السنَّة وحيٌ ؟
فإن قيل: فما قولكم في اجتهاد النبي - - صلى الله عليه وسلم - ؟ إن قلتم بجواز اجتهاده - - صلى الله عليه وسلم - ، فقد رجعتم عن قولكم في أن السنّة وحي، وبالتالي رجعتم عن الإلزام بالتصديق والطاعة؛ لاحتمال الخطأ في الاجتهاد. وإن منعتم الاجتهاد عنه - - صلى الله عليه وسلم - , ماذا تفعلون بالنصوص الدالة على اجتهاده - - صلى الله عليه وسلم - ؟
والجواب:
أن وقوع الاجتهاد من النبي - - صلى الله عليه وسلم - مسألةٌ خلافيّة بين العلماء، فمنهم من منعه، مستدلًّا بأدلة عصمة الأنبياء عليهم السلام. ومن أهل العلم من نقل الإجماع على جواز اجتهاد النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا، ومنع من وقوعه في أمور الدين (1) .
ومنهم من جَوّز الاجتهاد في أمور الدين، وهو قول الجمهور، واختلفوا: هل هو معصومٌ في اجتهاده, وفي ذلك يقول أبو المظفّر السمعاني (2) : « وإنما تحرم المخالفة, وإن كان صدر عن اجتهاد؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان معصومًا عن الخطأ في الأحكام، فإن كان معصومًا عن الخطأ محروساً عن الزّلل، كان ما يصدر عنه محكومًا بصحّته، مقطوعًا بذلك؛ فلذلك حَرُمت مخالفته ».
ومنهم من قال هو غير معصوم لكنه لا يُقَرُّ على الخطأ، ووقع الإجماعُ على عدم الإقرار بالخطأ مطلقًا (3) , سواءً كانت دنوية أو دينيّة، ومما يدل على ذلك آيات عتابه -صلى
__________
(1) - البحر المحيط للزركشي (4/214)، والتحبير شرح التحرير للمرداوي (8/3889) .
(2) - في قواطع الأدلة (4/84- 85)
(3) - المسوّدة لآل تيمية (79، 190) .
ومما يدل على ذلك آيات عتابه -صلى الله عليه وسلم-, مما يدل على حصول الاجتهاد منه -صلى الله عليه وسلم-, ووقوع الخطأ، وأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقرّ عليه.
ومن ذلك أيضاً: حديث عائشة ل، قالت: دخل عليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وعندي امرأةٌ من اليهود، وهي تقول: هل شعرت أنكم تُفْتَنُون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، وقال: "إنما تُفْتَنُ يهود". قالت عائشة: فلبثنا لياليَ، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هل شعرتِ أنه أُوحِىَ إليَّ أنّكم تُفتنون في القبور؟". قالت عائشة: فسمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بَعْدُ يستعيذُ من عذاب القبر. (أخرجه مسلم: رقم 584) .
وقد شرحه الطحاوي في مشكل الآثار (13/191 - 198)، والقرطبي في المفهم (2/207 - 208) والنووي في المنهاج شرح مسلم (3/87- 88) وغيرهم: بما دلَّ عليه ظاهر الحديث: أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- نفى فتنة القبر أوّلًا عن أهل التوحيد، اجتهادًا منه، لمّا وجد أماراتٍ تدلُّ على أن عذاب القبر خاصٌّ بالكفار. ثمّ أُوحي إليه بأن من أهل التوحيد من يُعذّب في قبره، فرجع عن اجتهاده، وأخبر بما نزل عليه به الوحي في ذلك.
وفي هذا الحديث إلزامٌ قويٌّ لمن احتجّ باجتهاد النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في أمور الدنيا وخطأه فيها، كما في حديث تأبير النخل، على أن السنة في أمور الدنيا ليست وحياً. فهذا الحديث وقع فيه للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- اجتهادٌ في أمر عقدي من أمور الدين، وأخطأ فيه، فهل سيلتزمون بطريقة استدلالهم: أن السنة في أمور العقيدة أو الدين عمومًا ليست وحيًا؟! هذا مما يدل على وهاء استدلالهم.(1/81)
الله عليه وسلم-, مما يدل على حصول الاجتهاد منه -صلى الله عليه وسلم-, ووقوع الخطأ، وأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقرّ عليه.
ومن ذلك أيضاً: حديث عائشة ل، قالت: دخل عليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وعندي امرأةٌ من اليهود، وهي تقول: هل شعرت أنكم تُفْتَنُون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، وقال: "إنما تُفْتَنُ يهود". قالت عائشة: فلبثنا لياليَ، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هل شعرتِ أنه أُوحِىَ إليَّ أنّكم تُفتنون في القبور؟". قالت عائشة: فسمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بَعْدُ يستعيذُ من عذاب القبر. (1)
قال العلماء (2) : " إن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- نفى فتنة القبر أوّلًا عن أهل التوحيد، اجتهادًا منه، لمّا وجد أماراتٍ تدلُّ على أن عذاب القبر خاصٌّ بالكفار. ثمّ أُوحي إليه بأن من أهل التوحيد من يُعذّب في قبره، فرجع عن اجتهاده، وأخبر بما نزل عليه به الوحي في ذلك.
وفي هذا الحديث إلزامٌ قويٌّ لمن احتجّ باجتهاد النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في أمور الدنيا وخطأه فيها، كما في حديث تأبير النخل، على أن السنَّة في أمور الدنيا ليست وحياً. فهذا
__________
(1) - أخرجه مسلم رقم( 584)
(2) - وقد شرحه الطحاوي في مشكل الآثار (13/191 - 198)، والقرطبي في المفهم (2/207 - 208) والنووي في المنهاج شرح مسلم (3/87- 88) وغيرهم: بما دلَّ عليه ظاهر الحديث(1/82)
الحديث وقع فيه للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- اجتهادٌ في أمر عقدي من أمور الدين، وأخطأ فيه، فهل سيلتزمون بطريقة استدلالهم: أن السنَّة في أمور العقيدة أو الدين عمومًا ليست وحيًا؟! هذا مما يدل على وهاء استدلالهم.
وفي ذلك يقول القاضي عياض (ت544هـ) في "الشفا بتعريف حقوق المصطفى": "وأمّا أقواله الدنيويّة: من إخباره عن أحواله وأحوال غيره، وما يفعله أو فعله، فقد قدّمْنا أن الخُلفَ فيها ممتنع عليه من كل حال وعلى أي وجهٍ: من عمدٍ أو سهوٍ، أو صحّةٍ أو مرضٍ، أ و رضيً أو غضب. وأنه - - صلى الله عليه وسلم - معصومٌ فيما طريقُه الخبر المحض مما يدخله الصِّدْقُ والكذب" (1) .
وبذلك نخلص أن اجتهاد النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا والدِّين لا يُخْرِجُ السنَّة عن أن تكون بوحي؛ لأن اجتهاده - - صلى الله عليه وسلم - في بعض المسائل لا ينفي أنه كان يُوحَى إليه بسنن غيرها ابتداءً (وهذا محلّ إجماع)، وأمّا اجتهاده - - صلى الله عليه وسلم - : فهو إما أن يُقَرَّ عليه من ربّه -عز وجل-، وهو الغالب, بدليل قلّة المسائل التي صُوّبَ فيها اجتهاده -صلى الله عليه وسلم-, وبدليل أنه -صلى الله عليه وسلم- أَوْلَى الخلق بإصابة الحقِّ.
فيكون بهذا الإقرار منزَّهًا عن الخطأ، وإمّا أن يُصَوَّبَ اجتهادُه بنزول الوحي عليه بكتابٍ أو سنَّةٍ ببيان أنه أخطأ وأن الصواب كذا وكذا، وهو بهذا التصويب عُصِم من نَقْصِ البلاغ أو تكذيب الواقع لخطابه - - صلى الله عليه وسلم - .
وهذا التقرير البالغ هو الذي يفيدنا التقرير التالي، الذي به تتحرَّر المسألة، وينحلّ محلّ النزاع، وهو: أنّ السنّة وحيٌ: حالًا أو مآلًا، أي إنها وحي: ابتداءً، أو انتهاء (بالإقرار أو التصويب).
وأنت تلحظ في هذين الجوابين أنهما يعودان بالاجتهاد النبوي إلى أنه معبِّرٌ عن مراضي الله تعالى في التشريع: إمّا بعصمة النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الخطأ في الاجتهاد، أو بعدم إقراره -صلى الله عليه وسلم- على الخطأ، فما أُقرَّ عليه (وهو الغالب) فهو مُقَرٌّ عليه من الله تعالى، فالله تعالى راضٍ عنه. وما لم يُقرَّ عليه، فقد بلَّّغنا رسول الله -صلى الله عليه
__________
(1) - الشفا -مع شرحه لملّا علي القاري- (4/471).(1/83)
وسلم- فيه عن مراضي الله، فكان اجتهادُه -صلى الله عليه وسلم- الأول كالمنسوخ ببلاغه الثاني لتصويب الله تعالى الذي جاء كالناسخ له.
ولم يقل أحدٌ من أهل العلم، لا من السلف ولا من الخلف: إن ما لم يُقرَّ عليه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلى وفاته مشروعٌ يجوز العمل به، وكيف يقول هذا أحدٌ وهو -صلى الله عليه وسلم- لم يُقرَّ عليه من ربّه عز وجل. فهذا الصِّنف من اجتهاداته -صلى الله عليه وسلم- خارجُ محلِّ النقاش أصلاً، ولا ينازع فيه أحد. وأمّا ما سواه: فقد أفادنا الجوابان السابقان أنّ الاجتهاد النبوي فيه معّبِّرٌ عن مراضي الله عز وجل، في التشريع، وبالتالي فهو وَحْيٌ، لكنه وَحْيٌ مآلاً.
وبذلك تصحّ تلك الأوامرُ المطلقةُ والنصوصُ العامةُ التي أضاء بها الكتاب وتلألأت بها السنة: الدالةُ الدلالةَ القطعيةَ: على وجوب تصديق خبره - - صلى الله عليه وسلم - ، وطاعة أوامره - - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه - - صلى الله عليه وسلم - (وبعد وفاته) لا يُحتملُ أن يكون في أقواله وأخباره ما لم يُقرّه الله تعالى، وبالتالي: فجميع ما لم يُصَوَّب من أقواله - - صلى الله عليه وسلم - فكُلُّه وحي من الله تعالى، وما صُوِّب فقد بلَّغ - - صلى الله عليه وسلم - عن ربّه -عز وجل- ذلك التصويب، وبقي هذا التصويب دليلًا من أدلّة نبوّته - - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنّ مدّعي النبوّة كذبًا لن يحرص على الدلالة على أنه قد وقع في الخطأ! والأهم في ذلك: أنه بهذا التبليغ للتصويب قد تمَّ البلاغُ وحُفِظَ الدين وعُصمت السنَّةُ من أي سببٍ يدعو إلى التردّد في الطاعة أو التصديق.
وبذلك يتّضح أنه لا فرق بين ما صدر عن النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - بوحي ابتداءً وما صدر عنه " باجتهاد : في وجوب التصديق لخبره والطاعة لأمره ؛ فكما كان الموحَى به إليه ابتداءً لا خلاف في وجوب ذلك فيه , فكذلك الاجتهادُ منه" ؛ لأنه مُوحَى به إليه انتهاءً بالإقرار . فلا فرق بين سنة النبيّ " , فكلُّها وحيٌ يُوجِبُ التصديق والطاعة , بدلالة عمومات النصوص السابقة في الكتاب والسنة , والتي لم تُخصِّصْ سنةً من سننه " : لا سنةَ الوحي ابتداءً ولا سنة الوحي انتهاءً , ولا سنَّةَ الدِّين ولا سنةَ الدنيا . فالعموماتُ تشملُ جميع السنة, ولم تُخرج منها شيئًا . بل من تلك النصوص ما ورد في وجوب طاعته " في اجتهاده خاصة, ومنها ما ورد في وجوب طاعته في أمور الدنيا على وجه التحديد .(1/84)
ومن هنا أدخل في الجواب عن الحديث الذي جعله بعضهم مُتّكأَهُ لردّ كثير من السُّننِ الثابتة عنه - - صلى الله عليه وسلم - , لا من جهة عدم صحّتها عنه - - صلى الله عليه وسلم - عندهم، وإنما من جهة أنها اجتهادٌ قابلٌ للصواب والخطأ. فهم قد لا يُعارضون في الثبوت، بل قد يقرّرون أن النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - قد قال ذلك الحديث؛ لكنّهم يعارضون في وجوب التصديق بما تضمّنه ذلك الحديث، وفي العمل بما دلّ عليه؛ لأنه عندهم ليس من السنّة التي هي وحيٌ.
وهذا الحديث هو عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ فَقَالَ « لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ ». قَالَ فَخَرَجَ شِيصًا (1) فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ « مَا لِنَخْلِكُمْ ». قَالُوا قُلْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ « أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ ».. (2)
وفي لفظ آخر لهذا الوجه من أوجه روايات الحديث: عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ أَصْوَاتًا. فَقَالَ « مَا هَذَا الصَّوْتُ ».
قَالُوا النَّخْلُ يُؤَبِّرُونَهُ فَقَالَ « لَوْ لَمْ يَفْعَلُوا لَصَلَحَ ». فَلَمْ يُؤَبِّرُوا عَامَئِذٍ فَصَارَ شِيصًا فَذَكَرُوا لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :« إِنْ كَانَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنَكُمْ بِهِ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ دِينِكُمْ فَإِلَىَّ ».. (3)
ووجه دلالة هذا الحديث على ما يستدلُّ به القومُ المشار إليهم آنفًا: أنه صريح في أنّ النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في أمور الدنيا، وأنه - - صلى الله عليه وسلم - لذلك قد يخطئ، وبناءً على ذلك وضع قاعدةً عامّةً لنصوصه المتعلّقة بأمور الدنيا، وأعلمنا أنّ الأمر فيها راجع إلى تحقيق المصلحة التي يعرفها أهل الدنيا، وأنه لا يلزمنا فيها اتّباع أمره - - صلى الله عليه وسلم - , وذلك عندما قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، وقال: "إذا كان شيءٌ من أمر دنياكم: فشأنكم، وإذا كان شيءٌ من أمر دينكم: فإليَّ".
هذا الحديث هو عمدة فئامٍ كبيرٍ ممّن ردّوا عامّةَ السنة أو قدْرًا منها، وجعلوه أصلًا ما أكثر ما يلهجون به في مقالاتهم وبحوثهم، وكأنّه أصل الأصول، وأصحُّ منقول!!
__________
(1) - الشِّيص: التمر الذي لم يكتمل نُمُوُّهُ ونُضْجُهُ، حتى ربّما لم يأتِ له نوى .
(2) - صحيح مسلم (6277 )
(3) - سنن ابن ماجه(2565 ) صحيح(1/85)
وأوّلُ ما يؤخذ على هؤلاء هو هذا الاعتماد المبالغ فيه وفي دلالته، حيث جعلوا هذا الحديث الوحيد أساسًا ترجع النصوص إليه؛ وكأنّه هو المُحْكَمُ الذي تؤول إليه كل نصوص القرآن والسنَّة التي تقدّم قطرةٌ من بحرها، وغرفةٌ من نهرها!!
وهذا خطأٌ منهجيّ، لا من جهة أنه نصٌّ واحد مقابل عشرات ... بل مئات النصوص، بل من جهة أنّهم لم يُمعنوا النظر في ألفاظ الرّواية، لينظروا هل هي دالةٌ على ما يريدون، أم لا تدل؟ وهذا الخطأ كان سيكون مقبولًا، لو لم يكن هذا الاستدلالُ يخالف جميع تلك النصوص.
أمَا وقد خالفها، فكان هذا يوجب عليهم عميق النظر والدراسة.
وقبل الدخول إلى مناقشتهم في انتقائيّتهم لأحد ألفاظ الرواية؛ لأنها هي الرواية التي يؤيّد لفظُها مُرادَهم، أودّ مُبَاحَثَتَهم في أصل استدلالهم باللفظ الذي أوردوه واستدلّوا به:
فأقول لهم: ما المراد بأمر الدنيا الذي تجعلونه ممّا لا يرُجع فيه إلى السنّة؟ حيث إنه يدخل في أمر الدنيا كلّ ما لا يدخلُ في أمر العقائد والعبادات المحضة: كالمعاملات: من بيع وشراء، ونكاح وطلاق، وآداب للحديث واللباس والطعام والشراب وعموم الأخلاق ... وغير ذلك.
فإن قالوا: المقصود جميعُ ما ذُكر، لدخوله تحت دلالة قوله (أمر الدنيا)، كان هذا القول منهم دليلًا على سقوط فهمهم وبطلانه؛ لأنه خالف قطعيّات الكتاب والسنَّة الدالة على وجوب طاعة النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - فيما ذُكر من أمور المعاملات والآداب والأخلاق، وخالف أيضًا إجماعَ العلماء: فهذه كتب الفقه على جميع المذاهب وكتب العلم لدى جميع أهل العلم: حفيلةٌ بنصوص السنَّة في ذلك، عظيمةُ العناية بالاهتداء بنورها، مستضيئةٌ بهدايتها.
وإن قالوا: بل بعض ذلك دون بعض، كأحاديث الطبّ.
قلنا: وما دليل هذا التخصيص؟ ثم إن الحديث الذي تحتجّون به ليس في الطب، بل النصّ الذي تعتمدونه ظاهره العموم (أمر الدنيا). فالتخصيص بلا دليل، دليلٌ على بطلان ذلك القيل.(1/86)
وبذلك نخلص أن هذا الفهم باطلٌ من أساسه؛ فلا عُمومُهُ مقبول، ولا خُصوصُه بالذي يُساعدهُ الدليل؛ بل بُطلان طرفيه أوضحُ مِنْ أن يحتاجَ إلى شيءٍ من التطويل.
وهذا يكفي لانعقاد القلوب على خلاف هذا الفهم، وعلى أن نعلم علم اليقين أن معارضة النصوص القاطعة في الكتاب والسنة بهذا الفهم السَّقيم لهذا الحديث غير قويم.
فإن قيل: فما الفهم الصحيح لهذا الحديث؟
قيل: هو أن تجمع طرق الحديث، وتنظر في ألفاظه أوّلًا:
فقد روى هذا الحديث مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ فَقَالَ « مَا يَصْنَعُ هَؤُلاَءِ ». فَقَالُوا يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِى الأُنْثَى فَيَلْقَحُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا أَظُنُّ يُغْنِى ذَلِكَ شَيْئًا ». قَالَ فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ فَقَالَ « إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنِّى إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلاَ تُؤَاخِذُونِى بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّى لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ».. (1)
ورواه رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ قَالَ قَدِمَ نَبِىُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ فَقَالَ « مَا تَصْنَعُونَ ». قَالُوا كُنَّا نَصْنَعُهُ قَالَ: « لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا ». فَتَرَكُوهُ فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ - قَالَ - فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: « إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ رَأْىٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ». قَالَ عِكْرِمَةُ أَوْ نَحْوَ هَذَا. قَالَ الْمَعْقِرِىُّ فَنَفَضَتْ. وَلَمْ يَشُكَّ. (2) .
وسنقف مع هذين اللفظين عدة وقفات:
أوّلاً: جاء التصريح في كلا اللفظين من النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - أنه لم ينههم عن تلقيح النخل إلا بناءً على الاجتهاد، ووضّح لهم - - صلى الله عليه وسلم - ابتداءً أنه لا يقول ما يقوله في ذلك اعتمادًا على خبر السماء، بل اعتمادًا على ظنّه واجتهاده. فقد قال في رواية طلحة -رضي الله عنه-: "ما أظن يغني ذلك شيئًا"، وقال في رواية رافع -رضي الله عنه- : "لعلكم لو لم تفعلوا كان
__________
(1) - صحيح مسلم(6275 )
(2) - صحيح مسلم (6276) -يأبر : يلقح = نفضت : أسقطت ثمرها(1/87)
خيرًا"، ومن المعلوم أنه لو كان ما قاله في شأن تلقيح النخل وحيًا لما قال: "أظن" ولا "لعلكم"، فهذان اللفظان قاطعان لمن سمعهما منه - - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يُخبر عن وحي السماء, وإنما يُخبر عن اجتهاده.
وهذا التنبيه يوجب علينا التفريق بين نصٍّ نبويٍّ صريح بأنه اجتهادٌ غير مجزوم به، مثل هذا النص, ومن أمثلته أيضاً حديث ثابت بن يزيد الأنصاري -رضي الله عنه-، قال: كنّا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جيش، فأصبنا ضِبَابًا، فشويت منها ضَبًّا، فأتيتُ به النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فجعل ينظر إليه ويُقلِّبُه, وقال: " إن أُمّةً مُسخت، لا يُدْرَي ما فَعَلت، وإني لا أدري لعل هذا منها ". فما أمر بأكلها، ولا نهى. (1)
وحديث أَبِى سَعِيدٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ إِنِّى فِى غَائِطٍ مَضَبَّةٍ وَإِنَّهُ عَامَّةُ طَعَامِ أَهْلِى - قَالَ - فَلَمْ يُجِبْهُ فَقُلْنَا عَاوِدْهُ. فَعَاوَدَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ثَلاَثًا ثُمَّ نَادَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى الثَّالِثَةِ فَقَالَ « يَا أَعْرَابِىُّ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ أَوْ غَضِبَ عَلَى سِبْطٍ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ فَمَسَخَهُمْ دَوَابَّ يَدِبُّونَ فِى الأَرْضِ فَلاَ أَدْرِى لَعَلَّ هَذَا مِنْهَا فَلَسْتُ آكُلُهَا وَلاَ أَنْهَى عَنْهَا ». (2)
وحديث أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ لاَ يُدْرَى مَا فَعَلَتْ وَلاَ أُرَاهَا إِلاَّ الْفَأْرَ أَلاَ تَرَوْنَهَا إِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الإِبِلِ لَمْ تَشْرَبْهُ وَإِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ شَرِبَتْهُ ». (3)
ثم إن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أُوحي إليه بما صحّ من حديث عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : وَذُكِرَتْ عِنْدَهُ الْقِرَدَةُ قَالَ مِسْعَرٌ وَأُرَاهُ قَالَ وَالْخَنَازِيرُ مِنْ مَسْخٍ فَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِمَسْخٍ نَسْلاً وَلاَ عَقِبًا وَقَدْ كَانَتِ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ قَبْلَ ذَلِكَ ». (4)
__________
(1) - أخرجه أبو داود: رقم( 3789) والنسائي: رقم( 4320 - 4322) وابن ماجه: رقم(3238) بإسناد صحيح.
(2) - صحيح مسلم (5156 )
(3) - صحيح مسلم(7688 )
(4) - صحيح مسلم(6941)(1/88)
فتبيّن أن ما قاله -صلى الله عليه وسلم- في شأن الضبّ والفأر كان ظنًّا (كما جاء مصرِّحًا به)، ثم أُوحي إليه -صلى الله عليه وسلم- بأن المُسُوخ لا نسل لها. فقطع بذلك دون ظنّ أو تردّد. (1)
ونصٍّ آخر صدر منه - - صلى الله عليه وسلم - على وجه القطع وعدم الشك، فهذا حقٌ مطلقًا،إلا أن يُصوّبه النبي - - صلى الله عليه وسلم - بما يُوحَى إليه من قرآن أو سنّة.
ثانيًا: أن الخطأ في هذا الحديث قد وقع من الصحابة الذين تركوا تلقيح النَّخل (2) ؛ لأنهم حملوا ظنّ النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - على عدم احتمال الخطأ، وكأنه وحيٌ، فقدّموا ظنّه - - صلى الله عليه وسلم - على ما علموه يقينًا من ضرورة تلقيح النخل!!
قال المناوي في (فيض القدير): « قوله: "إنما أنا بشر" يعني: أُخطئ وأُصيب فيما لا يتعلّق بالدين؛ لأن الإنسان محلُّ السهو والنسيان، ومراده بالرأي: في أمور الدنيا، على ما عليه جمعٌ. لكنّ بعض الكاملين قال: أراد به الظنّ؛ لأن ما صدر عنه برأيه واجتهاده وأُقِرَّ عليه حُجَّةُ الإسلام مطلقًا » (3) .
وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء الكاملون، هو الذي يدلّ عليه لفظ الحديث وسياقُه، فاحرص أن تكون من الكاملين!!
فإنك إن نظرت في لفظ الحديث بروايتيه السابقتين، تجد أنه - - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم بظنّه المصرَّح بأنه ظنّ، ثم لمّا أخذوا بظنِّه قال لهم: (( إنما ظننتُ ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظنّ ))، أي ما دمتُ قد صَرّحتُ لكم بأني أظنّ فلا مؤاخذةَ عليَّ، ثم إنه - - صلى الله عليه وسلم - جعل الذي يُقابل الظن: ما أخبر به عن الله تعالى، فقال: (( ولكن إذا حدثكم عن الله شيئًا فخذوا به )). إذن فليس هناك إلا ظنٌّ أو وحيٌ، والظنّ هو ما صرَّح بكونه ظنًّا، والوحي ما قطع به وأُقرّ عليه؛ لأنه - - صلى الله عليه وسلم - لا يُقَرّ على خطأ.
__________
(1) - وهذا ما قرّره الطحاوي في شرح مشكل الآثار (8/325-327، 328، 338 رقم 3273 - 3288).
(2) - هذا ما صرح به شيخ الإسلام إن تيميه (مجموع الفتاوى: 18/12) .
(3) - فيض القدير (2/567) .(1/89)
ويشهد لذلك أيضًا اللفظ الآخر، فإنه - - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إنما أنا بشر، فإذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي، فإنما أنا بشر ))، فتنبّه أنه قابَلَ بين الدين والرأي (أي: الاجتهاد الظنّي)، ولم يُقابل بين الدين والدنيا.
والمعنى: أنّ السنّة التي من الدِّين (أي من الوحي) هي التي لم تكن باجتهاد، وليست هي التي تكون في أمور الدنيا مطلقًا. فسياق الحديث دلّ الصحابة على الطريقة التي يفرّقون بها بين سنة الدين والرأي (الاجتهاد)، ولم يأت في الحديث ما يفرّقون به بينهما؛ إلا تصريحُه بأنه قال ما قال عن ظنّ واجتهاد. فالحديث جاء للتفريق بين النصّ الذي يُصَرَّح فيه بأنه ظنّ، والنصّ الآخر القاطع، وقد قال الطحاوي معلّقاً على هذا الحديث: " فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَا قَالَهُ مِنْ جِهَةِ الظَّنِّ , فَهُوَ فِيهِ كَسَائِرِ النَّاسِ فِي ظُنُونِهِمْ , وَأَنَّ الَّذِي يَقُولُهُ , مِمَّا لَا يَكُونُ عَلَى خِلَافِ مَا يَقُولُهُ هُوَ مَا يَقُولُهُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . فَلَمَّا كَانَ نَهْيُهُ عَنِ الْغَيْلَةِ , لِمَا كَانَ خَافَ مِنْهَا عَلَى أَوْلَادِ الْحَوَامِلِ , ثُمَّ أَبَاحَهَا " (1) .
فتنبهْ أن الطحاوي (رحمه الله) جعل القِسْمَةَ: ظنًّا ووحيًا، لا دنيا ودين، وهذا هو موطن الشاهد في كلامه، وهو واضح الدلالة لمن تأمله.
أمَّا ما اجتهد فيه النبي - - صلى الله عليه وسلم - وأخبر به جازمًا، ثم صَوّبه الوحي بعد ذلك؛ فهذا وَجْهٌ آخر للتفريق بين سنَّة الوحي والاجتهاد منه - - صلى الله عليه وسلم - الذي ليس بوحي، بأن يُقال في هذا الوجه: إنّ ما أُقر عليه النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - فهو وحيٌ، وما صُوّبَ فقد عرفنا بالتصويب أنه ما قاله قبله ليس وحيًا.
وقد سبق أ ن ما اجتهد فيه النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - وصَوّبه له الوحي لا يختصُّ بأمور الدنيا, فقد اجتهد النبيّ في أمور الدين أيضًا وصَوّب الوحي له اجتهاده. فإن كان مجرّد تصويب الوحي لاجتهاده - - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا سببًا لاعتقاد أنها ليست وحيًا، فيلزم أن يكون تصويب الوحي لاجتهاده - - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدين سببًا لاعتقاد أنها ليست وحيًا أيضًا!!
__________
(1) - شرح معاني الآثار (3/48) (2854 ) و وانظر أيضا قوله (4538)(1/90)
وهذا ما لا يقوله إلا غُلاة أهل الضلال؛ لأنه يخالف قطعيات الكتاب والسنَّة وإجماع علماء المسلمين وعوامّهم.
وبذلك نخلص أن الشرع المحفوظ ونصوصه المصونة قد جعلا لنا وسيلتين للتمييز بين: سنَّة الوحي التي لا تحتملُ إلا الصدق وتوجب العلم أو العلم والعمل، وسنة الاجتهاد التي تحتمل الصواب والخطأ.
وهاتان الوسيلتان هما:
(1) ما صرّح النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - فيه بأنه يقوله عن ظنّ واجتهاد .
(2) وما لم يُقرّه عليه الوحي، فصوّبه له. وما سوى ذلك وحيٌ مطلقًا, سواءٌ أكان في أمور الدين أو أمور الدنيا.
ولذلك لمّا سُئل شيخ الإسلام ابن تيميّة: ما حدُّ الحديث النبوي؟ مَا قَالَهُ فِي عُمُرِهِ أَوْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ أَوْ تَشْرِيعًا فَكُلُّ مَا قَالَهُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَأَقَرَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْسَخْ فَهُوَ تَشْرِيعٌ لَكِنَّ التَّشْرِيعَ يَتَضَمَّنُ الْإِيجَابَ وَالتَّحْرِيمَ وَالْإِبَاحَةَ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَنَافِعِ فِي الطِّبِّ . فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ إبَاحَةَ ذَلِكَ الدَّوَاءِ وَالِانْتِفَاعَ بِهِ فَهُوَ شَرْعٌ لِإِبَاحَتِهِ وَقَدْ يَكُونُ شَرْعًا لِاسْتِحْبَابِهِ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ تَنَازَعُوا فِي التَّدَاوِي هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ أَوْ وَاجِبٌ ؟ .
وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُبَاحٌ ؛ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ وَهُوَ : مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ بَقَاءُ النَّفْسِ لَا بِغَيْرِهِ كَمَا يَجِبُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عِنْد الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ قَالَ مَسْرُوقٌ : مَن اُضْطُرَّ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَقَدْ يَحْصُلُ أَحْيَانًا لِلْإِنْسَانِ إذَا اسْتَحَرَّ الْمَرَضَ مَا إنْ لَمْ يَتَعَالَجْ مَعَهُ مَاتَ وَالْعِلَاجُ الْمُعْتَادُ تَحْصُلُ مَعَهُ الْحَيَاةُ كَالتَّغْذِيَةِ لِلضَّعِيفِ وَكَاسْتِخْرَاجِ الدَّمِ أَحْيَانًا . وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ جَمِيعَ أَقْوَالِهِ يُسْتَفَادُ مِنْهَا شَرْعٌ وَهُوَ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا مرَّ بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ فَقَالَ: « مَا يَصْنَعُ هَؤُلاَءِ ». فَقَالُوا يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِى الأُنْثَى فَيَلْقَحُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا أَظُنُّ يُغْنِى ذَلِكَ شَيْئًا ». قَالَ فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ فَقَالَ « إِنْ كَانَ(1/91)
يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنِّى إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلاَ تُؤَاخِذُونِى بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّى لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ » (1) .
وَقَالَ : « إِذَا كَانَ شَىْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ فَإِذَا كَانَ مِنْ أَمْر دِينِكُمْ فَإِلَىَّ » (2) . وَهُوَ لَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ التَّلْقِيحِ لَكِنْ هُمْ غَلِطُوا فِي ظَنِّهِمْ أَنَّهُ نَهَاهُمْ كَمَا غَلِطَ مَنْ غَلِطَ فِي ظَنِّهِ أَنَّ ( الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ ) و ( الْخَيْطَ الْأَسْوَدَ ) هُوََ الْحَبْلُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ ». (3)
ثالثًا: قوله - - صلى الله عليه وسلم - في اللفظ الذي يحتجّ به المخالفون: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، لم يأت مبتورًا بلا قصّة، ولا كان هو اللفظ الوحيد الذي جاء به هذا الخبر، والروايات الصحيحة يفسّر بعضها بعضًا، بل هي أولى ما يُفسَّر به الحديث.
فالنبيّ - - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، إنما قاله لما صَرّح لهم بالظنّ والاجتهاد، وما دام هذا هو سياق الخبر، فالمعنى على هذا السياق: إذا أخبرتكم بالظنّ وكان عندكم يقينٌ بخلافه مما تعلمونه من أمور دنياكم (4) ، فقدّموا يقينكم بالأمر الدنيوي على ظنّي فيه .
ومن ثَمَّ: لم يكن قوله - - صلى الله عليه وسلم - : "أنتم أعلم بأمر دينكم" قاعدةً عامّةً في أمور الدنيا، ولا يصحّ أن يُتصَوَّر هذا في عموم العقلاء والحكماء أصلًا، فضلًا عن النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - . فإنه مما لا شكَّ فيه أن النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - كان له من العقل والحكمة ما يجعله باجتهاده أقدرَ على تسيير كثير من أمور الدنيا في السياسة العامة وترتيب أمر الدولة وإصلاح المجتمع وغير ذلك بما لا يصل إليه أعلمُ أهل الدنيا علمًا بها. فكيف يصحُّ تصوّرُ فَهْمِ المخالفين، من أن قوله - - صلى الله عليه وسلم - : "أنتم أعلم بأمر دنياكم" قاعدةٌ عامّةٌ في كل أمور الدنيا؟!!
هلّا أنزلوا النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - منزلة عامة العقلاء الذين لا بدّ أن يكون للواحد منهم من اليقين في أمور الدنيا اليقينيّاتُ الكثيرة!!
__________
(1) - صحيح مسلم(6275)
(2) - مسند أحمد (12880) صحيح
(3) - مجموع الفتاوى - (ج 18 / ص 11)
(4) - لأن أمور الدين لا يمكن أن يكون عندهم فيها يقينٌ، ولا يكون عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه إلا الظنّ!(1/92)
إذن فيلزمهم أن لا يقولوا: إن ذلك النصّ قاعدةٌ عامّة, بل عليهم أن يقولوا: إن المقصود به بعض أمور الدنيا لا كلّها، أو بعض أخباره - - صلى الله عليه وسلم - عن أمور الدنيا لا كُّ أخباره - - صلى الله عليه وسلم - عنها. ثم لابُدّ بعد هذا التبعيض أن يبيّنوا كيفيّة تمييز هذا النوع من ذاك، وإلا أدّى عدم التمييز إلى إبطال الكل، وما هذا في السوء إلا كالذي هربنا منه، من إنزال النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - دون منزلة بقية العقلاء؛ لأن القولين أدّيا إلى ردِّ كل أخباره - - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا، وكأنّ النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - عندما قال لهم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" على هذا الفَهْم السقيم يُشرّع لهم مخالفته في كل أمور الدنيا، وكأنه يقول لهم: لا تطيعوني في أمور دنياكم أبدًا، إنما الطاعة في الدين فقط!!! وما أقبح هذا من فهم!! وما أسوأ أثره على الدين والدنيا!!!
ونحن نعلم أن هناك فرقًا بين أحكامه - - صلى الله عليه وسلم - في حوادث خاصّة، مما لا عموم لها، كحكمه بين الخصوم للقضاء، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِى لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ ». (1)
مما يُعبّر عنه العلماء بأنه حادثة عين لا عموم لها، فهناك فرقٌ بين هذه وبين إطلاقاته العامّة التي لا علاقة لها بفرد ولا اختصاص لها بأحد، وإن كان بعضُها قد جاء لسبب، إذا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
وهذه الأحكام الخاصّة التي لا عموم فيها (كحكمه - - صلى الله عليه وسلم - على سبيل القضاء والإمامة والسياسة) هي التي ربما عَبّر عنها العلماء بأمور الدنيا، التي لا يلزم أن تكون بوحي، بل التي قد يحكم النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - فيها بحكم ولا يُصَوَّب ويكون مخالفًا للواقع. لأنّ الخطأ في هذه الأمور لا يؤدّي إلى خطأ في التصوّر للأمة كلها إلى قيام الساعة، ولا يَفْهَمُ الناسُ منه أنه حكمٌ يتعدَّى إلى غير من حُكم له أو عليه، ولا يَؤُولُ إلى خلل في بلاغ الدين.
لذلك لو أخطأ النبي -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذه الأمور ولو لم يصوَّب هذا الخطأ لا يكون في ذلك خطر على صحّة تبليغ الشريعة، ولا يؤدّي ذلك الخطأ -لو وقع- إلى تحريف معالم الدِّين؛ ولذلك لم يكن هناك ضرورة مطلقةٌ إلى تصويب مثله. وهذا بخلاف
__________
(1) - صحيح مسلم(4570) -الألحن : الأعرف والأقدر على بيان مقصوده(1/93)
الخبر الجازم من النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، الذي يفهم المخاطَبون به أنه حقٌّ وصِدْق، وهو بخلاف ذلك، فيما لو أُقر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فيه على الخطأ. فإنه يؤدّي إلى تحريف الحقيقة، وتشويه الدين..
ولذلك عَلّق القاضي عياض على حديث التأبير بقوله: « وقول النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - ها هنا للأنصار في النخل ليس على وجه الخبر الذي يدخله الصدق والكذب، فَيُنَزَّهُ النبيُّ - - صلى الله عليه وسلم - عن الخُلْف فيه، وإنما كان على طريق الرأي منه, ولذلك قال لهم : (( إنما ظننت ظنًا, وأنتم أعلم بأمر دنياكم)) (قال القاضي:) وحكمُ الأنبياء وآراؤهم في حكم أمور الدنيا حكمُ غيرهم، من اعتقاد بعض الأمور على خلاف ما هي عليه، ولا وُصِمَ عليهم في ذلك، إذ هِمَمُهُم متعلّقةٌ بالآخرة والملأ الأعلى وأوامِر الشريعةِ ونواهيها، وأمرُ الدنيا يُضادُّها » (1) .
فانظر كيف جعل سبب عدم عَدِّ ما وقع منه - - صلى الله عليه وسلم - في هذا الخبر خُلْفًا للواقع هو أنه رأيٌ وظنٌّ واجتهادٌ، ولم يجعل السبب أنه من أمور الدنيا. ولذلك لمّا ساوى بين الأنبياء وغيرهم في أحكام الدنيا ينبغي أن يُحْمَل قوله على أحد أمرين: إمّا على مساواة ظنّهم واجتهادهم في احتماله الخطأ لظنّ غيرهم في مطلق هذا الاحتمال، وهو الذي يشهد له فاتحة كلامه. وإمّا أن يُحملَ على حوادث الأعيان التي لا عموم لها، فاجتهادهم فيها غير معصوم.. لا ابتداءً ولا انتهاءً.
وكيف يُفهم كلام القاضي عياض على خلاف ذلك، وقد نقلنا آنفًا كلامًا له يقطع بأنه لا يخالفه, والذي قال في خاتمته متحدثًا عن أقواله - - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا: « وأنه - - صلى الله عليه وسلم - معصومٌ من الخُلْف، هذا فيما طريقُه الخبر المحض, مما يدخله الصدق والكذب» (2)
فالجمعُ بين قوليه يُبَيِّنُ مُرادَهُ بوضوح، خاصة مع تنبيهه (رحمه الله) أن كلامَ النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - في تأبير النخل لم يكن خبرًا أصلًا، وإنما كان ظنًّا؛ لأن الخبر هو الذي يحتمل التصديق والتكذيب، وأمّا الظن فلا يحتملهما، وإن كان يحتمل التخطئ والتصويب. وهذا هو
__________
(1) - إكمال المعلم للقاضي عياض (7/334-335).
(2) - الشفا للقاضي عياض - مع شرحه لملا علي القاري- (4/471).(1/94)
الفرق بين: القول الجازم وهو الخبر المحض، فلا يصحُّ اعتقادُ خُلْفِه؛ لأنّ الخُلْفَ فيه يدلُّ على التكذيب. وأمّا الظنّ والاجتهاد فاعتقادُ الخُلْفِ فيه لا يدلُّ إلا على اعتقاد الخطأ، فلم يكن فيه معارضة لمقام النبوّة.
رابعًا: في هذا الحديث (حديث تأبير النخل) حجّةٌ قويّةٌ على المخالفِين، من جهة إظهار الفهم الذي كان مستقرًّا في قلوب الصحابة -رضي الله عنهم- عن سنَّة النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - ، ولو كانت في أمرٍ من أمور الدنيا. فإنهم -رضي الله عنهم- ما إن سمعوا بإرشاده في ترك التأبير، حتى سارعوا بتركه دون مراجعة، وهُمْ أهل النخل العارفون بضرورة تأبير النخل لإصلاحه. فقدّموا ما فهموا أنه جزمٌ منه - - صلى الله عليه وسلم - , فَرجَّحُوهُ على يقينهم؛ لأن اليقين المتلقَّى عن الوحي أقوى من أي يقين سواه؛ فإن الله قادرٌ على تبديل السُّنَن، والسنن لا تخالف أمر الله تعالى.
ثم إن النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - لم يخطئهم في اتباعهم لأمره، ولو كان من أمور الدنيا، بل خطّأهم في عملهم بظنّه الذي صرّح لهم فيه أنه مجرّد ظنّ: "إني إنما ظننت ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن". وقد تقدّم بيان هذا، أنّ خطأهم في اتّباعهم الظنّ مع معارضته ليقينهم، لا في اتّباعهم له في أمر من أمور الدنيا.
فالصحابةُ -رضي الله عنهم - قد بلغ تعظيمهم لأمر النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - في أمر الدنيا والدين، أنهم قدّموا ظنونه - - صلى الله عليه وسلم - على يقينيّاتهم!!
ما أبعد هذا ممّن أراد أن يقدّم ظنون نفسه على يقينيّاته - - صلى الله عليه وسلم - !!! وهي كل خبر جازم أقرّه الله تعالى عليه، سواء أكان في دين أو دنيا.
وللصحابة من الحوادث التي تُثبت أن هذا هو ما فهموه من علاقته - - صلى الله عليه وسلم - بالوحي ما لا يدخل تحت الحصر، ومن أصرح ذلك: ما جاء في قصّة الأحزاب، من مَيْل النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - إلى مصالحة غطفان على نصف تمر المدينة، لينفضّوا عن الأحزاب.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : جَاءَ الْحَارِثُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : نَاصِفْنَا تَمْرَ الْمَدِينَةِ ، وَإِلَّا مَلَأْتُهَا عَلَيْكَ خَيْلًا وَرِجَالًا ، فَقَالَ : " حَتَّى أَسْتَأْمِرَ السُّعُودَ : سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ ، وَسَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ " يَعْنِي : يُشَاوِرُهُمَا ، فَقَالَا : لَا وَاللَّهِ ، مَا أُعْطِينَا الدَّنِيَّةَ مِنْ أَنْفُسِنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ،(1/95)
فَكَيْفَ وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ ؟ ! فَرَجَعَ إِلَى الْحَارِثِ فَأَخْبَرَهُ ، فَقَالَ : غَدَرْتَ يَا مُحَمَّدُ ، قَالَ : فَقَالَ حَسَّانُ : يَا حَارِ مَنْ يَغْدِرْ بِذِمَّةِ جَارِهِ مِنْكُمْ فَإِنَّ مُحَمَّدًا لَا يَغْدِرْ إِنْ تَغْدِرُوا فَالْغَدْرُ مِنْ عَادَاتِكُمْ وَاللُّؤْمُ يَنْبُتُ فِي أُصُولِ السَّخْبَرِ وَأَمَانَةُ النَّهْدِيِّ حِينَ لَقِيتُهَا مِثْلُ الزُّجَاجَةِ صَدْعُهَا لَا يُجْبَرُ قَالَ : فَقَالَ الْحَارِثُ : كُفَّ عَنَّا يَا مُحَمَّدُ لِسَانَ حَسَّانَ ، فَلَوْ مُزِجَ بِهِ مَاءُ الْبَحْرِ لَمُزِجَ . رَوَاهُ الْبَزَّارُ ، وَالطَّبَرَانِيُّ . وَلَفْظُهُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : جَاءَ الْحَارِثُ الْغَطَفَانِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، شَاطِرْنَا تَمْرَ الْمَدِينَةِ ، فَقَالَ : " حَتَّى أَسْتَأْمِرَ السُّعُودَ " ، فَبَعَثَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، وَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ ، وَسَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ ، وَسَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ ، فَقَالَ : " إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنَّ الْحَارِثَ سَأَلَكُمْ تُشَاطِرُوهُ تَمْرَ الْمَدِينَةِ ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْفَعُوهُ عَامَكُمْ هَذَا فِي أَمْرِكُمْ بَعْدُ ؟ " . فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أُوحِيَ مِنَ السَّمَاءِ فَالتَّسُلَيْمُ لِأَمْرِ اللَّهِ ، أَوْ عَنْ رَأْيِكَ وَهَوَاكَ ؟ فَرَأْيُنَا نَتَّبِعُ هَوَاكَ وَرَأْيَكَ ؟ فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ الْإِبْقَاءَ عَلَيْنَا ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتَنَا وَإِيَّاهُمْ عَلَى سَوَاءٍ ، مَا يَنَالُونَ مِنَّا تَمْرَةً إِلَّا شِرَاءً أَوْ قِرًى ،..." (1)
وفي غزوة بدر وجاء فيها " فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُبَادِرُهُمْ إلَى السّمَاءِ حَتّى إذَا جَاءَ أَدُنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ نَزَلَ بِهِ ، فقالَ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ : يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ وَلَا نَتَأَخّرَ عَنْهُ أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ؟ قَالَ بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ؟ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ فَانْهَضْ بِالنّاسِ حَتّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ ، فَنَنْزِلَهُ ثُمّ نُغَوّرُ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ ثُمّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً ثُمّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرّأْيِ . فَنَهَضَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَنْ مَعَهُ مِنْ النّاسِ فَسَارَ حَتّى إذَا أَتَى أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني (5271) والبزار (كشف الأستار: رقم 1803)، وابن الأعرابي في معجمه (رقم 1708) وهو حديث حسن
وله شواهد، فانظر: التلخيص الحبير لابن حجر (4/114 - 115)، ومرويات غزوة الخندق للدكتور إبراهيم المدخلي (134-135)(1/96)
نَزَلَ عَلَيْهِ ثُمّ أَمَرَ بِالْقُلُبِ فَغُوّرَتْ وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْقَلِيبِ الّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ فَمُلِئَ مَاءً ثُمّ قَذَفُوا فِيهِ الْآنِيَةَ " (1)
فهذا أمرٌ من أمور السياسة الحربيّة، وهو من أخص أمور الدنيا، ويدعوهم النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - للمشورة, ومع ذلك لا يبادرون بالردّ, لأنه إما وحيٌ, أو اجتهادٌ ممّن أحرى به أن يصيب الصواب!!
أين هذا ممن جعل كل خبر له - - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا، ولو كان خبرًا جازمًا ليس وحيًا؟!!
أرأيتم لو أمرهم - - صلى الله عليه وسلم - دون مشورة، ماذا كانوا سيفعلون؟! أرأيتم كيف خشوا أن يكون ما مال إليه من المصالح وحيًا؟!
مع أنه في أمر من أمور الدنيا، ومع أنه - - صلى الله عليه وسلم - يشاورهم فيه!! رحم الله الأنصار، وأبناء الأنصار!
وهذا الذي كان عليه الصحابة من طاعة النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - في كل أمر، سواء في الدين أو الدنيا، أكثر من أن يحتاج إلى انتزاع دليل عليه، أو أن نَنْصَب في تسويد صفحاتٍ فيه.
وما زال علماء الملّة كذلك، وهذه مصنّفاتهم من الموطأ للإمام مالك (ت179هـ)، إلى المسانيد والمصنّفات، إلى كتب الصحاح والسنن = كلّها لا تفرّق بين أحاديث النبي - - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا عن أمور الدين، مَنْ كان يبوّب يبوّب بما يدل عليه لفظها، ومن كان لا يبوّب يوردها بالسياق الذي يورد فيه غيرها من السنن، فلا أمور الدنيا عندهم بدون أمور الدين في وجوب التثبت لها والتحرّي في شأنها، ولا تجنّبوا العناية بتدوينها وكتابتها، بل هي أحاديثُ النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - ، كلُّها عندهم سواء. بل نصّوا على التساهل في أحاديث الترغيب والترهيب والفضائل، ولا نصّوا على التساهل في أحاديث الطِّبّ مثلًا.
والعجب ممن يترك النصوص المتواترة والأدلّة المتكاثرة وإجماعَ علماء الأمّة، ليتمسّك بقول ابن خلدون (ت808هـ) عن الطب النبوي: « والطبُّ المنقولُ في الشرعيّات من هذا القبيل (يعني الطب التجريبي)، وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمرٌ كان عاديًا للعرب، ووقَعَ في ذكر أحوال النبي - - صلى الله عليه وسلم - من نوع ذِكْر أحواله التي هي عادةٌ وجبلّةٌ، لا من جهة
__________
(1) - سيرة ابن هشام - (ج 1 / ص 620) ودلائل النبوة للبيهقي(874) صحيح مرسل(1/97)
أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل؛ فإنه - - صلى الله عليه وسلم - إنما بُعث ليعلّمنا الشرائع، ولم يُبعث لتعريف الطبّ ولا غيره من العاديات. وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم. فلا ينبغي أن يُحمل شيءٌ من الطبِّ الذي وقع في الأحاديث المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدلّ عليه. اللهم إلا إذا استُعمل على جهة التبُّرك وصدق العَقْدِ الإيماني, فيكون له أثرٌ عظيم في النفع » (1)
فلا أدري ما يأتي كلام ابن خلدون (رحمه الله) هذا مع كلام الله تعالى ورسوله - - صلى الله عليه وسلم - وإجماع أهل العلم؟!
وأمّا احتجاجُه بحديث تلقيح النخل, فقد أبطلنا حجّته، بل بانَ أنه حجّةٌ عليه!
وأمَّا قوله: إن النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - لم يُبعث لتعريف الطبّ, فما في هذا الخلاف، لكن إذا تكلّم النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - بالطبّ, كما قد وقع، فأيّهما الأكمل لشأنه - - صلى الله عليه وسلم - ؟ أن نقول: إنه لم يأت لتعريف الطبّ، وأن كلامه فيه باطل، وأنه أطلق عباراتٍ من غير يقين لتضرَّ الناسَ ولا تنفعهم!!!
أم أن نقول: إنه وإن لم يأت لتعريف الطبّ، لكن دلّ أمته بالوحي على أصول من أصول التداوي؛ كما جاء في القرآن الكريم قولُه تعالى: "يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ" [النحل:69]، وما ادُّعِيَ في القرآن لهذا ولغيره من أخبار الكون والعلوم المختلفة أنه ليس وحيًا؛ بحجّة أنه لم يأتِ إلا للشرعيّات!!!
بأيّ حجّة يُخرجُ أحاديثَ الطبِّ من النصوص الدالة على أنه - - صلى الله عليه وسلم - لا ينطقُ إلا بوحيٍ: ابتداءً، أ و إقرارًا، أ و تصويبًا. أمّا ما صرّح - - صلى الله عليه وسلم - بأنه قاله بالظن، كما في حديث تلقيح النخل، فهذا قد صَرّح - - صلى الله عليه وسلم - فيه أنه ليس وحيًا، فلا حُجّة فيه على ما قطع به؛ للتباين الكبير الواضح بين الخبرين الصادرين عنه - - صلى الله عليه وسلم - : الخبر المظنون، والمُتَيَقَّن، فهو تباينٌ واضحٌ وضوحَ الفرق بين اليقين والظنّ!.
__________
(1) - مقدمة ابن خلدون (493 - 494) .(1/98)
ولولا ضيق الوقت ونفاسة الزمان لأتيتُ على كل حديث من أحاديث الطبّ، اتّخذه بعض المعاصرين دليلًا على أنها ليست من الوحي, فأجبت عنها حديثًا حديثًا، ولكني أضع للقارئ قواعدَ الجوابِ عن استشكالاتهم على الأحاديث النبوية.
وقواعد الجواب هي:
- أن يكون الحديث غير صحيح، وربما كان باطلًا شنيع اللفظ، فيتخذونه دليلًا على أنه ليس بوحي. وكان الأولى بهم أن يتثبّتوا من صحّته أوّلًا، لكي لا ينسبوا إلى النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - ما يُنزَّهُ العقلاء عنه، فضلًا عن أفضل الخلق - - صلى الله عليه وسلم - .
- أن يكون فهمهم للحديث غير صحيح. حتى لقد وجدت بعضهم ينقل التأويل الصحيح للحديث المرويّ في الطب عن أهل العلم السابقين, ولجهله بأساليب البيان العربي يستنكر ذلك التأويل. فبدلًا من أن يفرح بأن فسّر له العلماءُ الحديثَ بما لا يخالف العلم المعاصر, إذا به يردّ ذلك التفسير؛ لأنه لابُدّ أن يُثبتَ خطأ النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الحديث!!
ليقول أخيرًا -مخالفًا مُحكمات النصوص- : إن أحاديث الطب ليست وحيًا!!!
أهذا شيءٌ يستحقّ كُلَّ ذلك التشمير؟!!
أحنظلٌ وعلى رؤوس النخل؟!!
- أن يكون العلم المعاصر لا يخالف الحديث، ومع ذلك يتسرّعون إلى ردّ الحديث بدعوى مخالفته له.
ولهذا صُور: إمّا أن الذي في العلم المعاصر مما لم يزل ظنًّا غير مجزومٍ به (نظريّة)، ومع ذلك يتّخذه دليلًا على ردّ الحديث. وإمّا أن العلم المعاصر لم يدرس ما جاء في الحديث النبوي, فلا في العلم المعاصر ما يثبته ولا ما ينافيه، ومع ذلك يردّه هؤلاء؛ لأنّ ما لم يُثبته العلم عندهم ليس بثابت!! إلى هذا الحدّ بلغ غلوّهم في العلوم العصريّة على حساب ضعف ثقتهم بالسنَّة النبويّة!!!
وإمّا أن العلم المعاصر أثبت ما جاء في الحديث النبوي، لكن لجهلهم بالعلم المعاصر, ولعدم مواكبتهم لاكتشافاته الحديثة، جهلوا أنه قد توصّل إلى ما أنكروه، ونسبوا إليه جهلًا هذا الإنكار!!!(1/99)
وأقول لهؤلاء: من أوْلى من النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - عملًا بقوله تعالى: "وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" [الإسراء: 36 ]؟!
ومن أحقّ الناس بُعْدًا عمّا عاب الله به المشركين من النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - ؟!
وذلك في قوله تعالى: "وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً" [النجم:28]
وقوله تعالى: "إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ" [الأنعام: 116]؟!!
ثم يُريد هؤلاء أن يجعلوا النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث الطبّ (وغيرها من أمور الدنيا) لا متكلّمًا بغير وحي فقط, بل متكلّماً جهلًا بغير علم !!! وحاشاه من ظنّ السوء - - صلى الله عليه وسلم - !!!
واللهِ .. لو جمعتُ ما صحّ من أحاديث الطب (وغيرها من أمور الدنيا) عن النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - , وفيها ما فيها من أحكام جازمة، وعباراتٍ ذاتِ دلالاتٍ قطعيّةٍ، ثم نسبتُها إلى غيره من الناس، وأطلعتُ أحد العقلاء عليها، على أنها مقالاتٌ صدرت من أحد الناس على الظن، وأنه أخطأ فيها .. لنسبَ الذي أطْلَعْتُهُ عليها صاحبَ تلك المقالاتِ إلى المجازفات والكذب وقلّة الأمانة أو نقص العقل!!!
أفلا يتنبّهُ هؤلاء طَيِّبُو النوايا، إلى ما في مذهبهم من خبيث الجنايا!!!
إنّي لأحبسهم لو تَنبّهوا إلى اللوازم الفاسدة من مذهبهم هذا، لكانوا أنفر الناس منه وأبعدهم عنه، وهو المظنون بعامّتهم .
وما أحسن قول العالم الفقيه الحنفي الصوفي أبي بكر الكلاباذي (ت380هـ) في كتابة (بحر الفوائد) : « وردُّ الأخبار والمتشابه من القرآن طريقٌ سهلٌ، يستوي فيه العالم والجاهل، والسفيه والعاقل. وإنما يتبيّنُ فضلُ علم العلماء، وعقل العقلاء، بالبحثِ والتفتيش، واستخراج الحكمة من الآية والسنّة، وحَمْل الأخبار على ما يوافق الأصول، وتُصحّحه العقول » (1) .
__________
(1) - بحر الفوائد للكلاباذي (356) .(1/100)
قلت : وقد قام الإجماع على وجوب طاعة النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - في كل مُحْكمٍ غير منسوخ ووجوب تصديقه في كل ما أخبر به؛ لأن هذا من المعلوم من الدين بالضرورة، ومن مقتضيات شهادة (أن محمداً رسول الله).
ولذلك قال ابن حزم في مراتب الإجماع (1) : "واتّفقوا أن كلام رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - إذا صحَّ أنه كلامه بيقين: فواجبٌ اتّباعه.. واتّفقوا أنه لا يحل ترك ما صحّ من الكتاب والسنة".
وقال أبو الحسن ابن القطان الفاسي في الإقناع في مسائل الإجماع (2) : "وأجمعوا على التصديق بما جاء به رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - في كتاب الله تعالى، وما ثبت به النقل من سائر سُننه، ووجوب العمل بمحكمه، والإقرار بنصّ بمتشابهه، وردّ كل ما لم نُحط به علمًا بتفسيره إلى الله تعالى، مع الإيمان بنصّه"..
أما الأفعال التي يفعلها النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى الجبّلة البشرية، فليست وحيًا.
وهذه مما يستدلّ العلماء كلُّهم على إباحة تلك الأفعال التي كان يفعلها النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - على وجه البشرية.
ولكنْ هل كان أحدٌ منهم يقول أو يعتقد: أن هذه الأفعال يُمكن أن تكون محرّمة مع كون النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - كان يفعلها؟!!
إذن فإقرار الله تعالى لتلك الأفعال الجبليّة من النبي - - صلى الله عليه وسلم - يجعل أقل ما يُستفاد منها الإباحة، والإباحة تشريع. كما أن الإقرار الإلهي لنبيّه - - صلى الله عليه وسلم - وَجْهٌ من وجوه الوحي، كما قدّمناه. ولذلك نزلت تشريعاتٌ وقيود في بعض الأمور العاديّة البشرية: في الأكل والشرب واللباس.. وغيرها، ولا تردَّدَ أحدٌ من أهل العلم في الاحتجاج بها.
وبذلك يتّضح أن قولي بأنّ السنَّة كلّها وحي حالاً أو مآلاً، يتناول أيضًا الأفعال التي كان النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - يفعلها على وجه الجبلّة والعادة؛ لأنّها مع الإقرار الإلهي تدل على الإباحة في أقل الأحوال.
__________
(1) - (175)
(2) - (رقم 129)(1/101)
وهنا أنبّه إلى وَهَمٍ قد ينقدح في بعض الأذهان، وهو أن القول بوجوب الطاعة المطلقة للنبيّ - - صلى الله عليه وسلم - ، لا يعني أن كلَّ ما صدر من النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - يقتضي الوجوب، ولا يقول هذا أحد. وإنما المقصود وجوب الامتثال لما دلّت عليه السنة، سواء أكانت قوليّة أو فعليّة أو تقريريّة، فقد تدلُّ على الوجوب أو التحريم، وقد تدلُّ على الاستحباب أو الكراهة، وقد تدلُّ على الإباحة. فالواجب امتثال دلالة السنة مطلقاً، دون استثناء؛ إلا ما لا حاجة إلى استثنائه، لوضوحه.
وقد احتج بعضهم بحديث أَبِى قَتَادَةَ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى سَفَرٍ فَقَالَ « إِنَّكُمْ إِنْ لاَ تُدْرِكُوا الْمَاءَ غَداً تَعْطَشُوا ». وَانْطَلَقَ سَرَعَانُ النَّاسِ يُرِيدُونَ الْمَاءَ وَلَزِمْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَالَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَاحِلَتُهُ فَنَعَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَدَعَمْتُهُ فَأَدْعَمَ ثُمَّ مَالَ فَدَعَمْتُهُ فَأَدْعَمَ ثُمَّ مَالَ حَتَّى كَادَ أَنْ يَنْجَفِلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَدَعَمْتُهُ فَانْتَبَهُ فَقَالَ « مَنِ الرَّجُلُ ». قُلْتُ أَبُو قَتَادَةَ. قَالَ « مُذْ كَمْ كَانَ مَسِيرُكَ ». قُلْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ. قَالَ « حَفِظَكَ اللَّهُ كَمَا حَفِظْتَ رَسُولَهُ ». ثُمَّ قَالَ لَوْ عَرَّسْنَا فَمَالَ إِلَى شَجَرَةٍ فَنَزَلَ فَقَالَ « انْظُرْ هَلْ تَرَى أَحَداً ». قُلْتُ هَذَا رَاكِبٌ هَذَانِ رَاكِبَانِ حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةً. فَقَالَ « احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلاَتَنَا ». فَنِمْنَا فَمَا أَيْقَظَنَا إِلاَّ حَرُّ الشَّمْسِ فَانْتَبَهْنَا فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَارَ وَسِرْنَا هُنَيْهَةً ثُمَّ نَزَلَ فَقَالَ « أَمَعَكُمْ مَاءٌ ». قَالَ قُلْتُ نَعَمْ مَعِى مِيضَأَةٌ فِيهَا شَىْءٌ مِنْ مَاءٍ. قَالَ « ائْتِ بِهَا ». فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ « مَسُّوا مِنْهَا مَسُّوا مِنْهَا ». فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ وَبَقِيَتْ جَرْعَةٌ فَقَالَ « ازْدَهِرْ بِهَا يَا أَبَا قَتَادَةَ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَهَا نَبَأٌ ». ثُمَّ أَذَّنَ بِلاَلٌ وَصَلَّوُا الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ ثُمَّ صَلَّوُا الْفَجْرَ ثُمَّ رَكِبَ وَرَكِبْنَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَرَّطْنَا فِى صَلاَتِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا تَقُولُونَ إِنْ كَانَ أَمْرَ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنُكُمْ وَإِنْ كَانَ أَمْرَ دِينِكُمْ فَإِلَىَّ ». قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَرَّطْنَا فِى صَلاَتِنَا. فَقَالَ « لاَ تَفْرِيطَ فِى النَّوْمِ إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِى الْيَقَظَةِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَصَلُّوهَا وَمِنَ الْغَدِ وَقْتَهَا ». ثُمَّ قَالَ ظُنُّوا بِالْقَوْمِ قَالُوا إِنَّكَ قُلْتَ بِالأَمْسِ إِنْ لاَ تُدْرِكُوا الْمَاءَ غَداً تَعْطَشُوا فَالنَّاسُ بِالْمَاءِ.... (1)
__________
(1) - مسند أحمد (23209) صحيح(1/102)
وهذا الحديث جاء في الاجتهاد من الصحابة في أمر الدين بمحضر النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا كالاجتهاد في مورد النصّ؛ ولذلك قال النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - لهم هذا القول. ومعنى الحديث حينها: أمور الدنيا التي لا نصّ فيها فلكم الاجتهاد فيها، أما ما كان فيه نصّ فلا اجتهاد في مورد النصّ. ولا علاقة لهذا الحديث بتقسيم السنَّة إلى: سنَّة في أمور الدنيا، وسنَّة في أمور الدين؛ لأن من أمور الدنيا ما وردت فيه سنةُ وحي ، وعندها ستكون هذه الأمور الدنيوية التي وردت فيها السنة (بورودها فيه) من أمور الدين؛ لأنها أصبحت تشريعًا وحكمًا إلهيًّا. فالقسمة لا يصح أن تكون بناءً على الدنيا والدين، بمعنى فصل الدِّين عن الحياة، هذا التقسيم باطلٌ من أساسه.
وإنما جاء الحديث ليبيّن للصحابة: متى يحقُّ لهم الاجتهاد بمحضر النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - ومتى لا يحقُّ لهم ذلك. فما كان فيه نصٌ فهو دينٌ بورود النصّ فيه، وما يتعلق بالحلال والحرام فهو دينٌ أيضاً، كالنوم عن الصلاة وترتّب الإثم عليه وعدم ترتبه عليه؛ فهذا لا حاجة للاجتهاد فيه مع وجود المبلِّغ عن الله تعالى وحضوره بين أيديهم، وهو رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - . وما لم يكن فيه نصٌّ من أمور الدنيا والمعاش، فهذا ما يجوز للصحابة أن يجتهدوا فيه، ولو بمحضره - - صلى الله عليه وسلم - . (1)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - انظر مقال السنة وحي من رب العالمين في أمور الدنيا والدين" للدكتور / الشريف حاتم العوني حفظه الله(1/103)
الباب الثاني
أسباب ترك بعض الفقهاء الاحتجاج بالحديث
أولا
ذكر الأسباب مفصلة
هناك أسباب عديدة تجعل الفقيه يترك العمل بحديث ما ، وهي كثيرة ، ولكننا سنذكر أهمها .
" يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مُوَالَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ قال تعالى : {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (55) سورة المائدة، خُصُوصًا الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، فعَن كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِى الدَّرْدَاءِ فِى مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ إِنِّى جِئْتُكَ مِن مَدِينَةِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - لِحَدِيثٍ بَلَغَنِى أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا جِئْتُ لِحَاجَةٍ. قَالَ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَن سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِن طُرُقِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَمَن فِى الأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِى جَوْفِ الْمَاءِ وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَن أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ » (1) .
وهمُ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّهُ بِمَنزِلَةِ النُّجُومِ يُهْتَدَى بِهِمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ،وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ، إذْ كَلُّ أُمَّةٍ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَعُلَمَاؤُهَا شِرَارُهَا إلَّا الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ عُلَمَاءَهُمْ خِيَارُهُمْ ؛ فَإِنَّهُمْ خُلَفَاءُ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أُمَّتِهِ، والمحيون لِمَا مَاتَ مِن سُنَّتِهِ بِهِمْ قَامَ الْكِتَابُ وَبِهِ قَامُوا وَبِهِمْ نَطَقَ الْكِتَابُ وَبِهِ نَطَقُوا، فعَن أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ
__________
(1) - أخرجه أبو داود في سننه برقم (3643 ) وهو حديث صحيح.(1/104)
اللَّهُ عَنهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِن كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ ، يَنْفُونَ عَنهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ " (1) .
وَلِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ قَبُولًا عَامًّا يَتَعَمَّدُ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شَيْءٍ مِن سُنَّتِهِ ؛ دَقِيقٍ وَلَا جَلِيلٍ ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ اتِّفَاقًا يَقِينِيًّا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (7) سورة الحشر ، ولقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِن أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (36) سورة الأحزاب ، وَعَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِن قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَكِنْ إذَا وُجِدَ لِوَاحِدِ مِنهُمْ قَوْلٌ قَدْ جَاءَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِخِلَافِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِن عُذْرٍ فِي تَرْكِهِ (2) .
وَجَمِيعُ الْأَعْذَارِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ :
أَحَدُهَا : عَدَمُ اعْتِقَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَهُ .
وَالثَّانِي : عَدَمُ اعْتِقَادِهِ إرَادَةَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ .
وَالثَّالِثُ : اعْتِقَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مَنسُوخٌ .
وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ تَتَفَرَّعُ إلَى أَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ ، وهي :
__________
(1) - أخرج الطحاوي في مشكل الآثار برقم(3269 ) وهو حسن لغيره
(2) - انظر : مجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 227) و (ج 3 / ص 347) و (ج 13 / ص 259)و (ج 20 / ص 209) و (ج 20 / ص 211) و (ج 20 / ص 232) و(ج 27 / ص 241) و (ج 33 / ص 28) و (ج 1 / ص 210) وج 4 / ص 300) و (ج 7 / ص 211) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 967) و (ج 4 / ص 9967) و (ج 6 / ص 49) و (ج 6 / ص 49) و(ج 9 / ص 4669و (ج 10 / ص 1051) ومن أصول الفقه على منهج أهل الحديث - الرقمية - (ج 1 / ص 175)(1/105)
السَّبَبُ الْأَوَّلُ
عدم بلوغ الحديث للفقيه
السَّبَبُ الْأَوَّلُ : أَلَّا يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَهُ ،وَمَن لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ لَمْ يُكَلَّفْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمُوجَبِهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ بَلَغَهُ، وَقَدْ قَالَ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ بِمُوجَبِ ظَاهِرِ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ آخَرَ ؛ أَوْ بِمُوجَبِ قِيَاسٍ ؛ أَوْ مُوجَبِ اسْتِصْحَابٍ : فَقَدْ يُوَافِقُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ تَارَةً وَيُخَالِفُهُ أُخْرَى . وَهَذَا السَّبَبُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَكْثَرِ مَا يُوجَدُ مِن أَقْوَالِ السَّلَفِ مُخَالِفًا لِبَعْضِ الْأَحَادِيثِ ؛ فَإِنَّ الْإِحَاطَةَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ تَكُنْ لِأَحَدِ مِن الْأُمَّةِ . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ ؛ أَوْ يُفْتِي ؛ أَوْ يَقْضِي ؛ أَوْ يَفْعَلُ الشَّيْءَ فَيَسْمَعُهُ أَوْ يَرَاهُ مَن يَكُونُ حَاضِرًا وَيُبَلِّغُهُ أُولَئِكَ أَوْ بَعْضُهُمْ لِمَن يُبَلِّغُونَهُ فَيَنْتَهِي عِلْمُ ذَلِكَ إلَى مَن يَشَاءُ اللَّهُ مِن الْعُلَمَاءِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَن بَعْدَهُمْ ثُمَّ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ قَدْ يُحَدِّثُ أَوْ يُفْتِي أَوْ يَقْضِي أَوْ يَفْعَلُ شَيْئًا وَيَشْهَدُهُ بَعْضُ مَن كَانَ غَائِبًا عَن ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَيُبَلِّغُونَهُ لِمَن أَمْكَنَهُمْ فَيَكُونُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مِن الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ مَا لَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ،وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُ الْعُلَمَاءُ مِن الصَّحَابَةِ وَمَن بَعْدَهُمْ بِكَثْرَةِ الْعِلْمِ أَوْ جَوْدَتِهِ .
وَأَمَّا إحَاطَةُ وَاحِدٍ بِجَمِيعِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَهَذَا لَا يُمْكِنُ ادِّعَاؤُهُ قَطُّ، وذلك لأنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم قد تفرقوا في سائر الأمصار الإسلامية ، وحدَّثوا بها حسبَ حاجة الناس ، فصارتِ السنَّةُ النبويةُ موجودةً في سائر أقطار الإسلام ، وكان جمعُ السنَّة في البداية يقتصرُ على القُطر نفسِه ، إلى أن صار يشملُ أقطاراً أخرى.
وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِأُمُورِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَسُنَّتِهِ وَأَحْوَالِهِ خُصُوصًا الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يُفَارِقُهُ حَضَرًا وَلَا سَفَرًا ، بَل كَانَ يَكُونُ مَعَهُ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى إنَّهُ يَسْمَرُ عِنْدَهُ بِاللَّيْلِ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - فَإِنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَثِيرًا مَا يَقُولُ : دَخَلْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَخَرَجْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ إِنِّى لَوَاقِفٌ فِى(1/106)
قَوْمٍ ، فَدَعَوُا اللَّهَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَدْ وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ ، إِذَا رَجُلٌ مِن خَلْفِى قَدْ وَضَعَ مِرْفَقَهُ عَلَى مَنكِبِى ، يَقُولُ رَحِمَكَ اللَّهُ ، إِنْ كُنْتُ لأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ ، لأَنِّى كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ كُنْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَفَعَلْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَانْطَلَقْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ . فَإِنْ كُنْتُ لأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَهُمَا . فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ " (1) .
ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَمَّا سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - عَن مِيرَاثِ الْجَدَّةِ قَالَ : مَا لَك فِي كِتَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ وَمَا عَلِمْت لَك فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِن شَيْءٍ، وَلَكِنْ اسْأَلْ النَّاسَ فَسَأَلَهُمْ فَقَامَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مسلمة فَشَهِدَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْطَاهَا السُّدُسَ (2) ، وَقَدْ بَلَّغَ هَذِهِ السُّنَّةَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَيْضًا، فعَنِ الْحَسَنِ عَن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ إِنَّ ابْنِى مَاتَ فَمَا لِى فِى مِيرَاثِهِ قَالَ « لَكَ السُّدُسُ ». فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ :« لَكَ سُدُسٌ آخَرُ ». فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ قَالَ :« إِنَّ السُّدُسَ الآخَرَ طُعْمَةٌ ». " (3) .
وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ مِن الْخُلَفَاءِ ثُمَّ قَدْ اخْتَصُّوا بِعِلْمِ هَذِهِ السُّنَّةِ الَّتِي قَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا .
وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ سُنَّةَ الِاسْتِئْذَانِ حَتَّى أَخْبَرَهُ بِهَا أَبُو مُوسَى وَاسْتَشْهَدَ بِالْأَنْصَارِ، فعَن عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِىَّ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ ، وَكَأَنَّهُ كَانَ مَشْغُولاً فَرَجَعَ أَبُو مُوسَى ، فَفَرَغَ عُمَرُ فَقَالَ أَلَمْ أَسْمَعْ صَوْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ائْذَنُوا لَهُ قِيلَ قَدْ رَجَعَ . فَدَعَاهُ . فَقَالَ
__________
(1) - صحيح البخاري برقم(3677 ) ومسلم برقم ( 6338 )
(2) - السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة - (ج 4 / ص 277) برقم(6312) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 15 / ص 373) برقم(17441 ) وصحيح ابن حبان - (ج 13 / ص 390) برقم(6031 ) وهو حسن
عثمان بن إسحاق بن خرشة، وهو القرشي العامري المدني، فقد ذكره المؤلف في "ثقاته" 7/190،وقال الدوري عن ابن معين: ثقة. وقال ابن عبد البر: هو معروف النسب، إلا أنه غير مشهور بالرواية، وقال الذهبي في "الميزان": شيخ ابن شهاب الزهري، لا يعرف، سمع قبيصة بن ذؤيب، وقد وثقوه.
(3) - سنن أبى داود - (ج 3 / ص 81) برقم(2898 ) سنن الترمذى برقم(2245 ) قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وفيه انقطاع الحسن لم يسمع من عمران(1/107)
كُنَّا نُؤْمَرُ بِذَلِكَ . فَقَالَ تَأْتِينِى عَلَى ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ . فَانْطَلَقَ إِلَى مَجْلِسِ الأَنْصَارِ ، فَسَأَلَهُمْ . فَقَالُوا لاَ يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا إِلاَّ أَصْغَرُنَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ . فَذَهَبَ بِأَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ . فَقَالَ عُمَرُ أَخَفِىَ عَلَىَّ مِن أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَلْهَانِى الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ (1) ،وَعُمَرُ أَعْلَمُ مِمَن حَدَّثَهُ بِهَذِهِ السُّنَّةِ.
وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَيْضًا يَعْلَمُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَرِثُ مِن دِيَةِ زَوْجِهَا، بَل يَرَى أَنَّ الدِّيَةَ لِلْعَاقِلَةِ حَتَّى كَتَبَ إلَيْهِ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ - وَهُوَ أَمِيرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى بَعْضِ الْبَوَادِي - يُخْبِرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِن دِيَةِ زَوْجِهَا، فعَن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلاَ تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِن دِيَةِ زَوْجِهَا شَيْئًا. حَتَّى أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلاَبِىُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ إِلَيْهِ « أَنْ وَرِّثِ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِىِّ مِن دِيَةِ زَوْجِهَا » (2) .
وعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا ، قَالَ : قَامَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ عَلَى الْمِنبَرِ ، فَقَالَ : أُذَكِّرُ امْرَأً سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِي الْجَنِينِ ، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، كُنْتُ بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ يَعْنِي ضَرَّتَيْنِ ، فَخَرَجْتُ وَضَرَبْتُ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِعَمُودِ ظُلَّتِهَا فَقَتَلَتْهَا وَقَتَلَتْ مَا فِي بَطْنِهَا ، فَقَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ، فَقَالَ عُمَرُ : اللَّهُ أَكْبَرُ لَوْ لَمْ نَسْمَعْ بِهَذَا مَا قَضَيْنَا بِغَيْرِهِ" (3) .
وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ حُكْمَ الْمَجُوسِ فِي الْجِزْيَةِ حَتَّى أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : سَنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ (4)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(2062 ) ومسلم برمق(5757 ) يَعْنِى الْخُرُوجَ إِلَى تِجَارَةٍ . = الصفق : التبايع
(2) - سنن الترمذى برقم( 1478 ) وهو حديث صحيح . قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ.=العاقلة : العصبة والأقارب من قبل الأب
(3) - المستدرك للحاكم برقم(6460) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 3 / ص 491) برقم(3404) وهو حديث صحيح
(4) - موطأ مالك برقم(619 ) وعبد الرزاق برقم(10026) والسنن الكبرى للبيهقي (ج 9 / ص 189) برقم(19125) صحيح لغيره
ولكن غير آكلي طعامهم - ذبائحهم - ولا ناكحي نسائهم(1/108)
وعَن عَمْرٍو ، سَمِعَ بَجَالَةَ : " لَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ ، حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَهَا مِن مَجُوسِ هَجَرَ" (1) .
وفي خبر الطاعون أيضاً ، فعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ عُمَرُ ادْعُ لِى الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ . فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ فَاخْتَلَفُوا . فَقَالَ بَعْضُهُمْ قَدْ خَرَجْتَ لأَمْرٍ ، وَلاَ نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنهُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ . فَقَالَ ارْتَفِعُوا عَنِّى . ثُمَّ قَالَ ادْعُوا لِى الأَنْصَارَ . فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلاَفِهِمْ ، فَقَالَ ارْتَفِعُوا عَنِّى . ثُمَّ قَالَ ادْعُ لِى مَن كَانَ هَا هُنَا مِن مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِن مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ . فَدَعَوْتُهُمْ ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنهُمْ عَلَيْهِ رَجُلاَنِ ، فَقَالُوا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ ، وَلاَ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ ، فَنَادَى عُمَرُ فِى النَّاسِ ، إِنِّى مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ ، فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ أَفِرَارًا مِن قَدَرِ اللَّهِ فَقَالَ عُمَرُ لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ ، نَعَمْ نَفِرُّ مِن قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ ، إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ ، وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ قَالَ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِى بَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ إِنَّ عِنْدِى فِى هَذَا عِلْمًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنهُ » . قَالَ فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ (2) .
وَتَذَاكَرَ هُوَ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَمْرَ الَّذِي يَشُكُّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَكُنْ قَدْ بَلَغَتْهُ السُّنَّةُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّهُ يَطْرَحُ الشَّكَّ وَيَبْنِي عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ لَهُ عُمَرُ : يَا غُلامُ هَلْ سَمِعْتَ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، أَوْ مِن أَحَدٍ مِن
__________
(1) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (7538) جامع السنة و مُشْكِلُ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ (1703) والناسخ والمنسوخ للنحاس - (ج 1 / ص 299) برقم( 245 ) وهو حدبث صحيح
(2) - أخرجه البخارى برقم(5729 ) ومسلم برقم(5915 ). =العدوة : جانب الوادى(1/109)
أَصْحَابِهِ : إِذَا شَكَّ الرَّجُلُ فِي صَلاتِهِ مَاذَا يَصْنَعُ ؟ قَالَ : فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ ، إِذِ اقْبَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، فَقَالَ : فِيمَ أَنْتُمَا ؟ فَقَالَ عُمَرُ : سَأَلْتُ هَذَا الْغُلامَ : هَلْ سَمِعْتَ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، أَوْ أَحَدٍ مِن أَصْحَابِهِ إِذَا شَكَّ الرَّجُلُ فِي صَلاتِهِ مَاذَا يَصْنَعُ ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ : " إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ ، فَلَمْ يَدْرِ أَوَاحِدَةً صَلَّى أَمْ ثِنْتَيْنِ ؟ فَلْيَجْعَلْهَا وَاحِدَةً ، وَإِذَا لَمْ يَدْرِ ثِنْتَيْنِ صَلَّى أَمْ ثَلاثًا ؟ فَلْيَجْعَلْهَا ثِنْتَيْنِ ، وَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَثَلاثًا صَلَّى أَمِ ارْبَعًا ؟ فَلْيَجْعَلْهَا ثَلاثًا ، ثُمَّ يَسْجُدِ اذَا فَرَغَ مِن صَلاتِهِ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ سَجْدَتَيْنِ " (1) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : جَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ فَقَالَ : يَا ابْنَ عَبَّاسٍ هَلْ سَمِعْتَ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الرَّجُلِ إِذَا نَسِيَ صَلَاتَهَ فَلَمْ يَدْرِ أَزَادَ أَمْ نَقَصَ مَا أَمَرَ بِهِ فِيهِ ؟ قُلْتُ : وَمَا سَمِعْتَ أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينِ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا فِي ذَلِكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ مِنهُ فِيهِ شَيْئًا وَلَا سَأَلْتُ عَنهُ ، إِذْ جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، فَقَالَ : فِيمَا أَنْتُمَا ؟ فَأَخْبَرَهُ عُمَرُ ، فَقَالَ : سَأَلْتُ هَذَا الْفَتَى عَن كَذَا وَكَذَا فَلَمْ أَجِدْ عِنْدَهُ عِلْمًا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : لَكِنْ عِنْدِي لَقَدْ سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ عُمَرُ : فَأَنْتَ عِنْدَنَا الْعَدْلُ الرِّضَا فَمَاذَا سَمِعْتَ ؟ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَشَكَّ فِي الْوَاحِدَةِ وَالِثْنَتَيْنِ فَلْيَجْعَلْهُمَا وَاحِدَةً ، وَإِذَا شَكَّ فِي الِاثْنَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ فَلْيَجْعَلْهَا اثْنَتَيْنِ وَإِذَا شَكَّ فِي الثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ فَلْيَجْعَلْهَا ثَلَاثًا حَتَّى يَكُونَ الْوَهْمُ فِي الزِّيَادَةِ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ يُسَلِّم" (2) .
وَكَانَ مَرَّةً فِي السَّفَرِ فَهَاجَتْ رِيحٌ فَجَعَلَ يَقُولُ : مَن يُحَدِّثُنَا عَن الرِّيحِ ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَبَلَغَنِي وَأَنَا فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ فَحَثَثْت رَاحِلَتِي حَتَّى أَدْرَكْته فَحَدَّثْته بِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ هُبُوبِ الرِّيحِ.
فعَنِ الزُّهْرِىِّ حَدَّثَنِى ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ أَخَذَتِ النَّاسَ رِيحٌ بِطَرِيقِ مَكَّةَ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَاجٌّ فَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ فَقَالَ عُمَرُ لِمَن حَوْلَهُ مَن يُحَدِّثُنَا عَنِ الرِّيحِ فَلَمْ يُرْجِعُوا
__________
(1) - مسند أحمد برقم(1699) ومصنف ابن أبي شيبة (ج 2 / ص 186) رقم(4414) وهو حسن لغيره
(2) - البيهقي في السنن الكبرى(3552) حسن لغيره(1/110)
إِلَيْهِ شَيْئاً فَبَلَغَنِى الَّذِى سَأَلَ عَنهُ عُمَرُ مِن ذَلِكَ فَاسْتَحْثَثْتُ رَاحِلَتَى حَتَّى أَدْرَكْتُهُ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أُخْبِرْتُ أَنَّكَ سَأَلْتَ عَنِ الرِّيحِ وَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: « الرِّيحُ مِن رَوْحِ اللَّهِ تَأْتِى بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِى بِالْعَذَابِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَلاَ تَسُبُّوهَا ،وَسَلُوا اللَّهَ خَيْرَهَا وَاسْتَعِيذُوا بِهِ مِن شَرِّهَا » (1)
فَهَذِهِ مَوَاضِعُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا حَتَّى بَلَّغَهُ إيَّاهَا مَن لَيْسَ مِثْلَهُ وَمَوَاضِعُ أُخَرَ لَمْ يَبْلُغْهُ مَا فِيهَا مِن السُّنَّةِ فَقَضَى فِيهَا أَوْ أَفْتَى فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِثْلَ مَا قَضَى فِي دِيَةِ الْأَصَابِعِ أَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ مَنَافِعِهَا،فعَن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، أَنَّ عُمَرَ قَضَى فِي الآِبْهَامِ وَاَلَّتِي تَلِيهَا نِصْفُ الْكَفِّ , وَفِي الْوُسْطَى بِعَشْرٍ فَرَائِضَ , وَاَلَّتِي تَلِيهَا بِتِسْعٍ فَرَائِضَ , وَفِي الْخِنْصَرِ بِسِتٍّ فَرَائِضَ (2) .
و عَن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , قَالَ : " كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَجْعَلُ فِي الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا نِصْفَ دِيَةِ الْكَفِّ , وَيَجْعَلُ فِي الْإِبْهَامِ خَمْسَ عَشْرَةَ , وَفِي الَّتِي تَلِيهَا عَشْرًا , وَفِي الْوُسْطَى عَشْرًا , وَفِي الَّتِي تَلِيهَا تِسْعًا , وَفِي الْأُخْرَى سِتًّا , حَتَّى كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَوَجَدَ كِتَابًا كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِيهِ : " وَفِي الْأَصَابِعِ عَشْرٌ عَشْرٌ " فَصَيَّرَهَا عُثْمَانُ : عَشْرًا عَشْرًا " " (3)
وعَن أَبِى غَطَفَانَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ : فِى الأَصَابِعِ عَشْرٌ عَشْرٌ فَأَرْسَلَ مَرْوَانُ إِلَيْهِ فَقَالَ : أَتُفْتِى فِى الأَصَابِعِ عَشْرٌ عَشْرٌ وَقَدْ بَلَغَكَ عَن عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنهُ فِى الأَصَابِعِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ مِن قَوْلِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنهُ. (4)
__________
(1) - مسند أحمد برقم(7846) صحيح .
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 9 / ص 366) برقم(26991) والسنن الكبرى للبيهقي (ج 8 / ص 93) برقم(16718) وهو صحيح
(3) - اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة - (ج 4 / ص 62)[3415/1] . والمحلى (ج 10 / ص 321) برقم (2043 ) والْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ(350) من طرق وهو صحيح
(4) - سنن البيهقى برقم(16720) وهو حديث حسن(1/111)
وَقَدْ كَانَ عِنْد أَبِي مُوسَى وَابْنِ عَبَّاسٍ - وَهُمَا دُونَهُ بِكَثِيرِ فِي الْعِلْمِ - عِلْمٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ يَعْنِي : الْإِبْهَامَ وَالْخِنْصَرَ ، (1) فَبَلَغَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ لمعاوية رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ فِي إمَارَتِهِ فَقَضَى بِهَا، فعَن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَضَى فِيمَا أَقْبَلَ مِنَ الْفَمِ بِخَمْسِ فَرَائِضَ خَمْسٍ ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ دِينَارًا ، قِيمَةُ كُلِّ فَرِيضَةٍ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ ، وَفِي الأَضْرَاسِ بَعِيرٌ بَعِيرٌ،وَذَكَرَ يَحْيَى : أَنَّ مَا أَقْبَلَ مِنَ الْفَمِ ؛ الثَّنَايَا ، وَالرَّبَاعِيَاتُ ، وَالأَنْيَابُ،قَالَ سَعِيدٌ : حتَّى إِذَا كَانَ مُعَاوِيَةُ فَأُصِيبَتْ أَضْرَاسُهُ ، قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ بِالأَضْرَاسِ مِن عُمَرَ ، فَقَضَى فِيهِ خَمْسَ فَرَائِضَ . قَالَ سَعِيدٌ : لَوْ أُصِيبَ الْفَمُ كُلُّهُ فِي قَضَاءِ عُمَرَ لَنَقَصَتِ الدِّيَةُ ، وَلَوْ أُصِيبَ فِي قَضَاءِ مُعَاوِيَةَ لَزَادَتِ الدِّيَةُ ، وَلَوْ كُنْتُ أَنَا لَجَعَلْتُ فِي الأَضْرَاسِ بَعِيرَيْنِ بَعِيرَيْنِ.. (2) .
وَلَمْ يَجِدْ الْمُسْلِمُونَ بُدًّا مِن اتِّبَاعِ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ عَيْبًا فِي عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ .
وَكَذَلِكَ كَانَ يُنْهِي الْمُحْرِمَ عَن التَّطَيُّبِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ؛ وَقَبْلَ الْإِفَاضَةِ إلَى مَكَّةَ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فعَن سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَن أَبِيهِ قَالَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : إِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ وَذَبَحْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَىْءٍ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ ، قَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ : طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِحُرْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ، وَلِحِلِّهِ بَعْدَ مَا رَمَى الْجَمْرَةَ وَقَبْلَ أَنْ يَزُورَ. قَالَ سَالِمٌ : وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ هُوَ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا وَغَيْرُهُمَا مِن أَهْلِ الْفَضْلِ (3) .
وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهَا طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ، فعَن إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَن أَبِيهِ قَالَ ذَكَرْتُهُ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا يَنْضَخُ طِيبًا (4) .
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(6895 )
(2) - ففي مصنف ابن أبي شيبة (ج 9 / ص 190) (27532) وإسناده صحيح
(3) - مسند الحميدى برقم(223و224) وهو صحيح على شرطهما
(4) - أخرجه البخارى برقم(267 ) ومسلم برقم(2883 ) = ينضخ : تفوح منه رائحة الطيب(1/112)
وعَن عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ (1) .
وعَن إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَن أَبِيهِ قَالَ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - عَنِ الرَّجُلِ يَتَطَيَّبُ ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا فَقَالَ مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا لأَنْ أَطَّلِىَ بِقَطِرَانٍ أَحَبُّ إِلَىَّ مِن أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ. فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ - رضى الله عنها - فَأَخْبَرْتُهَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا لأَنْ أَطَّلِىَ بِقَطِرَانٍ أَحَبُّ إِلَىَّ مِن أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ إِحْرَامِهِ ثُمَّ طَافَ فِى نِسَائِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا. (2)
وَكَانَ يَأْمُرُ لَابِسَ الْخُفِّ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يَخْلَعَهُ مِن غَيْرِ تَوْقِيتٍ وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِن السَّلَفِ، فعَن يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ ، أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ بَعَثَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِفَتْحِ دِمَشْقَ فَخَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَدِمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَسَأَلَهُ عُمَرُ مَتَى خَرَجْتَ فَأَخْبَرَهُ ، وَقَالَ : لَمْ أَخْلَعْ لِي خُفًّا مُذْ خَرَجْتُ ، قَالَ عُمَرُ قَدْ أَحْسَنْتَ (3) .
وَلَمْ تَبْلُغْهُمْ أَحَادِيثُ التَّوْقِيتِ الَّتِي صَحَّتْ عِنْدَ بَعْضِ مَن لَيْسَ مِثْلُهُمْ فِي الْعِلْمِ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ صَحِيحَةٍ (4) .
وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِأَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنهَا زَوْجُهَا تَعْتَدُّ فِي بَيْتِ الْمَوْتِ حَتَّى حَدَّثَتْهُ الْفُرَيْعَةُ بِنْتُ مَالِكٍ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الخدري بِقَضِيَّتِهَا لَمَّا تُوُفِّيَ زَوْجُهَا وَأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا : اُمْكُثِي فِي بَيْتِك حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ، فَأَخَذَ بِهِ عُثْمَانُ، فعَن عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ الْفُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ - وَهِىَ أُخْتُ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَسْأَلُهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِى بَنِى
__________
(1) - البخارى برقم(1539 )
(2) - مسلم برقم(2899 )
(3) - ففي مصنف ابن أبي شيبة برقم(1937) وهو صحيح ، وورد كذلك عدم التوقيت عن سعد والحسن وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة أخرج ذلك ابن أبي شيبة برقم( 1933-1936) وغالبها بأسانيد صحاح
(4) - قد ورد توقيت المسح على الخفين يوم وليلة للمقيم ، وثلاثة أيام ولياليها للمسافر عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم ، ذكرهم الفقيه محمد بن جعفر الكتاني رحمه الله في كتابه وعدَّه من الأحاديث المتواترة .نظم المتناثر - (ج 1 / ص 60) برقم(32 )(1/113)
خُدْرَةَ فَإِنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِى طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِطَرَفِ الْقَدُومِ لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ. قَالَتْ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِى فِى بَنِى خُدْرَةَ فَإِنَّ زَوْجِى لَمْ يَتْرُكْنِى فِى مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ وَلاَ نَفَقَةَ. قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « نَعَمْ ». قَالَتْ فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِى الْحُجْرَةِ نَادَانِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ أَمَرَ بِى فَنُودِيتُ لَهُ فَقَالَ « كَيْفَ قُلْتِ ». فَرَدَّدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِى ذَكَرْتُ لَهُ مِن شَأْنِ زَوْجِى فَقَالَ « امْكُثِى فِى بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ». قَالَتْ فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا - قَالَتْ - فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَرْسَلَ إِلَىَّ فَسَأَلَنِى عَن ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ. (1) .
وَأُهْدِيَ لَهُ مَرَّةً صَيْدٌ كَانَ قَدْ صِيدَ لِأَجْلِهِ فَهَمَّ بِأَكْلِهِ حَتَّى أَخْبَرَهُ الزبير رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَدَّ لَحْمًا أُهْدِيَ لَهُ، فعن بُسْرَ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ يُصَادُ لَهُ الْوَحْشُ عَلَى الْمَنَازِلِ ثُمَّ يُذْبَحُ فَيَأْكُلُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ سَنَتَيْنِ مِن خِلافَتِهِ، ثُمَّ إنَّ الزُّبَيْرَ كَلَّمَهُ، فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا يُصَادُ لَنَا وَمِن أَجْلِنَا لَوْ تَرَكْنَاهُ فَتَرَكَهُ (2) .
وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ ، فعَن أَسْمَاءَ بْنِ الْحَكَمِ الْفَزَارِىِّ قَالَ سَمِعْتُ عَلِياًّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثاً نَفَعَنِى اللَّهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِى مِنهُ وَإِذَا حَدَّثَنِى غَيْرِى عَنهُ اسْتَحْلَفْتُهُ فَإِذَا حَلَفَ لِى صَدَّقْتُهُ وَحَدَّثَنِى أَبُو بَكْرٍ وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا مِن عَبْدٍ مُؤْمِنٍ يُذْنِبُ ذَنْباً فَيَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى إِلاَّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ». ثُمَّ تَلاَ {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ
__________
(1) - أخرجه مالك في الموطأ برقم(1250 ) وأبو داود برقم(2302 ) وهو حديث صحيح = أبق : هرب
(2) - أخرجه ابن حزم في المحلى (ج 5 / ص 24) وإسناده صحيح
وهناك حديث في سنده انقطاع وهو في سنن الترمذى برقم(856 )عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلاَلٌ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ ». قَالَ وَفِى الْبَابِ عَن أَبِى قَتَادَةَ وَطَلْحَةَ. قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ جَابِرٍ حَدِيثٌ مُفَسَّرٌ. وَالْمُطَّلِبُ لاَ نَعْرِفُ لَهُ سَمَاعًا مِن جَابِرٍ. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ لاَ يَرَوْنَ بِأَكْلِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ بَأْسًا إِذَا لَمْ يَصْطَدْهُ أَوْ لَمْ يُصْطَدْ مِن أَجْلِهِ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا أَحْسَنُ حَدِيثٍ رُوِىَ فِى هَذَا الْبَابِ وَأَفْسَرُ وَالَعَمَلُ عَلَى هَذَا وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ.(1/114)
ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (135) سورة آل عمران (1) .
وعَن أَسْمَاءَ بْنِ الْحَكَمِ الْفَزَارِىِّ قَالَ سَمِعْتُ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ رضى الله عنه يَقُولُ : كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا نَفَعَنِى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِى مِنهُ ، وَإِذَا حَدَّثَنِى غَيْرُهُ اسْتَحْلَفْتُهُ ، فَإِذَا حَلَفَ لِى صَدَّقْتُهُ ، فَحَدَّثَنِى أَبُو بَكْرٍ - وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« لَيْسَ مِن عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَقُومُ فَيَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلاَّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ » (2)
وعَنْ أَسْمَاءِ بْنِ الْحَكَمِ الْفَزَارِيِّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُ ، فَإِذَا حَدَّثَنِي غَيْرُهُ اسْتَحْلَفْتُهُ ، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَنِي وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ " قَالَ مِسْعَرٌ " ثُمَّ يُصَلِّي " وَقَالَ سُفْيَانُ " ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ " (3)
وَأَفْتَى هُوَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ.
أما حديث علي ،فعَن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ زَيْدٌ : قَدْ حَلَّتْ وَقَالَ عَلِيٌّ : أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا قَالَ زَيْدٌ : أَرَأَيْتَ إنْ كَانَتْ يَئِيسًا قَالَ عَلِيُّ : فَآخِرُ الأَجَلَيْنِ قَالَ عُمَرُ : لَوْ وَضَعَتْ ذَا بَطْنِهَا وَزَوْجُهَا عَلَى نَعْشِهِ لَمْ يَدْخُلْ حُفْرَتَهُ لَكَانَتْ قَدْ حَلَّتْ. (4)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : أَجَلُ كُلِّ حَامِلٍ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا قَالَ : وَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ : آخِرُ الأَجَلَيْنِ. (5)
__________
(1) - أخرجه أحمد في مسنده برقم(57) وهو صحيح
(2) - مسند الحميدى برقم(1) وهو صحيح .
(3) - مسند الحميدى برقم(5)ِ وهو صحيح .
(4) - مصنف ابن أبي شيبة برقم(17094) وهو حديث صحيح
(5) - المصدر السابق برقم (17098) وهو حديث صحيح(1/115)
وعَن عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : آخِرُ الأَجَلَيْنِ. (1)
أما ابن عباس ،فعَنْ يَحْيَى ، قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ جَالِسٌ عِنْدَهُ ، فَقَالَ : أَفْتِنِي فِي امْرَأَةٍ وَلَدَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : آخِرُ الأَجَلَيْنِ ، قُلْتُ أَنَا : وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي - يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ - فَأَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ غُلاَمَهُ كُرَيْبًا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ يَسْأَلُهَا ، فَقَالَتْ : " قُتِلَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةِ وَهِيَ حُبْلَى ، فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، فَخُطِبَتْ فَأَنْكَحَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَ أَبُو السَّنَابِلِ فِيمَنْ خَطَبَهَا " ، (2) .
وعن سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنَ عَبَّاسٍ اجْتَمَعَا عِنْدَ أَبِى هُرَيْرَةَ وَهُمَا يَذْكُرَانِ الْمَرْأَةَ تُنْفَسُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِدَّتُهَا آخِرُ الأَجَلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ قَدْ حَلَّتْ. فَجَعَلاَ يَتَنَازَعَانِ ذَلِكَ قَالَ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِى - يَعْنِى أَبَا سَلَمَةَ - فَبَعَثُوا كُرَيْبًا - مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ يَسْأَلُهَا عَن ذَلِكَ فَجَاءَهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ إِنَّ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ وَإِنَّهَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ". (3)
وأما ما ورد عن غيرهما فقد ورد عن ابن مسعود فعَن مَسْرُوقٍ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : وَاَللَّهِ لَمَن شَاءَ لَقَاسَمْتُهُ لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. (4)
وورد عنه عكسه ،فعَنِ الشَّعْبِيِّ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : أَجَلُ كُلِّ حَامِلٍ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا قَالَ : وَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ : آخِرُ الأَجَلَيْنِ. (5)
__________
(1) - نفسه برقم(17099) صحيح
(2) - أخرجه البخارى برقم(4909 ) ومسلم برقم(3796 ).
(3) - مسلم برقم(3796 )
(4) - مصنف ابن أبي شيبة مرقم برقم(17095) وإسناده صحيح
(5) - مصنف ابن أبي شيبة برقم(17098) صحيح(1/116)
وعَن عَبْدِ الرَّحْمَانِِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ : شَهِدْتُ عَلِيًّا وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَن امْرَأَةٍ تُوُفِّيَ عَنهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ قَالَ : تَتَرَبَّصُ أَبْعَدَ الأَجَلَيْنِ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : نَقُولُ تَسْفِي نَفْسَهَا ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ : إنَّ فَرُّوخَ لاَ يَعْلَمُ. (1)
وورد عن عبد بن الرحمن بن أبي ليلى،فعَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ : كُنْتُ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ : فَقَالَ : آخِرُ الأَجَلَيْنِ قَالَ : فَذَكَرْتُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَن سُبَيْعَةَ قَالَ فَغَمَزَ إلَيَّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ قَالَ : فَقُلْتُ : إنِّي لَجَرِيءٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ إنْ كَذَبْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ. (2)
وَلَمْ يَكُنْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سبيعة الأسلمية حَيْثُ أَفْتَاهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّ عِدَّتَهَا وَضْعُ حَمْلِهَا ، فعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قَدْ حَلَلْتِ فَانْكِحِى مَن شِئْتِ » (3) .
وَأَفْتَى هُوَ وَزَيْدٌ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ بِأَنَّ الْمُفَوَّضَةَ إذَا مَاتَ عَنهَا زَوْجُهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا.
فعَنِ ابْنِ عُمَرَ زَوَّجَ ابْنًا لَهُ امْرَأَةً مِن أَهْلِهِ فَتُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا صَدَاقًا فَطَلَبُوا إلَى ابْنِ عُمَرَ الصَّدَاقَ فَقَالَ : لَيْسَ لَهَا صَدَاقٌ , فَأَبَوْا أَنْ يَرْضَوْا بِذَلِكَ فَجَعَلُوا بَيْنَهُمْ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَأَتَوْهُ فَقَالَ : لَيْسَ لَهَا صَدَاقٌ , تَرِثُ وَتَعْتَدُّ (4) .
وعَن أَبِي الشَّعْثَاءِ وَعَطَاءٍ فِي الَّذِي يُفْرَضُ إلَيْهِ فَيَمُوتُ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ قَالاَ : لَهَا الْمِيرَاثُ وَلَيْسَ لَهَا صَدَاقٌ. (5)
وعَن عَلِيٍّ قَالَ : لَهَا الْمِيرَاثُ وَلاَ صَدَاقَ لَهَا. (6)
__________
(1) - نفسه برقم (17105) وهو صحيح
(2) - نفسه برقم (17101) وهو صحيح
(3) - أخرجه في موطأ مالك برقم(1248) وهو صحيح .
(4) - مصنف ابن أبي شيبة برقم(17108) وإسناده صحيح
(5) - نفسه برقم (17109) وهو صحيح
(6) - نفسه برقم(17110و17117) وهو صحيح(1/117)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلاً بِالْمَدِينَةِ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا قَالُوا : لَهَا الْمِيرَاثُ وَلاَ مَهْرَ لَهَا وَقَالَ مَسْرُوقٌ : لاَ يَكُونُ مِيرَاثٌ حَتَّى يَكُونَ قَبْلَهُ مَهْرٌ. (1)
وَلَمْ تَكُنْ بَلَغَتْهُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بروع بِنْتِ وَاشِقٍ، فعَن عَبْدِ اللَّهِ فِى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَمَاتَ عَنهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا الصَّدَاقَ فَقَالَ لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلاً وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا الْمِيرَاثُ. فَقَالَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِهِ فِى بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ (2) .
وعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ أُتِىَ فِى رَجُلٍ بِهَذَا الْخَبَرِ قَالَ فَاخْتَلَفُوا إِلَيْهِ شَهْرًا أَوْ قَالَ مَرَّاتٍ قَالَ فَإِنِّى أَقُولُ فِيهَا إِنَّ لَهَا صَدَاقًا كَصَدَاقِ نِسَائِهَا لاَ وَكْسَ وَلاَ شَطَطَ وَإِنَّ لَهَا الْمِيرَاثَ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّى وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ،فَقَامَ نَاسٌ مِن أَشْجَعَ فِيهِمُ الْجَرَّاحُ وَأَبُو سِنَانٍ فَقَالُوا يَا ابْنَ مَسْعُودٍ نَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَاهَا فِينَا فِى بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ وَإِنَّ زَوْجَهَا هِلاَلُ بْنُ مُرَّةَ الأَشْجَعِىُّ كَمَا قَضَيْتَ،قَالَ فَفَرِحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَرَحًا شَدِيدًا حِينَ وَافَقَ قَضَاؤُهُ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . (3)
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَبْلُغُ الْمَنقُولُ مِنهُ عَن أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَدَدًا كَثِيرًا جِدًّا .
وَأَمَّا الْمَنقُولُ مِنهُ عَن غَيْرِهِمْ فَلَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ ؛ فَإِنَّهُ أُلُوفٌ، فَهَؤُلَاءِ كَانُوا أَعْلَمَ الْأُمَّةِ وَأَفْقَهَهَا وَأَتْقَاهَا وَأَفْضَلَهَا فَمَن بَعْدَهُمْ أَنْقَصُ ؛ فَخَفَاءُ بَعْضِ السُّنَّةِ عَلَيْهِ أَوْلَى فَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ . فَمَن اعْتَقَدَ أَنَّ كُلَّ حَدِيثٍ صَحِيحٍ قَدْ بَلَغَ كُلَّ وَاحِدٍ مِن الْأَئِمَّةِ أَوْ إمَامًا مُعَيَّنًا فَهُوَ مُخْطِئٌ خَطَأً فَاحِشًا قَبِيحًا .
وَلَا يَقُولَن قَائِلٌ : الْأَحَادِيثُ قَدْ دُوِّنَتْ وَجُمِعَتْ ؛ فَخَفَاؤُهَا وَالْحَالُ هَذِهِ بَعِيدٌ . لِأَنَّ هَذِهِ الدَّوَاوِينَ الْمَشْهُورَةَ فِي السُّنَنِ إنَّمَا جُمِعَتْ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ ، وَمَعَ هَذَا فَلَا
__________
(1) - نفسه برقم( 17111) وهو صحيح
(2) - سنن أبى داود برقم(2116 ) صحيح
(3) - نفسه برقم( 2118 ) وهو صحيح(1/118)
يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ انْحِصَارَ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي دَوَاوِينَ مُعَيَّنَةٍ ،ثُمَّ لَوْ فُرِضَ انْحِصَارُ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَيْسَ كُلُّ مَا فِي الْكُتُبِ يَعْلَمُهُ الْعَالِمُ وَلَا يَكَادُ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِأَحَدِ . بَل قَدْ يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ الدَّوَاوِينُ الْكَثِيرَةُ وَهُوَ لَا يُحِيطُ بِمَا فِيهَا ،بَل الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ جَمْعِ هَذِهِ الدَّوَاوِينِ أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ مِن الْمُتَأَخِّرِينَ بِكَثِير (1) ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّا بَلَغَهُمْ وَصَحَّ عِنْدَهُمْ قَدْ لَا يَبْلُغُنَا إلَّا عَن مَجْهُولٍ ؛ أَوْ بِإِسْنَادِ مُنْقَطِعٍ ؛ أَوْ لَا يَبْلُغُنَا بِالْكُلِّيَّةِ فَكَانَتْ دَوَاوِينُهُمْ صُدُورَهُمْ الَّتِي تَحْوِي أَضْعَافَ مَا فِي الدَّوَاوِينِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ مَن عَلِمَ الْقَضِيَّةَ.
قلت : وفي هذا ردٌّ على من يتسرعُ فينكر على الفقهاء حكماً معينا لم يطلع على دليله أو أنَّ دليله على حدِّ زعمه ضعيفٌ، دون أن يحيط علما بأدلتهم ، ككثير من فقهاء ومحدثي العصر مع الأسف !!!
وَلَا يَقُولَنَّ قَائِلٌ : مَن لَمْ يَعْرِفْ الْأَحَادِيثَ كُلَّهَا لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا؛ لِأَنَّهُ إنْ اُشْتُرِطَ فِي الْمُجْتَهِدِ عِلْمُهُ بِجَمِيعِ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَفِعْلُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ : فَلَيْسَ فِي الْأُمَّةِ مُجْتَهِدٌ، قد أحاط بالسنَّة النبوية كلِّها ، وهذا لم ولن يوجد حتى قيام الساعة، وعندئذ يبطل الاجتهاد، وهذا تكليف لما لا يطاق ، قال تعالى : {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا .} (286) سورة البقرة، وقال - صلى الله عليه وسلم - « سَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، وَاغْدُوا وَرُوحُوا ، وَشَىْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ ،وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا » (2)
وَإِنَّمَا غَايَةُ الْعَالِمِ أَنْ يَعْلَمَ جُمْهُورَ ذَلِكَ وَمُعْظَمَهُ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ إلَّا الْقَلِيلُ مِن التَّفْصِيلِ، ثُمَّ إنَّهُ قَدْ يُخَالِفُ ذَلِكَ الْقَلِيلَ مِن التَّفْصِيلِ الَّذِي يَبْلُغُهُ.
وبفضل الله تعالى ، فقد جمع كثيرٌ من السنَّة النبوية اليوم ، بعد أنْ كانت مفرَّقة في الأرض ،على برامج حاسوبية قيِّمة ، كالكتب والتسعة وغيرها ، بل هناك موقع على النت وهو( جامع الحديث النبوي ) وهو يجمع أكثر من أربعمائة كتاب مسند من الأحاديث
__________
(1) - انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 6508) و(ج 6 / ص 832)
(2) - صحيح البخارى (6463 ) ومسلم (7300 )(1/119)
النبوية ، وغالب هذه الكتب اليوم موجودة في برنامج المكتبة الشاملة 2 ، وفي برنامج جامع التراث .
ولكن لو جمعت كلها على سبيل الافتراض ،فليس جمعها وحده يزيل الخلاف ، لوجود أسباب أخرى متعلقة بهذا الموضوع ، كما سترى في الأسباب التالية .
- - - - - - - - - - - - - - -(1/120)
السَّبَبُ الثَّانِي
عدم ثبوت الحديث عند الفقيه (1)
أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَهُ لَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ،إمَّا لِأَنَّ مُحَدِّثَهُ أَوْ مُحَدِّثَ مُحَدِّثِهِ أَوْ غَيْرَهُ مِن رِجَالِ الْإِسْنَادِ مَجْهُولٌ عِنْدَهُ ، كما في سنن أبى داود(2191 ) عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَن مُظَاهِرٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَن عَائِشَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « طَلاَقُ الأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَقُرْؤُهَا حَيْضَتَانِ ». قَالَ أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنِى مُظَاهِرٌ حَدَّثَنِى الْقَاسِمُ عَن عَائِشَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَهُ إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ « وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ ». قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَهُوَ حَدِيثٌ مَجْهُولٌ. (قلت : المجهول : هو مظاهر )
وكما في سنن الترمذي(88 )عَن أَبِى زَيْدٍ عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ سَأَلَنِى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَا فِى إِدَاوَتِكَ ». فَقُلْتُ نَبِيذٌ. فَقَالَ « تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ ». قَالَ فَتَوَضَّأَ مِنهُ. قَالَ أَبُو عِيسَى وَإِنَّمَا رُوِىَ هَذَا الْحَدِيثُ عَن أَبِى زَيْدٍ عَن عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ،وَأَبُو زَيْدٍ رَجُلٌ مَجْهُولٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ لاَ يُعْرَفُ لَهُ رِوَايَةٌ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ.
وكما في سنن الترمذى(817 ) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْقُطَعِىُّ الْبَصْرِىُّ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِلاَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ الْبَاهِلِىِّ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِىُّ عَنِ الْحَارِثِ عَن عَلِىٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَن مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلاَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِى كِتَابِهِ (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِن هَذَا الْوَجْهِ وَفِى إِسْنَادِهِ مَقَالٌ. وَهِلاَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَجْهُولٌ وَالْحَارِثُ يُضَعَّفُ فِى الْحَدِيثِ.
أَوْ مُتَّهَمٌ في رواية الحديث ، ففي السنن الكبرى للبيهقي(ج 1 / ص 14)(40) وَأَمَّا حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ يَا عَمَّارُ مَا نُخَامَتُكَ وَلاَ دُمُوعُ عَيْنَيْكَ إِلاَّ بِمَنزِلَةِ الْمَاءِ الَّذِى فِى رَكْوَتِكَ إِنَّمَا تَغْسِلُ ثَوْبَكَ مِنَ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِىِّ وَالدَّمِ وَالْقَىْءِ.
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى - (ج 20 / ص 239) ومجموع رسائل ابن تيمية - (ج 31 / ص 5)(1/121)
فَهَذَا بَاطِلٌ لاَ أَصْلَ لَهُ ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ ثَابِتُ بْنُ حَمَّادٍ عَن عَلِىِّ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَن عَمَّارٍ. {ج} وَعَلِىُّ بْنُ زَيْدٍ غَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهِ ، وَثَابِتُ بْنُ حَمَّادٍ مُتَّهَمٌ بِالْوَضْعِ.
وفي السنن الكبرى للبيهقي (ج 4 / ص 132) (7748) فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِى أَخْبَرْنَاهُ أَبُو سَعْدٍ الْمَالِينِىُّ أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِىٍّ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى السَّرْخَسِىُّ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَنبَسَةَ حَدَّثَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَن حَمَّادٍ عَن إِبْرَاهِيمَ عَن عَلْقَمَةَ عَن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« لاَ يَجْتَمِعُ عَلَى الْمُسْلِمِ خَرَاجٌ وَعُشْرٌ ». {ج} فَهَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ وَصَلُهُ وَرَفْعُهُ وَيَحْيَى بْنُ عَنبَسَةَ مُتَّهَمٌ بِالْوَضْعِ. قَالَ أَبُو سَعْدٍ قَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِىٍّ إِنَّمَا يَرْوِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَن حَمَّادٍ عَن إِبْرَاهِيمَ مِن قَوْلِهِ. رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ عَنبَسَةَ عَن أَبِى حَنِيفَةَ فَأَوْصَلَهُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : وَيَحْيَى بْنُ عَنبَسَةَ مَكْشُوفُ الأَمْرِ فِى ضَعْفَهِ لِرِوَايَاتِهِ عَنِ الثِّقَاتِ بِالْمَوْضُوعَاتِ.
وفي شعب الإيمان للبيهقي(8633 ) أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ السُّكَّرِيُّ ، قَالَ : أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُؤَمَّلِ ، قَالَ : نا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَيْهَقِيُّ ، قَالَ : نا النُّفَيْلِيُّ ، قَالَ : نا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَن طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ ، عَن ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ ، عَن أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَن جَابِرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تُسَلِّمُوا تَسْلِيمَ الْيَهُودِ ، وَالنَّصَارَى ، فَإِنَّ تَسْلِيمَهُمْ إِشَارَةٌ بِالْكُفُوفِ والْحَوَاجِبِ " . " هَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ بِمَرَّةٍ ، فَإِنَّ طَلْحَةَ بْنَ زَيْدٍ الرَّقِّيَّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ ، مُتَّهَمٌ بِالْوَضْعِ ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ضَعِيفٌ " ، وَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ وَالْمَحْفُوظُ فِي حَدِيثِ صُهَيْبٍ ، وَبِلَالٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : " أَنَّ الْأَنْصَارَ جَاءُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي ، فَكَانَ يُشِيرُ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ " ، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ : " أَنَّهُ جَاءَ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ " وَفِي حَدِيثِ ابْنِ سِيرِينَ فِي قِصَّةِ ابْنِ مَسْعُودٍ حِينَ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي : " فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ " ، وَإِنَّمَا الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي ذَلِكَ عَن ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ كَمَا (8637 ) َخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ ، قَالَ : أنا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ ، قَالَ : نا ابْنُ أَبِي قَمَّاشٍ ، قَالَ : نا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، عَن أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ ، عَن ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ ، عَن أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَن جَابِرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " تَسْلِيمُ الرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ بِإِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ فِعْلُ الْيَهُودِ(1/122)
" . " وَيُحْتَمَلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ كَرَاهِيَةَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْإِشَارَةِ فِي التَّسْلِيمِ دُونَ التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ التَّسْلِيمِ ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ تَمْنَعُهُ مِنَ التَّكْلِيمِ "
أَوْ سَيِّئُ الْحِفْظِ ، وهذا يوجد في عديد من الرواة ، فقد يكون رواه بعد سوء حفظه فخالف الثقات أو وهم فيه ، ففي الضُّعَفَاءُ الْكَبِيرِ لِلْعُقَيْلِيِّ (1812 )حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ : سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى ، يُحَدِّثُ عَن سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , " يُوتِرُ بِـ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى , وَ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ , وَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " . قَالَ شُعْبَةُ : فَسَأَلْتُ سَلَمَةَ بْنَ كُهَيْلٍ ، فَحَدَّثَنِي عَن ذَرٍّ , عَنِ ابْنِ أَبْزَى , عَن أَبِيهِ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , نَحْوَهُ
(1813 ) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الرَّازِيُّ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ ، عَن شُعْبَةَ قَالَ : أَفَادَنِي ابْنُ أَبِي لَيْلَى , عَن سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ ، عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - , " كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ " . فَلَقِيتُ سَلَمَةَ فَسَأَلْتُهُ , فَقَالَ : حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى ، قُلْتُ : إِنَّمَا أَفَادَنِي عَنكَ ، عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى ، فَقَالَ : مَا ذَنْبِي إِنْ كَانَ يَكْذِبُ عَلَيَّ".
قلت : محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى كان سيء الحفظ (1)
وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ مُسْنَدًا بَل مُنْقَطِعًا ؛ ففي المستدرك (7156 ) عن حَسَّانَ بْن عَطِيَّةَ ، عَن أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيُّ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا بِأَرْضِ مَخْمَصَةٍ ، فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنَ الْمَيْتَةِ ؟ قَالَ : إِذَا لَمْ تَصْطَبِحُوا ، وَلَمْ تَغْتَبِقُوا ، وَلَمْ تُحْتِفُوا ، فَشَأْنُكُمْ بِهَا"هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ "تعليق الحافظ الذهبي في التلخيص : فيه انقطاع( قلت : حسان بن عطية لم يدرك أبا واقد)
وفي السنن الكبرى للبيهقي (727)عَن سَعِيدٍ عَن قَتَادَةَ : أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَتَنَوَّرْ وَلاَ أَبُو بَكْرٍ وَلاَ عُمَرَ وَلاَ عُثْمَانَ (2) . وهو منقطع
__________
(1) - تقريب التهذيب(6081) والكاشف(5000)
(2) - النُّورَةُ من الحجر الذي يحرق ويُسَوَّى منه الكِلْسُ ويحلق به شعر العانة قال أَبو العباس يقال انْتَوَرَ الرجلُ وانْتارَ من النُّورَةِ قال ولا يقال تَنَوَّرَ إِلا عند إِبصار النار" لسان العرب - (ج 5 / ص 240)(1/123)
وفي السنن الكبرى للبيهقي(5417)عَن مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ رَفَعَهُ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« إِنْ جَاءَ رَجُلٌ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا فَلْيَخْتَلِجْ إِلَيْهِ رَجُلاً مِنَ الصَّفِّ فَلْيَقُمْ مَعَهُ فَمَا أَعْظَمَ أَجْرَ الْمُخْتَلِجِ».وَهُوَ مُنْقَطِعٌ. ومثله كثير
أَوْ لَمْ يَضْبُطْ لَفْظَ الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ قَدْ رَوَاهُ الثِّقَاتُ لِغَيْرِهِ بِإِسْنَادِ مُتَّصِلٍ بِأَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ يَعْلَمُ مِن الْمَجْهُولِ عِنْدَهُ الثِّقَةَ ، ففي السنن الكبرى للبيهقي(3620) أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنِى أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدُوسٍ قَالَ سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيًّا يَعْنِى ابْنَ الْمَدِينِىِّ يَقُولُ فِى هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ سُفْيَانُ سَمِعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ يَقُولُ أَخْبَرَنِى كَثِيرُ بْنُ كَثِيرٍ عَن أَبِيهِ عَن جَدِّهِ قَالَ : رَأَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ. قَالَ سُفْيَانُ : فَذَهَبْتُ إِلَى كَثِيرٍ فَسَأَلْتُهُ قُلْتُ: حَدِيثٌ تُحَدِّثُهُ عَن أَبِيكَ. قَالَ : لَمْ أَسْمَعْهُ مِن أَبِى ، حَدَّثَنِى بَعْضُ أَهْلِى عَن جَدِّى الْمُطَّلِبِ. قَالَ عَلِىٌّ : قَوْلُهُ لَمْ أَسْمَعْهُ مِن أَبِى شَدِيدٌ عَلَى ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ عُثْمَانُ يَعْنِى ابْنَ جُرَيْجٍ لَمْ يَضْبِطْهُ. {ت} قَالَ الشَّيْخُ وَقَدْ قِيلَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَن كَثِيرٍ عَن أَبِيهِ قَالَ حَدَّثَنِى أَعْيَانُ بَنِى الْمُطَّلِبِ عَنِ الْمُطَّلِبِ. وَرِوَايَةُ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَحْفَظُ.
وكما في موطأ مالك (42 ) حَدَّثَنِى يَحْيَى عَن مَالِكٍ عَن صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَن سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ - مِن آلِ بَنِى الأَزْرَقِ - عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِى بُرْدَةَ - وَهُوَ مِن بَنِى عَبْدِ الدَّارِ - أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا أَفَنَتَوَضَّأُ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ».
فهذا الحديث حصل خلاف كبير في أسانيده وصححه أكثر أهل العلم ،وَخَالف الْحَافِظ أَبُو عمر ابْن عبد الْبر ، فَقَالَ فِي «تمهيده» : اخْتلف أهل الْعلم فِي إِسْنَاده . قَالَ : وَقَول البُخَارِيّ : صَحِيح . لَا أَدْرِي مَا هَذَا مِنهُ ؟ ! وَلَو كَانَ صَحِيحا عِنْده ، لأخرجه فِي كِتَابه . قَالَ : وَهَذَا الحَدِيث لم يحْتَج أهل الحَدِيث بِمثل إِسْنَاده . قَالَ : وَهُوَ عِنْدِي صَحِيح ؛(1/124)
لِأَن الْعلمَاء تلقوهُ بِالْقبُولِ وَالْعَمَل بِهِ ، لَا يُخَالف [ فِي ] جملَته أحد (من) الْفُقَهَاء ، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي بعض مَعَانِيه (1) .
وقد ردَّ عليه الملقن ردًّا قويًّا في البدر المنير ، فقال (2) :"وَهَذَا الْكَلَام من الْحَافِظ أبي عمر فِيهِ نظر كَبِير ، لَا جرم أَن الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين تعقَّبه ، فَقَالَ فِي «شرح الإِلمام» : (قَوْله) : لَو كَانَ صَحِيحا لأخرجه (فِي كِتَابه) . غير لَازم ؛ لِأَنَّهُ (لم) يلْتَزم إِخْرَاج كل حَدِيث (صَحِيح) . وَأما قَوْله : لم يحْتَج أهل الحَدِيث بِمثل إِسْنَاده . فقد ذكرنَا فِي كتاب «الإِمام» وُجُوه التَّعْلِيل الَّتِي يُعلل بهَا الحَدِيث .
قلت : وحاصلها - كَمَا قَالَ فِيهِ - أَنه يُعلل بأَرْبعَة أوجه :
أَحدهَا : الْجَهَالَة [ بِسَعِيد ] بن سَلمَة ، والمغيرة بن أبي بردة ، الْمَذْكُورين فِي إِسْنَاده ، وادَّعى أَنه لم يرو عَن سعيد غير صَفْوَان بن سليم ، وَلَا عَن الْمُغيرَة غير سعيد بن سَلمَة ،قَالَ الإِمام الشَّافِعِي : فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث من لَا أعرفهُ .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» : يحْتَمل أَن يُرِيد سعيد بن سَلمَة ، أَو الْمُغيرَة أَو كِلَاهُمَا .
وَالْجَوَاب : أَنه رَوَاهُ عَن سعيد غير صَفْوَان ، رَوَاهُ عَنهُ : الجُلاَح ، بِضَم الْجِيم ، وَتَخْفِيف اللَّام ، وَآخره حاء مُهْملَة . قَالَ أَبُو عبيد فِي كِتَابه «الطّهُور» : وَخَالف أَبُو الْأسود أَصْحَابه ، فَقَالَ : الجلاخ - بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة . انْتَهَى - كنيته : أَبُو كثير ، رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من رِوَايَة قُتَيْبَة ، عَن لَيْث ، عَنهُ . وَلَفظه : «أنَّ نَاسا أَتَوا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالُوا : إنَّا نبعد فِي الْبَحْر ، وَلَا نحمل [ من المَاء ] إلاَّ الإِداوة والإِداوتين ، [ لأنَّا ] لَا نجد الصَّيْد حَتَّى نبعد ، فنتوضأ بِمَاء الْبَحْر ؟ فَقَالَ : «نعم ، إنَّه الحِلُّ ميتَته ، الطّهُور مَاؤُهُ» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك» ، والحافظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه الْكَبِير» ، من طَرِيق : يَحْيَى بن بكير عَن اللَّيْث ، بِسَنَدِهِ ، وَلَفْظهمَا : «كُنَّا عِنْد رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا ، فَجَاءَهُ صَيَّاد ، فَقَالَ : يَا رَسُول الله ، إنَّنا ننطلق فِي الْبَحْر ، نُرِيد الصَّيْد فَيحمل أَحَدنَا (مَعَه) الإِداوة ، وَهُوَ يَرْجُو أَن يَأْخُذ الصَّيْد قَرِيبا ، فَرُبمَا وجده
__________
(1) - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد - (ج 16 / ص 218)
(2) - البدر المنير - (ج 1 / ص 350)(1/125)
كَذَلِك ، وَرُبمَا لم يجد الصَّيْد حتَّى يبلغ من الْبَحْر مَكَانا لم يظنّ (أَن) يبلغهُ ، فَلَعَلَّهُ يَحْتَلِم ، أَو يتَوَضَّأ فإنْ اغْتسل أَو تَوَضَّأ بِهَذَا المَاء فَلَعَلَّ أَحَدنَا يُهْلِكُه الْعَطش ، فَهَل ترَى فِي مَاء الْبَحْر أَن نغتسل بِهِ ، أَو نَتَوَضَّأ (بِهِ) إِذا خفنا ذَلِك ؟ فَزعم أَن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : «اغتسلوا مِنهُ وَتَوَضَّئُوا بِهِ ، فَإِنَّهُ الطُّهُورُ مَاؤُهُ ، الحِلُّ ميتَته» .
قَالَ الْحَاكِم : قد احْتج مُسلم بالجلاح ، أبي كثير .
قلت : وَرَوَاهُ عَن الجلاح أَيْضا : يزِيد بن أبي حبيب ، وَعَمْرو بن الْحَارِث .
أما رِوَايَة عَمْرو : فَمن طَرِيق ابْن وهب ، وَأما رِوَايَة يزِيد : فَمن طَرِيق اللَّيْث عَنهُ ،وَأما الْمُغيرَة بن أبي بردة : فقد رَوَى عَنهُ يَحْيَى بن سعيد ، وَيزِيد بن مُحَمَّد الْقرشِي إِلَّا أَن يَحْيَى بن سعيد اخْتُلف عَلَيْهِ فِيهِ :
فَرَوَاهُ هشيم عَنهُ ، عَن الْمُغيرَة ، عَن رجل من بني مُدْلِج مَرْفُوعا .
وَرَوَاهُ حَمَّاد عَنهُ ، عَن الْمُغيرَة ، (عَن أَبِيه) ، عَن أبي هُرَيْرَة .ذكرهمَا الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» .
وَرِوَايَة يزِيد بن مُحَمَّد : أخرجهَا أَيْضا فِيهِ ، وَرَوَاهَا أَيْضا : أَحْمد بن عبيد الصَفَّار ، صَاحب «الْمسند» . وَمن جِهَته أخرجهَا الْبَيْهَقِيّ .
قَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله بن مَندَه : (فاتفاق صَفْوَان والجلاح) ، مِمَّا يُوجب شهرة سعيد بن سَلمَة ، واتفاق يَحْيَى بن سعيد ، وَسَعِيد بن سَلمَة ، عَلَى الْمُغيرَة بن أبي بردة ، مِمَّا يُوجب شهرة الإِسناد ، فَصَارَ الإِسناد مَشْهُورا .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين : وَقد زِدْنَا عَلَى مَا ذكرنَا عَن ابْن مَندَه : رِوَايَة يزِيد بن مُحَمَّد الْقرشِي ، فتلخص أَن الْمُغيرَة رَوَى عَنهُ ثَلَاثَة ، فبطلت دَعْوَى التفرد الْمَذْكُور عَن سعيد وَصَفوَان .
قَالَ فِي «شرح الإِلمام» : فالجهالة فِي حق سعيد ترْتَفع بِرِوَايَة الجلاح وَصَفوَان عَنهُ ، وَذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُور عِنْد الْمُحدثين : بِرَفْع الْجَهَالَة عَن الرَّاوِي . والجهالة مُرْتَفعَة عَن الْمُغيرَة بِرِوَايَة ثَلَاثَة عَنهُ كَمَا تقدم ، مَعَ كَونه مَعْرُوفا من غير الحَدِيث فِي مَوَاقِف (الحذر) فِي الحروب بالمغرب .(1/126)
قَالَ : وَزَوَال الْجَهَالَة عَن سعيد بِرِوَايَة [ اثْنَيْنِ ] عَنهُ ، وَعَن الْمُغيرَة بِرِوَايَة ثَلَاثَة عَنهُ يَكْتَفِي بِهِ من لَا يرَى أَنه لابد من معرفَة حَال الرَّاوِي فِي الْعَدَالَة ، بعد زَوَال الْجَهَالَة عَنهُ ، فإنْ كَانَ المصححون لَهُ قد علموها عَلَى جِهَة التَّفْصِيل ، فَلَا إِشْكَال مَعَ ذَلِك ، وإلاَّ فَلَا يبعد اعتمادهم عَلَى تحري مَالك ، وإتقانه للرِّجَال أَو عَلَى الِاكْتِفَاء بالشهرة .
قلت : قد ثَبت ثِقَة سعيد بن سَلمَة ، والمغيرة بن أبي بردة (صَرِيحًا) ، (فإنَّ الإِمام أَبَا عبد الرَّحْمَن النَّسَائِيّ وثقهما ، كَمَا نَقله عَنهُ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «تهذيبه» ، وَكَذَلِكَ أَبُو (حَاتِم) ابْن حبَان ، ذكرهمَا فِي كتاب «الثِّقَات») .
وَرَوَى الْآجُرِيّ عَن أبي دَاوُد ، أَنه قَالَ : الْمُغيرَة بن أبي بردة مَعْرُوف . وأوضح ابْن يُونُس معرفَة عينه ، فارتفعت عَنهُمَا جَهَالَة الْحَال بِهَذَا ، وجهالة الْعين بِمَا تقدم . وينضم إِلَى ذَلِك تَصْحِيح الْأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين لَهُ : التِّرْمِذِيّ ، وَالْبُخَارِيّ ، وَابْن الْمُنْذر ، وَابْن خُزَيْمَة ، وَابْن حبَان ، وَالْبَيْهَقِيّ ، وَابْن مَندَه ، وَالْبَغوِيّ ، وَغَيرهم .
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك» : (مثل هَذَا الحَدِيث) الَّذِي صَدَّر بِهِ مَالك كتاب «الْمُوَطَّأ» ، وتداوله فُقَهَاء الإِسلام من عصره إِلَى وقتنا هَذَا ، لَا يُردُّ بِجَهَالَة هذَيْن الرجلَيْن . قَالَ : عَلَى أَن اسْم الْجَهَالَة مَرْفُوع عَنهُمَا بمتابعات . فَذكرهَا بأسانيده ،وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» : الَّذِي أَقَامَ إِسْنَاده ثِقَة ، أودعهُ مَالك فِي موطئِهِ .
الْوَجْه الثَّانِي من التَّعْلِيل : الِاخْتِلَاف فِي اسْم سعيد بن سَلمَة .
فَقيل - كَمَا قَالَ الإِمام مَالك - : سعيد بن سَلمَة ، من (آل) ابْن الْأَزْرَق . وَقيل : عبد الله بن سعيد المَخْزُومِي . وَقيل سَلمَة بن سعيد .
وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ المخالفان لرِوَايَة مَالك (هما من رِوَايَة : مُحَمَّد بن إِسْحَاق ، عَلَى الِاخْتِلَاف عَنهُ ، وَالتَّرْجِيح لرِوَايَة مَالك) - مَعَ جلالته ، وَعدم الِاخْتِلَاف عَلَيْهِ - أولَى ،وَإِن كَانَ أَبُو عمر ابْن عبد الْبر (قَالَ) : [ رُوَاة الْمُوَطَّأ ] اخْتلفُوا ، فبعضهم يَقُول : من آل بني الْأَزْرَق ، كَمَا قَالَ يَحْيَى . وَبَعْضهمْ يَقُول : من آل الْأَزْرَق . وَكَذَا قَالَ (القعْنبِي) . وَبَعْضهمْ يَقُول : من آل ابْن الْأَزْرَق ، كَذَلِك قَالَ [ ابْن ] الْقَاسِم ، وَابْن بكير . قَالَ ابْن عبد الْبر : وَهَذَا كُله مُتَقَارب غير (ضار) .(1/127)
قلت : وَهَذَا الْوَجْه هُوَ الَّذِي اعتذر بِهِ الْبَيْهَقِيّ عَن الشَّيْخَيْنِ فِي عدم تخريجهما لهَذَا الحَدِيث ، فَقَالَ فِي كتاب «الْمعرفَة» : (إنَّما) لم يخرجَاهُ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» لاخْتِلَاف وَقع فِي اسْم سعيد بن سَلمَة ، والمغيرة بن أبي بردة .
وَهَذَا غير ضار ؛ إِذْ قد زَالَت الْجَهَالَة عَنهُمَا عينا وَحَالا كَمَا تقدَّم ، فَلَا يضر حينئذٍ الِاخْتِلَاف فِي اسمهما .
الْوَجْه الثَّالِث من التَّعْلِيل : التَّعْلِيل بالإِرسال .
قَالَ أَبُو عمر ابْن عبد الْبر : ذكر ابْن أبي عمر ، والْحميدِي ، والمخزومي ، عَن ابْن عُيَيْنَة ، عَن يَحْيَى بن سعيد ، عَن رجل من أهل الْمغرب - يُقَال لَهُ : الْمُغيرَة بن عبد الله بن أبي بردة - : «أنَّ نَاسا من بني مُدْلِج أَتَوا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالُوا : يَا رَسُول الله ! إنَّا نركب أَرْمَاثًا فِي الْبَحْر ...» وسَاق الحَدِيث بِمَعْنى حَدِيث مَالك ،قَالَ أَبُو عمر : هُوَ مُرْسل ، وَيَحْيَى بن سعيد أحفظ من صَفْوَان بن سليم ، وَأثبت من سعيد بن سَلمَة ، وَلَيْسَ إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث مِمَّا تقوم بِهِ عِنْد أهل الْعلم بِالنَّقْلِ حجَّة ؛ لِأَن فِيهِ رجلَيْنِ غير معروفين بِحمْل الْعلم .
وَأَرَادَ أَبُو عمر بِالرجلَيْنِ : سعيدًا والمغيرة ، وَقد تقدَّم رَدُّ جهالتهما ، وَأكْثر مَا بَقِي فِي هَذَا الْوَجْه - بعد اشتهار سعيد والمغيرة - تَقْدِيم إرْسَال الأحفظ ، عَلَى إِسْنَاد من دونه ، فإنَّ يَحْيَى بن سعيد أرْسلهُ من هَذَا الْوَجْه ، وَسَعِيد بن سَلمَة أسْندهُ ، وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة فِي الْأُصُول .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «(شرح) الإِلمام» : وَهَذَا غير قَادِح عَلَى الْمُخْتَار عِنْد أهل الْأُصُول .
قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم ابْن عَسَاكِر - بعد أَن ذكر رِوَايَة من رَوَى عَن الْمُغيرَة بن أبي بردة عَن أَبِيه وَقد جَوَّدَه عبد الله بن يُوسُف ، عَن مَالك ، عَن صَفْوَان ، سمع (الْمُغيرَة) أَبَا هُرَيْرَة ،وَأَيْضًا تقدم رِوَايَة مَالك وَمن تَابعه لعدم الِاضْطِرَاب فِيهَا ، عَلَى رِوَايَة يَحْيَى بن سعيد للِاخْتِلَاف عَلَيْهِ .
الْوَجْه الرَّابِع : التَّعْلِيل بِالِاضْطِرَابِ .(1/128)
قد تقدم اتِّفَاق رِوَايَة مَالك ، وَيزِيد بن مُحَمَّد الْقرشِي ، والجلاح ، من جِهَة اللَّيْث ، وَعَمْرو بن الْحَارِث .
وَأما ابْن إِسْحَاق : فَرَوَاهُ عَن يزِيد ، عَن جلاح ، عَن عبد الله بن سعيد المَخْزُومِي ، عَن الْمُغيرَة بن أبي بردة ، عَن أَبِيه ، عَن أبي هُرَيْرَة ، عَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - ،وَرَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» كَذَلِك بالسند الْمَذْكُور (عَن أبي هُرَيْرَة) ، قَالَ : «أَتَى (رجال) من بني مُدْلِج إِلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ، (فَقَالُوا) : يَا رَسُول الله ، إنَّا أَصْحَاب هَذَا الْبَحْر ، نعالج الصَّيْد عَلَى رِمْث ، فَنَعْزُب فِيهِ اللَّيْلَة والليلتين وَالثَّلَاث والأربع ، ونحمل مَعنا من العذب لشفاهنا ، فإنْ نَحن توضأنا بِهِ خشينا عَلَى أَنْفُسنَا ، وإنْ نَحن آثرنا بِأَنْفُسِنَا ، وتوضأنا من الْبَحْر ، وجدنَا فِي أَنْفُسنَا من ذَلِك ، فَخَشِينَا أَن لَا يكون طهُورا . فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - : «توضئوا مِنهُ ، فإنَّه الطَّاهِرُ ماؤُه ، (الحِلُّ) ميتَته» .
وَفِي رِوَايَة عَن ابْن إِسْحَاق : سَلمَة بن سعيد ، عَن الْمُغيرَة بن أبي بردة حَلِيف بني عبد الدَّار ، عَن أبي هُرَيْرَة ، عَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - .
قَالَ البُخَارِيّ : وَحَدِيث مَالك أصح ،وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ : اللَّيْث بن سعد أحفظ من مُحَمَّد بن إِسْحَاق ، وَقد أَقَامَ إِسْنَاده عَن يزِيد بن أبي حبيب ، وَتَابعه عَلَى ذَلِك عَمْرو بن الْحَارِث عَن الجلاح ، فَهُوَ أولَى أَن يكون صَحِيحا ، وَقد رَوَاهُ يزِيد بن مُحَمَّد الْقرشِي ، عَن الْمُغيرَة بن أبي بردة (نَحْو رِوَايَة من رَوَاهُ عَلَى الصِّحَّة .
وَالِاخْتِلَاف عَلَى يَحْيَى بن سعيد فِيهِ كَبِير ، وَقَالَ هشيم عَنهُ فِي رِوَايَة : عَن الْمُغيرَة بن أبي [ بَرزَة ]) . وَحمل التِّرْمِذِيّ الْوَهم عَلَى هشيم فِي ذَلِك ، وَحَكَاهُ عَن البُخَارِيّ ، فَقَالَ : وهم فِيهِ هشيم ، إنَّما هُوَ : ابْن أبي بردة ، وَقد رَوَاهُ أَبُو عبيد (عَن) هشيم عَلَى الصَّوَاب ، فقد يكون الْوَهم مِمَّن دونه "
ومثل حديث القلتين كما في سنن أبى داود (63 ) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ وَغَيْرُهُمْ قَالُوا حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ عَن مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَن أَبِيهِ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -(1/129)
عَنِ الْمَاءِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ ».
فقد صححه قوم وضعفه آخرون ، فمن صححه كالشافعية عملوا به ، ومن ضعفه لم يعمل به كالحنفية (1)
أَوْ يَكُونُ قَدْ رَوَاهُ غَيْرُ أُولَئِكَ الْمَجْرُوحِينَ عِنْدَهُ ؛ مثل حديث :« مَن غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ ». (2)
فقد صححه قوم وضعفه آخرون ، قال ابن الملقن :" هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق كَثِيرَة ، يَدُور - فِيمَا حصرنا مِنهَا - عَلَى سِتَّة من الصَّحَابَة أبي هُرَيْرَة ، وَعَائِشَة ، وَعلي ، وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ ، وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان ، والمغيرة رَضي اللهُ عَنهم .
ثم أما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فيحضرنا من (طرقه) ثَلَاثَة عشر طَرِيقا :
فذكرها جميعاً وذكر قول العلماء على جميعها ، ثم قال عقبها هَذَا مَا حَضَرنَا من كَلَام الْحفاظ قَدِيما وحديثًا عَلَيْهِ ، وَحَاصِله تَضْعِيف رَفعه وَتَصْحِيح وَقفه ، وَلَا بُد من النّظر فِي ذَلِك عَلَى سَبِيل التَّفْصِيل دون الِاكْتِفَاء بالتقليد ، وَقد قَامَ بذلك صَاحب «الإِمَام» وَحَاصِل مَا يعتل بِهِ فِي ذَلِك وَجْهَان :
أَحدهمَا : من جِهَة رجال الْإِسْنَاد ، فَأَما رِوَايَة صَالح مولَى التوءمة - وَهِي الطَّرِيق الثَّالِث - (فقد) سلف قَول مَالك وَشعْبَة فِيهِ ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : اخْتَلَط فِي آخر عمره ، فَخرج عَن (حد) الِاحْتِجَاج بِهِ .
وَأما رِوَايَة عَمْرو بن عُمَيْر - وَهِي الطَّرِيق الرَّابِع - فَقَالَ الْبَيْهَقِيّ (فِيهِ) : إِنَّمَا (يعرف) بِهَذَا الحَدِيث ، وَلَيْسَ بالمشهور . وَقَالَ ابْن الْقطَّان : إِنَّه مَجْهُول الْحَال لَا يعرف بِغَيْر هَذَا ، (وَهَذَا) الحَدِيث من غير مزِيد ذكره (ابْن أبي حَاتِم) .قَالَ ابْن الْقطَّان : وَهَذَا عِلّة الْخَبَر .
وَأما زُهَيْر الْمَذْكُور فِي الطَّرِيق الْخَامِس فَقَالَ الْبَيْهَقِيّ : قَالَ البُخَارِيّ : رَوَى عَنهُ أهل الشَّام أَحَادِيث مَنَاكِير . وَقَالَ النَّسَائِيّ : لَيْسَ بِالْقَوِيّ .
__________
(1) وانظر الكلام عليه مطولا نصب الراية - (ج 1 / ص 104) والتلخيص الحبير - (ج 1 / ص 135)(4) والبدر المنير - (ج 1 / ص 404) فما بعد
(2) انظر طرقه وتخريجه في المسند الجامع - (ج 17 / ص 9)(13218 -13221)(1/130)
وَأما حَدِيث الْعَلَاء - وَهُوَ السَّادِس - فَقَالَ ابْن الْقطَّان : لَيْسَ بِمَعْرُوف .
وَأما السَّابِع : فَفِي إِسْنَاده أَبُو (وَاقد) واسْمه : صَالح بن مُحَمَّد بن زَائِدَة . قَالَ يَحْيَى بن معِين : لَيْسَ حَدِيثه بِذَاكَ . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَجَمَاعَة : ضَعِيف . وَقَالَ البُخَارِيّ : مُنكر الحَدِيث .
وَأما الثَّامِن : فَفِيهِ أَبُو إِسْحَاق ، وَهُوَ مَجْهُول ، كَمَا سلف عَن أبي حَاتِم الرَّازِيّ .
وَأما التَّاسِع : فمحمد بن (عَمْرو) قَالَ يَحْيَى : مَا زَالَ النَّاس يَتَّقُونَ حَدِيثه .
وَأما الْعَاشِر : فالبكراوي ، وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان ، طرح النَّاس حَدِيثه ، كَمَا قَالَه أَحْمد ، وَقَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ : ذهب حَدِيثه .
وَقَالَ أَبُو حَاتِم : لَيْسَ بِقَوي ، يكْتب حَدِيثه وَلَا يحْتَج بِهِ . وَقَالَ يَحْيَى وَالنَّسَائِيّ : ضَعِيف . وَقَالَ ابْن حبَان : يروي المقلوبات عَن الْأَثْبَات ، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ .
وَأما الْحَادِي عشر : فَقَالَ الْبَيْهَقِيّ : فِي إِسْنَاده ابْن لَهِيعَة (وحنين) بن أبي حَكِيم ، وَلَا يحْتَج بهما .
الْوَجْه الثَّانِي : التَّعْلِيل ؛ فَأَما رِوَايَة سُهَيْل فقد قَالَ التِّرْمِذِيّ : إِنَّه رُوِيَ مَوْقُوفا . وَأَيْضًا ؛ فقد رَوَاهُ سُفْيَان ، عَن سُهَيْل ، عَن أَبِيه ، عَن إِسْحَاق مولَى زَائِدَة ، عَن أبي هُرَيْرَة - كَمَا سلف - فَأدْخل (رجلا) بَين أبي صَالح وَأبي هُرَيْرَة ، وَهَذَا اخْتِلَاف .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : وَإِنَّمَا لم يقو عِنْدِي أَنه يرْوَى عَن سُهَيْل بن أبي صَالح ، عَن أَبِيه ، عَن أبي هُرَيْرَة ، وَيدخل بعض الْحفاظ بَين أبي صَالح وَأبي هُرَيْرَة «إِسْحَاق مولَى زَائِدَة» . قَالَ : فَيدل عَلَى (أَن) أَبَا صَالح لم يسمعهُ من أبي هُرَيْرَة ، وَلَيْسَت معرفتي [ بِإسْحَاق ] مولَى زَائِدَة مثل معرفتي بِأبي صَالح ، وَلَعَلَّه أَن يكون ثِقَة .
(وَأما) رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب ؛ فقد أسلفنا (روايتنا) لَهُ عَن صَالح ، عَن أبي هُرَيْرَة ، وَعَن الْقَاسِم بن عَبَّاس ، عَن عَمْرو بن عُمَيْر ، عَن أبي هُرَيْرَة .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ عقب (رِوَايَة) ابْن أبي ذِئْب : وَصَالح مولَى التوءمة لَيْسَ بِالْقَوِيّ .
وَأما رِوَايَة مُحَمَّد بن عَمْرو فقد رَوَاهَا عبد الْوَهَّاب عَنهُ مَوْقُوفَة عَلَى أبي هُرَيْرَة ، وَرجحه بَعضهم عَلَى الرّفْع . قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَهُوَ الصَّحِيح كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ البُخَارِيّ . وَرَوَاهُ مُعْتَمر(1/131)
(أَيْضا) عَن مُحَمَّد فَوَقفهُ ، وَقد أسلفنا عَن أبي حَاتِم أَن الرّفْع خطأ . ثمَّ شرع الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين يُجيب عَن ذَلِك فَقَالَ : لقَائِل أَن يَقُول : أما الْكَلَام عَلَى صَالح مولَى التوءمة فَهُوَ وَإِن كَانَ مَالك قَالَ فِيهِ : إِنَّه لَيْسَ بِثِقَة - كَمَا قدمْنَاهُ - واستضعفه غَيره (فقد قَالَ) يَحْيَى فِيهِ : إِنَّه ثِقَة حجَّة . قيل لَهُ : إِن مَالِكًا (ترك) السماع مِنهُ ! فَقَالَ : (إِن) مَالِكًا إِنَّمَا أدْركهُ بعد أَن خرف ، وَلَكِن ابْن أبي ذِئْب سمع مِنهُ قبل أَن يخرف .
وَقَالَ السَّعْدِيّ : تغير جدًّا ، وَحَدِيث ابْن أبي ذِئْب (مَقْبُول) مِنهُ لقدم سَمَاعه . قَالَ الشَّيْخ : فَهَذَا يَقْتَضِي أَن كَلَام مَالك فِيهِ بعد تغيره وَأَن رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب قديمَة مَقْبُولَة ، وَهَذَا الحَدِيث من رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب عَنهُ . قَالَ : وَبِهَذَا يحصل الْجَواب عَن قَول الْبَيْهَقِيّ فِيهِ «إِنَّه اخْتَلَط فِي آخر عمره ؛ فَخرج عَن حد الِاحْتِجَاج بِهِ» لِأَنَّهُ قد تبين بِشَهَادَة من تقدم بقدم سَماع ابْن أبي ذِئْب وَأَنه مَقْبُول .
قلت : وَبِه يُجَاب (أَيْضا) عَن إعلال ابْن الْجَوْزِيّ الحَدِيث بِهِ كَمَا أسلفناه عَنهُ . قَالَ الشَّيْخ : وَأما رِوَايَة سُهَيْل ، عَن أَبِيه ، عَن أبي هُرَيْرَة فسندها عِنْد التِّرْمِذِيّ من شَرط الصَّحِيح ، وَقَالَ فِيهَا التِّرْمِذِيّ : إِنَّه حَدِيث حسن ، وَعبد الْعَزِيز (بن) الْمُخْتَار وَأَبُو صَالح مُتَّفق عَلَيْهِمَا ، وَمُحَمّد بن عبد الْملك و (سُهَيْل) أخرج لَهما مُسلم . وَقَالَ الشَّيْخ فِي (الْإِلْمَام) أَيْضا : رِجَاله رجال مُسلم . وَقد أخرجهَا ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن الْحجَّاج الشَّامي ، حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة ، عَن سُهَيْل ، عَن أَبِيه ، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا : «من غسل مَيتا فليغتسل ، وَمن حمله فَليَتَوَضَّأ» وَفِي هَذِه الرِّوَايَة فَائِدَة أُخْرَى ؛ وَهِي مُتَابعَة حمادٍ عبدَ الْعَزِيز .
وَأما رِوَايَة سُفْيَان وَإِدْخَال إِسْحَاق بَين أبي صَالح وَأبي هُرَيْرَة ، فَكَمَا قَالَ الشَّافِعِي يدلُّ عَلَى أَن أَبَا صَالح لم يسمعهُ من أبي هُرَيْرَة ، وَلَكِن إِسْحَاق مولَى زَائِدَة موثق أخرج لَهُ مُسلم ، وَقَالَ يَحْيَى : ثِقَة . وَإِذا كَانَ ثِقَة ، فكيفما كَانَ الحَدِيث عَنهُ أَو عَن أبي صَالح ، عَن أبي هُرَيْرَة ، لم يخرج عَن ثِقَة .(1/132)
قلت : وَقَول الشَّافِعِي السالف إِن فِي إِسْنَاده رجلا لم أَقف (عَلَى معرفَة) ثَبت حَدِيثه إِلَى يومي عَلَى مَا يقنعني . الظَّاهِر أَنه أَرَادَ إِسْحَاق هَذَا وَقد وضح لَك ثقته ، وَقد قَالَ فِيهِ مرّة أُخْرَى : لَعَلَّه أَن يكون ثِقَة . كَمَا أسلفناه عَنهُ .
وَأما طَرِيق أبي دَاوُد الَّذِي زيد فِيهِ «إِسْحَاق» فَلَا أرَى لَهُ عِلّة لصِحَّة إِسْنَاده واتصاله . حَامِد بن يَحْيَى الْمَذْكُور فِي أول إِسْنَاده مَشْهُور ، قَالَ أَبُو حَاتِم : صَدُوق . وَذكر جَعْفَر الْفرْيَابِيّ أَنه سَأَلَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ عَنهُ فَقَالَ : يَا سُبْحَانَ الله ، أُبْقِي حَامِد إلىأن يحْتَاج يسْأَل عَنهُ ؟ ! وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَقَالَ : كَانَ أعلم زَمَانه وَمن بعده مخرج لَهُ فِي «الصَّحِيح» . وَقد جنح ابْن حزم الظَّاهِرِيّ (إِلَى تَصْحِيحه) فَإِنَّهُ احْتج بِهِ فِي الْمَسْأَلَة وَقَالَ : إِسْحَاق مولَى زَائِدَة ثِقَة مدنِي ، وَثَّقَهُ أَحْمد بن صَالح الْكُوفِي وَغَيره .
وَأما زُهَيْر فقد أخرج لَهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَبَاقِي الْكتب السِّتَّة . وَقَالَ يَحْيَى : ثِقَة . وَقَالَ أَحْمد : مقارب الحَدِيث . وَقَالَ مرّة : لَيْسَ بِهِ بَأْس . وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ : لَا بَأْس بِهِ . وَقَالَ الْعجلِيّ : جَائِز الحَدِيث . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : مَحَله الصدْق ، فِي حفظه سوء (وَقَالَ : حَدِيثه) بِالشَّام ، أنكر من حَدِيثه بالعراق لسوء حفظه ، وَمَا (حدث) بِهِ من حفظه فَهُوَ أغاليط .
قلت : وَهَذَا الحَدِيث من رِوَايَة أهل الشَّام عَنهُ (الَّتِي) قَالَ البُخَارِيّ فِيهَا مَا سلف ، لَكِن رَوَى البُخَارِيّ (أَيْضا) عَن أَحْمد أَنه قَالَ : كأنَّ (زهيرًا) الَّذِي رَوَى عَنهُ أهل الشَّام (زُهَيْر) آخر .
وَأما رِوَايَة مُحَمَّد بن عَمْرو (فقد) احْتج بهَا ابْن حزم حَيْثُ رَوَاهَا من جِهَة حَمَّاد بن سَلمَة ، وَمُحَمّد بن عَمْرو رَوَى عَنهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ وتابع (بِهِ) مُسلم ، وَقد رفع هَذَا الحَدِيث حَمَّاد ، وَتَابعه أَبُو (بَحر) وَفِي قَول أبي حَاتِم : يكْتب حَدِيثه . مَا يَقْتَضِي أَن يَجْعَل تَأْكِيدًا فِي رَفعه ، وَرِوَايَة الْوَقْف لم يَعْتَبِرهَا ابْن حزم تَقْدِيمًا للرفع عَلَيْهَا ، وَقَالَ (عَلّي) بن الْمَدِينِيّ : كَانَ يَحْيَى بن سعيد حسن الرَّأْي فِي أبي بَحر .
وَأما ابْن لَهِيعَة فقد (سلفت) تَرْجَمته فِيمَا مَضَى ، وَأما حنين بن أبي حَكِيم فقد وَثَّقَهُ ابْن حبَان .(1/133)
وَأما الِاخْتِلَاف عَلَى ابْن أبي ذِئْب فقد يُقَال : إنَّهُمَا إسنادان مُخْتَلِفَانِ لِابْنِ أبي ذِئْب لَا يُعلل أَحدهمَا بِالْآخرِ ؛ لاخْتِلَاف رجالهما .
وَأما قَول ابْن الْقطَّان فِي حَدِيث الْعَلَاء : إِنَّه لَيْسَ بِمَعْرُوف . إِن أَرَادَ أَنه لَا يعرف مخرجه فَلَيْسَ كَذَلِك ، فقد خرجه الْبَزَّار كَمَا أسلفناه ، وَإِن أَرَادَ (مَعَ) (معرفَة طَرِيقه) أَنه غير مَشْهُور ؛ فَلَا (يُنَاسِبه) ذَلِك ، وَإِنَّمَا (يُنَاسِبه) النّظر فِي رجال إِسْنَاده .
وَأما أَبُو وَاقد فقد قَالَ أَحْمد فِيهِ : مَا أرَى بِهِ بَأْسا . فَلَعَلَّ ذَلِك يَقْتَضِي أَن يُتَابع بروايته ، وَأما (جَهَالَة) بعض رُوَاته فَلَا يقْدَح فِيمَا صَحَّ مِنهُمَا ؛ فقد ظهر صِحَة بعض طرقه وَحسن بَعْضهَا ومتابعة الْبَاقِي لَهَا ، فَلَا يخْفَى إِذا مَا فِي إِطْلَاق الضعْف عَلَيْهَا ، وَإِن الْأَصَح الْوَقْف ، وَقد علم أَيْضا مَا يعْمل عِنْد اجْتِمَاع الرّفْع وَالْوَقْف وشهرة الْخلاف (فِيهِ) ، وَقد نقل الإِمَام أَبُو الْحسن الْمَاوَرْدِيّ من أَئِمَّة أَصْحَابنَا فِي «حاويه» عَن بعض أَصْحَاب الحَدِيث أَنه خرج لصِحَّة هَذَا الحَدِيث مائَة وَعشْرين طَرِيقا ، فَأَقل أَحْوَاله (إِذا) أَن يكون حسنا . (1)
أَوْ قَدْ اتَّصَلَ مِن غَيْرِ الْجِهَةِ الْمُنْقَطِعَةِ ، كما في سنن النسائى(210 )أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ عَن مَالِكٍ عَن نَافِعٍ عَن سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَن أُمِّ سَلَمَةَ تَعْنِى أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُهَرَاقُ الدَّمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَفْتَتْ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَّيَالِى وَالأَيَّامِ الَّتِى كَانَتْ تَحِيضُ مِنَ الشَّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِى أَصَابَهَا فَلْتَتْرُكِ الصَّلاَةَ قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ فَإِذَا خَلَّفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ ثُمَّ لْتَسْتَثْفِرْ ثُمَّ لْتُصَلِّى » (2) .
هَذَا الحَدِيث عَلَى شَرط الصَّحِيح (3) رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور الْأَئِمَّة : مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَالشَّافِعِيّ فِي «الْأُم» وَأحمد والدارمي فِي «مسنديهما» وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» ، وَابْن الْجَارُود فِي «الْمُنْتَقَى» من رِوَايَة سُلَيْمَان بن يسَار ، عَن أم سَلمَة رَضي اللهُ عَنها بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَة .
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» وَغَيره : إِسْنَاده عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم .
__________
(1) - البدر المنير - (ج 2 / ص 524) فما بعدها
(2) - تستثفر : تشد فرجها بخرقة بعد أن تحتشى قطنا =خلفت : تركت
(3) - البدر المنير - (ج 3 / ص 121)(1/134)
قلت : وَأعله جمَاعَة بالانقطاع ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : هَذَا حَدِيث مَشْهُور إِلَّا أَن سُلَيْمَان بن يسَار لم يسمعهُ من أم سَلمَة (1) ، وَكَذَا (قَالَ) فِي «خلافياته» أَن سُلَيْمَان لم (يسمعهُ) مِنهَا ، إِنَّمَا سَمعه من رجل عَنهَا ، كَذَلِك رَوَاهُ اللَّيْث بن سعد وَعبيد الله بن (عمر) وصخر بن جوَيْرِية ، عَن نَافِع ، عَن سُلَيْمَان ، عَن رجل عَنهَا . وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي «الْوَهم وَالْإِيهَام» : هَذَا حَدِيث مُرْسل فِيمَا أرَى . وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي «شرح الْمسند» : إِنَّه مُرْسل . وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ : لم يسمعهُ سُلَيْمَان مِنهَا ، وَرَوَاهُ مُوسَى بن عقبَة ، عَن نَافِع ، عَن سُلَيْمَان ، عَن مرْجَانَة ، عَن أم سَلمَة .
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : (قد) اخْتلف فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث ، فَرَوَاهُ مَالك ، عَن نَافِع ، عَن سُلَيْمَان ، عَن أم سَلمَة . وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَسد بن مُوسَى ، عَن اللَّيْث ، عَن نَافِع . وَرَوَاهُ كَذَلِك أَسد أَيْضا ، عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر ، عَن الْحجَّاج ، عَن نَافِع بِهِ ،قَالَ : وَقيل بِإِدْخَال رجل بَين سُلَيْمَان ، وَأم سَلمَة ، فَرَوَاهُ اللَّيْث ، عَن نَافِع ، عَن سُلَيْمَان أَن رجلا أخبرهُ عَن أم سَلمَة ... الحَدِيث .
(رَوَاهُ) أَبُو دَاوُد من غير سِيَاقَة أَلْفَاظه كلهَا ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ صَخْر بن جوَيْرِية ، عَن نَافِع ، ذكره أَبُو دَاوُد محيلاً عَلَى رِوَايَة اللَّيْث ، وَسَاقه الدَّارَقُطْنِيّ وَابْن الْجَارُود بِتَمَامِهِ من حَدِيث صَخْر ، عَن نَافِع ، عَن سُلَيْمَان : أَنه حَدثهُ رجل عَن أم سَلمَة (2) ، وَكَذَلِكَ ذكر عَن مُوسَى بن عقبَة ، عَن نَافِع ، عَن سُلَيْمَان ، عَن رجل ، عَن أم سَلمَة . ورأيته فِي «مُسْند السراج» لَيْسَ بَين سُلَيْمَان وَأم سَلمَة أحد .
وَأخرجه أَبُو دَاوُد ، عَن نَافِع ، عَن سُلَيْمَان ، عَن رجل من الْأَنْصَار : «أَن امْرَأَة كَانَت تهراق الدَّم» .
وَذكر الرَّافِعِيُ - فِي شَرحه للمسند مقَالَة الْبَيْهَقِيّ السالفة ، وَأجَاب عَنهَا فَقَالَ : ذكر الْبَيْهَقِيّ أَن سُلَيْمَان لم يسمع هَذَا الحَدِيث من أم سَلمَة مستدلاً بِأَن اللَّيْث رَوَاهُ عَن نَافِع عَن سُلَيْمَان ، عَن رجل (عَنهَا) ، وَكَذَلِكَ (رَوَاهُ) جوَيْرِية بن أَسمَاء وَإِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي ج 1 / ص 332)
(2) - سنن الدارقطنى (855 )(1/135)
بن عقبَة ، وَعبيد الله بن (عمر) عَن نَافِع ، لَكِن يُمكن أَن يكون سَمعه سُلَيْمَان من رجل (عَن) أم سَلمَة ثمَّ سَمعه مِنهَا ، فروَى تَارَة هَكَذَا وَتارَة هَكَذَا . قَالَ : وَقد ذكر البُخَارِيّ فِي «التَّارِيخ» أَن سُلَيْمَان بن يسَار سمع ابْن عَبَّاس وَأَبا هُرَيْرَة وَأم سَلمَة (1) . هَذَا آخر كَلَام الرَّافِعِيّ .
وَهُوَ جمع حسن وَبِه يتَّفق الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور وَقد (جزم) صَاحب «الْكَمَال» بِأَن سُلَيْمَان سمع مِنهَا ، وَتَبعهُ (الْمزي) والذهبي (2) .
وَقَدْ ضَبَطَ أَلْفَاظَ الْحَدِيثِ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ الْحُفَّاظِ ؛ وغيرهم لم يضبطها،كما في السنن الكبرى للبيهقي (ج 10 / ص 282)(21905) وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنِى أَبُو عَلِىٍّ الْحَافِظُ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حُرَيْثٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ حَدَّثَنِى أَبِى ح وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ الأَصْبَهَانِىُّ أَنْبَأَنَا عَلِىُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِىُّ حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِى عِيسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَن قَتَادَةَ عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَن بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَن أَبِى هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ شِقْصًا مِن مَمْلُوكٍ فَأَجَازَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عِتْقَهُ وَغَرَّمَهُ بَقِيَّةَ ثَمَنِهِ. قَالَ قَتَادَةُ : إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتُسْعِىَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ. {ج} أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا عَلِىٌّ قَالَ سَمِعْتُ النَّيْسَابُورِىَّ يَقُولُ مَا أَحْسَنَ مَا رَوَاهُ هَمَّامٌ ضَبَطَهُ وَفَصَلَ بَيْنَ قَوْلِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَبَيْنَ قَوْلِ قَتَادَةَ وَفِيمَا بَلَغَنِى عَن أَبِى سُلَيْمَانَ الْخَطَابِىِّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ صَاحِبِ الْخِلاَفِيَّاتِ قَالَ هَذَا الْكَلاَمُ مِن فُتْيَا قَتَادَةَ لَيْسَ مِن مَتْنِ الْحَدِيثِ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَلِىِّ بْنِ الْحَسَنِ عَنِ الْمُقْرِئِ عَن هَمَّامٍ ثُمَّ قَالَ فَقَدْ أُخْبَرَ هَمَّامٌ أَنَّ ذِكْرَ السِّعَايَةِ مِن قَوْلِ قَتَادَةَ وَأَلْحَقَ سَعِيدُ بْنُ أَبِى عَرُوبَةَ الَّذِى مَيَّزَهُ هَمَّامٌ مِن قَوْلِ قَتَادَةَ فَجَعَلَهُ مُتَّصِلاً بِالْحَدِيثِ. أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنِى أَبُو عَلِىٍّ الْحَافِظُ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حُرَيْثٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِىٍّ يَقُولُ أَحَادِيثُ هَمَّامٍ عَن قَتَادَةَ أَصَحُّ مِن حَدِيثِ غَيْرِهِ لأَنَّهُ كَتَبَهَا إِمْلاَءً. أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا
__________
(1) - التاريخ الكبير[ج 4 -ص 41 ] (1901)
(2) - تهذيب الكمال [ج12 -ص 100 ](2574) وتهذيب التهذيب[ج4 - صفحة 199 ] (391)(1/136)
بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ كَامِلٍ الْقَاضِى يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا قِلاَبَةَ الرَّقَاشِىَّ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِىَّ بْنَ الْمَدِينِىِّ يَقُولُ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ شُعْبَةُ أَعْلَمُ النَّاسِ بِحَدِيثِ قَتَادَةَ مَا سَمِعَ مِنهُ وَمَا لَمْ يَسْمَعْ وَهِشَامٌ أَحْفَظُ وَسَعِيدٌ أَكْثَرُ قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدِ اجْتَمَعَ شُعْبَةُ مَعَ فَضْلِ حِفْظِهِ وَعِلْمِهِ بِمَا سَمِعَ مِن قَتَادَةَ وَمَا لَمْ يَسْمَعْ وَهِشَامٌ مَعَ فَضْلِ حِفْظِهِ وَهَمَّامٌ مَعَ صِحَّةِ كِتَابِهِ وَزِيَادَةِ مَعْرِفَتِهِ بِمَا لَيْسَ مِنَ الْحَدِيثِ عَلَى خِلاَفِ ابْنِ أَبِى عَرُوبَةَ وَمَن وَافَقَهُ فِى إِدْرَاجِ السِّعَايَةِ فِى الْحَدِيثِ وَفِى هَذَا مَا يُشْكِلُ فِى ثُبُوتِ الاِسْتِسْعَاءِ فِى هَذَا الْحَدِيثِ.
أَوْ لِتِلْكَ الرِّوَايَةِ مِن الشَّوَاهِدِ وَالْمُتَابَعَاتِ مَا يُبَيِّنُ صِحَّتَهَا ،كما في مسند أحمد (134) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ أَنْبَأَنَا عَمَّارُ بْنُ أَبِى عَمَّارٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى فِى يَدِ رَجُلٍ خَاتَماً مِن ذَهَبٍ فَقَالَ « أَلْقِ ذَا ». فَأَلْقَاهُ فَتَخَتَّمَ بِخَاتَمٍ مِن حَدِيدٍ فَقَالَ « ذَا شَرٌّ مِنهُ ». فَتَخَتَّمَ بِخَاتَمٍ مِن فِضَّةٍ فَسَكَتَ عَنهُ.
فهذا الحديث في سنده انقطاع عمار بن أبي عمار لم يدرك عمر رضي الله عنه .
وبنحوه في مسند أحمد (7165)عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِى أَنَّهُ لَبِسَ خَاتَماً مِن ذَهَبٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَأَنَّهُ كَرِهَهُ فَطَرَحَهُ ثُمَّ لَبِسَ خَاتَماً مِن حَدِيدٍ فَقَالَ :« هَذَا أَخْبَثُ وَأَخْبَثُ ». فَطَرَحَهُ ثُمَّ لَبِسَ خَاتَماً مِن وَرِقٍ فَسَكَتَ عَنهُ. وهذا حديث قوي ، فيقوى ذاك الحديث من أجله ، ويحتج به .
وهكذا كل حديث يقول عنه الإمام الترمذي : هذا حديث حسن ، فهو حديث ضعيف روي من أكثر من وجه .
تنحصرُ أسباب الضعف والقدح في الرواة في فئتين:
إحداهما تضمُّ ما يقدح في العدالة: كالكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ،أو التهمة به أو الكذبِ في أحاديث الناس،أو الفسق أو جهالة الراوي أو الابتداع بمكفر ونحو ذلك،فكلُّ ما كان ضعفُه ناشئاً عن مثل هذه الأسباب لا تؤثِّرُ فيه كثرةُ الطرق،ولا يرتقي عن درجة الضعف لشدةِ أسبابِ هذا الضعف،وتقاعدِ الجابر عن جبر ضعفِ المروي،نعم, قد يَرْتقي بمجموع طُرقه عن كَوْنهِ مُنْكرًا, أو لا أصل له, كما صرَّح به ابن حجر،حيث قال:" بَل ربَّما(1/137)
كَثُرت الطُّرقُ, حتَّى أوصلتهُ إلى درجة المَسْتُور, أو السَّيء الحفظ, بحيث إذا وجد له طريق آخر, فيه ضعفٌ قريبٌ مُحتمل, ارتقَى بمجمُوع ذلك إلى درجة الحَسَن.." (1)
والفئةُ الثانيةُ: ينطوي تحتها ما يقدحُ في الحفظ والضبط والاتصال،والأسباب القادحةُ فيهما: الغفلةُ وكثرةُ الغلط وسوءُ الحفظ والاختلاطُ والوهمُ،كوصل مرسل أو منقطع،فكلُّ ما كان ضعفُه بسببِ عدمِ ضبطِ راويه الصدوقِ الأمينِ،الذي لم تثلمْ عدالتُه فإنَّ كثرة الطرق تقويه،ويجبرُ ضعفُه بمجيئهِ من وجهٍ آخرَ؛ لأننا نعرفُ من الوجهِ الآخر أنَّ حفظَ راو الطريقِ الأول لم يختلَّ فيه ضبطُه وبهذا يرتقي من درجة الضعيفِ ضعفاً يسيراً إلى درجةِ الحسَنِ لغيرهِ .
وَهَذَا أَيْضًا كَثِيرٌ جِدًّا . وَهُوَ فِي التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ إلَى الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ مِن بَعْدِهِمْ أَكْثَرُ مِن الْعَصْرِ الْأَوَّلِ أَوْ كَثِيرٌ مِن الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ،فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ كَانَتْ قَدْ انْتَشَرَتْ وَاشْتَهَرَتْ لَكِنْ كَانَتْ تَبْلُغُ كَثِيرًا مِن الْعُلَمَاءِ مِن طُرُقٍ ضَعِيفَةٍ، وَقَدْ بَلَغَتْ غَيْرَهُمْ مِن طُرُقٍ صَحِيحَةٍ غَيْرِ تِلْكَ الطُّرُقِ فَتَكُونُ حُجَّةً مِن هَذَا الْوَجْهِ مَعَ أَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ مَن خَالَفَهَا مِن هَذَا الْوَجْهِ، وَلِهَذَا وُجِدَ فِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِن الْأَئِمَّةِ تَعْلِيقُ الْقَوْلِ بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ عَلَى صِحَّتِهِ فَيَقُولُ : قَوْلِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَذَا وَقَدْ رُوِيَ فِيهَا حَدِيثٌ بِكَذَا ؛ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَهُوَ قَوْلِي.
كما في السنن الكبرى للبيهقي (ج 8 / ص 111) برقم(16837) عَن حَنَشِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ الْكِنَانِىِّ عَن عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ : بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْيَمَنِ فَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ ثُمَّ قَالَ قَالَ عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنهُ : اجْمَعُوا فِى الْقَبَائِلِ الَّذِينَ حَضَرُوا رُبُعَ الدِّيَةِ وَثُلُثَ الدِّيَةِ وَنِصْفَ الدِّيَةِ وَالدِّيَةَ كَامِلَةً فَلِلأَوَّلِ الرُّبُعُ مِن أَجْلِ أَنَّهُ أَهْلَكَ مَن يَلِيهِ وَالثَّانِى ثُلُثُ الدِّيَةِ مِن أَجْلِ أَنَّهُ أَهْلَكَ مَن فَوْقَهُ وَالثَّالِثِ نِصْفُ الدِّيَةِ مِن أَجْلِ أَنَّهُ أَهْلَكَ مَن فَوْقَهُ وَالرَّابِعِ الدِّيَةُ كَامِلَةً فَزَعَمَ حَنَشٌ أَنَّ بَعْضَ الْقَوْمِ كَرِهَ ذَلِكَ حَتَّى أَتَوُا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَقُوهُ عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَصُّوا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَاحْتَبَى بُرْدَهُ ثُمَّ قَالَ أَنَا أَقْضِى بَيْنَكُمْ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : إِنَّ عَلِيًّا قَضَى بَيْنَنَا فَقَصُّوا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَأَجَازَهُ. فَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ أُرْسِلَ آخِرُهُ.
__________
(1) - قواعد التحديث للقاسمي-(ج 1 / ص 69) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي-(ج 1 / ص 119)(1/138)
{ج} وَحَنَشُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ غَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهِ قَالَ الْبُخَارِىُّ : حَنَشُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمُ ابْنُ رَبِيعَةَ يَتَكَلَّمُونَ فِى حَدِيثِهِ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الْمَالِينِىُّ أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِىٍّ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ حَمَّادٍ يَذْكُرُهُ عَنِ الْبُخَارِىِّ. {ق} وَأَصْحَابُنَا يَقُولُونَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ فِى الأَوَّلِ ثُلُثَا الدِّيَةِ ثُلُثُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِى وَثُلُثُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الثَّالِثِ لأَنَّهُ مَاتَ مِن فِعْلِ نَفْسِهِ وَفِعْلِ اثْنَيْنِ فَسَقَطَ ثُلُثُ الدِّيَةِ لِفِعْلِ نَفْسِهِ وَوَجَبَ الثُّلُثَانِ وَفِى الثَّانِى ثُلُثَا الدِّيَةِ ثُلُثُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الأَوَّلِ وَثُلُثُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الثَّالِثِ وَفِى الثَّالِثِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِى وَالآخَرُ ثُلُثَا الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الأَوَّلِ وَالثَّانِى وَفِى الرَّابِعِ جَمِيعُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الثَّالِثِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهَا عَلَى عَاقِلَةِ الأَوَّلِ وَالثَّانِى وَالثَّالِثِ فَإِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ تُرِكَ لَهُ الْقِيَاسُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وفي معرفة السنن والآثار للبيهقي: قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ أَتَى رَجُلٌ امْرَأَتَهُ حَائِضًا أَوْ بَعْدَ تَوْلِيَةِ الدَّمِ وَلَمْ تَغْتَسِلْ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَلَا يَعُدْ ، وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ شَيْءٌ لَوْ كَانَ ثَابِتًا أَخَذْنَا بِهِ ، وَلَكِنَّهُ لَا يُثْبَتُ مِثْلَهُ وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا ( 4441 ) أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى قَالَ : حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى ، عَن شُعْبَةَ ، عَنِ الْحَكَمِ ، عَن عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَن مِقْسَمٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ قَالَ : " يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ بِنِصْفِ دِينَارٍ " ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ السُّنَنِ ، عَن مُسَدَّدٍ ، ثُمَّ قَالَ : وَرُبَّمَا لَمَ يَرْفَعْهُ شُعْبَةُ ، وَهُوَ كَمَا قَالَ فَقَدْ رَوَاهُ عَفَّانُ وَجَمَاعَةٌ ، عَن شُعْبَةَ مَوْقُوفًا ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ، عَن شُعْبَةَ مَوْقُوفًا ، ثُمَّ قَالَ : قِيلَ لِشُعْبَةَ : إِنَّكَ كُنْتَ تَرْفَعُهُ قَالَ : إِنِّي كُنْتُ مَجْنُونًا فَصَحِحْتُ ، فَرَجَعَ عَن رَفْعِهِ بَعْدَ مَا كَانَ يَرْفَعُهُ" .
قلت : وقد اختلف هذا الحديث اختلافاً شديدا ، فأعل بالوقف ، وبالاضطراب ، وبضعف بعض رواته ، وعلى ذلك أئمة الشافعية الكبار بما فيهم الدارقطني وابن الصلاح والنووي ..
وردَّ عليهم من صحح الحديث ، بردود قوية كذلك .(1/139)
وقد ذكر ابن الملقن رحمه الله في كتابه النفيس البدر المنير ، كل ما يتعلق به جرحاَ وتعديلاً ، ورد على من ضعفه من الشافعية ، بكلام مطول بديع ، وهذه شذرات منه :
(وسيتكرر) عَلَى سَمعك من بعض الْمُحدثين أَن هَذَا الحَدِيث فِي كَفَّارَة من أَتَى حَائِضًا لَا يَصح ، فَليعلم أَنه لَا (عيب) لَهُ عِنْدهم إِلَّا الِاضْطِرَاب - زَعَمُوا - فَمِمَن صرح بذلك : أَبُو عَلّي بن السكن قَالَ : (هَذَا) حَدِيث مُخْتَلف فِي إِسْنَاده وَلَفظه وَلَا يَصح مَرْفُوعا ، لم يُصَحِّحهُ البُخَارِيّ ، وَهُوَ صَحِيح من كَلَام ابْن عَبَّاس . انْتَهَى كَلَامه .
فَنَقُول لَهُ الرِّجَال الَّذين رَوَوْهُ مَرْفُوعا ثِقَات ، وَشعْبَة إِمَام أهل الحَدِيث قد تثبت فِي رَفعه إِيَّاه ، فَمِمَن رَوَاهُ عَنهُ مَرْفُوعا يَحْيَى الْقطَّان ، وناهيك بِهِ ، وغندر وَهُوَ أخص النَّاس بشعبة مَعَ ثقته . وَرَوَاهُ سعيد بن عَامر ، عَن شُعْبَة فَقَالَ فِيهِ : عَن الحكم ، عَن عبد الحميد ، عَن مقسم ، عَن ابْن عَبَّاس من قَوْله (وَقفه) عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ شُعْبَة : أما حفظي فمرفوع . وَقَالَ فلَان وَفُلَان أَنه كَانَ لَا يرفعهُ . فَقَالَ لَهُ بعض الْقَوْم : يَا أَبَا بسطَام حَدثنَا حفظك وَدعنَا من فلَان وَفُلَان . فَقَالَ : وَالله مَا أحب أَنِّي حدثت بِهَذَا - وَسكت - أَو أَنِّي عمرت فِي الدُّنْيَا عمر نوح عَلَيْهِ السَّلَام فِي قومه . فَهَذَا غَايَة التثبت فِيهِ ، وهبك أَن أوثق أهل الأَرْض خَالفه فِيهِ ، فَوَقفهُ عَلَى ابْن عَبَّاس كَانَ مَاذَا ؟ أَلَيْسَ إِذا رَوَى (الصَّحَابِيّ) حَدِيثا عَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - َ يجوز لَهُ بل يجب عَلَيْهِ أَن ينْقل مُقْتَضَاهُ فيفتي بِهِ ، هَذَا قُوَّة للْخَبَر لَا توهين لَهُ ، فَإِن قلت فَكيف بِمَا ذكر ابْن السكن ، ثَنَا يَحْيَى وَعبد الله بن سُلَيْمَان وَإِبْرَاهِيم قَالُوا : ثَنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي ، نَا شُعْبَة بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدّم مثله مَوْقُوفا ، فَقَالَ لَهُ رجل : إِنَّك كنت ترفعه ؟ فَقَالَ: إِنِّي كنت مَجْنُونا فصححت . (قلت : فَظن أَنه لما) أَكثر عَلَيْهِ فِي رَفعه إِيَّاه توقَّى رَفعه ، لَا لِأَنَّهُ مَوْقُوف ، لَكِن إبعاد (الظنة) عَن نَفسه ، وَأبْعد من هَذَا الِاحْتِمَال أَن يكون شكّ فِي رَفعه فِي ثَانِي حَال فَوَقفهُ ، فَإِن كَانَ هَذَا فَلَا يبالى بذلك أَيْضا ، بل لَو نسي (الحَدِيث) بعد أَن حدث بِهِ لم يضرّهُ ، فَإِن أَبيت إِلَّا أَن يكون شُعْبَة رَجَعَ عَن رَفعه ، فَاعْلَم أَن غَيره من أهل (النَّقْد) وَالْأَمَانَة (قد) رَوَاهُ عَن الحكم مَرْفُوعا كَمَا رَوَاهُ شُعْبَة (فِيمَا تقدم ، وَهُوَ عَمْرو بن قيس الْملَائي وَهُوَ ثِقَة ، قَالَ فِيهِ عَن الحكم مَا قَالَه شُعْبَة) (من رَفعه) إِيَّاه(1/140)
وَإِذا تنبهت لهَذِهِ الدقائق الْمَذْكُورَة ظهر لَك احْتِيَاج هَذَا الْفَنّ إِلَى جودة التفكر (وَالنَّظَر) وَأَن الْأَمر لَيْسَ بالهين (لَا) كَمَا يَظُنّهُ قوم أَنه مُجَرّد [ حفظ ] وَنقل لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى غَيرهمَا
قلت : وَضعف (هَذَا) الحَدِيث من الْفُقَهَاء بعد الشَّافِعِي : إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ ، وَقَالَ ابْن الصّلاح فِي «مشكله» : إِنَّه حَدِيث ضَعِيف من أَصله لَا يَصح رَفعه ، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوف عَلَى ابْن عَبَّاس من قَوْله . قَالَ : وَقد حكم الْحَاكِم أَبُو عبد الله الْحَافِظ النَّيْسَابُورِي بِأَنَّهُ حَدِيث صَحِيح وَلَا الْتِفَات إِلَى ذَلِك مِنهُ فَإِنَّهُ خلاف (قَول غَيره من أَئِمَّة الحَدِيث) (وَالْحَاكِم) مَعْرُوف بالتساهل فِي مثل ذَلِك .
قلت : لم يتساهل فِي ذَلِك بل الْحق مَعَه كَمَا (قَرَّرْنَاهُ) وَتَبعهُ عَلَى ذَلِك النَّوَوِيّ كعادته فَقَالَ فِي «خلاصته» بعد أَن ذكره فِي فصل الضَّعِيف : لَا يعْتد بقول الْحَاكِم أَنه حَدِيث صَحِيح ، فَإِنَّهُ مَعْرُوف بالتساهل فِي التَّصْحِيح . قَالَ : وَاتفقَ الْحفاظ عَلَى ضعف هَذَا الحَدِيث واضطرابه وتلونه . وَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» أَيْضا : اتّفق المحدثون عَلَى ضعفه واضطرابه ، وَرُوِيَ مَوْقُوفا ومرسلاً وألوانًا كَثِيرَة ، وَقد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَلَا يَجعله ذَلِك صَحِيحا . قَالَ : وَأما قَول الْحَاكِم أَنه صَحِيح فخلاف مَا قَالَه أَئِمَّة الحَدِيث . قَالَ : وَهُوَ عِنْدهم مَعْرُوف بالتساهل . وَقَالَ فِي «تنقيحه» : هَذَا (حَدِيث) ضَعِيف بِاتِّفَاق الْحفاظ ، وأنكروا عَلَى الْحَاكِم تَصْحِيحه ، وَإِنَّمَا هُوَ من قَول ابْن عَبَّاس مَوْقُوف عَلَيْهِ هَذَا آخر كَلَامه.
وَالْحق عدم الْإِنْكَار عَلَى الْحَاكِم و(تَصْحِيحه) من (طَرِيقه) كَمَا سبق تَقْرِيره وَاضحا وَالله (الملهم للصَّوَاب) . (1)
- - - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - البدر المنير - (ج 3 / ص 87) فما بعدها(1/141)
السَّبَبُ الثَّالِثُ
اعْتِقَادُه ضَعْفِ الْحَدِيثِ
السَّبَبُ الثَّالِثُ : اعْتِقَادُ ضَعْفِ الْحَدِيثِ .بِاجْتِهَادِ قَدْ خَالَفَهُ فِيهِ غَيْرُهُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَن طَرِيقٍ آخَرَ سَوَاءٌ كَانَ الصَّوَابُ مَعَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ أَوْ مَعَهُمَا عِنْدَ مَن يَقُولُ : كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ .
وَلِذَلِكَ أَسْبَابٌ :
1-مِنهَا : أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ يَعْتَقِدُهُ أَحَدُهُمَا ضَعِيفًا ؛ وَيَعْتَقِدُهُ الْآخَرُ ثِقَةً
وَمَعْرِفَةُ الرِّجَالِ عِلْمٌ وَاسِعٌ جدا.
قلت : نصفُ السنَّة النبوية قائم على رجال مختلف فيهم ، فمنهم من وثقه قوم ، ومنهم من ضعفه قوم ، والعلماء في الجرح والتعديل ثلاثة أصنافٍ :
متشددون في الجرح ، يجرحون الراوي لأدنى شبهة ويردون حديثه.
والنوع الثاني متساهلون في الجرح والتعديل .
والنوع الثالث معتدلون في الجرح والتعديل .
وعلى ضوء ذلك يختلف الحكم على الحديث ، فمن أخذ بقول المتشددين في الحديث ترك كثيرا من الأحاديث لعدم صحتها عنده ,
ومن أخذ بقول المتساهلين يكون قد صحح أو حسَّن أحاديث واحتجَّ بها وهي لا تستحقُّ ذلك على الصحيح .
ومن أخذ بقول المعتدلين كان وسطاً بين الطرفين ، وهم الغالبية العظمى من علماء الجرح والتعديل أمثال البخاري وأحمد وابن سعد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني وابن عدي والمنذري والبيهقي والحافظ العراقي والهيثمي ، وابن الملقن والحافظ ابن حجر العسقلا ني والسخاوي والشوكاني..(1/142)
وهذه بعض الأمثلة من هذا ذكرهم الحافظ ابن حجر في التقريب ،مقارنة بتهذيب التهذيب لبعضهم وبقول الإمام الذهبي ولا سيما في الكاشف، لتتميز نقاط الاتفاق والاختلاف بينهما :
(12 ) أحمد بن بديل بن قريش أبو جعفر اليامي بالتحتانية قاضي الكوفة صدوق له أوهام من العاشرة مات سنة ثمان وخمسين ت ق.
وفي التهذيب (1) : "قال النسائي لا بأس به وقال ابن أبي حاتم محله الصدق وقال ابن عقدة رأيت إبراهيم بن إسحاق الصواف ومحمد بن عبد الله بن سليمان وداود بن يحيى لا يرضونه وقال ابن عدي حدث عن حفص بن غياث وغيره أحاديث أنكرت عليه وهو ممن يكتب حديثه على ضعفه وقال الدارقطني لين وقال صالح جزرة كان يسمَّى راهب الكوفة فلما تقلد القضاء، قال خذلت على كبر السن، وقال النضر قاضي همدان ثنا أَحْمَدُ بْنُ بُدَيْلٍ الْيَامِيُّ ، ثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ ، ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ ، عَن نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (2) فذكرته لأبي زرعة فقال: من حدثك قلت ابن بديل قال :شرٌّ له قال الدارقطني تفرد به أحمد عن حفص قال مطين مات 258 قلت: ذكره النسائي في أسماء شيوخه، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مستقيم الحديث ."
وفي الكاشف"أحمد بن بديل أبو جعفر اليامي قاضي الكوفة ثم همذان سمع أبا بكر بن عياش وحفص بن غياث وعدة وعنه الترمذي وابن ماجة وابن صاعد وابن عيسى الوزير وخلق قال: النسائي لا بأس به ،ولينه ابن عدي والدارقطني وكان عابدا توفي 258 ت ق (3)
(227 ) إبراهيم بن عيينة بن أبي عمران الهلالي مولاهم الكوفي أبو إسحاق أخو سفيان صدوقٌ يهِمُ من الثامنة مات قبل المائتين د س ق
__________
(1) - تهذيب التهذيب [ج 1 -ص15 ] وانظر تهذيب الكمال[ج1 -ص 270 ](13)
(2) - فَضَائِلُ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ لِلْحَسَنِ الْخَلَّالِ(34 )
(3) - الكاشف [ ج1 - ص190 ](10 )(1/143)
وفي التهذيب (1) : " قال ابن معين كان مسلما صدوقا لم يكن من أصحاب الحديث، وقال أبو حاتم: شيخ يأتي بمناكير، وقال النسائي: ليس بالقوي،وقال الحضرمي مات سنة 197 وقال ابن أبي عاصم سنة تسع يعني بتقديم التاء، قلت وقال العجلي: صدوق وذكره ابن حبان في الثقات ،وقال أبو داود في بني عيينة: كلهم صالح "
وفي الكاشف"إبراهيم بن عيينة الهلالي عن أبي حيان التيمي وجماعة وعنه ابن معين والفلاس وابن عفان العامري حسن قال النسائي: ليس بالقوي توفي 199 د س ق (2) .
(274 ) إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي صدوق يهم من السابعة مات سنة ثمان وتسعين خ م د س ق
وفي التهذيب (3) : " قال عباس الدوري عن يحيى بن معين: ليس بشيء ،وقال النسائي: ليس بالقوي ،وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: ضعيف الحديث، وقال أبو حاتم :حسن الحديث يكتب حديثه، وقال أبو أحمد بن عدي له: أحاديث صالحة وليس بمنكر الحديث يكتب حديثه، قال أبو نصر الكلاباذي مات سنة ثمان وتسعين ومئة، روى له الجماعة سوى بن ماجة ، قلت: قرأت بخط الذهبي إبراهيم لم يدرك جده أبا إسحاق، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدارقطني: ثقة ،وقال ابن المديني: ليس كأقوى ما يكون، وقال الآجري: سألت أبا داود عنه فقال: ضعيف ".
وفي الكاشف"إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن الشيخ أبي إسحاق السبيعي عن أبيه وجده وعنه أبو كريب وجماعة فيه لين مات 198 خ م د ت س (4) .
(289 ) الأحوص بن جواب بفتح الجيم وتشديد الواو الضبي يكنى أبا الجواب كوفي صدوق ربما وهم من التاسعة مات سنة إحدى عشرة م د ت س
__________
(1) - تهذيب التهذيب [ ج1 - ص131 ] و تهذيب الكمال [ ج2 - ص163 ](223 )
(2) - الكاشف [ ج1 - ص220 ] (184 )
(3) - تهذيب التهذيب[ج1 - ص160 ] وتهذيب الكمال[ ج2 - ص249 ](269)
(4) - الكاشف [ ج1 - ص227 ](225 )(1/144)
وفي التهذيب (1) : " قال ابن معين ثقة، وقال مرة: ليس بذاك القوي، وقال أبو حاتم: صدوق ،وقال مطين مات سنة 211 ،قلت: وقال ابن حبان في الثقات: كان متقنا ربما وهم " (2) .
وفي الكاشف " أحوص بن جواب أبو الجواب عن ابن أبي ليلى ويونس بن أبي إسحاق وعدة وعنه حجاج بن الشاعر وعباس الدوري وجمع صدوق توفي 211 م د ت س (3)
(1542) حميد بن الأسود بن الأشقر البصري أبو الأسود الكرابيسي صدوق يهم قليلا من الثامنة خ 4
وفي التهذيب (4) :" قال القواريري كان صدوقا، وقال أبو حاتم ثقة، وقال غيره كان عفان يحمل عليه، وذكره ابن حبان في الثقات، روى له البخاري مقرونا بغيره والباقون سوى مسلم، قلت: وقال الأثرم عن أحمد :سبحان الله ما أنكر ما يجيء به، وقال العقيلي في الضعفاء: كان عفان يحمل عليه، لأنه روى حديثنا منكرا ،وقال الساجي والأزدي صدوق عنده مناكير، وقال الحاكم عن الدارقطني ليس به بأس "
وفي الكاشف "حميد بن الأسود الكرابيسي بصري عن سهيل وحبيب بن الشهيد وعنه مسدد وعلي ثقة خ 4 (5) .
(1903 ) الربيع بن يحيى بن مقسم الأشناني بضم الألف وسكون المعجمة أبو الفضل البصري صدوق له أوهام من كبار العاشرة مات سنة أربع وعشرين خ د
وفي التهذيب (6) :" قال أبو حاتم ثقة ثبت وذكره ابن حبان في الثقات (7) ، قال ابن قانع مات سنة 224 ،قلت :وقال ابن قانع إنه ضعيف، وقال الدارقطني ضعيف ليس بالقوي
__________
(1) - تهذيب التهذيب[ج1 - ص167 ]
(2) - الثقات لابن حبان[ ج6 - ص89 ](6850)
(3) - الكاشف[ ج1 - ص229 ] (238 )
(4) - تهذيب التهذيب[ج3 - ص32 ] وتهذيب الكمال[ ج7 - ص350 ] (1523 )
(5) - الكاشف [ ج1 - ص352 ](1246 )
(6) - تهذيب التهذيب[ج3 - ص218 ]
(7) - وفي الثقات لابن حبان[ ج8 - ص240 ] (13218 ) الربيع بن يحيى أبو الفضل الأشناني من أهل البصرة يروى عن شعبة وزائدة روى عنه يعقوب بن سفيان والعراقيون يخطىء.(1/145)
يخطىء كثيرا حدث عن الثوري عن ابن المنكدر عن جابر جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الصلاتين وهذا حديث ليس لابن المنكدر فيه ناقة ولا جمل وهذا يسقط مائة ألف حديث، وقال أبو حاتم في العلل: هذا باطل عن الثوري " (1)
وفي الكاشف" الربيع بن يحيى الأشناني عن مالك بن مغول وشعبة وعنه البخاري وأبو داود والكجي قال أبو حاتم ثقة ثبت توفي 224 خ د (2)
وفي ميزان الاعتدال " الربيع بن يحيى الاشنانى [ خ، د ]عن شعبة وغيره،صدوق،روى عنه البخاري،وقد قال أبو حاتم مع تعنته: ثقة، ثبت: وأما الدارقطني فقال: ضعيف يخطئ كثيرا، قد أتى عن الثوري بخبر منكر، عن محمد بن المنكدر، عن جابر في الجمع بين الصلاتين،قال بعض الحفاظ: هذا يسقط كذا كذا ألف حديث،مات سنة أربع وعشرين ومائتين. (3)
2- قَدْ يَكُونُ الْمُصِيبُ مَن يَعْتَقِدُ ضَعْفَهُ ؛ لِاطِّلَاعِهِ عَلَى سَبَبٍ جَارِحٍ .
كحديث مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ , عَن سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ , عَن أَبِيهِ , عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : " مَن جَلَسَ مَجْلِسًا كَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (الحاكم) (4) : هَذَا حَدِيثٌ مَن تَأَمَّلَهُ لَمْ يَشُكَّ أَنَّهُ مِن شَرْطِ الصَّحِيحِ ، وَلَهُ عِلَّةٌ فَاحِشَةٌ (237) حَدَّثَنِي أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا حَامِدٍ أَحْمَدَ بْنَ حَمْدُونَ الْقَصَّارَ يَقُولُ : سَمِعْتُ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ : " وَجَاءَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ ، فَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَقَالَ : دَعْنِي حَتَّى أُقَبِّلَ رِجْلَيْكَ يَا أَسْتَاذَ الْأُسْتَاذَيْنِ ، وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ ، وَطَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ حَدَّثَكَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ قَالَ : ثَنَا مَخْلَدُ بْنُ
__________
(1) - وفي علل الحديث (313) وَسَمِعْتُ أَبِي ، وقيل لَهُ : حَدِيث مُحَمَّد بْن المنكدر ، عَن جَابِرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الجمع بين الصلاتين فَقَالَ : حَدَّثَنَا الربيع بْن يَحْيَى ، عَنِ الثَّوْرِيِّ ، غير أَنَّهُ باطل عِنْدِي هَذَا خَطَأٌ لم أدخله فِي التصنيف أَرَادَ : أبا الزبير ، عَن جَابِرٍ ، أو : أبا الزبير ، عَن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، والخطأ من الربيع
(2) - الكاشف[ ج1 - ص392 ] (1542 )
(3) - ميزان الاعتدال (ج 2 / ص 43) ( 2747) وانظر لمزيد من الأمثلة كتابي ( الحافظ ابن حجر ومنهجه في تقريب التهذيب ) المرتبة الخامسة .
(4) - شرح السنة للبغوي(1340) ومعرفة علوم الحديث (236 )(1/146)
يَزِيدَ الْحَرَّانِيُّ قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ , عَن مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ , عَن سُهَيْلٍ , عَن أَبِيهِ , عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ فَمَا عِلَّتُهُ ؟ ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ : هَذَا حَدِيثٌ مَلِيحٌ وَلَا أَعْلَمُ فِي الدُّنْيَا فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ ، إِلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ " حَدَّثَنَا بِهِ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ : حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ : ثَنَا سُهَيْلٌ , عَن عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَوْلَهُ ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ : هَذَا أَوْلَى فَإِنَّهُ لَا يُذْكَرُ لِمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ سَمَاعًا مِن سُهَيْلٍ (1)
وعَن يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ , عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - : كَانَ إِذَا أَفْطَرَ عِنْدَ أَهْلِ بَيْتٍ ، قَالَ : " أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ ، وَنَزَلَتْ عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ "
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ( الحاكم) : قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا مِن غَيْرِ وَجْهٍ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ , عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنهُ هَذَا الْحَدِيثَ ، وَلَهُ عِلَّةٌ (248 )أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَاسِمُ بْنُ الْقَاسِمِ السَّيَّارِيُّ ، وَأَبُو مُحَمَّدِ الْحَسَنُ بْنُ حَلِيمٍ الْمَرْوَزِيَّانِ بِمَرْوَ ، قَالَا : حَدَّثَنَا أَبُو الْمُوَجِّهِ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدَانُ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا هِشَامٌ , عَن يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، قَالَ : حُدِّثْتُ عَن أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أَفْطَرَ عِنْدَ أَهْلِ بَيْتٍ ، قَالَ : " أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ "
3- وَقَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ مَعَ الْآخَرِ لِمَعْرِفَتِهِ أَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ غَيْرُ جَارِحٍ ؛ إمَّا لِأَنَّ جِنْسَهُ غَيْرُ جَارِحٍ ؛ أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ فِيهِ عُذْرٌ يَمْنَعُ الْجَرْحَ .
أمثلة على ذلك :
__________
(1) - كونه فيه من لا يعرف بالسماع ممن روى عنه ، ليس هو العلة ، بل دليل على العلة ، وإنما العلة : أنه روي عن عون بن عبد الله موقوفا عليه ، وقد أعلَّه أبو حاتم في العلل (2079) بالوقف ، وبين الحافظ ابن حجر في النكت 2/726 أن قول البخاري : لا يذكر لموسى سماع من سهيل ، معناه أنه إذا كان غير معروف بالأخذ عنه ، ووقعت عنه رواية واحدة ، خالفه فيها من هو أعرف بحديثه وأكثر له ملازمة ، رجحت روايته على تلك الرواية المنفردة "
قلت : وهذا ذهاب منه إلى أن العلة الاختلاف بين رفعه ووقفه ، وكلامه يدلُّ على ترجيح الوقف ، ويدلُّ أيضاً على أن قول البخاري السابق هو من أدلته على ترجيح الوقف ، لآ أنه العلة المقصودة . تدريب الراوي هامش 1/422(1/147)
1 -قال ابن الجنيد : سألت يحيى بن معين عن هلال بن خباب وقلت : إن يحيى القطان يزعم أنه تغير قبل أن يموت واختلط ؟ فقال يحيى : " لا ، ما اختلط ، ولا تغير " ، قلت ليحيى : فثقة هو ؟ قال : " ثقة مأمون (1) .
قلت : وهذا النفي من ابن معين جائز أن يكون بالنظر إلى روايات الرجل ، فلم ير لما ذكر يحيى القطان تأثيراً فيها ، فكأنه يقول : لو صح ما قال القطان فلا وجه للقدح به ، إذ كأنه لم يكن .
2 -وقال الآجري : قلت لأبي داود : العوام بن حمزة ، حدث عنه يحيى القطان ، قال عباس ( يعني الدوري ) عن يحيى بن معين : إنه ليس بشيء ؟ قال : " ما نعرف له حديثاً منكراً " (2) .
قلت : فأبو داود يقول : لا وجه لجرحه بما قال ابن معين ؛ لسلامة حديثه ، وخذ منه أن ابن معين ربما قال هذه العبارة لا يعني بها ردَّ حديث الراوي ، إنما يعني قلة حديثه .
3 -وقال علي بن المديني في ( عبد الحميد بن جعفر الأنصاري ) : " كان يقول بالقدر ، وكان عندنا ثقة ، وكان سفيان الثوري يضعفه " (3) .
قلت: فلم يعتد بتضعيف سفيان ، وجائز أن يكون من أجل إجماله ، أو من أجل البدعة ، ولم يكن ابن المديني يرى لها أثراً في صدق الراوي وثقته .
4 -وفي طائفة من الرواة كان البخاري عدهم في جملة الضعفاء فيما ألفه في ذلك ، فخالفه فيهم أبو حاتم الرازي ، على ما يذكر من تشدده :
فمنهم : حريث بن أبي حريث ، قال أبو حاتم : " يحوَّلُ اسمه من هناك ، يكتب حديثه ولا يحتج به " (4) ، يريد أنه صالح الحديث للاعتبار .
ومنهم : عبيد بن سلمان الأعرج ، قال أبو حاتم : " لا أرى في حديثه إنكاراً ، يحول من كتاب الضعفاء الذي ألفه البخاري إلى الثقات " (5) .
__________
(1) - سؤالات ابن الجنيد ( النص : 288 ) .
(2) - سؤالات الآجري ( النص : 355 ) .
(3) - سؤالات ابن أبي شيبة لابن المديني ( النص : 105 ) .
(4) - الجرح والتعديل ( 1 / 2 / 263 ) . يعني بقوْله : " من هُناك " أي : من كتاب " الضعفاء " للبخاري.
(5) - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم - (ج 5 / ص 407)(1/148)
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَلِلْعُلَمَاءِ بِالرِّجَالِ وَأَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ مِن الْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ مِثْلُ مَا لِغَيْرِهِمْ مِن سَائِر أَهْلِ الْعِلْمِ فِي عُلُومِهِمْ (1) .
وذلك لأن علم الجرح والتعديل قائم على غلبة الظنِّ ، وليس على القطع واليقين ، فباب الاختلاف فيه واسع . (2)
4-وَمِنهَا : أَلَّا يَعْتَقِدَ أَنَّ الْمُحَدِّثَ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِمَن حَدَّثَ عَنهُ، فيكون الحديث منقطعا، لأنه روى عمَّن لم يره أولم يلقه ،وَغَيْرُهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَمِعَهُ لِأَسْبَابِ تُوجِبُ ذَلِكَ مَعْرُوفَةٍ.
وذلك للاختلاف في سِنِّه مثلا ،كالاختلاف في سنة ولادته ، أو سنة موته ، وكذلك كون الراوي عنه مدلِّسا أم غير مدلِّس ، فإنْ كان الأول فلا يقبل حديثه إلا إذا صرح فيه بالتحديث إذا كان يروي عن ثقات وغير ثقات ، وأمَّا إذا كان لا يروي إلا عن ثقات فيقبل حديثه ، أو كان الذي يروي عنه من أهل بلده الذين لازمهم كثيرا أو عن شيوخه الكبار ، فروايته عن هؤلاء بالعنعنة لا تضرُّ ، وتحمل روايته على السماع ..
وإذا لم يكن مدلسا فتقبل عنعنته مطلقا إذ أمكن اللقاء بينه وبين شيخه ، ومثل هذا كثير في الرواة.
مثال كما في سنن الترمذى(1608) عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَن أَبِى سَلَمَةَ عَن عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ نَذْرَ فِى مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ». قَالَ وَفِى الْبَابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ لاَ يَصِحُّ لأَنَّ الزُّهْرِىَّ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ مِن أَبِى سَلَمَةَ. قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَقُولُ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنهُمْ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ أَبِى عَتِيقٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَن سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ عَن يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ عَن أَبِى سَلَمَةَ عَن عَائِشَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ مُحَمَّدٌ وَالْحَدِيثُ هُوَ هَذَا.(1609) حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِىُّ - وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يُوسُفَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ
__________
(1) - انظر مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم
(2) - وقد فصلت ذلك في كتابي (الخلاصة في علم الجرح والتعديل )(1/149)
سُلَيْمَانَ بْنِ بِلاَلٍ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى أُوَيْسٍ عَن سُلَيْمَانَ بْنِ بِلاَلٍ عَن مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى عَتِيقٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَن سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ عَن يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ عَن أَبِى سَلَمَةَ عَن عَائِشَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ نَذْرَ فِى مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَهُوَ أَصَحُّ مِن حَدِيثِ أَبِى صَفْوَانَ عَن يُونُسَ. وَأَبُو صَفْوَانَ هُوَ مَكِّىٌّ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَقَدْ رَوَى عَنهُ الْحُمَيْدِىُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِن جِلَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ قَوْمٌ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ مِن أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَغَيْرِهِمْ لاَ نَذْرَ فِى مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَاحْتَجَّا بِحَدِيثِ الزُّهْرِىِّ عَن أَبِى سَلَمَةَ عَن عَائِشَةَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِن أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَغَيْرِهِمْ لاَ نَذْرَ فِى مَعْصِيَةٍ وَلاَ كَفَّارَةَ فِى ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِىِّ.
قال الحافظ ابن حجر في التلخيص :" وَلِلْحَدِيثِ طَرِيقٌ أُخْرَى رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِن حَدِيثِ كُرَيْبٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، فِيهِ طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى، وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ،وَقَالَ أَبُو دَاوُد: رُوِيَ مَوْقُوفًا، يَعْنِي: وَهُوَ أَصَحُّ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي "الرَّوْضَةِ" (1) : حَدِيثُ: "لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ" ، ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ،قُلْت: قَدْ صَحَّحَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ السَّكَنِ، فَأَيْنَ الاتفاق؟" (2)
قلت : فمن صحح الحديث أخذ به ، ومن ضعفه لم يأخذ به (3)
5-وَمِنهَا : أَنْ يَكُونَ لِلْمُحَدِّثِ حَالَانِ :حَالُ اسْتِقَامَةٍ وَحَالُ اضْطِرَابٍ :
مِثْلَ أَنْ يَخْتَلِطَ ، مثال على ذلك عطاء بن السائب ، وقد وثقه أكثر المحدثين ، ولكن قد اختلط قبل موته ، ومن ثم فقد اختلفوا في حديثه ،فمن روى عنه قبل الاختلاط فحديثه حديث الثقات يحتجُّ به ، ومن روى بعد الاختلاط يتوقف فيه ، فإنْ كان له شاهد أو متابع قبلناه وإلا فلا .
__________
(1) - روضة الطالبين" للإمام النووي [5/ 216].
(2) - التلخيص الحبير - (ج 4 / ص 429)
(3) - انظر تفاصيل أقوال الفقهاء في الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 40 / ص 148) فما بعد(1/150)
وقد اختلفوا في رواية حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب : قَالَ العقيلى : سمع حماد من عطاء بعد اختلاطه ،والصحيح أَنه سمع منه قبل الاختلاط وهومَا ذكره ابن الجارود فِى الضعفاء فقَالَ : حديث سفيان وشعبة وحماد بن سلمة عنه جيد ، وقال يعقوب بن سفيان : هو ثقة حجة وما روى عنه سفيان وشعبة وحماد بن سلمة سماع هؤلاء قديم --- (1) وهومَا رجحه ابن حجر فِى الفتح وغيره والهيثمى وأحمد شاكر وهو الحق .
والذين رووا عن عطاء بن السائب قبل الاختلاط هم : سفيان الثورى وشعبة وزهير وزائدة وحماد بن سلمة ، حماد بن زيد ، أيوب وسفيان ابن عينيه --وحديثهم صحيح فهو ثقة اختلط بآخره ، وما رواه بعد الاختلاط يتوقف فيه.
أَوْ تَحْتَرِقَ كُتُبُهُ ، كعبد الله بن لهيعة المصري ، فقد احترقت كتبه بآخر عمره سنة 169 أو170 هـ ومات سنة 174 هـ فخلط بعدها، وقد اختلفوا فيه، وخلاصة الأمر فيه ما قاله ابن عدي : وحديثه أحاديث حسان ، وما قد ضعفه السلف هو حسن الحديث يكتب حديثه ، وقد حدث عنه الثقات : الثوري وشعبة ومالك وعمرو بن الحارث والليث بن سعد.
قلت : وقالوا رواية عبد الله بن وهب عنه وابن المبارك وعبد الله بن يزيد المقري وقتيبة بن سعيد أعدل من غيرها عنه ، وينبغي أن يضاف لهؤلاء ما رواه عنه أبو الأسود والحسن بن موسى، وقد روى الإمام أحمد في مسنده أحاديث ابن لهيعة من طريق الحسن بن موسى وأبي الأسود غالباً . (2)
فَمَا حَدَّثَ بِهِ فِي حَالِ الِاسْتِقَامَةِ صَحِيحٌ وَمَا حَدَّثَ بِهِ فِي حَالِ الِاضْطِرَابِ ضَعِيفٌ فَلَا يَدْرِي ذَلِكَ الْحَدِيثَ مِن أَيِّ النَّوْعَيْنِ ؟ وَقَدْ عَلِمَ غَيْرُهُ أَنَّهُ مِمَّا حَدَّثَ بِهِ فِي حَالِ الِاسْتِقَامَةِ.
__________
(1) - التهذيب للحافظ ابن حجر 7/206-207
(2) - راجع تهذيب الكمال [ج 15 -ص487 ] برقم(3513 ) و وتهذيب التهذيب [ج 5 -ص327 ] برقم(648) والجرح والتعديل [ ج 5 - ص145 ] برقم(682 ) والكامل في الضعفاء [ ج 4 - ص 144 ] برقم(977 ) وتذكرة الحفاظ برقم(224) وتاريخ دمشق [ج 32 -ص136 ] برقم(3474)(1/151)
كما في سنن ابن ماجه( 4314 ) حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِىِّ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَن عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنِ الأَغَرِّ أَبِى مُسْلِمٍ عَن أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِى وَالْعَظَمَةُ إِزَارِى مَن نَازَعَنِى وَاحِدًا مِنهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِى جَهَنَّمَ ».
قال البوصيري في مصباح الزجاجة (841) هذا إسناد رجاله ثقات إلا أن عطاء بن السائب اختلط بآخرة ولم يعرف حال عبد الرحمن بن محمد المحاربي هل روى عنه قبل الاختلاط أو بعده وله شاهد من حديث أبي هريرة رواه مسلم في صحيحه وغيره.
فلت : فاته أنه قد توبع ، ففي مسند أحمد(9129) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَن عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنِ الأَغَرِّ عَن أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْنِى « قَالَ اللَّهُ الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِى وَالْعَظَمَةُ إِزَارِى فَمَن نَازَعَنِى وَاحِداً مِنهُمَا أَدْخَلْتُهُ جَهَنَّمَ ».
وبرقم(9598) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَن عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنِ الأَغَرِّ عَن أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا يَحْكِى عَن رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ « الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِى وَالْعَظَمَةُ إِزَارِى مَن نَازَعَنِى وَاحِداً مِنهُمَا قَذَفْتُهُ فِى النَّارِ ».
وبرقم(9756) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنِ الأَغَرِّ عَن أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِى وَالْعَظَمَةُ إِزَارِى فَمَن يُنَازِعُنِى وَاحِدَةً مِنهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِى جَهَنَّمَ ».
وبرقم(9954) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَن عَطَاءٍ - يَعْنِى ابْنَ السَّائِبِ - عَنِ الأَغَرِّ أَبِى مُسْلِمٍ عَن أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِى وَالْعَظَمَةُ إِزَارِى فَمَن نَازَعَنِى شَيْئاً مِنهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِى جَهَنَّمَ ».
فقد تابعه سُفْيَانُ وحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وإِسْمَاعِيلُ وعَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وبعضهم روى عنه قبل الاختلاط ، فالحديث صحيح بلا ريب ، بدون الشواهد والطرق الأخرى
6- وَمِنهَا : أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ قَدْ نَسِيَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ:
فَلَمْ يَذْكُرْهُ فِيمَا بَعْدُ أَوْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ حَدَّثَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّ هَذَا عِلَّةٌ تُوجِبُ تَرْكَ الْحَدِيثِ . وَيَرَى غَيْرُهُ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، قال الذهبي في السير :"حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ(1/152)
الرَّحْمَنِ (ع)الْحَافِظُ الْحُجَّةُ الْمُعَمَّرُ أَبُو الْهُذَيْلِ السُّلَمِيُّ الْكُوفِيُّ ابْنُ عَمِّ مَنصُورٍ. وُلِدَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ فِي حُدُودِ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ.
رَوَى أَبُو حَاتِمٍ، عَن أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الثِّقَةُ الْمَأْمُونُ مِن كِبَارِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ،وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: ثِقَةٌ،وَقَالَ أَحْمَدُ الْعِجْلِيُّ: كَوَفِيٌّ ثِقَةٌ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ، سَكَنَ بَلَدَ الْمُبَارَكِ بِأَخْرَةَ، وَالْوَاسِطِيُّونَ أَرَوَى النَّاسِ عَنهُ،قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قُلْتُ: لِأَبِي زُرْعَةَ، حُصَيْنٌ حُجَّةٌ ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ،وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: ثِقَةٌ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ: وَفِي آخِرِ عُمْرِهِ سَاءَ حِفْظُهُ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: تَغَيَّرَ،وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: طَلَبْتُ الْحَدِيثَ وَحُصَيْنٌ حَيٌّ، كَانَ يُقْرَأُ عَلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ نَسِيَ. وَعَن يَزِيدَ قَالَ: اخْتَلَطَ حُصَيْنٌ،وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ: لَمْ يَخْتَلِطْ.
قُلْتُ: احْتَجَّ بِهِ أَرْبَابُ الصِّحَاحِ، وَهُوَ أَقْوَى مِن عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَمِن سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، وَمَا هُوَ بِدُونِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْعَجَبُ مِن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيِّ، وَمِنَ الْعُقَيْلِيِّ، وَابْنِ عَدِيٍّ، كَيْفَ تَسَرَّعُوا إِلَى ذِكْرِ حُصَيْنٍ فِي كُتُبِ الْجَرْحِ." (1) .
وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ، وقد ذكرها العلماء تحت عنوان :
حكمُ رواية من حَدَّثَ ونَسِيَ (2) :
فإذا رَوَى ثقة عن ثقة حديثا, ثمَّ نفاه المسمع لمَّا رُوجع فيه، فالمُخْتار عند المُتأخِّرين أنَّه إن كان جَازمًا بنفيه, بأن قال: ما رويته أو كذب عليَّ ونحوه, وجب ردُّه لتعارض قولهما, مع أنَّ الجاحد هو الأصل ، ولكن لا يقدح ذلك في باقي روايات الرَّاوي عنه ولا يثبت به جرحه, لأنَّه أيضًا مُكذِّبٌ لشيخه في نفيه لذلك, وليس قَبُول جرح كلٍّ منهما أولى من
__________
(1) - سير أعلام النبلاء - (ج 5 / ص 422) برقم(186 )
(2) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 22) وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 330) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 2 / ص 144) ونزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 37)(1/153)
الآخر فتساقطا, فإن عاد الأصْل وحدَّث به, أو حدَّث فرع آخر ثقة عنه, ولم يُكذبه فهو مقبول. صرَّح به القاضي أبو بكر والخطيب وغيرهما (1)
__________
(1) - البرهان في أصول الفقه - الرقمية - (ج 1 / ص 250) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 264)
لكن ينبغي أن يتنبه هنا إلى أمرٍ هام ، وهو أن هذا الحكم إنما يكون إذا كان كلٌّ من الشيخ والراوي عنه ثقة ، أما إذا كان أحدهما ضعيفاً ، فلا تقبل دعواه ، ويقدم قول الثقة .
فمثال ضعف الشيخ :
قال الحاكم في معرفة علوم الحديث (367 )حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ : ثنا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , عَن إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَطَاءٍ , عَن مُوسَى بْنِ وَرْدَانَ , عَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ مَاتَ مَرِيضًا ، مَاتَ شَهِيدًا ، وَوُقِيَ فَتَّانَ الْقَبْرِ ، وَغُدِيَ ، وَرِيحَ عَلَيْهِ بِرِزْقِهِ مِنَ الْجَنَّةِ " قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : إِبْرَاهِيمُ هَذَا هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَحْيَى الْأَسْلَمِيُّ سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ مُحَمَّدَ بْنَ يَعْقُوبَ يَقُولُ : سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدٍ الدُّورِيَّ يَقُولُ : سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ : " حَدِيثُ : " مَنْ مَاتَ مَرِيضًا ، مَاتَ شَهِيدًا " ، كَانَ ابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ فِيهِ : إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَطَاءٍ وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَحْيَى "
وروى ابن الجوزي في الموضوعات (1739) بإسناده إلى ابن أبي سكينة الحلبي ، قال : سمعت إبراهيم بن أبي يحيى يقول : حدَّثتُ ابن جريج بهذا الحديث : ( من مات مرابطا) فروى عني (من مات مريضا) وما هكذا حدثته .
قال ابن الجوزي : ابن جريج هو الصادق ، وذلك لأن ابن أبي يحيى الأسلمي ضعيف ، وابن جريج ثقة .
ومثال ضعف الراوي :
عن شعبة قال روى الحسن بن عمارة عن الحكم عن يحيى بن الجزار عن علي سبعة أحاديث فلقيت الحكم فسألته عنها فقال ما حدثت بشيء منها.
والحسن بن عمارة ضعيف ، بل متروك ، والحكم بن عتيبة ثقة حافظ .
وهذه القصة تدلُّ على سوء حفظ الحسن بن عمارة ، لأنه روى عن الحكم أحاديث لا أصل لها عنه ، ولذا لما سئل الحكم عنها قال : ما سمعت بهذا شيئاَ .
فإن قيل : قد روى الخطيب في الكفاية (280 )أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْقَطِيعِيُّ ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ الْحَافِظُ ، ثنا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ ، ثنا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ , قَالَ : سَأَلْتُ أَيُّوبَ بْنَ سُوَيْدٍ عَنِ الَّذِي كَانَ شُعْبَةُ يَطْعَنُ بِهِ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ فَقَالَ لِي : " كَانَ يَقُولُ : إِنَّ الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ لَمْ يُحَدِّثْ عَن يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ , وَالْحَسَنُ يُحَدِّثُ عَنِ الْحَكَمِ عَن يَحْيَى أَحَادِيثَ كَثِيرَةً , قَالَ : فَقُلْتُ ذَلِكَ لِلْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ فَقَالَ : إِنَّ الْحَكَمَ أَعْطَانِي حَدِيثَهُ عَن يَحْيَى فِي كِتَابٍ لِأَحْفَظَهُ فَحَفِظْتُهُ "
فإن قيل : أليس هذا كافياً في تبرئة الحسن بن عمارة ، إذ أنه صرح بأنه حفظ عن الحكم ما لم يحفظه غيره ؟!
قلت : كلا ، لأمور :
الأول: أنه رجل سيئ الحفظ ، فمهما ادعى من شيء فلن يسمع له .
الثاني : أنه لم يحدث بها من الكتاب ، بل من حفظه كما يفهم من كلامه ، وقد مرَّ أنه سيئ الحفظ ، فلا يؤمن عليه أن يخطئ فيدخل حديثا في حديث ، أو يقلب بعض الأسانيد عن غير قصد .
الثالث: أن الحكم بن عتيبة لما سئل عن هذه الأحاديث أنكرها ، وهو ثقة حجَّةٌ ، فلا يردُّ قوله لقول الحسن بن عمارة الضعيف .
الرابع : أن هذه الأحاديث التي تفرد بها عن الحكم يحيى بن الجزار ، وجدها الئمة أحاديث منكرة غير مستقيمة ، وهذا أكبر دليل على الحكم لم يحدث بها ، لأن الأحاديث المناكير لا تأتي إلا من الرجال المناكير كالحسن بن عمارة وأمثاله " التدريب هامش 1/561-562(1/154)
ومُقَابل المُختار في الأوَّل عدم رد المَرْوي.
واختارهُ السَّمعاني, وعزاهُ الشَّاشي للشَّافعي, وحكى الهِنْدي الإجْمَاع عليه.
وجزمَ المَاوردي والرُّوياني بأنَّ ذلك لا يقدح في صِحَّة الحديث, إلاَّ أنَّه لا يَجُوز للفرع أن يرويه عن الأصْل, فحصلَ ثلاثة أقْوَال.
وثَمَّ قولٌ رابع: أنَّهما يتعارضَان, ويُرجَّح أحدهما بطريقه, وصار إليه إمام الحرمين.
ومن شواهد القبول ما رواهُ الشَّافعي في المسند( 175 )أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ ، عَن عَمْرٍو ، عَن أَبِي مَعْبَدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا قَالَ : " كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالتَّكْبِيرِ " . قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ : ثُمَّ ذَكَرْتُهُ لِأَبِي مَعْبَدٍ بَعْدُ ، فَقَالَ : لَمْ أُحَدِّثْكَهُ . قَالَ عُمَرُ : وَقَدْ حَدَّثَنِيهِ قَالَ : وَكَانَ مِن أَصْدَقِ مَوَالِي ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : كَأَنَّهُ نَسِيَهُ بَعْدَمَا حَدَّثَهُ إِيَّاهُ .
قال الخطيب في الكفاية : " (1191) أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ الْقَاسِمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْهَاشِمِيُّ ، ثنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَيَّاشٍ الْمَتُّوثِيُّ ، ثنا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ الطُّوسِيُّ ، ثنا وَهْبٌ يَعْنِي ابْنَ جَرِيرٍ ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ , قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ , قَالَ : " كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا " , قَالَ شُعْبَةُ : لَقِيتُهُ بِوَاسِطَ فَسَأَلْتُهُ عَنهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ " .
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْعَمَلِ بِمِثْلِ هَذَا وَشِبْهِهِ , فَقَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ مِن أَصْحَابِ مَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا , وَجُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ : إِنَّ الْعَمَلَ بِهِ وَاجِبٌ , إِذَا كَانَ سَامِعُهُ حَافِظًا وَالنَّاسِي لَهُ بَعْدَ رِوَايَتِهِ عَدْلًا , وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ , وَزَعَمَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِن أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَبُولُ الْخَبَرِ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ , وَلَا الْعَمَلُ بِهِ , قَالُوا : وَلِهَذَا لَزِمَ اطِّرَاحُ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ فِي الْمَرْأَةِ تُنْكَحُ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا , وَحَدِيثِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي(1/155)
صَالِحٍ فِي الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ , لِأَنَّهُمَا لَمْ يَعْتَرِفَا بِهِ لِمَا ذَكَرَاهُ , وَاعْتَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ "
( 1192 ) وَقَدْ أَخْبَرَنَا بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرَانَ الْمُعَدِّلُ ، أنا أَبُو سَهْلٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ الْقَطَّانُ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ , حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ أَبُو هَاشِمٍ , حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ ، ثنا ابْنُ جُرَيْجٍ ، أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى , عَنِ الزُّهْرِيِّ , عَن عَائِشَةَ , قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا نُكِحَتِ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ , فَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا مَهْرُهَا بِمَا أَصَابَ مِنهَا , فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَن لَا وَلِيَّ لَهُ " , وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : فَلَقِيتُ الزُّهْرِيَّ فَسَأَلْتُهُ عَن هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ , وَقَالَ زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ دَلُّوَيْهِ : سَقَطَ عَلَيَّ فِي الْحَدِيثِ عُرْوَةُ , لَمْ أَفْهَمْ مِن إِسْمَاعِيلَ , وَعُرْوَةُ فِيهِ ثَابِتٌ .
(1193) وَأَمَّا حَدِيثُ سُهَيْلٍ فَأَخْبَرَناهُ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، أنا أَبُو سَهْلِ بْنُ زِيَادٍ الْقَطَّانُ ، ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ ، ثنا يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ ، ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ , وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ , عَن رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ , عَن سُهَيْلٍ , عَن أَبِيهِ , عَن أَبِي هُرَيْرَةَ , : " أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ " قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ : فَلَقِيتُ سُهَيْلًا فَسَأَلْتُهُ عَن هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ " وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ , أَنَّهُ إِذَا كَانَ رَاوِي الْخَبَرِ الَّذِي نَسِيَهُ عَدْلًا , وَالَّذِي حَفِظَهُ عَنهُ عَدْلًا , فَإِنَّهُمَا لَمْ يُحَدِّثَا إِلَّا بِمَا سَمِعَاهُ , وَلَوِ احْتَمَلَتْ حَالُهُمَا غَيْرَ ذَلِكَ لَخَرَجَا عَن حُكْمِ الْعَدَالَةِ , وَكَانَ السَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَى الْإِنْسَانِ , وَلَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يُحَدِّثَهُ وَيَنْسَى أَنَّهُ قَدْ حَدَّثَهُ , وَذَلِكَ غَيْرُ قَادِحٍ فِي أَمَانَتِهِ وَلَا تَكْذِيبَ لِمَن يَرْوِي عَنهُ , وَلِهَذَا كَانَ سُهَيْلٌ بَعْدَ أَنْ نَسِيَ حَدِيثَهُ , وَذَكَرَهُ لَهُ رَبِيعَةُ يَقُولُ : حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي عَن أَبِي - وَيَسُوقُ الْحَدِيثَ .
(1194 )أَخْبَرَناهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرَانَ الْوَاعِظُ ، ثنا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْفَاكِهِيُّ , بِمَكَّةَ ، ثنا أَبُو يَحْيَى بْنُ أَبِي مَسَرَّةَ ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْرَقُ ، ثنا الدَّرَاوَرْدِيُّ , عَن رَبِيعَةَ , عَن سُهَيْلٍ , عَن أَبِيهِ , عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ,(1/156)
: " أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ " قَالَ الدَّرَاوَرْدِيُّ : ثُمَّ أَتَيْتُ سُهَيْلًا فَسَأَلْتُهُ عَن هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ : حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي عَن أَبِي , ثُمَّ ذَكَرَهُ لِي ".
وَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ أَحَادِيثَ ثُمَّ نَسُوهَا , وَذُكِّرُوا بِهَا فَكَتَبُوهَا عَمَن حَفِظَهَا عَنهُمْ , وَكَانُوا يَرْوُونَهَا وَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُمْ : حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنِّي عَن فُلَانٍ بِكَذَا وَكَذَا , وَيَسُوقُونَ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ , وَقَدْ جَمَعْنَاهُ فِي كِتَابٍ أَفْرَدْنَاهُ لَهَا , وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُجَوِّزُونَ نِسْيَانَهُمْ لِتِلْكَ الْأَخْبَارِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ عَلَيْهِمْ , فَلَا يُوجِبُونَ لِأَجْلِهِ رَدَّ خَبَرِ الْعَدْلِ وَلَا الْقَدْحَ فِيهِ
(1195 ) أَخْبَرَنَا بُشْرَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرُّومِيُّ ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّاشِدِيُّ ، ثنا أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ , قَالَ : قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : " يُضَعَّفُ الْحَدِيثُ عِنْدَكَ بِمِثْلِ هَذَا : أَنْ يُحَدِّثَ الرَّجُلُ الثِّقَةُ بِالْحَدِيثِ عَنِ الرَّجُلِ , فَيَسْأَلُهُ عَنهُ فَيُنْكِرُهُ وَلَا يَعْرِفُهُ ؟ فَقَالَ : لَا , مَا يُضَعَّفُ عِنْدِي بِهَذَا , فَقُلْتُ : مِثْلُ حَدِيثِ الْوَلِيِّ , وَمَثْلُ حَدِيثِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ؟ فَقَالَ : قَدْ كَانَ مُعْتَمِرٌ يَرْوِي عَن أَبِيهِ عَن نَفْسِهِ عَن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قُلْتُ , لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : مَن رَوَى هَذَا عَن مُعْتَمِرٍ ؟ قَالَ : بَعْضُ أَصْحَابِنَا بَلَّغَنِي عَنهُ "
(1196 ) أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الدَّاوُدِيُّ ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ ، ثنا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَامٍ , قَالَ : قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : حُبَيْشِ بْنِ مُبَشِّرٍ الْفَقِيهِ : حَدِيثُ عَائِشَةَ , عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ " ؟ قَالَ : يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ يُصَحِّحُهُ , " فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَإِنَّ السُّلْطَانَ وَلِيُّ مَن لَا وَلِيَّ لَهُ " , فَقُلْتُ : هَذَا مِن كَلَامِ عَائِشَةَ ؟ فَقَالَ : لَا هَذَا مِن كَلَامِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْحَدِيثُ مَا كَانَ السُّلْطَانُ وَلِيَ مَن لَا وَلِيَّ لَهُ عِنْدَ النَّاسِ كُلِّهِمْ , فَقُلْتُ : فَابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ : سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ فَلَمْ يَعْرِفْهُ ؟ فَقَالَ : نَسِيَ الزُّهْرِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ كَمَا نَسِيَ ابْنُ عُمَرَ حَدِيثَ صَلَاةِ الْقُنُوتِ , وَكَمَا نَسِيَ سَمُرَةُ حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ , وَلَمْ يَقُلْ هَذَا عَنِ الزُّهْرِيِّ غَيْرُ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , كَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ ".(1/157)
وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا , أَنَّهُ لَيْسَ مِن شَرْطِ الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ ذِكْرُ رَاوِيهِ لَهُ , وَعِلْمُهُ بِأَنَّهُ قَدْ حَدَّثَ بِهِ , لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبِ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْمَرِيضِ وَالْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ وَالْمَيِّتِ بَعْدَ رِوَايَتِهِ , لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِن هَؤُلَاءِ يَعْلَمُ أَنَّهُ رَوَى مَا يُرْوَى عَنهُ , فَالسَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ دُونَ هَذِهِ الْأُمُورِ , وَأَيْضًا فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ كَافَّةً اتَّفَقُوا عَلَى الْعَمَلِ بِاللَّفْظِ الزَّائِدِ فِي الْحَدِيثِ , إِذَا قَالَ رَاوِيهِ : لَا أَحْفَظُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ , وَأَحْفَظُ أَنِّي رَوَيْتُ مَا عَدَاهَا , فَكَذَلِكَ سَبِيلُ نِسْيَانِهِ لِرِوَايَةِ جَمِيعِ الْحَدِيثِ , لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ مِنَ النِّسْيَانِ , وَالرَّاوِي عَنهُ ضَابِطٌ عَدْلٌ , فَوَجَبَ قَبُولُ خَبَرِهِ , فَإِنْ قَالَ الْمُخَالِفُ : قَوْلُنَا فِي اللَّفْظِ الزَّائِدِ كَقَوْلِنَا فِي جَمِيعِ الْحَدِيثِ , قِيلَ : هَذَا شَيْءٌ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهِ , فَرُكُوبُهُ بَاطِلٌ , وَلَوْ جَازَ رُكُوبُ ذَلِكَ لَوَجَبَ جَوَازُ مِثْلِهِ , إِذَا قَالَ الرَّاوِي : لَا أَذْكُرُ أَنِّي رَوَيْتُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى هَذَا الْإِعْرَابِ , مَتَى رُوِيَ عَنهُ بِإِعْرَابٍ يُوجِبُ حُكْمًا , وَلَوْ أَسْقَطَهُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ الْحُكْمَ , وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ نِسْيَانَهُ لِإِعْرَابِ لَفْظِ الْخَبَرِ لَا يُوجِبُ رَدَّ الْخَبَرِ , فَإِنْ قَالَ : الْفَرْقُ بَيْنَ نِسْيَانِ اللَّفْظَةِ مِنَ الْحَدِيثِ وَنِسْيَانِ إِعْرَابِهِ : وَبَيْنَ نِسْيَانِ الْحَدِيثِ بِأَسْرِهِ : أَنَّ مِثْلَ نِسْيَانِ اللَّفْظِ وَالْإِعْرَابِ يَجُوزُ فِي الْعَادَةِ , وَلَا يَجُوزُ نِسْيَانُ الْحَدِيثِ بِأَسْرِهِ , قِيلَ : أَيُّ عَادَةٍ فِي ذَلِكَ , بَل الِاعْتِمَادُ كَوْنُ ذَلِكَ أَجْمَعَ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ , وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ بِأَنَّ نِسْيَانَ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ أَقَلُّ مِن نِسْيَانِ اللَّفْظَةِ مِنهُ , وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ" (1) .
7-وَمِنهَا : أَنَّ كَثِيرًا مِن الْحِجَازِيِّينَ يَرَوْنَ أَلَّا يُحْتَجَّ بِحَدِيثِ عِرَاقِيٍّ أَوْ شَامِيٍّ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ بِالْحِجَازِ .
حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ : نَزِّلُوا أَحَادِيثَ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِمَنزِلَةِ أَحَادِيثِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ ، وهذه المقولة باطلةٌ ، ولا أساس لها من الصحة ، بل وجد في الكوفة والبصرة وبغداد فيما بعد آلاف المحدِّثين الثقات الأثبات ، فكيف يقال هذا الكلام الباطل بحقهم ؟؟!!!.
__________
(1) -انظر البحر المحيط - (ج 5 / ص 379) مَسْأَلَةٌ [ إنْكَارُ الشَّيْخِ مَا حَدَّثَ بِهِ ] إذَا رَوَى ثِقَةٌ عَن ثِقَةٍ حَدِيثًا ، ثُمَّ رَجَعَ الشَّيْخُ فَأَنْكَرَهُ ، ُ .(1/158)
وَقِيلَ لِآخَرَ : سُفْيَانُ عَن مَنصُورٍ عَن إبْرَاهِيمَ عَن عَلْقَمَةَ عَن عَبْدِ اللَّهِ حُجَّةٌ ؟ قَالَ: إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ بِالْحِجَازِ فَلَا .
قلت : هذا من أصح الأسانيد ، فكيف يقال هذا بحقه ، فقد أخرج البخاري حديثا بهذا السند في صحيح البخارى برقم(4886 ) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَن مَنصُورٍ عَن إِبْرَاهِيمَ عَن عَلْقَمَةَ عَن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُوتَشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ ..
بل هذا أصح أسانيد الكوفيين، وقد روى سائر أئمة الحديث بهذا السند أحاديث كثيرة ، وفي الكفاية :( 1235 ) أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الدَّقَّاقُ قَالَ : قَرَأْنَا عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ هَارُونَ الْقَاضِي , عَن أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سَعِيدٍ , قَالَ : ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ نُوحٍ الْبَلخِيُّ , قَالَ : سَمِعْتُ أَبِي , يَقُولُ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ , يَقُولُ : " مَا أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى شَيْءٍ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى هَذَا الْإِسْنَادِ سُفْيَانُ عَن مَنصُورٍ عَن إِبْرَاهِيمَ عَن عَلْقَمَةَ عَن عَبْدِ اللَّهِ " (1) .
والسبُ في ذلك هو اعتقادهم أَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ ضَبَطُوا السُّنَّةَ فَلَمْ يَشِذَّ عَنهُمْ مِنهَا شَيْءٌ، وَأَنَّ أَحَادِيثَ الْعِرَاقِيِّينَ وَقَعَ فِيهَا اضْطِرَابٌ أَوْجَبَ التَّوَقُّفَ فِيهَا.
قلت : وهذا فيه نظر أيضاً ، فكلُّ إقليم فيه علماء أفذاذ ضبطوا السنَّة ونقَّوها مما علق بها ، وميزوا صحيحها من منخولها ، وهناك علماء آخرون لم يضبطوا ذلك ، فكيف يتهم أصحاب إقليم ما بهذه التهمة الموجودة عند الجميع بما فيهم الحجازيين ؟؟!!.
وَبَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ يَرَى أَلَّا يُحْتَجَّ بِحَدِيثِ الشَّامِيِّينَ.
قلت : هذا من التعصب المذموم للإقليم أو الشخص أو المذهب، فالحديث متى استوفى شروط الصحَّة وجب العمل به سواء رواه أهل الحجاز أو أهل الشام أو أهل العراق ، أو غيرها من بلدان المسلمين ، وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم قد تفرقوا في أمصار المسلمين فاتحين وبعدها يعلمون الناس أصول دينهم ، فما وصل لأهل هذا
__________
(1) - انظر قواطع الأدلة فى الأصول / للسمعانى - (ج 1 / ص 404) والحد الفاصل - (ج 1 / ص 238) والكفاية في علم الرواية - (ج 1 / ص 386) وتدريب الراوي (ج 2 / ص 71)(1/159)
الإقليم لم يصل إلى غيرهم ، وحصرُ الأحاديث في إقليم واحد يدلُّ على جهل قائله ، فأكثرُ من ثمانين بالمائة من الصحابة لم يموتوا في مكة أو المدينة بل خارجهما ، بل حتى أصحاب الإقليم الواحد لم يحصوا أحاديث إقليمهم كلها ، ولا أقاويلهم كالإمام مالك رحمه الله ، الذي يقدِّم عمل أهل المدينة على حديث الآحاد مثلا ، فقد رد عليه الإمام الشافعي وغيره ، وبيَّنوا له أن المسائل التي يقول بها إنها عمل أهل المدينة أن بعض علماء أهل المدينة قد خالفوها فكيف بغيرهم من الأمصار الأخرى ؟! .
ولذلك فإنَّ َأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى تَرْكِ التَّضْعِيفِ بِهَذَا، فَمَتَى كَانَ الْإِسْنَادُ جَيِّدًا كَانَ الْحَدِيثُ حُجَّةً سَوَاءٌ كَانَ الْحَدِيثُ حِجَازِيًّا أَوْ عِرَاقِيًّا أَوْ شَامِيًّا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ كما قلنا.
وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو داود السجستاني كِتَابًا فِي مفاريد أَهْلِ الْأَمْصَارِ مِن السُّنَنِ يُبَيِّنُ مَا اخْتَصَّ بِهِ أَهْلُ كُلِّ مِصْرٍ مِن الْأَمْصَارِ مِن السُّنَنِ الَّتِي لَا تُوجَدُ مُسْنَدَةً عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِثْلَ الْمَدِينَةِ ؛ وَمَكَّةَ ؛ وَالطَّائِفِ ؛ وَدِمَشْقَ وَحِمْصَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا . إلَى أَسْبَابٍ أُخَرَ غَيْرِ هَذِهِ .
- - - - - - - - - - - - - -(1/160)
السَّبَبُ الرَّابِعُ
اشْتِرَاطُهُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ الْحَافِظِ شُرُوطًاً يُخَالِفُهُ فِيهَا غَيْرُهُ
مِثْلُ اشْتِرَاطِ بَعْضِهِمْ عَرْضَ الْحَدِيثِ عَلَى الْكِتَابِ والسُّنَّة !! .
قلت : هذا الشرط ليس معتبراً ، فقد نجد كثيراً من الأحاديث الساقطة والواهية لو عرضت على الكتاب والسُّنَّة لما خالفتهما ، ككثير من الحِكم والأمثال ، فهل نقبلها على أنها أحاديث صحيحة عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - ونعمل بموجبها ؟؟!!
فهذا لا يقول به أحد من أهل العلم ، ولكن من حيث الجملة : لا يجوز أن يخالف الحديث أصول الدين العامة ، فهذا صحيح . وفي الموضوعات لابن الجوزي - "كل حديث رأيته يخالف المعقول ، أو يناقض الأصول ، فاعلم أنه موضوع فلا تتكلف اعتباره " (1) .
قلت : وكثيرا ما يقع الخلل في اعتباره مناقضا أم لا ؟ وقد ردَّ المعتزلة ومن لفَّ لفَّهم كثيرا من الأحاديث الصحيحة بحجة مناقضتها لعقولهم القاصرة ، كحديث السحر (2) ، وقلع موسى عليه السلام لعين ملك الموت (3) ، ونحو ذلك...
وَاشْتِرَاطِ بَعْضِهِمْ أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ فَقِيهًا إذَا خَالَفَ قِيَاسَ الْأُصُولِ.
قال الزركشي (4) : " وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ سَوَاءٌ خَالَفَتْ رِوَايَتُهُ الْقِيَاسَ أَمْ لَا .
وَشَرَطَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِقْهَ الرَّاوِي لِتَقْدِيمِ الْخَبَرِ عَلَى الْقِيَاسِ ، وَلِهَذَا رَدَّ حَدِيثَ الْمُصَرَّاةِ ، وَتَابَعَهُ أَكْثَرُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ ، وَمِنهُمْ الدَّبُوسِيُّ ، وَأَمَّا الْكَرْخِيّ وَأَتْبَاعُهُ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ ، بَل قَبِلُوا خَبَرَ كُلِّ عَدْلٍ إذَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ أَو السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ ، وَيُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ ،قَالَ أَبُو الْيُسْرِ مِنهُمْ : وَإِلَيْهِ مَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ .
__________
(1) - الموضوعات لابن الجوزي - (ج 1 / ص 106)
(2) - انظره في صحيح البخارى(5763) وصحيح مسلم (5832)
(3) - انظره في صحيح البخارى (1339 ) ومسلم (6297)
(4) - انظر البحر المحيط للزركشي - (ج 5 / ص 367)[ اشْتِرَاطُ كَوْنِ الرَّاوِي فَقِيهًا ] وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ سَوَاءٌ خَالَفَتْ رِوَايَتُهُ الْقِيَاسَ أَمْ لَا .(1/161)
قَالَ صَاحِبُ " التَّحْقِيقِ " : وَقَدْ عَمِلَ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ ، ثُمَّ ذَكَرَ ، فَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ " (1) .وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ ، حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْلَا الرِّوَايَةُ لَقُلْت بِالْقِيَاسِ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَن أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ:" إِذَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَإِذَا جَاءَ عَن أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَخْتَارُ مِن قَوْلِهِمْ وَإِذَا جَاءَ عَنِ التَّابِعِينَ زَاحَمْنَاهُمْ. (2)
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ عَلَى تَقْدِيرِ الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ بِمَذْهَبِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مُقَلِّدًا لَهُ ، فَمَا ظَنُّك بِأَبِي هُرَيْرَةَ مَعَ أَنَّهُ أَفْقَهُ مِن أَنَسٍ .
قَالَ : وَلَمْ يُنْقَلْ عَن أَحَدٍ مِن السَّلَفِ اشْتِرَاطُ الْفِقْهِ فِي الرَّاوِي ، فَثَبَتَ أَنَّهُ قَوْلٌ مُحْدَثٌ ط
وَكَذَا قَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ ، قَالَ : وَلِهَذَا قُلْنَا بِحَدِيثِ الْقَهْقَهَةِ ، وَأَوْجَبْنَا الْوُضُوءَ فِيهَا ، وَلَيْسَتْ بِحَدَثٍ فِي الْقِيَاسِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُوجِبُوا الْوُضُوءَ عَلَى مَن قَهْقَهَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ، وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَرِدْ إلَّا فِي صَلَاةٍ ذَاتِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ .
قُلْت : وَالصَّوَابُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ مِن فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ ، وَقَدْ أَفْرَدَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ السُّبْكِيُّ جُزْءًا فِي فَتَاوِيهِ ، وَقَالَ شَارِحُ الْبَزْدَوِيِّ : بَل كَانَ فَقِيهًا ، وَلَمْ يَعْدَمْ شَيْئًا مِن آلَاتِ الِاجْتِهَادِ ، وَكَانَ يُفْتِي فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ ، وَمَا كَانَ يُفْتِي فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إلَّا فَقِيهٌ مُجْتَهِدٌ ، وَقَدْ انْتَشَرَ عَنهُ مُعْظَمُ الشَّرِيعَةِ ، فَلَا وَجْهَ لِرَدِّ حَدِيثِهِ بِالْقِيَاسِ .اهـ .
وأما أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ فَقِيهًا إذَا خَالَفَ قِيَاسَ الْأُصُولِ، فمثاله حديث أخرجه مالك برقم(1367) والبخارى برقم( 2111 ) عَن مَالِكٍ عَن نَافِعٍ عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ » وهذا السند من أصح الأحاديث . ولم يعمل المالكية ولا الحنفية ، لأنه على حد قولهم خالف الأصول (3)
__________
(1) - مسند أحمد(10641) صحيح
(2) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ(22 ) وهو صحيح
(3) -وانظر شرحه مفصلا في طرح التثريب - (ج 6 / ص 394){ بَابُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ } والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7056) فما بعد وفتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 24 / ص 389) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 6 / ص 339) فما بعد وشرح الكوكب المنير - (ج 2 / ص 446) وحجة الله البالغة - (ج 2 / ص 112) والكفاية في علم الرواية - (ج 1 / ص 114)(1/162)
وفي الْكِفَايَةُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ-بَابُ الْقَوْلِ فِيمَن رَوَى عَن رَجُلٍ حَدِيثًا ثُمَّ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ جَرْحًا لِلْمَرْوِيِّ عَنهُ ؟
إِذَا رَوَى رَجُلٌ عَن شَيْخٍ حَدِيثًا يَقْتَضِي حُكْمًا مِنَ الْأَحْكَامِ , فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ , لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَرْحًا مِنهُ لِلشَّيْخِ , لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَرَكَ الْعَمَلَ بِالْخَبَرِ لِخَبَرٍ آخَرَ يُعَارِضُهُ , أَوْ عُمُومٍ , أَوْ قِيَاسٍ , أَوْ لِكَوْنِهِ مَنسُوخًا عِنْدَهُ , أَوْ لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ أَوْلَى مِنهُ , وَإِذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ قَدْحًا فِي رَاوِيهِ وَمِثْلُ هَذَا(288 ) مَا أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ الْقَاسِمُ بْنُ جَعْفَرٍ الْهَاشِمِيُّ ، ثنا أَبُو عَلِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ اللُّؤْلُؤِيُّ ، ثنا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ , عَن مَالِكٍ , عَن نَافِعٍ , عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا , إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ " فَهَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ , وَزَعَمَ أَنَّهُ رَأَى أَهْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِهِ , فَلَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ الْعَمَلَ بِهِ قَدْحًا فِي نَافِعٍ" .
وكذلك مثل َاشْتِرَاطِ بَعْضِهِمْ انْتِشَارَ الْحَدِيثِ وَظُهُورَهُ إذَا كَانَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلوَى
قال الإمام الغزاليُّ (1) :
""مَسْأَلَةٌ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلوَى مَقْبُولٌ خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا نَقَلَهُ الْعَدْلُ وَصِدْقُهُ فِيهِ مُمْكِنٌ وَجَبَ تَصْدِيقُهُ ، فَمَسُّ الذَّكَرِ مَثَلًا نَقَلَهُ الْعَدْلُ وَصِدْقُهُ فِيهِ مُمْكِنٌ فَإِنَّا لَا نَقْطَعُ بِكَذِبِ نَاقِلِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ انْفَرَدَ وَاحِدٌ بِنَقْلِ مَا تُحِيلُ الْعَادَةُ فِيهِ أَنْ لَا يَسْتَفِيضَ كَقَتْلِ أَمِيرٍ فِي السُّوقِ وَعَزْلِ وَزِيرٍ وَهُجُومٍ فِي الْجَامِعِ مَنَعَ النَّاسَ مِن الْجُمُعَةِ أَوْ كَخَسْفٍ أَوْ زَلْزَلَةٍ أَوْ انْقِضَاضِ كَوْكَبٍ عَظِيمٍ وَغَيْرِهِ مِن الْعَجَائِبِ ، فَإِنَّ
__________
(1) - في المستصفى - (ج 1 / ص 342) وانظر :أصول السرخسي - (ج 1 / ص 369) والأحكام للآمدي - (ج 2 / ص 113) والمحصول - (ج 5 / ص 442) والتقرير والتحبير - (ج 4 / ص 268) وكتب وليد بن راشد السعيدان - (ج 3 / ص 18) القاعدة الثانية ( خبر الآحاد معتمد فيما تعم به البلوى) وتيسير التحرير - (ج 3 / ص 160-164) والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد - الرقمية - (ج 1 / ص 103) والمسودة - الرقمية - (ج 1 / ص 238)(1/163)
الدَّوَاعِيَ تَتَوَفَّرُ عَلَى إشَاعَةِ جَمِيعِ ذَلِكَ وَيَسْتَحِيلُ انْكِتَامُهُ ، وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ لِعِلْمِنَا بِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - تَعَبَّدَ بِإِشَاعَتِهِ وَاعْتَنَى بِإِلْقَائِهِ إلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ ، فَإِنَّ الدَّوَاعِيَ تَتَوَفَّرُ عَلَى إشَاعَتِهِ وَنَقْلِهِ لِأَنَّهُ أَصْلُ الدِّينِ ، وَالْمُنْفَرِدُ بِرِوَايَةِ سُورَةٍ أَوْ آيَةٍ كَاذِبٌ قَطْعًا ، فَأَمَّا مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلوَى فَلَا نَقْطَعُ بِكَذِبِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : بِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى مَن يَقْطَعُ بِكَذِبِهِ ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ مِن السَّبِيلَيْنِ لَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَنْفَكُّ عَنهُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِرَارًا وَكَانَتْ الطَّهَارَةُ تَنْتَقِضُ بِهِ لَا يَحِلُّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ لَا يَشِيعَ حُكْمَهُ وَيُنَاجِيَ بِهِ الْآحَادَ ؛ إذْ يُؤَدِّي إلَى إخْفَاءِ الشَّرْعِ وَإِلَى أَنْ تَبْطُلَ صَلَاةُ الْعِبَادِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ، فَتَجِبُ الْإِشَاعَةُ فِي مِثْلِهِ ثُمَّ تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ ، وَكَذَلِكَ مَسُّ الذَّكَرِ مِمَّا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ فَكَيْفَ يَخْفَى حُكْمُهُ ؟ قُلْنَا : هَذَا يَبْطُلُ أَوَّلًا بِالْوَتْرِ وَحُكْمِ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَالْقَهْقَهَةِ وَوُجُوبِ الْغُسْلِ مِن غُسْلِ الْمَيِّتِ وَإِفْرَادِ الْإِقَامَةِ وَتَثْنِيَتِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلوَى وَقَدْ أَثْبَتُوهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
فَإِنْ زَعَمُوا أَنْ لَيْسَ عُمُومُ الْبَلوَى فِيهَا كَعُمُومِهَا فِي الْأَحْدَاثِ ، فَنَقُولُ : فَلَيْسَ عُمُومُ الْبَلوَى فِي اللَّمْسِ وَالْمَسِّ كَعُمُومِهَا فِي خُرُوجِ الْأَحْدَاثِ ، فَقَدْ يَمْضِي عَلَى الْإِنْسَانِ مُدَّةٌ لَا يَلْمِسُ وَلَا يَمَسُّ الذَّكَرَ إلَّا فِي حَالَةِ الْحَدَثِ كَمَا لَا يَفْتَصِدُ وَلَا يَحْتَجِمُ إلَّا أَحْيَانًا فَلَا فَرْقَ .
وَالْجَوَابُ الثَّانِي وَهُوَ التَّحْقِيقُ : أَنَّ الْفَصْدَ وَالْحِجَامَةَ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَكَرَّرُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَكِنَّهُ يَكْثُرُ ، فَكَيْفَ أُخْفِيَ حُكْمُهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَى بُطْلَانِ صَلَاةِ خَلْقٍ كَثِيرٍ ؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْأَكْثَرَ فَكَيْفَ وَكُلُّ ذَلِكَ إلَى الْآحَادِ ؟ وَلَا سَبَبَ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْ رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - إشَاعَةَ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ ، بَل كَلَّفَهُ إشَاعَةَ الْبَعْضِ وَجَوَّزَ لَهُ رَدَّ الْخَلْقِ إلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْبَعْضِ ، كَمَا جَوَّزَ لَهُ رَدَّهُمْ إلَى الْقِيَاسِ فِي قَاعِدَةِ الرِّبَا ، وَكَانَ يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ : لَا تَبِيعُوا الْمَطْعُومَ بِالْمَطْعُومِ أَوْ الْمَكِيلَ بِالْمَكِيلِ ، حَتَّى يُسْتَغْنَى عَن الِاسْتِنْبَاطِ مِن الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلوَى مَن جُمْلَةِ مَا تَقْتَضِي مَصْلَحَةُ الْخَلْقِ أَنْ يَرُدُّوا فِيهِ إلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ صِدْقُ الرَّاوِي مُمْكِنًا فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ ، وَلَيْسَ عِلَّةُ الْإِشَاعَةِ عُمُومَ الْحَاجَةِ أَوْ نُدُورَهَا ، بَل عِلَّتُهُ التَّعَبُّدُ وَالتَّكْلِيفُ مِن اللَّهِ(1/164)
، وَإِلَّا فَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَثِيرٌ كَالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْأَكْثَرُ فِي كَوْنِهِ شَرْعًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْفَى .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الضَّابِطُ لِمَا تَعَبَّدَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ بِالْإِشَاعَةِ ؟ قُلْنَا : إنْ طَلَبْتُمْ ضَابِطًا لِجَوَازِهِ عَقْلًا فَلَا ضَابِطَ بَل لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ فِي تَكْلِيفِ رَسُولِهِ مِن ذَلِكَ مَا يَشَاءُ ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ وُقُوعَهُ فَإِنَّمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِن فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .
وَإِذَا اسْتَقْرَيْنَا السَّمْعِيَّاتِ وَجَدْنَاهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ ، الْأَوَّلُ : الْقُرْآنُ ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ عُنِيَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي إشَاعَتِهِ .
الثَّانِي : مَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسُ ، كَكَلِمَتَيْ الشَّهَادَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَقَدْ أَشَاعَهُ إشَاعَةً اشْتَرَكَ فِي مَعْرِفَتِهِ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ .
الثَّالِثُ : أُصُولُ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ ضَرُورِيَّةً مِثْلُ أَصْلِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْضًا قَدْ تَوَاتَرَ ، بَل كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ ، فَإِنَّ هَذَا تَوَاتَرَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ إمَّا بِالتَّوَاتُرِ وَإِمَّا بِنَقْلِ الْآحَادِ فِي مَشْهَدِ الْجَمَاعَاتِ مَعَ سُكُوتِهِمْ ، وَالْحُجَّةُ تَقُومُ بِهِ ، وَلَكِنَّ الْعَوَامَّ لَمْ يُشَارِكُوا الْعُلَمَاءَ فِي الْعِلْمِ ، بَل فَرْضُ الْعَوَامّ فِيهِ الْقَبُولُ مِن الْعُلَمَاءِ .
الرَّابِعُ : تَفَاصِيلُ هَذِهِ الْأُصُولِ ، فَمَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَالْعِبَادَاتِ وَيَنْقُضُ الطَّهَارَةَ مِن اللَّمْسِ وَالْمَسِّ وَالْقَيْءِ وَتَكْرَارِ مَسْحِ الرَّأْسِ ، فَهَذَا الْجِنْسُ مِنهُ مَا شَاعَ وَمِنهُ مَا نَقَلَهُ الْآحَادُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلوَى ، فَمَا نَقَلَهُ الْآحَادُ فَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ وَلَا مَانِعَ ، فَإِنَّ مَا أَشَاعَهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ لَا يُتَعَبَّدَ فِيهِ بِالْإِشَاعَةِ ، وَمَا وَكَّلَهُ إلَى الْآحَادِ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُتَعَبَّدَ فِيهِ بِالْإِشَاعَةِ ، لَكِنَّ وُقُوعَ هَذِهِ الْأُمُورِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعَبُّدَ وَقَعَ كَذَلِكَ فَمَا كَانَ يُخَالِفُ أَمَرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي شَيْءٍ مِن ذَلِكَ . هَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي الْأَخْبَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .اهـ
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَوَاضِعِهِ.(1/165)
قلت ": ومثله حديث عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرًا قَالَ دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ فَقَالَ: « أَصَلَّيْتَ » . قَالَ : لاَ . قَالَ: « فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ » (1) .
فقد ردَّ هذا الحديث الصحيح بعض الفقهاء (2)
ومثله حديث المصراة ، عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنِ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فَاحْتَلَبَهَا ، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا ، وَإِنْ سَخِطَهَا فَفِى حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِن تَمْرٍ » (3) .
فقد ردَّ العمل بهذا الحديث فريق من الفقهاء ، بحجة مخالفته للقياس!! (4)
وقال الشوكاني :
" ولا يضرُّه كونُه في الحدودِ والكفاراتِ خلافاً للكرخي منَ الحنفية وأبي عبد الله البصري في أحدِ قوليه (5) ، ولا وجهَ لهذا الخلافِ ، فهو خبرُ عدلٍ في حكمٍ شرعيٍّ ، ولم يثبتْ في الحدودِ والكفاراتِ دليلٌ يخصُّها منْ عموم الأحكامِ الشرعيةِ ، واستدلالهم بحديث إدرأوا الحدود بالشبهات (6) باطلٌ فالخبرُ الموجبُ للحدِّ يدفعُ الشبهةَ على فرضِ وجودها ، ولا
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(931 ) ومسلم برقم(2057 )
(2) - وانظر شرحه مفصلا في طرح التثريب - (ج 4 / ص 73 فما بعدها) والموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 27 / ص 205)
(3) - أخرجه البخاري برقم(2151 ،2140 ، 2148 ، 2150 ، 2160 ، 2162 ، 2723 ، 2727 ، 5144 ، 5152 ) ومسلم برقم(3907 -3909)- المصراة : الشاة يجمع اللبن فى ضرعها عند إرادة البيع فتبدو أنها كثيرة اللبن
(4) - انظر قول ابن القيم في إعلام الموقعين (ج 2 / ص 73) فَصْلٌ :[ بَيَانُ أَنَّ الْمُصَرَّاةَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ ] و انظر المسألة مفصلة في الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 12 / ص 74-77)
(5) - قال الزركشي في البحر المحيط - (ج 5 / ص 418): مَسْأَلَةٌ [ رَدُّ الْحَدِيثِ إذَا كَانَ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ ] وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَمِنهُمْ أَبُو يُوسُفَ ، وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِن الْحَنَفِيَّةِ ، وَاخْتَارَهُ الْجَصَّاصُ ، قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ : وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ ، وَخَالَفَ الْكَرْخِيّ مِن الْحَنَفِيَّةِ ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ رَاوِيَهُ كَذَبَ أَوْ سَهَا أَوْ أَخْطَأَ ، فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ ، وَهَذَا يُشْكِلُ بِإِثْبَاتِ الْحَدِّ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ ، وَقَوْلِ الْمُفْتِي .
(6) - ورد عن عائشة الترمذي (1424) والبيهقي فس السنن الكبرى 8/238 والحاكم في المستدرك4/384 والدارقطني 3/84 وبنحوه عبد الرزاق في المصنف (18698 و13641 و13640) عن إبراهيم وابن مسعود وعمر ، فهو حسن لغيره(1/166)
يضرُّه أيضاً كونُه زيادةٌ على النصِّ القرآنيِّ أو السنَّةِ القطعيةِ خلافاً للحنفيةِ فقالوا :إنَّ خبرَ الواحد إذا وردَ بالزيادةِ في حكمِ القرآنِ أو السنَّة القطعيةِ كانَ نسخاً لا يقبلُ ، والحقُّ القبولُ لأنها زيادةٌ غيرُ منافيةٍ للمزيدِ (1) ، فكانتْ مقبولةً ودعوى أنها ناسخةٌ ممنوعةٌ ،وهكذا إذا وردَ الخبرُ مخصصاً للعامِّ منْ كتابٍ أو سنَّةٍ ، فإنّهُ مقبولٌ ويبنىَ العامُّ على الخاصِّ خلافاً لبعض الحنفيةِ، وهكذا إذا وردَ مقيِّداً لمطلقِ الكتابِ أو السنَّةِ القطعيةِ .
ولا يضرُّه كونُ راويِه انفردَ بزيادةٍ فيه على ما رواهُ غيرُه إذا كان عدلاً ، فقد يحفظُ الفردُ ما لا يحفظُه الجماعةُ ،وبه قال الجمهورُ إذا كانتْ تلكَ الزيادةُ غيرَ منافيةٍ للمزيدِ . أمَّا إذا كانتْ منافيةً فالترجيحُ ، وروايةُ الجماعةِ أرجحُ من روايةِ الواحدِ ، وقيلَ: لا تقبلُ روايةُ الواحدِ إذا خالفتْ روايةَ الجماعةِ وإنْ كانتْ تلك الزيادةُ غيرَ منافيةٍ للمزيدِ إذا كان مجلسُ السَّماعِ واحداً وكانتِ الجماعةُ بحيثُ لا يجوزُ عليهمُ الغفلةُ عن مثلِ تلك الزيادةِ ، وأمَّا إذا تعددَ مجلسُ السَّماع فتقبلُ تلكَ الزيادةُ بالاتفاقِ ، ومثلُ انفرادِ العدلِ بالزيادةِ انفرادُه برفعِ الحديثِ إلى رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الذي وقفَهُ الجماعةُ ، وكذا انفرادُه بإسنادِ الحديثِ الذي أرسلوهُ وكذا انفرادُه بوصلِ الحديثِ الذي قطعوه ، فإنَّ ذلك مقبولٌ منه لأنهُ زيادةٌ على ما رووهُ وتصحيحٌ لما أعلُّوه ، ولا يضرُّه أيضاً كونُه خارجاً مخرجَ ضربِ الأمثالِ . ورويَ عن إمامِ الحرمين أنهُ لا يقبلُ لأنهُ موضعُ تجوُّزٍ ، فأجيبَ عنه بأنهُ وإنْ كانَ موضعَ تجوُّزٍ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لا يقولُ إلا حقًّا لمكانِ العصمةِ .اهـ
- - - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - وفي البحر المحيط - (ج 5 / ص 419): مَسْأَلَةٌ [ رَدُّ الْحَدِيثِ بِدَعْوَى أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ] وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا وَرَدَ بِالزِّيَادَةِ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْقَطْعِيَّةِ كَانَ نَسْخًا لَا يُقْبَلُ ، كَالْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَنَحْوِهِ ، وَسَبَقَ فِي النَّسْخِ .(1/167)
السَّبَبُ الْخَامِسُ
أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَهُ وَثَبَتَ عِنْدَهُ لَكِنْ نَسِيَهُ
وَهَذَا يَرِدُ فِي الْكِتَابِ والسُّنَّة مِثْلَ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عَن سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَن أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً أَتَى عُمَرَ فَقَالَ إِنِّى أَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدْ مَاءً. فَقَالَ لاَ تُصَلِّ. فَقَالَ عَمَّارٌ أَمَا تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ أَنَا وَأَنْتَ فِى سَرِيَّةٍ فَأَجْنَبْنَا فَلَمْ نَجِدْ مَاءً فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فِى التُّرَابِ وَصَلَّيْتُ. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الأَرْضَ ثُمَّ تَنْفُخَ ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ ». فَقَالَ عُمَرُ اتَّقِ اللَّهَ يَا عَمَّارُ . قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ شِئْتَ لَمْ أَذْكُرْهُ مَا عِشْتُ أَوْ مَا حَيِيتُ. قَالَ كَلاَّ وَاللَّهِ وَلكِنْ نُوَلِّيكَ مِن ذَلِكَ مَا تَوَلَّيْتَ (1) .
فَهَذِهِ سُنَّةٌ شَهِدَهَا عُمَرُ ثُمَّ نَسِيَهَا حَتَّى أَفْتَى بِخِلَافِهَا وَذَكَّرَهُ عَمَّارُ فَلَمْ يَذْكُرْ وَهُوَ لَمْ يُكَذِّبْ عَمَّارًا بَل أَمَرَهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ.
قال الإمام النووي (2) :" مَعْنَاهُ قَالَ عُمَر لِعَمَّارٍ : اِتَّقِ اللَّه تَعَالَى فِيمَا تَرْوِيه وَتُثْبِت . فَلَعَلَّك نَسِيت ، أَوْ اِشْتَبَهَ عَلَيْك الْأَمْر . وَأَمَّا قَوْل عَمَّار إِنْ شِئْت لَمْ أُحَدِّث بِهِ فَمَعْنَاهُ ، وَاَللَّه أَعْلَم ؛ إِنْ رَأَيْت الْمَصْلَحَة فِي إِمْسَاكِي عَن التَّحْدِيث بِهِ رَاجِحَة عَلَى مَصْلَحَة تَحْدِيثِي بِهِ أَمْسَكْت ، فَإِنَّ طَاعَتك وَاجِبَة عَلَيَّ فِي غَيْر الْمَعْصِيَة ، وَأَصْل تَبْلِيغ هَذِهِ السُّنَّة وَأَدَاء الْعِلْم قَدْ حَصَلَ ، فَإِذَا أَمْسَكَ بَعْد هَذَا لَا يَكُون دَاخِلًا فِيمَن كَتَمَ الْعِلْم . وَيَحْتَمِل أَنَّهُ أَرَادَ إِنْ شِئْت لَمْ أُحَدِّث بِهِ تَحْدِيثًا شَائِعًا بِحَيْثُ يَشْتَهِر فِي النَّاس ، بَل لَا أُحَدِّث بِهِ إِلَّا نَادِرًا . وَاَللَّه أَعْلَم ." ا.هـ
أما القول إن عمر خالف بهذا المذهب ظاهر القرآن ، فالجواب أنه كان متأولاً في ذلك ،إذ كان يعتقد أن الجنب لا يدخلُ في المعنى المراد بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ
__________
(1) - صحيح مسلم برقم(846 ) وأحمد برقم( 19395) ومصنف عبد الرزاق - (ج 1 / ص 163) برقم(915) = تمعكت : تقلبت فى التراب
(2) - شرحه على مسلم - (ج 2 / ص 85)(1/168)
الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (43) سورة النساء، فكان يذهب إلى أن الملامسة ما دون الجماع ، وكان مجتهداً في ذلك ، ولم تبلغه الأحاديث الخاصة في ذلك السالمة من المعارضة ، مثل حديث أبي ذر. وفي ذلك كما يقول ابن كثير :" ما يدلكَ على أن أخبار الآحاد العدول من علم الخاصة قد يخفى على الجليل من العلماء منها الشيء، فليس فيما ذهب إليه عمر ما يحط من قدره ، طالما أنه قال على سبيل الاجتهاد ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ » (1)
قلت : وقد زعم بعض الناس أن عمر رضي الله عنه قد خالف القرآن الكريم و أمر بغير شرع الله ،فليس: لهؤلاء متمسك في هذا الأثر على أن عمر - رضي الله عنه - أمر بغير شرع الله - حاشاه من ذلك - وإذا كان هذا - أعني دعوى الأمر بغير شرع الله - لا يتصور في آحاد الصالحين من هذه الأمة، فكيف يتصور ذلك في الخليفة الراشد الذي أجمعت الأمة في وقته على صحة خلافته؟ ولكنه الهوى والتعصب يجعل من الأسود أبيض ومن الأبيض أسود!! نعوذ بالله من الهوى.
واعلم أنه ما من أحد من العلماء - إلا ما ندر - إلا وله من الأقوال والآراء ما يخالف فيه السنَّة، نظراً لأنَّ السنَّة لا يمكن لأحد أن يحيط بها إحاطة تامة، بحيث لا يشذ عنه منها شيء، هذا لم يقع لكبار الصحابة - رضي الله عنهم - فضلاً عن غيرهم ممن أتى بعدهم، ومع ذلك فلم يقل أحد من العلماء: إن مخالفة عالم للسنَّة - بسبب خفائها عليه أو لعذر غيره - إن ذلك من تبديل شرع الله تعالى.
ولهذا لم يقل أحد من الأئمة إن علياً - رضي الله عنه - قد بدَّل الشريعة حينما قال: إن المتوفى عنها زوجها تعتدُّ بأطول الأجلين ، لمخالفة قوله هذا للسنَّة الصحيحة الصريحة في
__________
(1) - أخرجه البخاري برقم(7352 ) ومسلم برقم( 4584 )(1/169)
حديث سبيعة الأسلمية - رضي الله عنها - والتي أفتاها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها انقضت عدتها بمجرد وضع حملها؟
فعَن يَزِيدَ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ عَن أَبِيهِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى ابْنِ الأَرْقَمِ أَنْ يَسْأَلَ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ كَيْفَ أَفْتَاهَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ أَفْتَانِى إِذَا وَضَعْتُ أَنْ أَنْكِحَ " (1) .
وعَن يَحْيَى ، قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ جَالِسٌ عِنْدَهُ ، فَقَالَ : أَفْتِنِي فِي امْرَأَةٍ وَلَدَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : آخِرُ الأَجَلَيْنِ ، قُلْتُ أَنَا : وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي - يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ - فَأَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ غُلاَمَهُ كُرَيْبًا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ يَسْأَلُهَا ، فَقَالَتْ : " قُتِلَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةِ وَهِيَ حُبْلَى ، فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، فَخُطِبَتْ فَأَنْكَحَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَ أَبُو السَّنَابِلِ فِيمَن خَطَبَهَا " (2)
بل أهل العلم يعتبرون هذا من جملة الاجتهادات التي يعذر فيها صاحبها، ولا يوافق على قوله، وتمثِّلُ هذه الطريقة تعامل أهل العلم المنصفين مع اجتهادات العلماء التي تبين خطؤها، سواء كان العالم من الصحابة - رضي الله عنهم - وهم أولى الناس بالتماس الأعذار - أو مع غيرهم.
وبخصوص حديث عمر هذا، فإن قول عمر - رضي الله عنه - له سبب - كما قال ابن عبد البر في "التمهيد (19/273): (وذلك أن عمر - رضي الله عنه - كان يذهب إلى أن الجنب لا يجزيه إلا الغسل بالماء، فلما أخبره عمار - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بأن التيمم يكفيه، سكت عنه ولم ينهه، فلما لم ينهه علمنا أنه قد وقع بقلبه تصديق عمار - رضي الله عنه -، لأن عماراً - رضي الله عنه - قال له: إن شئت لم أذكره، ولو وقع في قلبه تكذيب عمار لنهاه، لما كان الله قد جعل في قلبه من تعظيم حرمات الله، ولا شيء أعظم من الصلاة، وغير متوهم عن عمر أن يسكت على صلاة تصلَّى عنده بغير
__________
(1) - صحيح البخارى(5319 )
(2) - البخاري ( 4909) ومسلم (3796 )(1/170)
طهارة، وهو الخليفة المسؤول عن العامة، وكان أتقى الناس لربه وأصلحهم لهم في دينهم في ذلك الوقت رضي الله عنه "انتهى كلام ابن عبد البر رحمه الله.
فتحصل من كلامه رضي الله عنه أمران:
الأول: أن عمر رضي الله عنه كان قد خفيت عليه السنَّة أو نسيها، وكان يظن أن الجنب لا يصلي حتى يغتسل بالماء، وأن التيمم لا يكفيه، حتى أخبره عمار - رضي الله عنه-.
الثاني: أن عمر - رضي الله عنه - قد رجع إلى السنَّة حينما أخبره عمار بها - كما وضح وجه ذلك ابن عبد البر، وهذا هو الظن بكل مسلم تتبين له السنَّة، فضلاً عن الصحابة - رضي الله عنهم -، فضلاً عن الخليفة الراشد الوقاف عند حدود الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
ولكن المشكلة في بعض الناس - الذي يفقد الإنصاف - حينما يتعامل مع الأخبار والقصص - وفي نفسه شيء على من يقرأ أخباره - فإنه حين يقرأ، إنما يقرأ لتتبع الأخطاء والزلات ونسيان الحسنات، فهو كالذباب لا يقع إلا على الجرح، وهذا مخالف للمنهج القرآني الذي رسمه ربنا بقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" [المائدة:8]، ويقول سبحانه: "وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" [الأنعام:152].
فنسأل الله العدل والإنصاف مع نفوسنا وإخواننا وخصومنا، ونقول: "وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بالإيمان وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ" [الحشر:10]. (1)
__________
(1) - وانظر للتوسع فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 46) رقم الفتوى 10064 مذهب عمر رضي الله عنه في التيمم تاريخ الفتوى : 09 جمادى الثانية 1422 وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 3 / ص 23)(1/171)
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا ذَكَّرَ الزُّبَيْرَ يَوْمَ الْجَمَلِ شَيْئًا عَهِدَهُ إلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَهُ حَتَّى انْصَرَفَ عَن الْقِتَالِ ،فعَن أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ ، قَالَ : شَهِدْتُ الزُّبَيْرَ خَرَجَ يُرِيدُ عَلِيًّا ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ أَنْشُدُكَ اللَّهَ : هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ : تُقَاتِلُهُ وَأَنْتَ لَهُ ظَالِمٌ ، فَقَالَ : لَمْ أَذْكُرْ ، ثُمَّ مَضَى الزُّبَيْرُ مُنْصَرِفًا " (1) .
قلت : ولم يكن قصد الزبير رضي الله عنه الخروج على علي رضي الله عنه ، بل المطالبة بإقامة الحد على قتلة عثمان رضي الله عنه ، الذي قتل مظلوما باتفاقهم ، والقتلةُ في جيش علي رضي الله عنه ، فلما ذكَّره بالحديث ترك القتال وقتل غيلة رضي الله عنه وأرضاه .
عَن أَبِي الْبَخْتَرِيِّ ، قَالَ : سُئِلَ عَلِيٌّ ، عَن أَهْلِ الْجَمَلِ ، قَالَ : قِيلَ : أَمُشْرِكُونَ هُمْ ، قَالَ : مِنَ الشِّرْكِ فَرُّوا ، قِيلَ : أَمُنَافِقُونَ هُمْ ، قَالَ : إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ، قِيلَ : فَمَا هُمْ ، قَالَ : إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا. (2)
وعَن عَبْدِ خَيْرٍ قَالَ : سُئِلَ عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنهُ عَن أَهْلِ الْجَمَلِ فَقَالَ : إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا فَقَاتَلْنَاهُمْ وَقَدْ فَاءُوا وَقَدْ قَبِلْنَا مِنهُمْ. (3)
وعَن رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ ، قَالَ : قَالَ عَلِيٌّ : إنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِمَن ، قَالَ اللَّهُ :{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِن غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } [سورة الحجر ، الآية : 47] (4)
قلت : وهَذَا كَثِيرٌ فِي السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ،كما في سنن أبى داود(3612) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِى بَكْرٍ أَبُو مُصْعَبٍ الزُّهْرِىُّ حَدَّثَنَا الدَّرَاوَرْدِىُّ عَن رَبِيعَةَ بْنِ أَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَن سُهَيْلِ بْنِ أَبِى صَالِحٍ عَن أَبِيهِ عَن أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَزَادَنِى الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُؤَذِّنُ فِى هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ أَخْبَرَنِى الشَّافِعِىُّ عَن
__________
(1) - المستدرك للحاكم برقم(5574) وهو حديث حسن لغيره - وضعفه عديدون ، وانظر تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 49) وسير أعلام النبلاء - (ج 1 / ص 58)
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 15 / ص 255)(38918) صحيح بغيره
(3) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 8 / ص 182)(17199)صحيح
(4) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 15 / ص 280)(38976) صحيح(1/172)
عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسُهَيْلٍ فَقَالَ أَخْبَرَنِى رَبِيعَةُ - وَهُوَ عِنْدِى ثِقَةٌ - أَنِّي حَدَّثْتُهُ إِيَّاهُ وَلاَ أَحْفَظُهُ.
قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَقَدْ كَانَ أَصَابَتْ سُهَيْلاً عِلَّةٌ أَذْهَبَتْ بَعْضَ عَقْلِهِ وَنَسِىَ بَعْضَ حَدِيثِهِ فَكَانَ سُهَيْلٌ بَعْدُ يُحَدِّثُهُ عَن رَبِيعَةَ عَنهُ عَن أَبِيهِ. (1)
وفي مسند أحمد(24937) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِى سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى عَنِ الزُّهْرِىِّ عَن عُرْوَةَ عَن عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إِذَا نُكِحَتِ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ مَوْلاَهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا مَهْرُهَا بِمَا أَصَابَ مِنهَا فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِىُّ مَن لاَ وَلِىَّ لَهُ ». قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فَلَقِيتُ الزُّهْرِىَّ فَسَأَلْتُهُ عَن هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ. قَالَ وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى وَكَانَ فَأَثْنَى عَلَيْهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَبِى السُّلْطَانُ الْقَاضِى لأَنَّ إِلَيْهِ أَمْرَ الْفُرُوجِ وَالأَحْكَامِ. وهو حديث صحيح .
وقد ردَّ العمل به بعض الفقهاء لهذا السبب ، قال ابن حبان ردًّا عليهم (2) : "هَذَا خَبَرٌ أَوْهَمَ مَن لَمْ يَحْكُمْ صِنَاعَةَ الْحَدِيثِ ، أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ أَوْ لاَ أَصْلَ لَهُ بِحِكَايَةٍ حَكَاهَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي عَقِبِ هَذَا الْخَبَرِ ، قَالَ : ثُمَّ لَقِيتُ الزُّهْرِيَّ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يَهِيَ الْخَبَرُ بِمِثْلِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَيِّرَ الْفَاضِلَ الْمُتْقِنَ الضَّابِطَ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ يَنْسَاهُ ، وَإِذَا سُئِلَ عَنهُ لَمْ يَعْرِفْهُ فَلَيْسَ بِنِسْيَانِهِ الشَّيْءَ الَّذِي حَدَّثَ بِهِ بِدَالٍّ عَلَى بُطْلاَنِ أَصْلِ الْخَبَرِ ، وَالْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - خَيْرُ الْبَشَرِ صَلَّى فَسَهَا ، فَقِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللهِ أَقَصُرَتِ الصَّلاَةُ أَمْ نَسِيتَ ؟ فَقَالَ : كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَلَمَّا جَازَ عَلَى مَنَ اصْطَفَاهُ اللَّهُ لِرِسَالَتِهِ ، وَعَصَمَهُ مِن بَيْنِ خَلْقِهِ ، النِّسْيَانُ فِي أَعَمِّ الْأُمُورِ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِي هُوَ الصَّلاَةُ حَتَّى نَسِيَ ، فَلَمَّا اسْتَثْبَتُوهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَكُنْ نِسْيَانُهَ بِدَالٍ عَلَى بُطْلاَنِ الْحُكْمِ الَّذِي نَسِيَهُ كَانَ مَن بَعْدِ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - مِن أُمَّتِهِ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مَعْصُومِينَ جَوَازُ
__________
(1) - انظر الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 261) وشرح نخبة الفكر الشيخ سعد بن عبد الله الحميد - (ج 1 / ص 491)
(2) - صحيح ابن حبان - (ج 9 / ص 385)(1/173)
النِّسْيَانِ عَلَيْهِمْ أَجُوزُ ، وَلاَ يَحُوزُ مَعَ وُجُودِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلاَنِ الشَّيْءِ الَّذِي صَحَّ عَنهُمْ قَبْلَ نِسْيَانِهِمْ ذَلِكَ.
ذِكْرُ نَفْيِ إِجَازَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ (4075) أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَمْدَانِيُّ مِن أَصْلِ كِتَابِهِ ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَن سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَن عُرْوَةَ ، عَن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ ، وَمَا كَانَ مِن نِكَاحٍ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَهُوَ بَاطِلٌ ، فَإِنْ تَشَاجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَن لاَ وَلِيَّ لَهُ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِي خَبَرِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَن سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى ، عَنِ الزُّهْرِيِّ هَذَا وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ إِلاَّ ثَلاَثَةُ أَنْفَسٍ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ عَن حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْحَجَبِيُّ عَن خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ يُونُسَ الرَّقِّيُّ عَن عِيسَى بْنِ يُونُسَ ، وَلاَ يَصِحُّ فِي ذِكْرِ الشَّاهِدَيْنِ غَيْرَ هَذَا الْخَبَرِ.".
- - - - - - - - - - - - - -(1/174)
السَّبَبُ السَّادِسُ
عَدَمُ مَعْرِفَتِهِ بِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ
فتَارَةً لِكَوْنِ اللَّفْظِ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ غَرِيبًا عِنْدَهُ مِثْلَ لَفْظِ الْمُزَابَنَةِ ، فعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ ، وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلاً ، وَبَيْعُ الزَّبِيبِ بِالْكَرْمِ كَيْلاً . (1)
وَالْمُحَاقَلَةِ ،فعَن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَن بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةُ أَنْ يُبَاعَ ثَمَرُ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ وَالْمُحَاقَلَةُ أَنْ يُبَاعَ الزَّرْعُ بِالْقَمْحِ وَاسْتِكْرَاءُ الأَرْضِ بِالْقَمْحِ. قَالَ وَأَخْبَرَنِى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ « لاَ تَبْتَاعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهُ وَلاَ تَبْتَاعُوا الثَّمَرَ بِالتَّمْرِ ». (2)
وَالْمُخَابَرَةِ ، فعَن عَطَاءٍ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - نَهَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْمُخَابَرَةِ ، وَالْمُحَاقَلَةِ ، وَعَنِ الْمُزَابَنَةِ ، وَعَن بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا ، وَأَنْ لاَ تُبَاعَ إِلاَّ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ ، إِلاَّ الْعَرَايَا ، وقَالَ عَطَاءٌ فَسَّرَ لَنَا جَابِرٌ قَالَ أَمَّا الْمُخَابَرَةُ فَالأَرْضُ الْبَيْضَاءُ يَدْفَعُهَا الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فَيُنْفِقُ فِيهَا ثُمَّ يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَرِ. وَزَعَمَ أَنَّ الْمُزَابَنَةَ بَيْعُ الرُّطَبِ فِى النَّخْلِ بِالتَّمْرِ كَيْلاً. وَالْمُحَاقَلَةُ فِى الزَّرْعِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ يَبِيعُ الزَّرْعَ الْقَائِمَ بِالْحَبِّ كَيْلاً. (3)
وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ ، فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ - رضى الله عنه - أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الْمُنَابَذَةِ ، وَهْىَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالْبَيْعِ إِلَى الرَّجُلِ ، قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ ، أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ ، وَنَهَى عَنِ الْمُلاَمَسَةِ ، وَالْمُلاَمَسَةُ لَمْسُ الثَّوْبِ لاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ (4) .
__________
(1) - أخرجه البخارى برقم(2171 )
(2) - ومسلم برقم(3958 )
(3) - أخرجه البخارى برقم(2381 ) ومسلم برقم(3991)
(4) - أخرجه البخارى برقم(2144 )(1/175)
وعَن أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ نُهِىَ عَن بَيْعَتَيْنِ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ. أَمَّا الْمُلاَمَسَةُ فَأَنْ يَلْمِسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ تَأَمُّلٍ وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُمَا ثَوْبَهُ إِلَى الآخَرِ وَلَمْ يَنْظُرْ وَاحِدٌ مِنهُمَا إِلَى ثَوْبِ صَاحِبِهِ. (1)
وَالْغَرَرِ، فعَن أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَن بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَن بَيْعِ الْغَرَرِ. (2)
قال النووي رحمه الله : أَمَّا بَيْع الْحَصَاة فَفِيهِ ثَلَاث تَأْوِيلَات :
أَحَدهَا أَنْ يَقُول : بِعْتُك مِن هَذِهِ الْأَثْوَاب مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْحَصَاة الَّتِي أَرْمِيهَا . أَوْ بِعْتُك مِن هَذِهِ الْأَرْض مِن هُنَا إِلَى مَا اِنْتَهَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الْحَصَاة .
وَالثَّانِي أَنْ يَقُول : بِعْتُك عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ إِلَى أَنْ أَرْمِي بِهَذِهِ الْحَصَاة .
وَالثَّالِث أَنْ يَجْعَلَا نَفْس الرَّمْي بِالْحَصَاةِ بَيْعًا ، فَيَقُول : إِذَا رَمَيْت هَذَا الثَّوْب بِالْحَصَاةِ فَهُوَ مَبِيع مِنك بِكَذَا .
وَأَمَّا النَّهْي عَن بَيْع الْغَرَر فَهُوَ أَصْل عَظِيم مِن أُصُول كِتَاب الْبُيُوع ، وَلِهَذَا قَدَّمَهُ مُسْلِم وَيَدْخُل فِيهِ مَسَائِل كَثِيرَة غَيْر مُنْحَصِرَة كَبَيْعِ الْآبِق وَالْمَعْدُوم وَالْمَجْهُول وَمَا لَا يَقْدِر عَلَى تَسْلِيمه وَمَا لَمْ يَتِمّ مِلْك الْبَائِع عَلَيْهِ وَبَيْع السَّمَك فِي الْمَاء الْكَثِير وَاللَّبَن فِي الضَّرْع وَبَيْع الْحَمْل فِي الْبَطْن وَبَيْع بَعْض الصُّبْرَة مُبْهَمًا وَبَيْع ثَوْب مِن أَثْوَاب وَشَاة مِن شِيَاه وَنَظَائِر ذَلِكَ ، وَكُلّ هَذَا بَيْعه بَاطِل لِأَنَّهُ غَرَر مِن غَيْر حَاجَة . وَقَدْ يَحْتَمِل بَعْض الْغَرَر بَيْعًا إِذَا دَعَتْ إِلَيْهِ حَاجَة كَالْجَهْلِ بِأَسَاسِ الدَّار وَكَمَا إِذَا بَاعَ الشَّاة الْحَامِل وَاَلَّتِي فِي ضَرْعهَا لَبَن فَإِنَّهُ يَصِحّ لِلْبَيْعِ ، لِأَنَّ الْأَسَاس تَابِع لِلظَّاهِرِ مِن الدَّار ، وَلِأَنَّ الْحَاجَة تَدْعُو إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِن رُؤْيَته . وَكَذَا الْقَوْل فِي حَمْل الشَّاة وَلَبَنهَا . وَكَذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَاز أَشْيَاء فِيهَا غَرَر حَقِير ، مِنهَا أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّة بَيْع الْجُبَّة الْمَحْشُوَّة وَإِنْ لَمْ يُرَ حَشْوهَا ، وَلَوْ بِيعَ حَشْوهَا بِانْفِرَادِهِ لَمْ يَجُزْ . وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَاز إِجَارَة الدَّار وَالدَّابَّة وَالثَّوْب وَنَحْو ذَلِكَ شَهْرًا مَعَ أَنَّ الشَّهْر قَدْ يَكُون ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ يَكُون تِسْعَة وَعِشْرِينَ . وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَاز دُخُول الْحَمَّام بِالْأُجْرَةِ مَعَ اِخْتِلَاف النَّاس فِي اِسْتِعْمَالهمْ الْمَاء وَفِي
__________
(1) - صحيح مسلم برقم(3878 )
(2) -أخرجه مسلم برقم(3881 )(1/176)
قَدْر مُكْثهمْ . وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَاز الشُّرْب مِن السِّقَاء بِالْعِوَضِ مَعَ جَهَالَة قَدْر الْمَشْرُوب وَاخْتِلَاف عَادَة الشَّارِبِينَ وَعَكْس هَذَا . وَأَجْمَعُوا عَلَى بُطْلَان بَيْع الْأَجِنَّة فِي الْبُطُون وَالطَّيْر فِي الْهَوَاء .
قَالَ الْعُلَمَاء : مَدَار الْبُطْلَان بِسَبَبِ الْغَرَر . وَالصِّحَّة مَعَ وُجُوده عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ أَنَّهُنَّ إِنْ دَعَتْ حَاجَة إِلَى اِرْتِكَاب الْغَرَر وَلَا يُمْكِن الِاحْتِرَاز عَنهُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ وَكَانَ الْغَرَر حَقِيرًا جَازَ الْبَيْع وَإِلَّا فَلَا ، وَمَا وَقَعَ فِي بَعْض مَسَائِل الْبَاب مِن اِخْتِلَاف الْعُلَمَاء فِي صِحَّة الْبَيْع فِيهَا وَفَسَاده كَبَيْعِ الْعَيْن الْغَائِبَة مَبْنِيّ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَة ، فَبَعْضهمْ يَرَى أَنَّ الْغَرَر حَقِير فَيَجْعَلهُ كَالْمَعْدُومِ فَيَصِحّ الْبَيْع ، وَبَعْضهمْ يَرَاهُ لَيْسَ بِحَقِيرٍ فَيَبْطُل الْبَيْع وَاَللَّه أَعْلَم .
وَاعْلَمْ أَنَّ بَيْع الْمُلَامَسَة وَبَيْع الْمُنَابَذَة وَبَيْع حَبَل الْحَبَلَة وَبَيْع الْحَصَاة وَعَسْب الْفَحْل وَأَشْبَاههَا مِن الْبُيُوع الَّتِي جَاءَ فِيهَا نُصُوص خَاصَّة هِيَ دَاخِلَة فِي النَّهْي عَن بَيْع الْغَرَر وَلَكِنْ أُفْرِدَتْ بِالذِّكْرِ ، وَنُهِيَ عَنهَا لِكَوْنِهَا مِن بِيَاعَات الْجَاهِلِيَّة الْمَشْهُورَة وَاَللَّه أَعْلَم" . (1)
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن الْكَلِمَاتِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي قَدْ يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِهَا، َكَالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ : « لاَ طَلاَقَ وَلاَ عَتَاقَ فِى إِغْلاَقٍ » (2) . فَإِنَّهُمْ قَدْ فَسَّرُوا الْإِغْلَاقَ بِالْإِكْرَاهِ ، وَمَن يُخَالِفُهُ لَا يَعْرِفُ هَذَا التَّفْسِيرَ .
قال الزيلعي (3) : " قَالَ أَبُو دَاوُد : أَظُنُّهُ الْغَضَبُ يَعْنِي الْإِغْلَاقَ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : الْإِغْلَاقُ الْإِكْرَاهُ ؛ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ " ، وَقَالَ : عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ، قَالَ فِي " التَّنْقِيحِ " : وَقَدْ فَسَّرَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا بِالْغَضَبِ ، قَالَ شَيْخُنَا : وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَعُمُّ الْإِكْرَاهَ ، وَالْغَضَبَ ، وَالْجُنُونَ ، وَكُلَّ أَمْرٍ انْغَلَقَ عَلَى صَاحِبِهِ عِلْمُهُ وَقَصْدُهُ ، مَأْخُوذٌ مِن غَلَقَ
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 296) برقم(2783 )
(2) - سنن ابن ماجه برقم( 2124 ) وأبو داود( 2193) وابن أبي شيبة برقم(18034 ) وأحمد برقم(27115 ) والمستدرك برقم (2802و2803) والسنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 7 / ص 357) برقم( 15493 و15494 و20509) وسنن الدارقطنى برقم(4035 ) والمسند الجامع برقم( 16734) وإرواء الغليل - (ج 7 / ص 113) برقم( 2047 ) وحسنه عَن صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ حَدَّثَتْنِى عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ طَلاَقَ وَلاَ عَتَاقَ فِى إِغْلاَقٍ ». من طرق وهو حديث صحيح لغيره
(3) - نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية - (ج 6 / ص 230)(1/177)
الْبَابَ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ : « وَضَعَ اللَّهُ عَن أُمَّتِى الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ »" (1) .
قلت : الغضبُ ينقسم إلى ثلاثة أقسام كما ذكر العلماء:
أَحَدُهَا : أَنْ يَحْصُل لَهُ مَبَادِئُ الْغَضَبِ بِحَيْثُ لاَ يَتَغَيَّرُ عَقْلُهُ ، وَيَعْلَمُ مَا يَقُول وَيَقْصِدُهُ ، وَهَذَا لاَ إِشْكَال فِيهِ .
الثَّانِي : أَنْ يَبْلُغَ النِّهَايَةَ ، فَلاَ يَعْلَمُ مَا يَقُول وَلاَ يُرِيدُهُ ، فَهَذَا لاَ رَيْبَ أَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ شَيْءٌ مِن أَقْوَالِهِ .
الثَّالِثُ : مَن تَوَسَّطَ بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ بِحَيْثُ لَمْ يَصِرْ كَالْمَجْنُونِ ، فَهَذَا مَحَل النَّظَرِ وَالأَْدِلَّةُ تَدُل عَلَى عَدَمِ نُفُوذِ أَقْوَالِهِ .
ثُمَّ قَال ابْنُ عَابِدِينَ : وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَدْهُوشِ وَالْغَضْبَانِ لاَ يَلْزَمُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لاَ يَعْلَمُ مَا يَقُول ، بَل يُكْتَفَى فِيهِ بِغَلَبَةِ الْهَذَيَانِ وَاخْتِلاَطِ الْجِدِّ بِالْهَزْل كَمَا هُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي السَّكْرَانِ . . ثُمَّ قَال : فَاَلَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيل عَلَيْهِ فِي الْمَدْهُوشِ وَنَحْوِهِ : إِنَاطَةُ الْحُكْمِ بِغَلَبَةِ الْخَلَل فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ الْخَارِجَةِ عَن عَادَتِهِ ، فَمَا دَامَ فِي حَال غَلَبَةِ الْخَلَل فِي الأَْقْوَال وَالأَْفْعَال لاَ تُعْتَبَرُ أَقْوَالُهُ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُهَا وَيُرِيدُهَا ، لأَِنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ وَالإِْرَادَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِعَدَمِ حُصُولِهَا عَن إِدْرَاكٍ صَحِيحٍ كَمَا لاَ تُعْتَبَرُ مِنَ الصَّبِيِّ الْعَاقِل. (2)
__________
(1) - سنن ابن ماجه(2121) و السنن الكبرى للبيهقي (ج 7 / ص 357) (15492) وهو صحيح لغيره
(2) - انظر: المبدع(7/252) الفروع(5/282)، الإنصاف(8/432)، ورجحه ابن باز - رحمه الله تعالى-، الفتاوى(21/373) لحديث المذكور وقد أفرد ابن القيم - رحمه الله تعالى- هذه المسألة بمصنف جمع فيه الأدلة من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين، وذكر أن عدم الوقوع مقتضى القياس الصحيح والاعتبار وأصول الشريعة، وأجاب عن أدلة الموقعين، ومن قرأ ما كتبه اطمأن لقوله وانظر فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 82) وفتاوى معاصرة - (ج 1 / ص 182) وفتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 11 / ص 8) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 2301) و(ج 1 / ص 4439) و(ج 1 / ص 6853) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 2780) ومجموع فتاوى ابن باز - (ج 19 / ص 118) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 6 / ص 272) والروضة الندية - (ج 2 / ص 272) والسيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار - الرقمية - (ج 1 / ص 402) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 11 / ص 308) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 433) وتلقيح الافهام العلية بشرح القواعد الفقهية - (ج 1 / ص 104) وفي فتاوى يسألونك - (ج 1 / ص 129)(1/178)
وَتَارَةً لِكَوْنِ مَعْنَاهُ فِي لُغَتِهِ وَعُرْفِهِ غَيْرَ مَعْنَاهُ فِي لُغَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَحْمِلُهُ عَلَى مَا يَفْهَمُهُ فِي لُغَتِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللُّغَةِ، كَمَا سَمِعَ بَعْضُهُمْ آثَارًا فِي الرُّخْصَةِ فِي النَّبِيذِ فَظَنُّوهُ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْمُسْكِرِ ؛ لِأَنَّهُ لُغَتُهُمْ وَإِنَّمَا هُوَ مَا يُنْبَذُ لِتَحْلِيَةِ الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ (1) ؛ فَإِنَّهُ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ صَحِيحَةٍ .
فعَن بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِىِّ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَأَتَاهُ أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ مَا لِى أَرَى بَنِى عَمِّكُمْ يَسْقُونَ الْعَسَلَ وَاللَّبَنَ وَأَنْتُمْ تَسْقُونَ النَّبِيذَ أَمِن حَاجَةٍ بِكُمْ أَمْ مِن بُخْلٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا بِنَا مِن حَاجَةٍ وَلاَ بُخْلٍ قَدِمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَاحِلَتِهِ وَخَلْفَهُ أُسَامَةُ فَاسْتَسْقَى فَأَتَيْنَاهُ بِإِنَاءٍ مِن نَبِيذٍ فَشَرِبَ وَسَقَى فَضْلَهُ أُسَامَةَ وَقَالَ: « أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ كَذَا فَاصْنَعُوا ». فَلاَ نُرِيدُ تَغْيِيرَ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (2) .
قال النووي : " وَقَدْ اِتَّفَقَ أَصْحَابنَا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبّ أَنْ يَشْرَب الْحَاجّ وَغَيْره مِن نَبِيذ سِقَايَة الْعَبَّاس لِهَذَا الْحَدِيث ، وَهَذَا النَّبِيذ مَاء مُحَلًّى بِزَبِيبٍ أَوْ غَيْره بِحَيْثُ يَطِيب طَعْمه ، وَلَا يَكُون مُسْكِرًا . فَأَمَّا إِذَا طَالَ زَمَنه وَصَارَ مُسْكِرًا فَهُوَ حَرَام ." (3)
__________
(1) - ففي صحيح مسلم برقم(3240 )عَن بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِىِّ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَأَتَاهُ أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ مَا لِى أَرَى بَنِى عَمِّكُمْ يَسْقُونَ الْعَسَلَ وَاللَّبَنَ وَأَنْتُمْ تَسْقُونَ النَّبِيذَ أَمِن حَاجَةٍ بِكُمْ أَمْ مِن بُخْلٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا بِنَا مِن حَاجَةٍ وَلاَ بُخْلٍ قَدِمَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى رَاحِلَتِهِ وَخَلْفَهُ أُسَامَةُ فَاسْتَسْقَى فَأَتَيْنَاهُ بِإِنَاءٍ مِن نَبِيذٍ فَشَرِبَ وَسَقَى فَضْلَهُ أُسَامَةَ وَقَالَ « أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ كَذَا فَاصْنَعُوا ». فَلاَ نُرِيدُ تَغْيِيرَ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 4 / ص 452) :
وَقَدْ اِتَّفَقَ أَصْحَابنَا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبّ أَنْ يَشْرَب الْحَاجّ وَغَيْره مِن نَبِيذ سِقَايَة الْعَبَّاس لِهَذَا الْحَدِيث ، وَهَذَا النَّبِيذ مَاء مُحَلًّى بِزَبِيبٍ أَوْ غَيْره بِحَيْثُ يَطِيب طَعْمه ، وَلَا يَكُون مُسْكِرًا . فَأَمَّا إِذَا طَالَ زَمَنه وَصَارَ مُسْكِرًا فَهُوَ حَرَام .
وفيه برقم(5345 )عَن يَحْيَى الْبَهْرَانِىِّ قَالَ ذَكَرُوا النَّبِيذَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُنْتَبَذُ لَهُ فِى سِقَاءٍ - قَالَ شُعْبَةُ مِن لَيْلَةِ الاِثْنَيْنِ - فَيَشْرَبُهُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالثَّلاَثَاءِ إِلَى الْعَصْرِ فَإِنْ فَضَلَ مِنهُ شَىْءٌ سَقَاهُ الْخَادِمَ أَوْ صَبَّهُ.
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 7 / ص 34)
فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث دَلَالَة عَلَى جَوَاز الِانْتِبَاذ ، وَجَوَاز شُرْب النَّبِيذ مَا دَامَ حُلْوًا لَمْ يَتَغَيَّر وَلَمْ يَغْلِ ، وَهَذَا جَائِز بِإِجْمَاعِ الْأُمَّة ، وَأَمَّا سَقْيه الْخَادِم بَعْد الثَّلَاث وَصَبّه ، فَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَن بَعْد الثَّلَاث تَغَيُّره ، وَكَانَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَنَزَّه عَنهُ بَعْد الثَّلَاث
(2) - صحيح مسلم برقم(3240 )
(3) - شرح النووي على مسلم - (ج 4 / ص 452)(1/179)
وعَن يَحْيَى الْبَهْرَانِىِّ قَالَ ذَكَرُوا النَّبِيذَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُنْتَبَذُ لَهُ فِى سِقَاءٍ - قَالَ شُعْبَةُ مِن لَيْلَةِ الاِثْنَيْنِ - فَيَشْرَبُهُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالثَّلاَثَاءِ إِلَى الْعَصْرِ فَإِنْ فَضَلَ مِنهُ شَىْءٌ سَقَاهُ الْخَادِمَ أَوْ صَبَّهُ. (1)
وفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث دَلَالَة عَلَى جَوَاز الِانْتِبَاذ ، وَجَوَاز شُرْب النَّبِيذ مَا دَامَ حُلْوًا لَمْ يَتَغَيَّر وَلَمْ يَغْلِ ، وَهَذَا جَائِز بِإِجْمَاعِ الْأُمَّة ، وَأَمَّا سَقْيه الْخَادِم بَعْد الثَّلَاث وَصَبّه ، فَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَن بَعْد الثَّلَاث تَغَيُّره ، وَكَانَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَنَزَّه عَنهُ بَعْد الثَّلَاث" . (2)
وَسَمِعُوا لَفْظَ الْخَمْرِ فِي الْكِتَابِ والسُّنَّة فَاعْتَقَدُوهُ عَصِيرَ الْعِنَبِ الْمُشْتَدِّ خَاصَّةً بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي اللُّغَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ مِن الْأَحَادِيثِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ تُبَيِّنُ أَنَّ الْخَمْرَ اسْمٌ لِكُلِّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ .
فعَن أَنَسٍ قَالَ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الْخَمْرُ حِينَ حُرِّمَتْ وَمَا نَجِدُ - يَعْنِى بِالْمَدِينَةِ - خَمْرَ الأَعْنَابِ إِلاَّ قَلِيلاً ، وَعَامَّةُ خَمْرِنَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ . (3)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنبَرِ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهْىَ مِن خَمْسَةٍ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ . (4)
وعَن أَبِى حَرِيزٍ أَنَّ عَامِرًا حَدَّثَهُ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« إِنَّ الْخَمْرَ مِنَ الْعَصِيرِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَإِنِّى أَنْهَاكُمْ عَن كُلِّ مُسْكِرٍ » (5)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَمَن شَرِبَ الْخَمْرَ فِى الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَتُبْ لَمْ يَشْرَبْهَا فِى الآخِرَةِ ». (6)
وعَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ » (7) .
__________
(1) - مسلم برقم(5345 )
(2) - شرح النووي على مسلم - (ج 7 / ص 34)
(3) - صحيح البخارى برقم(5580 )
(4) - صحيح البخارى برقم(5581)
(5) - سنن أبى داود برقم(3679 ) وهو صحيح .
(6) - - صحيح مسلم برقم(5336 )
(7) - سنن أبى داود برقم(3683 ) وهو صحيح .(1/180)
وَتَارَةً لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُشْتَرِكًا أَوْ مُجْمَلًا .
وقد عرف علماء الأصول الكلام المجمل بأنه: ما احتمل معنيين أو أكثر دون رجحان أحدهما عند السامع، قال صاحب المراقي:
وذو وضوح محكم، والمجمل هو الذي المراد منه يجهل.
والمبين هو الكلام المجمل إذا بين وأصبح واضح المعنى، كما قال صاحب المراقي في تعريفه:
تصيير مشكل من الجلي....
والكلام البيِّن هو الدالُّ على المعنى دون احتمال أو مع احتمال مرجوح.
والمجمل أنواع منها: اللفظ المشترك وهو ما وضع لأكثر من معنى كالقرء للطهر والحيض، وكالعين للباصرة والجارية.... (1)
أَوْ كانَ اللفظُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ (2)
الْحَقِيقَةُ (3) عَلَى وَزْنِ فَعِيلَةٍ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْحَقِّ ، وَمِن مَعَانِيهِ لُغَةً الثُّبُوتُ ، قَال تَعَالَى : { لَقَدْ حَقَّ الْقَوْل عَلَى أَكْثَرِهِمْ } (سورة يس / 7 ) أَيْ ثَبَتَ وَوَجَبَ . وَحَقِيقَةُ الشَّيْءِ مُنْتَهَاهُ وَأَصْلُهُ الْمُشْتَمِل عَلَيْهِ . (4)
__________
(1) - انظر المنثور في القواعد - (ج 3 / ص 106) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 3 / ص 82) ومذكرة أصول الفقه - (ج 1 / ص 7) وروضة الناظر وجنة المناظر - (ج 2 / ص 70) ومعالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة - (ج 1 / ص 359) والتحبير شرح التحرير - (ج 6 / ص 2754)
(2) - - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 18 / ص 49) و أصول السرخسي - (ج 1 / ص 170) والأحكام للآمدي - (ج 1 / ص 28) والمحصول - (ج 1 / ص 285) واللمع - (ج 1 / ص 58) والمستصفى - (ج 1 / ص 467) وتهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية - (ج 3 / ص 470) وكشف الأسرار - (ج 1 / ص 170) والبحر المحيط - (ج 2 / ص 318) والتقرير والتحبير - (ج 1 / ص 427) والأشباه والنظائر - (ج 1 / ص 113) وشرح الكوكب المنير - (ج 1 / ص 88) وشرح التلويح على التوضيح - (ج 1 / ص 52) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 2 / ص 377) و(ج 2 / ص 486) وإرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول - (ج 1 / ص 41) وقواطع الأدلة فى الأصول / للسمعانى - (ج 1 / ص 236) والتلخيص فى أصول الفقه / لإمام الحرمين - (ج 1 / ص 30) والتنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين - (ج 1 / ص 5) وغاية الوصول في شرح لب الأصول - (ج 1 / ص 39)
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 18 / ص 49)
(4) - لسان العرب والمصباح مادة : ( حقق ) وشرح جمع الجوامع 1 / 300 .(1/181)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا أَكْثَرُ الأُْصُولِيِّينَ وَعُلَمَاءِ الْبَيَانِ : بِأَنَّهَا الْكَلِمَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ فِي اصْطِلاَحٍ يَقَعُ بِهِ التَّخَاطُبُ بِالْكَلاَمِ الْمُشْتَمِل عَلَى تِلْكَ الْكَلِمَةِ (1)
وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ : بِأَنَّهَا لَفْظٌ أُرِيدَ بِهِ مَا وُضِعَ لَهُ ابْتِدَاءً بِحَيْثُ يَدُل عَلَيْهِ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ (2)
وَالْمُرَادُ مِنَ الْوَضْعِ تَعْيِينُ اللَّفْظَةِ بِإِزَاءِ مَعْنًى تَدُل عَلَيْهِ بِنَفْسِهَا (3) .
والْمَجَازُ اسْمٌ لِمَا أُرِيدَ بِهِ غَيْرَ مَا وُضِعَ لَهُ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا ، كَتَسْمِيَةِ الشُّجَاعِ أَسَدًا ، سُمِّيَ مَجَازًا لأَِنَّهُ جَاوَزَ وَتَعَدَّى مَحَلَّهُ وَمَعْنَاهُ الْمَوْضُوعُ لَهُ إِلَى غَيْرِهِ لِمُنَاسِبَةٍ بَيْنَهُمَا ، فَالْمَجَازُ خَلَفٌ عَنِ الْحَقِيقَةِ ، أَيْ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُسْتَعْمَل فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ خَلَفٌ لِنَفْسِ اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَل فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ . (4)
فَيَحْمِلُهُ عَلَى الْأَقْرَبِ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْآخَرَ كَمَا حَمَلَ جَمَاعَةٌ مِن الصَّحَابَةِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ عَلَى الْحَبْلِ، فعَن عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ :{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (187) سورة البقرة، عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ أَسْوَدَ وَإِلَى عِقَالٍ أَبْيَضَ ، فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِى ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِى اللَّيْلِ ، فَلاَ يَسْتَبِينُ لِى ، فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ « إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ » (5) .
__________
(1) - التعريفات للجرجاني ، ومختصر المعاني للتفتازاني 1 / 143 ، 144 ، ومسلم الثبوت 1 / 203 .
(2) - جمع الجوامع 1 / 300 .
(3) - كشف الأسرار عن أصول البزدوي 1 / 61 ، ومختصر المعاني 1 / 144 .
(4) - التعريفات للجرجاني ، وجمع الجوامع 1 / 305 ، ومسلم الثبوت 1 / 203 ، 213 ، والمستصفى للغزالي 1 / 341 وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 1 / 62 والموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 18 / ص 49)
(5) - أخرجه البخارى برقم (1916 ) ومسلم برقم(2585) =العقال : الحبل الذى يعقل به البعير(1/182)
وَكَمَا حَمَلَ آخَرُونَ قَوْلَهُ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (43) سورة النساء ، عَلَى الْيَدِ إلَى الْإِبِطِ، فعَنِ الزُّهْرِيِّ , قَالَ : " التَّيَمُّمُ إِلَى الْآبَاطِ " (1) وَعِلَّةُ مَن قَالَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِمَسْحِ الْيَدِ فِي التَّيَمُّمِ كَمَا أَمَرَ بِمَسْحِ الْوَجْهِ , وَقَدِ أجْمَعُوا أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَمْسَحَ جَمِيعَ الْوَجْهِ , فَكَذَلِكَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْيَدِ , وَمِن طَرَفِ الْكَفِّ إِلَى الْإبْطِ يَدٌ . وَاعْتَلُّوا مِنَ الْخَبَرِ بِمَا :( 9670 ) حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : ثنا صَيْفِيُّ بْنُ رِبْعِيٍّ , عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ , عَنِ الزُّهْرِيِّ , عَن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , عَن عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَبِى الْيَقْظَانِ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَهَلَكَ عِقْدٌ لِعَائِشَةَ فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَضَاءَ الْفَجْرُ فَتَغَيَّظَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَائِشَةَ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ الرُّخْصَةُ فِى الْمَسْحِ بِالصُّعُدَاتِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ إِنَّكِ لَمُبَارَكَةٌ لَقَدْ نَزَلَ عَلَيْنَا فِيكِ رُخْصَةٌ فَضَرَبْنَا بِأَيْدِينَا لِوُجُوهِنَا وَضَرَبْنَا بِأَيْدِينَا ضَرْبَةً إِلَى الْمَنَاكِبِ وَالآبَاطِ. " (2)
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحَدَّ الَّذِي لَا يُجْزِئُ الْمُتَيَمِّمَ أَنْ يَقْصُرَ عَنهُ فِي مَسَحِهِ بِالتُّرَابِ مِن يَدَيْهِ , الْكَفَّانِ إِلَى الزَّنْدَيْنِ لِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ التَّقْصِيرَ عَن ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ , ثُمَّ هُوَ فِيمَا جَاوَزَ ذَلِكَ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ بَلَغَ بِمَسْحِهِ الْمِرْفَقَيْنِ , وَإِنْ شَاءَ الْآبَاطَ .
وَالْعِلَّةُ الَّتِي مِن أَجَلِهَا جَعَلْنَاهُ مُخَيَّرًا فِيمَا جَاوَزَ الْكَفَّيْنِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَحِدَّ فِي مَسْحِ ذَلِكَ بِالتُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ حَدًّا لَا يَجُوزُ التَّقْصِيرُ عَنهُ , فَمَا مَسَحَ الْمُتَيَمِّمُ مِن يَدَيْهِ أَجْزَأَهُ , إِلَّا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ , أَوْ قَامَتِ الْحُجَّةُ بِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ التَّقْصِيرُ عَنهُ , وَقَدْ أَجْمَعَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ التَّقْصِيرَ عَنِ الْكَفَّيْنِ غَيْرُ مُجْزِئٍ , فَخَرَجَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ , وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ , وَإِذْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ , وَكَانَ الْمَاسِحُ بِكَفَّيْهِ دَاخِلًا فِي عُمُومِ الْآيَةِ كَانَ خَارِجًا مِمَّا لَزِمَهُ مِن
__________
(1) - تفسير الطبري (ج 8 / ص 418)(9669 ) صحيح
(2) - سنن أبى داود(318 ) ومسند أحمد(19401) وهو صحيح -الصعدات : جمع صعد وهى الطرقات(1/183)
فَرْضِ ذَلِكَ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْجُنُبِ , هَلْ هُوَ مِمَن دَخَلَ فِي رُخْصَةِ التَّيَمُّمِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِن أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَن بَعْدَهُمْ مِنَ الْخَالِفِينَ : حُكْمُ الْجُنُبِ فِيمَا لَزِمَهُ مِنَ التَّيَمُّمِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ حُكْمُ مَن جَاءَ مِنَ الْغَائِطِ , وَسَائِرِ مَن أَحْدَثَ مِمَن جَعَلَ التَّيَمُّمَ لَهُ طَهُورًا لِصَلَاتِهِ , وَقَدْ ذَكَرْتُ قَوْلَ بَعْضِ مَن تَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ : أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ أَوْ جَامَعْتُمُوهُنَّ , وَتَرَكْنَا ذِكْرَ الْبَاقِينَ لِكَثْرَةِ مَن قَالَ ذَلِكَ . وَاعْتَلَّ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِأَنَّ لِلْجُنُبِ التَّيَمُّمَ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ فِي سَفَرِهِ بِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَى ذَلِكَ نَقْلًا عَن نَبِيِّهَا - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي يَقْطَعُ الْعُذْرَ , وَيُزِيلُ الشَّكَّ . وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ : لَا يُجْزِئُ الْجُنُبَ غَيْرُ الِاغْتِسَالِ بِالْمَاءِ , وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ , وَالتَّيَمُّمُ لَا يُطَهِّرُهُ . قَالُوا : وَإِنَّمَا جُعِلَ التَّيَمُّمُ رُخْصَةً لِغَيْرِ الْجُنُبِ , وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ اللَّهِ : وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ قَالُوا : وَقَدْ نَهَى اللَّهُ الْجُنُبَ أَنْ يَقْرَبَ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ إِلَّا مُجْتَازًا فِيهِ حَتَّى يَغْتَسِلَ , وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ بِالتَّيَمُّمِ . قَالُوا : وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ : أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ أَوْ لَامَسْتُمُوهُنَّ بِالْيَدِ دُونَ الْفَرْجِ وَدُونَ الْجِمَاعِ . قَالُوا : فَلَمْ نَجِدِ اللَّهَ رَخَّصَ لِلْجُنُبِ فِي التَّيَمُّمِ , بَل أَمَرَهُ بِالْغُسْلِ , وَأَنْ لَا يَقْرَبَ الصَّلَاةَ إِلَّا مُغْتَسِلًا . قَالُوا : وَالتَّيَمُّمِ لَا يُطَهِّرُهُ لِصَلَاتِهِ" . (1)
وفي سنن الترمذى (144 ) حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الفَلَّاسُ قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ ، عَن قَتَادَةَ ، عَن عَزْرَةَ ، عَن سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى ، عَن أَبِيهِ ، عَن عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، " " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِالتَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ " " ، وَفِي البَابِ عَن عَائِشَةَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، " " حَدِيثُ عَمَّارٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَقَدْ رُوِيَ عَن عَمَّارٍ مِن غَيْرِ وَجْهٍ ، وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِن أَهْلِ العِلْمِ مِن أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنهُمْ : عَلِيٌّ ، وَعَمَّارٌ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ ، مِنهُمْ : الشَّعْبِيُّ ، وَعَطَاءٌ ، وَمَكْحُولٌ قَالُوا : التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ ، وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ ، وقَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ مِنهُمْ : ابْنُ عُمَرَ ، وَجَابِرٌ ، وَإِبْرَاهِيمُ ، وَالحَسَنُ قَالُوا : التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى المِرْفَقَيْنِ ، وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ ، وَمَالِكٌ ، وَابْنُ المُبَارَكِ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ عَن عَمَّارٍ فِي التَّيَمُّمِ أَنَّهُ قَالَ :
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (8847 و8848) وهو صحيح(1/184)
لِلْوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ مِن غَيْرِ وَجْهٍ " " وَقَدْ رُوِيَ عَن عَمَّارٍ أَنَّهُ قَالَ : " تَيَمَّمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المَنَاكِبِ وَالآبَاطِ " فَضَعَّفَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ حَدِيثَ عَمَّارٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ لَمَّا رُوِيَ عَنهُ حَدِيثُ المَنَاكِبِ وَالآبَاطِ ، قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ : حَدِيثُ عَمَّارٍ فِي التَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، وَحَدِيثُ عَمَّارٍ : تَيَمَّمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المَنَاكِبِ وَالآبَاطِ لَيْسَ هُوَ بِمُخَالِفٍ لِحَدِيثِ الوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ ، لِأَنَّ عَمَّارًا لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا قَالَ : فَعَلْنَا كَذَا وَكَذَا ، فَلَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِالوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا أَفْتَى بِهِ عَمَّارٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّيَمُّمِ أَنَّهُ قَالَ : الوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ ، فَفِي هَذَا دَلَالَةٌ أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى مَا عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتَارَةً لِكَوْنِ الدَّلَالَةِ مِن النَّصِّ خَفِيَّةً (1) ؛
قلت : أما عبارة النص: فهي دلالةُ اللَّفظِ على المعنى المُتبادِرِ فهمُه من نفسِ صيغَتِهِ. ويسمَّى (المعنى الحرفيَّ للنَّصِّ).
وأكثرُ أحكامِ الشَّريعةِ مُستفادَةٌ من عباراتِ نصُوصِ الكتابِ والسُّنَّة، والعلَّةُ في ذلكَ أنَّ الله تعالى أرادَ أن يكونَ قانونًا متَّبعًا، ولا يتهيَّأُ ذلكَ إلاَّ إذا كانَ مفهومًا مُدركًا للمُكلَّفِ دالاًّ على المُرادِ منهُ بنفسِ صيغةِ الخِطابِ.
فلوْ أخذتْ لهُ مثالاً بقولهِ تعالى: { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } [النساء: 3]، فعبارةُ النَّصِّ دلَّتْ بلفظِهَا على أحكامٍ ثلاثةٍ هي: 1ـ إباحَةُ النِّكاحِ. 2ـ تحديدُ تعدُّدِ الزَّوجاتِ بأربعٍ كحدٍ أقصَى.
3ـ وُجوبُ الاكتِفاءِ بواحدَةٍ عندَ خوفِ الجورِ.
__________
(1) - انظر بحوث في علم أصول الفقه - (ج 1 / ص 84-87) والمستصفى - (ج 1 / ص 251) وكشف الأسرار - (ج 3 / ص 479)(1/185)
وأما إشارة النص فالمقصود بها:دلالةُ اللَّفظِ على معنى غيرِ مقصودٍ من سياقِه، لكنَّهُ لازمٌ لِما يُفهمُ من (عبارَةِ النَّصِّ)،وقد يكونُ التَّلازُمُ بينَ (العبارَةِ) و(الإشارَةِ) ظاهرًا، وقد لا يُدركُ إلاَّ بِبحثٍ وتأمُّلٍ.
مثالها قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (187) سورة البقرة
فعبارَةُ النَّصِّ: إباحةُ إتيانِ الزَّوجَةِ في ليلَةِ الصِّيامِ في أيِّ وقتٍ من اللَّيلِ، إلى ظُهورِ الفجرِ، وإشارَةُ النَّصِّ: أنَّ الجنابَةَ لا أثرَ لها في الصَّومِ، وذلكَ أنَّ من له أن يُجامعَ ولوْ في آخرِ لحظَةٍ من اللَّيلِ فإنَّهُ قد يُصبحُ جُنبًا، فلازِمُ الإباحَةِ أنَّ الجنَابَةَ لا أثرَ لهَا.
وأما دلالة النص: فالمقصود بها: دلالَةُ اللَّفظِ على ثُبوتِ حكمِ المنطوقِ (أي: عبارة النَّصِّ) لمسكوتٍ عنهُ لاشتِراكِهِمَا في علَّةِ الحُكمِ،وهذهِ العلَّةُ تُدركُ بمجرَّدِ فهمِ اللُّغةِ، لا تتوقَّفُ على بحثٍ واجتهادٍ، وتدلُّ على كونِ المسكوتِ عنه أولَى بالحُكمِ من المنطُوقِ، أو مُساويًا لهُ.
مثالها قوله تعالى: { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } [الإسراء: 23]، دلالَةُ العبارَةِ: تحريمُ قولِ (أفٍّ) للوالدينِ،وهذا هوالمنطُوقِ،ودلالَةُ الدَّلالةِ: تحريمُ سبِّهمَا وشتمِهمَا ولعنِهمَا، وهذا هو المسكوتُ عنهُ، فنبَّه بمنعِ الأدنَى على منعِ ما هوَ أولى منهُ، وهوَ معنَى يُدركُ من غيرِ بحثٍ ولا نظرِ.
وأما اقتضاء النص: فالمقصود به:المعنَى الَّذي لا تستقيمُ دلالَةُ الكلامُ إلاَّ بتقديرهِ.
مثاله قوله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [النساء: 23] عِبارَةُ النَّصِّ: تحريمُ أشخاصِ الأمَّهاتِ، وهذا لا معنَى له وليسَ مُرادًا بالنَّصِّ قطعًا، فاقتضَى تقديرَ شيءٍ في الكلامِ(1/186)
لتَظهرَ دلالتُهُ، وذلكَ التَّقديرُ مُستفادٌ بمجرَّدِ امتناعِ دلالةِ العِبارَةِ، فكانَ المقدَّرُ ههُنَا: (نِكاحُهُنَّ). (1)
فَإِنَّ جِهَاتِ دَلَالَاتِ الْأَقْوَالِ مُتَّسِعَةٌ جِدًّا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي إدْرَاكِهَا وَفَهْمِ وُجُوهِ الْكَلَامِ بِحَسَبِ مِنَحِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَمَوَاهِبِهِ ،ثُمَّ قَدْ يَعْرِفُهَا الرَّجُلُ مِن حَيْثُ الْعُمُومُ وَلَا يَتَفَطَّنُ لِكَوْنِ هَذَا الْمَعْنَى دَاخِلًا فِي ذَلِكَ الْعَامِّ، ثُمَّ قَدْ يَتَفَطَّنُ لَهُ تَارَةً ثُمَّ يَنْسَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ جِدًّا لَا يُحِيطُ بِهِ إلَّا اللَّهُ ،وَقَدْ يَغْلَطُ الرَّجُلُ فَيَفْهَمُ مِن الْكَلَامِ مَا لَا تَحْتَمِلُهُ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ الَّتِي بُعِثَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - بِهَا.
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - انظر تيسير علم أصول الفقه .. للجديع - (ج 3 / ص 43) بحوث في علم أصول الفقه - (ج 1 / ص 84-87) والمستصفى - (ج 1 / ص 251) وكشف الأسرار - (ج 3 / ص 479)(1/187)
السَّبَبُ السَّابِعُ
اعْتِقَادُهُ أَنْ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَعْرِفْ جِهَةَ الدَّلَالَةِ، وَالثَّانِي عَرَفَ جِهَةَ الدَّلَالَةِ لَكِن اعْتَقَدَ أَنَّهَا لَيْسَتْ دَلَالَةً صَحِيحَةً بِأَنْ يَكُونَ لَهُ مِن الْأُصُولِ مَا يَرُدُّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ صَوَابًا أَوْ خَطَأً .
أي أنه لا يرى أن دلالة الحديث دلالة صحيحة، وأحياناً قد يتنازع الفقهاء في حديث، كحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا ، قَالَ : بِتُّ عِنْدَ مَيْمُونَةَ ، فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَى حَاجَتَهُ ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ، ثُمَّ نَامَ ، ثُمَّ قَامَ ، فَأَتَى القِرْبَةَ فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا بَيْنَ وُضُوءَيْنِ لَمْ يُكْثِرْ وَقَدْ أَبْلَغَ ، فَصَلَّى ، فَقُمْتُ فَتَمَطَّيْتُ ، كَرَاهِيَةَ أَنْ يَرَى أَنِّي كُنْتُ أَتَّقِيهِ ، فَتَوَضَّأْتُ ، فَقَامَ يُصَلِّي ، فَقُمْتُ عَن يَسَارِهِ ، فَأَخَذَ بِأُذُنِي فَأَدَارَنِي عَن يَمِينِهِ ، فَتَتَامَّتْ صَلاَتُهُ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ، ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ ، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ ، فَآذَنَهُ بِلاَلٌ بِالصَّلاَةِ ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ ، وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : " اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا ، وَفِي بَصَرِي نُورًا ، وَفِي سَمْعِي نُورًا ، وَعَن يَمِينِي نُورًا ، وَعَن يَسَارِي نُورًا ، وَفَوْقِي نُورًا ، وَتَحْتِي نُورًا ، وَأَمَامِي نُورًا ، وَخَلْفِي نُورًا ، وَاجْعَلْ لِي نُورًا " (1)
فهل هذا يدلُّ على أن المصافة إذا كان المأموم فرداً لازمة عن يمين الإمام، أم أنه يدلُّ على أنها سنَّة؟ .
هنا الدلالة متنازع فيها بين الفقهاء، فالحنابلة يرون أنها لازمة، قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أداره، فأحدث ذلك حركة في الصلاة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وحركةً لابن عباس، ونحو ذلك مما يدلُّ على اللزوم، ولو كان هذا من باب المستحب لتركه حتى ينصرف من صلاته ثم يبين له ذلك الأمر، والجمهور يرون أن الحديث لا يدلُّ على اللزوم، قالوا: لأنه لو كان يدل على اللزوم والصحة لما صحَّ تكبير ابن عباس للإحرام؛ لأن ابن عباس كبَّر تكبيرة الإحرام
__________
(1) - البخاري برقم(6316) و صحيح مسلم(1824 )(1/188)
وهو عن يسار النبي - صلى الله عليه وسلم - . فأحياناً قد يكون الحديث واحداً ولكن هذا يأخذه من منزع، وهذا يأخذه من منزع آخر. (1)
ومِثْلَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ لَيْسَ بِحُجَّةِ (2) ، وَأَنَّ الْمَفْهُومَ لَيْسَ بِحُجَّةِ (3) وَأَنَّ الْعُمُومَ الْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ مَقْصُورٍ عَلَى سَبَبِهِ ، وَالنَّاسُ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ هَلْ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ أَمْ لَا ؟ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِن عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ عمومات الْكِتَابِ والسُّنَّة تَخْتَصُّ بِالشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ ، وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يُقَالُ إنَّهَا تَخْتَصُّ بِنَوْعِ ذَلِكَ الشَّخْصِ فَيَعُمُّ مَا يُشْبِهُهُ وَلَا يَكُونُ الْعُمُومُ فِيهَا بِحَسَبِ اللَّفْظِ ،وَالْآيَةُ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُعَيَّنٌ إنْ كَانَتْ أَمْرًا وَنَهْيًا فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلِغَيْرِهِ مِمَن كَانَ بِمَنزِلَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ خَبَرًا بِمَدْحِ أَوْ ذَمٍّ فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَغَيْرِهِ مِمَن كَانَ بِمَنزِلَتِهِ أَيْضًا ." (4)
أَوْ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُجَرَّدَ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ (5) ؛ أَوْ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ (6) ,أَوْ أَنَّ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ لَا عُمُومَ لَهُ (7) ,أَوْ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمَنفِيَّةَ لَا تَنْفِي ذَوَاتِهَا وَلَا جَمِيعَ أَحْكَامِهَا.
__________
(1) - انظر شرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام - (ج 1 / ص 43)
(2) - انظر البحر المحيط - (ج 4 / ص 214-219) الْبَحْثُ الثَّانِي فِي تَخْصِيصِ الْمَقْطُوعِ بِالْمَظْنُونِ
(3) - انظر البحر المحيط - (ج 4 / ص 236) مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ ، سَوَاءٌ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ ..
(4) - انظر مجموع الفتاوى - (ج 13 / ص 339)
(5) - انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 5134) رقم الفتوى 66156 بحث في القاعدة الأصولية الأمر للوجوب إلا أن تصرفه قرينة تاريخ الفتوى : 17 رجب 1426ووفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 15 / ص 436) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - هل يفيد الوجوب ؟ وشرح الكوكب المنير - (ج 2 / ص 47) وإرشاد الفحول الي تحقيق الحق من علم الأصول - (ج 1 / ص 200) ومن أصول الفقه على منهج أهل الحديث - الرقمية - (ج 1 / ص 108) وتلقيح الأفهام العلية بشرح القواعد الفقهية - (ج 1 / ص 82)
(6) - - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 28 / ص 298) والأحكام للآمدي - (ج 4 / ص 32) والبحر المحيط - (ج 3 / ص 194) وشرح الكوكب المنير - (ج 2 / ص 52) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 3 / ص 218)
(7) - انظر.البحر المحيط - (ج 3 / ص 370) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 6 / ص 18) والتقرير والتحبير - (ج 2 / ص 12) وشرح الكوكب المنير - (ج 3 / ص 155) وشرح التلويح على التوضيح - (ج 1 / ص 218) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 3 / ص 304) وإرشاد الفحول الي تحقيق الحق من علم الأصول - (ج 1 / ص 268) وتيسير التحرير - (ج 1 / ص 220) وفواتح الرحموت - (ج 1 / ص 241) وغاية الوصول في شرح لب الأصول - (ج 1 / ص 60)(1/189)
قلت : الأفعال المنفية بـ ( لا ) النافية للجنس هي لنفي الكمال عند الحنفية وأما الجمهور فإنها لنفي الحقيقة الشرعية عندهم فقوله - صلى الله عليه وسلم - :« لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِىٍّ » (1) . هو لنفي الكمال عند الأحناف ولنفي الصحة عند الجمهور ولا شك أن الراجح قول الجمهور فانظر كيف اختلفوا في هذا الفرع للاختلاف في القاعدة (2)
أَوْ أَنَّ الْمُقْتَضِي لَا عُمُومَ لَهُ (3) ؛ فَلَا يَدَّعِي الْعُمُومَ فِي الْمُضْمَرَاتِ وَالْمَعَانِي (4) ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَّسِعُ الْقَوْلُ فِيهِ، فَإِنَّ شَطْرَ أُصُولِ الْفِقْهِ تَدْخُلُ مَسَائِلُ الْخِلَافِ مِنهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُصُولُ الْمُجَرَّدَةُ لَمْ تُحِطْ بِجَمِيعِ الدَّلَالَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا وَتُدْخِلْ فِيهِ أَفْرَادَ أَجْنَاسِ الدَّلَالَاتِ : هَلْ هِيَ مِن ذَلِكَ الْجِنْسِ أَمْ لَا ؟ مِثْلَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ الْمُعَيَّنَ مُجْمَلٌ بِأَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا لَا دَلَالَةَ تُعَيِّنُ أَحَدَ مَعْنَيَيْهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - سنن أبى داود(2087 ) صحيح
(2) - - انظر كتب وليد بن راشد السعيدان - (ج 6 / ص 65)
(3) - انظر المبسوط - (ج 34 / ص 30) والعناية شرح الهداية - (ج 5 / ص 183) وفتح القدير - (ج 11 / ص 87) والمجموع - (ج 14 / ص 179) والمحصول - (ج 2 / ص 382) والمستصفى - (ج 2 / ص 90) وكشف الأسرار - (ج 4 / ص 25)
(4) - انظر المسودة - الرقمية - (ج 1 / ص 90-97) والمجموع - (ج 9 / ص 394) والحاوي في فقه الشافعي - الماوردي - (ج 11 / ص 492)(1/190)
السَّبَبُ الثَّامِنُ
اعْتِقَادُهُ أَنَّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ قَدْ عَارَضَهَا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُرَادَةً
مِثْلَ مُعَارَضَةِ الْعَامِّ بِخَاصِّ .
كما في البخارى برقم(1483) عَن سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَن أَبِيهِ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ ، وَمَا سُقِىَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ »
فهذا لفظ عام في كل ما أخرجت الأرض دون تحديد للنصاب
وقد عارضه نص خاص ففي صحيح البخارى برقم(1459)عَن أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الإِبِلِ صَدَقَةٌ » .
وهذا الحديث قد خص عموم الذي قبله ، فبين فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه إذا كان دون خمسة أوسق فلا زكاة فيه ، وقد اختلف الفقهاء في هذه المسالة فالأكثرون على التخصيص وأما الحنفية فلم يأخذوا به وبقوا على العموم (1)
أَوْ معارضة الْمُطْلَقِ بِمُقَيَّدِ .
المُطلقُ: هو اللَّفظُ الدَّالُّ على فردٍ غيرِ مُعيَّنٍ، أو أفرادٍ غيرِ مُعيَّنينَ.
مثلُ: (رجل) لفردٍ غير مُحدَّدٍ، و(رجال) لأفرادٍ غيرِ مُحدَّدينَ.
والمقيَّدُ: هوَ اللَّفظُ االدَّالُّ على فردٍ غيرِ مُعيَّنٍ، أو أفرادٍ غيرِ مُعيَّنينَ مع اقترَانِه بصفةٍ تُحدِّدُ المُرادُ بهِ.
__________
(1) - انظر شرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 407) وفتح الباري لابن حجر - (ج 5 / ص 56) وفتاوى معاصرة - (ج 1 / ص 124) وسبل السلام - (ج 3 / ص 224) ونيل الأوطار - (ج 6 / ص 397) والمحلى (ج 3 / ص 523) وشرح معاني الآثار - (ج 2 / ص 459) والمبسوط - (ج 3 / ص 374) وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 4 / ص 79) وبداية المجتهد ونهاية المقتصد - (ج 1 / ص 222) وكشف الأسرار - (ج 2 / ص 282)(1/191)
واللَّفظُ المُطلقُ باقٍ على إطلاقِهِ حتَّى يرِدَ دليلُ التَّقييدِ.
مثاله قوله تعالى في كفَّارة الظِّهارِ: { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِن قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } [المجادلة: 3].
لفظُ { رَقَبَةٍ } مطلقٌ من أيِّ قيدٍ، فلو أعتقَ المُظاهرُ رقبةً على أيِّ وصفٍ أجزأهُ مؤمِنةً كانتْ أو كافرَةً، خلافًا للشَّافعيَّةِ والمالكيَّةِ
ونحو قوله تعالى في أحكامِ المواريث: { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } [النساء: 11]، فلفظ { وَصِيَّةٍ } مُطلقٌ وردَ الدَّليلُ من السُّنَّةِ بتقييدِه بالثُّلثِ، فعَن عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ عَن أَبِيهِ - رضى الله عنه - قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُنِى عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِن وَجَعٍ اشْتَدَّ بِى فَقُلْتُ إِنِّى قَدْ بَلَغَ بِى مِنَ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ ، وَلاَ يَرِثُنِى إِلاَّ ابْنَةٌ ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَىْ مَالِى قَالَ « لاَ » . فَقُلْتُ بِالشَّطْرِ فَقَالَ « لاَ » ثُمَّ قَالَ « الثُّلُثُ وَالثُّلْثُ كَبِيرٌ - أَوْ كَثِيرٌ - إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِى بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا ، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِى فِى امْرَأَتِكَ » . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِى قَالَ « إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً صَالِحًا إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً ، ثُمَّ لَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِى هِجْرَتَهُمْ ، وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ ابْنُ خَوْلَةَ ، يَرْثِى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ » (1)
قاعدة المقيد: يجبُ العملُ بالقيدِ إلاَّ إذا قامَ دليلٌ على إلغائِهِ.
من أمثلةِ القاعدَة: قوله تعالى في كفَّارةِ الظِّهار: { فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } [المجادلة: 4]، فقولُه: { مُتَتَابِعَيْنِ } قيدٌ يجبُ إعمالُه، فلا تُجزيءُ الكفَّارَةُ لو صامَ شهرينِ مُقطَّعينِ.
متى يُحمل المطلق على المقيد؟
__________
(1) - صحيح البخارى(1295 ) ومسلم (4296 )-البائس : شديد الفقر [ أو الحزين ] =العالة : الفقراء =يتكففون : يمدون أكفهم يسألون الناس(1/192)
إذا وردَ القيدُ مُقترنًا باللَّفظِ فالقاعِدَةُ ـ كما تقدَّم ـ وُجوبُ إعمالِ القيدِ، ولكنْ إذا جاءَ القيدُ منفصلاً عن الإطلاقِ، بأنْ يجيءَ هذا في نصٍّ، وهذا في نصٍّ آخرَ، فلهُ أربعُ حالاتٍ:
1ـ إذا اتَّحد في الحُكمِ والسَّببِ، فيجبُ حملُ المُطلقِ على المقيَّدِ:
مثالهُ: قوله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } [المائدة: 3]، مع قولِهِ: { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ } [الأنعام: 145]، فلفظُ (الدَّمِ) في الآيةِ الأولى مُطلقٌ، وفي الآية الثَّانية مقيَّدٌ بالمسفوحِ، الحُكمُ: حُرمَةُ الدَّمِ، والسَّببُ: بيانُ حُكمِ المطاعِمِ المحرَّمةِ في الآيتينِ والدَّمُ فيهما واحدٌ.
2ـ إذا اختلفَا في الحُكمِ والسَّببِ، فلا يُحملُ المُطلقُ على المقيَّد:
مثالُهُ: قوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38] مع قولهِ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } [المائدة: 6]، فلفظُ (الأيدي) مُطلقٌ في الآيةِ الأولى، ومقيَّدٌ في الآية الثانية، لكنَّ حُكمَ الأولى وجوبُ قطعِ الأيدي، وسببهَا السَّرقةُ، وحُكمَ الثَّانيَةِ وجوبُ غسلِ الأيدي، وسبَبَهَا القيامُ إلى الصَّلاةِ.
فعلاقَةُ التَّأثيرِ منعدِمَةٌ بينَ الحُكمينِ، فلا يصحُّ حملُ المُطلقِ على المقيَّدِ:
ولِذا رُوِي في السُّنَّةِ تقييدُ القَطعِ بالكفِّ إلى الرُّسغِ، وهذا وإن كانَ النَّقلُ بخُصوصِهِ لا يثبتُ بهِ إسنادٌ، لكنَّهُ لم يُنقلُ غيرُهُ والرِّوايةُ فيه ليستْ بساقِطَةٍ، وهو المرويُّ فِعلُهُ عنِ أصحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وقدِ اعتضَدَ بأصلٍ شرعيٍّ ، ذلكَ أنَّ لرفلظ (اليد) يُرادُ به الكفُّ، كما يُرادُ به إلى المِرفقِ، كما يُرادُ به إلى المنكِبِ، والحدُّ يسقُطُ بالشُّبهَةِ، كما لا يُتجاوزُ بهِ قدْرُ اليقينِ، واليقينُ ههُنا بقطْعِ أدنى ما يُسمَّى يدًا، وبهِ يتحقَّقُ المقصودُ.
3ـ إذا اختلفَا في الحُكمِ واتَّحدَا في السَّببِ، فلا يُحملُ المُطلقُ على المقيَّدِ:
مثالُهُ قولهُ تعالَى:{ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنهُ} [المائدة: 6]، مع قولِهِ قبل ذلكَ في الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ(1/193)
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } فلفظُ (الأيدي)، في الموضعِ الأوَّل مُطلقٌ، وفي الثَّاني مقيَّدٌ (إلى المرافقِ)، السَّببُ مُتَّحدٌ في النَّصَّينِ، فكلاهُمَا في القيامِ إلى الصَّلاةِ لكنَّ الحُكم مختلفٌ ففي الأوَّل وجوبُ التَّيمُّمِ للصَّلاةِ عندَ فقدِ الماءِ، وفي الثَّاني وجوبُ الوُضوءِ.
فلا يصحُّ في هذه الحالةِ أن يُقالَ: تُمسحُ الأيدِي في التَّيمُّمِ إلى المرافقِ، حملاً للمُطلقِ في نصِّ التَّيمُّمِ على المقيَّدِ في نصِّ الوُضوءِ.
ولذَا جاءَت السُّنَّةُ بعَدمِ اعتبارِهَا هذا القيد ِفي التَّيمُّمِ خلافًا للحنفيَّةِ والشَّافعيَّة ومن وافقهُم، وذلكَ قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمَّارِ بن ياسرٍ: ((إنَّما كان يكفيكَ أن تضربَ بيدَيكَ الأرضَ، ثمَّ تَنفُخَ، ثمَّ تمسَحَ بهمَا وجهَكَ وكفَّيكَ)) [متفقٌ عليه]، وهو قولُ عليِّ بن أبي طالبٍ، وجماعةٍ من التَّابعينَ ومذهبُ أحمدَ بنِ حنبلٍ وكثيرٍ من أهلِ الحديثِ، وما رُويَ من الأحاديثِ في أنَّ التَّيمُمَ إلى المِرفقينِ فلا يثبُتُ منهُ شيءٌ من قِبِلِ الرِّوايةِ.
4ـ إذا اتَّحدَ في الحُكمِ واختلفَا في السَّببِ، فلا يُحملُ المُطلقُ على المقيَّدِ.
مثالُه قوله تعالى في كفَّارةِ الظِّهارِ: { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِن قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } [المجادلة: 3]، مع قولهِ في كفَّارةِ قتلِ الخطإ: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } [النساء: 92]، فلفظُ (رقبَة) في الآية الأولى مُطلقٌ، وفي الثَّانية مقيَّدٌ بالإيمانِ، الحُكمُ واحدٌ هو الكفَّارةُ، والسَّببُ مُختلفٌ، فالأولى الظِّهارُ، والثَّانيةُ القتلُ.
فلا يصحُّ في هذا الحالةِ حملُ المُطلقِ على المقيَّدِ عندَ الحنفيَّةِ ومن وافقهُم خلافًا للشَّافعيَّةِ، يؤيِّدُ ذلك في المثالِ المذكورِ أنَّ الكفَّارةَ عقوبةٌ شُرعتْ لعلَّةٍ، ولكلِّ حُكمٍ علَّتُهُ المُناسبَةُ لهُ، قدْ تظهرُ وقدْ تخفَى، ولعلَّ المقامَ هُنا أنْ شُدِّدَ في كفَّارةِ القتلِ لشدَّةِ أمرِهِ بخلافِ الظِّهارِ، والقيدُ في هذا الحُكمِ تشديدٌ كما لا يخفى، واللهُ تعالى رحيمٌ بعبادِهِ، فحيثُ لم يُشدِّد فلا يُقالُ: أرادَ هُنا التَّشديدَ لكونِه شدَّدَ في حُكمٍ آخرَ ماثلَ هذا الحُكمَ في مُسمَّاهُ، فتلكَ زيادَةٌ في الشَّرعِ ومشقَّةٌ على الأمَّةِ.
مسألة أصولية للحنفيَّة:
إذا جاءَ النَّصُّ مُطلقًا وأمكَن العملُ به على إطلاقِه لوُضوحِهِ في نفسِهِ وتمامِ بيانِهِ وعدمِ احتمالِهِ الزِّيادَةَ، لأنَّهُ لو اقتضاهَا لوجبَ أنْ تُذكرَ معهُ استيفاءً للبيانِ، فإذَا جاءتِ الزِّيادَةُ(1/194)
حينئذٍ فلا يكونُ لها حكمُ القيدِ، لأنَّهَا حينئذٍ بمنزلةِ النَّسخِ وإنَّما لها اعتبارٌ شرعيٌّ آخرَ وإليكَ مثاليْنِ لتوضيحِ ذلكَ:
1ـ قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } [المائدة: 6]، فالمأمورُ بهِ على الإطلاقِ هو الغَسْلُ، فلا يجوزُ أن يُزادَ عليه شرطُ النِّيَّةِ والتَّرتيبِ والمُوالاَةِ والتَّسميَّةِ، إذْ لو كانتْ من شرْطِ الوُضوءِ لتضمَّنهَا نصُّ الكتابِ، فحيثُ لم يرِدْ ذلكَ كانتْ من قبيلِ السُّننِ في الوُضوءِ.
2ـ قوله تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } [النور: 2]، فالنَّصُّ بيِّنٌ في عُقُوبةِ الزَّاني أنَّها الجلدُ، وقدْ علمنَا في نصوصِ قطعيَّةِ الثُّبوتِ أنَّ هذا حُكمُ الزَّاني غيرِ المُحصنِ، لكنْ ما جاءتْ بهِ السُّنَّةُ من التَّغريبِ سنةً مع الجلدِ، فهذهِ زيادَةٌ على نصِّ الكتابِ البيِّنِ، ولو كانتْ لازمَةً لوجبتْ بنفسِ النَّصِّ مع الجلدِ، أو لبيَّنها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عندَ نُزُولِ الآيةِ، فحيثُ لم يكُن ذلكَ فقدْ دلَّ على أنَّ هذا من قبيلِ التَّعزيرِ يفعَلُه الإمامُ سياسَةً. (1)
أَوْ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ بِمَا يَنْفِي الْوُجُوبَ أَوْ الْحَقِيقَةَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَجَازِ إلَى أَنْوَاعِ الْمُعَارَضَاتِ.
اعلم أن من أباح شيئاً من المحرمات من العلماء، فإنما ذلك لكونه لم يبلغه في ذلك نص، فاجتهد، أو استند إلى موجب ظاهر آية أو حديث، أو موجب قياس، أو موجب استصحاب، أو بلغه في ذلك نص لكنه لم يثبت عنده، لشيء مما قد يعرض للعالم من تضعيف الحديث، أو لعلة من جهالة أو انقطاع أو غير ذلك، وإن كان قد ثبت عند غيره، أو بلغه الحديث لكنه نسيه، أو لعدم معرفته بدلالة الحديث، أو اعتقد أن هذا النص لا
__________
(1) -انظر تيسير علم أصول الفقه .. للجديع - (ج 2 / ص 75) و كتب وليد بن راشد السعيدان - (ج 3 / ص 126) و كشف الأسرار - (ج 2 / ص 424) وكشف الأسرار - (ج 5 / ص 281) والتقرير والتحبير - (ج 2 / ص 291) وشرح الكوكب المنير - (ج 2 / ص 117) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 4 / ص 37) والموافقات في أصول الشريعة - (ج 2 / ص 253) وفواتح الرحموت - (ج 1 / ص 229) والتلخيص فى أصول الفقه / لإمام الحرمين - (ج 2 / ص 70) والأصول من علم الأصول - الرقمية - (ج 1 / ص 44) والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد - الرقمية - (ج 1 / ص 130)(1/195)
دلالة فيه، أو اعتقد أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مرادة، مثل معارضة العام بخاص، أو المطلق بمقيد، أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب، أو الحقيقة بما يدل على المجاز من أنواع المعارضات، أو غير ذلك من الأعذار، مما ذكره أهل العلم لأهل العلم. فإذا جاء حديث صحيح، فيه تحليل، أو تحريم، أو حكم، فلا يجوز أن يعتقد أن التارك له من العلماء، الذين وصفنا أسباب تركهم، يعاقَب لكونه حلل الحرام، أو حرم الحلال، أو حكم بغير ما أنزل الله; وكذلك إن كان في الحديث وعيد على فعل، مِن لعنة، أو غضب، أو عذاب، أو براءة، أو ليس منا، ونحو ذلك، فلا يجوز أن يقول أحد: إن ذلك الذي أباح هذا من العلماء، أو فعله، داخل في هذا الوعيد; فهذه أسباب يعذر بها العلماء. (1)
وَهُوَ بَابٌ وَاسِعٌ أَيْضًا ؛ فَإِنَّ تَعَارُضَ دَلَالَاتِ الْأَقْوَالِ وَتَرْجِيحَ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بَحْرٌ خِضَمٌّ (2) .
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 8 / ص 488)
(2) - انظر الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 68) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 1024) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 10483) والروضة الندية - (ج 1 / ص 357) والسيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار - الرقمية - (ج 1 / ص 121) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 4 / ص 451) والمستصفى - (ج 2 / ص 443) والموافقات في أصول الشريعة - (ج 1 / ص 223)(1/196)
السَّبَبُ التَّاسِعُ
اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ أَوْ نَسْخِهِ...
أي اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ ؛ أَوْ نَسْخِهِ ؛ أَوْ تَأْوِيلِهِ إنْ كَانَ قَابِلًا لِلتَّأْوِيلِ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارَضًا بِالِاتِّفَاقِ، مِثْلَ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ آخَرَ أَوْ مِثْلَ إجْمَاعٍ :
وَهَذَا نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ هَذَا الْمُعَارِضَ رَاجِحٌ فِي الْجُمْلَةِ فَيَتَعَيَّنُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ مِن غَيْرِ تَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنهَا . وَتَارَةً يُعَيِّنُ أَحَدَهَا بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ مَنسُوخٌ ؛ أَوْ أَنَّهُ مُؤَوَّلٌ . ثُمَّ قَدْ يَغْلَطُ فِي النَّسْخِ فَيَعْتَقِدُ الْمُتَأَخِّرَ مُتَقَدِّمًا وَقَدْ يَغْلَطُ فِي التَّأْوِيلِ بِأَنْ يَحْمِلَ الْحَدِيثَ عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ أَوْ هُنَاكَ مَا يَدْفَعُهُ، وَإِذَا عَارَضَهُ مِن حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَقَدْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْمُعَارِضُ دَالًّا، وَقَدْ لَا يَكُونُ الْحَدِيثُ الْمُعَارِضُ فِي قُوَّةِ الْأَوَّلِ إسْنَادًا أَوْ مَتْنًا وَتَجِيءُ هُنَا الْأَسْبَابُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَغَيْرُهَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَالْإِجْمَاعُ الْمُدَّعَى فِي الْغَالِبِ..
قال ابن تيمية : "وقد وَتَنَازَعُوا فِي الْإِجْمَاعِ : هَلْ هُوَ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ أَوْ ظَنِّيَّةٌ ؟ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ قَطْعِيَّهُ قَطْعِيٌّ وَظَنِّيَّهُ ظَنِّيٌّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ ذُكِرَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَذُكِرَ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ قَوْلُهُ : {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} (24) سورة الزخرف، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ مَن بَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ هُوَ أَهْدَى مِن الْقَوْلِ الَّذِي نَشَأَ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَهُ كَمَا قَالَ : {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (55) سورة الزمر، وَقَالَ : {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (18) سورة الزمر، وَالْوَاجِبُ فِي الِاعْتِقَادِ أَنْ يَتَّبِعَ أَحْسَنَ الْقَوْلَيْنِ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ قَوْلًا وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْقَوْلَ الْمُخَالِفَ لَهُ أَحْسَنُ مِنهُ، وَمَا خُيِّرَ فِيهِ بَيْنَ فِعْلَيْنِ وَأَحَدِهِمَا أَفْضَلُ فَهُوَ أَفَضْلُ وَإِنْ(1/197)
جَازَ لَهُ فِعْلُ الْمَفْضُولِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ ،وَيَكُونُ ذَاكَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِن هَذَا ؛ وَهَذَا اتِّبَاعٌ لِلْأَحْسَنِ .
وَإِذَا نَقَلَ عَالِمُ الْإِجْمَاعِ وَنَقَلَ آخَرُ النِّزَاعَ : إمَّا نَقْلًا سُمِّيَ قَائِلُهُ ؛ وَإِمَّا نَقْلًا بِخِلَافٍ مُطْلَقًا وَلَمْ يُسَمَّ قَائِلُهُ فَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ نَقْلًا لِخِلَافٍ لَمْ يَثْبُتْ ؛ فَإِنَّهُ مُقَابِلٌ بِأَنْ يُقَالَ وَلَا يَثْبُتُ نَقْلُ الْإِجْمَاعِ، بَل نَاقِلُ الْإِجْمَاعِ نَافٍ لِلْخِلَافِ، وَهَذَا مُثْبِتٌ لَهُ وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي .
وَإِذَا قِيلَ : يَجُوزُ فِي نَاقِلِ النِّزَاعِ أَنْ يَكُونَ قَدْ غَلِطَ فِيمَا أَثْبَتَهُ مِن الْخِلَافِ : إمَّا لِضَعْفِ الْإِسْنَادِ ؛ أَوْ لِعَدَمِ الدَّلَالَةِ ،قِيلَ لَهُ : وَنَافِي النِّزَاعِ غَلَطُهُ أجوز ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ لَمْ تَبْلُغْهُ ؛ أَوْ بَلَغَتْهُ وَظَنَّ ضَعْفَ إسْنَادِهَا وَكَانَتْ صَحِيحَةً عِنْدَ غَيْرِهِ ؛ أَوْ ظَنَّ عَدَمَ الدَّلَالَةِ وَكَانَتْ دَالَّةً، فَكُلُّ مَا يَجُوزُ عَلَى الْمُثْبِتِ مِن الْغَلَطِ يَجُوزُ عَلَى النَّافِي مَعَ زِيَادَةِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْخِلَافِ . وَهَذَا يَشْتَرِكُ فِيهِ عَامَّةُ الْخِلَافِ ؛ فَإِنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ لَيْسَ عِلْمًا بِالْعَدَمِ، لَا سِيَّمَا فِي أَقْوَالِ عُلَمَاءِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إلَّا رَبُّ الْعَالَمِينَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِن الْعُلَمَاءِ : مَن ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَقَدْ كَذَبَ ؛ هَذِهِ دَعْوَى الْمَرِيسِيَّ وَالْأَصَمِّ ؛ وَلَكِنْ يَقُولُ : لَا أَعْلَمُ نِزَاعًا ،وَاَلَّذِينَ كَانُوا يَذْكُرُونَ الْإِجْمَاعَ كَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِمَا يُفَسِّرُونَ مُرَادَهُمْ : بِأَنَّا لَا نَعْلَمُ نِزَاعًا،وَيَقُولُونَ هَذَا هُوَ الْإِجْمَاعُ الَّذِي نَدَّعِيه .
فَتَبَيَّنَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِجْمَاعِ الَّذِي قُوبِلَ بِنَقْلِ نِزَاعٍ وَلَمْ يُثْبِتْ وَاحِدٌ مِنهُمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ ،وَمَن لَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدَهُ نَقْلُ مُثْبِتِ النِّزَاعِ عَلَى نَافِيهِ وَلَا نَافِيهِ عَلَى مُثْبِتِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْضًا أَنْ يُقَدِّمَهُ عَلَى النَّصِّ وَلَا يُقَدِّمَ النَّصَّ عَلَيْهِ؛ بَل يَقِفُ لِعَدَمِ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا عِنْدَهُ ؛ فَإِنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ الْمُثْبِتُ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يُعَارِضْهُ إجْمَاعٌ يَعْمَلُ بِهِ وَيَنْظُرُ فِي ذَلِكَ إلَى مُثْبِتِ الْإِجْمَاعِ وَالنِّزَاعِ، فَمَن عُرِفَ مِنهُ كَثْرَةُ مَا يَدَّعِيه مِن الْإِجْمَاعِ وَالْأَمْرِ بِخِلَافِهِ لَيْسَ بِمَنزِلَةِ مَن لَمْ يُعْلَمْ مِنهُ إثْبَاتُ إجْمَاعٍ عُلِمَ انْتِفَاؤُهُ ،وَكَذَلِكَ مَن عُلِمَ مِنهُ فِي نَقْلِ النِّزَاعِ أَنَّهُ لَا يَغْلَطُ إلَّا نَادِرًا لَيْسَ بِمَنزِلَةِ مَن عُلِمَ مِنهُ كَثْرَةُ الْغَلَطِ .
وَإِذَا تَضَافَرَ عَلَى نَقْلِ النِّزَاعِ اثْنَانِ لَمْ يَأْخُذْ أَحَدُهُمَا عَن صَاحِبِهِ فَهَذَا يَثْبُتُ بِهِ النِّزَاعُ بِخِلَافِ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ تَضَافَرَ عَلَيْهِ عَدَدٌ لَمْ يُسْتَفَدْ بِذَلِكَ إلَّا عَدَمُ عِلْمِهِمْ(1/198)
بِالنِّزَاعِ،وَهَذَا لِمَن أَثْبَتَ النِّزَاعَ فِي جَمْعِ الثَّلَاثِ (1) وَمَن نَفَى النِّزَاعَ ،مَعَ أَنَّ عَامَّةَ مَن أَثْبَتَ النِّزَاعَ يَذْكُرُ نَقْلًا صَحِيحًا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَلَيْسَ مَعَ النَّافِي مَا يُبْطِلُهُ ." (2)
إنَّمَا هُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْمُخَالِفِ.
وقال ابن القيم ":" [ أُصُولُ فَتَاوَى أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ ]
أَحَدُهَا : النُّصُوصُ ، فَإِذَا وَجَدَ النَّصَّ أَفْتَى بِمُوجَبِهِ ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى مَا خَالَفَهُ وَلَا مَن خَالَفَهُ كَائِنًا مَن كَانَ ، وَلِهَذَا لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى خِلَافِ عُمَرَ فِي الْمَبْتُوتَةِ لِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ (3) ، وَلَا إلَى خِلَافِهِ فِي التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ لِحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ (4) ، وَلَا خِلَافِ فِي اسْتِدَامَةِ الْمُحْرِمِ الطِّيبَ الَّذِي تَطَيَّبَ بِهِ قَبْلَ إحْرَامِهِ لِصِحَّةِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ (5) ، وَلَا خِلَافِهِ فِي مَنعِ الْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ مِن الْفَسْخِ إلَى التَّمَتُّعِ لِصِحَّةِ أَحَادِيثِ الْفَسْخِ (6) ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَأَبِي أَيُّوبَ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ فِي الْغُسْلِ مِن الْإِكْسَالِ (7) لِصِحَّةِ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا فَعَلَتْهُ هِيَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاغْتَسَلَا (8) ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن عَلِيٍّ أَنَّ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنهَا الْحَامِلُ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ ؛ لِصِحَّةِ حَدِيثِ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ (9) ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِ مُعَاذٍ وَمُعَاوِيَةَ فِي تَوْرِيثِ الْمُسْلِمِ مِن الْكَافِرِ (10) لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ الْمَانِعِ مِن التَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا (11) ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ
__________
(1) - أي الطلاق الثلاث بلفظ واحد
(2) - مجموع الفتاوى - (ج 19 / ص 270)
(3) - سنن أبى داود (2286) صحيح
(4) - السنن الكبرى للإمام النسائي (304) صحيح
(5) - صحيح مسلم (2899)
(6) - سنن النسائى (2748)
(7) - صحيح مسلم (801)
(8) - صحيح مسلم(809 -813)
(9) - المسند الجامع - (ج 19 / ص 272)(15952)
(10) - عَن أَبِي الأَسْوَدِ الدِّيَلِيِّ ، قَالَ : كَانَ مُعَاذٌ بِالْيُمْنِ فَارْتَفَعُوا إلَيْهِ فِي يَهُودِيٍّ مَاتَ أَخَاهُ مُسْلِماً ، فَقَالَ مُعَاذٌ : إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : إنَّ الإسْلاَمَ يَزِيدُ وَلاَ يَنْقُصُ فَوَرَّثَهُ.مصنف ابن أبي شيبة(ج 11 / ص 374)(32101) صحيح
وعَن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَعْقِلٍ ، قَالَ : مَا رَأِيْت قَضَاءٌ بَعْدَ قَضَاءِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ مِن قَضَاءٍ قَضَى بِهِ مُعَاوِيَةُ فِي أَهْلِ كِتَابٍ ، قَالَ : نَرِثُهُمْ وَلاَ يَرِثُونَنَا ، كَمَا يَحِلُّ لَنَا النِّكَاحُ فِيهِمْ ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُمَ النِّكَاحُ فِينَا.مصنف ابن أبي شيبة(ج 11 / ص 374)(32102) صحيح
(11) - سنن أبى داود(2913) صحيح(1/199)
إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّرْفِ (1) لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ بِخِلَافِهِ (2) ، وَلَا إلَى قَوْلِهِ بِإِبَاحَةِ لُحُومِ الْحُمُرِ كَذَلِكَ (3) ، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا ، وَلَمْ يَكُنْ يُقَدِّمُ عَلَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَمَلًا وَلَا رَأْيًا وَلَا قِيَاسًا وَلَا قَوْلَ صَاحِبٍ وَلَا عَدَمَ عِلْمِهِ بِالْمُخَالِفِ الَّذِي يُسَمِّيهِ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ إجْمَاعًا وَيُقَدِّمُونَهُ عَلَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَقَدْ كَذَّبَ أَحْمَدُ مَن ادَّعَى هَذَا الْإِجْمَاعَ ، وَلَمْ يَسِغْ تَقْدِيمَهُ عَلَى الْحَدِيثِ الثَّابِتِ ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا نَصَّ فِي رِسَالَتِهِ الْجَدِيدَةِ عَلَى أَنَّ مَا لَا يُعْلَمُ فِيهِ بِخِلَافٍ لَا يُقَال لَهُ إجْمَاعٌ ، وَلَفْظُهُ : مَا لَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ فَلَيْسَ إجْمَاعًا (4) .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : سَمِعْت أَبِي يَقُولُ : مَا يَدَّعِي فِيهِ الرَّجُلُ الْإِجْمَاعَ فَهُوَ كَذِبٌ ، مَن ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَهُوَ كَاذِبٌ ، لَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا ، مَا يُدْرِيهِ ، وَلَمْ يَنْتَهِ إلَيْهِ ؟ فَلْيَقُلْ : لَا نَعْلَمُ النَّاسَ اخْتَلَفُوا ، هَذِهِ دَعْوَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمِّ ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ : لَا نَعْلَمُ النَّاسَ اخْتَلَفُوا ، أَوْ لَمْ يَبْلُغْنِي ذَلِكَ ، هَذَا لَفْظُهُ وَنُصُوصُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَجَلُّ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ مِن أَنْ يُقَدِّمُوا عَلَيْهَا تَوَهُّمَ إجْمَاعٍ مَضْمُونُهُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْمُخَالِفِ ، وَلَوْ سَاغَ لَتَعَطَّلَتْ النُّصُوصُ ، وَسَاغَ لِكُلِّ مَن لَمْ يَعْلَمْ مُخَالِفًا فِي حُكْمِ مَسْأَلَةٍ أَنْ يُقَدِّمَ جَهْلُهُ بِالْمُخَالِفِ عَلَى النُّصُوصِ ؛ فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ مِن دَعْوَى الْإِجْمَاعِ ، لَا مَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ اسْتِبْعَادٌ لِوُجُودِهِ ." (5)
__________
(1) - صحيح مسلم(4170) لكنه رجع عن ذلك كما في سنن ابن ماجه(2343 )عَن أَبِى الْجَوْزَاءِ قَالَ سَمِعْتُهُ يَأْمُرُ بِالصَّرْفِ - يَعْنِى ابْنَ عَبَّاسٍ - وَيُحَدَّثُ ذَلِكَ عَنهُ ثُمَّ بَلَغَنِى أَنَّهُ رَجَعَ عَن ذَلِكَ فَلَقِيتُهُ بِمَكَّةَ فَقُلْتُ إِنَّهُ بَلَغَنِى أَنَّكَ رَجَعْتَ. قَالَ نَعَمْ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ رَأْيًا مِنِّى وَهَذَا أَبُو سَعِيدٍ يُحَدِّثُ عَن رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّرْفِ.(صحيح)
(2) - مسند أحمد (9888) صحيح
(3) - صحيح مسلم(5129)
(4) - الأحكام لابن حزم - (ج 4 / ص 542) والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد - الرقمية - (ج 1 / ص 48)
(5) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 35)(1/200)
وَقَدْ وَجَدْنَا مِن أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ مَن صَارُوا إلَى الْقَوْلِ بِأَشْيَاءَ مُتَمَسَّكُهُمْ فِيهَا عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْمُخَالِفِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُمْ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يُمْكِنُ الْعَالِمُ أَنْ يَبْتَدِئَ قَوْلًا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ قَائِلًا ؛ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ النَّاسَ قَدْ قَالُوا خِلَافَهُ حَتَّى إنَّ مِنهُمْ مَن يُعَلِّقُ الْقَوْلَ فَيَقُولُ : إنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعٌ فَهُوَ أَحَقُّ مَا يَتْبَعُ وَإِلَّا فَالْقَوْلُ عِنْدِي كَذَا وَكَذَا، وَذَلِكَ مِثْلُ مَن يَقُولُ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَجَازَ شَهَادَةَ الْعَبْدِ.
قلت : اختلف أهل العلم في شهادة العبد وقد ورد عن الصحابة والتابعين أقوالا مختلفة في ذلك (1)
وَقَبُولُهَا مَحْفُوظٌ عَن عَلِيٍّ (2) وَأَنَسٍ (3) وشريح (4) وَغَيْرِهِمْ.
وَيَقُولُ : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُعْتَقَ بَعْضُهُ لَا يَرِثُ وَتَوْرِيثُهُ مَحْفُوظٌ عَن عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَفِيهِ حَدِيثٌ حَسَنٌ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (5) .
وَيَقُولُ آخَرُ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الصَّلَاةِ ، وَإِيجَابُهَا مَحْفُوظٌ عَن أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِر (6) .
__________
(1) - انظرها في مصنف ابن أبي شيبة (ج 6 / ص 77)(20652-20665) و انظر الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 9 / ص 67) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 7 / ص 586) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 3 / ص 229) ونيل الأوطار - (ج 13 / ص 377) والمحلى (ج 8 / ص 583) والمبسوط - (ج 19 / ص 152) وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 14 / ص 310) والمحيط البرهاني للإمام برهان الدين ابن مازة - (ج 2 / ص 631) وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير - (ج 17 / ص 276) وبداية المجتهد ونهاية المقتصد - (ج 1 / ص 771) والمهذب للشيرازي - (ج 5 / ص 451) و الحاوي في فقه الشافعي - الماوردي - (ج 17 / ص 22) والإنصاف - (ج 17 / ص 352) والمغني - (ج 23 / ص 223) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 31) والبحر المحيط - (ج 6 / ص 178) والخلاف بين العلماء - الرقمية - (ج 1 / ص 24)
(2) - أخرجه ابن أبي شيبة برقم(20656) عَنِ الشَّعْبِيِّ ، قَالَ : قَالَ شُرَيْحٌ : لاَ تُجِيزُ شَهَادَةَ الْعَبِيدِ فَقَالَ : عَلِيٌّ : لاَ , كُنَّا نُجِيزُهَا ، قَالَ : فَكَانَ شُرَيْحٌ بَعْدُ يُجِيزُهَا إلاَ لِسَيِّدِهِ.وإسناده صحيح
(3) - أخرجه ابن أبي شيبة برقم(20652) عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ ، قَالَ : سَأَلْتُُ أَنَسًا ، عَن شَهَادَةِ الْعَبِيدِ فَقَالَ : جَائِزَةٌ. وهو صحيح
(4) - أخرجه ابن أبي شيبة برقم(20656) ، عَن عَامِرٍ ، أَنَّ شُرَيْحًا أَجَازَ شَهَادَةَ الْعَبِيدِ. وهو صحيح
(5) - انظر روضة الطالبين وعمدة المفتين - (ج 2 / ص 311) والشرح الكبير لابن قدامة - (ج 7 / ص 222) والمحلى (ج 8 / ص 54) و (ج 8 / ص 286) وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 5 / ص 355) والمغني - (ج 14 / ص 8) والمحصول - (ج 3 / ص 81) وقواطع الأدلة فى الأصول / للسمعانى - (ج 1 / ص 160)
(6) - انظر فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 2 / ص 190) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 3608) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 2926) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 2 / ص 93) وشرح الكوكب المنير - (ج 2 / ص 57) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 9746)(1/201)
وَذَلِكَ أَنَّ غَايَةَ كَثِيرٍ مِن الْعُلَمَاءِ أَنْ يَعْلَمَ قَوْلَ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ أَدْرَكَهُمْ فِي بِلَادِهِ وَأَقْوَالَ جَمَاعَاتٍ غَيْرِهِمْ، كَمَا تَجِدُ كَثِيرًا مِن الْمُتَقَدِّمِينَ لَا يَعْلَمُ إلَّا قَوْلَ الْمَدَنِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ ،وَكَثِيرٌ مِن الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يَعْلَمُ إلَّا قَوْلَ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مِن الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ وَمَا خَرَجَ عَن ذَلِكَ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِهِ قَائِلًا ،وَمَا زَالَ يَقْرَعُ سَمْعَهُ خِلَافُهُ، فَهَذَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَصِيرَ إلَى حَدِيثٍ يُخَالِفُ هَذَا ؛ لِخَوْفِهِ أَنْ يَكُونَ هَذَا خِلَافًا لِلْإِجْمَاعِ أَوْ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ وَالْإِجْمَاعُ أَعْظَمُ الْحُجَجِ .
وَهَذَا عُذْرُ كَثِيرٍ مِن النَّاسِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَتْرُكُونَهُ، وَبَعْضُهُمْ مَعْذُورٌ فِيهِ حَقِيقَةً ؛ وَبَعْضُهُمْ مَعْذُورٌ فِيهِ ،وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَعْذُورِ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِن الْأَسْبَابِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ ، لأنه متى ثبت النصُّ ، ولم نجد له معارضاً وجب العملُ به ،هذا إذا علمنا أنَّ أحدا من العلماء السابقين قد عمل به ، لأنَّ عدم العلم به يدلُّ إما على نسخه أو يوجد ما يعارضه .
- - - - - - - - - - - - - -(1/202)
السَّبَبُ الْعَاشِرُ
مُعَارَضَتُهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ أَوْ نَسْخِهِ أَوْ تَأْوِيلِهِ مِمَّا لَا يَعْتَقِدُهُ غَيْرُهُ
مُعَارَضَتُهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ أَوْ نَسْخِهِ أَوْ تَأْوِيلِهِ مِمَّا لَا يَعْتَقِدُهُ غَيْرُهُ أَوْ جِنْسُهُ مُعَارِضٌ ؛ أَوْ لَا يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَارِضًا رَاجِحًا .
كَمُعَارَضَةِ كَثِيرٍ مِن الْكُوفِيِّينَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ مِن الْعُمُومِ وَنَحْوُهُ مُقَدَّمٌ عَلَى نَصِّ الْحَدِيثِ ، ثُمَّ قَدْ يَعْتَقِدُ مَا لَيْسَ بِظَاهِرِ ظَاهِرًا لِمَا فِي دَلَالَاتِ الْقَوْلِ مِن الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ .
وَلِهَذَا رَدُّوا حَدِيثَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِين وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ يَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ مَا يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ ، فعَن أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ. (1)
وَلَوْ كَانَ فِيهِ ذَلِكَ فَالسُّنَّةُ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِلْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ . وَلِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ
وفي الرسالة للشافعي - (ج 1 / ص 25) : باب : ما نزل عاماًّ دلت السنة خاصة على أنه يراد به الخاص
قال الله - جل ثناؤه - : " وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ( 11 ) " [ النساء ] وقال : " وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِن اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ( 12 ) " [ النساء ]
__________
(1) - - سنن أبى داود برقم(3612 ) والترمذي برقم(1393) وهو حديث متواتر(1/203)
فأبان أن للوالدين والأزواج مما سمى في الحالات وكان عامَّ المخرج فدلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنه إنما أريد به بعض الوالدين والأزواج دون بعض وذلك أن يكون دين الوالدين والمولود والزوجين واحداً ولا يكون الوارث منهما قاتلاً ولا مملوكاً
وقال : " مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ "
فأبان النبي أن الوصايا مقتَصَرٌ بها على الثلث لا يُتَعدى ولأهل الميراث الثلثان وأبان أن الدَّين قبل الوصايا والميراث وأن لا وصية ولا ميراث حتى يستوفي أهل الدَّين دينهم
ولولا دلالة السنة ثم إجماعُ الناس لم يكن ميراثٌ إلا بعد وصية أو دين ولم تعد الوصية أن تكون مُبَدَّاةً على الدين أو تكون والدين سواء وقال الله : " إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ( 6 ) " [ المائدة ]
فقصد - جل ثناؤه - قصْدَ القدمين بالغسل كما قصد الوجه واليدين فكان ظاهر هذه الآية أنه لا يجزئ في القدمين إلا ما يجزئ في الوجه من الغسل أو الرأس من المسح وكان يحتمل أن يكون أريد بغسل القدمين أو مسحهما بعضُ المتوضئين دون بعض
فلما مسح رسول الله على الخفين وأمر به من أدخل رجليه في الخفين وهو كامل الطهارة دلت سنة رسول الله على أنه إنما أريد بغسل القدمين أو مسحهما بعضُ المتوضئين دون بعض
وقال الله تبارك وتعالى : " وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِن اللَّهِ ( 38 ) " [ المائدة ]
وسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن : " لاَ قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلاَ كَثَرٍ " وأن لا يقطع إلا من بلغت سرقته ربع دينار فصاعداً
وقال الله : " الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ " [ النور ]
وقال في الإماء : " فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِن الْعَذَابِ ( 25 ) " [ النساء ](1/204)
فدل القُرَآن على أنه إنما أريد بجلد المائة : الأحرارُ دون الإماء . فلما رجم رسول الله الثيب من الزناة ولم يجلده : دلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن المراد بجلد المائة من الزناة : الحُرَّان البِكْرَان وعلى أن المراد بالقطع في السرقة : من سرَق من حِرْز وبلغت سرقته ربع دينار دون غيرهما ممن لزمه اسم سرقة وزنا وقال الله : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِن شَيْءٍ [ ص 68 ] فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ( 41 ) " [ الأنفال ]فلما أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني هاشم وبني المطلب سهم ذي القربى : دلت سنة رسول الله أن ذا القربى الذين جعل الله لهم سهماً من الخمس : بنو هاشم وبنو المطلب دون غيرهم
وكل قريش ذو قرابة وبنو عبد شمس مساويةُ بني المطلب في القرابة هم مَعًا بنو أب وأم وإن انفرد بعض بني المطلب بولادة من بني هاشم دونَهم
فلما لم يكن السهم لمن انفرد بالولادة من بني المطلب دون من لم تصبه ولادة من بني هاشم منهم : دل ذلك على أنهم إنما أعطُوا خاصة دون غيرهم بقرابة جذم النسب مع كَيْنُونَتِهِمْ معًا مجتمعين في نصر النبي بالشِّعْب وقبله وبعده وما أراد الله - جل ثناؤه - بهم خاصًّا ولقد وَلَدَتْ بنو هاشم في قريش فما أعطي منهم أحد بولادتهم من الخمس شيئاً وبنو نوفل مُسَاوِيَتُهُمْ في جِذْمِ النسب وإن انفردوا بأنهم بنوا أم دونهم
قال الله : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ( 41 ) " [ الأنفال ]
فلما أعطى رسول الله السلَبَ القاتلَ في الإقبال : دلَّت سنة النبي على أن الغنيمة المَخْمُوسَة في كتاب الله غيرُ السلب إذْ كان السلب مَغْنُوماً في الإقبال دون الأسلاب المأخوذة في غير الإقبال وأن الأسلاب المأخوذة في غير الإقبال غنيمةٌ تُخمس مع ما سواها من الغنيمة بالسنة
ولولا الاستدلال بالسنة وحُكْمُنا بالظاهر: قطعنا من لزمه اسمُ سرقة وضربنا مائةً كلَّ مَنْ زَنَى حُراًّ ثيباً وأعطينا سهم ذي القربى كل من بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - قرابة ثم خلص ذلك إلى(1/205)
طوائف من العرب لأن له فيهم وَشَايِجَ أرحام وَخَمَسْنا السَّلَب لأنه من المَغْنم مع ما سواه من الغنيمة .
وفي السُّنَّةُ لِلْمَرْوَزِيِّ - ذِكْرُ الْوَجْهِ الثَّانِي مِنَ السُّنَنِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا أَهِيَ نَاسِخَةٌ لِبَعْضِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ أَمْ هِيَ مُبَيِّنَةٌ عَن خُصُوصِهَا وَعُمُومِهَا ؟
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي السُّنَّةِ هَلْ تَنْسَخُ الْكِتَابَ أَمْ لَا ؟
فَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ : لَا تَنْسَخُ السُّنَّةُ الْكِتَابَ ، وَلَا يَنْسَخُ الْكِتَابُ إِلَّا الْكِتَابُ ، والسُّنَّة تُتَرْجِمُ الْكِتَابَ وَتُفَسِّرُ مُجْمَلَهُ ، وَتُبَيِّنُ عَن خُصُوصِهِ ، وَعُمُومِهِ وَتَزَيدُ فِي الْفَرَائِضِ وَالْأَحْكَامِ ، وَلَا تَنْسَخُ الْكِتَابَ ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : مَا نَنْسَخْ مِن آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنهَا أَوْ مِثْلِهَا وَبِقَوْلِهِ : وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَبِقَوْلِهِ : قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ، فَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : جَائِزٌ أَنْ تَنْسَخَ السُّنَّةُ الْكِتَابَ وَذَلِكَ أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِحُكْمٍ ، ثُمَّ يُوحِي إِلَى نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَدْ نَسَخَ ذَلِكَ الْحُكْمَ ، وَيَأْمُرُ بِخِلَافِهِ ، فَيَأْمُرُ بِذَلِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ ، وَلَا يَنْزِلُ بِهِ قُرْآنًا يُتْلَى ، فَعَلَى النَّاسِ تَصْدِيقُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَقَبُولُ ذَلِكَ عَنهُ وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَنْسَخْ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا يُتْلَى لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى وَلِقولِهِ : إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ فَمِنَ الْوَحْيِ مَا هُوَ قُرْآنٌ ، وَمِنهُ مَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : مَا نَنْسَخْ مِن آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنهَا وَلَمْ يَقُلْ نَأْتِ بِآيَةٍ خَيْرٍ مِنهَا ، وَلَا بِقُرْآنٍ خَيْرٍ مِنهَا"
قَالَ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ: " كُنْتُ أَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ فَلَا أَعْرِفُهَا مَا نَنْسَخْ مِن آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنهَا ، أَقُولُ هَذَا قُرْآنٌ وَهَذَا قُرْآنٌ فَكَيْفَ يَكُونُ خَيْرًا مِنهَا حَتَّى فُسِّرَ لِي فَكَانَ بَيِّنًا ، نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنهَا لَكُمْ أَيْسَرُ عَلَيْكُمْ ، أَخَفُّ عَلَيْكُمْ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ( المروزي) : فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا حَكَى ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالُوا : فَإِنَّمَا مَعْنَى النَّسْخِ هُوَ أَنْ يَنْسَخَ حُكْمَهُ الْأَوَّلَ الَّذِي أَوْجَبَهُ بِكَلَامِهِ عَلَى عِبَادِهِ بِحُكْمٍ خَيْرٍ لَهُمْ مِنهُ فَإِنَّمَا خَفَّفَ عَلَى الْعِبَادِ فَأَبْدَلَهُمْ عَمَلًا أَخَفَّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا أَرَادَ حُكْمًا(1/206)
خَيْرًا لَهُمْ مِن حُكْمِ الْآيَةِ الْأُولَى أَوْسَعَ لَهُمْ وَأَخَفَّ عَلَيْهِمْ كَمَا نَسَخَ قِيَامَ اللَّيْلِ بِمَا تَيَسَّرَ مِنهُ فَكَانَ مَا تَيَسَّرَ خَيْرًا لَهُمْ فِي السَّعَةِ وَالْخِفَّةِ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ بِطُولِ قِيَامِ اللَّيْلِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَامُوا حَوْلًا حَتَّى تَوَرَّمَتْ أَقْدَامُهُمْ فَخَفَّفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنهُمْ ، وَكَذَلِكَ كَانُوا لَا يُنَاجُونَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَتَصَدَّقُوا بِصَدَقَةٍ فَخَفَّفَ ذَلِكَ عَنهُمْ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ خَيْرًا لَهُمْ بِأَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ إِذَا هُمْ عَمِلُوا بِهِ وَخَيْرًا لَهُمْ فِي الْعَاقِبَةِ ، قَالُوا : فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ الْحُكْمِ الثَّانِي الَّذِي أُبْدِلَ بِهِ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ فِي كِتَابِهِ مُنَزَّلًا وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ بَيَانَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا يُنْزِلَهُ فِي كِتَابِهِ "
عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ : عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِن حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِن حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَلَا كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ " (صحيح)
وعَنِ الْحَسَنِ بْنِ جَابِرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ الْمِقْدَامَ بْنَ مَعْدِي كَرِبَ يَقُولُ : حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ خَيْبَرَ أَشْيَاءَ ثُمَّ قَالَ : " يُوشِكُ بِرَجُلٍ مُتَّكِئٍ عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثِي ، فَيَقُولُ : سَأُنَبِّئُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ مَا وَجَدْنَا فِيهِ مِن حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِن حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ "(صحيح)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَمِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ هَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ مِمَّا فَرَضَهُ مُثْبَتٌ فِي الْكِتَابِ ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى نَسْخِهِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا مَا الَّذِي نَسَخَهُ الْكِتَابُ أَمِ السُّنَّةُ ؟ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ إِيجَابَ الْوَصِيَّةِ لِكُلِّ وَارِثٍ مِنَ الْأَقْرَبِينَ مَنسُوخٌ ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي أَجَازَتْ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ : إِنَّمَا صَارَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ مَنسُوخَةً بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " وَقَالَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى : بَلْ نَسَخَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ فَرَائِضَ الْمَوَارِيثِ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ هُوَ الْمُبَيِّنُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ : " لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ جَائِزًا أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ ثَابِتَةً مَعَ الْمَوَارِيثِ ، وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الْمَوَارِيثُ نَسَخَتِ الْوَصِيَّةَ ، فَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَوَارِيثَ نَسَخَتِ(1/207)
الْوَصِيَّةَ ، لَا أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ الَّذِي نَسَخَ الْوَصِيَّةَ لَهُمْ ، فَقَالَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى : لَيْسَ فِي فَرْضِ الْمَوَارِيثِ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ بَلْ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حِينَ فَرَضَ الْمَوَارِيثَ أَخْبَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا فَرَضَهَا مِن بَعْدِ الْوَصَايَا ، فَقَالَ فِي عَقِبِ فَرَائِضِ الْمَوَارِيثِ : مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ فَكَانَ اللَّازِمُ عَلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ إِذَا أَوْصَى الْمَيِّتُ لِوَالِدَيْهِ أَوْ لِسَائِرِ وَرَثَتِهِ بِوَصَايَا أَنْ يَبْدَءُوا بِإِعْطَائِهِمُ الْوَصَايَا ، ثُمَّ يُعْطَوْنَ مَوَارِيثَهُمْ مِن بَعْدِ الْوَصَايَا لِقَوْلِهِ : مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ قَالُوا : فَكَانَتِ السُّنَّةُ هِيَ النَّاسِخَةَ لِإِيجَابِ الْوَصِيَّةِ لَا غَيْرُ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ، قَالُوا : وَظَاهِرُ الْكِتَابِ أَيْضًا مُوجِبٌ إِجَازَةَ الْوَصِيَّةِ لِغَيْرِ الْوَارِثِ ، وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا فَرَضَ الْمَوَارِيثَ مِن بَعْدِ الْوَصَايَا وَلَمْ يُؤَقِّتِ الْوَصَايَا ثُلُثًا ، وَلَا أَقَلَّ وَلَا أَكْثَرَ ، فَلَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَكَمَ بِأَنَّ الْوَصَايَا لَا تَجُوزُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ جَائِزَةً عَلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ وَعُمُومِهِ ، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ جَاءَتْ بِتَحْدِيدِ الثُّلُثِ فِي الْوَصَايَا "
فعَن عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ ، عَن أَبِيهِ ، قَالَ : عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِن وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنهُ عَلَى الْمَوْتِ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَ بِي مَا تَرَى مِنَ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَيْسَ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ قَالَ : " لَا " ، قُلْتُ : أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ ؟ قَالَ : " لَا الثُّلُثُ ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ إِنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ، وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِيِّ امْرَأَتِكَ "( صحيح)
وعَن عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، عَن أَبِيهِ ، قَالَ : كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمَرِضْتُ مَرَضًا أَشْفَى عَلَيَّ الْمَوْتُ فَعَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مَالِي كَثِيرٌ وَلَيْسَ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي أَفَأُوصِي بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ قَالَ : " لَا " ، قُلْتُ : فَبِشَطْرِ مَالِي ؟ قَالَ : " لَا " ، قُلْتُ : فَبِثُلُثِ مَالِي ؟ قَالَ : " الثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ يَا سَعْدُ إِنْ تَتْرُكْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ " (صحيح)(1/208)
وعَن سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ ، عَن أَبِيهِ ، قَالَ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا مَرِيضٌ يَعُودُنِي فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ ؟ قَالَ : " لَا " ، قُلْتُ : فَبِثُلُثَيْهُ ؟ قَالَ: " لَا " ، قُلْتُ : فبِالنِّصْفِ ؟ قَالَ : " لَا " ، قُلْتُ : فَبِالثُّلُثِ ؟ فَسَكَتَ ، (صحيح)
وعَن مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ ، عَن أَبِيهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ بِمَكَّةَ وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا ابْنَةٌ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَيْسَ لِي إِلَّا ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ ؟ قَالَ : " لَا " ، قُلْتُ : فَبِالشَّطْرِ قَالَ : " لَا " ، قُلْتُ : فَبِالثُّلُثِ ؟ قَالَ : " الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ " (صحيح)
وقَالَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ سَعْدٍ: قَالَ سَعْدٌ : اشْتَكَيْتُ شَكْوَى لِي بِمَكَّةَ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُنِي فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي تَرَكْتُ مَالًا كَثِيرًا وَلَيْسَ لِي إِلَّا ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ أَفَأُوصِي بِثُلُثَيْ مَاليِ وَأَتْرُكُ لَهَا الثُّلُثَ ؟ قَالَ : " لَا " قُلْتُ : فَأُوصِي بِنِصْفِ مَالِي وَأَتْرُكُ لَهَا النِّصْفَ ؟ قَالَ : " لَا " قُلْتُ : فَأُوصِي بِالثُّلُثِ وَأَتْرُكُ لَهَا الثُّلُثَيْنِ ؟ قَالَ : " الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ " ثَلَاثًا ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِي فَمَسَحَ جَبْهَتِي ، وَقَالَ : " اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا وَأَتِمَّ لَهُ هِجْرَتَهُ " قَالَ : فَمَا زِلْتُ أَجِدُ بَرْدَ يَدِهِ حَتَّى السَّاعَةِ "(صحيح)
وعَن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، قَالَ : عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَرَضٍ فَقَالَ : " أَوْصَيْتَ ؟ " قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : بِكَمْ ؟ قُلْتُ : بِمَالِي كُلِّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قَالَ : " فَمَا تَرَكْتَ لِوَلَدِكَ؟ " قُلْتُ : هُمْ أَغْنِيَاءُ ، قَالَ : " أَوْصِ بِالْعُشْرِ " ، فَمَا زَالَ يَقُولُ وَأَقُولُ حَتَّى قَالَ : " أَوْصِ بِالثُّلُثِ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ "(صحيح)
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ : فَنَحْنُ نَسْتَحِبُّ أَنْ نُنْقِصَ مِنَ الثُّلُثِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : " وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ "
فعَن سَعْدٍ ، قَالَ : عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا بِمَكَّةَ فَقَالَ : " أَوْصَيْتَ ؟ " قُلْتُ : نَعَمْ بِمَالِي كُلِّهِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، قَالَ : " أَوْصِ بِالْعُشْرِ " ، قُلْتُ : إِنَّ وَرَثَتِي أَغْنِيَاءُ ، قَالَ : " أَوْصِ بِالْعُشْرِ " ، فَلَمْ يَزَلْ يُنَاقِصُنِي وَأُنَاقِصُهُ حَتَّى قَالَ : " أَوْصِ بِالثُّلُثِ وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ " ، قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ : فَكَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُوصَى بِالثُّلُثِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : " وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ " ( صحيح)(1/209)
وعَن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، أَنَّ رَجُلًا ، أَعْتَقَ سِتَّةً مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُمْ فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ ، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً وَقَالَ فِيهِ قَوْلًا شَدِيدًا " .(حسن)
وعَن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَعْتَقَ سِتَّةً مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا غَيْرَهُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَغَضِبَ وَقَالَ : " هَمَمْتُ أَلَّا أُصَلِّيَ عَلَيْهِ " ثُمَّ دَعَا بِهِمْ فَجَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً"(حسن)
فَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِبْطَالِ الْوَصِيَّةِ فِيمَا يُجَاوِزُ الثُّلُثَ : فَقَالَ الَّذِينَ أَجَازُوا نَسْخَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ : السُّنَّةُ هِيَ الَّتِي نَسَخَتْ إِجَازَةَ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَأَبْطَلَتْهُ وَقَالَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى : السُّنَنُ لَمْ تَنْسَخْ مِنَ الْكِتَابِ شَيْئًا وَلَكِنَّهَا بَيَّنَتْ عَن خُصُوصِهِ وَعُمُومِهِ فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ : مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا بَعْضَ الْوَصَايَا دُونَ بَعْضٍ فأَرَادَ مَا كَانَ مِنَ الْوَصَايَا دُونَ الثُّلُثِ إِلَى الثُّلُثِ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ : أَوْ دَيْنٍ الدَّيْنَ كُلَّهُ عُمُومًا لَا خُصُوصَ فِيهِ وَبَدَأَ فِي كِتَابِهِ بِذِكْرِ الْوَصِيَّةِ قَبْلَ الدَّيْنِ ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الدَّيْنَ يُبْدَأُ بِهِ قَبْلَ الْوَصَايَا مِن جَمِيعِ الْمَالِ ، ثُمَّ الْوَصَايَا مِن بَعْدِ الدَّيْنِ فَخْرَّجَةٌ مِنَ الثُّلُثِ ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْعَمَلِ بِذَلِكَ مِن لَدُنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى يَوْمِنَا هَذَا يَتَوَارَثُونَ الْعَمَلَ بِذَلِكَ قَرْنًا عَن قَرْنٍ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ "
وعَن عَلِيٍّ ، قَالَ : قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ وَأَنْتُمْ تَقْرَءُونَهَا : مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنَّ أَعْيَانَ بَنِي الْأُمِّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعِلَّاتِ "(حسن لغيره)
وعَن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ : مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ وَإِنَّ أَعْيَانَ بَنِي الْأُمِّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعِلَّاتِ يَرِثُ الرَّجُلُ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ دُونَ أَخِيهِ لِأَبِيهِ "
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ الْآيَةَ كُلَّهَا "
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : حَرَّمَ عَلَيْكُمْ سَبْعًا نَسَبًا وَسَبْعًا صِهْرًا "( صحيح)(1/210)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : " حُرِّمَ مِنَ النَّسَبِ سَبْعٌ وَمِنَ الصِّهْرِ سَبْعٌ ، مِنَ النَّسَبِ : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ فَهَذَا النَّسَبُ ، وَمِنَ الصِّهْرِ : وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِن نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِن أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ، وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ " ( صحيح)
وعَن عَمْرِو بْنِ سَالِمٍ مَوْلَى الْأَنْصَارِ قَالَ : " حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ النَّسَبِ سَبْعًا وَمِنَ الصِّهْرِ سَبْعًا قَالَ : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَمِنَ الصِّهْرِ : وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ الْآيَةَ "( صحيح)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : فَحَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْآيَةِ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ، لَمْ يُحَرِّمِ الْجَمْعَ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ غَيْرِهِمَا ثُمَّ قَالَ : وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ فَحَرَّمَتِ السُّنَّةُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا "
فعَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، أَوْ عَلَى خَالَتِهَا "( صحيح)
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا " ( صحيح)
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا يَجْمَعُ الرَّجُلُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا ، وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا "( صحيح)
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، أَوْ عَلَى خَالَتِهَا " ( صحيح)
وعَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، وَلَا الْعَمَّةُ عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا ، وَلَا بِنْتُ أُخْتِهَا عَلَى خَالَتِهَا ، وَلَا الْخَالَةُ عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا ، وَلَا تُنْكَحُ الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى وَلَا الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى " ( صحيح)(1/211)
وعَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا "( صحيح)
وعَن عَاصِمٍ ، قَالَ : عَرَضْتُ عَلَى الشَّعْبِيِّ كِتَابًا فِيهِ عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، أَوْ عَلَى خَالَتِهَا " فَقَالَ : أَنَا سَمِعْتُهُ مِن جَابِرٍ"( صحيح)
وعَن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ : " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَن نِكَاحَيْنِ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ ، وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا " ( صحيح)
وعَن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَن أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ ، وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا نِكَاحًا " ( صحيح)
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا " ( صحيح)
وعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَنَدَ إِلَى الْبَيْتِ فَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ فَقَالَ : " لَا تُسَافِرِ امْرَأَةٌ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ مَسِيرَةَ ثَلَاثِ لَيَالٍ ، وَلَا تَقْدُمَنَّ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا " ( صحيح)
وعَن عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَن أَبِيهِ ، عَن جَدِّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : " وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا "( صحيح)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " نَهَى أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ عَلَى خَالَتِهَا " ( صحيح)
وعَن عَائِشَةَ ، قَالَتْ : وُجِدَ فِي قَائِمِ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كِتَابَانِ فِي أَحَدِهِمَا " " وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا " ( صحيح)
وعَن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " نَهَى أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا ، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا "( صحيح)
وعَن سَالِمٍ ، عَن أَبِيهِ ، قَالَ : " " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَن نِكَاحَيْنِ : الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، وَعَلَى خَالَتِهَا " ( صحيح)(1/212)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَحَرَّمَ فِي الْآيَةِ امْرَأَتَيْنِ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَقَطْ : الْأُمُّ وَالْأُخْتُ لَمْ يُحَرِّمْ غَيْرَهُمَا مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ فَصَارَ اللَّازِمُ فِي الْحُكْمِ عَلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ وَعُمُومِهِ أَنْ يَكُونَ مَا وَرَاءَ مَا حُرِّمَ فِي الْآيَةِ مِنَ النِّسَاءِ مُحَلَّلَاتِ النِّكَاحِ بِقَوْلِهِ : وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ، فَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ الثَّابِتَةُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّهُ حَرَّمَ بِنْتَ الْأَخِ وَبِنْتَ الْأُخْتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يُحَرِّمُ مِنَ الْوِلَادَةِ "
فعَن عَائِشَةَ ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ عِنْدَهَا وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَستَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ يَستَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَرَاهُ فُلَانًا " ، - لِعَمِّ حَفْصَةَ - فَقَالَتْ عَائِشَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَوْ كَانَ فُلَانٌ حَيًّا - لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ - دَخَلَ عَلَيَّ ؟ قَالَ : " نَعَمْ إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ "( صحيح)
وعَن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا لَكَ تَتُوقُ فِي قُرَيْشٍ وَتَدَعُنَا ؟ فَقَالَ : " هَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ ؟ " فَقَالَ : بِنْتُ حَمْزَةَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ "( صحيح)
وعَن عَلِيٍّ ، قَالَ : لَمَّا خَرَجْنَا مِن مَكَّةَ اتَّبَعَتْنِي ابْنَةُ حَمْزَةَ تُنَادِينِي يَا عَمُّ يَا عَمُّ ، فَتَنَاوَلْتُهَا بِيَدِهَا فَدَفَعتُهَا إِلَى فَاطِمَةَ فَقُلْتُ : دُونَكِ بِنْتُ عَمِّكِ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَتَزَوَّجُهَا ؟ فَقَالَ : " إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ " ( صحيح)
وعَن زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ ، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَنْكِحْ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ - لِأُختِهَا - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَوَ تُحِبِّينَ ذَلِكَ ؟ " قَالَتْ : نَعَمْ لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ مَن شَارَكَني فِي خَيْرٍ أُخْتِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِي " ، قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَقَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّكَ نَاكِحٌ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ ، قَالَ : بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي ، إِنَّهَا لَابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ " صحيح)(1/213)
وعَن زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ ، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَنْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَوَ تُحِبِّينَ ذَلِكَ ؟ " قَالَتْ : مَا أَنَا بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ مَن شَرَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي ، قَالَ : " فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ " ، قَالَتْ : فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَتَحَدَّثُ إِنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ ، قَالَ : " بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ ؟ " قَالَتْ : قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَوَاللَّهِ " لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا لَابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ " قَالَ عُرْوَةُ : وَكَانَتْ ثُوَيْبَةُ مَوْلَاةً لِأَبِي لَهَبٍ أَعْتَقَهَا فَأَرْضَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا مَاتَ رَأَى أَبَا لَهَبٍ بَعْضُ أَهْلِهِ فِي النَّوْمِ فَسَأَلَهُ : مَا وَجَدْتَ ؟ فَقَالَ : مَا وَجَدْتُ بَعْدَكُمْ رَاحَةً غَيْرَ أَنِّي سَقَيْتُ فِي هَذِهِ مِنِّي - فِي الثَّغْرَةِ الَّتِي بَيْنَ الْإِبْهَامِ وَبَيْنَ الَّتِي تَلِيهَا - بِعِتْقِي ثُوَيْبَةَ"( صحيح)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي أَثَرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَفِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ : كَانَتْ ثُوَيْبَةُ قَدْ أَرْضَعَتْ حَمْزَةَ أَيْضًا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَحَمْزَةُ وَأَبُو سَلَمَةَ إِخْوَةً بِإِرْضَاعِ ثُوَيْبَةَ إِيَّاهُمْ "
وقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ ، أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا رَسُولَ اللَّهِ انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ ، فَزَعَمَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا : " أَوَ تُحِبِّينَ ذَلِكَ ؟ " قَالَتْ : نَعَمْ لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ مَن شَرَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي ، قَالَتْ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ " ، قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَتَحَدَّثُ أَنَّكَ لَتُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " ابْنَةُ أُمِّ سَلَمَةَ ؟ " قَالَتْ : نَعَمْ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " فَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا لَابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ " حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى ، ثنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ ، عَن يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِمٍ ، كَتَبَ يَذْكُرُ أَنَّ عُرْوَةَ ، حَدَّثَهُ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَتْهَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَتْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : انْكِحْ أُخْتِي عَزَّةَ ، نَحْوَ حَدِيثِ مَعْمَرٍ وَيَعْقُوبَ "( حسن)(1/214)
وعَن زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ ، قَالَتْ : جَاءَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ : هَلْ لَكَ فِي أُخْتِي ؟ قَالَ : " وَمَا أَصْنَعُ بِهَا ؟ " قَالَتْ : تَتَزَوَّجُهَا ، قَالَ : " وَتُحِبِّينَ ذَلِكَ ؟ " قَالَتْ : نَعَمْ لَسْتُ بِمُخْلِيَةٍ لَكَ وَأَحَبُّ مَن شَرَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي ، قَالَ : " فإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي " ، قَالَتْ : فَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّكَ تَخْطُبُ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ ، فَقَالَ : " إِنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي وَفِي حِجْرِي لَمْ تَحِلَّ لِي ، لَقَدْ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ - مَوْلَاةٌ لِبَنِي هَاشِمٍ - فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ "( صحيح)
وعَن عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ زَيْنَبَ ، حَدَّثَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّكَ نَاكِحٌ دُرَّةَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَوْ أَنِّي لَمْ أَنْكِحْ أُمَّ سَلَمَةَ مَا حَلَّتْ لِي ؛ إِنَّ أَبَاهَا أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ "( صحيح)
وعَنِ الْبَرَاءِ ، أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَلَا تَخْطُبُ بِنْتَ حَمْزَةَ ؟ فَقَالَ : " إِنَّ حَمْزَةَ أَخِي فِي الرَّضَاعَةِ " ( صحيح)
وعن حُمَيْدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، قالَ : سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تَقُولُ : قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَيْنَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَن بِنْتِ حَمْزَةَ أَوْ قِيلَ أَلَا تَخْطُبُ بِنْتَ حَمْزَةَ ؟ فَقَالَ : " إِنَّ حَمْزَةَ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ " ( صحيح)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُرِيدَ عَلَى بِنْتِ حَمْزَةَ فَقَالَ : إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ وَإِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ "( صحيح)
وعَن أَبِي أُمَامَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ " ( صحيح)
وعَن عُرْوَةَ ، عَن عَائِشَةَ ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا ، وَهُوَ عَمُّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ قَالَتْ : فأبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ عَلَيَّ "( صحيح)
وعَن عَائِشَةَ ، قَالَتْ : جَاءَ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا فَقَالَ : إِنِّي عَمُّهَا فَأَبَتْ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : " أَفَلَا أَذِنْتِ لِعَمِّكِ ؟ "(1/215)
فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ قَالَ : فَأْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يَمِينُكِ ، وَكَانَ أَبُو الْقُعَيْسِ زَوْجَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرْضَعَتْ عَائِشَةَ "( صحيح)
وقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ عَائِشَةَ ، أخْبَرَتْهُ أَنَّهَا ، جَاءَهَا أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ وَأَبُو الْقُعَيْسِ أَرْضَعَ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فجَاءَهَا - زَعَمَتْ - أَخُوهُ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا فَأَبَتْ أَنْ تَأْذنَ لَهُ حَتَّى ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ فَلَمْ آذَنْ لَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " وَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْذَنِي لِعَمِّكِ ؟ " فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا قَعِيسٍ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي ، إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " ائْذَنِي لَهُ حِينَ يَأْتِيكَ ، فَإِنَّهُ عَمُّكِ "( صحيح)
وعَن عَطَاءٍ ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ عَائِشَةَ ، أَخْبَرَتْهُ فَقَالَتْ ، : اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ عَمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ أَبُو الْجَعْدِ فَرَدَدْتُهُ ، فَقَالَ لِي هِشَامٌ : إِنَّمَا هُوَ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَخَبَرْتُهُ بِذَلِكَ ، قَالَ: " أَفَلَا أَذِنْتِ لَهُ ؟ تَرِبَتْ يَمِينُكِ أَوْ : يَدُكِ "( صحيح)
و قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لَهُ - يَعْنِي لِعَطَاءٍ - لَبَنُ الْفَحْلِ أَيُحَرِّمُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قُلْتُ : أَبَلَغَكَ مِن ثَبْتٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ اللَّهُ : وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَهِيَ أُخْتُكَ مِن أَبِيكَ".( صحيح)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَحَرَّمَ اللَّهُ فِي الْآيَةِ الْأُمَّ وَالْأُخْتَ مِنَ الرَّضَاعَةِ لَمْ يَخُصَّ رَضَاعًا دُونَ رَضَاعٍ فَكَانَ الَّذِي يَلْزَمُ عَلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ ، وَعُمُومِهِ أَنْ يَحْرُمَ بِقَلِيلِ الرَّضَاعِ كَمَا يَحْرُمُ بِكَثِيرِهِ ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَن حَرَّمَ بِقَلِيلِ الرَّضَاعِ وَكَثِيرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَن بَعْدَهُمْ "
وعَن أَبِي الزُّبَيْرِ ، قَالَ : أَرْسَلَنِي عَطَاءٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَسَأَلْنَاهُ عَنِ الْمَرْأَةِ تُرْضِعُ الصَّبِيَّ فِي الْمَهْدِ رَضْعَةً وَاحِدَةً ، فَقَالَ : هِيَ عَلَيْهِ حَرَامٌ ، قَالَ : قُلْتُ : إِنَّ عَائِشَةَ ، وَابنَ الزُّبَيْرِ يَزْعُمَانِ أَنَّهُ لَا تُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ رَضْعَتَانِ ، قَالَ : كِتَابُ اللَّهِ أَصْدَقُ مِن قَوْلِهِمَا ثُمَّ قَرَأَ آيَةَ الرَّضَاعِ "( صحيح)
وعَن عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، قَالَ : سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَن شَيْءٍ ، مِنَ الرَّضَاعِ فَقَالَ : لَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ الْأُخْتَ مِنَ الرَّضَاعَةِ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : فَإِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ : لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : قَضَاءُ اللَّهِ خَيْرٌ مِن قَضَائِكَ وَقَضَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ أَبُو عَبْدِ(1/216)
اللَّهِ : فَلَوْلَا الْخَبَرُ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ لَكَانَ الْعَمَلُ وَاجِبًا بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ فَلَمَّا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بِذِكْرِ الرَّضَاعَةِ بَعْضَ الرَّضَاعَةِ دُونَ بَعْضٍ "(صحيح)
وعَن أُمِّ الْفَضْلِ ، قَالَتْ : قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ "(صحيح)
وعَن عَائِشَةَ ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ ، وَلَا الْمَصَّتَانِ " (صحيح)
وعَنِ الزُّهْرِيِّ ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ ، حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَلَا الْمَصَّتَانِ " ( صحيح)
وعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ مِنَ الرَّضَاعَةِ " ( صحيح)
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَا تُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ الْمَصَّةُ ، وَلَا الْمَصَّتَانِ لَا يُحَرِّمُ إِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ " ( صحيح)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا فَلَوْلَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ الْمُبَيِّنَةُ عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَوَجَبَ الْقَطْعُ عَلَى كُلِّ مَن لَزِمَهُ اسْمُ سَارِقٍ قَلَّتْ سَرِقَتُهُ أَمْ كَثُرَتْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَمَّ كُلَّ سَارِقٍ وَسَارِقَةٍ لَمْ يَخُصَّ سَارِقًا دُونَ سَارِقٍ ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَنَّ أَنَّ السَّارِقَ لَا يُقْطَعُ حَتَّى تَبْلُغَ سَرِقَتُهُ قِيمَةً اخْتَلَفُوا فِي مَبْلَغِ تِلَكَ الْقِيمَةِ ، وَالْخَبَرُ الثَّابِتُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ أَزَالَ الْقَطْعَ عَمَن سَرَقَ أَقَلَّ مِن رُبْعِ دِينَارٍ ، فَقَالَ الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا "
فعَن عَائِشَةَ ، عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا "( صحيح)
وعَن عَائِشَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا" ( صحيح)
وعَن عَائِشَةَ ، زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا " ( صحيح)
وعَن عَائِشَةَ ، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا " ( صحيح)(1/217)
وعَن عَمْرَةَ ، أَنَّهَا سَمِعتْ عَائِشَةَ ، تُحَدِّثُ أَنَّهَا سَمِعتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَمَا فَوْقَهُ "( صحيح)
وعَن عَائِشَةَ ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ "( صحيح)
وعَن عَائِشَةَ ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا " ( صحيح)
وعَن عَائِشَةَ ، قَالَتْ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا "( صحيح)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : فَقَالَ الَّذِينَ أَجَازُوا نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ كَانَ الْقَطْعُ عِنْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا وَبَعْدَ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ سَارِقٍ قَلَّتْ سَرِقَتُهُ أَمْ كَثُرَتْ إِلَى أَنْ أَسْقَطَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْقَطْعَ عَمَن سَرَقَ أَقَلَّ مِن رُبْعِ دِينَارٍ فَصَارَ بَعْضُ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِقَطْعِ السَّارِقِ مَنسُوخًا بِسُنَّةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَمَا فِيهَا مُحْكَمٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ لَمْ تَنْسَخِ السُّنَّةُ مِنَ الْكِتَابِ شَيْئًا ، وَلَكِنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهَا عَامًّا فِي التِّلَاوَةِ فَهِيَ خَاصَّةٌ فِي الْمَعْنَى الْمَعْنِيِّ بِهَا بَعْضَ السُّرَّاقِ دُونَ بَعْضٍ ، وَنَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ نِكَاحَ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ فَقَالَ : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ فَكَانَ ذَلِكَ عَامًّا فِي الظَّاهِرِ وَاقِعًا عَلَى جَمِيعِ الْمُشْرِكَاتِ ، وَأَحَلَّ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ نِكَاحَ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُنَّ مُشْرِكَاتٌ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنهُمْ : كَانَ نِكَاحُ الْمُشْرِكَاتِ جَمِيعًا : الْكِتَابِيَّاتِ وَغَيْرِهِنَّ مُحَرَّمًا فِي الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَحْرِيمَ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَأَحَلَّهُنَّ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَتَرَكَ سَائِرَ الْمُشْرِكَاتِ مُحَرَّمَاتٍ عَلَى حَالِهِنَّ ، فَبَعْضُ الْآيَةِ الْأُولَى فِي هَذَا الْقَوْلِ مَنسُوخٌ وَبَاقِيهَا مُحْكَمٌ ، رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَن جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ "
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ، الْآيَةَ ، فَنَسَخَ مِن ذَلِكَ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ فأَحَلَّهُنَّ لِلْمُسْلِمِينَ وَحَرَّمَ الْمُسْلِمَاتِ عَلَى رِجَالِهِمْ" (صحيح)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ حَجَرَ النَّاسُ أَنْفُسَهُمْ عَنهُنَّ حَتَّى نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ قَالَ : فَنَكَحَ النَّاسُ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ "( صحيح)(1/218)
وعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، فِي قَوْلِهِ : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ قَالَ : نَزَلَتِ الَّتِي بَعْدَهَا فِي الْمَائِدَةِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَاستَثْنَى مِنَ الْمُشْرِكَاتِ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ "(حسن)
وعَن مَكْحُولٍ ، قَالَ : لَا تَنْكِحُوا مِن نِسَاءِ الْمَجُوسِ حُرَّةً وَلَا أَمَةً فِي حَضَرٍ ، وَلَا فِي غَزْوٍ حَتَّى يُسْلِمْنَ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فَأَحَلَّ لَهُمُ الْيَهُودِيَّاتِ وَالنَّصرَانِيَّاتِ وَتَرَكَ سَائِرَهُنَّ" قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَقَالَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ : لَيْسَ فِي الْآيَتَيْنِ نَاسِخٌ وَلَا مَنسُوخٌ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ الْمُشْرِكَاتِ سِوَى أَهْلِ الْكِتَابِ "
عَن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، فِي قَوْلِ اللَّهِ : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ قَالَ : " أَهْلُ الْأَوْثَانِ "( صحيح)
وعَن قَتَادَةَ ، فِي قَوْلِهِ : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ قَالَ : " يَعْنِي مُشْرِكَاتِ الْعَرَبِ مِن عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ " ( صحيح)
وعَن قَتَادَةَ ، فِي قولِهِ : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ، قَالَ : " الْمُشْرِكَاتُ مِمَن لَيْسَ مِن أَهْلِ الْكِتَابِ "( صحيح)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَمَذْهَبُ الشَّافِعيِّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى مَا أَعْلَمْتُكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي وَاحِدَةٍ مِنهَا نَاسِخٌ وَلَا مَنسُوخٌ ، إِلَّا أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ وَمِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْمُفَسَّرُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ آيتَيْنِ جَاءَتَا فِي كِتَابِ اللَّهِ مَخْرَجُ إِحْدَاهُمَا عَامٌّ يُحَرِّمُ أَشْيَاءَ أَوْ يُحِلُّهَا تَحْرِيمًا أَوْ حَلَالًا عَامًّا فِي الظَّاهِرِ ، وَالْأُخْرَى تَخُصُّ بَعْضَ الْعُمُومِ بِالتَّحْرِيمِ فَيُحِلُّهُ أَوْ يَخُصُّ بَعْضَ الْعُمُومِ بِالْإِحْلَالِ فَتُحَرِّمُهُ ، ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ إِحْدَى الْآيَتَيْنِ تُوجِبُ فَرْضًا عَامًّا ، وَالْأُخْرَى تَخُصُّ بَعْضَ الْفَرْضِ فتُسْقِطُهُ ، فَفِي ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ نَحْوٌ مِمَّا حَكَيْنَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ تَرَكْنَا حِكَايَةَ جَمِيعِ ذَلِكَ كَرَاهةً لِلتَّطْوِيلِ ، وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى كَثِيرٍ مِن ذَلِكَ فِي سَائِرِ كُتُبِنَا ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ آيَةٍ جَاءَتْ تَعُمُّ فَرْضَ شَيْءٍ أَوْ تُحِلُّهُ أَوْ تُحَرِّمُهُ ، وَجَاءَتِ السُّنَّةُ بإِسْقَاطِ بَعْضِ الْفَرْضِ الْمَعْمُومِ فِي الْآيَةِ ، أَوْ بإِحْلَالِ بَعْضِ الْمَعْمُومِ تَحْرِيمُهُ أَوْ تَحْرِيمُ بَعْضِ الْمَعْمُومِ إِحلَالُهُ فَفي ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ(1/219)
نَحْوٌ مِمَّا قَدْ حَكَيْتُ كَثِيرًا مِنهُ ، وَمِن ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَاسمُ الزَّانِي وَقَعَ عَلَى الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الزَّانِيَيْنِ حَدٌ مَعْلُومٌ كَانَتْ عُقُوبَتُهُمَا الْحَبْسَ وَالْأَذَى كَذَلِكَ "
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فِي قولِهِ : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِسَائِكُمْ الْآيَةَ ، قَالَ : " كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا فَجَرَتْ حُبِسَتْ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ - يَعْنِي قَوْلَهُ : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا فَجُعِلَ سَبِيلُهُمُ الْحُدُودَ " ( صحيح)
وعَن مُجَاهِدٍ : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِسَائِكُمْ قَالَ : الزِّنَا ، قَالَ : كَانَ أُمِرَ بِحَبْسِهِنَّ حِينَ يَشْهدُ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ حَتَّى يَمُتْنَ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ، وَالسَّبِيلُ الْحَدُّ وَفي قَوْلِ اللَّهِ : وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ الرَّجُلَانِ الزَّانِيَانِ فَآذُوهُمَا ، قَالَ : سَبًّا كُلُّ هَذَا نَسَخَتْهُ الْآيَةُ الَّتِي فِي النُّورِ بِالْحَدِّ الْمَفْرُوضِ " ( صحيح)
وعَن قَتَادَةَ ، : فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا قَالَ : كَانَ هَذَا قَبْلَ الْحُدُودِ كَانَا يُؤْذَيَانِ جَمِيعًا فَتُحْبَسُ الْمَرْأَةُ ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بَعْدَ ذَلِكَ ، فَجُعِلَ سَبِيلُ مَن أُحْصِنَ جَلْدَ مِائَةٍ ، ثُمَّ رَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ ، وَمَن لَمْ يُحْصَنْ جَلْدَ مِائَةٍ وَنَفْيَ سَنَةٍ " ( صحيح)
وعَن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُنْزِلَ ذَاتَ يوْمٍ فَنَكَّسَ أَصْحَابُهُ ، فَلَمَّا سُرِّيَ رَفَعَ أَصْحَابُهُ رُءُوسَهُمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ، الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ ثُمَّ رَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ ، وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ " ( صحيح لغيره)
وعَن قَتَادَةَ ، : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا قَالَ : كَانَتْ هَذِهِ قَبْلَ الْحُدُودِ : وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنهُمَا قَالَ : كَانَ هَذَا أَوَّلَ أَمْرٍ كَانَ فِيهِمَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ تُحْبَسُ وَيُؤْذَيَانِ بِالْقَوْلِ وَالشَّتِيمَةِ جَمِيعًا ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النُّورِ فَجَعَلَ لَهُنَّ سَبِيلًا : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ " ( صحيح)(1/220)
وعَن قَتَادَةَ ، وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ الْآيَةَ ، قَالَ : نَسَخَتْهَا الْحُدُودُ " ( صحيح)
وعَن قَتَادَةَ ، فِي قَوْلِهِ : فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ قَالَ : نَسَخَتْهَا الْحُدُودُ " ( صحيح)
وعن عُبَيْدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْبَاهِلِيِّ ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ : أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا : الْحَدُّ نَسَخَ هَذِهِ الْآيَةَ " ( صحيح)
وعَن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، قَالَ : أَنْزَلَ اللَّهُ : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا فَكَانَ عُقُوبَةُ ذَلِكَ الْحَبْسَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " خُذُوا خُذُوا قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ ، وَنَفْيُ سَنَةٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ " ( صحيح لغيره)
وعَن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ " ( صحيح)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَحَكَى الْمِصْرِيُّونَ عَنِ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ : كَانَتِ الْعُقُوبَاتُ فِي الْمَعَاصِي قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ ثُمَّ نَزَلَتِ الْحُدُودُ فَنُسِخَتِ الْعُقُوبَاتُ فِيمَا فِيهِ الْحُدُودُ "
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُرَّةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَا تَقُولُونَ فِي الشَّارِبِ وَالزَّانِي وَالسَّارِقِ؟ " - وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ - قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولَهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : " هُنَّ فَوَاحِشُ وَفِيهِنَّ عُقُوبَةٌ " ( صحيح مرسل)
قَالَ الشَّافِعِيُّ : مِثْلُ مَعْنَى هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ، قَالَ اللَّهُ : " وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِسَائِكُمْ الْآيَةَ ، وَالَّتِي بَعْدَهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ عُقُوبَةِ الزَّانِيَيْنِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ نَسَخَ هَذَا عَنِ الزُّنَاةِ كُلِّهِنَّ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فَحَدَّ اللَّهُ الْبِكْرَيْنِ الْحُرَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ ، فَقَالَ : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ، وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الَّذِي :(1/221)
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ ، وَشِبْلِ بْنِ مَعْبَدٍ ، قَالُوا : كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَلَّا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَقَامَ خَصْمُهُ وَكَانَ أَفْقَهَ مِنهُ فَقَالَ : صَدَقَ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَائْذَنْ لِي فَقَالَ : قُلْ ، فَقَالَ : إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا وَإِنَّهُ زَنَى بِامْرَأَتِهِ فَافْتَدَيْتُ مِنهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ ، ثُمَّ سَأَلْتُ رِجَالًا مِن أَهْلِ الْعِلْمِ ، فَأَخْبَرُوني أَنَّ عَلَى ابْنِكَ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ ، وَعَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ ، الْمِائَةُ شَاةٍ وَالْخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْكَ ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا ، فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا ". النُّعْمَانِ بْنِ مُرَّةَ
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَوْلَهُ : " خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي " قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ مَا نُسِخَ مِن حَبْسِ الزَّانِيَيْنِ وَإِيذَائِهِمَا وَأَوَّلَ حَدَّينِ نَزَلَ فِيهِمَا ثُمَّ نُسِخَ الْجَلْدُ عَنِ الثَّيِّبَيْنِ وَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا الرَّجْمَ ، فَرَجَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - امْرَأَةَ الرَّجُلِ وَلَمْ يَجْلِدْهَا ، وَرَجَمَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ وَلَمْ يَجْلِدْهُ ، وَرَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ وَلَمْ يَجْلِدْهُمَا"
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ ، وَشِبْلٍ ، أَنَّهُمْ قَالُوا : رَجَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَجْلِدْ". النُّعْمَانِ بْنِ مُرَّةَ
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ امْرَأَةَ الرَّجُلِ وَمَاعِزًا بَعْدَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : عَلَى الثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ ؟ ، قِيلَ : إِذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : خُذُوا عَنِّي فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ، الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ ، فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ أَوَّلَ حَدِّ الزَّانِيَيْنِ وَإِذَا كَانَ أَوَّلًا فَكُلُّ حَدٍّ جَاءَ بَالِغُهُ ، فَالْعِلْمُ يُحيطُ أَنَّهُ بَعْدَهُ وَالَّذِي بَعْدَهُ يَنْسَخُ مَا قَبْلَهُ إِذَا كَانَ يُخَالِفُهُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْفُتْيَا مِن أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَغَيْرِهِمْ مِن أَهْلِ الْأَثَرِ أَنَّ عَلَى الزَّانِي الْبِكْرِ الَّذِي لَمْ يُحْصَنْ جَلْدَ مِائَةٍ وَنَفْيَ سَنَةٍ ، وَعَلَى الثَّيِّبِ الَّذِي قَدْ أُحْصِنَ الرَّجْمَ وَلَا جَلْدَ عَلَيْهِ ، فَمَنُ عَرَفَ مِنهُمْ حَدِيثَ عُبَادَةَ وَثَبَتَهُ زَعَمَ أَنَّهُ جَلَدَ الزَّانِيَيْنِ الْبِكْرَيْنِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَنَفَاهُمَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَاحْتَجَّ فِي نَفْيِهِ إِيَّاهُمَا بِحَدِيثِ عُبَادَةَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي رُوِيَتْ فِي(1/222)
النَّفْيِ ، وَأَنَّهُ أَسْقَطَ الْجَلْدَ عَنِ الثَّيِّبَيْنِ وَأَثْبَتَ عَلَيْهِمَا الرَّجْمَ بِالْأَخْبَارِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الشَّافِعِيُّ ، وَجَعَلَ الْجَلْدَ مَنسُوخًا عَنِ الثَّيِّبَيْنِ بِالسُّنَّةِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : فَقَدْ أَثْبَتَ الشَّافِعيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْجَلْدَ مَعَ النَّفْيِ عَلَى الْبِكْرَيْنِ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ فِي جَلْدِ الزَّانِيَيْنِ الْجَلْدُ بِالْكِتَابِ والسُّنَّة وَالنَّفْيُ بِالسُّنَّةِ ، وَكَذَلِكَ أَثْبَتَ الْجَلْدَ مَعَ الرَّجْمِ عَلَى الثَّيِّبَيْنِ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ : الْجَلْدُ بِالْكِتَابِ والسُّنَّة وَالرَّجْمُ بِالسُّنَّةِ ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ حَدِّ الزَّانِيَيْنِ الثَّيِّبَيْنِ ، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ رَفَعَ الْجَلْدَ عَنِ الثَّيِّبَيْنِ وَأَثْبَتَ عَلَيْهَا الرَّجْمَ ، فَأَقَرَّ بِأَنَّ الْجَلْدَ الَّذِي كَانَ وَاجِبًا عَلَى الثَّيِّبَيْنِ بِكِتَابِ اللَّهِ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ قَدْ رَفَعَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ ، فَصَارَ الْجَلْدُ عَنهُمَا مَنسُوخًا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، هَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ وَاضِحٌ غَيْرُ مُشْكِلٍ ، وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفوَا حَدِيثَ عُبَادَةَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي الْآيَةِ أَحَدَ قَوْلَيْنِ ، - كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا - مَن أَجَازَ مِنهُمْ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ جَعَلَ بَعْضَ الْآيَةِ مَنسُوخًا بِالسُّنَّةِ ، وَبَاقِيَهَا مُحْكَمٌ ، وَجَعَلَهَا الْفَرِيقُ الْآخَرُ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ ، فَقَالُوا : أَرَادَ بِقَوْلِهِ : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا الْبِكْرَيْنِ غَيْرَ الْمُحْصَنَتَيْنِ دُونَ الثَّيِّبَيْنِ الْمُحَصَنَيْنِ ، هَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَقَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِن أَهْلِ عَصْرِنَا وَقُرْبِهِ إِلَى إِيجَابِ الْعَمَلِ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ عَلَى وَجْهِهِ فَأَوْجَبُوا عَلَى الزَّانِيَيْنِ الْبِكْرَيْنِ جَلْدَ مِائَةً بِكِتَابِ اللَّهِ وَنَفْيَ سَنَةٍ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَوْجَبُوا عَلَى الزَّانِيَيْنِ الثَّيِّبَيْنِ الْجَلْدَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَالرَّجْمَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَقَالُوا : قد عَمِلَ بِذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَفْتَى بِهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَقَالُوا : لَيْسَ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى إِسْقَاطِ الْجَلْدِ عَنِ الثَّيِّبَيْنِ دَلِيلُ نَصٍّ يُوجِبُ رَفْعَ الْجَلْدِ عَنهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا ذِكْرٌ لِلْجَلْدِ بِوَاحِدَةٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ جَلَدَهُمَا وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْحَدِيثِ ، وَلَعَلَّهُمْ إِنَّمَا اختَصُروَا ذِكْرَهُ مِنَ الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوَا الْجَلْدَ ثَابِتًا عَلَى الزَّانِيَيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاسْتَغْنَوْا بِكِتَابِ اللَّهِ عَن ذِكْرِهِ فِي السُّنَّةِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا الرَّجْمَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ذِكْرٌ ؛ لِيَنْتَشِرَ ذِكْرُهْ فِي النَّاسِ وَيَشِيعَ فِي الْعَامَّةِ ؛ فَيَعْلَمُوا أَنَّهُ سُنَّةٌ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَا يُمْكِنُهُمْ إِنكَارُهُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أنْكَرَهُ نَاسٌ مِن أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ "(1/223)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أَلَا إِنَّ الرَّجْمَ حَدٌّ مِن حُدُودِ اللَّهِ فَلَا تُخْدَعُنَّ عَنهُ ، أَلَا إِنَّ آيَةَ ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ رَجَمَ ، وَرَجَمَ أَبُو بَكْرٍ ، وَرَجَمْنَا مِن بَعْدِهِمَا ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَكْتُبَ فِي نَاحِيَةِ : الْمُصْحَفِ شَهِدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجَمَ ، أَلَا إِنَّهُ سَيَأْتِي مِن بَعْدِكُمْ أَقْوَامٌ يُكَذِّبُونَ بِالرَّجْمِ وَبِالدَّجَّالِ ، وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ ، وَالشَّفَاعَةِ ، وَقَوْمٌ يُخْرَجُونَ مِنَ النَّارِ بَعْدَمَا امْتَحَشُوا "(حسن)
وعَنِ الشَّيْبَانِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَامِرًا ، يَقُولُ : جَلَدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ امْرَأَةً ، ثُمَّ رَجَمَهَا فَقَالَ : جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَرَجَمْتُهَا بِالسُّنَّةِ " ( صحيح لغيره)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ ، أَنَّ عَلِيًّا جَلَدَ شُرَاحَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ، وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَقَالَ : أَجْلِدُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَأَرْجُمُهَا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "( صحيح لغيره)
و قَالَ الشَّعْبِيَّ: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ جَلْدُ مِائَةٍ ، وَالرَّجْمُ الْبَتَّةَ ، فَقِيلَ لِلشَّعْبِيِّ : أَيُجْمَعَانِ عَلَيْهِمَا ؟ فَقَالَ : فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو الحَسَنٍ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي هَذِهِ الرَّحْبَةِ بِفُلَانٍ وَفُلَانَةَ ، جَلَدَهُمَا مِائَةً وَرَجَمَهُمَا "( صحيح لغيره)
وعَن عَلِيٍّ أَنَّ امْرَأَةً ، أَتَتْهُ فَقَالَتْ : إِنِّي زَنَيْتُ ، فَقَالَ : " لَعَلَّكِ أُوتِيتِ وَأَنْتِ نَائِمَةٌ فِي فِرَاشِكِ فَأُكْرِهْتِ ؟ " فَقَالَتْ : زَنَيْتُ طَائِعَةً غَيْرَ مُكْرَهَةٍ ، قَالَ : " لَعَلَّكِ غُصِبْتِ عَلَى نَفْسِكِ ؟ " قَالَتْ : مَا غُصِبْتُ ، فَحَبَسَهَا فَلَمَّا وَلَدَتْ ، وَشَبَّ ابْنُهَا جَلَدَهَا ، ثُمَّ أَمَرَ فَحُفِرَ لَهَا إِلَى مَنكِبِهَا فِي الرَّحْبَةِ ثُمَّ أُدْخِلَتْ فِيهَا ، ثُمَّ رَمَى وَرَمَيْنَا فَقَالَ : " جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - " (حسن)
وعَن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ : " يُجْلَدُ الرَّجُلُ إِذَا زَنَى وَلَمْ يُحْصِنْ ، ثُمَّ يُنْفَى وَيُجْلَدُ الَّذِي قَدْ أُحْصِنَ ثُمَّ يُرْجَمُ " (صحيح)
وعَن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ : " الْبِكْرَانِ يُجْلَدَانِ وَيُنْفَيَانِ وَالثَّيِّبَانِ يُجْلَدَانِ وَيُرْجَمَانِ " (حسن لغيره)(1/224)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَمِن ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فَصَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ "
عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ " يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ تَطُوُّعٍا فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَكْتُوبَةَ نَزَلَ فَيُصَلِّي مُسْتَقْبِلَ القبلة " (صحيح)
وعَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مُتَطَوِّعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ فِي السَّفَرِ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَكْتُوبَةَ نَزَلَ عَن دَابَّتِهِ ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ " (صحيح)
وعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ، يَقُولُ : رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ النَّوَافِلَ فِي كُلِّ جِهَةٍ وَلَكِنَّهُ يُخَفِّضُ السَّجْدَتَيْنِ مِنَ الرَّكْعَةِ وَيُومِئُ إِيمَاءً "(صحيح)
وعَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي تَطَوُّعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ فِي غَزْوَةِ أَنْمَارٍ "(صحيح)
وعَنِ الزُّهْرِيِّ ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، عَن أَبِيهِ ، قَالَ : " رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ النَّوَافِلَ فِي كُلِّ وُجْهَةٍ " (صحيح)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَبِّحُ وَهُوَ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، وَيُومِئُ بِرَأْسِهِ قِبَلَ أَيِّ وُجْهَةٍ تُوَجِّهُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ "(صحيح)
وعَنِ الزُّهْرِيِّ ، وَسَأَلْتُهُ ، عَن مُسَافِرٍ صَلَّى مُتَطَوِّعًا عَلَى ظَهْرِ دَابَّتِهِ وَوَجْهُهُ نَحْوَ الْمَشْرِقِ ، أَوِ الْمَغْرِبِ ؟ فَقَالَ : حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُسَبِّحُ وَهُوَ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ لَا يُبَالِي حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ وَيُومِئُ بِرَأْسِهِ إِيمَاءً ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ " (صحيح)(1/225)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، قَالَ : قَالَ سَالِمٌ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُسَافِرٌ ، وَلَا يُبَالِي حَيْثُ مَا كَانَ وَجْهُهُ ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ قَبِلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ " (صحيح)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي سُبْحَتَهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ ، قَالَ نَافِعٌ : وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ "(صحيح)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ ، وَيَقُولُ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ "(صحيح)
وعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ، قَالَ : رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ ، وَيَقُولُ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ "(صحيح)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : " رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى خَيْبَرَ "(صحيح)
وعَن أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ ، قَالَ : رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُصَلِّي عَلَى حِمَارِهِ مِن قِبَلِ الْمَشْرِقِ ، وَقُلْتُ : رَأَيْتُكَ تُصَلِّي لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ ، قَالَ : لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ يَعْنِي مَا فَعَلْتُهُ"(صحيح)
وعَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي عَلَى نَاقَتِهِ تَطَوُّعًا فِي السَّفَرِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ " (صحيح)
وعَن أَبِي مُوسَى ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " الصَّلَاةُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا " ، وَأَشَارَ أَبُو عَاصِمٍ عَن يَمِينِهِ ، وَعَن يَسَارِهِ ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ".(صحيح)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : فَقَالَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي أَجَازَتْ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ : نَسَخَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِسُنَّتِهِ فَرْضَ تَوَجُّهِ الْمُسَافِرِ بِوَجْهِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ إِذَا صَلَّى تَطَوُّعًا رَاكِبَا ، فَصَارَتِ الْآيَةُ مَنسُوخَةً عَنِ الْمُسَافِرِ الْمُصَلِّي رَاكِبَا تَطَوُّعًا مُحْكَمَةً مُسْتَعْمِلَةً فِي سَائِرِ الْمُصَلِّينَ ، وَأَبَى الْآخَرُونَ ذَلِكَ ، وَقَالُوا : بَلِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ بِأَسْرِهَا لَيْسَ مِنهَا مَنسُوخٌ غَيْرَ أَنَّهَا مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ ، فَأُرِيدَ بِهَا جَمِيعُ الْمُصَلِّينَ غَيْرَ الْمُسَافِرِ الْمُتَطَوِّعِ بِالصَّلَاةِ فِي حَالِ رُكُوبِهِ فَالتَّطَوُّعُ بِالصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ سُنَّةٌ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُبَيِّنَةٌ عَن خُصُوصِ(1/226)
الْآيَةِ وَلَيْسَتْ بِنَاسِخَةٍ لِشَيْءٍ مِنهَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَمِن ذَلِكَ قَوْلُهُ : إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فَقَالَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ : أَوْجَبَ اللَّهُ فِي الْآيَةِ غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِسُنَّتِهِ فَغَسَلَ قَدَمَيْهُ ، وَأَمَرَ بِذَلِكَ ، وَأَوْعَدَ عَلَى تَرْكِ غَسْلِهِمَا ، وَوَعَدَ الثَّوَابَ عَلَى غَسْلِهِمَا ، ثُمَّ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَأَمَرَ بِهِ ، فَنُسِخَ غَسْلُ الْقَدَمَيْنِ عَنهُمَا إِذَا كَانَا مُتَغَطِّيَيْنِ بِخُفَّيْنِ قَدْ لَبِسَهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ ، وَبَقِيَ فَرْضُ الْغُسْلِ عَلَيْهِمَا إِذَا كَانَتَا مَكْشُوفَتَيْنِ ، وَأَبَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى ذَلِكَ ، وَقَالَتْ : إِنَّمَا فَرَضَ اللَّهُ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ فِي الْآيَةِ إِذَا لَمْ يَكُونَا فِي خُفَّيْنِ قَدْ أُدْخِلَتَا فِيهِمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ ، وَإِيَّاهُمَا أَرَادَ بِفَرْضِ الْغُسْلِ خُصُوصًا لَا عُمُومًا ، فَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ سُنَّةٌ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُبَيِّنَةٌ عَلَى خُصُوصِ الْآيَةِ لَيْسَتْ بِنَاسِخَةٍ لِشَيْءٍ مِنهَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَقَدْ أَنْكَرَ طَوَائِفُ مِن أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ مِنَ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنَ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ خِلَافٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَمَن أَنْكَرَ ذَلِكَ لَزِمَهُ إِنْكَارُ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ السُّنَنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ نَذْكُرْ ، وَذَلِكَ خُرُوجٌ مِن جَمَاعَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَمِن ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ الْآيَةَ وَالَّتِي تَلِيهَا ، وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ الْآيَةَ ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَوْرِيثَ الْأَوْلَادِ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْآبَاءِ ، وَالْأُمَّهَاتِ مِنَ الْأَوْلَادِ ، وَالزَّوْجَيْنِ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ ، وَسَائِرِ مَن وَرِثَ مِنَ الْقَرَابَاتِ بَعْضِهِمْ مِن بَعْضٍ ذِكْرًا عَامًّا لَمْ يُخِصَّ بَعْضَ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ دُونَ بَعْضٍ ، وَلَا بَعْضَ الْأَزْوَاجِ دُونَ بَعْضٍ ، فَجَاءَ الْخَبَرُ الثَّابِتُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ ، وَلَا الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْكَافِرَ ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْفُتْيَا مِن عُلَمَاءِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ ، وَمِن أَهْلِ الْأَثَرِ وَالرَّأْيِ جَمِيعًا عَلَى الْقَوْلِ بِجُمْلَةِ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِلْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي ذَلِكَ "
وعَن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ ، وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ "(صحيح)(1/227)
وقال يُونُسُ: سَأَلْتُ ابْنَ شِهَابٍ : هَلْ يَتَوَارَثُ الْمُسْلِمُونَ وَالنَّصَارَى ؟ فقَالَ ابْنُ شِهَابٍ : " قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُمْ لَا يَتَوَارَثُونَ ، وَأَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ ، وَعُثْمَانُ " (صحيح)
وعَن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ ، وَلَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ " (صحيح)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : فَقَالَ الَّذِينَ أَجَازُوا نَسْخَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ : قَدْ نَطَقَ الْكِتَابُ بِتَوْرِيثِ الْأَوْلَادِ مِنَ الْآبَاءِ ، وَالْآبَاءِ مِنَ الْأَوْلَادِ ، وَالزَّوْجَيْنَ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ ، وَلَمْ يَخُصَّ مُسْلِمًا دُونَ كَافِرٍ ، فَنَسَخَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِسُنَّتِهِ تَوْرِيثَ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ ، وَالْكَافِرِ مِنَ الْمُسْلِمِ ، لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ تَوْرِيثُ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ ثَابِتًا بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُونَ ذَلِكَ ، وَقَالُوا : هَذَا مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِئْنَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَرِثُونَ الْكُفَّارَ وَأَنَّهُمْ يَرِثُهُمُ الْكُفَّارُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ ، بَلِ الْخَبَرُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ وَرِثَهُ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ وَلَمْ يَرِثْهُ عَلِيٌّ وَلَا جَعْفَرٌ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا ، وَكَانَ عَقِيلٌ ، وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ فَوَرِثَاهُ دُونَ عَلِيٍّ ، وَجَعْفَرٍ ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ فَلَمْ يَرِثَاهُ ، وَكَانَ مَوْتُ أَبِي طَالِبٍ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ ، وَآيَاتُ الْمَوَارِيثِ إِنَّمَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ "
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، أَخْبَرَهُ عَن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَتَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ ؟ قَالَ : " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِن رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ ؟ " ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلَا عَلِيٌّ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَكَانَ عَقِيلٌ ، وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ "(صحيح)
وعَن عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمْ يَرِثْ أَبَا طَالِبٍ وَإِنَّمَا وَرِثَهُ عَقِيلٌ ، وَطَالِبٌ ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ : مِن أَجْلِ ذَلِكَ تَرَكْنَا نَصِيبَنَا مِنَ الشِّعْبِ"( منقطع)
وعَن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، عَن رَسُولِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ " ، قَالَ : وَوَرَّثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَقِيلًا وَطَالِبًا مِن أَبِي طَالِبٍ وَلَمْ يُوَرِّثْ عَلِيًّا ، وَلَا جَعْفَرًا ، وَقَالَ : فَلِذَلِكَ تَرَكْنَا نَصِيبَنَا مِنَ الشِّعْبِ" (صحيح)(1/228)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : قَالَ هَؤُلَاءِ : فَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّوَارُثَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ لَمْ تَزَلْ مُنْقَطِعَةً عَلِمْنَا أَنَّ الْآيَاتِ الْمُنْزَلَاتِ فِي الْمَوَارِيثِ وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهَا عَامًّا فِي التِّلَاوَةِ ، إِنَّمَا هِيَ خَاصٌّ فِي الْمَعْنَى ، الْمُرَادُ بِهَا الْأَحْرَارُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ قَاتِلُ عَمْدٍ لِلْمَيِّتِ وَلَيْسَ فِيهَا مَنسُوخٌ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَاحْتَجَّ الَّذِينَ قَالُوا : إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْسَخْ شَيْئًا مِن أَحْكَامِ كِتَابِهِ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ قَالُوا : جَعَلَ اللَّهُ كِتَابَهُ الْمُهَيْمِنَ الْمُصَدَّقَ الشَّاهِدَ عَلَى مَا مَضَى مِن كُتُبِهِ وَالنَّاسِخَ لِبَعْضِ أَحْكَامِهَا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ خَاتَمَ الْكُتُبِ فَأَمَرَ أَنْ يُعْتَصَمَ بِحَبْلِهِ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ قَدْ نَسَخَ بَعْضَهُ وَبَدَّلَ حُكْمَهُ ؟ قَالُوا : وَأَخْبَرَنَا رَبُّنَا أَنَّهُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَنُورٌ ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنهُ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُ مُبَدَّلًا بِالسُّنَّةِ ، لَكَانَ بَعْضُهُ عَمَاءً لِمَن اتَّبَعَهُ ، وَكَانَ عَلَى الْخَلْقِ إِذَا أَقَرُّوا أَحْكَامَهُ أَنْ لَا يَحْكُمُوا بِهَا حَتَّى يَطْلُبُوا الْعِلْمَ فِي السُّنَّةِ ، هَلْ بَدَّلَتْ بَعْضَ أَحْكَامِهِ أَمْ لَمْ تُبَدِّلْهُ فَلَا يَكُونُ حِينَئِذٍ شِفَاءً لِلْقُلُوبِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، وَلَوْ كَانَتِ السُّنَّةُ قَدْ نَسَخَتْ بَعْضَ أَحْكَامِهِ لَكَانَ بَعْضُ تَحْرِيمِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ حَلَالًا ، وَبَعْضُ تَحْلِيلِهِ فِي كِتَابِهِ حَرَامًا وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ حُجَّةٌ بِالْقُرْآنِ حَتَّى يَعْلَمَ جَمِيعَ السُّنَّةِ ، وَحَتَّى يَعْلَمَ مَا بُدِّلَ مِنهُ بِالسُّنَّةِ ، قَالُوا : فَمَا أَحَلَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِسُنَّتِهِ ، وَلَا حَرَّمَ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ إِمَّا نَصًّا ، وَإِمَّا بِمَا أَوْجَبَهُ مِن طَاعَتِهِ ، وَكَانَ إِجْمَاعُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعِينَ عَلَى أَنَّ أُصُولَ الْعِلْمِ وَالْأَحْكَامِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَمِنهُ بَيِّنٌ مَفْهُومٌ فِي تِلَاوَتِهِ ، وَمِنهُ مُسْتَنْبَطٌ بِالْبَحْثِ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ عَنِ اللَّهِ ، وَلَوْ كَانَتِ السُّنَّةُ نَاسِخَةً لِبَعْضِ أَحْكَامِهِ لَمَا حَلَّ لِأَحَدٍ أَنْ يُشَبِّهَ حَادِثَةً بِأَصْلٍ مِن أُصُولِهِ حَتَّى يَعْلَمَ ذَلِكَ الْأَصْلَ نُسِخَ بِغَيْرِهِ ، أَمْ لَا ، فَمَا زَالُوا يُعَظِّمُونَ شَأْنَهُ وَيَأْمُرُونَ بَاتِّبَاعِهِ وَلَا يَأْمُرُونَ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنهُ لِغَيْرِهِ ، وَلَقَدْ رَأَى كَثِيرٌ مِنهُمْ أَنَّ مِصْدَاقَ كَثِيرٍ مِمَّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي كِتَابِ اللَّهِ يُؤَكِّدُونَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِلسُّنَّةِ ، وَأَنَّهَا لَا تُبَدِّلُ مَا فِيهِ ، وَلَوْ كَانَتْ تُبَدِّلُ مَا فِيهِ لَمْ يَكُنْ طَلَبُ مِصْدَاقِهَا فِيهِ أَوْلَى مِن أَنْ يُطْلَبَ مِصْدَاقُهُ فِيهَا ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَنَا رَبُّنَا أَنَّهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ جُمَلَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَبِّهِ ، وَلَمْ يَبْعَثْهُ لِيُبْطِلَ بَعْضَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ ، وَيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَهُ أَنْ يُبَدِّلَهُ وَيُحَوِّلَهُ بِقَوْلِهِ ، فَاللَّهُ يَنْسَخُ قَوْلًا مِنهُ بِقَوْلِهِ وَلَا(1/229)
يَنْسَخُ قَوْلَهُ بِقَوْلِ نَبِيِّهِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ فَرَائِضَهُ بِكَلَامِهِ وَأَجْمَلَ كَثِيرًا مِنهَا وَأَمَرَ نَبِيَّهُ بِتَفْسِيرِ مَا أَجْمَلَ مِن فَرَائِضِهِ ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ قَدْ جَعَلَهُ الْمُبَيِّنَ لَهُمْ ذَلِكَ عَن رَبِّهِ ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ أَنْ يُبَدِّلَ حُكْمَ كِتَابِهِ الَّذِي جَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ وَقَطَعَ بِهِ عُذْرَهُمْ ، وَلَوْ كَانَ بَدَّلَ بَعْضَ أَحْكَامِهِ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِ لَتَحَيَّرَ الْعِبَادُ فِيهِ ، أَمَّا عَالِمُهُمْ وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ عَامَّةَ السُّنَنِ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثٌ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ رَوَاهُ بَعْضُ الثِّقَاتِ لَمْ يَسْمَعْهُ قَدْ بَدَّلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِهِ بَعْضَ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ فَلَا يَقُومُ عَلَيْهِ حُجَّةٌ فِي حُكْمٍ مِن أَحْكَامِ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي الَّذِي قَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ كُلِّهَا ، وَأَمَّا الْجَاهِلُ فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ نَسَخَتْ بَعْضَ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لَمْ يُقِرَّ اللَّهُ فِيهِ حُكْمًا إِلَّا لَمْ يَأْمَن أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ بَدَّلَهُ وَنَسَخَهُ بِحَدِيثٍ قَدْ وَرِثَهُ الْعُلَمَاءُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ فَتَسْقُطُ حُجَّةُ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ عَن عِبَادِهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَاحْتَجَّ الَّذِينَ رَأَوْا أَنَّ اللَّهَ قَدْ نَسَخَ بَعْضَ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ فَقَالُوا : الْقُرْآنُ والسُّنَّة أَمْرَانِ فَرَضَ اللَّهُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ بِهِمَا عَلَى خَلْقِهِ ، وَقَرَنَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ ، فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا ، فَمَحَلُّهُمَا فِي التَّصْدِيقِ بِهِمَا وَاحِدٌ كِلَاهُمَا مِن عِنْدِ اللَّهِ ، قَالَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَحْكِي عَن خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ دَعَا رَبَّهُ لِذُرِّيَّتِهِ فَقَالَ : وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَقَالَ : كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَقَالَ : لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِن أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَقَالَ : وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ، وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمْ وَقَالَ : وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْكِتَابَ وَهُوَ الْقُرْآنُ ، وَذَكَرَ الْحِكْمَةَ ، فَسَمِعْتُ مَن أَرْضَى مِن أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ يَقُولُ : الْحِكْمَةُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهَذَا يُشْبِهُ مَا قَالَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْقُرْآنَ وَأَتْبَعَهُ الْحِكْمَةَ وَذَكَرَ مَنَّهُ عَلَى خَلْقِهِ بِتَعْلِيمِهِمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ، فَلَمْ يَجُزْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، الْحِكْمَةُ هَا هُنَا إِلَّا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَذَلِكَ أَنَّهَا(1/230)
مَقْرُونَةٌ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ طَاعَةَ رَسُولِهِ وَحَتَّمَ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ أَمْرِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِقَوْلٍ : هُوَ فَرْضٌ إِلَّا لِكِتَابِ اللَّهِ ، ثُمَّ سُنَّةُ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبِمَا وَصَفْنَا مِن أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْإِيمَانَ بِرَسُولِهِ مَقْرُونَا بِالْإِيمَانِ بِهِ فَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُبَيِّنَةٌ عَنِ اللَّهِ مَعْنَى مَا أَرَادَ دَلِيلَهُ عَلَى خَاصِّهِ وَعَامِّهِ ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ هَذَا لِأَحَدٍ مِن خَلْقِهِ غَيْرَ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - "
وعَن قَتَادَةَ ، : وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ قَالَ : السُّنَّةُ ".(صحيح)
وعَن قَتَادَةَ ، : وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ قَالَ : السُّنَّةُ "(صحيح)
وقال رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ ، فِي قَوْلِهِ : وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ قَالَ : ثنا سَعِيدٌ عَن قَتَادَةَ قَالَ : أَيِ السُّنَّةُ يَمْتَنُّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ" (صحيح)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : فَقَالَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ بَيَّنَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُعَلِّمَ النَّاسَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ، فَالْحِكْمَةُ غَيْرُ الْكِتَابِ ، وَهِيَ مَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ ، وَكُلٌّ فَرْضٌ لَا افْتِرَاقَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ مَجِيئَهُمَا وَاحِدٌ وَكُلٌّ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِتَعْلِيمِهِ الْخَلْقَ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِم الْأَخْذَ بِالسُّنَّةِ وَالْعَمَلَ بِهَا كَمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْعَمَلَ بِالْكِتَابِ ، فَكَانَ مَعْنَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنهُمَا مَعْنَى الْآخَرِ ، وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ طَاعَةَ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَهَا مُفْتَرَضَةً عَلَى خَلْقِهِ كَافْتِرَاضِ طَاعَتِهِ عَلَيْهِمْ لَا فُرْقَانَ بَيْنَهُمَا فِي الْوُجُوبِ فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يُنْسَخَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا نَسَخَ الْقُرْآنَ بِالْقُرْآنِ ، فَإِنَّمَا نَسَخَ مَا أَمَرَ بِهِ بِأَمْرِهِ ، وَكَذَلِكَ إِذَا نَسَخَ حُكْمًا فِي الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ فَإِنَّمَا يَنْسَخُ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ بِأَمْرِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَمَن فَرَّقَ بَيْنَ ذَلِكَ فَقَدْ قَصُرُ عِلْمُهُ فَإِنْ كَانَ إِنَّمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ تَعْظِيمُ الْقُرْآنِ أَنْ يُنْسَخَ بَعْضُ أَحْكَامِهِ بِالسُّنَّةِ ، فَالْقُرْآنُ عَظِيمٌ أَعْظَمُ مِن كُلِّ شَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ يَنْسَخُ اللَّهُ كَلَامَهُ فَيُبْطِلُهُ جَلَّ عَن ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَنْسَخُ الْمَأْمُورَ بِهِ كَلَامُهُ بِمَأْمُورٍ بِهِ فِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَالْمَأْمُورُ بِهِمَا مُتَسَاوِيَانِ ؛ لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ ، وَالْقُرْآنُ أَعْظَمُ مِنَ السُّنَّةِ وَلَوْ جَازَ لِمَن عَظَّمَ الْقُرْآنَ - وَهُوَ أَهْلٌ أَنْ يُعَظَّمَ - ، أَنْ يُنْكِرَ أَنْ يَنْسَخَ اللَّهُ حُكْمًا فِيهِ بِحُكْمٍ فِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَجَازَ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِالسُّنَّةِ ، وَيُوجِبُ أَنَّهُ(1/231)
لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَرْجَمَ الْقُرْآنُ إِلَّا بِقُرْآنٍ مُنَزَّلٍ مِثْلِهِ ، فَإِنْ جَازَ هَذَا جَازَ هَذَا ، فَفِي إِقْرَارِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَرْجَمَ الْقُرْآنَ وَفَسَّرَهُ بِسُنَّتِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ سَاوَوْا بَيْنَ الْقُرْآنِ والسُّنَّة فِي هَذَا الْمَعْنَى ، بَلْ جَعَلُوا السُّنَّةَ أَعْلَى مِنهُ وَأَرْفَعَ فِي قِيَاسِهِمْ ، إِذْ كَانَ الْقُرْآنُ لَا يُعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالسُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَحْتَاجُ أَنْ تُفَسَّرَ بِالْقُرْآنِ ، وَاحْتَاجَ الْعِبَادُ فِي الْقُرْآنِ إِلَى أَنْ فَسَّرَهُ لَهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِسُنَّتِهِ فَقَدْ أَقَرُّوا بِمِثْلِ مَا أَنْكَرُوا ؛ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ تَنْسَخُهُ السُّنَّةُ لَكَانَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ إِذْ كَانَ غَيْرُهُ يَنْسَخُهُ ، وَأَنَّ اللَّهَ عَظَّمَ شَأْنَهُ فَقَالَ : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَجَعَلَهُ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ فَأَنْكَرُوا إِذْ عَظَّمَهُ اللَّهُ أَنْ تَنْسَخَهُ سُنَّةُ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ أَقَرُّوا أَنَّ عَامَّةَ أَحْكَامِ اللَّهِ فِيهِ وَأَخْبَارَهُ وَمَدْحَهُ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالسُّنَّةِ ، قَالُوا : وَأَمَّا قَوْلُ مَن خَالَفَنَا : إِنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُنْسَخَ الْقُرْآنُ بِالسُّنَّةِ لَجَازَ أَنْ يُنْسَخَ كُلُّ أَحْكَامِهِ فَلَا يَكُونُ لِلَّهِ فِيهِ حُكْمٌ يَلْزَمُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَعْظَمُ مِن ذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ جُمَلَ فَرَائِضِ اللَّهِ إِلَّا بِتَفْسِيرِ السُّنَّةِ ، فَكَانَ جَائِزًا أَنْ يُجْمِلَ اللَّهُ كُلَّ فَرْضٍ فِيهِ فَلَا يُنْقِصُ مِنهُ شَيْئًا حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ الْمُفَسِّرَ لِكُلِّ فَرْضٍ فِيهِ ، فَلَا يَكُونُ لِلَّهِ فِيهِ حُكْمٌ يُعْرَفُ إِلَّا بِالسُّنَّةِ ، فَقَدْ أَقَرُّوا بِمِثْلِ مَا قَاسُوا عَلَى مَن خَالَفَهُمْ ، وَزَادُوا مَعْنًى هُوَ أَكْثَرُ ، قَالُوا : لِأَنَّا قُلْنَا إِنَّمَا يَنْسَخُ اللَّهُ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْضَ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَلَا تُنْسَخُ أَخْبَارُهُ وَلَا مَدْحُهُ ، وَأَقَرُّوا أَنَّ كَثِيرًا مِن أَخْبَارِ اللَّهِ وَمَدْحِهِ فَسَّرَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِسُنَّتِهِ ، فَهَذَا أَكْثَرُ فِي الْمَعْنَى مِمَّا قُلْنَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَزَعَمَ أَبُو ثَوْرٍ أَنَّ الْقَائِلَ إِنَّ السُّنَّةَ تَنْسَخُ الْكِتَابَ مُغَفَّلٌ ، قَالَ : وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ، وَيُحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ قَالَ : وَهَذَا افْتِرَاءٌ ، فَقَالَ : بَعْضُ مَن يُخَالِفُهُ أَعْظَمُ غَفْلَةً مِن هَذَا وَأَشَدُّ افْتِرَاءً مَن حَكَى عَن مُخَالِفِهِ مَا لَا يَقُولُهُ وَشَنَّعَ بِهِ عَلَيْهِ ، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ : إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ، وَلَا يُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ، بَلِ الْقَوْلُ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ يُحِلُّ إِلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَلَا يُحَرِّمُ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : إِلَّا أَنَّ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ مِنَ اللَّهِ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ تَحْرِيمَ شَيْءٍ فِي كِتَابِهِ فُيُسَمِّيَهُ قُرْآنًا كَقَوْلِهِ : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أَشْبَهُ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ حَرَّمَهُ فِي كِتَابِهِ ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِ وَحْيًا عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ ، أَوْ تَحْلِيلِهِ ، أَوِ افْتِرَاضِهِ فَيُسَمِّيهُ حِكْمَةً ، وَلَا(1/232)
يُسَمِّيهُ قُرْآنًا ، وَكِلَاهُمَا مِن عِنْدِ اللَّهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ : وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَقَالَ : وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ، فَتَأَوَّلَتِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْحِكْمَةَ هَا هُنَا هِيَ السُّنَّةُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ الْكِتَابَ ، ثُمَّ قَالَ : وَالْحِكْمَةِ فَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِالْوَاوِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ غَيْرُ الْكِتَابِ ، وَهِيَ مَا سَنَّ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ إِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ : وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْكِتَابَ وَهَذَا يَبْعُدُ ، فَيُقَالُ لِمَن قَالَ بِقَوْلِ أَبِي ثَوْرٍ مَا أَنْكَرْتَ أَنْ يُحَوَّلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَمَّا فُرِضَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ بِالْكِتَابِ فَيَأْمُرُهُ أَنْ يَعْمَلَ بِغَيْرِ ذَلِكَ بِوَحْيٍ يُوحِيهُ إِلَيْهِ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ مِن غَيْرِ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ قُرْآنًا وَلَكِنْ يُنَزِّلُ عَلَيْهِ حِكْمَةً يُسَمِّيهَا سُنَّةً ، وَهَذَا مَا لَا يُنْكِرُهُ إِلَّا ضَعِيفُ الرَّأْيِ " .
وعَن حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ ، قَالَ : كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالسُّنَّةِ ، كَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ فُيُعَلِّمُهُ إِيَّاهَا كَمَا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ "(صحيح مرسل)
وعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ : عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِن حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِن حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ ، أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ " . (صحيح)
وعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمَا يَعْدِلُهُ وَيُوشِكُ بِشَبْعَانَ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ هَذَا الْكِتَابُ ، فَمَا كَانَ فِيهِ مِن حَلَالٍ أَحْلَلْنَاهُ وَمَا كَانَ فِيهِ مِن حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ ، وَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ أَلَا لَا يَحِلُّ ذُو نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ ، وَلَا الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ ، وَلَا لُقَطَةٌ مِن مَالِ مُعَاهَدٍ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنهَا " يَعْنِي صَاحِبَهَا "(صحيح)
وعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ ، قَالَ : نَزَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ وَمَعَهُ مَن مَعَهُ مِن أَصْحَابِهِ فَقَالَ : " يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ ارْكَبْ فَرَسًا فَنَادِ " إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِمُؤْمِنٍ ، وَأَنِ اجْتَمِعُوا إِلَى الصَّلَاةِ " ، فَاجْتَمَعُوا فَصَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَامَ فَقَالَ : " أَيَحْسَبُ امْرُؤٌ قَدْ شَبِعَ حَتَّى بَطِنَ ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلَّا مَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ ، أَلَا وَإِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ حَدَّثْتُ(1/233)
، وَأَمَرْتُ ، وَوَعَظْتُ بِأَشْيَاءَ إِنَّهَا لَمِثْلُ الْقُرْآنِ أَوْ أَكْثَرُ ، وَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكُمْ مِنَ السِّبَاعِ كُلُّ ذِي نَابٍ ، وَلَا الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ الْمُعَاهَدِينَ إِلَّا بِإِذْنٍ ، وَلَا أَكْلَ أَمْوَالِهِمْ ، وَلَا ضَرْبَ نِسَائِهِمْ إِذَا أَعْطَوْكُمُ الَّذِي عَلَيْهِمْ إِلَّا مَا طَابُوا بِهِ نَفْسًا " (1)
وقال الإمام الشافعي رحمه الله :" باب : ما نزل عاماًّ دلت السنة خاصة على أنه يراد به الخاص .
قال الله - جل ثناؤه - : " وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ( 11 ) " [النساء ] وقال : " وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِن اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ( 12 ) " [ النساء ]
فأبان أن للوالدين والأزواج مما سمى في الحالات وكان عامَّ المخرج فدلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنه إنما أريد به بعض الوالدين والأزواج دون بعض وذلك أن يكون دين الوالدين والمولود والزوجين واحداً ولا يكون الوارث منهما قاتلاً ولا مملوكاً
وقال : " مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ " فأبان النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الوصايا مقتَصَرٌ بها على الثلث لا يُتَعدى ولأهل الميراث الثلثان وأبان أن الدَّين قبل الوصايا والميراث وأن لا وصية ولا ميراث حتى يستوفي أهل الدَّين دينهم.
ولولا دلالة السنَّة ثم إجماعُ الناس لم يكن ميراثٌ إلا بعد وصية أو دين ولم تعد الوصية أن تكون مُبَدَّاةً على الدَّين أو تكون والدَّين سواء، وقال الله : " إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ( 6 ) " [ المائدة ]
__________
(1) - السُّنَّةُ لِلْمَرْوَزِيِّ (211-346)(1/234)
فقصد - جل ثناؤه - قصْدَ القدمين بالغسل كما قصد الوجه واليدين فكان ظاهر هذه الآية أنه لا يجزئ في القدمين إلا ما يجزئ في الوجه من الغسل أو الرأس من المسح وكان يحتمل أن يكون أريد بغسل القدمين أو مسحهما بعضُ المتوضئين دون بعض.
فلما مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين وأمر به من أدخل رجليه في الخفين وهو كامل الطهارة دلت سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنه إنما أريد بغسل القدمين أو مسحهما بعضُ المتوضئين دون بعض
وقال الله تبارك وتعالى : " وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِن اللَّهِ ( 38 ) " [ المائدة ]
وسنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن : " لاَ قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلاَ كَثَرٍ " وأن لا يقطع إلا من بلغت سرقته ربع دينار فصاعداً .
وقال الله : " الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ " [ النور ]
وقال في الإماء : " فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِن الْعَذَابِ (25) " [ النساء ]
فدلَّ القُرَآن على أنه إنما أريد بجلد المائة : الأحرارُ دون الإماء . فلما رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثيب من الزناة ولم يجلده : دلَّت سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن المراد بجلد المائة من الزناة : الحُرَّان البِكْرَان، وعلى أن المراد بالقطع في السرقة : من سرَق من حِرْز وبلغت سرقته ربع دينار دون غيرهما ممن لزمه اسم سرقة وزنا وقال الله : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِن شَيْءٍ [ ص 68 ] فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ( 41 ) " [ الأنفال ]
فلما أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني هاشم وبني المطلب سهم ذي القربى : دلَّت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ذا القربى الذين جعل الله لهم سهماً من الخمس : بنو هاشم وبنو المطلب دون غيرهم.
وكل قريش ذو قرابة وبنو عبد شمس مساويةُ بني المطلب في القرابة هم مَعًا بنو أب وأم وإن انفرد بعض بني المطلب بولادة من بني هاشم دونَهم.(1/235)
فلما لم يكن السهم لمن انفرد بالولادة من بني المطلب دون من لم تصبه ولادة من بني هاشم منهم : دلَّ ذلك على أنهم إنما أعطُوا خاصة دون غيرهم بقرابة جذم النسب مع كَيْنُونَتِهِمْ معًا مجتمعين في نصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشِّعْب وقبله وبعده وما أراد الله - جل ثناؤه - بهم خاصًّا .
ولقد وَلَدَتْ بنو هاشم في قريش فما أعطي منهم أحد بولادتهم من الخمس شيئاً وبنو نوفل مُسَاوِيَتُهُمْ في جِذْمِ النسب وإن انفردوا بأنهم بنوا أم دونهم.
قال الله : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ( 41 ) " [الأنفال ]
فلما أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلَبَ القاتلَ في الإقبال : دلَّت سنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن الغنيمة المَخْمُوسَة في كتاب الله غيرُ السلب، إذْ كان السلب مَغْنُوماً في الإقبال دون الأسلاب المأخوذة في غير الإقبال، وأن الأسلاب المأخوذة في غير الإقبال غنيمةٌ تُخمس مع ما سواها من الغنيمة بالسنَّة .
ولولا الاستدلال بالسنَّة وحُكْمُنا بالظاهر: قطعنا من لزمه اسمُ سرقة وضربنا مائةً كلَّ مَن زَنَى حُراًّ ثيباً وأعطينا سهم ذي القربى كل من بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - قرابة ثم خلص ذلك إلى طوائف من العرب ،لأن له فيهم وَشَايِجَ أرحام وَخَمَسْنا السَّلَب لأنه من المَغْنم مع ما سواه من الغنيمة " (1) .
وقال أيضاً :" بَابُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : فَخَالَفَنَا بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ، فَجَرَّدَ خِلَافَ حَدِيثِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ، وَخَالَفَ بَعْضٌ مَعْنَى الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَقَدْ كَتَبْتُ عَلَيْهِ فِيهَا حُجَجًا اخْتَصَرْتُ فِي هَذَا الْكِتَابِ بَعْضَهَا ، فَكَانَ مِمَّا رُدَّ بِهِ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ أَنْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : شَهِيدَيْنِ مِن رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ، فَقُلْتُ لَهُ : لَسْتُ أَعْلَمُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَحْرِيمَ أَنْ يَجُوزَ أَقَلُّ مِن شَاهِدَيْنِ بِحَالٍ ، قَالَ : فَإِنْ قُلْتَ : فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ لَا يَجُوزَ أَقَلُّ مِن شَاهِدَيْنِ ، قُلْتُ : فَقُلْهُ ، قَالَ : فَقَدْ قُلْتُهُ ، قُلْتُ : فَمَنِ الشَّاهِدَانِ اللَّذَانِ أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهِمَا ؟ قَالَ : عَدْلَانِ حُرَّانِ مُسْلِمَانِ
__________
(1) - الرسالة للشافعي - (ج 1 / ص 25)(1/236)
، فَقُلْتُ : فَلِمَ أَجَزْتَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَقُلْتُ : لِمَ أَجَزْتَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ وَحْدَهَا ؟ قَالَ : لِأَنَّ عَلِيًّا أَجَازَهَا ، قُلْتُ : فَخِلَافٌ هِيَ لِلْقُرْآنِ ؟ قَالَ : لَا ، قُلْتُ : فَقَدْ زَعَمْتَ أَنَّ مَن حَكَمَ بِأَقَلَّ مِن شَاهِدَيْنِ خَالَفَ الْقُرْآنَ ، وَقُلْتُ لَهُ : يَجُوزُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ أَنْ يُخَالِفَ الْقُرْآنَ ؟ قَالَ : فَإِنْ قُلْتُهُ ، فَيُقَالُ لَكَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ إِلَى : فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ، وَقَالَ : ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ، فَزَعَمْتَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا خَلَا بِالْمَرْأَةِ ، وَأَغْلَقْ بَابًا ، وَأَرْخَى سِتْرًا ، أَوْ خَلَا بِهَا فِي صَحْرَاءَ وَهُمَا يَتَصَادَقَانِ بِأَنْ لَمْ يَمَسَّهَا ، كَانَ لَهَا الْمَهْرُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، فَخَالَفْتَ الْقُرْآنَ ، قَالَ : لَا ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مَا قُلْتَ ، وَإِذَا قَالَا : لَمْ نَجْعَلْهُ لِلْقُرْآنِ خِلَافًا ، قُلْتُ : فَمَا رُوِيَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمُبَيِّنِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ، أَلَمْ تَقُولُوا هَذَا فِيهِ ، وَهُوَ أَبْعَدُ مِن أَنْ يَكُونَ خِلَافًا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ مِن هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَذَكَرَ لَهُ غَيْرَهُمَا ؟ وَقُلْتُ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : شَاهِدَيْنِ ، وَشَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا تَتِمُّ بِهِ الشَّهَادَةُ حَتَّى لَا يَكُونَ عَلَى مَن أَقَامَ الشَّاهِدَيْنِ يَمِينٌ ، لَا أَنَّهُ حَرَّمَ أَنْ يُحْكَمَ بِأَقَلَّ مِنهُ ، وَمَن جَاءَ بِشَاهِدٍ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِشَيْءٍ حَتَّى يَحْلِفَ مَعَهُ ، فَهُوَ حُكْمٌ غَيْرُ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدَيْنِ ، كَمَا يَكُونُ أَنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ الْحَقَّ فَيَنْكُلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْيَمِينِ ، فَيَلْزَمُهُ عِنْدَكَ مَا نَكَلَ عَنهُ ، وَعِنْدَنَا إِذَا حَلَفَ الْمُدَّعِي فَهُوَ حُكْمٌ غَيْرُ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَشَاهِدَيْنِ ، قَالَ : فَإِنَّا نَدْخُلُ عَلَيْكُمْ فِيهَا وَفِي الْقَسَامَةِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي " . قُلْتُ : فَهَذَا الْقَوْلُ خَاصٌّ أَوْ عَامٌّ ؟ قَالَ : بَلْ عَامٌّ ، قُلْتُ : فَأَنْتَ إِذًا أَشَدُّ النَّاسِ لَهُ خِلَافًا ، قَالَ : وَأَيْنَ ؟ قُلْتُ : أَنْتَ تَزْعُمُ لَوْ أَنَّ قَتِيلًا وُجِدَ فِي مَحِلَّةٍ أَحْلَفْتَ أَهْلَهَا خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَغَرَّمْتَهُمُ الدِّيَةَ ، وَأَعْطَيْتَ وَلِيَّ الدَّمِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ، وَقَدْ زَعَمْتَ أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي " عَامٌّ ، فَلَا يُعْطَى أَحَدٌ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَأَحْلَفْتَ أَهْلَ الْمَحِلَّةِ وَلَمْ تُبَرِّئْهُمْ ، وَقَدْ زَعَمْتَ أَنَّ فِيَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " ، أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا حَلَفَ بَرِئَ مِمَّا ادُّعِيَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ قُلْتَ هَذَا بِأَنَّ عُمَرَ قَضَى بِهِ ، قُلْتُ : فَمَنِ احْتَجَّ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الثَّابِتِ عَنهُ أَوْلَى بِالْحُجَّةِ مِمَّنِ احْتَجَّ بِقَضَاءِ غَيْرِهِ ، فَإِنْ قَالَ : بَلْ مَنِ احْتَجَّ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قُلْتُ : فَقَدِ احْتَجَجْتَ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ(1/237)
- صلى الله عليه وسلم - فَزَعَمْتَ أَنَّ قَوْلَهُ : " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " عَامٌّ ، قَالَ : مَا هُوَ بِعَامٍّ ، قُلْنَا : فَلِمَ امْتَنَعْتَ مِن أَنْ تَقُولَ بِمَا إِذَا كَشَفْتَ عَنهُ أُعْطِيتَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَيْكَ أَنْ تَقُولَ بِهِ ، وَقُلْتَ بِمَا إِذَا كَشَفْتَ عَنهُ وَوُجِدَ عَلَيْكَ خِلَافُهُ ؟ قَالَ : فَقَدْ جَعَلْتُمُ الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ تَامَّةً فِي شَيْءٍ نَاقِصَةً غَيْرَهُ ، وَكَذَلِكَ جَعَلْتُمُ الشَّاهِدَيْنِ تَامَّيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الزِّنَا ، وَجَعَلْتُمْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ تَامَّيْنِ فِي الْمَالِ نَاقِصَيْنِ فِي الْحُدُودِ ، وَجَعَلْتُمْ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ تَامَّةً بَيْنَهُمْ نَاقِصَةً بَيْنَ غَيْرِهِمْ ، وَشَهَادَةَ الْمَرْأَةِ تَامَّةً فِي عُيُوبِ النِّسَاءِ نَاقِصَةً فِي غَيْرِهَا ، قَالَ : وَاحْتَجَّ فِي الْقَسَامَةِ بِأَنْ قَالَ : أَعْطَيْتَهُمْ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ، قُلْتُ : فَكَذَلِكَ أَعْطَيْتَ فِي قَسَامَتِكَ ، وَاحْتَجَّ بِأَنْ قَالَ : أَحْلَفْتَهُمْ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُونَ ، قُلْتُ : فَقَدْ يَعْلَمُونَ بِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ مِمَن يَصْدُقُونَ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، وَإِقْرَارُ الْقَاتِلِ عِنْدَهُمْ بِلَا بَيِّنَةٍ ، وَلَا يَحْكُمُ بِادِّعَائِهِمْ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ وَغَيْرُ ذَلِكَ ، قَالَ : الْعِلْمُ مَا رَأَوْا بِأَعْيُنِهِمْ ، أَوْ سَمِعُوا بِآذَانِهِمْ ، قُلْتُ : وَلَا عِلْمَ ثَالِثَ ؟ قَالَ : لَا ، قُلْتُ : فَإِذَا اشْتَرَى ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً عَبْدًا وُلِدَ بِالْمَشْرِقِ مُنْذُ خَمْسِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ ، ثُمَّ بَاعَهُ ، فَادَّعَى الَّذِي ابْتَاعَهُ أَنَّهُ كَانَ آبِقًا ، فَكَيْفَ تُحَلِّفُهُ ؟ قَالَ : الْبَتَّةَ ، قَالَ : يَقُولُ لَكَ : تَظْلِمُنِي ، فَإِنَّ هَذَا وُلِدَ قَبْلِي ، وَبِبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِي ، وَتُحَلِّفُنِي عَلَى الْبَتَّةِ ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَا أُحِيطُ بِأَنْ لَمْ يَأْبَقْ قَطُّ عِلْمًا ، قَالَ : يُسْأَلُ ، قُلْتُ : يَقُولُ لَكَ : فَأَنْتَ تُحَلِّفُنِي عَلَى مَا تَعْلَمُ أَنِّي لَا أَبَرُّ فِيهِ ، قَالَ : وَإِذَا سَأَلْتَ وِسْعَكَ أَنْ تَحْلِفَ ، قُلْتُ : أَفَرَجُلٌ قُتِلَ أَبُوهُ فَغُبِّيَ مِن سَاعَتِهِ ، فَسَأَلَ أَوْلَى أَنْ يُعْلَمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ بَعْضُ مَن حَضَرَهُ : بَلْ مَن قُتِلَ أَبُوهُ ، قُلْتُ : فَقَدْ عِبْتَ يَمِينَهُ عَلَى الْقَسَامَةِ ، وَنَحْنُ لَا نَأْمُرُهُ أَنْ يَحْلِفَ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ ، وَالْعِلْمُ يُمَكِّنُهُ ، وَالْيَمِينُ عَلَى الْقَسَامَةِ سُنَّةٌ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَقُلْتَ بِرَأْيِكَ : يَحْلِفُ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي وَصَفْتَ ، قَالَ : فَقَدْ خَالَفَ حَدِيثَكُمُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ بُجَيْدٍ ، قُلْتُ : أَفَأَخَذْتَ بِحَدِيثِ سَعِيدٍ وَابْنِ بُجَيْدٍ ، فَتَقُولُ : اخْتَلَفَتْ أَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخَذْتُ بِأَحَدِهَا ؟ قَالَ : لَا ، قُلْتُ : فَقَدْ خَالَفْتَ كُلَّ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْقَسَامَةِ ، قَالَ : لَا ، قُلْتُ : فَلِمَ لَمْ تَأْخُذْ بِحَدِيثِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ ؟ قَالَ : هُوَ مُنْقَطِعٌ ، وَالْمُتَّصِلُ أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ ، وَالْأَنْصَارِيُّونَ أَعْلَمُ بِحَدِيثِ صَاحِبِهِمْ مِن غَيْرِهِمْ ، قَالَ : فَكَيْفَ لَمْ تَأْخُذْ بِحَدِيثِ ابْنِ بُجَيْدٍ ؟ قُلْتُ : لَا يَثْبُتُ ثُبُوتَ(1/238)
حَدِيثِ سَهْلٍ ، بِهَذَا صِرْنَا إِلَى حَدِيثِ سَهْلٍ دُونَهُ ، قَالَ : فَإِنَّ صَاحِبَكُمْ قَالَ : لَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ إِلَّا بِلَوْثٍ مِن بَيِّنَةٍ ، أَوْ دَعْوَى مِن مَيِّتٍ ، ثُمَّ وَصَفَ اللَّوْثَ بِغَيْرِ مَا وَصَفْتَ ، قُلْتُ : قَدْ رَأَيْتُنَا تَرَكْنَاهُ عَلَى أَصْحَابِنَا ، وَصِرْنَا إِلَى أَنْ نَقْضِيَ فِيهِ بِمِثْلِ الْمَعْنَى الَّذِي قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، لَا بِشَيْءٍ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ ، قَالَ : وَأَعْطَيْتُمُ بِالْقَسَامَةِ فِي النَّفْسِ ، وَلَمْ تُعْطُوا بِهَا فِي الْجِرَاحِ ، قُلْتُ : أَعْطَيْنَا بِهَا حَيْثُ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : الْجِرَاحُ مُخَالِفَةٌ لِلنَّفْسِ ، قُلْتُ : لِأَنَّ الْمَجْرُوحَ قَدْ يَتَبَيَّنُ مِن جُرْحِهِ ، وَيُدِّلُ عَلَى مَن عَمِلَ ذَلِكَ ، وَلَا يَتَبَيَّنُ الْمَيِّتُ ذَلِكَ ، قَالَ : نَعَمْ ، قُلْنَا : فَبِهَذَا لَمْ نُعْطِ بِهَا فِي الْجِرَاحِ كَمَا أَعْطَيْنَا بِهَا فِي النَّفْسِ ، وَالْقَضِيَّةُ الَّتِي خَالَفُوا بِهَا : " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " ، أَنَّهُمْ أَحْلَفُوا أَهْلَ الْمَحِلَّةِ وَلَمْ يُبْرِئُوهُمْ ، وَإِنَّمَا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْيَمِينَ مَوْضِعَ بَرَاءَةٍ ، وَقَدْ كَتَبْنَا الْحُجَّةَ فِي هَذَا مَعَ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَتَبْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ ، وَمَا رَأَيْنَاهُمُ ادَّعَوَا الْحُجَّةَ فِي شَيْءٍ إِلَّا تَرَكُوهُ ، وَلَا عَابُوا شَيْئًا إِلَّا دَخَلُوا فِي مِثْلِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنهُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِي اللهُ عَنهُ : وَمِن كِتَابِ عُمَرَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ ، عَن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بُجَيْدِ بْنِ قِبْطِيٍّ ، أَحَدِ بَنِي حَارِثَةَ ، قَالَ مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ إِبْرَاهِيمَ : وَايْمُ اللَّهِ ، مَا كَانَ سَهْلٌ بِأَكْثَرَ عِلْمًا مِنهُ ، وَلَكِنَّهُ كَانَ أَسَنَّ مِنهُ ، قَالَ : وَاللَّهِ مَا هَكَذَا كَانَ الشَّأْنُ ، وَلَكِنَّ سَهْلًا أَوْهَمَ ، مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : احْلِفُوا عَلَى مَا لَا عَلِمَ لَهُمْ بِهِ ، وَلَكِنَّهُ كَتَبَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ حِينَ كَلَّمَتْهُ الْأَنْصَارُ : أَنَّهُ وُجِدَ قَتِيلٌ بَيْنَ أَبْيَاتِكُمْ فَدُوهُ ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَتَلُوهُ ، وَلَا يَعْلَمُونَ لَهُ قَاتِلًا ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِن عِنْدِهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَقَالَ لِي قَائِلٌ : مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَأْخُذَ بِحَدِيثِ ابْنِ بُجَيْدٍ ؟ قُلْتُ : لَا أَعْلَمُ ابْنَ بُجَيْدٍ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَهُوَ مُرْسَلٌ ، وَلَسْنَا وَلَا إِيَّاكَ نُثْبِتُ الْمُرْسَلَ ، وَقَدْ عَلِمْتَ سَهْلًا صَحِبَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَسَمِعَ مِنهُ ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ سِيَاقًا لَا يُثْبِتُهُ إِلَّا الْأَثْبَاتُ ، فَأَخَذْتُ بِهِ لِمَا وَصَفْتُ ، قَالَ : فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْخُذَ بِحَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ ؟ قُلْتُ : مُرْسَلٌ ، وَالْقَتِيلُ أَنْصَارِيٌّ ، وَالْأَنْصَارِيُّونَ أَوْلَى بِالْعِنَايَةِ بِالْعِلْمِ بِهِ مِن غَيْرِهِمْ إِذَا كَانَ كُلٌّ ثِقَةً ، وَكُلٌّ عِنْدَنَا بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ثِقَةٌ".(1/239)
وَللإمام ِأَحْمَدَ فِيهَا رِسَالَتُهُ الْمَشْهُورَةُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَن يَزْعُمُ الِاسْتِغْنَاءَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ عَن تَفْسِيرِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ أَوْرَدَ فِيهَا مِن الدَّلَائِلِ مَا يَضِيقُ هَذَا الْمَوْضِعُ عَن ذِكْرِهِ .
- - - - - - - - - - - - - -(1/240)
الباب الثالث
مَن تَرَكَ الْعَمَلَ بِحَدِيثِ ما فَلَا يَخْلُو مِن ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ
إمَّا أَنْ يَكُونَ تَرْكًا جَائِزًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَالتَّرْكِ فِي حَقِّ مَن لَمْ يَبْلُغْهُ ؛ وَلَا قَصَّرَ فِي الطَّلَبِ مَعَ حَاجَتِهِ إلَى الْفُتْيَا أَوْ الْحُكْمِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَن الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ ،فَهَذَا لَا يَشُكُّ مُسْلِمٌ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَلْحَقُهُ مِن مَعَرَّةِ التَّرْكِ شَيْءٌ .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَرْكًا غَيْرَ جَائِزٍ، فَهَذَا لَا يَكَادُ يَصْدُرُ مِن الْأَئِمَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَكِنْ قَدْ يَخَافُ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَاصِرًا فِي دَرْكِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ : فَيَقُولُ مَعَ عَدَمِ أَسْبَابِ الْقَوْلِ وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهَا نَظَرٌ وَاجْتِهَادٌ أَوْ يُقَصِّرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَيَقُولُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ النَّظَرُ نِهَايَتَهُ مَعَ كَوْنِهِ مُتَمَسِّكًا بِحُجَّةِ أَوْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ عَادَةٌ أَوْ غَرَضٌ يَمْنَعُهُ مِن اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ لِيَنْظُرَ فِيمَا يُعَارِضُ مَا عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقُلْ إلَّا بِالِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَإِنَّ الْحَدَّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ قَدْ لَا يَنْضَبِطُ لِلْمُجْتَهِدِ .
وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ يَخَافُونَ مِثْلَ هَذَا خَشْيَةَ أَلَّا يَكُونَ الِاجْتِهَادُ الْمُعْتَبَرُ قَدْ وُجِدَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الْمَخْصُوصَةِ فَهَذِهِ ذُنُوبٌ (1) ؛ لَكِنَّ لُحُوقَ عُقُوبَةِ الذَّنْبِ بِصَاحِبِهِ إنَّمَا تُنَالُ لِمَن لَمْ يَتُبْ وَقَدْ يَمْحُوهَا الِاسْتِغْفَارُ وَالْإِحْسَانُ وَالْبَلَاءُ وَالشَّفَاعَةُ وَالرَّحْمَةُ ،وَلَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا مَن يَغْلِبُهُ الْهَوَى وَيَصْرَعُهُ حَتَّى يَنْصُرَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ ،أَوْ مَن يَجْزِمُ بِصَوَابِ قَوْلٍ أَوْ خَطَئِهِ مِن غَيْرِ مَعْرِفَةٍ مِنهُ بِدَلَائِلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا ؛ فَإِنَّ هَذَيْنِ فِي النَّارِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :« الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ وَاحِدٌ فِى الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِى النَّارِ فَأَمَّا الَّذِى فِى الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِى الْحُكْمِ فَهُوَ فِى النَّارِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِى النَّارِ » (2) .
وَالْمَفْتُونُ كَذَلِكَ . لَكِنَّ لُحُوقَ الْوَعِيدِ لِلشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ أَيْضًا لَهُ مَوَانِعُ كَمَا بَيَّنَّاهُ ،فَلَوْ فُرِضَ وُقُوعُ بَعْضِ هَذَا مِن بَعْضِ الْأَعْيَانِ مِن الْعُلَمَاءِ الْمَحْمُودِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ - مَعَ أَنَّ هَذَا
__________
(1) - انظر الموافقات في أصول الشريعة - (ج 3 / ص 111)
(2) - سنن أبى داود برقم(3575) وهو حديث صحيح.(1/241)
بَعِيدٌ أَوْ غَيْرُ وَاقِعٍ - لَمْ يَعْدَمْ أَحَدُهُمْ أَحَدَ هَذِهِ الْأَسْبَابِ ؛ وَلَوْ وَقَعَ لَمْ يَقْدَحْ فِي إمَامَتِهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّا لَا نَعْتَقِدُ فِي الْقَوْمِ الْعِصْمَةَ ، بَل تَجُوزُ عَلَيْهِمْ الذُّنُوبُ وَنَرْجُو لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ ؛ لِمَا اخْتَصَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِن الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ ،وَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُصِرِّينَ عَلَى ذَنْبٍ ،وَلَيْسُوا بِأَعْلَى دَرَجَةٍ مِن الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ، وَالْقَوْلُ فِيهِمْ كَذَلِكَ فِيمَا اجْتَهَدُوا فِيهِ مِن الْفَتَاوَى وَالْقَضَايَا وَالدِّمَاءِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ . ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ التَّارِكَ الْمَوْصُوفَ مَعْذُورٌ بَل مَأْجُورٌ لَا يَمْنَعُنَا أَنْ نَتَّبِعَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي لَا نَعْلَمُ لَهَا مُعَارِضًا يَدْفَعُهَا، وَأَنْ نَعْتَقِدَ وُجُوبَ الْعَمَلِ عَلَى الْأُمَّةِ وَوُجُوبَ تَبْلِيغِهَا . وَهَذَا مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِيهِ (1) .
1-من خالف أحاديث الوعيد من الفقهاء هل هو معذور؟
إذا كَانَ الخبرُ قَدْ تَضَمَّنَ حُكْمًا عِلْمِيًّا مِثْلَ الْوَعِيدِ وَنَحْوِهِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ : فَذَهَبَ طَوَائِفُ مِن الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ إذَا تَضَمَّنَ وَعِيدًا عَلَى فِعْلٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَلَا يَعْمَلُ بِهِ فِي الْوَعِيدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا ،وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَتْنُ قَطْعِيًّا لَكِنَّ الدَّلَالَةَ ظَاهِرَةٌ ،وَعَلَى هَذَا حَمَلُوا قَوْلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهَا ،فعَنِ الْعَالِيَةِ قَالَتْ : كُنْتُ قَاعِدَةً عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنهَا فَأَتَتْهَا أُمُّ مُحِبَّةَ فَقَالَتْ لَهَا : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَكُنْتِ تَعْرِفِينَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَالَتْ : نَعَمْ. قَالَتْ : فَإِنِّى بِعْتُهُ جَارِيَةً لِى إِلَى عَطَائِهِ بِثَمَانِمِائَةٍ نَسِيئَةً وَإِنَّهُ أَرَادَ بَيْعَهَا بِسِتِّمِائَةٍ نَقْدًا. (2) فَقَالَتْ لَهَا : بِئْسَمَا اشْتَرَيْتِ وَبِئْسَمَا اشْتَرَى أَبْلِغِى زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنْ لَمْ يَتُبْ (3) .
وعن يُونُسَ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ , عَن أُمِّهِ الْعَالِيَةِ بِنْتِ أَنْفَعَ , قَالَتْ :خَرَجْتُ أَنَا وَأُمُّ مَحَبَّةَ إِلَى مَكَّةَ فَدَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهَا , فَقَالَتْ لَنَا : " مَن أَنْتُنَّ ؟ " , قُلْنَا : مِن أَهْلِ الْكُوفَةِ , قَالَتْ : فَكَأَنَّهَا أَعْرَضَتْ عَنَّا , فَقَالَتْ لَهَا أُمُّ مَحَبَّةَ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ
__________
(1) - انظر مجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 9 / ص 145) فما بعدهت
(2) - العطاء : هو ما كان يعطيه الأمراء للناس من قرارتهم وديوانهم الذي يقررونه لهم في بيت المال ، كان يصل إليهم في أوقات معلومة من السنة .
(3) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 5 / ص 330) برقم(11113) ومصنف عبد الرزاق برقم(14813و14814) والدراقطني في السنن برقم(3045) حسن(1/242)
لِي جَارِيَةٌ وَإِنِّي بِعْتُهَا مِن زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ الْأَنْصَارِيِّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَى عَطَائِهِ , وَإِنَّهُ أَرَادَ بَيْعَهَا فَابْتَعْتُهَا مِنهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا , قَالَتْ : فَأَقْبَلَتْ عَلَيْنَا , فَقَالَتْ : " بِئْسَمَا شَرَيْتِ وَمَا اشْتَرَيْتِ , فَأَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا أَنْ يَتُوبَ " , فَقَالَتْ لَهَا : أَرَأَيْتِ إِنْ لَمْ آخُذْ مِنهُ إِلَّا رَأْسَ مَالِي ؟ , قَالَتْ : "{ فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَن عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(275) سورة البقرة" (1) .
وقَالَ الشَّافِعِيُّ : قَدْ تَكُونُ عَائِشَةُ لَوْ كَانَ هَذَا ثَابِتًا عَنهَا عَابَتْ عَلَيْهَا بَيْعًا إِلَى الْعَطَاءِ ؛ لِأَنَّهُ أَجَلٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَهَذَا مَا لَا نُجِيزُهُ , لَا أَنَّهَا عَابَتْ عَلَيْهَا مَا اشْتَرَتْ بِنَقْدٍ وَقَدْ بَاعَتْهُ إِلَى أَجَلٍ وَلَوِ اخْتَلَفَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي شَيْءٍ , فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ شَيْئًا , وَقَالَ غَيْرُهُ خِلَافَهُ كَانَ أَصْلُ مَا نَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّا نَأْخُذُ بِقَوْلِ الَّذِي مَعَهُ الْقِيَاسُ وَالَّذِي مَعَهُ الْقِيَاسُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ , قَالَ : وَجُمْلَةُ هَذَا أَنَّا لَا نُثْبِتُ مِثْلَهُ عَلَى عَائِشَةَ مَعَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ لَا يَبِيعُ إِلَّا مَا يَرَاهُ حَلَالًا , وَلَا يَبْتَاعُ إِلَّا مِثْلَهُ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ شَيْئًا أَوِ ابْتَاعَهُ نَرَاهُ نَحْنُ مُحَرَّمًا وَهُوَ يَرَاهُ حَلَالًا لَمْ نَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَحْبِطُ بِهِ مِن عَمَلِهِ شَيْئًا". (2)
__________
(1) - سُنَنُ الدَّارَقُطْنِيِّ (3045) قَالَ الشَّيْخُ : أُمُّ مَحَبَّةَ وَالْعَالِيَةُ مَجْهُولَتَانِ لَا يُحْتَجُّ بِهِمَا ، قلت الصواب أنه حسن ، وسكت عليه الحافظ ابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية - (ج 2 / ص 151)(776)
وقال صاحب الجوهر النقي ص 330 ج 5، قلت: العالية معروفة، روى عنها زوجها، وابنها، وهما إمامان، وذكرهما ابن حبان في الثقات، وذهب إلى حديثهما هذا الثوري، والأوزاعي. وأبو حنيفة، وأصحابه. ومالك، وابن حنبل، والحسن ابن صالح، وروى عن الشعبي، والحكم، وحماد، فمنعوا ذلك، كذا في الاستذكار انتهى.
(2) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلْبَيْهقِيِّ (10131 ) وقال فِي التَّنْقِيحِ: هَذَا إسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَإِنْ كَانَ الشَّافِعِيُّ قَالَ: لَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ عَن عَائِشَةَ، وَكَذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيُّ، قَالَ فِي الْعَالِيَةِ: هِيَ مَجْهُولَةٌ، لَا يُحْتَجُّ بِهَا، فِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ، وَلَوْلَا أَنَّ عند أم المؤمنين عِلْمًا مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ لَمْ تَسْتَجِزْ أَنْ تَقُولَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ بِالِاجْتِهَادِ، انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالُوا: الْعَالِيَةُ امْرَأَةٌ مَجْهُولَةٌ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهَا، قُلْنَا: بَلْ هِيَ امْرَأَةٌ مَعْرُوفَةٌ جَلِيلَةُ الْقَدْرِ، ذَكَرَهَا ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فَقَالَ: الْعَالِيَةُ بِنْتُ أَيْفَعَ بْنِ شَرَاحِيلَ امْرَأَةُ أَبِي إسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ سَمِعَتْ مِن عَائِشَةَ، انْتَهَى كَلَامُهُ.نصب الراية - (ج 4 / ص 16) وانظر الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 5 / ص 142) وشرح النيل وشفاء العليل - إباضية - (ج 14 / ص 150) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 6 / ص 326) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 3 / ص 384)(1/243)
والذبن عملوا بالحديث قَالُوا : فَعَائِشَةُ ذَكَرَتْ الْوَعِيدَ لِأَنَّهَا كَانَتْ عَالِمَةً بِهِ وَنَحْنُ نَعْمَلُ بِخَبَرِهَا فِي التَّحْرِيمِ ،وَإِنْ كُنَّا لَا نَقُولُ بِهَذَا الْوَعِيدِ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا ثَبَتَ عِنْدَنَا بِخَبَرِ وَاحِدٍ .
وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْوَعِيدَ مِن الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ ؛ فَلَا تَثْبُتُ إلَّا بِمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ ،وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفِعْلَ إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا فِي حُكْمِهِ لَمْ يَلْحَقْ فَاعِلَهُ الْوَعِيدُ .
فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يُحْتَجُّ بِأَحَادِيثِ الْوَعِيدِ فِي تَحْرِيمِ الْأَفْعَالِ مُطْلَقًا وَلَا يَثْبُتُ بِهَا الْوَعِيدُ إلَّا أَنْ تَكُونَ الدَّلَالَةُ قَطْعِيَّةً ،وَمِثْلُهُ احْتِجَاجُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ بِالْقِرَاءَاتِ الَّتِي صَحَّتْ عَن بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَعَ كَوْنِهَا لَيْسَتْ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ، فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ عَمَلًا وَعِلْمًا وَهِيَ خَبَرُ وَاحِدٍ صَحِيحٌ فَاحْتَجُّوا بِهَا فِي إثْبَاتِ الْعَمَلِ ،وَلَمْ يُثْبِتُوهَا قُرْآنًا لِأَنَّهَا مِن الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ إلَّا بِيَقِينِ (1) .
2-َذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِن الْفُقَهَاءِ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ السَّلَفِ إلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ حُجَّةٌ فِي جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِن الْوَعِيدِ .
فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ مَا زَالُوا يُثْبِتُونَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْوَعِيدَ كَمَا يُثْبِتُونَ بِهَا الْعَمَلَ ،وَيُصَرِّحُونَ بِلُحُوقِ الْوَعِيدِ الَّذِي فِيهَا لِلْفَاعِلِ فِي الْجُمْلَةِ ،وَهَذَا مُنْتَشِرٌ عَنهُمْ فِي أَحَادِيثِهِمْ وَفَتَاوِيهِمْ ،وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَعِيدَ مِن جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي ثَبَتَتْ بِالْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ تَارَةً وَبِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ أُخْرَى ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمَطْلُوبُ الْيَقِينَ التَّامَّ بِالْوَعِيدِ؛ بَل الْمَطْلُوبُ الِاعْتِقَادُ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْيَقِينِ وَالظَّنِّ الْغَالِبِ كَمَا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ اعْتِقَادِ الْإِنْسَانِ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا وَأَوْعَدَ فَاعِلَهُ بِالْعُقُوبَةِ الْمُجْمَلَةِ وَاعْتِقَادِهِ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ وَأَوْعَدَهُ عَلَيْهِ بِعُقُوبَةِ مُعَيَّنَةٍ مِن حَيْثُ إنَّ كُلًّا مِنهُمَا إخْبَارٌ عَن اللَّهِ، فَكَمَا جَازَ الْإِخْبَارُ عَنهُ بِالْأَوَّلِ بِمُطْلَقِ الدَّلِيلِ فَكَذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنهُ بِالثَّانِي، بَل لَوْ قَالَ قَائِلٌ : الْعَمَلُ بِهَا فِي الْوَعِيدِ أَوْكَدُ ؛ كَانَ صَحِيحًا .
__________
(1) - انظر مناهل العرفان للزرقاني - (ج 1 / ص 457)(1/244)
وَلِهَذَا كَانُوا يُسَهِّلُونَ فِي أَسَانِيدِ أَحَادِيثِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مَا لَا يُسَهِّلُونَ فِي أَسَانِيدِ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ ؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْوَعِيدِ يَحْمِلُ النُّفُوسَ عَلَى التَّرْكِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْوَعِيدُ حَقًّا كَانَ الْإِنْسَانُ قَدْ نَجَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْوَعِيدُ حَقًّا بَل عُقُوبَةُ الْفِعْلِ أَخَفُّ مِن ذَلِكَ الْوَعِيدِ لَمْ يَضُرَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَرَكَ ذَلِكَ الْفِعْلَ خَطَؤُهُ فِي اعْتِقَادِهِ زِيَادَةَ الْعُقُوبَةِ، لِأَنَّهُ إنْ اعْتَقَدَ نَقْصَ الْعُقُوبَةِ فَقَدْ يُخْطِئُ أَيْضًا وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَعْتَقِدْ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا، فَقَدْ يُخْطِئُ فَهَذَا الْخَطَأُ قَدْ يُهَوِّنُ الْفِعْلَ عِنْدَهُ فَيَقَعُ فِيهِ فَيَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الزَّائِدَةَ إنْ كَانَتْ ثَابِتَةً أَوْ يَقُومُ بِهِ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ .
فَإِذًا الْخَطَأُ فِي الِاعْتِقَادِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ تَقْدِيرِ اعْتِقَادِ الْوَعِيدِ وَتَقْدِيرِ عَدَمِهِ سَوَاءٌ وَالنَّجَاةُ مِن الْعَذَابِ عَلَى تَقْدِيرِ اعْتِقَادِ الْوَعِيدِ أَقْرَبُ فَيَكُونُ هَذَا التَّقْدِيرُ أَوْلَى .
وَبِهَذَا الدَّلِيلِ رَجَّحَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ الدَّلِيلَ الْحَاظِرَ عَلَى الدَّلِيلِ الْمُبِيحِ (1) وَسَلَكَ كَثِيرٌ مِن الْفُقَهَاءِ دَلِيلَ الِاحْتِيَاطِ فِي كَثِيرٍ مِن الْأَحْكَامِ بِنَاءً عَلَى هَذَا، وَأَمَّا الِاحْتِيَاطُ فِي الْفِعْلِ فَكَالْمُجْمَعِ عَلَى حُسْنِهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ فِي الْجُمْلَةِ فَإِذَا كَانَ خَوْفُهُ مِن الْخَطَإِ بِنَفْيِ اعْتِقَادِ الْوَعِيدِ مُقَابِلًا لِخَوْفِهِ مِن الْخَطَإِ فِي عَدَمِ هَذَا الِاعْتِقَادِ : بَقِيَ الدَّلِيلُ الْمُوجِبُ لِاعْتِقَادِهِ وَالنَّجَاةُ الْحَاصِلَةُ فِي اعْتِقَادِهِ دَلِيلَيْنِ سَالِمَيْنِ عَن الْمُعَارِضِ . وَلَيْسَ لِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ عَدَمُ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ عَلَى الْوَعِيدِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِهِ كَعَدَمِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ عَلَى الْقِرَاءَاتِ الزَّائِدَةِ عَلَى مَا فِي الْمُصْحَفِ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَمَن قَطَعَ بِنَفْيِ شَيْءٍ مِن الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى وُجُودِهَا كَمَا هُوَ طَرِيقَةُ طَائِفَةٍ مِن الْمُتَكَلِّمِينَ فَهُوَ مُخْطِئٌ خَطَأً بَيِّنًا، لَكِنْ إذَا عَلِمْنَا أَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ الدَّلِيلِ وَعَلِمْنَا عَدَمَ الدَّلِيلِ وَقَطَعْنَا بِعَدَمِ الشَّيْءِ الْمُسْتَلْزِمِ، لِأَنَّ عَدَمَ اللَّازِمِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْمَلْزُومِ
__________
(1) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 20 / ص 30) و (ج 22 / ص 102) و(ج 28 / ص 146) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 422) م الفتوى 10914 حكم لبس قليل الحرير للرجال وأبحاث هيئة كبار العلماء - (ج 7 / ص 338) ومجلة مجمع الفقه الإسلامي - (ج 2 / ص 11630) و(ج 2 / ص 14512) و(ج 2 / ص 16022) و(ج 2 / ص 20185) و(ج 2 / ص 20550) وغمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر - (ج 2 / ص 210) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 5 / ص 445) والأشباه والنظائر لابن نجيم - (ج 1 / ص 110) وشرح التلويح على التوضيح - (ج 2 / ص 230)(1/245)
وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الدَّوَاعِيَ مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى نَقْلِ كِتَابِ اللَّهِ وَدِينِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأُمَّةِ كِتْمَانُ مَا يُحْتَاجُ إلَى نَقْلِهِ حُجَّةً عَامَّةً، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ نَقْلًا عَامًّا صَلَاةً سَادِسَةً وَلَا سُورَةً أُخْرَى عَلِمْنَا يَقِينًا عَدَمَ ذَلِكَ . وَبَابُ الْوَعِيدِ لَيْسَ مِن هَذَا الْبَابِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ فِي كُلِّ وَعِيدٍ عَلَى فِعْلٍ أَنْ يُنْقَلَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا كَمَا لَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِلْوَعِيدِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا فِي مُقْتَضَاهَا : بِاعْتِقَادِ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ مُتَوَعَّدٌ بِذَلِكَ الْوَعِيدِ لَكِنَّ لُحُوقَ الْوَعِيدِ بِهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى شُرُوطٍ ؛ وَلَهُ مَوَانِعُ .
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَظْهَرُ بِأَمْثِلَةِ:
المثال الأول- حول ربا الفضل وربا الأجل :
فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَه " . (1)
مِنهَا أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ :" لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ " (2)
وعَن يَحْيَى قَالَ سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَبْدِ الْغَافِرِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ - رضى الله عنه - قَالَ جَاءَ بِلاَلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِتَمْرٍ بَرْنِىٍّ فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مِن أَيْنَ هَذَا » . قَالَ بِلاَلٌ كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِىٌّ ، فَبِعْتُ مِنهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ ، لِنُطْعِمَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ « أَوَّهْ أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبَا ، لاَ تَفْعَلْ ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِىَ فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِهِ » (3) .
وعَن مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ سَمِعَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « الْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ » (4)
__________
(1) - سنن الترمذى برقم(1248 ) وهو صحيح
(2) - سنن الترمذى برقم(1248 ) ٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ. وهو صحيح
(3) - صحيح البخارى برقم(2312 ) ومسلم برقم(4167 )
(4) - صحيح البخارى برقم(2170 )(1/246)
وَهَذَا يُوجِبُ دُخُولَ نَوْعَيْ الرِّبَا : رِبَا الْفَضْلِ وَرِبَا النسأ فِي الْحَدِيثِ . وعَنِ الأَوْزَاعِىِّ قَالَ حَدَّثَنِى عَطَاءُ بْنُ أَبِى رَبَاحٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ لَقِىَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ أَرَأَيْتَ قَوْلَكَ فِى الصَّرْفِ أَشَيْئًا سَمِعْتَهُ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمْ شَيْئًا وَجَدْتَهُ فِى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَلاَّ لاَ أَقُولُ أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ، وَأَمَّا كِتَابُ اللَّهِ فَلاَ أَعْلَمُهُ وَلَكِنْ حَدَّثَنِى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « أَلاَ إِنَّمَا الرِّبَا فِى النَّسِيئَةِ » (1) .
قال النووي : "مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا عَن اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس أَنَّهُمَا كَانَا يَعْتَقِدَانِ أَنَّهُ لَا رِبَا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ ، وَأَنَّهُ يَجُوز بَيْع دِرْهَم بِدِرْهَمَيْنِ ، وَدِينَار بِدِينَارَيْنِ ، وَصَاع تَمْر بِصَاعَيْنِ مِن التَّمْر ، وَكَذَا الْحِنْطَة وَسَائِر الرِّبَوِيَّات ، كَانَا يَرَيَانِ جَوَاز بَيْع الْجِنْس بَعْضه بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا ، وَأَنَّ الرِّبَا لَا يَحْرُم فِي شَيْء مِن الْأَشْيَاء إِلَّا إِذَا كَانَ نَسِيئَة ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله : إِنَّهُ سَأَلَهُمَا عَن الصَّرْف فَلَمْ يَرَيَا بِهِ بَأْسًا ، يَعْنِي الصَّرْف مُتَفَاضِلًا كَدِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ ، وَكَانَ مُعْتَمَدهمَا حَدِيث أُسَامَة بْن زَيْد ( إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة ) ثُمَّ رَجَعَ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس عَن ذَلِكَ وَقَالَا بِتَحْرِيمِ بَيْع الْجِنْس بَعْضه بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا حِين بَلَغَهُمَا حَدِيث أَبِي سَعِيد كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِم مِن رُجُوعهمَا صَرِيحًا .
وَهَذِهِ الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم تَدُلّ عَلَى أَنَّ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس لَمْ يَكُنْ بَلَغَهُمَا حَدِيث النَّهْي عَن التَّفَاضُل فِي غَيْر النَّسِيئَة ، فَلَمَّا بَلَغَهُمَا رَجَعَا إِلَيْهِ .
وَأَمَّا حَدِيث أُسَامَة ( لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَة ) فَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ بِأَنَّهُ مَنْسُوخ بِهَذِهِ الْأَحَادِيث ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَرْك الْعَمَل بِظَاهِرِهِ ، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى نَسْخه .
وَتَأَوَّلَهُ آخَرُونَ تَأْوِيلَات :
أَحَدهَا : أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى غَيْر الرِّبَوِيَّات ، وَهُوَ كَبَيْعِ الدَّيْن بِالدَّيْنِ مُؤَجَّلًا بِأَنْ يَكُون لَهُ عِنْده ثَوْب مَوْصُوف ، فَيَبِيعهُ بِعَبْدٍ مَوْصُوف مُؤَجَّلًا ، فَإِنْ بَاعَهُ بِهِ حَالًّا جَازَ
الثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى الْأَجْنَاس الْمُخْتَلِفَة ، فَإِنَّهُ لَا رِبَا فِيهَا مِن حَيْثُ التَّفَاضُل ، بَلْ يَجُوز تَفَاضُلهَا يَدًا بِيَدٍ .
__________
(1) - صحيح مسلم برقم(4173 -4175)(1/247)
الثَّالِث : أَنَّهُ مُجْمَل ، وَحَدِيث عُبَادَة بْن الصَّامِت وَأَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ وَغَيْرهمَا مُبَيِّن ، فَوَجَبَ الْعَمَل بِالْمُبَيِّنِ ، وَتَنْزِيل الْمُجْمَل عَلَيْهِ . هَذَا جَوَاب الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه . (1)
فهؤلاء الَّذِينَ بَلَغَهُمْ قَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّمَا الرِّبَا فِى النَّسِيئَةِ ».
فَاسْتَحَلُّوا بَيْعَ الصَّاعَيْنِ بِالصَّاعِ يَدًا بِيَدِ؛ مِثْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ وَأَصْحَابِهِ : أَبِي الشَّعْثَاءِ ؛ وَعَطَاءٍ ؛ وطاوس ؛ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ ؛ وَغَيْرِهِمْ مِن أَعْيَانِ الْمَكِّيِّينَ الَّذِينَ هُمْ مِن صَفْوَةِ الْأُمَّةِ عِلْمًا وَعَمَلًا : لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ أَحَدًا مِنهُمْ بِعَيْنِهِ أَوْ مَن قَلَّدَهُ بِحَيْثُ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ : تَبْلُغُهُمْ لَعْنَةُ آكِلِ الرِّبَا ؛ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ تَأْوِيلًا سَائِغًا فِي الْجُمْلَةِ .
تحريم ربا الفضل :
هذا وقد أَطْبَقَتِ الأُْمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُل فِي بَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ إِذَا اجْتَمَعَ التَّفَاضُل مَعَ النَّسَاءِ ، وَأَمَّا إِذَا انْفَرَدَ نَقْدًا فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِ خِلاَفٌ قَدِيمٌ : صَحَّ عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ إِبَاحَتُهُ ، وَكَذَلِكَ عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا مَعَ رُجُوعِهِ عَنهُ ، وَرُوِيَ عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ ، وَفِيهِ عَن مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ شَيْءٌ مُحْتَمَلٌ ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَأَمَّا التَّابِعُونَ : فَصَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَن عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَفُقَهَاءِ الْمَكِّيِّينَ ، وَرُوِيَ عَن سَعِيدٍ وَعُرْوَةَ (2) .
ونَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ قَال : أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الأَْمْصَارِ : مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَمَن تَبِعَهُ مِن أَهْل الْمَدِينَةِ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَن وَافَقَهُ مِن أَهْل الْعِرَاقِ ، وَالأَْوْزَاعِيُّ وَمَن قَال بِقَوْلِهِ مِن أَهْل الشَّامِ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدِ وَمَن وَافَقَهُ مِن أَهْل مِصْرَ ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ ، وَلاَ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ ، وَلاَ بُرٍّ بِبُرٍّ ، وَلاَ شَعِيرٍ بِشَعِيرٍ ، وَلاَ تَمْرٍ بِتَمْرٍ ، وَلاَ مِلْحٍ بِمِلْحٍ ، مُتَفَاضِلاً يَدًا
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 461)
(2) - المجموع 10 / 26، 33(1/248)
بِيَدٍ ، وَلاَ نَسِيئَةً ، وَأَنَّ مَن فَعَل ذَلِكَ فَقَدْ أَرْبَى وَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ ، قَال : وَقَدْ رَوَيْنَا هَذَا الْقَوْل عَن جَمَاعَةٍ مِن أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَمَاعَةٍ يَكْثُرُ عَدَدُهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ (1) .
وَنَاقَشَ السُّبْكِيُّ دَعْوَى الإِْجْمَاعِ مِن عِدَّةِ وُجُوهٍ ، وَانْتَهَى إِلَى الْقَوْل : فَعَلَى هَذَا امْتَنَعَ دَعْوَى الإِْجْمَاعِ فِي تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْل بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ، لَكِنَّا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَغْنُونَ عَنِ الإِْجْمَاعِ فِي ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَضَافِرَةِ ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى الإِْجْمَاعِ فِي مَسْأَلَةٍ خَفِيَّةٍ سَنَدُهَا قِيَاسٌ أَوِ اسْتِنْبَاطٌ دَقِيقٌ (2) .
الأَْحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْل :
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْل (3)
فعَن عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ وَلاَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ ». (4)
وعَن أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لاَ فَضْلَ بَيْنَهُمَا » (5)
وعَن مُجَاهِدٍ قَالَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لاَ فَضْلَ بَيْنَهُمَا هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْنَا. (6)
وعَن مُجَاهِدٍ أَنَّ صَائِغًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ ، فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنِّي أَصُوغُ ، ثُمَّ أَبِيعُ الشَّيْءِ بِأَكْثَرَ مِن وَزْنِهِ ، وَأَسْتَفْضِلُ مِن ذَلِكَ قَدْرَ عَمَلِي ، أَوْ قَالَ عِمَالَتِي ، فَنَهَاهُ عَن ذَلِكَ ، فَجَعَلَ الصَّائِغُ يَرُدُّ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ ، وَيَأْبَى ابْنُ عُمَرَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَابِهِ أَوْ قَالَ : بَابَ
__________
(1) - المجموع 10 / 40 - 41
(2) - المجموع 10 / 40 ، 41 ، 43 ، 47 - 50
(3) - المجموع 10 / 40 - 59
(4) - صحيح مسلم(4142 )
(5) - سنن النسائى(4584) صحيح
(6) - سنن النسائى(4585 ) صحيح(1/249)
الْمِسْجِدِ ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ ، لا فَضْلَ بَيْنَهُمَا ، هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْنَا ، وَعَهْدِنَا إِلَيْكُمْ" (1)
وعَن أَبِي سَعِيدٍ : أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لَيْسَ بَيْنَها فَضْلٌ ، وَلاَ يُبَاعُ عَاجِلٌ بِآجِلٍ. (2)
وعَن أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ يَصْلُحُ دِرْهَمٌ بِدِرْهَمَيْنِ ، وَلاَ صَاعٌ بِصَاعَيْنِ ، الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ. (3)
وعن يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ نَافِعًا أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ ثَابِتٍ الْعُتْوَارِيَّ، ذَكَرَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يُحَدِّثُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ: الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَضْلٌ. فَمَشَى ابْنُ عُمَرَ مَعَهُ، وَمَعَهُ نَافِعٌ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَدِيثِ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى عَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ، فَقَالَ: بَصُرَ عَيْنِي، وَسَمِعَ أُذُنِي رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَضْلٌ، وَلا يُبَاعُ عَاجِلٌ بِآجِلٍ. (4)
وعَن أَبِي قِلَابَةَ ، قَالَ : كُنْتُ بِالشَّامِ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ ، فَجَاءَ أَبُو الْأَشْعَثِ ، قَالَ : قَالُوا : أَبُو الْأَشْعَثِ ، أَبُو الْأَشْعَثِ ، فَجَلَسَ ، فَقُلْتُ لَهُ : حَدِّثْ أَخَانَا حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، قَالَ : نَعَمْ ، غَزَوْنَا غَزَاةً وَعَلَى النَّاسِ مُعَاوِيَةُ ، فَغَنِمْنَا غَنَائِمَ كَثِيرَةً ، فَكَانَ فِيمَا غَنِمْنَا آنِيَةٌ مِن فِضَّةٍ ، فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ رَجُلًا أَنْ يَبِيعَهَا فِي أَعْطِيَاتِ النَّاسِ ، فَتَسَارَعَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ ، فَبَلَغَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ ، فَقَامَ ، فَقَالَ : إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَنْهَى عَن بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ ، وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ ، إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، عَيْنًا بِعَيْنٍ ، فَمَن زَادَ ، أَوِ ازْدَادَ ، فَقَدْ أَرْبَى " ، فَرَدَّ النَّاسُ مَا أَخَذُوا ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَامَ خَطِيبًا ، فَقَالَ : أَلَا مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَحَدَّثُونَ عَن
__________
(1) - مصنف عبد الرزاق(14575) صحيح
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 7 / ص 101)(22931) صحيح
(3) - .مصنف ابن أبي شيبة(ج 7 / ص 102)(22933) صحيح
(4) - مسند أبي عوانة (4369) صحيح(1/250)
رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَادِيثَ قَدْ كُنَّا نَشْهَدُهُ وَنَصْحَبُهُ فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنهُ ، فَقَامَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ فَأَعَادَ الْقِصَّةَ ، ثُمَّ قَالَ : " لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَةُ - أَوْ قَالَ : وَإِنْ رَغِمَ - مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَصْحَبَهُ فِي جُنْدِهِ لَيْلَةً سَوْدَاءَ " (1)
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَال : إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ (2) فَقَدْ قَال ابْنُ الْقَيِّمِ : مِثْل هَذَا يُرَادُ بِهِ حَصْرُ الْكَمَال وَأَنَّ الرِّبَا الْكَامِل إِنَّمَا هُوَ فِي النَّسِيئَةِ ، كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (سورة الأنفال / 2) ،وَكَقَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ : إِنَّمَا الْعَالِمُ الَّذِي يَخْشَى اللَّهَ ، وَمِثْلُهُ عِنْدَ ابْنِ حَجَرٍ ، قَال : قِيل الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ : لاَ رِبًا إِلاَّ فِي النَّسِيئَةِ الرِّبَا الأَْغْلَظُ الشَّدِيدُ التَّحْرِيمِ الْمُتَوَعَّدُ عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ ، كَمَا تَقُول الْعَرَبُ : لاَ عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إِلاَّ زَيْدٌ مَعَ أَنَّ فِيهَا عُلَمَاءَ غَيْرَهُ ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ نَفْيُ الأَْكْمَل لاَ نَفْيُ الأَْصْل (3) .
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ : يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ مَفْهُومَ حَدِيثِ أُسَامَةَ عَامٌّ ؛ لأَِنَّهُ يَدُل عَلَى نَفْيِ رِبَا الْفَضْل عَن كُل شَيْءٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الأَْجْنَاسِ الرِّبَوِيَّةِ أَمْ لاَ ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنهَا مُطْلَقًا ، فَيُخَصَّصُ هَذَا الْمَفْهُومُ بِمَنطُوقِهَا (4) .
__________
(1) - صحيح مسلم(4145 )
(2) - صحيح مسلم (4172)
(3) - المغني 4 / 4، أحكام القرآن 1 / 466، وصحيح مسلم 11 / 25، وأعلام الموقعين 2 / 155، وفتح الباري 4 / 304 .
(4) - نيل الأوطار 5 / 216 - 217 ، وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 22 / ص 60) و مجموع فتاوى ابن باز - (ج 17 / ص 295) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 5 / ص 369) ونيل الأوطار - (ج 8 / ص 300) والسيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار - الرقمية - (ج 1 / ص 508) والمحلى(ج 7 / ص 258) والإحكام في أصول الأحكام - (ج 2 / ص 150) والمستصفى - (ج 1 / ص 493) و (ج 2 / ص 134) و(ج 2 / ص 171) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 6 / ص 261) وكشف الأسرار - (ج 6 / ص 297) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 239) والبحر المحيط - (ج 3 / ص 111) و(ج 4 / ص 22-25) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 2 / ص 336) والفصول في الأصول - (ج 1 / ص 257) وكتب وليد بن راشد السعيدان - (ج 3 / ص 13) والتلخيص فى أصول الفقه / لإمام الحرمين - (ج 2 / ص 81)(1/251)
المثال الثاني- إتيان النساء في أدبارهن:
وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَن طَائِفَةٍ مِن فُضَلَاءِ الْمَدَنِيِّينَ مِن إتْيَانِ الْمُحَاشِ مَعَ مَا رَوَاهُ أَبُو داود عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : « مَن أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، أَوْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِى دُبُرِهَا فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ » (1) .
أَفَيَسْتَحِلُّ مُسْلِمٌ أَنْ يَقُولَ : إنَّ فُلَانًا وَفُلَانًا كَانَا كَافِرَيْنِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ؟!
والظَّاهِرُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ كَمَا قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ ،وَقِيلَ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْإِتْيَانَ بِاسْتِحْلَالٍ وَتَصْدِيقٍ، فَالْكُفْرُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِنْ كَانَ بِدُونِهِمَا فَهُوَ عَلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ (2) .
المثال الثالث - حول تحريم الخمر:
وَكَذَلِكَ قَدْ ثَبَتَ عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى الْخَمْرِ عَشَرَةً عَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَالْمُشْتَرِىَ لَهَا وَالْمُشْتَرَاةَ لَهُ" (3) .
وَثَبَتَ عَنهُ - صلى الله عليه وسلم - مِن وُجُوهٍ أَنَّهُ قَالَ : « كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ » (4) .
وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : « كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ » (5) .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ ، وَهْىَ مِن خَمْسَةِ أَشْيَاءَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ ، وَثَلاَثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يُفَارِقْنَا حَتَّى يَعْهَدَ
__________
(1) - سنن أبى داود برقم(3906 ) وهو صحيح لغيره
(2) - تحفة الأحوذي - (ج 1 / ص 162)
(3) - - سنن الترمذى برقم(1342 ) وهو صحيح لغيره
(4) - صحيح البخارى برقم(242 ) و صحيح مسلم برقم(5329 )
(5) - صحيح مسلم برقم(5336 -5339) وانظر نيل الأوطار - (ج 11 / ص 321)(1/252)
إِلَيْنَا عَهْدًا الْجَدُّ وَالْكَلاَلَةُ وَأَبْوَابٌ مِن أَبْوَابِ الرِّبَا . قَالَ قُلْتُ يَا أَبَا عَمْرٍو فَشَىْءٌ يُصْنَعُ بِالسِّنْدِ مِنَ الرُّزِّ . قَالَ ذَاكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ قَالَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ . (1)
وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا مَا كَانُوا يَشْرَبُونَهُ فِي الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَرَابٌ إلَّا الْفَضِيخُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِن خَمْرِ الْأَعْنَابِ شَيْءٌ.
فعَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ كُنْتُ أَسْقِى أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ مِن فَضِيخِ زَهْوٍ وَتَمْرٍ فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ . فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ قُمْ يَا أَنَسُ فَأَهْرِقْهَا . فَأَهْرَقْتُهَا (2) .
وعن مُعْتَمِرَ عَن أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ كُنْتُ قَائِمًا عَلَى الْحَىِّ أَسْقِيهِمْ - عُمُومَتِى وَأَنَا أَصْغَرُهُمُ - الْفَضِيخَ ، فَقِيلَ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ . فَقَالُوا أَكْفِئْهَا . فَكَفَأْتُهَا . قُلْتُ لأَنَسٍ مَا شَرَابُهُمْ قَالَ رُطَبٌ وَبُسْرٌ . فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَنَسٍ وَكَانَتْ خَمْرَهُمْ . فَلَمْ يُنْكِرْ أَنَسٌ (3) .
وعَن أَنَسٍ قَالَ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الْخَمْرُ حِينَ حُرِّمَتْ وَمَا نَجِدُ - يَعْنِى بِالْمَدِينَةِ - خَمْرَ الأَعْنَابِ إِلاَّ قَلِيلاً، وَعَامَّةُ خَمْرِنَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ . (4)
وَقَدْ كَانَ رِجَالٌ مِن أَفَاضِلِ الْأُمَّةِ عِلْمًا وَعَمَلًا مِن الْكُوفِيِّينَ يَعْتَقِدُونَ أَنْ لَا خَمْرَ إلَّا مِن الْعِنَبِ ،وَأَنَّ مَا سِوَى الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ لَا يَحْرُمُ مِن نَبِيذِهِ إلَّا مِقْدَارُ مَا يُسْكِرُ وَيَشْرَبُونَ مَا يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ (5) .
فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَؤُلَاءِ مُنْدَرِجُونَ تَحْتَ الْوَعِيدِ لِمَا كَانَ لَهُمْ مِن الْعُذْرِ الَّذِي تَأَوَّلُوا بِهِ ،أَوْ لِمَوَانِعَ أُخَرَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الشَّرَابَ الَّذِي شَرِبُوهُ لَيْسَ مِن الْخَمْرِ الْمَلْعُونِ شَارِبُهَا، فَإِنَّ سَبَبَ الْقَوْلِ الْعَامِّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِيهِ ،وَلَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ خَمْرٌ مِن الْعِنَبِ.
__________
(1) - - صحيح البخارى برقم(5588 )ِ وانظر شرحه في فتح الباري لابن حجر - (ج 16 / ص 60)
(2) - - صحيح البخارى برقم(5582 )َ = الفضيخ : شراب يتخذ من البسر
(3) - صحيح البخارى برقم (5583 )
(4) - - صحيح البخارى برقم(5580 )
(5) - انظر المحلى لابن حزم - (ج 3 / ص 412)(1099 )(1/253)
وعَن أَبِى عَلْقَمَةَ مَوْلاَهُمْ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْغَافِقِىِّ أَنَّهُمَا سَمِعَا ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ » (1)
وَقَدْ بَاعَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ خَمْرًا حَتَّى بَلَغَ عُمَرَ فَقَالَ : قَاتَلَ اللَّهُ فُلاَنًا ، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا » (2) .
وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّ بَيْعَهَا مُحَرَّمٌ وَلَمْ يَمْنَعْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ عِلْمُهُ بِعَدَمِ عِلْمِهِ أَنْ يُبَيِّنَ جَزَاءَ هَذَا الذَّنْبِ ؛ لِيَتَنَاهَى هُوَ وَغَيْرُهُ عَنهُ بَعْدَ بُلُوغِ الْعِلْمِ بِهِ .
وَقَدْ لَعَنَ الْعَاصِرَ وَالْمُعْتَصِرَ ؛ وَكَثِيرٌ مِن الْفُقَهَاءِ يُجَوِّزُونَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْصِرَ لِغَيْرِهِ عِنَبًا وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ مِن نِيَّتِهِ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَمْرًا (3) ، فَهَذَا نَصٌّ فِي لَعْنِ الْعَاصِرِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَعْذُورَ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنهُ لِمَانِعِ .
المثال الرابع- حول لعن الواصلة والموصولة :
وَكَذَلِكَ لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ صِحَاحٍ (4)
__________
(1) - - سنن أبى داود برقم(3676 ) وهو صحيح .
(2) - - صحيح البخارى برقم(2223 ) = جمل : أذاب
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ مَا حُرِّمَتْ عَيْنُهُ ،وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الصَّحَابَةِ الْقِيَاسَ فِي الْأُمُورِ ، مِن غَيْرِ نَكِيرٍ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَاسَ تَحْرِيمَ بَيْعِ الْخَمْرِ عِنْدَ تَحْرِيمِهَا عَلَى بَيْعِ الشُّحُومِ عِنْدَ تَحْرِيمِهَا وَهُوَ قِيَاسٌ مِن غَيْرِ شَكٍّ ، وَقَدْ وَقَعَ تَأْكِيدُ أَمْرِهِ بِأَنْ قَالَ عُمَرُ فِيمَنْ خَالَفَهُ " قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا " وَفُلَانٌ الَّذِي كُنِّيَ عَنهُ : هُوَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ .إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام - (ج 3 / ص 194)
(3) - انظر تفاصيل هذا الموضوع: الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 9 / ص 208) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 4 / ص 233) وأبحاث هيئة كبار العلماء - (ج 5 / ص 414) ومجلة مجمع الفقه الإسلامي - (ج 2 / ص 10744) و(ج 2 / ص 18611)
(4) - صحيح البخارى برقم(5941 )عن أَسْمَاءَ قَالَتْ سَأَلَتِ امْرَأَةٌ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِى أَصَابَتْهَا الْحَصْبَةُ ، فَامَّرَقَ شَعَرُهَا ، وَإِنِّى زَوَّجْتُهَا أَفَأَصِلُ فِيهِ فَقَالَ « لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ » . امرقَّ : تساقط
و مسند أحمد يرقم (2302)عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ وَالْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ. وهو صحيح
والمعجم الكبير للطبراني - (ج 7 / ص 206) برقم(7675 ) عَن أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"لَعَنَ الْوَاصِلَةَ، وَالْمَوْصُولَةَ، وَالْوَاشِمَةَ، وَالْمَوْشُومَةَ".صحيح
الواصِلة : التي تَصِل شَعْرَها بشَعْرٍ آخرَ زُورٍ = الموصولة : التي تستخدم شعرا مستعارا لإطالة شعرها= الواشمة : هي فاعلة الوشم وهو أن يغرز الجلد بإبرة ثم يحشى بكحل أو نيل فيزرق أثره أو يخضر(1/254)
فعن أَسْمَاءَ قَالَتْ سَأَلَتِ امْرَأَةٌ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِى أَصَابَتْهَا الْحَصْبَةُ ، فَامَّرَقَ شَعَرُهَا ، وَإِنِّى زَوَّجْتُهَا أَفَأَصِلُ فِيهِ فَقَالَ « لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ » (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ وَالْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ. (2)
وعَن أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - :"لَعَنَ الْوَاصِلَةَ، وَالْمَوْصُولَةَ، وَالْوَاشِمَةَ، وَالْمَوْشُومَةَ" (3)
ومع هذا فإنَّ مِن الْفُقَهَاءِ مَن يَكْرَهُهُ فَقَطْ، قال الحافظ ابن حجر :" قَالَ الطَّبَرِيُّ : لَا يَجُوز لِلْمَرْأَةِ تَغْيِير شَيْء مِن خِلْقَتهَا الَّتِي خَلَقَهَا اللَّه عَلَيْهَا بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْص اِلْتِمَاس الْحُسْن لَا لِلزَّوْجِ وَلَا لِغَيْرِهِ كَمَن تَكُون مَقْرُونَة الْحَاجِبَيْنِ فَتُزِيل مَا بَيْنهمَا تَوَهُّم الْبَلَج أَوْ عَكْسه ، وَمَن تَكُون لَهَا سِنّ زَائِدَة فَتَقْلَعهَا أَوْ طَوِيلَة فَتَقْطَع مِنهَا أَوْ لِحْيَة أَوْ شَارِب أَوْ عَنفَقَة فَتُزِيلهَا بِالنَّتْفِ ، وَمَن يَكُون شَعْرهَا قَصِيرًا أَوْ حَقِيرًا فَتُطَوِّلهُ أَوْ تُغْزِرهُ بِشَعْرِ غَيْرهَا ، فَكُلّ ذَلِكَ دَاخِل فِي النَّهْي . وَهُوَ مِن تَغْيِير خَلْق اللَّه تَعَالَى . قَالَ : وَيُسْتَثْنَى مِن ذَلِكَ مَا يَحْصُل بِهِ الضَّرَر وَالْأَذِيَّة كَمَن يَكُون لَهَا سِنّ زَائِدَة أَوْ طَوِيلَة تُعِيقهَا فِي الْأَكْل أَوْ إِصْبَع زَائِدَة تُؤْذِيهَا أَوْ تُؤْلِمهَا فَيَجُوز ذَلِكَ ، وَالرَّجُل فِي هَذَا الْأَخِير كَالْمَرْأَةِ ، وَقَالَ النَّوَوِيّ : يُسْتَثْنَى مِن النِّمَاص مَا إِذَا نَبَتَ لِلْمَرْأَةِ لِحْيَة أَوْ شَارِب أَوْ عَنفَقَة فَلَا يَحْرُم عَلَيْهَا إِزَالَتهَا بَل يُسْتَحَبّ .
__________
(1) - - صحيح البخارى برقم(5941 ) . امرقَّ : تساقط
(2) - مسند أحمد يرقم (2302) وهو صحيح
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 7 / ص 206) برقم(7675 ) صحيح
الواصِلة : التي تَصِل شَعْرَها بشَعْرٍ آخرَ زُورٍ = الموصولة : التي تستخدم شعرا مستعارا لإطالة شعرها= الواشمة : هي فاعلة الوشم وهو أن يغرز الجلد بإبرة ثم يحشى بكحل أو نيل فيزرق أثره أو يخضر(1/255)
قُلْت : وَإِطْلَاقه مُقَيَّد بِإِذْنِ الزَّوْج وَعِلْمه ، وَإِلَّا فَمَتَى خَلَا عَن ذَلِكَ مُنِعَ لِلتَّدْلِيسِ . وَقَالَ بَعْض الْحَنَابِلَة : إِنْ كَانَ النَّمْص أَشْهَر شِعَارًا لِلْفَوَاجِرِ اِمْتَنَعَ وَإِلَّا فَيَكُون تَنْزِيهًا ، وَفِي رِوَايَة يَجُوز بِإِذْنِ الزَّوْج إِلَّا إِنْ وَقَعَ بِهِ تَدْلِيس فَيَحْرُم ، قَالُوا وَيَجُوز الْحَفّ وَالتَّحْمِير وَالنَّقْش وَالتَّطْرِيف إِذَا كَانَ بِإِذْنِ الزَّوْج لِأَنَّهُ مِن الزِّينَة . وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِن طَرِيق أَبِي إِسْحَاق عَن اِمْرَأَته أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَة وَكَانَتْ شَابَّة يُعْجِبهَا الْجَمَال فَقَالَتْ : الْمَرْأَة تَحُفّ جَبِينهَا لِزَوْجِهَا فَقَالَتْ : أَمِيطِي عَنك الْأَذَى مَا اِسْتَطَعْت (1) . وَقَالَ النَّوَوِيّ : يَجُوز التَّزَيُّن بِمَا ذُكِرَ ، إِلَّا الْحَفّ فَإِنَّهُ مِن جُمْلَة النِّمَاص ." (2)
المثال الخامس - حول آنية الفضة:
عَن أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « الَّذِى يَشْرَبُ فِى آنِيَةِ الْفِضَّةِ، إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِى بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ » (3) .
وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ، قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ ، فَإِنَّهُ مَن شَرِبَ فِيهِ فِي الدُّنْيَا ، لَمْ يَشْرَبْ فِيهِ فِي الآخِرَةِ. (4)
وقد اتفق الفقهاء في أمر واختلفوا في آخر،قَال النَّوَوِيُّ : قَال أَصْحَابُنَا : أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الاِسْتِعْمَال فِي إِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ إِلاَّ مَا حُكِيَ
__________
(1) - عَن أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ : دَخَلَتِ امْرَأَتِي عَلَى عَائِشَةَ ،...وَسَأَلَتْهَا امْرَأَتِي عَنِ الْمَرْأَةِ تَحُفُّ جَبِينَهَا فَقَالَتْ : " أَمِيطِي عَنكِ الْأَذَى مَا اسْتَطَعْتِ " مُسْنَدُ ابْنِ الْجَعْدِ (392 ) حسن
وعَنِ امْرَأَةِ ابْنِ أَبِي الصَّقْرِ ، أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ فَسَأَلَتْهَا امْرَأَةٌ ؟ فَقَالَتْ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّ فِي وَجْهِي شَعَرَاتٌ أَفَأَنْتِفُهُنَّ أَتَزَيَّنُ بِذَلِكَ لِزَوْجِي ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : " أَمِيطِي عَنكِ الْأَذَى ، وَتَصَنَّعِي لِزَوْجِكِ كَمَا تَصَنَّعِينَ لِلزِّيَارَةِ ، وَإِذَا أَمَرَكِ فَلْتُطِيعِيهِ ، وَإِذَا أَقْسَمَ عَلَيْكِ فَأَبِرِّيهِ ، وَلَا تَأْذَنِي فِي بَيْتِهِ لِمَنْ يَكْرَهُ "مصنف عبد الرزاق(5105) وفيه جهالة
(2) - فتح الباري لابن حجر - (ج 17 / ص 41) والمحلى لابن حزم - (ج 1 / ص 496)(433 ) وفتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 449) تزجيج الحواجب وفتاوى يسألونك - (ج 4 / ص 159) ما هو النمص ؟ وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 2832) رقم الفتوى 22826 هناك فرق بين النمص والحف و(ج 4 / ص 9575) رقم الفتوى 29137 يجوز نتف الشعر من الوجه
(3) - صحيح مسلم يرقم(5506 ) .يجرجر : يحدر فيه
(4) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 8 / ص 22)(24616) صحيح(1/256)
عَن دَاوُدَ ، وَإِلاَّ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ - وَقَدْ رَجَعَ عَنهُ - وَلأَِنَّهُ إِذَا حَرُمَ الشُّرْبُ فَالأَْكْل أَوْلَى ، لأَِنَّهُ أَطْوَل مُدَّةً وَأَبْلَغُ فِي السَّرَفِ (1) .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ النَّوَوِيُّ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ فِي تَحْرِيمِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ ، وَكَذَا سَائِرُ أَنْوَاعِ الاِسْتِعْمَالاَتِ ، وَمِنهَا تَزْيِينُ الْحَوَانِيتِ وَالْبُيُوتِ بِهَا ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ وَمِن قَبْلِهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ ، مَعَ مُلاَحَظَةِ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ عَبَّرُوا فِي هَذَا الْمَقَامِ بِالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ لاَ الْحَرَامِ ، وَأَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ هِيَ : عَيْنُ الْفِضَّةِ ، أَوِ الْخُيَلاَءُ وَالسَّرَفُ (2) .
وأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اقْتِنَاءَ الْفِضَّةِ عَلَى غَيْرِ صُورَةِ الأَْوَانِي لاَ يَحْرُمُ إِذَا كَانَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْفِضَّةِ عَلَى صُورَةِ الأَْوَانِي وَنَحْوِهَا مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ ، فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ آرَاءٌ :
الرَّأْيُ الأَْوَّل ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الرَّاجِحَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ، وَهَؤُلاَءِ يَرَوْنَ أَنَّ اقْتِنَاءَ أَوَانِي الْفِضَّةِ تَحْرُمُ كَمَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا ، لأَِنَّ مَا لاَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لاَ يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ ، وَلأَِنَّ اتِّخَاذَهُ يُؤَدِّي إِلَى اسْتِعْمَال مُحَرَّمٍ ، فَيَحْرُمُ ، كَإِمْسَاكِ الْخَمْرِ ، وَلأَِنَّ الْمَنعَ مِنَ الاِسْتِعْمَال لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُيَلاَءِ وَالسَّرَفِ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الاِتِّخَاذِ ، وَلأَِنَّ الاِتِّخَاذَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ عَبَثٌ ، فَيَحْرُمُ (3) .
__________
(1) المجموع شرح المهذب ( 1 / 250 ) .
(2) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 32 / ص 162) واللباب للميداني 4 / 158، وبدائع الصنائع 5 / 132، ونتائج الأفكار مع الهداية والعناية 10 / 7 - 6، والرسالة لابن أبي زيد القيرواني ص75، وشرح أبي الحسن على الرسالة بحاشية العدوي 2 / 430، والقوانين الفقهية ص26، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 64، والخرشي مع حاشية العدوي 1 / 100، والمجموع 1 / 250، وصحيح مسلم ، بشرح النووي 14 / 27 - 37، والأم للشافعي 1 / 8، ومختصر المزني بهامش الأم 1 / 4، والمغني 1 / 75، والمبدع 1 / 66، وشرح منتهى الإرادات 1 / 24 .
(3) - نتائج الأفكار مع الهداية 10 / 8، وحاشية العدوي على شرح أبي الحسن 2 / 430، المجموع للنووي 1 / 252، والمغني 1 / 77 .(1/257)
الرَّأْيُ الثَّانِي : أَنَّ اتِّخَاذَ أَوَانِي الْفِضَّةِ لاَ يَحْرُمُ إِذَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَرِوَايَةٌ أَوْ وَجْهٌ عَن أَحْمَدَ ، لأَِنَّ الْخَبَرَ إِنَّمَا وَرَدَ بِالاِسْتِعْمَال فَلاَ يَحْرُمُ الاِتِّخَاذُ ، كَمَا لَوِ اتَّخَذَ الرَّجُل ثِيَابَ الْحَرِيرِ وَاقْتَنَاهَا دُونَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا ، فَكَذَا اقْتِنَاءُ أَوَانِي الْفِضَّةِ دُونَ اسْتِعْمَالِهَا (1) .
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى تَحْرِيمِ الاِتِّخَاذِ فِي بَابِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ ، فَقَال فِي الْمُخْتَصَرِ : فَإِنِ اتَّخَذَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ إِنَاءَ ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ زَكَّيَاهُ فِي الْقَوْلَيْنِ (2) لأَِنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنهُمَا اتِّخَاذُهُ (3) .
الرَّأْيُ الثَّالِثُ : أَنَّ التَّحْرِيمَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الاِتِّخَاذُ بِقَصْدِ الاِسْتِعْمَال ، أَمَّا إِذَا كَانَ اتِّخَاذُهُ بِقَصْدِ الْعَاقِبَةِ ، أَوْ لِزَوْجَتِهِ ، أَوْ بِنْتِهِ ، أَوْ لاَ لِشَيْءٍ ، فَلاَ حُرْمَةَ ، وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ الْعَدَوِيُّ (4) .
وَقَال الدَّرْدِيرُ : وَحَرُمَ اقْتِنَاؤُهُ - أَيِ ادِّخَارُهُ - وَلَوْ لِعَاقِبَةِ دَهْرٍ ، لأَِنَّهُ ذَرِيعَةٌ لِلاِسْتِعْمَال ، وَكَذَا التَّجَمُّل بِهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ ، وَقَوْلُنَا : " وَلَوْ لِعَاقِبَةِ دَهْرٍ " هُوَ مُقْتَضَى النَّقْل ، وَيُشْعِرُ بِهِ التَّعْلِيل ، وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي الْجَزْمُ بِهِ ، إِذِ الإِْنَاءُ لاَ يَجُوزُ لِرَجُلٍ وَلاَ لاِمْرَأَةٍ ، فَلاَ مَعْنَى لاِِتِّخَاذِهِ لِلْعَاقِبَةِ ، بِخِلاَفِ الْحُلِيِّ (5) .
وَقَال الدُّسُوقِيُّ : وَالْحَاصِل أَنَّ اقْتِنَاءَهُ إِنْ كَانَ بِقَصْدِ الاِسْتِعْمَال فَحَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ ، وَإِنْ كَانَ لِقَصْدِ الْعَاقِبَةِ أَوِ التَّجَمُّل أَوْ لاَ لِقَصْدِ شَيْءٍ ، فَفِي كُلٍّ قَوْلاَنِ ، وَالْمُعْتَمَدُ الْمَنعُ (6) .
__________
(1) - المبدع 1 / 66، وشرح أبي الحسن مع حاشية العدوي 2 / 430 .
(2) - مختصر المزني بهامش الأم 1 / 238، والمجموع 1 / 252 .
(3) - المطلب العالي مخطوط ج1 ورقة 160 أ .
(4) - حاشية العدوي على الخرشي 1 / 98 .
(5) - الشرح الكبير 1 / 64 .
(6) - الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 64 .، الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 32 / ص 162) وانظر فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 228) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 150 / ص 15) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 2667) ومجموع رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية - (ج 31 / ص 16) و لقاءات الباب المفتوح - (ج 150 / ص 15) حكم اتخاذ آنية الذهب والفضة للزينة(1/258)
وقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي النَّيْلِ (1) : وَلَا شَكَّ أَنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَأَمَّا سَائِرُ الِاسْتِعْمَالَاتِ فَلَا، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ ، فَإِنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ عَن الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ هِيَ التَّشَبُّهُ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ حَيْثُ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَّةٍ مِن فِضَّةٍ ، وَذَلِكَ مَنَاطٌ مُعْتَبَرٌ لِلشَّارِعِ كَمَا ثَبَتَ عَنهُ لَمَّا رَأَى رَجُلًا مُتَخَتِّمًا بِخَاتَمٍ مِن ذَهَبٍ فَقَالَ مَالِي أَرَى عَلَيْك حِلْيَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ . أَخْرَجَهُ الثَّلَاثَةُ مِن حَدِيثِ بُرَيْدَةَ ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ وَإِلَّا لَزِمَ تَحْرِيمُ التَّحَلِّي بِالْحُلِيِّ وَالِافْتِرَاشِ لِلْحَرِيرِ لِأَنَّ ذَلِكَ اِسْتِعْمَالٌ وَقَدْ جَوَّزَهُ الْبَعْضُ مِن الْقَائِلِينَ بِتَحْرِيمِ الِاسْتِعْمَالِ . وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ إِلَّا بِدَلِيلٍ يُسَلِّمُهُ الْخَصْمُ ، وَلَا دَلِيلَ فِي الْمَقَامِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، فَالْوُقُوفُ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ الْمُعْتَضِدِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ هُوَ وَظِيفَةُ الْمُنْصِفِ الَّذِي لَمْ يُخْبَطْ بِسَوْطِ هَيْبَةِ الْجُمْهُورِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَيَّدَ هَذَا الْأَصْلَ حَدِيثُ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« مَن أَحَبَّ أَنْ يُحَلَّقَ حَبِيبُهُ حَلْقَةً مِن نَارٍ فَلْيُحَلِّقْهُ حَلْقَةً مِن ذَهَبٍ ، وَمَن أَحَبَّ أَنْ يُطَوَّقَ حَبِيبَهُ طَوْقًا مِن نَارٍ فَلْيُطَوِّقْهُ طَوْقًا مِن ذَهَبٍ ، وَمَن أَحَبَّ أَنْ يُسَوَّرَ حَبِيبُهُ سِوَارًا مِن نَارٍ فَلْيُسَوِّرْهُ سِوَارًا مِن ذَهَبٍ ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِالْفِضَّةِ فَالْعَبُوا بِهَا لَعِبًا»." أَخْرَجَهُ ( البيهقي) (2) ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا روي عَن عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ أَرْسَلَنِى أَهْلِى إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِقَدَحٍ مِن مَاءٍ - وَقَبَضَ إِسْرَائِيلُ ثَلاَثَ أَصَابِعَ - مِن فِضَّةٍ فِيهِ شَعَرٌ مِن شَعَرِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ إِذَا أَصَابَ الإِنْسَانَ عَيْنٌ أَوْ شَىْءٌ بَعَثَ إِلَيْهَا مِخْضَبَهُ ، فَاطَّلَعْتُ فِى الْجُلْجُلِ فَرَأَيْتُ شَعَرَاتٍ حُمْرًا (3) . اِنْتَهَى كَلَامُ الشَّوْكَانِيِّ بتصرف (4)
فنلاحظ أن المسالة وقع فيها خلاف بين العلماء .
المثال السادس - النهي عن قتال المسلم لأخيه :
__________
(1) - تحفة الأحوذي - (ج 5 / ص 95) ونيل الأوطار - (ج 1 / ص 170)
(2) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 4 / ص 140)(7803) حيث حسن
(3) - صحيح البخارى(5896 ) -الجحل : السقاء الضخم -الجلجل : الجرس الصغير وقد يتخذ إناء
(4) - انظر فتح الباري لابن حجر - (ج 16 / ص 488)(1/259)
عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ ذَهَبْتُ لأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ ، فَلَقِيَنِى أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ قُلْتُ أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ . قَالَ ارْجِعْ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِى النَّارِ » . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ: « إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ » (1) .
يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي تَحْرِيمِ قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ،ثُمَّ إنَّا نَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ الْجَمَلِ وصفين لَيْسُوا فِي النَّارِ؛ لِأَنَّ لَهُمَا عُذْرًا وَتَأْوِيلًا فِي الْقِتَالِ وَحَسَنَاتٍ مَنَعَتْ الْمُقْتَضِي أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَهُ.
قال ابن تيمية (2) : " وَلَا يَجُوزُ تَكْفِيرُ الْمُسْلِمِ بِذَنْبِ فَعَلَهُ وَلَا بِخَطَأِ أَخْطَأَ فِيهِ كَالْمَسَائِلِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الْقِبْلَةِ،فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (285) سورة البقرة ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ وَغَفَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ خَطَأَهُمْ .
وَالْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ الَّذِينَ أَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِقِتَالِهِم (3) قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ . وَاتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ أَئِمَّةُ الدِّينِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَن
__________
(1) - - صحيح البخارى برقم(31 ) ومسلم برقم(7435 ) وفي شرح ابن بطال - (ج 1 / ص 68) وثبت أن حديث أبى بكرة لا يرد به الإلزام والحتم بالنار لكل قاتل ومقتول من المسلمين، لأنه - صلى الله عليه وسلم - سماهما مسلمين وإن التقيا بسيفيهما وقتل أحدهما صاحبه، ولم يخرجهما بذلك من الإسلام، وإنما يستحقان النار إن أنفذ الله عليهما الوعيد، ثم يخرجهما من النار بما فى قلوبهما من الإيمان وعلى هذا مضى السلف الصالح.
(2) - في مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 1 / ص 268) وانظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 887) رقم الفتوى 41122 الفتن في عهد الخلفاء الراشدين تاريخ الفتوى : 15 شوال 1424
(3) - كما في صحيح البخارى(4351 ) عَن عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ شُبْرُمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى نُعْمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ يَقُولُ بَعَثَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ - رضى الله عنه - إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ فِى أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِن تُرَابِهَا ، قَالَ فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ ، وَأَقْرَعَ بْنِ حَابِسٍ وَزَيْدِ الْخَيْلِ ، وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِن أَصْحَابِهِ كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِن هَؤُلاَءِ . قَالَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « أَلاَ تَأْمَنُونِى وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِى السَّمَاءِ ، يَأْتِينِى خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً » . قَالَ فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ ، نَاشِزُ الْجَبْهَةِ ، كَثُّ اللِّحْيَةِ ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ ، مُشَمَّرُ الإِزَارِ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اتَّقِ اللَّهَ . قَالَ « وَيْلَكَ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأَرْضِ أَنْ يَتَّقِىَ اللَّهَ » . قَالَ ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ ، قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ قَالَ « لاَ ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّى » . فَقَالَ خَالِدٌ وَكَمْ مِن مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِى قَلْبِهِ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنِّى لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ قُلُوبَ النَّاسِ ، وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ » قَالَ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهْوَ مُقَفٍّ فَقَالَ « إِنَّهُ يَخْرُجُ مِن ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ » . وَأَظُنُّهُ قَالَ « لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ » . =المُشرف : مرتفع الوجنتين =الضئضئ : النسل(1/260)
بَعْدَهُمْ . وَلَمْ يُكَفِّرْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرُهُمَا مِن الصَّحَابَةِ، بَل جَعَلُوهُمْ مُسْلِمِينَ مَعَ قِتَالِهِمْ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ عَلِيٌّ حَتَّى سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ وَأَغَارُوا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَاتَلَهُمْ لِدَفْعِ ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ لَا لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ . وَلِهَذَا لَمْ يَسْبِ حَرِيمَهُمْ وَلَمْ يَغْنَمْ أَمْوَالَهُمْ .
وَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ثَبَتَ ضَلَالُهُمْ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لَمْ يُكَفَّرُوا مَعَ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِقِتَالِهِمْ فَكَيْفَ بِالطَّوَائِفِ الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ الْحَقُّ فِي مَسَائِلَ غَلِطَ فِيهَا مَن هُوَ أَعْلَمُ مِنهُمْ ؟
فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ مِن هَذِهِ الطَّوَائِفِ أَنْ تُكَفِّرَ الْأُخْرَى وَلَا تَسْتَحِلَّ دَمَهَا وَمَالَهَا وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا بِدْعَةٌ مُحَقَّقَةٌ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الْمُكَفِّرَةُ لَهَا مُبْتَدِعَةً أَيْضًا ؟
وَقَدْ تَكُونُ بِدْعَةُ هَؤُلَاءِ أَغْلَظَ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُمْ جَمِيعًا جُهَّالٌ بِحَقَائِقِ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ . وَالْأَصْلُ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ مُحَرَّمَةٌ مِن بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَا تَحِلُّ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا خَطَبَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ :« أَلاَ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا وَكَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا وَكَحُرْمَةِ بَلَدِكُمْ هَذَا » (1) .
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ
__________
(1) - مسند أحمد(19480) صحيح(1/261)
وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا ». وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ « بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ». (1) .
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَن صَلَّى صَلاَتَنَا ، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا ، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا ، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِى لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ ، فَلاَ تُخْفِرُوا اللَّهَ فِى ذِمَّتِهِ » (2)
وعَن جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ :« اسْتَنْصِتِ النَّاسَ » فَقَال: « لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ » (3) .
وعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ . فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا » (4) .
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا فِي الصِّحَاحِ . وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ مُتَأَوِّلًا فِي الْقِتَالِ أَوْ التَّكْفِيرِ لَمْ يُكَفَّرْ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ . قَالَ :« إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ » وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ (5) .
وَفِيهِمَا أَيْضًا : مِن حَدِيثِ الْإِفْكِ : فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا وَاللَّهِ أَعْذِرُكَ مِنهُ ، إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِن إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَكَ . فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلاً صَالِحًا وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَقَالَ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ ، لاَ تَقْتُلُهُ وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ فَقَالَ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ ، وَاللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ . فَثَارَ
__________
(1) - صحيح مسلم(6706 )
(2) - صحيح البخارى(391 )-تخفر : تنقض العهد
(3) - صحيح البخارى(121)
(4) - صحيح البخارى(6104 )
(5) - صحيح البخارى (3007 ) ومسلم (6557)(1/262)
الْحَيَّانِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنبَرِ فَنَزَلَ فَخَفَّضَهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ (1) .
فَهَؤُلَاءِ الْبَدْرِيُّونَ فِيهِمْ مَن قَالَ لِآخَرَ مِنهُمْ : إنَّك مُنَافِقٌ وَلَمْ يُكَفِّرِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَا هَذَا وَلَا هَذَا، بَل شَهِدَ لِلْجَمِيعِ بِالْجَنَّةِ .
وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عن أبي ظَبْيَانَ قَالَ سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ - رضى الله عنهما - يَقُولُ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْحُرَقَةِ ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنهُمْ ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . فَكَفَّ الأَنْصَارِىُّ ، فَطَعَنتُهُ بِرُمْحِى حَتَّى قَتَلْتُهُ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - - فَقَالَ: « يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ » قُلْتُ كَانَ مُتَعَوِّذًا . فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ" (2) .
وَمَعَ هَذَا لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ قَوَدًا وَلَا دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً ، لِأَنَّهُ كَانَ مُتَأَوِّلًا ظَنَّ جَوَازَ قَتْلِ ذَلِكَ الْقَائِلِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ قَالَهَا تَعَوُّذًا .
فَهَكَذَا السَّلَفُ قَاتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِن أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين وَنَحْوِهِمْ وَكُلُّهُمْ مُسْلِمُونَ مُؤْمِنُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (9) سورة الحجرات، فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ اقْتِتَالِهِمْ وَبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إخْوَةٌ مُؤْمِنُونَ وَأَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ .
وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ مَعَ الِاقْتِتَالِ يُوَالِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا مُوَالَاةَ الدِّينِ ، لَا يُعَادُونَ كَمُعَادَاةِ الْكُفَّارِ فَيَقْبَلُ بَعْضُهُمْ شَهَادَةَ بَعْضٍ وَيَأْخُذُ بَعْضُهُمْ الْعِلْمَ عَن بَعْضٍ وَيَتَوَارَثُونَ وَيَتَنَاكَحُونَ
__________
(1) - صحيح البخارى(2661 ) ومسلم (7196)
(2) - صحيح البخارى(4269) وصحيح مسلم (288)(1/263)
وَيَتَعَامَلُونَ بِمُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ ، مَعَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِن الْقِتَالِ وَالتَّلَاعُنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَن ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِىَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِى سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِىَ لِى مِنهَا وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ وَإِنِّى سَأَلْتُ رَبِّى لأُمَّتِى أَنْ لاَ يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ وَأَنْ لاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِن سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ وَإِنَّ رَبِّى قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّى إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ وَإِنِّى أَعْطَيْتُكَ لأُمَّتِكَ أَنْ لاَ أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ وَأَنْ لاَ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِن سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَن بِأَقْطَارِهَا - أَوْ قَالَ مَن بَيْنَ أَقْطَارِهَا - حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِى بَعْضُهُمْ بَعْضًا » (1) ..
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيح عَن جَابِرٍ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِن فَوْقِكُمْ ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَعُوذُ بِوَجْهِكَ » . قَالَ ( أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) قَالَ « أَعُوذُ بِوَجْهِكَ ( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « هَذَا أَهْوَنُ » . أَوْ « هَذَا أَيْسَرُ » (2) .
هَذَا مَعَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف وَنَهَى عَن الْبِدْعَةِ وَالِاخْتِلَافِ وَقَالَ : {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } (159) سورة الأنعام.
المثال السابع - الأمر بالجماعة والنهي عن الاختلاف:
قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ » (3) .
__________
(1) - صحيح مسلم(7440 ) -البيضة : مجتمعهم وموضع سلطانهم -السنة : الجدب والقحط
(2) - صحيح البخارى(4628 )
(3) - مسند أحمد (23846) صحيح(1/264)
وَقَالَ : " { الشَّيْطَانُ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِن الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ } " (1) وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ يَأْخُذُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ فَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ وَعَلَيْكُمْ بِالْجَماعَةِ وَالْعَامَّةِ والْمَسْجِدِ » (2) .
فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا صَارَ فِي مَدِينَةٍ مِن مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُمْ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَيُوَالِيَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يُعَادِيَهُمْ، وَإِنْ رَأَى بَعْضَهُمْ ضَالًّا أَوْ غَاوِيًا وَأَمْكَنَ أَنْ يَهْدِيَهُ وَيُرْشِدَهُ فَعَلَ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا، وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُوَلِّيَ فِي إمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَفْضَلَ وَلَّاهُ وَإِنْ قَدَرَ أَنْ يَمْنَعَ مَن يُظْهِرُ الْبِدَعَ وَالْفُجُورَ مَنَعَهُ . وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ فَالصَّلَاةُ خَلْفَ الْأَعْلَمِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ الْأَسْبَقِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَفْضَلُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: « يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِى الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِى السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِى الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا وَلاَ يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِى سُلْطَانِهِ وَلاَ يَقْعُدْ فِى بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ » (3) .
وَإِنْ كَانَ فِي هَجْرِهِ لِمُظْهِرِ الْبِدْعَةِ وَالْفُجُورِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ هَجَرَهُ كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . وَأَمَّا إذَا وَلَّى غَيْرَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَيْسَ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ كَانَ تَفْوِيتُ هَذِهِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ جَهْلًا وَضَلَالًا وَكَانَ قَدْ رَدَّ بِدْعَةً بِبِدْعَةِ .
حَتَّى إنَّ الْمُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ خَلْفَ الْفَاجِرِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي إعَادَتِهِ الصَّلَاةَ وَكَرِهَهَا أَكْثَرُهُمْ حَتَّى قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ عبدوس : مَن أَعَادَهَا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ . وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يُعِيدُونَ الصَّلَاةَ إذَا صَلَّوْا خَلْفَ أَهْلِ الْفُجُورِ وَالْبِدَعِ ،وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ أَحَدًا إذَا صَلَّى كَمَا أَمَرَ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ . وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَن صَلَّى بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ لَا يُعِيدَ حَتَّى الْمُتَيَمِّمَ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ وَمَن
__________
(1) - مسند أحمد (115) صحيح لغيره
(2) - مسند أحمد (22679) حسن لغيره
(3) - صحيح مسلم(1564) -السلم : الإسلام =التكرمة : الفراش والبساط الخاص بصاحب المنزل(1/265)
عَدِمَ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ إذَا صَلَّى بِحَسَبِ حَالِهِ وَالْمَحْبُوسُ وذووا الْأَعْذَارِ النَّادِرَةِ وَالْمُعْتَادَةِ وَالْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْقَطِعَةِ لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنهُمْ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ إذَا صَلَّى الْأُولَى بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الصَّحَابَةَ صَلَّوْا بِغَيْرِ مَاءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ لَمَّا فَقَدَتْ عَائِشَةُ عِقْدَهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْإِعَادَةِ (1) ، بَل أَبْلَغُ مِن ذَلِكَ أَنَّ مَن كَانَ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ جَهْلًا بِوُجُوبِهَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ فَعُمَر وَعَمَّارٌ لَمَّا أَجْنَبَا وَعُمَر لَمْ يُصَلِّ وَعَمَّارٌ تَمَرَّغَ كَمَا تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ لَمْ يَأْمُرْهُمَا بِالْقَضَاءِ (2) ،وَأَبُو ذَرٍّ لَمَّا كَانَ يُجْنِبُ وَلَا يُصَلِّي لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ، وَالْمُسْتَحَاضَةُ لَمَّا اسْتَحَاضَتْ حَيْضَةً شَدِيدَةً مُنْكَرَةً مَنَعَتْهَا الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ لَمْ يَأْمُرْهَا بِالْقَضَاءِ (3) .
وَاَلَّذِينَ أَكَلُوا فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِأَحَدِهِمْ الْحَبْلُ الْأَبْيَضُ مِن الْحَبْلِ الْأَسْوَدِ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقَضَاءِ وَكَانُوا قَدْ غَلِطُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَظَنُّوا أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (187) سورة البقرة ،هُوَ الْحَبْلُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - " { إنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ } (4) ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقَضَاءِ ، وَالْمُسِيءُ فِي صَلَاتِهِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا تَقَدَّمَ مِن الصَّلَوَاتِ (5) وَاَلَّذِينَ صَلَّوْا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِمَكَّةَ وَالْحَبَشَةِ وَغَيْرِهِمَا بَعْدَ أَنْ نُسِخَتْ ، بِالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ وَصَارُوا يُصَلُّونَ إلَى الصَّخْرَةِ حَتَّى بَلَغَهُمْ النَّسْخُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ مَا صَلَّوْا وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ أَعْذَرَ مِن غَيْرِهِمْ لِتَمَسُّكِهِمْ بِشَرْعِ مَنسُوخٍ" (6) .
المثال الثامن - ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة:
__________
(1) - صحيح البخارى(336)
(2) - سنن أبى داود(321 ) صحيح
(3) - مسند أحمد (28236) حسن
(4) - صحيح البخارى(1916 )
(5) - صحيح البخارى(757)
(6) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 1 / ص 268) وانظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 887) رقم الفتوى 41122 الفتن في عهد الخلفاء الراشدين تاريخ الفتوى : 15 شوال 1424(1/266)
عَن أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهْوَ كَاذِبٌ ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ ، فَيَقُولُ اللَّهُ الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِى ،كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ » (1) .
وعَن سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو كَتَبَ إِلَى عَامِلٍ لَهُ عَلَى أَرْضٍ لَهُ أَنْ لاَ تَمْنَعْ فَضْلَ مَائِكَ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَن مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ فَضْلَ الْكَلإِ مَنَعَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَضْلَهُ » (2)
فَهَذَا وَعِيدٌ عَظِيمٌ لِمَن مَنَعَ فَضْلَ مَائِهِ مَعَ أَنَّ طَائِفَةً مِن الْعُلَمَاءِ يُجَوِّزُونَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَمْنَعَ فَضْلَ مَائِهِ.
قال المهلب: إنما خص النبى - صلى الله عليه وسلم - هذا الوقت بالتعظيم وجعل الإثم فيه أكبر من غيره؛ لشهود ملائكة الليل والنهار فى وقت العصر، وليرتدع الناس عن الأيمان الكاذبة فى هذا الوقت المعظم.
وقوله: « ثلاثة لا يكلمهم الله » يعنى: وقتًا دون وقت لمن أنفذ الله عليه الوعيد، وليس على الاستمرار والخلود. هذا مذهب أهل السنة، وفيه أنه قد يستحق النوع من العذاب على ذنوب مختلفة، فالمانع لفضل الماء أصغر معصية من المبايع الناكث، والحالف الآثم، والله أعلم. (3)
قلت : أما إذا كان الْمَنبَعُ مَمْلُوكًا : كَأَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي مَوَاتٍ لِلتَّمَلُّكِ ، أَوِ انْفَجَرَتْ فِي مِلْكِهِ عَيْنٌ . فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الْمَاءَ لأَِنَّهُ نَمَاءٌ مَلَكَهُ كَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْل الْفَاضِل مِنَ الْمَاءِ عَن شُرْبِهِ لِشُرْبِ غَيْرِهِ ، وَبَذْل مَا فَضَل عَن مَاشِيَتِهِ لِمَاشِيَةِ غَيْرِهِ لِحَدِيثِ : الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ : فِي
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(2672 ، 2358 ، 2369 ، 7212 ، 7446 ) ومسلم برقم (306 - 312)
(2) - - مسند أحمد برقم(6893) صحيح لغيره
(3) - شرح ابن بطال - (ج 15 / ص 67)(1/267)
الْكَلأَِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ " (1) بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ كَلأٌَ تَرْعَى الْمَاشِيَةُ مِنهُ ، وَلاَ يَجِدُ مَاءً مُبَاحًا أَوْ مَمْلُوكًا يَبْذُلُهُ صَاحِبُهُ لَهُ مَجَّانًا .
وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنهُ ، لِلنَّهْيِ عَن بَيْعِ فَضْل الْمَاءِ ، وَلاَ يَجِبُ بَذْل فَضْل الْمَاءِ لِزَرْعِهِ .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : لَهُ مَنعُهُ مِن غَيْرِهِ ، وَبَيْعُهُ ، وَهِبَتُهُ ، وَالتَّصَدُّقُ بِهِ ، إِلاَّ مَن خِيفَ عَلَيْهِ هَلاَكٌ أَوْ ضَرَرٌ شَدِيدٌ ، وَلاَ ثَمَنَ مَعَهُ حِينَ الْخَوْفِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ ، فَلَيْسَ لِلْمَالِكِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَنعُهُ وَلاَ بَيْعُهُ ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُهُ لَهُ مَجَّانًا ، وَلاَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ . أَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ مَالٌ فَلاَ يَبْذُل لَهُ إِلاَّ بِالثَّمَنِ . وَكَذَا يَجِبُ عَلَى مَالِكِ الْمَاءِ بَذْل الْفَاضِل مِنَ الْمَاءِ لِزَرْعِ جَارِهِ ، بِشَرْطِ أَنْ يَظُنَّ هَلاَكَ الزَّرْعِ ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَاءُ فَاضِلاً عَن زَرْعِ مَالِكِ الْمَاءِ ، وَأَنْ يَزْرَعَ الْجَارُ زَرْعَهُ عَلَى مَاءٍ لَهُ ، وَأَنْ يَشْرَعَ فِي إِصْلاَحِ بِئْرِهِ .
فَإِنْ لَمْ يَفْضُل عَن زَرْعِهِ شَيْءٌ ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْل الْمَاءِ لِغَيْرِهِ ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَزْرَعِ الْجَارُ زَرْعَهُ عَلَى مَاءِ لِمُخَاطَرَتِهِ وَتَعْرِيضِهِ زَرْعَهُ لِلْهَلاَكِ ، وَكَذَا إِنْ كَانَ قَدْ زَرَعَ عَلَى مَاءٍ فَعَطِبَ وَلَمْ يَشْرَعْ فِي إِصْلاَحِهِ .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : إِنَّ مَاءَ الآْبَارِ وَالْحِيَاضِ وَالْعُيُونِ لاَ يُمْلَكُ ، بَل هُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ ، سَوَاءٌ حُفِرَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أَوْ أَرْضٍ مُبَاحَةٍ ، وَلَكِنْ لِحَافِرِ الْبِئْرِ فِي مِلْكِهِ ، أَوْ فِي مَوَاتٍ لِلتَّمَلُّكِ ، وَلِمَن نَبَعَتِ الْعَيْنُ فِي أَرْضٍ يَمْلِكُهَا حَقُّ الاِخْتِصَاصِ ؛ لأَِنَّ الْمَاءَ فِي الأَْصْل خُلِقَ مُبَاحًا ، لِقَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ : الْكَلأَِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ وَالشَّرِكَةُ تَقْتَضِي الإِْبَاحَةَ لِجَمِيعِ الشُّرَكَاءِ إِلاَّ إِذَا حَصَل فِي إِنَاءٍ وَأَحْرَزَهُ بِهِ ، فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا ، لأَِنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَهُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لأَِحَدٍ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ غَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بَقِيَ عَلَى أَصْل الإِْبَاحَةِ الثَّابِتَةِ بِالشَّرْعِ ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ لأَِنَّ الْبَيْعَ لاَ يَصِحُّ فِي مَالٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ . وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنَ الشُّرْبِ بِأَنْفُسِهِمْ وَسَقْيِ دَوَابِّهِمْ مِنهُ لأَِنَّهُ مُبَاحٌ .
__________
(1) - سنن أبى داود (3479 ) صحيح(1/268)
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَمْنَعَ نَقْعَ الْبِئْرِ (1) وَهُوَ فَضْل مَائِهَا الَّذِي يَخْرُجُ مِنهَا ، فَلِلنَّاسِ أَنْ يَشْرَبُوا مِنهَا وَيَسْقُوا مِنهَا دَوَابَّهُمْ ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَلِصَاحِبِهَا أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الدُّخُول فِي مِلْكِهِ ؛ لأَِنَّ فِي الدُّخُول فِي مِلْكِهِ إِضْرَارًا بِهِ مِن غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عَن نَفْسِهِ . وَإِنِ اضْطُرُّوا إِلَيْهِ بِأَنْ لَمْ يَجِدُوا مَاءً غَيْرَهُ وَخَافُوا الْهَلاَكَ ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي الدُّخُول فِي مِلْكِهِ أَوْ يُخْرِجَ الْمَاءَ لَهُمْ ، وَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُ عَلَى ذَلِكَ بِالسِّلاَحِ لِيَأْخُذُوهُ ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ" (2)
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ ؛ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ بِكِتَابِ أَوْ سُنَّةٍ إذَا كَانَ بَعْضُ الْأُمَّةِ لَمْ يَبْلُغْهُمْ أَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ فَاسْتَحَلُّوهَا ،أَوْ عَارَضَ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ عِنْدَهُمْ أَدِلَّةٌ أُخْرَى رَأَوْا رُجْحَانَهَا عَلَيْهَا مُجْتَهِدِينَ فِي ذَلِكَ التَّرْجِيحِ بِحَسَبِ عَقْلِهِمْ وَعِلْمِهِمْ.
فَإِنَّ التَّحْرِيمَ لَهُ أَحْكَامٌ مِن التَّأْثِيمِ وَالذَّمِّ وَالْعُقُوبَةِ وَالْفِسْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَكِنْ لَهَا شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ فَقَدْ يَكُونُ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ مُنْتَفِيَةٌ لِفَوَاتِ شَرْطِهَا أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ ؛ أَوْ يَكُونُ التَّحْرِيمُ مُنْتَفِيًا فِي حَقِّ ذَلِكَ الشَّخْصِ مَعَ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ .
ولذلك لَمْ يَجُزْ أَنْ نُعَيِّنَ شَخْصًا مِمَن فَعَلَ بَعْضَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَنَقُولَ : هَذَا الْمُعَيَّنُ قَدْ أَصَابَهُ هَذَا الْوَعِيدُ ؛ لِإِمْكَانِ التَّوْبَةِ وَغَيْرِهَا مِن مُسْقِطَاتِ الْعُقُوبَةِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ نَقُولَ : هَذَا يَسْتَلْزِمُ لَعْنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَعْنَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ لَعْنَ الصِّدِّيقِينَ أَوْ الصَّالِحِينَ ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ : الصِّدِّيقُ وَالصَّالِحُ متى صَدَرَتْ مِنهُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَلَا بُدَّ مِن مَانِعٍ يَمْنَعُ لُحُوقَ الْوَعِيدِ بِهِ مَعَ قِيَامِ سَبَبِهِ، فَفِعْلُ هَذِهِ الْأُمُورِ مِمَن يَحْسِبُ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ بِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ نَوْعًا مِن أَنْوَاعِ الصِّدِّيقِينَ الَّذِينَ امْتَنَعَ لُحُوقُ الْوَعِيدِ بِهِمْ لِمَانِعِ ،كَمَا امْتَنَعَ لُحُوقُ الْوَعِيدِ بِهِ لِتَوْبَةِ أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السَّبِيلَ هِيَ الَّتِي يَجِبُ سُلُوكُهَا ؛ فَإِنَّ مَا سِوَاهَا طَرِيقَانِ خَبِيثَانِ :
__________
(1) - مسند أحمد (25829) صحيح ، النقع : الفضل
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 25 / ص 374) فما بعد و المنتقى - شرح الموطأ - (ج 4 / ص 39) و نيل الأوطار - (ج 8 / ص 183)(1/269)
أَحَدُهُمَا : الْقَوْلُ بِلُحُوقِ الْوَعِيد لِكُلِّ فَرْدٍ مِن الْأَفْرَادِ بِعَيْنِهِ وَدَعْوَى أَنَّ هَذَا عَمَلٌ بِمُوجَبِ النُّصُوصِ ، وَهَذَا أَقْبَحُ مِن قَوْلِ الْخَوَارِجِ الْمُكَفِّرِينَ بِالذُّنُوبِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَفَسَادُهُ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ وَأَدِلَّتُهُ مَعْلُومَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
الثَّانِي : تَرْكُ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ بِمُوجَبِ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ظَنًّا أَنَّ الْقَوْلَ بِمُوجَبِهَا مُسْتَلْزِمٌ لِلطَّعْنِ فِيمَا خَالَفَهَا . وَهَذَا التَّرْكُ يَجُرُّ إلَى الضَّلَالِ وَاللُّحُوقِ بِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (31) سورة التوبة، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ » (1)
وَيُفْضِي إلَى طَاعَةِ الْمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ عَلَيْهِ وَلاَ طَاعَةَ » (2)
وَيُفْضِي إلَى قُبْحِ الْعَاقِبَةِ وَسُوءِ التَّأْوِيلِ الْمَفْهُومِ مِن فَحْوَى قَوْله تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء.
ثُمَّ إنَّ الْعُلَمَاءَ يَخْتَلِفُونَ كَثِيرًا ؛ فَإِنْ كَانَ كُلُّ خَبَرٍ فِيهِ تَغْلِيظٌ خَالَفَهُ مُخَالِفٌ تُرِكَ الْقَوْلُ بِمَا فِيهِ مِن التَّغْلِيظِ أَوْ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ مُطْلَقًا لَزِمَ مِن هَذَا مِن الْمَحْذُورِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِن أَنْ يُوصَفَ : مِنَ الْكُفْرِ وَالْمُرُوقِ مِن الدِّينِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَحْذُورُ مِن هَذَا أَعْظَمَ مِن الَّذِي قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ دُونَهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ نُؤْمِنَ بِالْكِتَابِ وَنَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا مِن رَبِّنَا جَمِيعِهِ ،لقوله
__________
(1) - - سنن الترمذى برقم(3378 ) وهو حسن لغيره .
(2) - - سنن الترمذى برقم(1809) وهو صحيح(1/270)
تعالى : {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (3) سورة الأعراف.
وَلَا نُؤْمِنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَنَكْفُرَ بِبَعْضِ،لقوله تعالى : {ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (85) سورة البقرة.
وَتَلِينَ قُلُوبُنَا لِاتِّبَاعِ بَعْضِ السُّنَّةِ ، وَتَنْفِرَ عَن قَبُولِ بَعْضِهَا بِحَسَبِ الْعَادَاتِ وَالْأَهْوَاءِ، فَإِنَّ هَذَا خُرُوجٌ عَن الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إلَى صِرَاطِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ.
- - - - - - - - - - - - - -(1/271)
الباب الرابع
أثر التنازع بين الفقهاء في العبادات الظاهرة (1)
مِثْلُ الْأَذَانِ وَالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ وَالتَّسْلِيمِ فِي الصَّلَاةِ وَرَفْعِ الْأَيْدِي فِيهَا وَوَضْعُ الْأَكُفِّ فَوْقَ الْأَكُفِّ . وَمِثْلُ التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ فِي الْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
فَإِنَّ التَّنَازُعَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالشَّعَائِرِ أَوْجَبَ أَنْوَاعًا مِن الْفَسَادِ الَّذِي يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَعِبَادُهُ الْمُؤْمِنُونَ :
" أَحَدُهَا " جَهْلُ كَثِيرٍ مِن النَّاسِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ بِالْأَمْرِ الْمَشْرُوعِ الْمَسْنُونِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاَلَّذِي سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأُمَّتِهِ وَاَلَّذِي أَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ .
" الثَّانِي " ظُلْمُ كَثِيرٍ مِن الْأُمَّةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ بَعْضَهُمْ لِبَعْضِ وَبَغْيُهُمْ عَلَيْهِمْ : تَارَةً بِنَهْيِهِمْ عَمَّا لَمْ يَنْهَ اللَّهُ عَنهُ وَبُغْضُهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُبْغِضُهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَتَارَةً بِتَرْكِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ مِن حُقُوقِهِمْ وَصِلَتِهِمْ لِعَدَمِ مُوَافَقَتِهِمْ لَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُؤْثِرُونَهُ حَتَّى يُقَدِّمُونَ فِي الْمُوَالَاةِ وَالْمَحَبَّةِ وَإِعْطَاءِ الْأَمْوَالِ وَالْوِلَايَاتِ مَنْ يَكُونُ مُؤَخَّرًا عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَتْرُكُونَ مَنْ يَكُونُ مُقَدَّمًا عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِذَلِكَ .
" الثَّالِثُ " اتِّبَاعُ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ حَتَّى يَصِيرَ كَثِيرٌ مِنهُمْ مَدِينًا بِاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ . وَحَتَّى يَصِيرَ فِي كَثِيرٍ مِن الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَعَبِّدَةِ مِن الْأَهْوَاءِ مِن جِنْسِ مَا فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْخَارِجِينَ عَن السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ : كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (26) سورة ص ،وَقَالَ فِي كِتَابِهِ : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} (77) سورة المائدة .
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى - (ج 22 / ص 356)-" قَاعِدَةٌ " فِي صِفَاتِ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا تَنَازُعٌ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي الرِّوَايَةِ وَالرَّأْيِ(1/272)
" الرَّابِعُ " التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ الْمُخَالِفُ لِلِاجْتِمَاعِ والائتلاف حَتَّى يَصِيرَ بَعْضُهُمْ يُبْغِضُ بَعْضًا وَيُعَادِيهِ وَيُحِبُّ بَعْضًا وَيُوَالِيهِ عَلَى غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ وَحَتَّى يُفْضِيَ الْأَمْرُ بِبَعْضِهِمْ إلَى الطَّعْنِ وَاللَّعْنِ وَالْهَمْزِ وَاللَّمْزِ . وَبِبَعْضِهِمْ إلَى الِاقْتِتَالِ بِالْأَيْدِي وَالسِّلَاحِ وَبِبَعْضِهِمْ إلَى الْمُهَاجَرَةِ وَالْمُقَاطَعَةِ حَتَّى لَا يُصَلِّيَ بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ وَهَذَا كُلُّهُ مِن أَعْظَمِ الْأُمُورِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ .
وَالِاجْتِمَاعُ والائتلاف مِن أَعْظَمِ الْأُمُورِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) [آل عمران/102-108] }, قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ (1) .
وَكَثِيرٌ مِن هَؤُلَاءِ يَصِيرُ مِن أَهْلِ الْبِدْعَةِ بِخُرُوجِهِ مِن السُّنَّةِ الَّتِي شَرَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأُمَّتِهِ وَمِن أَهْلِ الْفُرْقَةِ بِالْفُرْقَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ قَالَ تَعَالَى : {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } (159) سورة الأنعام، وَقَالَ تَعَالَى : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (213)
__________
(1) - تفسير ابن أبي حاتم (3998) وتفسير ابن كثير - (ج 2 / ص 92)(1/273)
سورة البقرة، وَقَالَ تَعَالَى : {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) } [البينة/4-5]، وَقَالَ تَعَالَى : {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (19) سورة آل عمران، وَقَالَ تَعَالَى : {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } (17) سورة الجاثية، وَقَالَ تَعَالَى : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (1) سورة الأنفال ، وَقَالَ : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (10) سورة الحجرات ، وَقَالَ تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (114) سورة النساء .
وَهَذَا الْأَصْلُ الْعَظِيمُ : وَهُوَ الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَأَنْ لَا يَتَفَرَّقَ هُوَ مِن أَعْظَمِ أُصُولِ الْإِسْلَامِ وَمِمَّا عَظُمَتْ وَصِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ فِي كِتَابِهِ . وَمِمَّا عَظُمَ ذَمُّهُ لِمَنْ تَرَكَهُ مِن أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ وَمِمَّا عَظُمَتْ بِهِ وَصِيَّةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَوَاطِن عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ : إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا فَقَالَ : " أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ ، وَلَا يُسْتَحْلَفُ ، وَحَتَّى يَشْهَدَ وَلَا يُسْتَشْهَدُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبَعْدُ ، لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ ثَلَاثَ مِرَارٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا شَيْطَانٌ ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ ، مَنْ سَرَّتَهُ حَسَنَتْهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ " (1)
__________
(1) - سنن الترمذى (2318) والسنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة - (ج 6 / ص 45)(9181) صحيح لغيره(1/274)
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ " . (1)
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ " (2)
وعن ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ ، إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً » . (3)
وعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ ». قَالُوا بَلَى. قَالَ « إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِىَ الْحَالِقَةُ » (4) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً ، فَقُتِلَ ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي ، يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا ، وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا ، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ " (5)
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ، قَالَ: قَدِمْتُ وَافِدًا مَعَ وَفْدِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "مَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ، يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ، فَاقْتُلُوهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ". (6)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا , وَيُؤَخِّرُونَ عَنْ وَقْتِهَا ، فَمَا صَلُّوهَا لِوَقْتِهَا
__________
(1) - السُّنَّةُ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ (81 ) صحيح
(2) - السُّنَّةُ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ (69 ) صحيح
(3) - صحيح البخارى (7054 ) ومسلم (4896 )
(4) - مسند أحمد (28273) صحيح -الحَالقة : الخصلة التى من شأنها أن تهلك وتستأصل الدين وقيل هى قطيعة الرحم
(5) - مسلم (4892)
(6) - مسند أبي عوانة(5743 ) صحيح(1/275)
وَصَلَّيْتُمُوهَا مَعَهُمْ فَلَكُمْ وَلَهُمْ ، وَمَا أَخَّرُوهَا عَنْ وَقْتِهَا , فَصَلَّيْتُمُوهَا مَعَهُمْ , فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ ، وَمَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ خَلَعَ رَبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ ، وَمَنْ مَاتَ نَاكِثًا الْعَهْدَ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ " (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " تَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً " . قَالُوا : وَمَا تِلْكَ الْفِرْقَةُ ؟ قَالَ : " مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي " (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ عَمِلَ لِلَّهِ فِي الْجَمَاعَةِ فَأَصَابَ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ , وَإِنْ أَخْطَأَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ , وَمَنْ عَمِلَ لِلَّهِ فِي الْفُرْقَةِ فَأَصَابَ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ , وَإِنْ أَخْطَأَ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " قَالَ الشَّيْخُ : فَالْإِصَابَةُ فِي الْجَمَاعَةِ تَوْفِيقٌ وَرِضْوَانٌ , وَالْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ عَفْوٌ وَغُفْرَانٌ (3)
باب الفساد الذي وقع في هذه الأمة
وَبَابُ الْفَسَادِ الَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ . بَلْ وَفِي غَيْرِهَا : هُوَ التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ فَإِنَّهُ وَقَعَ بَيْنَ أُمَرَائِهَا وَعُلَمَائِهَا مِن مُلُوكِهَا وَمَشَايِخِهَا وَغَيْرِهِمْ مِن ذَلِكَ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ . وَإِنْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ مَغْفُورًا لِصَاحِبِهِ لِاجْتِهَادِهِ الَّذِي يُغْفَرُ فِيهِ خَطَؤُهُ أَوْ لِحَسَنَاتِهِ الْمَاحِيَةِ أَوْ تَوْبَتِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ يُعْلَمُ أَنَّ رِعَايَتَهُ مِن أَعْظَمِ أُصُولِ الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا كَانَ امْتِيَازُ أَهْلِ النَّجَاةِ عَن أَهْلِ الْعَذَابِ مِن هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ،وَيَذْكُرُونَ فِي كَثِيرٍ مِن السُّنَنِ وَالْآثَارِ فِي ذَلِكَ مَا يَطُولُ ذِكْرُهُ . وَكَانَ الْأَصْلُ الثَّالِثُ بَعْدَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّذِي يَجِبُ تَقْدِيمُ الْعَمَلِ بِهِ هُوَ الْإِجْمَاعُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى ضَلَالَةٍ .
إذَا تَبَيَّنَ بَعْضُ مَا حَصَلَ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ مِن الْفَسَادِ فَنَحْنُ نَذْكُرُ طَرِيقَ زَوَالِ ذَلِكَ وَنَذْكُرُ مَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي الدِّينِ فِي هَذِهِ الْمُنَازَعَاتِ وَذَلِكَ بِبَيَانِ الْأَصْلَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا " السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ "الْمَدْلُولُ عَلَيْهِمَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ إذَا اُتُّبِعَ كِتَابُ اللَّهِ وَمَا تَضَمَّنَهُ
__________
(1) - مُسْنَدُ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ (7203) حسن لغيره وأصله في الصحيح عن أبي هريرة
(2) - الْمُعْجَمُ الْأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ (5043 ) صحيح لغيره
قلت : لا يقتضي أن يكونوا كفارا ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - اعتبرهم من أمته ، فالوعيد غير لازم.
(3) - الْإِبَانَةُ الْكُبْرَى لِابْنِ بَطَّةَ (716 ) حسن(1/276)
مِن اتِّبَاعِ رَسُولِهِ وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ جَمِيعًا حَصَلَ الْهُدَى وَالْفَلَاحُ وَزَالَ الضَّلَالُ وَالشَّقَاءُ . أَمَّا الْأَصْلُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ " الْجَمَاعَةُ " وَبَدَأْنَا بِهِ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ عِنْدَ عُمُومِ الْخَلْقِ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ تَقْدِيمُ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَا يَظُنُّونَهُ مِن مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
فَنَقُولُ : عَامَّةُ هَذِهِ التَّنَازُعَاتِ إنَّمَا هِيَ فِي أُمُورٍ مُسْتَحَبَّاتٍ وَمَكْرُوهَاتٍ لَا فِي وَاجِبَاتٍ وَمُحَرَّمَاتٍ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا حَجَّ مُتَمَتِّعًا أَوْ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا كَانَ حَجُّهُ مُجْزِئًا عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي الْأَفْضَلِ مِن ذَلِكَ وَلَكِنَّ بَعْضَ الْخَارِجِينَ عَن الْجَمَاعَةِ يُوجِبُ أَوْ يَمْنَعُ ذَلِكَ ..
وَكَذَلِكَ الْأَذَانُ سَوَاءٌ رَجَّعَ فِيهِ أَوْ لَمْ يُرَجِّعْ فَإِنَّهُ أَذَانٌ صَحِيحٌ عِنْدَ جَمِيعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَعَامَّةِ خَلَفِهَا وَسَوَاءٌ رَبَّعَ التَّكْبِيرَ فِي أَوَّلِهِ أَوْ ثَنَّاهُ ،وَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ بَعْضُ شَوَاذِّ الْمُتَفَقِّهَةِ ..
وَكَذَلِكَ الْإِقَامَةُ يَصِحُّ فِيهَا الْإِفْرَادُ وَالتَّثْنِيَةُ بِأَيِّهَا أَقَامَ صَحَّتْ إقَامَتُهُ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ إلَّا مَا تَنَازَعَ فِيهِ شُذُوذُ النَّاسِ .
وَكَذَلِكَ الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْمُخَافَتَةِ كِلَاهُمَا جَائِزٌ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَإِنْ كَانَ مِن الْعُلَمَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ أَحَدَهُمَا أَوْ يَكْرَهُ الْآخَرَ أَوْ يَخْتَارُ أَنْ لَا يَقْرَأَ بِهَا .
فَالْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمْ فِي الْمُسْتَحَبِّ وَإِلَّا فَالصَّلَاةُ بِأَحَدِهِمَا جَائِزَةٌ عِنْدَ عَوَامِّ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ تَنَازَعُوا بِالْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فِي مَوْضِعِهِمَا هَلْ هُمَا وَاجِبَانِ أَمْ لَا ؟ وَفِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا فَهَذَا فِي الْجَهر الطَّوِيلِ بِالْقَدْرِ الْكَثِيرِ مِثْلَ الْمُخَافَتَةِ بِقُرْآنِ الْفَجْرِ وَالْجَهْرُ بِقِرَاءَةِ صَلَاةِ الظُّهْرِ .
فَأَمَّا الْجَهْرُ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ أَوْ الْمُخَافَتَةُ بِهِ فَمِمَّا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يُبْطِلَ الصَّلَاةَ بِذَلِكَ وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهِ . فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِى الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ ، يُطَوِّلُ فِى الأُولَى ، وَيُقَصِّرُ فِى الثَّانِيَةِ ، وَيُسْمِعُ الآيَةَ أَحْيَانًا ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِى(1/277)
الْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ ، وَكَانَ يُطَوِّلُ فِى الأُولَى ، وَكَانَ يُطَوِّلُ فِى الرَّكْعَةِ الأُولَى مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ ، وَيُقَصِّرُ فِى الثَّانِيَةِ (1)
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِىِّ قَالَ كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّى وَرَاءَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: « سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ » . قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : « مَنِ الْمُتَكَلِّمُ » . قَالَ أَنَا . قَالَ: « رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا ، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ » (2) .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْلَا جَهْرُهُ بِهَا لَمَا سَمِعَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا الرَّاوِي . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِلْمَأْمُومِ الْمُخَافَتَةُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَجْهَرُ بِهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ يَقُولُ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ (3) . .
وَهَذَا فِعْلُهُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . وَالسُّنَّةُ الرَّاتِبَةُ فِيهِ الْمُخَافَتَةُ، وَكَذَلِكَ كَانَ مِن الصَّحَابَةِ مَنْ يَجْهَرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ .
و عن شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ ، قَالَ : حَضَرْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى بِنَا عَلَى جِنَازَةٍ بِالْأَبْوَاءِ وَكَبَّرَ ، ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ رَافِعًا صَوْتَهُ بِهَا ، ثُمَّ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ قَالَ : " اللَّهُمَّ عَبْدُكَ ، وَابْنُ عَبْدِكَ ، وَابْنُ أَمَتِكَ ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ ، وَيَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ ، أَصْبَحَ فَقِيرًا إِلَى رَحْمَتِكَ ، وَأَصْبَحْتَ غَنِيًّا عَنْ عَذَابِهِ ، يُخَلَّى مِنَ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا ، إِنْ كَانَ زَاكِيًا فَزَكِّهِ ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فَاغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ ، وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ " ، ثُمَّ كَبَّرَ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ : " أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي لَمْ أَقْرَأْ عَلَنًا إِلَّا لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا السُّنَّةُ " (4) .
__________
(1) - صحيح البخارى (759 )
(2) - صحيح البخارى(799 )
(3) - صحيح مسلم (918 )
(4) - الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (1329) حسن(1/278)
وَأَيْضًا فَلَا نِزَاعَ أَنَّهُ كَانَ مِن الصَّحَابَةِ مَنْ يَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ كَابْنِ الزُّبَيْرِ وَنَحْوِهِ وَمِنهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِهَا كَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ وَتَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُبْطِلْ أَحَدٌ مِنهُمْ صَلَاةَ أَحَدٍ فِي ذَلِكَ . (1)
وَهَذَا مِمَّا لَمْ أَعْلَمِ فِيهِ نِزَاعًا وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي وُجُوبِ قِرَاءَتِهَا فَتِلْكَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى . وَكَذَلِكَ الْقُنُوتُ فِي الْفَجْرِ إنَّمَا النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ فِي اسْتِحْبَابِهِ أَوْ كَرَاهِيَتِهِ وَسُجُودِ السَّهْوِ لِتَرْكِهِ أَوْ فِعْلِهِ، وَإِلَّا فَعَامَّتُهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ تَرَكَ الْقُنُوتَ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَكَذَلِكَ مَنْ فَعَلَهُ إذْ هُوَ تَطْوِيلٌ يَسِيرٌ لِلِاعْتِدَالِ وَدُعَاءِ اللَّهِ فِي هَذَا في هذا الموضع ، ولو فعل ذلك في غير الفجر لم تبطل صلاته باتفاق العلماء ، فيما أعلم .
وكذلك القنوتُ في الوتر هل هو في جميع الأحوال أو النصف الآخر من رمضان ؟ إنما هو في الاستحباب ، إذ لا نزاع أنه لا يجبُ القنوت ، ولا تبطل الصلاة به ، وكذلك كونه قبل الركوع أو بعده .
وكذلك التسليمة الثانية هل هي مشروعة في الصلاة الكاملة والناقصة أو في الكاملة فقط ، أم ليست مشروعة ، هو نزاع في الاستحباب ، لكن عن الإمام أحمد رواية أن التسليمة الثانية واجبة في الصلاة الكاملة ، إما وجوب الأركان أو وجوب ما يسقط بالسهو على نزاع في ذلك ، والرواية الأخرى الموافقة للجمهور أنها مستحبة في الصلاة الكاملة .
وكذلك تكبيرات العيد الزوائد ، إنما النزاع في المستحب منها ، وإلا فلا نزاع في أنه يجزئ ذلك كله ، وكذلك أنواع التشهدات كلها جائز ما أعلم في ذلك خلافاً ،إلا خلافاً شاذًّا ، وإنما النزاع في المستحب .
وكذلك أنواع الاستفتاح في الصلاة ، وأصلُ الاستفتاح إنما النزاع في استحبابه ، وفي أي الأنواع أفضل ، والخلاف في وجوبه خلاف قليل ،يذكر قولا في مذهب الإمام أحمد .
وإذا كان النزاع إنما هو في الاستحباب عُلِمَ الاجتماع على جواز ذلك وإجزائه ، ويكون ذلك بمنزلة القراآت في القرآن ، فإن جميعها جائز - وهو ما يسمَّى اختلاف التنوع - ، وإن كان من الناس من يختار بعض القراآت على بعض ، وبهذا يزول الفساد المتقدم ، فإنه
__________
(1) - انظر صحيح ابن حبان - (ج 5 / ص 102) والبغوي في "شرح السنة" 3/54(1/279)
إذا عُلم أن ذلك جميعه جائز مجزئ في العبادة ، لم يكن النزاع في الاختيار ضارًّا، بل قد يكون النوعان سواء ، وإن رجَّح بعض الناس بعضها ، ولو كان أحدهما أفضل لم يجز أن يظلم من يختار المفضول ، ولا يذمُّ ، ولا يعابُ بإجماع المسلمين ، بل المجتهد المخطئ لا يجوز ذمُّه بإجماع المسلمين ، ولا يجوز التفرق بذلك بين الأمة ، ولا أن يعطى المستحبُّ فوق حقِّه ، فإنه قد يكون من أتى بغير ذلك المستحب من أمور أخرى واجبة ومستحبة أفضل بكثير ، ولا يجوز أن تجعل المستحباتُ بمنزلة الواجبات ، بحيث يمتنع الرجل من تركها ، ويرى أنه قد خرج من دينه ، وعصى الله ورسوله ،بل قد يكون ترك المستحبات لمعارض راجحٍ أفضلُ من فعلها ، بل الواجبات كذلك ،ومعلوم أن ائتلاف قلوب الأمة أعظمُ في الدين من بعض هذه المستحبات، فلو تركها المرءُ لائتلاف القلوب كان ذلك حسناً ، وذلك أفضلُ إذا كان مصلحة ائتلاف القلوب دون مصلحة ذلك المستحب ، وقد أخرج مسلم عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهَا قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: « لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ - أَوْ قَالَ بِكُفْرٍ - لأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلَجَعَلْتُ بَابَهَا بِالأَرْضِ وَلأَدْخَلْتُ فِيهَا مِنَ الْحِجْرِ » (1) .
وقد احتجَّ بهذا الحديث البخاري وغيره على أن الإمام قد يترك بعض الأمور المختارة ، لأجل تأليف القلوب ودفعها لنفرتها ، فقد عنون له ب بَابُ مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الِاخْتِيَارِ ، مَخَافَةَ أَنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ عَنْهُ ، فَيَقَعُوا فِي أَشَدَّ مِنْهُ"
قال النووي : " وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِقَوَاعِد مِن الْأَحْكَام مِنْهَا : إِذَا تَعَارَضَتِ الْمَصَالِح أَوْ تَعَارَضَتْ مَصْلَحَة وَمَفْسَدَة وَتَعَذَّرَ الْجَمْع بَيْن فِعْل الْمَصْلَحَة وَتَرْك الْمَفْسَدَة بُدِئَ بِالْأَهَمِّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّ نَقْضَ الْكَعْبَة وَرَدَّهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَوَاعِد إِبْرَاهِيم - صلى الله عليه وسلم - مَصْلَحَة ، وَلَكِنْ تُعَارِضهُ مَفْسَدَة أَعْظَم مِنْهُ ، وَهِيَ خَوْف فِتْنَة بَعْض مَنْ أَسْلَمَ قَرِيبًا ، وَذَلِكَ لِمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ فَضْل الْكَعْبَة ، فَيَرَوْنَ تَغْيِيرهَا عَظِيمًا ، فَتَرَكَهَا - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) - صحيح مسلم (3307 )(1/280)
وَمِنْهَا فِكْر وَلِي الْأَمْر فِي مَصَالِح رَعِيَّته ، وَاجْتِنَابه مَا يَخَاف مِنْهُ تَوَلُّد ضَرَر عَلَيْهِمْ فِي دِينَ أَوْ دُنْيَا إِلَّا الْأُمُور الشَّرْعِيَّة كَأَخْذِ الزَّكَاة وَإِقَامَة الْحُدُود وَنَحْو ذَلِكَ .
وَمِنْهَا : تَأَلُّف قُلُوب الرَّعِيَّة وَحُسْن حِيَاطَتهمْ وَأَلَّا يَنْفِرُوا وَلَا يَتَعَرَّض لِمَا يَخَاف تَنْفِيرهمْ بِسَبَبِهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَرْك أَمْر شَرْعِيّ كَمَا سَبَقَ " (1)
وقد نصَّ الإمام أحمد على أنه يجهر بالبسملة عند المعارض الراجح ، فقال : يجهر بها إذا كان بالمدينة ،قال القاضي : لأن أهلها إذ ذاك كانوا يجهرون ، فيجهر بها للتأليف ، وليعلمهم أنه يقرأ بها ، وقال غيره : بل لأنهم كانوا لا يقرؤنها بحال ، فيجهر بها ليعلمهم أنه يقرأ بها ، وأنَّ قراءتها سنَّةٌ،كما جهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة . (2)
فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته ، وبهذا يزول الشكُّ والطعن، فإن الاتفاق إذا حصل على جواز الجميع ، وإجزائه عُلم أنه داخل في المشروع ، فالتنازعُ في الرجحان لا يضرُّ ، كالتنازع في بعض القراآت وبعض العبادات، ونحو ذلك ، بل قد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كلا من القراء أن يقرأ كما يعلم ، ونهاهم عن الاختلاف في ذلك ، فمن خالف في ذلك كان ممن ذمه الله ورسوله ، فأما أهل الجماعة فلا يختلفون في ذلك .
وأما الأصل الثاني ، فنقول :السنَّة المحفوظة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها من السعة والخير ما يزول به الحرج ، وإنما وقعت الشبهةُ لإشكال بعض ذلك على بعض الناس .
أما الأذان فقد ثبت في الأحاديث الصحيحين عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أُمِرَ بِلاَلٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ وَأَنْ يُوتِرَ الإِقَامَةَ إِلاَّ الإِقَامَةَ (3) .
وفي مسند أحمد عن أبي مَحْذُورَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمَهُ الأَذَانَ تِسْعَ عَشَرَةَ كَلِمَةً وَالإِقَامَةَ سَبْعَ عَشَرَةَ كَلِمَةً. الأَذَانُ « اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ حَىَّ عَلَى الصَّلاَةِ حَىَّ عَلَى الصَّلاَةِ حَىَّ عَلَى الْفَلاَحِ حَىَّ عَلَى الْفَلاَحِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لاَ إِلَهَ
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (ج 4 / ص 487)
(2) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 16 / ص 181)
(3) - صحيح البخارى(605 ) ومسلم(864)(1/281)
إِلاَّ اللَّهُ ». وَالإِقَامَةُ مَثْنَى مَثْنَى « اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ حَىَّ عَلَى الصَّلاَةِ حَىَّ عَلَى الصَّلاَةِ حَىَّ عَلَى الْفَلاَحِ حَىَّ عَلَى الْفَلاَحِ قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ». (1)
فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِن مُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ صَارَ ذَلِكَ مِثْلَ تَعْلِيمِهِ الْقُرْآنَ لِعُمَرِ بِحَرْفِ وَلِهُشَامِ بْنِ حَكِيمٍ بِحَرْفِ آخَرَ كِلَاهُمَا قُرْآنٌ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ يَقْرَأَ بِهِ . وَكَذَلِكَ التَّرْجِيعُ فِي الْأَذَانِ هُوَ ثَابِتٌ فِي أَذَانِ أَبِي مَحْذُورَةَ وَهُوَ مَحْذُوفٌ مِن أَذَانِ بِلَالٍ الَّذِي رَوَوْهُ فِي السُّنَنِ ، فعَنْ أَبِى مَحْذُورَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَقْعَدَهُ وَأَلْقَى عَلَيْهِ الأَذَانَ حَرْفًا حَرْفًا. قَالَ إِبْرَاهِيمُ مِثْلَ أَذَانِنَا. قَالَ بِشْرٌ فَقُلْتُ لَهُ أَعِدْ عَلَىَّ. فَوَصَفَ الأَذَانَ بِالتَّرْجِيعِ. (2)
وَكَذَلِكَ الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْمُخَافَتَةِ بِهَا صَحَّ الْجَهْرُ بِهَا عَن طَائِفَةٍ مِن الصَّحَابَةِ وَصَحَّتْ الْمُخَافَتَةُ بِهَا عَن أَكْثَرِهِمْ وَعَن بَعْضِهِمْ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا .
وَأَمَّا الْمَأْثُورُ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَاَلَّذِي فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ ؛ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِهَا كَمَا عَلَيْهِ عَمَلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَأُمَّتِهِ فَفِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ أَنَس وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً بَيِّنَةً لَا شُبْهَةَ فِيهَا، وَفِي السُّنَنِ أَحَادِيثُ أُخَرُ : مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ مُغَفَّلٍ وَغَيْرِهِ وَلَيْسَ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ حَدِيثٌ فِيهِ ذِكْرُ جَهْرِهِ بِهَا وَالْأَحَادِيثُ الْمُصَرِّحَةُ بِالْجَهْرِ عَنهُ غالبها ضَعِيفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَلِهَذَا لَمْ يُخَرِّجُوا فِي أُمَّهَاتِ الدَّوَاوِينِ مِنهَا شَيْئًا ، وَلَكِنْ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ أَحَادِيثُ مُحْتَمَلَةٌ . وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِي بِإِسْنَادِ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:كَانَ يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. (3)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا ، إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا ، قُلْنَا لَهُ : مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ ، قَالَ : "
__________
(1) - مسند أحمد(15777) صحيح
(2) - سنن الترمذى (191 ) قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ أَبِى مَحْذُورَةَ فِى الأَذَانِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رُوِىَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمَكَّةَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِىِّ.-الترجيع : العود إلى الشهادتين مرتين برفع الصوت يكررها
(3) - المعجم الكبير للطبراني(10504 ,11279) حسن(1/282)
نَزَلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ " ثُمَّ قَالَ : " هَلْ تَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ ؟ " قُلْنَا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : " فَإِنَّهُ نَهَرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي فِي الْجَنَّةِ ، آنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْكَوَاكِبِ ، تَرِدْهُ عَلَيَّ أُمَّتِي فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ ، فَأَقُولُ : يا رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي ، فَيَقُولُ : إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ بَعْدَكَ " (1)
وَأَنَّهُ لَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ تَرَكَ الْجَهْرَ بِهَا حَتَّى مَاتَ .فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : " صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمْ يُسْمِعْنَا قِرَاءَةَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَصَلَّى بِنَا أَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُمَا " (2)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ : " صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " (3)
وَهَذَا يُنَاسِبُ الْوَاقِعَ ؛ فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ كَانَ الْجَهْرُ بِهَا وَأَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْكُوفَةِ فَلَمْ يَكُونُوا يَجْهَرُونَ بِهَا ،وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ وَبَعْضُهُمْ كَانَ يَجْهَرُ بِهَا وَلِهَذَا سَأَلُوا أَنَسًا عَن ذَلِكَ . وَلَعَلَّ النَّبِيَّ ً - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَجْهَرُ بِهَا بَعْضَ الْأَحْيَانِ أَوْ جَهْرًا خَفِيفًا إذَا كَانَ ذَلِكَ مَحْفُوظًا، وَإِذَا كَانَ فِي نَفْسِ كُتُبِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ فَعَلَ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً زَالَتْ الشُّبْهَةُ .
وَأَمَّا الْقُنُوتُ فَأَمْرُهُ بَيِّنٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ عِنْدَ التَّأَمُّلِ التَّامِّ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ قَنَتَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَيَقُولُ « عُصَيَّةُ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ » (4)
وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ ثُمَّ تَرَكَهُ. (5)
__________
(1) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (964 ) جامع الحديث النبوي (صحيح)
(2) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (965 ) جامع الحديث النبوي (صحيح)
(3) - نفسه( 966 ) صحيح وانظر الْإِنْصَافُ لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ -بَابُ ذِكْرِ اخْتِلَافِهِمْ فِي قِرَاءَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي الصَّلَاةِ أَوَّلَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ , وَهَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْهَا ؟
(4) - صحيح البخارى (4094 ) ومسلم (1577)
(5) - صحيح مسلم(1586)(1/283)
وَلَمْ يَكُنْ تَرَكَهُ نَسْخًا لَهُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنهُ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ قَنَتَ بَعْدَ ذَلِكَ يَدْعُو لِلْمُسْلِمِينَ : مِثْلَ الْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ وَالْمُسْتَضْعَفِين مِن الْمُؤْمِنِينَ وَيَدْعُو عَلَى مُضَرَ وَثَبَتَ عَنهُ أَنَّهُ قَنَتَ أَيْضًا فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ قُنُوتُ اسْتِنْصَارٍ . فَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ مَنْقُولٌ ثَابِتٌ عَنهُ لَكِنْ اعْتَقَدَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِن الْكُوفِيِّينَ أَنَّهُ تَرَكَهُ تَرْكَ نَسْخٍ فَاعْتَقَدَ أَنَّ الْقُنُوتَ مَنْسُوخٌ (1) ، وَاعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ مِن الْمَكِّيِّينَ أَنَّهُ مَا زَالَ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ الْقُنُوتَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : " مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا " (2)
وفي تَهْذِيبُ الْآثَارِ لِلطَّبَرِيِّ(2682 ) وعِلَّةُ قَائِلِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ مَا حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْبَاهِلِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ ، عَنِ الرَّبِيعِ ، قَالَ : سُئِلَ أَنَسٌ عَنْ قُنُوتِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَنَّهُ قَنَتَ شَهْرًا " ، فَقَالَ : مَا زَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ حَتَّى مَاتَ قَالُوا : فَالْقُنُوتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ لَمْ يَزَلْ مِنْ عَمَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا ، قَالُوا : وَالَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَنَتَ شَهْرًا ثُمَّ تَرَكَهُ ، إِنَّمَا كَانَ قُنُوتُهُ عَلَى مَنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ مِنْ قَتَلَةِ أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ ، مِنْ رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَأَشْبَاهِهِمْ ، فَإِنَّهُ قَنَتَ يَدْعُو عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ صَلَاةٍ ، ثُمَّ تَرَكَ الْقُنُوتَ عَلَيْهِمْ ، فَأَمَّا فِي الْفَجْرِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتْرُكْهُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا ، كَمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ وَقَالَ آخَرُونَ : لَا قُنُوتُ فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ ، وَإِنَّمَا الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ "
وذكر أحاديث كثيرة بعدم القنوت ، ثم قال (2747): وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ: صَحَّ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَنَتَ يَدْعُو عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَهُ بِبِئْرِ مَعُونَةَ مُدَّةً ، إِمَّا شَهْرًا ، وَإِمَّا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، فِي كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ ، ثُمَّ تَرَكَ فِعْلَ ذَلِكَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ ، وَثَبَتَ قُنُوتُهُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَصَحَّ الْخَبَرُ عَنْهُ عَلَيْهِ
__________
(1) - انظر صحيح ابن حبان - (ج 5 / ص 326)(1988)
(2) - مُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (12993) والأحاديث المختارة للضياء - (ج 3 / ص 58) (2127-2128) وحسن إسناده ، وفيه أبو جعفر الرازي صدوق شيء الحفظ(1/284)
السَّلَامُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا . وَرَوَى أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ : مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ . وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الرِّوَايَاتِ وَالْأَخْبَارِ عِنْدَنَا صَحِيحٌ ، فَالْقُنُوتُ إِذَا نَابَتِ الْمُسْلِمِينَ نَائِبَةٌ ، أَوْ نَزَلَتْ بِهِمْ نَازِلَةٌ ، نَظِيرَةُ النَّائِبَةِ وَالنَّازِلَةِ الَّتِي نَابَتْ وَنَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ بِمُصَابِهِمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ بِبِئْرِ مَعُونَةَ ، عَلَى مَنْ قَتَلَهُمْ وَأَعَانَ قَاتِلِيهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، فِي كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ ، عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِعْلِهِ فِي ذَلِكَ ، إِلَى أَنْ يَكْشِفَ اللَّهُ عَنْهُمُ النَّازِلَةَ الَّتِي نَزَلَتْ ، إِمَّا بِالظَّفَرِ بِعَدُوِّهِمُ الَّذِي كَانَ مِنْ قِبَلِهِمُ النَّازِلَةُ ، وَإِمَّا بِدُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ ، أَوْ بِاسْتِسْلَامِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْفَرَجُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ مَكْرُوهِ مَا نَزَلَ بِهِمْ ، سُنَّةٌ حَسَنَةٌ ، وَإِنْ كَانَتِ النَّائِبَةُ وَالنَّازِلَةُ سَبَبًا غَيْرَ ذَلِكَ ، فَإِلَى أَنْ يَزُولَ ذَلِكَ عَنْهُمْ ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قُنُوتَهُ عَلَى كُفَّارِ مُضَرَ شَهْرًا ، وَذَكَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ بَعْدَ ذَلِكَ ، قَالَ : فَقُلْتُ : مَا بَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الدُّعَاءَ ؟ فَقِيلَ لِي : أَوَمَا تُرَاهُمْ قَدْ جَاءُوا - يَعْنِي أَنَّ الَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَلَيْهِمْ - قَدْ جَاءُوا مُسْلِمَيْنِ . فَالْقُنُوتُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ ، إِذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ نَائِبَةٌ عَامَّةٌ أَوْ خَاصَّةٌ ، وَذَلِكَ الدُّعَاءُ فِي آخِرِ رَكْعَةٍ مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ حَسَنٌ جَمِيلٌ ، كَمَا رُوِّينَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قُنُوتِهِ كَذَلِكَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ لِلسَّبَبِ الَّذِي ذَكَرْنَا قُنُوتَهُ لَهُ . وَلَسْنَا وَإِنْ رَأَيْنَا ذَلِكَ حَسَنًا جَمِيلًا ، بِمُوجِبَينَ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ إِعَادَةَ صَلَاتِهِ الَّتِي تَرَكَ ذَلِكَ فِيهَا ، وَلَا سُجُودَ سَهْوٍ ، عَامِدًا كَانَ تَرَكُهُ ذَلِكَ أَوْ سَاهِيًا . وَذَلِكَ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ سَلَفِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهِمْ ، لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ صَلَاةَ مُصَلٍّ ، وَأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي ، عِنْدَ مَنْ يُوجِبُهُ بَدَلًا مِنْ نَقْصٍ أَوْ زِيَادَةٍ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عَمَلُهَا فِي صَلَاتِهِ فَعَمِلَهَا ، فَتَرْكُ الْقُنُوتِ فِيهَا خَارِجٌ مِنْ كُلِّ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ ، فَلَا وَجْهَ لِإِيجَابِ الْبَدَلِ مِنْهُ ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ سَبَبٌ يَدْعُو الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْقُنُوتِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ ، إِمَّا لِنَائِبَةٍ أَوْ نَازِلَةٍ بِهِمْ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ ، فَتَرْكُ الْقُنُوتِ فِي كُلِّ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ ، خَلَا صَلَاةَ الصُّبْحِ ، هُوَ الْحَقُّ . وَذَلِكَ لِصِحَّةِ(1/285)
الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَرَكَ الْقُنُوتَ الَّذِي كَانَ يَقْنُتُهُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ ، بَعْدَ دُخُولِ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانَ يَقْنُتُ عَلَيْهِمْ فِي الْإِسْلَامِ ، إِلَّا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ، فَإِنَّهُ فِيمَا ذَكَرَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ فِيهَا حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا . وَلَا شَكَّ أَنَّ دُعَاءَهُ فِي ذَلِكَ كَانَ عَلَى غَيْرِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ ، فَتَرَكَ الْقُنُوتَ وَالدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِنَّكَ قَدْ صَحَّحْتَ حَدِيثَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، وَقُلْتَ بِهِ فِي جَوَازِ الْقُنُوتِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَتَرَكْتَ الْقَوْلَ بِخَبَرِ طَارِقِ بْنِ أَشْيَمَ الْأَشْجَعِيِّ ، مَعَ قَوْلِكَ بِتَصْحِيحِهِ ، وَخِلَافِ خَبَرِهِ خَبَرَ أَنَسٍ ؟ قِيلَ لَهُ : لَيْسَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ كَالَّذِي ظَنَنْتَ ، بَلْ نَحْنُ قَائِلُونَ بِتَصْحِيحِهِمَا وَتَصْحِيحِ الْعَمَلِ بِهِمَا ، فَإِنْ قَالَ : وَكَيْفَ تَكُونُ مُصَحِّحًا لَهُمَا وَلِلْعَمَلِ بِهِمَا ، وَأَحَدُهُمَا يُخْبِرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا ، وَالْآخَرُ مِنْهُمَا يُخْبِرُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ قَنَتَ ، وَكِلَاهُمَا قَدْ صَلَّى مَعَهُ ؟ قِيلَ : إِنَّا لَمْ نَقُلْ إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْقُنُوتِ فِي كُلِّ صَلَاةِ صُبْحٍ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا : الْقُنُوتُ فِيهَا حَسَنٌ ، فَإِنْ قَنَتَ فِيهَا قَانِتٌ فَبِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمِلَ ، وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ تَارِكٌ ، فَبِرُخْصَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ . وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْنُتُ فِيهَا أَحْيَانًا ، وَيَتْرُكُ الْقُنُوتَ فِيهَا أَحْيَانًا ، فَأَخْبَرَ أَنَسٌ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ فِيهَا ، عَلَى مَا لَمْ يَزَلْ يَعْهَدْهُ مِنْ فِعْلِهِ فِي ذَلِكَ بِالْقُنُوتِ فِيهَا مَرَّةً ، وَتَرْكِ الْقُنُوتِ فِيهَا أُخْرَى ، مُعْلِمًا بِذَلِكَ أُمَّتَهُ أَنَّهُمْ مُخَيَّرُونَ فِي الْعَمَلِ بِأَيِّ ذَلِكَ شَاءُوا وَعَمِلُوا بِهِ ، وَأَخْبَرَ طَارِقُ بْنُ أَشْيَمَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَهُ فَلَمْ يَرَهُ قَنَتَ ، وَغَيْرُ مُنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ صَلَّى خَلْفَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَمْ يَقْنُتْ فِيهَا فِي صَلَاتِهِ ، فَأَخْبَرَ عَنْهُ بِمَا رَأَى وَشَاهَدَ ، وَلَيْسَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : لَمْ أَرِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ ، بِحُجَّةٍ يَدْفَعُ بِهَا قَوْلَ مَنْ قَالَ : رَأَيْتُهُ قَنَتَ ، وَلَاسِيَّمَا وَالْقُنُوتُ أَمْرٌ مُخَيَّرٌ الْمُصَلِّي فِيهِ وَفِي تَرْكِهِ ، كَالَّذِي ذَكَرْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَمَلِهِ بِهِ أَحْيَانًا ، وَتَرْكِهِ إِيَّاهُ أَحْيَانًا ، تَعْلِيمًا مِنْهُ أُمَّتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبِيلَ الصَّوَابِ فِيهِ . وَلَوْ كَانَ قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِهِ : " لَمْ أَرْ رَسُولَ اللَّهِ قَنَتَ " دَافِعًا قَوْلَ مَنْ قَالَ : " رَأَيْتُهُ يَقْنُتُ " ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : لَمْ أَرَهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِهِ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ ، دَافِعًا قَوْلَ مَنْ قَالَ : رَأَيْتُهُ(1/286)
يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَهُمَا . وَكَذَلِكَ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا حُكِيَ عَنْهُ مِنَ اخْتِلَافٍ كَانَ يَكُونُ مِنْهُ فِي صَلَاتِهِ ، مِمَّا فَعَلَهُ تَعْلِيمًا مِنْهُ أُمَّتَهُ فِي أَنَّهُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ الْعَمَلِ بِهِ وَتَرْكِهِ ، غَيْرَ جَائِزٍ الْعَمَلُ إِلَّا بِأَحَدِهِمَا ، وَفِي إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَأَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي حَالِ الرُّكُوعِ وَحَالِ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ غَيْرُ مُفْسِدٍ صَلَاةَ الْمُصَلِّي ، وَلَا تَرْكُهُ مُوجِبٌ عَلَيْهِ قَضَاءً وَلَا بَدَلًا مِنْهُ ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُهُ أَحْيَانًا فِي صَلَاتِهِ وَيَتْرُكَهُ أَحْيَانًا . وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي الْقُنُوتِ ، إِذْ كَانَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ أَحْيَانًا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَيَتْرُكَهُ أَحْيَانًا ، مُعْلِمًا بِذَلِكَ أُمَّتَهُ أَنَّهُمْ مُخَيَّرُونَ فِي الْعَمَلِ بِهِ وَالتَّرْكِ . وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ عِنْدَنَا فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ ، فَإِنَّ سَبِيلَ الِاخْتِلَافِ عَنْهُمْ فِيهِ ، سَبِيلُ الِاخْتِلَافِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْنُتُونَ أَحْيَانًا عَلَى مَا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ، وَأَحْيَانًا يَتْرُكُونَ الْقُنُوتَ عَلَى مَا عَهِدُوهُ يَتْرُكُ ، فَيَشْهَدُ قُنُوتَهُمْ فِي الْحَالِ الَّتِي يَقْنُتُونَ فِيهَا قَوْمٌ ، فَيَرْوُونَ عَنْهُمْ مَا رَأَوْا مِنْ فِعْلِهِمْ ، وَيَشْهَدُهُمْ آخَرُونَ فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يَقْنُتُونَ فِيهَا ، فَيَرْوُونَ عَنْهُمْ مَا رَأَوْا مِنْ فِعْلِهِمْ ، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ مُحِقٌّ صَادِقٌ".
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ قَنَتَ لِسَبَبِ وَتَرَكَهُ لِزَوَالِ السَّبَبِ .
فَالْقُنُوتُ مِن السُّنَنِ الْعَوَارِضِ لَا الرَّوَاتِبِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ تَرَكَهُ لَمَّا زَالَ الْعَارِضُ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى ثُمَّ تَرَكَهُ لَمَّا زَالَ الْعَارِضُ، وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ لَمْ يَقْنُتْ بَعْدَ الرُّكُوعِ إلَّا شَهْرًا هَكَذَا ثَبَتَ عَن أَنَسٍ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ قَطُّ عَنهُ أَنَّهُ قَنَتَ الْقُنُوتَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ لَا قَبْلَ الرُّكُوعِ وَلَا بَعْدَهُ وَلَا فِي كُتُبِ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ، بَلْ قَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ كَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي مَالِكٍ الأشجعي وَغَيْرِهِمَا .
وَمِن الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّ الرَّسُولَ - صلى الله عليه وسلم - لَوْ كَانَ كُلَّ يَوْمٍ يَقْنُتُ قُنُوتًا يَجْهَرُ بِهِ لَكَانَ لَهُ فِيهِ دُعَاءٌ يَنْقُلُهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ نَقَلُوا مَا كَانَ يَقُولُهُ فِي الْقُنُوتِ الْعَارِضِ وَقُنُوتِ الْوِتْرِ، فَالْقُنُوتُ الرَّاتِبُ أَوْلَى أَنْ يُنْقَلَ دُعَاؤُهُ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ الَّذِي نَسْتَحِبُّهُ إنَّمَا يَدْعُو فِيهِ لِقُنُوتِ الْوِتْرِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالْيَقِينِ الْقَطْعِيِّ كَمَا يُعْلَمُ عَدَمُ النَّصِّ عَلَى(1/287)
هَذَا وَأَمْثَالِهِ ، فَإِنَّهُ مِن الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ أَهْمَلُوا نَقْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ قَطْعًا . وَكَذَلِكَ الْمَأْثُورُ عَن الصَّحَابَةِ مِثْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا هُوَ الْقُنُوتُ الْعَارِضُ قُنُوتُ النَّوَازِلِ ،فعَن عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ : اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك وَنُؤْمِنُ بِكَ وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْك وَنُثْنِي عَلَيْك الْخَيْرَ ، وَلا نَكْفُرُك ، اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَلَك نُصَلِّي وَنَسْجُدُ وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ ، نَرْجُو رَحْمَتَكَ وَنَخْشَى عَذَابَك ، إنَّ عَذَابَك بِالْكَافِرِينَ مُلْحَقٌ ، اللَّهُمَّ عَذِّبْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِك" (1)
وَكَذَلِكَ دُعَاءُ عَلِيٍّ عِنْدَ قِتَالِهِ لِبَعْضِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سُوَيْد الْكَاهِلِيِّ ، أَنَّ عَلِيًّا قَنَتَ فِي الْفَجْرِ بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ : اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك وَنَسْتَغْفِرُك وَنُثْنِي عَلَيْك الْخَيْرَ ، وَلا نَكْفُرُك ، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ ، اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ ، وَلَك نُصَلِّي وَنَسْجُدُ وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ وَنَرْجُو رَحْمَتَكَ وَنَخْشَى عَذَابَك ، إنَّ عَذَابَك بِالْكَافِرِينَ مُلْحَقٌ. (2)
وَالْقُنُوتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ هُوَ الْقِيَامُ الطَّوِيلُ ؛ إذْ لَفْظُ الْقُنُوتِ مَعْنَاهُ دَوَامُ الطَّاعَةِ فَتَارَةً يَكُونُ فِي السُّجُودِ وَتَارَةً يَكُونُ فِي الْقِيَامِ.
وَأَمَّا حَجَّةُ الْوَدَاعِ وَإِنْ اشْتَبَهَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِن النَّاسِ فَإِنَّمَا أَتَوْا مِن جِهَةِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ حَيْثُ سَمِعُوا بَعْضَ الصَّحَابَةِ يَقُولُ : إنَّهُ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَهَؤُلَاءِ أَيْضًا يَقُولُونَ إنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ إنَّهُ قَرَنَ الْعُمْرَةَ إلَى الْحَجِّ وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ . فَإِنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحِلَّ مِن إحْرَامِهِ وَأَنَّهُ كَانَ قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ وَنَحَرَهُ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ الْحَجَّةِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِن أَصْحَابِهِ إلَّا عَائِشَةُ أَمَرَ أَخَاهَا أَنْ يَعْمُرَهَا مِن التَّنْعِيمِ أَدْنَى الْحِلِّ ، وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنهُ فِيهَا أَنَّهُ لَمْ يَطُفْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً مَعَ طَوَافِهِ الْأَوَّلِ .
فَاَلَّذِينَ نَقَلُوا أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ صَدَقُوا لِأَنَّهُ أَفْرَدَ أَعْمَالَ الْحَجِّ لَمْ يَقْرِنْ بِهَا عَمَلَ الْعُمْرَةِ كَمَا يَتَوَهَّمُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سعيين وَلَمْ يَتَمَتَّعْ تَمَتُّعًا حَلَّ بِهِ مِن إحْرَامِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُتَمَتِّعُ الَّذِي لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ ؛ بَلْ قَدْ أَمَرَ جَمِيعَ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ لَمْ
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 10 / ص 389)(30337) صحيح
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 10 / ص 388)(30335) حسن(1/288)
يَسُوقُوا الْهَدْيَ أَنْ يَحِلُّوا مِن إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً وَيُهِلُّوا بِالْحَجِّ بَعْدَ قَضَاءِ عُمْرَتِهِمْ . (1)
===================
__________
(1) - مجموع الفتاوى لابن تيمية - (22 / 356) فما بعدها(1/289)
أمثلة أخرى هامة وقع التنازع بين المسلمين بسببها
أولا
صلاة الظهر بعد الجمعة
إن تعدد صلاة الجمعة في البلد الواحد جائز عند أهل العلم نظراً للحاجة الداعية إلى تعدد الجمعة فإذا كان البلد كبيراً وأهله كثير لا يسعهم مسجد واحد فلا مانع من تعدد الجمعة . وبهذا قال المحققون من العلماء من أتباع المذاهب الأربعة وغيرهم قال السرخسي :[ والصحيح من قول أبي حنيفة في هذه المسالة أنه يجوز إقامة الجمعة في مصر واحد في موضعين وأكثر ] (1)
وقال الزيلعي شارحاً ومحللاً لقول النسفي :[ وتؤدى في مصر في مواضع أي تؤدى الجمعة في مصر واحد في مواضع كثيرة وهو قول أبي حنيفة ومحمد وهو الأصح لأن في الاجتماع في موضع واحد في مدينة كبيرة حرجاً بيناً وهو مدفوع ] (2)
وأجاز فقهاء المالكية تعدد الجمعة للضرورة (3)
وذكر الإمام النووي أن الصحيح من مذهب الشافعية جواز تعدد الجمعة في موضعين وأكثر وقال :[ وقد دخل الشافعي بغداد وهم يقيمون الجمعة في موضعين وقيل في ثلاثة فلم ينكر ذلك واختلف أصحابنا في الجواب عن ذلك وفي حكم بغداد في الجمعة على أربعة أوجه ذكر المصنف الثلاثة الأولى منها هنا وكلامه في التنبيه يقتضي الجزم بالرابع ، أحدها أن الزيادة على جمعة في بغداد جائزة وإنما جازت لأنه بلد كبير يشق اجتماعهم في موضع منه قال أصحابنا فعلى هذا تجوز الزيادة على جمعة في جميع البلاد التي يكثر الناس فيها ويعسر اجتماعهم في موضع وهذا الوجه هو الصحيح وبه قال أبو العباس بن سريج وأبو إسحاق المروزي ، قال الرافعي : واختاره أكثر أصحابنا تصريحاً وتعريضاً وممن
__________
(1) - المبسوط 2/102 .
(2) - تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 1/218 .
(3) - كما في شرح الخرشي وحاشية العدوي عليه 2/74-75 .(1/290)
رجحه ابن كج والحناطي بالحاء المهملة والقاضي أبو الطيب في كتابه المجرد والروياني والغزالي وآخرون ، قال الماوردي وهو اختيار المزني ودليله قوله تعالى :( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ] (1)
وقال الخرقي من الحنابلة :[ وإذا كان البلد كبيراً يحتاج إلى جوامع فصلاة الجمعة في جميعها جائزة ]
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً كلام الخرقي السابق :[ وجملته : أن البلد متى كان يشق على أهله الاجتماع في مسجد واحد ويتعذر ذلك لتباعد أقطاره أو ضيق مسجده عن أهله كبغداد وأصبهان ونحوهما من الأمصار الكبيرة جازت إقامة الجمعة فيما يحتاج إليه من جوامعهما وهذا قول عطاء وأجازه أبو يوسف في بغداد دون غيرها ، لأن الحدود تقام فيها في موضعين والجمعة حيث تقام الحدود ، ومقتضى قوله : أنه لو وجد بلد آخر تقام فيه الحدود في موضعين جازت إقامة الجمعة في موضعين منه . لأن الجمعة حيث تقام الحدود وهذا قول ابن المبارك ... ولنا : أنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة فجازت فيما يحتاج إليه من المواضع كصلاة العيد . وقد ثبت أن علياً - رضي الله عنه - كان يخرج يوم العيد إلى المصلى ويستخلف على ضَعَفَةِ الناس أبا مسعود البدري فيصلي بهم. فأما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - إقامة جمعتين فلغناهم عن إحداهما ولأن أصحابه كانوا يرون سماع خطبته وشهود جمعته وإن بعدت منازلهم . لأنه المبلغ عن الله تعالى وشارع الأحكام ولما دعت الحاجة إلى ذلك في الأمصار صليت في أماكن ولم ينكر فصار إجماعاً ] (2)
والخلاصة: أن رأي الجمهور ( المالكية على المشهور، والشافعية والحنابلة) والكاساني من الحنفية: هو عدم جواز التعدد إلا لحاجة. أما الحنفية (3) على المذهب وعليه الفتوى فقالوا: يؤدى أكثر من جمعة في مصر واحد بمواضع كثيرة دفعاً للحرج؛ لأن في إلزام اتحاد
__________
(1) - المجموع 4/585-586 .
(2) - المغني 2/248 .
(3) - الدر المختار ورد المحتار: 755/1 ومابعدها. قال في شرح المنية: الأولى هو الاحتياط: لأن الخلاف في جواز التعدد عدمه قوي، وكون الصحيح جواز التعدد للضرورة للفتوى: لايمنع شرعية الاحتياط للتقوى.(1/291)
الموضع حرجاً بيناً، لتطويل المسافة على أكثر الحاضرين، ولم يوجد دليل على عدم جواز التعدد، والضرورة أو الحاجة تقضي بعدم اشتراطه، لا سيما في المدن الكبرى.
والحقُّ: رجحان هذا الرأي، لاتساع البنيان، وكثرة الناس، وللحاجة في التيسير عليهم في أداء الجمعة، ولأن منع التعدد لم يقم عليه دليل صحيح، قال ابن رشد (1) : " وَلَمْ يَرَ مَالِكٌ الْمِصْرَ وَلَا السُّلْطَانَ شَرْطًا فِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُنَاسِبٍ لِأَحْوَالِ الصَّلَاةِ وَرَأَى أَنَّ الْمَسْجِدَ شَرْطًا لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ مُنَاسَبَةً ، حَتَّى لَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ هَلْ مِنْ شَرْطِ الْمَسْجِدِ السَّقْفُ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ تَكُونَ الْجُمُعَةُ رَاتِبَةً فِيهِ أَمْ لَا ؟ وَهَذَا كُلُّهُ لَعَلَّهُ تَعَمُّقٌ فِي هَذَا الْبَابِ وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ . وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ شُرُوطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ لَمَا جَازَ أَنْ يَسْكُتَ عَنْهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَا أَنْ يَتْرُكَ بَيَانَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ) ، وَاللَّهُ الْمُرْشِدُ لِلصَّوَابِ . "
وتعدد الجمع اليوم يتفق مع مبدأ يسر الإسلام ودفع الحرج عن المصلين، ولا تجب صلاة الظهر على أحد من المصلين، كما قرر بعض الشافعية كالرملي في المدن الكبرى كالقاهرة وبغداد ودمشق، وأما كون الجمعة لمن سبق فمعناه زيادة الأجر لمن بكر في المجيء للمسجد. قال ابن تيمية (2) : "فَإِقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي الْمَدِينَةِ الْكَبِيرَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ لِلْحَاجَةِ يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا بُنِيَتْ بَغْدَادُ وَلَهَا جَانِبَانِ أَقَامُوا فِيهَا جُمُعَةً فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ وَجُمُعَةً فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ . وَجَوَّزَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ" (3)
وبهذا يظهر لنا أن المعتمد في المذاهب الأربعة جواز تعدد الجمعة للحاجة وهذا القول هو الصواب الموافق لقواعد الشرع المطهر ولعمل المسلمين فيما مضى من الأعصار في جميع الأمصار .
__________
(1) - بداية المجتهد: 154/1.و بداية المجتهد ونهاية المقتصد - (ج 1 / ص 135) الشاملة 2
(2) - فتاوى ابن تيمية 208/24.
(3) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 2 / ص 438) فما بعدها(1/292)
وكيف يصنع المسلمون في المدن الكبيرة التي تغص بالسكان وقد يبلغ سكانها الملايين وكيف يجتمعون في مسجد واحد فمدينة كالقاهرة مثلاً فيها أكثر من عشرة ملايين نسمة ، كيف يصلون في مكان واحد ؟!
إن نصوص الشريعة وقواعدها القاضية برفع الحرج ودفع المشقة تجيز تعدد الجمعة في مساجد كثيرة مهما بلغ عددها ما دامت الحاجة تدعو لذلك .
إن إقامة صلاة الظهر بعد الجمعة لم تثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن الأئمة المهديين.
وقد ثبت أن الإمام الشافعي رحمه الله قد دخل بغداد وأقام بها مدة من الزمن وكانت الجمعة تقام بأكثر من موضع ولم ينقل عنه أنه كان يصلي الظهر بعد الجمعة (1) .
وقال الشيخ القاسمي :[ والذي اعتمده الإمام ابن نجيم والعلامة ابن عبد الحق الأخير ووافقه غيره من أن لا وجوب للظهر - أي بعد الجمعة - هو الحق لما فيه من رفع الحرج، وهل يطالب مكلف بفريضتين في وقت واحد مع ما في أدائه جماعة من صورة نقض الجمعة وإيقاع العامة في اعتقاد أن ليوم الجمعة بعد زواله فرضين صلاة الجمعة وصلاة الظهر،بل هو الذي لا يرتابون فيه ويزيدون عليه أنه لا يصح إلا جماعة بل تنطع بعض الغلاة المتصولحين مرة فقال لي : كيف السبيل إلى سنَّة الظهر القبلية قبل فرض يوم الجمعة وهي تفوتني بعجلة أداء الظهر .
فتأمل كيف رحم الله العباد ففرض عليهم ركعتين في ذلك اليوم وأمرهم إذا قضوهما أن ينتشروا في الأرض ويبتغوا من فضله تيسيراً عليهم إذ يحتاجون لصرف حصة في سماع الخطبة ، وانظر كيف شددوا على أنفسهم وربما المتنطع منهم يطالب بأداء اثنتين وعشرين ركعة بعد الزوال إذا يصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً كالظهر وكلاهما مع الجمعة عشر ، ثم يتطوع بأربع قبل الظهر وأربع بعدها وكلاهما مع الظهر اثنا عشر أيضاً ، فالجملة ما ذكرنا ولا يخفى أن محو اعتقاد غير الصواب من صدور العامة لتمحيص الحق باب عظيم من أبواب الدعوة إلى سبيل الله وهدى نبيه عليه السلام ، وقد اتفق في عهد
__________
(1) - القول المبين ص 384 .(1/293)
حسين باشا والي مصر المذاكرة لديه في بدعة الظهر جماعة بعد الجمعة فمنع أهل الأزهر منها ، نقله الشبراملسي في رسالته التي ألفها في سبب صلاة الظهر يومئذ فرحمه الله على منعه من هذه البدعة وأثابه خيراً ووفق من تنبه لمنعها بمنّه وكرمه ] (1)
وقال الشيخ الغلايني :[ ومن الأدلة على عدم طلب الظهر بعد الجمعة بل على عدم مشروعيتها يوم الجمعة مطلقاً صليت الجمعة أم لم تصلَّ ما ورد من اجتماع عيد وجمعة في عهد الرسول الأكرم - صلى الله عليه وسلم - فصلى العيد ورخص في الجمعة ولم يرد أنه أمرهم بالظهر لأنه لم يثبت ذلك وهاك النصوص : عَنْ إِيَاسِ بْنِ أَبِى رَمْلَةَ الشَّامِىِّ قَالَ شَهِدْتُ مُعَاوِيَةَ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ شَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عِيدَيْنِ اجْتَمَعَا قَالَ نَعَمْ صَلَّى الْعِيدَ أَوَّلَ النَّهَارِ ثُمَّ رَخَّصَ فِى الْجُمُعَةِ فَقَالَ « مَنْ شَاءَ أَنْ يُجَمِّعَ فَلْيُجَمِّعْ ». رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة (2) .
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ « قَدِ اجْتَمَعَ فِى يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ ». رواه أبو داود وابن ماجة (3) .
وعن وهب بن كيسان قَالَ اجْتَمَعَ عِيدَانِ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَأَخَّرَ الْخُرُوجَ حَتَّى تَعَالَى النَّهَارُ ثُمَّ خَرَجَ فَخَطَبَ فَأَطَالَ الْخُطْبَةَ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى وَلَمْ يُصَلِّ لِلنَّاسِ يَوْمَئِذٍ الْجُمُعَةَ. فَذُكِرَ ذَلِكَ لاِبْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ أَصَابَ السُّنَّةَ. رواه النسائي (4) وأبو داود بنحوه عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى رَبَاحٍ قَالَ صَلَّى بِنَا ابْنُ الزُّبَيْرِ فِى يَوْمِ عِيدٍ فِى يَوْمِ جُمُعَةٍ أَوَّلَ النَّهَارِ ثُمَّ رُحْنَا إِلَى الْجُمُعَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْنَا فَصَلَّيْنَا وُحْدَانًا وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ فَلَمَّا قَدِمَ ذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ أَصَابَ السُّنَّةَ.. (5)
__________
(1) - إصلاح المساجد ص 50-51 .
(2) - مسند أحمد (19839) صحيح لغيره
(3) - سنن أبى داود(1075 ) وابن ماجة (1371 ) صحيح
(4) - سنن النسائى (1603 ) صحيح
(5) - سنن أبى داود(1073 ) صحيح(1/294)
ولأبي داود عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ عَطَاءٌ اجْتَمَعَ يَوْمُ جُمُعَةٍ وَيَوْمُ فِطْرٍ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ عِيدَانِ اجْتَمَعَا فِى يَوْمٍ وَاحِدٍ فَجَمَعَهُمَا جَمِيعًا فَصَلاَّهُمَا رَكْعَتَيْنِ بُكْرَةً لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ. (1) .
فهذه الأحاديث ناطقة بلسان فصيح على منبر الحق بأنه لا ظهر بعد الجمعة، بل إن الظهر لم تشرع ذلك اليوم أقيمت الجمعة أم لم تقم ] (2)
وأمَّا ما احتج به بعضهم على مشروعية الظهر بعد الجمعة بأن الجمعة لمن سبق ، فهذا ليس بحديث ,وإنما هو قول لبعض الفقهاء .
وقال أستاذنا د. وهبة الزحيلي :[ وينبغي العمل على منع الظهر بجماعة بعد الجمعة حفاظاً على وحدة المسلمين ولا يصح قياس حالة البلدان وكثرة سكانها على حالة المدينة في صدر الإسلام حيث كان المسلمون قلة والخليفة خطيب المسلمين وخبره وسيلة إعلام جميع المسلمين في الجهاد وعلاج أزمة القحط والوباء ونحو ذلك من الأحداث الكبرى ] (3)
وقال أيضاً : " لم يفرض الله تعالى في يوم سوى خمس صلوات ، وقد حلَّت صلاة الجمعة محل صلاة الظهر ، وهذا هو الصحيح المقرر عند جمهور الفقهاء ، إلا أن الشافعية - ولم ينقل ذلك عن الشافعي - اجتهدوا بالمطالبة بصلاة الظهر وجوباً إن تعددت الجمع في البلد لغير حاجة ، واحتياطاً إن تعددت لحاجة ، أخذاً بقاعدة هي السابقة غيرها بتكبيرة الإحرام ، لأن ( ( الجمعة لمن سبق ) ) وهذه مقولة ليست حديثاً ، وعلى الرغم من أني شافعي اتبع ما قرره مشايخي علماء الأزهر ، وأغلبهم شافعيون ، بأنه لا حاجة لصلاة الظهر بعد الجمعة ، عملاً بوحدة الأمة المسلمة في عبادتهم ، والله أعلم." (4)
__________
(1) - سنن أبى داود(1074) صحيح
(2) - البدعة في صلاة الظهر بعد الجمعة ص 138-139 .
(3) - الفقه الإسلامي وأدلته 2/311 .
(4) - فتاوى الزحيلي - (ج 1 / ص 411) -ما حكم صلاة الظهر بعد الجمعة؟ وما تفصيل القول فيه؟ وانظر فتاوى يسألونك - (ج 5 / ص 31) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 12 / ص 196) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 2197) -رقم الفتوى 14017 لا تشرع صلاة الظهر بعد الجمعة
==============(1/295)
ثانياً
اختلاف المطالع (1)
اخْتِلاَفُ مَطَالِعِ الْهِلاَل أَمْرٌ وَاقِعٌ بَيْنَ الْبِلاَدِ الْبَعِيدَةِ كَاخْتِلاَفِ مَطَالِعِ الشَّمْسِ ، لَكِنْ هَل يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي بَدْءِ صِيَامِ الْمُسْلِمِينَ وَتَوْقِيتِ عِيدَيِ الْفِطْرِ وَالأَْضْحَى وَسَائِرِ الشُّهُورِ فَتَخْتَلِفُ بَيْنَهُمْ بَدْءًا وَنِهَايَةً أَمْ لاَ يُعْتَبَرُ بِذَلِكَ ، وَيَتَوَحَّدُ الْمُسْلِمُونَ فِي صَوْمِهِمْ وَفِي عِيدَيْهِمْ ؟ ،
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ عِبْرَةَ بِاخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ ، وَهُنَاكَ مَنْ قَال بِاعْتِبَارِهَا ، وَخَاصَّةً بَيْنَ الأَْقْطَارِ الْبَعِيدَةِ ، فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ : بِأَنَّهُ لِكُل بَلَدٍ رُؤْيَتُهُمْ ، وَأَوْجَبُوا عَلَى الأَْمْصَارِ الْقَرِيبَةِ اتِّبَاعَ بَعْضِهَا بَعْضًا ، وَأَلْزَمُوا أَهْل الْمِصْرِ الْقَرِيبِ فِي حَالَةِ اخْتِلاَفِهِمْ مَعَ مِصْرٍ قَرِيبٍ مِنْهُمْ بِصِيَامِهِمْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ ، وَصِيَامِ الآْخَرِينَ ثَلاَثِينَ اعْتِمَادًا عَلَى الرُّؤْيَةِ أَوْ إِتْمَامَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ أَنْ يَقْضُوا الْيَوْمَ الَّذِي أَفْطَرُوهُ ؛ لأَِنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ حَسَبَ مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْمِصْرِ الآْخَرِ ، وَالْمُعْتَمَدُ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ اعْتِبَارَ بِاخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ فَإِذَا ثَبَتَ الْهِلاَل فِي مِصْرٍ لَزِمَ سَائِرَ النَّاسِ فَيُلْزَمُ أَهْل الْمَشْرِقِ بِرُؤْيَةِ أَهْل الْمَغْرِبِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى جَمِيعِ أَقْطَارِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا رُئِيَ الْهِلاَل فِي أَحَدِهَا .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 22 / ص 35) و فتاوى الأزهر - (ج 1 / ص 107) -اختلاف المطالع فى رؤية الهلال وفتاوى الأزهر - (ج 1 / ص 117)اختلاف المطالع فى اثبات رؤية هلال رمضان وفتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 252) هلال رمضان وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 12 / ص 122) وفتاوى يسألونك - (ج 5 / ص 54)الاختلاف في بداية الصيام وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 839) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 17 / ص 206) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 897) رقم الفتوى 2536 اختلاف المطالع له اعتباره وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 2300) رقم الفتوى 5445 من أخذ بأن رؤية الهلال في قطر ملزمة لبقية الأقطار لزمه الصوم وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 2778) رقم الفتوى 6375 الأصل في الصوم أو الإفطار رؤية الهلال وليس تقليد بلد بعينه والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 3 / ص 39) وأبحاث هيئة كبار العلماء - (ج 3 / ص 32) ومجلة مجمع الفقه الإسلامي - (ج 2 / ص 661)
(2) - ابن عابدين : رسائل ابن عابدين 1 / 228، 229(1/297)
وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ هَذَا التَّعْمِيمَ فَاسْتَثْنَى الْبِلاَدَ الْبَعِيدَةَ كَثِيرًا كَالأَْنْدَلُسِ وَخُرَاسَانَ (1) .
وَبَيَّنَ الْقَرَافِيُّ اخْتِلاَفَ مَطَالِعِ الْهِلاَل عِلْمِيًّا ، وَذَكَرَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِهِ مُكْتَفِيًا بِهِ عَنِ الْبَقِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ : وَهُوَ أَنَّ الْبِلاَدَ الْمَشْرِقِيَّةَ إِذَا كَانَ الْهِلاَل فِيهَا فِي الشُّعَاعِ وَبَقِيَتِ الشَّمْسُ تَتَحَرَّكُ مَعَ الْقَمَرِ إِلَى الْجِهَةِ الْغَرْبِيَّةِ فَمَا تَصِل الشَّمْسُ إِلَى أُفُقِ الْمَغْرِبِ إِلاَّ وَقَدْ خَرَجَ الْهِلاَل عَنِ الشُّعَاعِ فَيَرَاهُ أَهْل الْمَغْرِبِ وَلاَ يَرَاهُ أَهْل الْمَشْرِقِ . وَاسْتَنْتَجَ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ وَمِنَ اتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعِهِمْ عَلَى اخْتِلاَفِ أَوْقَاتِ الصَّلاَةِ وَمُرَاعَاةِ ذَلِكَ فِي الْمِيرَاثِ بِحَيْثُ أَفْتَوْا بِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَخَوَانِ عِنْدَ الزَّوَال أَحَدُهُمَا بِالْمَشْرِقِ وَالآْخَرُ بِالْمَغْرِبِ حُكِمَ بِأَسْبَقِيَّةِ مَوْتِ الْمَشْرِقِيِّ ؛ لأَِنَّ زَوَال الْمَشْرِقِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى زَوَال الْمَغْرِبِ فَيَرِثُ الْمَغْرِبِيُّ الْمَشْرِقِيَّ ، فَقَرَّرَ بَعْدَ إِثْبَاتِهِ اخْتِلاَفَ الْهِلاَل بِاخْتِلاَفِ الآْفَاقِ وُجُوبَ أَنْ يَكُونَ لِكُل قَوْمٍ رُؤْيَتُهُمْ فِي الأَْهِلَّةِ ، كَمَا أَنَّ لِكُل قَوْمٍ أَوْقَاتَ صَلَوَاتِهِمْ ، وَرَأَى أَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَى جَمِيعِ الأَْقَالِيمِ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل بِقُطْرٍ مِنْهَا بَعِيدٌ عَنِ الْقَوَاعِدِ ، وَالأَْدِلَّةُ لَمْ تَقْتَضِ ذَلِكَ (2) .
وَعَمِل الشَّافِعِيَّةُ بِاخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ فَقَالُوا : " إِنَّ لِكُل بَلَدٍ رُؤْيَتَهُمْ وَإِنَّ رُؤْيَةَ الْهِلاَل بِبَلَدٍ لاَ يَثْبُتُ بِهَا حُكْمُهُ لِمَا بَعُدَ عَنْهُمْ " . كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ النَّوَوِيُّ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا مَعَ مَنْ وَافَقَهُمْ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَعْمَل بِرُؤْيَةِ أَهْل الشَّامِ لِحَدِيثِ كُرَيْبٍ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ قَالَ فَقَدِمْتُ الشَّامَ فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا وَاسْتُهِلَّ عَلَىَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ فَرَأَيْتُ الْهِلاَلَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِى آخِرِ الشَّهْرِ فَسَأَلَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلاَلَ فَقَالَ مَتَى رَأَيْتُمُ الْهِلاَلَ فَقُلْتُ رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ. فَقَالَ أَنْتَ رَأَيْتَهُ فَقُلْتُ نَعَمْ وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ.
__________
(1) - القرافي ، الفروق 2 / 203، والحطاب، مواهب الجليل 2 / 384 .
(2) - القرافي، الفروق 2 / 204 .
(3) - المجموع شرح المهذب 5 / 273 - 275، وشرح مسلم 5 / 58 - 59، والشوكاني نيل الأوطار 4 / 268 ( دار الجيل ) .(1/298)
فَقَالَ لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلاَ نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلاَثِينَ أَوْ نَرَاهُ. فَقُلْتُ أَوَلاَ تَكْتَفِى بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ فَقَالَ لاَ هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. (1)
وَقَدْ عَلَّل النَّوَوِيُّ هَذِهِ الْفَتْوَى مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّ الرُّؤْيَةَ لاَ يَثْبُتُ حُكْمُهَا فِي حَقِّ الْبَعِيدِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ ، وَأَلْزَمُوا جَمِيعَ الْبِلاَدِ بِالصَّوْمِ إِذَا رُئِيَ الْهِلاَل فِي بَلَدٍ (3) .
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ بِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ (4) ، فَقَدْ أَوْجَبَ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّوْمَ بِمُطْلَقِ الرُّؤْيَةِ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ تَقْيِيدِهَا بِمَكَانٍ ، وَاعْتَبَرُوا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ اجْتِهَادِهِ ، وَلَيْسَ نَقْلاً عَنِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . (4)
قلت : بالرغم أنه ثبت أن المسافة الفلكية بين طنجا- جاكرتا هي تسع ساعات فلكية ، فأيُّ بلد مسلم رأت الهلال يمكن أن تخبر بقية الأقطار الإسلامية قبل الفجر ، ولكن هذا الأمر لم يحدث بسبب تفرق كلمة المسلمين .
وفي قرارات مجمع الفقه الإسلامي ذهبوا لقول الجمهور حيث قالوا :
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م.
بعد استعراضه في قضية «توحيد بدايات الشهور القمرية» مسألتين:
الأولى: مدى تأثير اختلاف المطالع على توحيد بداية الشهور
الثانية: حكم إثبات أوائل الشهور القمرية بالحساب الفلكي.
وبعد استماعه إلى الدراسات المقدمة من الأعضاء والخبراء حول هذه المسألة. قرر:
__________
(1) - صحيح مسلم (2580 )
(2) - شرح مسلم 5 / 58 - 59
(3) - ابن قدامة، المغني 3 / 88 - 89
(4) - صحيح البخارى(1909 ) ومسلم (2567)(1/299)
1 - في المسألة الأولى: إذا ثبتت الرؤية في بلد وجب على المسلمين الالتزام بها ولا عبرة لاختلاف المطالع لعموم الخطاب بالأمر بالصوم والإفطار.
2 - في المسألة الثانية: وجوب الاعتماد على الرؤية، ويستعان بالحساب الفلكي والمراصد مراعاة للأحاديث النبوية والحقائق العلمية. (1)
وأما قرار هيئة كبار العلماء بالسعودية فهو ما يلي :
أولاً: اختلاف مطالع الأهلة من الأمور التي علمت بالضرورة حسا وعقلاً ولم يختلف فيها أحد، وإنما وقع الاختلاف بين علماء المسلمين في اعتبار اختلاف المطالع من عدمه.
ثانياً: مسألة اعتبار اختلاف المطالع من عدمه من المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال والاختلاف فيها وفي أمثالها واقع ممن لهم الشأن في العلم والدين وهو من الخلاف السائغ الذي يؤجر فيه المصيب أجرين: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، ويؤجر فيه المخطئ أجر الاجتهاد، وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين، فمنهم من رأى اعتبار اختلاف المطالع، ومنهم من لم ير اعتباره، واستدل كل فريق بأدلته من الكتاب والسنة، وربما استدل الفريقان بالنص الواحد كاشتراكهما في الاستدلال بقوله تعالى: "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج"، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته". الحديث... وذلك لاختلاف الفهم في النص وسلوك كل منهما طريقاً في الاستدلال به، وعند بحث هذه المسألة في مجلس الهيئة، ونظراً لاعتبارات قدَّرتها الهيئة، ولأن هذا الخلاف في مسألة اعتبار اختلاف المطالع من عدمه ليس له آثار تخشى عواقبها، وقد مضى على ظهور هذا الدين مدة أربعة عشر قرناً لا نعلم منها فترة جرى فيها توحيد الأمة الإسلامية على رؤية واحدة، فإن أعضاء الهيئة يرون بقاء الأمر على ما كان عليه وعدم إثارة هذا الموضوع، وأن يكون لكل دولة إسلامية حق اختيار ما تراه بواسطة علمائها من الرأيين المشار إليهما في المسألة إذ لكل منهما أدلته ومستنداته. (2)
__________
(1) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 115)
(2) - فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 17 / ص 232)(1/300)
قلت : وهذا ما أميلُ إليه اليوم حسماً للنزاع الذي يحصلُ بين المسلمين في كل بداية رمضان ونهايته ، ومنْ صام قبل بلده لسببٍ ما ، فلا يفطر قبل أن يفطروا درءا للفتنة ، وحسماً للاختلاف . والله أعلم .
==============(1/301)
الثالث
التراويح في رمضان
في كل سنة في رمضان تثار هذه المسألة في كثير من البلدان ، حول هل تصلَّى التراويح عشرين ركعة أم ثماني ركعات ، ويحصل تراشق التهم بين الطرفين المتنازعين إلى حدٍّ بعيد،فسنحاول بحثها باختصار علَّها تنهي هذا النزاع والخصام بين الإخوة .
أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى سُنِّيَّةِ قِيَامِ لَيَالِيِ رَمَضَانَ ، وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقِيَامِ رَمَضَانَ صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ يَعْنِي أَنَّهُ يَحْصُل الْمَقْصُودُ مِنَ الْقِيَامِ بِصَلاَةِ التَّرَاوِيحِ (1) . وَقَدْ جَاءَ فِي فَضْل قِيَامِ لَيَالِيِ رَمَضَانَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (2) .
وقد اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى سُنِّيَّةِ صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ ، وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ، وَهِيَ سُنَّةٌ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ ، وَهِيَ مِنْ أَعْلاَمِ الدِّينِ الظَّاهِرَةِ (3)
وَقَدْ سَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَةَ التَّرَاوِيحِ وَرَغَّبَ فِيهَا ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَرَضَ صِيَامَ رَمَضَانَ عَلَيْكُمْ وَسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ». (4)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُرَغِّبُ فِى قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ (5) فَيَقُولُ « مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
__________
(1) - فتح الباري 4 / 251 .
(2) - صحيح البخارى(37 ) ومسلم (1815) و الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 23 / ص 144)
(3) - الاختيار 1 / 68 ، رد المحتار 1 / 472 ، العدوي على كفاية الطالب 1 / 352 ، 2 / 321 ، الإقناع للشربيني 1 / 107 ، المجموع 4 / 31 ، مطالب أولي النهى 1 / 563 .
(4) - سنن النسائى(2222 ) وفيه انقطاع
(5) - المعنى : لا يأمرهم به أمر تحتيم وإلزام وهو العزيمة ، بل أمر ندب وترغيب فيه بذكر فضله . المجموع 4 / 31 ، الإقناع 1 / 107 ، الترغيب والترهيب 2 / 90 .(1/302)
ذَنْبِهِ ». فَتُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ كَانَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِى خِلاَفَةِ أَبِى بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ. (1)
قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ وَغَيْرُهُ : اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ صَلاَةَ التَّرَاوِيحِ هِيَ الْمُرَادَةُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ .
وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ صَلاَةَ التَّرَاوِيحِ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي ، وَلَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهَا ، وَبَيَّنَ الْعُذْرَ فِي تَرْكِ الْمُوَاظَبَةِ وَهُوَ خَشْيَةُ أَنْ تُكْتَبَ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا، فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رضى الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ فِى الْمَسْجِدِ فَصَلَّى بِصَلاَتِهِ نَاسٌ ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ « قَدْ رَأَيْتُ الَّذِى صَنَعْتُمْ وَلَمْ يَمْنَعْنِى مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلاَّ أَنِّى خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ » ، وَذَلِكَ فِى رَمَضَانَ . (2)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ لَيْلَةً مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ ، فَصَلَّى فِى الْمَسْجِدِ ، وَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلاَتِهِ ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا ، فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ ، فَصَلَّوْا مَعَهُ ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا ، فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى ، فَصَلَّوْا بِصَلاَتِهِ ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ ، حَتَّى خَرَجَ لِصَلاَةِ الصُّبْحِ ، فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ ، فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ « أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَىَّ مَكَانُكُمْ ، وَلَكِنِّى خَشِيتُ أَنْ تُفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا » . فَتُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ (3)
وَقَدْ وَاظَبَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً ، وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هُوَ الَّذِي جَمَعَ النَّاسَ فِيهَا عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ .
__________
(1) - صحيح مسلم (1816 ) -الصدر : أول خلافته
(2) - صحيح البخارى(1129) ومسلم (1819)
(3) - صحيح البخارى(2012)(1/303)
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِىِّ أَنَّهُ قَالَ خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - لَيْلَةً فِى رَمَضَانَ ، إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّى الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ ، وَيُصَلِّى الرَّجُلُ فَيُصَلِّى بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ فَقَالَ عُمَرُ إِنِّى أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ . ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ قَارِئِهِمْ ، قَالَ عُمَرُ نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ ، وَالَّتِى يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِى يَقُومُونَ . يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ (1) .
وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَال : سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنِ التَّرَاوِيحِ وَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ ، فَقَال : التَّرَاوِيحُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ، وَلَمْ يَتَخَرَّصْ (2) عُمَرُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مُبْتَدِعًا ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ إِلاَّ عَنْ أَصْلٍ لَدَيْهِ وَعَهْدٍ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَقَدْ سَنَّ عُمَرُ هَذَا وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَصَلاَّهَا جَمَاعَةً وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ وَمَا رَدَّ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، بَل سَاعَدُوهُ وَوَافَقُوهُ وَأَمَرُوا بِذَلِكَ (3)
وأما عَدَدُ رَكَعَاتِ التَّرَاوِيحِ : فقد قَال السُّيُوطِيُّ : الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَالْحِسَانُ الأَْمْرُ بِقِيَامِ رَمَضَانَ وَالتَّرْغِيبُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِعَدَدٍ ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى التَّرَاوِيحَ عِشْرِينَ رَكْعَةً ، وَإِنَّمَا صَلَّى لَيَالِيَ صَلاَةً لَمْ يُذْكَرْ عَدَدُهَا ، ثُمَّ تَأَخَّرَ فِي اللَّيْلَةِ الرَّابِعَةِ خَشْيَةَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا (4) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ : لَمْ يَصِحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى التَّرَاوِيحَ عِشْرِينَ رَكْعَةً ، وَمَا وَرَدَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عِشْرِينَ رَكْعَةً فَهُوَ شَدِيدُ الضَّعْفِ (5) .
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِيمَا كَانَ يُصَلَّى بِهِ فِي رَمَضَانَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - : فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - مِنَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَالشَّافِعِيَّةِ ، وَالْحَنَابِلَةِ ، وَبَعْضِ
__________
(1) - صحيح البخارى(2010 ) ومالك (249) -الأوزاع : المتفرقون غير المجتمعين على إمام واحد
(2) - من معاني الخرص : الكذب ، وكل قول بالظن ، يقال : تخرص عليه إذا افترى ، واخترص إذا اختلق . ( القاموس المحيط ) .
(3) - فتح القدير 1 / 333 ، الاختيار 1 / 68 - 69 ، المغني 2 / 166 ، المنتقى 1 / 207 .
(4) - المصابيح في صلاة التراويح ص 14 - 15 .
(5) - الفتاوى الكبرى 1 / 194 .(1/304)
الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّ التَّرَاوِيحَ عِشْرُونَ رَكْعَةً ، لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ مِنْ قِيَامِ النَّاسِ فِي زَمَانِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِعِشْرِينَ رَكْعَةً ، وَجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ مِنَ الرَّكَعَاتِ جَمْعًا مُسْتَمِرًّا ، قَال الْكَاسَانِيُّ : جَمَعَ عُمَرُ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَصَلَّى بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ (1) .
وَقَال الدُّسُوقِيُّ وَغَيْرُهُ : كَانَ عَلَيْهِ عَمَل الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ (2)
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ : عَلَيْهِ عَمَل النَّاسِ شَرْقًا وَغَرْبًا (3)
وَقَال عَلِيٌّ السَّنْهُورِيُّ : هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَل النَّاسِ وَاسْتَمَرَّ إِلَى زَمَانِنَا فِي سَائِرِ الأَْمْصَارِ (4)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : وَهَذَا فِي مَظِنَّةِ الشُّهْرَةِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إِجْمَاعًا (5) وَالنُّصُوصُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِىَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً قَالَ وَقَدْ كَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعِصِىِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ وَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلاَّ فِى فُرُوعِ الْفَجْرِ.. (6)
وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ أَنَّهُ قَالَ كَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ فِى زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِى رَمَضَانَ بِثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً.، (7)
قَال الْبَيْهَقِيُّ وَالْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمَا : أَيْ بِعَشْرَيْنَ رَكْعَةً غَيْرَ الْوِتْرِ ثَلاَثَ رَكَعَاتٍ (8) ،
__________
(1) - بدائع الصنائع 1 / 288 ،
(2) - حاشية الدسوقي 1 / 315 .
(3) - رد المحتار 1 / 474 .
(4) - شرح الزرقاني 1 / 284 .
(5) - كشاف القناع 1 / 425 .
(6) - موطأ مالك (250 ) والتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد - (ج 8 / ص 114) وقال هكذا قال مالك في هذا الحديث إحدى عشرة ركعة وغيره يقول فيه إحدى وعشرين
(7) - موطأ مالك (251 ) صحيح مرسل
(8) - وانظر المنتقى 1 / 209 ، وشرح المنهاج للمحلي 1 / 217 .(1/305)
وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى شَهْرِ رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً - قَالَ - وَكَانُوا يَقْرَءُونَ بِالْمِئِينِ ، وَكَانُوا يَتَوَكَّئُونَ عَلَى عُصِيِّهِمْ فِى عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ شِدَّةِ الْقِيَامِ. (1)
قَال الْبَاجِيُّ : يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ عُمَرُ أَمَرَهُمْ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، وَأَمَرَهُمْ مَعَ ذَلِكَ بِطُول الْقِرَاءَةِ ، يَقْرَأُ الْقَارِئُ بِالْمِئِينَ فِي الرَّكْعَةِ ؛ لأَِنَّ التَّطْوِيل فِي الْقِرَاءَةِ أَفْضَل الصَّلاَةِ ، فَلَمَّا ضَعُفَ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً عَلَى وَجْهِ التَّخْفِيفِ عَنْهُمْ مِنْ طُول الْقِيَامِ ، وَاسْتَدْرَكَ بَعْضُ الْفَضِيلَةِ بِزِيَادَةِ الرَّكَعَاتِ (2) .
وَقَال الْعَدَوِيُّ : الإِْحْدَى عَشْرَةَ كَانَتْ مَبْدَأَ الأَْمْرِ ، ثُمَّ انْتَقَل إِلَى الْعِشْرِينَ . وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ : رَجَعَ عُمَرُ إِلَى ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً (3)
وَخَالَفَ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ مَشَايِخَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعِشْرِينَ سُنَّةٌ فِي التَّرَاوِيحِ فَقَال : قِيَامُ رَمَضَانَ سُنَّةٌ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً بِالْوِتْرِ فِي جَمَاعَةٍ ، فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ ، أَفَادَ أَنَّهُ لَوْلاَ خَشْيَةَ فَرْضِهِ عَلَيْهِمْ لَوَاظَبَ بِهِمْ ، وَلاَ شَكَّ فِي تَحَقُّقِ الأَْمْنِ مِنْ ذَلِكَ بِوَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ سُنَّةً ، وَكَوْنُهَا عِشْرِينَ سُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ (4) " نَدْبٌ إِلَى سُنَّتِهِمْ ، وَلاَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ ذَلِكَ سُنَّتَهُ ؛ إِذْ سُنَّتُهُ بِمُوَاظَبَتِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ إِلاَّ لِعُذْرٍ ، وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ ذَلِكَ الْعُذْرِ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُ ، فَتَكُونُ الْعِشْرُونَ مُسْتَحَبًّا ، وَذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْهَا هُوَ السُّنَّةُ ، كَالأَْرْبَعِ بَعْدَ الْعِشَاءِ مُسْتَحَبَّةٌ وَرَكْعَتَانِ
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي(ج 2 / ص 496)(4801) صحيح و فتح القدير 1 / 334 ، والمغني 1 / 208 ، والمجموع 4 / 32 - 33 .
(2) - المنتقى 2 / 208 .
(3) - حاشية العدوي على كفاية الطالب 1 / 353 .
(4) - سنن الترمذى (2891 ) صحيح(1/306)
مِنْهَا هِيَ السُّنَّةُ ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْمَشَايِخِ أَنَّ السُّنَّةَ عِشْرُونَ ، وَمُقْتَضَى الدَّلِيل مَا قُلْنَا فَيَكُونُ هُوَ الْمَسْنُونَ ، أَيْ فَيَكُونُ الْمَسْنُونُ مِنْهَا ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ وَالْبَاقِي مُسْتَحَبًّا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : الْقِيَامُ فِي رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً أَوْ بِسِتٍّ وَثَلاَثِينَ وَاسِعٌ أَيْ جَائِزٌ ، فَقَدْ كَانَ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَقُومُونَ فِي رَمَضَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْمَسَاجِدِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً ، ثُمَّ يُوتِرُونَ بِثَلاَثٍ ، ثُمَّ صَلُّوا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ سِتًّا وَثَلاَثِينَ رَكْعَةً غَيْرَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ .
قَال الْمَالِكِيَّةُ : وَهُوَ اخْتِيَارُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ ، قَال : هُوَ الَّذِي لَمْ يَزَل عَلَيْهِ عَمَل النَّاسِ أَيْ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَقَالُوا : كَرِهَ مَالِكٌ نَقْصَهَا عَمَّا جُعِلَتْ بِالْمَدِينَةِ .
وَعَنْ مَالِكٍ - أَيْ فِي غَيْرِ الْمُدَوَّنَةِ - قَال : الَّذِي يَأْخُذُ بِنَفْسِي فِي ذَلِكَ الَّذِي جَمَعَ عُمَرُ عَلَيْهِ النَّاسَ ، إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْهَا الْوِتْرُ ، وَهِيَ صَلاَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْمَذْهَبِ أَقْوَالٌ وَتَرْجِيحَاتٌ أُخْرَى (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : وَلأَِهْل الْمَدِينَةِ فِعْلُهَا سِتًّا وَثَلاَثِينَ ؛ لأَِنَّ الْعِشْرِينَ خَمْسُ تَرْوِيحَاتٍ ، وَكَانَ أَهْل مَكَّةَ يَطُوفُونَ بَيْنَ كُل تَرْوِيحَتَيْنِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ ، فَحَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ بَدَل كُل أُسْبُوعٍ تَرْوِيحَةً لِيُسَاوُوهُمْ ، قَال الشَّيْخَانِ : وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ . . وَهُوَ الأَْصَحُّ كَمَا قَال الرَّمْلِيُّ لأَِنَّ لأَِهْل الْمَدِينَةِ شَرَفًا بِهِجْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَدْفِنِهِ ، وَخَالَفَ الْحَلِيمِيُّ فَقَال : وَمَنَ اقْتَدَى بِأَهْل الْمَدِينَةِ فَقَامَ بِسِتٍّ وَثَلاَثِينَ فَحَسَنٌ أَيْضًا (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : لاَ يَنْقُصُ مِنَ الْعِشْرِينَ رَكْعَةً ، وَلاَ بَأْسَ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا نَصًّا ، قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ : رَأَيْتُ أَبِي يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ مَا لاَ أُحْصِي ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَْسْوَدُ يَقُومُ بِأَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بَعْدَهَا بِسَبْعٍ (4) .
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ : وَالأَْفْضَل يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ أَحْوَال الْمُصَلِّينَ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمُ احْتِمَالٌ لِطُول الْقِيَامِ ، فَالْقِيَامُ بِعَشْرِ رَكَعَاتٍ وَثَلاَثٍ بَعْدَهَا ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) - فتح القدير 1 / 333 - 334 .
(2) - كفاية الطالب 1 / 353 شرح الزرقاني 1 / 284 .
(3) - أسنى المطالب 1 / 201 ، نهاية المحتاج 2 / 123 .
(4) - مطالب أولي النهى 1 / 563 ، كشاف القناع 1 / 425 .(1/307)
يُصَلِّي لِنَفْسِهِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ هُوَ الأَْفْضَل . وَإِنْ كَانُوا لاَ يَحْتَمِلُونَهُ فَالْقِيَامُ بِعِشْرِينَ هُوَ الأَْفْضَل . وَهُوَ الَّذِي يَعْمَل بِهِ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَ الْعَشْرِ وَبَيْنَ الأَْرْبَعِينَ ، وَإِنْ قَامَ بِأَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا جَازَ ذَلِكَ وَلاَ يُكْرَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ . وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الأَْئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . قَال : وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ فِيهِ عَدَدٌ مُوَقَّتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يُزَادُ فِيهِ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ (1) .
قلت : من خلال أقوال الفقهاء نلاحظ أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عددا للتراويح ، وإنما ثبت العدد عن عمر رضي الله عنه .
وقد زعم قوم أن التراويح لا تصحُّ بأكثر من ثماني ركعات استنادا لحديث عائشة رضي الله عنها ، فعَنْ أَبِى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - كَيْفَ كَانَتْ صَلاَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى رَمَضَانَ فَقَالَتْ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَزِيدُ فِى رَمَضَانَ وَلاَ فِى غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، يُصَلِّى أَرْبَعًا فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ، ثُمَّ يُصَلِّى أَرْبَعًا فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ، ثُمَّ يُصَلِّى ثَلاَثًا ، قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ . فَقَالَ « يَا عَائِشَةُ ، إِنَّ عَيْنَىَّ تَنَامَانِ وَلاَ يَنَامُ قَلْبِى » (2) .
والصواب من القول أنه لا يعارض رواية العشرين ، لأنه يتحدث عن قيام الليل ، المرغب به كل ليلة ، ولكن رمضان خصَّ بشيء زائد على ذلك ، فلو كان قيام رمضان هو نفس قيام الليل لما كان فيه أية ميزة تميزه عن غيره ، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » (3) .
ومن جهة ثانية لو كان فعل عمر رضي الله عنه- الذي كان بحضرة الصحابة ومنهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- منكرا لأنكره عليه الصحابة ولا سيما أم المؤمنين عائشة ،
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية 22 / 272 .
(2) - صحيح البخارى(1147 )
(3) - صحيح البخارى (37 )(1/308)
فتقول له لقد خالفت فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن هذا الأمر لم يحصل بتاتا ، مع أنها أنكرت عليه وعلى غيره بعض الأشياء كتعذيب الميت ببكاء الحي ونحوه .
ومن جهة أخرى لم بجعل أحد من الفقهاء هذا الحديث معارضا لفعل عمر رضي الله عنه.
فلو كان المقصود به التراويح لما اختلف الفقهاء منذ عهد الصحابة بعدد ركعاتها .
والصواب أنه يوجد في رمضان تراويح وقيام ليل (تهجد) ولا تعارض بينهما أصلاً ،بدليل قول عمر رضي الله عنه " نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ ، وَالَّتِى يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِى يَقُومُونَ . يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ ." (1)
وفي مصنف ابن أبي شيبة(ج 2 / ص 392)
680- كم يصلي فِي رَمَضَانَ مِنْ رَكْعَةٍ.
7762- حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ ، عَنْ شُتَيْرِ بْنِ شَكَلٍ : أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً وَالْوِتْرَ.
7763- حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ حَسَنِ بْنِ صَالِحٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ ، عَنِ أَبِي الْحَسْنَاءِ : أَنَّ عَلِيًّا أَمَرَ رَجُلاً يُصَلِّي بِهِمْ فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً.
7764- حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَمَرَ رَجُلاً يُصَلِّي بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً.
7765- حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ : كَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يُصَلِّي بِنَا فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً وَيَقْرَأُ بِحَمْدِ الْمَلاَئِكَةِ فِي رَكْعَةٍ.
7766- حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ حَسَنٍ ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ ، قَالَ : كَانَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي رَمَضَانَ بِالْمَدِينَةِ عِشْرِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بِثَلاَثٍ.
7767- حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، عَنْ حَجَّاجٍ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنِ الْحَارِثِ : أَنَّهُ كَانَ يَؤُمُّ النَّاسَ فِي رَمَضَانَ بِاللَّيْلِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بِثَلاَثٍ وَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ.
__________
(1) - صحيح البخارى (2010 )(1/309)
7768- حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ خَلَفٍ ، عَنْ رَبِيعٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ : أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي خَمْسَ تَرْوِيحَاتٍ فِي رَمَضَانَ وَيُوتِرُ بِثَلاَثٍ.
7769- حَدَّثَنَا حَفْصٌ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ ، قَالَ : كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ يُصَلِّي بِنَا فِي رَمَضَانَ أَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بِسَبْعٍ.
7770- حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ ، عَنْ عَطَاءٍ ، قَالَ : أَدْرَكْت النَّاسَ وَهُمْ يُصَلُّونَ ثَلاَثًا وَعِشْرِينَ رَكْعَةً بِالْوِتْرِ.
7771- حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ ، قَالَ : أَدْرَكْتُ النَّاسَ بِالْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ يُصَلُّونَ سِتَّة وَثَلاَثِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُونَ بِثَلاَثٍ.
7772- حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ : أَنَّ عَلِيَّ بْنَ رَبِيعَةَ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ فِي رَمَضَانَ خَمْسَ تَرْوِيحَاتٍ وَيُوتِرُ بِثَلاَثٍ.
7773- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ ، عَنْ وِقَاءٍ ، قَالَ : كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَؤُمُّنَا فِي رَمَضَانَ فَيُصَلِّي بِنَا عِشْرِينَ لَيْلَةً سِتَّ تَرْوِيحَاتٍ ، فَإِذَا كَانَ الْعَشْرُ الأَخَرُ اعْتَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ وَصَلَّى بِنَا سَبْعَ تَرْوِيحَاتٍ.
7774- حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ ، عَنِ الْحَكَمِ ، عَنْ مِقْسَمٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً وَالْوِتْرَ.
وفي فَضَائِلُ الْأَوْقَاتِ لِلْبَيْهَقِيِّ (124 ) أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الدَّيْنَوَرِيُّ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ السُّنِّيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ ، قَالَ : كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً ، قَالَ : وَكَانُوا يَقْرَءُونَ بِالْمِائَتَيْنِ ، وَكَانُوا يَتَوَكَّئُونَ عَلَى عِصِيِّهِمْ فِي عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مِنْ شِدَّةِ الْقِيَامِ قَالَ الشَّيْخُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَبِمَعْنَاهُ رَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مُرْسَلًا ، وَرُوِّينَا عَنْ شُتَيْرِ بْنِ شَكَلٍ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَؤُمُّهُمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بِثَلَاثٍ , وَعَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ(1/310)
أَنَّهُ كَانَ يَؤُمُّهُمْ فِي رَمَضَانَ فَيُصَلِّي خَمْسَ تَرْوِيحَاتٍ عِشْرِينَ رَكْعَةً وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّهُ قَالَ : دَعَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِثَلَاثِ قُرَّاءٍ فَاسْتَقْرَأَهُمْ فَأَمَرَ أَسْرَعَهُمْ قِرَاءَةً أَنْ يَقْرَأَ لِلنَّاسِ فِي رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ آيَةً وَأَمَرَ أَوْسَطَهُمْ أَنْ يَقْرَأَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ وَأَمَرَ أَبْطَأَهُمْ أَنْ يَقْرَأَ لِلنَّاسِ عِشْرِينَ آيَةً "
وفي قِيَامُ رَمَضَانَ لِمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ -بَابُ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا الْإِمَامُ لِلنَّاسِ فِي رَمَضَانَ تَقَدَّمَ حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " صَلَّى فِي رَمَضَانَ فِي لَيْلَةٍ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ ثُمَّ أَوْتَرَ " وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ : " أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً " وَفِي رِوَايَةٍ : كُنَّا نُصَلِّي فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي رَمَضَانَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنَّا نُخْرِجُ إِلَّا فِي وِجَاهِ الصُّبْحِ , كَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ فِي رَكْعَةٍ بِخَمْسِينَ آيَةً , سِتِّينَ آيَةً . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ : " كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً يُطِيلُونَ فِيهَا الْقِرَاءَةَ وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ " قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمَا سَمِعْتُ فِيَ ذَلِكَ حَدِيثًا هُوَ أَثْبَتُ عِنْدِي وَلَا أَحْرَى بِأَنْ يَكُونَ , كَانَ مِنْ حَدِيثِ السَّائِبِ , وَذَلِكَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً " وَعَنِ السَّائِبِ أَيْضًا : " أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ فِي رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً , وَيَقْرَءُونَ بِالْمِئِينَ مِنَ الْقُرْآنِ , وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَمِدُونَ عَلَى الْعِصِيِّ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ : " كَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَمَضَانَ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً " وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ : " مَا زَالَ النَّاسُ يَقُومُونَ بِسِتٍّ وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ إِلَى الْيَوْمِ فِي رَمَضَانَ " زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُصَلِّي بِنَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَيَنْصَرِفُ وَعَلَيْهِ لَيْلٌ " قَالَ الْأَعْمَشُ : " كَانَ يُصَلِّي عِشْرِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بِثَلَاثٍ " وَقَالَ عَطَاءٌ : " أَدْرَكْتُهُمْ يُصَلُّونَ فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً , وَالْوِتْرُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ " عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ عَنْ شُتَيْرٍ : وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَعْدُودِينَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بِثَلَاثٍ " مُحَمَّدُ(1/311)
بْنُ سِيرِينَ : إِنَّ مُعَاذًا أَبَا حَلِيمَةَ الْقَارِئَ كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي رَمَضَانَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ رَكْعَةً " ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ , عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةَ قَالَ : " أَدْرَكْتُ النَّاسَ قَبْلَ الْحَرَّةِ يَقُومُونَ بِإِحْدَى وَأَرْبَعِينَ رَكْعَةً يُوتِرُونَ مِنْهَا بِخَمْسٍ " قَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ : فَقُلْتُ : لَا يُسَلِّمُونَ بَيْنَهُنَّ ؟ فَقَالَ : " بَلْ يُسَلِّمُونَ بَيْنَ كُلِّ ثِنْتَيْنِ وَيُوتِرُونَ بِوَاحِدَةٍ إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا " عَمْرُو بِنُ مُهَاجِرٍ : إِنَّ عَمْرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ " كَانَتْ تَقُومُ الْعَامَّةُ بِحَضْرَتِهِ فِي رَمَضَانَ بِخَمْسَ عَشْرَةَ تَسْلِيمَةً وَهُوَ فِي قُبَّتِهِ لَا نَدْرِي مَا يَصْنَعُ " دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ : " أَدْرَكْتُ الْمَدِينَةَ فِي زَمَانِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ يُصَلُّونَ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ " نَافِعٌ : " لَمْ أُدْرِكِ النَّاسَ إِلَّا وَهُمْ يُصَلُّونَ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُونَ مِنْهَا بِثَلَاثٍ " وَرْقَاءُ بْنُ إِيَاسٍ : كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يُصَلِّي بِنَا فِي رَمَضَانَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى عِشْرِينَ لَيْلَةً سِتَّ تَرْوِيحَاتٍ , فَإِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ زَادَ تَرْوِيحَةً " حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ سِتَّ تَرْوِيحَاتٍ يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ , كُلُّ تَرْوِيحَةٍ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ " يُونُسُ رَحِمَهُ اللَّهُ : " أَدْرَكْتُ مَسْجِدَ الْجَامِعَ قَبْلَ فِتْنَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ يُصَلِّي بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ , وَعِمْرَانُ الْعَبْدِيُّ كَانُوا يُصَلُّونَ خَمْسَ تَرَاوِيحَ , فَإِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ زَادُوا وَاحِدَةً , وَيَقْنُتُونَ فِي النِّصْفِ الْآخِرِ , وَيَخْتِمُونَ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ " عِمْرَانُ بْنُ حُدَيْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : " كَانَ أَبُو مِجْلَزٍ يُصَلِّي بِهِمْ أَرْبَعَ تَرْوِيحَاتٍ وَيَقْرَأُ بِهِمْ سُبْعَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ " ذَكْوَانُ الْجُرَشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " شَهِدْتُ زُرَارَةَ بْنَ أَوْفَى يُصَلِّي بِالْحَيِّ فِي رَمَضَانَ سِتَّ تَرْوِيحَاتٍ , فَإِذَا كَانَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ صَلَّى سَبْعَ تَرْوِيحَاتٍ كُلَّ لَيْلَةٍ , وَشَهِدْتُهُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ يُصَلِّي سِتَّ رَكَعَاتٍ لَا يَقْعُدُ بَيْنَهُنَّ يَقْعُدُ فِي السَّادِسَةِ " ابْنُ الْقَاسِمِ : سَمِعْتُ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ يَذْكُرُ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ سُلَيْمَانَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ : أَنْتَقِصُ مِنْ قِيَامِ رَمَضَانَ , فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ , فَقِيلَ لَهُ : قَدْ كَرِهَ ذَلِكَ , قَالَ : نَعَمْ , وَقَدْ قَامَ النَّاسُ هَذَا الْقِيَامَ قَدِيمًا , قِيلَ لَهُ : فَكَمِ الْقِيَامُ ؟ فَقَالَ : تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ رَكْعَةً بِالْوِتْرِ " ابْنُ أَيْمَنَ : قَالَ مَالِكٌ : " أَسْتَحِبُّ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ فِي رَمَضَانَ بِثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً ثُمَّ يُسَلِّمُ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ ثُمَّ يُوتِرُ بِهِمْ بِوَاحِدَةٍ , وَهَذَا الْعَمَلُ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ الْحَرَّةِ مُنْذُ بِضْعٍ وَمِائَةِ سَنَةٍ إِلَى الْيَوْمِ " وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ : قُلْتُ(1/312)
لِأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ : كَمْ مِنْ رَكْعَةٍ تُصَلِّي فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ ؟ فَقَالَ : قَدْ قِيلَ فِيهِ أَلْوَانٌ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ ، إِنَّمَا هُوَ تَطَوَّعٌ , قَالَ إِسْحَاقُ : نَخْتَارُ أَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ أَخَفَّ " الزَّعْفَرَانِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : رَأَيْتُ النَّاسَ يَقُومُونَ بِالْمَدِينَةِ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً قَالَ : " وَأَحَبُّ إِلَيَّ عِشْرُونَ , قَالَ : وَكَذَلِكَ يَقُومُونَ بِمَكَّةَ , قَالَ : وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا ضِيقٌ وَلَا حَدٌّ يَنْتَهِي إِلَيْهِ , لَأَنَّهُ نَافِلَةٌ فَإِنْ أَطَالُوا الْقِيَامَ وَأَقَلُّوا السُّجُودَ فَحَسَنٌ , وَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ , وَإِنْ أَكْثَرُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَحَسَنٌ .
والصواب أنه كله جائز سواء أصلى ثماني ركعات أو عشرين أو ستة وثلاثين ونحو ذلك لا حرج فيه ، وهو من اختلاف التنوع الذي يقصد به التسهيل على الناس .
فالزعم بأنه لا تصحُّ التراويح بأكثر من ثماني ركعات غير صحيح ، كما أن الزعم بأنه لا تصح بأقل من عشرين غير صحيح أيضاً .
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية :
" اختلف العلماء في عدد ركعات صلاة التراويح على أقوال:
قال ابن قدامة :" وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِيهَا عِشْرُونَ رَكْعَةً ،وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ،وَقَالَ مَالِكٌ : سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ ." (1) .
وقال النووي في المجموع : ونقله عياض عن الجمهور أنها عشرون ركعة (2) ، قال العيني: وقيل إحدى عشرة ركعة وهو اختيار مالك لنفسه واختيار أبي بكر بن العربي. (3)
وقال الترمذي : أكثر ما قيل أنه يصلى إحدى وأربعين ركعة بركعة الوتر . انتهى (4) .
واحتج الجمهور بأدلة منها حديث في الصحيحين عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَلاَةِ اللَّيْلِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «
__________
(1) - المغني - (ج 3 / ص 388)
(2) - المجموع شرح المهذب - (ج 4 / ص 31)
(3) - عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 12 / ص 458)
(4) - سنن الترمذى (811)(1/313)
صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى ، فَإِذَا خَشِىَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً ، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى » (1) .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَهُ عَنْ صَلاَةِ اللَّيْلِ فَقَالَ « صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى تُسَلِّمُ فِى كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَصَلِّ رَكْعَةً تُوتِرُ لَكَ مَا قَبْلَهَا ». (2)
وعن عُقْبَةَ بْنِ حُرَيْثٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا رَأَيْتَ أَنَّ الصُّبْحَ يُدْرِكُكَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ ». فَقِيلَ لاِبْنِ عُمَرَ مَا مَثْنَى مَثْنَى قَالَ أَنْ يُسَلِّمَ فِى كُلِّ رَكْعَتَيْنِ. (3)
ومنها حديث السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى شَهْرِ رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً - قَالَ - وَكَانُوا يَقْرَءُونَ بِالْمِئِينِ ، وَكَانُوا يَتَوَكَّئُونَ عَلَى عُصِيِّهِمْ فِى عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ شِدَّةِ الْقِيَامِ. (4) . وإسناده صحيح كما قال النووي في المجموع ورواه مالك في الموطأ.
ومنها حديث ربيعة بن كعب قَالَ كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِى « سَلْ ». فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِى الْجَنَّةِ. قَالَ « أَوَغَيْرَ ذَلِكَ ». قُلْتُ هُوَ ذَاكَ. قَالَ « فَأَعِنِّى عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ». رواه مسلم (5) .
قلت : "وذهب الألباني إلى وجوب الاقتصار على إحدى عشرة ركعة وأن الزيادة عليها بدعة واحتجَّ:
أولاً: بحديث عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ يَزِيدُ فِى رَمَضَانَ ، وَلاَ فِى غَيْرِهَا عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، البخاري (6)
__________
(1) - صحيح البخارى(990 ) ومسلم (1782)
(2) - مسند أحمد (5465) صحيح
(3) - صحيح مسلم (1799)
(4) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 2 / ص 496)(4801) صحيح
(5) - صحيح مسلم(1122 )
(6) - صحيح البخارى (2013)(1/314)
وثانياً: حديث زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىِّ أَنَّهُ قَالَ: لأَرْمُقَنَّ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اللَّيْلَةَ فَصَلَّى. رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثُمَّ أَوْتَرَ فَذَلِكَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً.رواه مسلم (1) .
ثالثاً: حديث عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثَمَانَ رَكَعَاتٍ وَأَوْتَرَ ، فَلَمَّا كَانَتِ الْقَابِلَةُ اجْتَمَعْنَا فِي الْمَسْجِدِ ، وَرَجَوْنَا أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْنَا ، فَلَمْ نَزَلْ فِيهِ حَتَّى أَصْبَحْنَا ، ثُمَّ دَخَلْنَا فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اجْتَمَعْنَا فِي الْمَسْجِدِ ، وَرَجَوْنَا أَنْ تُصَلِّيَ بِنَا ، فَقَالَ : " إِنِّي خَشِيتُ - أَوْ كَرِهْتُ - أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمُ الْوِتْرُ " . رواه ابن نصر والطبراني وحسنه الألباني (2) .
رابعاً: حديث عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِىَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً قَالَ وَقَدْ كَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعِصِىِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ وَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلاَّ فِى فُرُوعِ الْفَجْرِ. رواه مالك في الموطأ (3) وصححه الألباني ، واحتج بقياس صلاة التراويح على السنن الرواتب وغيرها كصلاة الاستسقاء.
خامساً: أن حديث عائشة مخصص أو مقيد لحديث ابن عمر وربيعة بن كعب "
والجواب على هذه الأدلة:
أولاً: قول الألباني بوجوب الإحدى عشرة ركعة وتبديع المخالف لم يسبقه إليه أحد وليس له فيه سلف كما تبين من مذاهب العلماء التي سبق ذكرها.
__________
(1) - صحيح مسلم(1840 )
(2) - صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ(2450) والمعجم الصغير للطبراني (525) وأبو يعلى (1802) و صَحِيحُ ابْنِ خُزَيْمَةَ (1005) كلهم من طريق عيسى بن جارية عن جابر وهو ضعيف منكر
(3) - موطأ مالك(250 )(1/315)
ثانياً: حديث عائشة حكاية فعل وغايتها استحباب هذا العدد وهو لا ينافي مشروعية غيره، وأيضاً ثبت عند البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ كَانَ صَلاَةُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً . يَعْنِى بِاللَّيْلِ (1) . وهو زيادة على الإحدى عشرة ركعة.
ثالثاً: حديث زيد بن خالد ليس فيه حجة للألباني ،بل هو حجة عليه لأن فيه الزيادة على الإحدى عشرة ركعة، وهو ما دفع الألباني إلى تأويل الزيادة بأنها سنة العشاء البعدية، وكذلك قال في حديث ابن عباس وهو تكلُّفٌ شديد.
رابعا-حديث جابر لا يصح ، فقد تفرد به (عيسى بن جارية ) وهو لين الحديث ، وهذا الحديث غير محفوظ كما قال ابن عدي في الكامل تهذيب التهذيب [ج 8 -ص 185] (383) والكامل في الضعفاء [ج5 -ص 248 ](1392 )
وفي تقريب التهذيب (5288 ) عيسى بن جارية بالجيم الأنصاري المدني فيه لين من الرابعة ق ، وفي الكاشف( 4368 ) عيسى بن جارية الأنصاري عن جرير وجابر وعنه أبو صخر حميد بن زياد ويعقوب القمي مختلف فيه قال ابن معين عنده مناكير ق
وقد تناقض الألباني فضعف عيسى هذا ، ففي سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة - (ج 14 / ص 494) وفي ترجمة عيسى ساقه ابن عدي في " الكامل " ( 5/ 249 ) مع أحاديث أخرى له، وقال فيها:"وكلها غير محفوظة ". ولذلك قال فيه الذهبي في " الكاشف ": "مختلف فيه. قال ابن معين: عنده مناكير". وفي "المغني ": " مختلف فيه. قال النسائي: متروك. وقال أبو زرعة: لا بأس به !. وقال الحافظ:" ليَّن،.
وقال في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة - (ج 14 / ص 868): وأما ( عيسى بن جارية ) فهو علة الحديث ؛ لأنه لم يوثقه غير ابن حبان ( 5/214 )، مع تضعيف الآخرين، فقال ابن معين:" عنده مناكير ". وكذا قال أبو داود. وقال في موضع آخر: " منكر الحديث ". وضعفه آخرون،نعم ؛ قال أبو زرعة: "لابأس به "
وهذا عين التناقص ، فقد تفرد بالرواية عيسى وأنركت عليه ، فكيف تحسن ؟!!
__________
(1) - صحيح البخارى (1138 )(1/316)
خامسا- وأما حديث مالك والذي فيه أحد عشر ركعة ، فقد قال ابن عبد البر:" هكذا قال مالك في هذا الحديث (إحدى عشرة ركعة ) وغير مالك يخالفه فيقول في موضع إحدى عشرة ركعة (إحدى وعشرين ) ولا أعلم أحدا قال في هذا الحديث إحدى عشرة ركعة غير مالك والله أعلم.
إلا أنه يحتمل أن يكون القيام في أول ما عمل به عمر بإحدى عشرة ركعة ثم خفف عليهم طول القيام ونقلهم إلى إحدى وعشرين ركعة يخففون فيها القراءة ويزيدون في الركوع والسجود، إلا أن الأغلب عندي في إحدى عشرة ركعة الوهم والله أعلم" (1)
سادساً: قياسه صلاة التراويح على السُّنن الرواتب وصلاة الكسوف فهو قياس مع الفارق لأن هذه السنن وردت مقيدة بعدد معين وهو ما يمنع الزيادة عليها بخلاف صلاة التراويح فهي من قيام الليل الذي قال عنه الشارع "مثنى مثنى"، وما ورد من عدد صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يعارض ولا يمنع من الزيادة.
قال ابن تيمية : " كَمَا أَنَّ نَفْسَ قِيَامِ رَمَضَانَ لَمْ يُوَقِّتْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ عَدَدًا مُعَيَّنًا ؛ بَلْ كَانَ هُوَ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى ثَلَاثَ عَشْرَةِ رَكْعَةً (2) لَكِنْ كَانَ يُطِيلُ الرَّكَعَاتِ فَلَمَّا جَمَعَهُمْ عُمَرُ عَلَى أبي بْنِ كَعْبٍ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً ثُمَّ يُوتِرُ بِثَلَاثِ وَكَانَ يُخِفُّ الْقِرَاءَةَ بِقَدْرِ مَا زَادَ مِن الرَّكَعَاتِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَخَفُّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ مِنْ تَطْوِيلِ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ ثُمَّ كَانَ طَائِفَةٌ مِن السَّلَفِ يَقُومُونَ بِأَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثِ، وَآخَرُونَ قَامُوا بِسِتِّ وَثَلَاثِينَ وَأَوْتَرُوا بِثَلَاثِ ،وَهَذَا كُلُّهُ سَائِغٌ فَكَيْفَمَا قَامَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَقَدْ أَحْسَنَ . وَالْأَفْضَلُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُصَلِّينَ فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ احْتِمَالٌ لِطُولِ الْقِيَامِ فَالْقِيَامُ بِعَشْرِ رَكَعَاتٍ وَثَلَاثٍ بَعْدَهَا كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ هُوَ الْأَفْضَلُ ،وَإِنْ كَانُوا لَا يَحْتَمِلُونَهُ فَالْقِيَامُ بِعِشْرِينَ هُوَ الْأَفْضَلُ وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَ الْعَشْرِ وَبَيْنَ الْأَرْبَعِينَ ،وَإِنْ قَامَ بِأَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا جَازَ ذَلِكَ وَلَا يُكْرَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ . وَقَدْ نَصَّ عَلَى
__________
(1) - الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار - (ج 2 / ص 53)
(2) - قلت : هذا الجزم فيه نظر ، فحديث عائشة ليس دليلاً قاطعاً على هذا العدد، ولو صح عند الصحابة ذلك ما خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/317)
ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ فِيهِ عَدَدٌ مُوَقَّتٌ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ ،فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ السَّعَةُ فِي نَفْسِ عَدَدِ الْقِيَامِ فَكَيْفَ الظَّنُّ بِزِيَادَةِ الْقِيَامِ لِأَجْلِ دُعَاءِ الْقُنُوتِ أَوْ تَرْكِهِ كُلُّ ذَلِكَ سَائِغٌ حَسَنٌ . وَقَدْ يَنْشَطُ الرَّجُلُ فَيَكُونُ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ تَطْوِيلَ الْعِبَادَةِ وَقَدْ لَا يَنْشَطُ فَيَكُونُ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ تَخْفِيفَهَا . وَكَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُعْتَدِلَةً . إذَا أَطَالَ الْقِيَامَ أَطَالَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَإِذَا خَفَّفَ الْقِيَامَ خَفَّفَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ فِي الْمَكْتُوبَاتِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ." انتهى (1)
سابعاً : تضعيف الألباني لرواية ابن خصيفة بالشذوذ لمخالفتها لرواية الإحدى عشرة ركعة غير جيد ، لأنه لم يسبق لهذا التضعيف، فالحديث صحيح بلا ريب،كما أنها لا تعارضها والجمع بينهما ممكن باختلاف الأحوال، قال الحافظ ابن حجر في الفتح : "وَالْجَمْعُ بَيْن هَذِهِ الرِّوَايَات مُمْكِنٌ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَال ، وَيَحْتَمِل أَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ بِحَسَبِ تَطْوِيلِ الْقِرَاءَة وَتَخْفِيفِهَا فَحَيْثُ يُطِيلُ الْقِرَاءَة تَقِلُّ الرَّكَعَات وَبِالْعَكْسِ وَبِذَلِكَ جَزَمَ الدَّاوُدِيُّ وَغَيْره ، وَالْعَدَد الْأَوَّل مُوَافِق لِحَدِيثِ عَائِشَة الْمَذْكُور بَعْد هَذَا الْحَدِيث فِي الْبَاب ، وَالثَّانِي قَرِيب مِنْهُ ، وَالِاخْتِلَاف فِيمَا زَادَ عَنْ الْعِشْرِينَ رَاجِعٌ إِلَى الِاخْتِلَاف فِي الْوِتْر وَكَأَنَّهُ كَانَ تَارَة يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ وَتَارَة بِثَلَاثٍ. انتهى. (2)
سابعاً: جعل حديث عائشة مخصصاً لحديث ابن عمر وحديث ربيعة بن كعب غير صحيح، لأن العمل بالعام والخاص يكون عند التعارض بين الأدلة وليس هناك تعارض بين أحاديث الباب، فالجمعُ يسير بمثل ما جمع به الحافظ، وحديث عائشة فردٌ من أفراد حديث ابن عمر، وموافق العام لا يخصص كما هو مقرر في الأصول.
وكذلك لا علاقة له بالتراويح على الصحيح ، بل بقيام الليل مطلقاً .
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 22 / ص 272)
(2) - فتح الباري لابن حجر - (ج 6 / ص 292)(1/318)
قالوا :"وأرجح الأقوال في عدد ركعاتها هو إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة لحديث عائشة وحديث ابن عباس السابقين وهو ما اختاره مالك لنفسه كما سبق، وأما الزيادة عليها فجائزة للأدلة التي احتج بها الجمهور.والله أعلم"." (1)
قلت : وهذا الذي رجحوه فيه نظر ، فلو كان حديث عائشة يعني التراويح لأعترضت على عمر ، فالراجح رواية العشرين ، وتجوز التراويح بما دون ذلك أو أكثر . (2)
قال ابن عثيمين رحمه الله في حكم الزيادة في صلاة التراويح على إحدى عشرة ركعة (3) :
" إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقوم بإحدى عشرة ركعة (4) ، لكن هل قال للناس: لا تزيدوا عليها؟ لم يقل، بل جعل الباب مفتوحاً، لما سأله الرجل عن صلاة الليل قال: « صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى ، فَإِذَا خَشِىَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً ، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى » (5) ولم يقيدها، ثم إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم بإحدى عشرة ركعة لكن هل هو كقيامنا؟ كان يقوم حتى تتورم قدماه، وحتى يعجز الشباب من الصحابة عن متابعته إلا بمشقة، ألم تعلم أن ابن مسعود قام معه ليلة فقرأ النبي عليه الصلاة والسلام وأطال القراءة حتى هم أن يجلس من طول القيا (6) م، فالأمر في هذا واسع؛ إن شئت إحدى عشرة لكن بتأنٍ وطمأنينة وقراءة، وإن شئت بثلاثٍ وعشرين، وإن شئت بتسعٍ وثلاثين، الأمر واسع، المهم ألا تشق على نفسك. ثم إن قولك: إن عمر جعلها ثلاثاً وعشرين يحتاج إلى دليل، من قال هذا؟ أغلب ما فيه أن عمر أمر أبي بن كعب و تميماً الداري أن يقوما للناس
__________
(1) - انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 3923) -رقم الفتوى 54790 هل الزيادة على إحدى عشرة ركعة في التراويح بدعة؟ وانظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 874) رقم الفتوى 2497 لا حرج في صلاة التراويح بأي كيفية أو عدد ورد عن السلف
(2) - انظر فتاوى الأزهر - (ج 1 / ص 48) صلاة التراويح وفتاوى السبكي - (ج 1 / ص 307) والحاوي للفتاوي للسيوطي - (ج 2 / ص 12)
(3) - لقاءات الباب المفتوح - (ج 179 / ص 32)-حكم الزيادة في صلاة التراويح على إحدى عشرة ركعة
(4) - قلت : الصواب أن هذا قيام ليل وليس التراويح
(5) - صحيح البخارى (990)
(6) - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةً ، فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ . قُلْنَا وَمَا هَمَمْتَ قَالَ هَمَمْتَ أَنْ أَقْعُدَ وَأَذَرَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - صحيح البخارى(1135)(1/319)
بإحدى عشرة ركعة، وهذا هو المظنون بعمر أن يأمر بما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعله. لكن في حديث يزيد بن رومان وفيه انقطاع: [أن الناس كانوا في عهد عمر يقومون بثلاثٍ وعشرين] فهذا فيه أن الناس يفعلونه، فجائز أن عمر يدري أو لا يدري، وقد يكون أمر به فلم يكن، لكن إذا ثبت أنه أقر بذلك فيقال: هذا يدل على أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه -وهو أعلم منا بالسنَّة وأخشى منا لله- يرى أنه لا بأس أن يزيد الإنسان على إحدى عشرة ركعة."
قلت : نفيه أن يكون عمر أمرهم بالثلاث والعشرين فيه نظر ، وقد ذكرنا الأحاديث الصحيحة التي تدلُ على ذلك .
وقال العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ في فتاويه : " الحمد لله. ذهب أَكثر أَهل العلم كالإِمام أَحمد والشافعي وأَبي حنيفة إِلى أَن صلاةِ التراويح عشرون ركعة؛ لأَن عمر رضي الله عنه لما جمع الناس على أُبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة، وكان هذا بمحضر من الصحابة، فيكون كالإِجماع، وعلى هذا عمل الناس اليوم الآن. فلا ينبغي الانكار عليهم بل يتركون على ما هم عليه؛ لأَنه قد ينشأ من الإِنكار عليهم وقوع الاختلاف والنزاع وتشكيك العوام في سلَفهم، ولا سيما في هذه المسأَلة التي هي من التطوع، والأَمر فيها واسع، وزيادة التطوع أَمر مرغوب فيه ولا سيما في رمضان رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الأَسْلَمِىِّ قَالَ كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِى « سَلْ ». فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِى الْجَنَّةِ. قَالَ « أَوَغَيْرَ ذَلِكَ ». قُلْتُ هُوَ ذَاكَ. قَالَ « فَأَعِنِّى عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ». (1) .
وإِذا كان من عادة أَهل بلد فعل صلاة التراويح على وجه آخر مما له أَصل شرعي فلا وجه للإِنكار عليهم أَيضًا. والمقصودُ من ذلك كله هو البعد عن أَسباب الشقاق والنزاع في أَمر فيه سعة.
وقد لاحظ الرسول صلى الله عليه وسلم هذا وترك أَمرًا عظيمًا مخافة ما يقع في قلوب الناس، كما جاء في حديث عائشة. وترجم البخاري في هذا المعنى فقال (باب مَنْ تَرَكَ
__________
(1) - صحيح مسلم (1122 )(1/320)
بَعْضَ الاِخْتِيَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ عَنْهُ فَيَقَعُوا فِى أَشَدَّ مِنْهُ .) وساق حديث عائشة « أَلَمْ تَرَىْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ » . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ . قَالَ « لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ » (1)
وَقَالَ عَلِىٌّ "حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ " (2)
و عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ ، قَالَ : صَلَّى عُثْمَانُ بِمِنًى أَرْبَعًا ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : " صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ ، وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ " ، زَادَ ، عَنْ حَفْصٍ ، وَمَعَ عُثْمَانَ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ ، ثُمَّ أَتَمَّهَا زَادَ مِنْ هَا هُنَا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ ، ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمُ الطُّرُقُ فَلَوَدِدْتُ أَنْ لِي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَيْنِ مُتَقَبَّلَتَيْنِ . قَالَ : الْأَعْمَشُ ، فَحَدَّثَنِي مُعَاوِيَةَ بْنُ قُرَّةَ ، عَنْ أَشْيَاخِهِ ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ صَلَّى أَرْبَعًا ، قَالَ : فَقِيلَ لَهُ : عِبْتَ عَلَى عُثْمَانَ ثُمَّ صَلَّيْتُ أَرْبَعًا ، قَالَ : " الْخِلَافُ شَرٌّ " (3) . شر. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أَجمعين. " (4)
قلت : وهذا جواب في غاية الروعة والدقة.
وفي فتاوى يسألونك : " من المعلوم أن صلاة التراويح سنة ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان هديه - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي إحدى عشرة ركعة كما ثبت ذلك عنه في حديث عائشة رضي الله عنها قالت:(ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) رواه البخاري ومسلم. وأكثر الفقهاء يرون أنها تصلى عشرون ركعة والوتر ثلاث ركعات وهذا قول مشهور من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا الحاضر وكثير من مساجد المسلمين تصلى فيها التراويح كذلك ومنهم من زاد على العشرين فقيل تسع وثلاثين وقيل إحدى وأربعين وقيل غير ذلك. ومن أهل العلم من يرى أنه لا حد لعدد ركعات صلاة التراويح
__________
(1) - صحيح البخارى(1583 )
(2) - صحيح البخارى(127 )
(3) - سنن أبى داود(1962) صحيح
(4) - فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 2 / ص 196)(1/321)
فيجوز أن يزيد على إحدى عشرة ركعة ولا حرج في ذلك وهذا أرجح أقوال أهل العلم فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحدد عدداً محدوداً لصلاة التراويح تمنع الزيادة عليه."
ونقل كلام ابن تيمية الآنف الذكر ، (1) وقال الإمام الشوكاني رحمه الله:[وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ الْبَابِ وَمَا يُشَابِهُهَا هُوَ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِيَامِ فِي رَمَضَانَ ، وَالصَّلَاةُ فِيهِ جَمَاعَةً وَفُرَادَى ، فَقَصْرُ الصَّلَاةِ الْمُسَمَّاةِ بِالتَّرَاوِيحِ عَلَى عَدَدٍ مُعَيَّنٍ ، وَتَخْصِيصُهَا بِقِرَاءَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَمْ يَرِدْ بِهِ سُنَّةٌ .] (2)
قال : " إذا تقرر هذا فإنه لا يجوز لأحد أن ينكر على من يصلي التراويح بأكثر من إحدى عشرة ركعة كمن يصلون ثلاثاً وعشرين ركعة فإن الأمر فيه سعة.
قال الإمام الشافعي يرحمه الله:[ رَأَيْت النَّاس يَقُومُونَ بِالْمَدِينَةِ بِتِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَبِمَكَّة بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ ، وَلَيْسَ فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ ضِيقٌ "] (3) .
وقال الحافظ ابن عبد البر يرحمه الله:[وقد أجمع العلماء على أن لا حدّ ولا شيء مقدراً في صلاة الليل وأنها نافلة فمن شاء أطال فيها القيام وقلَّت ركعاته ومن شاء أكثر الركوع والسجود] (4) .
وقال العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه الله:[وإن أوتر بثلاث وعشرين كما فعل ذلك عمر والصحابة رضي الله عنهم في بعض الليالي من رمضان فلا بأس، فالأمر واسع، وثبت عن عمر والصحابة أيضاً أنهم أوتروا بإحدى عشرة، كما في حديث عائشة، فقد ثبت عن عمر هذا وهذا، ثبت عنه - رضي الله عنه - أنه أمر من عين من الصحابة أن يصلي إحدى عشرة، وثبت عنهم أنهم صلوا بأمره ثلاثاً وعشرين، وهذا يدل على التوسعة في هذا، وأن الأمر عند الصحابة واسع، كما دل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -:(صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى) ولكن الأفضل من حيث فعله - صلى الله عليه وسلم - إحدى عشرة أو ثلاث عشرة، وسبق ما يدل على أن إحدى عشرة أفضل لقول عائشة رضي الله
__________
(1) - مجموع فتاوى شيخ الإسلام 22/272.
(2) - نيل الأوطار 3/61و نيل الأوطار - (ج 4 / ص 333) الشاملة 2
(3) - فتح الباري لابن حجر - (ج 6 / ص 292)
(4) - الاستذكار 5/244.(1/322)
عنها:(ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) يعني غالباً، ولهذا ثبت عنها أنه صلى ثلاث عشرة وثبت عن غيرها، فدل ذلك أن هذا هو الأغلب،...
ثم استفسر من الشيخ سائل قائلاً: أحسن الله إليك، بعض المصلين يرون أن هذه هي السنَّة، وعندما يأتون إلى مساجد تصلي ما يزيد على ثلاث وعشرين ركعة يصلون إحدى عشرة ركعة أو عشر ركعات ولا يتمون مع الإمام؟
يوضح الشيخ رحمه الله قائلاً: لا، السنة الإتمام مع الإمام ولو صلى ثلاثاً وعشرين، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: « إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ ». (1) ... فالأفضل للمأموم أن يقوم مع الإمام حتى ينصرف، سواء صلى إحدى عشرة أو ثلاث عشرة أو ثلاثاً وعشرين، هذا هو الأفضل؛ أن يتابع الإمام حتى ينصرف والثلاث والعشرون فعلها عمر- رضي الله عنه - مع الصحابة، فليس فيها نقص وليس فيها خلل، بل هي من السنن، من سنة الخلفاء الراشدين...] (2)
وقال العلامة عبد العزيز بن باز أيضاً:[ومن الأمور التي قد يخفى حكمها على بعض الناس ظن بعضهم أن التراويح لا يجوز نقصها عن عشرين ركعة وظن بعضهم أنه لا يجوز أن يزاد فيها على إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة وهذا كله ظن في غير محله بل هو خطأ مخالف للأدلة.وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صلاة الليل موسع فيها فليس فيها حد محدود لا تجوز مخالفته بل ثبت عنه أنه كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة وربما صلى ثلاث عشرة ركعة وربما صلى أقل من ذلك في رمضان وفي غيره ولما سئل - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل قال:(مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى) متفق على صحته. ولم يحدد ركعات معينة لا في رمضان ولا في غيره ولهذا صلى الصحابة رضي الله عنهم في عهد عمر - رضي الله عنه -في بعض الأحيان ثلاثاً وعشرين ركعة وفي بعضها إحدى عشرة ركعة كل ذلك ثبت عن عمر - رضي الله عنه - وعن الصحابة في عهده. وكان بعض السلف يصلي في رمضان
__________
(1) - سنن الترمذى(811 ) صحيح
(2) - فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 11 / ص 175)(1/323)
ستاً وثلاثين ركعة ويوتر بثلاث وبعضهم يصلى إحدى وأربعين ذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أهل العلم كما ذكر رحمة الله عليه أن الأمر في ذلك واسع] (1)
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين يرحمه الله:[. لا ينبغي لنا أن نغلو أو نفرط فبعض الناس يغلو من حيث التزام السنة في العدد فيقول لا تجوز الزيادة على العدد الذي جاءت به السنَّة وينكر أشد النكير على من زاد على ذلك ويقول إنه آثمٌ عاصٍ وهذا لا شك أنه خطأ وكيف يكون آثماً عاصياً وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل؟ فقال:(مثنى مثنى) ولم يحدد بعدد ومن المعلوم أن الذي سأله عن صلاة الليل لا يعلم العدد لأن من لا يعلم الكيفية فجهله بالعدد من باب أولى وليس ممن خدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى نقول إنه يعلم ما يحدث داخل بيته فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بين له كيفية الصلاة دون أن يحدد له بعدد علم أن الأمر في هذا واسع وأن للإنسان أن يصلي مئة ركعة ويوتر بواحدة.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -:(صلوا كما رأيتموني أصلي) (2) فهذا ليس على عمومه... وإنما المراد (صلوا كما رأيتموني أصلي) في الكيفية أما في العدد فلا إلا ما ثبت النص بتحديده.وعلى كلٍ ينبغي للإنسان أن لا يشدد على الناس في أمر واسع حتى إنا رأينا من الإخوة الذين يشددون في هذا من يبدعون الأئمة الذين يزيدون على إحدى عشرة ويخرجون من المسجد فيفوتهم الأجر الذي قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - :(من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) وقد يجلسون إذا صلوا عشر ركعات فتتقطع الصفوف بجلوسهم وربما يتحدثون أحياناً فيشوشون على المصلين وكل هذا من الخطأ ونحن لا نشك بأنهم يريدون الخير وأنهم مجتهدون لكن ليس كل مجتهد يكون مصيباً] (3)
================
__________
(1) - فتاوى إسلامية - (ج 2 / ص 211) ومجموع فتاوى ابن باز - (ج 14 / ص 50)
(2) - صحيح البخارى(7246 )
(3) - الشرح الممتع 4/73-74.(1/324)
الرابع
صلاة الوتر في رمضان جماعة (1)
ومن الأمور التي يحصل فيها نزاع بين الشافعية الحنفية خاصة صلاة الوتر في رمضان جماعة ، فالحنفية يصلونها موصولة والشافعية مفصولة .
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوِتْرَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ، وَلَيْسَ وَاجِبًا ، وَدَلِيل سُنِّيَّتِهِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ ، فَأَوْتِرُوا يَا أَهْل الْقُرْآنِ (2) وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ وَوَاظَبَ عَلَيْهِ .
وَاسْتَدَلُّوا لِعَدَمِ وُجُوبِهِ بِمَا ثَبَتَ عَنْ أَبِى سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ، ثَائِرُ الرَّأْسِ ، يُسْمَعُ دَوِىُّ صَوْتِهِ ، وَلاَ يُفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا ، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلاَمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - - صلى الله عليه وسلم - « خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ » . فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا قَالَ « لاَ ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ » . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَصِيَامُ رَمَضَانَ » . قَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُ قَالَ « لاَ ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ » . قَالَ وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الزَّكَاةَ . قَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا قَالَ « لاَ ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ » . قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ » (3) .
وعَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُدْعَى الْمُخْدَجِيَّ سَمِعَ رَجُلًا بِالشَّامِ يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ ، يَقُولُ : إِنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ ، فَقَالَ : الْمُخْدَجِيُّ فَرُحْتُ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَاعْتَرَضْتُ لَهُ وَهُوَ رَائِحٌ إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ ، فَقَالَ : عُبَادَةُ كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " خَمْسُ صَلَوَاتٍ
__________
(1) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 27 / ص 289) فما بعدها
(2) - سنن الترمذى (455) صحيح لغيره
(3) - صحيح البخارى(46)(1/325)
كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْعِبَادِ ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ ، لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا ، اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ . وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ ، فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ . إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ " (1) .
وَقَال عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْوِتْرُ لَيْسَ بِحَتْمٍ كَهَيْئَةِ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ ، وَلَكِنْ سُنَّةٌ ، سَنَّهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2)
قَالُوا : وَلأَِنَّ الْوِتْرَ يَجُوزُ فِعْلُهُ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِغَيْرِ الضَّرُورَةِ ، وَثَبَتَ ذَلِكَ بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَال ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُسَبِّحُ عَلَى الرَّاحِلَةِ قِبَلَ أَىِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ وَيُوتِرُ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُصَلِّى عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ. (3)
فَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمَا صَلاَّهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ ، كَالْفَرَائِضِ (4) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ - خِلاَفًا لِصَاحِبَيْهِ - وَأَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ : إِلَى أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْهُ فَرْضًا ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ ، وَلاَ يُؤَذَّنُ لَهُ كَأَذَانِ الْفَرَائِضِ ، وَاسْتَدَل بِوُجُوبِهِ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا ». (5)
وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَدَّكُمْ بِصَلاَةٍ هِىَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمُرِ النَّعَمِ جَعَلَهَا اللَّهُ لَكُمْ فِيمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ » (6) . وَهُوَ أَمْرٌ ، وَالأَْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ، وَالأَْحَادِيثُ الآْمِرَةُ بِهِ كَثِيرَةٌ ؛ وَلأَِنَّهُ صَلاَةٌ مُؤَقَّتَةٌ تُقْضَى .
__________
(1) - موطأ مالك (268 ) صحيح
(2) - سنن الترمذى(456 ) حسن
(3) - صحيح مسلم(1652 )
(4) - المغني لابن قدامة 2 / 210 ، والمجموع للنووي ( ط . المنيرية 4 / 12 - 21 ) والدسوقي 1 / 312 .
(5) - سنن أبى داود(1421 ) صحيح
(6) - مسند أحمد (28419) حسن لغيره(1/326)
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ سُنَّةٌ ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ : أَنَّهُ فَرْضٌ ، لَكِنْ قَال ابْنُ الْهُمَامِ : مُرَادُهُ بِكَوْنِهِ سُنَّةً : أَنَّهُ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ ، فَلاَ يُنَافِي الْوُجُوبَ ، وَمُرَادُهُ بِأَنَّهُ فَرْضٌ : أَنَّهُ فَرْضٌ عَمَلِيٌّ ، وَهُوَ الْوَاجِبُ (1) .
وصَلاَةُ الْوِتْرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ السَّابِقِ ، وَالأَْحَادِيثُ الَّتِي تَحُضُّ عَلَيْهَا ، وَحَدِيثُ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ أَسَاءَ ، وَكُرِهَ لَهُ ذَلِكَ . قَال أَحْمَدُ : مَنْ تَرَكَ الْوِتْرَ عَمْدًا فَهُوَ رَجُل سُوءٍ ، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَل لَهُ شَهَادَةٌ . اهـ .
وَالْوِتْرُ مِنَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ ، وَهُوَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ : آكَدُ الرَّوَاتِبِ وَأَفْضَلُهَا (2) .
وَآكَدُ النَّوَافِل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : صَلاَةُ الْكُسُوفِ ؛ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتْرُكْهَا عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهَا ، ثُمَّ الاِسْتِسْقَاءُ ؛ لأَِنَّهُ تُشْرَعُ لَهَا الْجَمَاعَةُ مُطْلَقًا ؛ فَأَشْبَهَتِ الْفَرَائِضَ ، ثُمَّ التَّرَاوِيحُ ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهَا خَشْيَةَ أَنْ تُفْرَضَ ، لَكِنَّهَا أَشْبَهَتِ الْفَرَائِضَ مِنْ حَيْثُ مَشْرُوعِيَّةُ الْجَمَاعَةِ لَهَا ، ثُمَّ الْوِتْرُ ؛ لأَِنَّهُ وَرَدَ فِيهِ مِنَ الأَْخْبَارِ مَا لَمْ يَأْتِ مِثْلُهُ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ، ثُمَّ سُنَّةُ الْفَجْرِ ، ثُمَّ سُنَّةُ الْمَغْرِبِ ، ثُمَّ بَاقِي الرَّوَاتِبِ سَوَاءٌ (3) .
وأَقَل صَلاَةِ الْوِتْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ . قَالُوا : وَيَجُوزُ ذَلِكَ بِلاَ كَرَاهَةٍ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ يَخْطُبُ فَقَالَ كَيْفَ صَلاَةُ اللَّيْلِ فَقَالَ « مَثْنَى مَثْنَى ، فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ ، تُوتِرُ لَكَ مَا قَدْ صَلَّيْتَ » (4) . وَالاِقْتِصَارُ عَلَيْهَا خِلاَفُ الأَْوْلَى ، لَكِنْ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : شَرْطُ الإِْيتَارِ بِرَكْعَةٍ سَبْقُ نَفْلٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ مِنْ سُنَّتِهَا ، أَوْ غَيْرِهَا لِيُوتِرَ النَّفَل .
__________
(1) - الهداية وفتح القدير 1 / 300 - 303 ط . بولاق .
(2) - كفاية الطالب 1 / 256 ، 257 ، والمغني 2 / 160 ، 11 ، وكشاف القناع 1 / 415 ، 422 .
(3) - عميرة على شرح المنهاج 1 / 212 ، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 317 ، وكفاية الطالب 1 / 256 ، لبنان ، دار المعرفة ، كشاف القناع 1 / 414 ، 415 ، والمغني 2 / 161 .
(4) - صحيح البخارى(473 )(1/327)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - خِلاَفُ الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ - : يُكْرَهُ الإِْيتَارُ بِرَكْعَةٍ حَتَّى فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ ، تُسَمَّى الْبُتَيْرَاءُ ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الإِْنْصَافِ .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : لاَ يَجُوزُ الإِْيتَارُ بِرَكْعَةٍ ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْبُتَيْرَاءِ (1) ، وعَنِ الْوَضِينِ بْنِ عَطَاءٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ , عَنْ أَبِيهِ " أَنَّهُ كَانَ يَفْصِلُ بَيْنَ شَفْعِهِ وَوِتْرِهِ بِتَسْلِيمَةٍ , وَأَخْبَرَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ " (2) ، فَقَدْ سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ هَذَا مِنْ الرَّجُلِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : أَكْثَرُ الْوِتْرِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَكْثَرُهُ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ، وَيَجُوزُ بِمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الأَْوْتَارِ ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلاَثٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ » (4) .
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « لاَ تُوتِرُوا بِثَلاَثٍ أَوْتِرُوا بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ وَلاَ تُشَبِّهُوا بِصَلاَةِ الْمَغْرِبِ » (5) .
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، قَالَتْ : " " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ ، فَلَمَّا كَبِرَ وَضَعُفَ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ " " وَفِي البَابِ عَنْ عَائِشَةَ : " " حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ " وَقَدْ
__________
(1) - وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي "كِتَابِهِ": هَذَا حَدِيثٌ شَاذٌّ، لا يعرج على روايته نصب الراية - (ج 2 / ص 120)
(2) - شَرْحُ مَعَانِي الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ (1037 ) حسن، وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 3 / ص 420) وَإِسْنَاده قَوِيّ . وَلَمْ يَعْتَذِر الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ إِلَّا بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِقَوْلِهِ بِتَسْلِيمَةٍ أَيْ التَّسْلِيمَة الَّتِي فِي التَّشَهُّد وَلَا يَخْفَى بَعْد هَذَا التَّأْوِيل وَاَللَّه أَعْلَم .
(3) - نصب الراية - (ج 2 / ص 120) و الهداية وفتح القدير والعناية 1 / 304 .
(4) - سنن أبى داود (1424 ) صحيح، وفي مَعْرِفَةُ السُّنَنِ وَالْآثَارِ لِلْبَيْهَقِيِّ(1468 ) قال عقبه : رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ السُّنَنِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَهَذَا حَدِيثٌ قَدْ رَفَعَهُ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ ، وَتَابَعَهُ عَلَى رَفْعِهِ الْأَوْزَاعِيُّ وَهُوَ إِمَامٌ . وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ وَهْبُ بْنُ خَالِدٍ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ ، فَوَقَفُوهُ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ . فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَرْوِيهِ مِنْ فُتْيَاهُ مَرَّةً ، وَمِنْ رِوَايَتِهِ أُخْرَى ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَنُجِيزُ الْوِتْرَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ ، وَعَلَى كُلِّ وَجْهٍ صَحَّ الْخَبَرُ بِهِ عَنْ سَيِّدِنَا الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَا نَدَعُ مِنْهَا شَيْئًا بِحَالٍ بِحَمْدِ اللَّهِ وَمَنِّهِ وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ
(5) - سنن الدارقطنى (1669 ) صحيح(1/328)
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " " الوَتْرُ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ ، وَتِسْعٍ ، وَسَبْعٍ ، وَخَمْسٍ ، وَثَلَاثٍ ، وَوَاحِدَةٍ " " قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ : " " مَعْنَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ ، قَالَ : إِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً مَعَ الوِتْرِ ، فَنُسِبَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ إِلَى الوِتْرِ " " ، وَرَوَى فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ عَائِشَةَ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " " أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ القُرْآنِ " " ، قَالَ : إِنَّمَا عَنَى بِهِ قِيَامَ اللَّيْلِ ، يَقُولُ : إِنَّمَا قِيَامُ اللَّيْلِ عَلَى أَصْحَابِ القُرْآنِ (1)
لَكِنْ قَال الْمَحَلِّيُّ : يُحْمَل هَذَا عَلَى أَنَّهَا حَسِبَتْ فِيهِ سُنَّةَ الْعِشَاءِ .
وَأَدْنَى الْكَمَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ثَلاَثُ رَكَعَاتٍ ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى رَكْعَةٍ كَانَ خِلاَفَ الأَْوْلَى . وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ : عَلَى أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ الإِْيتَارُ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَوْ بِلاَ عُذْرٍ . وَأَكْمَل مِنَ الثَّلاَثِ خَمْسٌ ، ثُمَّ سَبْعٌ ، ثُمَّ تِسْعٌ ثُمَّ إِحْدَى عَشْرَةَ ، وَهِيَ أَكْمَلُهُ (2) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ : فَلَمْ يَذْكُرُوا فِي عَدَدِهِ إِلاَّ ثَلاَثَ رَكَعَاتٍ ، بِتَشَهُّدَيْنِ وَسَلاَمٍ ، كَمَا يُصَلَّى الْمَغْرِبُ . وَاحْتَجُّوا بِقَوْل عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بِثَلاثٍ لاَ يُسَلِّمُ إِلاَّ فِي آخِرِهِنَّ (3) ، وَفِي الْهِدَايَةِ : حَكَى الْحَسَنُ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الثَّلاَثِ . (4)
وقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ السَّبْعَةِ ، سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ , وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ , وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ , وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ , وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ , فِي مَشْيَخَةٍ سِوَاهُمْ أَهْلِ فِقْهٍ وَصَلَاحٍ وَفَضْلٍ وَرُبَّمَا
__________
(1) - سنن الترمذى (460) حسن
(2) - شرح المحلى على المنهاج ، وحاشية القليوبي 1 / 212 2132 ، وكشاف القناع 1 / 416 ، والإنصاف 1 / 168 ، والمغني 2 / 150 ، 165 .
(3) - المستدرك للحاكم (1140) صحيح
(4) - وَفِي مُصَنَّفِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الْحَسَنِ وَهُوَ الْبَصْرِيُّ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ ثَلَاثٌ لَا يُسَلِّمُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنْ الْحَسَنِ وَرَاوِيهِ عَنْهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ الْمُبْتَدَعُ الضَّالُّ وَلَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ ؛ سَمِعْت وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ . طرح التثريب - (ج 3 / ص 365) ونصب الراية - (ج 2 / ص 122) والدراية في تخريج أحاديث الهداية - (ج 1 / ص 193)(1/329)
اخْتَلَفُوا فِي الشَّيْءِ فَأَخَذَ بِقَوْلِ أَكْثَرِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ رَأْيًا . فَكَانَ مِمَّا وَعَيْتُ عَنْهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ : " أَنَّ الْوِتْرَ ثَلَاثٌ لَا يُسَلِّمُ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ " (1)
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : فَإِنَّ الْوِتْرَ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ ، لَكِنْ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ شَفْعٍ يَسْبِقُهَا . وَاخْتُلِفَ : هَل تَقْدِيمُ الشَّفْعِ شَرْطُ صِحَّةٍ أَوْ كَمَالٍ ؟ قَالُوا : وَقَدْ تُسَمَّى الرَّكَعَاتُ الثَّلاَثُ وِتْرًا إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ ، وَالْوِتْرُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ . وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَاحِدَةً فَقَطْ ، بَل بَعْدَ نَافِلَةٍ ، وَأَقَل تِلْكَ النَّافِلَةِ رَكْعَتَانِ ، وَلاَ حَدَّ لأَِكْثَرِهَا . قَالُوا : وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ حَدِيثُ : صَلاَةُ اللَّيْل مَثْنَى مَثْنَى ، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ كَرَاهَةِ الإِْيتَارِ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ مَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ ، كَالْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ ، فَقَدْ قِيل : لاَ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ ، وَقِيل : يُكْرَهُ لَهُ أَيْضًا . فَإِنْ أَوْتَرَ دُونَ عُذْرٍ بِوَاحِدَةٍ دُونَ شَفْعٍ قَبْلَهَا ، قَال أَشْهَبُ : يُعِيدُ وِتْرَهُ بِأَثَرِ شَفْعٍ مَا لَمْ يُصَل الصُّبْحَ . وَقَال سَحْنُونٌ : إِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ ذَلِكَ أَيْ بِالْقُرْبِ ، شَفَعَهَا بِرَكْعَةٍ ثُمَّ أَوْتَرَ ، وَإِنْ تَبَاعَدَ أَجْزَأَهُ (2) .
وَقَالُوا : لاَ يُشْتَرَطُ فِي الشَّفْعِ الَّذِي قَبْل رَكْعَةِ الْوِتْرِ نِيَّةٌ تَخُصُّهُ ، بَل يَكْتَفِي بِأَيِّ رَكْعَتَيْنِ كَانَتَا (3) .
وَإِنْ أَوْتَرَ بِثَلاَثٍ ، فَلَهُ ثَلاَثُ صُوَرٍ :
الصُّورَةُ الأُْولَى : أَنْ يَفْصِل الشَّفْعَ بِالسَّلاَمِ ، ثُمَّ يُصَلِّيَ الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ بِتَكْبِيرَةِ إِحْرَامٍ مُسْتَقِلَّةٍ . وَهَذِهِ الصُّورَةُ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ ، وَهِيَ الْمُعَيَّنَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ، فَيُكْرَهُ مَا عَدَاهَا ، إِلاَّ عِنْدَ الاِقْتِدَاءِ بِمَنْ يُصَل ،وَأَجَازَهَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ، وَقَالُوا : إِنَّ الْفَصْل أَفْضَل مِنَ الْوَصْل ، لِزِيَادَتِهِ عَلَيْهِ السَّلاَم وَغَيْرُهُ . وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : إِنْ كَانَ إِمَامًا فَالْوَصْل أَفْضَل ، لأَِنَّهُ يَقْتَدِي بِهِ الْمُخَالِفُ ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَالْفَصْل أَفْضَل . قَالُوا : وَدَلِيل هَذِهِ الصُّورَةِ مَا
__________
(1) - شَرْحُ مَعَانِي الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ(1111 ) صحيح و الهداية وفتح القدير والعناية 1 / 303 ، 304 .
(2) - المنتقى للباجي ( 1 / 223 القاهرة ، مطبعة السعادة ، 1331 هـ وكفاية الطالب الرباني مع حاشية العدوي 1 / 257 ، 258 ، بيروت دار المعرفة عن طبعة القاهرة ، والقوانين الفقهية ( ص 61 ) .
(3) - كفاية الطالب وحاشية العدوي 1 / 257 .(1/330)
وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَال : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْصِلُ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ بِتَسْلِيمٍ يُسْمِعُنَاهُ. (1)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْصِلُ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوِتْر (2) .
وعَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُسَلِّمُ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَالرَّكْعَةِ فِى الْوِتْرِ حَتَّى يَأْمُرَ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ.. (3)
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ فِعْل الرَّكْعَةِ بَعْدَ الشَّفْعِ بَعْدَ تَأْخِيرٍ لَهَا عَنْهُ . نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ لِيَفْصِل . وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَنْوِي فِي الرَّكْعَتَيْنِ إِنْ أَرَادَ الْفَصْل : ( رَكْعَتَيْنِ مِنَ الْوِتْرِ )
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُصَلِّيَ الثَّلاَثَ مُتَّصِلَةً سَرْدًا ، أَيْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْصِل بَيْنَهُنَّ بِسَلاَمٍ وَلاَ جُلُوسٍ ، وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَوْلَى مِنَ الصُّورَةِ التَّالِيَةِ (4) . وَاسْتَدَلُّوا لِهَذِهِ الصُّورَةِ بما روي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُوتِرُ بِخَمْسٍ وَلاَ يَجْلِسُ إِلاَّ فِى آخِرِهِنَّ. (5) . وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُوتِرُ بِخَمْسِ سَجَدَاتٍ لاَ يَجْلِسُ بَيْنَهُنَّ حَتَّى يَجْلِسَ فِى الْخَامِسَةِ ثُمَّ يُسَلِّمَ. (6)
وَهَذِهِ الصُّورَةُ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ، لَكِنْ إِنْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ فَعَل ذَلِكَ فَيُوَاصِل مَعَهُ (7) .
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ : الْوَصْل بَيْنَ الرَّكَعَاتِ الثَّلاَثِ ، بِأَنْ يَجْلِسَ بَعْدَ الثَّانِيَةِ فَيَتَشَهَّدَ وَلاَ يُسَلِّمَ ، بَل يَقُومَ لِلثَّالِثَةِ وَيُسَلِّمَ بَعْدَهَا ، فَتَكُونُ فِي الْهَيْئَةِ كَصَلاَةِ الْمَغْرِبِ ، إِلاَّ أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي الثَّالِثَةِ سُورَةً بَعْدَ الْفَاتِحَةِ خِلاَفًا لِلْمَغْرِبِ .
وَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ الْمُتَعَيِّنَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . قَالُوا : فَلَوْ نَسِيَ فَقَامَ لِلثَّالِثَةِ دُونَ تَشَهُّدٍ فَإِنَّهُ لاَ يَعُودُ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ عَامِدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ . وَالْقِيَاسُ أَنْ يَعُودَ ،
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (ج 6 / ص 190)(2434) حسن
(2) - صحيح ابن حبان - (ج 6 / ص 189)(2433) صحيح
(3) - موطأ مالك(274 ) صحيح
(4) - الدسوقي 1 / 316 ، المنهاج وشرح حاشية القليوبي 1 / 212 ، وكشاف القناع 1 / 416 ، 417 .
(5) - سنن النسائى(1728) صحيح
(6) - مسند أحمد (25089) صحيح
(7) - الدسوقي والشرح الكبير 1 / 316 ، وشرح المنهاج 1 / 212 ، 213 ، والإنصاف 2 / 170 .(1/331)
وَاحْتَجُّوا لِتَعَيُّنِهَا بِقَوْل أَبِي الْعَالِيَةِ : " عَلَّمَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَلَّمُونَا أَنَّ الْوِتْرَ مِثْلُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ , غَيْرَ أَنَّا نَقْرَأُ فِي الثَّالِثَةِ , فَهَذَا وِتْرُ اللَّيْلِ , وَهَذَا وِتْرُ النَّهَارِ " (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : هِيَ جَائِزَةٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ ؛ لأَِنَّ تَشْبِيهَ الْوِتْرِ بِالْمَغْرِبِ مَكْرُوهٌ .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : لاَ كَرَاهَةَ إِلاَّ أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا يَعْلَى مَنَعَ هَذِهِ الصُّورَةَ . وَخَيَّرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بَيْنَ الْفَصْل وَالْوَصْل (2) .
ج - أَنْ يُصَلِّيَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ : وَهُوَ جَائِزٌ - كَمَا تَقَدَّمَ - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ .
قَال الشَّافِعِيَّةُ : فَالْفَصْل بِسَلاَمٍ بَعْدَ كُل رَكْعَتَيْنِ أَفْضَل ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّى فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلاَةِ الْعِشَاءِ - وَهِىَ الَّتِى يَدْعُو النَّاسُ الْعَتَمَةَ - إِلَى الْفَجْرِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ فَإِذَا " (3)
وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا بِتَسْلِيمَةٍ ، وَسِتًّا بِتَسْلِيمَةٍ ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً ، وَلَهُ الْوَصْل بِتَشَهُّدٍ ، أَوْ تَشَهُّدَيْنِ فِي الثَّلاَثِ الأَْخِيرَةِ .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : إِنْ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ فَالأَْفْضَل أَنْ يَسْرُدَهُنَّ سَرْدًا فَلاَ يَجْلِسُ إِلاَّ فِي آخِرِهِنَّ ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ لاَ يَجْلِسُ فِى شَىْءٍ إِلاَّ فِى آخِرِهَا. (4) .
وَلِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، " يُوتِرُ بِسَبْعٍ وَخَمْسٍ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِتَسْلِيمٍ ، وَلَا بِكَلَامٍ ". (5)
__________
(1) - شَرْحُ مَعَانِي الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ(1098) صحيح ، وذكر أحاديث أخرى مثله عن بعض الصحابة والتابعين
(2) - فتح القدير 1 / 303 ، حاشية ابن عابدين 1 / 445 ، والهندية 1 / 113 ، وشرح المنهاج 1 / 212 ، والإنصاف 2 / 170 .
(3) - صحيح مسلم(1752 )
(4) - صحيح مسلم (1754 )
(5) - السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة (433) صحيح ونقل ابن أبي حاتم الرازي عن أبيه أنه قال : هذا حديث منكر . كذا في علل الحديث ( 1 / 160 ) .!!(1/332)
وَإِنْ أَوْتَرَ بِتِسْعٍ فَالأَْفْضَل أَنْ يَسْرُدَ ثَمَانِيًا ، ثُمَّ يَجْلِسَ لِلتَّشَهُّدِ وَلاَ يُسَلِّمَ ، ثُمَّ يُصَلِّيَ التَّاسِعَةَ وَيَتَشَهَّدَ وَيُسَلِّمَ ،وَيَجُوزُ فِي الْخَمْسِ وَالسَّبْعِ وَالتِّسْعِ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ .
وَإِنْ أَوْتَرَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ فَالأَْفْضَل أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْرُدَ عَشْرًا ، ثُمَّ يَتَشَهَّدَ ، ثُمَّ يَقُومَ فَيَأْتِي بِالرَّكْعَةِ وَيُسَلِّمَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْرُدَ الإِْحْدَى عَشْرَةَ فَلاَ يَجْلِسُ وَلاَ يَتَشَهَّدُ إِلاَّ فِي آخِرِهَا (1) .
قلت : الصواب من القول صحة كل هذه الحالات ، لثبوتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، ولا يجوز النزاع في ذلك فسواء صليت موصولة أو مفصولة فالكلُّ صحيح ، والصلاة وراء المخالف صحيحة .
=================
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 108 ، 109 ، والإنصاف 2 / 168 ، 169 ، وكشاف القناع 1 / 417 .(1/333)
الخامس
رمي الجمرات أيام التشريق قبل الزوال
وهذا أيضا سبب حرجاً كبيرا للحجاج لكثرة الزحام ، وكثرة الوفيات ، فكان التيسير فيه لازماً .
الرَّمْيُ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ : وَهُمَا الْيَوْمَانِ الثَّانِي وَالثَّالِثُ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ : يَجِبُ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ رَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلاَثِ عَلَى التَّرْتِيبِ : يَرْمِي أَوَّلاً الْجَمْرَةَ الصُّغْرَى الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ ، ثُمَّ الْوُسْطَى ، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ، يَرْمِي كُل جَمْرَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ .
1 - يَبْدَأُ وَقْتُ الرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ الزَّوَال ، وَلاَ يَجُوزُ الرَّمْيُ فِيهِمَا قَبْل الزَّوَال عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، وَمِنْهُمُ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ الظَّاهِرَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (1) .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الأَْفْضَل أَنْ يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ - أَيْ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ - بَعْدَ الزَّوَال فَإِنْ رَمَى قَبْلَهُ جَازَ ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ (2) .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ يَتَعَجَّل فِي النَّفْرِ الأَْوَّل فَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ قَبْل الزَّوَال ، وَإِنْ رَمَى بَعْدَهُ فَهُوَ أَفْضَل ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ قَصْدِهِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَ إِلاَّ بَعْدَ الزَّوَال ، وَذَلِكَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ ؛ لأَِنَّهُ إِذَا نَفَرَ بَعْدَ الزَّوَال لاَ يَصِل إِلَى مَكَّةَ إِلاَّ بِاللَّيْل فَيَحْرَجُ فِي تَحْصِيل مَوْضِعِ النُّزُول (3) .
__________
(1) - بدائع الصنائع 2 / 137 - 138 والهداية وشرحها 2 / 183 ولم يذكرا غير هذه الرواية في اليوم الأول من أيام التشريق ، وقارن بشرح اللباب ص 158 - 159 ورد المحتار 2 / 253 - 254 ، وانظر الشرح الكبير 2 / 48 و50 ، وشرح الرسالة 1 / 480 ، والإيضاح ص 405 ، ونهاية المحتاج 2 / 433 ، ومغني المحتاج 1 / 507 ، والمغني 3 / 452 ، والفروع 3 / 518 .
(2) - الهداية وشرحها 2 / 184 ، والبدائع 2 / 137 - 138 ، وشرح اللباب ص 158 - 161 وفيه وفي التعليق عليه تحقيق مطول حول هذه الرواية ، وانظر النقل عن بعض الحنابلة في الفروع 3 / 518 .
(3) - المراجع السابقة في الفقه الحنفي .(1/334)
وَهَذَا رِوَايَةٌ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ ، لَكِنَّهُ قَال : يَنْفِرُ بَعْدَ الزَّوَال (1) .
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ .
فَعَنِ وَبَرَةَ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - مَتَى أَرْمِى الْجِمَارَ ؟ قَالَ : إِذَا رَمَى إِمَامُكَ فَارْمِهْ . فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ ، قَالَ: كُنَّا نَتَحَيَّنُ ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا (2) .
وَعَنْ وَبَرَةَ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - مَتَى أَرْمِى الْجِمَارَ ؟ قَالَ : إِذَا رَمَى إِمَامُكَ فَارْمِهْ . فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ ، قَالَ كُنَّا نَتَحَيَّنُ ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا . (3) .
وَهَذَا بَابٌ لاَ يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ ، بَل بِالتَّوْقِيتِ مِنَ الشَّارِعِ ، فَلاَ يَجُوزُ الْعُدُول عَنْهُ .
وَاسْتُدِل لِلرِّوَايَةِ بِجَوَازِ الرَّمْيِ قَبْل الزَّوَال بِقِيَاسِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ ؛ لأَِنَّ الْكُل أَيَّامُ نَحْرٍ ، وَيَكُونُ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْمُولاً عَلَى السُّنِّيَّةِ .
وَاسْتُدِل لِجَوَازِ الرَّمْيِ ثَانِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ قَبْل الزَّوَال لِمَنْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ النَّفْرُ إِلَى مَكَّةَ بِمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَصِل إِلاَّ بِاللَّيْل ، وَقَدْ قَوَّى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَالأَْخْذُ بِهَذَا مُنَاسِبٌ لِمَنْ خَشِيَ الزِّحَامَ وَدَعَتْهُ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ ، لاَ سِيَّمَا فِي زَمَنِنَا (4) .
وقال الكاساني: .. وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ قَبْلَ الرَّمْيِ ، وَيَتْرُكَ الرَّمْيَ فِي هَذَا الْيَوْمِ رَأْسًا فَإِذَا جَازَ لَهُ تَرْكُ الرَّمْيِ أَصْلًا فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهُ الرَّمْيُ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْلَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ." (5)
__________
(1) - الفروع 3 / 518 - 520 .
(2) - صحيح البخارى برقم (1746 )
(3) -صحيح البخارى برقم (1746 )
ومسلم برقم (3201 )عَنْ جَابِرٍ قَالَ رَمَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى وَأَمَّا بَعْدُ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ.
(4) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 23 / ص 158) وقال في البحر العميق : " فهو قول مختار يعمل به بلا ريب ، وعليه عمل الناس ، وبه جزم بعض الشافعية حتى زعم الأسنوي أنه المذهب " . كذا في إرشاد الساري إلى مناسك الملا علي قاري ص 161 .
(5) - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 4 / ص 427)(1/335)
وفي فتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 303) وهناك رأي لعطاء بن أبى رباح وطاووس بن كيسان بجواز الرمي قبل الزوال في الأيام كلها ، ويمكن الأخذ بهذا الرأي عند الحاجة ، كشدة الزحام "
وفي فتاوى الشيخ ابن جبرين - (ج 60 / ص 58) وقد روي عن الإمام أحمد جواز الرمي قبل الزوال يوم النفر، كما ذكره في المغني والإنصاف و غيرهما، و لعل ذلك يجوز في هذه الأزمنة لأجل الزحام الشديد الذي قد أودى بحياة بشر كثير."
وفي كتاب حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء للقفال- (ج 3 / ص 117):"وقال أبو حنيفة إذا رمى منكسا أعاد فإن لم يفعل فلا شيء عليه، وقال: يجوز الرمي في اليوم الثالث قبل الزوال استحسانا ،وروى الحاكم أنه يجوز الرمي قبل الزوال في اليوم الأول والثاني أيضا والأول أشهر ".
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية (1) : " إن كان رمي الجمرات قبل الزوال خشية زحام شديد متيقن أو غالب الظن فلا مانع من ذلك للضرورة ،وإن لم يكن الزحام شديداً بل كان زحاماً يمكن تحمله، فلا يجزئ عنه ذلك الرمي، وعليه أن يرمي بعد الزوال ." (2)
قلت : وهذا الذي أفتى به علماء المملكة اليوم ، وهو الأرفق بالناس ، والله أعلم .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - وفي فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 6 / ص 384) : مذاهب العلماء في رمي الجمرات قبل الزوال رقم الفتوى:15820 و(ج 23 / ص 27) رقم الفتوى:34536 و(ج 39 / ص 382)
(2) - وانظر المحيط البرهاني للإمام برهان الدين ابن مازة - (ج 2 / ص 707) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 15 / ص 356) والإنصاف - (ج 6 / ص 412)(1/336)
الباب الرابع
قضايا هامة حول هذا الموضوع
المبحث الأول
هل صحة الحديث تزيل الخلاف بين الفقهاء ؟
يزعم بعض المشتغلين بالسنَّة النبوية ، أنه بمجرد صحة الحديث ، فإن الخلاف بين الفقهاء سوف يزول تماماً، وذلك لظنهم أن سبب الخلاف بين الفقهاء هذا فقط
ولكن هذه الدعوى عَريَّةٌ عن الصحة للأسباب التالية :
أولا- عامة النصوص في القرآن والسُّنَّة ظنية الدلالة على المعنى المراد فكيف نزيل الخلاف ؟.
ثانيا- قد يكون الحديث مختلفاً فيه ، فيصححه قوم ويضعِّفه آخرون ، فهل يلزم من ضعفه به ؟.
ثالثا- الحكمُ على الحديث قائم على غلبة الظن كذلك ، فقد يحكم عليه غيري بغيري حكمي .
رابعاً- حتى لو صح الحديث فليس بحجة قاطعة ، فقد يعارضه نصوص أقوى منه، فكيف يزيل الخلاف .
خامسا- صحَّة الحديث شيء وفهمه والعمل به شيء آخر ، لأن صحته تعود لعلم والعمل به يعود لعلم آخر .وهو علم أصول الفقه.
سادسا- لا يلزم الفقيه بمثل هذا الحديث الذي نصححه إلا إذا كان غير معارض بما هو أقوى منه عنده ، وصحَّ وفق القواعد والضوابط التي وضعها ذلك الإمام لقبول الأحاديث . والله أعلم
فلينتبه من يؤثِّم الفقهاء وأتباعهم لهذه الأمور ، فليس هو بأحرص منهم على اتباع السنَّة النبوية ، والعمل بها .
فقد صحت أحاديث عند الإمام مالك ترك العمل بها لمخالفتها لعمل أهل المدينة .
- - - - - - - - - - - - - - -(1/337)
المبحث الثاني
شرح قاعدة ( إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي )
قلت : قد ورد هذا الكلام عن الإمام الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة ، وقد أفرده الإمام السبكي برسالة لطيفة .
أولا-أقوال الأئمة في ذلك :
قال عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِالأَخْبَارِ الصِّحَاحِ مِنَّا، فَإِذَا كَانَ خَبَرٌ صَحِيْحٌ، فَأَعلِمْنِي حَتَّى أَذْهَبَ إِلَيْهِ، كُوفِيّاً كَانَ، أَوْ بَصْرِيّاً، أَوْ شَامِيّاً.
وَقَالَ حَرْمَلَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَا قُلْتُهُ فَكَانَ مِن رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خِلاَفُ قَوْلِي مِمَّا صَحَّ، فَهُوَ أَوْلَى، وَلاَ تُقَلِّدُوْنِي.
الرَّبِيْعُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: إِذَا وَجَدْتُمْ فِي كتَابِي خِلاَفَ سُنَّةِ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُوْلُوا بِهَا، وَدَعُوا مَا قُلْتُهُ.
وسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ - وَقَدْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ -: تَأْخُذُ بِهَذَا الحَدِيْثِ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟
فَقَالَ: مَتَى رَوَيْتُ عَن رَسُوْلِ اللهِ حَدِيْثاً صَحِيْحاً وَلَمْ آخُذْ بِهِ، فَأُشْهِدُكُم أَنَّ عَقْلِي قَدْ ذَهَبَ.
وَقَالَ الحُمَيْدِيُّ: رَوَى الشَّافِعِيُّ يَوْماً حَدِيْثاً، فَقُلْتُ: أَتَأْخُذُ بِهِ؟
فَقَالَ: رَأَيتَنِي خَرَجْتُ مِن كَنِيْسَةٍ، أَوْ عَلَيَّ زِنَّارٌ، حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ عَن رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيْثاً لاَ أقولُ بِهِ؟!
قَالَ الرَّبِيْعُ: وَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا رَوَيْتُ عَن رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيْثاً فَلَمْ أقُلْ بِهِ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: كُلُّ حَدِيْثٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَهُوَ قَوْلِي، وَإِنْ لَمْ تَسْمَعُوهُ مِنِّي.(1/338)
وَيُرْوَى أنَّهُ، قَالَ: إِذَا صَحَّ الحَدِيْثُ فَهُوَ مَذْهَبِي، وَإِذَا صَحَّ الحَدِيْثُ، فَاضْرِبُوا بِقَولِي الحَائِطَ. (1)
وقَالَ الرَّبِيعَ بْنَ سُلَيْمَانَ سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ - وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَن مَسْأَلَةٍ فَقَالَ : رُوِيَ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا ،فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ ؟ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَتَقُولُ بِهَذَا ؟ فَارْتَعَدَ الشَّافِعِيُّ وَاصْفَرَّ وَحَالَ لَوْنُهُ - وَقَالَ : وَيْحَكَ ، أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إذَا رَوَيْت عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا فَلَمْ أَقُلْ بِهِ ؟ نَعَمْ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنَيْنِ ، نَعَمْ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنَيْنِ .
قَالَ : وَسَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : مَا مِن أَحَدٍ إلَّا وَتَذْهَبُ عَلَيْهِ سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَعْزُبُ عَنهُ ، فَمَهْمَا قُلْت مِن قَوْلٍ أَوْ أَصَّلْت مِن أَصْلٍ فِيهِ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خِلَافَ مَا قُلْت فَالْقَوْلُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهُوَ قَوْلِي ، وَجَعَلَ يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا نَسَبَتْهُ عَامَّةٌ أَوْ نَسَبَ نَفْسَهُ إلَى عِلْمٍ يُخَالِفُ فِي أَنْ فَرَضَ اللَّهُ اتِّبَاعَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّسْلِيمَ لِحُكْمِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ إلَّا اتِّبَاعَهُ ، وَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَوْلُ رَجُلٍ قَالَ إلَّا بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ ، وَإِنَّ مَا سِوَاهُمَا تَبَعٌ لَهُمَا ، وَإِنْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَعَلَى مَن بَعْدَنَا وَقَبْلَنَا فِي قَبُولِ الْخَبَرِ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفَرْضُ ، وَوَاجِبٌ قَبُولُ الْخَبَرِ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " (2)
وفي السنن الكبرى للبيهقي (ج 7 / ص 244)(14796) أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِى عَمْرٍو قَالاَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِىُّ قَالَ قَدْ رُوِىَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِأَبِى هُوَ وَأُمِّى : أَنَّهُ قَضَى فِى بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ وَنُكِحَتْ بِغَيْرِ مَهْرٍ فَمَاتَ زَوْجُهَا فَقَضَى لَهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا وَقَضَى لَهَا بِالْمِيرَاثِ. فَإِنْ كَانَ يَثْبُتُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَهُوَ أَوْلَى الأُمُورِ بِنَا ،وَلاَ حُجَّةَ فِى قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنْ كَثُرُوا وَلاَ فِى قِيَاسٍ وَلاَ شَىْءَ فِى قَوْلِهِ إِلاَّ طَاعَةُ اللَّهِ بِالتَّسْلِيمِ لَهُ وَإِنْ كَانَ لاَ يَثْبُتُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ لأَحَدٍ أَنْ يُثْبِتَ عَنهُ مَا لَمْ يَثْبُتْ وَلَمْ أَحْفَظْهُ
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (10/34) فما بعدها وتاريخ الإسلام للإمام الذهبي - (ج 14 / ص 320)
(2) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 427)(1/339)
بَعْدُ مِن وَجْهٍ يَثْبُتُ مِثْلُهُ. هُوَ مَرَّةً يُقَالُ عَن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَمَرَّةً عَن مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ وَمَرَّةً عَن بَعْضِ أَشْجَعَ لاَ يُسَمَّى : فَإِذَا مَاتَ أَوْ مَاتَتْ فَلاَ مَهْرَ لَهَا وَلاَ مُتْعَةَ."
وفي السنن الكبرى للبيهقي (ج 5 / ص 302)(10919) أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِى عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ : مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ قُلْنَا لِلشَّافِعِىِّ إِنَّ عَلِىَّ بْنَ مَعْبَدٍ أَخْبَرَنَا بِإِسْنَادٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ أَجَازَ بَيْعَ الْقَمْحِ فِى سُنْبُلِهِ إِذَا ابْيَضَّ فَقَالَ أَمَّا هُوَ فَغَرَرٌ لأَنَّهُ مَحُولٌ دُونَهُ لاَ يُرَى فَإِنْ ثَبَتَ الْخَبَرُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قُلْنَا بِهِ وَكَانَ هَذَا خَاصًّا مُسْتَخْرَجًا مِن عَامٍّ لأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَن بَيْعِ الْغَرَرِ وَأَجَازَ هَذَا.
وفي الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (124 ) وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ إِسْحَاقَ يَقُولُ : سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي سُرَيْجٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : قُلْتُ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ : رَأَيْتُ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : نَعَمْ رَأَيْتُهُ , وَلَوْ تَكَلَّمَ فِي السَّارِيةِ أَنْ يَجْعَلَهَا ذَهَبًا لَقَامَ بِحُجَّتِهِ وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ أَخَذَ الْعِلْمَ مِن أَهْلِ الْحِجَازِ ، عَن مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ , وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ , وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ , وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ , وَحَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَدَنِيِّ , وَأَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ اللَّيْثِيِّ , وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ , وَعَن أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ شَافِعٍ , وَغَيْرِهِمْ , وَهُمْ أَخَذُوهُ عَمَن أَدْرَكَ مِنهُمْ مَن أَدْرَكَ مِنَ التَّابِعِينَ , ثُمَّ عَمَن أَدْرَكُوا مَن أَدْرَكَ مِن فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ سَمَّيْنَاهُمْ فِيمَا مَضَى وَمَن لَمْ نُسَمِّ ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ مِن بَيْنِهِمْ أَخَذَ عِلْمَ فُقَهَاءِ الْمَكِّيِّينَ عَن عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ , وَابْنِ جُرَيْجٍ , وَغَيْرِهِمْ . وَعِلْمَ الْمَدَنِيِّينَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ , وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ , وَغَيْرِهِمَا . وَعِلْمُ الْعِرَاقِيِّينَ عَن أَبِي إِسْحَاقَ , وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ , وَمَنصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ , وَالْأَعْمَشِ , وَأَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ , وَغَيْرِهِمْ , وَأَخَذَهُ الشَّافِعِيُّ عَنهُ عَن جَمَاعَةٍ ، وَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ عَن مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزَّنْجِيِّ ، وَعَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيرِ بْنِ أَبِي رَوِادٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيِّ ، مِمَّا انْتَهَى إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ , مِن عِلْمِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ , وَطَاوُسٍ , وَمُجَاهِدٍ , وَغَيْرِهِمْ مِن فُقَهَاءِ الْمَكِّيِّينَ , ثُمَّ مِمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ مِن عِلْمِ الْمَدَنِيِّينَ , وَأَخَذَ مِن(1/340)
فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ , مِمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ مِن عِلْمِ مَنصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ , وَعَن سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ الْقِدَاحِ , مِمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ مِن عِلْمِ ابْنِ جُرَيْجٍ , وَغَيْرِهِْ مِنَ الْحِجَازِيِّينَ , ثُمَّ مِن عِلْمِ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ , وَغَيْرِهِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ , وَأَخَذَ مِن أَهْلِ الشَّامِ عَن عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ التِّنِّيسِيِّ , وَيَحْيَى بْنِ حَسَّانَ , وَغَيْرِهِمَا , مِمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ مِن عِلْمِ الْأَوْزَاعِيِّ , وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ , وَكَانَ يَتَأَسَّفُ عَلَى مَا فَاتَهُ مِن رِوَايَةِ اللَّيْثِ , وَأَخَذَ مِن أَهْلِ الْيَمَنِ عَن هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيِّ , وَغَيْرِهِ مِمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ مِن عِلْمِ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ صَاحِبِ الزُّهْرِيِّ , وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ الْيمَامِيِّ , وَغَيْرِهِ , وَأَخَذَ مِن أَهْلِ الْبَصْرَةِ , عَن عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيِّ , وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ عُلَيَّةَ , وَغَيْرِهِمَا مِمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ مِن عِلْمِ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ , وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ , وَخَالِدِ بْنِ مِهْرَانَ الْحَذَّاءِ , وَغَيْرِهِمْ مِن أَصْحَابِ الْحَسَنِ , وَابْنِ سِيرِينَ , وَأَبِي قِلَابَةَ , وَغَيْرِهِمْ مِن فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ , مَعَ مِن أَدْرَكَا مِنَ التَّابِعِينَ , ثُمَّ عَن أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ , وَهِشَامِ بْنِ حَسَّانَ صَاحِبَيِ الْحَسَنِ , وَغَيْرِهِ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ , ثُمَّ عَن عَمْرِو بْنِ الْهَيْثَمِ أَبِي قَطَنٍ , وَغَيْرِهِ مِن أَصْحَابِ شُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ , ثُمَّ عَن أَصْحَابِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ , وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ , وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ , وَأَبِي عَوَانَةَ , وَهُشَيْمِ بْنِ بَشِيرٍ الْوَاسِطِيِّ , وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ . وَأَخَذَ مِن أَهْلِ الْكُوفَةِ , عَن مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيِّ , وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ , وَغَيْرِهِمَا مِن أَصْحَابِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ , وَالْأَعْمَشِ , وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ , وَغَيْرِهِمْ . وَأَخَذَ عَن جَمَاعَةٍ مِن أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ , عَن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ , وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ , وَأَخَذَ عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْخُرَاسَانِيِّ ، ثُمَّ عَن دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارِ عَنهُ , ثُمَّ أَخَذَ عَن أَصْحَابِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الرَّقِّيِّ مِن أَهْلِ الْجَزِيرَةِ , وَأَخَذَ عَن مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ ، مِن مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ صَاحِبِهِ مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ , حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا احْتَجَّا بِهِ , ثُمَّ نَاظَرَهُ فِيمَا كَانَ يَرَى خِلَافَهُ فِيهِ وَكَانَ يَقُولُ : مَا كَلَّمْتُ أَسْوَدَ الرَّأْسِ أَعْقِلَ مِن مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ . وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يُعَظِّمُهُ وَيُبَجِّلُهُ , وَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ فِي مَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ . وَكَانَ مَن مَضَى مِن عُلَمَاءِ(1/341)
أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يَعْرِفُونَ مَذَاهِبَ أَهْلِ الْكُوفَةِ , وَأَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ يَعْرِفُونَ مَذَاهِبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ , فَكَانُوا إِذَا الْتَقَوْا , وَتَكَلَّمُوا , رُبَّمَا انْقَطَعَ الْمَدَنِيُّ , فَكَتَبَ الشَّافِعِيُّ مَذَاهِبَهُمْ , وَدَلَائِلَهُمْ , ثُمَّ لَمْ يُخَالِفْهُمْ إِلَّا فِيمَا قَوِيتْ حُجَّتُهُ عِنْدَهُ , وَضَعُفَتْ حُجَّةُ الْكُوفِيِّينَ فِيهِ , وَكَانَ يُكَلِّمُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ وَغَيْرَهُ عَلَى سَبِيلِ النَّصِيحَةِ , وَكَانَ يَقُولُ : مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا قَطُّ ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يُخْطِئَ , وَكَانَ يَقُولُ : مَا كَلَّمْتُ أَحَدًا قَطُّ , إِلَّا وَلَمْ أُبَالِ بَيْنَ اللَّهِ , الْحَقُّ عَلَى لِسَانِي أَوْ لِسَانِهِ . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَحْكِي عَن أَبِيهِ قَالَ : قَالَ لَنَا الشَّافِعِيُّ : أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ مِنِّي , فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فَأَعْلِمُونِي إِنْ شَاءَ يَكُونُ كُوفِيًّا أَوْ بَصْرِيًّا أَوْ شَامِيًّا , حَتَّى أَذْهَبَ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ صَحِيحًا أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ ، أَخْبَرَنِي نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَحْمَدَ الْعَدْلُ ، أبنا عُمَرُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ ، بِمِصْرَ , ثنا الْحَضْرَمِيٌّ ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، حَدَّثَنِي أَبِي فَذَكَرَهُ . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : وَلِهَذَا كَثُرَ أَخَذُهُ بِالْحَدِيثِ , وَهُوَ أَنَّهُ جَمَعَ عِلْمَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ , وَأَخَذَ بِجَمِيعِ مَا صَحَّ عِنْدَهُ مِن غَيْرِ مُحَابَاةٍ مِنهُ وَلَا مِيلٍ , إِلَّا مَا اسْتَجْلَاهُ مِن مُذْهِبِ أَهْلِ بَلَدِهِ , مَهْمَا بَانَ لَهُ الْحَقُّ فِي غَيْرِهِ , وَمِمَن كَانَ قَبْلَهُ مِمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى مَا عَهِدَ مِن مَذْهِبِ أَهْلِ بَلَدِهِ , وَلَمْ يَجْتَهِدْ فِي مَعْرِفَةِ صِحَّةِ مَا خَالَفَهُ , وَ اللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُمْ , وَيَرْحَمُنَا وَإِيَّاهُمْ , فَكُلٌّ مِنهُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ وَمَنِّهِ رَجَعَ فِي أَكْثَرِ مَا قَالَ , وَمُعْظَمُ مَا رُسِمَ إِلَى وَثِيقَةٍ أَكِيدَةٍ ، مِمَن يُقْتَدَى بِهِ فِي الدِّينِ , وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَالِاهْتِدَاءِ بِهَدْيهِمْ , وَجَمَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ بِفَضْلِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ , إِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ".
وقال البيهقي (1) : " قَالَ الرَّبِيعُ : أَنْبَأَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ : إِذَا حَدَّثَ الثِّقَةُ عَنِ الثِّقَةِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَهُوَ ثَابِتٌ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَا يُتْرَكُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثٌ أَبَدًا إِلَّا حَدِيثٌ وُجِدَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثٌ يُخَالِفُهُ . . . , ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْأَحَادِيثِ إِذَا اخْتَلَفَتْ مَعْنَى مَا مَضَى . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : إِذَا كَانَ
__________
(1) - المدخل إلى السنن الكبرى - (ج 1 / ص 13)- بَابُ الْحَدِيثِ الَّذِي يُرْوَى خِلَافُهُ عَن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/342)
الْحَدِيثُ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا مُخَالِفَ لَهُ عَنهُ وَكَانَ يُرْوَى عَن مَن دُونَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثٌ يُوَافِقُهُ لَمْ يَزِدْهُ قُوَّةً وَحَدِيثُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَغْنٍ بِنَفْسِهِ . وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُرْوَى عَمَن دُونَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثٌ يُخَالِفُهُ لَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى مَا خَالَفَهُ ، وَحَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ ، وَلَوْ عَلِمَ مَن رَوَى عَنهُ خِلَافَهُ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اتَّبَعَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ "
وعَن هِشَامِ بْنِ يَحْيَى الْمَخْزُومِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِن ثَقِيفٍ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ فَسَأَلَهُ عَنِ امْرَأَةٍ حَاضَتْ ، وَقَدْ كَانَتْ زَارَتِ الْبَيْتَ يَوْمَ النَّحْرِ , أَلَهَا أَنْ تَنْفِرَ قَبْلَ أَنْ تَطْهُرَ ؟ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : لَا , فَقَالَ لَهُ الثَّقَفِيُّ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَفْتَانِي فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ مَا أَفْتَيْتَ , قَالَ : فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ يضْرِبُهُ بِالدِّرَّةِ وَيَقُولُ : لِمَ تَسْتَفْتُونِي فِي شَيْءٍ قَدْ أَفْتَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "
وعَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ ، أَنَّهُ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ فَسَأَلَهُ عَنِ امْرَأَةٍ ، تَطُوفُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ تَحِيضُ ؟ قَالَ : لِيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ , فَقَالَ الْحَارِثُ : كَذَا أَفْتَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : أَرِبْتَ عَن يدَيْكَ , سَأَلْتَنِي عَن شَيْءٍ سَأَلْتَ عَنهُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِكَيْمَا أُخَالِفَ.
وَالرِّوَايةُ الْأُولَى أَشْبَهُ بِالرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ فِي الرُّخْصَةِ لِلْحَائِضِ وَالْمَقْصُودُ مِنهُ إِشَارَةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ إِلَى الِاسْتِغْنَاءِ بِالسُّنَّةِ عَن غَيْرِهَا.
و قَالَ ابن خُزَيْمَةَ : لَيْسَ لِأَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَوْلٌ إِذَا صَحَّ الْخَبَرُ عَنهُ .
وقال يَحْيَى بْنَ آدَمَ : لَا يُحْتَاجُ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى قَوْلِ أَحَدٍ وَإِنَّمَا كَانَ يُقَالُ : سُنَّةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا لِيُعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَاتَ وَهُوَ عَلَيْهَا "
وعَن مُجَاهِدٍ قَالَ : " لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا يُؤْخَذُ مِن قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ مِن قَوْلِهِ إِلَّا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - " وَرُوِّينَا مَعْنَاهُ عَن عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ "
وعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ ، قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ : مَا قَبَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ حَرَامٌ فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , وَمَا قَبَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ حَلَالٌ فَهُوَ حَلَالٌ يَعْنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ "(1/343)
وعَن رَجُلٍ ، مِن أَهْلِ وَاسِطٍ يُقَالُ لَهُ : شَيْبَةُ بْنُ مُسَاوِرٍ , أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ يُحَدِّثُ زَمَانَ اسْتُخْلِفَ وَجَلَسَ عَلَى الْمِنبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : " أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُرْسِلْ رَسُولًا بَعْدَ رَسُولِكُمْ ، وَلَمْ يُنَزِّلْ بَعْدَ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا ، فَمَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَهُوَ حَلَالٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِمُبْتَدِعٍ وَلَكِنِّي مُتَّبِعٌ , وَلَسْتُ بِقَاضٍ وَلَكِنِّي مَنَفِّذٌ , وَلَسْتُ بِخَيْرٍ مِن وَاحِدٍ مِنكُمْ , وَلَكِنِّي أَثْقَلُكُمْ حِمْلًا , أَلَا وَإِنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُطَاعَ فِي مَعَاصِي اللَّهِ أَلَا هَلْ أَسْمَعْتُ ؟ أَلَا هَلْ أَسْمَعْتُ ؟ .
وقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ فِي أَقَاوِيلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَضِيَ عَنهُمْ : " إِذَا تَفَرَّقُوا فِيهَا نَصِيرُ إِلَى مَا وَافَقَ الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ أَوِ الْإِجْمَاعَ ، أَوْ كَانَ أَصَحَّ فِي الْقِيَاسِ , وَإِذَا قَالَ الْوَاحِدُ مِنهُمُ الْقَوْلَ لَا نَحْفَظُ عَن غَيْرِهِ مِنهُمْ فِيهِ لَهُ مُوَافَقَةً وَلَا خِلَافًا , صِرْتُ إِلَى اتِّبَاعِ قَوْلِ وَاحِدِهِمْ ، إِذَا لَمْ أَجِدْ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا إِجْمَاعًا وَلَا شَيْئًا فِي مَعْنَاهُ يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِهِ أَوْ وُجِدَ مَعَهُ قِيَاسٌ "
ثانيا- نقول من بعض كتب الفقه حول ذلك :
قال النووي رحمه الله : " فَصْلٌ صَحَّ عَن الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ : إذَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي خِلَافَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُولُوا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَدَعُوا قَوْلِي , وَرُوِيَ عَنهُ : إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ خِلَافَ قَوْلِي فَاعْمَلُوا بِالْحَدِيثِ وَاتْرُكُوا قَوْلِي , أَوْ قَالَ : فَهُوَ مَذْهَبِي , وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ .
وَقَدْ عَمِلَ بِهَذَا أَصْحَابُنَا فِي مَسْأَلَةِ التَّثْوِيبِ وَاشْتِرَاطِ التَّحَلُّلِ مِن الْإِحْرَامِ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَغَيْرِهِمَا , مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ . وَقَدْ حَكَى الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ عَن الْأَصْحَابِ فِيهِمَا . وَمِمَن حَكَى عَنهُ أَنَّهُ أَفْتَى بِالْحَدِيثِ مِن أَصْحَابِنَا أَبُو يَعْقُوبَ الْبُوَيْطِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ , وَمِمَن نَصَّ عَلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ فِي كِتَابِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ , وَمِمَّن اسْتَعْمَلَهُ مِن أَصْحَابِنَا الْمُحَدِّثِينَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ وَآخَرُونَ , وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِن مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا إذَا رَأَوْا مَسْأَلَةً فِيهَا حَدِيثٌ , وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ خِلَافُهُ عَمِلُوا(1/344)
بِالْحَدِيثِ , وَأَفْتَوْا بِهِ قَائِلِينَ : مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مَا وَافَقَ الْحَدِيثَ , وَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ إلَّا نَادِرًا , وَمِنهُ مَا نُقِلَ عَن الشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلٌ عَلَى وَفْقِ الْحَدِيثِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ رَأَى حَدِيثًا صَحِيحًا قَالَ : هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَمِلَ بِظَاهِرِهِ , وَإِنَّمَا هَذَا فِيمَن لَهُ رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِن صِفَتِهِ أَوْ قَرِيبٍ مِنهُ , وَشَرْطُهُ : أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَقِفْ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ صِحَّتَهُ , وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مُطَالَعَةِ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ كُلِّهَا وَنَحْوِهَا مِن كُتُبِ أَصْحَابِهِ الْآخِذِينَ عَنهُ وَمَا أَشْبَهَهَا . وَهَذَا شَرْطٌ صَعْبٌ قَلَّ مَن يَتَّصِفَ بِهِ , وَإِنَّمَا اشْتَرَطُوا مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَرَكَ الْعَمَلَ بِظَاهِرِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ رَآهَا وَعَلِمَهَا , لَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ عَلَى طَعْنٍ فِيهَا أَوْ نَسْخِهَا أَوْ تَخْصِيصِهَا أَوْ تَأْوِيلِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ .
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَيْسَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ بِالْهَيِّنِ , فَلَيْسَ كُلُّ فَقِيهٍ يَسُوغُ لَهُ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِالْعَمَلِ بِمَا يَرَاهُ حُجَّةً مِن الْحَدِيثِ , وَفِيمَن سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ مِن الشَّافِعِيِّينَ مَن عَمِلَ بِحَدِيثٍ تَرَكَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَمْدًا , مَعَ عِلْمِهِ بِصِحَّتِهِ لِمَانِعٍ اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَخَفِيَ عَلَى غَيْرِهِ , كَأَبِي الْوَلِيدِ مُوسَى بْنِ أَبِي الْجَارُودِ مِمَن صَحِبَ الشَّافِعِيَّ , قَالَ : صَحَّ حَدِيثُ { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } , فَأَقُولُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ , فَرَدَّا ذَلِكَ عَلَى أَبِي الْوَلِيدِ ; لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ تَرَكَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِصِحَّتِهِ , لِكَوْنِهِ مَنسُوخًا عِنْدَهُ , وَبَيَّنَ الشَّافِعِيُّ نَسْخَهُ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ , وَسَتَرَاهُ فِي ( كِتَابِ الصِّيَامِ ) إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى , وَقَدْ قَدَّمْنَا عَن ابْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّهُ قَالَ : لَا أَعْلَمُ سُنَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَمْ يُودِعْهَا الشَّافِعِيُّ كُتُبَهُ . وَجَلَالَةُ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَإِمَامَتُهُ فِي الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ , وَمَعْرِفَتِهِ بِنُصُوصِ الشَّافِعِيِّ بِالْمَحَلِّ الْمَعْرُوفِ . قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو : فَمَن وَجَدَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ حَدِيثًا يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ نَظَرَ إنْ كَمُلَتْ آلَاتُ الِاجْتِهَادِ فِيهِ مُطْلَقًا , أَوْ فِي ذَلِكَ الْبَابِ أَوْ الْمَسْأَلَةِ كَانَ لَهُ الِاسْتِقْلَالُ بِالْعَمَلِ بِهِ . وَإِنْ لَمْ يَكْمُلْ وَشَقَّ عَلَيْهِ مُخَالَفَةُ الْحَدِيثِ بَعْدَ أَنْ بَحَثَ . فَلَمْ يَجِدْ لِمُخَالَفَتِهِ عَنهُ جَوَابًا شَافِيًا , فَلَهُ الْعَمَلُ بِهِ إنْ(1/345)
كَانَ عَمِلَ بِهِ إمَامٌ مُسْتَقِلٌّ غَيْرَ الشَّافِعِيِّ , وَيَكُونُ هَذَا عُذْرًا لَهُ فِي تَرْكِ مَذْهَبِ إمَامِهِ هُنَا , وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حَسَنٌ مُتَعَيَّنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ" (1) .
وقال ابن القيم : " وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى - مِنهُمْ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ - : مَن وَجَدَ حَدِيثًا يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ فَإِنْ كَمُلَتْ آلَةُ الِاجْتِهَادِ فِيهِ مُطْلَقًا أَوْ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ أَوْ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ أَوْ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَالْعَمَلُ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ أَوْلَى ، وَإِنْ لَمْ تَكْمُلْ آلَتُهُ وَوَجَدَ فِي قَلْبِهِ حَزَازَةً مِن مُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ بَعْدَ أَنْ بَحَثَ فَلَمْ يَجِدْ لِمُخَالَفَتِهِ عِنْدَهُ جَوَابًا شَافِيًا فَلْيَنْظُرْ : هَلْ عَمِلَ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ إمَامٌ مُسْتَقِلٌّ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ وَجَدَهُ فَلَهُ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبِهِ فِي الْعَمَلِ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي تَرْكِ مَذْهَبِ إمَامِهِ فِي ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . " (2)
وسُئِلَ الرملي عَن مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي ؟ " .
( فَأَجَابَ ) بِأَنَّهُ قَدْ انْفَرَدَ بَعْضُهُمْ فِيهَا بِمُؤَلَّفٍ وَمِن جُمْلَةِ مَحَامِلِهِ أَنْ يَتَوَقَّفَ الْإِمَامُ فِي حُكْمٍ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ الدَّالِّ عَلَيْهِ فَيَقُولُ: إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ قُلْت بِهِ (3) .
ثالثا- شرح معنى هذه القاعدة :
قلت : قول الأئمة رضي الله عنهم : إذا صح الحديث فهو مذهبي ، قول صحيح ، ولكن ليس على إطلاقه. ولكن للعمل به شروط :
الأول - أن يُسَلِّمَ له بأنه حديثٌ حديثٌ صحيحٌ ، فكثير من الأحاديث اختلفوا فيها صحتها وضعفها .
الثاني - أن لا يكون الإمام قد بلغه وتركه عمدا ، لعلَّةٍ ما ظهرت له ، مثل حديث أفطر الحاجم والمحجوم .
__________
(1) - المجموع شرح المهذب - (ج 1 / ص 63) وفتاوى ابن الصلاح - (ج 1 / ص 24) فما بعدها
(2) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 5 / ص 111)
(3) - فتاوى الرملي - (ج 6 / ص 277) وانظر مجلة مجمع الفقه الإسلامي - (ج 2 / ص 21798) وقواعد الأحكام: 2/135، ط. الاستقامة. والبحر المحيط للزركشي: 6/294. وحاشية ابن عابدين: 1/63؛ والإنصاف للدهلوي، ص99و107.(1/346)
وما من إمام إلا وترك أحاديث صحيحة لم يعمل بها ، كترك الإمام مالك بعض الأحاديث الصحيحة التي رواها في الموطأ لمخالفتها لعمل أهل المدينة مثلاً .
أو ترك بعض الفقهاء لحديث صحيح عمل راويه بخلافه ... فنحن لا نستطيع إلزامهم بها ، وإنما نلزم أنفسنا - نحن الذين صح عندنا الحديث ، ولم نتقيد بشرط الإمام الفلاني - فقط .
الثالث-لا بد أن تتوفر فيه الشروط التي وضعها ذلك الإمام لقبول الأخبار
الرابع - أن يكون غير منسوخ عنده ، أو غير معارض لما هو أقوى منه .
الخامس- أن يكون قد عمل بهذا الحديث بعض الفقهاء ، كما ذكر ابن الصلاح وغيره ، لأن عدم أهل العلم به دليل إما على عدم صحته أو على نسخه .
فإذا سلم الحديث الصحيح من هذه العوارض عندئذ ، ينبغي على طالب العلم- القادر على تمييز الصحيح من الضعيف - الذي وصل إليه إذا غلب على ظنه صحته أن يعمل به ، ويدع قول صاحب المذهب الذي يقلده .
وهذا الأمر ليس بالهيِّن ، كما يظنه فريقٌ من الناس .
قال الدهلوي : " إنما يتمُّ فيمن له ضربٌ من الاجتهاد ولو في مسألة واحدة وفيمن ظهر عليه ظهورا بينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بكذا ونهى عن كذا وأنه ليس بمنسوخ إما بأن يتتبع الأحاديث وأقوال المخالف والموافق في المسألة فلا يجد له نسخا أو بأن يرى جمعا غفيرا من المتبحرين في العلم يذهبون إليه ويرى المخالف له لا يحتجُّ إلا بقياس أو استنباط أو نحو ذلك فحينئذ لا سبب لمخالفة حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا نفاق خفي أو حمق جلي". (1)
قال الحافظ الذهبي في ترجمة : " الدَّارَكِيُّ عَبْدُ العَزِيْزِ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدٍ، الإِمَامُ الكَبِيْرُ، شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ بِالعِرَاقِ، أَبُو القَاسِمِ عَبْدُ العَزِيْزِ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ الدَّارَكِيُّ الشَّافِعِيُّ، سِبْطُ الحَسَنِ بنِ مُحَمَّدٍ الدَّارَكِيِّ الأَصْبَهَانِيُّ المُحَدِّثُ.
__________
(1) - الانصاف في بيان أسباب الاختلاف لولي الله الدهلوي - (ج 1 / ص 50) وعقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد- (ج 1 / ص 15) وحجة الله البالغة - (ج 1 / ص 302) حاشية ابن عابدين: 1/63؛(1/347)
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ:كَانَ يُتَّهَمُ بِالاِعْتِزَالِ، وَكَانَ رُبَّمَا يَخْتَارُ فِي الفَتْوَى، فيُقَال لَهُ فِي ذَلِكَ، فَيَقُوْلُ:وَيْحَكمْ! حَدَّثَ فُلاَنٌ عَن فُلاَنٍ، عَن رَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا وَكَذَا، وَالأَخْذُ بِالحَدِيْثِ أَوْلَى مِنَ الأَخْذِ بِقَولِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيْفَةَ.
قُلْتُ:هَذَا جَيِّدٌ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ بِذَلِكَ الحَدِيْثِ إِمَامٌ مِن نُظَرَاءِ الإِمَامَيْنِ مِثْلُ مَالِكٍ، أَوْ سُفْيَانَ، أَوِ الأَوْزَاعِيِّ، وَبأَنْ يَكُونَ الحَدِيْثُ ثَابِتاً سَالِماً مِن عِلَّةٍ، وَبأَنْ لاَ يَكُونَ حُجَّةُ أَبِي حَنِيْفَةَ وَالشَّافِعِيِّ حَدِيْثاً صحيحاً معَارضاً للآخَرِ.
أَمَّا مَن أَخَذَ بِحَدِيْثٍ صَحِيْحٍ وَقَدْ تنكَّبَهُ سَائِرُ أَئِمَّةِ الاِجتهَادِ، فَلاَ، كَخَبَرِ:(فَإِنْ شَرِبَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ)، وَكَحَدِيْثِ (لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ البَيْضَةَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ)." (1) .
قلت : وإذا لم يكن أهلا لمعرفة الصحيح من الضعيف (وهو العاميِّ المحضُ) ، فلا يترك مذهبه الذي ينتسب إليه ، ولا يعمل بهذا الحديث ، وهو في هذه الحال معذور ، وليس مخالفاً لسنَّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وذلك لأنه مقلِّد ، فمن غير المعقول أن يترك قول إمام مذهبه لهذا الذي صحح الحديث اليوم ، وما يدريه أنه لا تنطبق عليه الشروط السابقة ، فقد يكون الذي صححه غير مسلَّم له به ، فكيف يوجب عليه تقليده ،وهو كذلك غير معصوم ، والكلُّ تقليد ، وهذا ربما لم يسلِّم له أقرب الناس إليه بذلك ، والإمام المتبوع سلمت له الأمة ،ومن ثمَّ لا يجوز اتهامه بأنه مخالف للسنَّة النبوية ، كما يدعي ذلك بعض المنسوبين للعلم !!!
كما أنه لا يقال بحق هذا المقلِّد - والذي لا يستطيع التمييز بين الغث والسمين- ما كان يقوله بعض السلف الصالح : أنا أقول له قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو يقول لي قال أبو حنيفة أو الشافعي ، فهذا الكلام اليوم قائم على مغالطة مفضوحة ، فهل أبو حنيفة أو الشافعي يتبعون غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟ أو غير سنته ؟!!
- - - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (16/405)(293 )(1/348)
المبحث الثالث
هل الحنفية بضاعتهم في الحديث مزجاة ؟
ما اشتهر من أن أهل الرأي بضاعتهم في الحديث مزجاة كلام غير صحيح ، ولا يدعمه الدليل ، وهو من باب الخلاف المذهبي .
فالراجح عند الحنفية تقديم الحديث الضعيف على القياس ، فكيف تكون بضاعتهم مزجاة ؟
قال الإمام ابن حزم:"جميعُ الحنفية مجمعون على أنَّ مذهبَ أبي حنيفةَ (رحمه اللهُ) أنَّ ضعيفَ الحديثِ أولى منَ القياسِ ولا يحلُّ القياسُ مع وجودهِ" (1) .
وقال علي القاري في المرقاة:" إن مذهبهُم القويَّ تقديمُ الحديثِ الضعيفِ على القياسِ المجرَّدِ الذي يحتملُ التزييفَ" (2) .
أقول: فاتهامهم بأنهم أصحابُ رأي،وأنَّ بضاعتهم في الحديث مزجاةٌ , فيه شططٌ كبيرٌ،وعصبيةٌ مقيتة .
روى الخطيب عن عَبْدَانَ , قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ , يقول: " لِيَكُنِ الَّذِي تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْأَثَرُ , وَخُذْ مِنَ الرَّأْيِ مَا يُفَسِّرُ لَكَ الْحَدِيثَ" (3)
مثال ذلك : كان الإمام أبو بكر بن أبي شيبة من المخالفين لأهل الرأي ، شديد التمسك بالأثر ، ومن ثم فقد أحصى المسائل التي خالف فيها أبو حنيفة ، رحمه الله السنَّة فبلغت- على حدِّ زعمه- مئة وأربعاً وعشرين مسألة لا غير ، وذكر ذلك في آخر مصنفه .
ومعنى هذا أن الإمام أبا حنيفة - أستاذ مدرسة الرأي - قد وافق السنَّة فيما سوى هذه المسائل القليلة وهي بعشرات الآلاف .
__________
(1) - ملخص إبطال القياس ص 98 والإحكام 7/54
(2) - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح(ج 1 / ص 3)
(3) - الفقيه والمتفقه للخطيب (1068 )(1/349)
ولو نظرنا في هذه المسائل التي ذكرها ابن أبي شيبة في ردِّه على الإمام أبي حنيفة رحمه الله لوجدنا ما يلي :
أ - معظمها أمور مختلف فيها منذ عهد الصحابة لم ينفرد فيها الإمام أبو حنيفة .
ب- أو أمور وجد ما هو أقوى منها فلم يعمل بها .
مثال :
ففي مصنف ابن أبي شيبة (ج 14 / ص 148)
38- كِتابُ الرّدِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَة
1- رَجْمُ الْيَهُودِيِّ وَالْيَهُودِيَّةِ.
37202- حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ، عَن سِمَاكٍ ، عَن جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجَمَ يَهُودِيًّا وَيَهُودِيَّةً.(حسن)
37203- حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، وَوَكِيعٌ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجَمَ يَهُودِيًّا.(صحيح)
37204- حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ ، عَن مُجَالِدٍ ، عَن عَامِرٍ ، عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجَمَ يَهُودِيًّا وَيَهُودِيَّةً.(حسن)
37205- حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ ، عَن نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ ، أَنَا فِيمَن رَجَمَهُمَا.( صحيح)
37206- حَدَّثَنَا جَرِيرٌ ، عَن مُغِيرَةَ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجَمَ يَهُودِيًّا وَيَهُودِيَّةً.( صحيح نرسل )
- وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : لَيْسَ عَلَيْهِمَا رَجْمٌ.
قلت : المسألة خلافية منذ عهد الصحابة :
ففي مصنف ابن أبي شيبة (ج 10 / ص 67)
115- فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ مِن أَهْلِ الْكِتَابِ ، ثُمَّ يَفْجُرُ.
29345- حَدَّثَنَا جَرِيرٌ ، عَن مُغِيرَةَ ، عَن إِبْرَاهِيمَ ، وَالشَّعْبِيِّ ؛ فِي الْحُرِّ يَتَزَوَّجُ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّة ثُمَّ يَفْجُرُ ، فَقَالاَ : يُجْلَدُ ، وَلاَ يُرْجَمُ.(1/350)
29346- حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ ، عَن زَمْعَةَ ، عَنِ ابْنِ طَاوُوسٍ ، عَن أَبِيهِ ؛ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى أَنْ يُحْصِنَ الْحُرَّ ، إِلاَّ الْحُرَّةُ الْمُسْلِمَةُ.
29347- حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ ، عَن أَبِي بَكْرٍ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ ، عَن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَن كَعْبٍ ؛ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً ، أَوْ نَصْرَانِيَّةً ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَن ذَلِكَ ؟ فَنَهَاهُ عَنهَا ، وَقَالَ : إِنَّهَا لاَ تُحْصِنُك.
29348- حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ ، عَن عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ، عَن نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ؛ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى مُشْرِكَةً مُحْصِنَةً.
29349- حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ ، عَن سُفْيَانَ ، عَن مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ، عَن نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : مَن أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصِن.
29350- حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَن يُونُسَ ، عَنِ الْحَسَنِ ؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إِذَا تَزَوَّجَهَا وَهُوَ غَيْرُ مُسْلِمٍ ، لَمْ تُحْصِنْهُ حَتَّى يَطَأَهَا فِي الإِسْلاَمِ.
116- مَن قَالَ تُحْصِنُ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّة الْمُسْلِمَ.
29351- حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَن سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ ، عَن قَتَادَةَ ، عَن جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ؛ فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة تَكُونُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ ، ثُمَّ يَفْجُرُ ، قَالاَ : يُرْجَمُ.
29352- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ ، عَن يُونُسَ ، عَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : كَانَ يَقُولُ : تُحْصِنُ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ الْمُسْلِمَ.
29353- حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَن عَطَاءٍ ؛ فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ مِن أَهْلِ الْكِتَابِ ، أَنَّهَا تُحْصِنُهُ.
29354- حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ ، عَن إِسْرَائِيلَ ، عَن سَالِمٍ ، قَالَ : سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنِ الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْيَهُودِيَّةَ ، وَالنَّصْرَانِيَّةَ ، وَالأَمَةَ أَيُحْصَنُ بِهِنَّ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَلَوْ مَا.
وفي شرح معاني الآثار - (ج 5 / ص 160)
اخْتَلَفَ النَّاسُ مِن بَعْدُ فِي الْإِحْصَانِ ،فَقَالَ قَوْمٌ : لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُحْصَنًا بِامْرَأَتِهِ وَلَا الْمَرْأَةُ مُحْصَنَةً بِزَوْجِهَا حَتَّى يَكُونَا حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ بَالِغَيْنِ قَدْ جَامَعَهَا وَهُمَا بَالِغَانِ .
وَمِمَن قَالَ بِذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى .(1/351)
وَقَالَ آخَرُونَ : يُحْصِنُ أَهْلُ الْكِتَابِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُحْصِنُ الْمُسْلِمُ النَّصْرَانِيَّةَ وَلَا تُحْصِنُ النَّصْرَانِيَّةُ الْمُسْلِمَ وَقَدْ كَانَ أَبُو يُوسُفَ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي الْإِمْلَاءِ فِيمَا حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ عَن أَبِيهِ .
فَاحْتَمَلَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الرَّجْمُ } أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى كُلِّ ثَيِّبٍ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَلَى خَاصٍّ مِن الثَّيِّبِ .
فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ فَوَجَدْنَاهُمْ مُجْتَمِعِينَ أَنَّ الْعَبِيدَ غَيْرُ دَاخِلِينَ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا ثَيِّبًا كَانَ أَوْ بِكْرًا وَلَا يُحْصِنُ زَوْجَتَهُ حَرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً ،وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ لَا تَكُونُ مُحْصَنَةً بِزَوْجِهَا حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا .
فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - { الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الرَّجْمُ } إنَّمَا وَقَعَ عَلَى خَاصٍّ مِن الثَّيِّبِ لَا عَلَى كُلِّ الثَّيِّبِ .
فَلَمْ يَدْخُلْ فِيمَا أَجْمَعُوا أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى خَاصٍّ إلَّا مَا قَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ فِيهِ دَاخِلٌ .
وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ الْحُرَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ الْبَالِغَيْنِ الزَّوْجَيْنِ اللَّذَيْنِ قَدْ كَانَ مِنهُمَا الْجِمَاعُ مُحْصَنَيْنِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَن سِوَاهُمْ .
فَقَدْ أَحَاطَ عِلْمُنَا أَنَّ ذَلِكَ قَدْ دَخَلَ فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الرَّجْمُ } .
فَأَدْخَلْنَا فِيهِ وَلَمْ يُحِطْ عِلْمُنَا بِمَا سِوَى ذَلِكَ فَأَخْرَجْنَاهُ مِنهُ .
وَقَدْ كَانَ يَجِيءُ فِي الْقِيَاسِ - لَمَّا كَانَتْ الْأَمَةُ لَا تُحْصِنُ الْحُرَّ وَلَا يُحْصِنُهَا الْحُرُّ وَكَانَتْ هِيَ فِي عَدَمِ إحْصَانِهَا إيَّاهُ كَهُوَ فِي عَدَمِ إحْصَانِهِ إيَّاهَا - أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ النَّصْرَانِيَّةُ فَكَمَا هِيَ لَا تُحْصِنُ زَوْجَهَا الْمُسْلِمَ كَانَ هُوَ أَيْضًا كَذَلِكَ لَا يُحْصِنُهَا .
وَقَدْ رَأَيْنَا الْأَمَةَ أَيْضًا - لَمَّا بَطَلَ أَنْ تُحْصِنَ الْمُسْلِمَ - بَطَلَ أَنْ يُحْصِنَ الْكَافِرَ قِيَاسًا وَنَظَرًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وفي الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 2 / ص 225): أَمَّا شَرْطُ الإِْسْلاَمِ فَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو يُوسُفَ مِن أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ يَشْتَرِطُونَ الإِْسْلاَمَ فِي إِحْصَانِ الرَّجْمِ ، فَإِنْ تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيَّةً فَوَطِئَهَا صَارَا مُحْصَنَيْنِ ، لِمَا رَوَى مَالِكٌ عَن نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَال : جَاءَ الْيَهُودُ إِلَى رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلاً مِنهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُول(1/352)
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ؛ وَلأَِنَّ الْجِنَايَةَ بِالزِّنَى اسْتَوَتْ مِنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ ، فَيَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْحَدِّ . وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الذِّمِّيَّانِ مُحْصَنَيْنِ . وَحَدُّهُمَا الرَّجْمُ إِذَا زَنَيَا فَبِالأَْوْلَى إِذَا كَانَتِ الذِّمِّيَّةُ زَوْجَةً لِمُسْلِمٍ (1) .
وَجَعَل مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ الإِْسْلاَمَ شَرْطًا مِن شُرُوطِ الإِْحْصَانِ ، فَلاَ يَكُونُ الْكَافِرُ مُحْصَنًا ، وَلاَ تُحْصِنُ الذِّمِّيَّةُ مُسْلِمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لأَِنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ لَمَّا أَرَادَ الزَّوَاجَ مِن يَهُودِيَّةٍ نَهَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَال : إِنَّهَا لاَ تُحْصِنُكَ (2) ، وَلأَِنَّهُ إِحْصَانٌ مِن شَرْطِهِ الْحُرِّيَّةُ فَكَانَ الإِْسْلاَمُ شَرْطًا فِيهِ كَإِحْصَانِ الْقَذْفِ . وَعَلَى هَذَا فَالْمُسْلِمُ الْمُتَزَوِّجُ مِن كِتَابِيَّةٍ إِذَا زَنَى يُرْجَمُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَلاَ يُرْجَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لأَِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ مُحْصَنًا ؛ لأَِنَّ الْكِتَابِيَّةَ عِنْدَهُ لاَ تُحْصِنُ الْمُسْلِمَ . وَنَظَرًا لأَِنَّ مَالِكًا - وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - لاَ يَعْتَبِرُ تَوَفُّرَ شُرُوطِ الإِْحْصَانِ فِي الزَّوْجَيْنِ فَقَدْ قَال بِرَأْيِ الْجُمْهُورِ : أَنَّ الذِّمِّيَّةَ تُحْصِنُ الْمُسْلِمَ ، وَيَسْتَحِقُّ الرَّجْمَ إِذَا زَنَى " (3) .
فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم اليهودي واليهودية . ويرى الإمام أبو حنيفة رحمه الله ومحمد والمالكية أن الإسلام شرط للإحصان ، ولهم أدلة ، وقالوا عن الحديث بأنه كان في أول الإسلام ثم نزل حكم الرجم باشتراط الإحصان واشتراط الإسلام ، وإن كان الراجح الرجم كما هو رأي الجمهور وأبي يوسف ، لكن المسألة خلافية (4)
وهكذا بقية المسائل ، وقد يكون الراجح فيها قول أبي حنيفة وقد يكون مرجوحاً.
والخلاصة أنه لا يجوز الإنكار في المسائل المختلف فيها ، ولك أيها المسلم أن تأخذ بأي القولين ولا حرج عليك ، دون أن تعتقد بطلان ما سواه .
فقد اختلف الصحابة منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقرهم عليه وسيبقى هذا الاختلاف إلى قيام الساعة ، وهو يدلُّ على سعة هذا الدين ومرونته ومسايرته للحياة وملاءمته لطبائع الناس ومشاربهم ، وصلاحيته لكل زمان ومكان فحذار أيها المسلم أن تشغل نفسك
__________
(1) - الشرح الكبير 4 / 284 ، والمغني 10 / 129
(2) - قال الدارقطني فيه أبو بكر بن مريم ضعيف ( 3 / 148 )
(3) - المنتقى شرح الموطأ 3 / 331
(4) - راجع التعليق الممجد 3/79-81 والنيل 7/93-94(1/353)
بالخلاف ، وتترك الاتفاق فكلُّ الأئمة على خير ، ولا تجد واحداً منهم تعمد ترك العمل بنصٍّ ثابت عمداً ، أو عن هوى أو شهوة ، فقد كانوا من أتقى الناس وأعلمهم بهذا الدين .
- - - - - - - - - - - - - -(1/354)
المبحث الرابع
هل يمكن الاستغناء بالقرآن عن السنة ؟
إننا لو فتشنا عن المحاربين لسُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لوجدنا أنهم يتظاهرون بإجلال القرآن واحترامه، وأنه الحجة التي ليس وراءها حجة، فيقولون : علينا بالاكتفاء بالقرآن الكريم فقط؛ فهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو المصدر الأول للإسلام، وهو الذي سلم من التغيير والتبديل ... إلى آخر ما يقولونه تظاهراً بحبهم للإسلام، ودفاعاً عنه، وغيرة على ما في كتاب الله عز وجل من شريعة وأحكام، غير أنهم لا يريدون - مع ذلك - أن يضبطوا أنفسهم وعقولهم بهذا الذي أمر القرآن الكريم بضبط أنفسنا وعقولنا به، من اتباع سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مصطنعين لأنفسهم ما يشاءون من آيات القرآن الكريم، يستدلون بها على الاكتفاء بالقرآن وحده، وعدم حجية السُنَّة والحاجة إليها .
وما استدلوا به من آيات قرآنية بنوا عليها شبهتين جعلوهما قاعدتين ينطلقون منهما تشكيكاً فى حجية السُنَّة . نذكرهما في مطلبين :
الأولى- شبهة الاكتفاء بالقرآن وعدم الحاجة إلى السُنَّة النبوية والرد عليها .
الثانية - شبهة أن السُنَّة لو كانت حجة لتكفل الله بحفظها والرد عليها .
الشبهة الأولى - شبهة الاكتفاء بالقرآن
* يقول المشككون في السنَّة، إن القرآن الكريم محفوظ بحفظ الله تعالى، وبقوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (9) سورة الحجر، كيف لا ومفرداته كلام الله، وحروفه ثابتة، وأحكام تلاوته متواترة ومحفوظة في الصدور والسطور.
* كما أن القرآن كاف شاف يقول سبحانه وتعالى: { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (38) سورة الأنعام ،ويقول سبحانه: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِن أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً(1/355)
وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (89) سورة النحل ، فما حاجتنا إلى السنة وفي القرآن اكتمال كل شيء، وتبيان كل شيء أيضا؟
* يضيف المتشككون أن التعهد الإلهي بحفظ القرآن الكريم لا يشمل السنَّة: التي هي كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهي غير محفوظة، وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بشر ينسى كما ينسى الناس، ويغضب كما يغضب الناس، فكيف نسجل جميع أحواله ونتعبد بها لله تعالى، خاصة فيما لم يقم عليه دليل في القرآن الكريم ؟ .
* علاوة على ما سبق، فقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه من خطورة الكذب عليه، في الحديث المتواتر: « مَن كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ » (1) . فما حاجتنا إلى السنة؟ خاصة وهي غير محفوظة كالقرآن، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بشر، وتعمد الكثيرون الكذب عليه، فما حاجتنا إلى السنة؟
الردُّ على شبهة الاكتفاء بالقرآن :
1. الدفع الأول : اثبتوا دعواكم من القرآن الكريم
إذا كان فهم المتشككين لآيات الله تعالى صحيحا، وأن القرآن لم يفرط في شيء، وفيه تبيان كل شيء، فعليهم إثبات دعواهم بالاكتفاء بالقرآن ونبذ السنة من القرآن الكريم، هذا هو المصحف، فأين الآيات التي تأمرنا بالاكتفاء بالقرآن؟ وتطالبنا في نفس الوقت بنبذ سنة نبينا صلوات الله وسلامه عليه. ومطلبنا هذا تعلمناه من القرآن الكريم، في قوله تعالى: { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (111) سورة البقرة ، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَن أَنْكَرَ ». (2)
2. الدفع الثاني: القرآن والسُّنَّة من مشكاة واحدة
* القرآن الكريم كلام الله القديم، نزل به جبريل جملة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم نزل منجما على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك قوله سبحانه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا
__________
(1) - صحيح البخارى(1291)
(2) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 8 / ص 123) (16882و21042 و21741 ) صحيح لغيره(1/356)
وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5 [النجم/3-5] ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - المعصوم لا ينطق إلا بوحي من رب السماء والأرض.
* نعم السنَّة كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله، ولكنه لا يتصرف من نفسه وهواه، وإنما هي وحي من الله تعالى، ينزل بها أمين الوحي جبريل عليه السلام، والمطلع على كتب السنة والسيرة يرى جبريل عليه السلام ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواقف كثيرة - يصعب استقصاؤها - لبيان أحكام أو إظهار حقائق خافية يستند إليها الحكم الإلهي، وفي الحديث الشريف عَن أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا. قَالَ « إِنِّى لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا ». قَالَ « إِنِّى لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا ».. (1)
* إن الرسالة الخاتمة لابد أن تكون محفوظة حتى تصل إلى الناس مهما طال الزمن، ويخطئ كثير من الناس حين يظن أن الحق تبارك وتعالى تكفل بحفظ القرآن الكريم وحده، لقوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (9) سورة الحجر ، ولو كان المراد حفظ القرآن فقط لجاءت الآية قاطعة بذلك: فتقول مثلا: نزلنا القرآن وإنا له لحافظون، فاختيار لفظ الذكر بدلا من القرآن له حكمة عظيمة، فالذكر هو البلاغ والبيان عن الله، أي القرآن والسُّنَّة، وأبرز صور الحفظ هي: حفظ القرآن الكريم بالحفظ المباشر من الله تبارك وتعالى، وحفظ السنَّة بانتداب علمائها لوضع ضوابط وأسس تميز الصحيح من المكذوب المفترى على النبي - صلى الله عليه وسلم -
* لابدَّ أن يشمل حفظ الله لهذا الدين حفظ السنَّة أيضا، لأن السنة تبين القرآن الكريم، كما أشارت إلى ذلك سورة النحل، وهذا الأمر محل إجماع أهل السنة، فكيف يُحفظ المبيَّن وهو القرآن الكريم، ويترك المبيِّن وهي السنَّة مع أننا لن نتمكن من فهم القرآن الكريم إلا في ضوء بيان السنَّة المطهرة.
* تعرُّضُ السنَّةِ لمحاولات الوضع وغيره، لا تعني أنها غير محفوظة، بل إن هذا الهجوم الشرس على السنَّة هو من أقوى الأدلة على حفظها، وذلك أن الحفظ الإلهي للسنَّة لم يكن يظهر لو لم تتعرض لهذا الهجوم الشديد، حتى تظهر عناية الله لها بأن هيأ لها وسائل
__________
(1) - سنن الترمذى(2121 ) أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. مَعْنَى قَوْلِهِ ِنَّكَ تُدَاعِبُنَا إِنَّمَا يَعْنُونَ إِنَّكَ تُمَازِحُنَا.(1/357)
الحفظ المعروفة عند العلماء، بل إن القرآن الكريم تعرض وما زال لمحاولات التبديل والتغيير، ولكن الله عاصمه، وعاصم نبيه، وكاشف كيد المبطلين، ونظير ذلك قوله تعالى لنبيه : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (67) سورة المائدة ، ومع ذلك فقد تعرَّض لمحاولات القتل والاعتداء كما في بني النضير (1) ، وفي قصة الشاة المسمومة، (2) فتلك العصمة لم تظهر لنا بصورة واضحة جليَّة إلا مع تلك المحاولات.
3. الدفع الثالث: السنَّة ثابتة في حق جميع الأنبياء وتلقوها من ربهم?
إذا وافَقَنا مَن يناظرنا على ما طرحناه، فبها ونعمت، وإن لم يكفه ما قدمناه فيأتي دورنا في طرح هذا السؤال عليه: ماذا تلقى الأنبياء من ربهم? ولابد له أن يجيب أنهم تلقوا الكتاب فقط, لأنه لو قال معه غيره لبطلت دعواه, فيطالب بتفسير الحكمة المشار إليها في الآيات التالية:
* { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} (34) سورة الأحزاب
* (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)8
__________
(1) - قَالَ اِبْن إِسْحَاق " فَخَرَجَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إِلَى بَنِي النَّضِير يَسْتَعِينهُمْ فِي دِيَتهمَا فِيمَا حَدَّثَنِي يَزِيد بْن رُومَان ، وَكَانَ بَيْن بَنِي النَّضِير وَبَنِي عَامِر عَقْد وَحِلْف ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ يَسْتَعِينهُمْ قَالُوا : نَعَمْ . ثُمَّ خَلَا بَعْضهمْ بِبَعْضٍ فَقَالُوا : إِنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوهُ عَلَى مِثْل هَذِهِ الْحَال . قَالَ : وَكَانَ جَالِسًا إِلَى جَانِب جِدَار لَهُمْ ، فَقَالُوا مَنْ رَجُل يَعْلُو عَلَى هَذَا الْبَيْت فَيُلْقِي هَذِهِ الصَّخْرَة عَلَيْهِ فَيَقْتُلهُ وَيُرِيحنَا مِنهُ ؟ فَانْتُدِبَ لِذَلِكَ عَمْرو بْن جِحَاش بْن كَعْب فَأَتَاهُ الْخَبَر مِن السَّمَاء فَقَامَ مُظْهِرًا أَنَّهُ يَقْضِي حَاجَة وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : لَا تَبْرَحُوا ، وَرَجَعَ مُسْرِعًا إِلَى الْمَدِينَة ، وَاسْتَبْطَأَهُ أَصْحَابه فَأُخْبِرُوا أَنَّهُ تَوَجَّهَ إِلَى الْمَدِينَة ، فَلَحِقُوا بِهِ ، فَأَمَرَ بِحَرْبِهِمْ وَالْمَسِير إِلَيْهِمْ ، فَتَحَصَّنُوا ، فَأَمَرَ بِقَطْعِ النَّخْل وَالتَّحْرِيق "فتح الباري لابن حجر - (ج 11 / ص 358) وهو صحيح مرسل
(2) - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْيَهُودِ أَهْدَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَاةً مَسْمُومَةً فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَقَالَ « مَا حَمَلَكِ عَلَى مَا صَنَعْتِ ». قَالَتْ أَحْبَبْتُ أَوْ أَرَدْتُ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَإِنَّ اللَّهَ سَيُطْلِعُكَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَبِيًّا أُرِيحُ النَّاسَ مِنكَ. قَالَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا وَجَدَ مِن ذَلِكَ شَيْئاً احْتَجَمَ . قَالَ فَسَافَرَ مَرَّةً فَلَمَّا أَحْرَمَ وَجَدَ مِن ذَلِكَ شَيْئاً فَاحْتَجَمَ. مسند أحمد (2837){1/306} صحيح(1/358)
* { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} (151) سورة البقرة
* { وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (231) سورة البقرة
* { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِن أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (164) سورة آل عمران.
* { وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (113) سورة النساء
* { ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} (39) سورة الإسراء
* {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (2) سورة الجمعة
* قول الحق سبحانه وفي حق عيسى عليه السلام { إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} (110) سورة المائدة ، ويقول سبحانه وتعالى: { وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } (63) سورة الزخرف ، ويقول جل من قائل: {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ} (50) سورة آل عمران ، و يقول سبحانه: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ(1/359)
كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} (79) سورة آل عمران.
* ويقول سبحانه في حق إبراهيم الخليل عليه السلام: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا} (54) سورة النساء.
* وفي حق نوح عليه السلام: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (62) سورة الأعراف
* وفي حق صالح عليه السلام: {فَتَوَلَّى عَنهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } (79) سورة الأعراف
وبالنظر إلى الآيات الواردة في شأن نبينا - صلى الله عليه وسلم - والتي وردت فيها كلمة الحكمة معطوفة على الكتاب ، فإن ذلك يدل على أن الحكمة غير الكتاب ؛ لأن العطف يقتضي المغايرة ، ولم يأتنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء غير القرآن مما يحتم أن يكون المراد بالحكمة أنها السنَّة . يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : " فَذَكَرَ اللَّهُ الْكِتَابَ وَهُوَ الْقُرْآنُ , وَذَكَرَ الْحِكْمَةَ , فَسَمِعْتُ مَن أَرْضَى مِن أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ يَقُولُ : الْحِكْمَةُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَهَذَا يُشْبِهُ مَا قَالَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ الْقُرْآنَ ذُكِرَ وَأَتْبَعَهُ الْحِكْمَةَ , وَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنَّهُ عَلَى خَلْقِهِ بِتَعْلِيمِهِمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ , فَلَمْ يَجُزْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يُقَالَ الْحِكْمَةُ هَا هُنَا إِلَّا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَذَلِكَ أَنَّهَا مَقْرُونَةٌ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ". (1)
كما نقل البيهقي في المدخل إلى السنن بأسانيده إلى الحسن وقتادة ويحيى بن أبي كثير قال : الحكمة هي السنة في آية : (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) .
وقال ابن كثير (2) : " يُذكر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - إليهم، يتلو عليهم آيات الله مبينات وَيُزَكِّيهم، أي: يطهرهم من رذائل الأخلاق ودَنَس النفوس وأفعال الجاهلية، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويعلمهم الكتاب -وهو
__________
(1) - الفقيه والتفقه (252 )
(2) - تفسير ابن كثير - (ج 1 / ص 464)(1/360)
القرآن -والحكمة -وهي السنة -ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون. فكانوا في الجاهلية الجَهْلاء يُسفَهُون بالقول الفرَى، فانتقلوا ببركة رسالته، ويُمن سفارته، إلى حال الأولياء، وسجايا العلماء فصاروا أعمق الناس علمًا، وأبرهم قلوبًا، وأقلهم تكلفًا، وأصدقهم لهجة. وقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِن أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } "
4. الدفع الرابع : قوله تعالى: { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } ، فما الداعي للسنَّة؟
الجواب:
أن المراد بالكتاب في هذه الآية ليس القرآن الكريم والدليل في نفس الآية، يقول سبحانه: { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (38) سورة الأنعام
فالكتاب هنا هو اللوح المحفوظ، المدون فيه ما كان وما سيكون من علم الله تعالى، ولا يقول عاقل أن استقصاء المخلوقات والدواب والطير مسطور في القرآن.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : قل لهؤلاء المعرضين عنك، المكذبين بآيات الله: أيها القوم، لا تحسبُنَّ الله غافلا عما تعملون، أو أنه غير مجازيكم على ما تكسبون! وكيف يغفل عن أعمالكم، أو يترك مجازاتكم عليها، وهو غير غافل عن عمل شيء دبَّ على الأرض صغيرٍ أو كبيرٍ، ولا عمل طائر طار بجناحيه في الهواء، بل جعل ذلك كله أجناسًا مجنَّسة وأصنافًا مصنفة، تعرف كما تعرفون، وتتصرف فيما سُخِّرت له كما تتصرفون، ومحفوظ عليها ما عملت من عمل لها وعليها، ومُثْبَت كل ذلك من أعمالها في أم الكتاب، ثم إنه تعالى ذكره مميتها ثم منشرها ومجازيها يوم القيامة جزاءَ أعمالها. يقول: فالرب الذي لم يضيِّع حفظَ أعمال البهائم والدوابّ في الأرض، والطير في الهواء، حتى حفظ عليها حركاتها وأفعالها، وأثبت ذلك منها في أم الكتاب، وحشرها ثم جازاها على ما سلف منها في دار البلاء، أحرى أن لا يُضيع أعمالكم، ولا يُفَرِّط في حفظ أفعالكم التي تجترحونها، أيها الناس، حتى يحشركم فيجازيكم على جميعها، إن خيرًا(1/361)
فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا، إذ كان قد خصكم من نعمه، وبسط عليكم من فضله، ما لم يعمَّ به غيركم في الدنيا، وكنتم بشكره أحقَّ، وبمعرفة واجبه عليكم أولى، لما أعطاكم من العقل الذي به بين الأشياء تميِّزون، والفهم الذي لم يعطه البهائم والطيرَ، الذي به بين مصالحكم ومضارِّكم تفرِّقون" (1)
وحتى مع القول بأن الكتاب في الآية الكريمة تعني القرآن، فإن الله تعالى قد جعله تبيانا لكل شيء، ولم يفرط فيه من شيء، ومن بين ما بينه سبحانه وتعالى في كتابه، ولم يفرط في توضيحه، أمره في عشرات الآيات وفي مواضع متعددة بطاعة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد بين لنا أن تلك السنَّة هي التي تبين القرآن، فلماذا تمسكتم بآية وغفلتم عن الآيات الأخرى، أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض.
5. الدفع الخامس: كفاية القرآن الكريم :
لقوله تعالى: { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِن أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (89) سورة النحل .
الجواب:
استدل بعض منكري العمل بالسنة، بهذه الآية على كفاية القرآن، فهذا لم يقل له سلف الأمة، ولو تأمل القائل ما يقول لبان له فساده من أول وهلة، إذ لو كانت الآية معناها استقلال الكتاب في بيان كل شيء، فعليه أن يقدم من القرآن تفصيل أحكام العبادات التي يقوم بها أركان الإسلام، فما بالك وأقوال علماء التفسير مجمعة على ما نقض دعواه، ومنها:
* وقال الأوزاعي: { وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } أي: بالسنة. (2) .
__________
(1) - تفسير الطبري - (ج 11 / ص 344)
(2) تفسير ابن كثير - (ج 4 / ص 595)(1/362)
* قول ابن الجوزي في زاد المسير: " فأما قوله تعالى : { لكل شيء } فقال العلماء بالمعاني: يعني : لكل شيء من أمور الدين ، إِما بالنص عليه ، أو بالإِحالة على ما يوجب العلم ، مثل بيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو إِجماع المسلمين .. (1)
* وقال الطاهر بن عاشور : " و«كلّ شيء» يفيد العموم؛ إلا أنه عموم عرفي في دائرة ما لمثله تجيء الأديان والشّرائع : من إصلاح النفوس ، وإكمال الأخلاق ، وتقويم المجتمع المدنيّ ، وتبيّن الحقوق ، وما تتوقّف عليه الدعوة من الاستدلال على الوحدانية ، وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما يأتي في خلال ذلك من الحقائق العلمية والدقائق الكونية ، ووصف أحوال الأمم ، وأسباب فلاحها وخسارها ، والموعظة بآثارها بشواهد التاريخ ، وما يتخلّل ذلك من قوانينهم وحضاراتهم وصنائعهم .
وفي خلال ذلك كلّه أسرار ونكت من أصول العلوم والمعارف صالحة لأن تكون بياناً لكل شيء على وجه العموم الحقيقي إن سلك في بيانها طريق التفصيل واستنير فيها بما شرح الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما قفّاه به أصحابه وعلماء أمّته ، ثم ما يعود إلى الترغيب والترهيب من وصف ما أعدّ للطائعين وما أعدّ للمعرضين ، ووصف عالم الغيب والحياة الآخرة . " (2)
* وقال النسفي : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا } بليغاً { لّكُلِّ شَىْءٍ } من أمور الدين . أما في الأحكام المنصوصة فظاهر ، وكذا فيما ثبت بالسنة أو بالإجماع أو بقول الصحابة أو بالقياس ، لأن مرجع الكل إلى الكتاب حيث أمرنا فيه باتباع رسوله عليه السلام وطاعته بقوله : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } [ المائدة : 92 ] وحثنا على الإجماع فيه بقوله : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين } [ النساء : 115 ] وقد رضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته باتباع أصحابه بقوله : « أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم » (3) وقد اجتهدوا
__________
(1) - زاد المسير - (ج 4 / ص 121)
(2) - التحرير والتنوير - (ج 8 / ص 186)
(3) - وفي خلاصة البدر المنير - (ج 2 / ص 431) 2868 - حَدِيث أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ رَوَاهُ عبد بن حميد من رِوَايَة ابْن عمر وَغَيره من رِوَايَة عمر وَأبي هُرَيْرَة وأسانيدها كلهَا ضَعِيفَة قَالَ الْبَزَّار لَا يَصح هَذَا الْكَلَام عَن رَسُول الله صَلَّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ ابْن حزم خبر مَكْذُوب مَوْضُوع بَاطِل لم يَصح قطّ "
قلت : ويغني عنه ما رواه صحيح مسلم(6629 ) عَن أَبِى بُرْدَةَ عَن أَبِيهِ قَالَ صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قُلْنَا لَوْ جَلَسْنَا حَتَّى نُصَلِّىَ مَعَهُ الْعِشَاءَ - قَالَ - فَجَلَسْنَا فَخَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ « مَا زِلْتُمْ هَا هُنَا ». قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّيْنَا مَعَكَ الْمَغْرِبَ ثُمَّ قُلْنَا نَجْلِسُ حَتَّى نُصَلِّىَ مَعَكَ الْعِشَاءَ قَالَ « أَحْسَنْتُمْ أَوْ أَصَبْتُمْ ». قَالَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَكَانَ كَثِيرًا مِمَّا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ « النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِى فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِى مَا يُوعَدُونَ وَأَصْحَابِى أَمَنَةٌ لأُمَّتِى فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِى أَتَى أُمَّتِى مَا يُوعَدُونَ ».(1/363)
وقاسوا ووطّئوا طرق الاجتهاد والقياس مع أنه أمرنا به بقوله { فاعتبروا يا أولي الأبصار } [ الحشر : 2 ] فكانت السنة والإجماع وقول الصحابي والقياس مستندة إلى تبيان الكتاب فتبين أنه كان تبياناً لكل شيء { وَهُدًى وَرَحْمَةً وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ } ودلالة إلى الحق ورحمة لهم وبشارة لهم بالجنة ." (1)
* قول الجصاص في أحكام القرآن: " قَوْله تَعَالَى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } يَعْنِي بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ مِن أُمُورِ الدِّينِ بِالنَّصِّ وَالدَّلَالَةِ ، فَمَا مِن حَادِثَةٍ جَلِيلَةٍ وَلَا دَقِيقَةٍ إلَّا وَلِلَّهِ فِيهَا حُكْمٌ قَدْ بَيَّنَهُ فِي الْكِتَابِ نَصًّا أَوْ دَلِيلًا ، فَمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّمَا صَدَرَ عَن الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنهُ فَانْتَهُوا } وقَوْله تَعَالَى : { وَإِنَّك لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ } وَقَوْلِهِ : { مَن يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } فَمَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ فَهُوَ عَن اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ مِن تِبْيَانِ الْكِتَابِ لَهُ لِأَمْرِ اللَّهِ إيَّانَا بِطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ ، وَمَا حَصَلَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاع فَمَصْدَرُهُ أَيْضًا عَن الْكِتَابِ لِأَنَّ الْكِتَابَ قَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ وَأَنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالٍ ، وَمَا أَوْجَبَهُ الْقِيَاسُ وَاجْتِهَادُ الرَّأْيِ وَسَائِرُ ضُرُوبِ الِاسْتِدْلَالِ مِن الِاسْتِحْسَانِ وَقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ جَمِيعُ ذَلِكَ مِن تِبْيَانِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَجْمَعَ ، فَمَا مِن حُكْمٍ مِن أَحْكَامِ الدِّينِ إلَّا وَفِي الْكِتَابِ تِبْيَانُهُ مِن الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا . (2) .
* قول الشوكاني في فتح القدير: " ومعنى كونه { تبياناً لكلّ شيء } أن فيه البيان لكثير من الأحكام ، والإحالة فيما بقي منها على السنة ، وأمرهم باتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يأتي به من الأحكام ، وطاعته كما في الآيات القرآنية الدالة على ذلك . وقد صحّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « إني أوتيت القرآن ومثله معه » { وهدى } للعباد { وَرَحْمَةً } لهم { وبشرى
__________
(1) - تفسير النسفي - (ج 2 / ص 175)
(2) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 7 / ص 285)(1/364)
لِلْمُسْلِمِينَ } خاصة دون غيرهم ، أو يكون الهدى والرحمة والبشرى خاصة بهم؛ لأنهم المنتفعون بذلك . (1)
* وقال الشنقيطي : " وقوله تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } .ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه نزل على رسوله هذا الكتاب العظيم تبياناً لكل شيء . وبين ذلك في غير هذا الموضع ، كقوله : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 38 ] على القول بأن المراد بالكتاب فيها القرآن . أما على القول بأنه اللوح المحفوظ . فلا بيان بالآية . وعلى كل حال فلا شك أن القرآن فيه بيان كل شيء . والسُّنَّة كلها تدخل في آية واحدة منه . وهي قوله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ] ." (2)
الدفع السادس: عرض الحديث على القرآن
يحتج بعض من يرد السنة النبوية بحديث: "ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله"، وهم بذلك يخالفون منهجهم في الاكتفاء بالقرآن، ويحتجون بالحديث، وهم لا يرون الاحتجاج بالحديث أصلا ؟
أهو رفض الحق لأجل جحوده فحسب، كما قال تعالى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَل أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) [النور/48-52])
وعلى فرض التنزل مع الخصم فنقول: إن القاعدة تنص على أن الاحتجاج فرعٌ للصحة لا العكس، فكيف يحتج بما لا يعلم ثبوته من عدمه؟
__________
(1) - فتح القدير - (ج 4 / ص 254)
(2) - أضواء البيان - (ج 3 / ص 58)(1/365)
ولذا كان الواجب على كل من يحتج بشيء أن يتأكد من ثبوته من عدمه، ولذا نناقش في البداية صحة هذا الحديث، لبيان صلاحيته للاحتجاج من عدمه، فنقول: إن الحديث رواية منقطعة عن رجل مجهول.
وفي مَعْرِفَةُ السُّنَنِ وَالْآثَارِ لِلْبَيْهَقِيِّ(6 ) عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ يُخْبِرُ عَن أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا أَلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِن أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنهُ فَيَقُولُ : لَا أَدْرِي ، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ " قَالَ سُفْيَانُ : وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ مُرْسَلًا ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَفِي هَذَا تَثْبِيتُ الْخَبَرِ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِعْلَامِهِمْ أَنَّهُ لَازِمٌ لَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدُوا لَهُ نَصَّ حُكْمٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَرُوِّينَا فِي حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : " أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَسْتَلْقِي عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ : عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ حَلَالًا فَأَحِلُّوهُ ، وَمَا وَجَدْتُمْ حَرَامًا فَحَرِّمُوهُ ، أَلَا لَا يَحِلُّ أَكْلُ حِمَارٍ أَهْلِيٍّ ، وَلَا ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ " . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ : أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : كَانَ النَّاسُ مُسْتَقْبِلِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ ثُمَّ حَوَّلَهُمُ اللَّهُ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، فَأَتَى أَهْلَ قُبَاءٍ آتٍ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - كِتَابًا ، وَأَنَّ الْقِبْلَةَ حُوِّلَتْ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةَ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ ، وَأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ وَجَمَاعَةً كَانُوا يَشْرَبُونَ شَرَابَ فَضِيخٍ وَبُسْرٍ وَلَمْ يُحَرَّمْ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْأَشْرِبَةِ شَيْءٌ ، فَأَتَاهُمْ آتٍ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ ، فَأَمَرُوا أَنَسًا بِكَسْرِ جِرَارِ شَرَابِهِمْ ، وَذَلِكَ لَا أَشُكُّ أَنَّهُمْ لَا يُحْدِثُونَ مِثْلَ هَذَا إِلَّا ذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَيُشْبِهُ أَنْ لَوْ كَانَ قَبُولُ خَبَرِ مَن أَخْبَرَهُمْ وَهُوَ صَادِقٌ عِنْدَهُمْ مِمَّا لَا يَجُوزُ لَهُمْ قَبُولُهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي وَجْهِ الدَّلِيلِ مِنهُ ، قَالَ : وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُمَّ سَلَمَةَ أَنْ تُعْلِمَ امْرَأَةً أَنْ تُعْلِمَ زَوْجَهَا أَنَّ قُبْلَتَهَا وَهُوَ صَائِمٌ لَا تُحَرَّمُ عَلَيْهِ . وَلَوْ لَمْ يَرَ الْحُجَّةَ تَقُومُ عَلَيْهِ بِخَبَرِهَا إِذَا صَدَّقَهَا لَمْ يَأْمُرْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِهِ ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُنَيْسًا الْأَسْلَمِيَّ أَنْ يَغْدُوَ عَلَى امْرَأَةِ رَجُلٍ فَإِنِ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا ، فَاعْتَرَفَتْ ، فَرَجَمَهَا ، وَفِي ذَلِكَ إِفَاتَةُ نَفْسِهَا بِاعْتِرَافِهَا عِنْدَ(1/366)
أُنَيْسٍ ، وَهُوَ وَاحِدٌ ، وَأَمَرَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ أَنْ يَقْتُلَ أَبَا سُفْيَانَ ، وَقَدْ سَنَّ أَنَّ عَلَيْهِ إِنْ عَلِمَهُ أَسْلَمَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ قَتْلُهُ ، وَقَدْ يُحْدِثُ الْإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ ، وَأَمَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ أَنْ يَقْتُلَ خَالِدَ بْنَ سُفْيَانَ الْهُذَلِيَّ فَقَتَلَهُ ، وَمِن سُنَّتِهِ لَوْ أَسْلَمَ أَنْ لَا يَقْتُلَهُ ، فَكُلُّ هَؤُلَاءِ فِي مَعَانِي وُلَاتِهِ وَهُمْ وَاحِدٌ وَاحِدٌ يَمْضُونَ الْحُكْمَ بِأَخْبَارِهِمْ ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عُمَّالَهُ وَاحِدًا وَاحِدًا ، وَرُسُلَهُ وَاحِدًا وَاحِدًا ، وَإِنَّمَا بَعَثَ عُمَّالَهُ لِيُخْبِرُوا النَّاسَ بِمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِن شَرَائِعِ دِينِهِمْ وَيَأْخُذُوا مِنهُمْ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَيُعْطُوهُمْ مَا لَهُمْ ، وَيُقِيمُوا عَلَيْهِمُ الْحُدُودَ ، وَيُنَفِّذُوا فِيهِمُ الْأَحْكَامَ ، وَلَوْ لَمْ تَقُمِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِهِمْ إِذْ كَانُوا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ وَجَّهَهُمْ إِلَيْهَا أَهْلَ صِدْقٍ عِنْدَهُمْ لَمَا بَعَثَهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَسَاقَ الْكَلَامَ فِي بَعْثِ أَبِي بَكْرٍ وَالِيًا عَلَى الْحَجِّ ، وَبَعَثَ عَلِيًّا بِأَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَةَ ، وَبَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ ، وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِيهِ . ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ زَعَمَ أَنَّ مَن جَاءَهُ مُعَاذٌ وَأُمَرَاءُ سَرَايَاهُ مَحْجُوجٌ بِخَبَرِهِمْ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ الْحُجَّةَ تَقُومُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَإِنْ زَعَمَ أَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ فَقَدْ أَعْظَمَ الْقَوْلَ ، وَإِنْ قَالَ : لَمْ يَكُنْ هَذَا أَنْكَرَ خَبَرِ الْعَامَّةِ عَمَن وَصَفْتَ ، وَصَارَ إِلَى طَرْحِ خَبَرِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ ، وَبَسَطَ الشَّافِعِيُّ الْكَلَامَ فِي هَذَا وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ : هَذَا عِنْدِي كَمَا وَصَفْتَ فَتَجِدُ حُجَّةً عَلَى مَن رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَا جَاءَكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا وَافَقَهُ فَأَنَا قُلْتُهُ ، وَمَا خَالَفَهُ فَلَمْ أَقُلْهُ " قَالَ الشَّافِعِيُّ فَقُلْتُ لَهُ : مَا رَوَى هَذَا أَحَدٌ يُثْبَتُ حَدِيثُهُ فِي شَيْءٍ صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ ، فَيُقَالُ لَنَا : قَدْ ثَبَتُّمْ حَدِيثَ مَن رَوَى هَذَا فِي شَيْءٍ ، قَالَ : وَهَذِهِ أَيْضًا رِوَايَةٌ مُنْقَطِعَةٌ عَن رَجُلٍ مَجْهُولٍ ، وَنَحْنُ لَا نَقْبَلُ مِثْلَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي شَيْءٍ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ *
7 مَا أَخْبَرَنَا بِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو فِي كِتَابِ السِّيَرِ قَالَا : أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ ، قَالَ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ قَالَ : قَالَ أَبُو يُوسُفَ : حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ أَبِي كَرِيمَةَ ، عَن أَبِي جَعْفَرٍ ، عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ دَعَا الْيَهُودَ فَسَأَلَهُمْ فَحَدَّثُوهُ حَتَّى كَذَبُوا عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَصَعِدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْمِنبَرَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ : " إِنَّ الْحَدِيثَ سَيَفْشُو عَنِّي فَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ الْقُرْآنَ فَهُوَ عَنِّي وَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي يُخَالِفُ الْقُرْآنَ فَلَيْسَ عَنِّي "(1/367)
قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَيْسَ يُخَالِفُ الْحَدِيثُ الْقُرْآنَ وَلَكِنَّ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُبَيِّنُ مَعْنَى مَا أَرَادَ خَاصًّا وَعَامًّا وَنَاسِخًا وَمَنسُوخًا ، ثُمَّ يُلْزِمُ النَّاسَ مَا سَنَّ بِفَرْضِ اللَّهِ ، فَمَن قَبِلَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَنِ اللَّهِ قَبِلَ . قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ : هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُنْقَطِعَةٌ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَجْهُولِ حَدِيثَ خَالِدِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ ، وَلَمْ يُعْرَفْ مِن حَالِهِ مَا يَثْبُتُ بِهِ خَبَرُهُ ، وَقَدْ رُوِيَ مِن أَوْجُهٍ أُخَرَ كُلِّهَا ضَعِيفٌ ، قَدْ بَيَّنْتُ ضَعْفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنهَا فِي كِتَابِ الْمَدْخَلِ *
وعَن طَاوُسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَا يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَيَّ بِشَيْءٍ ؛ فَإِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ إِلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ ، وَلَا أُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ "
قَالَ الشَّافِعِيُّ : هَذَا مُنْقَطِعٌ وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنهُ ، وَفَرَضَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ عَلَى خَلْقِهِ ، وَمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ مِن هَذَا إِلَّا مَا تَمَسَّكُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ ثُمَّ عَن رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ عَن دَلَالَتِهِ ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ إِنْ كَانَ قَالَهُ : " لَا يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَيَّ بِشَيْءٍ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ كَانَ بِمَوْضِعِ الْقُدْوَةِ فَقَدْ كَانَتْ لَهُ خَوَاصٌّ أُبِيحَ لَهُ فِيهَا مَا لَمْ يُبَحْ لِلنَّاسِ ، وَحُرِّمَ عَلَيْهِ فِيهَا مَا لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى النَّاسِ . فَقَالَ : " لَا يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَيَّ بِشَيْءٍ مِنَ الَّذِي لِي أَوْ عَلَيَّ دُونَهُمْ " قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأَمَّا قَوْلُهُ : " فَإِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ إِلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَلَا أُحَرِّمُ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ " ، فَكَذَلِكَ صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَبِذَلِكَ أَمَرَ وَافْتَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ ، وَنَشْهَدُ أَنْ قَدِ اتَّبَعَهُ ، فَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَحْيٌ فَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ فِي الْوَحْيِ اتِّبَاعَ سُنَّتِهِ فِيهِ ، فَمَن قَبِلَ عَنهُ فَإِنَّمَا قَبِلَ بِفَرْضِ اللَّهِ ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنهُ فَانْتَهُوا ، وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ وَرُوِّينَا عَن أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ أَخَذَ بِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ حَدِيثَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي حُكْمِهِ بِدِيَةِ الْأَصَابِعِ مُخْتَلِفَةً ؛ لِاخْتِلَافِهَا فِي الْمَنَافِعِ وَالْجَمَالِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ تُرِكَ حِينَ وُجِدَ فِي كِتَابِ آلِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ " وَرَوَى الشَّافِعِيُّ أَيْضًا حَدِيثَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : الدِّيَةُ لِلْعَاقِلَةِ ، وَلَا تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِن دِيَةِ زَوْجِهَا شَيْئًا ، حَتَّى أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -(1/368)
كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِن دِيَتِهِ ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ عُمَرُ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ أَيْضًا حَدِيثَ عُمَرَ فِي الْجَنِينِ ، وَقَبُولَهُ خَبَرَ حَمَلِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ ، وَقَوْلَهُ : لَوْ لَمْ نَسْمَعْ هَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا وَرَوَى أَيْضًا حَدِيثَ عُمَرَ فِي جِزْيَةِ الْمَجُوسِ وَقَبُولَهُ خَبَرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي ذَلِكَ . وَقَدْ ذَكَرْنَا أَسَانِيدَ هَذِهِ الْآثَارِ فِي مَوْضِعِهَا مِنَ الْكِتَابِ
وفي الْإِبَانَةُ الْكُبْرَى لِابْنِ بَطَّةَ ( 104) عَن سَالِمٍ ، عَن أَبِيهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا عُمَرُ ، لَعَلَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ ثُمَّ يُكَذِّبُنِي ، مَا جَاءَكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنْ وَافَقَهُ ، فَأَنَا قُلْتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ فَلَمْ أَقُلْهُ " .
قَالَ ابْنُ السَّاجِيِّ : قَالَ أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ : وَبَلَغَنِي عَن عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلٌ ، وَالزَّنَادِقَةُ وَضَعَتْ هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ الشَّيْخُ : " وَصَدَقَ ابْنُ السَّاجِيِّ ، وَابْنُ الْمَدِينِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ كِتَابُ اللَّهِ يُخَالِفُهُ ، وَيُكَذِّبُ قَائِلَهُ وَوَاضِعَهُ ، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ ، والسُّنَّة الْمَاضِيَةُ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَرُدُّهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء ، وَالَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ نَسْمَعَ وَنُطِيعَ ، وَلَا نَضْرِبَ لِمَقَالَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَقَايِيسَ ، وَلَا نَلْتَمِسَ لَهَا الْمَخَارِجَ ، وَلَا نُعَارِضَها بِالْكِتَابِ ، وَلَا بِغَيْرِهِ ، وَلَكِنْ نَتَلَقَّاهَا بِالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّسْلِيمِ إِذَا صَحَّتْ بِذَلِكَ الرِّوَايَةُ . وَأَمَّا السُّنَّةُ الْوَارِدَةُ عَنهُ - صلى الله عليه وسلم - الَّتِي تُخَالِفُ هَذَا الْحَدِيثَ الْمَوْضُوعَ الَّتِي نَقَلَهَا أَهْلُ الْعَدَالَةِ وَالْأَمَانَةِ ، فَهُوَ : مَا حَدَّثَنَا "
وعَن عَلِيٍّ ، وَحَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ ثَابِتٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ ، - وَهَذَا لَفْظُهُ - قَالَا : حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَن عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، عَن أَبِي الْبَخْتَرِيِّ ، عَن أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ ، عَن عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ ، قَالَ : " إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا فَظُنُّوا بِرَسُولِ اللَّهِ أَهْنَاهُ ، وَأَتْقَاهُ ، وَأَهْدَاهُ " وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَعْمَشُ فِي حَدِيثِهِ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ . حَدَّثَنَا ابْنُ الصَّوَّافِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي(1/369)
أَبِي ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَن عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، عَن أَبِي الْبَخْتَرِيِّ ، عَن أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ ، عَن عَلِيٍّ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلَهُ أَوْ نَحْوَهُ . " فَالَّذِي ذَكَرْتُهُ رَحِمَكُمُ اللَّهُ فِي هَذَا الْبَابِ مِن طَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَحَضَضْتُ عَلَيْهِ مِنَ اتِّبَاعِ سُنَّتِهِ ، وَاقْتِفَاءِ أَثَرِهِ مُوَافِقٌ كُلُّهُ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ، وَهُوَ طَرِيقُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَعَلَيْهِ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِن فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَهِيَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ ، الَّتِي مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَهَا وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ ، وَسَاءَتْ مَصِيرًا . فَإِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمْ حَدِيثًا عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَوَاهُ الْعُلَمَاءُ ، وَاحْتَجَّ بِهِ الْأَئِمَّةُ الْعُقَلَاءُ ، فَلَا يُعَارِضْهُ بِرَأْيِهِ ، وَهَوَى نَفْسِهِ ، فَيُصِيبَهُ مَا تَوَعَّدَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ ، فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى : {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (63) سورة النور، وَهَلْ تَدْرِي مَا الْفِتْنَةُ هَاهُنَا ؟ هِيَ وَاللَّهِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ، وَالْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} (193) سورة البقرة ، يَقُولُ : حَتَّى لَا يَكُونَ شِرْكٌ فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى : {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِن حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} (191) سورة البقرة ، يَقُولُ : الشِّرْكُ بِاللَّهِ أَشَدُّ مِن قَتْلِكُمْ لَهُمْ ، ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (115) سورة النساء ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِن هَذِهِ الْأَهْوَالِ وَوَفَّقْنَا وَإِيَّاكُمْ لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ ". (1)
وطرق الحديث التي روي بها، معلولة مطعون فيها عند التحقيق العلمي، وهي على هذا لا تصح لئن يستدل بها من الأصل، وهذا حتى على مذهب من يأخذ بالقرآن فقط، لأن
__________
(1) - وانظر طرق الحديث في كشف الخفاء ومزيل الإلباس (220) والفوائد المجموعة للشوكاني بتحقيق المعلمي - (ج 1 / ص 128) واللآلي المصنوعة - (ج 1 / ص 195) وتنزيه الشريعة المرفوعة - (ج 1 / ص 264)(1/370)
القرآن العظيم يأمرنا بالتثبت في نقل الأخبار كما يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات ، فعلى كل الأحوال طالما لم يثبت النقل والنبأ فلا حجة لكم فيه. فثبت بطلان استدلالكم بهذ الحديث.
وكل ما سبق بيانه يتعلق بنقد السند، أما المتن فمعلول أيضا، ويحمل الدليل على وضعه بين طياته، فإن حديثهم المزعوم بطلب عرض أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - على القرآن، فإن وافقه كان حديثا، وإلا فلا، وهذا ما فعله العلماء ثم قالوا: عرضنا حديث العرض على كتاب الله تعالى فوجدناه مكذوبا، فإنا لم نجد آية في كتاب الله تعالى تطلب منا عرض أقوال نبيه - صلى الله عليه وسلم - على القرآن، بل وجدنا عكس ذلك، وجدنا القرآن الكريم يطلب طاعة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بصفة مطلقة وبشكل قاطع، وبدون هذا العرض المزعوم، كما في قوله تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنهُ فَانتَهُوا } (7) سورة الحشر
الدفع السابع : السنَّة تحذرنا منكم ومن مزاعمكم :
1. عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : " أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِن حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِن حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ ، أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ ، وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ ، وَلَا لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ ، إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنهَا صَاحِبُهَا ، وَمَن نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ " ». (1)
وفي رواية عَن المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " " أَلَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ ، فَيَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالًا اسْتَحْلَلْنَاهُ . وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ " " ». (2)
__________
(1) - سنن أبى داود(4606 ) صحيح = يقرى : يكرم الضيف ويقوم بحق ضيافته
(2) - سنن الترمذى(2876 ) صحيح(1/371)
قَالَ الشَّافِعِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَقَدْ أَمَرَ بِاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنهُ وَفَرَضَ اللَّهُ ذَلِكَ فِى كِتَابِهِ عَلَى خَلْقِهِ وَمَا فِى أَيْدِى النَّاسِ مِن هَذَا إِلاَّ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ ثُمَّ عَنِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ عَن دَلاَلَتِهِ وَلَكِنْ قَوْلُهُ إِنْ كَانَ قَالَهُ لاَ يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَىَّ بِشَىْءٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا كَانَ بِمَوْضِعِ الْقُدْوَةِ فَقَدْ كَانَتْ لَهُ خَوَاصٌّ أُبِيحَ لَهُ فِيهَا مَا لَمْ يُبَحْ لِلنَّاسِ وَحَرُمَ عَلَيْهِ فِيهَا مَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ :« لاَ يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَىَّ بِشَىْءٍ مِنَ الَّذِى لِى أَوْ عَلَىَّ دُونَهُمْ فَإِنْ كَانَ مِمَّا عَلَىَّ وَلِى دُونَهُمْ فَلاَ يُمْسِكَنَّ بِهِ ». وَذَلِكَ مِثْلُ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَحَلَّ لَهُ مِن عَدَدِ النِّسَاءِ مَا شَاءَ وَأَنْ يَسْتَنْكِحَ الْمَرْأَةَ إِذَا وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى (خَالِصَةً لَكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) فَلَمْ يَكُنْ لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ : قَدْ جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَكْثَرَ مِن أَرْبَعٍ وَنَكَحَ امْرَأَةً بِغَيْرِ مَهْرٍ وَأَخَذَ صَفِيًّا مِنَ الْمَغْنَمِ وَكَانَ لَهُ خُمُسُ الْخُمُسِ فَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَهُ وَلاَ لِوُلاَتِهِمْ كَمَا يَكُونُ لَهُ لأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ فِى كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ ذَلِكَ لَهُ دُونَهُمْ وَفَرَضَ اللَّهُ أَنْ يُخَيِّرَ أَزْوَاجَهُ فِى الْمُقَامِ مَعَهُ أَوِ الْفِرَاقِ فَلَمْ يَكُنْ لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ عَلَىَّ أَنْ أُخَيِّرَ امْرَأَتِى عَلَى مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِنْ كَانَ قَالَهُ :« لاَ يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَىَّ بِشَىْءٍ ». {ق} قَالَ الشَّيْخُ : وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ الشَّافِعِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِى صِحَّةِ الْخَبَرِ فَقَالَ : إِنْ كَانَ قَالَهُ لأَنَّ الْحَدِيثَ مُرْسَلٌ وَلَيْسَ مَعَهُ مَا يُؤَكِّدُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولاً عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَكُونُ وَاضِحًا وَلِلأُصُولِ مُوَافِقًا. (1)
2. عَن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَافِعٍ عَن أَبِيهِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِن أَمْرِى مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنهُ فَيَقُولُ لاَ نَدْرِى مَا وَجَدْنَا فِى كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ ». (2)
وفي رواية , عَن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ , عَن أَبِيهِ أَبِي رَافِعٍ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا أَعْرِفَنَّ الرَّجُلَ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِن أَمْرِي إِمَّا أَمَرْتُ بِهِ وَإِمَّا نَهَيْتُ عَنهُ ، فَيَقُولُ : مَا أَدْرِي مَا هَذَا ؟ عِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ لَيْسَ هَذَا فِيهِ " (3)
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي(ج 7 / ص 76) (13823)
(2) - سنن أبى داود(4607 ) صحيح
(3) - الْكِفَايَةُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ(10 )(1/372)
3. وعَنِ الْحَسَنِ بْنِ جَابِرٍ , قَالَ : سَمِعْتُ الْمِقْدَامَ بْنَ مَعْدِ يكَرِبٍ يَقُولُ : حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَشْيَاءَ يَوْمَ خَيْبَرَ ثُمَّ قَالَ : " يُوشِكُ رَجُلٌ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثِي فَيَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ , فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِن حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ , وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِن حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ , وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ " ». (1)
وفي رواية عَنِ الْحَسَنِ بْنِ جَابِرٍ , قَالَ : سَمِعْتُ الْمِقْدَامَ بْنَ مَعْدِ يكَرِبٍ يَقُولُ : حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَشْيَاءَ يَوْمَ خَيْبَرَ ثُمَّ قَالَ : " يُوشِكُ رَجُلٌ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثِي فَيَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ , فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِن حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ , وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِن حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ , وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ " (2)
4. عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِىِّ قَالَ نَزَلْنَا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ وَمَعَهُ مَن مَعَهُ مِن أَصْحَابِهِ وَكَانَ صَاحِبُ خَيْبَرَ رَجُلاً مَارِدًا مُنْكَرًا فَأَقْبَلَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَلَكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا حُمُرَنَا وَتَأْكُلُوا ثَمَرَنَا وَتَضْرِبُوا نِسَاءَنَا فَغَضِبَ يَعْنِى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ « يَا ابْنَ عَوْفٍ ارْكَبْ فَرَسَكَ ثُمَّ نَادِ أَلاَ إِنَّ الْجَنَّةَ لاَ تَحِلُّ إِلاَّ لِمُؤْمِنٍ وَأَنِ اجْتَمِعُوا لِلصَّلاَةِ». قَالَ فَاجْتَمَعُوا ثُمَّ صَلَّى بِهِمُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَامَ فَقَالَ « أَيَحْسَبُ أَحَدُكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ قَدْ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلاَّ مَا فِى هَذَا الْقُرْآنِ أَلاَ وَإِنِّى وَاللَّهِ قَدْ وَعَظْتُ وَأَمَرْتُ وَنَهَيْتُ عَن أَشْيَاءَ إِنَّهَا لَمِثْلُ الْقُرْآنِ أَوْ أَكْثَرُ وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ بِإِذْنٍ وَلاَ ضَرْبَ نِسَائِهِمْ وَلاَ أَكْلَ ثِمَارِهِمْ إِذَا أَعْطَوْكُمُ الَّذِى عَلَيْهِمْ ». (3) .
5. عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَأْتِيَهُ حَدِيثٌ مِن حَدِيثِي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ : دَعُونَا مِن هَذَا , مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَا ". (4)
__________
(1) - مسند أحمد (17657) صحيح
(2) - الْكِفَايَةُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ(7 )
(3) - سنن أبى داود(3052 ) حديث حسن
(4) - الْكِفَايَةُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ( 11)(1/373)
6. إن فتنة الاكتفاء بالقرآن ليست حديثة العهد، فقد قذفها الشيطان في نفوس بعض الناس في القرن الأول، ففي الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ ( 230 ) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ : " السُّنَّةُ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِلتَّنْزِيلِ , وَالْمُوضِحَةُ لِحُدُودِهِ وَشَرَائِعِهِ , أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ حِينَ ذَكَرَ الْحُدُودَ , فَقَالَ : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ , فَجَعَلَهُ حُكْمًا عَامًّا فِي الظَّاهِرِ , عَلَى كُلِّ مَن زَنَا , ثُمَّ حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فِي الثَّيِّبَيْنِ بِالرَّجْمِ , وَلَيْسَ هَذَا بِخِلَافِ الْكِتَابِ , وَلَكِنَّهُ لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا عَنَى بِالْآيَةِ الْبِكْرَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا وَكَذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ الْفَرَائِضَ , فَقَالَ : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ , فَكَانَتِ الْآيَةُ شَامِلَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ , وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ , لَمْ يَكُنْ هَذَا بِخِلَافِ التَّنْزِيلِ , وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا عَنَى بِالْمُوَارَثَةِ أَهْلَ الدِّينِ الْوَاحِدِ دُونَ أَهْلِ الدِّينَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ , وَكَذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ الْوُضُوءَ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ , ثُمَّ مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْخُفَّيْنِ وَأَمَرَ بِهِ , تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا عَنَى بِغُسْلٍ الأَرْجُلِ , إِذَا كَانَتِ الْأَقْدَامُ بَادِيَةً , لَا خِفَافَ عَلَيْهَا , وَكَذَلِكَ شَرَائِعُ الْقُرْآنِ كُلُّهَا , إِنَّمَا نَزَلَتْ جُمَلًا حَتَّى فَسَّرَتْهَا السُّنَّةُ"
وعَن قَتَادَةَ : أَنَّ عِكْرِمَةَ , أَنْكَرَ مَسَحَ الْخُفَّيْنِ , فَقُلْتُ لَهُ : إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ قَالَ : " ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا خَالَفَ الْقُرْآنَ لَمْ يُؤْخَذْ عَنهُ " قَالَ هَمَّامٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : عَن قَتَادَةَ قَالَ : قُلْتُ لِعِكْرِمَةَ : لَوْلَا ابْنُ عَبَّاسٍ مَا سَأَلَكَ أَحَدٌ عَن شَيْءٍ قُلْتُ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِن عِكْرِمَةَ , وَإِنَّمَا مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عِنْدَهُ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَهُ , وَحَمَلَ الْآيَةَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا عِكْرِمَةُ عَلَى مَا ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ , أَنَّ الْمُرَادَ بِغَسْلِ الْأَرْجُلِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَسْتُورَةً بِالْخِفَافِ , أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَّرَتْ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "
وعَن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ , أَنَّهُمْ تَذَاكَرُوا عِنْدَهُ الْأَحَادِيثَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : دَعَوْنَا مِنَ الْحَدِيثِ , وَهَاتُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى , فَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ(1/374)
حُصَيْنٍ : " إِنَّكَ لَأَحْمَقُ , أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الصَّلَاةَ مُفَسَّرَةً , فِي كِتَابِ اللَّهِ الصِّيَامُ مُفَسَّرٌ ؟ , الْكِتَابُ أَحْكَمَهُ والسُّنَّة فَسَّرَتْهُ "
وعَن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : أَنَّ رَجُلًا , أَتَاهُ فَسَأَلَهُ عَن شَيْءٍ , فَحَدَّثَهُ , فَقَالَ الرَّجُلُ : حَدِّثُوا عَن كِتَابِ اللَّهِ , وَلَا تُحَدِّثُوا عَن غَيْرِهِ , فَقَالَ : " إِنَّكَ امْرُؤٌ أَحْمَقُ , أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ , أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ أَرْبَعٌ لَا يُجْهَرُ فِيهَا ؟ - وَعَدَّ الصَّلَوَاتِ , وَعَدَّ الزَّكَاةَ وَنَحْوَهَا ثُمَّ قَالَ : أَتَجِدُ هَذَا مُفَسَّرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ قَدْ أَحْكَمَ ذَلِكَ , والسُّنَّة تُفَسِّرُ ذَلِكَ "
وعَنِ الْحَسَنِ : أَنَّ رَجُلًا , قَالَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : يَا أَبَا نُجَيْدٍ , إِنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونَا بِأَحَادِيثَ , اللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِهَا , حَدِّثُونَا بِالْقُرْآنِ قَالَ : " الْقُرْآنُ وَاللَّهِ نَعَمْ , أَرَأَيْتَ لَوْ رَفَعْنَا إِلَيْهِ , وَقَدْ وَجَدْتَ فِي الْقُرْآنِ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ , ثُمَّ لَمْ نَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , كَيْفَ سَنَّ لَنَا , كَيْفَ نَرْكَعُ , كَيْفَ كُنَّا نَسْجُدُ ،كَيْفَ كُنَّا نُعْطِي زَكَاةَ أَمْوَالِنَا قَالَ : فَأَفْحَمَ الرَّجُلُ "
وعَنِ الْحَسَنِ , قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : يَا أَبَا نُجَيْدٍ , حَدِّثْنَا بِالْقُرْآنِ , قَالَ : " أَلَيْسَ تَقْرَأُ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ , أَكُنْتُمْ تَعْرِفُونَ مَا فِيهَا , وَمَا رُكُوعُهَا وَسُجُودُهَا , وَحُدُودُهَا , وَمَا فِيهَا ؟ أَكُنْتَ تَدْرِي كَمِ الزَّكَاةُ فِي الْوَرِقِ وَالذَّهَبِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ , وَأَصْنَافِ الْمَالِ ؟ شَهِدْتَ وَوَعَيْتَ فَرْضَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فِي الزَّكَاةِ كَذَا وَكَذَا " قَالَ الرَّجُلُ : أَحْيَيْتَنِي يَا أَبَا نُجَيْدٍ , أَحْيَاكَ اللَّهُ كَمَا أَحْيَيْتَنِي قَالَ : فَمَا مَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ حَتَّى كَانَ مِن فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ "
الشبهة الثانية - حجيةُ السنَّة
لاشك أن بيان أن السنَّة وحي من عند الله هو بحث مستقل، قامت عليه مجموعة من الأدلة، أوردناها في قسم السنة المطهرة، وما نتاوله هنا هو الرد على شبهة حجية السنة.
1. بيانُ مهمة الرسل :
وقد فهم سلف هذه الأمة مهمة الرسل على الوجه الصحيح، ولم يجادل أحد منهم في كون: البلاغ والبيان هما جوهر الرسالات السماوية، قال تعالى: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (44) سورة النحل ، ويقول كذلك: { وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (64)(1/375)
سورة النحل ، وقال تعالى: ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) [القيامة/16-19])، إن البيان الذي سيقوم به النبي صلى الله عليه وسلم هي مهمة سيتولاها الحق تبارك وتعالى بنفسه حين قال (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ).
* { وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (18) سورة العنكبوت
* { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ} (48) سورة الشورى
* { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ } (35) سورة النحل
وقد نطق الرسول بالقرآن وذلك هو البلاغ, كما نطق بالسنّضة وهي البيان, فالسنَّة إذن حقٌّ من وحي الله، وقال الأوزاعي: { وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } أي: بالسنة. (1)
وما اختلف أحد من السلف عن حقيقة كون الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى, يقول جل شأنه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) [النجم/3، 4])
2. ثواب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم كما بشَّر بها القرآن الكريم
إن دعوى الاكتفاء بالقرآن الكريم تحرم أتباعها من أسباب سعادتهم في الدنيا والآخرة، فهم يخسرون ما يلي:-
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 4 / ص 595)(1/376)
* حبُّ الله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (31) سورة آل عمران ، إن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، هو الإثبات العملي لمحبة الله.
* الهدايةُ: { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (54) سورة النور.
* الرحمةُ: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (132) سورة آل عمران
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (56) سورة النور
{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (71) سورة التوبة
* الحياةُ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (24) سورة الأنفال
* وهناك آيات كثيرة منها : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء ، وقوله : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (157) سورة الأعراف ، وقوله : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (36) سورة الأحزاب.
3. إثباتُ حجية السنَّة من السنَّة :(1/377)
* عَنِ الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ أَطَاعَنِى فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ عَصَى اللَّهَ ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِى فَقَدْ أَطَاعَنِى ، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِى فَقَدْ عَصَانِى » (1) .
* عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِنِّي خَلَّفْتُ فِيكُمُ اثْنَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا أَبَدًا : كِتَابَ اللَّهِ وَنَسَبِي ، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ " . رَوَاهُ الْبَزَّارُ (2)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ , قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , عَلَيْنَا فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ , وَنَحْنُ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ , فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ لِيَتَأَخَّرَ , فَأَشَارَ إِلَيْهِ مَكَانَكَ , وَصَلَّى مَعَ النَّاسِ , فَلَمَّا انْصَرَفَ , حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ , إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ : كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي فَاسْتَنْطِقُوا الْقُرْآنَ بِسُنَّتِي , وَلَا تُعْسِفُوهُ , فَإِنَّهُ لَنْ تَعْمَى أَبْصَارُكُمْ , وَلَنْ تَزُلْ أَقْدَامُكُمْ , وَلَنْ تُقْصَرَ أَيْدِيكُمْ مَا أَخَذْتُمْ بِهِمَا " (3)
* عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، إِلاَّ مَنْ أَبَى » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ « مَنْ أَطَاعَنِى دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ أَبَى » (4) .
* عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا ». فَقَالَ رَجُلٌ أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاَثًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ - ثُمَّ
__________
(1) - صحيح البخارى(7137 )
(2) - مسند البزار( 8993) و المستدرك للحاكم (319) والصحيحة (1761) وصحيح الجامع (3232) صحيح لغيره
(3) - الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ( 272 ) حسن لغيره
(4) - صحيح البخارى(7280 )(1/378)
قَالَ - ذَرُونِى مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَىْءٍ فَدَعُوهُ ». (1)
* عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو السُّلَمِىُّ وَحُجْرِ بْنِ حُجْرٍ قَالاَ أَتَيْنَا الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ (وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) فَسَلَّمْنَا وَقُلْنَا أَتَيْنَاكَ زَائِرِينَ وَعَائِدِينَ وَمُقْتَبِسِينَ. فَقَالَ الْعِرْبَاضُ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا فَقَالَ « أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ ». (2) .
* عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ السُّلَمِيِّ ، أَنَّهُ سَمِعَ عِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ يَقُولُ : " وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ؟ قَالَ : " تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ وَمَنْ يَعِشْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ، فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْآنِفِ كُلَّمَا قِيدَ انْقَادَ " (3)
__________
(1) - صحيح مسلم(3321)
(2) - سنن أبى داود( 4609 ) صحيح = النواجذ : جمع ناجذ وهو أقصى الأضراس
(3) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ (1383 ) صحيح
قَالَ : أَحْمَدُ بْنُ عُمرٍو الْبَزَّارُ : حَدِيثُ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ فِي الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ، هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ صَحِيحٌ وَهُوَ أَصَحُّ إِسْنَادًا مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ " اقْتَدُوا بِالَّذِينَ مِنْ بَعْدِي " ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلِفٌ فِي إِسْنَادِهِ وَمُتَكَلَّمٌ فِيهِ مِنْ أَجْلِ مَوْلَى رِبْعِيٍّ هُوَ مَجْهُولٌ عِنْدَهُمْ " قَالَ أَبُو عُمَرَ : " هُوَ كَمَا قَالَهُ الْبَزَّارُ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدِيثُ عِرْبَاضٍ حَدِيثٌ ثَابِتٌ ، وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَقَدْ رَوَى عَنْ مَوْلَى رِبْعِيٍّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ ، وَهُوَ كَبِيرٌ وَلَكِنَّ الْبَزَّارَ وَطَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ الْمُحَدِّثَ إِذَا لَمْ يُحَدِّثْ عَنْهُ رَجُلَانِ فَصَاعِدًا فَهُوَ مَجْهُولٌ ، وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ حَدَّثَنَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ قَاسِمٍ ، ثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ ثنا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ ثنا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ الْكُوفِيُّ ثنا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ ح ، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ وَسَعِيدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَا : نا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي نا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ : أنا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ ، عَنْ مَوْلًى لِرِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ(1/379)
* عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيَّ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ "
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، " أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ الْخَمِيسَ قَائِمًا فَيَقُولُ : إِنَّمَا هُمَا اثْنَانِ الْهَدْيُ وَالْكَلَامُ ، فَأَفْضَلُ الْكَلَامِ وَأَصْدَقُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَأَحْسَنُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، أَلَا وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ، أَلَا لَا يَتَطَاوَلَنَّ عَلَيْكُمُ الْأَمَدُ فَتَقْسُوا قُلُوبُكُمْ ، وَلَا يُلْهِيَنَّكُمُ الْأَمَلُ فَإِنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ أَلَا إِنَّ بَعِيدًا مَا لَيْسَ آتِيًا "
وعَنْ مُوَرِّقٍ قَالَ : قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " تَعَلَّمُوا السُّنَّةَ وَالْفَرَائِضَ " (1)
4. أنواعُ بيان السنَّة للقرآن الكريم
* تفصيل المجمل: ومن أمثلة هذا التفصيل الأحكام التالية:
1. أحكام الطهارة ورفع الجنابة وسنن الوضوء.
2. عدد ركعات كل صلاة، ومواقيت الصلوات.
3. قيمة زكاة الفطر، وزكاة المال على اختلاف مصادره، كزكاة الذهب والفضة وعروض التجارة، وزكاة المحاصيل التي تسقى بماء الأمطار، أو تلك التي يتكبد الزارع مشقة الري من الآبار أو الأنهار، وزكاة الركاز.
4. مواقيت الإحرام وأنواع الحج ومناسكه والكفارات،،
5. أحكام البيوع والهبات واللقطة وصور الربا.
* تخصيص العام
المثال الأول: تحريمُ الميتة
ورد تحريم الميتة في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، منها:
__________
(1) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ (1381 و1382و1383) صحيح(1/380)
1. { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (173) سورة البقرة
2. { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (115) سورة النحل
3. { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (3) سورة المائدة
4. إن تطبيق الحكم العام في هذه الآيات يجعلنا نحرم تناول كل ما يستخرج من البحار والأنهار من أسماك، فجاءت السنَّة لبيان التخصيص فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ ». (1)
وقال ابن كثير : " وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } [المائدة: 96] على ما سيأتي، وحديث العنبر في الصحيح وفي المسند والموطأ والسنن قوله، عليه السلام، في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وروى الشافعي وأحمد وابن ماجة والدارقطني من حديث ابن عمر مرفوعًا: "أحل لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال" وسيأتي تقرير ذلك في سورة المائدة " (2)
وقال ابن العربي (3) : " الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ وَخُصُوصِهَا : رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : - « أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ » .ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ ،.
__________
(1) - مسند أحمد(5856) حسن لغيره
(2) - تفسير ابن كثير - (ج 1 / ص 481) وانظر أحكام القرآن للجصاص - (ج 1 / ص 267)
(3) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 1 / ص 92)(1/381)
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَخْصِيصِ ذَلِكَ : فَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَهُ فِي الْجَرَادِ وَالسَّمَكِ ، وَأَجَازَ أَكْلَهُمَا مِنْ غَيْرِ مُعَالَجَةٍ وَلَا ذَكَاةٍ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ فِي السَّمَكِ وَأَجَازَهُ فِي الْجَرَادِ ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَمَعَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ، فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَا يَصِحُّ سَنَدُهُ .
وَلَكِنَّهُ وَرَدَ فِي السَّمَكِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ جِدًّا : فِي الصَّحِيحَيْنِ فعَنْ جَابِرٍ قَالَ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ نَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً - قَالَ - فَقُلْتُ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِهَا قَالَ نَمَصُّهَا كَمَا يَمَصُّ الصَّبِىُّ ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إِلَى اللَّيْلِ وَكُنَّا نَضْرِبُ بِعِصِيِّنَا الْخَبَطَ ثُمَّ نَبُلُّهُ بِالْمَاءِ فَنَأْكُلُهُ قَالَ وَانْطَلَقْنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَرُفِعَ لَنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ فَأَتَيْنَاهُ فَإِذَا هِىَ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرَ قَالَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَيْتَةٌ ثُمَّ قَالَ لاَ بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا قَالَ فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا وَنَحْنُ ثَلاَثُ مِائَةٍ حَتَّى سَمِنَّا قَالَ وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا نَغْتَرِفُ مِنْ وَقْبِ عَيْنِهِ بِالْقِلاَلِ الدُّهْنَ وَنَقْتَطِعُ مِنْهُ الْفِدَرَ كَالثَّوْرِ - أَوْ كَقَدْرِ الثَّوْرِ - فَلَقَدْ أَخَذَ مِنَّا أَبُو عُبَيْدَةَ ثَلاَثَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَأَقْعَدَهُمْ فِى وَقْبِ عَيْنِهِ وَأَخَذَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلاَعِهِ فَأَقَامَهَا ثُمَّ رَحَلَ أَعْظَمَ بَعِيرٍ مَعَنَا فَمَرَّ مِنْ تَحْتِهَا وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ « هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَىْءٌ فَتُطْعِمُونَا ». قَالَ فَأَرْسَلْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْهُ فَأَكَلَهُ.. (1)
__________
(1) - صحيح مسلم(5109 )
الخبط : الورق الساقط عند خبط الشجرة بالعصا وهو من علف الدواب = الفدر : جمع الفدرة وهى القطعة = الكثيب : الرمل المجتمع =الوشائق : جمع الوشيقة وهى لحم يقدد حتى ييبس أو يغلى قليلا ويحمل فى الأسفار =الوشائق : جمع الوشيقة وهى لحم يقدد حتى ييبس أو يغلى قليلا ويحمل فى الأسفار =الوقب : داخل العين ونقرتها(1/382)
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِى بُرْدَةَ - وَهُوَ مِنْ بَنِى عَبْدِ الدَّارِ - أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا أَفَنَتَوَضَّأُ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ » (1) .
فَهَذَا الْحَدِيثُ يُخَصِّصُ بِصِحَّةِ سَنَدِهِ عُمُومَ الْقُرْآنِ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ ، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ .
وَيَعْضُدُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (96) سورة المائدة .
فَصَيْدُهُ مَا صِيدَ وَتُكَلِّفُ أَخْذُهُ ، وَطَعَامُهُ مَا طَفَا عَلَيْهِ ، أَوْ جَزَرَ عَنْهُ . اهـ
المثال الثاني: تخصيصُ العام في آية المواريث بالسنَّة
1. ميراث البنتين: قوله سبحانه: { يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا} (11) سورة النساء ، تحدد هذه الآية ميراث البنت الواحدة، والبنات أكثر من اثنتين، فما تبيان ميراث البنتين؟ هذا ما نصت عليه السنة.
فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ بِابْنَتَيْهَا مِنْ سَعْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالاً وَلاَ تُنْكَحَانِ إِلاَّ وَلَهُمَا مَالٌ. قَالَ « يَقْضِى اللَّهُ فِى ذَلِكَ ». فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه
__________
(1) - موطأ مالك(42 ) صحيح مشهور(1/383)
وسلم- إِلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ « أَعْطِ ابْنَتَىْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِىَ فَهُوَ لَكَ ». (1)
2. استثناء مال الأنبياء من قواعد الميراث، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ - عَلَيْهَا السَّلاَمُ - وَالْعَبَّاسَ أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ يَلْتَمِسَانِ مِيرَاثَهُمَا ، أَرْضَهُ مِنْ فَدَكٍ ، وَسَهْمَهُ مِنْ خَيْبَرَ .فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « لاَ نُورَثُ ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ فِى هَذَا الْمَالِ » . وَاللَّهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَبُّ إِلَىَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِى . (2)
وعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ النَّصْرِىُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - دَعَاهُ إِذْ جَاءَهُ حَاجِبُهُ يَرْفَا فَقَالَ هَلْ لَكَ فِى عُثْمَانَ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ يَسْتَأْذِنُونَ فَقَالَ نَعَمْ ، فَأَدْخِلْهُمْ . فَلَبِثَ قَلِيلاً ، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ هَلْ لَكَ فِى عَبَّاسٍ وَعَلِىٍّ يَسْتَأْذِنَانِ قَالَ نَعَمْ . فَلَمَّا دَخَلاَ قَالَ عَبَّاسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، اقْضِ بَيْنِى وَبَيْنَ هَذَا ، وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ فِى الَّذِى أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بَنِى النَّضِيرِ ، فَاسْتَبَّ عَلِىٌّ وَعَبَّاسٌ ، فَقَالَ الرَّهْطُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، اقْضِ بَيْنَهُمَا وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنَ الآخَرِ . فَقَالَ عُمَرُ اتَّئِدُوا ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِى بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ نُورَثُ ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ » . يُرِيدُ بِذَلِكَ نَفْسَهُ . قَالُوا قَدْ قَالَ ذَلِكَ . فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَبَّاسٍ وَعَلِىٍّ فَقَالَ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ قَالَ ذَلِكَ قَالاَ نَعَمْ . قَالَ فَإِنِّى أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأَمْرِ ، إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - فِى هَذَا الْفَىْءِ بِشَىْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ ( وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ) إِلَى قَوْلِهِ ( قَدِيرٌ ) فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ ، وَلاَ اسْتَأْثَرَهَا عَلَيْكُمْ ، لَقَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَقَسَمَهَا فِيكُمْ ، حَتَّى بَقِىَ هَذَا الْمَالُ مِنْهَا ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله
__________
(1) - سنن الترمذى(2236 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ ، وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 7 / ص 74)
(2) - صحيح البخارى(4035 )(1/384)
عليه وسلم - يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِىَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ ، فَعَمِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَيَاتَهُ ، ثُمَّ تُوُفِّىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فَأَنَا وَلِىُّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَبَضَهُ أَبُو بَكْرٍ ، فَعَمِلَ فِيهِ بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ . فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ وَقَالَ تَذْكُرَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ عَمِلَ فِيهِ كَمَا تَقُولاَنِ ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُ فِيهِ لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ أَنَا وَلِىُّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِى بَكْرٍ . فَقَبَضْتُهُ سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِى أَعْمَلُ فِيهِ بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّى فِيهِ صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ ، ثُمَّ جِئْتُمَانِى كِلاَكُمَا وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ ، فَجِئْتَنِى - يَعْنِى عَبَّاسًا - فَقُلْتُ لَكُمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ نُورَثُ ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ » . فَلَمَّا بَدَا لِى أَنْ أَدْفَعَهُ إِلَيْكُمَا قُلْتُ إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهُ إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلاَنِ فِيهِ بِمَا عَمِلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ ، وَمَا عَمِلْتُ فِيهِ مُذْ وَلِيتُ ، وَإِلاَّ فَلاَ تُكَلِّمَانِى ، فَقُلْتُمَا ادْفَعْهُ إِلَيْنَا بِذَلِكَ . فَدَفَعْتُهُ إِلَيْكُمَا ، أَفَتَلْتَمِسَانِ مِنِّى قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ فَوَاللَّهِ الَّذِى بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ أَقْضِى فِيهِ بِقَضَاءٍ غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهُ ، فَادْفَعَا إِلَىَّ فَأَنَا أَكْفِيكُمَاهُ . (1)
3. عند اختلاف الديانة لا يتم التوارث، فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رضى الله عنهما - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ ، وَلاَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ » (2)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى ». (3)
4. استثناء القاتل الذي يقتل المورث استعجالا لإرثه، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الْقَاتِلُ لاَ يَرِثُ ». (4)
__________
(1) - صحيح البخارى(4033 )
(2) - صحيح البخارى(6764 ) ومسلم(4225)
(3) - سنن أبى داود( 2913 ) صحيح
(4) - سنن الترمذى(2255 ) حسن لغيره وقد ورد نحوه مرفوعاً وموقوفاً ومقطوعاً انظر مصنف ابن أبي شيبة (ج 11 / ص 358) ( 32044- 32057)
، قال الترمذي : وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْقَاتِلَ لاَ يَرِثُ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً فَإِنَّهُ يَرِثُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.(1/385)
ومنه استدل الفقهاء بقاعدة: مَنَ اسْتَعْجَل بِشَيْءٍ قَبْل أَوَانِهِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِهِ ،. (1)
5. كما استقلت السنة بتشريع حكم توريث الجدة. فعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ جَاءَتِ الْجَدَّةُ إِلَى أَبِى بَكْرٍ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا. قَالَ فَقَالَ لَهَا مَا لَكِ فِى كِتَابِ اللَّهِ شَىْءٌ وَمَا لَكِ فِى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَىْءٌ فَارْجِعِى حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ. فَسَأَلَ النَّاسَ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطَاهَا السُّدُسَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الأَنْصَارِىُّ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْرٍ.
قَالَ ثُمَّ جَاءَتِ الْجَدَّةُ الأُخْرَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا فَقَالَ مَا لَكِ فِى كِتَابِ اللَّهِ شَىْءٌ وَلَكِنْ هُوَ ذَاكَ السُّدُسُ فَإِنِ اجْتَمَعْتُمَا فِيهِ فَهُوَ بَيْنَكُمَا وَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا. (2)
* السنَّة تفسرُ آيات قرآنية:
1. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَمَّا نَزَلَتِ { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (82) سورة الأنعام قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (13) سورة لقمان. (3) .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 3 / ص 24) و(ج 18 / ص 17) و(ج 43 / ص 245) والمنثور في القواعد - (ج 3 / ص 297) والأشباه والنظائر - (ج 1 / ص 274) وغمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر - (ج 2 / ص 452) وشرح القواعد الفقهية ــ للزرقا - (ج 1 / ص 293) والأشباه والنظائر لابن نجيم - (ج 1 / ص 159) وقواعد الفقه - (ج 1 / ص 129)
(2) - سنن الترمذى(2246 و2247) صحيح
(3) - صحيح البخارى(32، 3360، 3428 ، 3429 ، 4629 ، 4776 ، 6918 ، 6937 )(1/386)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَالُوا أَيُّنَا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ (يَا بُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (1)
2. لابد من الرجوع إلى السنة لمعرفة أحكام القرآن نفسه، وتمييز الناسخ من المنسوخ.
* استقلال السنة بالتشريع:
إن للسنة أوامرَ ونواهي، ونسوق بعض الأمثلة لا على سبيل الحصر:
ففي مجال الأوامر:
1. إيجاب زكاة الفطر ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى ، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ (2) .
2. إيجاب فكاك الأسير ، عَنْ أَبِى مُوسَى - رضى الله عنه -قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « فُكُّوا الْعَانِىَ - يَعْنِى الأَسِيرَ - وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ » (3)
3. وجوب نصرة المظلوم ، عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا ، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ « تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ » (4) .
وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ وَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِ وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ
__________
(1) - صحيح مسلم(342 )
(2) - صحيح البخارى(1503؛1504 ، 1507 ، 1509 ، 1511 ، 1512 )
(3) - صحيح البخارى( 3046 ،5174 ، 5373 ، 5649 ، 7173 )
(4) - صحيح البخارى(2444 )(1/387)
وَإِجَابَةِ الدَّاعِى وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ وَعَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَعَنِ الْمَيَاثِرِ وَالْقَسِّيَّةِ وَالإِسْتَبْرَقِ وَالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ." (1)
وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِسَبْعٍ ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ ، أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ ، وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِى ، وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ ، وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ ، وَعَنِ الشُّرْبِ فِى الْفِضَّةِ - أَوْ قَالَ آنِيَةِ الْفِضَّةِ - وَعَنِ الْمَيَاثِرِ وَالْقَسِّىِّ ، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالإِسْتَبْرَقِ . (2)
4- إخراج النساء - حتى الحيض - إلى مصلى العيد ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِى الْفِطْرِ وَالأَضْحَى الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلاَةَ وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ. قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَانَا لاَ يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ قَالَ « لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا ». (3)
5- الأمر بقتل الكلاب ، عن ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِى أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِقَتْلِ الْكِلاَبِ حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ تَقْدَمُ مِنَ الْبَادِيَةِ بِكَلْبِهَا فَنَقْتُلُهُ ثُمَّ نَهَى النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ قَتْلِهَا وَقَالَ « عَلَيْكُمْ بِالأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِى النُّقْطَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ ». (4)
__________
(1) - سنن النسائى (1951) صحيح
الإستبرق : ثياب حرير غليظة = الديباج : ما رق من الحرير =القسية : ثياب من كتان مخلوط بالحرير منسوبة إلى قرية قس بمصر =المياثر : جمع الميثرة وهى من مراكب العجم تعمل من حرير أو ديباج
(2) - صحيح البخارى(5635 ، 1239 ، 2445 ، 5175 ، 5650 ، 5838 ، 5849 ، 5863 ، 6222 ، 6235 ، 6654 )
القسى : ثياب من كتان مخلوط بالحرير منسوبة إلى قرية قس بمصر = المياثر : جمع الميثرة وهى من مراكب العجم تعمل من حرير أو ديباج
(3) - صحيح مسلم(2093 ) -الخدور : جمع الخدر وهو الستر = العواتق : جمع العاتق وهى الشابة أول ما تبلغ
(4) - صحيح مسلم(4103) -البهيم : الأسود الخالص(1/388)
6- إلقاء لحوم الحمر الأهلية ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نُلْقِىَ لُحُومَ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ نِيئَةً وَنَضِيجَةً ثُمَّ لَمْ يَأْمُرْنَا بِأَكْلِهِ. (1)
7- حثو التراب في وجوه المداحين ، عَنْ أَبِى مَعْمَرٍ قَالَ قَامَ رَجُلٌ يُثْنِى عَلَى أَمِيرٍ مِنَ الأُمَرَاءِ فَجَعَلَ الْمِقْدَادُ يَحْثِى عَلَيْهِ التُّرَابَ وَقَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نَحْثِىَ فِى وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ. (2)
وفي مجال النواهي:
1. تحريم الجمع بين المرأة وخالتها أو عمتها. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا ، وَلاَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا » (3) .
2. حكم من جامع أهله في نهار رمضان، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَنْتِفُ شَعَرَهُ وَيَدْعُو وَيْلَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا لَكَ ». قَالَ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِى رَمَضَانَ. قَالَ « أَعْتِقْ رَقَبَةً ». قَالَ لاَ أَجِدُهَا. قَالَ « صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ». قَالَ لاَ أَسْتَطِيعُ. قَالَ « أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً ». قَالَ لاَ أَجِدُ. قَالَ فَأُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِعَرَقٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ قَالَ « خُذْ هَذَا فَأَطْعِمْهُ عَنْكَ سِتِّينَ مِسْكِيناً ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنَّا. قَالَ « كُلْهُ أَنْتَ وَعِيَالُكَ ». (4)
3. النهي عن الطواف حول البيت عريانا.، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ بَعَثَنِى أَبُو بَكْرٍ فِى تِلْكَ الْحَجَّةِ فِى مُؤَذِّنِينَ يَوْمَ النَّحْرِ نُؤَذِّنُ بِمِنًى أَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ ، وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ . قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلِيًّا ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ قَالَ
__________
(1) - صحيح مسلم( 5127 )
(2) - صحيح مسلم ( 7697)
(3) - صحيح البخارى(5109 )
(4) - مسند أحمد(7130) صحيح واصله في الصحيح
العرق : مكتل يسع ثلاثين صاعا = اللابة : أرض ذات حجارة سود كثيرة والمدينة بين لابتين(1/389)
أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِىٌّ فِى أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ لاَ يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ ، وَلاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ . (1)
4. النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ أُكِلَتِ الْحُمُرُ . فَسَكَتَ ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ أُكِلَتِ الْحُمُرُ . فَسَكَتَ ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ فَقَالَ أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ . فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى فِى النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ . فَأُكْفِئَتِ الْقُدُورُ ، وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ . (2)
5. النهي عن أكل ذي ناب من السباع. عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِى إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِىِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِىَّ يَقُولُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِى نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَلَمْ أَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ عُلَمَائِنَا بِالْحِجَازِ حَتَّى حَدَّثَنِى أَبُو إِدْرِيسَ وَكَانَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الشَّامِ. (3)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « كُلُّ ذِى نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ ». (4)
6. النهي عن أكل الجوارح من الطيور ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ كُلِّ ذِى نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَعَنْ كُلِّ ذِى مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ. (5)
* تقييدُ المطلق:
يقول سبحانه { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (38) سورة المائدة ، ويبقى السؤال: كيف نقطع يد السارق؟ أمن الكف
__________
(1) - صحيح البخارى(369 ، 1622 ، 3177 ، 4363 ، 4655 ، 4656 ، 4657 )
(2) - صحيح البخارى(4199 ، 371 ، 610 ، 947 ، 2228 ، 2235 ، 2889 ، 2893 ، 2943 ، 2944 ، 2945 ، 2991 ، 3085 ، 3086 ، 3367 ، 3647 ، 4083 ، 4084 ، 4197 ، 4198 ، 4200 ، 4201 ، 4211 ، 4212 ، 4213 ، 5085 ، 5159 ، 5169 ، 5387 ، 5425 ، 5528 ، 5968 ، 6185 ، 6363 ، 6369 ، 7333 )
(3) - صحيح البخارى(5527 ) وصحيح مسلم(5098 )
(4) - صحيح مسلم(5101 )
(5) - صحيح مسلم(5103 )(1/390)
أم الرسغ أم الكوع ? وفي كم تقطع؟ أكل من سرق رغيف خبز ليأكله قطعنا يده؟ ومتى نقيم هذا الحد؟ أنقيمه في الغزو أو السفر؟ وهل حدُّ من سرق مرة هو نفس حدُّ من سرق مرات ومرات؟ كلُّ تلك الأمور تولتِ السنة تبيانَ أحكامها.
عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِى رُبُعِ دِينَارٍ » (1)
وعَنْ عَدِىٍّ : أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَطَعَ يَدَ سَارِقٍ مِنَ الْمَفْصِلِ. (2)
و ذَهَبَ فُقَهَاءُ الأَْمْصَارِ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِي السَّرِقَةِ هُوَ قَطْعُ الْيُمْنَى مِنَ الرُّسْغِ ؛ لأَِنَّ الْمَنْصُوصَ قَطْعُ الْيَدِ ، وَقَطْعُ الْيَدِ قَدْ يَكُونُ مِنَ الرُّسْغِ ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْمِرْفَقِ ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْمَنْكِبِ ، وَلَكِنْ هَذَا الإِْبْهَامُ زَال بِبَيَانِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ مِنَ الرُّسْغِ ؛ وَلأَِنَّ هَذَا الْقَدْرَ مُتَيَقَّنٌ بِهِ ، وَفِي الْعُقُوبَاتِ إِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْمُتَيَقَّنِ (3)
6. القرآن يأمرنا بالتمسك بالسنة
تهدم آيات القرآن الكريم كل المزاعم التي تخوض في حجية السنة من أساسها، فدعاتها يقولون بوجوب طاعة واحدة لله تعالى، بينما القرآن يأمرنا بثلاث صور من صور الطاعة، بيانها كالتالي:-
* الصورة الأولى: طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في آن واحد وهذا مستمد من الآيات التالية:
1. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} (20) سورة الأنفال.
__________
(1) - صحيح البخارى(6790 )
(2) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 8 / ص 270)(17709) حسن
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 22 / ص 209) و المبسوط للسرخسي 9 / 133 - 134، والمغني 8 / 259 - 260، وروضة الطالبين 10 / 140، والزرقاني 8 / 92
وانظر التفاصيل في الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 24 / ص 292)- سَرِقَةٌ.(1/391)
2. {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (46) سورة الأنفال
3. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (1) سورة الأنفال
4. {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (69) سورة النساء
5. وهذه الصورة من صور الطاعة هي التي يتلقى المسلم من خلالها تعليمات ربه عز وجل على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذه الطاعة تناسب الآيات المحكمات التي لا تحتاج إلى بيان أو تفصيل، فهنا وجبت على المسلم طاعة واحدة لله ورسوله في آن واحد، وتجعل الآيات هذه الطاعة شرطا للإيمان، لقوله تعالى: إن كنتم مؤمنين)، كما تبشر الآيات من يفعل ذلك بصحبة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
* الصورة الثانية: طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (12) سورة التغابن ، ويقول جل شأنه: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} (92) سورة المائدة ، وتوضح خاتمة الآيتين المراد من طاعة الله وطاعة رسوله، حيث يقول جل شأنه: فإنما على رسولنا البلاغ المبين، أي أنه يبلغ عن الله أولا، وبالتالي وجبت طاعة الله تعالى، ثم يبين ويفصل مراد الله تعالى، وهنا وجبت طاعة مستقلة للرسول صلى الله عليه وسلم في بيان ما أبلغه للناس، وتحذرنا الآية القرآنية من الاكتفاء بالقرآن ونبذ السنَّة أن نتيجة ذلك هي بطلان العمل نفسه، يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (33) سورة محمد ، فمن أراد طاعة الله تعالى والقيام بالصلاة، كيف يصحُّ عمله إذا أعرض عن كيفية الصلاة كما نصت عليها سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم.
* الصورة الثالثة: طاعة مستقلة للرسول صلى الله عليه وسلم في مسائل ترك فيها الحق تبارك وتعالى لرسوله مهمتي البلاغ والبيان، حيث لم يرد لها بلاغ في القرآن الكريم،(1/392)
وأوضح دليل على الأمر باتباع السنة، والسمع والطاعة لكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورد في سورة الحشر ذلك قوله تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (7) سورة الحشر ، وتؤكد الآية على عقوبة الاكتفاء بالقرآن، وتحذر من شدة العذاب يوم القيامة، ولا نعرف كيف نكتفي بالقرآن وأول نتيجة يوصلنا إليها هذا النهج هو عصيان آيات الله؟ فالآية تقول: (وما آتاكم الرسول فخذوه)، وهم يقولون: ما آتاكم الرسول فعطلوه ولا تعملوا به، والقرآن يقول: وما نهاكم عنه فانتهوا، والمكتفون بالقرآن يفرقون بين الله وبين رسوله، مع أن طاعة الرسول من طاعة الله، يقول سبحانه: { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (80) سورة النساء ، وليس هناك أوضح من هذه الآية، من يطع الرسول فقد أطاع الله. ويتلخص موقف الإسلام من هذه القضية في قول الله تعالى:-
1. { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (36) سورة الأحزاب.
2. {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء (1) .
__________
(1) - ومرة أخرى نجدنا أمام شرط الإيمان وحدّ الإسلام . يقرره الله سبحانه بنفسه . ويقسم عليه بذاته . فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحد الإسلام ، ولا تأويل لمؤول .
اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام . . وهي أن هذا القول مرهون بزمان ، وموقوف على طائفة من الناس! وهذا قول من لا يدرك من الإسلام شيئاً؛ ولا يفقه من التعبير القرآني قليلاً ولا كثيراً . فهذه حقيقة كلية من حقائق الإسلام؛ جاءت في صورة قسم مؤكد؛ مطلقة من كل قيد . . وليس هناك مجال للوهم أو الإيهام بأن تحكيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو تحكيم شخصه . إنما هو تحكيم شريعته ومنهجه . وإلا لم يبق لشريعة الله وسنة رسوله مكان بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - وذلك قول أشد المرتدين ارتداداً على عهد أبي بكر - رضي الله عنه - وهو الذي قاتلهم عليه قتال المرتدين . بل قاتلهم على ما هو دونه بكثير . وهو مجرد عدم الطاعة لله ورسوله ، في حكم الزكاة؛ وعدم قبول حكم رسول الله فيها ، بعد الوفاة!
وإذا كان يكفي لإثبات « الإسلام » أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله وحكم رسوله . . فانه لا يكفي في « الإيمان » هذا ، ما لم يصحبه الرضى النفسي ، والقبول القلبي ، وإسلام القلب والجنان ، في اطمئنان!
هذا هو الإسلام .. وهذا هو الإيمان . . فلتنظر نفس أين هي من الإسلام؛ وأين هي من الإيمان! قبل ادعاء الإسلام وادعاء الإيمان! في ظلال القرآن - (ج 2 / ص 170)(1/393)
3. { فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (13) سورة المجادلة.
4. { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (158) سورة الأعراف ، إن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم وإتباعه، توصل المؤمن إلى الهداية، لقوله تعالى لعلكم تهتدون.
- - - - - - - - - - - - - - -(1/394)
المبحث الخامس
بيان الفرق بين أهل الحديث وأصحاب الرأي (1)
اعلم أنه كان من العلماء في عصر سعيد بن المسيب وإبراهيم والزهري وفي عصر مالك وسفيان وبعد ذلك قومٌ يكرهون الخوضَ بالرأي، ويهابون الفتيا والاستنباط، إلا لضرورة ، لا يجدون منها بدا، وكان أكبرُ همِّهم روايةَ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فعَن شَقِيقٍ قَالَ : سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ عَن شَىْءٍ فَقَالَ : إِنِّى لأَكْرَهُ أَنْ أُحِلَّ لَكَ شَيْئاً حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ، أَوْ أُحَرِّمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَكَ. (2)
وعن الصَّلْتَ بْنِ رَاشِدٍ قَالَ : سَأَلْتُ طَاوُساً عَن مَسْأَلَةٍ فَقَالَ لِى : كَانَ هَذَا ؟ قُلْتُ : نَعَمْ. قَالَ : آللَّهِ؟ قُلْتُ : آللَّهِ. قَالَ : إِنَّ أَصْحَابَنَا أَخْبَرُونَا عَن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَعْجَلُوا بِالْبَلاَءِ قَبْلَ نُزُولِهِ فَيُذْهَبَ بِكُمْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا ، وَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَعْجَلُوا بِالْبَلاَءِ قَبْلَ نُزُولِهِ لَمْ يَنْفَكَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَن إِذَا سُئِلَ سَدَّدَ ، وَإِذَا قَالَ وُفِّقَ. (3)
وروي نحو ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود في كراهة التكلم فيما لم ينزل ،وعَن جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَقِيَهُ فِى الطَّوَافِ فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا الشَّعْثَاءِ إِنَّكَ مِن فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ فَلاَ تُفْتِ إِلاَّ بِقُرْآنٍ نَاطِقٍ أَوْ سُنَّةٍ مَاضِيَةٍ ، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ غَيْرَ ذَلِكَ هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ. (4)
وعَن أَبِى نَضْرَةَ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ أَبُو سَلَمَةَ الْبَصْرَةَ أَتَيْتُهُ أَنَا وَالْحَسَنُ ، فَقَالَ لِلْحَسَنِ : أَنْتَ الْحَسَنُ؟ مَا كَانَ أَحَدٌ بِالْبَصْرَةِ أَحَبَّ إِلَىَّ لِقَاءً مِنكَ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَنِى أَنَّكَ تُفْتِى بِرَأْيِكَ ، فَلاَ تُفْتِ بِرَأْيِكَ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ سُنَّةٌ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ. (5)
__________
(1) - الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف لولي الله الدهلوي - (ج 1 / ص 15) وحجة الله البالغة - (ج 1 / ص 287)
(2) - سنن الدارمى( 148) صحيح
(3) - سنن الدارمى (155) فيه انقطاع
(4) - سنن الدارمى (166) صحيح
(5) - سنن الدارمى (165) صحيح(1/395)
وعَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ : إِنَّ الْعَالِمَ يَدْخُلُ فِيمَا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فَلْيَطْلُبْ لِنَفْسِهِ الْمَخْرَجَ. (1)
وعَن دَاوُدَ قَالَ : سَأَلْتُ الشَّعْبِىَّ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ إِذَا سُئِلْتُمْ؟ قَالَ : عَلَى الْخَبِيرِ وَقَعْتَ ، كَانَ إِذَا سُئِلَ الرَّجُلُ قَالَ لِصَاحِبِهِ أَفْتِهِمْ ، فَلاَ يَزَالُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الأَوَّلِ. (2)
وعن مَالِكَ - هُوَ ابْنُ مِغْوَلٍ - قَالَ قَالَ لِىَ الشَّعْبِىُّ قَالَ : مَا حَدَّثُوكَ هَؤُلاَءِ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَخُذْ بِهِ ، وَمَا قَالُوهُ بِرَأْيِهِمْ فَأَلْقِهِ فِى الْحُشِّ. (3)
فوقع شيوعُ تدوين الحديث والأثر في بلدان الإسلام، وكتابة الصحف والنسخ حتى قلَّ من يكون من أهل الرواية إلا كان له تدوينٌ أو صحيفةٌ أو نسخةٌ من حاجتهم بموقع عظيم، فطاف من أدرك من عظمائهم ذلك الزمان بلادَ الحجاز والشام والعراق ومصر واليمن وخراسان، وجمعوا الكتب وتتبعوا النسخ، وأمعنوا في التفحص عن غريب الحديث ونوادر الأثر، فاجتمع باهتمام أولئك من الحديث والآثار ما لم يجتمع لأحدٍ قبلهم ، وتيسَّر لهم ما لم يتيسر لأحد قبلهم، وخلص إليهم من طرق الأحاديث شيءٌ كثير، حتى كان لكثير من الأحاديث عندهم مائةُ طريق فما فوقها، فكشفَ بعضَ الطرق ما استتر في بعضها الآخر ، وعرفوا محلَّ كلِّ حديث من الغرابة والاستفاضة، وأمكن لهم النظر في المتابعات والشواهد، وظهر عليهم أحاديثُ صحيحةٌ كثيرةٌ لم تظهرَ على أهل الفتوى من قبل، وقال أَحْمَدُ بن حنبلٍ : قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيَّ : " يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ , أَنْتَ أَعْلَمُ بِالْأَخْبَارِ الصِّحَاحِ مِنَّا ، فَإِذَا كَانَ خَبَرٌ صَحِيحٌ فَأَعْلِمْنِي حَتَّى أَذْهِبَ إِلَيْهِ كُوفِيًّا كَانَ أَوْ بَصْرِيًّا أَوْ شَامِيًّا " قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : جَمِيعُ مَا حَدَّثَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ : حَدَّثَنِي الثِّقَةُ ، أَوْ أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ ، فَهُوَ أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : وَكِتَابُهُ الَّذِي صَنَّفَهُ بِبَغْدَادَ هُوَ أَعْدَلُ مِن كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ بِمِصْرَ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ حَيْثُ كَانَ هَاهُنَا يَسْأَلُ ، وَسَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ : اسْتَفَادَ مِنَّا الشَّافِعِيُّ مَا لَمْ نَسْتَفِدْ مِنهُ " (4) .
__________
(1) - سنن الدارمى( 139) صحيح
(2) - سنن الدارمى (138) صحيح
(3) - سنن الدارمى (206) صحيح = الحش : البستان
(4) - حلية الأولياء ( 13954 ) صحيح(1/396)
وذلك لأنه كم من حديث صحيح لا يرويه إلا أهل بلد خاصة كأفراد الشاميين والعراقيين أو أهل بيت خاصة، كنسخة بريد عن أبي بردة عن أبي موسى (1) ، ونسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (2) ، أو كان الصحابيُّ مقِلًّا خاملاً لم يحمل عنه إلا شرذمةٌ قليلونَ، فمثلُ هذه الأحاديث يغفلُ عنها عامةُ أهلِ الفتوى، واجتمعتْ عندهم آثارُ فقهاءِ كلِّ بلدٍ من الصحابة والتابعين ، وكانَ الرجلَ فيما قبلهم لا يتمكنُ إلا من جمعِ حديثِ بلدهِ وأصحابهِ، وكان مَن قبلهم يعتمدون في معرفة أسماءِ الرجالِ ومراتب عدالتِهم على ما يخلصُ إليهم من مشاهدة الحالِ، وتتبعِ القرائنَ ، وأمعنَ هذه الطبقةُ في هذا الفنِّ ، وجعلوه شيئاً مستقلًّا بالتدوين والبحث، وناظروا في الحكم بالصحَّةِ وغيرها ، فانكشفَ عليهم بهذا التدوين والمناظرة ما كان خفيًّا من حالِ الاتصاِل والانقطاعِ ، وكان سفيانُ ووكيعُ وأمثالهُما يجتهدونَ غاية الاجتهادِ فلا يتمكنون من الحديث المرفوع المتَّصلِ إلا منْ دون الألف حديثٍ، كما ذكره أبو داودَ السجستانيُّ في رسالته إلى أهل مكة ، وكان أهل هذه الطبقة يروونَ أربعينَ ألفَ حديثٍ، فما يقرب منها، بل صحَّ عن البخاري أنه اختصرَ صحيحه من ستمائةِ ألفِ حديثٍ، وعن أبي داودَ أنه اختصر سننه من خمسمائةِ ألفِ حديثٍ، وجعل أحمدُ مسندَه ميزاناً يعرَفُ به حديثُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فما وُجِدَ فيه ولو بطريقٍ واحدٍ من طرقِه فله أصلٌ، وإلا فلا أصلَ له (3) ، وكان رؤوس هؤلاء عبدُ الرحمن بنُ مهديٍّ، ويحيى بنُ سعيدٍ القطانَ، ويزيدُ بنُ هارونَ، وعبدُ الرزاقِ ، وأبو بكرٍ بنُ أبي شيبةَ
__________
(1) - كما في صحيح البخارى(92 ) عَن بُرَيْدٍ عَن أَبِى بُرْدَةَ عَن أَبِى مُوسَى قَالَ سُئِلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَن أَشْيَاءَ كَرِهَهَا ، فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ « سَلُونِى عَمَّا شِئْتُمْ » . قَالَ رَجُلٌ مَنْ أَبِى قَالَ « أَبُوكَ حُذَافَةُ » . فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ مَنْ أَبِى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ « أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ » . فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِى وَجْهِهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
(2) - كما في سنن أبى داود (135)عَن عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَن أَبِيهِ عَن جَدِّهِ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الطُّهُورُ فَدَعَا بِمَاءٍ فِى إِنَاءٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلاَثًا ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلاَثًا ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِى أُذُنَيْهِ وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ وَبِالسَّبَّاحَتَيْنِ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاَثًا ثَلاَثًا ثُمَّ قَالَ « هَكَذَا الْوُضُوءُ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ ». (صحيح)
(3) - قلت : هذا على سبيل التغليب ، وإلا فهناك أحاديث ليست في المسند ، وهي صحيحة وموجودة في المسانيد الأخرى أو السنن الأخرى أو الصحاح . والعبرة بصحة السند ليس إلا .(1/397)
، ومسددٌ وهنادُ، وأحمدُ بنُ حنبلٍ، وإسحقُ بنُ راهويه، والفضلُ بنُ دكين، وعَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيّ وأقرانُهم ، وهذه الطبقةُ هي الطرازُ الأولُ من طبقات المحدِّثين فرجعَ المحققونَ منهم بعد إحكام فنِّ الروايةِ ومعرفةِ مراتبِ الأحاديثِ إلى الفقهِ، فلم يكنْ عندهم من الرأيِ أن يجمعَ على تقليدِ رجلٍ ممنْ مضى ،مع ما يروون من الأحاديثِ والآثارِ المناقضةِ في كلِّ مذهبٍ من تلك المذاهبِ، فأخذوا يتتبعونَ أحاديثَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وآثارَ الصحابِ والتابعينَ والمجتهدينَ على قواعدَ أحكموها في نفوسِهم، وأنا أبيِّنُها لكَ في كلماتٍ يسيرةٍ ، كان عندهم إنه إذا وُجد في المسألة قرآنٌ ناطقٌ فلا يجوزُ التحوًّلُ منه إلى غيره ، وإذا كان القرآنُ محتمِلاً لوجوهٍ فالسُّنَّةُ قاضيةٌ عليه، فإذا لم يجدوا في كتاب الله أخذوا بسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواءٌ كانَ مستفيضاً دائراً بين الفقهاءِ، أو يكونُ مختصًّا بأهلِ بلدٍ أو أهلِ بيتٍ ،أو بطريق خاصةٍ، وسواءٌ عمِلَ به الصحابةُ والفقهاءُ أو لم يعملوا به، ومتَى كان في المسألةِ حديثٌ فلا يتبعُ فيها خلافُه أثراً من الآثارِ، ولا اجتهادَ أحدٍ منَ المجتهدينَ، وإذا أفرغوا جهدهم في تتبعِ الأحاديثِ ولم يجدوا في المسألة حديثاً أخذوا بأقوالِ جماعةٍ من الصحابةِ والتابعينَ، ولا يتقيدونَ بقومٍ دون قومٍ، ولا بلدٍ دون بلدٍ كما كانَ يفعلُ مَن قبلهم، فإنِ اتفقَ جمهورُ الخلفاءِ والفقهاءِ على شيءٍ فهو المتبعُ، وإن اختلفوا أخذوا بحديثِ أعلمِهم علماً، أو أورعهم ورعاً، أو أكثرهِم ضبطاً، أو ما اشتهرَ عنهم، فإن وجدوا شيئاً يستوي فيه قولانِ فهي مسألةٌ ذاتُ قولينِ، فإن عجزوا عن ذلك تأمَّلوا في عمومات الكتابِ والسُّنَّة وإيماآتِهما واقتضاآتِهما، وحملوا نظير المسألةِ عليها في الجوابِ إذا كانتا متقاربتين باديَ الرأيِ، لا يعتمدون في ذلك على قواعدَ منَ الأصولِ، ولكن على ما يخلُص إلى الفهِم ويثلِجُ به الصدرَ، كما أنه ليس ميزانُ التواتر عددَ الرواة ولا حالَهم ، ولكنِ اليقينُ الذي يعقبُه في قلوبِ الناسِ كما نبَّهنا على ذلك في بيان حال الصحابةِ، وكانتْ هذه الأصولُ مستخرجةً من صنيعِ الأوائلَ وتصريحاتِهم .
عَن جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ حَدَّثَنَا مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ قَالَ : كَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْخَصْمُ نَظَرَ فِى كِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مَا يَقْضِى بَيْنَهُمْ قَضَى بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِى الْكِتَابِ وَعَلِمَ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى ذَلِكَ الأَمْرِ سُنَّةً قَضَى بِهِ ، فَإِنْ أَعْيَاهُ خَرَجَ فَسَأَلَ الْمُسْلِمِينَ(1/398)
وَقَالَ : أَتَانِى كَذَا وَكَذَا فَهَلْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِى ذَلِكَ بِقَضَاءٍ؟ فَرُبَّمَا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّفَرُ كُلُّهُمْ يَذْكُرُ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ قَضَاءً ، فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى جَعَلَ فِينَا مَن يَحْفَظُ عَلَى نَبِيِّنَا. فَإِنْ أَعْيَاهُ أَنْ يَجِدَ فِيهِ سُنَّةً مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - جَمَعَ رُءُوسَ النَّاسِ وَخِيَارَهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ ، فَإِنْ أَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَمْرٍ قَضَى بِهِ. (1)
وعَن مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ ، قَالَ : كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْخَصْمُ نَظَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مَا يَقْضِي بَيْنَهُمْ قَضَى بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَعَلِمَ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ خَرَجَ فَسَأَلَ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ : هَلْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِي ذَلِكَ بِقَضَاءٍ ؟ فَرُبَّمَا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّفَرُ يَذْكُرُونَ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ قَضَاءً ، فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِينَا مَن يَحْفَظُ عَلَيْنَا دِينَنَا . أَوْ قَالَ : مَن يَحْفَظُ عَن نَبِيِّنَا " (2)
وعَن شُرَيْحٍ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَيْهِ : إِنْ جَاءَكَ شَىْءٌ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَاقْضِ بِهِ وَلاَ تَلْتَفِتْكَ عَنهُ الرِّجَالُ ، فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَانْظُرْ سُنَّةً عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاقْضِ بِهَا ، فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ سُنَّةٌ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَانْظُرْ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَخُذْ بِهِ ، فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ فَاخْتَرْ أَىَّ الأَمْرَيْنِ شِئْتَ : إِنْ شِئْتَ أَنْ تَجْتَهِدَ رَأْيَكَ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَتَقَدَّمْ ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأَخَّرَ فَتَأَخَّرْ ، وَلاَ أَرَى التَّأَخُّرَ إِلاَّ خَيْراً لَكَ. (3)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ , قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ إِلَى شُرَيْحٍ : " إِذَا حَضَرَكَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنهُ فَانْظُرْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاقْضِ بِهِ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ , فَبِمَا قَضَى بِهِ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ , فَبِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ وَأَئِمَّةُ الْعَدْلِ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَجْتَهِدَ رَأْيَكَ
__________
(1) - سنن الدارمى (163) وفيه انقطاع
(2) - معجم الإسماعيلي ( 84 ) وفيه انقطاعٌ
(3) - سنن الدارمى (169) صحيح(1/399)
, فَاجْتَهِدْ رَأْيَكَ , وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُؤَامِرَنِيَ فَآمِرْنِي , وَلَا أَرَى مُؤَامَرَتَكَ إِيَّايَ إِلَّا خَيْرًا لَكَ , وَالسَّلَامُ " (1)
وعَن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ ، قَالَ : أَكْثَرُوا عَلَى عَبْدِ اللهِ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، قَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ لَسْنَا نَقْضِي ، وَلَسْنَا هُنَاكَ ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ قَدَّر َأَنْ بَلَغَنَا مِنَ الأَمْرِ مَا تَرَوْنَ ، فَمَن عَرَضَ لَهُ مِنكُمْ قَضَاءٌ بَعْدَ الْيَوْمِ فَلِيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ ، فَإِنْ جَاءَهُ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِنْ جَاءَهُ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ ، وَلَمْ يَقْضِ بِهِ نَبِيُّهُ ، فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ ، فَإِنْ أَتَاهُ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ ، وَلاَ قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلاَ قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ ، فَلْيَجْتَهِدْ بِرَأْيِهِ ، وَلاَ يَقُولُ : إنِّي أَخَافُ وَإِنِّي أَخَافُ ، فَإِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ ، فَدَعْ مَا يَرْبِيكَ إلَى مَا لاَ يَرْبِيكَ. (2)
وعَنِ الْقَاسِمِ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : " إِذَا حَضَرَكَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنهُ ، فَانْظُرْ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاقْضِ بِهِ ، فَإِنْ عَيِيتَ فَمَا قَضَى بِهِ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنْ عَيِيتَ فَمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ ، فَإِنْ عَيِيتَ فَاؤُمَّ وَلَا تَأْلُ ، فَإِنْ عَيِيتَ فَأَقِرَّ ، وَلَا تَسْتَحِ " (3)
وعَن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ , قَالَ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ " إِذَا سُئِلَ عَنِ الشَّيْءِ , فَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ أَخْبَرَ بِهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقُرْآنِ , وَكَانَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَ بِهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَكَانَ عَن أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَخْبَرَ بِهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَن أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ اجْتَهَدَ فِيهِ رَأْيَهُ " (4)
وعن مُعْتَمِرَ عَن أَبِيهِ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَمَا تَخَافُونَ أَنْ تُعَذَّبُوا أَوْ يُخْسَفَ بِكُمْ أَنْ تَقُولُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ فُلاَنٌ. (5)
__________
(1) - الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ ( 527 ) صحيح لغيره
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 7 / ص 241)( 23445و23446) صحيح
(3) - الْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ ( 8830 ) صحيح لغيره
(4) - الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ (534 ) صحيح
(5) - سنن الدارمى (439) صحيح(1/400)
وعَن قَتَادَةَ قَالَ : حَدَّثَ ابْنُ سِيرِينَ رَجُلاً بِحَدِيثٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَجُلٌ : قَالَ فُلاَنٌ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : أُحَدِّثُكَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَقُولُ قَالَ فُلاَنٌ؟ لاَ أُكَلِّمُكَ أَبَداً. (1)
وعَنِ الأَوْزَاعِىِّ قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : إِنَّهُ لاَ رَأْىَ لأَحَدٍ فِى كِتَابِ اللَّهِ ، وَإِنَّمَا رَأْىُ الأَئِمَّةِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ كِتَابٌ وَلَمْ تَمْضِ بِهِ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ رَأْىَ لأَحَدٍ فِى سُنَّةٍ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . (2)
وعَنِ الأَعْمَشِ قَالَ سَأَلْتُ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الرَّجُلِ يُصَلِّى مَعَ الإِمَامِ فَقَالَ يَقُومُ عَن يَسَارِهِ. فَقُلْتُ حَدَّثَنِى سُمَيْعٌ الزَّيَّاتُ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ أنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَقَامَهُ عَن يَمِينِهِ فَأَخَذَ بِهِ. (3)
وعَنِ الشَّعْبِىِّ قَالَ : جَاءَهُ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ عَن شَىْءٍ ، فَقَالَ : كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِيهِ كَذَا وَكَذَا. قَالَ : أَخْبِرْنِى أَنْتَ بِرَأْيِكَ. فَقَالَ : أَلاَ تَعْجَبُونَ مِن هَذَا؟ أَخْبَرْتُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَيَسْأَلُنِى عَن رَأْيِى ، وَدِينِى عِنْدِى آثَرُ مِن ذَلِكَ ، وَاللَّهِ لأَنْ أَتَغَنَّى أُغْنِيَّةً أَحَبُّ إِلَىَّ مِن أَنْ أُخْبِرَكَ بِرَأْيِى " (4) أخرج هذه الآثار كلها الدارمي .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَلَّدَ نَعْلَيْنِ وَأَشْعَرَ الْهَدْىَ فِى الشِّقِّ الأَيْمَنِ بِذِى الْحُلَيْفَةِ وَأَمَاطَ عَنهُ الدَّمَ. قَالَ وَفِى الْبَابِ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ. قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِن أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَغَيْرِهِمْ يَرَوْنَ الإِشْعَارَ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِىِّ وَالشَّافِعِىِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. قَالَ أَبُو عِيسَى سَمِعْتُ يُوسُفَ بْنَ عِيسَى يَقُولُ سَمِعْتُ وَكِيعًا يَقُولُ حِينَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ لاَ تَنْظُرُوا إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الرَّأْىِ فِى هَذَا فَإِنَّ الإِشْعَارَ سُنَّةٌ وَقَوْلَهُمْ بِدْعَةٌ. قَالَ وَسَمِعْتُ أَبَا السَّائِبِ يَقُولُ كُنَّا عِنْدَ وَكِيعٍ فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ مِمَن يَنْظُرُ فِى الرَّأْىِ أَشْعَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ مُثْلَةٌ. قَالَ
__________
(1) - سنن الدارمى (449) صحيح
(2) - سنن الدارمى (440) صحيح
(3) - مسند أحمد(3418) صحيح
(4) - سنن الدارمى (109) وفيه انقطاع(1/401)
الرَّجُلُ فَإِنَّهُ قَدْ رُوِىَ عَن إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِىِّ أَنَّهُ قَالَ الإِشْعَارُ مُثْلَةٌ. قَالَ فَرَأَيْتُ وَكِيعًا غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَقَالَ أَقُولُ لَكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَقُولُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ مَا أَحَقَّكَ بِأَنْ تُحْبَسَ ثُمَّ لاَ تَخْرُجَ حَتَّى تَنْزِعَ عَن قَوْلِكَ هَذَا. (1)
وعن عبد الله بن عباس وعطاء ومجاهد ومالك بن أنس رضي الله تعالى عنهم أنهم كانوا يقولون: ما من أحد إلا ومأخوذٌ من كلامه ومردودٌ عليه إلا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - . (2)
وبالجملة فلمَّا مهَّدوا الفقهَ على هذه القواعد فلم تكن مسألةٌ من المسائلَ التي تكلم فيها مَن قبلهم والتي وقعتْ في زمانهم إلا وجدوا فيها حديثاً مرفوعاً متصلاَ أو مرسلاَ أو موقوفاً صحيحاً أو حسناً أو صالحاً للاعتبار،أو وجدوا أثراً من آثارِ الشيخينِ أو سائر الخلفاءِ وقضاةِ الأمصارِ وفقهاءِ البلدان، أو استنباطاً من عمومٍ أو إيماءً أو اقتضاءً فيسَّر اللهُ لهم العملَ بالسنَّة على هذا الوجه، وكان أعظمَهم شأناً وأوسعَهم روايةً وأعرفَهم للحديثِ مرتبةً وأعمقَهم فقهاُ أحمدُ بنُ حنبلٍ، ثمَّ إسحقُ بنُ راهويه، وكان ترتيبُ الفقهِ على هذا الوجه يتوقفُ على جمعِ شيءٍ كثيرٍ منَ الأحاديثَ والآثارِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُنَادِي : سَمِعْت رَجُلًا يَسْأَلُ أَحْمَدَ : إذَا حَفِظَ الرَّجُلُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ يَكُونُ فَقِيهًا ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَمِائَتَيْ أَلْفٍ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَثَلَاثَ مِائَةِ أَلْفٍ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَأَرْبَعَ مِائَةِ أَلْفٍ ، قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا ، وَحَرَّكَ يَدَهُ . (3)
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُنَادِي ، وَقَدْ سَمِعَ رَجُلًا يَسْأَلُهُ : إذَا حَفِظَ الرَّجُلُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ يَكُونُ فَقِيهًا ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَمِائَتَيْ أَلْفٍ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَأَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ ؟ قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا ، وَحَرَّكَهَا ، قَالَ حَفِيدُهُ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ : فَقُلْتُ لِجَدِّي : كَمْ كَانَ يَحْفَظُ أَحْمَدُ ؟ فَقَالَ أَجَابَ عَن سِتِّمِائَةِ أَلْفٍ . (4) ومراده الإفتاء على هذا الأصل.
__________
(1) - سنن الترمذى (916 ) صحيح
أشعر : طعن فى أحد جانبى سنام البعير حتى يسيل دمها = قلد : جعل فى عنق الهدى نعلين
(2) - الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف لولي الله الدهلوي - (ج 1 / ص 22) وعقد الجيد - (ج 1 / ص 27)
(3) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 56)
(4) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 5 / ص 60)(1/402)
ثم أنشأَ اللُه تعالى قرناً آخرَ فرأوا أصحابهم قد كفوهم مؤونةَ جمعِ الأحاديثِ وتمهيدَ الفقهِ على أصلهِم فتفرَّغوا لفنونٍ أخرَى كتمييزِ الحديثِ الصحيحِ المجمعِ عليهِ من كبراءِ أهل الحديثِ، كيزيدَ بنِ هارون ويحيى بنِ سعيد القطان وأحمدَ وإسحقَ وأضرابِهم ، وكجمعِ أحاديثَ الفقهِ التي بنَى عليها فقهاءُ الأمصارِ وعلماءُ البلدان مذاهبَهم ، وكالحكمِ على كلِّ حديثٍ بما يستحقُّه، وكالشاذةِ والفاذةِ منَ الأحاديثَ التي لم يرووها أو طرقها التي لم يخرج من جهتها الأوائل، مما فيهِ اتصالٌ أو علوُّ سندٍ أو روايةُ فقيهٍ عن فقيهٍ، أو حافظٌ عن حافظٍ أو نحو ذلك من المطالب العلمية ، وهؤلاءِ همُ البخاريُّ ومسلمٌ وأبو داودَ وعبدُ بنُ حميد والدارميُّ، وابنُ ماجةَ، وأبو يعلَى والترمذيُّ والنسائيُّ والدارقطنيُّ والحاكمُّ والبيهقيُّ والخطيبُّ والديلميُّ، وابنَ عبدِ البرِّ وأمثالُهم.
وكان أوسعَهم علماً عندي وأنفعَهم تصنيفاً وأشهرَهم ذكراً رجالٌ أربعةٌ متقاربونَ في العصرِ: أولهُم أبو عبد اللهِ البخاريُّ، وكان غرضُه تجريدَ الأحاديثَ الصِّحاحِ المستفيضةِ المتصلةِ من غيرها ، واستنباطَ الفقهِ والسيرةِ والتفسيرِ منها، فصنَّفَ جامعَهُ الصحيحَ ووفَّى بما شرطَ ، وبلغنا أنَّ رجلاً من الصالحين رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منامه وهو يقول: مالكَ اشتغلتَ بفقهِ محمدِ بنِ إدريسَ وتركتَ كتابي؟ قال: يا رسول الله وما كتابك؟ قال : صحيحُ البخاري ، ولعمري إنه نالَ منَ الشهرةِ والقبولِ درجةً لا يرامُ فوقَها . (1)
وثانيهم مسلمُ النيسابوريُّ توخَّى تجريدَ الصِّحاحِ المجمعِ عليها بين المحدِّثين المتصلةِ المرفوعة مما يستنبطُ منه السنَّةُ ، وأراد تقريبها إلى الأذهانِ وتسهيلَ الاستنباطِ منها، فرتَّبَهُ ترتيباً جيداً، وجمعَ طرقَ كل حديثٍ في موضع واحد، ليتضحَ اختلافُ المتون وتشعبِ الأسانيد أصرحَ ما يكون، وجمع بين المختلفاتِ، فلم يدع لمن له معرفةٌ بلسان العرب عذراً في الإعراض عن السنَّة إلى غيرها .
__________
(1) - قلت : لا تؤخذ الأحكام الشرعية من المنامات ، وفقه الإمام الشافعي ما هو إلا استنباط للأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والمصادر الأخرى ، فالاشتغالُ بالفقه الشافعي ، ليس فيه إعراضٌ عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكنه الفهم الصحيح لها .(1/403)
وثالثُهم أبو داودَ السجستانيُّ، وكان همُّه جمعَ الأحاديث التي استدلَّ بها الفقهاءُ، ودارتْ فيهم، وبنَى عليها الأحكامَ علماءُ الأمصارِ، فصنَّف سننَه، وجمعَ فيها الصحيحَ والحسنَ والليِّنَ والصالحَ للعملِ، قال أبو داودَ: وما ذكرتُ في كتابي حديثاً أجمعَ الناسُ على تركه، وما كان منها ضعيفاً أصرحُ بضعفه، وما كان فيه علةٌ بينتها بوجهٍ يعرفُه الخائضُ في هذا الشأن ، وترجمَ على كلِّ حديثٍ بما قد استنبط منه عالمٌ ، وذهبَ إليه ذاهبٌ، ولذلك صرح الغزاليُّ وغيره بأن كتابه كافٍ للمجتهدِ.
ورابعُهم أبو عيسى الترمذيُّ، وكأنه استحسن طريقة الشيخين حيث بيَّنا وما أبهما، وطريقة أبي داود حيثُ جمعَ كلَّ ما ذهبَ إليه ذاهبٌ، فجمعَ كلتا الطريقتين وزادَ عليهما بيانُ مذاهبِ الصحابةِ والتابعينَ وفقهاءِ الأمصار، فجمع كتاباً جامعاً واختصرَ طرقَ الحديثِ اختصاراً لطيفاً، فذكر واحداً وأومأَ إلى ما عداهُ، وبيَّن أمر كلِّ حديثٍ من أنه صحيحٌ أو حسنٌ أو ضعيفٌ أو منكرٌ، وبيَّن وجهَ الضعفِ ليكونَ الطالبُ على بصيرةٍ من أمرهِ فيعرفَ ما يصلحُ للاعتبارِ مما دونَه، وذكر أنه مستفيضٌ أو غريبٌ، وذكر مذاهبَ الصحابةِ وفقهاءِ الأمصار، وسمَّى من يحتاجُ إلى التسميةِ، وكنَّى من يحتاجُ إلى التكنيةِ فلم يدع خفاءً لمنْ هو من رجالِ العلم ، ولذلك يقالُ: إنه كافٍ للمجتهدِ، مُغْنٍ للمقلِّدِ .
وكان بإزاء هؤلاء في عصر مالكَ وسفيانَ وبعدهم قومٌ لا يكرهونَ المسائل ، ولا يهابون الفُتيا، ويقولون على الفقهِ بناءُ الدِّين، فلا بدَّ من إشاعتِه، ويهابونَ روايةَ حديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،والرفعِ إليه، فعن عَاصِمَ قَالَ : سَأَلْتُ الشَّعْبِىَّ عَن حَدِيثٍ فَحَدَّثَنِيهِ فَقُلْتُ : إِنَّهُ يُرْفَعُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَالَ : لاَ ، عَلَى مَن دُونَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَحَبُّ إِلَيْنَا ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ كَانَ عَلَى مَن دُونَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - (1)
وعَن إِبْرَاهِيمَ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ. فَقِيلَ لَهُ : أَمَا تَحْفَظُ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثاً غَيْرَ هَذَا؟ قَالَ : بَلَى وَلَكِنِّى أَقُولُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ عَلْقَمَةُ أَحَبُّ إِلَىَّ. (2)
__________
(1) - سنن الدارمى (272) صحيح
(2) - سنن الدارمى (273) صحيح
المحاقلة : هى المزارعة على نصيب معلوم = المزابنة : بيع ثمر النخل بالتمر كيلا وبيع العنب بالزبيب كيلا(1/404)
وعَنِ الشَّعْبِىِّ وَابْنِ سِيرِينَ : أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ إِذَا حَدَّثَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى الأَيَّامِ تَرَبَّدَ وَجْهُهُ وَقَالَ : هَكَذَا أَوْ نَحْوَهُ هَكَذَا أَوْ نَحْوَهُ. (1)
وعَن قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَهْطاً مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى الْكُوفَةِ فَبَعَثَنِى مَعَهُمْ ، فَجَعَلَ يَمْشِى مَعَنَا حَتَّى أَتَى صِرَارَ - وَصِرَارُ مَاءٌ فِى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ - فَجَعَلَ يَنْفُضُ الْغُبَارَ عَن رِجْلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : إِنَّكُمْ تَأْتُونَ الْكُوفَةَ فَتَأْتُونَ قَوْماً لَهُمْ أَزِيزٌ بِالْقُرْآنِ فَيَأْتُونَكُمْ ، فَيَقُولُونَ : قَدِمَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ قَدِمَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ فَيَأْتُونَكُمْ فَيَسْأَلُونَكُمْ عَنِ الْحَدِيثِ ، فَاعْلَمُوا أَنَّ أَسْبَغَ الْوُضُوءِ ثَلاَثٌ ، وَثِنْتَانِ تُجْزِيَانِ. ثُمَّ قَالَ : إِنَّكُمْ تَأْتُونَ الْكُوفَةَ فَتَأْتُونَ قَوْماً لَهُمْ أَزِيزٌ بِالْقُرْآنِ ، فَيَقُولُونَ : قَدِمَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ قَدِمَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ فَيَأْتُونَكُمْ يَسْأَلُونَكُمْ عَنِ الْحَدِيثِ فَأَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا شَرِيكُكُمْ فِيهِ. قَالَ قَرَظَةُ : وَإِنْ كُنْتُ لأَجْلِسُ فِى الْقَوْمِ فَيَذْكُرُونَ الْحَدِيثَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنِّى لَمِن أَحْفَظِهِمْ لَهُ ، فَإِذَا ذَكَرْتُ وَصِيَّةَ عُمَرَ سَكَتُّ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : مَعْنَاهُ عِنْدِى الْحَدِيثُ عَن أَيَّامِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْسَ السُّنَنَ وَالْفَرَائِضَ. (2)
وعَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ قَالَ : كَانَ الشَّعْبِىُّ إِذَا جَاءَهُ شَىْءٌ اتَّقَى ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَقُولُ وَيَقُولُ وَيَقُولُ. قَالَ أَبُو عَاصِمٍ : كَانَ الشَّعْبِىُّ فِى هَذَا أَحْسَنَ حَالاً عِنْدَ ابْنِ عَوْنٍ مِن إِبْرَاهِيمَ . (3) ، أخرج هذه الآثار الدارميُّ .
فوقعَ تدوينُ الحديثِ والفقهِ والمسائلَ من حاجتهم بموقعٍ من وجهٍ آخرَ ، وذلك أنه لم يكن عندهم من الأحاديثَ والآثارِ ما يقدرون به على استنباط الفقهِ على الأصولِ التي اختارَها أهلُ الحديث، ولم تنشرحْ صدورُهم للنظر في أقوال علماء البلدانِ وجمعِها والبحث عنها ،واتَّهموا أنفسَهم في ذلك ، وكانوا اعتقدوا في أئمتهم أنهم في الدرجةِ العليا منَ التحقيق، وكانتْ قلوبُهم أميلَ شيءٍ إلى أصحابِهم، فعَن مَسْرُوقٍ : أَنَّهُ كَانَ يُشَرِّكُ ، فَقَالَ لَهُ عَلْقَمَةُ
__________
(1) - سنن الدارمى(277) صحيح لغيره = تربد : تغير لون وجهه
(2) - سنن الدارمى (286) صحيح =الأزيز : خنين من الخوف وهو صوت البكاء
(3) - سنن الدارمى (135) صحيح(1/405)
: هَلْ أَحَدٌ مِنهُمْ أَثْبَتُ مِن عَبْدِ اللَّهِ؟ فَقَالَ : لاَ وَلَكِنِّى رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَأَهْلَ الْمَدِينَةِ يُشَرِّكُونَ فِى ابْنَتَيْنِ وَبِنْتِ ابْنٍ وَابْنِ ابْنٍ وَأُخْتَيْنِ. (1)
قال أبو حنيفة رحمه الله: كان حَمَّاد أفقه من الزُّهري، وكان إبراهيم أفقه من سَالم، وعلْقَمَة ليس بدون ابن عمر في الفقه، وإن كانت لابن عمر صحبة، وإن كان له فضل صحبة، فالأسود له فضلٌ كثير، وعبدُ الله عبدُ الله. (2)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - سنن الدارمى(2952) صحيح
(2) - شرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 263) وفواتح الرحموت - (ج 2 / ص 205)(1/406)
أهم المصادر
1. أيسر التفاسير لأسعد حومد
2. التفسير الميسر
3. التفسير الوسيط للقرآن الكريم لطنطاوي
4. تفسير ابن كثير - دار طيبة
5. تفسير السعدي
6. تفسير الشعراوي
7. تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة
8. تفسير القرطبي ـ موافق للمطبوع
9. فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع
10. اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة
11. الآحاد والمثاني
12. الترغيب والترهيب للمنري
13. السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة
14. السنن الكبرى للبيهقي- المكنز
15. الفوائد لتمام 414
16. المجالسة وجواهر العلم (333)
17. المستدرك للحاكم مشكلا
18. المسند الجامع
19. المعجم الأوسط للطبراني
20. المعجم الصغير للطبراني
21. المعجم الكبير للطبراني
22. جامع الأحاديث
23. جامع الأصول في أحاديث الرسول
24. سنن أبي داود - المكنز
25. سنن ابن ماجه- المكنز
26. سنن الترمذى- المكنز
27.(1/407)
سنن الدارقطنى- المكنز
28. سنن الدارمى- المكنز
29. سنن النسائي- المكنز
30. شرح مشكل الآثار (321)
31. شرح معاني الآثار (321)
32. شعب الإيمان (458)
33. صحيح ابن حبان
34. صحيح البخارى- المكنز
35. صحيح مسلم- المكنز
36. مجمع الزوائد
37. مسند أبي عوانة مشكلا
38. مسند أبي يعلى الموصلي مشكل
39. مسند أحمد - المكنز
40. مسند البزار كاملا
41. مسند الحميدي - المكنز
42. مسند الشاميين
43. مسند الطيالسي
44. مصنف ابن أبي شيبة
45. مصنف عبد الرزاق مشكل
46. معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني
47. موسوعة السنة النبوية
48. موضوعات الصغاني
49. كشف الخفاء ومزيل الإلباس
50. تذكرة المحتاج إلى أحاديث المنهاج
51. مسند عبد الله بن المبارك
52. المدخل إلى مذهب الإمام أحمد - الرقمية -
53. إرشاد الفحول
54. الرسالة للشافعي
55.(1/408)
المنتقى - شرح الموطأ -
56. المعجم الوسيط
57. السُّنَّةُ لِلْمَرْوَزِيِّ
58. الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ
59. معرفة السنن والآثار للبيهقي
60. النبذ في أصول الفقه
61. مجموع الفتاوى لابن تيمية
62. الإحكام في أصول الأحكام
63. شذرات من علوم السنة
64. فتح الباري للحافظ ابن حجر
65. الكتاب والقرآن للدكتور محمد شحرور
66. الشبهات الثلاثون للدكتور عبدالعظيم المطعني
67. معالم السنن للخطابي مع مختصر للمنذري والتهذيب لابن القيم
68. عون المعبود
69. البحر المحيط للزركشي
70. إضاءات بحثية في علوم السنة النبوية
71. السنة النبوية للدكتور عبدالمهدي
72. الْإِبَانَةُ الْكُبْرَى لِابْنِ بَطَّةَ
73. جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ
74. إعلام الموقعين عن رب العالمين
75. السنة النبوية، مكانتها، عوامل بقائها، تدوينها
76. مُسْنَدُ الشِّهَابِ الْقُضَاعِيّ
77. الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ لِلْبَيْهَقِيِّ
78. الِاعْتِقَادُ لِلْبَيْهَقِيِّ
79. حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ
80. مسْنَدُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ
81. إحكام الأحكام لابن دقيق
82. الموافقات للشاطبي
83.(1/409)
الموسوعة الفقهية
84. فتاوى الإسلام سؤال وجواب
85. التحبير شرح التحرير للمرداوي
86. قواطع الأدلة
87. المسوّدة لآل تيمية
88. القرطبي في المفهم
89. النووي في المنهاج شرح مسلم
90. الشفا -مع شرحه لملّا علي القاري-
91. فيض القدير للمناوي
92. إكمال المعلم للقاضي عياض
93. ابن الأعرابي في معجمه
94. التلخيص الحبير لابن حجر
95. مرويات غزوة الخندق للدكتور إبراهيم المدخلي
96. سيرة ابن هشام
97. مقدمة ابن خلدون
98. بحر الفوائد للكلاباذي
99. السنة وحي من رب العالمين في أمور الدنيا والدين" للدكتور / الشريف حاتم العوني حفظه الله
100. فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة
101. أصول الفقه على منهج أهل الحديث - الرقمية -
102. الناسخ والمنسوخ للنحاس
103. المحلى لابن حزم
104. الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ
105. نظم المتناثر في الحديث المتواتر
106. مجموع رسائل ابن تيمية
107. تقريب التهذيب لابن حجر
108. الكاشف للذهبي
109. لسان العرب
110.(1/410)
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد
111. البدر المنير لابن الملقن
112. نصب الراية للزيلعي
113. التاريخ الكبير للبخاري
114. تهذيب الكمال للمزي
115. تهذيب التهذيب لابن حجر
116. قواعد التحديث للقاسمي
117. تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي
118. فَضَائِلُ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ لِلْحَسَنِ الْخَلَّال
119. الثقات لابن حبان
120. علل الحديث لابن أبي حاتم
121. ميزان الاعتدال للذهبي
122. الحافظ ابن حجر ومنهجه في تقريب التهذيب للمؤلف
123. شرح السنة للبغوي
124. معرفة علوم الحديث
125. سؤالات ابن الجنيد
126. سؤالات الآجري
127. سؤالات ابن أبي شيبة لابن المديني
128. الجرح والتعديل لابن أبي حاتم
129. الخلاصة في علم الجرح والتعديل للمؤلف
130. روضة الطالبين" للإمام النووي
131. الموسوعة الفقهية الكويتية
132. الكامل في الضعفاء
133. تذكرة الحفاظ
134. تاريخ دمشق
135. سير أعلام النبلاء
136. مقدمة ابن الصلاح
137. فتح المغيث بشرح ألفية الحديث
138.(1/411)
نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر
139. البرهان في أصول الفقه - الرقمية -
140. الكفاية للخطيب
141. قواطع الأدلة فى الأصول / للسمعانى
142. الموضوعات لابن الجوزي
143. الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ
144. طرح التثريب للعراقي
145. أنوار البروق في أنواع الفروق
146. شرح الكوكب المنير
147. حجة الله البالغة
148. المستصفى للغزالي
149. أصول السرخسي
150. الأحكام للآمدي
151. المحصول للرازي
152. التقرير والتحبير
153. المدخل إلى مذهب الإمام أحمد - الرقمية -
154. إعلام الموقعين لابن القيم
155. فتاوى واستشارات الإسلام اليوم
156. تاريخ الرسل والملوك
157. الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح
158. شرح نخبة الفكر الشيخ سعد بن عبد الله الحميد
159. إرواء الغليل للألباني
160. المبدع
161. الفروع
162. الإنصاف
163. فتاوى الأزهر
164. فتاوى معاصرة
165. فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ
166.(1/412)
مجموع فتاوى ابن باز
167. الفقه الإسلامي وأدلته
168. الروضة الندية
169. السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار - الرقمية -
170. تلقيح الافهام العلية بشرح القواعد الفقهية
171. فتاوى يسألونك
172. المنثور في القواعد
173. حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع
174. مذكرة أصول الفقه
175. روضة الناظر وجنة المناظر
176. معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة
177. التحبير شرح التحرير
178. اللمع للشيرازي
179. تهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية
180. كشف الأسرار
181. الأشباه والنظائر
182. شرح الكوكب المنير
183. شرح التلويح على التوضيح
184. إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول
185. التلخيص فى أصول الفقه / لإمام الحرمين -
186. التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين
187. غاية الوصول في شرح لب الأصول
188. التعريفات للجرجاني
189. مختصر المعاني للتفتازاني
190. بحوث في علم أصول الفقه
191. تيسير علم أصول الفقه .. للجديع
192. شرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام
193. تيسير التحرير
194.(1/413)
فواتح الرحموت
195. غاية الوصول في شرح لب الأصول
196. العناية شرح الهداية
197. فتح القدير للكمال
198. المجموع للنووي
199. الحاوي في فقه الشافعي - الماوردي -
200. سبل السلام
201. نيل الأوطار
202. المبسوط للسرخسي
203. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
204. بداية المجتهد ونهاية المقتصد
205. الدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية -
206. المحيط البرهاني للإمام برهان الدين ابن مازة
207. حاشية الدسوقي على الشرح الكبير
208. الخلاف بين العلماء - الرقمية -
209. الشرح الكبير لابن قدامة
210. السُّنَّةُ لِلْمَرْوَزِيِّ
211. الدراية في تخريج أحاديث الهداية
212. شرح النيل وشفاء العليل - إباضية -
213. أنوار البروق في أنواع الفروق
214. مناهل العرفان للزرقاني
215. مجلة مجمع الفقه الإسلامي
216. غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر
217. الفصول في الأصول
218. أبحاث هيئة كبار العلماء
219. مُسْنَدُ ابْنِ الْجَعْدِ
220. الرسالة لابن أبي زيد القيرواني
221. شرح أبي الحسن على الرسالة بحاشية العدوي
222.(1/414)
القوانين الفقهية
223. الخرشي مع حاشية العدوي
224. الأم للشافعي
225. مختصر المزني بهامش الأم
226. شرح منتهى الإرادات
227. نتائج الأفكار مع الهداية
228. لقاءات الباب المفتوح
229. شرح ابن بطال
230. السُّنَّةُ لِابْنِ أَبِي عَاصِم
231. الْإِبَانَةُ الْكُبْرَى لِابْنِ بَطَّةَ
232. تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق
233. الدر المختار ورد المحتار
234. إصلاح المساجد
235. البدعة في صلاة الظهر بعد الجمعة
236. فتاوى الزحيلي
237. رسائل ابن عابدين
238. مطالب أولي النهى
239. المصابيح في صلاة التراويح
240. عمدة القاري شرح صحيح البخاري
241. الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار
242. الحاوي للفتاوي للسيوطي
243. الشرح الممتع
244. عميرة على شرح المنهاج
245. الفروع لابن مفلح
246. تحفة المحتاج في شرح المنهاج
247. سير أعلام النبلاء
248. تاريخ الإسلام للإمام الذهبي
249. فتاوى الرملي
250.(1/415)
قواعد الأحكام للعز ط. الاستقامة.
251. الانصاف في بيان أسباب الاختلاف لولي الله الدهلويؤر
252. عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد
253. ملخص إبطال القياس
254. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح
255. التعليق الممجد
256. زاد المسير لابن الجوزي
257. التحرير والتنوير لابن عاشور
258. خلاصة البدر المنير
259. تفسير النسفي
260. أحكام القرآن للجصاص
261. أضواء البيان للشنقيطي
262. الفوائد المجموعة للشوكاني بتحقيق المعلمي
263. اللآلي المصنوعة
264. تنزيه الشريعة المرفوعة
265. الْكِفَايَةُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ
266. جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ
267. أحكام القرآن لابن العربي
268. شرح القواعد الفقهية ــ للزرقا -
269. الأشباه والنظائر لابن نجيم
270. قواعد الفقه
271. معجم الإسماعيلي
272. شرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر
273. الشاملة 3
274. برنامج قالون(1/416)
الفهرس العام
الباب الأول ... 5
الباب الأول ... 5
حجية السنَّة النبوية ... 5
المبحث الأول ... 9
الأدلة على حجية السنة النبوية ... 9
1. الأدلةُ من القرآن على حجية السنة ... 9
2-الأحاديث الدالة على حجية السنة: ... 14
3- الإجماعُ: ... 17
4-دليلُ الإيمان: ... 17
المبحث الثاني ... 28
السنَّة النبوية وحي من الله تعالى ... 28
- شبهةٌ حول هذا الدليل وردها: ... 35
كيف يكون الحديث النبوي منسوبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نقول عنه إنه من الوحي الذي أوحي إليه؟ ... 43
كيفيات الوحي الإعلامي: ... 43
الوحيٌ الإقراري: ... 63
المبحث الثالث ... 81
هل اجتهادُ النبي – - صلى الله عليه وسلم - – ينافي كون السنَّة وحيٌ ؟ ... 81
الباب الثاني ... 104
أسباب ترك بعض الفقهاء الاحتجاج بالحديث ... 104
أولا ... 104
ذكر الأسباب مفصلة ... 104
السَّبَبُ الْأَوَّلُ ... 106
عدم بلوغ الحديث للفقيه ... 106
السَّبَبُ الثَّانِي ... 121(1/417)
عدم ثبوت الحديث عند الفقيه ... 121
تنحصرُ أسباب الضعف والقدح في الرواة في فئتين: ... 137
السَّبَبُ الثَّالِثُ ... 142
اعْتِقَادُه ضَعْفِ الْحَدِيثِ ... 142
1-مِنهَا : أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ يَعْتَقِدُهُ أَحَدُهُمَا ضَعِيفًا ؛ وَيَعْتَقِدُهُ الْآخَرُ ثِقَةً ... 142
2- قَدْ يَكُونُ الْمُصِيبُ مَن يَعْتَقِدُ ضَعْفَهُ ؛ لِاطِّلَاعِهِ عَلَى سَبَبٍ جَارِحٍ . ... 146
3- وَقَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ مَعَ الْآخَرِ لِمَعْرِفَتِهِ أَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ غَيْرُ جَارِحٍ ؛ إمَّا لِأَنَّ جِنْسَهُ غَيْرُ جَارِحٍ ؛ أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ فِيهِ عُذْرٌ يَمْنَعُ الْجَرْحَ . ... 147
4-وَمِنهَا : أَلَّا يَعْتَقِدَ أَنَّ الْمُحَدِّثَ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِمَن حَدَّثَ عَنهُ، فيكون الحديث منقطعا، لأنه روى عمَّن لم يره أولم يلقه ،وَغَيْرُهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَمِعَهُ لِأَسْبَابِ تُوجِبُ ذَلِكَ مَعْرُوفَةٍ. ... 149
5-وَمِنهَا : أَنْ يَكُونَ لِلْمُحَدِّثِ حَالَانِ :حَالُ اسْتِقَامَةٍ وَحَالُ اضْطِرَابٍ : ... 150
6- وَمِنهَا : أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ قَدْ نَسِيَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ: ... 152
حكمُ رواية من حَدَّثَ ونَسِيَ : ... 153
7-وَمِنهَا : أَنَّ كَثِيرًا مِن الْحِجَازِيِّينَ يَرَوْنَ أَلَّا يُحْتَجَّ بِحَدِيثِ عِرَاقِيٍّ أَوْ شَامِيٍّ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ بِالْحِجَازِ . ... 158
السَّبَبُ الرَّابِعُ ... 161
اشْتِرَاطُهُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ الْحَافِظِ شُرُوطًاً يُخَالِفُهُ فِيهَا غَيْرُهُ ... 161
السَّبَبُ الْخَامِسُ ... 168
أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَهُ وَثَبَتَ عِنْدَهُ لَكِنْ نَسِيَهُ ... 168
السَّبَبُ السَّادِسُ ... 175
عَدَمُ مَعْرِفَتِهِ بِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ ... 175
وَتَارَةً لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُشْتَرِكًا أَوْ مُجْمَلًا . ... 181
أَوْ كانَ اللفظُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ ... 181
وَتَارَةً لِكَوْنِ الدَّلَالَةِ مِن النَّصِّ خَفِيَّةً ؛ ... 185
السَّبَبُ السَّابِعُ ... 188
اعْتِقَادُهُ أَنْ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ ... 188
السَّبَبُ الثَّامِنُ ... 191(1/418)
اعْتِقَادُهُ أَنَّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ قَدْ عَارَضَهَا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُرَادَةً ... 191
مِثْلَ مُعَارَضَةِ الْعَامِّ بِخَاصِّ . ... 191
أَوْ معارضة الْمُطْلَقِ بِمُقَيَّدِ . ... 191
متى يُحمل المطلق على المقيد؟ ... 192
مسألة أصولية للحنفيَّة: ... 194
أَوْ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ بِمَا يَنْفِي الْوُجُوبَ أَوْ الْحَقِيقَةَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَجَازِ إلَى أَنْوَاعِ الْمُعَارَضَاتِ. ... 195
السَّبَبُ التَّاسِعُ ... 197
اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ أَوْ نَسْخِهِ... ... 197
السَّبَبُ الْعَاشِرُ ... 203
مُعَارَضَتُهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ أَوْ نَسْخِهِ أَوْ تَأْوِيلِهِ مِمَّا لَا يَعْتَقِدُهُ غَيْرُهُ ... 203
الباب الثالث ... 241
مَن تَرَكَ الْعَمَلَ بِحَدِيثِ ما فَلَا يَخْلُو مِن ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ... 241
1-من خالف أحاديث الوعيد من الفقهاء هل هو معذور؟ ... 242
2-َذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِن الْفُقَهَاءِ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ السَّلَفِ إلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ حُجَّةٌ فِي جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِن الْوَعِيدِ . ... 244
المثال الأول- حول ربا الفضل وربا الأجل : ... 246
تحريم ربا الفضل : ... 248
الأَْحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْل : ... 249
المثال الثاني- إتيان النساء في أدبارهن: ... 252
المثال الثالث – حول تحريم الخمر: ... 252
المثال الرابع- حول لعن الواصلة والموصولة : ... 254
المثال الخامس – حول آنية الفضة: ... 256
المثال السادس – النهي عن قتال المسلم لأخيه : ... 259
المثال السابع – الأمر بالجماعة والنهي عن الاختلاف: ... 264
المثال الثامن – ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: ... 266
الباب الرابع ... 272
أثر التنازع بين الفقهاء في العبادات الظاهرة ... 272(1/419)
باب الفساد الذي وقع في هذه الأمة ... 276
أمثلة أخرى هامة وقع التنازع بين المسلمين بسببها ... 290
أولا ... 290
صلاة الظهر بعد الجمعة ... 290
ثانياً ... 297
اختلاف المطالع ... 297
الثالث ... 302
التراويح في رمضان ... 302
الرابع ... 325
صلاة الوتر في رمضان جماعة ... 325
الخامس ... 334
رمي الجمرات أيام التشريق قبل الزوال ... 334
الباب الرابع ... 337
قضايا هامة حول هذا الموضوع ... 337
المبحث الأول ... 337
هل صحة الحديث تزيل الخلاف بين الفقهاء ؟ ... 337
المبحث الثاني ... 338
شرح قاعدة ( إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي ) ... 338
أولا-أقوال الأئمة في ذلك : ... 338
ثانيا- نقول من بعض كتب الفقه حول ذلك : ... 344
ثالثا- شرح معنى هذه القاعدة : ... 346
المبحث الثالث ... 349
هل الحنفية بضاعتهم في الحديث مزجاة ؟ ... 349
1- رَجْمُ الْيَهُودِيِّ وَالْيَهُودِيَّةِ. ... 350
116- مَن قَالَ تُحْصِنُ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّة الْمُسْلِمَ. ... 351
المبحث الرابع ... 355
هل يمكن الاستغناء بالقرآن عن السنة ؟ ... 355(1/420)
الشبهة الأولى - شبهة الاكتفاء بالقرآن ... 355
الردُّ على شبهة الاكتفاء بالقرآن : ... 356
1. الدفع الأول : اثبتوا دعواكم من القرآن الكريم ... 356
2. الدفع الثاني: القرآن والسُّنَّة من مشكاة واحدة ... 356
3. الدفع الثالث: السنَّة ثابتة في حق جميع الأنبياء وتلقوها من ربهم? ... 358
4. الدفع الرابع : قوله تعالى: { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } ، فما الداعي للسنَّة؟ ... 361
5. الدفع الخامس: كفاية القرآن الكريم : ... 362
الدفع السادس: عرض الحديث على القرآن ... 365
الدفع السابع : السنَّة تحذرنا منكم ومن مزاعمكم : ... 371
الشبهة الثانية - حجيةُ السنَّة ... 375
1. بيانُ مهمة الرسل : ... 375
2. ثواب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم كما بشَّر بها القرآن الكريم ... 376
3. إثباتُ حجية السنَّة من السنَّة : ... 377
4. أنواعُ بيان السنَّة للقرآن الكريم ... 380
* تخصيص العام ... 380
* السنَّة تفسرُ آيات قرآنية: ... 386
* استقلال السنة بالتشريع: ... 387
* تقييدُ المطلق: ... 390
6. القرآن يأمرنا بالتمسك بالسنة ... 391
المبحث الخامس ... 395
بيان الفرق بين أهل الحديث وأصحاب الرأي ... 395(1/421)