المقدمة
الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينا، ومنَّ علينا من خزائن علمه فتحاً مبينا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها ما زال عليما حكيما، واشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله نبياً ما برح بالمؤمنين رءوفا رحيما، اللهم صلّ على محمد النبي الأمي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد ...
فإن استنباط الأحكام الشرعية لا يكون عن هوى وارتجال، بل يكون وفق قواعد مقررة، ونصوص محكمة، والعلم الذي يوصل إلى هذه الغاية، هو علم أصول الفقه؛ إذ من خلاله نقف على الدلائل الإجمالية التي يسترشد بها الفقهاء وبضبط قواعده تتكون ملكة الاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية للوقائع والمسائل المتجددة التي لم نقف فيها للسلف على حكم، ولم نجد لهم فيها رأيا.
ولهذا؛ فإن علم الأصول هو نبراس العقول، والعاصم لذهن المجتهد من الخطأ في استنباط الأحكام من المنقول ، وهو السد المنيع لحفظ ثوابت الدين من دعاه التضليل، وشبهات الملحدين.
قال الإمام أبو حامد الغزالي - رحمه الله تعالى -: " وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي و الشرع، وعلم أصول الفقه من هذا القبيل؛ فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول، بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبنى على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد"(1).
وقد صدّر الإمام جمال الدين الإسنوى - رحمه الله - كتابه التمهيد بقوله:" وبعد فإن أصول الفقه علم عظم نفعه وقدره، وعلا شرفه، وفخره؛ إذ هو مثار الأحكام الشرعية، ومنار الفتاوى الفرعية، التي بها صلاح المكلفين وأهم ما يتوقف عليه من المواد، كما نص عليه العلماء، ووصفه الأئمة الفضلاء"(2).
- أسباب اختيار البحث:
__________
(1) - المستصفى: 1/3 .
(2) - التمهيد في تخريج الفروع على الأصول:43.(1/1)
نظرا لما ذكر من أهمية علم أصول الفقه، واعترافا بفضل الله تعالى علىَّ أن جعلني تابعا لأهل الأصول، كان لزاما علىَّ أن أبحث عن التراث الأصولي المكنون، الذي خلفه لنا السابقون أولو الفضل ، للاستفادة من علومهم ولإخراج مكنون جواهرهم.
وقد وفّق الله عز وجل جامعة الأزهر إلى تبنّى تحقيق التراث الإسلامي - الذي ما زال معظمه مخطوطا يعلوه الركام - وإخراجه إلى النور، إسهاما منها في اتصال المنظومة المعرفية، وحفاظا على هذا التراث العظيم من الضياع .
وقد شرفني الله - عز وجل - بالمساهمة في تحقيق هذا التراث الشرعي، وذلك لإخراج سفر عظيم من كنوز أصول فقه الحنفية، وهو كتاب "الشامل" للعلامة أمير كاتب بن أمير عمر الفارابي ـ رحمه الله تعالى ـ المكنى بأبي حنيفة الصغير، وهذا الكتاب شرح وافٍ على أصول فخر الإسلام البزدوي - رحمه الله تعالى - وبتوفيق من الله - عز وجل - - وقع اختياري على بابين من هذا الكتاب هما (باب حكم الأمر والنهى في أضدا دهما، وباب بيان أسباب الشرائع).
ولاختيار كتاب الشامل بوجه عام، وهذين الموضوعين بصفة خاصة أسباب:
أولها: أن هذا الكتاب يعتبر بحق أكبر وأشمل مصنَّف في علم الأصول بصفة عامة، وفي أصول مذهب الحنفية بصفة خاصة، فمؤلفه- رحمه الله تعالى- جمع فيه كتب المتقدمين من مشايخ المذهب كالإمام الجصاص، والقاضي أبى زيد الدبوسي، وشمس الأئمة السرخسي - رحمهم الله تعالى- وغيرهم، وبالإضافة إلى ما تقدم، فقد أيد هذا الشرح بشرح من سبقوه على أصول فخر الإسلام البزدوى، مع المناقشة الموضوعية لأقوال شيخه، وأقرانه ومَنْ سبقوه من الشُرَّاح.
ثانيها: أن المكتبة الإسلامية بحاجة ماسَّة لمثل هذا السِّفْر العظيم، والذي يضم بين طياته بيان عملي لطريقة الفقهاء التي تمتاز بتخريج الفروع الفقهية على القاعدة الأصولية.(1/2)
ثالثها: المساهمة في إحياء تراثنا الإسلامي، خاصة وأننا نعيش في عصر علتْ فيه صيحات دعاة التضليل لفصل شباب الأمة عن ماضيها، وأنهم أبناء اليوم، وأن التمسك بهذا التراث إنما هو رجعية وتخلف !! والحق الذي لا نبغي غيره: أنه لا يصلح آخر هذه الأُمّة إلا بما صلح به أولها، فالخير كل الخير في إتباع من سلف، والشر كل الشر في ابتداع من خلف.
رابعها: أن سبب اختياري لموضوعي الأمر والنهى، وأسباب الشرائع؛ فلأن "افعل، ولا تفعل" تقوم عليهما غالب أحكام الشريعة الإسلامية، وبهما يقع الابتلاء، بل إن شئتَ فقل: بهما يُعرف الحلال والحرام، وعليهما يتوقف مدار الأحكام.
وأما باب بيان أسباب الشرائع ففيه من الفوائد ما لا يحصى، ويكفي أن يقف الإنسان من خلاله على الأسباب التي من أجلها شرع الله عز وجل هذه الأحكام، ابتداءً من سبب وجوب أصل الدين وهو الإيمان بالله تعالى، وانتهاء بأسباب مشروعية الحدود.
- خطة البحث
اقتضت طبيعة هذا البحث أن يأتي على ثلاثة أقسام:
1- القسم الدارسى. ... 2- القسم التحقيقي. ... ... 3- القسم التطبيقى.
- أما القسم الدارسى: فقد تضمن مقدمة، وفصلين.
وقد اشتملت المقدمة على أهمية علم الأصول، وفائدته للمجتهد والفقيه والدارس المبتدى، والأسباب التي دعت إلى اختيار موضوع التحقيق، مع بيان الخطة التي سيسير البحث في ضوئها.
وأما الفصلان: فالأول منهما يشتمل على نبذة عن عصر المصنف فخر الإسلام البزدوي ، مع ترجمة شاملة له.
وفي ذلك خمسة مباحث.
المبحث الأول: في اسمه، ونسبته، ولقبه، وكنيته.
المبحث الثاني: في مولده، ومكانته العلمية.
المبحث الثالث: في شيوخه، وتلاميذه.
المبحث الرابع: في مصنفاته، مع بيان أهمية كتابه كنز الوصول .
المبحث الخامس: في وفاته وأقوال العلماء فيه.
والفصل الثاني: تضمن نبذة لعصر الشارح أمير كاتب وترجمه شاملة لحياته.
وقد اشتملت هذه الترجمة على مباحث :(1/3)
المبحث الأول:في اسمه، ولقبه، وكنيته، ونسبته، وولادته، وصفاته.
المبحث الثاني: في رحلاته، وشيوخه، وتلاميذه .
المبحث الثالث: في أقرانه .
المبحث الرابع: في مصنفاته إجمالاً .
المبحث الخامس:في التعريف بكتاب الشامل، وبيان قيمته.
المبحث السادس:في منهج المؤلف في كتابه الشامل، وعقيدته، ووفاته.
- ثانيا: قسم التحقيق.
ويحتوى هذا القسم على النص المراد تصحيحه، وتحقيقه، وإخراجه بصورة تعين المتخصص، وغيره، على فهم معانيه، والاستفادة منه.
وقد اشتمل ذلك على بابين : ـ
الباب الأول: في حكم الأمر والنهى في أضدا دهما.
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في آراء العلماء في مسألة الأمر بالشيء هل له حكم في ضده؟ ا الفصل الثاني: بيان أدلة كل قول في المسألة .
الفصل الثالث: فيما يتفرع على المسألة الأصولية من فروع فقهية.
الباب الثانى:في بيان أسباب الشرائع.
وقد اشتمل على فصلين: ـ
الفصل الأول: في أسباب الشرائع عند الشارح.
الفصل الثاني:في أسباب الشرائع عند المصنف.
- وتتضح ملامح منهج التحقيق الذي سلكته في الخطوات التالية:
أولا:قمت بحصر نسخ المخطوط المراد تحقيقه ، وذلك بعد البحث عنها في مظانها.
ثانيا: نسخت النص المراد تحقيقه من النسخة الأصلية الموجود في دار الكتب المصرية تحت رقم (208، 209)، وكذلك من النسخة التي حصلت عليها من مكتبة الأمة العامة في تركيا ، ويرجع الفضل في إحضارها لله- عز وجل- أولا، ثم لشيخنا الدكتور/ على جمعة وهذه النسخة تحت رقم (487).
ثالثا: راجعت النص المنسوخ، وقارنت بين النسختين، ووضعت ما سقط من الصلب بين المعقوفين، وأشرت إلى ذلك في الهامش.(1/4)
رابعا: أثبت بعض العبارات التي ينبغي أن تكون موجودة في النص مثل عبارة: " عزو جل أو تعالى" بعد لفظ الجلالة، "وصلى الله عليه وسلم" بعد ذكر النبي- صلى الله عليه وسلم-، "ورضي الله عنه" ، و"رحمه الله تعالى" بعد ذكر اسم الصحابي، أو أحد العلماء والفقهاء، ولم أشر إلى ذلك؛ لأنه من الأمور البديهية.
خامسا: عزوت الآيات القرآنية إلى سورها، مع بيان أرقامها وموضع الشاهد بالاستعانة بكتب التفسير.
سادسا: خرجت الأحاديث والآثار من مصادرها الأصلية مع الحكم عليها.
سابعا: قمت بتوضيح المسائل الأصولية والفقهية التي لم يتعرض لها الشارح بالبيان والتوضيح، ثم رجحت ما يؤيده الدليل.
ثامنا: وضحت المفردات الغريبة، والمصطلحات الأصولية والفقهية واللغوية والواردة في البحث.
تاسعا: خرجت الشواهد الشعرية مع عزوها إلى قائلها، وبيان موضع الشاهد فيها.
عاشرا: ترجمت للأعلام والفرق والأماكن والبلدان الواردة في البحث.
حاد ى عشر: حررت الأقوال التي ذكرها المصنف والشارح- رحمهما الله تعالى-، وعزوت كل قول إلى قائله بقدر الإمكان، لكن الشارح كرر أقوالا كثيرة في مسألة
الأمر بالشيء نهى عن ضده" ، وهى بنفس اللفظ والمعنى الذي يدل عليه الأقوال في المرة الأولى غالبا؛ لذا اكتفيت بما حررته في أول مرة تجنبا للتكرار.
ثاني عشر: وضعت عناوين للفصول والمسائل التي لم يذكر الشارح لها عنوانا؛ لكي يستطيع القارىء للرسالة الوقوف على محتوياتها، والاستفادة منها.
ثالث عشر: وضعت حرف (ص) أمام قول المصنف " فخر الإسلام البزدوي"؛ ليُعلَم أن الكلام الذي يأتي بعدها هو من كلامه، وكذلك أثبت حرف (ش) أمام كلام الشارح "أمير كاتب"؛ ليعلم أن ما يأتي بعدها هو من كلامه.
رابع عشر: وضعت الفهارس اللازمة للبحث على النحو التالي:
فهرس الآيات القرآنية.
فهرس الأحاديث النبوية.
فهرس الآثار .
فهرس المصطلحات والغريب من المفردات .
فهرس الأعلام.
فهرس الفرق.
فهرس الأماكن والبلدان.(1/5)
فهرس المصادر والمراجع .
فهرس الموضوعات.
- ثالثا: القسم التطبيقي.
و فيه يتم تطبيق ما تم تحقيقه نظريا على سورة الحجرات
وقد اشتمل على فصلين : ـ
الفصل الأول : تطبيق مسألة الأمر بالشئ نهي عن ضده على الأوامر الصريحة في السورة الكريمة .
وفيه مباحث :
المبحث الأول: بين يدي السورة الكريمة.
المبحث الثاني:في تعريف الأمر والنهى القرآني.
المبحث الثالث:في إحصاء ما تشتمل عليه السورة من الأوامر والنواهي.
المبحث الرابع:في تطبيق أوامر السورة على مسألة الأمر بالشيء نهي عن ضده، وكذا النهى عن الشيء أمر بضده.
الفصل الثاني :تطبيق باب أسباب الشرائع على سورة الحجرات .
وفيه ثلاثة مباحث :
المبحث الأول :سبب وجوب الأدب مع الله ورسوله .
المبحث الثاني : سبب وجوب التثبت عند تلقي الأخبار المهمة .
المبحث الثالث : سبب وجوب الصلح بين المقتتلين من المؤمنين وقتال الفئة الباغية .(1/6)
ثالثا
القسم التطبيقي
بين يدى السورة الكريمة
قال الإمام فخر الدين الرازى- رحمه الله تعالى:-
" هذه السورة الكريمة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، وحسن الأدب: إما مع الله تعالى، أو مع رسوله- - صلى الله عليه وسلم -- أو مع غيرهما من العباد، وهم على صنفين:
لأنهم إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين، داخلين فى رتبة الطاعة، أو خارجين عنها وهم الفساق، والداخل فى طائفتهم المسالك بطريقتهم، إما أن يكون حاضرا عندهم، أو غائبا عنهم فهذه خمسة أقسام:
أحدهما : يتعلق بجانب الله تعالى .
ثانيها: يتعلق بجانب الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
ثالتها: يتعلق بالفساق .
رابعها: يتعلق بالمؤمن الحاضر.
خامسها: يتعلق بالمؤمن الغائب.
وقد أرشد الله- عز وجل- عباده المؤمنين فى كل مرة إلى مكرمة وفضيلة مع قسم من الأقسام.
فقال أولا: { ياأيها الذين ءامنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله } ، وذكر الرسول - - صلى الله عليه وسلم -- كان لبيان طاعة الله تعالى؛ لأنها لا تعلم إلا بقول رسوله .
وقال ثانيا: { يا أيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى } وذلك لبيان وجوب احترام النبى صلى الله عليه وسلم.
وقال ثالثا: { يا أيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوال أهل الفسق؛ فإنهم يريدون إلقاء الفتنة بين المؤمنين.
وقال رابعا: { يا أيها الذين ءامنوا لا يسخر قوم من قوم } لبيان وجوب ترك إيذاء المؤمنين فى حضورهم، والازدراء بحالهم.
وقال خامسا: { يا أيها الذين ءامنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا } لبيان وجوب الاحتراز عن إهانة جانب المؤمن من حال غينته، وذكر ما لو كان حاضرا لتأذى"(1).
المبحث الأول
إحصاء ما تشتمل عليه السورة الكريمة من الأوامر والنواهى
__________
(1) - مفاتيح الغيب للرازى : 14/ 368 .(2/1)
اشتملت سورة الحجرات على أربعة وعشرين أمرا ونهيا، وفى ذلك دلالة على أنها سورة متضمنة لكثير من الأحكام الشرعية التى ينبغى معرفتها، والوقوف على ما فيها من أوامر فتمتثل، وعلى ما فيها من نواه فتجتنب، وقبل دراسة هذه الأوامر والنواهى، وما تشتمل عليه من أحكام سأقدم بيانا بعدد تلك الأوامر والنواهى كل منهما على حدة.
أولا: حصر الأوامر الواردة فى السورة الكريمة.
اتقوا . ورد الأمر بذلك فى الآية رقم (1) ، (10) ، (12) .
تبينوا . كما فى الآية رقم ( 6 ) .
اعلموا . كما فى الآية رقم (7 ) .
أصلحوا . ورد الأمر بها مرتين فى الآية رقم (9 ) ، ومرة واحدة فى الآية رقم (10) .
قاتلوا . كما فى الآية رقم (9 ) .
أقسطوا . كما فى الآية (9 ) .
اجتنبوا . كما فى الآية رقم (12).
قل، وقولوا . ورد الأمر بهما أربع مرات فى الآية رقم (14)، (16)، (17).
ثانيا: النواهى الواردة فى السورة الكريمة
لا تقدموا. كما فى الآية رقم ( 1 ) .
لا ترفعوا . كما فى الآية رقم ( 2 ) .
لا تجهروا . فى الآية السابقة .
لا يسخر . كما فى الآية رقم ( 11 ) .
لا تلمزوا . فى السابقة
لا تنابزوا . فى السابقة .
لا تجسسوا . فى السابقة .
لا تجسسوا . كما فى الآية رقم ( 12 )
لا يغتب . فى السابقة .
لا تمنوا. كما فى الآية رقم (17 ).
المبحث الثانى
تعريف الأمر والنهى القرآنى(2/2)
يعتبر الأمر نوعا من الكلام؛ لأن لله- تعالى- كلاما واحدا وهو صفة أزلية من أمر، ونهى، وخبر، واستخبار(1)، والكلام عند أهل السنة والجماعة(2) يطلق على اللسانى والنفسى(3)، وعند المعتزلة(4) يطلق على اللسانى فقط(5)؛ لأنهم أنكروا الكلام النفسى.
ولما كان اعتناء الأصوليين موجها إلى البحث فى الكلام اللفظى أو اللسانى باعتباره من الأدلة السمعية، فالمناسب تعريف الأمر والنهى القرآنى باعتبار الصيغة، وهو كالتالى:
أولا: تعريف الأمر الصيغى القرآنى: وهو خطاب الله- تعالى- القرآنى الدال بالوضع على طلب الفعل(6).
ثانيا: تعريف النهى الصيغى القرآنى: وهو خطاب الله- تعالى- القرآنى الدال بالوضع على طلب الترك.
المبحث الثالث
تطبيق مسألة الأمر بالشىء نهى عن ضده
على الأوامر الواردة فى سورة الحجرات
- الآية الأولى
قول الله تعالى: { يا أيها الذين ءامنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم } .
المعنى العام للآية:
__________
(1) - ينظر: الشامل لأمير كاتب 4/ لوجة 198 ب .
(2) - سبق التعريف بهم صـ
(3) - ينظر: الإبانة عن أصول الديانة: 88 ، الحدود لابن فورك: 133، 134، ميزان الأصول لعلاء الدين السمرقندى: 150، المحصول للرازى : 1/40 .
(4) - سبق التعريف بهم صـ
(5) - شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار: 528، 529 .
(6) - استفدت فى صياغة هذا التعريف للأمر والنهى القرآنى من: تعريف الإمام الإسنوى للمر فى التمهيد: 264 ، ورسالة فى الأوامر 264 ، ورسالة فى الأوامر القرآنية الدالة على أحكام شرعية للدكتور صلاح زيدان: 110 .(2/3)
أى يا أيها المؤمنون، يا من اتصفتم بالإيمان، وصدقتم بكتاب الله تعالى، ولا ينبغى لكم أن تقدموا أمرا أو فعلا على أمر الله- تعالى- وأمر رسوله- أمر الله- تعالى- وأمر رسوله-- صلى الله عليه وسلم - -، ولا تقدموا على فعلهما فعلا، ولا ينبغى لكم أن تحكما فيما لله- تعالى- ولرسوله- - صلى الله عليه وسلم -- فيه حكم إلا بعد حكمهما، ولتكن سمتكم الاتباع والاقتفاء(1)، واتقوا الله فى التقديم أو فى مخالفة الحكم؛ فإن الله- عز وجل- سميع لأقوالكم، عليم بأفعالكم(2).
ما يفيده الأمر فى قوله عز وجل: "واتقوا الله "
الذى تفيده صيغة المر الصريح- هنا- الوجوب؛ لأن هذا الأمر مجرد عن القرائن التى تصرفه من الوجوب إلى غيره، ومما يدل على وجوب الأمر- أيضا- التأكيد بعد الأمر بالتقوى بقوله تعالى: "إن الله سميع عليم".
قال الإمام فخر الدين الرازى- رحمه الله تعالى- : "اتقوا الله واخشوه ، وإلا لم تكونوا أتيتم بواجب الاحترام، وقوله تعالى: { إن الله سميع عليم } يؤكد ما تقدم؛ لأنهم قالوا: آمنا .."(3).
تطبيق القاعدة على أسلوب الأمر فى الآية:
قد تبين أن الأمر فى قوله تعالى: "واتقوا الله " للوجوب، وإذا ثبت أنه للوجوب كان ضده التحريم؛ لأن الأمر بالتقوى يعنى: امتثال الأوامر، واجتناب المنهيات من الكبائر .. أى: اتقاء ما جعل الله الاقتحام موجبا غضبه وعقابة(4).
__________
(1) - الميزان فى تفسير القرآن، للعلامة للطباطبائى: 18 / 306 .
(2) - أنوار التنزيل وأسرار التأويل، للقاضى البيضاوى : 5/211 .
(3) - مفاتيح الغيب، للإمام الرازى : 14 / 358 .
(4) - التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور: 1/226 .(2/4)
ولهذا كان الضد- وهو ترك الأوامر، وفعل المنهيات خاصة سوء الأدب مع الله ورسوله- محرما، وليس من التقوى، وقد سلك القرآن الكريم لإقامة أهم حسن الأدب- مع الله ورسوله- طريق النهى عن أضدادها من سوء المعاملة؛ لأن درء المفسدة مقدم فى النظر العقلى على جلب المصلحة(1).
* الآية الثانية:
قول الله عز وجل: { يا أيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنباء فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين }
المعنى العام للآية:
هذا هو النداء الثالث للمؤمنين فى هذه السورة، وما بعده بيان بوجوب التثبت فى خبر الفساق، وعدم الاعتماد على أقوالهم، فإنهم يريدون إلقاء الفتنة بين المؤمنين(2).
ما يفيده الأمر فى قوله- عز وجل-: " فتبينوا ":
عبر الله- عز وجل- عن طلب الفعل- هنا- بصيغة- الأمر الصريح، وهى فعل الأمر فى قوله: " فتبينوا"، وهو أمر مجرد عن القرائن فيفيد الوجوب، ومما يدل على وجوب الأمر:
أن من ثبت فسقه بطل قوله فى الأخبار اتفاقا؛ لأن الخبر أمانة، والفسق يبطلها(3)، ولهذا قال أبو بكر الجصاص:"مقتضى الآية: إيجاب التثبت فى خبر الواحد..."(4).
التعليل بإصابة يقع آخرها الندم كما فى قوله: "أن تصيبوا" ، وهذا يصلح أن يكون علة على وجوب التثبت فى قبول الأخبار(5).
دلالة قوله تعالى: { فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } على التحذير من الوقوع فيما يوجب الندم شرعا(6).
تطبيق القاعدة على أسلوب الأمر فى الآية.
__________
(1) - المرجع السابق : 25/219 .
(2) - مفاتيح الغيب، للإمام الرازى: 14/ 369 .
(3) - أحكام القرآن، لابن العربى: 4/ 1703 .
(4) - أحكام القرآن، للجصاص : 5/278 .
(5) - روح المعانى، للألوسى : 25/147، التحرير والتنوير : 25/232 .
(6) - المرجع السابق : 25/234.(2/5)
بعد إفادة الأمر الوجوب- هنا- صار مقتضى الآية: إيجاب التثبت فى خبر الفاسق، وضد ذلك الأمر النهى عن الإقدام على قبول هذا الخبر، والعمل به إلا بعد التبين والعلم بصحة مخبره(1).
والأمر بالتثبت فى قوله تعالى: "فتبينوا" له أضداد، كالإقدام على سماع هذا الخبر، وقبوله، والعمل به، وبناء على ما تحقق نظريا فى مسألة الأمر بالشىء والنهى عن ضده، فإن هذا الأمر يقتضى النهى عن سائر هذه الأضداد؛ لئلا يصاب قوم بجهالة، فيقع الندم لكن بعد فوات الأوان.
* الآية الثالثة
قول الله- عز وجل-: { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم فى كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه فى قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون }
المعنى العام للآية
أى اعلموا أن بين أظهركم رسول الله- - صلى الله عليه وسلم -- فعظموه ووقروه، فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم، ولو أطاعكم فى أكثر ما تختارون لهلكتم وجهدتم، وفوق ذلك حبب الله تعالى- إلى قلوبكم الإيمان، وبغض إلى نفوسكم أنواع الضلال(2)
ما يفيده أسلوب الأمر فى الآية:
عبر المولى- عز وجل- عن طلب الفعل- هنا- بصيغة الأمر الصريح، وهى فعل الأمر فى قوله تعالى: { واعلموا أن فيكم رسول الله } ، وهذه الصيغة تفيد الوجوب، وفى الآية ما يدل على ذلك.
أولا: أن قوله تعالى: { واعلموا أن فيكم رسول الله } دال على أنهم جاهلون بقدره عليه الصلاة والسلام، مفرطون فيما يجب من تعظيم شأنه أعلى الله تعالى شأنه(3).
والمعنى: لا تنسوا أن بينكم رسول الله، وأنه يجب عليكم أن ترجعوا الأمور إلى ما يراه ويأمر به من غير أن تتبعوا أهواء أنفسكم(4).
__________
(1) - أحكام القرآن، للجصاص: 5/ 278 .
(2) - مختصر ابن كثير: 3/361، الميزان فى تفسير القرآن: 18/312 .
(3) - روح المعانى للألوسى : 25/149 .
(4) - الميزان فى تفسير القرآن للطباطبائى: 18/313 .(2/6)
ثانيا: قوله تعالى: { أن فيكم رسول الله } خبر مستعمل فى الإيقاظ والتحذير على وجه الكناية، فإن كون رسول الله- - صلى الله عليه وسلم - - بين ظهرانيهم أمر معلوم لا يخبر عنه، والمقصود- والله أعلم- تعليم المسلمين اتباع ما شرع لهم رسول الله- - صلى الله عليه وسلم -- من الأحكام ولو كانت غير موافقة لا غباتهم(1).
ثالثا: تعليل امتناع طاعة الرسول- - صلى الله عليه وسلم -- لبعض المؤمنين الذين يريدون أن يعمل ما يطلبون منه، بأن فى تلك الطاعة شقاء وهلاكا لهم، ولذلك ابتدائت الآية بقوله تعالى: { واعلموا } ؛ للاهتمام بما ينبغى أن لا ينسوه.
تطبيق القاعدة على أسلوب الأمر فى الآية.
لما كان المر فى قوله تعالى .. { واعلموا } مرادا به العلم المضمن بالعمل والطاعة لأمر الله تعالى، وتعظيم شأنه- - صلى الله عليه وسلم -- والانقياد لأمره، فإن ضده النهى عن نسيان ذلك، ويكون المعنى { لا تنسوا أن فيكم رسول الله } .
* الآية الرابعة، والخامسة.
قول الله عز وجل: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين* إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين اخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } .
المعنى العام للآيتين:
أى: وإن حدث أن فئتين وجماعتين من المؤمنين جنحوا إلى القتال فأصلحوا بينهما، فإن تعدت إحدى الطائفتين على الأخرى بغير حق، فقاتلوا الطائفة المتعدية حتى ترجع إلى ما أمر الله- تعالى- به، وتنقاد لحكمه، فإن رجعت عن القتال، فأصلحوا بينهما بالعدل، دون حيف على إحدى الطائفتين، إن الله- عز وجل- يحب العادلين الذين لا يجورون فى أحكامهم(2).
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور: 25/234 .
(2) - الميزان فى تفسير القرآن: 18/315 .(2/7)
ثم أراد الله- عز وجل- أن يقوى وشيجة الأخوة بين المؤمنين فكرر الأمر بالإصلاح بينهم، للدلالة على أن أخوة الإسلام أقوى من أخوة النسب؛ لأن أخوة النسب لا تعتبر إذا خلت عن أخوة الإسلام.
صيغة الأمر وما تفيده فى الآيتين:
ورد الأمر بالإصلاح بين المؤمنين- هنا- ثلاث مرات، وقد عبر المولى- عز وجل- فى كل مرة عن طلب الفعل بصيغة من صيغ الأمر الصريح، وهى فعل الأمر { أصلحوا } .
والأمر فى المرات الثلاث يفيد الوجوب، وقد تأكد هذا الوجوب بأمور:
الأول: أن فى الأمر بالإصلاح النصح والدعاء إلى حكم الله تعالى(1)، بالإضافة إلى إصلاح ذات البين الذى أمر الله- عز وجل- به فى قوله: { وأصلحوا ذات بينكم } (2).
الثانى: تكرار الأمر بالإصلاح ثلاث مرات فى آيتين متتاليتين يؤكد على أخوة الدين التى تستوجب الإصلاح بين الطائفتين المتباغيتين منهم، ببيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من النسب الموحى به فى القرآن مالا ينقص عن نسب الأخوة الجسدية(3).
الثالث: ما قاله الإمام الكيا الهراسى فى قوله تعالى: { فأصلحوا } ودلالته على وجوب الإصلاح عند التنازع بين المسلمين(4).
* وأما الأمر قوله تعالى: { فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله } فيفيد الوجوب المقيد بغاية، وهى الرجوع إلى أمر الله، وأمر الله: ما فى الشريعة من العدل والكف عن الظلم(5).
وكذا الأمر فى قوله تعالى: { وأقسطوا } يفيد الوجوب بدلالة قوله: { إن الله يحب المقسطين } .
* تطبيق القاعدة على الأوامر الواردة فى الآيتين.
__________
(1) - أنوار التنزيل وأسرار التأويل : 5/215.
(2) - سورة الأنفال : آية 1 .
(3) - التحرير والتنوير لابن عاشور : 25/ 244 .
(4) - أحكام القرآن لإلكيا الهراسى: 4/382 .
(5) - أحكام القرآن للجصاص : 5/285، التحرير والتنوير: 25/242 .(2/8)
قد تقرر عند أكثر الأصوليين أن الأمر بالشىء يستلزم النهى عن ضده إذا كان له ضد واحد، أو أضداد كثيرة، وأن اللفظ الدال على الطلب الجازم، وجب أن يكون دالا على المنع من الإخلال به بطريق الالتزام(1).
والأمر فى قوله تعالى: { فأصلحوا } دال على وجوب الإصلاح بين المتنازعين من لمسلمين، ونقيض هذا الأمر عدم الإصلاح، وهو منهى عنه نهى تحريم، لأنه من المنكر الذى أمر النبى- - صلى الله عليه وسلم -- بتغييره كما فى قوله عليه السلام: "من أرى منكم فليغيره بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان"(2).
بل إن ترك الإصلاح بين المتنازعين من المسلمين يعد خذلانا نهى عنه الشرع على لسان رسوله محمد - - صلى الله عليه وسلم - - فى قوله: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذ له.."(3).
ولما كان الأمر فى قوله تعالى: { فقالوا } دالا على الوجوب المقيد بغاية، وهو الرجوع إلى أمر الله تعالى. فتكون اضداد هذا الأمر- من ترك قتال أهل البغى، وخذلان الفئة المتعدى عليها، وعدم الامتثال لأمر الله- منهيا عنها نهى تحريم؛ لأن ما فعله الإمام على بن أبى طالب- رضى الله تعالى عنه- مع الخوارج يؤيد ذلك(4).
* وأما الأمر فى قوله تعالى: { وأقسطوا } فهو أمر عام تذييلا للأمر بالعدل الخاص فى الصلح بين الفريقين..، أى يجب العدل فى صورة الإصلاح، فلا يضيعوا بصورة الصلح منافع عن كلا الفريقين إلا بقدر ما تقتضيه حقيقة الصلح من نزول عن بعض الحق بالمعروف(5).
__________
(1) - الإحكام للآمدى: 2/393، المحصول للرازى: 1/246
(2) - أخرجه الإمام المسلم: برقم 78.
(3) - المرجع السابق: برقم: 140 .
(4) - أحكام القرآن للجصاص: 5/282 .
(5) - التحرير والتنوير: 25/242 .(2/9)
وإذا كان هذا الأمر دالا على الوجوب، فيكون دالا على المنع من نقيضه- وهو الصلح المحفوف بالحيف والظلم، وهذا ما صرح الله- عز وجل- بتحريمه فى الحديث القدسى، فقال: { إنى حرمت الظلم على نفسى، وجعلته بينكم محرما فلا تظلموا... } (1)
وأما الأمر فى قوله تعالى: { واتقوا الله لعلكم ترحمون } فقد تقدم الكلام عنه فى الآية الأولى من السورة الكريمة.
* الآية السادسة:
قول الله- عز وجل-: { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم } .
المعنى العام للآية:
هذا هو الخطاب الخامس من الله- تعالى- لعباده المؤمنين، والمعنى: ابتعدوا أيها المؤمنون عن إساءة الظن بالناس- خاصة أهل الخير-؛ فإن بعض الظن إثم وذنب يستحق صاحبه العقوبة عليه، ولا ينبغى لكم أن تبحثوا عن عورات المسلمين، ولا يذكر بعضكم بعضا بالسوء فى غيبته بما يكرهه؛ لأن من اغتاب أخاه مثله كمثل الذى يأكل لحم أخيه المسلم وهو ميت، وكونوا من المتقين حتى يتوب الله عليكم(2).
صيغة الأمر وما تفيده فى الآية:
ورد الأمر بطلب الفعل فى قوله تعالى: { اجتنبوا } ، وهذا الأمر الصريح يفيد الوجوب، يفيد الوجوب، والذى يدل على وجوب الأمر -هنا- أمور:
منها: التأكيد على إلحاق الإثم لمن يتبع الظن وآثاره المحظورة كما فى قوله تعالى: { إن بعض الظن إثم } ، وهذا تعليل لقوله تعالى: { اجتنبوا } (3)
ومنها: التحذير من الظن، وأنه أكذب الحديث كما جاء فى صحيح البخارى عن أبى هريرة- رضى الله عنه- أن النبى- - صلى الله عليه وسلم -- قال: " إياكم والظن؛ فإن الظن اكذب الحديث..."(4).
__________
(2) - مختصر ابن كثير : 3/364 .
(3) - فتح البيان فى مقاصد القرآن، لصديق خان: 9/81 ، 82 .
(4) - تخريج الحديث .(2/10)
ومنها: أن ما ورد الأمر باجتنابه من الظنون- وهو كل ما لم تعرف له أماره صحيحة، وسبب ظاهر- كان حراما واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح.. فى الظاهر(1).
التطبيق :
قد تبين أن الأمر- هنا- فى قوله تعالى: { اجتنبوا كثيرا من الظن } دال على الوجوب، وعليه فالضد- وهو الاقتراب من الوسائل الموصلة إلى الظنون السيئة، والوقوع فيها- يكون منهيا عنها نهى تحريم؛ والعلة فى ذلك ما ذكر من أدلة على وجوب الامتثال لأمر الله تعالى فى قوله { اجتنبوا كثيرا من الظن } .
الآية الثامنة:
قول الله- عز وجل- : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
المعنى العام للآية:
أى زعم بعض الأعراب أنهم آمنوا، فأمر الله - عز وجل - رسوله محمد - - صلى الله عليه وسلم -- أن يخبرهم بأنهم لم يؤمنوا بعد، بل أسلموا فى الظاهر، والإيمان عمل القلب، وإن أطاعوا الله- عز وجل- ورسوله - - صلى الله عليه وسلم -- ، ولم يمنوا على الرسول بالإيمان، لا ينقض ذلك من أجوركم شيئا(2).
أسلوب الأمر وما يفيده فى الآية.
عبر الله - عز وجل- عن طلب الفعل- هنا- بصيغة الأمر الصريح وهى فعل الأمر فى قوله تعالى: { قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا } ، وهذا أمر لرسوله- صلى الله عليه وسلم- بإبلاغ الوفد جاءه من الأعراب بأنهم لم يؤمنوا، لكنهم أسلموا.
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن، للقرطبى : 9/6151، 6152 .
(2) - مختصر ابن كثير: 3/369، الميزان فى تفسير القرآن 18/328، 329 .(2/11)
وهذا الأمر الوجوب؛ لعدم القرينة التى تصرفه من الوجوب إلى غيره، ولأن البلاغ واجب فى حقه- - صلى الله عليه وسلم -- بدلا قوله تعالى: { {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ... } (1)
التطبيق:
إذا كان التبليغ فى حق الرسول- - صلى الله عليه وسلم -- واجبا على الفور بالنص السابق، فيكون الكتمان منهيا عنه- - صلى الله عليه وسلم --؛ لأن مهمة الرسول- - صلى الله عليه وسلم -- مقصورة ومحصورة فى البلاغ عن الله- تعالى- بدلالة قوله: { وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } (2).
وأما الأمر الثانى فى الآية وهو قوله تعالى: { وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } فيفيد الإرشاد والتأديب مع الله ورسوله، فكأنه تعالى أرشدهم إلى الامتناع عن الكذب فقال: { لَّمْ تُؤْمِنُوا } كنتم تقولون شيئا فقولوا: { أَسْلَمْنَا } .
قال الإمام فخر الدين الرازى- رحمه الله تعالى-: قوله تعالى: { وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } يقتضى قولا سابقا مخالفا لما بعده، كقولنا: " لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا"ن وفى ترك التصريح به إرشاد وتأديب .. فلم يقل: لا تقولوا آمنا، وأرشدهم إلى الامتناع عن الكذب، فقال: { لَّمْ تُؤْمِنُوا } فإن كنتم تقولون شيئا فقولوا أرما عاما، لا يلزم منه كذبكم: { أَسْلَمْنَا } فإن الإسلام بمعنى الانقياد وقد حصل"(3).
وإذا كان الأمر- هنا- يفيد الإرشاد والتأديب، فإنه يقتضى كراهة ضده، وقلنا: بكراهة الضد- وهو " لا تقولوا آمنا" الذى فيه إظهار عدم الحقيقة- ولم نقل بتحريمه؛ لأن الندب والإرشاد يقابله الكراهة.
__________
(1) - المائدة 67 .
(2) - المائدة : 92 .
(3) - مفاتيح الغيب: 14/ 402 .(2/12)
وأما الأمر فى قوله تعالى: { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ } وكذلك فى قوله: { قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم } فإن الكلام قد سبق فى ذلك منذ قليل.
المبحث
تطبيق مسألة النهى عن الشىء أمر بضده
على النواهى الواردة فى سورة الحجرات
الآية الأولى:
قول الله- عز وجل-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ .... }
صيغة النهى وما تفيده فى الآية :
ورد النهى فى قوله تعالى: { لَا تُقَدِّمُوا } بصيغة من صيغ النهى الصريح، وهى الفعل المضارع المجزوم بـ (لا) الناهية.
وهذا النهى يفيد التحريم، والمعنى لا تحكموا فيما لله تعالى ورسوله- - صلى الله عليه وسلم -- فيه حكم إلا بعد حكم الله ورسوله()، والذى يدل على إفادة النهى التحريم- هنا- ما يلى:
أن المؤمنين مأمورون بإتباع ما جاء به الرسول- - صلى الله عليه وسلم --، والانتهاء عما نهاهم عنه، كما فى قوله تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } (1)،
فى ذكر اسم الله- عز وجل- قبل اسم الرسول- - صلى الله عليه وسلم -- تنبيه على أن مراد الله- عز وجل- إنما يعرف من قبل الرسول- - صلى الله عليه وسلم --، وفيه نهى صريح عن إبرام شىء دون إذن من قِبله صلى الله عليه وسلم (2).
التطبيق :
إذا كان طلب الترك- هنا- فى قوله تعالى: { لَا تُقَدِّمُوا } دالا على التحريم، فيكون نقيضه- وهو قدموا أو اتبعوا أمر الله ورسوله- دالا على الوجوب، أى: وجوب احترام الرسول- - صلى الله عليه وسلم -- والانقياد لأوامره(3).
الآية الثانية:
قول الله -عز وجل-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ... }
__________
(1) - الحشر: آية 7 .
(2) - مفاتيح الغيب: 14/ 358 .
(3) - مفاتيح الغيب: 14/ 458 .(2/13)
فى إعادة النداء مرة ثانية إشعار بالتنبيه على ما يأتى بعد هذا النداء، وأنه أمر خطير، وسلوك يبنغى للمؤمنين أن يتحلوا به مع رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- فى حياته، وأيضا بعد موته.
قال ابن العربى- رحمه الله تعالى- فى أحكامه: " حرمة النبى - - صلى الله عليه وسلم -- ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثور بعد موته فى الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرىء كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك فى مجلسه ..."(1).
أسلوب النهى وما يفيده فى الآية.
عبر الله- عز وجل- عن طلب الترك- هنا- فى قوله تعالى: { لَا تَرْفَعُوا } ، وقوله: { وَلَا تَجْهَرُوا } للتحذير من إثبات هذا الفعل المنهى عنه، ولذلك جاء النهى بصيغة صريحة، وهى الفعل المضارع المسبوق بـ "لا" الناهية.
وهاتان الصيغتان تفيدان التحريم، أى: تحريم رفع الصوت فوق صوت النبى- - صلى الله عليه وسلم -- حيا أو ميتا، والجهر له بالقول بأن لا ينادوه كما ينادى بعضهم بعضا، وعلة التحريم، قوله تعالى: { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } .
التطبيق:
لما كان النهى فى قوله تعالى: { لَا تَرْفَعُوا ... وَلَا تَجْهَرُوا } دالا على حرمة سوء المعاملة وعدم الأدب مع رسول الله- - صلى الله عليه وسلم -- كان الضد- وهو خفض الصوت، واحترام النبى- - صلى الله عليه وسلم -- وتقديره - أمرا واجبا على الفور.
الخاتمة
بعد توفيق الله عز وجل لى على أتمام القسم الدراسى، والتحقيقى، والتطبيقى، فقد تبين ما يلى:
أن باب الأمر والنهى من أهم أبواب علم الأصول؛ إذ بهما يعرف الحلال من الحرام، وعليهما مدار الأحكام.
أن مسأله الأمر بالشيىء والنهى عن ضده، والنهى عن الشىء والأمر بضده ، أصل هام ومفيد ينبنى عليه كثير من الفروع الفقهية المفيدة .
أن باب بيان أسباب الشرائع باب جليل القدر فى علم الأصول، بحيث يجب ضبطه، وأدراك أسراره .(2/14)
أن الأحكام الشرعية تثبت بإيجاب الله - عز وجل- صراحة، ودلالة بنصب الأدلة، فى الأسباب أمارات وعلامات على إيجاب الأحكام؛ لأن الموجب الحقيقى وشارع الشرائع أجماعا هو الله - عز وجل-، فلا مشرع غيره.
أن تطبيق القسم التحقيقى النظرى على سورة الحجرات له فائدة عظيمة حيث تم فيه أخضاع القواعد الأصولية والمباحث النظرية إلى التطبيق العملى، وفيه أيضا معرفته وفهم مراد الله- عز وجل- من أوامره ونواهيه، فنقف على دلالات الأوامر من الوجوب وغيرها فتُمتثل، ودلالات النواهى من التحريم وغيرها فتُجتنب.
وهذه أهم نتيجة أوصى بها نفسى وإخوانى الباحثين، وهى توجيه المباحث الأصولية النظرية إلى خدمة كتاب الله تعالى- عز وجل- وسنه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(2/15)
تمهيد
نبذة عن العصر الذي عاش فيه الإمام البزدوي:
مما لا ريب فيه أن الإنسان وليد عصره، ففيه ينشأ وبه يتأثر،وقد عاش الإمام فخر الإسلام البزدوى - رحمه الله- في عصر الخلافة العباسية الأولى في الفترة ما بين سنة (400 - 482هـ).
وسأرصد- إن شاء الله تعالى- في السطور التالية أهم ملامح هذا العصر التي تعين في التعرف على مقومات شخصية الإمام فخر الإسلام البزدوى الذي كان علما في عصره آنذاك.
أولا: عانت الدولة الإسلامية في أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس الهجريين من الانقسامات في ظل الصراعات السياسية المنتشرة في أنحاء العالم الإسلامي، فحل الضعف، وانفصلت كثير من الولايات عن مقر الخلافة الإسلامية(1).
ثانيا: إذا كانت الدولة مضطربة سياسيا، فلابد أن تكون الحالة الاجتماعية هي الأخرى مضطربة كذلك، فانقسم المجتمع في ذلك الوقت إلى طبقتين، طبقة الخاصة، وشملت: أصحاب الخليفة وأقرباءه، والأمراء، والكتّاب، والقضاة.
وطبقة العامة: وتشمل باقي أفراد الشعب، وكانت السمة الغالبة في هذا العصر هي الإسراف والبذخ في تشييد القصور وغير ذلك من أنواع الترف التي حاول الخليفة المقتدى القضاء عليها(2).
ثالثا: وبالرغم من اضطراب الحالتين السياسية والاجتماعية؛ إلا أنه ظهرت نهضة علمية كبيرة شملت معظم العلوم والفنون، وأصبح التقدم العلمي سمة من سمات القرن الخامس الهجري.
فأنشأت المراكز الثقافية، وظهرت كثير من المدارس في العلوم الإسلامية كالمدرسة النظامية في بغداد ونيسابور، وفي مصر الجامع الأزهر الذي بناه الفاطميون(3).
ونتيجة للاضطراب في الناحية السياسية والاجتماعية فقد شهد هذا العصر العديد من الصراعات الدينية والخلافات المذهبية.
__________
(1) - التاريخ الإسلامي للمحقق محمود شاكر: 5/ 7 .
(2) - البداية والنهاية لابن كثير: 12/ 146 .
(3) - المرجع السابق: 12/140، طبقات الشافعية الكبرى: 4/314 .(3/1)
فقد كان لفرقة المعتزلة نفوذ كبير، فاضُطُّهِدَ أهلُ السنة في ذلك الوقت، خاصة أيام المأمون، والمعتصم، والواثق، ولم يتغير الحال إلا في أيام الخليفة المتوكل الذي أظهر ميله إلى أهل السنة، ورفع المحنة عنهم، وأجزل لهم العطاء(1).
كذلك تعددت المذاهب الفقهية في هذا العصر، وكان للمذاهب الأربعة- والتي شملت أرجاء العالم الإسلامي- النصيب الأكبر في الإتباع من قبل الناس.
وفي ظل هذا الخضم من الصراعات والاضطرابات عاش الإمام فخر الإسلام البزدوى- رحمه الله تعالى-، لكن هذه الصراعات لم تَعُقْه عن التدريس أو التأليف حتى عُرف في وقته بصاحب الطريقة على مذهب أبى حنيفة رحمه الله تعالى(2).
المبحث الأول
في التعريف بالإمام فخر الإسلام البزدوى
أولا: اسمه ونسبته: هو على بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى بن مجاهد، الفقيه، الأصولي الحنفي(3)، البَزْدَوي(4).
__________
(1) - البداية والنهاية : 10/308، 325 ، تاريخ الخلفاء للسوطي: 1/346 .
(2) - الأنساب للسمعاني: 1/339 .
(3) - الجواهر المضية للقرشي: 2/594 ، سير أعلام النبلاء للذهبي: 18/ 177، الفوائد البهية للكنوى: 124، تاريخ الخلفاء للسيوطى: 365، ايضاح المكنون لإسماعيل باشا البغدادي: 388، الأعلام للزركلى: 7/22، معجم المؤلفين لعمر كحالة: 7/192، أبجد العلوم 3/117 .
(4) - نسبة إلى "بَزْدَة" بفتح الباء وسكون الزاي وفتح الدال المهملة، وهى قلعة حصينة على بُعد ستة فراسخ من نسف على طريق بخارى، وتتبع الآن جمهورية أوزبكستان.
وقال ياقوت: "ويقال" بَزْدَة ، وينسب إليها أبو الحسن علىّ بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم البزدوى، ويقال البزدوى ..." والحاصل: أن النسبة إلى (بزدة) بَزْدَي ، وإلى (بزدوة) بَزْدَوىْ.
الأنساب للسمعاني: 1/339، معجم البلدان لياقوت : 10/ 409 .(3/2)
ثانيا: لقبه: أكثر كتب التراجم على أن لقبه فخر الإسلام(1)، وقد لقبه ابن خلدون في مقدمته بـ "سيف الإسلام"(2)، والسمعاني في الأنساب بـ "أستاذ الأئمة"(3).
ثالثا: كنيته: لفخر الإسلام البزدوى كنيتات:
أولاهما: يكنى بأبي الحسن.
والأخرى: أبو العسر؛ وذلك لعسر تصانيفه(4).
المبحث الثاني
مولده ومكانته العلمية
أولا: مولده:
ولد الإمام فخر الإسلام البزدوى- رحمه الله تعالى- في حدود سنة 400هـ، وكانت ولادته ببزدة التي ينسب إليها(5).
ثانيا: مكانته العلمية:
الكلام في سطور لا يفي ببيان مكانة فخر الإسلام العلمية، فهو- كما تكلمت عنه كتب التراجم(6)- أصولي وفقيه ما وراء النهر، وأستاذ الأئمة، صاحب الطريقة المعروفة على مذهب أبى حنيفة النعمان- رحمه الله تعالى- اشتهر بتبحره في الفقه والأصول حتى انتهت إليه رئاسة المذهب تلقى العلم بسمرقند(7)، تقلد قضاءها، ثم قضاء بخارى، ثم عزل، ورجع إلى موضع ولادته ببردة فسكنها.
المبحث الثالث
شيوخه وتلاميذه وأقرانه
- أولا: شيوخه:
__________
(1) - الجواهر المضيّة: 2/594، سير أعلام النبلاء: 18/177الفوائد البهية: 125، الوافي بالوفيات: 21/ 283 هدية العارفين لإسماعيل باشا: 1/693،
(2) - تاريخ ابن خلدون : 1/456 .
(3) - الأنساب للسمعاني: 1/339، الفوائد البهية للكنوي: 124 .
(4) - الفوائد البهية: 125، تاريخ التراجم: 41، الأنساب: 1/339، سير أعلام النبلاء: 18/ 602، 603، هدية العارفين: 1/693، إيضاح المكنون: 2/388، معجم المؤلفين: 7/192 .
(5) - الجواهر المضية: 2/594، هدية العارفين: 1/693، إيضاح المكنون: 2/388، الأعلام للزركلى 4/328 .
(6) - الأنساب للسمعاني: 1/339، سير أعلام النبلاء: 18*602، 603، هدية العارفين : 1/ 693، معجم المؤلفين: 9/15 .
(7) - مدينة مشهورة في خراسان، وهى تتبع جمهورية أوزبكستان حاليا. ينظر: معجم البلدان لياقوت الحموي: 3/379 .(3/3)
لم أقف - فيما اطلعت عليه من كتب التاريخ والتراجم - على شيوخ كثيرين ممن تتلمذ عليهم الإمام فخر الإسلام البزدوى- رحمه الله تعالى.
وقد ذكر الإمام الذهبي- رحمه الله تعالى- في كتابيه " تاريخ الإسلام(1) وسير أعلام النبلاء"(2) أن ممن أخذ عنهم فخر الإسلام البزدوى العلم ثلاثة:
عبد العزيز بن أحمد الحلواني البخاري، الملقب بشمس الأئمة الأكبر، تفقه على القاضي أبى على الحسين بن الخضر النسفي وغيره، وأخذ عنه: شمس الأئمة الأصغر محمد بن أبى سهل السرخسي، وفخر الإسلام البزدوى. اختلف في وفاته ما بين سنة 448- 452هـ(3).
أبو حفص عمر بن منصور الخنبى الحافظ، سمع من إسماعيل الكشنى وغيره، وأخذ عنه أبو محمد عبد العزيز بن محمد النخشبى. توفي بعد سنة 460 هـ(4).
أبو الوليد الحسن بن على البلخى الِّدربنْدى، أخذ عن الحسين بن بشر وغيره، وحدَّث عنه أبو بكر الخطيب وغيره، توفي- رحمه الله تعالى- سنة 456هـ..
- ثانيا : تلاميذه:
من المعلوم أن الإمام فخر الإسلام البزدوي - رحمه الله تعالى - كان ذا طريقة متميزة في أصول الحنفية، وبالتالي فلا بد أن يكون قد تتلمذ على يديه خلق كثير، لكن فيما وقفت عليه من كتب التراجم ن لم أجد سوى اثنين من تلاميذه .
الأول : هو أبو المعالي محمد بن ناصر بن منصور المديني ، الخطيب بسمرقند.
قال صاحب الأنساب: لم يحدثنا عن فخر الإسلام سواه(5) .
الثاني: أبو ثابت الحسن بن علي البزدوي.
__________
(1) - تاريخ الإسلام للذهبي : 93 .
(2) - سير أعلام النبلاء: 18 /177 .
(3) - المرجع السابق بنفس الجزء والصفحة.
(4) - الأنساب للسمعانى: 2/405.
(5) - الأنساب للسمعاني: 1/339.(3/4)
قال ياقوت الحموي بعد أن ترجم لفخر الإسلام البزدوى: ".. ويقال البزدوى الفقيه بما رواء النهر، صاحب الطريقة على مذهب أبي حنيفة- رحمه الله تعالى- روى عنه صاحبه أبو المعالي محمد بن نصر بن منصور المديني...، وابنه القاضي أبو ثابت الحسن بن على البزدوي..."(1) اهـ.
المبحث الرابع
مصنفاته
من خلال الحديث عن مكانته العلمية تبين أن الإمام فخر الإسلام البزدوي كان متبحراً في أكثر مجالات العلم، ويزداد الأمر وضوحا حينما نعرض لمؤلفاته وهى كالتالي:
أمالي (2).
سيرة المذهب في صفة الأدب(3).
شرح تقويم الأدلة في الأصول، للقاضي أبى زيد الدبوسي(4).
شرح الجامع الصحيح للإمام البخاري(5)
شرح الجامع الصغير لمحمد بن الحسن الشيباني(6).
شرح الجامع الكبير للشيباني أيضا(7).
شرح زيادة الزيادات للشيباني(8)
شرح الفقه الأكبر(9)
غناء الفقهاء في الفروع (10).
الميسَّر في الكلام(11).
__________
(1) - معجم البلدان : 1/409 .
(2) - هدية العارفين 1/693 .
(3) - كشف الظنون : 2/1016 ، هدية العارفين : 1/693
(4) - هدية العارفين: 1/693 .
(5) - نفس المرجع السابق.
(6) - كشف الظنون: 1/561، هدية العارفين: 1/693 .
(7) - كشف الظنون: 1/967 ، 968 .
(8) - كشف الظنون : 2/962 .
(9) - توجد نسخة من هذا الكتاب في جامعة الملك عبد العزيز بجده برقم 1379.
نقلا عن محقق الكافي شرح أصول البزدوى 1/30 .
(10) - هذا الكتاب نسبه صاحب هدية العارفين وغيره إلى فخر الإسلام البزدوى، لكن محقق الكافي ذكر كلاما جدير بأن يؤخذ بعين الاهتمام، قال: "لكن الصحيح- أن هذا الكتاب- هو لأخيه = = صدر الإسلام أبى اليسر البزدوى المتوفى سنة 493هـ، كما صرح بذلك في اللوحة رقم (28) من كتابه المسمى "بأصول صدر الإسلام" البزدوى- وهو تحت التحقيق- وقال: "والظاهر أنه قبلها على ما بينا فرى كتاب الغناء ..." اهـ .الكافي على أصول البزدوى :1/ 30.
(11) - المرجع السابق: نفس الصفحة.(3/5)
كشف الأستار في التفسير في مائة وعشرين جزءًا(1).
المبسوط في الفروع أحد عشر مجلدا(2)
كنز الوصول إلى معرفة الأصول، المعروف بأصول البزدوى(3).
- وقد سخر الله عز وجل أناساً من أهل الفضل عكفوا على التنقيب لاستخراج هذا الكنز المكنون وبيان أسراره، وتوضيح غوامضه، ومن هذه الشروح:
- الكافي لحسام الدين السنغناقي المتوفى سنة 711 هـ، وقيل: 714هـ وهو من أقدم الشروح على أصول فخر الإسلام البزدوى، وهذا الكتاب حُقِّق في رسالة دكتوراه بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
- كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوى. للعلامة علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري، المتوفى سنة 730هـ
- شرح الشيخ أبي المكارم أحمد بن حسن الجار بردى الشافعي المتوفى746هـ
- شرح قوام الدين الكاكي المتوفى سنة 749هـ، وقد سّمَاه "بنيان الوصول"، وللكاكي شرح مفيد على أصول المنار للنسفي، وهو مطبوع.
- شرح العلامة قوام الدين أمير كاتب الإتقانى الحنفي المتوفى سنة 758هـ، وهو من أفضل الشروح وأشملها على أصول البزدوى، وسماه "الشامل" وهو موضوع التحقيق.
- شرح العلامة أكمل الدين البابرتي المتوفى سنة 786هـ، وسماه " التقدير".
- شرح الشيخ أبى البقاء محمد بن أحمد بن ضياء المكي المتوفى سنة 854هـ.
وقد خرج أحاديث أصول البزدوى العلامة قاسم بن قطلوبغا.
وتوجد بعض الشروح الناقصة والتعليقات على هذا الكنز في علم الأصول، وفيما ذكر من الشروح كفاية(4)؛ لأنه لم ينشر- فيما اطلعت عليه- من هذه الشروح إلا الكافي، وكشف الأسرار.
- أهمية أصول البزدوي وقيمته في مكتبة الأصول:
__________
(1) - كشف الظنون: 2/1485 .
(2) - هدية العارفين: 1/693 .
(3) - المرجع السابق، إيضاح المكنون: 2/388 .
(4) - ينظر ما سبق من شروح في: الفوائد البهية: 50، 52، 58 ، 59 ، 124، 166، كشف الظنون: 1/112 ، هدية العارفين: 1/694 .(3/6)
تَتبيَّنُ أهميةُ الشيء من خلال قيمته، ومدى انتفاع الناس به. ولا ريب أن كتاب "كنز الوصول إلى معرفة الأصول" لفخر الإسلام البزدوي له أهمية كبيرة بين كتب الأصول بوجه عام، وبين أصول الحنفية على وجه الخصوص، وتظهر أهمية هذا الكتاب الفريد من خلال السمات والخصائص التي تميَّز بها عن غيره من كتب الأصول، وهذه السمات كالتالي:
أنَّ هذا المصنَّف يعد المرجع الأساسي في أصول فقه الحنفية؛ لأنه ألف على طريقتهم، حتى إن صاحبه وُسِمَ بصاحب الطريقة على مذهب أبى حنيفة- رحمه الله تعالى.
يعتبر من أكثر الكتب في علم الأصول- ويليه مختصر ابن الحاجب - رحمه الله تعالى- الذي عكَفَ العلماء على شرحه والتعليق عليه، حتى وصل عددهم إلى ما يربو على الخمسة عشر شارحاً ومعلقا ومخرجا لأحاديثه.
جمع المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه هذا أقوال المتقدمين عليه في المذهب في المسائل الأصولية والفروع الفقهية، ثم تناولها بالتحليل والمناقشة كلما اقتضى المقام ذلك، ثم أيد ذلك ببعض أقوال الجمهور من الأصوليين، خاصة أقوال الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - .
- قيمة هذا الكنز في مكتبة الأصول.
هذا المصنَّف يعد من أفضل المصنَّفات التي ألُفتْ على طريقة الحنفية من المتأخرين؛ لأنه مع وجازه عباراته، فقد استوعب آراء المتقدمين عليه في المذهب، ولهذا؛ فإن كتاب "كنز الوصول" يعتبر إضافة للمكتبة الأصولية، وتظهر قيمة هذا الكتاب، وتزداد وضوحا حينما نقف على ما قاله فيه أهل الفضل من العلماء المحققين.
قال الإمام عبد العزيز البخاري - رحمه الله تعالى-: "إن كتاب أصول الفقه المنسوب إلى فخر الإسلام البزدوى امتاز من بين الكتب المصنًّفة في هذا الفن شرفاً وسُموًّا، وحلَّ مقام الثُّريا مجدًا، ضمن فيه أصول الشرع وأحكامه، وأدرج فيه ما به نظام الفقه وقوامه، وهو كتاب عجيب الصنعة رائع الترتيب، صحيح الأسلوب.."(1).
__________
(1) - كشف الأسرار للبخاري 1/8 .(3/7)
وزاد صاحب كشف الظنون هذا البيان تأكيدا فقال: "هو- يعنى أصول البزدوى- كتاب عظيم القدر، جليل البرهان، محتو على لطائف الاعتبارات بأوجز العبارات، تأبى على الطلبة مرامه، واستعصى على العلماء زمامه"(1).
- منهج فخر الإسلام في أصوله.
الإمام فخر الإسلام- رحمه الله تعالى- صاحب طريقة الحنفية، ولهذا فقد وُسِمَ بأنه صاحب الطريقة على مذهب أبى حنفية رحمه الله تعالى.
وقد أشار الإمام البزدوى إلى المنهج الذي نهجه في كتابه فقال: "هذا الكتاب لبيان النصوص بمعانيها، وتعريف الأصول، بفروعها على شرط الإيجاز والاختصار(2)" وبناء على ما سلكه الإمام في تصنيف كتابه، فقد عكف الشراح على توضيح ما انغلق من ألفاظه، وبيان ما خفي من رموزه وعباراته.
- عقيدة الإمام فخر الإسلام.
من المعلوم أن عامة الحنفية يتبعون إمام الهدى أبا منصور الماتريدي - رحمه الله تعالى -، فهو مرجعهم في مسائل علم الكلام.
وإمامنا فخر الإسلام البزدوى ـ رحمه الله تعالى ــ أحد أعلام الحنفية، يتبع مذهب أبى منصور الماتريدى- رحمه الله تعالى-، وقد ألفَّ الإمام البزدوى- رحمه الله تعالى- كتابا ينبىء عن عقيدته سماه "الميسَّر في علم الكلام" ذكر في مقدمته وَصْف الشيخ أبى منصور، وكراماته حسب ما ذكر له جده(3).
وبالإضافة إلى ما تقدم: فإن الإمام البزدوى صدَّر كتابه "كنز الوصول" بالحديث عن علم التوحيد والصفات، فقال: "العلم نوعان: علم التوحيد والصفات، والأصل فيه الكتاب والسنَّة، علم الشرائع والأحكام..".
وعليه، فالإمام فخر الإسلام يعتقد ما عليه السلف من أهل السُّنَّة والجماعة.
- وفاته، وأقوال العلماء فيه.
__________
(1) - كشف الظنون : 1/ 112 .
(2) - الكافي شرح أصول البزدوي لحسام الدين السغناقي:1/189 .
(3) - نقلا عن الكافي شرح أصول البزدوى: 1/30 .(3/8)
أولا: وفاته: توفي الإمام فخر الإسلام البزدوى- رحمه الله تعالى- بسمرقند سنة اثنتين وثمانين وأربعمائه الموافق 1089 من الميلاد(1).
ثانيا: أقوال العلماء فيه: قال العلامة اللكنوي فيه:... الإمام الكبير، أستاذ الأئمة، الجامع بين أشتات العلوم، إمام الدنيا في الفروع والأصول"(2).
وقال ابن خلدون فيه: وأما طريقة الحنفية فكتبوا فيها كثير، وكان من أحسن كتابه من المتقدمين.. أبى زيد الدبوسي، وأحسن كتابه المتأخرين فيها تأليف سيف الإسلام البزدوى من أئمتهم، وهو مستوعب"(3).
وقال عنه الإمام الذهبي: ".. شيخ الحنفية، عامل ما وراء النهر، أحد من يضرب به المثل في حفظ المذهب"(4).
وقال الإمام السمعاني فيه: "فقيه ما وراء النهر، وأستاذ الأئمة، وصاحب الطريقة على مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى"(5).
تمهيد
نبذة عن العصر الذي عاش فيه العلامة أمير كاتب
من المعلوم أن الإنسان وليد عصره، ففيه ينشأ، وبه يتأثر علميا وسياسيا واجتماعيا، ودينيا، والعلامة أمير كاتب -رحمه الله تعالى- عاش في أواخر القرن السابع إلى منتصف القرن الثامن الهجري تقريبا، وهذه الحقبة من الزمن كانت مليئة بالاضطرابات ، كثيرة الحروب، مكتظة بالفتن والنزاعات.
وسأعرض- إن شاء الله تعالى في إيجاز- لسمات العصر الذي عاش فيه قوام الدين أمير كاتب؛ لكي نتعرف على شخصيته، خاصة وأن شارحنا- رحمه الله تعالى- لم يكن نكرة في وقته، بل كان بحرا من بحور العلم، وعلما من أعلام الفكر.
__________
(1) - الفوائد البهية: 124، هدية العارفين: 1/ 693 .
(2) - الفوائد البهية : 124 ، 125 .
(3) - مقدمة ابن خلدون: 1/456.
(4) - سير أعلام النبلاء: 18/ 602
(5) - الأنساب للسمعانى: 1/339 .(3/9)
لقد ألمت بالأمة أحداث عظام بدخول القرن السابع الهجري، وبالتحديد في منتصفه، فقد اجتاح الهجوم التتاري بلاد الشرق- (بخارى وخراسان وسمرقند وإتقان) وهى موضع نشأة العلامة أمير كاتب- فاستولوا على ما فيها من مال، و اشعلوا النار في مدارسها ومساجدها حتى صارت خاوية على عروشها(1).
وكل ما ذكر من أفاعيل التتار كان بمثابة مقدمة للمصيبة الكبرى، وهى سقوط بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية سنة 656هـ، وفي ذلك الوقت قتل المستعصم بالله آخر خلفاء الدولة العباسية، وفي مصر سقطت الدولة الأيوبية سنة 648، وبزغ نجم دولة المماليك البحرية، التي أسسها المعز التركماني أيبك، وفي الأندلس ضعف أمر الموحدين بسبب تنازعهم على الرياسة، فاستولى الأسبان على الحصون والمدن ولم يبق للمسلمين إلا غرناطة.
وبدخول القرن الثامن الهجري أصبحت دولة المماليك البحرية قائمة على شئون مصر، ثم ما لبثت طويلا إلا وانتهى حكمها فقامت على أثرها دولة المماليك البرجية، وفي ذلك الوقت قويت شوكة المماليك وعظم شانهم في نظر المسلمين؛ لما أنزلوه بالقوة التترية من هزيمة ساحقة نكراء، وفوق هذا وذاك فقد تمكنوا من طرد الصليبين من
بلاد الشام، ومصر حتى تعقبوهم إلى جزيرة رودس، لولا الدعم الأوربي الصليبي الكبير للحقت رودس قبرص في تبعيتها للمماليك(2)
بعد هذا العرض المختصر للأحداث التي ألمت بالدولة الإسلامية في تلك الحقبة، تبين أن الشارح- رحمه الله تعالى- عاش في فترة صعبة مليئة بالاضطراب والفتن، وهذه الأحداث جعلت كثيرا من العلماء يتركون بلادهم طلبا للاستقرار الذي يقتضيه التفكير والتأليف(3)، وكان من هؤلاء قوام الدين أمير كاتب مؤلف كتاب الشامل.
__________
(1) - البداية والنهاية لابن كثير: 13 /83 .
(2) - التاريخ الإسلامي للمحقق محمود شاكر: 7/5
(3) - البداية والنهاية : 14/99 .(3/10)
وبناء على ما ذكر من أحداث، فإن لها تأثيرا على العلامة قوام الدين، إلا أنه كان تأثيرا إيجابيا، حيث اشتغل بالتأليف والتدريس، والمناظرات، ولما علم الأمراء قدره احتفوا به، وكان من هؤلاء الأمير صرغتمش(1) الذي قربه وجعله شيخا لمدرستة(2).
المبحث الأول
التعريف بالعلامة أمير كاتب
المطلب الأول: في اسمه، ولقبه، وكنيته، ونسبته.
أولا: اسمه: أمير كاتب بن أمير عمر بن العميد أمير غازي(3).
ثانيا: لقبه: قوام الدين(4)، وقيل: لطف الله(5)، والأشهر الأول.
ثالثا: كنيته: أبو حنيفة، وسبب هذه الكنية: أنه كان مدرسا بمشهد الإمام أبى حنيفة ببغداد(6)، ولتبحره في المذهب الحنفي وتعصبه له(7).
رابعا: نسبته: الإتقاني الفارابي(8) الحنفي.
المطلب الثاني: ولادته، وصفاته .
__________
(1) - هو الأمير سيف الدين صرغتمش الناصري، أحد أمراء دولة المماليك ماتت مقتولا في يوم الاثنين 20 رمضان سنة 759هـ. البداية والنهاية: 14/262 .
(2) - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر: 1/494 ، النجوم الزاهرة للسيوطي 10/325 .
(3) - البداية والنهاية لابن كثير 4/99، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر: 1/493، الجواهر المضية: 2/279. النجوم الزاهرة للسيوطى : 10/326، الأعلام للزركلى 2/14 .
(4) - نفس المراجع السابقة بصفحاتها.
(5) - الدرر الكامنة: 1/493، شذرات الذهب: 6/185 .
(6) - البداية والنهاية : 14/ 99 .
(7) - التبيين لأمير كاتب : 1/19 .
(8) - الإتقانى والفارابي نسبة إلى إتقان وفاراب، وهما ولايتان تقعان وراء نهر سيحون في تخوم بلاد الترك، وهذه البلاد انجبت رجالا ذبوا عن بيضه الإسلام منهم: الإمام البخاري، والجوهري صاحب الصحاح وغيرهما خلق كثير صنفوا في شتى مجالات العلم.
معجم البلدان لياقوت الخموي: 6/322، الأنساب للسمعاني: 415 .(3/11)
أولا: ولادته: ولد العلامة أمير كاتب- رحمه الله تعالى- بإتقان، وهى ولاية وراء نهر سيحون في ليلة السبت التاسع عشر من شوال سنة خمس وثمانين وستمائة من الهجرة. وهذا ما اتفقت عليه أكثر كتب التراجم(1).
ويؤكد هذا التاريخ ما ذكره الإمام الصفدي - رحمه الله تعالى- حكاية عن أمير كاتب نفسه: "... قال العبد الفقير إلى الله تعالى أمير كاتب بن أمير عمر المدعو بقوام الدين الفارابى الإتقاني: كان تاريخ ولادتى بإتقان ليلة السبت، التاسع عشر من شوال سنة خمس وثمانين وستمائه"(2).
وخالف الإمام الشوكانى- رحمه الله تعالى- وذكر: أن ولادة العلامة أمير كاتب بن أمير عمر الفارابى كانت سنة 695هـ(3).لكن ما ذهب إليه لا ينهض للاحتجاج أمام اتفاق كتب التراجم على مولده الذي كان سنة 685هـ، بالإضافة إلى ما نقله العلامة الصفدى- رحمه الله تعالى- من حكاية أمير كاتب نفسه عن تاريخ مولده.
ثانيا: صفاته:
كان العلامة أمير كاتب- رحمه الله تعالى- إماما عالما بارعا في الفقه واللغة العربية والحديث وأسماء الرجال(4)، وفوق ذلك كله علم الأصول الذي فاق فيه أقرانه، ويشهد لذلك مصنفه" الشامل شرح أصول البزدوى" الذي يعد أكبر موسوعة أصولية ألفت على طريقة الفقهاء.
قرآن كريم وهنا جانب - يجدر الوقوف عنده - في شخصية قوام الدين ذكرته كتب التراجم، وهو أنه كان كثير الإعجاب بنفسه، شديد التعصب لمذهبه- شديد الإنكار على من خالفه.
__________
(1) - الفوائد البهية: 50، تاج التراجم: 18، التبيين لأمير كاتب: 1/20، الدرر الكامنة: 1/493، النجوم الزاهرة: 1/325، شذرات الذهب : 6/185، الأعلام: 2/14. موسوعة طبقات الفقهاء: 8/60 .
(2) - أعيان العصر وأعوان النصر للصفدى: 1/ 622 .
(3) - البدر الطالع للشوكانى: 1/158 .
(4) - النجوم الزاهرة للسيوطى: 10/ 325(3/12)
قرآن كريم قال ابن حبيب- رحمه الله تعالى- في تذكرة النبيه: "كان - أي أمير كاتب- رأسا في المذهب، شديد التعصب على الشافعية والغض منهم، كثير الإعجاب بنفسه، شرح المنتخب لحسام الدين للإخسيكثى- وعمره دون الثلاثين- شرحا جيدا، وله معرفة تامة بالعربية"(1).
قرآن كريم وقال الصفدي-رحمه الله تعالى- في ترجمته لقوام الدين أمير كاتب: "كان قيما بمذهب أبى حنيفة- رحمه الله تعالى-... شديد الإعجاب بنفسه، يجيء التعظيم من حسه وبسه، ويظن أن إمامه - رضي الله عنه - لو رآه لجعله إمامه، وأن أبا يوسف كان يتأسف إذا سمع كلامه، وأن زفر له زفرات على لقيه، وأن محمد بن الحسن ما يحسن الوصول إلى رقيه(2).
ومما ساعد ابن حبيب وغيره على وصف قوام الدين أمير كاتب بالتعصب، وإعجابه بنفسه ما وجد في ثنايا كتبه، وبالأخص ما وجد آخر كتابه المسمى "بالتبيين" ونصه: "لو كان الأسلاف في حياتي لأنصفوني، ولقال الإمام أبو حنيفة: اجتهدت، ولقال أبو يوسف: نار البيان أوقدت، ولقال محمد: أحسنت، ولقال زفر: أتقنت، ولقال الحسن: أمعنت، ولقال الطحاوي: صدقت، ولقال الكرخي: بورك فيما نطقت... إلخ"(3).
- قلت: لعل ما وصفه به ابن حبيب، والعلامة الصفدي - رحمهما الله تعالى-، وما قاله هو عن نفسه في التبيين فيه إعجاب بالنفس، ومدح لها في الظاهر.
لكن يعتذر لشارحنا أمير كاتب- رحمه الله تعالى- أن ما قاله كان من قبيل الاعتزاز بالنفس، والثقة التي لا يجد الاهتزاز لها طريقا، وحب أئمة مذهبه لاسيما الإمام الأعظم الذي لا يشك كائن من كان في عقله وعلمه وفضله.
__________
(1) 1- تذكرة النبيه في الإمام المنصور وبنيه: 3/280 . ... 1
(2) - أعيان العصر وأعوان النصر: 1/623، 624 .
(3) - التبيين، لأمير كاتب، رسالة دكتوراه، كلية الشريعة والقانون: 1/33 .(3/13)
قرآن كريم والحق: أن العلامة أمير كاتب-رحمه الله - كان متواضعا، منكسرا لربه، محبا للعلم، مكرما عند الناس، مقدرا لأصحاب المذاهب الأخرى وبالأخص الشافعية، وما نجده في كتبه من تعصب لمذهبه أو غير ذلك؛ فلربما كان يعتقد فيه الحق، أو قد يكون جانبه الصواب، وهذه صفة البشر، لأن العصمة للأنبياء، والكمال لله وحده.
- وسأذكر بعض ما يؤيد اعتذاري عن شارحنا، رحمه الله تعالى.
- ما افتتح به كتابه التبيين بعد الثناء على الله تعالى قال: "يقول الشاب الكسير الفقير ابن العميد قوام الدين أمير كاتب....إلخ
- كان حينما ينتهي من كتابة جزء من أجزاء كتابه المسمى "بالشامل" يقول "كتبه العبد الضعيف أبو حنيفة أمير كاتب..."(1).
- لو كان كما وصف بالتعقب والكبرياء لا نفض الناس من حوله، والواقع غير ذلك، والدليل عليه أن الشافعية الذين اتُّهم بالنيل منهم أثنوا عليه، فقال الإمام السيوطي- رحمه الله-: "ثم طلب- أي أمير كاتب- إلى القاهرة مكرما معظما..، وصار بها من أعيان العلماء.."(2).
المبحث الثاني: رحلاته، وشيوخه، وتلاميذه
- رحلاته.
تبين من خلال الحديث عن العصر الذي عاش فيه قوام الدين أن كثيرا من العلماء رحلوا من موطن نشأتهم نتيجة الأحداث والاضطرابات التي ألمت بالدولة الإسلامية في ذلك الوقت، وكان من هؤلاء الرحالة أمير كاتب.
فلقد رحل إلى بغداد، فدرس وتفقه حتى صار مدرسا بمشهد أبى حنيفة النعمان -رحمه الله تعالى-، ثم عزل، ثم توجه إلى دمشق فأفتى بها دروس، واشتغل بالتصنيف، ومن هذه التصانيف "رسالة في منع رفع اليدين في الصلاة عدا تكبيرة الإحرام " ثم قدم إلى مصر مكرما معظما حتى صار من أعيان العلماء لاسيما عند الأمير صرغتمش الناصري؛ فإنه لأجله بنى مدرسة، حتى ولاه تدريسها(3).
- شيوخه.
__________
(1) - كتاب الشامل: 4/لوحه 248 .
(2) - النجوم الزاهرة: 10/325، 326 .
(3) - النجوم الزاهرة للسيوطى: 10/326، شذرات الذهب: 6/185 .(3/14)
الناظر في مؤلفات العلامة قوام الدين أمير كاتب -رحمه الله تعالى- يدرك أنه تتلمذ على شيوخ كثيرين؛ لأنه كان عالما بالأصول، والفقه، واللغة، وعلم الكلام. إلا أن كتب التراجم لم تذكر- فيما اطلعت عليه- سوى ثلاثة من شيوخه.
أما الأول فهو الإمام الشيخ برهان الدين أحمد بن أسعد بن محمد الخريفغني أخذ العلم عن الشيخ حميد الدين الضرير،و حافظ الدين محمد بن نصر البخاري .
وقد صرح العلامة أمير كاتب بأخذه العلم عن الشيخ برهان الدين الخريفغني- في مصنفه المسمى غاية البيان ونادرة الأقران فقال: أخبرني سيدي وملجئي فقيه الفقهاء سيد العلماء، منبع الزهد والتقوى... برهان الملة والدين أحمد بن أسعد الخريفغنى البخارى(1)... إلخ.
وأما الثاني: فهو الشيخ الفقيه الحسين بن على بن الحجاج بن على السغناقى نسبة إلى سغناق وهى بلدة في تركستان، أخذ العلم عن حافظ الدين الكبير محمد بن نصر البخارى، وعن الإمام فخر الدين محمد بن إلياس المايمرى، فُوضت إليه الفتوى وهو شاب، من مصنفاته: النهاية في شرح الهداية، والوافي شرح المنتخب، والكافي على أصول البزدوى، اختلف في وفاته- رحمه الله - فقيل توفي سنة 711هـ، وقيل 714هـ، وقيل غير ذلك (2).
وأما الثالث: فهو الحسين بن أبى القاسم البغدادي النبلي، المعروف بقاضي قضاة الممالك، فقيه أصولي مالكي المذهب، كان عمدة في العلم والفتيا والقضاء، وأسوة في العمل والعدل والسخاء، أخذ عنه الإمام شهاب الدين بن عبد الرحمن البغدادي وغيره ، من مصنفاته الهداية في الفقه، وغيره، توفي- رحمه الله تعالى- سنة 712هـ(3).
__________
(1) - الفوائد البهية:15 .
(2) - الجواهر المضية: 1/312 ، كشف الظنون: 1/112 .
(3) - الفتح المبين : 115 .(3/15)
وأما الذين تتلمذوا على يد العلامة قوام الدين أمير كاتب فعدد ليس بالقليل، لأنه عمل مدرسا بمشهد أبى حنيفة- رحمه الله- ببغداد، وفترة أخرى لما دخل مصر عمل مدرسا للحنفية في المدرسة التي أنشأها الأمير صرغتمش، ولكن كتب التراجم لم تتحدث إلا عن اثنين من تلاميذه:
محب الدين محمود بن على بن إسماعيل بن يوسف: المعروف بابن الوحدية، الفقيه الشافعي، ولد بمصر سنة 719هـ وتوفي سنة 758هـ، من مصنفاته: شرح على مختصر بن الحاجب، تصحيح على الحاوي الصغير(1).
جلال الدين بن أحمد بن يوسف السيرفي الميلاسي، أخذ العلم عن قوام السكاكي، وقوام الدين الإتقانى أمير كاتب وغيرهما.
من مصنفاته: شرح كتاب المنار في الأصول، ورسالة في الفرق بين الفرض والواجب، توفي - رحمه الله- سنة 773هـ(2).
المبحث الثالث
أقرانه
كان العلامة أمير كاتب-رحمه الله تعالى- معاصرا لكوكبه من العلماء منهم:
الإمام موسى بن محمد مصلح الدين التبريزى المتوفى سنة 736هـ (3).
الإمام أحمد بن عثمان تاج الدين المعروف بابن التركمانى المتوفى سنة 744هـ(4).
الإمام محمد بن السنجارى المعروف بقوام الكاكى المتوفى 749هـ (5).
الإمام على بن عثمان علاء الدين الماردينى بن التركمانى المتوفى 750هـ(6).
الإمام محمد بن أبى بكر المعروف بن قيم الجوزية المتوفى 751هـ(7).
الإمام أحمد بن محمد بن على المعروف بن الفصيح الهمدانى المتوفى 755هـ(8).
الإمام على بن عبد الكافى تقى السبكى المتوفى 756هـ(9)
__________
(1) - الدرر الكامنة : 1/414، الفتح المبين: 2/216 .
(2) - الدرر الكامنة: 1/545، شذرات الذهب : 6/327 .
(3) - الدرر الكامنة : 4/ 374 ، شذرات الذهب : 6/168 .
(4) - الفوائد البهية ص 25
(5) - الجواهر المضية 3/ 235 .
(6) - الفوائد البهية : 123 ، الدرر الكامنة : 3/ 185 .
(7) - البداية والنهاية 14/ 234 .
(8) - الفوائد البهية 26 .
(9) - الدرر الكامنة : 3/ 73 .(3/16)
الإمام على بن الحسين الأرموى الملقب بشرف الدين المتوفى 757هـ(1)
المبحث الرابع: مصنفاته
كان العلامة قوام الدين أمير كاتب- رحمه الله تعالى بارعا في علوم كثيرة، ولذلك أطلق عليه العلامة ابن حجر العسقلاني لقب القطب، قال في الدرر الكامنة مترجما لأمير كاتب، مبينا قدره: "وقرأت بخط القطب، وهو فقيه فاضل، صاحب فنون من العلم، وله معرفة بالأدب، والمعقول... وكان إماما متقنا علامة مناظراً"(2).
وقال الإمام السيوطي -رحمه الله تعالى-: "كان إماما عالما... بارعا في الفقه، واللغة العربية، والحديث، وأسماء الرجال، وغير ذلك من العلوم..."(3).
وانطلاقا من هاتين الشهادتين اللتين شهد بهما إمامان من أئمة المذهب الشافعي اتضح أن العلامة قوام الدين أمير كاتب كان متبحرا في فنون كثيرة من العلم، وسيزداد الأمر وضوحا عند ذكر مؤلفاته التي ما زال الغالب منها مخطوطا، ولم يتحقق إلا كتاب التبيين، والشامل ما زال تحت التحقيق، ومن هذه المصنفات:
التبيين: وهو شرح على المنتخب في أصول المذهب لحسام الدين الإخسيكثي الحنفي المتوفى سنة 644هـ، وهذا الكتاب هو أول مؤلفات قوام الدين أمير كاتب، وقد حقق في رسالة دكتوراه بكلية الشريعة والقانون- جامعة الأزهر.
اللآلىء المصنوعة وشرحها: وهى قصيدة في ضرورة الشعر، منظومة في 292 بيتا، تدل على عمق معرفته بالنحو والأدب. وهى مخطوطة بمكتبة فلورتز بإيطاليا.
__________
(1) - طبقات الشافعية الكبرى 6/146 .
(2) - الدرر الكامنة لابن حجر : 1/ 495 .
(3) - النجوم الزاهرة : 10 / 325 .(3/17)
الروضة الدمشقية في ترك رفع اليدين في الصلاة وعدم جوازه عند الحنفية. مخطوط أوله الحمد لله على نعمائه وقد ألف القاضي تقي الدين السبكي- رحمه الله تعالى- رسالة في الرد على هذا الكتاب، وإن كانت الأحاديث الصحيحة قد حسمت هذا الخلاف، فهذه الهيئة المسنونة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رواها عدد يصل إلى الخمسين من صحابته - رضي الله تعالى عنهم - ، كما جاء في الأشباه والنظائر للإمام السيوطى(1).
رسالة في الجمعة وعدم جواز الصلاة في مواضع متعددة.
شرح على الهداية في عشرين مجلدا، ويوجد منه عدة أجزاء بدار الكتب المصرية، وهذه النسخة غير مكتملة، قال ابن حجر: هو شرح حافل(2).
كما توجد بعض الرسائل التي ألفها في علم الكلام للرد على أهل البدع مثل: كدادات(3) البدع، ورسالة الشداخات(4) وهاتان الرسالتان ألفهما للرد على أهل الأهواء والبدع، وعلى بعض المعتزلة كالزمخشري.
الشامل: هو شرح مطول على أصول البزدوى المسمى كنز الوصول إلى علم الأصول لفخر الإسلام أبى العسر وسيكون له بحث خاص به بعد الذي نحن فيه الآن.
المبحث الخامس:في التعريف بكتاب الشامل، وبيان قيمته.
المطلب الأول: اسمه ونسبته إلى مؤلفه، المصادر التي رجع إليها الشارح في تأليف كتابه.
قرآن كريم أولا: اسم الكتاب: الشامل في شرح أصول البزدوى(5).
__________
(1) - الأشباه والنظائر للسيوطى: 1/298 . .
(2) - الدرر الكامنة لابن حجر: 1/ 495 .
(3) - الكدادات جمع كددة: وهى ما يبقى أسفل القدر، والكدُّ: الشدة والإلحاح في الطلب. مختار الصحاح: 564 ،القاموس المحيط : 314 .
(4) - الشدخ: كسر الشيء الأجوف. مختار الصحاح: 332 .
(5) - الشامل: 4/لوحة 1، 247 .(3/18)
قرآن كريم ثانيا: نسبته إلى مؤلفه: أكثر الكتب التي ترجمت للعلامة قوام الدين أمير كاتب- رحمه الله تعالى-، والكتب التي تعنى بنسبه المصنفات إلى أصحابها لم تشر إلى نسبة هذا الكتاب إلى أمير كاتب، إلا أن الإمام السيوطى(1) ذكره في معرض الترجمة لأمير كاتب.
وقد صرح المؤلف نفسه بنسبة هذا الكتاب إليه فقال في آخر الجزء الرابع: ".. كتبه العبد الضعيف مؤلفه أبو حنيفة أمير كاتب بن أمير عمر العميد المدعو بقوم الفارابى الإتقانى"(2).
قرآن كريم ثالثا: المصادر التي اعتمد عليها الشارح في تأليف كتابه الشامل.
اعتمد الشارح- رحمه الله تعالى- في تأليف هذا السفر العظيم على مصادر كثيرة منها ما هو مخطوط، ومنها ما هو مطبوع، وهذه المصادر كالتالي.
قرآن كريم أولا: كتب الأصول.
أصول صدر الإسلام محمد بن محمد البزدوى المتوفى سنة 493هـ مخطوط.
أصول شمس الأئمة السرخسي المتوفى سنة 490 هـ مطبوع.
التبيين لشارحنا أمير كاتب المتوفى758هـ محقق في رسالة دكتوراه بكلية الشريعة برقم 1441.
تقويم الأدلة للقاضي أبى زيد الدبوسي المتوفى430هـ مطبوع.
الفصول في الأصول لأبى بكر الجصاص المتوفى370هـ. مطبوع.
الكافي شرح أصول البزدوى لحسام الدين السغنافي المتوفى714هـ
كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري المتوفى730 هـ مطبوع.
مأخذ الشرائع لأبى منصور الماتريدي المتوفى سنه 333هـ. مطبوع.
المحصول لفخر الدين الرازي المتوفى سنة 606هـ.
المعامل للرازى أيضا مطبوع.
المنخول من تعليقات الأصول لأبى حامد الغزالي المتوفى505هـ مطبوع
ميزان الأصول ونتائج العقول لعلاء الدين السمرقندي المتوفى553هـ مطبوع.
قرآن كريم ثانيا: كتب الفقه.
الأصل المسمى بالمبسوط للإمام محمد بن الحسن الشيباني المتوفى189هـ.
التقريب للإمام القدوري المتوفى سنة 428هـ.
شرح مختصر الكرخي للإمام القدوري أيضا.
شرح مختصر الطحاوي للجصاص. مخطوط.
__________
(1) - النجوم الزاهرة: 10/ 325 .
(2) - الشامل: 4/لوحة 1، 247 .(3/19)
الكافي للحاكم الشهيد المتوفى سنة 344 هـ مخطوط.
غاية البيان ونادرة الأقران لأمير كاتب مخطوط.
قرآن كريم ثالثا: كتب التفسير.
معاني القرآن وإعرابه للزجاج المتوفى سنة 311هـ مطبوع.
قرآن كريم رابعا: كتب الحديث.
الجامع الصحيح للإمام البخاري المتوفى سنة 256هـ مطبوع.
صحيح الإمام مسلم المتوفى سنة 261هـ. مطبوع
سنن الإمام أبى داود المتوفى سنة 275 هـ. مطبوع.
سنن الإمام الترمذى المتوفى سنة 279 هـ مطبوع.
قرآن كريم خامسا: كتب اللغة.
الجمهرة لابن دريد المتوفى331هـ. مطبوع.
الصحاح للعلامة الجوهري المتوفى سنة 393هـ. مطبوع.
المطلب الثاني: قيمة كتاب الشامل في مكتبة الأصول.
تزداد قيمة الشيء تبعا لأهميته، وكتاب الشامل له قيمة علمية كبيرة في مكتبة الأصول، فهو يعد أكبر وأشمل موسوعة أصولية ألفت على طريقة الفقهاء، بل وعلى طريقة المتكلمين، وقد جمع فيه مؤلفه بعض المسائل اللغوية، ومسائل من علم الكلام، وكثيرا من الفروع الفقهية المخرجة على أصولها، حتى إن القاريء ليظن- أحيانا- أنه يقرأ كتابا في الفقه، ولا عجب في هذا؛ لأن الشارح يسير على طريقة مشايخه من الحنفية، وحتى تظهر قيمة هذا الكتاب أكثر وضوحا، سأذكر بعضا من مزاياه وهى كالتالي:
هذا الكتاب يحتوى على أغلب المباحث الأصولية، عدا النذر اليسير الذي هو في الأجزاء المفقودة.
عرض هذه المباحث بطريقة واضحة ومتضمنه لأغلب جزئياتها، الدقيقة، والتي لم تتطرق لها الشروح الأخرى.
الإكثار من الفروع الفقهية المخرجة على أصولها، وهذه هي السمة المميزة الطريقة الحنفية عن غيرها من الطرق والمناهج الأصولية الأخرى، حيث إن ذِكْر القاعدة أو الأصل دون تخريج الفروع عليه لا يفي بالغرض المطلوب.
دقة الشارح- رحمه الله تعالى- في النقل من المصادر التي اعتمد عليها في بناء كتابه، إلا ما ندر، ولعل ذلك من قبيل السهو.(3/20)
الإلمام بأكثر الأقوال في المسألة الأصولية والفقهية، مما يجعل القاريء في هذا السفر العظيم كأنه بين مجموعة كتب أصولية وفقهية في وقت واحد.
تعضيد كثير من المسائل الأصولية والفروع الفقهية بالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة.
حتى إن المؤلف -رحمه الله تعالى- كان يذكر الحديث- في أغلب الأحيان - بسنده كله من الراوي الأدنى إلى الأعلى.
عرض المؤلف لكثير من المصطلحات والمسائل اللغوية، المتعلقة بالبحث، وتناولها بالشرح والمناقشة، مع التوثيق من مصادرها الأصلية.
التزام المؤلف بالموضوعية- في أغلب الأحيان- أثناء عرضه لقول شيخه فخر الإسلام البزدوي في مسألة ما، وأقوال معارضيه في المذهب الحنفي، فكان يناقش الأقوال، ثم يحاول مساعدا القول الذي يراه راجحا بالدليل، ثم يقول: هذا ما سمح به خاطري في مساعدة الجصاص مثلا، أو يقول: وفي كلام الشيخ نظر، ويعنى به المصنف فخر الإسلام رحمه الله تعالى.
المبحث السادس:
منهج أمير كاتب في كتابه المسمى بالشامل، وعقيدته، ووفاته.
- أولا: منهجه:
سبق القول بأن العلامة أمير كاتب -رحمه الله تعالى- قد صنف كتابه المسمى "بالشامل" على طريقة مشايخه من الحنفية، والتي تهتم بتقرير القواعد الأصولية بناء على ما نقل عن أئمتهم من الفروع الفقهية.
ويتسم منهج الشارح في كتابه بالسمات التالية:
التمهيد قبل الدخول في المسألة الأصولية، ثم يتناول نص المصنف شارحا له بأسلوب واضح، سهل العبارة، ثم يقوم بتخريج الفروع الفقهية إن احتاج المقام ذلك.
كان إذا عرض لمسألة أصولية، أو فقهية ذكر فيها غالب أقوال من سبقوه في المذهب، وأحيانا يعرض لمذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، ثم يناقش هذه الأقوال، وفي الأغلب يرجح مذهبه.
كان إذا أراد أن يثبت صحة ما ذهب إليه مشايخه من الحنفية يفترض الإشكالات والإيرادات التي يمكن أن ترد على ما ذهبوا إليه، ثم يقوم بدفع هذه الإيرادات قدر المستطاع.(3/21)
إذا رأى أن كلام الشيخ فخر الإسلام البزدوي يحتاج إلى تأمل، يتعقبه بقوله: هذا الكلام فيه نظر، أو يحتاج إلى بيان.
وبعد ذكر منهج العلامة أمير كاتب في كتابه رأيت من الأمانة العلمية أن أعرض لبعض الملاحظات التي سجلتها أثناء التحقيق لنص المؤلف قوام الدين- رحمه الله تعالى-، وهذه الملاحظات لا تقلل من شأن المؤلف، ولا من قيمة هذا السفر العظيم الذي يعتبر ثروة أصولية شاملة لعدة فنون، وهذه الملاحظات كالتالي:
تكرار الأقوال التي تدور حول معنى واحد في المسألة الواحدة، بل إن بعض هذه الأقوال- أحيانا- تكون بنفس النص مع الاختلاف البسيط في الألفاظ، فمثلا نجده في مسألة السجود على موضع نجس يكرر كلام شمس الأئمة السرخسي، والإمام القدوري، وما نقل عن أبى حنيفة ومحمد وأبى يوسف رحمهم الله تعالى، وكذلك في مسألة أسباب الشرائع، فنجده ذكر المسالة في كتابه المسمى "بالتبيين" وهو شرح المنتخب للإخسيكثى ثم ذكرها بنصها في كتابه الشامل.
أحيانا كان المصنف فخر الإسلام البزدوى يحيل إحالات مبهمة كما في قوله: "وسيأتي في موضعه"، وكان على الشارح أن يزيل هذا الإبهام؛ لأنه الشارح لنص المصنف، لكنه-رحمه الله تعالى- زاد الأمر إيهاما فقال: "أي في غير هذا الكتاب "، ولم أدر أى كتاب يعنى.
أغلب النقول والإحالات كانت دقيقة، وأحيانا كان يحيل- مثلا- إلى كتاب الأصل لمحمد بن الحسن الشيباني ولم أجد ما أحالني عليه.
يقتضى المقام عند ذكر عالم أو فقيه من الفقهاء أن يقال: "رحمه الله" فنجد المصنف وكذا الشارح نادرا ما يقول مثلا: الشافعي- رحمه الله -، ولذلك أثبت ذلك في النص دون التعليق على ذلك.
تكرار الخطأ في الآية القرآنية أكثر من مرة، كما قوله تعالى "فاعتزلوا النساء في المحيض..." فيقول: " واعتزلوا النساء في المحيض "، وهذا الخطأ وارد في نسخة دار الكتب التي بخط المؤلف، وكذلك الحال في نسخة تركيا.
- ثانيا: عقيدته(3/22)
لا ريب أن الجانب العقدي في الشخصية هو أهم الجوانب الذي يجب الحديث عنه. إذ مدار قبول الأعمال وردها، فالرسل أول ما بلغوا الناس عن ربهم بلغوهم العقيدة ،قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [سورة الأنبياء 21/25]
والعلامة قوام الدين أمير كاتب يعتقد ما عليه أهل السنة والجماعة، ومما يؤيد ذلك: تصريحه بما اعتقده في الأصل الأول من أصول الدين وهو الإيمان بالله تعالى.
فقال(1):" إن وجوب الإيمان بالله تعالى كما هو بلا تشبيه، ولا تجسيم، ولا تعطيل مع أسمائه، كالحي والعالم والقادر، وصفاته، كالحياة والعلم والقدرة وغير ذلك..."، وبالإضافة إلى ذلك: أن قوام الدين كان يتبع مذهب شيخه أبى منصور الماتريدي رحمه الله تعالى، وقد صرح بهذا فقال: "وإليه أشار الشيخ أبو منصور الماتريدي"(2).
- ثالثا: وفاته.
بعد حياة حافلة بالترحال في طلب العلم، ثم الاشتغال بالتدريس والفتيا والقضاء والتأليف انتهى المطاف النهائي بالعلامة أمير كاتب، وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة ثمان وخمسين وسبعمائة من الهجرة(3).
قال الإمام السيوطى- رحمه الله تعالى: "وتوفي الشيخ الإمام العالم العلامة قوام الدين أبو حنيفة أمير كاتب بن أمير عمر بن أمير غازي الفارابي الإتقاني الحنفي بالقاهرة، ودفن بالصحراء خارج القاهرة، وكان - رحمه الله تعالى- إماما عالما بارعا في الفقه واللغة العربية والحديث وأسماء الرجال وغير ذلك من العلوم(4).رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجزاه عنا وعن الإسلام خير الجزاء.
- وصف المخطوط
__________
(1) - الشامل لأمير كاتب4/لوحه 225 .
(2) - المرجع السابق 4/لوحة 218 .
(3) - الفوائد البهية 50، الوفيات 2/205 ، الدرر الكامنة 1/496 .
(4) - النجوم الزاهرة 10/ 325 .(3/23)
يعد كتاب الشامل من أكبر الشروح المطولة على أصول فخر الإسلام البزدوى -رحمه الله تعالى-، وهذا السِّفر العظيم توجد له نسختان.
الأولى: بدار الكتب المصرية، وهى غير كاملة، فالجزء الأول والثاني مفقودان.
والجزء الثالث: يقع في (57) لوحة.
والجزء الرابع: (247) لوحة.
والجزء الخامس: (272) لوحة.
والجزء السادس: (247) لوحة.
والجزء السابع: (241) لوحة.
والجزء الثامن: (238) لوحة.
والجزء التاسع: (253) لوحة.
وهذا الأجزاء من الثالث إلى التاسع تقع تحت (208) أصول الفقه.
والجزء العاشر: (132) لوحة تحت رقم (209) أصول الفقه
وأما النسخة الثانية: فهي مكونة من مجلدين:
المجلد الأول: يضم الرابع والخامس والسادس، وهذه الأجزاء تحت رقم (487).
والمجلد الثاني: يضم الجزء السابع والثامن وهذه النسخة توجد في مكتبة ولى الدين جار الله، وهى تابعة لمكتبة الأمة العامة بتركيا، ويرجع الفضل في إحضار هذه النسخة لله تعالى أولا، ثم لفضيلة الأستاذ الدكتور/ على جمعة محمد مفتى الجمهورية فجزاه عنى وعن طلاب العلم خير الجزاء.
وأما عن الجزء الذي يقع فيه موضوع التحقيق: فهو الجزء الرابع من نسخة دار الكتب المصرية التي رمزت لها بالرمز (د) وجعلتها الأصل وعدد لوحات هذا الجزء (247) لوحة ميكروفيلم برقم (40932)، وعدد السطور في الصفحة الواحدة يتراوح ما بين (20)، 21 سطرا تقريبا، والسطر الواحد تتراوح كلماته ما بين (10- 12) كلمة تقريبا.
و هذه النسخة خطها واضح وسليمة من الخروم إلا بعض الطمس البسيط، وعليها بعض التعليقات والتصويبات في الحاشية، وهى نسخة بخط المؤلف نفسه.
وكذلك يقع موضوع التحقيق: في الجزء الرابع من نسخة تركيا التي رمزت لها برمز (ت)، وعدد لوحات هذا الجزء (215) لوحة، وعدد أسطر الصفحة الواحدة يتراوح ما بين (23- 25) سطرا، والسطر الواحد يضم (11) كلمة تقريبا، وفي آخر هذا الجزء ما يدل على أن هذه النسخة قد قوبلت بالنسخة الأصلية .(3/24)
وأما عن (باب حكم الأمر والنهى في أضدادها، وباب بيان أسباب الشرائع) فموقعهما في آخر الجزء الرابع من النسختين (د، ت) ويبلغ عدد لوحاتهما في النسخة (د) (53) لوحة وفي (ت) (48) لوحة. مع إضافة القسم التطبيقي على سورة الحجرات.(3/25)
الفصل الأول
معنى السبب والعلة مع بيان أسباب الشرائع عند الشارح
السبب في اللغة(1): هو ما يتوصل به إلى الشيء كالباب والحبل والطريق يتوصل بها إلى البيت، والماء والبلد.
وفي عرف الفقهاء(2): ما يتوصل به إلى الحكم من غير أن يثبت به ويوجد عنده(3). / بخلاف العلة(4)
__________
(1) ينظر معنى السبب في اللغة :مختارالصحاح : 281، في القاموس المحيط : 96 .
(2) منهم شمس الأئمة السرخسي في أصوله: 2/218، وصدر الإسلام أبى اليسر في كتابه : معرفة الحجج الشرعية 493 . وعلاء الدين السمرقندي في الميزان : 610 والعلامة عبد العزيز البخاري في كشف الإسرار :2/493 ، والقاضي أبو يعلى في العدة:1/122، والإمام الغزالي في المستصفي:1/93 ، 94 ، والعلامة أمير كاتب في التبيين :1/534 .
(3) هذا التعريف المذكور إنما هو للسبب الشرعي الذي عرفه صاحب " غاية الأصول "بقوله والسبب الشرعي : هو وصف ظاهر منضبط معرف للحكم الشرعي لا مؤثر فيه بذاته ، لكن بإذن الله تعالى " كجعل الله تعالى الزوال سببا لوجوب الظهر .
غاية الوصول شرح لب الأصول، للشيخ زكريا الأنصارى: 13، حاشية نسمات الأسحار ، للعلامة المحقق ابن عابدين 241 .
(4) العلة في اللغة : المرض، وحدث يشغل صاحبه عن وجهه كما جاء في الصحاح ، وقال صاحب اللسان : وهذا علة لهذا ، أي سبب. الصحاح للجوهري:5/1773، لسان العرب لابن منظور:4/3080 . وفي اصطلاح الحنفية: فقد عرفها الشيخ أبو منصور الماتريدي رحمه الله فقال: هي المعنى الذي إذا وجد يجب به الحكم معه. قال صاحب الميزان هذا التعريف هو الصحيح. ميزان الأصول للسمرقندي:580، أما عند المتكلمين فقد عرفها الإمام الرازي - رحمه الله تعالى- بأنها الوصف المعرف للحكم. وعند الآمدى رحمه الله تعالى أنها: الوصف الباعث على الحكم وهناك تعريفات كثيرة لكنها لا تختلف كثيرا عن التعريفين السابقين.
المحصول للرازي:2/305، الإحكام للأمدي: 2/393، سالبحر المحيط للزركشي:5/111.(4/1)
، فإن الحكم يثبت بها، ويوجد عندها، عند وجود الشرط.
والشريعة: الطريقة الظاهرة في الدين، من شرَع إذا بين(1). والمراد من الأسباب هنا العلل الشرعية مجازا، لا الأسباب الحقيقة (2)التي لا يضاف إليها وجود الأحكام أصلا.
ثم إن الشيخ لما ذكر الأمر والنهى، وما يتعلق بهما، وذكر فائدة ورود الأمر وهى: طلب تفريغ الذمة؛ لأنه يقتضى الشغل، وللشغل سبب، فناسب ذكر السبب.
وإنما لم يقدم بيان السبب مع أن الشغل مقدم على ورود الأمر؛ لأن المقصود من الشغل هو الوجوب، وجوب الأداء (3)
__________
(1) الصحاح :3/1236 ، مقاييس اللغة :3/262 ، القاموس المحيط : 732 ، الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية :316 .
(2) قسم الحنفية السبب إلى ثلاثة أقسام :
* الأول : سبب حقيقي ، وهو ما يكون طريقا للحكم من غير أن يضاف إليه وجوب ولا وجود، ولا تعقل فيه معاني العلل، لكن يتخلل بينه وبين الحكم علة لا تضاف إلى السبب، كدلالة السارق على مال إنسان ليسرقه.
*الثاني: السبب المجازي: وهو ما لم يكن طريقا إلى الحكم، ولكن يحتمله، كالطلاق المعلق بالشرط.
* الثالث : السبب الذي هو في معنى العلة:وهو إضافة العلة إلى السبب، وعليه يصير السبب في حكم العلة في إضافة الحكم إليه ، كسوق الدابة وقودها ، فكل من السوق والقود سبب لما يتلف بها. كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري:4/174، 175، أصول السرخسي: 2/304، حاشية نسمات الأسحارلابن عابدين:241، 242.
(3) الفرق بين الوجوب ووجوب الأداء : أن الوجوب هو شغل الذمة بالملزوم ، وأنه يتوقف على الأهلية والسبب والخطاب ، وذلك كوجوب الصلاة ، فإنه يتوقف على أهلية المخاطب بالأمر ، ووجود السبب وهو الوقت ، والخطاب بصيغة الأمر كما في قوله تعالى { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } سورة الإسراء : 78 .
* وأما وجوب الأداء فهو : لزوم تفريغ الذمة عن الواجب بواسطة الأداء ، وأنه يتوقف على الأهلية والسبب والخطاب والاستطاعة وهذه التفرقة بين الوجوب ، ووجوب الأداء عند جمهور الحنفية . ولا فرق عند الشافعية بين الوجوب ، ووجوب الأداء ، ولا معنى للوجوب بدون وجوب الأداء ، فإن معناه : الإتيان بالفعل المتناول للأداء والقضاء والإعادة . أصول السرخسي:1/100 - 102 ، الكافي على أصول البزدوى :3/1214 ، كشف الأسرار للبخاري :1/466 ، البحر المحيط :1/180 .(4/2)
، ووجوب الأداء بالأمر.
ثم اعلم أن في تعلق الأحكام بالأسباب اختلافا:
فقال أصحاب الظواهر(1): إنه لا يجب شيء ما بالسبب، وإنما يجب بظاهر النص؛ لأن الموجب والموجد هو الله تعالى، وصفة الإيجاد، والإيجاب صفة خاصة له، ولا يجوز إضافة الحكم إلى الأسباب الجمادية، ولأن قبل ورود الشرع كانت هذه الأسباب موجودة ولا أحكام معها، فكذا بعد ورود الشرع قد توجد بلا حكم، كما في الأطفال والمجانيين وغيرهم، فلو كانت هذه الأسباب عللا لما تُصوِّر انفكاكها من معلولاتها.
__________
(1) أهل الظاهر: هم جماعة يأخذون بظواهر النصوص ، ومن أشهر أئمتهم داود بن خلف الأصبهاني ، وابن حزم:- رحمهما الله - تعالى.
[الفرق بين الفرق : 28] .
- ورأي الظاهرية في هذه المسألة بينه ابن حزم في إحكامه حيث قال: " قال أبو سليمان وجميع أصحابه – رحمهم الله تعالى- : لا يفعل الله شيئا من الأحكام وغيرها لعلة أصلا بوجه من الوجوه ، فإذا نص الله تعالى ، أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - : على أن أمْر كذا لسبب كذا ، أو من أجل كذا . . . ، فإن ذلك كله ندرى أنه جعله الله تعالى أسبابا لتلك الأشياء في تلك المواضع التي جاء النص بها فيها ،ولا توجب تلك الأسباب شيئا من تلك الأحكام في غير تلك المواضع البتة .
قال أبو محمد- أي-: ابن حزم : وهذا هو ديننا الذي ندين به ، وندعو عباد الله تعالى إليه ، ونقطع على أنه الحق عند الله تعالى " ا هـ .الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم الظاهري:2/583 .
قرآن كريم قلت : مفاد كلام ابن حزم - رحمه الله تعالى - يدل على إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين ، إلا ما جعله الله تعالى أسباب لتلك الأحكام في المواضع التي جاء النص بها فيها .(4/3)
وقالت الشافعية، وهو قول الأشعرية / (1): إن وجوب العبادات بالخطاب (2)، ووجوب العقوبات، والحقوق المالية بالأسباب؛ لأن وجوب الأداء بالخطاب بالاتفاق، فيحصل الوجوب – أيضا- به، لعدم الانفكاك بينهما.
غير أن في سائر الحقوق من الديون(3) والضمانات(4) جعل المال موجودا في الذمم حكما، ثم وجب التسليم إلى صاحب الحق، فحصل الانفكاك فافترقا، والفرق
__________
(1) قال صاحب البحر المحيط : " ونقل العلماء عن جمهور الأشعرية التفصيل بين العبادات وغيرها ، فالعبادات لا يضاف وجوبها إلا إلى الله وخطابه ؛ لأنها وجبت لله على الخُلوص فيضاف إلى إيجابه ، والعقوبات وحقوق العباد أسباب يضاف وجوبها إليها؛ لأنها حاصلة بكسب العبد ، وعلى هذا جوزوا إضافة العبادات المالية إلى الأسباب أيضا " وقد نسب صاحب الميزان هذا القول إلى الإمام الشافعي ، رحمه الله تعالى .
البحر المحيط :1/308، وينظر كذلك : ميزان الأصول : 746 ، كشف الأسرار لعبد العزيز البخارى :2/492 ، 493 .
(2) أي : الخطاب الوارد بالأمر والنهي .
(3) الديون : جمع دين ، وهو ماله أجل ، ومالا أجل له فقرض . ويقال : " دان " هو ، أي : استقرض . قال صاحب " مختار الصحاح " : " فصار دان مشتركا بين الإقراض والاستقراض . مختار الصحاح :217،القاموس المحيط : ص1198.
والدين في الاصطلاح: هو الذي لايسقط إلا بالأداء أو الإبراء . التعريفات : 141 .
(4) الضمانات: جمع ضمان، والضامن الغريم أو الكفيل، يقال : ضمن الشيء بالكسر "ضمانا" أي: كفل به فهو " ضامن " وضمين .
مختار الصحاح ، ص384 ، القاموس المحيط ص1212 .
*والضمان في الاصطلاح : التزام المطالبة بما على الأصيل .بدائع الصنائع:6/2.(4/4)
باطل(1) لوجود الوجوب على من ليس بأهل للخطاب كالنائم والمغمى عليه والمجنون جنونا قليلا.
__________
(1) أي :أن تفريق الشافعي والأشاعرة بين وجوب العبادات بالخطاب ، ووجوب العقوبات والحقوق المالية بالأسباب يعتبر باطلا ، لتعلق الوجوب بمن ليس أهلا للخطاب كالنائم ، والمُغمى عليه ، والمجنون غير المطبق ، وهذا تقرير الإيراد الذي ساقه الشارح للرد على أصحاب القول الثانى : في مسألة تعلق الأحكام بالأسباب ، وهذا يتناسب مع ما ذهب إليه عامة الحنفية وهو : أن للأحكام أسبابا سواء أكانت عبادة ، أم عقوبة ، أم معاملة ، وسيأتى بيان ذلك بعد قليل إن شاء الله تعالى .
لكن يعتذر للإمام الشافعي في تفريقه بين وجوب العبادة بالخطاب ، ووجوب العقوبات والحقوق المالية على اعتبار أن الأمور التعبدية لا تعلل ، بخلاف غيرها .(4/5)
ووجوب الزكاة على الصبي والمجنون عنده(1)، مع أنه ليس بأهل للخطاب، وقد مر مرتين، مرة في باب تقسيم المأمور به في حكم الوقت (2) عند قوله(3): " ولما صار الجزء الأول سببا أفاد الوجوب بنفسه " (4)، والثاني: في المتمسكات الفاسدة عند
قوله: " وفرقه (5) باطل " أي بين المال والبدن، وسيجيء أيضا عقيب هذا عند قوله: ودلالة هذا الأصل.
وقال عامة العلماء(6)
__________
(1) الضمير راجع على الإمام الشافعي- رحمه الله تعالى- حيث قال في الأم : " وتجب الصدقة على كل مالك تام المِلك من الأحرار وإن كان صبيا أو معتوها أو امرأة لا افتراق في ذلك بينهم ... ثم قال في موضع آخر : فما وجب على الكبير البالغ فيه الزكاة وجب على الصغير فيه الزكاة والمعتوه ، وكل حر مسلم سواء في ذلك الذكر والأنثى " ا هـ . الأم : 2/39 ، 40 .
(2) لم أستطع التحقق من هذا الكلام في كتاب الشامل نظرا لأن الجزء الأول والثاني مفقودان ، والنص موجود في كشف الأسرار : 1 / 451 .
(3) الضمير عائد على المصنف " فخر الإسلام البزدوى " .
(4) المراد بهذه العبارة : أي : لما صار الجزء الأول من الوقت الذي جعل سببا لوجوب الصلاة كما في قوله تعالى { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً } أفاد الوجوب بنفسه من غير أن يحتاج إلى انضمام شيء آخر إليه . كشف الأسرار للبخاري: 1/451 .
(5) الضمير راجع إلى الإمام الشافعي؛ لأن السياق يدل على ذلك .
(6) هذا القول نسبه صاحب الميزان إلى : عامة مشايخ الحنفية ، ثم قال : وإليه أشار الشيخ أبو منصور الماتريدي في أصول الفقه الموسوم " بمأخذ الشرائع.
*وقال صاحب البحر المحيط : " للأحكام أسباب تضاف إليها ، وإلى هذا صار جمهور الحنفية "، وهو اختيار بعض المتكلمين من الشافعية كالإمام الغزالي - رحمه الله تعالى - .
المستصفي للغزالى:1/93 ، 94 ، ميزان الأصول للسمرقندى : 746 ، البحر المحيط للزركشى :1/307 ، 308 ، كشف الأسرار لعبد العزيز البخارى:2/493 .(4/6)
: إن لعامة الأحكام أسبابا عبادة كانت أو عقوبة أو معاملة أو غيرها، وإليه أشار الشيخ أبو منصور الماتريدي في أصول الفقه الموسوم " بمأخذ الشرائع(1)؛ لأن المتفرد بالإيجاب والإيجاد وإن كان هو الله تعالى / لكن إيجابه غيب عنا، ولا علم لنا به، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
فوضَع الأسباب أمارات(2) على الوجوب الشاغل للذمة تيسيرا علينا، والأمر لتفريغ الذمة بأداء الواجب بالسبب السابق، ولا ندعي أن الوجوب في الحقيقة بالسبب؛ بل السبب أمارة؛ كي لا يظن أن السبب تتمة القدرة، تعالى الله عن ذلك(3).
وكون الأسباب دلالات(4) وأمارات شرعي(5)، ولا وجود للأمر الشرعي قبل ورود الشرع(6)
__________
(1) بعد البحث عن هذا الكتاب لم أقف عليه .
(2) جمع أمارة : وهى في اللغة: العلامة .واصطلاحا : هى التي يلزم من العلم بها الظن بوجود المدلول ، كالغيم بالنسبة إلى المطر . . . والفرق بين الأمارة والعلامة ، أن العلامة : مالا ينفك عن الشيء ، كوجود الألف واللام على الاسم ، والأمارة : تنفك عن الشيء ، كالغيم بالنسبة إلى المطر . التعريفات للجرجانى : 52 ، 53 .
(3) ينظرهذاالكلام في:أصول السرخسي:1/100،الكافي شرح أصول البزدوى 3/1211، كشف الأسرار للبخارى :2/492، التبيين لأمير كاتب:1/536 ، 537 .
(4) الدلالة هي كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، ويسمى الأول دال، والثاني مدلول، وقد حصرها علماء الأصول من الحنفية في أربعة أقسام هي: عبارة النص، وإشارة النص، ودلالة النص، واقتضاء النص. التعريفات:139.
(5) البحر المحيط للزركشى :1/338 .
(6) هذا الكلام من قِبل الشارح فيه رد على أصحاب الظواهر الذين نفوا تعلق الأحكام أو المشروعات بالأسباب إلا ما جاء النص به، وقد سبق بيان قولهم في أول الباب .
أصول السرخسي :1/100 ، جامع الأسرار في شرح المنار ، للكاكى :2/609 كشف الأسرار للبخارى :2/492 ، الكافي شرح أصول البزدوى :3/1211 . التلويح على التوضيح :2/294 .(4/7)
، وعدم وجود الحكم بعد ورود الشرع لعدم انعقاد السبب، وانعقاده بصدوره من أهله واتصاله بمحله، ثم اعلم: أنا نبين أعيان الأسباب: ـ
فسبب وجوب أصل الدين، وهو الإيمان بالله تعالى - تغير العالم، وهو الآية الدالة على حدثه(1).
وسبب وجوب الصلاة الوقت(2).
وسبب وجوب الزكاة النصاب المُغنى النامي(3).
وسبب وجوب الصوم شهود الشهر(4) حال قيام الأهلية.
وسبب وجوب الحج البيت بدليل الإضافة(5)
__________
(1) قال العلامة عبد العزيز البخارى :" ولأنه لو لم يجعل حدوث العالم سببا – أي لوجوب الإيمان بالله تعالى - ربما اصبحوا يوم القيامة وقالوا : ما ثبت لنا دليل الإيمان بك ، فلذلك لم نؤمن بك ، فجعل حدوث العالم سببا لوجوب الإيمان قطعا لجاجهم " .
كشف الأسرار: 2/499.
(2) أي: دخول الوقت، لقوله تعالى { أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } ولأن الصلاة تضاف إليه ، فيقال : صلاة الفجر ونحوها . . . ولبطلانها بالتقديم عليه . حاشية نسمات الأسحار: 174 .
(3) تحقيقا أو تقديرا ، وكان سببا لها لإضافتها إليه كما في قوله عليه الصلاة والسلام : " هاتوا ربع العشور ... "
أخرجه أبو داود في باب الزكاة باب في زكاة السائمة:2/ 99، والدارقطني في السنن :2/92 ، كتاب الزكاة ، باب وجوب زكاة الذهب والورق والماشية والثمار والحبوب .
(4) وذلك للخطاب الوارد في قوله تعالى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } سورة البقرة : 185.
(5) أي : إضافة الحج إلى البيت كما في قوله تعالى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } سورة آل عمران : 97 .
قال صاحب التلويح : " وسبب وجوب الحج هو البيت بدليل الإضافة لا الوقت أو الاستطاعة ، إذ لا إضافة إليه ، ولا يتكرر بتكرره مع صحة الأداء بدون الاستطاعة كما في الفقير ، بل الوقت شرط لجواز الأداء والاستطاعة شرط لوجوبه ، إذ لا جواز بدون الوقت ، ولا وجوب بدون استطاعة " ا هـ . التلويح على التوضيح للتفتازانى : 2/ 298 .(4/8)
.
حتى يقال: صلاة الظهر، وبدليل التكرر حتى تتكرر الصلاة بتكرر الوقت(1)، فكذا يقال: زكاة المال، وتتكرر الزكاة في مال واحد لوجود النماء تقديرا بحولان / الحول الذي أقيم مقامه تيسيرا؛ لأن النمو لا يكون إلا بمدة،
فقدرها الشرع بالحول(2)، وقال: لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " (3)، وكذا يقال: صوم رمضان، ويتكرر بتكرره(4) إلا أن الله تعالى لما أخرج الليل عن محلِّيَّة الصوم بقوله: { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ } بقى الأيام محلا للصوم خاصة، فصار كل يوم سببا لصومه(5)
__________
(1) أي : أن الوقت سبب لتكرر وجوب الصلاة ، وليس الخطاب هو الذي يوجب التكرار ، ولهذا لا يجوز تعجيل الصلاة قبل دخول الوقت .
(2) أصول السرخسي :1/106 ، الكافي شرح أصول البزدوى :3/1225 ، كشف الأسرار للبخارى :2/504 ، 505 ، جامع الأسرار في شرح المنار :2/614، التلويح على التوضيح :2/296.
(3) الحديث رواه أبوداود بلفظ " ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول : 2/ 100، كتاب الزكاة ، باب زكاة السائمة ، والدارقطني في السنن : 2/ 91 ، كتاب الزكاة ، باب وجوب الزكاة بالحول .
(4) الضمير راجع إلى الشهر ؛ لأن السياق يدل على ذلك .
(5) اختلف الحنفية في سبب وجوب صوم رمضان : فذهب المتأخرون منهم إلى : أن سبب وجوب صوم رمضان هو الشهر ؛ لأنه يضاف إليه ويتكرر بتكرره ، إلا أن شمس الأئمة السر خسي - رحمه الله تعالى - ذهب إلى أن السبب هو : مطلق شهود الشهر ؛ لأن الشهر أسم لجزء من الزمان يشتمل على الأيام والليالى ، وإنما جعله الشرع سببا لإظهار فضيلة هذا الوقت ، وهذه الفضيلة ثابتة لليالى والأيام جميعا ؛ ولهذا فإن من كان مفيقا في أول ليلة من الشهر ، ثم جن قبل أن يصبح ومضى الشهر وهو مجنون ، ثم أفاق يلزمه القضاء ، ولو لم يتقرر السبب في حقه بما شهد من الشهر في حالة الإفاقة لم يلزمه القضاء .
- والحاصل:أن الأكثرين من مشايخ الحنفية كفخر الإسلام أبى العسر، وصدر الإسلام أبى اليسر، والقاضي أبى زيد الدبوسي وغيرهم ، ذهبوا إلى أن السبب في وجوب صوم رمضان أيام الشهر دون الليالي؛بمعنى:أن الجزء الأول الذي لا يتجزأ من اليوم سبب لصوم =
= لذلك اليوم ؛ لأن صوم كل يوم عبادة على حدة ؛ ولأن الله تعالى إذا جعل وقتا سببا لعبادة ، فذلك شرف ذلك الوقت لحق تلك العبادة ، والعبادة في الأداء دون الإيجاب .
تقويم الأدلة ص62 ، أصول السرخسي :1/104 ، الكافي على البزدوى :3/1225 ، كشف الأسرارللنسفي :1/476 - 477 ، كشف الأسرار للبخارى :2/506 ، جامع الأسرار للكاكى:2/615 ، 616 .(4/9)
، وكذا يقال: حج البيت، ولا يتكرر لعدم تكرر البيت.
- وسبب وجوب الوضوء: الصلاة(1)، وحتى يقال: طهارة الصلاة، غير أنها لا تجب إلا على المحدث، كالحج لا يجب إلا على المستطيع.
- وسبب وجوب الجزية: الرأس بوصف معلوم، وهو أن يكون كافرا حرا له بنية
صالحة للقتال(2) حتى لا يوضع على المملوك، والصبي، والمرأة، والشيخ الكبير،
والزَّمِن(3)
__________
(1) قال الإمام عبد العزيز البخاري - رحمه الله تعالى - " اختلفوا في سبب وجوب الوضوء. . . فقيل سببه الحدث لا الصلاة ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" لا وضوء إلا عن حدث " أخرجه البخاري :1/51 ،52 ، وحرف " عن " في مثل هذا الموضع يدل على السببية . . ؛ ولأنه يتكرر بتكرر الحدث ، ولا يتكرر بتكرر الصلاة . . . فعلمنا أن السبب هو الحدث ، والصحيح أن سبب وجوب الوضوء أو الطهارة الصلاة أعنى وجوب الصلاة أو إرادة الصلاة ؛ لأنها - أي- الطهارة تضاف إلى الصلاة شرعا وعرفا فيقال : طهارة الصلاة وتطهَّرْ للصلاة ، والإضافة دليل السببية في الأصل.
ثم أجاب صاحب الكشف أيضا على القول الأول : " ولا نسلم أن وجوب الوضوء بتكرر الحدث ، بل يتكرر بتكرر الصلاة ، إلا أن الحدث شرط وجويه كالاستطاعة في الحج ؛ ولأن الغرض منه تحصيل صفة الطهارة لأجل الصلاة " .
كشف الأسرار للبخاري:2/514 .
- قلت : هذا هو الراجح في المسألة - والله أعلم -؛ لأن الله - عز وجل - أمر من أراد الصلاة أو القيام لها بالوضوء ، فرتب فعل الوضوء على إرادة الصلاة؛ ولأن الحدث ناقض للطهارة، فلا يصلح سببا لها.
قال الإمام السرخسي - رحمه الله تعالى- " كيف يكون الحدث سببا للوجوب وهو ناقض للطهارة؟ فما يكون مزيلا للشيء رافعا له لا يصلح سببا لوجوبه" اهـ . أصول السرخسي:1/106.
(2) بدائع الصنائع :7/111 .
(3) الزمن : ذو الزمانة ، ورجل زمن أي : مبتلى ، والزمانة : العاهة .
اللسان :3/1867 ، المعجم الوجيز :292 .(4/10)
، والمفلوج(1) والأعمى؛ لأنه يقال: خراج الرأس، ويتكرر بعدد الرؤوس /.
- وسبب وجوب صدقة الفطر على المسلم: رأس يلزمه مُؤْنته بولايته عليه(2)، لأنه يقال: زكاة الرأس، وتتكرر بتكرر الرؤوس، والإضافة إلى الفطر مجاز(3)، لأنه شرطه(4).
__________
(1) الفالج : ريح يأخذ الإنسان فيذهب بشقه ، وقد فلج الرجل فهو مفلوج ، وقيل : الفالج : شلل يصيب أحد شقى الجسم طولا .
مختار الصحاح 510 ، لسان العرب :5/3456 .
(2) قال الإمام الكاساني - رحمه الله تعالى - : " وأما السبب- أي- : سبب وجوب صدقة الفطر فرأس يلزمه مؤنته ، ويلى عليه ولاية كاملة . . ." بدائع الصنائع :2/70 .
(3) الإضافة إلى الفطر مجاز باعتبار أنه وقت الوجوب ؛ ولهذا يتكرر وجوب صدقة الفطر إذا تكرر الرأس وإن لم يتكرر الفطر ، كما في الأداء عن الأطفال ؛ لأنه لا صوم عليهم فلا فطر . ا هـ . غاية البيان،ونادرة الأقران :1/لوحة 193 ، كشف الأسرار للبخارى :2/508 ، 509 ، جامع الأسرار للكاكى :2/618 .
(4) الضمير راجع إلى وقت الفطر . قال شمس الأئمة السرخسي - رحمه الله تعالىـ: "وإنما جعلنا الفطر شرطا والرأس سببا مع وجوب الإضافة إليهما ؛ لأن تضاعف الواجب بتعدد الرؤوس دليل محكم علىأنه سبب ، والإضافة دليل محتمل، وقد بينا أن الإضافة قد تكون إلى الشرط مجازا " ا هـ أصول السرخسي 1/107.(4/11)
وأسباب الكفارات ما أضيفت إليه(1)كالقتل خطأ، واليمين والظهار، والإفطار عن صوم رمضان، وكذلك الحدود كالزنا(2)، والسرقة والقذف وشرب الخمر والسكر.
وسبب المعاملات: تعلق البقاء المقدر بمباشرتها(3) وهذا الذي قلنا هو اختيار القاضي أبى زيد وشمس الأئمة السرخسي، وفخر الإسلام ومن تابعهم، فأما اختيار صاحب الميزان فبخلاف ذلك، فقال: " الصحيح أن يقال سبب وجوب المعرفة والتصديق له، والإقرار به، هو ترادف نعم الله تعالى على العبد من نعمة الحياة، وسلامة العقل، والبدن، ونحو ذلك.
__________
(1) أي : أن أسباب وجوب الكفارات التي تدور بين العبادة والعقوبة ما يضاف إليه من سبب متردد بين الحظر والإباحة ، نحو : اليمين المعقودة على أمر في المستقبل إذا حنث فيها ، والظهار عند العود ، والفطر في رمضان بصفة الجناية على حرمةالصوم ، والقتل بصفة الخطأ . أصول السرخسي :1/109، كشف الأسرار للبخارى :2/515 - 517 ، جامع الأسرار للكاكى :2/626 - 628 ، حاشية نسمات الأسحار لابن عابدين :175 ، 176 .
(2) أي : أن الزنا سبب لوجوب حده ، فيقال : حد الزنا بالإضافة ، والإضافة دليل السببية . وهكذا يقال في الباقى .
(3) وبيان ذلك : أن الله - عز وجل - خلق هذا العالم وقدر بقاءه إلى قيام الساعة ، وهذا البقاء إنما ببقاء النفس وبقاء الجنس ، وبقاء الجنس بالتناسل ، وذلك بإتيان الذكور الإناث في موضع الحرث ، فشرع له طريقا يتأدى به ما قدر الله تعالى من غير أن يتصل به فساد وضياع . . . وهو طريق الازدواج بلا شركة في المرأة .
وكذا لا طريق لبقاء النفس إلى أجلها من غير إصابة المال . . .، فشرع سبب اكتساب المال ، وهو التجارة عن تراض ، وهكذا في باقى المعاملات. جامع الأسرار للكاكى 2/624 ، ولمزيد بيان في سبب مشروعية المعاملات ينظر :تقويم الأدلة :65 ، 66 أصول السرخسي :1/109 ، 110 ، الكافي على أصول البزدوى :3/1238 ، 1239, كشف الأسرار للبخارى :2/517 ، 518 .(4/12)
فإن [النعمة](1) تقتضى وجوب شكر المنعم، والوجوب بإيجاب الله تعالى، لكن بالعقل يعرف أن كفران النعمة حرام، وشكر المنعم(2) واجب(3)
__________
(1) في ميزان الأصول :749 " النعم " .
(2) شكر المنعم : عبارة عن استعمال جميع ما أنعم الله تعالى به على العبد من القوى والأعضاء ظاهرة وباطنة مدركة ومحركة ، فيما خلق الله تعالى لأجله ، كاستعمال النظر في مشاهدة مصنوعاته وآثار رحمته ليُستدل على صانعها 0 بيان المختصر للأصفهانى 1/200 .
(3) هذه المسألة -أعنى - وجوب شكر المنعم – مبنية على قاعدة الحسن والقبح العقليين- ، وقد تقرر بطلان هذه القاعدة عند أهل السنة ؛ لأن الحسَن ما حسنه الشرع ، والقبيح ما قبحه الشرع .
وبناء على ذلك يُمتنع القول : بوجوب شكر المنعم عقلا ؛ لامتناع حكم العقل على الأشياء قبل ورود الشرع ، إلا أن الأصوليين من أهل السنة اعتادوا فرض هذه المسألة على سبيل التنزل .
قرآن كريم والحاصل: أن جمهور الأصوليين ومنهم الأشاعرة : قد ذهبوا إلى أن شكر المنعم غير واجب عقلا . بل وجوبه بالشرع؛ لأن الله - عز وجل - قال: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء :15 ] فلو كان شكر المنعم واجبا عقلا لما كان لبعثة الأنبياء ؛ إذ لو كان العقل هو الذي يحسن ويقبح فما فائدة إرسال الأنبياء ؟ فضلا عن أن هناك أشياء قد لا يستطيع العقل إدراك حسنها أو قبحها لعلة قد خلقها تعالى لحكمة لا يعلمها إلا الله - عز وجل - ، أو خفيت عنا وربما ظهرت بعد ذلك .
قرآن كريم وقالت المعتزلة : شكر المنعم واجب بالعقل ، ثم جاء الشرع مؤكدا لما أدركه العقل وقد وافق المعتزلة على هذا ، القفال الشاشي ، كما قال صاحب [ البحر المحيط : 1/ 149]" ونقل صاحب مسلَّم الثبوت عن الحنفية : إن شكر المنعم واجب عقلا. والفرق بين ما ذهب إليه الحنفية ، وما قاله المعتزلة في هذه المسألة : أن المعتزلة يقولون : العقل بذاته مستقل بوجوب المعرفة ، وعند الحنفية العقل آلة لوجوب المعرفة ، والموجب هو الله تعالى في الحقيقة لكن بواسطة العقل ، وهذا في وجوب المعرفة دون سائر الأحكام . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... =
= - والراجح في المسألة- والله أعلم - : عدم قيام الحكم بناء على تحسين العقل وتقبيحه ، وترتب الثواب والعقاب علي ذلك – إلا بالأمر والنهي الصادرين من الشرع
فالمعتزلة قد أصابوا الحق بقولهم بأن الأفعال في نفسها حسنة أو قبيحة ، وأن العقل يدرك هذا الحسن وهذا القبح في بعضها الآخر ، لكن جانبهم الصواب بقولهم بأن العقل هو الذي يستقل بحسن الأفعال وقبحها ، فرأي الحنفية في المسألة هو الأولى بالأخذ ، إذ أنه جمع بين العقل والشرع .
شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار:86.،الإرشاد لإمام الحرمين:268، المستصفي:1/61 ،فواتح الرحموت :1/47 ، نهاية الوصوإلىعلم الأصول:1/136 – 139 ، التلويح على التوضيح :2/335 ، شرح الكوكب المنير لابن النجار:1/308 ، الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية لأبى عذبة : 320 ، الحكم الشرعي عند الأصوليين لشيخنا الدكتور على جمعة : 125 .(4/13)
فكأنَّ النعمة معرفة له وجوب شكر المنعم لكن بواسطة آلة المعرفة وهو العقل [وهذا معنى قول بعض الناس](1): إن العقل موجب. أي دليل ومعرف لوجوب الإيمان بالنظر في سببه بالعقل، وهو النعم. وقال أيضا/: إن سبب وجوب الصلاة هو الوقت، وسبب وجوب الصوم هو شهود شهر رمضان، وسبب وجوب الحج هو البيت، ولكن لا يعقل كون أنفس الأوقات أسبابا، وفي الحقيقة تتابع نعم الله تعالى- عليهم في كل وقت من هذه الأوقات الخمسة سبب وجوب الصلاة فيه، شكرا لما أنعم
الله تعالى عليهم، والوقت ظرف للنعم، ومقدر لها - أيضا- فيضاف الوجوب إلى الوقت، وكذا في حق الصوم: السبب هو النعم(2) وهو اقتضاء شهوة البطن والفرج، والاستمتاع
بذلك سنة كاملة، وجعل الشكر هو الامتناع عن ذلك شكرا لوجه الله تعالى، ويكون الشهر شرط الوجوب وشرط الأداء فيضاف إليه مجازا.
- وكذا سبب وجوب الحج، هو النعم، فإن العبد عليه خدمة مولاه حال حضرته، وفي حال غيبته لزوم حضرة بابه؛ لكونه عبدا له، مستغرقا في نعمه، والله تعالى ليس بمشاهد ولا له مكان، ولكن لما أضاف البيت إلى نفسه كرامة له وإظهارا لشرفه الذي وضعه له. يجب على عبيده زيارته، ولزومه لهذا، لكن بفضله وكرمه اجتزأ منهم في العمر مرة، وقام ذلك مقام لزومهم ذلك المكان أبدا.
- وكذلك المال سبب لوجوب الزكاة، شكرا للتنعم بالمال والاستمتاع بصنوف النعم في كل سنة، لكن قدر الحاجة التي يقوم به البدن، فكان شكره ما هو شكر نعمة البدن، فأما الفضل على الحاجة ا للازمة الذي يقع به التنعم، ويكون سبب الجاه والعز في الدنيا يكون سبب الوجوب.
__________
(1) لعله يقصد بذلك فخر الإسلام البزدوي. نهاية الوصول إلى علم الأصول :1/191 .
(2) هذا القول من صاحب " الميزان " يخالف ما عليه مشايخ الحنفية وهو: أن سبب وجوب الصوم شهود الشهر: وقال شمس الأئمة السرخسي الأيام والليالي. أصول السرخسي: 1/101، كشف الأسرار للبخارى : 2/ 506 .(4/14)
- وأما أسباب العقوبات والضمانات: هي الجنايات(1)
والإتلافات(2) زجرا وجبرا.
- وأسباب الكفارات عند بعض مشايخنا(3): هي الأشياء التي تضاف إليها من اليمين والظهار، وقتل الخطأ، ونحوها..
وعند أهل التحقيق أسبابها: ما هو سبب وجوب التوبة، وأنها شرعت توبة وتكفيرا، لكن الجنايات شرط تحقق التكفير، كالمعصية شرط وجوب التوبة، لا سببها على ما عرف في الخلافيات.
- وسبب شرع المعاملات: هو الاختصاص الذي به يقع دفع يد الأغيار تحقيقا للبقاء الموعود إلى آخر الدهر، وقطعا للمنازعة، إلى هنا لفظ ميزان الأصول(4).
__________
(1) الجناية: هي كل فعل محظور يتضمن ضررا .وهى في الأصل نوعان: جناية علىالبهائم والجمادات ، وجناية على الآدمي ، والجناية على الآدمي ثلاثة أنواع: جناية على النفس مطلقا ، وجناية على ما دون النفس مطلقا ، وجناية ما هو نفس من وجه دون وجه . بدائع الصنائع :7/233 ، الاختيار لتعليل المختار :4/72 .
(2) الإتلاف:لا يخلو إما أن يقع على بنى آدم، وإما أن يقع على غيرهم من البهائم والجمادات، فإن وقع على بنى آدم فحكمه حكم النفس وما دونها وإن وقع على غير بني آدم، فإنه يوجب الضمان إذا استجمع شرائط الوجوب.ا هـ. بدائع الصنائع :7/164 .
(3) كالقاضي أبى زيد الدبوسى، وفخر الإسلام البزدوي، وشمس الأئمة السرخسي .تقويم الأدلة للدبوسى :65 ، أصول السرخسي :1/109 ، كشف الأسرار للبخارى :2/ 516 .
(4) ينظر ميزان الأصول لعلاء الدين شمس النظر السمرقندى 749 751 .(4/15)
ص (قوله (اعلم (1) أن الأمر والنهي على الأقسام (2) التي ذكرناها إنما يراد بها طلب الأحكام المشروعة وأداؤها، وإنما الخطاب للأداء.
ولهذه الأحكام أسباب تضاف إليها (3) / شرعية وضعت تيسير على العباد، وإنما الوجوب بإيجاب الله تعالى لا أثر للأسباب في ذلك، وإنما وضعت تيسيرا على
__________
(1) صدر المصنف كلامه بقوله " اعلم " تنبيها على أن باب : بيان أسباب الشرائع إنما هو باب جليل القدر في فن الأصول يجب ضبطه وعلمه وإدراك أسراره ، لا كما يزعم البعض ، من أنه لا عبرة بالأسباب أصلا ؛ لأن الأحكام إنما تثبت بايجاب الله - عز وجل - صراحة ، ودلالة بنصب الأدلة ، والعلم لنا إنما حصل من الأدلة أي : الأسباب وذلك للقطع بأنها مضافة إلى إيجاب الله - عز وجل - ؛ لأنه تعالى شارع الشرائع إجماعا فلا مشرع غيره . اهـ التلويح على التوضيح : 2/294 .
(2) سيأتي بيان ذلك في كلام الشارح بعد قليل .
(3) قال الإمام عبد العزيز البخاري : " قال عامة أصحابنا ، وبعض أصحاب الشافعي، وعامة المتكلمين : إن لأحكام الشرع أسبابا تضاف إليها، والموجب للحكم في الحقيقة والشارع له هو تعالى دون السبب ؛ لأن الإيجاب إلى الشرع دون غيره ، وهو اختيار الشيخ أبي منصور - رحمه الله تعالى- " . كشف الأسرار للبخاري : 2 / 492 .
ولمزيد بيان في هذه المسألة تقويم الأدلة:61 فما بعدها ، أصول السرخسي: 1 / 100 110 ،المستصفي: 1 /93،94، ميزان الأصول: 745، 746 ، نهاية الوصول إلى علم الأصول: 2 / 656 فما بعدها ، الكافي شرح أصول البزدوى: 3 /1210 وما بعدها، جامع الأسرار للكاكى: 2 / 609-629، التلويح على التوضيح : 2 / 293 301، البحر المحيط: 1/ 307، 308، حاشية نسمات الأسحار : 173 -176 .(4/16)
العباد، لما كان الإيجاب غيبا فنسب الوجوب إلى الأسباب الموضوعة، وثبت الوجوب جبرا لا اختيار للعبد فيه (1).
ثم الخطاب بالأمر والنهي للأداء (2) بمنزلة البيع يجب به الثمن، ثم يطالب بالأداء.
ش: وأراد بالأقسام التي ذكرها كون الأمر مطلقا (3)
__________
(1) المراد بهذه الجملة : أن الوجوب وهو " شَغل الذمة بالواجب" يتوقف على وجود السبب والأهلية، كالصلاة فإنها لا تجب على العبد إلا بوجود سببها ، وهو الوقت ، وتحقق الأهلية، وكلا الأمرين لا صُنع للعبد فيهما، فكما لا صنع له في صفة العبودية الثابتة عليه لا صنع له في أصل الوجوب. أصول السرخسي : 1 / 100، البحر المحيط 1 / 180 .
(2) أي : أن وجوب الأداء بالخطاب الثابت بالأمر والنهى يلزم عنه تفريغ الذمة، وذلك يكون بالامتثال للأمر وترك ضده .
(3) الأمر المطلق : هو الذي لم يقيد طلب إيقاعه بوقت في العمر ، أي : بوقت لا يجوز قبله ، ويفوت بفواته ، وإن كان واقعا في وقت لا محالة ، كالأمر بالكفارات ، وقضاء رمضان والنذر المطلق ، ونحو ذلك .[ حاشية نسمات الأسحار على المنار : 54] وقد اختلفت آراء العلماء في دلالة الأمر المطلق المجرد عن القرائن على المرة أو التكرار ، و في دلالته على الفور أو التراخي .
- وحاصل الكلام في هذه المسألة : أن من العلماء من ذهب إلى أن الأمر المطلق يدل على التكرار المستوعب لزمان العمر مع الإمكان وقد اختار هذا أبو إسحاق الإسفرابيني. ، ومنهم من ذهب إلى أن الأمر المطلق يدل على المرة.
- والراجح في هذه المسألة : أن الأمر المطلق لا يدل على التكرار ولا على المرة ، وإنما يدل على طلب الماهية ، والمرة من لوازم الماهية ؛ لأنها لا تتحقق بأقل منها. وقد ذهب إلى هذا الجمهور من الفقهاء والمتكلمين ، واختاره الإمام الرازي ، وسيف الدين الآمدي ، والبيضاوي وابن الحاجب وغيرهم =
- = والذين قالوا : بأن الأمر المطلق يقتضى التكرار ، قالوا: إنه يدل على الفور، وأما الذين ذهبوا إلى أن الأمر المطلق لا يقتضى التكرار اختلفوا في دلالة هذا الأمر على الفور أو التراخي أو غير ذلك.
- فمن العلماء من قال : إن الأمر المطلق يفيد التراخي ، وقد ذهب إلى هذا الجبائي من المعتزلة
- ومنهم من قال : إن الأمر المطلق يفيد الفور من غير تراخ ، وعلى المكلف الامتثال للأمر في أول وقت الإمكان ، ويأثم بالتأخير ، واختار هذا الكرخي وبعض المالكية والحنابلة .
- وأكثر الأصوليين من الفقهاء والمتكلمين على أن الأمر المطلق لا يفيد الفور ولا التراخي بل هو موضوع لطلب الفعل ، وهذا هو الراجح في المسألة .
المعتمد : 1/34 ، أصول السرخسي :1 / 18 ، العدة لأبى يعلى 1 / 194 ، قواطع الأدلة 1 / 65 ، ميزان الأصول :210 ، كشف الأسرار للبخاري : 1 / 184 .(4/17)
،
ومقيدا(1)،أو كونه واجبا على سبيل التوسع (2)، أو التضيُّق،
أو التخيير (3) وغير ذلك من كون المأمور به حسنا لعينه (4)
__________
(1) الأمر المقيد أو المؤقت : هو الذي طلب الشارع إيقاعه في وقت محدد كالصلوات الخمس ، وصوم رمضان ، فهذه الواجبات لا يجوز أداؤها قبل وقتها المحدد لها من قبل الشارع ، ويأثم المكلف بالتأخير بعد الوقت من غير عذر شرعي .
أصول السرخسى :1/21 24، العدة في أصول الفقه :1/201 206، ميزان الأصول : 214 218، نهاية الوصول إلى علم الأصول :1/ 163، حاشية نسمات الأسحار على أصول المنار : 55 -59 .
(2) الوقت الذي قدره الشرع لأداء العبادة لا يخلو: إما أن يكون بقدر الفعل ، ويراد به الواجب المضيق ، كصوم رمضان ، فإنه واجب بأول دخول الوقت بلا خلاف .
* وإما أن يكون الوقت مما يتسع له الفعل ويفْضُل عنه، وهذا هو الواجب الموسع، كالظهر في وقتها ، فجميعه يصلح للأداء، أي: أن جميع أجراء الوقت هي وقت لأداء ذلك الوجب، وهذا ما عليه أكثر الفقهاء من الشافعية والحنابلة وبعض المعتزلة كالجبائي وابنه ... = ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
= - ومن العلماء من قال : لا يجوز ترك هذا الواجب في الجزء الأول من الوقت إلا إذا عزم على الفعل في الجزء الثاني ، وهذا ما اختاره الباقلاني ، والنووي وسيف الدين الآمدي .
- ومنهم من قال : إنها أي : الصلاة في مطلق الوقت تجوز مع التخيير، ويتعين الوجوب إذا تضيق الوقت ، وهذا هو الصحيح من مذهب الحنفية كما في الميزان .
المعتمد :1/134 144 ، قواطع الأدلة :1/87، التقريب ، المستصفي :1/69) ، ميزان الأصول :217 ، الإحكام للآمدى :1/105، المجموع للنووى :3/47، نهاية الوصول:1/151 ، العدة لأبي يعلى :1/212 .
(3) سبق بيان هذا النوع من الواجب المخير (ص 98) .
(4) الحسن والقبيح يطلق على ثلاثة معان :
* أولها: على ملائم الطبع ومنافره .
* ثانيها : يطلق الحسن على صفة الكمال ، والقبح على صفة النقص ، كالعلم والجهل ، يطلق كل منهما على متعلق المدح والذم كالعبادة والمعصية، ولا خلاف أنهما والمعصية، ولا خلاف أنهما بالمعنيين الأولين عقليان، وأما بالمعنى الثالث: فعند المعتزلة الحاكم بالحسن والقبح هو العقل، وعند أهل السنة الحاكم بالحسن والقبح هوالله - عز وجل -، والعقل هو آله للعلم بهما.
حاشية نسمات الأسحار لابن عابدين : 45، نهاية الوصول إلى علم الأصول :1/130، وبعد هذه التقدمة يمكن القول: بأن الحسن بالنسبة للمأمور بة نوعان:
حسن لعينه لا يحتمل السقوط بحال كالإيمان بالله تعالى وصفاته، وحسن لعينه قد يحتمل السقوط : كالصلاة : فهي حسن لمعنى في غيره، وذلك مقصود في نفسه كالسعي إلى الجمعة ، وحسن لمعنى في غيره قد يكون غير مقصود بنفسه لكنه وسيله إلى غيره كإقامة الحدود، وقتال المشركين . ا هـ
أصول السرخسي :1/42 46) ، كشف الأسرار للبخاري:1/ 272 ،وما بعدها. حاشية نسمات الأسحار على أصول المنار:46 وما بعدها . = ... ... ... ... ...
= أما بالنسبة للقبيح لعينه ولغيره فقال صاحب الميزان: ذكر القاضي أبو زيد رحمه الله تعالى وقال: النهى على قسمين : ما قبح لعينه، وما قبح لغيره، وكل واحد من القسمين ينقسم إلى قسمين آخرين .تقويم الأدلة ( 52 )، ميزان الأصول ص226 وما بعدها .(4/18)
، أو لغيره، وكون النهي قبيحا لعينه، أو لغيره.
وحاصل الكلام: أن المراد بأقسام الأمر والنهي طلب أداء الأحكام الواجبة بالأسباب، وطلب الامتناع عن الأحكام المحرمة بأسبابها، والخطاب بالأمر والنهي للأداء والامتناع، ونفس الوجوب بأسباب جعلها الشرع أسبابا؛ لأن هذه الأسباب جعلية لا عقلية حيث جعلها الشرع أسبابا - وإلا لم تكن أسبابا، ولم يكن لها أثر أصلا؛؛ لأن الموجب هو الله تعالى وحده لا شريك له كما أن الموجد هو وحده لا شريك له، ولكن لما كان إيجابه تعالى غيبا عنا شرع الأسباب الظاهرة تيسيرا علينا [فجعلها أمارة للوجوب بإيجابه تعالى الذي هو غيب عنا] (1) فأضيف الوجوب إلى السبب الظاهر والأداء إلى الخطاب لأداء الواجب بالسبب السابق، فلما كان الوجوب بالسبب لا بالخطاب كان الوجوب ثابتا جبرا واقعا لا محالة بوجود السبب.
ولما كان الأداء بالخطاب، كان للعبد في الأداء اختيار حيث يوجد الأداء باختياره الأداء، وينعدم الأداء إذا لم يختر الأداء فإن أدى أثيب وإن ترك لا عن عذر عوقب، وهذه الذي قلنا كالبيع يجب به الثمن مطلقا سواء كان الثمن حالا أو مؤجلا (2)، ثم لا يجب أداء الثمن إلا بعد تحقق المطالبة، ولا معنى ؛ لإنكار إضافة الأحكام إلى الأسباب، ألا ترى أن الله تعالى شرع لوجوب القصاص والحدود(3) أسبابا
__________
(1) هذه الجملة ساقطة من (د) ، ومثبتة في (ت) .
(2) ينظر كلام الشارح - رحمه الله تعالى - في : أصول السرخسى:1/ 73، 74، ميزان الأصول:742 ، 743، كشف الأسرار للبخارى: 2/492، جامع الأسرار للكاكى:2/ 609.
(3) الحد في الشرع : عبارة عن عقوبة مقدرة واجبة حقا لله تعالى ، وهو بخلاف القصاص: فإنه وإن كان عقوبة مقدرة لكنه يجب حقا للعبد ، حتى يجرى فيه العفو والصلح
[بدائع الصنائع للكاسانى: 7/33].(4/19)
يضاف الوجوب إليها، وإن كان الموجب في الحقيقة هو الله تعالى، فجعل سبب وجوب القصاص القتل، والجرح، وجعل سبب وجوب الرجم زنا المحصن، ووجوب الجلد زنا غير المحصن، وسبب وجوب قطع اليد السرقة.
وكذلك جعل سبب وجوب ضمان المال الإتلاف، والغصب، والشراء، وجعل سبب وجوب الملك (1) الاستيلاء، والاصطياد، و الاستقراض، وجعل سبب ملك الوطء النكاح، وملك اليد(2).
فمن أنكر إضافة الأحكام إلى الأسباب في العبادات (3) فلينكر هذه الأسباب أيضا، ولينكر جميع الأسباب من الطاعات، فإنها أسباب للثواب والمعاصي وإنها أسباب للعقوبات بجعل الله تعالى إياها أسبابا، فمن أنكر الأسباب وعطلها (4)، وأحال الأحكام إلى الله تعالى خرج عن مذهب أهل السنة [والجماعة] (5)
__________
(1) أي ملك المال ؛ لأن السياق يدل على ذلك.
(2) المراد بملك اليد: الإماء اللاتى يملكها السيد عن طريق ملك اليمين.
(3) يقصد الشارح رحمه الله تعالى بهذا من أنكر إضافة الأحكام إلى الأسباب في العبادات ، الإمام الشافعى ( رحمه الله تعالى) وتابعه جمهور الأشعرية، وقد مر بيان هذا القول ص (155) .
(4) كأصحاب الظواهر الذين مر بيان قولهم في بداية هذا الباب . ص ( 154) .
(5) ساقط من (د) ومثبته في (ت) .
(6) الجبرية: أتباع جهم بن صفوان الذي قال: بالاضطرار والإجبار في الأعمال، وأنكر الاستطاعات كلها، وكذا الصفات الواجبة لله تعالى، كما زعم أن الجنة والنار تفنيان، وأن الإيمان هو عقد بالقلب فقط ، حتى وإن أظهر الكفر والتثليث بلسانه، أعاذنا الله من ذلك . كما ذهب إلى أنه لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى، وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز، وبناء على هذه العقائد الفاسدة اتفقت أصناف الأمة على تكفيره، كما قال العلامة عبد القاهر البغدادي الإسفرابينى ينظر: مقالات الإسلاميين ص 279، الفرق بين الفرق: 211، 212، الملل والنحل (1/86)، الفصل في الملل والأهواء والنحل 1/368 369. =(4/20)
وصار جبريا (1).
............................................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ =قلت: إن ما حكم به الشارح رحمه الله تعالى على من أنكر تعلق الأحكام بالأسباب بأنه جبري فيه نظر لأمور:
* أولها: أن أصحاب الظواهر لم ينكروا تعلق الأحكام بالأسباب على وجه العموم؛ بل أثبتوا أن بعض الأسباب توجب الأحكام لكن من جهة المواضع التي جاء النص بها فيها.
* ثانيها: أن حكم الشارح رحمه الله تعالى هذا يحتاج إلى تأمل؛ لأن أصحاب الظواهر خاصة ابن حزم - رحمه الله تعالى- يعتقد بما عليه أهل السنة والجماعة، وقد ظهر ذلك جليا من خلال كتابه المعروف بـ "الفصل في الملل والأهواء والنحل"، وقد أدخله صاحب الفرق بين الفرق(ص:315) في أهل السنة والجماعة وغاية خلاف ابن حزم: أنه أبطل القول بالتعليل في الأمور التعبدية حيث قال: " لا ينبغي علينا أن نسأل عن علة فرضية الصلاة أو الزكاة أو غيرها من العبادات واستدل على ذلك بقوله تعالى: { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } الأنبياء:23،وترتب على قوله بعدم التعليل في الدين نفي القياس كما هو معلوم في الإحكام" 2/583 وما بعدها.
* ثالثها: لا يصح وصف من قال بتعلق الأحكام بالأسباب عن طريق النص فقط بأنه جبري، خاصة أن مباديء الجبرية تخرج عن الملة أعاذنا الله من ذلك كما عرف من ترجمتهم.
قرآن كريم وبالإضافة إلى ذلك: فإن إمام الأئمة الشافعى رحمه الله تعالى ومعظم الأشعرية لم يقولوا بتعلق الأحكام بالأسباب في العبادات، بل قالوا: بأن موجب الأمور التعبدية بطريق الخطاب الوارد بألمر من الله تعالى.
الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (2/583)، ميزان الأصول ص746 ، البحر المحيط للزركشى:1/307، 308.(4/21)
وخالف إجماع المسلمين (1) فيما ذكرنا من الأسباب المذكورة، ومن أقر ببعض الأسباب، وأنكر بالبعض (2) كان ذلك منه جهلا (3)، فيجب عليه أن يتأمل ويرجع إلى الحق، ويقول بشرعية الأسباب في المشروعات أجمع.
__________
(1) لعل التعبير يكون سليما لو قلنا : " وخالف ما عليه جمهور العلماء" ؛ لأنه قد خالف في هذه المسألة من يعتبر وفاقه وخلافه ، كالإمام الشافعي وأكثر الأشعرية وكذا الظاهرية.
* والتحقيق: أن الأسباب لا توجب أحكاما بذاتها، بل الموجد والموجب لها هو الله سبحانه لا غير، وما الأسباب إلا أمارات ومعرِّفات لحكم الله تعالى، فلم يبق الخلاف إلا في اللفظ المصطلح ولا مشاحة في الاصطلاح. [البحر المحيط 1/308] .
(2) يقصد بذلك الإمام الشافعى ومن تابعه الأشاعرة ، وقد مر تحقيق ذلك ص00 .
(3) هذا الحكم بالجهل على إمام من أئمة المسلمين المعظمين لا يليق ؛ لأن غاية ما ذهب إليه : هو وجوب العبادات بالخطاب ؛ لأنها واجبة لله تعالى على الخلوص ، ويكون وجوب العقوبات والحقوق المالية بالأسباب ؛ لأن فيها حقا للعبد، وكأن الإمام- رحمه الله تعالى - يرى أن الأصل في العبادات التعبد لأنقياد لأوامر الله تعالى دون الالتفات إلى المعانى والعلل كما قال الشاطبي -رحمه الله - في الموافقات 0 ا هـ. الموافقات: 2/ 585، وما بعدها ، البحر المحيط للزركشى: 1/308(4/22)
ص: قوله: ودلالة هذا الأصل (1) إجماعهم على وجوب الصلاة على النائم في وقت الصلاة " والخطاب عنه موضوع (2)،
ووجوب (3) الصلاة على المجنون إذا انقطع جنونه دون يوم وليله، وعلى المغمى عليه كذلك، والخطاب عنهما موضوع، وكذلك المجنون إذا لم يستغرق شهر رمضان كله، والإغماء، والنوم، وإن استغرقه لا يمتنِع بهما الوجوب، ولا خطاب عليهما بالإجماع (4)
__________
(1) أي : الدليل على صحة هذا الأصل وهو " أن نفس الوجوب بالسبب، ووجوب الأداء بالخطاب إجماع الصحابة على وجوب الصلاة على النائم في وقت الصلاة".
(2) لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم ، وعن المعتوه حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ". أخرجه الحاكم عن عائشة - رضي الله عنها - ، وقال صحيح على شرط مسلم ، كتاب البيوع:2/67، والترمذي بنحوه كتاب الحدود عن الإمام على - صلى الله عليه وسلم - :4/32.
(3) ينبغي هنا أن يقرأ قول المصنف - رحمه الله - : " ووجوب " بالرفع على الابتداء، أو عطفا على إجماعهم لا بالجر ؛ إذ لو قريء بالجر ، كما يدل عليه سوق الكلام ، لصار معطوفا على الوجوب المتقدم ، ولدخل وجوب الصلاة على المجنون والمغمى تحت إجماع الصحابة ، وهذا ليس بمراد . كشف الأسرار للبخاري : 2/ 495 .
(4) التعبير بقوله : "بالإجماع" موهم؛ لأن القاريء، ربما يتوهم أن المراد بالإجماع هنا هو الإجماع العام، والأمر ليس كذلك ؛ لأن القائل بوجوب الصلاة على المجنون إذا انقطع جنونه دون يوم وليلة، وكذا المغمى عليه هم الحنفية، وبهذا يكون المراد بالإجماع هنا هو اتفاق الحنفية وليس اتفاق الجميع .
- والدليل على ذلك ما ذكره الإمام عبد العزيز البخاري في الكشف وحاصل كلامه : اعلم أن قوله - أي المصنف- : ووجوب الصلاة على المجنون ...، وعلى المغمى عليه كذلك ... ليس بمجمع عليه ؛ لأن الشافعي- رحمه الله تعالى- لا يوجب الصلاة على المجنون والمغمى عليه إذا استغرق الجنون والإغماء وقت الصلاة ، وحينئذ لا يصح الاستدلال بهاتين المسألتين على الإمام الشافعي إلا إذا كان الكلام مع من أنكر سببية الأوقات للصلوات من أصحابنا ، فحينئذ يستقيم الاستدلال بالمسألتين ، ويكون المراد من الإجماع اتفاق أصحابنا -أي الحنفية – خاصة دون اتفاق الجميع" ا هـ. كشف الأسرار للبخاري: 2/495.(4/23)
، وقد قال الشافعي: - رحمه الله تعالى - بوجوب الزكاة على الصبي وهو غير مخاطب بالأداء (1).
وقالوا جميعا(2) بوجوب العشر وصدقة الفطر عليه، فعلم بهذه الجملة، أن الوجوب في حقنا مضاف إلى أسباب شرعية غير الخطاب.
ش: أي: إجماع الصحابة على وجوب الصلاة على من استغرق نومه وقت الصلاة.
دلالة هذا الأصل، وهو أن الوجوب بالسبب والأداء بالخطاب(3)، فلو كان الوجوب بالخطاب لم يجب على النائم القضاء؛ لأن خطاب من لا يفهم قبيح(4)، لأدائه إلى تكليف ما ليس في الوسع وهو غير جائز بالنص(5).
وكذا إجماعهم (6)
__________
(1) سيأتي بيان ذلك في موضعه - إن شاء الله تعالى - .
(2) سيأتي بيان القائلين بذلك - إن شاء الله تعالى - .
(3) قال الإمام عبد العزيز البخاري: الدليل على صحة هذا الأصل وهو أن نفس الوجوب بالسبب ، ووجوب الأداء بالخطاب إجماعهم ، وهو جواب عما يقال : نحن لا نعلم إيجابا من الله تعالى إلا بالأمر ، فبما عرفتم أن وجوب العبادات بالأسباب؟ فقال : عرفنا ذلك بإجماع المسلمين على إيجاب الصلاة والصوم على من لا يصلح الخطاب مثل النائم في وقت الصلاة والصوم، فإنه مؤاخذ بالقضاء بعد الانتباه. كشف الأسرار للبخاري: 2/494.
(4) لأن شرط التكليف العقل والفهم اتفاقا لاستحالة خطاب غير عاقل فاهم كالمجنون والصبي الغير مميز .
نهاية الوصول إلى علم الأصول : 1/ 210 ، المختصر في أصول الفقه لابن اللحام: 68.
(5) وهو قوله تعالى { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } البقرة:286، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم ، وعن المعتوه حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ". سبق تخريج الحديث ص : 175.
(6) المراد بالإجماع هنا هو اتفاق الحنفية، ؛ لأنهم هم الذين قالوا : بوجوب الصلاة على المجنون، والمغمى عليه إذا كان الجنون والإغماء دون يوم وليلة .
أصول السرخسى:1/100، 101، نهاية الوصول إلى علم الأصول لابن الساعاتي:1/190 ، كشف الأسرار للبخارى :2/495، كشف الأسرار للنسفي:1/475، المغنى في أصول الفقه للخبازى :80 .(4/24)
[على وجوب الصلاة] (1) على المجنون، والمغمى عليه إذا كان الجنون والإغماء دون يوم وليلة، فلو كان الوجوب بالخطاب لم يجب عليهما القضاء؛
لأن الخطاب عنهما موضوع (2).
قال(3) في الأصل: أرأيت رجلا مريضا أغمى عليه يوما وليلة ثم أفاق قال؟ عليه أن يقضى ما فاته من الصلوات.
قلت: فإن أغمى عليه أياما - قال لا يقضى شيئا مما ترك.
قلت:من أين اختلفا؟ قال:للأثر الذي جاء عن ابن عمر(4)
أي: هنا لفظ الأصل(5).
وكذلك الإغماء، والنوم شهر رمضان كله لا يمنع الوجوب؛ لأن استغراقهما الشهر نادر بخلاف الجنون إذا استغرقه فإنه يمنع الوجوب؛ لأن امتداده إلى آخر الشهر
ليس بنادر فيلزم الحرج، بخلاف الجنون إذا لم يستغرق الشهر حيث لا يمنع الوجوب؛ لقلته (6)، فلو كان الوجوب بالخطاب لم يكن الوجوب لعدم صحة الخطاب.
__________
(1) كذا مثبتة في (ت) وساقطة من (د) ، والصواب ما في " ت" ..
(2) لقوله - صلى الله عليه وسلم - "رفع القلم عن ثلاث: الصبى حتى يحتلم، وعن المعتوه حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ ". مر تخريج هذا الحديث ص : 175 0
(3) أي : الإمام محمد بن الحسن الشيبانى في كتابه " الأصل" .
(4) الأثر أخرجه الإمام البيقي في السنن : 1/387 ، والإمام الدارقطني : 2/82 عن الإمام مالك عن نافع أن ابن عمر رضى الله عنهما أغمى عليه فذهب عقله ، فلم يقض الصلاة .
قال الإمام البيهقي : " قال الإمام مالك : وذلك أن الوقت قد ذهب ، وأما من أفاق وهو في الوقت فإنه يصلي ، هكذا في رواية جماعة عن نافع ، وفي رواية عبيد الله بن عمر عن نافع : يوم وليلة، وفي رواية أيوب عن نافع ثلاثة أيام ". ا هـ. سنن البيهقي: 1/387 .
(5) ينظر كتاب الأصل لمحمد بن الحسن الشيبانى:1/209 .
(6) أصول السرخسي :1/101 ، كشف الأسرار للنسفي :1/475 ، كشف الأسرار للبخارى :2/495 ، 496 .(4/25)
و الشافعي - رحمة الله - محتج عليه بقول نفسه؛ لأنه يوجب الزكاة على الصبي(1)، والصبي ليس بمخاطب بالإجماع، فعُلم أن الوجوب ليس بالخطاب.
وقد اتفقنا نحن(2) وهو على : وجوب العشر وصدقة الفطر على الصبي إذا كان [مقدار (3) ] النصاب فاضلا عن الحاجة الأصلية، فعلم أن الوجوب بالسبب لا بالخطاب.
__________
(1) قال الربيع بن سليمان: -رحمه الله تعالى - قال الشافعي رحمة الله تعالى : " وتجب الصدقة على كل مالك تام المِلك من الأحرار ، وإن كان صبيا أو معتوها أو أمرأة لا افتراق في ذلك بينهم"... ، ثم قال أي : الإمام الشافعي في موضع آخر: " فما وجب على الكبير البالغ فيه الزكاة وجب على الصغير فيه الزكاة ، والمعتوه وكل حر مسلم سواء في ذلك الذكر والأنثى " الأم 2/39 ،40 .
(2) اتفق الحنفية والشافعية وغيرهما على وجوب العشر وصدقة الفطر على الصبى والمجنون . قال الإمام السرخسي- رحمه الله تعالى- : "وبالاتفاق يجب عليهما العشر وصدقة الفطر."
أصول السرخسي :1/101 ، شرح بداية المجتهد لابن رشد :2/627،661،كشف الأسرار للبخارى :2/495 ، جامع الأسرار للكاكى :2/612 ، العدة شرح العمدة لبهاء الدين المقدسى :134 ،135 ، أسنى المطالب للشيخ زكريا ؛ لأنصارى :1/388 -390 .
(3) ساقطة من " د " ، ومثبته في الحاشية .(4/26)
فإن قلتََ: كيف أدعيتم الإجماع في وجوب الصلاة على المجنون، والمغمى عليه إذا انقطع الجنون والإغماء في يوم وليله أو أقل، وقد قال الشافعي بسقوط القضاء إذا استغرقا وقت صلاة(1).
قلتُ :(2) إن أصحابنا يعتبرون إجماع الصدر الأول، ولا يلتفتون إلى خلاف الشافعي - رحمه الله -، ولم يثبت النقل عن الصدر الأول بسقوط الوجوب في استغراق العذر وقت صلاة واحدة.
__________
(1) قال الإمام الشافعي- رحمه الله تعالى - : "وإذا غُلب الرجل على عقله بعارض جنون أوعتَهِِ أو مرض ما كان المرض ، ارتفع عنه فرض الصلاة ما كان المرض بذهاب العقل قائما ؛ لأنه منهي عن الصلاة حتى يعقل ما يقول ... إلا أن يفيق في وقت فيصلي صلاة الوقت ... وإذا أفاق المغمى عليه وقد بقي عليه من النهار قدر ما يكبر فيه تكبيره واحدة أعاد الظهر والعصر ، ولم يعد ما قبلهما ...، وإذا أفاق وقد بقي عليه من الليل قبل أن يطلع الفجر قدر تكبيرة واحدة قضى المغرب والعشاء ، وإذا أفاق الرجل قبل أن تطلع الشمس بقدر تكبيرة قضى الصبح ، وإذا طلعت الشمس لم يقضها ، وإنما قلتُ هذا ؛ لأن هذا وقت واحد في حال عذر جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه بين الظهر والعصر في السفر في وقت الظهر، وبين المغرب والعشاء في وقت العشاء ... وكذلك أمر الحائض والرجل يسلم، كما أمر المغمى عليه من أمَرْته بالقضاء ، فلا يجزيه إلا أن يقضى". اهـ .الأم :1/126 .
(2) هذا جواب الشارح عن السؤال الذي افترض وقوعه ، وهذا الجواب وإن كان يتفق مع ما ذهب إليه بعض الحنفية كصاحب "ميزان الأصول" حيث قال: "إن الأصل في الإجماع إجماع الصحابه - رضي الله عنهم - ؛ لأن الله صانهم عن خلاف يوجب التضليل ، ليكون إجماعهم حجة مطلقة" {ميزان الأصول : 492} إلا أنه جواب فيه نظر؛ لأن ما ذهب إليه الجمهور، ووافقهم على ذلك بعض الحنفية كشمس الأئمة السرخسي هو أن إجماع أهل كل عصر حجة. التبصرة للشيرازي : 209 ،أصول السرخسي :2/ 83 .(4/27)
فكان الشافعي محجوجا بالإجماع(1).
وقد روى عن عمار بن ياسر (2) أنه أغمى عليه يوما وليلة، فقضى ما فاته(3)
__________
(1) سبق الرد على هذا الكلام ص (176).
(2) عمار بن ياسر أبو اليقظان العبسي من عبس اليمن وهو حليف بني مخزوم أسلم قديما وكان ممن يعذب في الله هو وأبوه وأمه سمية ويقال إنه أول من اتخذ مسجدا في بيته يتعبد فيه وقد شهد بدرا وما بعدها وقد توفي - رضي الله عنه - يوم صفين عام 36 هـ .
الكامل لابن الأثير: 3 /186، العبر للذهبي : 1/38 ، البداية والنهاية : 7/ 312 .
(3) هذا الأثر أخرجه الإمام البيهقي في السنن الكبرى : 1/ 88 ، والدار قطني في السنن :2/81 عن السدي عن يزيد مولى عمار بن ياسر - رضي الله عنه - : أنه أغمي عليه الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، فأفاق في نصف الليل ، فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء .
* قال الإمام البيهقي : وعليه فإن رواية يزيد مولى عمار فيها مجهول ، وقال يحيى بن معين هذا الإسناد فيه إسماعيل بن عبد الرحمن وهو ضعيف ، وبمثل ذلك قال ابن حجر في الدراية ، ونقل الزيلعي في نصب الراية عن الإمام الشافعي - رحمه الله - أن حديث عمار - رضي الله عنه - ليس ثابتا عنه ، وإن ثبت فيحمل على الاستحباب . نصب الراية : 2/177 ، الدراية في تخريج أحاديث الهداية لابن حجر: 1/ 210 .(4/28)
، ولم يروَ عن أحد من السلف خلافه فحل محل الإجماع (1).
وروى عن ابن عمر أنه أغمى عليه أكثر من يوم وليلة فلم يقض.
ذكره الشيخ أبو بكر الرازي (2) في باب مواقيت الصلاة في شرحه لمختصر الطحاوى (3).
ص: قوله: وإنما يُعرف السبب بنسبه الحكم إليه، وتعلقه به؛ لأن الأصل في إضافة الشيء إلى الشيء أن يكون حادثا به(4)
__________
(1) جملة القول في هذه المسألة أن : المغمى عليه والمجنون لا قضاء على واحد منهما إلا أن يفيقا في وقت فيصليا الوقت الذي أفاقا فيه ؛ لأن الخطاب عنهما موضوع بالنص؛ ولأنهما لا يعقلان ولا يفهمان الخطاب؛ لأن العقل شرط التكليف ، وإذا كان من ذكر غير مخاطب بالصلاة في وقتها الذي ألزِم الناس أن يؤدوها فيه ، فلا يجب أداؤها في غير وقتها ؛ لأن الله تعالى لم يأمر بذلك؛ ولأنه لا تكليف إلا بمقدور ، وقد حكم المحدثون بصحة أثر ابن عمر رضي الله عنهما ، أما أثر عمار بن ياسر - رضي الله عنه - ففي إسناده مقال كما سبق ، ومن العلماء من قال إنه لم يثبت ، وإن ثبت فيحمل قضاؤه على الاستحباب ، والله أعلم . يراجع في ذلك : نصب الراية : 2/177 ، المحلى بالآثار لابن حزم : 2/8 ،9 ، الدراية :1/210.
(2) أي: الإمام الجصاص .
(3) بعد البحث عنه لم أقف عليه.
(4) قال العلامة عبد العزيز البخاري : "اعترض الشيخ أبو المعين النسفي رحمه الله تعالى على هذا الكلام فقال : هذا كلام فاسد ؛ لأن أهل اللغة ما وضعوا الإضافة لمعرفة الحدوث ، ولا فهموه منها البتة ، وإنما وضعوها للتعريف ، وفهموا منها الاختصاص الموجب للتعريف ، وكذا الإضافة إلى غير الله تعالى في اللغة شائع ، ولو كان وضْع الإضافة دالا على الحدوث لما جازت إضافة الأشياء إلى غير الله - عز وجل - حقيقة لتأدِّيها إلى الشركة في الإحداث .. " اهـ . كشف الإسرار : 2/497.
قرآن كريم قلت : إن اعتراض الشيخ أبي المعين -رحمه الله تعالى- يحتاج إلى تأمل لسببين:
أحدهما: أن حكمه ـ على ما قاله المصنف فخر الإسلام – رحمه الله تعالى- : "بأن الأصل في إضافة الشيء إلى الشيء أن يكون حادثا به " بأنه قول فاسد ؛ لأن أهل اللغة ما وضعوا الإضافة لمعرفة الحدوث، وإنما وضعوها للتعريف، ولإفادة التخصيص ـ هذا صحيح ؛ لأنه بالرجوع إلى بعض كتب اللغة تبين وجه قوله، ويؤيده ما قاله ابن الحاجب-رحمه الله تعالى- في كافيته: "وتفيد -أي- الإضافة تعريفا مع المعرفة، وتخصيصا مع النكرة" ا هـ . شرح الرضى على الكافية :2/206 ، 209 ، شرح المقدمة الكافية في علم الإعراب :2/591.
الثاني : لكن قول المصنف - فخر الإسلام رحمه الله تعالى- لا يحمل على سبيل الحقيقة، في إضافة المسبب إلى السبب، وأنه حادث به، ومؤثر فيه بذاته . لأن ما قاله في افتتاح باب بيان أسباب الشرائع الذي بين أيدينا يزيل هذا الإيهام .
*وحاصل كلامه : أن للأحكام أسبابا شرعية تضاف إليها ، وهذه الأسباب وضعت تيسيرا على العباد ، لما كان الإيجاب عنا غيبا ، ثم انتهي الشيخ إلى أمر مهم وهو: أن الوجوب في هذه الأحكام إنما يكون بإيجاب الله تعالى لا أثر للأسباب في ذلك اهـ. وبهذا يكون= =المقصود من كلام المصنف : أن إضافة المسبب إلى السبب وحدوثه به على سبيل المجاز لا على الحقيقة ؛ لأن الموجد والموجب للأسباب أو الأشياء على الحقيقة هو الله تعالى.
ينظر كلام الشيخ البزدوي : ص 169من هذه الرسالة .(4/29)
، وكذلك إذا لازمه فتكرر بتكرره
دل على (1)أنه مضاف إليه.
ش: ثم شرع الشيخ بذكر معرفة الشيء سببا لشيء، فقال:إنما يعرف كون السبب سببا بشيئين: -
أحدهما: نسبه الحكم إليه، وهو إضافة الحكم إليه.
و الثاني: تعلق الحكم به، وهو أن يوجد الحكم بوجوده.
أما الأول :وهو كقولهم صلاة الظهر، وصوم رمضان، وحج البيت، وحد لزنا، وحد الشرب، وحد السرقة، وحد القذف، وكفارة الإفطار، وكفارة الظهار، وكفارة القتل، فإنما دل على كونه سببا ؛ لأن الإضافة أينما وجدت كانت
للاختصاص لا محالة، وهو تميز المضاف عن غيره بالإضافة بقطع المشاركة (2)، وأقوى وجوه الاختصاص أن يضاف المسبب إلى سيبه لحدوثه بالسبب، كما يقال كسْب فلان، وولد فلان، وكتابة فلان، وشعر فلان، وصنعة فلان/ إلى غير ذلك، فعلم من هذا أن الأشياء المضافة إليها فيما مر من بيان أعيان الأسباب أسباب.
وأما الثاني: فلأن المسبَّب يوجد بحسب وجود السبب حسا وشرعا، كالضرب إذا كان قويا كان الألم قويا، وإذا كان ضعيفا كان الألم ضعيفا، وكالبيع إذا كان صحيحا كان حكمه هو الملك صحيحا، وإذا كان فاسدا أوجب الملك فاسدا،
__________
(1) ساقطة من ( ت) .
(2) يراجع الكلام فيما تفيده الإضافة من التعريف والاختصاص في: شرح المقدمة الكافية في علم الإعراب:2/591، شرح الرضي على الكافية:2/206، 207 .(4/30)
ثم لما كان الشيء متعلقا وجوده بوجود شيء آخر حيث يوجد بوجوده، ويتكرر بتكرر ذلك الشيء الآخر دل أن ذلك الشيء الآخر سبب له، لما قلنا:إن المسبَّب يوجد بحسب وجود السبب، فلولا أن ذلك الشيء سبب له لم يتكرر؛ لأن الأمر لا يقتضى التكرار عليه إجماع أهل اللغة وإن كان مضافا إلى وقت، كما إذا قال المولى لغلامه: تصدق من مالي على فلان)بدرهم((1) لمجيء الغد، أو لدلوك الشمس، أو معلقا بشرط كما إذا قال: تصدق عليه من مالي بدرهم إذا طلعت الشمس، فلا يجب تصدقه وإن تكرر الوقت أو الشرط، وهنا فيما نحن فيه لمَّا تكرر الوجوب يتكرر الوقت، وهو الظهر ونحوه [فـ] دل أن الوقت المضاف إليه سبب، فصح أن ما قلنا من المعنيين سبب(2).
وقول الشيخ: و (كذا إذا لازمه فتكرر بتكرره) بيان لقوله: "وتعلقه به" وقد مرَّ وجه البيان(3).
وقال شمس الأئمة السر خسي في أصوله: " الأسباب التي جعلها الشرع موجبة للمشروعات هي [الأشياء] (4) التي تضاف المشروعات إليها، وتتعلق بها شرعا ؛ لأن إضافة الشيء إلى الشيء في الحقيقة دليل على أنه حادث به، كما يقال كسب فلان، أي: حدث له باكتسابه.
__________
(1) ساقطة من الصلب في " د " ومثبتة في " ت " .
(2) هذا الكلام يوجد بنصه في كشف الأسرار للبخارى مع اختلاف قليل في بعض الألفاظ. كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري :2/498.
(3) مر بيان هذا الكلام في الصفحة الماضية والتى قبلها ،وينظر كشف الأسرار :2/498.
(4) كذا وردت في " د "، "ت "، و في أصول السرخسي: " الأسباب "والصواب ما جاء فيها.(4/31)
وقد يضاف إلى الشرط أيضا مجازا على معنى أن وجوده يكون عند وجود الشرط، ولكن المعتبر هو الحقيقة (1) حتى يدل دليل المجاز(2)، وتعلق الشيء بالشيء يدل على نحو ذلك، فحين رأينا إضافة الصلاة إلى الوقت شرعا وتعلقها بالوقت شرعا – أيضا - حتى تتكرر بتكرره، مع أن مطلق الأمر لا يوجب التكرار، وأن كان معلقا بشرط (3)
__________
(1) الحقيقة هي : الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح التخاطب. الإيضاح للخطيب القزوينى 4/4.
(2) المجاز هو: الكلمة المستعلمة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب على وجه يصح مع قرينة عدم إرادته . الإيضاح 4/12 ، وينظر مبحث الحقيقة والمجاز في : المستصفي:1/341 ،ميزان الأصول : 367 ،كشف الأسرار للنسفي:1/225،226، بيان المختصر :1/134 وما بعدها ، البحر المحيط :2/152.
(3) هذا هو مذهب عامة الحنفية ، قال الإمام النسفي- رحمه الله تعالى-: "الصحيح أن الأمر بالفعل لا يقتضى التكرار ولا يحتمله، سواء كان معلقا بشرط ، أو مخصوصا بوصف، أو لم يكن، وقال بعض مشايخنا لا يوجبه ولا يحتمله إلا أن يكون معلقا بشرط ، كقوله تعالى { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ } المائدة :6،أو مخصوصا بوصف، كقوله تعالى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } المائدة: :38 وقوله { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } : الإسراء :78، فإنها – أي : الصلاة تتكرر بتكرر ما قيدت به " اهـ . كشف الأسرار للنسفي 1/58. =
=* وبناء على مذهب الحنفية فإن الأمر وحده لا يوجب التكرار ، وكذا الشرط وحده لا يتكرر الحكم بتكرره ؛ لأن من قال لامرأته : " إن دخلت الدار فأنت طالق" ، فدخلت مرة تقع طلقة واحدة ، ولو دخلت مرارا لا يقع شيء، وأيضا إذا قال السيد لعبده: اشتر اللحم إن دخلت السوق ، فكل من هذين المثالين لا يراد بهما التكرار ؛ لأن أهل اللغة كما استعملوا الأمر المطلق ، كقولهم "صل" وما أرادوا به الدوام والتكرار ، وكذا الأمر المعلق على شرط ما أرادوا به التكرار ، وأوامر الشرع تحمل على ما يتعارفه أهل اللسان.
* وأما إذا ثبت كونه علة لوجوب الفعل ، كقوله تعالى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } النور:2 ، فإن الحكم يتكرر بتكرر تلك العلة ؛ لأن العلة هي المؤثرة في الحكم، وكذا يقال في المعلق على سبب كقوله تعالى { أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } ، وقوله { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } . ميزان الأصول :126،127، التلويح على التوضيح 1/301 ، ولمزيد بيان في هذه المسألة التبصرة : 28 ، 29 ،الإحكام للآمدى 2/28 ، بيان المختصر للأصفهانى : 1/446 ، البحر المحيط للزركشى : 2/388 - 391 ، فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 1/414 ،415.(4/32)
. ألا ترى أن الرجل إذا قال لغيره تصدق بدرهم من مالي لدلوك الشمس لا يقتضي
هذا الخطاب التكرار، ورأينا وجوب الأداء الثابت بقوله تعالى { أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } غير مقصود على المرة الواحدة، [فـ] ثبت أن تكرر الوجوب باعتبار تجدد السبب بدلوك الشمس في كل يوم، ثم وجوب الأداء يترتب عليه بحكم هذا الخطاب.
وحرف اللام في قوله تعالى { لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } دليل على تعلقها(1) بذلك الوقت كما يقال: تأهبْ للشتاء، وتطهر للصلاة، ولم (تتعلق (2) بها) وجودا عندها، فعرفنا أن تعلق الوجوب بها بجعل الشرع ذلك الوقت سببا لوجو بها، إلى هنا لفظ شمس الأئمة(3).
__________
(1) الضمير راجع على الصلاة ، وينظر هذا الكلام بنصه في : الكا في على أصول البزدوي :3/1213 ، 1214.
(2) في أصول السرخسي:1/101 (يتعلق).
(3) أصول السرخسي :1/101 ، 102 .(4/33)
ص: قوله: إذا ثبتت هذه الجملة(1) قلنا: وجوب الإيمان بالله - تعالى - كما هو بأسمائه وصفاته مضاف إليه إيجابه في الحقيقة؛ لكنه منسوب إلى حدوث العالم تيسيرا على العباد، وقطعا لحجج المعاندين، وهذا سبب يلازم الوجوب؛ لأنا لا نعنى بهذا أن يكون سببا لوحدانية الله تعالى، وإنما نعنى به أنه سبب لوجوب الإيمان الذي هو فعل العبد، ولا وجوب إلا على من هو أهل له ولا وجود لمن هو أهله على ما أجرى به سنته(2) إلا والسبب
يلازمه؛ لأن الإنسان المقصود به(3) وغيره(4) ممن يلزمه الإيمان به عالم بنفسه، وسمى عالمَا؛ لأنه جعل علما على وجوده ووحدانيته.
ش: أي: فإذا ثبتت الجملة التي ذكرناها، و هي أن وجوب المشروعات بإيجاب الله تعالى في الحقيقة، ولكن أضيف الوجوب إلى الأسباب تيسيرا على العباد، ثم الخطاب بالأمر والنهي للأداء.
قلنا: إن وجوب الإيمان بالله تعالى كما هو بلا تشبيه ولا تجسيم ولا تعطيل مع أسمائه، كالحي، والعالِم، والقادر، وصفاته كالحياة(5)
__________
(1) سيأتى بيانها في الصفحة القادمة .
(2) بيان ذلك كما قال الإمام عبد العزيز البخاري – رحمه الله تعالى ـ : الأوجه أن يقال: إنه تعالى جعل حدوث العالم الذي هو لازم للوجوب سببا وامارة على إيجابه الذي هو فعله، مع أنه يمكن أن يجعل شيئا آخر سببا وأمارة على إيجابه الإيمان لا يكون ذلك الشيء لازما للوجوب، كما فعل كذلك في حق الصوم والصلاة ، فإن الوقت الذي هو سبب ليس بملازم للوجوب ؛ لأن الوجوب ثابت بعد مضى الوقت ، وانقضاء الشهر ، ولكنه جل جلاله أجرى سننه أن يكون سبب الإيمان شيئا دائما ملازما للوجوب ، ليدل على دوام الوجوب في جميع الأحوال" اهـ . كشف الأسرار للبخارى: 2/500 .
(3) أي :بوجوب الإيمان .
(4) كالملك والجن, وسيأتى بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
(5) الحياة: صفة وجودية أزلية قديمة قائمة بذاته تعالى تقتضى للمتصف بها صحة الاتصاف بالعلم والقدرة والإدارة .
شرح المواقف للشريف الجرجاني :8/.8 ، اتحاف المريد بشرح جوهرة التوحيد :1/165(4/34)
والعلم(1) والقدرة(2) وغير ذلك مضاف إلى إيجابه تعالى في الحقيقة ؛ لأنه هو الموجب كما أنه هو الموجد لا شِرْكَة لله تعالى في ذلك، ولكن وجوب الإيمان نسب إلى حدوث العالم تيسيرا على العباد؛ لأن حدوث العالم ظاهر لتغيره من حال إلى حال، وإيجاب الله
تعالى غيب عنا، وقطعا لحجج المعاندين، وإلزاما للحجة عليهم حتى لا يقولوا يوم القيامة إنما لم نؤمن لعدم ظهور دليل وجوب الإيمان، فلما كان سبب الوجوب ظاهرا زالت شبهتهم، وانقطع حجاجهم وألزموا الحجة / فعذبوا على تركهم الإيمان.
ثم حدوث العالم سبب دائم يلازم وجوب الإيمان، ولا نعنى بكون حدوث العالم سببا لوجوب الإيمان أن يكون سببا لوحدانية الله تعالى (3)
__________
(1) العلم : صفة أزلية قديمة قائمة بذات الله تعالى تنكشف بها المعلومات دون سبق خفاء أو جهل.
ينظر أبكار الأفكار للآمدى :2/24، اتحاف المريد :1/164.
(2) القدرة : صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى يتأتى إيجاد الممكن وإعدامه على وفق مراده تعالى . شرح المقاصد للتفتازانى :2/383، اتحاف المريد بشرح جوهرة التوحيد :1/163..
(3) هذا جواب عما يقال: كيف يصلح حدوث العالم سببا لوجوب الإيمان الذي هو مبنى على ثبوت وحدانية الله تعالى ، وهي أمر أزلي قديم يستحيل أن يتعلق بسبب ، ويلزم منه تقدم المسبب على السبب ؟ ... ... ... ... ... ... ... ... =
=* الجواب : لا نعنى به أي : حدوث العالم أنه سبب لوحدانية الله ، وإنما نعنى به أنه لوجوب الإيمان الذي هو فعل العبد. اهـ. كشف الأسرار للبخارى :2/500 .(4/35)
؛ لأنها قديمة أزلية، والسبب مقدم على مسببه رتبة فمحال أن يسبق الحادث القديم، أو يتعلق وجود القديم بالحادث، وإنما نعنى به كونه سببا لوجوب الإيمان الذي هو فعل العبد، وهو إلا قرار والتصديق، ثم لا وجوب إيمان إلا على من كان أهلا للوجوب بالقدرة عليه بالعقل والتمييز؛ لأن الحكم لا يتصور بدون الأهلية(1) ولا وجود لأهل وجوب الإيمان إلا وسبب الوجود الذي هو حدوث العالم يلازمه على وجه لا يتصور انفكاك
أحدهما عن الآخر، لا أهل الوجوب ينفك عن الحدث، ولا الحدث ينفك عن أهل الوجوب فكان السبب دائما لا ينقطع على ما أجرى الله تعالى سنته.
__________
(1) الأهلية: عبارة عن صلاحية الآدميي لوجوب الحقوق المشروعة له أو عليه التعريفات للجرجاني : 58 ، فواتح الرحموت :1/156
والأهلية ضربان: أهلية وجوب ، وأهلية أداء ، .أما الأولى: فهي صلاحية الآدمي لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه ، وأما الثانية: فهي صلاحية الآدمي لصدور الفعل منه على وجه يعتد به شرعا. ولمزيد بيان في مسألة الأهلية وأحكامها.
نهاية الوصول إلى علم الأصول لابن الساعاتى: 1/211، التلويح على التوضيح للتفتازانى :2/336، كشف الأسرار للبخارى :4/237 ، فصول البدائع للفناري :2/283، حاشية نسمات الأسحار لابن عابدين :249.(4/36)
و في هذا السبب كذلك؛ لأنه لو جعل الله تعالى سبب وجوب الإيمان شيئا آخر مما ينقطع وينقضى غير حدوث العالم كان جائزا، كالوقت لوجوب الصلاة، والصوم،؛ لأنه ينقطع وينقضى مع بقاء وجوب الصوم والصلاة، ولا يدوم الوقت بخلاف حدوث العالم فإن حدثه يدوم، ولا يزول عنه أصلا(1)؛ لأن المحدث يستحيل أن لا يكون محدثا.
وإنما قلنا إن السبب يلازم أهل الوجوب؛ لأن ا لإنسان المقصود بوجوب الإيمان وغير الإنسان مما يلزمه الإيمان كالملك والجن كل واحد/ عالم بنفسه؛ لأن العالم إنما سمى عالما لكونه علما ودليلا على ثبوت الصانع، وهذا المعنى موجود في كل واحد من الإنس والملك فكان كل واحد عالما بنفسه، وحدث كل واحد يلازمه بحيث لا ينفك عنه، فلما كان الحدث الذي هو سبب وجوب الإيمان لا يحتمل الانفكاك و ا لانقطاع وكان دائما وجوب الإيمان - أيضا - دائما لا يحتمل التبديل(2)
__________
(1) بيان ذلك: أن الإنسان الذي هو عالم بنفسه لا يخلو عن دليل الحدوث، إذ كان مسبوقا بالعدم، ودلالة حدوثه في الحال من تبدل احواله من حال إلى حال من الصغر والكبر ، والجوع والعطش، والصحة والمرض ، والحركة والسكون معلومة "له بالحس والعيان ..ألا ترى أن وقت الصلاة ينقضى، وشهر رمضان ينسلخ، والمال يهلك بخلاف سبب الإيمان، وهو حدوث العالم فهو غير منفك عن المكلف في ذاته وغير ذاته، ليدل على دوام الوجوب في جميع الأحوال. الكافي شرح أصول البزدوي : 3/1216 .
(2) التبديل والنسخ عند الحنفية بمعنى واحد.
* قال ابن الساعاتي: - رحمه الله تعالى- في نهاية الوصول: "وأما التبديل وهو النسخ: فهو بيان انتهاء حكم شرعى مطلق عن التأبيد والتوقيت بنص متأخر عن مورده". نهاية الوصول إلى علم الأصول المعروف بيديع النظام الجامع بين كتابى البزدوي والإحكام= :2/528. وقال شمس الأئمة الشرخسى – رحمه الله تعالى في أصوله: "وأوجه ما قيل فيه أي في النسخ : إنه عبارة عن التبديل من قول القائل: نسخت الرسوم ،أي : بدلت برسوم أخر ... ثم قال أيضا: وعبارة التبديل منصوص عليها في القرآن. قال تعالى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً } مكان آية: النحل :101، وإذا كان اسم النسخ شرعيا معلوما بالنص فجعله عما يكون معلوما بالنص أيضا يكون أولى الوجوه" اهـ. ينظر أصول السرخسي 2/42 .(4/37)
والنسخ؛ لأن ثبوت المسبب بحسب ثبوت السبب والله أعلم.
وهذا بيان كلام الشيخ(1) رحمه الله. وأقول أنا(2) :سبب وجود الإيمان الآيات الدالة على حدوث العالم، والآيات الدالة على حدث العامل هي التغيرات في العالم.
بيان هذا: أن العالم متغير، وكل حادث فيلزم أن العالم حادث فلما ثبت أنه حادث دل أنه جائز الوجود والعدم(3)؛ لأن الحادث هو الذي لا يلزم من فرض وجوده وعدمه محال وما كان وجوده وعدمه في حيز الجواز لا يكون وجوده إلا بتخصيص مخصص؛ لأنه لو كان وجوده بذاته لزم تقدم الشيء على نفه وهو محال(4)، فعند ذلك وجب الإيمان بالمخصص القديم تعالى وتقدس فصار حدوث العالم سببا لوجوب الإيمان في حقنا تيسيرا علينا.
و في الحقيقة وجوبه بإيجاب الباري/ تبارك وتعالى. وإنما قلنا إن العالم متغير؛ لأنه على قسمين عين(5) وعرض(6)؛
لأنه لا يخلو إما أن يكون قائما بذاته، وهو الذي يصح انفكاكه عن المحل، أو لا يكون قائما بذاته، وهو الذي لا يقبل الانفكاك عن المحل، فالأول هو العين، و الثاني هو العرض.
__________
(1) أي: فخر الإسلام البزدوي - رحمه الله تعالى-.
(2) الضمير راجع إلى الشارح أمير كاتب رحمه الله تعالى.
(3) هذا دليل عقلى ساقه الشارح للدلالة على أن حدوث العالم سبب لموجود الإيمان بالله تعالى.
(4) الإرشاد لإمام الحرمين:17 .
(5) العين أو الجوهر: هو الذى يشغل حيزا في الوجود ويمنع وجوده غيره حيث هو، وقيل: هو القائم بذاته.
مقالات الإسلاميين:2/8، التعريفات: 108 .
(6) العرض: هو ما لا قيام له بنفسه، وإنما يقوم بغيره وقيل هو: ما يعرض على الجوهر. مثل الألوان، والطعوم والذوق، واللمس، وغير ذلك مما يستحيل بقاؤه بعد وجوده. التعريفات:192.(4/38)
ثم العين لا يخلو من العرض؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون متحركا أو ساكنا، ولا واسطة بينهما ؛ لأنه إما أن يكون منتقلا من حيز إلى حيز أولا. فإن كان منتقلا فهو المتحرك، وإلا فهو الساكن، وكل واحد من الحركة والسكون قابل للعدم
لوجود الحركة بعد السكون أو على العكس، فيلزم من هذا تغير العالم لثبوت حالة وإنما قلنا: إن كل متغير حادث ؛ لأن التغير، عبارة عن ثبوت حالة بعد انعدام حالة أخرى، وما كان بهذه المثابة، يكون حادثا لا محالة؛ لقبوله العدم؛ لأن الحادث هو الذي يقبل العدم فيثبت أن كل متغير حادث هذا ما سمع به خاطري في التبيين (1)،وقد مر الكلام في الإيمان جملة وتفضيلا في أول شرحنا (2)عند قوله:العلم نوعان/ علم التوحيد والصفات (3) وعلم الشرائع والأحكام (4) فينظر ثمة لا محالة.
__________
(1) ينظر التبيين لأمير كاتب: 1/445 ، 446 .
(2) يعنى الشارح بذلك كتابه "الشامل" ونظرا لأن هذا الكلام فيما هو مفقود من هذا الكتاب فقد رجعت إلى كتاب الكافي لحسام الدين السغناقي، وهو شيخ أمير كاتب فكثيرا ما كان يعتمد عليه شارحنا في كتابه الشامل.
(3) علم التوحيد والصفات: هوالعلم بأصول الدين، فيما يجب على المكلف كوجوب النظر في الأنفس والأفاق لمعرفة الخالق - عز وجل - ، وتوحيد الألوهية والربوبية، وكذا العلم بأن الله تعالى صفات من العلم، والقدرة، والحياة، وغيرها من صفات الكمال . الكافي شرح أصول البزدوي:1/150.
(4) وعلم الشرائع والأحكام: وهو العلم بالمشروعات من العبادات، والمعاملات، والجنايات، والفرائض، وكذا معرفه السبب والعله، والشرط، والعلامة، والفرض، الواجب، والسنة، وغير ذلك من المشروعات.الكافي على أصول البزدوى 1/150 152 بتصرف.(4/39)
وقال القاضى أبو زيد في التقويم/: إن سبب وجوب أصل الدين، وهو معرفة الله تعالى، كما هو الآيات في العالم الدالة على(حدث) العالم، و هي دائمة أبدا، لا يحتمل زوالها عنه، فدم وجوب أصل الدين كذلك، بحيث لا يحتمل النسخ، والزوال، والتبدل، وإنما يسقط الأداء في بعض الأحوال للعجز، كما يسقط أداء الصلاة عن النائم مع الوجوب عليه، وقد شرحناه في باب أهلية الأدمي لوجوب حقوق الله تعالى عليه (1) إلى هنا لفظ التقويم (2).
__________
(1) قال القاضي أبو زيد رحمه الله تعالى: "وهذا كما قيل: إن النائم يلزمه حقوق الله تعالى، ولا يلزمه أداؤها حتى يستيقظ؛ لأنه لا يقدر عليه، ولا يعلم به، وهذا لأن الأداء إنما يكون بفعل منا على سبيل الاختيار، فلابد من العلم به، ثم القدرة عليه، فأما الوجوب فمتعلق بالذمة ... فلم يكن من شرط صحته قدرتنا عليه، وعلمنا به" اهـ
تقويم الأدلة: 418، نفس المرجع السابق 61
(2) ينظر تقويم الأدلة للقاضى أبى زيد الدبوسى ص 61 .(4/40)
وقال شمس الأئمة السرخسي في أصوله: وجوب الإيمان بالله تعالى كما هو بأسمائه، وصفاته بإيجاب الله تعالى، وسببه في الظاهر، الآيات الدالة على حدوث العالم لمن وجب عليه، وهذه الآيات غير موجبه لذاتها، وعقل من وجب عليه غير موجب عليه أيضا، ولكن الله تعالى هو الموجب، بأن أعطاه آلة يستدل بتلك الآلة(1) على معرفة الواجب، كمن يقول لغيره، هاك السراج، فإن أضاء لك الطريق به فاسلكه، كان الموحب للسلوك في الطريق، هو الأمر بذلك لا الطريق بنفسه ولا السراج، فالعقل بمنزلة السراج، والآيات الدالة على حدوث العالم بمنزلة الطريق، والتصديق/ من العبد، والإقرار بمنزلة السلوك في الطريق فهذا واجب بإيجاب الله تعالى حقيقة وسببه الظاهر الآيات الدالة على حدوث العالم، ولهذا تسمى علامات، فإن العلم للشيء لا يكون موجبا بنفسه، ولا نعنى أن هذه الآيات توجب وحدانية الله تعالى، ظاهرا أو حقيقة، وإنما نعنى أنها في الظاهر سبب لوجوب التصديق، والإقرار على العبد، ولكون هذه الآيات دائمة لا تحتمل التغير بحال إذ لا تصور للمحدث، أن يكون غير محدث في شىء من الأوقات كان فرضية الإيمان بالله دائما بدوام سببه غير محتمل، للنسخ، والتبديل بحال، إلى هنا لفظ شمس الأئمة(2).
__________
(1) و هي العقل ؛ لأن عامة الحنفية هم أتباع لأبى منصور الماتريدى – رحمه الله تعالى - يقولون: إن معرفة تعالى واجبة بالعقل بمعنى أن العقل آلة للوجوب لا موجب بذاته؛ لأن الموجب في الحقيقة هو الله تعالى ، والعقل واسطة ومعرف ، وهذا كالسراج فإنه نور بسببه تبصر العين عند النظر. ولمزيد بيان ينظر الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية ، لأبى الصلاح المعروف بأبى عذبة :320 ، نهاية الوصول إلى علم الأصول لابن الساعاتى :1/191.
(2) ينظر أصول السرخسي :1/102.(4/41)
وقال صدر الإسلام(1) في أصوله : (إن سبب وجوب أصل الدين والإيمان بالله تعالى، هي الآيات الدالة على حدوث العالم، جعلها الله تعالى سببا لوجوب الإيمان، والموجب هو الله تعالى وهذا الوجوب، اشتغال الذمة بوجوب الإيمان دون وجوب الأداء فإن الأداء، لا يجب إلا ببلوغ الخطاب من مبلغ، وهذا هو مذهب عامة أصحابنا(2).
وقال بعض أصحابنا من أهل سمرقند وأهل العراق(3) إن الأداء يجب على العاقل الكامل العقل، وإن لم يبلغه خطاب الأداء، وهو قول المعتزلة(4).
__________
(1) هو محمد بن محمد بن الحسين البزدوي بن عبد الكريم بن موسى البزدوي، المكنى بأبي اليسر ، الملقب بصدر الإسلام، فقيه بخارى، وانتهت إليه رئاسة الحنفيةفيما وراء النهر، من تصانيفه: أصول الدين، وكتاب معرفة الحجج الشرعية، وغيرهما. الجواهر المضية:3/3229، الفوائد البهية: 188.
(2) قال صاحب التلويح: قال أبو اليسر: وجوب الأداء مبنى على العقل الكامل عند بعضهم، وعلى الخطاب عند عامة المشايخ . التلويح على التوضيح: 2/295، نهاية الوصول إلى علم الأصول:1/191 ، 192.
(3) لعل أبا اليسر البزدوي يعنى ببعض الأصحاب من أهل العراق. هم بعض أصحاب أبى حنيفة- رحمه الله تعالى- الذين تابعوه في الفروع وخالفوه في الأصول، ودخلوا في الاعتزال، وقالوا بالإيجاب العقلي. الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية ص321 .
(4) شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار :39 .(4/42)
والأصح أن الأداء، لا يجب على من لم تبلغه الدعوة، حتى لا يعاقب بترك الإيمان(1)، ولكن الإيمان واجب في ذمته حتى لو / أتى به يقع(واجبا) (2) صحيحا ولكن لا يعذر بالكفر لو كفر بربه هذا الذي لم تبلغه الدعوة حتى يعاقب بسبب الكفر إلى هنا لفظ صدر الإسلام.
__________
(1) في : ت مثبتة في الصلب ، و في :د مثبته في الهامش.
(2) هذا هو رأي أكثر الحنفية فيمن لم تبلغة الدعوة، وعند الأشعرية أن من غفل عن الاعتقاد حتى مات ولم تبلغه الدعوة كان معذورا؛ لأنهم يعتبرون دليل السمع وهو قوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } سورة الإسراء الآية: 15 .
*وقول صدر الإسلام رحمه الله: " لا يعذر بالكفر لو كفر بربه هذا الذي لم تبلغه الدعوة حتى يعاقب بسبب كفره" لا يحمل على عمومه. بل يحمل على أنه إذا أدرك مدة التأمل في الأنفس والآفاق، ووجد في زمان التجربة والتمكن والاستدلال ، وأعانه الله على التفكر بآلة العقل، فإنه في هذه الحالة لا يعذر، وإلا فلا. وهذا مراد أبى حنيفة رحمه الله تعالى من قوله : لا عذر لأحد في الجهل بخالقه لما يرى من الآفاق والأنفس : .
حاشية نسمات الأسحار لابن عابدين:249، الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية:320 .(4/43)
ص: قوله: لأن الإنسان المقصود به(1).
ش: الضمير راجع إلى وجوب الإيمان، وهو ظاهر كلام الشيخ، على ما مر تقريره (2)، ويجوز أن يرجع الضمير إلى ا لإنسان، على معنى أن ا لإنسان هو الذي قصد به في خلق العالم، أو في التكليف، ويكون المقصود مسندا إلى الجار والمجرور قال تعالى { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } (3)
وقال تعالى { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } (4)
وقال تعالى { وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ } (5)
وقال تعالى { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } (6)
__________
(1) قال العلامة حسام الدين السغناقي-رحمه الله تعالى- معلقا على هذه الجملة: "الإنسان هو المقصود من خلق العالم ؛ لأنه هو المقصود بالتكاليف ، وذلك أن الله تعالى خلق العالم، وله في حقه عاقبة حميدة و هي الابتلاء والامتحان بالتكليف مع علمه بكل ما كان وما يكون ؛ لأن بدون التكليف لا يتصور العقاب ، وإنما يجب بترك موجب الأمر والنهي، والله تعالى يتعالى عن أن يعذب أحد بدون جريمة وجدت منه قال تعالى { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } سورة الأحزاب آية: 62. والمحتمل لهذه التكاليف قصدا هو الإنسان. الكا في شرح أصول البزدوي: 3/127.
(2) سبق تقرير كلام الشارح ص (187) .
(3) سورة البقرة الآية: 29 .
(4) سورة الجاثية الآية : 13 .
(5) سورة النحل الآية: 12.
(6) سورة الأحزاب الآية: 7 .(4/44)
وقال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } (1) وذكر قبلها { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ } (2) فعلم بذلك أن المقصود من العالم هو الإنسان، وكون آدم عليه السلام مسجود الملائكة أدل دليل على شرف الإنسان وفضله.
ص: و قوله(ولهذا قلنا(3)(إن إيمان الصبى صحيح، وإن لم يكن مخاطبا ولا مأمورا به ؛ لأنه مشروع بنفسه(4)، وسببه قائم في حقه دائم القيام دوام من هو مقصود به، وصحة الأداء تبتنى على كون المؤدى مشروعا بعد قيام سببه ممن هو أهله لا على لزوم آدائه، كتعجيل الدين المؤجل. /
ش: أي: ولأجل أن وجوب الإيمان بالسبب، والأداء بالخطاب قلنا:إن إيمان الصبي العاقل صحيح وإن لم يكن مخاطبا(5)
__________
(1) سورة البينة الآية: 7
(2) سورة البينة الآية: 6 .
(3) الضمير راجع على الحنفية .
(4) معنى هذه العبارة: ؛ أن الإيمان مشروع بنفسه ولا يحتمل أن يكون غير مشروع؛ لأنه تحقق سببه في حق الصيى المميز ينظر كشف الأسرار للبخاري: 2/501 .
(5) هذا هو قول عامة الحنفية ، وتقرير هذا أن يقال: إن الصبي العاقل أو المميز لو أتى بركن الإيمان وهو الإقرار والتصديق ، صح إيمانه وإن كان الخطاب عنه موضوع لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ ،والنائم حتى يستيقظ والمجنون حتى يفيق ".
قرآن كريم واحتج الحنفية على قولهم بصحة إيمان الصبى بأمور منها :
ـ صحة إسلام الإمام على بن أبى طالب - رضي الله عنه - .
ـ ومنها عموم قوله تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا ً } [سورة الإسراء 36]
وقال الشيخ أبو منصور الماتريدي - رحمه الله تعالى- في الصبي العاقل: يجب عليه معرفة الله تعالى.
قلت: وما ذهب إليه أبو منصور ـ رحمه الله تعالى ـ جعل أتباعه من بعده يقولون: بوجود المعرفة بالعقل دون سائر الأحكام فهي ثابتة بطريق الشرع .
قرآن كريم والحاصل: أن ما قاله أبو منصور يلم تبلغه الدعوة فمات ولم يسلم لا يكون معذورا، لكن عند أكثر مشايخ الحنفية كفخر الإسلام البزدوي وغيره يكون معذورا؛= =لأن وجوب الأداء ثابت في حقه بالخطاب ، وهو عنه موضوع، وبناء عليه: فلا يجب عليه شئ ولو عاقلا ، وإن ثبتت في ذمته بعض الأحكام فالمخاطب بها الولي لا هو .
أصول السرخسي:1/102،كشف الأسرار للبخارى:2/501،التلويح على التوضيح:2/295 جامع الأسرار للكاكى :2/613،فواتح الرحموت مع المستصفي:1/153، 154.(4/45)
؛ لأن سبب الوجوب - وهو الآيات الدالة على حدوث العالم قائم في حقه، وصحة الأداء تبتنى على صدور الركن ممن هو أهله، بعد تقرر السبب لا على لزوم الأداء.
وركن الإيمان هو الإقرار والتصديق، والأهل هو العاقل المميز والسبب(هو الآيات الدالة على حدوث العالم، وكل ذلك موجود في حق الصبي المميز، فيصح إيمانه، وهذا كتعجيل الدين المؤجل إذا عجله من عليه صح، لوجود سبب الوجوب، وإن لم يكن مخاطبا بالأداء قبل حلول الأجل.
قال شمس الأئمة السرخسي في أصوله: ولهذا صححنا إيمان الصبي العاقل ؛ لأن السبب يتقرر في حقه، والخطاب بالداء موضوع عنه بسبب الصبا ؛ لأن الخطاب بالأداء يحتمل السقوط في بعض الأحوال، ولكن صحة الأداء باعتبار تقرر السبب الموجب لا باعتبار وجوب الأداء، كالبيع بثمن مؤجل، سبب لجواز أداء الثمن، قبل حلول الأجل وإن لم يكن الخطاب بالأداء متوجها، حتى يحل الأجل.
والمسافر إذا صام في شهر رمضان كان صحيحا منه فرضا، لتقرر السبب في حقه، وإن كان الخطاب بالأداء موضوعا عنه، قبل إدراك عدة من أيام أخر وهذا،؛ لأن صحة الأداء تكون بوجود ما هو الركن مما هو أهل / والركن هو التصديق، والإقرار، والأهلية لذلك لا تنعدم بالصبا، فبعد ذلك لا يكون إلا بحجر شرعي،
والقول بالحجر لأحد عن الإيمان بالله تعالى محال. إلى هنا لفظ شمس الأئمة السر خسي.
و في صحة إيمان الصبي خلاف الشافعي (1)
__________
(1) قال العلامة الزنجاني - رحمه الله تعالى - : "إسلام الصبي لا يصح عندنا ، لأن الإسلام لا يعقل إلا بعد تقدم الإلزام ، كما لا يعقل الجواب إلا بعد تقدم ... والإسلام عبارة عن الاستسلام والإذعان، والابتداء بالتبرع لا يسمى إسلاما ولا انقيادا ، كما أن الابتداء بالكلام لا يسمى جوابا، والإلزام منتف في حق الصبي ، فانت في الإسلام" اهـ.
تخريج الفروع على الأصول:246.
قرآن كريم وقال صاحب البحر المحيط: "واعلم أن الصبي إنما ينتصب عذرا في العبادات التي تقرر وجوبها بالشرع، ومن قال: إن وجوب الإسلام بالعقل فلا يتصور أن يقدر الصبي عذرا أصلا، ويقول: يجب على الله أن يعاقبه، وهو قول باطل، وبنى عليه الحنفية صحة إسلامه، وأبطله الشافعي- رحمه الله تعالى - ؛لأنه- أي : الصبي - لم يظهر انطواء ضميره" اهـ. البحر المحيط للزركشى :1/437 ، ولمزيد في هذه المسألة عند الشافعية ينظر: الأم للشافعى :5/49، المستصفي:1/98، مغنى المحتاج :3/609،حاشيتا قليوبى وعميرة :3/129 .
قلت: إن ما قاله الإمام بدر الدين الزركشى يحتاج إلى تأمل ونظر، فقوله: "ومن قال: إن وجوب الإسلام بالعقل ... ويقول: يجب على الله أن يعاقبه".
إن كان يقصد بالقائل المعتزلة فالكلام مستقيم ، لأنهم هم الذين يقولون: بالوجوب على الله تعالى. [شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار :ص(39) ، وإن كان يقصد بالقائل الحنفية فالكلام غير مستقيم؛ لأنهم قالوا: العقل دليل ومعرف لوجوب أصل الإيمان ، ولم يقولوا: يجب على الله أن يعاقب الصبي الذي لم يسلم وجمله قوله عامة مشايخهم: إن الصبي العاقل لو أتى بركن الإيمان ، وهو الإقرار والتصديق صح إيمانه ، وإن كان الخطاب عنه موضوع ، وعليه فإن الصبى المميز يكون معذورا إذا مات بدون تصديق ، ولم يخالف هذا القول إلا الإمام أبو منصور الماتريدى- رحمه الله تعالى-فإنه قال: "يجب على الصبى العاقل معرفة الله تعالى" وعليه ، فإن الصبى العاقل إذا مات بدون اعتقاد الإيمان لا يكون معذورا. ... ... ... ... ... ... ... =
ينظر: ميزان الأصول:749 ، بديع النظام الجامع بين كتاب البزدوي والإحكام :1/191 ، التلويح على التوضيح :2/295.
= - والحاصل في هذه المسألة: أن الصبي العاقل إذا أسلم، واتى بركن الإيمان صح ذلك منه ، لأن هذا تابع للفطرة التي ولد عليها ، ولكن لا يجب عليه شيء قبل البلوغ لعموم قوله: عليه الصلاة والسلام: "رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ ، والنائم حتى يستيقظ ، والمجنون حتى يفيق" سبق تخرجه ص .
* وأما ما استدل بعض الحنفية من قصة إسلام الإمام على - رضي الله عنه - فلا ينهض للاحتجاج ، لأن إسلام الإمام على رضى الله عنه كان قبل عام الخندق ، وكانت الأحكام في ذلك الوقت منوطة بالتمييز ، وإنما تعلقت بالبلوغ بعده. أ هـ جاشيا قليوبى وعميرة :3/129.(4/46)
وقد أمضيناه في كتاب السير من غاية البيان.
(ص) قوله: (وأما الصلاة فواجبة بإيجاب الله تعالى بلا شبهة وسبب وجوبها في الظاهر في حقنا، الوقت الذى تنسب إليه، وما بين هذا(1)
وبين قول من قال(2): إن الزكاة تجب بإيجابه وملك المال سببه، والقصاص يجب بإيجابه، والقتل سببه- فرق).
(ش) وهذا الذي ذكره الشيخ رد على من فرق بين العبادات البدنية(3) وبين
العبادات المالية(4) والعقوبات(5) حيث قال:(6) العبادات المالية والعقوبات يثبت وجوبها بالأسباب الظاهرة في حقنا، ولكنها بإيجاب الله تعالى في الحقيقة.
فأما العبادات البدنية: فوجوبها بالخطاب لا بالأسباب، لأن الوقت زمان ينقضى والزمان لا يصلح أن يكون سببا لوجوب العبادات؛ لأنه ليس فيه معنى يصير سببا للوجوب بخلاف أسباب العقوبات فإنها تصلح أن تكون أسبابا، لأنها جنايات.
__________
(1) أي ليس بين قولنا: "الصلاة واجبة بإيجاب الله تعالى، وسبب وجوبها في الظاهر الوقت، وبين قول من قال: الزكاة واجبة بإيجاب الله تعالى وملك المال النامى سببه فرق" ينظر هذا الكلام بنصه في: كشف الأسرار للبخارى :2/501.
(2) المراد بالقائل هنا الإمام الشافعىرحمه الله تعالى ومن تبعه من الأشعرية. المستصفي:1/93، البحر المحيط للزركشى:1/308، ميزان الأصول :746.
(3) كالصلاة والصوم والحج وإن كان فيه جانب مالى.
(4) كالزكاة. والحج من جانب الزاد الراحلة.
(5) كالحدود، والكفارات، والقصاص.
(6) أي: الإمام الشافعى والأشعرية ينظر ميزان الأصول (746) البحر المحيط للزركشى (1/308).(4/47)
وكذا المال يصلح أن يكون سببا لوجوب شكر نعمة المال، فرده الشيخ، وقال لا فرق بين العبادات البدنية وبين غيرها لأن الوجوب كما أضيف في/ العبادات المالية والعقوبات إلى الأسباب في حقنا ظاهرا وفي الحقيقة ذلك بإيجاب الله تعالى، فكذلك أضيف الوجوب في العبادات البدنية إلى الأسباب، والوجوب بإيجاب الله تعالى، إنما أضيف الوجوب إلى الأسباب في المواضع كلها تيسيرا على العباد، لأن ايجاب الله تعالى غيب عنا فافهم.
(ص) قوله: ((وليس السبب بعلة)(1).
(ش) جواب من الشيخ عما توهم من سؤال سائل بورده عليه، بأن يقال: لم قلتم: إن الوجوب مضاف إلى الأسباب لا إلى الخطاب، وقد أردتم بالسبب، والحكم لا يتخلف عن العلة، وقد تخلف الحكم عن السبب، فلو كان الوجوب بالسبب لا بالخطاب، لم يتخلف.
ألا ترى أن الصلاة لا يجب آداؤها على الصبي مع وجوب السبب وهو الوقت، والزكاة لا يجب أداؤها على الصبي(2)
__________
(1) معنى هذه العبارة: وليس السبب بعلة عقلية، فإنه يشترط التأثير لصحتها، كالكسر مع الانكسار. بل هي علة شرعية جعلته وضعها الشارع أمارة على الوجوب، كجعل الوقت أمارة أو سبب لوجوب الصلاة . كشف الأسرار لليخارى:2/502، الكافي على أصول البزدوي:3/1221.
وقد فرق الإمام عبد العزيز البخاري بين السبب والعلة فقال: إن العلة ما يعقل معناها، ويظهر تأثيرها في الأحكام. والسبب سبب وإن كان لا يعقل معناه. وقال أكثر العلماء:إن= =السبب أعم من العلة فكل علة سبب ولا عكس، فالسفر مثلا: يقال له سبب وعله، أما ميل الشمس عن وسط السماء أو شهود رمضان، فيقال له سبب، ولا يقال له عله. الكافي شرح أصول .البزدوى:3/1221، كشف الإسرار للبخاري:2/ 502، الموافقات :1/216، المحيط:5/ 115، أصول الفقه الزكى الدين شعبان:250.
(2) هذا هو مذهب الحنفية في حكم الزكاة على الصبي، وأما مذهب الإمام مالك، والشافعي، وأحمد رحمهم الله جميعا فهو وجوب الزكاة في مال الصبي.
* وسبب اختلافهم في إيجاب الزكاة، أو عدم إيجابها هو اختلافهم في مفهوم الزكاة أهي عبادة، كالصلاة والصوم؟ أم هي حق واجب للفقراء على الأغنياء؟ فمن قال: إنها عبادة اشتراط فيها البلوغ ومن قال: إنها حق واجب للفقراء، والمساكين في أموال الأغنياء لم يعتبر في ذلك بلوغا من غيره أ هـ.
أصول السرخسي:1/101، بدايةالمجتهد لابن رشد:2/578، ، كشف الأسرار للنسفي:1/476، المدونة الكبرى:1/213، الأم للشافعى:2/23، المغنى لابن قدامة:2/622.(4/48)
مع وجود السبب وهو ملك النصاب النامي المغنى، والقصاص لا يجب على الأب(1) مع وجود السبب وهو القتل العمد.
فقال(2): نحن لم نرد بالسبب العلة العقلية، كالكسر والقطع للانكسار والانقطاع، فإن تخلف المعلول عن العلة ثمة محال(3)
__________
(1) لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - "لا يقاد الوالد بالولد" الحديث: أخرجه الترمذى في سننه كتاب الديات باب الرجل يقتل ابنه .. 4/18، وأخرجه الحاكم في المستدرك وصححه :4/409.
(2) الضمير راجع على المصنف فخر الإسلام البزدوى، لأن السياق يدل على ذلك.
(3) لا نزاع بين الأصوليين في تقدم العلة على المعلول وأن العلة العقلية تقارن معلولها في الزمان كيلا يلزم التخلف بينهما، وإنما النزاع في مقارنة العلل الشرعية لمعلولها، فأكثر المحققين من الفقهاء والمتكلمين على أنه لا يجوز تأخر المعلوم أو الحكم عن علته بل إنه تجب المقارنة بينهما بالزمان، إذا لو جاز التخلف لما صح الاستدلال بثبوت العلى على ثبوت الحكم، وحينئذ يبطل غرض الشارع من وضع العلل للأحكام وقد اختار ذلك فخر الإسلام البزدوي وشمس الأئمة السرخسي . أصول السرخسي (2/313) ، التلويح على التوضيح (2/275)
وقال ابن عابدين رحمه الله تعالى : "وفرق بعض المشايخ كأبي بكر محمد بن الفضل وغيره بين العلل الشرعية والعقلية، فجوز في العلة الشرعية تأخر الحكم عنها، ووجه الفرق على ما نقل عن أبى اليسر [صدر الإسلام البزدوى]: أن العلة لا توجب الحكم إلا بعد وجودها، فبالضرورة يكون ثبوت الحكم عقيبها، فيلزم تقدم العلة بزمان، وإذا جاز بزمان جاز بزمانين". ا هـ حاشية نسمات الأسحار على متن المنار (ص 246).
قرآن كريم قلت: قد توجب العلة أحيانا ويتخلف الحكم عنها لمانع أو فوات شرط، كاليمين المقتضية لوجوب الكفارة، فقد يوجد الحلف الذى هو اليمين وهو علة لوجوب الكفارة، وإن كان الوجوب لا يوجد حتى يحنث وكذلك الكلام في الزكاة: فالنصاب يسمى علة لوجوبها، وإن كان قد تخلف وجوبها لوجود مانع وهو الدين قبل تمام الحول، وكذا القتل العمد العدوان فإنه علة لوجوب القصاص، وإن تخلف وجوبه لفوات شرطه وهو المكافأة، بأن يكون المقتول عبدا أو كافرا والقاتل حرا أو مسلما. فالحاصل: أن ما ذكر من هذه الصور قد وجدت العلى الشرعية ولكن الحكم تأخر عنها لوجود مانع معتبر، أو فوات شرط لم يتحقق، وتكون هذه الصورة وأمثالها أمور مستثناه، ويبقى القول: بمقارنة العلة الشرعية لمعلوها هو الأصل. شرح الكوكب المنير:1/442 - 444.(4/49)
.
بل أردنا به العلة الشرعية التى ثبت عليتها، يجعل الشرع إياها علة وقد ترى صور العلل في الشرعيات ولا تكون عللا كما في هذه المواضع، حيث لم يجعل الشرع سببا لوجوب أداء الصلاة على الصبى، ولم يجعل المال سببا لأداء الزكاة، ولم يجعل القتل سببا لاستيفاء/ القصاص على الأب فاندفع السؤال:
لأن تخلف المعلول عن العلة إنما يكون إذا وجدت العلة ولم يوجد المعلول، وهنا لم توجد العلة أصلا. على أن هذا السؤال لا ترد علينا أصلا،
لأنا نقول: إن نفس الوجوب وهو اشتعال الذمة بالسبب ووجوب الأداء وهو طلب تفريغ الذمة بالخطاب، فلم يوجد الخطاب في حق الصبي، فلم يجب عليه الأداء، وكذا الأب لم برد الخطاب عليه باستيفاء القصاص، فسقط القصاص، وهذا هو التحقيق في هذا الموضع،وقال بعضهم(1) في شرحه(2)
__________
(1) المراد بالبعض هنا الإمام عبد العزيز البخاري -رحمه الله تعالى-. والشيء الذي يدعو إلى العجب ههنا: أن شارحنا -رحمه الله تعالى- لم يصرح باسمه هنا، رغم أنه اعتمد عليه كثيرا في كتابه الشامل، واقتبس منه في أكثر من موضع، ولم يشر إلى ذلك إلا في هذا المقام!!
- ويعتذر لشارحنا فيما أظن أنه ما قصد الإيهام بالعلامة عبد العزير البخارى عند ذكره مضمرا؛ لأن العلماء يعرف بعضهم أقدار بعض. أو يحمل ما ذكر هنا على ما يكون بين العلماء الأقران الذين يعيشون في عصر واحد.
(2) يعنى به " كشف الأسرار عن أصول فجر الإسلام البزدوى" رحمه الله تعالى، ويعتبر من الشروح المهمة والمفيدة في أصول الحنفية.(4/50)
قوله(1):وليس السبب بعلة. جواب عما قالوا(2): لا تأثير للوقت في إيجاب الصلاة ليكون سببا لها، فأما المال فله تأثير في إيجاب المواساة، وللجناية أثر في إيجاب العقوبة فيمكن أن يضاف وجوب الزكاة إلى المال، ووجوب القصاص إلى القتل العمد الذي هو جناية فقال: ليس السبب بعلة عقلية ليشترط التأثير لصحتها، كالكسر مع الإنكسار، بل هى علة جعلية وضعها الشارع أمارة على الإيجاب فلا يشترط لصحتها التأثير، إلى هنا لفظه(3).
فأقول: نفية(4) التأثير عن العلة الشرعية بعيد عن التحقيق بألف فرسخ(5) لأن العلة الشرعية لا تعلم صحتها إلا بالتأثير عندنا(6)
__________
(1) الضمير في قوله: راجع على فحر الإسلام البزدوى.
(2) يقصد بالقائلين هنا: الإمام الشافعى والأشعرية رحمهم الله تعالى. الذين فرقوا بين العبادات وبين المعاملات والعقوبات حيث جوزوا إضافة القسم الثانى إلى الأسباب دون القسم الأول. وقد مر تحقيق ذلك في موضعه ص(155) .
(3) ينظر كشف الأسرار لعبد العزيز البخارى (2/501، 502 ).
(4) الضمير راجع على الإمام عبد العزيز، لأن السياق يدل على ذلك .
(5) الفرسخ: لفظ معرب، وهو مقياس من مقاييس المسافات مقداره ثلاثة أميال 12.00 ذراع= 5544 مترا. معجم لغة الفقصاء ( ص 343).
(6) التأثير: أن يوجد الحكم بوجود معنى يغلب على الظن أنه لأجله ثبت، وأنه علة لذلك الحكم. شرح اللمع للشيرازي 2/858، والحنفية يقصدون بالعلة المؤثرة: أنها سبب لوجوب الحكم أي أنها معرفة لحكم الله تعالى لا موجبة بذاتها، لأنه لا موجب إلا الله تعالى. أصول السرخسى:2/302، ميزان الأصول :579 ، ... ... ... ... ...
- وقد عرف ابن عابدين -رحمه الله تعالى- العلة بأنها: الخارج المؤثر، ولهذا اشترط الحنفية في العلة شروط: إضافة الحكم إليها، وتأثيرها فيه، وحصولها معها في الزمان. حاشية نسمات الأسحار على أصول المنار:143. ... ... ... ... =
= - وقال صاحب التلويح: "المراد من المؤثر في الحكم ليس أنه مؤثر في الإيجاب القديم. بل الوجوب الحادث. بمعنى: أن الله تعالى رتب بالإيجاب القديم الوجوب على أمر حادث، كالدلوك مثلا، فالمراد بكونه مؤثرا أن الله تعالى حكم بوجوب ذلك الأثر بذلك الأمر، وكالقصاص بالقتل، والإحراق بالنار". اهـ. التلويح على التوضيح 2/133.
قلت: إن ما قصده الحنفية من اشتراط التأثير لصحة العلل الشرعية لا أن تكون العلة مؤثرة بذاتها، أو موجبة للحكم بذاتها كما قالت المعتزلة بل بجعل الله تعالى، ففي ظاهر الشرع الأحكام مضافة إلى الأسباب تيسيرا على العباد لكن الموجب والموجد في الحقيقة للأشياء هو الله تعالى، وإضافة الأحكام للأسباب إنما من قبيل المجاز. والله أعلم
ولمزيد من بيان في هذه المسألة عند الحنفية أصول السرخسى:2/302، كشف الأسرار لنسفي:2/257.(4/51)
،
خلافا للشافعى فإن عنده الإخالة(1) كافية، فإذا لم يكن للعلة الشرعية تأثير فمن أين يعلم صحتها؟
(ص) قوله: والدليل عليه أنها أضيفت إلى الوقت، قال تعالى. أقم الصلاة لدلوك الشمس" والنسبة باللام أقوى وجوه الدلالة على تعلقها بالوقت، وكذلك يقال صلاة الظهر والفجر على ذلك اجماع الأمة ويتكرر بتكرر الوقت، ويبطل قبل الوقت اداؤه، ويصح بعد هجوم الوقت اداؤه، وإن تأخر لزومها.
(ش) أي الدليل على أن الوقت سبب وجوب الصلاة، إضافة الصلاة إلى الوقت، لأن الإضافة للاختصاص، وأقوى وجوه الاختصاص إضافة الشيء إلى سببه، لأنه حادث بالسبب كقولك: كسب فلان، وقتيل فلان، ونحو ذلك، ألا ترى أن الصلاة تضاف إلى
الوقت بإجماع الأمة، فيقال: صلاة الظهر وصلاة الفجر إلى غير ذلك، قال تعالى" { أقم الصلاة لدلوك الشمس } (2)، أي:أقم الصلاة الواجبة لأجل دلوك الشمس، واللام في مثل هذا استعمل للتعليل كقولهم: تأهب للشتاء، وتوضأ للصلاة، واضربه لأنه لص.
فإذ كان الأمر بإقامة الصلاة لأجل دلوك الشمس كان دلوك الشمس علة لوجوبها، فكان الأمر بها لأجله أقوى دلالة على تعلق وجوب الصلاة بالوقت، فصح ما قلنا(3): إن الوقت سبب يحقق ما قلنا: تكرر وجوب الصلاة بتكرر الوقت، فلو كان
__________
(1) الإخالة: هى المناسبة أو الملائمة. وهى أن يتخيل المجتهد مناسبة الوصف للحكم فيعلقه به، كالمناسبة بين الإسكار والخمر، وكالمناسبة بين القصاص والقتل، البرهان الإمام الحرمين:2/526، البحر المحيط للزركشى:5/160، 161، 106، المدخل لابن بدارن:301، إرشاد الفحول :365 .
(2) سورة الإسراء الآية : 78 .
(3) الضمير راجع إلى الحنفية؛ لأن السياق يدل على ذلك.(4/52)
السبب هو الخطاب(1) لم يتكرر الوجوب؛ لأن الأمر لا يوجب التكرار، ويبطل قبل الوقت أداء الصلاة؛ لئلا يلزم تقديم المسبب على السبب/،ويصح آداؤها بعد هجوم الوقت، نظرا إلى وجود السبب وإن تأخر لزومه إلى أن يتضيق الوقت عند زفر: وإلى آخر جزء من أجزاء الوقت، وهذا يدل على أن الوجوب منفك عن وجوب الأداء(2)، "
ودلوك الشمس": زوالها وميلها في وقت الظهر(3)، وكذلك ميلها للغروب هو دلوكها أيضا، يقال: قد دلكت براح(4)، أي قد مالت للزوال حتى صار الناظر يحتاج إذا تبصرها أن يكسر الشعاع عن بصره براحته.
قال الشاعر:
__________
(1) كما قال الإمام الشافعى، ومن بعده الأشعرية. البحر المحيط للزركشى (1/308)، ميزان الأصول للسمرقندى:746.
(2) العامة من مشايخ الحنفية يفرقون بين الوجوب، ووجوب الأداء فأصل الوجوب عندهم: هو اشتعال الذمة بالواجب، وأنه ثبت بالأسباب ولا تشترط لثبوته. وأما وجوب الأداء: فهو إسقاط ما في الذمة وتفريغها من الواجب، وأنه يثبت بالخطاب، وتشترط فيه القدرة على فهم الخطاب وعلى أداء ما تناوله هذا الخطاب.
*وقال الإمام الكاسانى-رحمه الله تعالى-: "قال أهل التحقيق من مشايخنا بماوراء النهر:الوجوب في الحنفية نوع واحد وهو وجوب الأداء، فكل من كان من أهل الأداء كان من أهل الوجوب، ومن لا فلا وهذا ختيار الشيخ الأجل علاء الدين السمرقندى" بدائع الصنائع (2/88) وينظر الفرق بين الوجوب ووجوب الأداء في أصول لسرخسى :1/100، الكافي شرح أصول البزدوى :3/1214.
(3) في معانى القرآن للزجاج:3/255 (الظهيرة).
(4) بَراج: اسم للشمس، وسميت بذلك لا نتشارها وبيانها. ورويت بكسر الباء (براح) وهى جمع راحة وهى الكف. لسان العرب لابن منظور:1/245، مادة (ب رح).(4/53)
هذا مقام قدمى رباح(1) للشمس حتى دلكت براح(2)
كذا قال الزجاج(3) في معانى القرآن(4).
والهجوم: الاتيان بغتة، والدخول من غير استئذان.
(ص) قوله: [أداؤاه] أي أداء فعل الصلاة.
(ص) قوله: وقد تقدم ذكر أحكام هذا القسم فيما يرجع إلى الوقت وفي بعض النسخ ذكرنا الأحكام هذا القسم.
(ش) أي تقدم في باب تقسيم المأمور به في حكم الوقت(5).
(ص) قوله: وسبب وجوب الزكاة ملك المال الذي هو نصابه،؛ لأنه في الشرع مضاف إلى المال والغنى، وتنسب إليه بالإجماع، ويجوز تعجيلها بعد وجود ما يقع به الغنى، غير
__________
(1) ربَاح: اسم ساق .
(2) معنى البيت: أن الشمس إذا غربت، أو زالت فإنهم يضعون راحاتهم على عيونهم ينظرون هل غربت أو زالت، فيقال للشمس إذا غربت: ولكت براح يا هذا.
وهذا البيت أنشده قطرب، وقيل الغنوى، وقيل الفراء. لسان العرب :1/245، مادة (برج)، تهذيب اللغة (ب رج) 5/30 (د ل ك) 10/ 116.
(3) هو إبراهيم بن السرى بن سهل أبو إسحاق الزجاج، كان فاضلا حسن الاعتقاد، له كتاب الأمالى، ومعانى القرآن. والاشتقاق وغيرها، وأخذ العلم عن المبرد وثعلب توفي سنة 321هـ . شذرات الذهب:2/259، البداية والنهاية:4/87، الكامل:7/16.
(4) معانى القرآن للزجاج :3/255.
(5) باب تقسيم المأمور به في حكم الوقت في كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام للبزدوى:1/447.(4/54)
أن الغنى لا يقع على الكمال واليسر إلا بمال هو نام(1)، ولا نماء إلا بالزمان فأقيم الحول وهوالمدة الكاملة لاستمناء المال مقام النماء، وصار المال الواحد بتجدد النماء فيه بمنزلة المتجدد بنفسه فيتكرر الوجوب بتكرر الحول/ على أنه متكرر بتكرر المال في التقدير.
(ش) اعلم أن سبب وجوب الزكاة، ملك المال المقدر بالنصاب النامي المغني، أما كون المال سبباً فباعتبار الإضافة، ألا ترى أنه يقال: زكاة المال، والإضافة دليل السببية و يتضعَّف الوجوب، أيضا بتضاعف النصاب، وتكرار الوجوب بتكرار النصاب دليل السببية.
__________
(1) قال العلامة عبد العزيز البخاري : "هذا جواب عما يقال: لما تحقق السبب بملك النصاب ، وثبت الغنى ينبغي أن يجب الأداء في الحال ولا يتأخر إلى معنى الحول، فقال: أصل الغنى وإن كان يثبت بملك النصاب إلا أن تكامله متوقف على النماء ؛ لأن الحاجة إلى المال تتجدد زماناً فزماناً، والمال إذا لم يكتب نامياً تفنيه الحوائج لا محالة عن قريب، وإذا كان نامياً تعين النماء لدفع الحوائج، فبقي أصل المال فاضلاً عن الحاجة، فيحصل به الغنى ، ويتيسر عليه الأداء فشرط النماء لوجوب الأداء تحقيقاً للغنى واليسر اللذين بنيت عليهما هذه العبادة عليهما ولا نماء إلا بإلزمان، فأقيم الحول مقام النماء ؛ لأنه مدة مستجمعة للفصول الأربعة"ا.هـ .كشف الأسرار :2/504.(4/55)
وأما كونه سبباً بصفة النصاب، فلما روى في صحيح البخاري، مسندا إلى أبى سعيد الخدري أن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - قال:" ليس فيما دون خمسة أو سق(1) من التمر صدقة، وليس فيما دون خمس أواق(2) من الورِق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود(3) من الإبل صدقة")(4).
و في السنن مسنداً، إلى على - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال(هاتوا ربع العشور من كل أربعين درهما درهم وليس عليكم شئ حتى تتم مائتي درهم، فإذا كانت مائتي درهم ففيها
__________
(1) جمع وسق بفتح الواو، ويجوز كسرها، وهو ستون صاعا. فتح البارى بشرح صحيح البخاري:3/365،مختار الصحاح:721 - مادة : و س ق.
(2) جمع أوقيَّة بضم الهمزة وتشديد التحتية ، و هي معيار للوزن، ويختلف مقدارها باختلاف الموزون ، فهي من غير الذهب والفضة أربعون درهما - 127 جرام وأوقية الفضة أربعون درهما - 119 جرام باعتبار أن درهم الفضة يساوى 2.975 معجم لغة الفقهاء :97.
(3) الذود: بفتح المعجمة وسكون الواو وبعدها مهملة.
* قال ابن حجر - رحمه الله تعالى - الأكثر على أن الذود من الثلاثة إلى العشرة وأنه لا واحد من لفظه، وقيل: من الأثنين إلى العشرة وهذا اللفظ يختص بالإنسان فقط. فتح البارى بشرح صحيح البخاري : :3/375 ، معجم لغة الفقهاء :ص215.
(4) فتح البارى بشرح صحيح البخاري :3/378 كتاب الزكاة باب ليس فيما دون خمس ذود صدقة، وهذا الحديث من طريق عبد الله بن يوسف عن مالك عن محمد بن عبد الرحمن بن صعصعة المازنى عن أبيه عن أبى سعيد الخذرى - رضي الله عنه - .(4/56)
خمسة دراهم"(1) وأما كونه سببا بصفه النماء فلانعقاد الإجماع على عدم وجوب الزكاة فيما ليس ناميا(2)، ألا ترى أن الزكاة لا تجب في دور السكنى، وثياب البدن وأساس المنزل، ودواب الركوب، وعبيد الخدمة، وسلاح الاستعمال، وأما كونه سببا
بصفة الغنى، فلأنه لا صدقة إلا عن ظهر غنى، قال عليه السلام:" خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" رواه أبو هريرة في صحيح البخاري (3).
والدليل على سببية ما قلنا(4) تعجيل الزكاة على حولان الحو ل؛ لأن الحول(5)
__________
(1) هذا الحديث أخرجه أبو داود، وابن خزيمة ، والدار قطني ، والطبرانى والإمام أحمد ، ونقل الزيلعى عن ابن القطان أن له سنداً صحيحاً ورواته كلهم ثقات. سنن أبى داود :2/99، المعجم الأوسط للطبرانى :6/ 371، سنن الدارقطنى :2/ 92 ، نصب الراية للزيلعى :2/366.
(2) المبسوط :2/164 ، بدائع الصنائع :2/11، بداية المجتهد :2/ 598 نهاية المحتاج :3/ 90 ، المغنى لابن قدامة :2/ 298.
(3) صحيح البخاري، كتاب النفقات، باب النفقه على الأهل والعيال :5/2048.
(4) الضمير راجع على الحنفية.
(5) اتفق الفقهاء على أن من أدى الزكاة في وقتها - بعد توافر شروطها - فقد سقط عنه الوجوب ، وفرغت ذمته بأداء هذا الواجب.
* واتفقوا - أيضا - على أن تعجيل الزكاة قبل كمال النصاب لا يجوز؛ لأن سبب الوجوب- وهو بلوغ النصاب - لم يوجد ، وتقديم المسبب وهو الزكاة على السبب وهو النصاب الذي لم يكتمل إنما يعد من قبيل التطوعات، واختلفوا فيمن كمل عنده النصاب ، وأراد أن يعجل بإخراجه قبل حلول على مذهبين:
- الأول: لجمهور الفقهاء- الإمام أبو حنيفة والشافعي وأحمدـ رحمهم الله تعالى- حيث ذهبوا إلى أن تعجيل الزكاة جائز عن المال الكامل النصاب الموجود في ملك صاحبه من سائمة أو غيرها. لكن إلى كم عام يجوز تعجيل الزكاة بشرط كمال النصاب لسنة أو سنتين أو أكثر، وعند الحنابلة يصح التعجيل لحولين على الأصح فقط ، وعند الإمام الشافعي- رحمه الله تعالى - = =لا يجوز التعجيل إلا لسنة واحدة ؛ لأن شرط إجزاء المعجل عنده بقاء المالك أهلا للوجوب إلى آخر الحول.
*واحتج الجمهور لما ذهبوا إليه: بما روى عن الإمام على - رضي الله عنه - أن العباس - - رضي الله عنه - - سأل رسول الله - : - تعجيل صدقته سنتين قبل أن تحل ، فرخص له ذلك". حديث حسن. أخرجه أبو داود برقم :1624، والترمذي :1/131. المبسوط للسرخسي :2/176 ، 177 ، بدائع الصنائع للكاسانى :2/50 ، 51 ، الأم للشافعي :2/140 تحفة المحتاج لابن حجر الهيثمى :1/496 ، الإنصاف للمر داوى :3/204 ، الفروع لابن مفلح :2/571.
- المذهب الثاني : أنه لا يجوز تعجيل الزكاة قبل حلول الحول ؛ لأن إسقاط الواجب عن الذمة قبل الوجوب لا يتصور ، وممن قال بذلك الإمام مالك رحمه الله تعالىالمدونة الكبرى:1/335 ،مواهب الجليل :2/258،شرح مختصرخليل:2/160 . والراجح والله اعلم في هذه المسألة: ما ذهب إليه الجمهور لقوة مااستدلوا به.(4/57)
إذا بقي النصاب إلى الحول، فلو لم ينعقد سبب الوجوب،/ بم يصح التعجيل؛ لأنه حينئذ
يلزم تقديم المسبب على السبب، وذلك باطل ولا يقال إذا كان المال سببا لوجوب الزكاة، بصفة كونه نصابا مغنيا فينبغي أن يجب الأداء أيضا بالخطاب، بعد وجود سبب الوجوب ؛ لأنا نقول: الغنى لا يتم ولا يكمل إلا بنماء المال ؛ لأنه إذا لم يكن المال ناميا تفنيه الحوائج، ولا نماء له إلا بمضي الزمان، فقدر ذلك الزمان بالحول ؛ لأنه مدة كاملة لاشتماله على الفصول الأربعة، ثم أقيم الحول مقام النماء تقديرا ؛ لأن الغالب في الحول هو النماء في المال، دراً، ونسلاً، وقيمة.
يؤيده قوله - عليه السلام - "ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول"رواه (الإمام ) على - رضي الله عنه - في السنن. (1)
ولا يقال: الحول عندكم شرط وجوب الأداء، وبتكرار الشرط لا يتكرر الوجوب، وهنا بتكرار الحول يتكرر الوجوب في مال واحد؛ لأنا نقول: الحول لما أقيم مقام النماء ، ثم الحول لما تكرر النماء تقديرا فصار المال الواحد كالمتجدد بنفسه
بتجدد وصفه وهو النماء، فتكرر الوجوب بتكرر المال تقديراً، كما جعلنا الرأس الواحد كالمتكرر في صدقة الفطر بتكرر المؤونة، بمجيء السُّنة الأخرى(2).
وقول الشيخ : (ملك المال الذي هو نصابه) .
(ش) أي: نصاب وجوب الزكاة.
(ص) وقوله:غير أن الغنى لا يقع على الكمال واليسر إلا بمال هو نام جواب سؤال مقدر، وقد اندرج بيانه فيما قلنا(3).
وقوله : وصار المال الواحد بتجدد النماء / فيه بمنزلة المتجدد بنفسه ، جواب سؤال مقدر أيضاً وقد اندرج بيانه فيما قلنا .
__________
(1) الحديث صحيح: أخرجه الترمذى :1/123، والدارقطنى :ص198، والبيهقي:4/104.
(2) ينظر هذا الاعتراض والرد عليه بنصّه في كشف الأسرار للبخارى :2/505
(3) مر تحقيق هذا الكلام وبيانه ص(209) .(4/58)
(ص) قوله:وسبب وجوب الصوم أيام شهر رمضان،قال تعالى { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } (1).
أي: فليصم في أيامه، والوقت متى جعل سببا كان ظرفا صالحا للأداء، والليل لا يصلح له، فعلم أن اليوم سببه بدلالة نسبته إليه، وتعلقه به، وتعليق الحكم بالشيء شرعا دليل على أنه سببه(2) هو الأصل في الباب(3) وقد تكرر بتكرره، ونسب إليه فقيل : صوم شهر رمضان، وصح الأداء بعده من المسافر وقد تأخر الخطاب به(4).
ولهذا وجب على صبى يبلغ في شهر رمضان، أو كافر يسلم بقدر ما أدركه(5)؛ لأن كل يوم سبب لصومه بمنزلة كل وقت من أوقات الصلاة.
(ش) اعلم أن سبب وجوب صوم رمضان هو شهود شهر رمضان ممن كان أهلاً للصوم بدلالة إضافة الصوم إلى رمضان؛ لأنه يقال صوم رمضان والإضافة دليل السببية ،
__________
(1) هذا بعض آية من سورة البقرة وتمامها : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } سورة البقرة:185.
(2) تنقيح الفصول للقرافي : 70 .
(3) أي : أن الأصل في "باب أسباب الشرائع " تعلق الأحكام بالأسباب ، ويتكرر الشيء بتكرر سببه ، كالصلاة فإنها تتكرر بتكرر الوقت ، وكذا يقال: في الصوم.
(4) أي : تأخر تعلق الخطاب به ، لوجود الرخصة و هي السفر ، فسبب وجوب الصوم قد وجد وهو شهود الشهر ، ولكن الذي أخر تعلق الخطاب به هو السفر ؛
لقوله تعالى: "فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر" آية :184 سورة البقرة.
(5) بدائع الصنائع للكاسانى :2/87،88.(4/59)
إلا أن الليالي لما خرجت عن محلية الصوم، خرجت عن كونها أسبابا، لقوله تعالى { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } (1) الآية.
فلو كانت الليالي أسبابا للوجوب لم تخرج عن محلية الصوم ويصح الأداء فيها ؛ لأن الوقت إذا جعل سببا يصح الأداء فيه كوقت الصلاة، وهنا لا يصح الأداء في الليل فعلم أنه ليس بسبب للصوم، فبقي كل يوم سببا لصومه(2)، ويتكرر الوجوب أيضا بتكرر اليوم ويتعلق باليوم على معنى أن وجوب الصوم كل يوم يوجد بوجوده والتعلق دليل الوجوب أيضا كما قلنا: بتكرر وجوب الصلاة / بتكرر الوقت، ولأجل أن كل يوم، سبب لوجوب صومه، لم يصح تقديم الصوم على اليوم،؛ لأنه لا يجوز تقديم المسبب على السبب، كما لا يجوز تقديم صلاة العصر على الظهر، ويصح أداء المسافر أيضا في السفر نظرا إلى وجود سبب الوجوب، وإن كان الخطاب بالأداء متأخر إلى إدراك عدة من أيام أُخَر.
__________
(1) هذا جزء من آية من سورة البقرة وتمامها : قوله تعالى { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } سورة البقرة 187
(2) البدائع للكاسانى :2/779.(4/60)
والدليل على أن سبب وجوب صوم كل يوم هو اليوم لا كل الشهر(أن الصبي إذا أدرك(1) في خلال الشهر أو الكافر إذا أسلم في بعض الشهر لا يلزمه قضاء ما مضى، يجب عليه صوم ما بقي من الشهر(2)، ولا يجب عليه صوم اليوم الذي أدرك فيه أو أسلم إلا إذا أدرك أو أسلم قبل طلوع الفجر فحينئذ يجب صوم ذلك اليوم(3).
__________
(1) أي : إذا بلغ في شهر رمضان تعلق الخطاب به ، لوجود سبب الوجوب وهو الشهر ،لأن كل يوم سبب لصومه.
(2) كتاب "الأصل" لمحمد بن الحسن الشيبانى :1/183 ، 184
(3) لعدم أهليته للوجوب، ولأن الصوم لا يتجزأ، وقال أبو يوسف عليها القضاء؛ لأنهما أدركا وقت النية، والصحيح عدم وجوب القضاء لما ذكر. بدائع الصنائع للكاسانى :2/88.(4/61)
وقد اختلف المشايخ(1) في سبب وجوب الصوم فقال صاحب التقويم(2) وفخر الإسلام(3)، وأخوه صدر الإسلام: إن كل يوم سبب لوجوب صومه(4)، وهو الصحيح عندي(5).
وقال شمس الأئمة السر خسي في أصوله: "ظن بعض المتأخرين، ممن صنف في هذا الباب، أن سبب الوجوب أيام الشهر دون الليالي؛ لأن صلاحية الأداء، مختصة بالأيام، ثم قال وهذا غلط عندي بل في السببية للوجوب الليالي، ( والأيام سواء، فإن الشهر اسم لجزء من الزمان، يشتمل على الأيام والليالي ) (6)، وإنما جعله الشرع سببا لإظهار فضيلة هذا / الوقت، وهذه الفضيلة ثابتة للأيام والليالي جميعا.
__________
(1) المراد بهم مشايخ الحنفية؛ لأن السياق يدل على ذلك.
(2) هو القاضى أبو زيد الدبوسى صاحب تقويم الأدلة في أصول الفقه ، وقد مرت ترجمة المؤلف والمؤلف ص(64).
(3) هو المصنف فخر الإسلام البزدوي الملقب بأبى العسر وقد سبقت ترجمته ص
(4) ينظر قول مشايخ الحنفية هذا في : الكافي شرح أصول البزدوي :3/1225 ، كشف الأسرار للبخارى :2/505 ، كشف الأسرار للنسفي :1/476،جامع الأسرار للسكاكى :2/615.
(5) الضمير راجع على الشارح. قلت: إن ما قاله مشايخ الحنفية واختاره الشارح - وهو أن سبب وجوب الصوم أيام الشهر لا الأيام والليالي كما قال الإمام السرخسي - رحمه الله تعالى - هذا هو الراجح في المسألة ؛ لأن الليالي لما خرجت عن محلية الصوم لم تعد أن تكون سببا لوجوب هذه الفريضة ؛لأن الوقت إذا جعل سببا يصح أداء العبادة فيه كالصلاة وهنا في الصوم لا يصح الأداء في الليل ؛ لأن الله تعالى قال : { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } سورة البقرة آية رقم :187.
فلو كانت الليالي سببا لوجوب الصوم لم تخرج عن محليته ولصح الأداء فيها. فبقي كل يوم سببا لصومه.
(6) ساقطة من الصلب في (ت) ومثبتة في الحاشية .(4/62)
والرواية محفوظة في أن من كان مفيقا في أول ليلة من الشهر ثم جن قبل أن يصبح ومضى الشهر وهو مجنون ثم أفاق يلزمه القضاء.
ولو لم يتقرر السبب في حقه بم شهد من الشهر في حال الإفاقة لم يلزمه القضاء، وكذلك المجنون إذا أفاق في ليلة من الشهر، ثم جن قبل أن يصبح، ثم أفاق بعض مضى الشهر يلزمه القضاء(1)، والدليل عليه، أن نية أداء الفرض تصح بعد دخول الليلة الأولى بغروب الشمس قبل أن يصبح ومعلوم أن نية أداء الفرض، قبل تقرر سبب الوجوب لا يصح،
__________
(1) قلت: إن ما ذهب إليه شمس الأئمة السرخسي وهو وجوب القضاء على المجنون الذي استوعب جنونه شهر رمضان كله يخالف ما عليه أكثر مشايخ الحنفية. والدليل على ذلك كما جاء في الأصل: أرأيت رجلاً جن قبل شهر رمضان فلم يزل مجنونا حتى ذهب شهر رمضان كله ثم أفاق هل عليه قضاء ؟ قال: لا .(الأصل لمحمد بن الحسن 2/196) وقال الإمام الكاساني : "وأما المجنون جنونا مستوعباً بأن جن قبل دخول شهر رمضان وأفاق بعد مضيه فلا قضاء عليه عند عامة العلماء إلا مالكاً فإنه قال بالقضاء" أ هـ بدائع الصنائع :2/88 ، شرح بداية المجتهد :2/719.(4/63)
ألا ترى أنه لو نوى قبل غروب الشمس، لم تصح نيته. وأيد ما قلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -:" صوموا لرؤيته"(1) فإنه نظير قوله تعالى { أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } "(2).
وقد بينا في الصلاة، أن في تقرر الوجوب بتقرر السبب لا يعتبر التمكن بالأداء، فإن من أسلم في آخر الوقت بحيث لا يتمكن من أداء الصلاة في الوقت، يلزمه فرض
الوقت، فهنا وإن لم يثبت التمكن من الأداء بشهود الليل يتقرر سبب الوجوب ولكن بشرط احتمال الأداء في الوقت، ولهذا لو أسلم في آخر يوم من رمضان، قبل الزوال، أبعده، لم يلزمه الصوم، وإن أدرك جزءا/ من الشهر؛ لأنه ليس هنا معنى احتمال الأداء في الوقت، وقد قررنا هذا فيما سبق، إلى هنا لفظ شمس الأئمة(3).
__________
(1) هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري بلفظ: "صموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما". صحيح البخاري :2/674 ، كتاب الصوم - باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا.وأخرجه الإمام مسلم - أيضا - في كتاب الصيام ، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال :2/759.، بلفظ "فإن غمى عليكم فاكملوا العدد ، و في رواية أخرى: فإن غبى عليكم فعدوا ثلاثين .
(2) هذا جزء من آية وتمامها: { أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } أية رقم :78 سورة الإسراء.
(3) أصول السرخسي :1/104.(4/64)
والحق عندي(1): ما قال القاضي أبو زيد رحمه الله؛ لأن الله تعالى لما أباح الجماع والأكل والشرب في ليالي رمضان بقول تعالى { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر } (2)، خرجت الليالي عن محلية الصوم فمحال أن يكون سببا لوجوب ما ليس بمحل لأداء الصوم ألا ترى أن الصوم لا يصح في الليل أصلاً لا أداء، ولا قضاء ً، ولا نفلا ً، ولهذا يجب الصوم على الصبي إذا بلغ لأول الصبح مع أنه لم يشهد الليل بالغا(3).
__________
(1) يقصد الشارح بقوله هذا: أن الحق في مسألة "سبب وجوب الصوم هو ما اختاره القاضى أبو زيد الدبوسي ومشايخ الحنفية: وهو أن سبب وجوب الصوم أيام شهر رمضان لا الأيام والليالي كما قال شمس الأئمة .
(2) سورة البقرة الآية : 187 .
(3) لأن الاعتبار في الصوم الشرعى من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، ولا اعتبار لليل في صحة الصوم أو عدمه.(4/65)
فإن قلت(1). قال الله تعالى { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } (2). أي: فليصم الشهر، وهو اسم شامل للأيام والليالي جميعا، فدل على أن الشهر هو السبب لا الأيام وحدها. قلت(3): لا نسلم أنه دليل على ما قلتم؛ لأن تقدير قوله تعالى { فَلْيَصُمْهُ } فليصم فيه أي: في الشهر؛ لأنه مفعول فيه أجرى مجرى المفعول به اتساعاًً كما في قولك: الذي سرته يوم الجمعة أي: سرت فيه، وكما في قول الشاعر(4): ويوم شهدنا سُلَيما وعامرا(5). أي / شهدنا فيه، ثم لما كان الشهر ظرفا للصوم لم يقتض استيعاب المظروف
__________
(1) هذا إيراد قد يرد على اختيار الشارح في قوله: إن سبب وجوب الصوم الأيام دون الليالي ؛ لأن الصوم لا يصح في الليل لا أداء ، ولا قضاء ، ولا نفلا .
(2) سورة البقرة :185. .
(3) هذا جواب عن الإيراد المذكور منذ قليل ، وتقريره أن يُقال: لا نسُلمّ أن قوله تعالى: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } دليل على مطلق الشهر من الأيام والليالي هو السبب في وجوب الصوم ؛ لأن قوله تعالى { فَلْيَصُمْهُ } تقديره: فليُصم فيه ، وهذا من باب إجراء المفعول فيه مجرى المفعول به على سبيل الاتساع .
(4) هذا البيت منسوب لرجل من بنى عامر لم يُذكر اسمه. تحصيل عين الذهب من معدن جوهر الأدب :ص146، 147 .
(5) هذا هو الشطر الأول من البيت والبيت بتمامه:
ويوم شهدناه سليما وعامرا قليل سوى الطعن النهال نوافله
والشاعر فيه: نصب ضمير اليوم بالفعل "شهدناه" تشبيها بالمفعول به اتساعا ومجازا، والمعنى: شهدنا فيه، وهذا من باب إجراء المفعول فيه مجرى المفعول به.
وسليم وعامر: قبيلتان، والنهال: المرتوية بالدم.
تحصيل عين الذهب من معدن جوهر الأدب ، للأعلم الشنتمرى :ص147 شرح أبيات مغنى اللبيب ، لعبد القادر البغدادى :7/84 ،85(4/66)
فلم يدل على أن مجموع الشهر سبب، بل الأيام سبب لوجوب صومها لا الليالي، لما تلونا، ثم كل يوم معيار لصومه بحيث يطول بطوله، ويقصر بقصره.
والجواب عن الرواية التي رواها شمس الأئمة و هي:(أن من كان مفيقا في أول ليلة من الشهر، ثم جن قبل أن يصبح الشهر كله، ثم أفاق يلزمه القضاء)، فأقول: إن ذاك
منقوض بما ثبت من أصول أصحابنا، أن الجنون إذا امتد فصار مستوعباً للشهر في الصوم، وزائدا على اليوم والليلة في الصلاة لا يلزمه القضاء لزوم الحرج(1).
وقد قال شمس الأئمة نفسه - أيضا - في آخر أصوله في باب أهلية الآدمي: بعدم لزوم القضاء على المجنون إذا استوعب جنونه الشهر. فقال("الجنون إذا امتد حتى كان مستوعبا للشهر أو زائدا على اليوم والليلة في حكم الصلاة، فإنه لا يلزم القضاء؛ لأن
الوجوب لم يكن ثابتا في حقه؛ لانعدام أهليته (2). لحكم الوجوب بسبب الحرج الذي يلحقه في ذلك، وإذا كان دون ذلك، كان الوجوب ثابتا لوجود حكمه، وهو الأداء في الحال إن تصور، أو في الثاني وهو بعد الإفاقة، حتى إذا نوى الصوم بالليل ثم جن لم يتناول شيئا حتى مضى اليوم كان مؤديا/ الفرض ويلزمه القضاء إذا لم يستوعب
الجنون الشهر لما ثبت الوجوب في حقه باعتبار حكمه إذ ليس فيه كثير حرج إلى هنا لفظ شمس الأئمة(3).
__________
(1) نهاية الوصول إلى علم الأصول لابن الساعاتى :1/219 ، كشف الأسرار للبخارى :4/364، التلويح على التوضيح :2/349 ،350. بدائع الصنائع للكاسانى :2/88 .
(2) لأن وجوب الأداء للخطاب الثابت بالأمر في حقه ساقط عنه ، لعدم القدرة على فهم الخطاب ، وعلى أداء ما تناوله هذا الخطاب ، والمجنون يجرى عليه هذا الكلام ، وفوق ما تقدم فإن الخطاب عنه موضوع لقوله - صلى الله عليه وسلم - : رفع القلم عن ثلاث ومن هؤلاء: المجنون حتى يفيق" .
(3) أصول السرخسي :2/333 ، المبسوط :3/88.(4/67)
والمعنى في عدم وجوب القضاء إذا استوعب الشهر لزوم الحرج بالقضاء وذلك حاصل سواء كان مفيقا في أول ليلة أو لم يكن مفيقا؛ لأن الحرج في قضاء الشهر كله إذا لم يكن مفيقا أول ليلة منه مثل الحرج في قضاء الشهر كله إذا كان مفيقا في أول ليله منه، والجواب عن قوله (1): إن النية تصح بعد غروب الشمس من الليلة الأولى؛ لأنه زمان تقرر سبب الوجوب، ولا يصح قبل الغروب.
__________
(1) الضمير عائد إلى شمس الأئمة السرخسي رحمه الله تعالى ؛ لأن سياق الكلام يدل على ذلك.(4/68)
فأقول(1): لا نسلم أن صحة النية بعد الغروب باعتبار تقرر سبب الوجوب، فلو كان كذلك، لم يجب على الصبي إذا أدرك لأول الصبح لعدم انعقاد السبب في حقه بالليل(2).، وإنما صحت(3). بعد الغروب؛ لأن ليلة كل يوم في حق النية ملحقة بيومها بدلالة قوله عليه السلام("لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل"(4). والأفضل تقديم النية من الليل بالحديث، وهذا المعنى لم يوجد في النية قبل الغروب.
__________
(1) القائل هنا الشارح - رحمه الله تعالى -، و في قوله جواب على ما استند إليه شمس الأئمة السرخسي - رحمه الله تعالى- في وجوب القضاء على المجنون إذا استوعب جنونه شهر رمضان
(2) هناك جواب آخر عن كلام شمس الأئمة السرخسي - رحمه الله تعالى - للإمام عبد العزيز البخاري . كشف الأسرار :2/506
(3) أي : النية
(4) هذا الحديث أخرجه أبو داود برقم :2454، والترمذى برقم:733، وابن ماجة برقم 1700،والنسائي برقم :2196 من طريق أم المؤمنين حفصةـ رضى الله تعالى عنها- ولفظ أبى داود والترمذى: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له" ولفظ ابن ماجة: "لا صيام لمن لم يفرضه من الليل"، ولفظ النسائى مثلها ، واختلف في رفعه ووقفه وقد أخرجه الإمام مالك عن نافع عن ابن عمر موقوفا ولفظه: "لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر" الموطأ برقم :372 وقد أخرجه الدار قطني، والبيهقي بلفظ : " من لم يبيت الصيام قبل الفجر، فلا صيام له"= = وقال الإمام النووي - رحمه الله تعالى - : الحديث حسن يحتج به اعتمادا على رواية الثقات الرافعين ، والزيادة من الثقة مقبولة.المجموع :6/2459.(4/69)
وقوله(1): إن قوله - عليه السلام - : صوموا لرؤيته نظير قوله تعالى( { أقم الصلاة لدلوك الشمس } (2). لا نسلم (3)؛ لأنه لو كان كذلك، لجاز أداء الصوم بعد الرؤية (بالليل)(4) كما جاز أداء الصلاة بعد الدلوك، وإنما معناه: صوموا أيام الشهر لرؤية هلال الشهر؛ لأن أيام الشهر لا يتميز عن غير الشهر إلا بمجيء الشهر ومجيئه لا يتحقق إلا بالهلال/.
وقوله(5) في تقرر الوجوب بتقرر السبب لا يعتبر التمكن بالأداء استدلالا بمن أسلم في آخر الوقت.
أقول:(6) لا نسلم تقرر الوجوب بتقرر السبب؛ لأنا ننكرُ كون الليل سببا أصلا لخروج الليل عن محليّة الصوم لقوله تعالى؛ { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } (7)، ولوجوب الصوم على صبى أدرك لأول الصبح ولا يشبه الليل آخر وقت الصلاة؛ لأن آخر الوقت جزء من وقت يصلح للأداء.
والليل ليس بصالح للأداء أصلا غاية ما في الباب أنه لا يتمكن من الأداء في آخر الوقت(8) فلا يضرنا ذلك؛ لأن الصلاة تجب بالقدرة المتوهمة و هي حاصلة.
__________
(1) الضمير راجع على شمس الأئمة السرخسي، لأن الشارح ما زال في مقام الرد عن كلامه، وليس على المصنف ؛لأن سياق الكلام يدل على ذلك .
(2) بعض آية :78 من سورة الإسراء .
(3) أي: لا نسلم استدلال شمس الأئمة السرخسي بالآية والحديث.
(4) ساقطة من الصلب في:د ، ومثبتة في الصلب في :ت
(5) القائل هنا شمس الأئمة السرخسي ـ رحمه الله تعالى ـ .
(6) القائل هنا الشارح ، رحمه الله تعالى
(7) هذا جزء من الآية :187 من سورة البقرة ، وقد سبق تكملتها
(8) أي : في آخر وقت الوجوب المضيق لأداء الصلاة(4/70)
وقوله: الفضيلة ثابتة لليالي والأيام جميعا، فأقول: (1) الفضيلة للشهر للصوم الذي هو (أحد أركان الإسلام)(2) والصوم في النهار لا الليالي، وإنما فضيلة الليل تابعة للنهار(3) الذي يحصل بصومه قهر النفس الأمارة بالسوء.
(ص) قوله: هو الأصل في الباب.
(ش) أي: كون تعليق الحكم بالشيء دليلا على أنّ ذلك الشيء سبب الحكم هو الأصل(4) وهذا احتراز عن تعليق الحكم بالشرط من العباد(5) فإن ذلك عارض لا أصل.
(ص) قوله: ولهذا وجب على صبى يبلغ.
(ش) أي: ولأجل أنَ كل يوم سبب لصومه على صبى يبلغ بقدر ما أدرك من أيام الشهر، وكذلك يجب على كافر يُسْلِمَ بقدر ما أدرك منها.
(ص قوله(وقد مرت أحكام هذا القسم أيضا / .
(ش أي: مرت أحكام قسم الصوم كما مرت أحكام قسم الصلاة في باب تقسيم المأمور به في حكم الوقت(6)
__________
(1) أي : الشارح رحمه الله تعالى
(2) ساقطة من الصلب في : (د) ، ومثبتة في :ت في الصلب
(3) كشف الإسرار للبخارى :2/506
(4) لأنه يتكرر بتكرره ، وينسب إليه فيقال: صوم شهر رمضان
(5) كقول الرجل لزوجته: إن دخلت الدار فأنت طالق ، فالطلاق يقع بالدخول ،ولا يتكرر الحكم بتكرر الشرط. التلويح على التوضيح :275 - 277
(6) نظرا لأن الجزء الأول و الثاني من كتاب الشامل مفقودان والذي به أحكام قسم الصوم في باب تقسيم المأمور به في حكم الوقت ، فقد وجدت هذا الكلام بنفس المعنى في كتاب: كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري :1/ 447.(4/71)
(ص) قوله: وسبب وجوب صدقة الفطر على كل مسلم غنى، رأس يمونه لولايته عليه(1) ثبت ذلك بقول النبي - - صلى الله عليه وسلم - -: "أدوا عن كل حر وعبد" - (2) وبقو له عليه السلام -: "أدو ا عمن تمونون"(3) وبيانه: أن ( عن ) لا نتزاع الشيء، فيدل على أحد وجهين: أما أن يكون سببا ينتزع
الحكم عنه أو محلا يجب الحق عليه فيؤدى عنه، وبطل الثاني لاستحالة الوجوب على العبد والكافر والفقير فعلم به أنه سبب، ولذلك يتضاعف الوجوب بتضاعف الرؤوس.
(ش) اعلم أن سبب وجوب صدقة الفطر على المسلم الغنى رأس يلزمه مؤنته بولايته عليه، بدليل الإضافة، حيث يقال: صدقه الرأس، والإضافة دليل السببية؛ ولأنه يتكرر الوجوب بتكرر الرؤوس، وتعلق الحكم بالشيء، بأن يوجد بوجود ذلك الشيء دليل السببية أيضا.
__________
(1) سبب وجوب صدقة الفطر في : بدائع الصنائع :2/70 ، الهداية :2/42 ، الاختيار لتعليل المختار :1/176
(2) هذا الحديث أخرجه أبو داود :3/318،والدارقطنى :2/148 والطبرانى :3/279 ، والحاكم :3/379 ، وهو من طريق الزهرى عن عبد الله بن ثعلبة بن صغير العذرى قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أدوا عن كل حر وعبد صغير أو كبير نصف صاع من بر، أو صاعا من تمر، أو صاعاً من شعير"
(3) لفظ هذا الحديث: "أدوا صدقة الفطر عمن تمونون"
أخرجه الدارقطنى :2/140، والبيهقي في سننه الكبرى :4/161 من طريق الضَحاك بن عثمان عن نافع عن ابن عمر - رضى الله عنهما - ثم قال: و في إسناده ضعف ، وبمثل ما قال ابن حجر ، قال عنه الزيلعى في نصب الراية. نصب الراية :2/412 ، تلخيص الحبير :2/184 .(4/72)
والأصل هنا ما روى محمد بن الحسن عن أبى يوسف عن الحسن بن عمارة(1) عن الزهري(2) عن عبد الله بن ثعلبة(3) بن صغير العذري قال: خطبنا رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - قال: "أدوا عن كل حر وعبد صغير أو كبير نصف صاع(4) من بر أو صاعاً من تمرأ و صاعا من شعير (إلى هنا لفظ الأصل)(5)، وروى عن النبي - صلى
__________
(1) هو الحسن بن عمارة بن المضرب أبو محمد الكوفي ، حدث عن الزهرى، وعدى بن ثابت ، واتهمه شعبه بالكذب ، وقال عنه الإمام البخاري: إنه يذكر أحاديث لا أصل لها. تو في سنة 153هـ. تاريخ بغداد :7/349 ، العبر :1/219.
(2) هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، يكنى بأبي بكر ولد سنة ثمان وخمسين في آخر خلافة معاوية ، و هي السنة التي ماتت فيها أم المؤمنين عائشة ـ رضى الله تعالى عنها ـ ، ومات - رضي الله عنه - سنة أربع وعشرين ومائة من الهجرة. قال عنه الإمام مالك بن أنس: ما أدركت فقيها محدثا غير واحد ، فقلت من هو ؟ فقال: ابن شهاب الزهري ، وقال عنه سفيان الثوري: مات الزهري ، وليس أحد أعلم بالسنة منه ، من الطبقة الرابعة من أهل المدينة .صفوة الصفوة لابن الجوزى :1/398 - 400
(3) هو عبد الله بن ثعلبة بن صُغير العذرى أبو محمد حليف بنى زهرة ، مسح النبي - صلى الله عليه وسلم - على رأسه فوعى ما سمع منه ، حدث عن أبيه ، وعمر بن الخطاب - رضى الله تعالى عنه - وغيرهما ، تو في سنة :88هـ ،وقيل :89هـ. سير أعلام النبلاء :3/503 ، العبر :1/104 ، الكامل :4/253 .
(4) الصاع: ثمانية أرطال ، ومن قال بذلك الإمام أبو حنيفة - رحمه الله تعالى ، وقال أبو يوسف هو: خمسة أرطال وثلث ، وأخذ أهل المدينة بذلك ، والأصح الأول ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بالصاع ، كما روى مجاهد عن السيدة عائشة - رضى الله تعالى عنها ، وقال مجاهد عيرته فوجدته ثمانية أرطال. شرح معانى الآثار للطحاوى :2/48
(5) الأصل لمحمد بن الحسن الشيباني : 2/211.(4/73)
الله عليه وسلم - أنه قال: " أدوا عمن تمونون" ومؤنة الشيء عبارة عما هو سبب بقاء الشيء، وما يقوم به كفاءة الشيء من مانه يمونه، أي: قاته، يقوته.
وعن أبي عبيدة(1) أنها من منت الرجل أمونه أي: قمت / بكفايته، واحتملت مؤنته أي: ثقله، فعلى هذا معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -" أدوا عن من تمونون" والله أعلم. أدوا عمن تقوتون وتقومون بكفايتهم، وتحتملون مؤنهم، أي: أثقالهم.
__________
(1) هو معمر بن المثنى أبو عُبيدة التيمى مولاهم ،البصرى، اللغوى،النحوى،من مصنفاته: مجاز القرآن الكريم، تو في- رحمه الله تعالى - سنة :280هـ. يراجع ترجمته في : البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة للفيرزوأبادى :222.(4/74)
ثم كلمة "عن " في الحديثين؛ للانتزاع مجازا(1)؛ لأن في انتزاع الشيء عن الشيء بُعده عنه فلا يخلو إما أن يكون ذلك الانتزاع،؛ لانتزاع الحكم عن المحل الواجب عليه الحق، بأن يجب عليه الحق، ثم يؤدى عنه غيره بطريق النيابة، أو يكون؛ لانتزاع(2) الحكم عن السبب، بأن ذلك الشيء الداخل عليه عن سبب لوجوب الحكم على غيره من دخلت هي عليه، فالأول: منتف لاستحالة الوجوب على الصغير والعبد والفقير والكافر.
أما الصغير؛ فلأنه مرفوع القلم. (3)
وأما العبد: فلان الرق ينا في مالكية المال، ولا صدقة على من لا يملك(4)
وأما الفقير: فلأنه "لا صدقة إلا عن ظهر غنى"(5)
وأما الكافر: فلأنه ليس بأهل للعبادة، فلما انتف الأول تعين الثاني، وهو أن يكون ما دخل عليه عن سبب لوجوب الحق، فثبت أن الرأس سبب، لكن بوصف المؤونة
__________
(1) هذا المعنى الذي أطلقه الشارح - رحمه الله تعالى - على الحرفي إنما هو من قبيل المجاز ، لكن المعنى الحقيقي لها ، ولم يثبت عند البصريين غيره هو: المجاوزة ، كقولك: تجاوزت عن فلان، ولمزيد بيان في استعمالات "عن" رصف المبانى في شرح حروف المعانى للمالقي :429.
(2) قال صاحب التلويح: "وكلمة عن تدل على انتزاع الشيء عن الشيء ، وانفصاله عنه ؛ لأنها للبعد والمجاوزة .. وهي إما أن تكون لانتزاع الحكم عن السبب ، كما يقال: "أدى الزكاة عن ماله والخراج عن أرضه"، أو تكون للدلالة على أن ما وجب على محل قد اداه عنه غيره ، كأنه نائب عنه ، كما يقال: "أدى العاقلة الدية عن القاتل" ، وحمل الحديث على المعنى الثاني باطل؛ لأنه يقتضى الوجوب على العبد والكافر والفقير... وهذا باطل". التلويح على التوضيح :2/297 .
(3) لقوله عليه الصلاة والسلام: رفع القلم عن ثلاث: الصبى حتى يحتلم ..." الحديث سبق تخريجه ص
(4) ولأن العبد وما كسبت يدك لسيده .
(5) سبق تخريج هذا الحديث ص (211) .(4/75)
بدلالة الحديث، ثم إن كان للأولاد الصغار مالُ يؤدى الأب عنهم من مالهم، عند أبى حنيفة وأبى يوسف، خلافا لمحمد. (1)
وقول زفر كقول محمد، لمحمد: أن الصدقة عبادة، فلا تجب على الصغير.
ولهما(2) أن الشرع أجرى صدقة الفطر مجرى المؤونة، بقوله - عليه السلام - : أدوا عمن تمونون فيتحملها الأب عن ابنه الصغير إذا كان فقيرا، وإذا كان غنيا تلزمه في ماله كالنفقة/، و؛ لأنها طهرة تلزم الأب عنه إذا كان فقيرا. (3)
وتجب في ماله إذا كان غنيا، كنفقة الختان، ويجب على المولى، صدقةُ عبده
الكافر؛ لإطلاق الحديث، وفيه خلاف الشافعي (4)
__________
(1) ذكر صاحب الهداية: أن الرجل يخرج عن أولاده الصغار الفطرة إن لم يكن لهم مال ، فإن كان لهم مال يؤدى من مالهم عند أبى حنيفه وأبى يوسف - رحمهما الله تعالى ـ خلافا لمحمد بن الحسن - رحمه الله تعالى ـ ؛ لأن الشرع أجراه مجرى المؤونة فأشبه النفقة. أهـ
الهداية :2/42 ، 43 ، بدائع الصنائع :2/71 .
(2) الضمير راجع على أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى
(3) الهداية: 2/43، بدائع الصنائع: 2/71.
(4) قال الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - في الأم: "وإن كان فيمن يمون كافر - أي: رقيق كافر - لم يلزمه زكاة الفطر عنه ؛ لأنه لا يطهر بالزكاة"
* قلت: إن ما ذهب إليه الإمام الشافعي يتفق مع حكمة مشروعية هذه الفريضة و هي : أنها طهرة للصائم ، وهو لا يطهر بما يخرج عنه من زكاة ؛ لأن الله لا يقبل منه صدفا ولا عدلا.
ولعل ما استدل به الحنفية ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أدوا عن كل حر وعبد يهودى أو نصرانى أو مجوسى" أخرجه الدارقطنى :2/150و في إسناده ضعف(4/76)
. وقد مر في غاية البيان(1)
قال الجوهري(2): المؤونة تهمز ولا تهمز، و هي فعولة.
وقال الفراء(3): هي مفعلة من الأين، وهو التعب والشدة، ويقال(هو مفعلة من الأون، وهو الخرج والعدل؛ لأنه ثقل على الإنسان.
قال الخليل(4)
__________
(1) قال الشارح في غاية البيان: "ويؤدى الفطرة - أي : زكاة الفطر - عن عبده الكافر ، لإطلاق ما روينا .. ولو كان المولى كافرا والعبد مسلما ، فلا تجب = صدقة الفطر باتفاق بيننا وبين الشافعي . اهـ. غاية البيان ونادرة الأقران لأمير كاتب:جـ1/لوحة 193 .
(2) هو إسماعيل بن حماد الجوهري ، كان من أعاجيب الزمان ذكاء ، وفطنة ، وعلما. وأصله من فاراب من بلاد الترك ، وكان إماما في اللغة والأدب. دخل بغداد فقرأ العربية على أبى على الفارسى ، والسيرافي ، وصنف كتابا في العروض ، ومقدمة في النحو والصحاح في اللغة ، وهو الذي نقل عنه الشارح ههنا ، وكان آخر ما سمع منه: اللهم احشرني على مذهب أحمد بن حنبل ـ رضى الله تعالى عنهما توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. بغية الوعاة :1/411 ، طبقات المفسرين للداودى :1/7
(3) هو يحيى بن زياد ، فارسي الأصل ، وإمام نحاة الكوفة. كان يميل إلى الاعتزال ، وهو تلميذ الكسائي ، ومؤدب ابنى المأمون من آثاره: المقصور، والممدود ، والحدود ، ومشكاة اللغة. توفي سنة :207هـ /761م. ، بغية الوعاة للسيوطى :2/333
(4) هو الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم ، الفراهيدي ، البصري واضع علم العروض ، قال عنه السيرافي : كان الغاية في استخراج مسائل النحو ، وتصحيح القياس فيه ، وعمل أول كتاب العين المشهور الذي يعد أحد أركان الكتب اللغة. تو في - رحمه الله تعالى - سنة خمس وسبعين ومائة.
أخبار النحويين البصريين للسيرافي ص30 ،بغية الوعاة :1/557 -560(4/77)
: ولو كان مفعلة، لكان مئينة، مثل معيشة، وعند الأخفش (1). يجوز أن يكون مفعلة، وماءنت القوم أماءنهم إذا احتملت مؤنتهم، ومن ترك الهمز، قال: منتهم أمونهم.
إلى هنا لفظ الصحاح(2).
فالحاصل: أن المؤَُونة(3). إن كانت من مأَنَهُ بالهمز فوزنها فَعُولةٌ، وهذا ظاهر، وإن كانت من مَانَهُ يمونه بلا همز فوزنها فعولة (4) أيضا؛ لأن أصلها مَوُونة بواوين،
فقلبت أولاهما همزة(5). وإن كانت من الأَوْن (6) فوزنها مَفعُلة؛ لأن أصلها مَأْونة بسكون الهمز، فنُقلتْ حركة الواو إلى ما قبلها (7)، فصارت مَؤوُنةً.
وان كانت من (الأَيْن) كما قال الفراء (8)، فوزنها مَفعُلة أيضا؛ لأن أصلها مأينة، فنقلت حركة الياء إلى ما قبلها ثم قلبت الياءُ واواً ليسلم ضمُ ما قبلها، فصارت مَؤوُنة
__________
(1) هو سعيد بن مسعدة ، صاحب سيبوبه ، وراوي كتابه ، من مدرسة البصرة ، غير أنه خالف سيبوبه في كثير من المسائل. من مصنفاته: المقاييس ، والاشتقاق وغيرها. توفي - رحمه الله تعالى- سنة 211هـ.أخبار النحويين :39 ، النزهة لابن الأنباري:60
(2) الصحاح ، للجوهرى 6/2198 ، 2199
(3) المؤونة: اسم لما يتحمله الأنسان من ثقل النفقة التى ينفقها على من يليه من أهله وولده. التعريفات : 303 ، القاموس المحيط :1232 ، 1233 ، معجم لغة الفقهاء :498
(4) هذان الوجهان- أعنى كون المؤونه مهموزه أو غير مهموزه- صححتهما كتب اللغة الصحاح: 6/2198، لسان العرب.
(5) فصارت مؤونة
(6) كونها مشتقة من الأَوْن هو مذهب الأخفس، ونسب للمازنى. المنصف شرح تصريف المازنى: 1/301، شرح الشافية للرضى: 2/349- 350
(7) يسمى هذا عند النحاة إعلالا بالنقل، وقلب "الياء" "واو" يسمى إعلالاً بالقلب
(8) ينظر مذهب الفراء في المرجعين السابقين بنفس الصفحات.(4/78)
قالوا مذهب الفراء أبْعدُ المذاهب (1)؛ لأنه إذا وقعت ياء قبلها ضمة كان الواجب أن تبْدل الضمة كسرة لتسلم الياء، كما في أدْلٍ (2) في جمع دَلْوٍ /.
(ص) قوله: ولذلك يتضاعف الوجوب بتضاعف الرؤوس.
ش) هكذا وقع سماعنا(3). بلام التعليل؛ أي: ولأجل أن الرأس سبب يتضاعف وجوب صدقة الفطر بتضاعف الرؤوس؛؛ لأن المسبب يتكرر بتكرار السبب، فلو قيل("
وكذلك " بكاف التشبيه كان أولى؛؛ لأن غرض الشيخ إثبات كون الرأس سببا(4).
__________
(1) شرح الرضى على الشافية: 2/349.
(2) أصل "أدل": أدلُوُ بزنة أَفْعُلٌ جمع دلو. حيث وقعت الواو متطرفة بعد ضم، فوجب قلبها ياء، فصارت أدلى، ثم أبدلت ضمة اللام كسرة لمناسبة الياء، فصارت أدلىُ، ثم أُعلت الكلمة إعلال قاض، فصارت أدل يرجع: املى بن الشجرى: 2/312، المنصف لابن جنى: 1/118.
(3) الضمير راجع على الشارج - رحمه الله تعالى - ، وهذا الكلام فيه إيهام ؛ لأن ظاهره يُوهم أن العلامة أمير كاتب - رحمه الله تعالى - قد سمع النص من المصنف فخر الإسلام - رحمه الله تعالى - مباشر ، والأمر ليس كذلك ؛ لأن المصنف عاش في القرن الخامس الهجرى ، والشارح عاش في القرن الثامن. لذلك يُحمل سماعه على من تلقي عنه حتى تصل السلسلة إلى أمير كاتب.
(4) اتفق عامة مشايخ الحنفية على أن سبب وجوب صدقة الفطر هو الرأس - أي : رأس يمونه ويلي عليه؛ بأن يقوم الإنسان بكفايته ويتحمل تقله بسبب ولايته عليه الولاية المطلقة ، ولا يكون الرأس سببا حتى يجتمع فيه الوصفات: الولاية ، المؤونة ، والدليل على ذلك ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدوا عمن تمونون"
وعند الشافعية سبب وجوب صدقة الفطر الوقت ، بدليل إضافته إليه ، فيقال: صدقة الفطر ، أو أركان الفطر ، وكذا تكررها بتكرر الوقت.
الهداية 2/42 ، حاشية نسمات الأسحار على متن أصول المنار لابن عابدين ص 174، المهذب للشيرازى 1/223(4/79)
واستدل على ذلك(1)أولا:بأن ما دخلت عليه عن لا نتزاع الحكم عن السبب فكان الرأس سببا، ثم قال: وكذلك، يعنى كما أن انتزاع الحكم عن الشيء دليل على سببية ذلك الشيء فكذلك تكرار الحكم بتكرار الشيء دليل عليها أيضا، فيكون هذا استدلالا على سببيه الرأس بوجهين.
بخلاف ما إذا قيل: (2). ولذلك بلام التعليل حيث لا يكون استدلالا بوجهين؛؛ لأن تضاعف الوجوب بتضاعف الرؤوس نتيجة لكون الرأس سببا فحسب فافهم(3).
(ص) قوله:وأما وقت الفطر فشرطه(4). حتى لا يعمل السبب إلا بهذا الشرط.
(ش) يتصل بما قبله(5) بيانه، أن السبب لوجوب صدقة الفطر هو الرأس بدليل تضاعف الوجوب بتضاعف الرؤوس مع اتحاد [الوقت](6) ولو كان السبب هو الوقت لم يتضاعف لوجوب، ولا يقال(لو كان السبب هو الرأس لم يتوقف الوجوب إلى وقت الفطر؛؛ لأن الوقت شرط الوجوب فلم يعمل السبب عمله إلى أن يوجد الشرط؛
كالنصاب هو السبب لوجوب الزكاة ولكن لا يعمل عمله ما لم يوجد الشرط وهو الحول.
__________
(1) هذا استدلال فخر الإسلام البزدوي - رحمه الله تعالى - على ما ذهب إليه الحنفية وهو: أن سبب وجوب صدقة الفطر هو الرأس
(2) يقصد الشارح بذلك قول شيخه فخر الإسلام البزدوي
(3) هذا تأكيد لما استدركه الشارح على شيخه - رحمهما الله تعالى - وهو التعبير بقوله: "ولذلك يتضاعف الوجوب" ، والشارح يرى أن التعبير بـ :وكذلك كان أولى ؛ لأن غرض الشيخ إثبات كون الرأس سببا لوجوب صدقة الفطر
(4) أي : أن وقت الفطر شرط للوجوب ، والسبب في وجوب صدقة الفطر هو رأس يمونه ويلى عليه الولاية المطلقة ، وبناء على ذلك: فإن السبب وهو الرأس لا يثبت حكما شرعيا إلا بتحقق الشرط وهو الوقت ، كالنصاب فإنه سبب لوجود الزكاة ، ولكنه لا يوجب هذه الفريضة إلا بوجود الشرط وهو الحول ، وعدم وجود الدين الذي يستغرق هذا النصاب.اهـ.
(5) أي : أن هذا الكلام يتصل بما قبله ، وهو سبب وجوب صدقة الفطر
(6) ساقطة من الصلب في :د.(4/80)
(ص) قوله: وإنما نسبت(1). إلى الفطر مجازا والنسبة تحتمل الاستعارة(2) وأما تضاعف الوجوب فلا يحتمل الاستعارة.
(ش) هذا جواب عما يقال من جهة الشافعية(3).
يقال: الإضافة دليل السببية فكما وجدت الإضافة إلى الرأس، وجدت إلى الفطر. بل الإضافة إلى الفطر أكثر؛ لأن الاستعمال الشائع الذائع صدقة الفطر لا صدقة الرأس فهلا جعلتم الوقت سببا؟ فأجاب عنه(4).
وقال: الإضافة إلى الفطر مجاز؛ لأن الإضافة تحتمل المجاز كما يقال(لابن ابن شخص هو ابنه؛ لأن الإضافة تصح بأدنى ملابسة كما يقال لأحد حاملي الخشبة"خذ طرفك " وإنما هو طرف الخشبة لا طرفة، وكما يقال: كوكبُ الخرقاء(5)، فأما تضاعف الوجوب(6)
__________
(1) أي : أضيفت الصدقة إلى وقت الفطر مجازا على اعتبار أنه زمان الوجوب ، وهذه النسبة ، أو هذه الإضافة لا تدل على كون الوقت سببا للوجوب ، وإنما حملت على المجاز والاستعارة ؛ لأن الإضافة تحتمل ذلك ، كما أضيفت الحجة إلى الإسلام الذي هو شرطها فنقول: حجة الإسلام.
(2) الاستعارة: هي اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي . الإيضاح للخطيب القزوينى 5/37 .
(3) الأم للشافعى 2/93 وما بعدها ، المهذب للشيرازى 1/223 ، كفاية الأخيار للحصنى الشافعي:1/118
(4) أي : أجاب الشيخ المصنف فخر الإسلام البزدوي ؛ لأن السياق يدل على ذلك
(5) الخرقاء: امرأة كانت تقضي أوقاتها طول الصيف في غزل الصوف حتى إذا طلع سهيل وهو كوكب بقرب القطب الجنوبى - استعجلت لمجىء الشتاء فتفرق غزلها بين أقربائها. الكشاف للزمخشرى: 2/600 تفسير ابن كثير:2/584 .
(6) أي : أن تضاعف وجوب صدقة الفطر يكون بتضاعف الرؤوس ، وهذا حكم حقيقي لا يحتمل الاستعارة ؛ لأن الاستعارة قضية اللفظ ، وهذا ليس بلفظ ، فكان التضاعف بمنزلة المحكم في كونه دليلا على السببية ، والحكم لا يحتمل أن يتكرر بتكرر الشرط بوجه من الوجوه. أهـ
الكافي :3/1230 ، كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري 2/508 ، 509(4/81)
فلا يحتمل المجاز والاستعارة؛ لأن الوجوب لا يكون إلا بسبب أو علة حقيقية، وما كان أمرا ثابتا حقيقة لا يسمى ذلك مستعارا أو مجازا لمضادة بين المجاز والحقيقة فصح قولنا((1) إن الرأس هو السبب لا الوقت،؛ لأن الإضافة إلى الوقت تحتمل المجاز، والإضافة إلى الرأس لا تحتمل المجاز بدليل تضاعف الوجوب بتضاعف الرؤوس فترجح كون الرأس سببا، وأيضا وصف المؤونة، يرجح كون الرأس سببا(2)؛ لأن المؤونة/ سبب بقاء الشيء والرأس هو المحتاج إلى البقاء لا الوقت(3).
وهذا معنى قوله(4): وصف المؤونة يرجح الرأس في كونه سببا يعنى كما أن تضاعف الوجوب بتضاعف الرؤوس يرجح كون الرأس سببا على الوقت، يرجح - أيضا - وصف المؤونة، ولا يقال(5): كما إن الوجوب يتكرر بتكرار الرؤوس مع اتحاد الوقت، يتكرر الوجوب - أيضا - بتكرار الوقت مع اتحاد الرأس، فينبغي أن يكون الوقت سببا لا الرأس؛ لأنا نقول(6)
__________
(1) الضمير راجع على الحنفية ؛ لأنهم هم الذين يقولون: إن سبب وجوب صدقة الفطر هو الرأس لا الوقت ، وقد مر بيان ذلك منذ قليل.
(2) لأن تعليق الحكم بوصف المؤونة في قوله عليه الصلاة والسلام: "أدوا صدقة الفطر عمَن تمونون" يشعر بأن هذه الصدقة تجب وجوب المؤن؛ والأصل في وجوب المؤن رأس يلى عليه كما في العبيد وغيرهم. التلويح على التوضيح 2/298
(3) الكشف للبخارى 509
(4) الضمير راجع إلى فخر الإسلام البزدوي رحمه الله تعالى ؛ لأن السياق يدل على ذلك.
(5) هذا إيراد رام الشارح ذكره ، وتقرير هذا الإيراد أن يقال: إذا كان الوجوب يتكرر عندكم - أي :عند الحنفية - بنكرار الرأس مع اتحاد الوقت ، مما المانع من تكرار الوجوب - أيضا - بتكرار الوقت مع اتحاد الرأس ؟ وبناء عليه ، فينبغى أن يكون الوقت سببا لوجوب صدقة الفطر لا الرأس . ا هـ
(6) هذا جواب الشارح عن الإيراد الذي قدًر وقوعه ، وهو جواب يؤكد منا فحته عن قول الحنفية وهو أن سبب وجوب صدقة الفطر الرأس لا الوقت .
*والحاصل في هذه المسألة: أن الحنفية متفقون على أن سبب وجوب صدقة الفطر هو الرأس الذي يمونه الإنسان وله عليه الولاية المطلقة ، وتمسكوا بما روى عن النبي : وهو: "أدوا صدقة الفطر عمن تمونون" سبق تخريجه.
و في المقابل - أيضا- فإن الشافعية يقولون: بأن سبب وجوب صدقة الفطر هو الوقت ، بدليل إضافتها إليه ، وأنها تتكرر بتكرره.
*قلتُ: لماذا لا نسلك طريقا وسطا نجمع فيه بين قولي الحنفية والشافعية ؟ ويكون كل من الرأس والوقت سببا لوجوب زكاة الفطر،على اعتبار أن الوجوب لا يتعلق بهذه الرأس إلا بدخول وقت الفطر، وعليه فيكون ثبوت الحكم -هنا- بوصفين، وهذ ا جائز عند أهل الأصول .
شرح اللمع للشيرازى 2/836 ، 837 ، البحر المحيط للزركشى 5/166(4/82)
: إن تكرر الوجوب إذا تكرر الوقت لا باعتبار أن الوقت سبب، بل باعتبار أن الرأس سبب بوصف المؤونة، ووصف المؤونة يتكرر بتكرار الحول فجعل الرأس كالمتكرر حكما بتكرر وصفه.
كما أن الزكاة تتكرر بتكرر الحول، لا أن الحول سبب، بل هو شرط لوجوب الأداء، والنصاب المغنى النامي هو السبب، إلا أن النصاب جعل سببا بوصف النماء، والنماء يتجدد بتجدد الحول درا ونسلا وقيمة، فأقيم الحول مقامه تيسيرا علينا فصار المال الواحد كالمتجدد بنفسه حكما بتجدد وصف النماء، و في الحقيقة التجدد يتجدد النماء لا بالحول فكذا في الفطرة(1) تجددها بتجدد المؤونة لا بالفطر وهذا تمام بيان/كلام الشيخ(2)، وبيان شمس الأئمة السرخسي أحسن فقال في أصوله: وسبب وجوب صدقة الفطر على المسلم الغنى رأس يمونه بولايته عليه، ولهذا تضاف(3) إليه فيقال: صدقة الرأس، ويتضاعف الوجوب بتعدد الرأس من الأولاد الصغار، والمماليك، وإنما عرفنا هذا بقوله - عليه السلام - "أدوا عن كل حر وعبد"وقال - عليه السلام - " أدوا عمن تمونون وحرف عن للانتزاع، فإما أن يكون المراد: طريق الانتزاع بالوجوب على الرأس، ثم أداء الغير عنه، وهذا باطل، فإنه لا يجب على الكافر، والرقيق، والفقير، والصغير، فعرفنا أن المراد انتزاع الحكم عن سببه.
__________
(1) الفطرة: الخلقة، وهي المرادة بقوله تعالى: " فطرة الله التي فطر الناس عليها" والمعنى أنها وجبت على الخلقة تزكية للنفس وتطهيرها لها و هي نصف صاع من بُرّ دقيق ، أو سويق، أو زينب، أو صاع من تمر، أو شعير.
الهداية شرح بداية المبتدى 2/44. أسنى المطالب للشيخ زكريا الأنصارى : 1/388.
(2) فخر الإسلام البزدوي ـ رحمه الله تعالى ـ .
(3) أي : تضاف الزكاة إلى الرأس ، فيقال: زكاة الرأس ، وصدقة الرأس.(4/83)
وفيه تنصيص على أن الرأس بالصفة التي قلنا: هو السبب الموجب للوجوب، وأما الفطر فهو شرط وجوب الأداء، والإضافة إليه بطريق المجاز على معنى أن الوجوب عنده يكون، وإنما جعلنا الفطر شرطا، والرأس سببا مع وجوب الإضافة إليهما؛ لأن تضاعف الواجب بتعدد الرأس دليل محكمُ على أنه سبب، والإضافة دليل محتمل، فقد بينا أن الإضافة قد تكون إلى الشرط مجازا.
و لأن التنصيص على المؤونة دليل على أن سبب الوجوب الرأس دون الفطر، فالمؤونة/ إنما تجب عن الرؤوس ولهذا اشتمل هذا الواجب على معنى المؤونة، وعلى معنى العبادة(1)؛ لأن صفة الغنى فيمن يجب عليه الأداء يعتبر لوجوب الأداء، وذلك دليل كونه عبادة.
وصفة المؤونة في المؤدًىَ دليل على أنًه بمنزلة النفقة.
وجواز الأداء قبل الفطر دليل على أنً الفطر ليس بسبب وجوب الأداء بشهود وقت الفطر في حق من (لم يؤد) (2) الصوم أصلا ودليل على أن الفطر شرط وجوب الأداء، فإنً الكافر إذا أسلم ليلة العيد، أو الصبي بلغ، أو العبد عَتِقْ يلزمه الأداء بطلوع الفجر من يوم الفطر.
__________
(1) والدليل على أن صدقة الفطر فيها معنى المؤونة ، ومعنى العبادة ما رواه ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر ، وطهرة للصائم من اللغو ، والرفث ، وطعمة للمساكين..." الحديث أخرجه أبو داود، وابن ماجة ، وصححه الحاكم. بلوغ المرام من أدلة الأحكام لابن حجر العسقلاني : 113.
* وقوله - عليه السلام -: "طهرة" إشارة إلى معنى العبادة ، وقوله: "طعمة" إشارة إلى معنى المؤُونة ، فكانت هذه الصدقة مشتملة على الوصفين ، معنى العبادة والمؤونة.
كشف الأسرار للبخارى :2/510.
(2) في أصول السرخسي المطبوع :1/107 لا يؤدى.(4/84)
ولهذا لو أسلم بعد طلوع الفجر لم يلزمه وإنّ أدرك اليوم؛ لأن وقت الفطر عن رمضان في حق وجوب الصدقة عند طلوع الفجر (1) فإذا انعدمت الأهلية عند ذلك لم يجب الأداء،
وتكرر الوجوب بتكرر الفطر في كل سنة بمنزلة تكرر وجوب الزكاة بتكرر الحول، فإن الوصف الذي لأجله كان الرأس موجبا وهو المؤونة، يتجدد بمضي الزمان كما أن النماء الذي لأجله كان المال سببا للوجوب يتجدد بتجدد الحول. إلى هنا لفظ شمس الأئمة(2) رحمه الله.
ص: قوله: وقد بينا معنى المؤونة فيه في موضعه.
ش: يعني في غير هذا الكتاب(3).
ص:قوله: وسبب وجوب الحج البيت ؛ لأنه ينسب إليه، ولم يتكرر، قال الله تعالى (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ( (4)
__________
(1) اتفق الحنفية على أن وقت وجوب صدقة الفطر هو طلوع الفجر الثاني من يوم الفطر، وبناء عليه ، فلو ولد للإنسان ولد، وكان كافرا فأسلم، أو كان فقيرا فاستغنى، إن كان ذلك قبل طلوع الشمس تجب عليه الفطرة ، وإن كان بعده لا تجب عليه * وجه قول الحنفية: أن= =إضافة الصدقة للفطر يفيد الاختصاص ، ولهذا يقتضي اختصاص وقت الوجوب بيوم الفطر لا ليلته ، وإلا فالليالي كلها في حق الفطر سواء ، فلا يظهر الاختصاص بها ، وبه تبين أن المراد من صدقة الفطر ،أي : صدقة يوم الفطر .
الهداية للمرغينانى :2/45 ، بدائع الصنائع للكاسانى :2/74 الاختيار لتعليل المختار :1/177 ، مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح للشيخ الشرنبلالى : ص144.
- وأما عند الشافعية : فهي وقت وجوب صدقة الفطر ثلاثة أقوال: أظهرها ونص عليه الشافعي في الجديد: أنها تجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان ، و الثاني : انها تجب بطلوع الفجر من يوم العيد ؛ لأنها مربة تتعلق بيوم العيد ، والثالث: تتعلق بالأمرين.
الأم :2/94 ، أسنى المطالب شرح روض الطالب :1/388 الإقناع للخطيب الشربينى :1/357
(2) أصول السرخسي :1/107.
(3) الكا في شرح أصول البزدوي :3/1231.
(4) سورة آل عمران: 97.(4/85)
وأما الوقت فهو شرط الأداء، بدلالة أنه لا بتكرر بتكرره.
ش: أي: سبب وجوب الحج البيت(1) /؛ لأنه الحج يضاف إلى البيت كما قال تعالى { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } (2)، (والإضافة دليل السببية)(3).
و لأن الحج لا يجب متكررا؛ لعدم تكرر سببه، وهو البيت ولا يجب في العمر إلا مرة واحدة(4)، والوقت ليس بسبب للوجوب، فلو كان الوقت سببا، لتكرر الوجوب بتكرر الوقت وإنما الوقت شرط جواز الأداء.
ص: قوله: غير أَنّ الأداء(5) شرع متفرقا منقسما على أمكنة وأزمنة يشتمل عليها جملة وقتُ الحج، فلم يصلح تغيير الترتيب كما لا يصلح السجود قبل الركوع، فلذلك لم يجزْ طواف الزيارة قبل يوم النحر والوقوف قبل يوم عرفه.
__________
(1) قال الإمام عبد العزيز البخاري - رحمه الله تعالى - : قال أبو اليسر البزدوي : إن للبيت حرمة شرعا ، فيجوز أن يصير سببا لزيارته شرعا ، فإن المكان المحترم قد يزار تعظيما له واحتراما؛ إلآً أنً احترامه لله تعالى ، فتكون زيارته تعظيما لله عز وجل لا له. ومن حرمة هذا البيت أنه أمان للخلق ، فكان نعمة في نفسه ، فصار سببا لكونه نعمة. كشف الأسرار للبخاري :2/510.
(2) تمام الآية: { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين } سورة آل عمران آية 97 .
(3) ساقطة من ( د)
(4) لما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من طريق أبى هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فقال: "أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج ، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ..." كتاب الحج ، باب فرض الحج مرة في العمر - رقم 73 :5/446.
(5) أي : أداء أفعال الحج.(4/86)
ش: وهذا (1) جواب سؤال مقدر يَرِدُ على قوله : وأما الوقت فهو شرط الأداء بأن يقال(لو كان الوقت شرط الأداء لجاز أداء الحج (علما ) (2).دخل شوال؛ لأن وقت الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة(3).
فأجاب عنه وقال: (4) أداءُ الحج مشروع على سبيل التَفرق و الانقسام على الأمكنة والأزمنة، فلا يجوز تغيير المشروع بتغيير الترتيب، بأن يقدم الأداءَ على المكان والزمان، ولهذا لا يجوز تقديم الوقوف على يوم عرفة، ولا تقديم الطواف/(5)
__________
(1) إشارة إلى ما ذكر من قول المصنف - رحمه الله تعالى - من أول قوله: :غير أن الأداء إلى قوله: :والوقوف قبل يوم عرفة
(2) لعل الصواب : كلما.
(3) الهداية للميرغيناني :2/112. كشف الأسرار للبخاري :2/510 ، 511
(4) أي: فخر الإسلام البزدوي .
(5) الطواف المعنى هنا: هو طواف الإفاضة أو طواف الزيارة وهو ركن من أركان الحج؛ إذْ هو المأمور به في قوله تعالى : { وليطوفوا بالبيت العتيق } سورة الحج :29 ، ولهذا لا يجوز تقديمه على يوم النحر ويكره تأخيره إلى ما بعد أيام التشريق ؛ لأنه مؤقت بزمان معين ، وإن أخره أتى به نفسه ولزمه دم عند حنيفة - رحمه الله تعالى. وأما= =عن الالتزام بأدائه في يوم النحر تحديداً فهو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد أخرج الإمام مسلم - رحمه الله تعالى - من طريق ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: أفاض النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر ، ثم رجع فصلي الظهر بمنى ..."
يراجع: صحيح مسلم بشرح النووى :5/416 ، الهداية للميزغينانى :2/96 ، 97 ، بدائع الصنائع للكاسانى :2/127 - 133(4/87)
على يوم النحر، ولا يجوز الوقوف - أيضا - في مكان آخر غير عرفة، ولا الطواف في مكان أخر غير البيت(1)؛ لأن للوقوف وقتا خاصا، وكذا للطواف، فلا يجوز تغيير ذلك، ولهذا يجوز أداء ما لم يكن له وقت خاص بعد دخول شوال كالسعي حتى إذا طاف وسعى كلما دخل شوال كان سعيه معتداً به(2)، ولا يكون طوافه للزيارة معتدا به(3) فإذا أعاد الطواف لا يعيد السعي، وهذا كأركان الصلاة لا يجوز تغيير المشروع فيها، فلا يقدم السجود على الركوع .
ص: قوله: وأما الاستطاعة بالمال فشرط لا سبب(4)، لما ذكرنا أنه(5). ينسب إليه، ولا يتكرر بتكرره ويصح الأداء دونه من الفقير، ألا ترى أنها عبادة بدنية(6)، فلا يصلح المال سببا لها ولكنها عبادة هجرة وزيارة، فكان البيت سببا لها.
__________
(1) لقوله تعالى: "... وليطوفوا بالبيت العتيق" فالأمر يدل صراحة على أن الطواف لا يكون إلا بالبيت.
(2) لأن السعي ليس ركنا من أركان الحج ، ولم يؤقت بتوقيت معين .
(3) لأن هذا الطواف مؤقت بزمان معين وهو يوم النحر
(4) الضمير عائد إلى المال ؛ لأن السياق يدل على ذلك.
(5) أي : أن الاستطاعة شرط لوجوب الحج لا لجوازه ، فإن الأداء صحيح من الفقير ، وإن كان لا يملك شيئا. لكن الاستطاعة وإن كانت شرطا للوجوب ، فليست سببا لوجوب الحج ، ولايتجدد بتجددها ، ولا يضاف إليها ، كما لا يضاف إلى الوقت ، ولا يتجدد بتجدده ، فعُلم بذلك أن الاستطاعة شرط لا سبب ، وصار تأويل قوله تعالى - والله أعلمَ: :ولله على الناس: المستطيعين حج البيت حقا واحباً بسببه إذا جاء وقت الأداء.
تقويم الأدلة ، للقاضى الدبوسى :ص64 ، كشف الأسرار للنسفي :1/478 ، كشف الأسرار للبخارى :2/511
(6) الحج عبادة بدنية من جانب ومالية من جانب آخر ، لكن الجانب البدئى فيها أغلب ؛ لأنه يصح الأداء من الفقير قبل الاستطاعة.(4/88)
ش: اعلم أنً الاستطاعةَ - و هي القدرة على الزاد والراحلة فاضلاً عن مسكنه، وخادمه، وثيابه، وأثاثه، وفرسه وطعامه، وطعام عياله سنة - شرطُ وجوب أداء الحج(1). وإذا كان عنده فضل على هذه الأشياء ما يكترى به شق محمل أو يركب زاملة(2)، ويفضل له من الكِراء النفقة ذاهباً وجائيا، فعليه الحج.
وإن لم يَكْفِهِ ذلك إلاّ أنْ يمشى أو يكترى عُقبة (3) فليس عليه الحج(4)، والأصل في ذلك قوله تعالى( { و َلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ / إِلَيْهِ سَبِيلاً] } (5).
__________
(1) ينظر الكلام في الاستطاعة عند الحنفية في: الهداية :2/74، بدائع الصنائع :2/122 تقويم الأدلة ص64 ، أصول السرخسي :1/105 ، كشف الأسرار للبخارى :2/511 ، الكا في شرح أصول البزدوي :3/1232
(2) الزاملة: بعير يستظهر به الرجل ليحمل متاعه وطعامه عليه .
مختار الصحاح ، مادة :زمل - ص275
(3) العُقْبة: النًوْبَة ، أقول: عاقبتُه في الراحلة ، إذا ركبت أنا مرًة ، وركب هو مرًة ، وهما يتعاقبان كالليل والنهار. القاموس المحيط :ص116 باب :الباء فصل : العين ، مختار الصحاح ص443 مادة ع ق ب
(4) ينظر هذا الحكم في : الهداية :2/74 ، بدائع الصنائع :2/122.
(5) سورة آل عمران آية :97(4/89)
وحَدًثَ الترمذى في جامعه مسنداًُ إلى ابن عمر - رضى الله عنهما - قال: قام رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: مَنْ الحاج يا رسول الله؟ قال: الشعث(1)، التفل(2)، فقام رجل آخر، فقال: أي: الحج أفضل؟ قال: العج(3)، والثج. فقام رجل آخر فقال: ما السبيل يا رسول الله؟ قال: الزاد والراحلة"(4).
وتفسير - رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - السبيل(بالزاد والراحلة) حُجًة على مالك في إيجابه حجاً على القادر على المشي(5)
__________
(1) الشًعَثُ: هو المُغْبَرٌ الرأس ، القاموس المحيط :ص171 باب الثاء فصل الشين مختار الصحاح : 339 مادة ش ع ث .
(2) التفل: المتغير الرائحت ، تقول: "تفل كفرح تغيرت رائحته" ، ويقال: "رجل تفل" أي : غير متطيب. الصحاح :تفل 4/1644 ، القاموس المحيط : مادة 970ت ف ل
(3) قال صاحب الهداية:العجٌ: رفع الصوت بالتلبية، والثجٌ: إسالة الدم. اهـ. الهداية للمييرغينانى :2/83
(4) هذا الحديث رواه الإمام الترمذى :5/225 كتاب تفسير القرآن عن رسول الله : - باب ومن سورة آل عمران ، وابن ماجة :2/967 كتاب المناسك - باب ما يوجب الحج ، وراوه ـ أيضا ـ الحاكم في المستدرك أول كتاب المناسك :1/620.
وقال الإمام الترمذى - رحمه الله تعالى - : هذا حديث لا نعرفه إلا من طريق ابن عمر - رضي الله عنه - ، وفيه إبراهيم بن زيد ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من ناحية حفظه. اهـ.
(5) قال ابن رشد الحفيد - رحمه الله تعالى - : "قال مالك - رحمه الله تعالى - : من استطاع المشي ، فليس وجود الراحلة من شرط الوجوب في حقه ، بل يجب عليه الحج ، وكذلك ليس الزاد عنده من شرط الاستطاعة ، إذا كان ممن يمكنه الاكتساب في طريقه ، ولو بالسؤال". بداية المجتهد :2/ 784 ، الكا في :1/309 الشرح الصغير :2/12
* قلت: إن ما ذهب إليه إمام دار الهجرة يحتاج إلى تأمل ؛ لأن إيجابه الحج على القادر على المشى ، وعدم اشتراط الراحلة لوجوب الأداء في هذه العبادة ، إنما يكون في حق من كان قريبا من البيت من أهل مكة ،أما من كان بعيدا فلابد من الراحلة والزاد له ولمن يعوله حتى يرجع والدليل على ما أقول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: فسر الاستطاعة - في الحديث السابق - بالزاد والراحلة. وحتى إن قدر على المشى بدون راحلة فهل يأمن الطريق ؟ !(4/90)
وليس الاستطاعة [المال](1) بسبب للوجوب؛ لأن الحج لا يضاف إلى المال، ولا يتكرر الحج أيضا بتكرر المال.
فلو كان سببا لتكرر الوجوب بتكرر المال، ويصح أداء الحج من الفقير دون المال، فلو كان المال سببا لم يجز؛ لأنه حينئذ يلزم تقديم المسبب على السبب، وهو باطل، نظيره إدراك عدة أيام أخُر في حق المسافر حتى لا يجب عليه أداء الصوم قبله، فإذا أدى قبله جاز.
والدليل على أن المال ليس بسبب أن الحج عبادة بدنية(2) فلا يستقيم أن يكون المال سببا للعبادة البدنية؛ لعدم الملائمة فإن المال يصلح أن يكون سببا للمال، كالنصاب سبب لوجوب الزكاة، ولا يصلح المال سببا للصوم، والصلاة، ولكن عبادة الحج لما كانت عبادة هجرة عن الوطن مستلزمة للمشقة إلى زيادة بيت الله تعظيما له واحتراماً جُعلَ المال / شرط وجوب الحج، تيسيرا على العباد دفعا للحَرج.
فلما لم يكن الوقت والمال سبباً للوجوب، تعيًن البيتُ سببا لما قلنا من المعنيين(3)
__________
(1) ساقطة من الصلب في :د ، ومثبتة في الصلب في :ت
(2) الحج فيه جانب بدنى ، وجانب مالى ، وهو الاستطاعة ، وبدونها لا يجب الحج.
(3) المعنى الأول في تعيٌن البيت سببا لوجوب الحج هو: أن الحج يضاف إلى البيت - كما في قوله تعالى: : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } آل عمران :97. والإضافة دليل السببية.
والمعنى الثاني : أن الحج لا يجب متكرراً ، إذا تكرر سببه وهو البيت ، ولا يجب في العمر إلا مرًة واحدة ، لحديث الأقرع ابن حابس وقد مرّ ذكره نصا وتخريجا ص ....(4/91)
، ثم اعلم أن مِلْكَ الزاد والراحلة لما كان شرطا لوجوب الحج لم يجب الحج على من قدر على الزاد والراحلة بالإباحة سواء كانت الإباحة من جهة من لا منّة له عليه كالوالدين والولد، أو من جهة من له عليه منٍة كالأجانب، وعند الشافعي في الصورة الأولى يجب، و في الثانية له قو لان(1)، وقد مر في غاية البيان(2).
وقال صاحب التقويم: (3) "أما الحج فسبب وجوبه البيت دون الوقت، بدليل أنه لا يتكرر بتكرر الوقت وإنما يجب مرة؛ لأن السبب هو البيت، وأنه لا يتجدد بتجدد الوقت، وكذلك يضاف إلى البيت فيقال حج البيت "قال الله تعالى( { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } (4).
__________
(1) قال الإمام علاء الدين الكاساني - رحمه الله تعالى - : "قال عامة العلماء إنه - أي : ملك الزاد والراحلة - شرط ، فلا يجب الحج بإباحة الزاد والراحلة سواء كانت الإباحة ممّن له منة على المباح له ، أو كانت ممن لا منة له عليه كالأب. وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - : يجب الحج بإباحة الزاد والراحلة إذا كانت الإباحة ممن لا منة له على المباح له ، كالوالد بذل الزاد الراحلة لابنه ، وله في الأجنبى قولان". بدائع الصنائع :2/ 122 ، أسنى المطالب للشيخ زكريا الأنصاري الشافعي :1/450 ، 451.
(2) غاية البيان ، وهو مخطوط لأمير كاتب :1/ لوحة 336
(3) هو القاضى أبو زيد الدبوسى رحمه الله تعالى صاحب كتاب تقويم الأدلة في أصول الفقه ، وقد سبق ترجمة المؤلف والمؤلًف.
(4) سورة آل عمران: 97(4/92)
وإنما الوقت شرط عنده يجب كحين الإقامة في صوم المسافر(1)، وفيه(2) يُؤدًى، كوقت الصلاة، واليوم في حق الصوم، وأما الاستطاعة فصفة للعبد عندها يحل الوجوب به تيسيرا علينا لما في السفر بلا زاد ولا راحلة من المشقة كالإقامة في باب الصوم.
وليست(3) بصفة لما هو سبب من البيت، فلا يجعل من السبب، كالطهارة تجب للصلاة(4)، ولا تجب على المحدث، فلم يكن الحدث سببا للوجوب، ولهذا قيل:إذا عجّل العبد الحج قبل الاستطاعة أجزأه. فتسير الاستطاعة ملك الزاد والراحلة، والأداء قبل/ ملكهما جائز؛؛ لأن السبب(5) قد وجد.
كما يجوز للمسافر أن يصوم قبل الإقامة؛ لأن السبب وهو الشهر قد وجد، وكذلك لا يتجدد الوجوب بتجدد ملك الزاد والراحلة ولا يضاف إليهما فصار تأويل الآية - والله أعلم - ( { ولله على الناس } المستطيعين { حج البيت } حقا واجبا بسببه إذا جاء وقت الأداء.
__________
(1) معنى هذه العبارة: أن الوقت شرط يجب عنده أداء فريضة الحج ، كما أن المسافر إذا أقام من سفره فيجب عليه قضاء ما أفطره أثناء هذا السفر. اهـ.
(2) أي : في وقت الحج ، وهو شهر شوال ، وذو القعدة ، وعشر ذى الحجة.
(3) الضمير راجع إلى الاستطاعة ؛ لأن سياق الكلام يدل على ذلك .
(4) لقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ } المائدة:6 .
(5) وهو البيت
(5) هذا إيراد قدًر القاضى أبو زيد الدبوسى وقوعه .(4/93)
فإن قيل: (1)(إنّ وقت الحج أشهر الحج، وهو شوال إلى العاشر من ذي الحجة، والأداء غير جائز لأول شوال فكيف يقال: إنه(2) شرط الأداء؟ وَعُلِمَ أنه سبب الوجوب. قلنا: (3)(قد ذكرنا أن امتناع جواز الأداء شرعاً في وقت يدل على أنه ليس بسبب لوجوب، ثم الجواب: أن الأداء جائز في الوقت كله فإن من أحرم بالحج في رمضان وطاف بالبيت وسعى فيه، ثم طاف طواف الزيادة فعليه أن يعيد السعي؛ لأنه كان قبل الوقت، ولو طاف وسعى في شوال لم يكن عليه الإعادة؛؛ لأنه كان في وقته إلا أن للحج أركانا أُُخر، ولكل ركن وقت على حدة، فلم يجز قبل وقته الخاص، كما لا يجوز طواف الزيارة يوم عرفة، وهو وقت أداء الركن الأعظم، ولا يجوز رمى اليوم الثاني في اليوم الأول، ولا قبل الزوال، والسعي واجب غير مؤقت بوقت خاص فَيُؤدًى في جميع الحج(4). إلى هنا لفظ التقويم(5).
ص:قوله: وسبب وجوب العشر الأرض النامية(6)
__________
(1) الضمير عائد إلى وقت الحج
(2) هذا جواب عن الإيراد الذي سبق ذكره قبل قليل
(4) تنظر هذه الأحكام في : الهداية :2/87 ، 96 ، 97 ، بدائع الصنائع :2/127،133 ، الكا في شرح أصول البزدوي :3/1231 ، 1232 ، كشف الأسرار للبخارى :2/510 ، 511.
(5) تقويم الأدلة للقاضى أبى زيد الدبوسى :ص64
(6) ذهب عامة الحنفية إلى أن سبب وجوب العشر والخراج هو الأرض النامية ، إلا أنها سبب للعشر بالنماء الحقيقي ، وللخراج بالنماء التقديرى ، وهو التمكن من الزراعة والانتفاع بها؛ وذلك ؛ لأن العشر مقدر بجنس الخارج فلابد من وجوده حقيقة ، فإذا لم يتحقق الخارج من الأرض لم يجب العشر ، وأمًا الخراج فهو مقدر بالدراهم فيك في فيه النماء التقديري أو الحكمي ، وهذا في الخراج الموظف ، أما خراج المقاسمة فيتعلق بالخارج من الأرض كالعشر.
- وعند الشافعية: الخارج من الأرض سبب لوجوب العشر ، والأرض سبب وجوب الخراج ، حتى إنهما يجتمعان في أرض واحدة إن كانت الأرض خراجية ؛ لأن العشر يتعلق بالخارج من الأرض ، ويتكرر بتكرره ولهذا لا يجوز تعجيله ، ولو كانت الأرض هي السبب - أي : كما يقول الحنفية - لجاز تعجيله كالخراج والزكاة قبل الحول.
أصول السرخسي :1/8، الهداية 2/33 - 35 ، نهاية الوصول إلى علم الأصول :1/194 ، كشف الأسرار للنسفي:1/478 ،479 كشف الأسرار للبخارى :2/511،التلويح على التوضيح :2/298 ، 299 المهذب للشيرازى :1/213، التعريفات: 132.(4/94)
بحقيقة الخارج / ؛ لأن العشر ينسب إلى الأرض، و في العشر معنى مؤنة الأرض،؛ لأنها أصل وفيه معنى العبادة؛ لأن الخارج للسبب وصف، وصار السبب بتجدد وصفه متجددا في التقدير (1) فلم يجز التعجيل قبل الخارج؛ لأن الخارج بمعنى السبب لو صف العبادة، فلو صح التعجيل لخلص معنى المؤونة.
ش: اعلم أن سبب العشر الأرضُ بصفة نمائها بالخارج حقيقة وإنما قلنا: (2)إن السبب هو الأرض بدليل الإضافة، حيث يقال: عشر الأرض، وإنما قلنا: إنه يتعلق بالخارج حقيقة؛ لأنه إذا لم يخرج شئ أصلا بعد الزراعة لا يجب شئ من العشر أصلا مع إمكان أدائه من مال آخر، ثم في العُشر معنى المؤونة، ومعنى العبادة، ومع العبادة فيه أصل، وهذا معنى قوله: لأنها أصل.
__________
(1) هذا جواب عن استدلال الشافعية بأن تكرر الواجب - أي : تكرر وجوب العشر - عند تكرر الخارج. كشف الأسرار للبخارى :2/512
(2) الضمير راجع على الحنفية(4/95)
أما معنى المؤونة(1): فما يكون سبب بقاء الشيء والعشر بهذه المثابة(2)؛ لأن العشر إذا أخرج وصرف إلى فقراء المسلمين فهم يدعون الله تعالى بالنصرة لغزاة المسلمين، فينصرون ببركة دعائهم على ما روى عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أنه قال("إنكم تنصرون بضعفائكم"(3) فتبقي أراضى أهل الا سلام في أيدى أربابها سالمة فثبت أن العشر سبب بقاء الأرض.
__________
(1) أي : معنى المؤونة في العشر .
(2) قال صاحب الكشف: "و في العشر معنى المؤونة ... ؛ لأن الله تعالى حكم ببقاء العالم إلى الحين الموعود ، وسبب بقائه هو الأرض؛ فإن القوت منها يخرج ، فوجب العُشر والخراج عمارة لها ونفقة عليها ، كما وجب على الملاك مؤنة عبيدهم ودوابهم ، وعمارة دورهم. وعمارة الأراضي وبقاؤها يكون بجماعة المسلمين؛ لأنهم يذبوّن على الدار ويصونونها عن الأعداء ، فوجب الخراج للمقاتلة كفاية لهم ليتمكنوا من إقامة النصرة، ووجب العشر للمحتاجين كفاية لهم ؛ لأنهم هم الذابّون عن حريم الإسلام".كشف الأسرار للبخارى :2/512.
(3) هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري ولفظه: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ؟ . كتاب الجهاد ، باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب :3/1061 ، ورواه الإمام الترمذى بنحوه - كتاب الجهاد - باب ما جاء في الاستفتاح بصعاليك المسلمين :4/206 قال الإمام الترمذى: حديث حسن صحيح.(4/96)
وأمّا معنى العبادة: فلان العشر تقرب إلى الله تعالى وتعظيما إياه، ألا ترى أن فيه امتثالا لآمر الشارع قال تعالى { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } (1) وقال عليه - الصلاة والسلام -: "ما أخرجته الأرض ففيه العشر"(2)
__________
(1) سورة الأنعام: :141 والآية بكاملها { وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [سورة الأنعام 141]
(2) هذا النص لم أجده بهذا اللفظ ، لكن ما وجد في البخاري قريبا منه ، وهو من طريق ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله : قال: "فيما سقت السماء والعيون ، أو كان عثريا العشر ، وفيما سقي بالنصح نصف العشر" صحيح البخاري :2/540 - كتاب الزكاة - باب العشر فيما يسقي من ماء السماء ، ورواه الترمذى :3/31 - كتاب الزكاة - باب ما جاء في الصدقة فيما يسقي بالأنهار وغيره.(4/97)
ولهذا كان مصرفه مصرف الزكاة، ودليل آخر/ لوجود معنى العبادة في العشر، أن العشر يتعلق بالخارج، والخارج وصف للسبب الذي هو الأرض؛؛ لأن النماء في الأرض لا يكون إلاّ بالخروج فكان النماء مُعملاً للعلة. فلما تعلق العشر بالخارج وهو وصف للسبب أشبه الزكاة؛؛ لأنها تتعلق بالنامي وهو قليل من كثير، فكذا العشر يتعلق بحقيقة الخارج وهو قليل من كثير، وصار السبب وهو الأرض بتجدد وصفها، وهو الخارج كالمجتهد بنفسه تقديرا كما قلنا في الزكاة إن المال بتجدد وصفه، وهو النماء بتكرار الحول كالمتجدد بنفسه، فلما كانت الأرض سببا بوصف النماء بالخارج حقيقة لم يجز تعجيل العشر قبل وجود الخارج لئلا يلزم تقديم المسبًب على السبب(1)؛ و؛ لأن في العشر معنى العبادة لما قلنا(إنه تقرب إلى الله تعالى وإنه قليل من كثير، وأن مصرفه مصرف الزكاة(2)، فلو جاز العشر قبل الخارج كان العشر مؤنة محضة، وليس كذلك(3).
وهذا معنى قوله؛ لأن الخارج بمعنى السبب، لوصف العبادة فلو صِحً التعجيل لخلص معنى المؤونة(4) فافهم.
__________
(1) ينظر هذا الكلام في : كشف الأسرار للعبد العزيز البخاري :2/513 ، جامع الأسرار للكاكى :2/621.
(2) أي : أن الوجوه التى يصرف فيها العشر هي نفس مصارف الزكاة و هي المذكورة تحديدا في قوله تعالى: : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والغارمين و في سبيل وابن فريضة من الله والله عليم حكيم } : التوبة :60
(3) أي : ليس العشر مؤنة محضة ؛ لأن فيه معنى العبادة ، وقد مرً منذ قليل .
(4) المراد بهذا النص: أن الخارج لما جُعل بمعنى السبب ، لوصف العبادة في العشر ، كان التعجيل قبل الخارج مفوتاً لمعنى العبادة عنه ومبطلا له؛ لاستحاله حصول المسبًب قبل السبب، وإذا بطل معنى العبادة عنه بقي مؤونة خالصة متعلقة بالأرض وحدها ، وهذا تغيير له فلا يجوز ، ويصير تعجيل العشر قبل الخارج كتعجيل الزكاة في الإبل الحوامل قبل الإسامة كشف الأسرار للبخارى :2/513(4/98)
ص: قوله: وكذلك سبب الخراج(1) إلا أنً النماء معتبر في الخراج تقديرا لا تحقيقا(2) بالتمكن من الزراعة، فصار مؤنة باعتبار الأرض(3) وعقوبة باعتبار الوصف(4)؛ لأن عمارة الدنيا وإعراض عن الجهاد فكان سبباً لضرب من المذلة.
ش: أي: الأرض سبب في وجوب الخراج، كما أنها سبب/ وجوب العشر بدليل الإضافة أيضا؛ لأنه يقال: خراج الأرض كما يقال: عشر الأرض؛ إلا أن النماء في الخراج تقديرا بالتمكن من الزراعة فلا يجب الخراج إلا بسلامة الخارج تحقيقا أو تقديراً، حتى إذا لم يتمكن من الزراعة أصلاً، بأن كانت الأرض نزّا(5)، أو زرع ولم ينبت أصلاً لا يجب الخراج ؛ لأنه يسلم الخارج لا حقيقة ولا تقديراً، بخلاف ما إذا تمكن ولم يزرع حيث يجب الخراج لسلامة الخارج تقديراً(6).
__________
(1) سبق بيان معنى النماء تقديرا وتحقيقا عند الكلام على سبب وجوب العشر ص.
(2) أي : "وكذلك سبب الخراج" الأرض النامية ، وقد مر منذ قليل تحقيق ذلك عند الكلام على سبب وجوب العشر.
(3) أي : باعتبار تعلقه بأصل الأرض كما تبين في العشر.
(4) وهو التمكن من الزراعة والانتفاع بها. وسيأتي تحقيق ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
(5) النز بفتح النون وكسرها ما يتحلب من الأرض من الماء، ويقال أنزت الأرض أى: صارت ذات نز. مختار الصحاح : 654 .
(6) أصول السرخسي :1/108 ، بائع الصنائع للكاسانى :2/54 ، الهداية للميرغينانى :2/34 ، كشف الأسرار للنسفي :1/479 حاشية نسمات الأسحار لابن عابدين : ص174، 175(4/99)
بخلاف العشر، فإنه يتعلق بالخارج حقيقة ، وهذا لأن الواجب في الخراج من جنس الخراج، فأمكن إيجابه ، وإن لم يوجد الخارج حقيقة ، فاعتبر الخارج تقديرا، بخلاف العشر فإنه معلق بالخارج حقيقة لا غير؛ لأن الواجب عشر الخارج، وعشر الخارج بدون الخارج محال، فصار الخراج مؤنة بالنظر إلى أصل الأرض؛ لأنه سبب بقائها حيث يصرف الخراج إلى الغزاة المقاتلة الذابّين عن بيضة الإسلام فيقاتلون الكفار ويذبّونهم عن ديار المسلمين بقوة الخراج فتبقي الأراضى سالمة في أيدي أربابها بسبب الخراج، وعقوبة بالنظر وصف الأرض وهو الزراعة؛ لأنها ذلة(1)، لما روى أبو داود (2) في السنن بإسناده إلى عطاء الخراساني(3) أن نافعا حدثه عن ابن عمر قال سمعت رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -
يقول: "إذا تبايعتم بالعينة(4)
__________
(1) لأن الاشتغال بالزراعة عمارة للدنيا، وإعراض عن الجهاد، فيصلح سببا للمذلة التي هي نوع من العقوبة؛ ولأن عمارة الأرض من صنيع الكفار وعاداتهم وقد ذمهم الله تعالى بذلك في قوله تعالى " وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها" الروم: 9 .
(2) سليمان بن الأشعث الأزدي صاحب السنن، قال عنه ابن حبان: كان أبو داود أحد أئمة الدنيا فقها، توفي - رحمه الله- سنة 275هـ .الثقات لابن حبان: 8/282.
(3) عطاء بن أبي مسلم الخراساني ، صدوق ، قال عنه ابن معين ثقة صدوق، توفي - رحمه الله - سنة 135هـ . تقريب التهذيب لابن حجر: 2/26.
(4) العينة: هي بيع سلعة بثمن مؤجل معلوم ثم يعود فيشتريها من المشترى بأنقص منه حالاً. وقد ذهب الجمهور إلى عدم جواز بيع العينة ، لما فيه من تفويت مقصد الشارع من المنع عن الربا ، وأيضا في منعه سد الذرائع. وقد نقل عن الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - القول بجوازه.
قرآن كريم قلت: لعل قصد الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - من القول بالجواز في هذا البيع إذا لم يكن عود المبيع مشروطا للبائع عند العقد ، أو يكون ذلك مضمرا غير مشروط ؛ لأن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يجرى مجرى العموم في المقال .
المجموع للنووى :10/143 ، نصب الراية للزيلعي :4/468،سبل السلام للصنعانى :3/53 - 55 ، نيل الأوطار للشوكانى :5/234(4/100)
وأخذتم أذناب(1) البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط/ الله عليكم ذلاً يتزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"(2).
وروى البخاري في الصحيح في أول كتاب الحرث بإسناده إلى أبى أمامة الباهلي(3) ور أي سِكَّة(4) وشيئا من آلة الحرث فقال: سمعت رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يقول: "لا يدخل هذا بيت قوم إلا ّذُلواُ " إلى هنا لفظ الصحيح(5)، و في الذل بعض العقوبة.
__________
(1) وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "وأخذتم أذناب البقر" كناية عن الاشتغال عن الجهاد بالحرث والرضا بالزرع ، وصرف الهمم عن معالى الأمور. سبل السلام:3/55
(2) أخرجه أبو داود في السنن :3/ 74 - كتاب الإجارة - ياب في النهي عن بالعينة ، والبيهقي في السنن الكبرى :5/316 - كتاب البيوع - باب كراهية التبايع بالعتبة وقال ابن حجر - رحمه الله تعالى - في الدراية :2/151:" في سنده ضعف لكن له عذر الإمام أحمد إسنادا أجود وأمثل منه".
(3) هو صُدَىْ بن عجلان أبو أمامة الباهلى ، صاحبى مشهور ، سكن الشام ومات بها - رضى الله عنه - سنة ست وثمانين من الهجرة.
ينظر ترجمته في : صفة الصفوة :1/305 ، 306 ، تقريب التهذيب :1/350
(4) السَّكّة: هي الحديدة الذي تحُرث بها الأرض. مختار الصحاح: 307.
(5) صحيح البخاري :2/817 - كتاب المزارعة - باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع ومجاوزة الحد الذي أُمر به ، والطبرانى في المعجم الأوسط :8/376 برقم :8921. =
=* والجمع بين هذين الحديثين أعنى الحديثين اللذين ورد فيهما ذم الاشتغال بالزرع وبين الحديث الذي جاء في فضل الزرع ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "ما مسلم يغرس غرساً ، ويزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة. إلا كان له به صدقه"
أن الذم محله إذا اشتغل الإنسان بالحرث والزرع وجاوز الحد في ذلك. وأدى به هذا الاشتغال إلى تعطيل الفرائض خاصة فرض الجهاد ، وإلا يكن ذلك ، فهو من مقاصد الشريعة التي من أجلها جاءت.(4/101)
والدليل على أن العشر والخراج يتعلقان بالخارج حقيقة أو تقديرا أنهما يسقطان إذا اصطلم الزرع آفة، والكلام في العشر والخراج مرّ مرة قُبيل باب تقسيم المأمور به في حكم الوقت(1)، وسيجيء إن شاء الله تعالى في باب معرفة أقسام الأسباب، والعلل، والشروط.
ص: قوله: ولذلك لم يجتمعا عندنا.
__________
(1) قال فخر الإسلام البزدوي رحمه الله تعالى: "وعلى هذا الأصل يخرَّج سقوط العُشر بهلاك الخارج ... وكذلك الخراج يسقط إذا اصطلم الزرع آفة". ينظر الكافي: شرح أصول البزدوي ، قٌبيل باب تقسيم المأمور به في حكم الوقت :1/506 ، 507 ، ولسائل أن يسأل: الإحالة في العشر والخراج كانت فيما سبق إلى كتاب الشامل ، فما السر في التوثيق من كتاب الكافي ؟
- قلت : كان التوثيق من الكافي لسببين: أحدهما: أن ما أحال إليه الشارح - رحمه الله تعالى - إنما هو في الأجزاء المفقودة من كتاب الشامل.
الثاني : أن الشارح رحمه الله تعالى - اعتمد في تأليف كتابه الشامل على الكافي، لحسام الدين السغناقي، وغيره من شروح أصول البزدوي لكن الكافي أكثرهم.(4/102)
ش: أي:. ولأجل أن في العشر معنى العبادة، و في الخراج معنى العقوبة لم يجتمعا العشر والخراج في وظيفة واحدة(1) لمنافاة بين العبادة والعقوبة خلافا للشافعى(2)
__________
(1) ذهب أكثر الحنفية إلى أن العشر والخراج لا يجتمعان في أرض واحدة ؛ لأن في كليهما معنى المؤونة ، و في العشر معنى العبادة ، و في الخراج معنى المذلة والعقوبة، وبسبب واحد لا يجب حكمان مختلفان. ولما رواه ابن مسعود - رضى الله عنه - مرفوعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"لا يجتمع العشر والخراج في أرض رجل مسلم" سيأتي تخريجه ص:254. يراجع رأي الحنفية في: المبسوط للسرخسى :2/207 ، بدائع الصنائع للكاسانى :2/57 ، الاختيار لتعليل= =المختار للموصلي :1/ 162. كشف الأسرار للنسفي :1/ 479 ، كشف الأسرار للبخارى :2/5143.
(2) قد خالف الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - ما ذهب إليه أكثر الحنفية ، وقال: بأداء العشر من الخارج من الأرض الخراجية مع الخراج. وقد قال بإجتماع العشر والخراج في أرض واحدة من الحنفية ابن أبي ليلى - رحمه الله تعالى -
واستدلا على ما ذهبا إليه بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "فيما سقت السماء والعيوب .. ففيه العشر.." الحديث سبق تخريجه قبيل قليل؛ ولأن العشر مع الخراج حقان اختلفا محلا ومستحقا وسببا ، ووجوب أحدهما لا ينفي وجوب الآخر.
الأم للشافعى :7/151 ، المبسوط للسرخسي :2/207 ، 208.
* قلت: الراجح في هذه المسألة - والله أعلم - هو ما ذهب إليه الإمام الشافعي وابن أبى ليلى - رحمهما الله تعالى - لسببين:
*أحدهما: أن النص الذي استدل به الحنفية لا يقوى على الاحتجاج ؛ لأن من العلماء مَنْ حكم ببطلانه وستأتى أقوالهم - إن شاء الله تعالى - فيه بعد قليل.
*الثاني : أنه لا مانع من اجتماع العشر والخراج في أرض واحدة ، كوجوب العشر في الأرض المستأجرة ، فوجوب الأجرة لا ينفي وجوب العشر في الخارج ، وكالحانوت المكترى للتجارة ؛ لأنهما حقان اختلف سببهما فوجبا.
أسنى المطالب للشيخ زكريا الأنصارى :1/369(4/103)
- رحمه الله تعالى - والأصل في ذلك ما روى أبو حنيفة - - رضي الله عنه - في مسنده عن حماد(1) عن إبراهيم(2) عن علقمة(3) عن عبد الله بن مسعود(4) - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -: "لا يجمُع على مسلم عشر وخراج في أرض"(5) و لأن السواد(6) فتح، ولم ينقل عن أحد من أئمة العدل، وولاة الجور أنهم أخذوا العشر والخراج جميعا في أرض واحدة، فمن جمع بينهما فقد خالف/ الإجماع(7)
__________
(1) هو حماد بن أبى سليمان أبو إسماعيل بن مسلم الكوفي . فقيه العراق ، وشيخ أبى حنيفة - رضى الله تعالى عنهما - روى عن أنس بن مالك ، وتفقه على إبراهيم النخعى رحمه الله تعالى - توفي سنة عشرين ومائة من الهجرة. سير أعلام النبلاء :5/231 وما بعدها ، طبقات الحنفية :1/547
(2) هو إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعى الكوفي الفقيه ، الثقة ، كان قليل التكلف. مات - رضي الله عنه - مختفيا من الحجاج سنة 96هـ .تقريب التهذيب لابن حجر :1/60 ، الأعلام للزركلى :1/80.
(3) هو علقمة بن قيس النخعى الكوفي فقيه ثبت ثقة عابد ، صاحب ابن مسعود ، وكان يشبهه في هديه. توفي سنة :62هـ ، وقيل غير ذلك.العبر في خبر من غبر :1/66 .
(4) هو عبد الله بن مسعود بن غافل ، من أكابر الصحابة ، سكن الكوفة ، ومات بالمدينة سنة 32هـ. الثقات لابن حبان :3/208 ، تقريب التهذيب :1/422.
(5) رواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى :4/132 وقال: هذا حديث باطل وصله ورفعه ؛ لأن فيه يحيى بن عنبسة وهو متهم بالوضع وقال عنه الإمام النووى - رحمه الله تعالى - في المجموع :2/480: حديث باطل مجمع على ضعفه. وقال ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في الفتاوى الكبرى : 5/ 105 حديث مكذوب باتفاق أهل الحديث.
(6) أي أرض العراق التي فتحت في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، ويقال سواد البصرة والكوفة أي قراهما . مختار الصحاح:320 مادة س و د .
(7) هذا الكلام من الشارح يوهم أن من قال: باجتماع العشر والخراج في أرض واحدة فقد خالف الإجماع العام الذي هو حجة قطعية ، والحق ليس كذلك ؛ لأن الإجماع العام يحتاج إلى مستند ، ومستند الحنفية في دعواهم ضعيف كما تبين منذ قليل(4/104)
، وقد مر هذا في كتاب السير من غاية البيان(1).
وهذا بيان كلام الشيخ (2) فى العشر والخراج، و في كلامه نوع خفاء قد شرحناه.
وكلام شمس الأئمة السرخسي أبين وأحسن فقال في أصوله: وسبب وجوب العشر الأرض النامية باعتبار حقيقة النماء، وسبب وجوب الخراج [الأرض](3) النامية باعتبار التمكن من طلب النماء بالزراعة؛ ولهذا لو اصطلم الزرع آفة لم يجب العشر ولا الخراج؛ ولهذا لم يجتمع العشر والخراج بسبب أرض واحدة بحال؛ لأن كل واحد منهما مؤنة الأرض النامية، إلاّ أن في العشر الواجب جزء من النماء فلابد من حصول النماء لنثبت حكم الوجوب في محله بسببه؛ ولهذا كان في العشر معنى المؤونة
ومعنى العبادة. فباعتبار أصل الأرض فهو مؤنة؛ لأن تملك الأرض سبب لوجوب مؤنة شرعا.
وباعتبار كون الواجب جزءا من النماء فيه معنى العبادة بمنزلة الزكاة و في الخراج معنى المؤونة باعتبار أصل الأرض، ومعنى المذلة باعتبار التمكن من طلب النماء بالزراعة، فالاشتغال بالزراعة مع الإعراض عن الجهاد سبب للمذلة؛ على ما روُى أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ر أي شيئا من آلات الزراعة في دار، فقال: "ما دخل هذا في دار قوم إلاَّ ذُلو ا"،/ ولهذا يتكرر وجوب العشر بتجدد لتجدد الوصف وهو النماء ولا يتكرر وجوب الخراج في حول واحد بحال؛ ولهذا جاز تعجيل الخراج قبل الزراعة(4)
__________
(1) بالرجوع إلى مخطوط "غاية البيان" تبين أن الإحالة إلى كتاب السير في الأجزاء المفقودة سواء في النسخة الموجودة بدار الكتب المصرية ، أو في مكتبة الأزهر الشريف.
(2) أي : فخر الإسلام البزدوي- رحمه الله تعالى - .
(3) ساقطة من الصلب في :د ومثبتة في الهامش ، ومثبتة في الصلب في : ت
(4) لأن النماء معتبر فيه تقديراً لا تحقيقا ، والواجب فيه من غير جنس الخارج ، فصار مؤنة باعتبار الأصل ، وعقوبة باعتبار الوصف وهو التمكن من الزراعة. ا هـ.
كشف الأسرار للبخارى :2/512 ، 513 ، جامع الأسرار للكاكى :2/621.(4/105)
ولم يجز تعجيل العشر؛ لأن، الأرض / باعتبار حقيقة النماء توجب العشر وذلك لا يتحقق قبل الزراعة(1).
ولهذا أوجب أبو حنيفة العشر في قليل الخارج وكثيرة(2)، و في كل ما يُستَنبتْ في الأرض ممّا له ثمرة باقية، وما ليست له ثمرة باقية سواء؛ لأن الوجوب
__________
(1) لأن العشر مقدر بجزء من الخارج فلا يمكن اداؤه إلا بعد تحقق هذا الخارج ، و لأن الله - عز وجل - قال { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } سورة الأنعام ، آية :141
(2) ذهب أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - : إلى أن العشر يجب في قليل ما أخرجته الأرض وكثيره ، سواء سُقي سيحاً أو سقته السماء ، إلا القصب الفارسى والحطب والحشيش. وقال الصاحبان - رحمهما الله تعالى - لا يجب العشر إلا فيما له ثمرة باقية بشرط أن يبلغ هذا الخارج خمسة أوسق ، والوسق ستون صاعا بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وليس في الخضروات عندهما عشر ، وعند أبى حنيفة - رحمه الله تعالى - يجب .
- واستدل - رضي الله عنه - بعموم قوله{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } سورة البقرة:267،= =وبعموم قوله عليه الصلاة والسلام: " فيما سقت السماء والعيوب أو كان عثريا العشر ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر" سبق تخريجه 248. ... ... ... ... ... ...
يراجع مذهب الحنفية في زكاة الزروع والثمار في :الأصل لمحمد بن الحسن الشيبانى :2/135 ،المبسوط للسرخسى :2/199 وما بعدها ، الهداية للميرغينانى :2/33 وما بعدها ، بدائع الصنائع للكاسانى :2/53 ، 60 ، والاختيار لتعليل المختار للموصلي :1/160 - 163.(4/106)
باعتبار صفة النماء، ولا معتبر بصفة الغنى فيمن يجب عليه اعتبار النصاب لأجله. إلى هنا لفظ شمس الأئمة(1) رحمه الله تعالى.
ثم أعلم أن الخراج إنما يتعلق بالخارج تقديرا لا حقيقة في الخراج الموظف(2) لا في خراج المقاسمة(3)؛ لأن في خراج المقاسمة يتعلق الخراج أيضا بحقيقة الخارج.
كما في العشر، وبه صرح صدر الإسلام في أصوله(4) وقد مرّ في آخر باب بيان صفة الحُسْن للمأمور به(5).
ص: قوله: وسبب وجوب الطهارة الصلاة؛ لأنها تنسَبُ إليها وتقوم بها، و هي شرطها، فتعلق بها، حتى لم تجب قصدا لكن عند إرادة الصلاة والحدث(6)
__________
(1) أصول السرخسي :1/108.
(2) الخراج الموظف: هو الوظيفة المعينة التى توضع على أرض ، كما وضع سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على سواد العراق ، فقد وظف - رضي الله عنه - حذيفة بن اليمان ، وعثمان بن حنيف - رضى الله تعالى عنهما - على شط الفرات ودجلة.
الخراج لأبى يوسف :ص51 ، 52 ، التعريفات للجرجاني :ص132
(3) خراج المقاسمة: هو ما يفرض على الخارج من الأرض ، كربع الخارج أو نصفه ، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع يهود خيبر حين أقرهم على بقاء الأرض في أيديهم ، وأخذ نصف الخارج منها. التعريفات :ص132 ، حاشية نسمات الأسحار :ص175.
(4) بعد البحث ، وفيما اطلعت عليه من مراجع أصول الحنفية لم أقف عليه.
(5) نظرا؛ لأن هذا الباب في الأجزاء المفقودة من كتاب الشامل لشارحنا فيمكن الرجوع إلى كتاب الكافي لحسام الدين السغناقي :1/506 - 509.
(6) الحدث في الشرع: هو أمر اعتباري يقوم بالأعضاء يمنع من صحة الصلاة حيث لا مرخص.
* وهو نوعان: حدث أصغر ، وهو ما نقض الوضوء.
وحدث أكبر: وهو ما أوجب الغسل من جماع ، أو إنزال ، أو نزول دم الحيض والنفاس. الإقناع في حل ألفاظ أبى شجاع :1/21، التعريفات للجرجاني :112،التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي : 269.(4/107)
شرطه. بمنزلة سائر شروط الصلاة ومن المحال أن يُجعل الحدث سببا. ألاترى أنه إزالة له وتبديل فلا يَصْلح سببا له(1)
ش: أي: وسبب وجوب الطهارة الصلاة(2) بدليل الإضافة؛ لأنه يقال(طهارة الصلاة، والإضافة دليل السببية، وهذا معنى قوله: ( لأنها تنسب إليها) يعنى تنسب
الطهارة إلى الصلاة وتقوم بها؛؛ لأن وجوب الطهارة بوجوب الصلاة، وسقوطها بسقوط الصلاة.
والطهارة شرط صحة الصلاة(3)، فلمَّا كانت شرطاً للصلاة كانت تباعاً لها؛ لأن شرط الشيء تبع له، فلمَّا كانت تبعاً للصلاة عُلِّق وجوبها بوجوب الصلاة فلم تجب الطهارة قصداً ابتداء، لكن وجبت/ الطهارة عند إرادة الصلاة(4) بشرط أن يكون مُريدَ الصلاة مُحدِثاً.
__________
(1) قال الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله تعالى - في أصوله: "فأما الحدث فهو شرط وجوب الأداء بالأمر - وهو قوله تعالى: :فاغسلوا وجوهكم: الآية :6 من سورة المائدة- لا أن يكون سببا لوجوب ، وكيف يكون سببا للوجوب وهو ناقض للطهارة ؟ فما يكون مزيلا للشىء رافعا له لا يصلح سببا لوجوبه ، ولهذا جاز الأداء بدونه - أي: جاز أداء الوضوء بدون الحدث- وكان الوضوء على الوضوء نورا على نور. اهـ أصول السرخسي :1/106
(2) تقدّم الكلام عن سبب وجوب الطهارة وخلاف الفقهاء فيه ص من الرسالة.
(3) ينظر تقويم الأدلة للقاضي أبى زيد الدبوسي : 65 ، المبسوط للسرخسي:1/108 ، بدائع الصنائع للكاساني :1/114 ، الهداية للميرغينانى :1/273 ، الكافي شرح أصول البزدوي :3/1236 ، نهاية الوصول إلى علم الأصول لابن الساعاتي :1/194
(4) لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } الآية :6 من سورة المائدة.(4/108)
وهذا معنى قوله: لكن عند إرادة الصلاة والحدث شرطه(1)
وقوله(2): بمنزلة سائر الشروط متعلِّق بقوله (فتُعلِّق بها حتى لم تجب قصداً يعنى أنَّ الطهارة تتعلق بالصلاة فلا تجب بدون وجوب الصلاة، بمنزلة سائر الشروط، حيث لا يجب الشرط إلا بوجوب المشروط؛ كاستقبال القبلة، وطهارة البدن والثوب، وستر العورة، كل ذلك شرط للصلاة، فيجب بوجوبها، ولا يستقيم وهذا معنى قوله (لكن عند إرادة الصلاة والحدث شرطه(3)
وقوله(4): بمنزلة سائر الشروط متعلِّق بقوله (فتُعلِّق بها حتى لم تجب قصداً يعنى أنَّ الطهارة تتعلق بالصلاة فلا تجب بدون وجوب الصلاة، بمنزلة سائر الشروط، حيث لا يجب الشرط إلا بوجوب المشروط؛ كاستقبال القبلة، وطهارة البدن والثوب، وستر العورة، كل ذلك شرط للصلاة، فيجب بوجوبها، ولا يستقيم أن يجعل الحدثُ سببا؛ لأن الحدث رافعُ للطهارة مزيل لها ومزيل الشيء لا يكون سبباً له، لمنافاة بين وجود الشيء وزواله(5).
أن يجعل الحدثُ سببا؛ لأن الحدث رافعُ للطهارة مزيل لها ومزيل الشيء لا يكون سبباً له، لمنافاة بين وجود الشيء وزواله(6).
__________
(1) أي:أن الحدث شرط لوجوب الطهارة لا سبب لها ، لزوالها به ، فما كان مزيلا للشيء رافعا له لا يصلح سببا لوجوبه.
(2) الضمير راجع إلى المصنف فخر الإسلام البزدوي رحمه الله تعالى.
(3) أي :أن الحدث شرط لوجوب الطهارة لا سبب لها ، لزوالها به ، فما كان مزيلا للشيء رافعا له لا يصلح سببا لوجوبه.
(4) الضمير راجع إلى المصنف فخر الإسلام البزدوي رحمه الله تعالى.
(5) ينظر هذا الكلام في : أصول السرخسي :1/108،كشف الاسرار للنسفي :1/ 480 ، كشف الأسرار للبخاري :2/514 ، 515.
(6) ينظر هذا الكلام في : أصول السرخسي :1/108،كشف الاسرار للنسفي :1/ 480 ، كشف الأسرار للبخارى :2/514 ، 515.(4/109)
وهذا الذي ذكرناه(1) هو مقتضى كلام الشيخ(2)، وفيه جد ثقيل؛ لأن لقائلٍ أن يقول: كلامُنا في أنَّ الحدث سبب لوجوب الطهارة لا لوجودها، والمنافاة في الوجود، لا في الوجوب.
وقال شمس الأئمة السرخسي (3)وسبب وجوب الطهارة الصلاة فإنها تضاف إليها شرعاً فيقال: تطهرْ للصلاة، فأما الحدث فهو شرط وجوب الأداء بالأمر وهو قوله تعالى( { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } (4) لا أن تكون سبباً للوجوب، وكيف يكون سببا [للوجوب](5) وهو ناقض للطهارة، فما كان مزيلاً للشيء رافعاً له لا يصلح سبباً لوجوبه، ولهذا جاز الأداء بدونه(6)، وكان الوضوء على وضوء، نور على نور.
__________
(1) الضمير عائد على الشارح أمير كاتب رحمه الله تعالى.
(2) أي : فخر الإسلام البزدوي رحمه الله تعالى.
(3) الغرض من ذكر قول شمس الأئمة السرخسي هنا تعضيض ما ذهب إليه الحنفية ، وهو أن سبب وجوب الطهارة الصلاة لا الحدث.
(4) سورة المائدة والآية بكاملها { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
(5) ساقطة من ( د ، ت )، ومثبتة في أصول السرخسي المطبوع.
(6) أي : جاز أداء الوضوء بدون الحدث.(4/110)
ولا يجب الأداء مع تحقُق الحدث بدون وجوب الصلاة، فإنَّ الجنب إذا حاضت لا يجب عليها الاغتسال ما لم تطهُرْ؛ لأنه ليس عليها وجوب الصلاة. وبهذا تبين أن الطهارة
ليست بعبادة مقصودة، ولكنها شرط الصلاة، وما يكون شرطا للشىء يتعلّق به صحته، [فوجوبه](1) / بوجوب الأصل، بمنزلة استقبال القبلة، فإنَّ وجوبه بوجوب الصلاة، والشهود في باب النكاح ثبوتها بثبوت النكاح، لكون الشهود شرطا في النكاح(2) إلى هنا لفظ شمس الأئمة(3) رحمه الله تعالى.
ثم اعلم: أنَّ في سبب وجوب الطهارة اختلافا.
فقيل(4): سببه القيام إلى الصلاة، لقوله تعالى: { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } (5) الآية.
وقيل(6)
__________
(1) كذا في أصول السرخسي المطبوع ، و في " د ، ت " ووجوبه.
(2) قال صاحب الهداية: "اعلم أن الشهادة شرط في باب النكاح" ، وقال ابن رشد: "اتفق أبو حنيفة و الشافعي ومالك على أن الشهادة من شرط النكاح." الهداية للميرغينانى :2/159 ، بداية المجتهد لابن رشد :2/1267 .
(3) أصول السرخسي :1/106 .
(4) هذا قول الظاهرية. المحلى بالآثار لابن حزم: 1/90 وما بعدها .
(5) سورة المائدة آية : 6 ، وقد تقدم منذ قليل تكملتها .
(6) هذا القول لم أقف على قائله ، إلا أن الإمام عبد العزيز البخاري - رحمه الله تعالى - ذكر الخلاف في هذه المسألة ، ولم يصرح بمن قال: بأن سبب وجوب الطهارة الحدث ، وقال شمس الأئمة السرخسي - رحمه الله تعالى - : والحدث مضمر في الكتاب ، ومعنى قوله تعالى:إذا قمتم إلى الصلاة، أي : من منامكم أو وأنتم محدثون ، وهذا هو المذهب عند جمهور الفقهاء رحمهم الله تعالى" اهـ
المبسوط للسرخسى:1/5 ، كشف الأسرار للبخارى :2/514(4/111)
: الحدث؛ للدوران (1)وجوداً، وعدما.
وعندنا(2): الصلاة؛ لإضافتها إليها على ما بينا.
فالأول(3) فاسد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - - صلي خمس صلوات بوضوء واحد، فلو كان القيام يوجب الوضوء لم يفعل كذلك.
__________
(1) الدوران: هو أن يوجد الحكم عند وجود الوصف - أي : العلة ، ويرتفع عند ارتفاعه. كالتحريم مع السُّكرْ في العصير ، فإنه لمّا لم يكن مسكراً لم يكنْ حراماً ، فلما حدثٍ السًّكْر فيه وجدت الحرمة ، ثم لما زال السكر بصيرورته خلاً زال التحريم ، فدل على أن العلة السّكر ، وقد اختلف الأصوليون في إفادة الدوران العلية على مذاهب:
* أحدها: أنه يفيد العليّة قطعاً ، ونقل هذا عن بعض المعتزلة ، وبعض الشافعية.
* الثاني : أنه يفيد العلية ظناً ، وهو مذهب الجمهور ، ومعنى هذا القول: أن الوصف إذا دار مع الحكم غلب على الظن كونه معرفا له .
*الثالث: أنه لا يدل بمجرده على العليّة لا قطعا ولا ظنا ، وهذا اختيار الأستاذ أبى منصور رحمه الله تعالى . الكافي شرح أصول البزدوي :4/62 ، كشف الأسرار للبخارى :3/644،البحر المحيط للزركشى :5/243.
(2) هذا هو اختيار الشارح أمير كاتب رحمه الله تعالى - في المسألة ، وقد ذهب إلى هذا القول أكثر الحنفية.
تقويم الأدلة للدبوسى :ص65 ، أصول السرخسي :1/106 ، نهاية الوصول إلى علم الأصول لابن الساعاتى :1/194 ، كشف الأسرار للنسفي :1/479 الكا في شرح أصول البزدوي 3 /1236 ، كشف الأسرار للبخارى :2/514 ، جامع الأسرار للكاكى :2/623.
(3) أي : فالقول الأول من الأقوال الثلاثة السابقة.(4/112)
ألا ترى أن الترمذى قال في جامعة حدثنا محمد بن بشار(1) قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدى(2) عن سفيان(3)
__________
(1) هو محمد بن بشار بن عثمان العبدى البصرى ، ثقة من الطبقة العاشرة. مات سنة 252هـ. تقريب التهذيب لابن حجر :2/156.
(2) عبد الرحمن بن مهدى هو الإمام الناقد ، سيد الحفاظ ولد سنة خمس وثلاثين ومائة ، قال عنه على بن المدينى: "كان عبد الرحمن بن مهدى يختم القرآن في كل ليلتين". وقال عنه هارون بن سفيان: "سمعت عبيد الله بن عمر القواريرى يقول: أملى علىَّ عبد الرحمن بن مهدى عشرين ألف حديث حفظا". تو في رحمه الله تعالى - بالبصرة سنة 198هـ. أعمار الأعيان:42 ،صفوة الصفوة :2/230 ، سير أعلام النبلاء :9/192
(3) هو سفيان بن سعيد الثورى ، إمام الحفاظ ، وسيد العلماء في زمانه ، ولد سنة سبع وتسعين ، وتوفي سنة 161هـ ، قال عبد الرحمن بن مهدى ليلة مات سفيان: "توضأ تلك الليلة للصلاة ستين مرة ، فلما كان وجه السَّحر قال لى: يا ابن مهدى ضع خدى بالأرض فانى ميت ، يا ابن مهدى ما أشد كرب الموت ، قال ابن مهدى فخرجت لأعلم حماد بن زيد وأصحابه فإذا هم قد استقبلونى ، فقالوا: آجرك الله. فقلت: من أين علمتم ؟ فقالوا: إنه ما منا أحد إلا أتى البارحة في منامه فقيل له: ألا إن سفيان الثوري قد مات ، رحمه الله تعالى. اهـ . صفة الصفوة لابن الجوزي :2/85 - 87 ،تاريخ بغداد :9/151(4/113)
عن علقمة(1) بن مرثد عن سليمان(2) بن بريدة(3) عن أبيه قال "كان النبي - - صلى الله عليه وسلم - - يتوضأ لكل صلاة، فلما كان عام الفتح صلي الصلوات كلها بوضوء واحد، ومسح
على خفيه فقال عمر:إنك فعلتَ شيئا لم تكن فعلته! قال:عمداً فعلتُه. قال أبو عيسى(4):هذا حديث حسن صحيح. والجواب عن الثاني (5).
__________
(1) هو علقمة بن مرثد بفتح الميم وسكون الراء، الحضرمي، أبو الحارث الكو في ، ثقة ، من الطبقة السابعة تو في سنة :120هـ. الجرح والتعديل :6/ 406 ، تقريب التهذيب :2/ 36 ، 37 ، سير أعلام النبلاء :5/ 206
(2) هو سليمان بن بُريدة بن الحصيب الأسلمى ، المروزى ، قاضى ثقة ، من الطبقة الثالثة. قال عنه ابن معين وأبو حاتم: إنه ثقة. توفي رحمه الله تعالى سنة خمس ومائة ، وله تسعون سنة. الجرح التعديل :4/102 ، تقريب التهذيب :1/311.
(3) هو بريدة بن الحصيب بن عبدالله بن الأعرج، استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم -. على خيبر يوم الفتح ، توفي عام ثلاث وستين من الهجرة . الطبقات الكبرى لابن سعد: 4/241، سير أعلام النبلاء: 2/569.
(4) أي : أبو عيسى الترمذى رحمه الله تعالى.
(5) هذا جواب الشارح - رحمه الله تعالى - عن القول الثاني في مسألة سبب وجوب الطهارة.(4/114)
فنقول: لا نُسلم أن الدوران دليل العلّية، ولئن سلمنا لكن لا نُسلم أن الدوران وجوداً موجود،؛ لأنه قد يوجد الحدث، ولا يجب الوضوء ما لم تجب الصلاة بالبلوغ ودخول الوقت (و) لا يقال(1): لا يجوز أن تكون الصلاة سبباً؛ لأنه حينئذ تكون الطهارة حكماً وشرطاً للصلاة، وهو فاسد،؛ لأن المتقدم متأخر والمتأخر متقدم؛ لأنا نقول(2): الطهارة شرط الجواز، والصلاة سبب الوجوب وبينهما مغايرة، والباقي يعلم في غاية البيان(3) /
ص: قوله: وأما أسباب الحدود والعقوبات فما تنُسب إليه من قتل وزنا وسرقة
ش: أي: أسباب الحدود(4)
__________
(1) هذا اعتراض قدر الشارح - رحمه الله تعالى - وقوعه ، ثم تبّرع بدفعه وتقرير هذا الاعتراض أن يقال: كيف يكون وجوب الصلاة سببا لوجوب الطهارة ، والطهارة شرط للصلاة ؟ وكونها شرطا يقتضى التقديم ، وكونها حكما لها يقتضى التأخير ، فكيف يستقيم اجتماع وصفي التقدم والتأخر للطهارة بالنسبة إلى شىء واحد وهو الصلاة ؟ الكافي شرح أصول البزدوي 3/1238.
(2) هذا جواب الشارح عن الإيراد الذي قدَّر وروده ، وتقرير هذا الجواب أن يقال: الصلاة سبب للطهارة من حيث الوجوب ، أي : وجوب الطهارة عند وجود الحدث بسبب وجوب الصلاة، والطهارة شرط للصلاة من حيث الجواز؛ أي : إنما تجوز الصلاة عند وجود الطهارة ، والجواز غير الوجوب ، فلم يكن الحكم ، والشرط بنسبة واحدة كما جاء في الاعتراض المذكور. الكافي :3/1239.
(3) مخطوط غاية البيان ونادرة الأقران لأمير كاتب :1/لوحة 180.
(4) الحدود جمع حد: و هي عقوبة مقدرة وجبت حقاً لله تعالى. والقصاص لا يسمى حداً ؛ لأنه حق العباد ، وكذا التعزيز ؛ لأنه ليس بمقدر ، بل هو مخول للقاضى أو الإمام.
التوقيف على مهمات التعاريف للمناوى : 270 ، بدائع الصنائع للكاسانى :7/33 ، الهداية للميرغينانى الاختيار لتعليل المختار للموصلي :3/270.(4/115)
والعقوبات هي الجنايات التي تنسب إليها الحدود والعقوبات حيث يقال: عقوبة القتل العمد، وقصاص القتل العمد، وحد الزنا، وحد السرقة، وحد الشرب وحد القذف.
ص: قوله: وسبب الكفارات(1) ما تنسب إليه من أمر دائر(2) بين حظر وإباحة، مثل الفطر، وقتل الخاطئ، وقتل الصيد، واليمين، ونحوها.
ش: وذلك؛ لأنه يقال: كفارة الفطر(3)
__________
(1) الكفارات جمع كفارة: و هي فعل ما يجب بالحنث في اليمين ، وما يقوم به الآثم والمقصر في الواجبات التى حددتها الشريعة . مختار الصحاح :ص574 ، المعجم الوجيز : 537.
وينظر الكلام في سبب وجوب الكفارات في : تقويم الأدلة :ص65 ، أصول السرخسي :1/109 ، الكافي شرح أصول البزدوي :3/1237 ، كشف الأسرار للنسفي :1/481 ، جامع الأسرار للكاكى :2/626 ، 627 التلويح على التوضيح :2/299.
(2) أي : متردد بين الحظر والإباحة.
والحظر: المنع ، والإباحة: هي الإذن بإتيان الفعل كيف شاء الفاعل - أو هي التخيير بين الفعل والترك. وسيأتى الكلام عن أسباب الكفارات ، ومتى تكون دائرة بين الحظر والإباحة ؟ في موضعه بعد قليل إن شاء الله تعالى
ميزان الأصول :40 ، التعريفات للجرجاني :20.
(3) و هي ثلاثة أنواع: العتق أولا ، فإن لم يجد ، فالصيام وهو صوم شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع ، فإطعام ستين مسكينا. وهذه الأنواع تشترك فيها كفارة الظهار المذكورة في سورة المجادلة.
- واختلفت الفقهاء في هذه الكفارة ، أهي واجبة على الترتيب ككفارة الظهار ، أم على التخيير؟
* فقال الإمام أبو حنيفة ، و الشافعي ، والثوري - رحمهم الله تعالى - : هي واجبة على الترتيب.
الاختيار لتعليل المختار :1/187 ، أسنى المطالب شرح روض الطالب :7/362 ونقل عن الإمام مالك - رحمه الله تعالى - أنه قال: واجبة على التخيير.
واستدلوا بما رواه أبو هريرة أن رجلا أفطر في رمضان ، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكفّر بعتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ستين مسكينا..."
الموطأ : 116، بداية المجتهد :2/736 ، الكا في :1/296.
والسبب في وجوب كفارة الفطر، الفطر بالجناية على فريضة الصوم وانتهاك حرمة الشهر سواء أكان ذلك بالأكل أم بالشرب أم بالجماع.(4/116)
، وكفارة القتل(1) وكفارة قتل
الصيد(2)،
وكفارة اليمين(3)
__________
(1) القتل التى تجب بسببه الكفارة - عند الحنفية - نوعان
أ - العمد ، فموجبه الإثم والكفارة والدية مغلظة على العاقلة؛ لشبهه بالخطأ.
ب - قتل الخطأ: وموجبة الكفارة والدية على العاقلة ، ولا إثم عليه.
والسبب في وجوب كفارة الخطأ: صورة القتل ، وأنه أصاب آدميا معصوم الدم فكان فعله باعتبار المحل فعلا محظورا
الاختيار لتعليل المختار :4/76 ، 77 كشف الأسرار للبخاري :2/515 ، 516 ، جامع الأسرار للكاكى :2/627.
(2) كفارة قتل الصيد كما جاءت في الآية:95 من سورة المائدة ، إما: جزاء مثل ما قتل من النعم بأن يقوِّم الصيد عدلان ؛ لأن ، ثم إن شاء القاتل اشترى بالقيمة هديا فذبحه ،= =أو إن شاء أخرج طعاما فتصدق به على كل مسكين نصف صاع من بر ، ويكون الإطعام بقيمة الصيد ، أو يصوم عن كل نصف صاع من حنطة يوما
* والسبب في وجوب كفارة الصيد: الجناية على الإحرام الذي به يمُنع الاصطياد ، أو قتل الصيد متعمداً ، و في قتل الصيد خطأ خلاف
يراجع الكلام في هذه المسألة في : تحفة الفقهاء للسمرقندي :1/644 بدائع الصنائع للكاسانى :2/198 - 206 ، الاختيار لتعليل المختار وللموصلي :1/235 ، كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري :2/516 ، بداية المجتهد لابن رشد :2/884 وما بعدها.
(3) كفارة اليمين: ثلاثة خصال على التخيير ، و هي عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم لكل واحد منهم ثوباً ، وواحدة على الترتيب - عند عدم الاستطاعة في الثلاثة الأول - وهو صيام ثلاثة أيام. وهذا ما ذهب إليه الجمهور.
* والسبب في وجوب كفارة اليمين: اليمين ، والحنث شرط للوجوب ، وهذا ما ذهب الحنفية.
* وقالت الشافعية: اليمين مع الحنث وهذا هو الصحيح ؛ لأنها لا تجب إلا بالحنث ، إلا في حالة الحلف وكان غيرها خيرا منها ، فليكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير ، لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك في قوله : من حلف على يمين فرأي غيرها خيرا منها ...." موطأ الإمام مالك: 241.
الهداية :2/335 -400 ، كشف الأسرار للبخارى :2/517 ، بداية المجتهد :2/1025 ، كفاية الأخيار :2/154 ، العدة :472.(4/117)
، وكفارة الظهار، وإنما شرط أن يكون أسباب الكفارات دائرة بين الحظر والإباحة؛؛ لأن الكفارة فيها معنى العبادة، ومعنى العقوبة.
أما الأول(1): فلأنها تؤدَّى بما هو عبادة، وهو الإعتاق والصوم ويشترط فيها النية(2)
وأما الثاني (3): فلأنها تجب جزاء وزجرا على الجناية، فإذا كان فيها معنى العبادة والعقوبة، وجب أن يكون سببها دائرا بين الحظر والإباحة(4)،؛ لأن المسبَّب يكون ثبوته أبداً على وفاق ثبوت السبب فلا يصلح المحظور المحض - كقتل العمد واليمين الغموس - سببا للكفارة وكذلك المباح المحض لا يصلح سبباً.
أما معنى الإباحة في الفطر: فباعتبار النظر إلى نفس المأكول والمشروب والزوجة، فإنها مملوكة له فكان مباحا(5).
وأما معنى الحظر: فباعتبار أنه جناية على الصوم المأمور، فبإفساده كان محظورا.
وأما معنى الإباحة في القتل: فلأنه من حيث الصورة(6) رمى إلى صيد، أو إلى كافر، وهو مباح.
وأما معنى الحظر: اعتبار المحل؛؛ لأنه أتلف آدميا معصوم الدم/.
__________
(1) أي : المعنى الأول ، وهو بيان جانب العبادة في الكفارة.
(2) لأن النية شرعت لتمييز العبادات عن غيرها. أسنى المطالب :3/362.
(3) أي : المعنى الثاني ، وهو جانب العقوبة في الكفارة.
(4) قال صاحب جامع الأسرار: "وإذا كانت كذلك - [ أي : كان في وجوب الكفارة معنى العبادة والعقوبة] - وجبت أن تكون أسبابها مشتملة على صفة الحظر والإباحة ، ليكون معنى العبادة= =مضافا إلى صفة الإباحة ، ومعنى العقوبة مضافا إلى صفة الحظر ؛ لأن الأثر يكون على وفق المؤثر ، وبذلك لا يصلح المحظور المحض كالقتل العمد واليميز الغموس سبباً لها". أهـ جامع الأسرار في شرح المنار :2/626
(5) أي : أن الإفطار مباح في الظاهر من حيث إنه الفاعل يلاقي فعل نفسه الذي هو مملوك له كالطعام والشراب والزوجة - كشف الأسرار للبخارى :2/515.
(6) أي : من حيث الهيئة حصل بها القتل فهي رمى إلى صيد فلم يقصد القتل؛ وإلا كان عمداً(4/118)
وكذلك اليمين المنعقدة مترددة بين الأمرين(1)، فإنها في الابتداء تعظيم المقسم به وذلك مندوب إليه مشروع، لقوله - عليه السلام - من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت"(2) رواه عبد الله بن عمر - رضى الله تعالى عنهما -.
وفيها معنى الحظر لقوله تعالى( { وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ } (3)
__________
(1) المراد بالأمرين: الحظر والإباحة ؛ لأن السياق يدل على ذلك
(2) هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري :2/951 - كتاب الشهادات - باب كيف يستحلف ... ؟ والإمام مسلم :3/1267 كتاب الإيمان - باب النهي عن الحلف بغير الله.
(3) سورة البقرة ،آية :224 وتكملتها {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(4/119)
وكذلك نقول: ي الظهار(1) إن السبب دائر بين الأمرين؛؛ لأن الظهار ليس سببا للكفارة وحده، بل السبب هو، والعَوْد إلى الجماع(2)، بدليل قوله تعالى { يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } (3)، فمن حيث إن الظهار منكر من القول وزور، كان في السبب معنى الحظر، ومن حيث أن الجماع إمساك بمعروف، كان فيه معنى الإباحة، فثبت أن السبب مشتمل على الحظر والإباحة، والباقي مرَّ في فصل دلالة النص(4).
ص قوله: وتفسير ذلك يذكر في موضعه.
ش: يعنى في باب معرفة الأسباب والعلل والشرط(5)
ص:قوله: وسبب المعاملات(6) تعلق البقاء المقدور(7) بتعاطيها(8)، والبقاء معلق بالنسل والكفاية وطريقهما أسباب شرعية موضوعة للملك والاختصاص.
__________
(1) هو أن يشبِّه الرجل امرأته أو عضواً يعبر به عن بدنها ، أو جزءاً شائعا منها ، بعضو لا يحل النظر إليه من أعضاء مَنْ لا يحل له نكاحها على التأبيد - وحكمه حرمة الجماع ودواعيه حتى يكفِّر عن يمينه. الاختيار لتعليل المختار :3/131
(2) قال صاحب كشف الأسرار: "إن الظهار مع العود سبب الكفارة فإن الظهار محظور ، والعود مباح ، فإذا اجتمعا صار السبب دائرا بين الحظر والإباحة". اهـ كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري :2/517
(3) سورة المجادلة، آية:3 وتكملتها{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
(4) هذا الفصل الذي أحالنا عليه الشارح في الأجزاء المفقودة من كتاب الشامل. ويمكن مراجعة ما أحالنا إليه المصنف فى أصوله مع كشف الأسرار للبخارى 1/ 116 .
(5) ينظر: مخطوط الشامل على أصول البزدوى 9/ لوحة81 .
(6) أي : سبب شرعيتها
(7) أي : المحكوم به من الله تعالى .
(8) أي : بمباشرتها .(4/120)
ش: أي: سبب المعاملات(كالنكاح، والبيع، والإجارة، وغيرها، البقاء المقدر بتناول المعاملات، بيانه أن الله تعالى أراد بقاء الإنسان الذي هو المقصود من خلق العالم إلى ما أراد.
قال تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } (1)
وقال: { وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ } (2)
ثم جعل سبب البقاء المعاملات المشروعة:[فتعلق البقاءُ بالمعاملات، فكان تعلقه بها سببا لها؛ أعنى لشرعها](3).
حتى إن كان من فاز بالسبب كان فائزاً بالمسبب، وانقطعت الأطماع الفاسدة المفضية إلى التغالب والتقاتل والتفاني؛ إذ في ذلك من الفساد ما لا يخفي علي /أحد والله لا يحب الفساد.
وقال شمس الأئمة السر خسي في أصوله :"فأما سبب المشروع من المعاملات فهو تعلق البقاء المقدور بتعاطيها وبيان ذلك أن الله تعالى حكم ببقاء العالم إلى قيام الساعة، وهذا البقاء إنما يكون ببقاء الجنس، وبقاء النفس، فبقاء الجنس بالتناسل(بإتيان الذكور الإناث في موضع الحرث(4).
__________
(1) سورة الجاثية ، آية :13 وتكملتها: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
(2) سورة النحل ، آية:12 وتكملتها: {وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
(3) هذا النص ساقط من الصلب في : د ومثبت في الهامش ، ومثبت في :ت في الصلب.
(4) قال تعالى : {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ } سورة البقرة آية :223(4/121)
والإنسان هو المقصود بذلك فشرع لهذا التناسل طريقا لا فساد فيه ولا ضياع، وهو طريق الازدواج بلا شركة، ففي التغالب فساد العالم، و في الشركة ضياع(1)؛ لأن الأب إذا اشتبه يتعذر إيجاب مؤونة الولد عليه، وبالأمهات عجز عن اكتساب ذلك بأصل الجبلة، فيضيع الولد، وبقاء النَفَس إلى أجله إنما يقوم بما يقوم به المصالح للمعيشة وذلك بالمال وما يحتاج إليه كل أحد لكفايته لا يكون حاصلاً في يده وإنما يتمكن من تحصيله بالمال، فشرع سبب اكتساب المال، وسبب اكتساب ما فيه كفاية لكل واحد، وهو التجارة عن تراض(2)، لما في التغالب من الفساد، والله لا يحب الفساد؛ و لأن الله تعالى جعل الدنيا دار محنة وابتلاء، كما قال تعالى { إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ } (3) والإنسان الذي هو مقصود غير مخلوق في الدنيا لنيل اللذات وقضاء/ الشهوات، بل للعبادة التي هي تحمل بخلاف هوى النفس. قال الله تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (4).
فعرفنا أن ما جعل لنا في الدنيا من اقتضاء الشهوات بالأكل وغير ذلك، ليس اقتضاؤ الشهوة بل الحكمة أخرى، و هي تعلق البقاء المقدور بتعاطيها، إلاّ [أن الناس مطيع وعاص](5)
__________
(1) أي : ضياع الولد. كذا في أصول السرخسي المطبوع :1/109
(2) قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } سورة النساء ، آية :29
(3) سورة الأنسان ، آية:2 .
(4) سورة الذاريات ، آية:56
(5) في أصول السرخسي المطبوع :1/110: "أن في الناس مطيعاً وعاصياً.(4/122)
فالمطيع يرغب فيه(1) لا لقضاء شهوة النفس(2)، والعاصى يرغب فيه لقضاء شهوة النفس، فيتحقق البقاء المقدور بفعل الفريقين وللمطيع الثواب باعتبار قصده إلى الإقدام عليه، والعاصي مستوجب للعقاب باعتبار قصده في اتباع هوى النفس والأمارة بالسوء، تبارك الله الحكيم الخبير القدير هو مونا فنعم المولى ونعم النصير"(3). إلى هنا لفظ شمس الأئمة رحمه الله تعالى.
وهذا آخر الدفتر الرابع من كتاب الشامل في شرح أصول الفقه لشيخ الإمام فخر الإسلام البزدوي ، ويتلوه ، في الذي يليه ( باب بيان أقسام السنة ) ، كتبه العبد الضعيف مؤلفه أبو حنيفة أمير كاتب بن أمير عمر العميد المدعو بقوام الفارابي الإتقاني ....يوم الخميس ، الخامس من شهر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وسبعمائة، بالقاهرة المحروسة - غفر الله له ولوالديه - والحمد لله رب العالمين .
__________
(1) الضمير راجع على البقاء المقدور ؛ لأن السياق يدل على ذلك
(2) " بل لا تباع الأمر" كذا في أصول السرخسي المطبوع :1/110
(3) ينظر أصول السرخسي :1/109 ، 110(4/123)
ثانيا
القسم التحقيقي
ص: (1) : باب (2) حكم (3)
__________
(1) إشارة إلى أن الكلام الذى يأتى بعدها هو كلام المصنف، وهكذا في بقية الرسالة.
(2) الباب في اللغة: أصله :بوَّب، يقال: تبوب بوابا ، أي اتخذه ، وبوب المصنف كتابه ، وكتاب مبوَّب، وهذا المعنى المراد هنا.
وفى الاصطلاح: اسم لجملة مختصة من العلم مشتملة على فصول.
مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج:1/45، أساس البلاغة للزمخشرى :33 ، مختار الصحاح لأبى بكر الرازي : 68.
(3) الحكم في اللغة : المنع يقال: حكمت عليه بكذا، أي منعته من خلافه.
ويطلق ويراد به القضاء . يقال، حكم عليه بالأمر حكما وحكومة.
مختار الصحاح :148القاموس المحيط :4/99، ، المصباح المنير : 200
والحكم في الاصطلاح يطلق ويراد به أحد معان ثلاثة :
أولها: الحكم العقلي: وهو إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه من غير توقف على تكرار ولا وضع واضع.
ثانيها: الحكم العادي : وهو إثبات الربط بين أمر وأمر وجودا وعدما بواسطة التكرار مع صحة التخلف وعدم تأثير أحدهما في الآخر البتة، كالإحراق بالنسبة للنار.
ثالثها:الحكم الشرعي - وهو المراد هنا - : وهو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء، أو التخيير، وزاد ابن الحاجب أو الوضع ؛ ليدخل جعل الشيء سببا، أو شرطا، أو مانعا.
المستصفى للغزالى :1/55، المحصول للرازى:1/8، حاشيه الدسوقى على أم البراهين وشرحها :ص 32، 33، 41 ، التمهيد للإسنوى : 48 ، بيان المختصر للأصبهانى :1/205، 206، تشنيف المسامع على جمع الجوامع :1/136. معراج المنهاج 1/45، نهاية السول 1/3، الإحكام للامدي:1/85، البحر المحيط 1/117.(5/1)
الأمر(1)
............................................................................................ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= - تعريف الأمر في اصطلاح الأصوليين: تعددت تعريفات الأمر تبعا للاختلاف فى تفسيره بين أهل السنة والمعتزلة ؛ على اعتبار أن الأمر قسم من أقسام الكلام ، حيث إنهم - أى المعتزلة – يريدون بالأمر "اللساني" فقط ، أما أهل السنة فالأمر عندهم قسمان: " نفسى ولساني" ، وسأقتصر على ذكر بعض التعريفات التي اعتبرت العلو والاستعلاء في حد الأمر ، والتي لم تعتبر ذلك ، مع بيان المختار منها .
أولا: تعريف الأمر عند من اشترط الاستعلاء :
قال أبو منصور الماتريدي - رحمه الله تعالى-: الأمر: القول الذي هو دعاء إلى تحصيل الفعل عن طريق العلو. التبيين لأمير كاتب :1/392 .
وقال ابن الحاجب – رحمه الله تعالى - : الأمر اقتضاء فعل غير كَفٍّ على سبيل الاستعلاء.
وممن اعتبر ذلك - أيضا- أبو الحسين البصري، وعبد العزيز البخاري والآمدي والفتوحي وغيرهم . المعتمد :1/46، الإحكام للآمدي:2/ 9 ، بيان المختصر وهو شرح على مختصر ابن الحاجب :1/431 ، كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري :1/154، شرح الكوكب المنير :3/10 .
ثانيا: تعريفه عند من اشترط العلو:
الذين اشترطوا العلو في تعريف الأمر وهم جمهور المعتزلة، ووافقهم الشيرازي - رحمه الله تعالى – عرفوه بأنه: اللفظ الدال على طلب الفعل ممن هو دونه.
__________
(1) الأمر في اللغة: نقيض النهى ، يقال : أمره به، وأمره إياه. ويأمر أمرا وإمارا فأتمر، أى قيل أمره. وأمر فلان مستقيم ، وأموره مستقيمة، ويطلق الأمر على الطلب كما جاء في المصباح المنير، وجمعه أوامر، كما يطلق الأمر على الحادثة والحال والشأن، ويكون الجمع بهذه الإطلاقات أمور. لسان العرب لابن منظور :4/26 مختار الصحاح :24،مادة أمر. =(5/2)
وقال ابن السبكي - رحمه الله تعالى- وأما المعتزلة فحدوه باعتبار اللفظ ، فقالوا: هو قول القائل لمن دونه: افعل أو ما يقوم مقامه"، فقولهم: "افعل" ليبينوا أن المحدود عندهم هو اللساني دون النفسي.
المغنى للقاضي عبد الجبار :17/112 ، شرح اللمع للشيرازي :1/191 ،رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب :2/493.
ثالثا: أما من لم يشترط علوا ولا استعلاء فهم جمهور الأصوليين ، وقد اخترت من تعريفاتهم ما ذكره ابن السبكي في جمع الجوامع، وهو أن الأمر: اقتضاء فعل غير كَفٍّ مدلول عليه بغير كُفْ ونحوها. حتى لا يُعترض عليه بنحو- كف ودع وذر- من أفعال الأمر التي تدل على الترك. وهذا هو حد الأمر النفسي .
وأما الأمر اللفظي فحده: اللفظ الدال على طلب فعل غير كف مدلول عليه بغير لفظ كف ونحوه. جمع الجوامع : 1/368 ، المحصول للرازي :1/184، الإحكام للآمدي :2/203.
والنهي (1) في أضداد هما .
ش: (2) ضد الشيء في اللغة خلافه ، كذا في الجمهرة (3)
__________
(1) تعريف النهى في اللغة : النهى ضد الأمر ، يقال نهاه فانتهى ، وتناهوا عن المنكر ، وانتهى الشيء أي بلغ النهاية . مختار الصحاح : 683 .
وفي الاصطلاح : النهى النفسي هو : طلب الكف عن الفعل بغير كف ونحوه .
وأما النهي اللفظي فحده : اللفظ الدال على طلب الكف عن الفعل بغير كُفَّ ، ونحوه .
جمع الجوامع مع حاشية البناني :1/391 ، التمهيد للإسنوي :290 ، الإبهاج :2/66 .
أما المعتزلة فيعرفون النهي بأنه : قول القائل لغيره لا تفعل على جهة الاستعلاء . المعتمد :1/168 .
(2) إشارة إلى أن الكلام الذى يأتى بعدها هو كلام الشارح وهكذا في بقية الرسالة.
(3) الجمهرة:1/112،والجمهرة كتاب في اللغة، لأبى بكر محمد بن الحسن بن دريد اللغوي المتوفى :321هـ ، طبع في ثلاثة أجزاء غير جزء الفهارس.
وفيات الأعيان لابن خلكان :4/323 - 329 ، سير أعلام النبلاء للذهبى :15/96،97، معجم الأدباء للحموي :18/ 127- 143 ، شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي :2/289-291.(5/3)
.
وقال(1) الفقهاء: "الضدان" صفتان وجوديتان تتعاقبان على محل واحد(2).
وقيل: "ضد الشيء ما يترك به ذلك الشيء"(3) ولا فرق عندهم بين الضد والنقيض. (4).
وقال من فرق (5)
__________
(1) الواو ساقطة من ( ت) .
(2) كتاب الحدود في الأصول لابن فورك الأصبهانى :93 ، البحر الرائق :1/115 ، التوقيف على مهمات التعاريف للمناوى :471. والتعريفات للإمام الجرجانى : 179 ، المواقف لعضد الدين الإيجى : 82 ، شرح الكوكب المنير :1/68 وما بعدها .
(3) قريب من هذا القول ذكره الإمام أبو الحسن الأشعرى -رحمه الله تعالى- في مقالات الإسلاميين: 377.
(4) قد يكون الضد مساويا للنقيض إذا كان النقيض ليس له ما يحققه إلا ضد واحد، مثل الحركة والسكون، فإن السكون يساوى عدم الحركة؛ لأن عدم الحركة لا يتحقق إلا في السكون، وحينئذ فلا يرتفعان ولا يجتمعان، فلا تجتمع حركة وسكون في وقت واحد في شىء واحد، ولا ترتفع الحركة والسكون عن شىء واحد، بل لابُدَّ أن يكون الشىء متحركا أو ساكنا.
أصول الفقه للشيخ زهير: 1/132.
(5) أكثر كتب التعاريف تفرق بين الضد والنقيض.
قال العلاّمة الجرجاني- رحمه الله تعالى-: والفرق بين الضد والنقيض، أن النقيضين: لا يجتمعان ولا يرتفعان، كالعدم والوجود. والضدين: لا يجتمعان ولكن قد يرتفعان، كالسواد والبياض"
وقال أبو هلال العسكري في الفرق بينهما: "النقيضان: ما كان التقابل بينهما تقابل النفي والإثبات، أو العدم والملكة، كالعمى والبصر، ولذا لا يمكن اجتماعهما في مادة، ولا ارتفاعهما، كالحركة والسكون.
وأما المتضادات: فيجوز ارتفاعهما ويمتنع اجتماعهما، كالسواد والبياض".
الفروق اللغوية: 326 .
إذا عُلم أن الضد مغاير النقيض، عُلم أن الواجب له ضد، وله نقيض، فضد الواجب هو الأمر الوجودى المنافى له الذى لا يمكن تحقيق الواجب معه، ونقيضه هو تركه وعدم فعله،فمثلا ضد الصلاة هو الأكل أو الشرب أو النوم؛ لأن كل واحد من هذه الأمور الثلاثة مناف لها، ولا توجد الصلاة معه، أما نقيضها فهو تركها وعدم الاتيان بها. أصول الفقه للشيخ زهير: 1/132
ثانهيما: الضدان وهما معنيان يستحيل اجتماعهما لذاتيهما في محل من جهة، كالسواد والبياض.
ثالثهما: الخلافان وهما موجودات لا يشتركان في صفة النفس، ولا يمتنع اجتماعهما لذاتيهما في محل من جهة، كالسواد والحلاوة.
المواقف في علم الكلام لعضد الدين الابجى:81 وما بعدها. =(5/4)
: النقيض: هو الشيء الذي يلزم من وجوده ارتفاع ما يقابله، وبالعكس، كالوجود والعدم،والحركة والسكون .
والضد : هو الشيء الذي يلزم من وجوده ارتفاع ما يقابله، ولا ينعكس، كالسواد والبياض، والقيام والقعود فافهم.
............................................................................................. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والحاصل: أن أهل اللغة يفسرون الضد والنقيض بالمخالف، وأنهم يطلقون اسم الضد على ما يطلقون اسم النقيض، فيقولون: الصلاح ضد الفساد، والصلاح خلاف الفساد، والحي ضد الميت، والحي خلاف الميت، والحر ضد العبد، والحر خلاف العبد.
وقال ابن فارس: "النون، والقاف، والضاد أصل صحيح يدل على نكْث شيء، أي : هدمه" . مقاييس اللغة لابن فارس: 3/360.
وجملة القول : أن الضد أوسع مدلولا من النقيض؛ لأنه يشترط في الثاني إزالة نقيضه ومخالفه مع بقائه ، أما الأول وهو الضدان كالأبيض والأسود فقد يرتفعان وتأتي مكانهما الحمرة ، وعليه فالضد أعم من النقيض.
ولمزيد بيان في هذه المسألة: ينظر المفردات للراغب الأصفهاني: 434، لسان العرب لابن منظور:4/2564، التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي: 471، الموسوعة العربية في الألفاظ الضدية والشذرات اللغوية:6 عدد : 9-11، اصطلاحات الأصول للشيخ علي المشكيني: 159.
ص : قوله (1): : اختلف العلماء في الأمر بالشيء هل له حكم في ضده إذا لم يقصد ضده بنهى(2)
__________
(1) الضمير في هذه الكلمة وأمثالها في الرسالة يرجع إلى فخر الإسلام " البزدوي".
(2) تحرير محل النزاع في هذه المسألة :
اتفق العلماء على أن مفهوم الأمر يخالف مفهوم النهى، وأن صيغة الأمر تخالف صيغة النهى .
واختلفوا في أن الشيء المعين، إذا طلب بصيغة الأمر المعلومة(افعل) هل يكون الأمر نهيا عن ضده ؟ بمعنى أن الأمر النفسي هل يصدق عليه أنه نهى عن ضده؟ وقبل ذكر المذاهب في هذه المسألة ينبغي بيان أمور مهمة:
أولا:أن الأصوليين اختلفوا في التعبير عن هذه المسألة، فمنهم من عبر عنها بقوله:"الأمر بالشيء نهى عن ضده ، أو يستلزم النهى عن ضده ،وهذا ما عليه أكثرهم، كالقاضي الباقلاني، وأبي يعلى، والإمام الغزالي، وابن الساعاتي، والرازي، وابن الحاجب.
ومنهم من عبر عنها بقوله :وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه، وهذ ما ذهب إليه القاضي البيضاوي ، وصاحب فواتح الرحموت .
ثانيا:الموازنة بين هاتين العبارتين تستلزم ذكر الفرق بين الضد والنقيض .
وبيان ذلك:أن كل واجب – كالقعود مثلا المطلوب بقولنا :اقعد - له منافيان :
الأول:يسمى ضدا كالقيام، والآخر يسمى نقيضا، وهو عدم القعود ؛ إذ النقيضان هما الأمران اللذان أحدهما وجودي والآخر عدمي ، لا يجتمعان في شيء، ولا يرتفعان من الشيء، كالحركة وعدم الحركة ،والضدان هما:الأمران الوجوديان اللذان لا يجتمعان وقد يرتفعان، كالقيام والقعود ، فإنهما لا يجتمعان في شخص واحد في وقت واحد، وقد يرتفعان ويأتي بدلهما الاضطجاع مثلا .
ثالثا:الناظر في العبارتين(الأمر بالشيء نهى عن ضده) و( وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه ) يجد بينهما فروقا ثلاثة :
1- أن التعبير بقولهم:"الأمر بالشيء نهى عن ضده" يفيد حكم الضد في الوجوب والندب =(5/5)
؟.
............................................................................................ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لأن الأمر المجرد عن القرينة يدل على الوجوب، ومع القرينة الصارفة يدل على الندب أو غيره ، وكذلك التعبير بالنهى يتناول التحريم والكراهة ؛ لأن النهى هو طلب الكف عن الفعل ، فإن كان جازما أفاد التحريم ، وإن كان غير جازم أفاد الكراهة، وأما التعبير بقولهم ( وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه ) فإنه لا يفيد إلا حكم النقيض في الوجوب فقط .
2 - أن التعبير بقولهم :"الأمر بالشيء نهى عن ضده" لا يفيد إلا حكم الضد المأخوذ من صيغة الأمر فقط دون حكم الضد المستفاد من غيرها نحو ( كتب عليكم كذا ) .
وهذا بخلاف التعبير بقولهم :وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه. ففيه بيان لحكم النقيض في الوجوب مطلقا، أي سواء أكان الوجوب مأخوذا من صيغة الأمر، أم مأخوذا من غيرها كفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والقياس، وغيرهما .
3- التعبير بقولهم :"الأمر بالشيء نهى عن ضده" يفيد أن محل النزاع في هذه المسألة هو ضد المأمور به وليس نقيضه ، وأما التعبير بقولهم :وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه فإنه يفيد أن نقيض الواجب هو محل النزاع ، وذلك مخالف للمتفق عليه، فمن المتفق عليه أن نقيض الواجب منهي عنه ؛ لأن إيجاب الشيء هو طلبه مع المنع من تركه، والمنع من الترك هو النهى عنه .
ولما كان هناك اتفاق على أن نقيض الأمر منهى عنه، تعين أن يكون محل النزاع هو الضدفقط ، ووجب أن يكون التعبير عن ذلك النزاع بما يدل صراحه على محل النزاع، والذى يفيد ذلك هو العبارة الأولى :"الأمر بالشيء نهى عن ضده ، لا العبارة الثانية:وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه 0 اهـ .(5/6)
التقريب والإرشاد:2/198،العدة لأبي يعلى:1/243،المستصفى ومعه فواتح الرحموت :1/81،97، نفائس الأصول للقرافى:4/155، الإبهاج شرح المنهاج:1/ 120، التمهيد للإسنوى:94،95، نهاية الوصول إلى علم الاصول:1/417، أصول الفقه لشيخنا أبي النورزهير:1/131، الحكم الشرعى عند الأصوليين لشيخنا الدكتور على جمعة:107- 109 .
فقال بعضهم: لا حكم له فيه أصلا (1).
وقال الجصاص(2) ـ رحمه الله تعالى ـ: يوجب النهي عن ضده إن كان له ضد واحد، أو أضداد كثيرة(3) .
وقال بعضهم(4): يوجب كراهة / ضده .
__________
(1) هذا القول اختاره إمام الحرمين: والإمام الغزالى، وابن الحاجب، ونسبه العلامة عبد العزيز البخارى إلى أبى هاشم، ومن تابعه من متأخرى المعتزلة . وقطع به النووى فى الروضة فى كتاب الطلاق :8/188.
البرهان :1/252، المستصفى :1/81، بيان المختصر :1/451، وكشف الأسرار للبخارى :2/478، شرح الكوكب المنير :3/52، تيسير التحرير :1/363.
(2) هو الإمام أحمد بن على الرازي ، المعروف بالجصاص ، المفتى المجتهد ، الذي انتهت إليه رئاسة الحنفية في العراق ، تفقه على أبى الحسن الكرخي ، ومحمد بن يعقوب بن معقل والطبراني الحافظ الثقة صاحب المعاجم الثلاثة ، وتتلمذ على يديه:محمد بن أحمد المعروف بالزعفراني، ومحمد بن موسى الخوارزمي، وغيرهما، من مصنفاته:الفصول في الأصول، وأحكام القرآن . توفى – رحمه الله تعالى- سنة370هـ .
تاريخ بغداد : 4/314، 315 ، الكامل لابن الأثير:9/9 ، سير أعلام النبلاء:16/240، 241، الجواهر المضية:1/220 224 .
(3) عبارة الإمام الجصاص هي :والصحيح عندنا أن الأمر بالشيء نهى عن ضده، سواء كان ذا ضد واحد ، أو أضداد كثيرة؛ لأنه قد ثبت عندنا وجوب الأمر وأنه على الفور" 0 ا هـ .
أصول الجصاص المسمى الفصول في الأصول:1/332 .
(4) هذا القول عزاه الإمام بدر الدين الزركشى:إلى جماعة من محققى الحنفية.
البحر المحيط:2/423 .(5/7)
وقال بعضهم(1): يقتضى كراهة ضده.
وهذا أصح عندنا (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في مسألة الأمر بالشيء نهى عن ضده:"اعلم أنا لا نريد بهذا أن صيغة الأمر هي صيغة النهى، بل المراد:أن الأمر بالشيء دال على المنع من نقيضه بطريق الالتزام .
تقويم الأدلة: 48، ميزان الأصول: 146 ، المحصول: 1/246 ، تيسير التحرير: 1/363، 367 ، شرح الكوكب المنير:3/530 .
( ) إشارة إلى أن القول الأخير هو الأصح والمختار عند مشايخ الحنفية ، وهم فخر الإسلام البزدوي ، والقاضي أبو زيد، وشمس الأئمة السرخسي وأتباعهم من المتأخرين .
الفصول في الأصول للجصاص:1/332، تقويم الأدلة للدبوسي:48 ، شرح الكوكب المنير:3/53، التقرير والتحبير:1/382 ، تيسير التحرير:1/363.
قرآن كريم قلت: تحقيق الكلام فى هذه المسألة يقع فى مقامين- كما قال ابن السبكى وبدر الدين الزركشى - رحمهما الله تعالى- :
- أحدهما: الكلام النفسى، وهو الطلب القائم بالنفس، واختلف المثبتون له فى أن الأمر بشىء معين هل هو نهي عن ضده الوجودى؟ على مذاهب:
1- أن الأمر بالشىء نفس النهى عن ضده من حيث اللفظ والمعنى، ومبنى هذا المذهب على أن الأمر لا صيغة له، وأن اتصافه بكونه أمرا ونهيا بمثابة اتصاف كون الواحد قريبا من شىء، بعيدا من شىء، وهذا قول أبى الحسن الأشعرى، والقاضى البلاقلانى، وأطنب فى نصرته فى التقريب حتى عزاه إلى جميع أهل الحق النافين لخلق القرآن.
__________
(1) اختار هذا القول:القاضي أبو زيد الدبوسي حيث قال :" وقال بعضهم:يقتضى كراهة ضده، وهو المختار عندنا"، ونسبه ابن الهمام إلى فخر الإسلام البزدوي، ونسبه صاحب "الميزان" إلى بعض مشايخ الحنفية ومنهم الإمام السر خسي .
قرآن كريم وقال العلامة الفتوحي : " وعند الرازي في المحصول يقتضى الكراهة" ، وبالرجوع إلى كتاب المحصول : تبين أن هناك اختلافا في النقل، حيث قال الإمام الرازي- رحمه الله تعالى - =(5/8)
قال الصفى الهندى- رحمه الله تعالى-: لم يرد القائل أن صيغة "تحرك" مثلا عين صيغة "لاتسكن" ؛ فإن ذلك معلوم الفساد بالضررة، بل يعنى أن المعنى المعبر عنه بـ "تحرك" عين المعنى المعبر عنه بـ "لا تسكن".
2- أن الأمر بالشىء ليس عين النهى عن ضده، ولكن يستلزمه أو يتضمنه من طريق المعنى، سواء كان الأمر إيجابا، أو ندبا، إلا أنه إذا كان الأمر أمر إيجاب كان النهى عن ضده نهى تحريم، وإن كان الأمر أمر ندب كان النهى عن ضده نهى كراهة وتنزيه، وسواء أكان للأمر ضد واحد ، كالأمر بالإيمان فهو نهى عن الكفر- نعوذ بالله تعالى منه-، أم كان له أضداد كثيرة، كالأمر بالقيام، فإنه نهى عن سائر أضداد المأمور به من القعود والاستلقاء والاضطجاع ونحوها. =
......................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وهذا ما قال به عامة العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، ونصره الشيخ أبو إسحاق الشيرازى فى التبصرة، وقال ابن السمعانى: هو مذهب عامة الفقهاء، واختاره مشايخ الحنفية، كأبى زيد الدبوسى، والبزدوى والسرخسى.
3 - أن الأمر بالشىء ليس نهيا عن ضده، ولا يقتضيه عقلا. وهذا ما ذهب أكثر المعتزلة، واختاره إمام الحرمين، وأبو حامد الغزالى، وابن الحاجب، وقطع به الإمام النووى فى الروضة.
لكن أبا حامد الغزالى- رحمه الله تعالى- ذكر فى المستصفى أن هذا الاختلاف يتعين أن يكون فى كلام النفس بالنسبة للمخلوق ، أما فى حق الله تعالى فلا. قال: "وهذا لا يمكن فرضه فى حق الله- تعالى- فإن كلامه واحد: هو أمر ونهى ووعد ووعيد ، فلا تتطرق الغيرية إليه، فليفرض فى المخلوق" ا هـ.
- المقام الثانى: بالنسبة إلى الكلام اللفظى عند من رأى أن للأمر صيغة، وفيه مذهبان:
1- أن الأمر يتضمن النهى عن ضده، وهذا اختيار القاضى عبد الجبار، وأبى الحسين البصرى من المعتزلة.(5/9)
2- أنه لا يدل عليه أصلا، وقد نسب هذا القول إلى أبى هاشم ومن تابعه من متأخرى المعتزلة.
3- ولبعض المعتزلة أن أمر الإيجاب يكون نهيا عن أضداده، ومقبحا لها؛ لكونها مانعة من فعل الواجب بخلاف المندوب فإن أضداده مباحة، غير منهي عنها .
وأما النهي عن الشيء فأمر بضده إن كان له ضد واحد بالاتفاق، كالنهي عن الحركة يكون أمرا بالسكون، وأما إن كان له أضداد فاختلفوا فيه ، فقيل : حكم النهي عن الشيء نفس حكم الأمر في ضده إيجابا وندبا في الأمر، وتحريما وكراهة في النهي ، هذا ما نسب للقاضي الباقلاني، وقال إمام الحرمين في البرهان:" الذي ذهب إليه جماهيرالأصحاب أن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداد المنهي عنه، والأمر بالشيء نهي عن جميع أضداد المأمور به" .
قرآن كريم ومنشأ الخلاف في هذه المسألة راجع إلى إثبات الكلام النفسى ونفيه فمن أثبت كلام النفس، وهم الأشاعرة، والماتريدية قالوا: بأن الأمر بالشيء نهى عن ضده ، وإن كانوا قد اختلفوا فيما بينهم ، أيكون نهيا عن ضده بطريق المعنى ، أم باللفظ ؟
وأما من نفى كلام النفس، وهم المعتزلة، فقد اتفقوا على أن عين صيغة "افعل" لا تكون نهيا ؛ لأن للنهى صيغة وهى " لا تفعل" ، وليست إحداهما عين الأخرى ، لكنهم اختلفوا أيضا هل للأمر حكم في ضده؟ =
....................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فذهب القاضى عبد الجبار، وأبو الحسين البصرى إلى أن للأمر حكما في ضده لكن بطريق المعنى، وذهب أبو هاشم ومن تابعه من متأخرى المعتزلة إلى منع ذلك.
- ثمرة الخلاف في هذه المسألة تظهر:
* فيمن قال: إن الأمر بالشيء يوجب تحريم الضد، إذا أدى الاشتغال بالضد إلى فوات المأمور به.(5/10)
ومن قال الأمر بالشيء يقتضى كراهة ضده، قال: الاشتغال بالضد يكون مكروها لا حراما وهذا ما عليه أكثر الحنفية، إلا إذا كان ذلك في الواجب المضيق كصوم رمضان، فإن الاشتغال بضد الصوم- وهى المفطرات الثلاث - حرام بالاتفاق إلا لأصحاب الأعذار.
* وفيمن قال لزوجته إن خالفت نهيى فأنت طالق، ثم أمرها بالقيام فقال لها "قومي " فقعدتْ ، فمن قال: إن الأمر بالشيء يدل على النهى عن ضده يقول: إن قوله: "قومي" فيه نهى عن القعود، فإذا قعدت فقد خالفت نهيه، فيقع الطلاق لحصول المعلق عليه، وهو مخالفة النهى ، ومن قال: إن الأمر بالشيء ليس بنهى عن ضده ولا يتضمنه يقول:لا يقع الطلاق؛ لأن قوله: "قومي" ليس فيه إلا أمرها بالقيام، ولم يتعرض للنهى عن القعود، فقعودها لا يعد مخالفة للنهى، بل هو مخالفة للأمر، والطلاق إنما علق على مخالفه النهى، ولم يعلق على مخالفة الأمر.
- والراجح في هذه المسألة - والله أعلم - : هو ما ذهب إليه جمهور الأصوليين ، وأكثر الفقهاء ، أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده ، إذا كان له ضد واحد ، أو أضداد كثيرة؛ لأنه لا يتحقق امتثال الأمر إلا بترك هذه الأضداد جميعا .
تقويم الأدلة: 48 ، التبصرة: 31، المعتمد :1/97، العدة لأبى يعلى: 1/243، قواطع الأدلة: 1/123، أصول السرخسي: 1/94،المستصفى: 1/451، تنقيح الفصول: 110 ، كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي للبخارى: 2/478، شرح الكوكب المنير: 3/52، روضة الطالبين : 8/188. شرح الكوكب المنير: 3/52، البحر المحيط للزركشى: 2/423، أصول الفقه للشيخ زهير: 1/135 .
ش : احترز الشيخ (1) بقوله: إذا لم يقصد ضده بنهى، عما إذا قصد ضده بنهى كما في قوله تعالى: ( فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ((2)
__________
(1) المراد بالشيخ: هو فخر الإسلام البزدوي، صاحب المتن الذى شرحه العلامة أمير كاتب بن أمير عمر الفارابى.
(2) هذا بعض آية من سورة البقرة :222 .
وتكملة هذه الآية: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ( سبب نزول هذه الآية: روى الإمام مسلم، والإمام الترمذى – رحمهما الله تعالى- عن أنس "أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأنزل الله: ويسئلونك عن المحيض ... الآية. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اصنعوا كل شىء إلا النكاح ". رواه مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها:1/246، سنن الترمذى ، كتب التفسير، باب سورة البقرة :5/214.
أحكام القرآن لابن العربى :1/158، أسباب النزول للواحدي :66 ، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي :3/80، 81، أسباب النزول للسيوطى : 54 .(5/11)
فإن ضد الاعتزال وهو القربان حرام في هذه الصورة من غير خلاف(1)؛ لأن النهي مقصود.
............................................................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فقالت له :(أرغبة عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام مع المرأة من نسائه الحائض وما بينهما إلا ثوب ما يجاوز الركبتين ) حديث صحيح أخرجه أحمد وغيره ،ولا يظن بابن عباس - رضي الله عنه - الاستمرار على رأيه بعدما سمع هذا من أم المؤمنين ، ومما يؤيد رجوعه عنه ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في السنن ، وذكره العلامة السيوطي في الدر المنثور أن ابن عباس فسر قوله تعالى (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) بقوله : اعتزلوا نكاح فروجهن ، فقوله - رضي الله عنه -يفهم منه إباحة ما دون الفرج أثناء الحيض .
__________
(1) إن قصد بالقربان حقيقة الجماع فهو حرام من غير خلاف، أما مجرد القربان دون جماع فمحل خلاف بين الفقهاء على أربعة أقوال:
- القول الأول: يجب اعتزال جميع بدنها، فلا يباشره بشيء من بدنه، بل ذهب أصحاب هذا القول إلى أنه يجب أن يعتزل الرجل فراش زوجته إذا حاضت ،وحكي هذا عن ابن عباس -رضى الله عنهما- وفيه نظر كما سيأتي.
قال الإمام القرطبى -رحمه الله تعالى- :" هذا قول شاذ خارج عن قول العلماء وإن كان عموم الآية يقتضيه فالسنة بخلافه.
قرآن كريم وحجة هذا القول: أن الله سبحانه وتعالى أمر باعتزال النساء، ولم يخصص من ذلك شيئا دون شىء، فوجب اعتزال جميع بدن المرأة.
-وقد وقفَتْ على رأى ابن عباس - رضي الله عنه - خالته ميمونة - رضي الله عنها - =(5/12)
ومما يؤيد هذا- أيضا- ما رواه الطبراني بسنده عن ابن عباس أن رجلا قال : يارسول الله : ما لِي من امرأتي وهي حائض ، فقال : ( لتشد إزارها ثم شأنك بها ) . وقد ذكر ابن كثير أن هذا هو مذهب ابن عباس .
تفسير الطبري : 2/382 ، تفسير ابن أبي حاتم : 2/404 ، مسند الإمام أحمد:6/332، والسنن الكبرى للبيهقي : 1/109 ،المعجم الكبير للطبراني : 10/ 314 ، تفسير القرآن العظيم لابن كثير : 1/62 ، الدر المنثور للسيوطي : 1/621- 623 .
- القول الثاني: ما بين السرة إلى الركبة. أو كما قال الإمام القرطبي – رحمه الله تعالى: له منها ما فوق الإزار . وهذا مروى عن الإمام مالك وأبى حنيفة وأحد قولى الشافعى وغيرهم – رحمهم الله-.
قرآن كريم حجة هذا القول قوله - صلى الله عليه وسلم - للسائل حين سأله: ما يحل لى من امرأتى وهى حائض؟ فقال : "لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها" : عون المعبود شرح سنن أبى داود – كتاب الطهارة :1/454، مسند الإمام أحمد :1/14 .
- القول الثالث: الذي يجب اعتزاله موضع الأذى وهو الفرج، وممن قال بذلك: السيدة حفصة - رضي الله تعالى عنها - وعكرمة، وقتادة، والشعبي ، والثوري ، والصحيح من قولي الإمام الشافعي.
ودليله: قوله - صلى الله عليه وسلم - : " اصنعوا كل شيء إلا النكاح" سبق تخريجه.
القول الرابع: الذي يجب اعتزاله " الدبر". وروى هذا القول عن مجاهد.
وأصل ذلك: ما ذكره الإمام أبو بكر بن العربى - رحمه الله تعالى - حيث قال : روى المقصرون عن عائشة - رضى الله تعالى عنها-: إذا حاضت المرأة حرم حجرها. ثم انتهى الإمام ابن العربى إلى أن هذا القول باطل، ولكن ذكره لبيان حاله. =(5/13)
ش: والفرق بين معنيي الإيجاب ظاهر(1)، وهو (أن) (2) الإيجاب(3)
__________
(1) - والراجح في هذه المسألة: أن المباشر إذا استطاع أن يضبط نفسه عن الفرج ويثق باجتنابه لضعف شهوته، أو لشدة ورعه جازت له المباشرة لما تحت الإزار، وأما إذا لم يستطع أن يملك نفسه فلا يجوز له المباشرة لما تحت الإزار؛ لأنه كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه .
قال ابن رشد - رحمه الله تعالى - " من الناس من رام الجمع بين هذه الآثار، وبين مفهوم الآية على هذا المعنى الذى نبه عليه الخطاب الوارد فيها، وهو كونه أذى، فحمل أحاديث المنع لما تحت الإزار على الكراهية ، وأحاديث الإباحة ومفهوم الآية على الجواز ... الخ".
قلت: إن ما قاله ابن رشد –رحمه الله تعالى - يتفق مع القاعدة المشهورة وهى أن الجمع بين الأدلة أفضل من طرح بعضها والعمل بالبعض الآخر.
أحكام القرآن لابن العربى :1/162، 163، التفسير الكبير، للإمام فخر الدين الرازي:3/348، الجامع لأحكام القرآن للقرطبى :3/86، 87 ، بدائع الصنائع للكاسانى :1/44، بداية المجتهد لابن رشد :1/128، 129 ، كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار للإمام تقى الدين الحسينى الحصنى الشافعى :1/49 ، العدة شرح العمدة للإمام بهاء الدين المقدسى :49، أسنى المطالب شرح روض الطالب للشيخ القاضي زكريا الأنصارى :1/100.
( ) المراد بهذه الجملة:أن الفرق بين قول المصنف:يوجب كراهة ضده، وقوله:يقتضى كراهة ضده ظاهر ؛ فإن الإيجاب أقوى من الاقتضاء ؛ لأن الإيجاب يستعمل فيما إذا كان الحكم ثابتا بالعبارة ، أو الإشارة ، أو الدلالة ، فيقال :النص يوجب ذلك ، فأما إذا كان الحكم ثابتا بالاقتضاء ، فلايقال :يوجب ، بل يقال :يقتضي. اهـ.
كشف الأسرار لعبد العزيز البخارى:2/479 .
(2) ساقطة من (ت) .
(3) الإيجاب نوعان: لفظي ، وهو الخطاب الطالب للفعل طلبا جازما .
ونفسي :وهو الطلب القائم بالنفس وليس للفعل منه صفة لتعلقه بالمعدوم .
البحر المحيط للزركشي:1/176 ، أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير:1/102 .(5/14)
:
يستعمل فيما كان ثابتا بعبارة النص(1)
__________
(1) الحكم الثابت بعبارة النص عرفه شمس الأئمة السرخسي - رحمه الله تعالى- بأنه: ما كان السياق لأجله، ويعلم قبل التأمل أن ظاهر النص متناول له.
مثال ذلك: قوله تعالى في سورة الحشر آية(8): { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِين } فالثابت بالعبارة في هذه الآية نصيب من الفيء لهؤلاء الفقراء المهاجرين؛ لأن سياق الآية لذلك.
أصول السرخسي:1/177، نهاية الوصول إلى علم الأصول :2/551، 552، التعريفات للشريف الجرحاني:189.
هذه هي تقسيمات وجوه استنباط الحكم من النظم، أو كما يسميها صاحب "فواتح الرحموت": دلالة اللفظ. حيث قال: دلالة اللفظ عندنا أربعة منها العبارة، ومنها الإشارة، ومنها الدلالة، ومنها الاقتضاء. فواتح الرحموت :1/406- 408، نهاية الوصول إلى علم الأصول :2/551.
- والجمهور يقسمون دلالة اللفظ على المعنى إلى ثلاثة أقسام: دلالة المطابقة، والتضمن، والالتزام.
- وهناك تقسيمات أخرى للدلالة من حيث المنطوق والمفهوم، فقالوا: تنقسم دلالة اللفظ إلى منطوق ومفهوم، والمنطوق ينقسم إلى قسمين: منطوق صريح، وغير صريح. والمنطوق الصريح: هو دلالة اللفظ على ما وضع له سواء أكان ذلك المعنى بطريق المطابقة أم التضمن . والمنطوق غير الصريح: هو دلالة اللفظ على ما لم يوضع له. وينقسم إلى ثلاثة أقسام: دلالة الاقتضاء، والإشارة، والإيماء.
قرآن كريم وأما المفهوم فيقسم إلى قسمين: مفهوم الموافقة، ومفهوم المخالفة.
فالأول: هو دلالة اللفظ على حكم في مسكوت عنه موافق لحكم المذكور.
والثاني: دلالة اللفظ على حكم في مسكوت عنه مخالف لحكم المذكور.
تراجع تقسيمات دلالة اللفظ عند الحنفية والمتكلمين في: أصول السرخسي :1/177- 207، المستصفى :1/30، 2/189- 191:، ميزان الأصول :397، 398، كشف الأسرار للبخاري:1/67- 75، جمع الجوامع على حاشية البنانى:239، 240، الإحكام للآمدي :3/64، 65، تنقيح الفصول للقرافي :23- 26، المختصر في أصول الفقه لابن اللحام :176- 183، أصول الفقه للشيخ زهير :91 وما بعدها، معراج المنهاج :1/ 167، 168، 275، 276.(5/15)
، أو بإشارته(1)،
أو بدلالته(2) ، والاقتضاء (3)
__________
(1) الحكم الثابت بإشارة النص: هو ما لم يكن السياق لأجله لكنه يعلم بالتأمل في معنى اللفظ من غير زيادة ولا نقصان، وبه تتم البلاغة والإعجاز. كقوله تعالى في سورة = = البقرة (233): { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ } فالكلام سيق لإثبات النفقة للولد وفيه إشارة إلى نسبة الولد إلى الأب؛ لأنه أضاف الولد إليه بحرف اللام.
أصول السرخسى1/177 المستصفى1/30 ميزان الأصول 397 ، أصول الشاشي :99- 101، ميزان الأصول للسمرقندي :397، التعريفات للجرجاني :43، تيسير التحرير :1/86، 87.
(2) دلالة النص وتسمى- أيضا- فحوى الخطاب، أو لحن الخطاب، أو مفهوم الموافقة أو هى عبارة عما ثبت بمعنى النظم أو النص لغة لا اجتهادا. كحرمة التأفيف الثابتة بالنهى في قوله تعالى: { فلا تقل لهما أف } سورة الإسراء الآية (23) ، فأهل اللغة يعرفون عند سماع هذه الآية أن الضرب والقتل أشد حرمة، فيكون النص دالا بالعبارة على حرمة التأفيف، وبالدلالة من غير تأمل على تحريم الضرب.
أصول الشاشي :104-109، شرح اللمع للشيرازي،1/424، ميزان الأصول للسمرقندي :398- 400، نهاية الوصول إلى علم الأصول لابن الساعاتي :2/553، التلويح على التوضيح للتفتازاني:1/349.
(3) الاقتضاء: هو طلب الفعل مع المنع من الترك، والطلب نوعان:
طلب فعل على سبيل الجزم، وهو الإيجاب، أو ليس على سبيل الحتم والإلزام، وهو الندب.
وطلب ترك على وجه الحتم والإلزام، وهو التحريم. أو ليس على سبيل الحتم، وهو الكراهة.
والمراد بالاقتضاء هنا: هو اقتضاء النص، وهو عبارة عن زيادة على المنصوص عليه يشترط تقديره أو إضماره ليصير المنظوم مفيداً أو موجبا للحكم؛ إذ بدونه لا يمكن إعمال المنظوم.
وقال عبد العزيز البخارى - رحمه الله تعالى-:"قيل في تفسير المقتضى: هو ما أضمر في الكلام ضرورة صدق المتكلم، وارتضِِى أن يقال هو ما ثبت زيادة على النص لتصحيحه شرعاً.
ونظير ما كان لتصحيح الكلام، إذا تعلق بهذا الكلام حكم شرعى، كما في قوله تعالى: { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا } سورة يوسف(82). حيث ورد الأمر بالسؤال للقرية، ولا يصح هذا السؤال، لأنه لا يصح منها الجواب، لأنها لا تعقل، وبناء عليه، فيلزم تقدير أو إضمار "الأهل" ليكون الكلام موجبا للحكم، فيقال في غير القرآن: "واسأل أهل القرية" اهـ
أصول السرخسي:1/186، ميزان الأصول :401، المستصفى:2/281، الكافي شرح أصول البزدوي :1/270، كشف الأسرار للبخاري :1/75، 2/245- 236، التعريفات للجرجاني :50.(5/16)
: يستعمل فيما كان ثابتا ضرورة صحة اللفظ.
قوله: وأما النهي عن الشيء فهل له حكم فى ضده؟
فعلى هذا- أيضا- قال الفريق الأول(1): لا حكم له فيه.
وقال الجصاص- رحمه الله تعالى- إن كان له ضد واحد كان أمرا، وأن كان له أضداد لم يكن أمرا بشيء منها(2).
وقال بعضهم(3): يوجب أن يكون ضده في معنى سنُّة واجبة (4).
وعلى القول المختار: يحتمل أن يقتضى ذلك(5)
__________
(1) المراد بالفريق الأول: " أى في مسألة الأمر بالشيء نهى عن ضده".وهم :إمام الحرمين، وابن الحاجب، ونسبه صاحب الكوكب المنير إلى الكياالهراسي، وإلى النووى في الروضة " في كتاب الطلاق:8/188 ، وعزاه عبد العزيز البخارى إلى أبى هاشم ومن تابعه من متأخرى المعتزلة .
(2) عبارة الجصاص في أصوله:" وأما النهى عن الشيء، فإنه أمر بضده إذا لم يكن له إلا ضد واحد ؛ لأنه لا يصح منه ترك المنهى عنه ، واجتنابه إلا بفعل ضده ، إذ غير جائز أن ينفك منهما إذا لم يكن له إلا ضد واحد . وأما إذا كان له أضداد كثيرة، فليس النهى عنه أمراً بسائر أضداده"ا هـ . أصول الجصاص المسمى الفصول في الأصول:1/332 .
(3) هذا هو القول الثالث في المسألة ، وقد عزاه الإمام بدر الدين الزركشي إلى جماعة من محققي الحنفية . البحر المحيط : 2/423 .
(4) عبّر شمس الأئمة السرخسي - رحمه الله تعالى - عن هذا الرأى فقال:" وأما الفريق الثالث فيقولون:موجب النهى في ضده إثبات سّنة تكون في القوة كالواجب " .
وقال عبد العزيز البخاري – رحمه الله تعالى - :"في معنى سنة واجبة أى سنة مؤكدة فريبة من الواجب . أصول السرخسي : 1/ 97 ، كشف الأسرار للبخاري:2/479 .
(5) إشارة إلى أن هذا القول هو المختار في المسألة، ومعناه: يحتمل أن يقتضى كون الضد في معنى سنة مؤكدة، وهذا اختيار فخر الإسلام البزدوي، والقاضي أبي زيد، وشمس الأئمة. كشف الأسرار:2/479، تيسير التحرير:1/363 . =
= قلت : والراجح في هذه المسألة أن النهى عن الشيء أمر بضده إن كان له ضد واحد بالاتفاق، كالنهى عن الكفر - والعياذ بالله – فإنه أمر بالإيمان، وإن كان للنهى أضداد كثيرة، فيكون أمرا بواحد منها غير عين ؛ لأن المنهى عنه يتحقق بفعل واحد من هذه الاضداد، كالنهى عن القيام له أضداد كثيرة من القعود والاستلقاء والاضطجاع، ويتحقق المنهى عنه بفعل واحد من هذه الأضداد . البرهان لإمام الحرمين: 1/50، البحر المحيط:2/421 .(5/17)
.
ش : وقوله ( فعلى هذا ) أى فعلى هذا الخلاف المذكور فى الأمر بالشيء(1)، ثم بين كون النهي عن الشيء على الخلاف المذكور بقوله قال الفريق الأول: لاحكم له.
وأراد بقوله : ( في معنى سنه واجبة )، كون الضد فى معنى السنة المؤكدة(2) القريبة من الواجب(3)
__________
(1) أى على الخلاف المذكور في مسألة :الأمر بالشيء والنهى عن ضده التى مر ذكرها .
(2) السنة لغة:الطريقة مرضية كانت أو غير مرضية، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - :" من سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" رواه أحمد في مسنده:4/362 .
وأما في عرف الشرع:فهى الطريقة المسلوكة في الدين، وهى مشترك بين القول والفعل والتقرير، والصفة، وهي نوعان :
أ- سنة هدى أو السنة المؤكدة ، وهى ما واظب عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يتركها إلا لعذر، ويتعلق بتركها كراهية ولوم، وفى إقامتها تكميل للدين كالأذان، والإقامة، والسنن الرواتب وآكدها الفجر، والوتر عند غير الحنفية .
ب- السنن المطلقة أو الزوائد، وهى قُرَب زائدة على المؤكدات ، وأخذها حسن ولا يتعلق بتركها كراهية 0
ميزان الأصول :27،34، التعريفات:162، والتلويح على التوضيح:2/260 .
(3) الواجب لغة: يطلق على شيئين:
أ- الساقط ، يقال:وجب الميت أى سقط ، ومنه قوله تعالى: { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } سورة الحج الآية:36 .
ب- ويستعمل أيضا في اللازم والثابت، يقال : وجب عليه الدين، أى لزم المكلف أداؤه وثبت عليه . مختار الصحاح : 709 .
وأما الواجب في الشرع فقد اختلف الفقهاء والمتكلمون في حده :
فقال إمام الحرمين: الواجب هو كل ما ورد الشرع بالذم بتركه ، من حيث هو ترك له ، واختار ابن اللحام في مختصره أن الواجب هو ما ذُم شرعا تاركه قصدا مطلقا ، والفرض والواجب عند الجمهور مترادفان .
وقد فرق الحنفية بين الواجب والفرض فقالوا : الفرض هو ما ثبت وجوبه بدليل مقطوع ، كالصلوات الخمس ، وصوم رمضان ، ونحو ذلك ، وأما الواجب فهو : ما ثبت وجوبه بدليل مظنون ، كخبر الواحد ، والقياس ، والوتر ، ونحو ذلك .
تلخيص التقريب لإمام الحرمين : 28 ، المستصفى : 1/ 27 ، 28 ، نهاية الوصول إلى علم الأصول : 1/143 ، فواتح الرحموت : 1/58 ، ميزان الأصول:28، 29 نفائس الأصول:1/262، ، التمهيد للإسنوى:58 ، التلويح على التوضيح:2/259 .(5/18)
في القوة.
وقوله : ( يحتمل أن يقتضى ذلك ) أي: يحتمل أن يقتضى النهي كون الضد في معنى سنة واجبة، أي: سنة مؤكدة، يعنى إذا كان النهي للتحريم.
ثم اعلم أن / مذاهب العلماء وعباراتهم مختلفة في هذه المسألة وقد مر عبارة فخر الإسلام.
فقال القاضي أبو زيد (1) في التقويم: القول في الأمر بفعل واجب، ماذا حكمه في ضده؟
قال بعضهم: الأمر بفعل لا حكم له في ضده .
وقال بعضهم: يقتضى نهيا في ضده، وإليه ذهب أبو بكر الجصاص .
وقال بعضهم: يدل على كراهة ضده .
وقال بعضهم:( يقتضى ) (2) كراهة ضده، وهو المختار عندنا. إلى هنا لفظ التقويم(3).
وقال شمس الأئمة السرخسى(4) فى أصوله: قال بعض المتكلمين. لا حكم للأمر في ضده.
وقال الجصاص: الأمر بالشيء يوجب النهي عن ضده، سواء كان له ضد واحد، أو أضداد.
__________
(1) هو القاضي عبيد الله بن عمر بن عيسى أبو زيد الدبوسي الحنفى، ينسب إلى دبوسة ، وهى بلدة بين بخارى وسمرقند، كان أحد من يضرب به المثل في النظر، واستخراج الحجج ، توفى ببخارى سنه ثلاثين وأربعمائة من مصنفاته : كتاب " الأسرار"، و" تقويم الأدلة" الذى نقل عنه صاحب الشامل . العبر في خبر من غبر للذهبى:2/263، البداية والنهاية:12/46 . الجواهر المضية:2/499، الفوائد البهية :109 .
(2) ساقطة من الصلب في (ت)، ومثبته في الهامش.
(3) تقويم الأدلة للدبوسى:48 ، وقد مر تحقيق أقوال صاحب التقويم ص:
(4) هو الإمام محمد بن أحمد بن أبى سهل، المكنى :بأبى بكر ، الشهير بالسرخسي، أحد الأئمة الفحول الكبار في المذهب الحنفى، كان إماما، علامة، حجة، فقيها، أصوليا . لزم شمس الأئمة أبا محمد الحلواني حتى صار أنظر أهل زمانه ، من مصنفاته :المبسوط في الفقه ، وأصوله المشهورة بأصول السرخسي، واختلف في وفاته فقيل:مات سنة تسعين وأربعمائة، وقيل في حدود الخمسمائة من الهجرة وقيل غير ذلك .
الجواهر المضية:3/ 78 - 82 ، الفوائد البهية : 158، هدية العارفين : 6/76 0(5/19)
وقال بعضهم: يوجب كراهة ضده، والمختار عندنا أنه يقتضي كراهة ضده،ولا نقول إنه يوجبه، أو يدل عليه مطلقا، إلى هنا لفظ شمس الأئمة.
ثم قال شمس الأئمة: وإذا تبين حكم الأمر، فكذلك حكم النهي في ضده على هذه الأقاويل الأربعة. (1)
واختلف ألفاظ الفحول الثلاثة (2) في نقل مذهب الجصاص، فعبارته فى أصوله هكذا قال: " والصحيح عندنا أن الأمر بالشيء نهى عن ضده، سواء كان ذا ضد واحد
أو ذا أضداد كثيرة ، وذلك لأنه قد ثبت عندنا وجوب الأمر، وأنه على الفور، فيلزم (3) بوروده ترك سائر أضداد ، فكان بمنزلة من قيل له: لا تفعل أضداد هذا الفعل المأمور به فى هذا الوقت.
مثل أن تقول لمن كان في / الدار : اخرج في هذا الوقت من هذه الدار، فقد كره له سائر ما يضاد الخروج منها، نحو القعود والقيام والاضطجاع والحركة فى الجهات الست إلا ما كان منها خروجا من الدار، فصار كمن نهى عن هذه الأفعال بلفظ يقتضى كراهة فعلها. والنهي عن هذه الأفعال في وقت واحد نهي صحيح ، لو نُص عليها بلفظ النهي لم يكن مستحيلا ولا ممتنعا، فكذلك إذا تضمنه لفظ الأمر من الوجه الذى ذكرنا - كانت هذه الأفعال محظورةًًًًً ، يلزم المأمورَ اجتنابُها عند ورود الأمر.
__________
(1) أصول السرخسي:1/94.
(2) المراد بالفحول الثلاثة:القاضي أبو زيد الدبوسي، وفخر الإسلام البزدوي، وشمس الأئمة السرخسي، فقد نقلوا مذهب الإمام أبى بكر الجصاص في مسألة الأمر بالشيء هل هو نهى عن ضده؟
(3) في ( ت ) فيلزمه، والصواب ما أثبته كما في الأصل، وأصول الجصاص.(5/20)
وأما النهي عن الشيء: فإنه أمر بضده إذا لم يكن له إلا ضد واحد؛ لأنه لا يصح منه ترك المنهي عنه واجتنابه إلا بفعل ضده ؛ إذ غير جائز أن ينفك (منها)(1) إذا لم يكن إلا ضد واحد، وأما إذا كان له أضداد كثيرة فليس النهي عنه أمرا بسائر أضداده؛ لأنه له أن ينصرف عن كل واحد منها إلى غيره على وجه الإباحة(2) إلى هنا لفظ الجصاص (3).
وقال الشيخ أبو المعين النسفي (4) فى آخر فصل الكلام في الاستطاعة (5)
__________
(1) في كتاب التقويم:48 "منهما"
(2) قال ابن فورك: حد الإباحه:مجرد الإذن، وقال الإمام الجوينى:" اعلم أن الإباحة هى الإذن المتضمن تخيير المخاطب بين فعل الشيءوتركه من غير تخصيص ذم أو مدح بأحدهما ". الحدود في الأصول لابن فورك : 137 ، البرهان 1/216.
(3) أصول الجصاص المسمى الفصول في الأصول:1/332 .
(4) هو الإمام الزاهد المكنى " بأبى المعين" النسفي المكحولي، واسمه ميمون بن محمد بن محمد بن معتمد بن محمد بن مكحول بن أبى الفضل، كان فقيها، أصوليا، متكلما، زاهدا ورعا ومن مصنفاته:" التمهيد لقواعد التوحيد" " وكتاب تبصرة الأدلة " . توفى – رحمه الله تعالى - سنة 508هـ .
الجواهر المضية:3/1725، وكشف الظنون:3/294 .
(5) قال الشيخ أبو المعين النسفي:"اعلم أن الاستطاعة والقوة والقدرة والطاقة متقاربة المعانى، وفى مصطلح أهل الكلام أنهم يريدون بها كلها شيئا واحدا إذا أضافوها إلى العباد، ويجعلونها في عرفهم بمنزلة الأسماء المترادفة كالأسد والليث وأشباه ذلك" .
قرآن كريم أقسامها:حصر الشيخ أبو المعين الاستطاعة في قسمين :
أحدهما:سلامة الأسباب وصحة الآلات، وهذا النوع من الاستطاعة يحد بأنه:التهيؤ لتنفيذ الفعل عند إرادة المختار، وهذا النوع أيضا قد يتقدم على الفعل، فإن الزاد والراحلة تتقدمان وجود أفعال الحج .
ثانيهما:معنىً لا يمكن تبيُّن حده بمعنى يشار إليه سوى أنه ليس إلا للفعل، وهو عرَض يخلقه الله تعالى في الإنسان يفعل به أفعاله الاختيارية، وهو علة للفعل عندنا. وهذا النوع من الاستطاعة اختلف المتكلمون في جواز تقدمها على الفعل، فقال القاضي عبد الجبار:إن من مذهبنا أن القدرة متقدمة وسابقه على الفعل .
وقال الشيخ أبو المعين النسفى:قال أصحابنا وجميع متكلمي أهل الحديث والنجارية:إنها تكون مع الفعل، أو مقارنة له . اهـ .
تبصرة الأدلة لأبي المعين النسفي :2/591 - 596 رسالة دكتوراه في كلية أصول الدين تحت رقم:873 ، مقالات الإسلاميين لأبى الحسن الأشعري:229، 230 شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار :395 ، المستصفى :1/135 ، ميزان الأصول:172، 173 .(5/21)
: " ثم إن بعض ( المتأخرين ) (1) ممن تكلم في أصول الفقه من أهل ديارنا (2)، ذكر أنى أقول : إن الأمر بالشيء يقتضى كراهية ضده لا نهيه، ولا أقول: إنه نهى عن ضده، ولا أقول: إنه يدل على نهيه، ولا إنه يقتضى نهيا.
ولست أدرى ماذا كان رأيه في الكلام؟ / إنه هو المعنى القائم بالذات المنافي للسكوت والآفة وهو بعينه أمر بما أمِر به،( و ) (3) نهى عما نهى عنه (4) ،
__________
(1) في تبصرة الأدلة :المتكلمين . 2/631.
(2) الديار التي ينسب إليها الشيخ أبو المعين النسفي هي " نسف"، وهي مدينة بين جيحون وسمرقند، وأما المتكلم في أصول الفقه من أهل دياره فلم أقف عليه. معجم البلدان:8/286.
(3) ساقطة من (ت) .
(4) ينظر صفة الكلام عند أهل السنة في:الإبانة عن أصول الديانة، لأبى الحسن الأشعرى :88 ، الحدود في الأصول لابن فورك:133، 134، ميزان الأصول لعلاء الدين السمرقندى :150 ، المحصول، للرازى:1/40 ، مفردات الراغب الأصفهانى:457 .(5/22)
كما هو مذهب أهل السنة والجماعة (1). أو هذه الحروف المنظومة والأصوات المقطوعة.(2) وما كان أمرا لا يكون نهيا، وما كان نهيا لا يكون أمرا كما هو مذهب المعتزلة(3).
وكذا ماذا كان رأيه : إنَّ توجَّه الوعيد على تارك الصلاة لارتكابه ضدها المنهي
عنه وهو الترك الذي هو فعل (4)
__________
(1) قال صاحب الفرق بين الفرق:فاما الفرقة الثالثة والسبعون فهى أهل السنة والجماعة من فريقى الرأى والحديث دون من يشترى لهو الحديث وفقهاء هذين الفريقين، وقراؤهم، ومحدثوهم، ومتكلموا أهل الحديث، فكلهم متفقون على مقالة واحدة في توحيد الله تعالى، وصفاته وعدله وأسمائه . . . وفى سائر أصول الدين، وإنما مختلفون في الفروع، وليس بينهم فيما اختلفوا فيه تضليل ولا تفسيق، وهم الفرقة الناجية ، ويدخل في هذه الجملة جمهور الأمة وسوادها الأعظم من أصحاب مالك، والشافعى، وأحمد، وأبى حنيفة، والأوزاعى، والثورى، وأصحاب الظاهر" اهـ . الفرق بين الفرق للعلامة عبد القاهر البغدادى :26- 28 ،الفصل في الملل والأهواء والنحل:1/371 .
(2) لمعرفة صفة الكلام عند المعتزلة يراجع: شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار :528، 529 ، مقالات الإسلاميين، لأبي الحسن الأشعرى ص194، ميزان الأصول:148 ، المحصول للرازى:1/40 .
(3) المعتزلة :هم أصحاب واصل بن عطاء، ويلقبون بالقدرية ، ويسمون أنفسهم أصحاب العدل والتوحيد ، يجمعهم القول بالأصول الخمسة، وأن العبد يخلق أفعال نفسه ، وذهبوا إلى أن أصول المعرفة ، وشكر المنعم واجب عقلا .
شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ، الفرق بين الفرق :40، 41.
(4) مبنى هذه المسألة : مبنى هذا الكلام على مسألة هل الترك من قسم الأفعال؟ وقد ذهب جمهور الأصوليين إلى أنه لا تكليف إلا بفعل، وأن الترك والكف من قسم الأفعال، وأن المكلف به في النهى فعل ضد المنهي عنه. وهو كف النفس عن الفعل، لا نفى الفعل، لأن كف النفس فعل، ونفى الفعل ليس بفعل.
وذهب أبو هاشم ومن تابعه من المعتزلة إلى أن المكلف به في النهى أن لا يفعل العبد. قال القاضي عبد الجبار: "وأما عند أبى هاشم، فإن - لا يفعل - كالفعل في أنه جهة الاستحقاق، وهو الصحيح من المذهب".
*والحاصل: أن ما ذهب إليه الجمهور هو الراجح في المسألة، لأن النهى تكليف، ولا تكليف إلا بمقدور، والعدم الأصلي ليس مقدوراً للمكلف؛ لأن القدرة لابد لها من أثر وجودي، ومن ثم امتنع إسناد العدم الأصلي إليها، وإذا ثبت هذا، ثبت أن مقتضى النهى أمر وجودي ينافي المنهي عنه وهو الضد.
تراجع آراء الأصوليين في هذه المسألة في شرح الأصول الخمسة:638، المستصفى :1/90، الإحكام للآمدي:1/147، نهاية الوصول إلى علم الأصول :1/206، شرح العضد على ابن الحاجب:2/13، المختصر لابن اللحام :67، المسودة :80، روضة الناظر :29 .(5/23)
كما هو مذهب جميع أهل القبلة. أم لانعدام ما أمر به من غير فعل ارتكبه كما هو مذهب أبى هاشم (1)؟ فإن كان متمسكا بمذاهب أهل السنة والجماعة، فقال ما قال لرأى سنح له غير معروض على قوانين الأصول، ولا مبنى على قواعد المذهب،وإن كان مائلا إلى مذهب القوم (2) في مسألة الكلام ، وإلى مذهب أبي هاشم في هذه المسألة، فقال ما قال بناء على رأيه، غير أنه مع هذا خالف أبا هاشم ، حيث جعل للأمر حكما في ضد المأمور به، وهو الكراهية ، وأبو هاشم أبى هذا (3)، وهذا من أعجب الرأي ؛ فإنه إن كان الوعيد متوجها على من انعدم المأمور به من قِبله ، وعوقب لذلك، كما هو مذهب أبي هاشم ، فأي حاجة له إلى إثبات الكراهية في ضده، والوعيد بدونه متوجه، والعقاب متحقق؟
__________
(1) هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب، أحد رؤوس المعتزلة، أخذ العلم عن والده أبي علي الجبائي، من مصنفاته : الجامع الكبير، والمسائل العسكرية، توفي سنة 321هـ . سير أعلام النبلاء للذهبي: 15/63، البداية والنهاية:11/176.
(2) أي :المعتزلة؛ لأن السياق يدل على ذلك.
(3) في تبصرة الأدلة في " الضد " :2/632.(5/24)
وإن لم يكن بد من فعل المحظور يرتكبه ، ووزر عظيم يحتقبه(1)؛ لتوجه الوعيد، وتحقق العقوبة، وذلك هو فعل الترك، فكيف يزعم بتوجه كل الوعيد الوارد لتارك الفرائض، وثبوت العقوبة له لو لم يتغمده الله برحمته بمباشرة فعل مكروه ليس بمنهي عنه ولا محظور ؟ وهذا مما يأباه جميع أهل القبلة، والله الموفق. إلى هنا لفظ الشيخ أبي المعين النسفي- رحمه الله تعالى - في كتاب تبصرة(2) الأدلة(3)
وجملة البيان هنا ما قال في الميزان(4): الأمر بالفعل هل هو نهى عن ضده، والنهي عن الفعل هل هو أمر بضده؟
ههنا فصلان
أحدهما: أن الأمر بالفعل هل هو نهى عن ضده؟
الثاني:النهي عن الفعل هل هو أمر بضده؟
__________
(1) احتقب الشيء: أي أردفه، واحتقب فلان الإثم : أي ارتكبه. القاموس المحيط: 76، المعجم الوجيز: 162.
(2) في " ت "، " د " تبصير ، والصواب ما أثبته؛ لأن الكتاب محقق في كلية أصول الدين بالقاهرة بعنوان " تبصرة الأدلة "، وكذلك الكتب التي ترجمت لأبي المعين النسفي ذكرت مصنفاته، ومنها تبصرة الأدلة. الجواهر المضية: 3/1725، كف الظنون:2/294.
(3) انتهى كلام الشيخ أبي المعين في تبصرة الأدلة: 2/632.
(4) الميزان : كتاب في أصول فقه الحنفية، ويسمى "ميزان الأصول في نتائج العقول".
ومؤلفه: الإمام علاء الدين شمس النظر، أبو منصور محمد بن أحمد السمر قندى - رحمه الله تعالى- ينسب إلى سمرقند، وهى مدينة مشهورة فيما وراء النهر، أخذ العلم عن مشاهير العلماء مثل:صدر الإسلام أبى اليسر "البزدوي"، وأبى المعين النسفى، وغيرهما، وتفقهت على يديه:ابنته فاطمة، وزوجها الكاسانى، من مصنفاته:تحفه الفقهاء، وميزان الأصول . توفى رحمه الله:539هـ وقيل غير ذلك .
الجواهر المضية:3/18، كشف الظنون:2/1542 .(5/25)
أما الأول: قال عامة مشايخنا(1)، وأصحاب الحديث(2): إن الأمر بتحصيل الشيء يكون نهيا عن ضده إذا كان له ضد واحد، كالأمر بالإيمان ونحوه. وإن كان له أضداد - كالأمر بالقيام، فإن له أضدادا من القعود، والركوع والسجود والاستلقاء ونحوها - اختلفوا فيما بينهم:
قال بعضهم: يكون نهيا عن الأضداد كلها.
وقال بعضهم: يكون نهيا عن واحد من الأضداد غير عين(3).
ثم قال بعض أصحاب الحديث: هذا في الأمر الذي هو أمر إيجاب .
__________
(1) الضمير راجع إلى الأصوليين من الحنفية .
(2) أهل الحديث:المراد بهم أهل الحجاز، وهم أصحاب مالك بن أنس، وأصحاب محمد بن إدريس الشافعى، وأصحاب سفيان الثوري، وأصحاب أحمد بن حنبل، وأصحاب داود بن على محمد الأصفهاني. الملل والنحل للشهرستاني:166 .
(3) قال العلامة عبد العزيز البخارى – رحمه الله تعالى- :ذهب عامة العلماء الذين قالوا:بأن موجب الأمر الوجوب ، من أصحابنا، وأصحاب الشافعى – رحمه الله تعالى- وأصحاب الحديث إلى أن الأمر بالشيء نهى عن ضده إن كان له ضد واحد، كالأمر بالإيمان نهى عن الكفر، وإن كان له أضداد - كالأمر بالقيام- ، فإن له أضدادا من القعود والركوع والسجود والاضطجاع ونحوها ، يكون الأمر نهيا عن الأضداد كلها .
وقال بعضهم:يكون نهيا عن واحد منها غير عين، قال صاحب التقرير والتحبير معقبا على هذا القول:"وهو بعيد ظاهر البعد" .
- وفصل بعض العلماء بين أمر الإيجاب والندب فقال :أمر الإيجاب يكون نهيا عن ضد المأمور به أو أضداده، لكونها مانعة من فعل الواجب، وأمر الندب لايكون كذلك فكانت أضداد المندوب غير منهى عنها، لا نهى تحريم، ولا نهى تنزيه .
ومن لم يفصل:جعل أمر الندب نهيا ضد المأمور به ، نهي ندب حتى يكون الامتناع عن ضده مندوبا كما يكون فعله مندوبا . =
= كشف الأسرار لعبد العزيز البخارى:2/477، التقرير والتحبير:1/381، تيسير التحرير:1/362، 363 . الواضح في أصول الفقه:3/151 .(5/26)
فأما أمر الندب، فلا يكون نهيا عن ضده / (1).
وقال عامتهم(2)، بأن الأمر بالفعل يكون نهيا عن ضده مطلقا، لكن على حسب الأمر.
__________
(1) ينظر تحرير هذه الأقوال في:العدة في أصول الفقه لأبي يعلى :2/368- 372، وأصول السرخسي:1/94 96، كشف الأسرار للبخارى:2/477، 478 ،تيسر التحرير:1/362، 363، بيان المختصر:1/451، 452، البحر المحيط:2/416 - 420 .
(2) الضمير راجع إلى عامة أهل الحديث، قال القاضي أبو يعلى : " الأمر بالشيء نهي عن ضده من طريق المعنى ، سواء كان له ضد واحد، أو أضداد كثيرة، ثم قال - أيضا - في الجواب على من احتج بأن النوافل مأمور بها ، وضدها وهو الترك غير منهي عنه: إنا لا نسلم هذا، بل نقول: ضدها منهي عنه لا يستحب تركه، فيكون الأمر الذي هو ندبه يتضمن النهي، وكل أمر يتضمن النهي على حسب الأمر، فإن كان الأمر إيجابا ، كان النهي محرما، وإذا كان الأمر استحبابا كان النهي تنزيها..." أ هـ .العدة في أصول الفقه لأبي يعلى: 2/368-372، الواضح لابن عقيل: 3/150-152.(5/27)
( فإن ) (1) كان أمر إيجاب يكون النهي عن ضده نهى تحريم، وإن كان (الأمر)(2) أمر ندب يكون النهي عن ضده نهى ندب ، حتى يجب الامتناع عن المنهى عنه فى الأول، وفى الثانى يندب (إلى)(3) الامتناع، حتى يكون إتيان النوافل(4) أولى من الأفعال المباحة، ويصير منهيا عنه(5) نهي ندب من حيث إنه ترك للمندوب لا لعينه، فيندب الامتناع عنها إذا لم يكن له حاجة إلى مباشرتها.
وأما الثاني: وهو أن النهي عن فعل(6) هل يكون أمرا بضده؟ أجمعوا(7) أنه إذا كان له ضد واحد، يكون أمرا بضده، كالنهي عن الكفر يكون أمرا بالإيمان، والنهي عن التحرك يكون أمرا بالسكون.
فأما إذا كان له أضداد ، كالنهي عن القيام ونحوه اختلفوا فيه.
قال بعض أصحابنا وبعض أصحاب الحديث: يكون أمرا بالأضداد كلها كما في جانب الأمر(8)
__________
(1) في الميزان: 144 ، ( إن ) بدون الفاء .
(2) كذا زيادة لفظ " الأمر" في الميزان" . 144
(3) زيادة " إلى" في الميزان 144.
(4) النوافل: جمع نافلة وهي الزيادة ، ومنه تسمى الغنيمة نفلا؛ لأنه زيادة على ما هو المقصود بالجهاد شرعا ، ومنه سمي ولد الولد نافلة؛ لأنه زيادة على ما حصل للمرء بكسبه ، والنوافل من العبادات زوائد مشروعة لنا لا علينا.أصول السرخسي :1/115 .
(5) في ( ت) عنه ، وفي ميزان الأصول ( عنها ) ، والصواب ما أثبته.
(6) في :"الفعل" .
(7) لعله سقط من هنا حرف على؛ لأن الفعل أجمع لا يتعدى إلا بعلى،والضمير عائد إلى عامة مشايخ الحنفية، وأصحاب الشافعى، وأصحاب الحديث. العدة لأبى يعلى:2/369، كشف الأسرار للبخارى :2/477، التقرير والتحبير لابن أمير الحاج:1/381 .
(8) هذا القول عزاه صاحب تيسير التحريرإلى بعض الحنفية وبعض المحدثين .
وقال الإمام عبد العزيز البخارى:" وإن كان له - أي للنهى- أضداد فعند بعض أصحابنا وبعض أصحاب الحديث يكون أمرا بالأضداد كلها كما في جانب الأمر" .
كشف الأسرار، للبخارى:2/477، تيسير التحرير، لأمير بادشاه:1/363 .(5/28)
. وقال عامة أصحابنا وعامة أهل الحديث: بأنه يكون أمرا بواحد من الأضداد غير عين(1).
وقال الشيخ ( الإمام) (2) أبو منصور الماتريدي(3)- رحمه الله - : لا فرق بين الأمر والنهي في أن لكل واحد منهما ضدا واحدا حقيقة، وهو تركه.
فالأمر بالفعل نهى عن ضده، وضده تركه غير أن الفعل قد يكون تركه بفعل واحد من الأفعال بطريق التعين كالتحرك: يكون تركه بفعل واحد متعين وهو السكون، وقد يكون تركه بأفعال / كثيرة، كالأمر بالقيام يكون نهيا عن ضده، وضده تركه ، وذلك بأفعال كثيرة من قعود واضطجاع واستلقاء وغيرها ، وكذلك النهي عن الفعل: أمر بضده، وهو تركه، وذلك بأنواع الأفعال التي ذكرناها، هذا هو بيان الاختلاف بين أهل السنة(4).
__________
(1) لعل المراد بالعامة في هذا القول:ما عليه أكثر الحنفية، والشافعية، والحنابلة .
العدة لأبى يعلى:2/372، البرهان لإمام الحرمين:1/250 كشف الأسرار للبخاري:2/477، تيسر التحرير:1/363 .
(2) ما بين القوسين زيادة في الميزان ص145 .
(3) هو محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي، لقب بإمام الهدى، ورئيس أهل السنة، له كتاب " التوحيد"، وتأويلات أهل السنة، ومآخذ الشرائع، والجدل في أصول الفقه، وغير ذلك. توفى رحمه الله تعالى – :333هـ وقبره بسمرقند .
الجواهر المضية:3/360 ، تاج التراجم:59، الفوائد البهية :195 .
(4) ينظر قول أبي منصور الماتريدي في كشف الأسرار للبخاري: 2/477.(5/29)
فأما عند المعتزلة: فالأمر بالشيء لا يكون نهيا عن ضده، والنهي عن الشيء لا يكون أمرا بضده(1)، ثم اختلفوا فيما بينهم: أنه(2) هل له حكم في ضده ؟
قال بعضهم: وهو اختيار أبى هاشم، ومن تابعه من متأخرى المعتزلة: إنه لا حكم له في ضده. بل هو مسكوت عن ضده(3) ، وقال عامتهم: بأن الأمر له حكم في ضده وهو الحرمة، لكن قال بعضهم: إن الأمر يوجب حرمة ضده(4).
وقال بعضهم: يدل على حرمة ضده(5).
وقال بعضهم: يقتضى حرمة ضده(6).
وقال بعض مشايخنا: إنه يقتضى كراهة ضده(7).
__________
(1) عبر أبو الحسين البصرى عن رأى المعتزلة في هذه المسألة فقال:"ذهب قوم إلى أن الأمر بالشيء نهى عن ضده، وخالفهم آخرون على ذلك، وإليه ذهب قاضى القضاة – أي القاضي عبد الجبار - وأصحابنا . المعتمد لأبى الحسين البصري:1/97، العدة لأبى يعلى:2/370، التبصرة لأبى إسحاق الشيرازي:90 ، الإحكام، للآمدي:2/393 .
(2) الضمير راجع إلى الأمر والنهي؛ لأن السياق يدل على ذلك.
(3) يراجع هذا القول في :كشف الأسرار، لعبد العزيز البخاري:2/478 ، تيسير التحرير:1/363 ، شرح الكوكب المنير:3/52 .
(4) هذا القول عزاه الإمام عبد العزيز البخارى، وصاحب تيسير التحرير إلى القاضي عبد الجبار وأبى الحسين البصرى . كشف الأسرار:2/478، تيسير التحرير:1/363، المعتمد1/97.
(5) هذا القول والذي يليه، نسبه صاحب تيسير التحرير إلى طائفة من المعتزلة .
تيسير التحرير:1/363 . المعتمد :1/97 .
(6) المعتمد لأبي الحسين البصري:1/97، 98.
(7) المراد بالبعض هنا بعض مشايخ الحنفية وهم:فخر الإسلام البزدوي، والقاضي أبو زيد الدبوسي، وشمس الأئمة السرخسي، وصدر الإسلام أبو اليسر .
يراجع :الفصول في الأصول:1/330، تقويم الأدلة :48 ، قواطع الأدلة،:1/131، أصول السرخسي:1/94، كشف الأسرار للبخارى 2/479، تيسير التحرير:1/363 .(5/30)
ثم عندهم(1): هذا إذا كان للفعل ضد واحد، فأما إذا كان له أضداد:
فإن قام دليل ( على ) (2) أن بعض أضداده يقوم مقام المأمور به في المصلحة. فلا يحرم ذلك الضد، بل يكون المأمور به هذا الفعل، وذلك الضد على سبيل البدل لتساويهما في وجه المصلحة ، وإن لم يقم الدليل، اقتضى قبح أضداده جميعا؛ لأن كل واحد من ذلك بانفراده يمنعه عن تحصيل( الفعل)(3) المأمور به، فيصير محرما تحقيقا لإتيان الواجب.
وقالوا(4) فى النهي عن الشيء: (يكون ) (5) أمرا بضده من حيث المعنى، إن كان له ضد واحد، وإن / كان له أضدا، بأن كان يتحقق بكل واحد من الأفعال تركه، ولا يتصور الجمع بينه وبين ذلك ، فالنهي عنه يكون أمرا بجميع أضداده على سبيل البدل.
وقال الجصاص: إن الأمر بالفعل يدل على حرمة ضده. والنهي يدل على (وجوب )(6) تحصيل ضده ، إذا كان له ضد واحد، فأما إذا كان له أضداد: فالأمر بالفعل يكون نهيا عن الأضداد كلها، فأما النهي عن فعل فلا يكون أمرا بالأضداد كلها(7).
وحاصل الخلاف بيننا(8) وبين المعتزلة يرجع إلى ما ذكرنا فى تفسير الأمر والنهي .
فعندهم(9): الأمر والنهي حقيقة هو صيغتهما(10) ؛ لأن الكلام حقيقة عندهم
__________
(1) الضمير راجع على المعتزلة ؛ لأن سياق الكلام يدل عليه .
(2) ساقطة من " ت ".
(3) في ميزان الأصول" الفعل ص146، و في (ت ، د) بدونها 0
(4) القائل هنا بعض المعتزلة، كأبي الحسين البصري، والكعبي .
المعتمد لأبي الحسين البصرى:1/97، 98 الوصول إلى الأصول لابن برهان:1/164 .
(5) ما بين القوسين زيادة في ميزان الأصول : 147.
(6) ما بين القوسين زيادة في في ميزان الأصول : 147 .
(7) أصول الجصاص المسمى الفصول في الأصول ، 1/330 – 332 .
(8) الضمير راجع إلى أهل السنة .
(9) ضمير الغيبة راجع إلى المعتزلة .
(10) يقصد الشارح بذلك أن الأمر والنهي عند المعتزلةهو اللساني أو اللفظي؛ لأنهم ينكرون كلام النفس.(5/31)
في الشاهد والغائب (1) جميعا ( هذه) (2) الحروف المنظومة والأصوات المقطعة المسموعة. وهما مختلفان من حيث الصيغة، وكذا مختلفان من حيث الوصف والحكم .
( أما من حيث الصيغة: فلأن صيغة "افعل" تخالف صيغة "لا تفعل")(3)
وأما من حيث الوصف والحكم الراجعان إلى المأمور به والمنهي عنه: فإن المأمور به موصوف بالحسن، والمنهي عنه موصوف بالقبح. وكذا حكم الأمر: وجوب تحصيل الفعل (المأمور به)(4)، وحكم النهي: وجوب الامتناع عن الفعل( المنهي عنه)(5)، فكان بين الأمر والنهي مضادة، فكيف يكون أحدهما هو الآخر؟
__________
(1) يرى المعتزلة : أن كلام الله من جنس الكلام المعقول في الشاهد، وهو حروف منظومة وأصوات مقطعة ، وهو عرض يخلقه الله سبحانه في الأجسام على وجه يسمع ويفهم معناه ، ويؤدي الملك ذلك إلى الأنبياء عليهم السلام ، بحسب ما يأمر به الله - عز وجل -، ويعلمه صراحة ، ويشتمل على الأمر والنهي والخبر وسائر الأقسام لكلام العباد ، ولا يصح عندهم إثبات كلام قديم ، مخالف لكلامنا ولا يصح إثبات كلام محدث مخالف لهذا المعقول أيضا على ما يقوله بعضهم من أن الكلام قائم بنفسه ولا خلاف بين المعتزلة في أن القرآن محدث مخلوق مفعول ، لم يكن ثم كان ، وأنه غير الله - عز وجل -، وأنه أحدثه بحسب مصالح العباد ، وهو قادر على أمثاله ، وأنه يوصف بأنه مخبر به ، وقائل وآمر وناه من حيث فعله . المغني للقاضي عبد الجبار 7/3 ، المحيط بالتكليف :306 ، 307 0
(2) في ميزان الأصول :146 " هو " .
(3) ما بين القوسين زيادة في الميزان : 147
(4) كذا ورد زيادة في الميزان : 148 .
(5) ما بين القوسين زيادة في الميزان : 148 .(5/32)
وقلنا نحن(1): إن الأمر والنهي كلام الله تعالى، ولله تعالى كلام واحد هو صفة أزلية، وهو أمر ونهى وخبر(2) واستخبار(3) على (سبيل) (4) التقرير- لكن أمر باعتبار الإضافة إلى شيء، ونهى باعتبار الإضافة إلى شيء، وخبر بجهة، واستخبار بجهة، مع كون الكلام متحدا فى نفسه- على ما عرف في مسائل الكلام(5).
وإذا ثبت أن / كلام الله واحد، فلا يكون بين الأمر والنهي مضادة، لأن التضاد(6)
يكون بين (ألشيئين )(7)، وهما شيء(8) واحد من حيث ذات الكلام.
__________
(1) الضمير راجع إلى أهل السنة؛ لأن سياق الكلام يدل على ذلك .
(2) حد الخبر:كما قال ابن فورك :هو الذي لا يخرج عن أن يكون صدقا أو كذبا . وهذا يطلق على غير ما يخبر به الله عز وجل، فخبره صدق على الدوام .
وقال الإمام أبو الحسن الأشعرى:اختلف المتكلمون في الخبر:ما هو ؟ فقال قائلون:كل ما وقع فيه الصدق والكذاب ، وقال قائلون:الخبر هو الكلام الذى يقتضى مخبرا . : الحدود في الأصول:134، مقالات الإسلاميين ، 2/132، التعريفات:51، كشاف اصطلاح الفنون:2/184
(3) الاستخبار:هو السؤال عن الخبر . [مختار الصحاح ص 168 مادة خبر]
(4) في كتاب:ميزان الأصول : 149، "طريق "
(5) الإبانة :25 ، رسالة في استحسان الخوض في علم الكلام:10 لأبي الحسن الأشعري ، قواعد العقائد ص 58 ،59 ، الاقتصاد في الاعتقاد ص 115-120 للإمام الغزالي، شرح المواقف للإيجي 3/129 .
(6) التضاد: ما يكون بين معنين مجردين يندرجان تحت جنس واحد، وبينهما غاية الخلاف، وقال العلامة الجرجاني:النضاد هو أن يجمع بين المتضادين،فلا يجيء باسم مع = = فعل،ولا بفعل مع اسم، كقوله تعالى { فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً } التوبة:83. المعجم الفلسفي لمراد وهبة:201، التعريفات للجرجاني:84.
(7) في " ميزان الأصول : 149 ، بدون أل.
(8) ما بين القوسين زيادة في كتاب:الميزان : 149(5/33)
وكذا لا تضاد من حيث المعنى، وهو أن الأمر طلب تحصيل الفعل، والنهي طلب الامتناع عن الفعل، والتنافي إنما يكون عند اتحاد الجهة، فلا يجوز أن يكون الكلام الواحد طلبا لتحصيل فعل، وطلبا للامتناع عن ذلك الفعل في زمان واحد في حق شخص واحد، لاتحاد الجهة.
فأما لا مضادة بين أن يكون طلبا لتحصيل فعل ، وطلبا للامتناع عن فعل آخر. أليس أن بين الأبوة والبنوة منافاة عند اتحاد الجهة لا عند الاختلاف؟ فإن الشخص الواحد لا يجوز أن يكون أبا لشخص واحد وابنا له أيضا . لكن يجوز أن يكون أبا لشخص وابنا لشخص آخر .
وكذا المنافاة (1) من حيث الوصف والحكم إنما تتحقق في محل واحد لا في محلين ، وهاهنا كذلك؛ فإن الأمر يقتضى حسن المأمور به، وقبح ضده، ويوجب تحصيل المأمور به والامتناع عن ضده لا عن نفسه، فبطل دعوى التضاد بينهما. هذا من حيث حقيقة الكلام القائم بالنفس في الشاهد والغائب (جميعا)(2).
أما من حيث الكلام الدال على ما هو كلام النفس، وهو صيغة الأمر والنهي فلا مضادة بينهما ولا منافاة عند بعض مشايخنا، وإن اختلفا من حيث العبارة واللفظ، فإن اللفظ الواحد يجوز أن يكون علما / على حكمين مختلفين.
فإن لفظة القرء(3)
__________
(1) التنافي: هو اجتماع الشيئين في واحدفي زمان واحد، كالوجود والعدم. التعريفات للجرجاني:92.
(2) ما بين القوسين زيادة في كتاب "ميزان الأصول" : 150 .
(3) قال صاحب القاموس:القرء:الحيض والطهر ، وقال الزجاج في معاني القرآن:اختلف الفقهاء وأهل اللغة في تفسير قوله تعالى:"ثلاثة قروء" ، فأما أهل الكوفة فيقولون:الإقراء الحيض ، وأما مالك وأهل الحجاز فيقولون الإقراء الطهر .
معانى القرآن وإعرابه، للزجاج:1/302-304، القاموس المحيط لفيروز أبادى :48 .(5/34)
في اللغة موضوعة: للطهر والحيض (جميعا)(1) ولفظ الشراء جعل علما لشيئين شرعا في القريب: على التمليك في زمان، والعتق في زمان بعده، فيجوز أن تكون صيغة "افعل" علما. على طلب تحصيل فعل، وعلما على طلب الامتناع عن ضده، وكذلك صيغة النهي وهو قوله : " لا تفعل".
وبعض مشايخنا(2) سلموا أن بينهما منافاة من حيث الصيغة، ولكن قالوا: لا منافاة من حيث المعنى، فإن قوله: "تحرك" طلب للتحرك، وهو بعينه نهى عن السكون.
(وقوله: "اسكن" طلب للسكون)(3)، وطلب ترك التحرك الذي هو ضده لا غير، بمنزلة انتقال الشخص من مكان إلى مكان، فهو تفريغ للمكان
الأول وشغل للثاني. وقرب الشمس من المغرب عين بعدها عن المشرق .
لكن باعتبار الإضافة إلى المكان الأول تفريغ ، وبالإضافة إلى المكان الثاني شَغْل، وبالإضافة إلى المغرب قرب، وبالإضافة إلى المشرق بعد.
فكذلك الطلب الواحد بالإضافة إلى الحركة أمر وبالإضافة إلى السكون نهى. وهذا لأن الغيرين(4)
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (د) ، (ت) وأثبته من ميزان الأصول : 152، وهو الصواب؛ لأن السياق يقتضيه.
(2) المراد بهم بعض مشايخ الحنفية .
(3) هذه العبارة زيادة في "ميزان الأصول" : 152 .
(4) قال الإمام الشيرازي:وحد الغيرين هما:كل شيئين تجوز مفارقة أحدهما لصاحبه بوجه من وجوه المفارقات ووجوه هذه المفارقات ثلاثة :
مفارقة بالزمان ، ومفارقة بالمكان ، ومفارقة بالوجود والعدم.
فأما المفارقة بالزمان فهو أن يكون أحدهما قد وجد في زمن قبل صاحبه ، نحو وجود زيد في وقت من الأوقات ، ووجود عمرو بعده بعام أو عشرة أو نحوه . =
= والمفارقة بالمكان هو أن يكون شيئان مكان أحدهما غير مكان الآخر، كالجوهرين والجسمين، لا يصح وجودهما في مكان واحد، ولا يصح وجودهما إلا في مكانين، وكذلك الجوهران، ألا ترى أن زيداً لا يصح وجوده في مكان عمرو في وقت واحد، ولا بد لكل واحد منهما من مكان ليكون فيه.
والمفارقة بالوجود والعدم بأن يوجد أحد الشيئين ويعدم الثاني ، نحو وجود زيد وعدم عمرو ، ووجود سواد زيد وعدم حركته " .
إذاً فكل مفترقين بأن يكون أحدهما قد وجد في زمان قبل وجود الآخر فهما غيران ، وكل مفترقين بأن يكون أحدهما قد وجد في مكان قبل وجود الآخر فهما غيران ، وكل مفترقين بأن يوجد أحدهما ويعدم الآخر فهما غيران ، وكل مفترقين بأن يوجد أحدهما بمكان غير الآخر فهما غيران . عقيدة السلف للإمام أبي إسحق الشيرازي :94 ، 95 .(5/35)
: ما يتصور مفارقة أحدهما صاحبه بحال.
أو ما يتصور وجود أحدهما بدون الآخر ولم يوجد هذا الحد(1) هاهنا .
فان الأمر الذي هو: إيجاب الفعل لن يتحقق بدون تحريم الضد والمنع منه، فإنه إذا لم تثبت الحرمة يكون مباح الترك، والواجب ما يكون حرام الترك،/ ( فدل الأمر ليس غير النهي معنى)(2).
ولهذا قلنا: إن إرادة الشيء كراهة لضده، لأنه لا يتصور أن يكون الإنسان مريدا لشيء ولا يكون كارها ضده فكذا هذا.
وإذا ثبت أصل الخلاف بيننا(3) وبين المعتزلة في أصل مسألة الأمر ومعرفة حقيقته، فلا يمكنهم أن يقولوا في هذه المسألة: إن الأمر بالشيء نهى عن ضده، ولا النهي عن الشيء أمر بضده، فتفرقوا (4) في جواب ذلك:
__________
(1) يعرف الحد بأنه:الجامع المانع .
وقيل هو:ما يمنع الوالج من الخروج، والخارج من الولوج .
وقيل الحد: هو عبارة عن المقصود بما يحصره، ويحيط به إحاطة تمنع أن يدخل فيه ما ليس منه، وأن يخرج منه ما هو منه.
لمعرفة المزيد عن الحد يراجع كتاب التقريب والإرشاد1/174 للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني، شرح اللمع للإمام أبي إسحق الشيرازي1/145 ، الحدود في الأصول لأبي الوليد الباجى: 23 ، التعريفات: 112 ، شرح الكوكب المنير:1/89 ، تجديد علم المنطق للخبيصى على التهذيب:50- 56 .
(2) لعل المعنى يكون أوضح لو قلنا:فدلالة الأمر غير النهى معنى,فإن صيغة (افعل) غير صيغة (لاتفعل) في المعنى ، فالأولى لطلب الفعل والثانية لطلب الترك .
(3) الضمير راجع إلى أهل السنة ؛ لأن السياق يدل على ذلك .
(4) في (ت) فيفرقوا، والصواب ما أثبته؛ لأن السياق يدل على ذلك.(5/36)
(فقال) (1) أبو هاشم ومن تابعه: إنه لا حكم للأمر في ضده أصلا(2)، بناء على أصل (له) (3) انفرد به، وهو أن القادر على الفعل يجوز ( أن يكون خاليا)(4) عن الفعل وضده لأزمنة كثيرة، فلا يوجد فيه لا الحركة ولا السكون بصفة الاختيار(5)، فلم يكن صيغة الأمر موجبة حرمة الضد لغة، لأنها ما وضعت إلا لما تناوله اللفظ لغة في(6)، فيكون الأمر ساكتا عن ( حكم)(7) الضد، فإن قول القائل (لغيره)(8): تحرك غير موضوع للمنع عن السكون، كأنه قال: "لاتسكن". وليس بموجب للحرمة من حيث الضرورة. ( فإنه يجوز عنده أن لا يوجد الفعل ولا يوجد ضده ) (9)، بل إن باشر الضد فقد ترك الواجب عن اختيار و قصد، فيأثم بتركه. وإن لم يباشر فيأثم لانعدام الفعل المأمور به، لا بترك ضده، فلا يكون من ضرورة وجوب الفعل حرمة ضده عنده .
__________
(1) في (ت) قال.
(2) يراجع هذا القول في:كشف الأسرار، لعبد العزيز البخارى :2/478، تيسير التحرير:1/363
(3) ساقطة من (ت) .
(4) ساقطة من الصلب في (د ) ، ومثبته في الهامش.
(5) وهذا ما يسمى بالحال عند أبي هاشم الجبائي، وهو واسطة بين الموجود والمعدوم ، وبطلانه ضروري؛ لأن الموجود ما له تحقق ، والمعدوم ما ليس كذلك ، ولا واسطة بين النفي والإثبات ، بالإضافة إلى أن ما قاله أبو هاشم مخالف لأصل أبيه - أبي علي الجبائي-وهواستحالة خلو القادرعن الفعل وضده.شرح الأصول الخمسة:639 ،الملل والنحل :1/82 ، شرح المواقف :1/279 .
(6) ساقطة من (ت) .
(7) كذا وردت زيادة في ميزان الأصول": 152 .
(8) زيادة في كتاب الميزان :152.
(9) ساقطة من (ت).(5/37)
وعامة المعتزلة قالوا: إن القادر على الفعل لا يجوز أن يكون خاليا عن الفعل وضده، ولا تخلو القدرة عن الفعل زيادة على زمان واحد، فإن عندهم الاستطاعة قبل الفعل، وهى استطاعة فعل يوجد بعدها(1).
وعندنا(2) الاستطاعة/ مقارنة للفعل(3)، فلا يجوز أن يكون القادر( على الفعل)(4) خاليا عن الفعل زمانا واحدا، ولا يتصور خلو القدرة عن الفعل أبدا، وإذا سلم هؤلاء(5) أن القادر على الفعل لا يجوز أن يكون خاليا عن الفعل وضده اضطروا إلى القول بحرمة ضده، لما قلنا. وعندهم أن الأمر ، ليس بنهى عن ضده،والنهي عن الشيء، ليس بأمر بضده، فوقعوا في التناقض (6)، ( إذ ليس تفسير النهي إلا حرمة الفعل فتكلفوا
لدفع التناقض) (7) .
فقال بعضهم(8): إن حرمة الضد لم تثبت بموجَب الأمر وصيغته حتى يكون نهيا عن ضده، ولكن ثبت ضرورة حكمه، فلا يكون مضافا إلى الأمر.
- وقال بعضهم: يقتضى حرمة ضده. والمقتَضَي يثبت زيادة على اللفظ بطريق الضرورة.
__________
(1) قال القاضي عبد الجبار عند الكلام في تقدم القدرة لمقدورها:"وجملة ذلك، أن من مذهبنا أن القدرة متقدمة لمقدورها ".
شرح الأصول الخمسة:395 ، 396 ، ومقالات الإسلاميين:230 .
(2) الضمير عائد على أهل السنة ؛ لأن السياق يدل على ذلك .
(3) تبصرة الأدلة لأبى المعين النسفى:2/591 - 596 ، أصول الدين لأبى اليسر البزدوي 115 -122 ، شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار:395 ، 396 .
(4) ما بين القوسين مثبت في " ميزان الأصول" . 153 .
(5) المشار إليه هنا "المعتزلة" لأن السياق يدل على ذلك .
(6) التناقض: هو اختلاف القضيتين في الإيجاب والسلب، بحيث يقتضي لذاته صدق إحداهما وكذب الأخرى، كقولنا زيد إنسان، وزيد ليس بإنسان. التعريفات للجرجاني:93.
(7) مثبتة في (د)، وساقطة من (ت).
(8) المراد بالبعض هنا:أبوالحسين البصرى، والقاضي عبد الجبار . المعتمد:1/97 تيسير التحرير:1/363.(5/38)
- وقال بعضهم: يدل على حرمة ضده، كالنهي عن التأفيف : يدل على حرمة الضرب، وإن لم يكن من موجبات لفظ التأفيف (1).
ولكن هذا دفع ( التناقض)(2) من حيث الصورة، لا من حيث المعنى فإن النهي ليس إلا حرمة الفعل، فمتى قالوا: حكم الأمر وجوبُ الفعل، ومن ضرورته حرمة الفعل الذي هو ضده، يعرف ذلك ببديهة العقل، فيكون مضافا إليه ضرورة، وضرورة العقل فوق مُوجَب الصيغة.
وكذا ما كان دليلا على الشيء، فالعلم بالمدلول يضاف إلى الدليل(3)
__________
(1) هذا القول والذي سبقه عزاهما صاحب تيسير التحرير إلى طائفة من المعتزلة لم يذكر أسماءهم، ثم علق على هذه الأقوال الثلاثة بقوله:"فمن قال:يوجب حرمة الضد أشار إلى ثبوتها ضرورة تحقق حكم الأمر، كالنكاح أوجب الحل في حق الزوج بصيغته، والحرمة في حق الغير بحكمه دون صيغته .
ومن قال:يدل على حرمة ضده، أشار إلى أنها - أي حرمة الضد- تثبت بطريق الدلالة كالنهى عن التأفيف يدل على حرمة الضرب .
ومن قال:يقتضى حرمة ضده، أشار إلى ثبوتها أى الحرمة بالضرورة المنسوبة إلى غير لفظ الأمر أهـ . تيسير التحرير 1/363 .
(2) كذا مثبتة في "ميزان الأصول " وساقطة من:د،ت .
(3) قال الإمام الشيرازي:" الدليل هو المرشد إلى المطلوب ، والموصل إلى المقصود ، ويستخدم الدليل فيما يوجب القطع، وما يوجب الظن" ، وقال ابن الحاجب :" الدليل في الاصطلاح: ما يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري" .
شرح اللمع 1/155 ، الحدود في الأصول للباجى:38، 37، بيان المختصر للأصفهانى:1/65 .(5/39)
كما في الدخان مع النار، فدل أن التناقض قائم. وما قاله أبو هاشم: إن كان خروجا عن وصمة التناقض في هذه/ المسألة فهو مخالفة لإجماع الأمة في أنهم قالوا: إن القادر لا يخلو عن الفعل وتركه، وهو يقول (بالجواز)(1)، وهو شر من التناقض، مع أن هذا منه تناقض في مسألة خلق الأفعال حيث قال ثمة: لا يجوز أن يخلق الله تعالى الكفر والمعاصي في العبد، ثم يعذبه على غير فعل منه(2).
ثم قال هاهنا: "إذا لم يُصلِّ صلاة الظهر واشتغل بضدها، فالضد ليس بالحرام الذي هو فعله حتى يعاقب عليه، ولكن يعاقب ؛ لأنه لم يفعل الصلاة الواجبة، وجوز العقاب على ما ليس بفعل له. وهذا تناقض ظاهر. وعوار مذهبه في هذا يعرف في مسائل الكلام (3)
__________
(1) في "ميزان الأصول" : 155 ، بجواز ذلك .
(2) هذا الكلام الذى زعمه أبو هاشم يوافق مذهب القوم وهم المعتزلة الذين يقررون:أن العباد هم المحدثون لأفعالهم، وأن أفعالهم ليست محلوقة فيهم .
وما ذهب إليه أبو هاشم يقرره القاضي عبد الجبار ، حيث قال:"اتفق كل أهل العدل على أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم، وأن الله عز وجل أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها ولا محدث سواهم . ومن قال:إن الله سبحانه خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه، وأحالوا حدوث فعل من فاعلَين" . المغنى، 8/3 .
قرآن كريم والحاصل :أن ما زعمه أبو هاشم مخالف لما قرره واعتقده أهل السنة من أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وليس للعبد إلا مجرد الميل والكسب، لأن الله عز وجل يقول :وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم :الشورى الآية 30 . والله يقول : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } الصافات 96 .
(3) تعرف هذه المسألة في علم الكلام بالفعل والترك أو الثواب والعقاب ومدى ارتباطها بموضوع أفعال العباد، وجمله القول في ذلك أيتعلق الثواب والعقاب بفعل الإنسان فقط، أو أنهما كما يتعلقان بالفعل يتعلقان بعدم الفعل؟
فمثلا: أيعذب الله عز وجل عبده على فعل المعصية فقط، أم أنه يعذبه أيضا على عدم فعل منه. مثل عدم فعل الواجب؟ كما قال أبو هاشم فيمن ترك صلاة الظهر، واشتغل بضدها .
فأبو على الجبائي عنده:أن الثواب والعقاب يتعلقان بالفعل ولا يتعلقان بعدم الفعل ويختلف أبو هاشم مع أبيه في هذه المسألة فيقرر:أن الثواب إذا كان يتعلق بفعل الطاعة فإن العقاب يتعلق بفعل المعصية، ويتعلق أيضا بعدم فعل الواجبات . شرح الأصول الخمسة :368 .
ومعنى كلام أبى هاشم:أن الفعل وعدم الفعل سواء في أن كلا منهما استحقاق للعقاب، وهذا الكلام فيه نظر ؛ لأن ما عليه أهل السنة أن الثواب والعقاب يتعلقان بالفعل فقط ، قال الجصاص- رحمه الله تعالى - :" وهو قول قبيح - أى ما ذهب إليه أبو هاشم – فإن فيه قولا باستحقاق العبد العقوبة على ما لم يفعله." الفصول في الأصول :1/331 .(5/40)
،
وقد أوضحته في شرح هذا المختصر (1) .
وما قاله بعض المشايخ(2): إنه يقتضى كراهة ضده فهو خلاف الرواية، فإن ترك صلاة الفرض والامتناع عن تحصيلها حرام يعاقب عليه. والمكروه لا يعاقب على تركه. والله أعلم. إلى هنا لفظ ميزان الأصول(3)،
وهذا الذي ذكرناه ، كلام أصحابنا في كتبهم(4).
فأما أصحاب الشافعي - رحمة الله تعالى- ففيما بينهم اختلاف.
__________
(1) يقصد الإمام علاء الدين السمرقندي بذلك " ميزانَ الأصول في نتائج العقول المبسوط " الذي تكلم عنه في مقدمة الميزان الذي معنا صفحة 6، 7.
(2) المراد بهم : أبو زيد الدبوسي، وفخر الإسلام البزدوي والسرخسي- رحمهم الله-: أصول السرخسى 1/94 ، تقويم الأدلية : 48 ، كشف الأسرار للبخارى 2/479 .
(3) ميزان الأصول:143- 155 .
(4) تقويم الأدلة للدبوسي:8-15، أصول السرخسي:94-99، نهاية الوصول إلى علم الأصول لابن الساعاتي:417-421، الكافي شرح أصول البزدوي للسغناقي:3/1189-1195، كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري:2/477-479، جامع الأسرار على أصول المنار للكاكي:2/560-563، التلويح على التوضيح للتفتازاني:1/421، 422، التقرير والتحبيرلابن أمير الحاج:1/381-383.(5/41)
فقال إمام الحرمين(1)- رحمه الله تعالى- في كتاب البرهان: "ذهب بعض أئمتنا إلى أن الأمر بالشيء نهى عن أضداد المأمور به، وهؤلاء قدَّروا عين الأمر نهيا(2)، وزعموا أن اتصافه بكونه أمرا نهيا بمثابة اتصاف كون الواحد بكونه قريبا من شيء بعيدا من غيره .
والذي مال إليه ( اختيار ) (3) القاضي(4)
__________
(1) هو ضياء الدين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف إمام الحرمين، شافعي المذهب . تفقه على والده، وجمع أصول المذهب ، رحل إلى بغداد والحجاز والمدينة ومكة، وصلى بالناس في الحرمين الشريفين، فلقب بإمام الحرمين . من مؤلفاته : البرهان في أصول الفقه، وهو مؤلف على طريقة المتكلمين، وهو كتاب عظيم القدر، كثير الفائدة .ويضاف إلى هذا تلخيص التقريب، والإرشاد في أصول الدين . توفى رحمه الله تعالى سنه:478هـ . وفيات الأعيان:3/167، سير أعلام النبلاء:18/468، العبر:3/293، طبقات الشافعية:2/ 255 .
(2) هذا المذهب عزاه الإمام بدر الدين الزركشى، والعلامة ابن النجار إلى إمام أهل السنة أبى الحسن الأشعرى، والقاضي الباقلانى ، وأطنب في نصرته في التقريب، ونقله عن جميع أهل الحق النافين لخلق القرآن .
التقريب والإرشاد :2/ 198 وما بعدها، البحر المحيط :2/417، شرح الكوكب المنير :3/52 .
(3) ساقطة من (ت).
(4) هو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن قاسم بن الباقلاني ، انتهت إليه رئاسة المالكية في زمانه، وكان متكلما بلسان الأشاعرة ، وصنف في الرد على المعتزلة والرافضة والجهمية، وكان يحيى ليله بالعبادة والكتابة .من مصفاته: التمهيد، الإنصاف، التقريب والإرشاد، مناقب الأئمة، توفى:سنة 403 هـ .
تاريخ بغداد:5/379، وفيات الأعيان:4/261، سير أعلام النبلاء:17/190، البداية والنهاية :11/350، شذرات الذهب :3/169 0(5/42)
في آخر مصنفاته: أن الأمر في عينه لا يكون نهيا، ولكن يتضمنه ويقتضيه وإن لم يكن عينه(1).
والذي / ذهب إليه جماهير الأصحاب: أن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداد المنهي عنه. والأمر بالشيء نهى عن جميع أضداد المأمور به.
وأما المعتزلة فالأمر عندهم: هو العبارة(2)، وقول القائل: "افعل" أصوات منظومة معلومة، وليست هي على نظم الأصوات في قول القائل: لا تفعل، فلا يمكنهم أن يقولوا الأمر هو النهي
فقالوا(3): الأمر بالشيء يقتضي النهي عن أضداده تضمنا، كما ذهب إليه القاضي أبو بكر، ولكن الأمر عند القاضي هو القائم بالنفس. إلى هنا لفظ كتاب البرهان(4).
وقال فى القواطع(5): الأمر بالشيء نهى عن ضده ( من طريق المعنى ) (6)وهذا مذهب عامة الفقهاء.
وذهبت المعتزلة إلى أنه من طريق المعنى لا يكون نهيا عن ضده. إلى هنا لفظ القواطع(7).
__________
(1) لم أجد للقاضى – رحمه الله تعالى - إلا رأيا واحدا عبر عنه في التقريب والإرشاد بأن الأمر نفس النهى عن ضده، ولعل من نسب هذا القول للقاضى قد أخذه من بعض المواضع التى سلم القاضي فيها جدلا بهذا القول، ثم كر عليه بعد ذلك بالإبطال. التقريب 2/ 198- 207 .
(2) المراد بهذه الجملة:أن الأمر عند المعتزلة هو صيغة "افعل"؛ لأنهم ينكرون كلام النفس .
(3) الضمير راجع إلى بعض المعتزلة وهما:القاضي عبد الجبار، وأبو الحسين البصرى . المعتمد1/97،98 ، البحر المحيط، 2/419 .
(4) البرهان: 1/250، 251 .
(5) المراد بالقواطع :كتاب "قواطع الأدلة في الأصول" ويتكون هذا الكتاب من جزأين، وقد قامت بطبعة دار الكتب العلمية ببيروت . وصاحب القواطع:هو أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعانى الحنفي ثم الشافعى المتوفى سنه 489هـ .
الكامل :9/166 ، العبر :3/328 ، البداية والنهاية :3/153 ، كشف الظنون 2/135 0
(6) ساقطة من (ت).
(7) قواطع الأدلة:1/325 .(5/43)
وقال الغزالي(1)- رحمه الله تعالى - في منخوله: الأمر بالشيء لا يكون نهيا عن ضده ، ولا النهي عن الشيء أمرا بأحد أضداده لا على التعيين ، خلافا للكعبي(2)
والأستاذ أبى إسحاق(3).
لأن قول القائل: " قم " لا يقتضى إلا الأمر بالقيام، وترك ما عداه، يقع من ضرورة الجبلة(4)، لا لكونه مقصودا بالأمر .. إلى هنا لفظ المنخول(5).
__________
(1) هو حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي الشافعي، ولد بطوس:450هـ تفقه على إمام الحرمين، ولازمه، رحل إلى بغداد، ودمشق، والقدس، والإسكندرية . كان زاهدا تقيا ورعا .من مؤلفاته:إحياء علوم الدين، والمستصفى، والمنخول الذي اعتمد عليه الشارح في مسألة الأمر بالشيء نهى عن ضده ، توفى:505هـ .
وفيات الأعيان:4/112، سير أعلام النبلاء:19/240، طبقات الشافعية :6/93 ، البداية والنهاية :13 /173 .
(2) هو عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الخراساني الكعبي المعتزلي ، يكنى بأبي القاسم، وإليه تنسب طائفة الكعبية ، له مصنفات في:التفسير وأدب الجدل، وغير ذلك ، توفى 319هـ . تاريخ بغداد:9/384، وفيات الأعيان:1/252.
(3) هو ركن الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الإسفراييني ، الشافعي ، الأصولي ، سمع من أبي بكر الإسماعيلي ، وروى عنه البيهقي والقشيري والطبري ، من مؤلفاته الجامع في أصول الدين ، وتعليقة في أصول الفقه ، توفي سنة 418هـ .
وفيات الأعيان: 1/28 ، العبر: 3/130 ، طبقات الشافعية , شذرات الذهب :3/109 .
(4) الجِبلَّة:فيها أربع لغات، والجمهور على:الجِبلَّة كطِمرّة . وهى الخلقة والطبيعة، ويقال جبلهم الله - عز وجل - يجبُل ويجبِل:أى خلقهم، وعلى الشيء طبعه. وس المحيط:974 .
(5) المنخول من تعليقات الأصول للغزالى:181 .(5/44)
وقال فخر الدين الرازي(1) في محصوله: المسألة الثانية في أن الأمر بالشيء نهى عن ضده .
اعلم أنا لا نريد بهذا أن صيغة الأمر هي صيغة النهي . بل المراد أن الأمر بالشيء دال / على المنع من نقيضه بطريق الالتزام(2).
وقال جمهور المعتزلة، وكثير من أصحابنا: إنه ليس كذلك(3).
لنا: أن ما دل على وجوب الشيء، دل على وجوب ما هو من ضروراته إذا كان مقدورا للمكلف، والطلب الجازم من ضروراته المنع من الإخلال به، فاللفظ الدال على الطلب الجازم، وجب أن يكون دالا على المنع من الإخلال به بطريق الالتزام. إلى هنا لفظ المحصول(4) .
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين، فخر الدين الرازي، الشافعي، المعروف بابن الخطيب . كان رحمه الله تعالى إمام وقته في العلوم العقلية والشرعية، تتلمذ على والده، والبغوي، ومجد الدين الجيلي، تزيد مصنفات الإمام على مائتي مصنف، منها:التفسير الكبير، والمطالب العالية، والمعالم في أصول الدين ، وله أيضا المعالم في أصول الفقه، والمحصول ، اللذان اعتمد عليهما الشارح أمير كاتب في النقل عنه في مسألة الأمر بالشيء نهى عن ضده، توفى - رحمه الله تعالى - سنة 606 هـ .
البداية والنهاية:13/ 55، طبقات الشافعية:2/65 ، أبجد العلوم:3/ 111.
(2) أى بطريق دلالة الالتزام، بمعنى أن الأمر بالشيء يستلزم النهى عن ضده ضرورة.
(3) ذهب إلى هذا القول:أبو هاشم الجبائى ومن تابعه من متأخرى المعتزلة واختار ذلك أيضا الغزالي ، وإمام الحرمين ، وابن الحاجب، والنووي .
كشف الأسرار للبخارى:2/477، 478، روضة الطالبين :8/188 البحر المحيط:2/416، 417
(4) المحصول للرازي:1/246 .(5/45)
وقال في معالمه(1) الأمر بالشيء نهى عن ضده خلافا للأكثرين(2) ، واحتج بالدليل المذكور في المحصول(3).
ثم قال(4): حجة المخالف أن الإنسان قد يأمر بالشيء حال غفلته عن ضده المأمور به ، والغافل عن الشيء يمتنع كونه ناهيا عنه.
الجواب: لما جاز أن يقال: الأمر بالشيء أمر بمقدماته الضرورية ، وإن كان ذلك الآمر غافلا عن تلك المقدمات، فلم لا يجوز ( أن يكون)(5) الآمر بالشيء ناهيا عن ضده على سبيل الالتزام ؟ إلى هنا لفظ المعالم.
فعلم بهذا أن في نقل ابن الحاجب(6) عن فخر الدين نظرا؛لأن ابن الحاجب(7)
__________
(1) القائل هنا الإمام الرازي– رحمه الله تعالى - في كتاب المعالم في أصول الفقه، وهو كتاب صغير الحجم تميز أسلوب الإمام فيه بمنتهى الدقة والاختصار0
(2) المراد بالأكثرين الذين خالفوا في هذه المسألة:أبوهاشم ومن تابعه من متأخرى المعتزلة، وإمام الحرمين، والإمام الغزالى، وابن الحاجب، والنووى .
المعتمد 1/97، البرهان:1/252، المنخول:163، بيان المختصر:1/451، شرح الكوكب المنير:3/52، روضة الطالبين :8/188 .
(3) المحصول :2/334 .
(4) القائل :الإمام فخر الدين الرازى، وهو هنا يقرر دليل الخصم- المعتزلة ومن معهم-
(5) في كتاب المعالم :" أن يقال:إن الأمر" .
(6) :كتاب المعالم في أصول الفقه للإمام الرازي : 71، 72 .
(7) هو الإمام عثمان بن عمر بن أبى بكر بن يونس الدَّونى، ثم المصري ، يكنى بأبي عمرو، ويلقب بجمال الدين، وصار معروفا بابن الحاجب ، ولد - رحمه الله تعالى - بقرية إسنا في صعيد مصر سنه:570هـ، تفقه على مذهب الإمام مالك، وأخذ العلم عن كثير من العلماء منهم:شهاب الدين القرافي ، والقاضي ناصر الدين ابن المنير، وغيرهما .
وحدث عنه:الحافظ الدمياطي، والحافظ المنذري، وأبو الفضل الذهبي وآخرون، من مصنفاته: منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل المعروف بمختصر ابن الحاجب، الكافية في النحو وغيرهما. توفى رحمه الله تعالى سنه:646هـ بالإسكندرية .
وفيات الأعيان 6/67، سير أعلام النبلاء:21/269، النجوم الزاهرة:6/110 ، أبجد العلوم:2/429 .(5/46)
قال: اختار الإمام الغزالي أن الأمر بشيء معين ليس نهيا عن ضده ولا يقتضيه،
وهذا خلاف ما اعتقد الإمام في كتبه (1).
ص: قوله: ( احتج الفريق الأول بأن كل واحد من القسمين ساكت عن غيره ، وقد بينا أن السكوت لا يصلح د ليلا(2)
__________
(1) قلت :أصاب الشارح - رحمه الله تعالى - فيما لاحظه من اختلاف في نقل ابن الحاجب - رحمه الله تعالى - عن الإمام الرازي ؛ لأن ابن الحاجب قال:"اختيار الإمام - أي الرازي - والغزالي "رحمهما الله تعالى " أن الأمر بشيء معين ليس نهيا عن ضده ولا يقتضيه عقلا".
بيان المختصر للأصفهاني :1/ 451 .
وهذا النقل على خلاف ما اعتقده وقرره الإمام فخر الدين في كتبه ، حيث قال في المحصول والمعالم في مسألة الأمر بالشيء نهى عن ضده:"اعلم أنا لا نريد بهذا :أن صيغة الأمر هي صيغة النهى، بل المراد:أن الأمر بالشيء دال على المنع من نقيضه بطريق الالتزام" . المحصول :1/246، المعالم :71، 72 .
وقد لاحظت أمرا ينبغى ذكره هنا وهو أن العلامة ابن النجار - رحمه الله - ذكر في شرح الكوكب (3/53) قولا غريبا عن الإمام الرازي في هذه المسألة فقال:"وعند الرازي في المحصول:يقتضى الكراهة" .ولا أدرى من أين استقى العلامة الفتوحي هذا الرأى؟!، وبالرجوع إلى كتب الإمام في الأصول لم أجد إلا عبارته التي صدر بها مسألة الأمر بالشيء نهي عن ضده ، والمذكورة سابقاً .
(2) هذا هو صدر الدليل الذي احتج به الفريق الأول، ومفاده:أن كلا من الأمر والنهى لا حكم له في ضده، فالأمربالشيء ليس نهيا عن ضده، والنهى عن الشيء ليس أمرا بضده.
يوضحه: أن الضد مسكوت عنه ، والسكوت عنه لا يكون موجبا شيئا، ألا ترى أن التعليق بالشرط لا يوجب نفي المعلق قبل وجود الشرط ؛ لأنه مسكوت عنه، فيبقى الحال على ما كان قبل التعليق، فهنا أيضا الضد مسكوت عنه، فيبقى على ما كان قبل الأمر.
أصول السرخسي :1/68، كشف الأسرار :2/479.(5/47)
. ألا ترى أنه(1) لا يصلح د ليلا لما وضع له فيما لم يتناوله إلا بطريق التعليل، فلغير ما وضع له أولى ) (2).
ش : أى احتج الفريق الأول / ، وهم الذين قالوا: لا حكم له في ضده، وهو مذهب أبى هاشم، ومن تابعه من المعتزلة ( بأن كل واحد من قسمي الأمر و النهي ساكت عن ضده ) (3) فلا يثبت به حكم ضده، لأنه لم يتناوله.
كالمعلق بالشرط (4)
__________
(1) الضمير راجع إلى لفظ الأمر ؛ لأن السياق يدل على ذلك .
(2) هذا هو عجُز الدليل الذي ساقه أصحاب الفريق الأول على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده .
- وتقريره: أن الأمر بالشيء وضع لطلب ذلك الشيء وإيجابه ، ولا دلالة له على ثبوت موجبه فيما لم يتناوله إلا بطريق التعليل ، فلأن لا يوجب حكما في ضد ما وضع له كان أولى بيان ذلك في قوله - عليه الصلاة والسلام - : "الحنطة بالحنطة مثل بمثل ، والفضل ربا" .سنن الترمذي : 3/ 541، أي : بيعوا الحنطة بالحنطة.
فموجَبُ هذا الأمر وجوبُ التسوية كيلا، وحرمة الفضل فيما تناوله النص، ولا دلالة للأمر في غير هذه الأشياء المذكورة في الحديث إلا بطريق التعليل.
فلما لم يصلح هذا النص دليلا على ما وضع له في غير ما تناوله ، فلئلا يكون دليلا على ضد ما تناوله كان أولى . الكافي شرح أصول البزدوى للسغناقي :3/1191 ، كشف الأسرار، لعبد العزيز البخاري : 2/479.
(3) هذه العبارة مثبتة في (د) ، وساقطة من (ت) .
(4) الشرط في اللغة: العلامة، ومنه أشراط الساعة.
وشرعا : ما يتعلق به وجود اليء ويكون خارجا عن ماهيته ولا يكون مؤثرا في وجوده. التعريفات: 176.
قرآن كريم وينقسم الشرط عند الحنفية إلى أربعة أقسام:
شرط حقيقي : كقول الرجل لزوجته: إن دخلت الدار فأنت طالق.
شرط في حكم العلة: كحفر البئر في غير الملك.
شرط له حكم السبب: كرجل حلَّ قيد عبد حتى أبق، لم يضمن قيمته؛ لأن الحل إزالة المانع، والإباق سابق، وهو علة التلف، فكان الشرط كالسبب.
شرط هو كالعلامة الخالصة: كالإحصان في الزنا.
وهناك أقسام أخرى زادها شمس الأئمة السرخسي في أصوله.
أصول السرخسي: 2/312-320، نهاية الوصول إلى علم الأصول2:/666،كشف الأسرار للبخاري: 4/187-201، حاشية نسمات الأسحارلابن عابدين: 247.(5/48)
لا يقتضى نفيا عند عدم الشرط(1)
__________
(1) لعل قصد الشارح كما قال العلامة عبد العزيز البخاري : " إن التعليق بالشرط لا يوجب نفي المعلَّق بالشرط قبل وجود الشرط ؛ لأنه مسكوت عنه، فيبقى على ما كان قبل التعليق، فكذلك الضد ههنا مسكوت عنه فيبقى على ما كان قبل الأمر والنهى"ا هـ . كشف الأسرار: 2/479.
- وبعد بيان المراد من عبارة الشارح ، يجدر بنا أن نقف على آراء الأصوليين في مسألة التعليق بالشرط ، وبيان ذلك :
أن التعليق بالشرط يوجب العدم - أي - عدم المشروط عند عدم الشرط ، وهذا عند الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - .
- أما الحنفية فقد فرقوا بين معنيين للشرط :
قرآن كريم المعنى الأول: أن الشرط يقال لأمر خارج يتوقف عليه الشيء ، كالوضوء شرط لصحة الصلاة، فإنها تنتفي عند انتفاء الشرط وهو الوضوء ، ثم يقررون: أن انتفاء =
= المشروط عند انتفاء الشرط بهذا المعنى ، ليس حكما شرعيا ، بل لا شك أن عدم صحة الصلاة عند عدم الوضوء هو عدم أصلي .
قرآن كريم المعنى الثاني للشرط : ما علق عليه الحكم ، ولا يتوقف عليه.
فالشرط بهذا المعنى لا دلالة لانتفائه على انتفاء المشروط ؛ لأن المشروط يمكن أن يوجد بدون الشرط نحو " إن دخلت الدار فأنت طالق" فعند انتفاء الدخول يمكن أن يقع الطلاق بسبب آخر.
* فالحاصل: أن الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - جعل التعليق إيجابا للحكم على تقدير وجود الشرط ، وإعداما له على تقدير عدمه، فصار كلٌ من الثبوت والانتفاء حكما شرعيا ثابتا باللفظ منطوقا ومفهوما .
وأما الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان - رحمه الله تعالى - : فقد جعل الكلام موجبا للحكم على تقدير وجود الشرط الذي يتوقف عليه الشيء ، أما النوع الثاني ، وهو ما علق عليه الحكم فإن المعلق بالشرط لا ينتفي عند عدم الشرط ، فصار انتفاء الحكم عدما أصليا.
العدة لأبى يعلى :1/190، 192 ، أصول السرخسي : 1/95 ، الفروق : 1/ 186 ، الإحكام للآمدي : 3/ 96 ، شرح التلويح على التوضيح :1/ 274 - 276، التقرير والتحبير : 1/ 172 .(5/49)
؛ لأنه مسكوت عنه. وهذا معنى قوله : وقد بينا أن السكوت لا يصلح دليلا.
قالوا(1): والعبد يأثم - إذا لم يأتمر - بترك الواجب لا بارتكاب الضد .
و(قد ) (2) أوضح فخر الإسلام مدعى هؤلاء الفريق(3) بقوله: :ألا ترى أنه لا يصلح لما وضع له فيما لم يتناوله إلا بطريق التعليل، فلغير ما وضع له أولى . يعنى أن لفظ الأمر موجبه الإيجاب فيما تناوله، ثم لفظ الأمر لا يصلح لإثبات موجب الأمر في غير ما تناوله إلا بطريق التعليل(4)، فلأنْ لا يصلح لإثبات غير موجبه في غير ما تناوله بالطريق الأولى؛ لأن بين موجَبِه وغير موجَبِه منافاة، وكذلك لفظ النهي موجبه الحرمة، فلا يصلح لفظ النهي لإثبات موجَبه الذي هو الحرمة في غير ما تناوله اللفظ إلا بطريق التعليل ، فلأنْ لا يصلح لإثبات غير موجبه في غير ما تناوله بالطريق الأولى.
__________
(1) الضمير راجع إلى أبى هاشم ومن معه من المعتزلة؛ لأن السياق يدل على ذلك.
(2) ساقطة من (ت).
(3) المشار إليه هنا : هو أبو هاشم ومن تابعه من متأخري المعتزلة. كشف الأسرار للبخارى، 2/477، 478.
(4) أي :بطريق التعدية إليه بعد التعليل، وذلك بوجود علة معتبرة تلحق غير المنصوص عليه بالذي تناوله النص. أصول السرخسي : 1/68 .(5/50)
مثاله ما قلنا في حديث النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: " الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل، والتمر بالتمر مثلا بمثل، والبر بالبر مثلا بمثل، والملح بالملح مثلا بمثل، والشعير بالشعير مثلا بمثل فمن زاد أو استزاد فقد أربى"(1) . رواه الترمذي (2)بإسناده إلى عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - / -(3).
__________
(1) الحديث رواه الإمام مسلم " 2/ 1211 "، كتاب المساقاة ، باب الصرف، وبيع الذهب بالورق نقدا، وزاد : الآخذ والمعطي فيه سواء ، وهذا الرواية التى معنا للترمذى في سننه :3/541 كتاب البيوع ، باب ما جاء أن الحنطة بالحنطة مثلا بمثل إلا أنه ذكر الحديث وزاد عما في الشرح : بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدا بيد.
(2) هو الحافظ العلم، والإمام البارع أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذى، الضرير بكى حتى عمي، رحل إلى خراسان، والعراق ومكة ، حدث عن إسحاق بن راهويه وطبقته، وحدث عنه أبو حامد المروزى وكثيرون . من مصنفاته: الجامع الصحيح، العلل، ، الشمائل المحمدية وغيرها، توفي -رحمه الله - سنة :279هـ . سير أعلام النبلاء: 13/270، تذكرة الحفاظ: 2/633 .
(3) هو عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة، الإمام القدوة ، أبو الوليد الأنصارى ، أحد النقباء ليلة العقبة، من أعيان البدريين ، حدث عنه: أبو أمامة الباهلى، وأنس بن مالك، وأبو مسلم الخولانى وغيرهم. مات - رضي الله عنه - بالرملة سنة أربع وثلاثين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنه 0 الكامل : 4/242 ،سير أعلام النبلاء: 2/ 5 -10 .(5/51)
فموجَب النص وجوبُ التسوية وزنا في الذهب والفضة، وكيلا في الباقية، وحرمة الفضل في جميعها فلا حكم لهذا النص، وهو في معنى الأمر في إثبات موجَبه في سائر الموزونات ، كالحديد والزعفران(1) وسائر المكيلات ، كالجصِّ (2)
والنورة(3) إلا بطريق التعليل،
فلأن لا يكون له حكم في ضده وهو النهي بالطريق الأولى لمضادة بين الأمر والنهي (4).
وضد هذا النص أن يقال: لا تبيعوا هذه الأشياء متفاضلا.
وهذا على أصل المعتزلة مستقيم ؛ لأن الكلام عندهم عبارة عن الحروف المنظومة والأصوات المقطعة(5). فصيغة الأمر غير صيغة النهي لا محالة.
وعندنا هو عبارة عن المعنى القائم بالنفس المنافي للسكوت والخرس والآفة(6) ، فجاز أن يكون الكلام الواحد أمرا بما أمر به ، نهيا عما نهى عنه لعدم المنافاة.
ص : قوله: واحتج الجصاص بأن الأمر بالشيء وضع لوجوده، ولا وجود له مع الاشتغال بشيء من أضداده، فصار ذلك من ضرورات حكمه.
__________
(1) الزعفران مفرد زعافر. ويقال: زعفر الثوب أي : صبغه به، والزعفران هو الصبغ المعروف وهو من الطيب . لسان العرب: 4/324، القاموس المحيط : 400 .
(2) الجص: بفتح الجيم وكسرها ما يبنى به، و في اللسان: أن الجص: هو الذي يطلى به، وهو من كلام العجم. لسان العرب: 7/10، مختار الصحاح: 44.
(3) النَّورة: من الحجر الذي يحرق، ويسمى حجر الكلس، ويستعمل لإزالة الشعر.
لسان العرب: 5/244، المعجم الوجيز :6390.
(4) هذا هو وجه الدلالة من الحديث الذي رواه الإمام الترمذى عن عبادة ابن الصامت - رضي الله عنه -، وهذا الكلام مذكور بمعناه في : الكافي شرح أصول البزدوي :3/1191 ، وفي كشف الأسرار للبخارى :2/479 0
(5) شرح الأصول الخمسة :528، 529.
(6) تعريف الكلام عند أهل السنة في : الإبانة عن أصول الديانة :88، ميزان الأصول :150، المحصول للرازى :1/40، الحدود لابن فورك :133، 134.(5/52)
وأما النهي فإنه للتحريم ، ومن ضرورته فعل ضده إذا كان له ضد واحد كالحركة والسكون.
فأما إذا تعدد الضد، فليس من ضرورة الكف عنه إتيان جميع أضداده.
ألا ترى أن المأمور بالقيام إذا قعد أو نام أو اضطجع، فقد فوت المأمور به، والمنهي عن القيام لا يفوِّت حكم النهي بأن يقعد أو ينام أو يضطجع.
ش : أي احتج الجصاص على أن الأمر / بالشيء نهى عن ضد ذلك الشيء، سواء كان له ضد واحد أو أضداد ؛ لأن الأمر بالشيء لطلب وجود ذلك الشيء، ولا وجود لذلك مع الاشتغال بضده – أي ضد كان - فصار كون الأمر نهيا عن ضده من ضرورات حكم وجود المأمور به.
فأما النهي عن الشيء فإنه أمر بالضد إذا كان له ضد واحد، كالحركة والسكون فإن الامتناع عن الحركة لا يتأتى إلا بإتيان السكون.
فأما إذا كان له أضداد، فلا يكون النهي عن الشيء أمرا بالأضداد لوقوع النكرة في موضع الإثبات ، بخلاف الأمر بالشيء فإنه نهى عن الأضداد لوقوع النكرة في موضع النفي (1).
يوضحه: أن الأمر بالقيام نهى عن أضداده جميعا من القعود والركوع والسجود والاضطجاع ؛ لأن المأمور به يفوت بكل واحد منها.
__________
(1) لعل المراد من كلام الشارح هو: أن الأمر بالشيء إذا كان له أضداد كثيرة فهو نهى عن جميع أضداد المأمور به ، كقول القائل لغيره : " قم " مثلا ، فإن المأمور لا يعد ممتثلا للآمر إلا إذا انتهى عن جميع أضداد المأمور به من القعود، والاضطجاع، والاستلقاء وغيرها ، وذلك كوقوع النكرة في سياق النفي ، أو النهى فإنها تعم.
وأما النهى عن الشيء - إذا كان له أضداد كثيرة - فإنه أمر بأحد أضداد المنهى عنه كقولنا : "لا تقم" ، فإن المنهى عن القيام لا يفوِّت حكم النهى ، بأن يقعد أو ينام. وذلك كوقوع النكرة في سياق الإثبات فإنها لا تعم . ا .هـ .
أصول السرخسي : 1/ 15 ،الإحكام : 3/5 ، الإبهاج : 1/163 ، إرشاد الفحول :112 .(5/53)
والنهي عن القيام لا يكون أمرا بأضداده المذكورة ؛ لأنه لا يفوِّت حكم النهي بكل واحد منها ؛ لأن حكم النهي هو انعدام القيام بناء على امتناع المنهي ، وهذا حاصل مع كل واحد منها،
ومذهب الجصاص مبنى على أن الأمر للوجوب على الفور ؛ لأنه لو لم يكن الأمر على الفور لم يكن نهيا عن ضده وهذا ظاهر.
وقال الجصاص في أصوله (1)"ومن جهة أخرى ( لنا)(2) لو قلنا: إن النهي عن الشيء أمر بضده- وإن كان ذا أضداد كثيرة- لأدى ذلك إلى إسقاط قسم المباح والمندوب إليه من أقسام الأفعال.
وقد علمنا أن أفعال المكلف(3)/ إذا كانت واقعة عن قصد وإرادة ولم تكن واقعة على وجه السهو تنقسم أقساما أربعة : واجب ومحظور ومندوب إليه
ومباح(4)
__________
(1) أصول الجصاص : 1/333، 334 .
(2) في أصول الجصاص: 1/333 " أنا ".
(3) المكلف : هو الذي تلزمه الأحكام الشرعية بشرط العقل، والبلوغ ، وقال صاحب القاموس: "التكليف: "الأمر بما يشق عليك" ، وقال العلامة الجرجاني: التكليف: " إلزام= =الكلفة على المخاطب" ،وقال القاضى الباقلانى عند الكلام في معنى التكليف: "اعلموا أن الأصل في التكليف أنه إلزام العبد ما فيه كلفة ومشقة، إما في فعله أو تركه . وشرط التكليف أو المكلف: البلوغ، والعقل". التقريب والإرشاد 1/239، القاموس المحيط:850، التعريفات : 090
(4) قلت : القسمة التي ذكرها الإمام أبو بكر الجصاص - رحمه الله تعالى - لأفعال المكلف غير كاملة خاصة أنه حنفي ؛ لأن أقسام الأحكام الثابتة لأفعال المكلفين عند الحنفية سبعة: الفرض، والواجب، والحرام، والمكروه، تحريما، والمكروه تنزيها، والمندوب، والمباح.
لكن يعتذر له بأنه ربما أراد إدخال الفرض في الواجب وجعلهما لفظين مترادفين لمعنى واحد، خاصة وأن التفرقة لفظية أو اصطلاحية، كما قال الإمامان الغزالي والإسنوى - رحمهما الله تعالى- ، وأيضا ربما عبر عن الحرام والمكروه بالمحظور، فكثيرا ما يقول سلفنا مثل ذلك.
قال أبو حامد الغزالي - رحمه الله تعالى - : " وأما المكروه فهو لفظ مشترك في عرف الفقهاء بين معان: أحدها: المحظور فكثيرا ما يقول الشافعي رحمه الله تعالى: أكره كذا وهو يريد التحريم ... الخ ".: التقريب والإرشاد :1/276، المستصفي :1/65 - 67 ،
شرح التلويح على التوضيح :2/259 264.(5/54)
، فإن كان النهي عن الزنا أمرا بسائر أضداد الزنا لوجب أن يكون المشي إلى السوق، وصلاة التطوع، وصوم النفل،والطواف بالبيت وكل ما يضاد الزنا من هذه الأفعال مأمورا به واجبا .
وقد علمنا أن كل فعل مندوب إليه فإنه يضاد فعل المحظور بتلك الجارحة.
ومعلوم أن من أمكنه فعل المباح أو المندوب إليه ، فهو يمكنه فعل أضداده من المحظورات ، فإذا ترك أضداده من المحظورات بفعل المباح أو المندوب، فواجب على قضية من ذكرنا قوله: أن كل ما يضاد ذلك مأمور به، فيكون هذا مؤديا إلى أن لا يكون في الشرع فعل مباح ولا مندوب إليه (1).
__________
(1) ذهب الكعبي وأتباعه من المعتزلة إلى نفي المباح من الشرع، وخالفوا بذلك إجماع الأمة على أن المباح ليس مأمورا به. إذ لو كان مأمورا به لدخل المندوب في قسم الواجب، وبذلك تختل قاعدة الأحكام الشرعية.
واستدل الكعبى على ما ذهب إليه: بأن كل فعل يعد مباحا متضمن تركا لأمر محظور، وترك المحظور واجب ، إلا أن إحدى جهاته لا تتعين، وذلك لا ينافي وجوبه كخصال الكفارة.
وقد عقب الإمام الغزالي - رحمه الله تعالى - على ما ذهب إليه الكعبى. فقال: =
= وهذا منه بناء على أن النهى عن الشيء أمر بأحد أضداده، وقد أبطلناه . أ هـ
قرآن كريم فالحاصل : أن ما اعتمده أهل التحقيق من الأصوليين والفقهاء - من أن المباح والمندوب من الشرع وهو الحق، وأنهما من أقسام الأحكام الثابتة لأفعال المكلفين.
قال صاحب الكافي على أصول البزدوي معلقا على ما نحن بصدده:" وفي اتفاق العلماء على أن أقسام الأفعال التي يأتي بها العبد عن قصد أربعة: واجب ، ومندوب إليه، ومباح، ومحظور، دليل على فساد قول هذا القائل". ، أي : الكعبي .
المنخول من تعليقات الأصول :183، الكافي شرح أصول البزدوى، لحسام الدين السغناقى :3/1192 ، تيسير التحرير :1/370 0(5/55)
وهذا فاسد ؛ لأن المسلمين قد عقلوا أن في الشريعة مباحا ومندوبا إليه مرغبا فيه، ليس بواجب ، فصح بطلان كل قول يؤدى إلى ذلك.
(فإن قيل: فهلا)(1) قلتَ : إن النهي عن الشيء أمر بضده، فإن كان له أضداد كثيرة كان أمرا بواحد من أضداده، وهو الذي يتفق فعله في وقته مما ينافي فعل المنهي عنه، فلا يكون مأمورا بفعل جميع أضداده إلا / على وجه التخيير(2)،
كما تقول في كفارة اليمين: إن الواجب فيها أحد ثلاثة أشياء على وجه التخيير(3)
__________
(1) في أصول الجصاص : 1/ 334 "فإن قال قائل : هلاَّ" .
(2) هذا إيراد قدَّر الإمام أبو بكر الجصاص وقوعه ثم قام بدفعه بعد قليل ، وتقريره أن يقال: إن النهى عن شىء أمر بضده ، إذا كان له ضد واحد ، أما إذا كان له أضداد كثيرة - كالنهى عن القعود مثلا - كان أمرا بواحد من أضداد المنهى عنه على وجه التخيير، قياسا على كفارة اليمين ، فإن الواجب فيها أحد ثلاثة أشياء على سبيل التخيير اهـ .
(3) هذا ما يعرف عند الأصوليين بالواجب المخير وهو: إيجاب شيء مبهم من أشياء محصورة معلومة، عيَّنها الشارع على سبيل التخيير بين أمر أو أمور.
مثاله: أن يتعلق الوجوب بواحد من أمور معينة مع كونها محصورة كقوله تعالى في كفارة اليمين: { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ } [سورة المائدة :89] ، فالأمر الضمني في الآية، وهو: كفِّروا، المستفاد من المصدر في قوله تعالى( فكفارته) قد تعلق بواحد لا بعينه من أمور ثلاثة هي: الإطعام، أو الكسوة، أو العتق، وقد عُطف بعضها على بعض بلفظ يقتضى التخيير وهو " أو" .
وقد اختلف العلماء في حقيقة تعلق هذا الوجوب على مذاهب ثلاثة: =
= - المذهب الأول: الواجب من خصال الكفارة واحد لا بعينه، ويعيِّنه فعل المكلف.
وهذا المذهب اختاره جمهور الأصوليين، وقال صاحب البحر المحيط :" نقله القاضي أبو بكر الباقلاني عن إجماع سلف الأمة - قبل ظهور المخالف - على أن الواجب من خصال الكفارة واحد بغير عينه، وأن المكلف إذا فعل أيَّ واحد منها ، سقط عنه الفرض ويثاب على ذلك ، وإذا ترك الكل فإنه يعاقب عقابا واحدا ؛ لأن الواجب من هذه الخصال واحد كذلك.
- المذهب الثاني: لجمهور المعتزلة: أن جميع الخصال واجبة على التخيير ، ومنهم من زاد وقال: الكل واجب على التخيير والبدل، وهذه عبارة أبى الحسين البصري في معتمده. وقد فُسر قول المعتزلة هذا على تفسيرين:
1- أن المكلف إذا فعل كل الخصال أثيب ثواب واجب واحد، وكذا إذا تركها عوقب عقاب ترك واجب واحد0
2- أن معنى إيجاب الكل عندهم أنه إذا فعلها المكلف أثيب ثواب فعل واجبات، وإذا تركها كلها عوقب عقاب ترك واجبات .
- المذهب الثالث: أن الواجب واحد معين عند الله، وغير معين عند المكلف ، وهو منسوب لبعض المعتزلة ، وهو مذهب فاسد 0
ومما سبق يتضح رجحان المذهب الأول لقوة ما استدل به .
البحر المحيط / 246 ، 247 بتصرف شديد ، ولمزيد بيان : المعتمد 1/ 140 ، المستصفى :1/ 156 ، الإحكام : 1 /140 ، 141 .(5/56)
.
قيل له(1): ما تقدم يسقط هذا السؤال، وهو أنه يصح أن يقول: (قد) (2) نهيتك عن السكون، وأبحت لك سائر أضداده من الحركات، فنطلق اسم الإباحة على الجميع . (أي إلى الجهات الست) (3).
وكفارة اليمين – وما جرى مجراها من الأشياء التي تعلق الوجوب بواحد منها على وجه التخيير- لا يصح إطلاق لفظ الإباحة على الواحد منها، بل يقال له: افعل أيها شئت على جهة الوجوب، فلذلك اختلفا، وأيضا، فلو كان لا ينصرف عن فعل مأمور به فيما وصفت إلا إلى واجب مثله على حسب ما ذكرت من كفارة اليمين - لوجب أن يستحق الثواب بفعل ما يفعله من ذلك ، كما يستحقه بما فعل من كفارة اليمين أي الأشياء الثلاثة فعل منها.
فلما لم يكن مستحقا للثواب- فيما وصفنا باتفاق الجميع- علمنا أن فاعله غير مأمور به، ولا واجب، وأنه يفعله على وجه الإباحة؛ إذ غير جائز أن لا يستحق على فعل الواجب الثواب إلى هنا لفظ الجصاص في أصوله(4)، والمختار عندي (5) ما قاله الجصاص.
ص : قوله: قال: وأجمع الفقهاء(6)
__________
(1) هذا جواب الإمام الجصاص عن الإيراد الذي سبق ذكره.
(2) الجهات الست: أمام، وخلف، ويمين، وشمال، وفوق، وتحت.
(3) ساقطة من الصلب في (ت) ، (د)، ومثبتة في الحاشية فيهما.
(4) أصول الجصاص :1/333 334.
(5) الضمير عائد إلى الشارح .
(6) بالرجوع إلى كتب الجصاص لم أقف على هذا الإجماع ، لكن الفقهاء متفقون على أن المرأة منهية عن كتمان ما في رحمها ، وإن اختلفوا في المراد منه أهو الحيض ، أم الحبل ، أم هما معا ؟
قال الإمام شمس الأئمة السر خسي - رحمه الله تعالى - في المبسوط: "قال ابن عباس :رضي الله عنهما في قوله تعالى: { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } أي: من الحيض والحبل".
وقال الإمام الكاساني - رحمه الله تعالى - في البدائع : " قيل تفسير قوله تعالى : { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } : إنه الحيض والحبل، وقد نهاهن سبحانه عن الكتمان، والنهى عن الكتمان أمر بالإظهار، إذ النهى عن الشيء أمر بضده ..." .
وبمثل هذين القولين السابقين، قال الإمام مالك بن أنس - رحمه الله تعالى - – في المدونة الكبرى، وكذا الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - في الأم، وقال بذلك – أيضا ابن قدامة - رحمه الله تعالى - في المغنى.
المدونةالكبرى :2/235 ،الأم :5/213، المبسوط للسرخسى :6/14، أحكام القرآن لابن العربي:1/253،الفصول في الأصول : 1/332 ، أحكام القرآن للجصاص :1/507، بدائع الصنائع :3/198،المحلى : 10/60 ، المغنى :1/189،7/347.(5/57)
- رحمهم الله تعالى - أن المرأة منهية عن كتمان الحيض بقوله تعالى: { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } (1) ثم كان ذلك أمرا بالإظهار ؛ لأن الكتمان ضده واحد وهو الإظهار .
واتفقوا: أن المحرم منهي عن لُبس المخيط، ولم يكن مأمورا بلبس شيء من غير المخيط.
ش : أي قال الجصاص محتجا على دعواه بالإجماع(2): وأجمع الفقهاء على أن
المرأة منهية عن كتمان ما في رحمها من الحيض والحبل(3)
__________
(1) الآية بكاملها { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } سورة البقرة : 228.
(2) الإجماع في اللغة يطلق على معنين، أحدهما : العزم ، والثاني : الاتفاق. =
= وقد عرف الأصوليون الإجماع في الاصطلاح بتعريفات كثيرة وسنختار منها تعريفا واحدا وهو للإمام البيضاوى - رحمه الله تعالى - فقال: اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على أمر من الأمور. مختار الصحاح:110 ، المصباح المنير :119 ، القاموس المحيط : 710 ، المنهاح للبيضاوى :2/273، العده لابى يعلى :2/182، ميزان الأصول :490، نهاية الوصول إلى علم الأصول :1/268، اللمع :ص180، بيان المختصر :1/294، قواطع الأدلة :1/461. الإجماع عند الأصوليين :ص923.
(3) هذا القول نسبه شمس الأئمة في أصوله والعلامة حسام الدين السغناقي في الكافي ، والإمام عبد العزيز البخاري في كشف الأسرار إلى أبى بكر الجصاص.
وبالرجوع إلى أصول الجصاص لم أقف على ما نسبه إليه السرخسي، وحسام الدين السغناقى، وعبد العزيز البخاري ، اللهم إلا تفسيرا ذكره الإمام الجصاص للآية موضع الاستشهاد، في أحكامه !!
أصول السر خسي:1/96، الكافي شرح البزدوي :3/1196، كشف الأسرار :2/481أحكام, القرآن للجصاص :1/507 .(5/58)
، بناء على قوله تعالى: { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ }
والنهي عن الكتمان كان أمرا بإظهار ما في الأرحام؛لأن الكتمان له ضد واحد، وهو الإظهار،ولهذا وجب قبول خبرها لكونها مأمورة بالإظهار، فعلم أن النهي عن الشيء أمر بضده إذا كان له ضد واحد.
وأجمعوا - أيضا - أن المحرم منهي عن لُبس المخيط(1)، بناء على ما حدث
__________
(1) قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من لبس القميص والسراويل والخفاف والبرانس".
وقد نقل هذا الإجماع الإمام النووي - رحمه الله تعالى - في شرحه لصحيح الإمام مسلم - رحمه الله تعالى - حيث قال: "أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم ليس شيء من هذه المذكورات .... وهو ما كان محيطا أو مخيطا ..." وبمثل ذلك قال ابن حجر - رحمه الله تعالى - في الفتح .الإجماع لابن المنذر: 85 ، فتح البارى بشرح صحيح البخاري:3/470 صحيح مسلم بشرح النووى :4/5، 6 .(5/59)
البخاري(1)، وقال: حدثنا عبد الله بن يوسف(2)، قال: أخبرنا مالك (3) عن نافع (4) عن عبد الله(5) بن عمر – رضي الله عنهما- أن رجلا قال يا رسول الله: ما يلبس المحرم من الثياب؟
__________
(1) محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي ، أبو عبدالله البخاري الحافظ إمام أهل الحديث في زمانه ، والمقتدى به في أوانه ، والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه ، وكتابه الصحيح يستقى بقراءته الغمام ، وأجمع العلماء على قبوله وصحة ما فيه ، توفي عام : 256 هـ . البداية والنهاية : 11/ 24 وما بعدها ، شذرات الذهب :2/ 134 .
(2) عبد الله بن يوسف التنيسي ، أبو محمد الكلاعي ، الدمشقي ، ثم المصري ، نزل تنيس ، روى عنه البخاري وروى أبو داود والترمذي والنسائي عن رجل عنه، قال البخاري من أثبت الشاميين وقال أبو حاتم وغيره ثقة ، توفي سنة : 217 هـ . العبر للذهبي : 1/ 174 ،الوافي بالوفيات : 17/ 375 ، شذرات الذهب : 2/44 .
(3) الإمام مالك : أحد ألأئمة الأربعة ، مالك بن أنس بن مالك بن عامر بن أبي عامر ، إمام دار الهجرة في زمانه ،روى عن غير واحد من التابعين ، وحدث عنه السفيانان وشعبة وابن المبارك والأوزاعي وابن مهدي وابن جريج والليث والشافعي ، قال البخاري أصح الاسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر ، توفي سنة : 179 هـ . ، البداية والنهاية : 10 / 174 ، العبر : 1/ 272 ، وفيات الأعيان : 4/135 .
(4) هو نافع أبو عبد الله المدنى ، مولى ابن عمر ، ثقة ثبت فقيه ، مشهور. تو في سنة 117هـ. العبر :1/147 ، البداية والنهاية : 9 / 319 ، تقريب التهذيب :2/302.
(5) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب ، أو عبد الرحمن. هو أحد المكثرين من الصحابة في رواية الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان من أشد الناس اتباعاً للأثر ، ومناقبه أكثر من أن تحصى ، مات - رضي الله عنه - سنة أربع وسبعين هجرية. صفة الصفوة :1/229، أعمار الأعيان:73 ، العبر : 1/ 183 .(5/60)
قال رسول الله : - صلى الله عليه وسلم - : لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس(1) ولا الخفاف إلا أحد لا يجد تعلين فليلبس خفين، وليقطعهما من الكعبين ولاتلبسوا
تلبسوا من الثياب ثوبا مسه زعفران وورس(2) " (3)؛ لأن غير المخيط أنواع من الثياب، فعلم أن النهي عن الشيء لا يكون أمرا بالضد إذا كان له أضداد، والحديث مخرج في صحح مسلم(4) أيضا ، وقد ذكر الخطابي(5) في شرح صحيح البخاري: "
وقد زعم بعضهم(6)
__________
(1) البرانس: جمع بُرنس، وهو قلنسوة طويلة كان النسَّاك يلبسونها في صدر الإسلام. مختار الصحاح :50 ، القاموس المحيط:532.
(2) الوَرْس: نبات كالسمسم، يزرع فيبقى عشرين سنة نافع للكلَف طِلاء، وللبهَق شُربا، وقال ابن حجر - رحمه الله تعالى - :" قال ابن البيطار: " الورس يوتى به من اليمن والهند والصين "، وليس بنبات، بل يشبه زهر العصفر ... " . مختار الصحاح : 716 ، القاموس المحيط : 579 ، فتح البارى:4/65.
(3) الحديث أخرجه الإمام البخاري في الجامع الصحيح :3/469 ، كتاب الحج باب ما لا يلبس المحرم من الثياب .
(4) صحيح مسلم بشرح النووى :4/ 5، 6، كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم لبسه وما لا يباح .
(5) هو الإمام العلامة الحافظ أبو سليمان حمد بن حمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي، نسبة إلى جده الخطاب، سمع الحديث من ابن الأعرابي بمكة، تفقه: على أبى بكر القفال الشاشى الشافعي، وابن أبى هريرة، ، من مصنفاته: غريب الحديث، معالم السنن، شرح الأسماء الحسنى. توفي - رحمه الله تعالى - سنة 388هـ .
وفيات الأعيان :2/214 ، سير أعلام النبلاء :17/23، ، طبقات الحفاظ :404.
(6) الضمير راجع إلى الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - ، ومن وافقه من الحنابلة؛ لأنهم هم الذين خالفوا الجمهور في هذه المسألة فقالوا: يجوز لُبس الخفين بحالهما، ولا يجب قطعهما
* قال ابن قدامة - رحمه الله تعالى - : "وإذا لبس الخفين لعدم النعلين، لم يلزمه قطعهما في المشهور عن أحمد ...، وهناك رواية أخرى عنه: أنه يقطعهما.
* واحتج الإمام أحمد ومن تابعة بحديث عبد الله بن عباس وجابر- رضى الله عنهما - ولفظه: "ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين".
فقالوا: إن هذه الرواية أجازت لبس الخفين من غير قطع، وهى رواية مطلقة .
قال ابن قدامة : قال الخطابي: "العجب من أحمد في هذا ، فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغة! وقلَّتْ سنَّة لم تبلغه " المغنى لابن قدامة: 3/301 .
* أما جمهور العلماء : الإمام أبو حنيفة ، والإمام مالك، والإمام الشافعي وجم غفير وافقهم، فقد ذهبوا إلى: إجازة لبس الخفين مقطوعين لمن لم يجد النعلين. =
= - واستدلوا : بحديث ابن عمر، الذي أخرجه البخاري ،- والذي سبق ذكره قريبا - ثم قالوا أي الجمهور إن رواية ابن عباس وجابر - رضي الله عنهما - مطلقة ؛ فيجب حملهما على المقطوعين ، في رواية ابن عمر- رضى الله عنهما - ؛ لأن المطلق يحمل على المقيد، والزيادة من الثقة مقبولة.
* قال الإمام النووي " وقولهم – أي الحنابلة - إن القطع فيه إضاعة للعمال ليس بصحيح ؛ لأن الإضاعة إنما تكون فيما نهى عنه، وأما ما ورد الشرع به فليس بإضاعة ، بل هو حق يجب الإذعان له. صحيح مسلم بشرح النووي . 4/7 .
وتحقيق هذه المسألة في : شرح معانى الآثار للطحاوي :2/133 - 135 ، بدائع الصنائع :2/183/184، بدايةالمجتهد :2 /803، 804 ، أسنى المطالب شرح روض الطالب للشيخ زكريا الأنصارى :1/ ،504 507، العدة شرح العمدة لبهاء الدين المقدسى : 169، فتح البارى شرح البخاري :3/469 - 472.(5/61)
أن قطع الخفين غير جائز ؛ لأن فيه تضييع المال، وهو محظور
منهي عنه(1) ، وليس الأمر في ذلك على ما ذهب إليه؛ لأنه مأمور به وما أمرت به الشريعة فهو مستثنى خارج عن جملة ما نهت عنه".
ص: قوله: واحتج الفريق الثالث أن الأمر على ما قال الجصاص، إلا أنا أثبتنا بكل واحد من القسمين(2) أدنى ما يثبت به؛ لأن الثابت بغيره ضرورة لا يساوى المقصود بنفسه.
ش : أي واحتج الفريق الثالث وهم الذين قالوا: إن الأمر بالشيء يوجب كراهة ضده والنهي عن الشيء يوجب أن يكون ضده في معنى سنة واجبة- بما قال الجصاص: وهو أن الأمر بالشيء نهى عن ضده ضرورة، وموجبه تحريم ضده . والنهي عن الشيء أمر بضده ضرورة إذا كان له ضد واحد، وموجبه الوجوب.ولكن الثابت ضرورة ليس كالثابت مقصودا(3)
__________
(1) لم أقف على شرح الإمام الخطابي لصحيح البخاري، وعبارتة في معالم السنن هي: " إذا لم يجد نعلين ووجد خفين قطعهما، ولم يكن ذلك من جملة ما نهي عنه من تضييع المال، لكنه مثتثنى منه، وكل إتلاف من باب المصلحة فليس بتضييع ، وليس في أمر الشريعة إلا الاتباع". معالم السنن:2/176.
(2) أي النهى الثابت في ضمن الأمر ، والأمر الثابت في ضمن النهى . كشف الأسرار للبخارى :2/483.
(3) المراد بالثابت مقصودا ، والثابت ضرورة : أي : أن الأمر بالشيء لما كان نهيا عن ضده ، فهذا الضد الثابت ضرورة يثبت أدنى ما يثبت به النهى وهو الكراهة كما في النهى لمعنى في ير المنهي عنه بطريق المجاورة، كالبيع وقت نداء الجمعة والصلاة في الأرض المغصوبة، فكذلك الحال في النهى الثابت بضد الأمر ؛ إذ لا مساواة بين المثبت بطريق الضرورة، وبين المثبت قصدا ، واعتبِر هذا كالثابت بطريق الاقتضاء، والثابت بطريق النص .
الكافي شرح أصول البزدوى :3/1198 ، كشف الأسرار للبخارى :2/483، 0(5/62)
، لأن الثابت مقصودا ثابت من كل وجه، والثابت ضرورة ثابت بقدر ما ترتفع به الضرورة، فيثبت بكل واحد من قسمي الأمر والنهي في ضده أدنى ما يثبت به وهو الكراهة في ضد ما نسب إليه الأمر،
وكون ضد ما نسب إليه النهي في معنى سنة قريبة من الواجب؛لأن الكراهة أدنى من الحرمة، والسنة أدنى من الواجب .
وقال القاضي أبو زيد- رحمه الله تعالى- في التقويم(1) في بيان وجه القول الثالث: " فوجهه أن وجوب الفعل يدل على حرمة الترك ضرورة، كما قاله: أبو بكر(2) إلا أن الحرمة التي تثبت ضرورة لا تكون كالتي تثبت بالنص عليها بالتحريم أو النهي ؛ لأن الثابت بالنص يثبت من كل وجه، والثابت بالضرورة (3)يثبت بقدر ما ترفع به الضرورة، والضرورة ترتفع بكون ضده مكروها لقبح في غيره، وإن كان / في نفسه حسنا، كالصلاة في الأرض المغصوبة(4)
__________
(1) تقويم الأدلة ، للقاضى أبى زيد الدبوسى : 48 .
(2) أي : أبو بكر الجصاص :رحمه الله تعالى ؛ لأن الأمر المطلق عنده يدل على يقتضي الوجوب على الفور . أصول الجصاص : 1/295 .
(3) بيان الضرورة على أنواع منها ما هو في حكم المنطوق ، مثل قوله تعالى { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ } فهذا بيان على أن الباقي للأب ،ومنها سكوته - صلى الله عليه وسلم - عن تغيير ما يعاينه عند الحاجة إلى البيان ، كسكوت الصحابة رضي الله عنهم عن تقويم منفعة البدن في ولد المغرور ، ومنها ما كان لدفع الغرر كسكوت المولى عن عبده وهو يبيع ويشتري ، فإنه يكون ذلك إذنا له في التجارة لضرورة دفع الضرر عمن يعامل العبد ، ومنها ما ثبت بضرورة الكلام .
أصول السرخسي : 2/50 ، نهاية الوصول إلى علم الأصول : 2/522 .
(4) هذا تمثيل للنهى الذي ثبت لمعنى في غير المنهي عنه بطريق المجاورة فالصلاة = = في ذاتها مشروعة، لكن جاورها وصف خارج، وهو شَغل ملك الغير بالغصب لهذه الأرض.
- وقد اختلف العلماء في الصلاة في الأرض المغصوبة:
قرآن كريم فذهب جمهور الفقهاء والأصوليين إلى : أن الصلاة في الأرض المغصوبة صحيحة - سواء أكانت نفلا أم فرضا – مع عصيان من فعل ذلك ؛ لأنه شغل ملك الغير، فهو متقرب من وجه ، عاص من وجه آخر.
قرآن كريم وذهب الإمام أحمد - رحمه الله - ، والجبائى وابنه من المعتزلة، والظاهرية، والزيدية ، ومن وافقهم إلى: أن الصلاة في الأرض المغصوبة باطلة، وقالوا: هى معصية من كل وجه ، والغرض باق في ذمته.
قرآن كريم وذهب القاضي أبو بكر الباقلاني والرازي - رحمهما الله تعالى - إلى : أن الصلاة في الأرض المغصوبة معصية، ولكن الفرض يسقط عندها لا بها.
- وهناك رواية أخرى للإمام أحمد : - رحمه الله تعالى - بالتفريق بين كونه عالما بالحرمة أولا، وارتضى هذا التفريق ابن تيمية في الفتاوى.
قرآن كريم قلت: لعل أرجح الآراء في هذه المسألة هو الرأي الأول، الذي يقضى بأن الصلاة صحيحة يثاب عليها، مع تحمل إثم الغصب ، وذلك لاختلاف الجهة ، فالصلاة في الأرض المغصوبة واجبة من جهة كونها صلاة ، والحرمة ثابتة من جهة الغصب والله أعلم .
التقريب والإرشاد :2/355 ، المستصفى :1/79، الوصول إلى الأصول :1/189 199، نهاية الوصول إلى علم الأصول :1/177 179، المحصول :1/195، العدة :1/241، الفروع لابن مفلح:1/293، رد المختار على الدر المختار :1/297،298.(5/63)
".:
ص : قوله : وأما الذي اخترناه(1) فبناء على هذا، وهو أن هذا لما كان أمرا ضروريا سميناه اقتضاء.
ومعنى الاقتضاء هنا: أنه ضروري غير مقصود، فصار شبيها بما ذكرنا من مقتضيات أحكام الشرع.
ش : أي : وأما الذي اخترناه: وهو أن الأمر بالشيء يقتضى كراهة ضده، و النهي عن الشيء يقتضى أن يكون ضده في معنى سنة واجبه .
فبناء على ما قلنا: إن الثابت بغيره لا يساوى المقصود بنفسه، وبالثابت بغيره ثابت ضرورة لا مقصودا فسمى اقتضاء لشبهه بالاقتضاء المصطلح في نفس الثبوت ضرورة، وإن كان هذا المقتضِى(2) بخلاف المقتضَى المصطلح، إذ هو جعل غير المنطوق منطوقا لتصحيح المنطوق(3)، وهنا يصح الأمر بدون إدراج معنى النهي في الضد.
وكذا يصح النهي بدون إدراج معنى الأمر في الضد، فلما كان الثبوت في الضد ضرورة، قلنا: الأمر بالشيء يقتضى كراهة ضده، ولم نقل: يوجب كراهته، أو يدل عليها.
__________
(1) الضمير راجع إلى القول المختار عند مشايخ الحنفية في مسألة " الأمربالشيء نهي عن ضده .
(2) المقتضَى بالفتح اسم مفعول من الاقتضاء، وهو في اللغة بمعنى الطلب، يقال: اقتضى الدين وتقاضاه، أي : طلبه، ثم الشرع: إذا دل على زيادة الشيء في الكلام لصيانته عن اللغو ونحوه فالحامل على الزيادة - وهو صيانة الكلام - هو المقتضِي بالكسر، وطلبه الزيادة هو الاقتضاء، والمزيد هو المقتضَى بالفتح، ودلالة الشرع على أن هذا الكلام لا يصح إلا بالزيادة سمى اقتضاء.
جامع الأسرار للكاكي: 2/509- 511، التلويح على التوضيح: 2/257-265، التعريفات:289، 290.
(3) فصول البدائع في أصول الشرائع :2/27.(5/64)
وكذا قلنا: النهي عن الشيء يقتضى أن يكون ضده في معنى سنة واجبة، ولم نقل: يوجب، أو يدل ، وهذا تقرير كلام الشيخ(1)، وهو مذهبه، ومذهب القاضي أبى زيد(2)، وشمس الأئمة السر خسي (3).
فأما الشيخ أبو المعين النسفي (4) فقد أنكر هذا القول إنكارا عظيما، وشنع تشنيعا قويا ذكرناه في أول الباب(5). ومر إنكار صاحب الميزان(6)- أيضا- فذاك/ هو الصواب .
ص: وأما قوله تعالى { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } فليس بنهى. بل نسخ(7) له أصلا.
__________
(1) المراد بالشيخ: هو فخر الإسلام البزدوى .
(2) مذهب فخر الإسلام في أول الباب من الرسالة ص54.
(3) تقويم الأدلة، لأبى زيد الدبوسى : 48 .
(4) أصول السرخسي، :1/94 .
(5) مر إنكار الشيخ أبى المعين النسفي ص 67.
(6) ميزان الأصول:85.
(7) النسخ لغة يستعمل في معنيين:
قرآن كريم أحدهما : الإزالة والرفع، يقال: " نسخت الشمس الظل" أي أزالته ورفعته، ويقال أيضا: "نسخت الريح آثار الأقدام" إذا رفعتها .
قرآن كريم ثانيهما: النقل، ومنه انتساخ الكتاب وهو: نقله إلى كتاب آخر ، وهو نقل مثل المكتوب الأول لا نقل الأول بعينه إلى الثاني ؛ لأنه لا يتصور.
مختار الصحاح : 656 ، القاموس المحيط : 261.
- وأما النسخ في الاصطلاح: فقد عرفه فخر الإسلام: بأنه بيان محض لمدة الحكم المطلق الذي كان معلوما عند الله - عز وجل - إلا أنه أطلقه، وصار ظاهره البقاء في حق البشر، فهو تبديل محض في حقنا، بيان محض في حق صاحب الشرع.
وقد اختار الشارح تعريف صاحب الميزان وهو بيان انتهاء الحكم الشرعى المطلق الذي في تقدير أوهامنا استمراره، لولاه بطريق التراخي.
ميزان الأصول : 700 ، كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام، 3/234 ، الشامل، لأمير كاتب :ج6 لوحة 144.(5/65)
مثل قوله تعالى: { لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ } (1)، فلا يصير الأمر ثابتا بالنهي، بل لأن الكتمان لم يبق مشروعا لما تعلق بإظهاره من أحكام الشرع ، فصار بهذه الواسطة أمرا، وهذا مثل قوله ( - صلى الله عليه وسلم - )(2): " لا نكاح إلا بشهود"(3)
ش : هذا جواب عن استدلال الجصاص على مدعاه، في أن النهي عن الشيء أمر بضده ، إذا كان له ضد واحد، فإن الإظهار ضد واحد للكتمان .
وجه الجواب أن يقال: لا نسلم أنه نهى أريد به أمر بضده، بل هو نسخ للكتمان ؛لأن صيغته للنفي لا للنهى، فصار نسخا(4)
__________
(1) تمام الآية { لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً } [سورة الأحزاب : 52]
(2) ساقطة من :ت ، د .
(3) قال ابن حجر - رحمه الله تعالى - : هذا النص لم أره بهذا اللفظ ، و في الباب آحاديث أخرى، وذكر منها حديثا ذكره ابن حبان في صحيحه عن السيدة عائشة - رضى الله تعالى عنها- بلفظ : " لا نكاح إلا بولى وشاهدي عدل" ، وقال ابن الملقن الأنصاري : قال ابن حبان : لا يصح ذكر الشاهدين إلا في هذا الحديث .
- قلت: إن النص الذي ذكره المصنف، وتابعه عليه الشارح ليس بحديث بناء =
= على ما قرره ابن حجر - رحمه الله تعالى - ولهذا الحديث طرق ضعيفة لا نحتاج إليها مع الرواية الصحيحة الذي ذكرها ابن حجر عن ابن حبان - رحمهما الله تعالى - .
الدراية في تخريج أحاديث الهدايةلابن حجر :2/55 ، صحيح ابن حبان كتاب النكاح ، ذكر نقى إجازة النكاح بغير ولى وشاهدى عدل :9/386، خلاصة البدر المنير لابن الملقن:2/176 .
(4) هذا جواب المصنف عن تمسك الجصاص بالإجماع على أن المرأة منهية عن كتمان ما في رحمها من الحيض والحبل .
قرآن كريم وتقرير هذا الجواب أن يقال : الآية ليست بنهي – كما زعم الجصاص - حتى يكون الأمر بالإظهار ثابتا به على ما زعم، بل هو نسخ له أي رفع لجواز الكتمان أصلا؛ لأنه صيغة نفي لا نهى ، مثل قوله تعالى: : { لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ } الآية ؛ فإنه ليس بنهى للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن التزوج؛ بل هو نسخ لقوله - عز وجل - : الآية { إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ00000 } سورة الأحزاب :50 . كشف الأسرارلعبد العزيز البخاري، وممن ذكر هذا النسخ المقري في الناسخ والمنسوخ: 55،56، والناسخ والمنسوخ للكرمي: 168،والناسخ والمنسوخ لابن حزم:30 .
- قلت : هذا الجواب فيه نظر لأمرين:
* أولهما : أن ما أجاب به فخر الإسلام البزدوى وشمس الأئمة السر خسي – عما تمسك به الجصاص يرد عليه:
أن النسخ هو " رفع حكم شرعي بحكم شرعي آخر متأخر عنه" فهل كان الكتمان جائزا للمرأة ، وثابتا بدليل شرعي حتى جاء قوله تعالى: : { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } لينسخ هذا الحكم السابق؟ أم أن الكتمان كان من عادة النساء في الجاهلية ليُلحقن الولد بالزوج الجديد، وهذا ما عزاه الإمام القرطبي- رحمه الله تعالى - إلى قتادة :رضى الله عنه، ثم قال - أي الإمام القرطبي - : ففي ذلك نزلت الآية .
* ثانيهما: أن العلماء وضعوا شروطا معتبرة في ثبوت النسخ، ومن هذه الشروط: أن يكون الحكم المنسوخ مشروعا، بمعنى أن يثبت هذا الحكم المنسوخ بخطاب الشرع، فأما إن كان ثابتا بالعادة والتعارف لم يكن نسخا، وكان ابتداء شرع .الناسخ والمنسوخ لابن الجوزي:96 ،97.=
= - وبناء على ذلك : فإن قوله تعالى { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ.. } نفي بمعنى النهي؛ لأن النهي الدال على التحريم قد يستفاد - أحيانا - من نفي الحل كما في الآية التي معنا ، والذي يقوي ما ذكر من التعقيب على كلام المصنف وشمس الأئمة أن الشارح أجاب عن كلامهما فنفى أن في الآية نسخا . وسيأتي الجواب عن هذا ص 112، وما بعدها من الرسالة.(5/66)
، كما في قوله تعالى :
{ لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ من بعد } أي من بعد النساء اللاتي اخترن الله ورسوله بعد نزول آية التخيير(1)، ولكن الأمر بإظهار ما في الأرحام إنما ثبت؛لأن الكتمان لم يبق مشروعا، لأنه تعلق بإظهار ما في الأرحام أحكام مشروعة كحل القربان وحرمته؛ لأنه يحل قربانها إذا كانت طاهرا ويحرم إذا كانت حائضا، وكانقطاع العدة والرجعة(2)
__________
(1) وهو قوله تعالى: : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } سورة الأحزاب : 28 ، 29 ، والمنطوق من كلام المصنف - رحمه الله تعالى - أن قوله تعالى : " لا يحل لك النساء " منسوخ، وهذا قول واحد في المسألة، لكن هناك قولين آخرين أحدهما أنها محكمة، والثاني أن المراد بالنساء هنا في الآية: الكافرات، فلم يجز للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج بكافرة ، وهذا ما قاله مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وغيرهم، واختار ابن جرير الطبري أن الآية محكمة . جامع البيان: 22/22، نواسخ القرآن لابن الجوزي:431-433.
(2) الرجعة: بفتح الراء وكسرها يقال :على امرأته رَجعة ورِجعة أيضا.
وهى في عرف الشرع : رد الزوجة إلى زوجها، وإعادتها إلى الحالة التي كانت عليها.
بدائع الصنائع :3/180، الاختيار لتعليل المختار، للموصلي :3/109 ، أسنى المطالب للشيخ زكريا الأنصارى:3/340 ،341.(5/67)
بالطهر أو بوضع الولد، وعدم انقطاعهما ببقاء الحيض والحبل وكالتزوج بزوج آخر ، وكالتزوج بأختها، فصار قوله ( تعالى)(1) { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ } أمرا بالإظهار بواسطة أن الكتمان لم يبق مشروعا، ثم قوله تعالى: { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ } في كونه نفيا لا نهيا، مثل قوله - عليه السلام - ( لا نكاح إلا بشهو فإنه نفي لا نهى حتى كان النكاح بلا شهود/ منسوخا، وهذا تقرير (معنى) (2) كلام الشيخ.
وقال شمس الأئمة السرخسى في أصوله ( أما)(3) قوله (تعالى)(4) { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } (5) فهو نسخ وليس (بمنهي)(6) بمنزلة قوله تعالى: { لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } (7) وإنما كان هذا أمرا بالإظهار بواسطة أن الكتمان لم يبق مشروعا، وهو نظير قوله عليه السلام: " لا نكاح إلا بشهود"، وقد بينا تحقيق هذا المعنى فيما سبق(8) إلى هنا لفظ شمس الأئمة(9).
__________
(1) ساقطه من الصلب في : ت ، د .
(2) ساقطة من (د) ومثبته في (ت)
(3) في أصول السرخسي 1/ 97: "فأما" .
(4) ساقط من :ت، د ، وكذا غير مثبت في أصول السرخسي:1/97.
(5) سورة البقرة:228.
(6) في أصول السرخسي : 1/97 " بنهي" .
(7) سورة الأحزاب:52.
(8) أي عند استدلال الجصاص بقوله تعالى { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } الآية – على أن النهى عن الشيء يوجب ضده إن كان له ضد واحد وإن كان له أضداد، فلا موجب له في شىء من أضداده ..الخ أصول السرخسي 1/97 .
(9) أصول السرخسي :1/97، 98.(5/68)
وهذا الذي ذكراه(1) ليس بجواب عن كلام الجصاص (2)؛ لأن الجصاص ادعى الإجماع على أن المرأة منهية بهذه الآية عن كتمان ما في الرحم ثم وجب الأمر بالإظهار، فصار النهي عن الشيء أمرا بالضد فيما إذا كان له ضد واحد.
وحق الجواب أن يقال : ليس النهي بمراد بالإجماع، ولئن كان مرادا فالأمر بالإظهار لم يجب ، وهما سلما الأمر بالإظهار ولم يمنعا انعقاد الإجماع على مراد النهي ، فلا يكون جوابا(3) ، ومع هذا ما ذهبا(4) إليه مستقيم على أصل المعتزلة(5) لا على أصل أهل السنة والجماعة(6) ؛ لأن الأمر عندهم (7) عبارة عن الصيغة ، فمحال أن تكون صيغة الأمر صيغة النهي ،
__________
(1) الضمير راجع على البزدوى، و السرخسي -رحمهما الله تعالى - .
(2) في (ت) في التحقيق .
(3) سبق الرد على هذا الجواب. ص 110.
(4) الضمير راجع إلى فخر الإسلام البزدوى، وشمس الأئمة السرخسي.
(5) أصل المعتزلة الذي يعنيه الشارح هنا: أن الأمر والنهى عندهم هو صيغتهما فإنهم لا يقولون إلا بالأمر اللفظي وهو "افعل" ؛ لأن الكلام عندهم : هو الحروف المنطومة، والأصوات المقطعة المسموعة. ومعنى هذا أن المعتزلة ينكرون الكلام النفسى، لأنهم يقولون بخلق القرآن .
شرح الأصول الخمسه :528، المعتمد :1/97، ميزان الأصول :148 .
(6) المراد بأصل أهل السنة:أن الأمر عندهم نوعان : لفظي ونفسى ، فكما يوجد الأمر اللفظي بقولنا: "افعل" ، فكذلك يوجد الأمر النفسى.
(7) الضمير راجع إلى المعتزلة .(5/69)
وعندنا(1) الكلام عبارة عن المعنى القائم بالنفس المنافي للسكوت والخرس والآفة ، ولا منافاة بينهما في هذا المعنى، فاستقام النهي عن الشيء أمرا بضده، على أنه يقال/ لهما(2) المرأة منهية عن كتمان ما في رحمها أم لا؟
فإن قالا: نعم. كان الأمر على ما قال الجصاص. وأي دليل أقوى من مساعدة الخصم(3)، وإن قالا: ليست بمنهية، كان مكابرة(4) ؛ لأنه يجب حينئذ أن لا تأثم المرأة بالكتمان لعدم ارتكاب المنهي .
ولئن قالا: إنما أثمت لارتكابها المنسوخ ،
فنقول : العدم في المنسوخ بناء على انعدامه في نفسه، لا على امتناع العبد، كنسخ حل الخمر والخنزير، والعدم في المنهي بناء على امتناع العبد، والكتمان لا ينعدم إلا بامتناع العبد عن الكتمان، فكان الكتمان منهيا عنه لا منسوخا، فصح ما قال الجصاص، وهو أن قوله تعالى: { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ } نهى أريد به الأمر بضده.
__________
(1) الضمير راجع على أهل السنة، لأن السياق يدل على ذلك.
(2) الضمير راجع على فخر الإسلام البزدوى، وشمس الأئمة السرخسي ؛ لأن سياق الكلام يدل على أنهما هما اللذات خالفا أبا بكر الجصاص فيما استدل به.
(3) المراد بالخصم هم المعتزلة : لأن ما أجاب به فخر الإسلام البزدوى، وشمس الأئمة السرخسي على استدلال الجصاص بقوله تعالى { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } ، وأن قوله تعالى: : لا يحل : ليس ينهى بل نسخ ، وهذا كله يساعد المعتزلة على ما ذهبوا إليه من أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده، وكذا النهى عن شىء ليس أمرا بضده .
(4) المكابرة : هي المنازعة ،لا لإظهار الصواب ، بل لإلزام الخصم . التعاريف : 672 ، شرح الرشيدية للجونغوري الهندي : 18 .(5/70)
وقولهما(1): إنما كان هذا أمرا بالإظهار بواسطة أن الكتمان لم يبق مشروعا لا يخلو: إما أن لا يبقى مشروعا لا نتساخه وانعدامه في نفسه من غير اختيار العبد، أو لا يبقى مشروعا لورود النهي عنه بناء على اختيار العبد.
فالأول: منتف؛ لأن انعدامه من غير اختيار لا يكون متعينا.
والثاني: فصار معنى الآية والله أعلم،ولا يحل لهن الكتمان ؛ لأنه منهي عنه لا لأنه منسوخ، وهذا هو الذي سمح به خاطري في مساعدة الجصاص(2).
ص: قوله: وفائدة هذا ( الأصل)(3)
__________
(1) الضمير راجع على فخر الإسلام البزدوى ، وشمس الأئمة السرخسي ؛ لأن السياق يدل على ذلك.
(2) الذي يفهم من كلام الشارح: أنه انتصر لرأي الجصاص - رحمه الله تعالى - الذي يقضى بأن قوله تعالى: { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ .... } نهى لا نسخ ، وأن ما قاله الإمامان فخر الإسلام البزدوى، وشمس الأئمة السرخسي فيه نظر . وقد مر بيان ذلك ص 110.
(3) حد الأصل عند الأصوليين: ما قيس عليه الفرع بعلة مستنبطة منه أو ما ثبت حكمه بنفسه، ويبنى عليه غيره، وقد يطلق الأصل في الاصطلاح على أربعة معان :
* الدليل : يقال الأصل في هذه المسألة ، أي دليلها الإجماع .
* الراجح : مثل قولهم الأصل في الكلام الحقيقة ، أي الراجح في الكلام حمله على الحقيقة ، لا المجاز .
* القاعدة المستمرة : فيقال إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل ، أي على خلاف القاعدة العامة .
* المستصحب : فيقال: الأصل براءة الذمة ، أي يستصحب خلو الذمة من الانشغال بشيء حتى يثبت خلافه .
الحدود في الأصول لابن فورك :146 ، الحدود في الأصول للباجى :70 ،اللمع في أصول الفقه : 211 ، البحر المحيط : 1/16 ، 17 .(5/71)
أن التحريم إذا لم يكن مقصودا بالأمر لم يعتبر إلا من حيث يفوت الأمر، فإذا لم يفوته كان مكروها كالأمر بالقيام ليس بنهى عن القعود قصدا، حتى إذا قعد ثم قام لم تفسد صلاته بنفس القعود، ولكنه يكره.
ش: أي فائدة الأصل - الذي قلنا: وهو أن الأمر بالشيء يقتضى كراهة ضده، والنهي عن الشيء يقتضى أن يكون ضده في معنى سنة واجبة،أن التحريم المستفاد في ضد المأمور به لما لم يثبت قصدا بالأمر بل ضرورة؛ لأنه لا وجود له مع الاشتغال بضده، ولم يعتبر في الضد إلا من جهة تفويت حكم الأمر من الاشتغال بالضد، فإذا لزم تفويت حكم الأمر من الاشتغال، ثبت التحريم ، وإن لم يلزم لا يثبت التحريم، ولكنه يكره الضد، كالأمر بالقيام إلى الركعة الثانية، فإن المصلى مأمور بالقيام، فإذا اشتغل بضده وهو القعود، لا يكون مفسدا للصلاة إذا لم يفُت القيام، ولكنه يكره، فإذا قعد ولم يقم ففات القيام المأمور به فحينئذ يكون القعود حراما.
فعلى ما ذهب الجصاص: يجب أن يكون القعود حراما مطلقا سواء أتى بالقيام بعد القعود أو لم يأت به؛ لأن مطلق الأمر عنده يوجب الفور(1)، فبالاشتغال بالضد يفوت المأمور به لا محالة، ومذهب الشيخين(2)
__________
(1) مذهب الجصاص في الفصول في الأصول : 1/295.
(2) أي : فخر الإسلام البزدوى، وشمس الأئمة السرخسي - رحمهما الله تعالى -؛ لأن السياق يدل على ذلك، وه مذهب فخر الإسلام البزدوى في مسألة الأمر المطلق أهو على الفور أم على التراخي؟ في كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري :1/511 -520.
أما شمس الأئمة السرخسي فقال: "والذي يصح عندى في الأمر المطلق أهو على الفور أم على التراخى؟ من مذهب علمائنا رحمهم الله – أنه على التراخى ..." .
أصول السرخسي :1/26.(5/72)
: أنه ليس على الفور(1) بل على التراخي(2) فيتأتى هذا التقسيم والواجب المضيق على الفور اتفاقا؛لأنه بمجرد الاشتغال بالضد يفوت المأمور به كما في صوم رمضان ، والموسع على التراخي اتفاقا كالأمر بالصلاة إلا عند تضيق الوقت ، لأنه لا يلزم مع الاشتغال بالضد فوات المأمور به بخلاف ما إذا ضاق الوقت .
ص : قوله : "ولهذا قلنا (3): إن المحرم لما نُهى عن لُبس المخيط كان من السنة لبس الإزار والرداء (4)".
__________
(1) المراد بالفور: أن يبادر المكلف بامتثال الأمر فور سماعه دون تأخير، وإن تأخر عن الأداء كان مؤاخذا.
(2) ومعنى التراخي: أن المكلف يجوز له التأخير عن أول الوقت ، لكن لا يجب عليه.
قال عبد العزيز البخاري : - رحمه الله تعالى - ومعنى قولنا: على الفور أنه يجب تعجيل الفعل في أول أوقات الإمكان ، ومعنى قولنا: على التراخي أنه يجوز تأخيره عنه، وليس معناه أنه يجب تأخيره عنه، حتى لو أتى به فيه لا يعتد به؛ لأن هذا ليس مذهبا لأحد ". ا هـ .
كشف الأسرار ، للبخارى، 1/520، ولمزيد بيان في مسألة الأمر المطلق أهو على الفور أم على التراخى؟ انظر أصول الجصاص :1/295 ، أصول السرخسي :1/26، قواطع الأدلة :1/75، التقريب والإرشاد :2/208 ، بيان المختصر :1/447 ، العدة في أصول الفقه :1/194، اللمع في أصول الفقه :51 .
(3) الضمير يعود إلى مشايخ الحنفية . الكافي :3/1199، كشف الأسرار : 2/485 .
(4) قال صاحب القاموس: الإزار: الملحفة، ويؤنث كالمئزر ، والإزْر والإزارة ، والجمع آزرَّة ، وأُزر، وأزْر، وهو كل ما ستر.
ويقول الزبِيدى: " والإزار بالكسر معروف ، وهو الملحفة، وفسره بعض أهل الغريب بما يستر أسفل البدن، والرداء: ما يستر به أعلاه. وقيل: الإزار: ما تحت العاتق في وسطه الأسفل، والرداء: ماعلى العاتق والظهر، وقيل: الإزار ما يستر أسفل البدن ولا يكون مخيطا، والكل صحيح.
القاموس المحيط :342، 343 ، تاج العروس ، للزبيدى : 3/11 .(5/73)
ش : أي : ولأجل أن النهي عن الشيء/ يقتضى أن يكون ضده في معنى سنة واجبه(1)،
قلنا في نهى المحرم عن المخيط أن لبس غير المخيط من الإزار والرداء سنة.
وهذا لا يَرِد على الجصاص ؛ لأنه لا يقول: إن النهي عن الشيء أمر بالضد مطلقا.
بل ، يقول: إنه أمر بالضد، إذا كان له ضد واحد، أما إذا كان له أضداد فلايكون أمرا بالأضداد(2) ، فكان ضده سنة بالسنة (3).
ص : قوله ولهذا قلنا إن العدة لما كان معناها :النهي عن التزوج(4)، لم يكن الأمر بالكف مقصودا حتى انقضت الأعداد منها بزمان واحد بخلاف الصوم ؛ لأن الكف وجب بالأمر مقصودا به(5).
ش " أي : ولأجل ما قلنا: إن النهي عن الشيء يقتضى أن يكون ضده في معنى سنة واجبة .
__________
(1) أي سنة في قوة الواجب ، وقد سبق بيان معناها ص63.
(2) أصول الجصاص :1/331.
(3) معنى هذه الجملة، أنه لما كان النهي عن لبس المخيط ، اقتضى أن له أضدادا كالإزار والرداء وغيره ، فلبس غير المخيط عند الجصاص سنة ، ولكن لم يثبت بالأصل الذي معنا ، وهو النهي عن الشيء أمر بضده ، لكن ثبت بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان ضده سنة بسنة .
(4) هذا المعني الذى ذكره المصنف للعدة مأخوذ من صيغة النهى الواردة في قوله تعالى: { وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ.. } ، وهذا يتناسب مع السياق الذى يتحدث عنه، وهو مسألة النهى عن الشيء والأمر بضده .
وأما معناها عند بعض الفقهاء فهي: اسم ضُرب لانقضاء ما بقى من آثار النكاح . بدائع الصنائع : 3/190 ، وعرفها الشيخ زكريا الأنصاري - رحمه الله تعالى - فقال: " هي مدة تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها، أو للتعبد، أو لتفجعها على زوجها ". أسني المطالب شرح روض الطالب :3/389.
(5) المراد بهذه الجملة : أي بخلاف الكف في الصوم، فإنه ثبت بالأمر الصريح المقصود في قوله تعالى: : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل ..ِ } .(5/74)
قلنا: إن العدة الثابتة بقوله تعالى: { وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } (1)وبقوله تعالى { وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } (2)، لما كان معناها النهي عن التزوج
والخروج، وموجَبه حرمة التزوج والخروج لم يكن الأمر الثابت بضد التزوج والخروج – الثابتين بإضافة النهي إليهما- مقصودا، وضدهما الكف عن التزوج والخروج وهو الامتناع عنهما.
وفائدة أن لا يكون الضد مقصودا بالأمر: أن تتداخل العدتان(3).
__________
(1) تمام هذه الآية { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } سورة البقرة : 235 .
(2) وتمام هذه الآية { يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } . سورة الطلاق : 1 .
(3) معني تداخل العدتين: أن المطلقة إذا تزوجت في عدتها بزوج آخر، فدخل بها هذا الزوج، ثم خلَّى سبيلها ، حتى وجبت عليها عدة أخرى ، فإن العدتين تتداخلان.
بدائع الصنائع: 3/190، وسيأتى بيان هذه المسألة بعد قليل إن شاء الله تعالى 0(5/75)
وإذا تزوجت أو خرجت لا تبطل العدة؛ لأن الامتناع عن التزوج والخروج لم يثبت قصدا، وهذا معنى قوله: " حتى انقضت الأعداد منها بزمان واحد " أي: انقضت الأعداد الحاصلة من وجوب العدة، والكف في العدة بخلاف الكف في الصوم، فإن الكف عن المفطرات الثلاث(1)، ثبت بالأمر مقصودا.
بقوله تعالى: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } (2).
والصيام : هو الكف عن الأشياء المذكورة، فلم يصح أن يجزيء صومان في يوم
__________
(1) المفطرات الثلاث هي: الأكل والشرب والجماع.
قال الإمام الكاساني : - رحمه الله تعالى - في تعريفه للصوم شرعا : " هو الإمساك عن أشياء مخصوصة ، وهى الأكل والشرب والجماع ..."
وقال الإمام القرطبى رحمه الله تعالى عند تفسيره لقوله تعالى:( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) جعل الله - عز وجل - الليل ظرفا للأكل والشرب والجماع، والنهار ظرفا للصيام .
بدائع الصنائع : 2/75 ، الجامع لأحكام القرآن، 1/805 .
(2) تمام الآية { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } سورة البقرة : 187 .(5/76)
واحد(1)؛ لأن كل واحد من الصومين مقصود بالأمر، فلم يجز أن يتداخلا .
وعبارة شمس الأئمة السرخسي في أصوله أوضح حيث قال: " ولكون النهي مقتضيا في ضده ( ما بينا )(2) من صفة السنة قلنا: لا ينعدم بالضد ما هو موجب صبغة النهي ، فإن ركن العدة الامتناع عن الخروج والتزوج(3) ثبت ذلك بصيغة النهي ، قال تعالى: { ولا يخْرُجْنَ } وقال: { وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ } ، فإن فعلتْ ذلك أي - الضد- لم ينعدم به ما هو ركن الاعتداد حتى تنقضي العدة.
بخلاف الكف في باب الصوم فإنه واجب بصيغة الأمر نصا قال تعالى: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } فينعدم الأداء بمباشرة الضد وهو الأكل .
وعلى هذا قلنا(4)
__________
(1) صورة هذه المسألة: أن يجتمع أداء صومين على شخص واحد كأن يكون عليه صوم واجب ، مثل كفارة الظهار مثلا، وهلَّ عليه هلال رمضان، فلا يجوز لهذا الشخص أن يؤدى الصومين في وقت واحد ؛ لأن كل واحد منهما ثبت بالأمر مقصودا، فلم يجز أن يتداخلا كما في العدة.
(2) ساقطة من : "ت "، والصواب ما أثبت في : " د" .
(3) قال الإمام الكاساني- رحمه الله تعالى - : لا يجوز للأجنبى نكاح المعتدة لقوله - تعالى - { وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } أي : لا تعقدوا عقد النكاح حتى ينقضى ما كتب الله عليها من العدة ، وأما عن الامتناع عن الخروج فقد قال – رحمه الله تعالى - : لا يجوز للمعتدة من طلاق ، الخروج من منزلها أصلا بالليل ولا بالنهار إلا للضرورة ، وأما المتوفى عنها زوجها : فيباح لها الخروج نهارا لقضاء حوائجها ؛ لأنه لا نفقه لها من الزوج المتوفي .
بدائع الصنائع : 3/204، 205.
(4) مرجع الضمير إلى الحنفية؛ لأنهم هم الذين يقولون بتداخل العدتين.
بدائع الصنائع : 1/190 .(5/77)
: العدتان تنقضيان بمضي مدة واحدة ؛ لأن الكف في العدة ثابت بمقتضى النهي ، ولا تضايق فيما هو/ موجَب النهي نصا وهو التحريم، ولا يتحقق أداء الصومين في يوم واحد لتضايق الوقت في ركن كل صوم، وهو الكف إلى وقت، فإنه ثابت بالأمر نصا ولا يتحقق اجتماع الكفين في وقت واحد " 0 إلى هنا لفظ شمس الأئمة(1).
ثم بيان التداخل في العدتين ما ذكره الحاكم الشهيد(2) في مختصر الكافى(3) بقوله: " وإذا تزوجت المعتدة من الطلاق برجل آخر ، ودخل بها ففرِّق بينهما فعليها عدة واحدة من الأول، والآخر ثلث حيض.
__________
(1) : أصول السرخسي :1/980
(2) هو محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن عبد المجيد بن إسماعيل بن الحاكم المروزي الحنفي الشهيد المكنَّي بـ : "أبى الفضل" سمع الحديث من أبى رجاء محمد بن حمدويه الهورقاني وغيره، وسمع منه: أئمة خراسان وحفاظها، منهم الحاكم أبو عبد الله . ولى القضاء ببخارى، ثم ولاه أمير خراسان وزارته، من مصنفاته: المستخلص، والمنتقى، والكافي الذى يعد من أهم الكتب التى اعتمد عليها أمير كاتب" في النقل مرتين، وهذه الكتب كلها في فروع فقه الحنفية ، وفاته: قتل شهيدا، عندما ثار به الجند عند الأمير. فلما رأي سعيهم اغتسل وتحنط ولبس أكفانه وأقبل على الصلاة، فقتل كذلك، سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.
الجواهر المضيئة :3/313-315، كشف الظنون:2/1378.
(3) هو كتاب في فروع فقه الحنفية قام بشرحه شمس الأئمة السرخسي - رحمه الله نعالى- . كشف الظنون :1/214.(5/78)
بلغنا نحو ذلك عن معاذ بن جبل(1) - رضي الله عنه - ألا ترى أنها لو كانت حاملا فوضعت حملها انقضت عدتها منهما جميعا، فإن كانت قد حاضت من الأول حيضة فعليها ثلث حيض، حيضتان من عدة الأول، ويحتسب بهما من عدة الآخر، وحيضة أخرى من عدة الآخر، ولآخر أن يخطبها إذا انقضت عدتها من الأول، ولا يخطبها غيره حتى تنقضى عدتها (منهما)(2) جميعا، فإن كان الأول طلقها طلاق الرجعة، فله أن يراجعها إذا شاء، ولا يقربها حتى تنقضى عدتها من الآخر ، وكذلك إن كانت العدتان بالشهور (يعنى إذا كانت المرأة ممن لا تحيض)(3).
وإذا تزوجت في عدة الوفاة، ودخل بها الزوج الآخر، ثم فرق بينهما فعليها بقية عدتها من الميت لتمام أربعة أشهر/ وعشر وعليها ثلث حيض من الآخر، ويحتسب بما حاضت في الأربعة أشهر وعشر من عدة الآخر . إلى هنا لفظ الحاكم الشهيد(4).
ثم اعلم أن في المسألة(5) خلافا، فعندنا (6)
__________
(1) معاذ بن جبل صحابي جليل ، يكني بأبي عبد الرحمن، أسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة. وشهد بيعة العقبة الثانية، وبدرا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان من الذين جمعوا القرآن الكريم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، وشيعه ماشيا في مخرجه وهو راكب، وقال عنه : أعلم أمتى بالحلال والحرام معاذ بن جبل" - رضي الله عنه - تو في سنة 18 هـ .
البداية والنهاية :7 /95، المنتظم لابن الجوزي :4/264، سير أعلام النبلاء :1/445، صفة الصفوة :1/197- 203.
(2) في كتاب الكافي للحاكم الشهيد :1 / لوحة 80 .
(3) ساقطة من الصلب في : "ت ، د " ومثبت في الحاشية .
(4) : الكافي ، للحاكم الشهيد ، جـ1، لوحه :80.
(5) أي مسألة " اجتماع العدتين وحكم التداخل بينهما".
(6) الضمير راجع إلى الحنفية، ومذهبهم في هذه المسألة: أن العدتين إذا وجبتا فإنهما يتداخلان ، سواء كانتا من جنس واحد، أو من جنسين،
* وصورة الجنس الواحد: أن المطلقة إذا تزوجت في عدتها، فوطئها الزوج - أي الثاني - ثم تفرقا حتى وجبت عليها عدة أخرى، فإن العدتين تتداخلان .
* وصورة الجنسين المختلفين: أن المتوفَّى عنها زوجها إذا وطئت بشبهة فإن عد تيها تتداخلان.
*استدل الحنفية على ما ذهبوا إليه بقوله تعالى { وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ.. } قالوا قد سمى الله تعالى العدة أجلا، والأجل اسم لزمان مقدر مضروب لانقضاء أمر، كآجال الديون ... والآجال إذا اجتمعت تنقضى بمدة واحدة فكذا الحال في العدة ههنا،هذا ما ذهب إليه الحنفية، وهو مروي عن معاذ بن جبل. - رضي الله عنه -. بدائع الصنائع ، 3/190، الهداية شرح بداية المبتدى :2/33 ، البناية على الهداية :5/423 - 425 .(5/79)
: العدتان تتداخلان، وعند الشافعى(1) :
لا تتداخلان(2)
__________
(1) هو فقيه الأمة ، وإمام الأئمة، أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي القرشي المطلِّبى . ولد بغزة سنة 150هـ ، وهى السنة التى تو في فيها الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، والموطأ وله عشر سنين، وأجيزت له الفتيا وله خمسة عشر عاما. وهو أول من قعد القواعد في علم الأصول، أخذ العلم عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس، وخالد الزنجى وغيرهما. وأخذ العلم عنه خلق كثير من مصنفاته: الرسالة، الأم وغيرهما . تو في سنة :204هـ 0 المنتظم :10/ 134، حلية الأولياء :9/63، سير اعلام النبلاء :10/5 ، العبر :10/343.
(2) هذا هو مذهب الإمام الشافعي في المسألة ،وهو عدم تداخل العدتين إذا اجتمعتا على امرأة لشخصين، وهو مذهب الفاروق عمر والإمام على - رضي الله عنهما - وأخذ بذلك الإمام مالك في إحدى الرواتين عنه، وقال بعدم التداخل أيضا الإمام أحمد . الأم: 5/336 ، روضة الطالبين، 6/362، بداية المجتهد،2/94، حاشية الدسوقى على الشرح الكبير2/499، المغني، 8/100.
قرآن كريم دليل الجمهور: استدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بما رواه الإمام مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها ونكحها غيره في عدتها فضربها عمر بن الخطاب ، وضرب زوجها ضربات بمخفقة، وفرق بينهما، ثم قال: أيما امرأة نكحت في عدتها، فإن كان الذى تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، وكان خاطبا من الخطاب، وإن كان دخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر، ولا ينكحها أبدا .
وقال الشافعي: أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج، قال: أخبرنا عطاء أن رجلا طلق امرأته، فاعتدت منه حتى إذا بقى شىء من عدتها نكحها رحل آخر جهلا، وبني بها، فأتى عليا بن أبى طالب - رضي الله عنه - في ذلك ففرق بينهما، وامرها أن تعتد ما بقى من عدتها الأولى، ثم تعتد من الآخر عدة مستقلة، فإذا انقضت عدتها، فهى بالخيار إن شاءت نكحت، وإن شاءت فلا.
ثم قال الشافعي رحمه الله تعالى: وبقول عمر وعلى - رضي الله عنهما - نقول في المرأة تنكح في عدتها تأتى بعدتين 0 الأم : 5/336 - 337 0
- قلت : ما ذكر في تداخل العدتين عند الحنفية، وعدم التداخل بينهما عند الجمهور إذا اجتمعتا على امرأة لشخصين،أما إذا وجبت العدتان على امرأة لشخص واحد ، كمن طلق امرأته ، ثم وطئها هو أثناء العدة ، ثم طلقها هو مرة ثانية ، فإن هاتين العدتين تتداخلان بالاتفاق؛ لأن الماء لم يختلط،وكذلك العدتان المتفقتان في الأقراء والأشهر تتداخلان سواء أكانتا من شخص واحد أم من شخصين، كالحدود المتفقة في الجنس .
- والحاصل : أن المرأة المعتدة بأي عدة كانت ، لا يباح لها أن تنكح أحدا في عدتها إلا الرجعية لزوجها ؛ لأن الله عز وجل يقول: { وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغ الْكِتَابُ أَجَلَه ُ }
- والراجح في هذه المسألة - و الله أعلم - : أن العدتين إذا وجبتا على امرأة لشخصين وكانتا مختلفتين كأن تكون إحداهما بالحمل والأخرى بالأقراء، فإنهما لا يتداخلان لما يأتي :
1- أن ما استدل به الحنفية على جواز تداخل العدتين لا ينهض لاحتجاج الجمهور = = لأن استشهادهم بقول معاد بن جبل لم أقف على إسناده ، وقد ذكر ابن تيمية أن مثل هذا الأثر قد ذكر عن ابن مسعود ، لكن شيخ الإسلام قال بأنه لم يقف عليه .
2- أن ما استدل به الجمهور صريح الدلالة في عدم التداخل بين العدتين خاصة أنه قول سيدين من أكابر الصحابة : سيدنا عمر وعلى رضي الله عنهما .
3- أن القاعدة الشرعية تقضى: بأن الأصل في الأبضاع التحريم، فيحتاط فيها مالا يحتاط في غيرها، خوفا من اختلاط المياه ، واشتباه الأنساب .
الأم :5/336 - 338 بدائع الصنائع :3/190 ، الهداية شرح بداية المبتدى :2/33 ، شرح بداية المجتهد :3/1469، رسائل وفتاوي ابن تيمية :32/ 344، المغني :8/100، 101 .(5/80)
،
* له : أنهما حقان لمستحقين، فلا يجوز تداخلهما كالمهرين، ولأن العدة عبادة كف عن الإزدواج والخروج للزينة وغيرها في مدة معلومة، فلم يجز أن تتداخل العدتان كما لا يتداخل الصومان في يوم واحد.
* ولنا (1). أن المقصود تعرُّف براءة الرحم في حق ذوات الأقراء ، ويحصل ذلك المقصود بمدة واحدة، فلا حاجة إلى مدة أخرى .
وإنما قلنا: إن المقصود ذلك ؛ لأن الطلاق مزيل(2) وقد وجد، والموت مُنْهِى وقد وجد، فلو لم تجب العدة ، عمل السبب المزيل عمله، فيحل لها التزوج بزوج آخر، فيؤدى ذلك إلى اشتباه الأنساب باختلاط المياه، فمست الحاجة إلى ايجاب العدة، ليتأخر عمل الطلاق والموت، فلم يحل لها التزوج في العدة كى لا يشتبه الأنساب ؛ ولأن الله تعالى سمى العدة أجلا. قال تعالى: { وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } (3) وقال تعالى: { وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } ويجوز أن تنقضى آجال ديون كثيرة بأجل واحد ،
فكذا هذا(4)
__________
(1) الضمير راجع إلى الحنيفة ؛ لأن السياق يدل على ذلك.
(2) أي مزيل لعقد الزوجية .
(3) تمام الآية { وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } سورة الطلاق : 4 .
(4) هذا الكلام فيه نظر؛ لأن قياس تداخل العدتين على تداخل آجل الديون إذا كانت كثيرة وأنه يجوز أن تنقضي بأجل واحد في مدة واحدة هو قياس مع الفارق لأمرين:
أولهما: أن المقصود من العدة التربص وكف عن التزوج والخروج ؛ للتعبد ولمعرفة براءة الرحم صيانة للأنساب عن الاختلاط . أسني المطالب للشيخ زكريا الأنصاري، 3/389 .
أما في الديون فالمقصد فيها الوفاء بالحق على أي جهة، وبأي طريقة كانت، لذا فالجهة بين العدة والديون منفكة.
ثانيهما: أن الأصل في الأبضاع التحريم، فيحتاط منها مالا يحتاط في غيرها، وذلك لصيانة الماء المحترم عن اشتباه النسب :غمز عيون البصائر : 1/225 .
وأما المعاملات ومنها الديون فالأصل فيها التراضي بين المتعاقدين ، إلا ما جاء النص باتباعه والوقوف عليه .(5/81)
؛ لأن مقصود كل واحد من الغرماء كما يحصل بأجل/ واحد ، يحصل مقصود كل واحد من صاحبي العدة بثلاثة أقراء ، وهو تعرف براءة الرحم لصيانة الماء المحترم عن اشتباه النسب.
ومعنى العبادة في العدة تابع، لأن ركنها حرمة الازدواج والخروج، قال تعالى: { وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } وقال تعالى: { وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } .
وموجَب النهي التحريم، والحرمات تجتمع، كصيد الحرم للمحرم حرام، لإحرامه وحرمة الحرم، كالخمر للصائم فإنها حرام له، لصومه، ولكونه خمرا وليمينه إذا حلف أن لا يشربها(1).
والدليل على أن معنى العبادة فيها تابع انقضاء العدة بدون العلم، وبدون ترك الكف عن الخروج والازدواج ، حتى إذا خرجت أو تزوجت بزوج آخر لا تبطل العدة ، فلو كان معنى العبادة فيها ركنا مقصودا لم تنقض بدون الكف ؛ لأن العبادة لا تتحقق لا ركن .
فإن قلتَ(2)
__________
(1) هذا الكلام بنصه في : الكافي شرح أصول البزدوي :3/1201 كشف الأسرار للبخارى :2/487.
(2) هذا إيراد افترضه الشارح. وتقريره أن يقال: لا نسلم أن المقصود من العدة تعرف براءة الرحم - كما قال الحنفية - ، إذ لو كان المقصود كذلك لما وجبت على الصبية ، والآيسة ، والمتوفى عنها زوجها، لعدم شغل الصبية والآيسة بالحبل في هذا السن .
* قلت: إن هذا الكلام يَرِد على مذهب الحنفية الذي يقضي بأن المقصود من العدة : تعرف براءة الرحم في حق ذوات الأفراء ، حيث يحصل المقصود بتداخل العدتين ، وأنهما تنقضيان بمضي مدة واحدة . البناية على الهداية ، 5/ 424.
* أما عند الشافعية فالمقصود من العدة هو: التربص والكف عن التزوج والخروج ، للتعبد ، ولمعرفة براءة الرحم، ولتفجع المرأة على زوجها .
أسنى المطالب شرح روض الطالب، 3/389 .
* وبناء على ذلك: فالهدف من مشروعية العدة – عند الشافعية - أعم وأشمل ، بل ويظهر منه تغليب جانب الاحتياط مخافة اشتباه الأنساب ؛ ولهذا قالوا : بعدم تداخل العدتين إذا كانتا على امرأة لشخصين . الأم : 5/336، روضة الطالبين : 6/ 362 .(5/82)
: لا نسلم أن المقصود تعرُّف براءة الرحم ، فلو كان كذلك لم تجب العدة على الصبية والآيسة (1) والمتو فى عنها زوجها ؛ لأن لا شَغْل في الصبية والآيسة، و في المتو فى عنها زوجها لا يحتاج الزوج إلى ذلك.
قلت(2): الصبية التى تحتمل الوطء تحتمل العلوق، وكذلك الآيسة فدار الحكم على دليل الشغل وهو الوطء،/ لأن العدة يكفي في إيجابها توهم الشغل، وإن كان بخلاف العادة، والمتو فى عنها زوجها الحاجة فيها إلى التعرف قائمة لصيانة مائي الزوجين عن الاختلاط، لأن ماء الأول محترم في نفسه وكذا ماء الثاني
فإن قلتَ (3) : لو كان التداخل معتبرا لتداخل أقراء عدة واحدة .
قلتُ(4)
__________
(1) الآيسة: التى بلغت سن اليأس، ورغب عنها لكبر سنها، والإياس بمعنى اليأس، وهو انقطاع الرجاء . التعريفات : 59 ، أنيس الفقهاء للقونوي : 66 .
(2) هذا جواب الشارح على الاعتراض الذى سبق ذكره منذ قليل.
(3) هذا إيراد آخر موجه إلى الحنفية رام الشارح ذكره ، وكعادتة يتبرع بدفعه لاحقا وتقرير هذا الايراد أن يقال:
لو صح ما قلتم: "إن تداخل العدتين معتبر، حتى وإن كانتا على امرأة لشخصين لكان الأولى القول: يتدخل أقراء عدة واحدة إذا وجبت على امرأة لشخص واحد ، ولم يقل بذلك أحد ؛ لأن الله تعالى يقول : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ } البقرة:228 .
(4) الضمير راجع إلى الشارح، وقد تجشم - رحمه الله تعالى - دفع أي اعتراض يرد على قول الحنفية: " بتداخل العدتين"، وأن ما ذكره من منع الملازمة، وقياسه عدم تداخل أقراء عدة واحدة على عدم تداخل الجلدات في حد واحد، كالصيامات الواجبة في أيام - كقضاء أيام من رمضان ووجوب صيام أيام في كفارة على شخص واحد في لوم واحد - فإنها لا تتأدى ولا تتداخل 0
كل هذا يوهن من قوة هذا الجواب، ويعضد ويؤكد بقاء هذا الايراد ؛ لأنه لا فرق بين وجوب عدتين على امرأة لشخصين ، وبين وجوب صومين مثلا على شخص واحد. فجهة الوجوب في الأمرين ليست منفكة ، والله أعلم .(5/83)
: لا نسلم الملازمة(1) ؛ لأن التعرف بحيضة واحدة ليس كالتعرف بثلاث حيض في حصول المقصود؛ لأن المقصود من الأولى الاستبراء ، من الثانية إظهار خطر النكاح، ومن الثالثة إظهار فضيلة الحرية(2)، وهذا المقصود لا يحصل بالواحدة؛ كالآجال لا تتداخل في دين واحد وكالجلدات لا تتداخل في حد واحد، ويتداخل الحدان ، وكالصيامات الواجبة في أيام لا تتأدى في يوم واحد؛ لأن الإمساك الواحد لا يسد مسد الإمساك الكثير في حصول المقصود، وهو قهر النفس بخلاف ما نحن فيه حيث يحصل المقصود، وهو تعرف براءة الرحم عن العدتين بمدة واحدة ، وقد مر هذا مرة في غاية البيان(3).
ص : قوله : ولهذا قال أبو يوسف(4) - رحمه الله تعالى - : إن من سجد على مكان
__________
(1) الملازمة: هى كون الشيء مقتضيا للآخ، والشيء الأول يسمى ملزوم، والثاني لازما 0 التعريفات الجرجاني : 294.
(2) المبسوط :6/42 .
(3) غاية البيان : 2/ لوحة 208، 209 .
(4) هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن خُنيس الأنصاري ، صاحَب أبى حنيفة فأخذ الفقه عنه، وعن ابن أبى ليلى - رحمه لله تعالى - ، ولى القضاء لثلاثة خلفاء " المهدي والهادي والرشيد" قال عنه الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - أبو يوسف ثقة صدوق، ووثقه كذلك النسائي ، وابن معين وابن المديني - رحمهم الله تعالى - تو في سنة اثنتين وثمانين ومائة من الهجرة . تاريخ بغداد :14/242 262 ، سير أعلام النبلاء :8/470، الجواهر المضيئه 3/ 611 - 613، شذرات الذهب :2/367 .(5/84)
نجس لم تفسد صلاته(1) ؛ لأنه غير / مقصود بالنهي . وإنما المقصود بالأمر فعل السجود على مكان طاهر ، وهذا لا يوجب فواته حتى إذا أعادها على مكان طاهر جاز عنده"(2)
__________
(1) أصول السرخسي :1/98، الكا في شرح أصول البزدوي :3/1203 ، جامع الأسرار في شرح المنار للكاكي :2/ 567، مجمع الأنهر:1/120 .
(2) ولمزيد بيان في هذه المسألة : فإن أبا يوسف - رحمه الله تعالى - جعل المقصود بالأمر في قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ سورة الحج : 77 ] هو السجود على مكان طاهر، والاشتغال بالضد ، وهو السجود على مكان نجس لا يفوِّت المأمور به عنده إذا أعاد هذا السجود على مكان طاهر، فكانت مباشرة العبد بالسجود على مكان نجس مكروهة في نفسها ، والمكروه لا تفسد به الصلاة، وعلى ذلك فأبو يوسف - رحمه الله تعالى - اعتبر أن النهى غير مقصود، بل ثبت ضمنا ؛ لأن الثابت مقصودا ليس كالثابت ضمنا ، فأعطى للنهى الثابت بضد الأمر أقل حكم للنهى وهو الكراهة.
وبناء عليه : فإن ما قاله أبو يوسف يتناسب مع ما تقرر بعد ذلك في أصول الحنفية من الأمر بالشيء يقتضى كراهة ضده .
قال صاحب التقرير والتحبير: " وكذا قول أبى يوسف بالصحة فيمن سجد على مكان نجس في الصلاة وأعاد على طاهر ليس مقتضى الأمر ؛ لأنه – أي سجوده على نجس تأخير للسجدة المعتبرة عن وقتها لا تفويت لها ، وهو – أي تأخيرها عن وقتها مكروه " . التقرير والتحبير، 1/400 . هذا هو توجيه صاحب التقرير والتحبير لما قاله أبو يوسف.
لكن ما قاله : أبو يوسف – رحمه الله تعالى - يخالف ما عليه عامة الفقهاء في اشتراطهم طهارة المكان والثوب والبدن لصحة الصلاة.
بل إن ما قاله أبو يوسف أيضا قول إمامه أبى حنيفة، وصاحبه محمد - رحمهما الله تعالى قرآن كريم وبيان ذلك : كما جاء في مجمع الأنهر " وسجوده على نجس يفسدها عند الطرفين - أي عند أبى حنيفة ومحمد خلافا لأبى يوسف - فيما إذا أعاده على طاهر، يني إذا سجد على موضع نجس يفسد السجدة لا الصلاة ، حتى إذا أعادها على موضع طاهر صحت السجدة أيضا ؛ لأن أدائها على النجاسة كالعدم، كما لو ترك سجدة فاداها بعد فراغة جازت صلاته ، ولهما فساد الكل بفساد الجزء ..." ا هـ. مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر1/120 ، ولمزيد بيان في هذه المسألة يراجع : المدونه الكبرى 1/75، 76 ، الهداية : 1/57، بداية المجتهد :1/82 ، المجموع شرح المهذب :3/158 ، حاشيتا قليوبي وعميرة على شرح جلال الدين المحلى على منهاج الطالبين للنووي :1/181، المغني:1/535 ، شرح العمدة :4/ 412.(5/85)
.
ش : أي ، ولأجل أن النهي في الضد ليس بمقصود بالأمر ويقتضى الأمر بالشيء أن يكون ضده في معنى سنة واجبه.قال أبو يوسف .. رحمه الله تعالى- لا تفسد صلاة من سجد على مكان نجس إذا أعاد السجود على مكان طاهر، لأن المقصود من الأمر الوارد بالسجود بقوله تعالى : { واسْجُدوا } (1) هو السجود على مكان طاهر بدلالة قوله تعالى: { وثِيَابَك فَطَهِّر } (2) والاشتغال بضده بالسجود على مكان نجس ، لا يوجب فوات المقصود بالأمر ، وهو السجود على مكان طاهر ، فإذا أعاد على مكان طاهر جاز .
__________
(1) تمام الآية { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } سورة الحج : 77 .
(2) المدثر : 4 .(5/86)
وقال شمس الأئمة السرخسي فى أصوله: من سجد فى صلاته على مكان نجس ثم سجد على مكان طاهر جازت صلاته؛ لأن المأمور به السجود على مكان طاهر، ومباشرة الضد بالسجود على مكان نجس لا يُفَوِّت المأمور به، فيكون مكروها فى نفسه، ولا يكون مفسدا للصلاة وعلى قول أبى حنيفة (1) ومحمد (2) : يفسد به
__________
(1) هو النعمان بن ثابت، إمام الأئمة، وفقيه أهل العراق.ولد سنة ثمانين وتوفى سنة خمسين ومائة من الهجرة النبوية.رأى سيدنا انس بن مالك - رضي الله عنه - وسمع من عطاء بن رباح، ونافع مولى ابن عمر- رضى الله تعالى عنهما- . قال عنه الإمام الشافعي - رحمه الله-: "ما طلب أحد الفقه إلا كان عيالا على أبى حنيفة". وأثنى عليه على بن المدينى، ووثقه يحيى بن معين - رحمهما الله تعالى-. الجواهر المضية:3/109، تاريخ بغداد:13/423، 424، ميزان الاعتدال:4/265.
(2) هو محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني، صاحب أبى حنيفة، وأحد أركان المذهب الحنفى. - أخذ علم الفقه عن أبى يوسف- رحمه الله تعالى- وصنف الكثير من الكتب. منها: الأصل، والسير الكبير والصغير وغير ذلك ، تُوفى سنة ثلاثين ومائتين، وقيل إحدى وثلاثين ومائتين.تاريخ بغداد:13/215، ميزان الاعتدال:3/559.(5/87)
الصلاة(1)، لأن تأدية المأمور به لما كان باعتبار ما كان ، فما يكون صفة للمكان
الذي يؤدى الفرض عليه يجعل بمنزلة الصفة له حكما، فيصير هو كالحامل للنجاسة إذا سجد على مكان نجس. والكف / عن جُمَل النجاسة مأمور به فى جميع الصلاة فيفوت ذلك بالسجود على مكان نجس، كما أن الكفّ عن اقتضاء الشهوة لما كان مأموراً به فى جميع وقت الصوم يتحقق الفوات بالأكل فى جزء من الوقت فيه. إلى هنا لفظ شمس الأئمة(2) - رحمه الله تعالى -- . ولم يذكر محمد خلاف أبى يوسف في الأصل(3)
قال(4): " في باب الدعاء من كتاب الصلاة ، قلت : أرأيت الرجل يصلى وقدامه العذرة أو البول أو ناحية منه هل يفسد ذلك صلاته ؟.
__________
(1) قال صاحب التقرير والتحبير: "وفسدت الصلاة, أي بالسجود على مكان نجس عندهما أي - أبى حنيفة ومحمد- للتفويت لأمر الطهارة؛ بناء على أن: الطهارة في الصلاة وَصْف . مفروض الدوام في جميعها، فاستعمال النجس في جزء منها في وقت ما يكون مفوتا للمقصود بالأمر، وقد تحقق في هذه الصورة؛ لأنَّ استعمال النجاسة كما يكون بحملها تحقيقا يكون بحملها تقديرا كذا هنا؛ لأنها إذا كانت في موضع الوجه يصير وضعا للوجه باعتبار أنَّ اتصاله بالأرض، ولصوقه بها يصير ما هو وصف للأرض وصفا له" اهـ .التقرير والتحبير1/400. و قول أبى حنيفة وأبى يوسف- أيضا- في: الكافى شرح أصول البزودي :3/1203،البحر الرائق:1/28 جامع الأسرار للكاكي:2/56، كشف الأسرار للبخارى ::2/489- 49، مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر :1/120.
(2) : أصُول السرخسى (1/98).
(3) " الأصل " كتاب في فروع فقه الحنفية: للإمام المجتهد محمد بن الحسن الشيباني الحنفي ، ويسمى بالمبسوط، رواه عنه الجوزجاني وغيره، وهو أحد الكتب الستة المعروفة "بظاهر الرواية". كشف الظنون 1/107 .
(4) أي :الإمام محمد بن الحسن الشيباني - رحمه الله تعالى - .(5/88)
قال : لا 0 قلت : فإن كان حيث سجد أو حيث يقوم ؟ قال: "صلاته فاسدة وعليه أن يستقبل الصلاة " إلى هنا لفظ الأصل(1).
وقال الحاكم الشهيد في باب الحدث في الصلاة من مختصر الكا في : " رجل صلى وقدامه عذرة . قال: لا يفسد ذلك صلاته . فإن كان حيث يسجد أو حيث يقوم فصلاته فاسدة ، و في الإملاء(2) عن أبى حنيفة قال : " إذا كان موضع القدم طاهرا ، وكان السجود على موضع النجاسة فصلاته تامة(3) ، وجعل موضع السجود بمنزلة وضع الكف والركبة.
وقال : أبو يوسف - رحمه الله - لا يشبه موضع السجود موضع الكف والركبة ، فإذا سجد على ( موضع قذر لا يجزيه تلك السجدة، وإن أعادها على)(4) مكان نظيف تمت صلاته، وإن انصرف من صلاته أو تكلم / قبل أن يعيدها فسدت صلاته إلى هنا لفظ الحاكم الشهيد(5).
__________
(1) : كتاب الأصل لمحمد بن الحسن الشيباني :1/197، 198.
(2) الإملاء: جمعها أمالي، وهى أن يجلس عالم، وحوله تلاميذه بالمحابر والقراطيس ، ثم يكتب تلاميذه وراءه، فيصير ذلك كتابا يسمونه الإملاء .كشف الظنون :1/161.
(3) هذا القول المروي عن أبى حنيفة – رحمه الله تعالى - فيه نظر؛ لأنه يتناقض مع ما مر ذكره في اشتراط أبى حنيفة طهارة موضع السجود ، وأنها فرض على الدوام في جميع الصلاة. التقرير والتحبير 1/400 .
وقال صاحب البحر الرائق: "وأما طهارة موضع السجود فأصح الروايتين عن أبى حنيفة ، وهو قولهما، وأما إذا كانت النجاسة في موضع يديه وركبتيه وحذاء إبطيه وصدره جازت صلاته ؛ لأن الوضع على النجاسة كلا وضْع، والسجود على اليدين والركبتين غير واجب، فكأنه لم يسجد عليها، وهذا ظاهر الرواية ". ا هـ . البحر الرائق :1/181.
(4) ساقط من : " ت "، ومثبت في " د ".
(5) : مختصر الكافي ، للحاكم الشهيد:1/لوحة50 .(5/89)
وقال القُدوري(1) في كتاب التقريب(2) قال أبو يوسف: إذا سجد على موضع نجس ثم أعاد السجود على مكان طاهر أجزاه ،
ويجب أن يكون قولُ أبى حنيفة - إذ لم يجز السجود على النجاسة - مثلَه(3).
وقال زفر(4)- رحمه الله تعالى - : لا يجوز لأبى يوسف - رحمه الله - أن الوضع على النجاسة كلا وضع ، فكأنه لم يسجد إلا على موضع طاهر فيجزيه .
__________
(1) هو الإمام أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر القدوري البغدادى ، شيخ الحنفية بالعراق ، انتهت إليه رياسة المذهب في ذلك الوقت، من مصنفاته: المختصر، وشرح مختصر الكرخي ، والتقريب الأول والثاني وغيرها ، تو في- رحمه الله تعالى- سنة :428هـ .
تاريخ بغداد :4/377 ، العبر : 3/164، الجواهر المضية :1/247 ، شذرات الذهب :3/233، النجوم الزاهرة :5/24.
(2) هو كتاب في فروع فقه الحنفية، للإمام أبى الحسين أحمد بن محمد القدوري الحنفي ، وهذا الكتاب كما قال صاحب كشف الظنون: منه التقريب الأول: وهو كتاب مجرد عن الدلائل، ثم صنف ثانيا، وذكر فيه الإمام القدوري المسائل الفقهية بأدلتها، وهذا ما يسمى بالتقريب الثاني. كشف الظنون 1/466.
(3) هذا الكلام يتناقض مع ما ذهب إليه الإمام القدوري في المختصر حيث قال:
" وتطهير النجاسة واجب من بدن المصلي وثوبه والمكان الذى يصلى عليه" اهـ .متن القدورى :7.
(4) هو الإمام زفر بن الهذيل بن قيس البصرى ، صاحب الإمام الأعظم أبى حنيفة - رحمه الله تعالى-، وكان الإمام يفضله ويقول : " إنه أقيس الأصحاب ، ولد - رحمه الله تعالى - سنة عشر ومائة هجرية ، وتو في بالبصرة سنة ثمان وخمسين ومائة من الهجرة.
وفيات الأعيان :2/317 - 319 ، العبر :1/229 ، ميزان الاعتدال :2/71،الجواهر المضية :2/219، الفهرست :285.(5/90)
ولا يلزم إذا كانت النجاسة في موضع قدميه، وذلك أنه لو افتتح عليها لم يجز؛ لأن افتتاحه وقع فاسدا ،فأما إذا افتتح على موضع طاهر ، ثم انتقل عنه إلى مكان نجس ففعل فعلا، ثم أعاد على مكان طاهر أجزأه(1) ، وذكر ابن شجاع(2)عن ابن أبى مالك(3) عن أبى حنيفة وأبى يوسف : إذا قام على النجاسة ابتداء ،أو بقاء (4) فسدت صلاته ، وهذا محمول على أنه لم يُعد .
لزفر: أن طهارة المكان معتبرة في جواز الصلاة كطهارة الثوب، فإذا كانت النجاسة في أحدهما(5) تفسد الصلاة ، كذلك الآخر(6) ، إلى هنا لفظ التقريب(7).
__________
(1) البحر الرائق:1/282.
(2) هو محمد بن شجاع الثلجي ، أحد الأئمة الأعلام في الفقه والحديث ، وقراءة القرآن، وبهذا صار فقيه العراق في وقته ، ولد -رحمه الله تعالى- سنة إحدى وثمانين ومائة ، وتوفي ساجدا لله رب العالمين في صلاة العصر سنة ست وستين ومائتين هـ. : تاريخ بغداد :5/ 350 ، تهذيب الكمال :3/210، سير أعلام النبلاء :12/ 379، الجواهر المضية : 1/278 ، ميزان الاعتدال :30/ 571 وما بعدها .
(3) هو أبو مالك الحسن بن مالك، تفقه على القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة - ر حمهما الله تعالى - وتتلمذ على يديه الثلجي ، توفي رحمه الله 204 هـ . طبقات الحنفية : 204 .
(4) المراد بالابتداء أي : افتتح الصلاة على النجاسة، أما معنى البقاء أي : افتتاحها والاستمرار عليها ، حتى الانتهاء منها .
(5) أي : الثوب أوالبدن .
(6) هذا التعليل المذكور للإمام زفر - رحمه الله تعالى - يقوي ما ذهب إليه الإمام الأعظم أبو حنيفة وصاحبه محمد -رحمهما الله تعالى - من اشتراط طهارة المكان للصلاة، كطهارة الثوب، لقوله تعالى { وثِيَابَك فَطَهِّرْ } [ المدثر الآية:4 ] ؛ ولأن الأمر الوارد في الثياب وارد في البدن والمكان بطريق الأولى . الفقه النافع، للإمام ناصر الدين السمرقندي:1/148.
(7) بعد البحث عنه لم أقف عليه .(5/91)
وتمام البيان هنا ما ذكر القدوري في شرح مختصر الكرخي(1) وقال: إذا كانت النجاسة في موضع سجوده ، فروى محمد عن أبي حنيفة: أن صلاته لا تجزئ إلا أن يعيد السجود/ على موضع طاهر ، وهو قول أبي يوسف ومحمد.
وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة : أن صلاته جائزة ، أما وجه الرواية الأولى: فلأن السجود شرط(2) في الصلاة كالقيام، فكما لا يعتد بالقيام مع النجاسة، فكذلك السجود.
وجه الرواية الأخرى: أن الواجب عند أبي حنيفة من السجود أن يسجد على طرف أنفه(3)
__________
(1) هو عبيد الله بن الحسين المكنى بأبي الحسن الكرخي ، انتهت إليه رئاسة الحنفية، أخذ عنه أبو بكر الرازي الجصاص، وأبو القاسم التنوخي.. توفي ليلة النصف من شعبان سنة أربعين وثلاثمائة من الهجرة. الجواهر المضية: 2/493.
(2) التعبير بقوله : " فلأن السجود شرط في الصلاة " موهم، ولعل التعبير يكون صحيحا لو قلنا: " فلأن السجود فرض في الصلاة كالقيام " ؛ لأن الشرط كما هو معلوم: ما كان خارجا عن حقيقة الشيء ، كالوضوء فإنه شرط للصلاة. غاية الوصول شرح لب الأصول : 13.
(3) قال الإمام الكاساني - رحمه الله تعالى- : " اختلف في محل إقامة فرض السجود: فقال أصحابنا الثلاثة أبو حنيفة وصاحباه: هو بعض الوجه، وقال زفر والشافعي - رحمهما الله تعالى - السجود فرض على الأعضاء السبعة :الوجه والكفين والركبتين والقدمين ، واحتجا بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ...." الحديث رواه البخاري :2/347 كتاب الصلاة ، باب السجود على سبعة أعظم ، ومسلم بشرح النووي :1/354 كتاب الصلاة ، باب : أعضاء السجود ....
*واحتج الأصحاب الثلاثة أبو حنيفة وصاحباه : بأن الأمر في قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } [الحج:77 ] تعلق بالسجود مطلقا من غير تعيين عضو ثم انعقد الإجماع على تعيين بعض الوجه ، فلا يجوز تعيين غيره ...، ثم اختلف الأصحاب الثلاثة كذلك في المراد ببعض الوجه:
*فقال أبو حنيفة – رحمه الله تعالى - هو الجبهة أو الأنف غير عين ، حتى لو وضع أحدهما في حالة الاختيار يجزيه، غير أنه لو وضع الجبهة وحدها جاز من غير كراهة، ولو وضع الأنف وحده يجوز مع الكراهة .
*وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى -: السجود على الجبهة على التعيين حتى لو ترك السجود عليها حال الاختيار لا يجزيه ..." ا هـ .
بدائع الصنائع :1/105 ، الفقه النافع للإمام ناصر الدين السمرقندي :1/35 ،الاختيار لتعليل المختار :1/74، حاشية المحتار على الدر المختار :1/467.
*وقال الإمام النووي - رحمه الله تعالى - معلقا على حديث أعضاء السجود : " إن أعضاء السجود سبعة ، وينبغي للساجد أن يسجد عليها كلها، وأن يسجد على الجبهة والأنف جميعا، فأما الجبهة : فيجب وضعها مكشوفة على الأرض ويكفي بعضها، والأنف مستحب، فلو تركه جاز، ولو اقتصر عليه وترك الجبهة لم يجز، وهذا مذهب الشافعي ومالك -رحمهما الله تعالى - والأكثرين ، وقال أبو حنيفة - رحمه الله - وابن القاسم من أصحاب مالك: له أن يقتصر على أيهما شاء ، وقال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - : يجب أن يسجد على الجبهة والأنف جميعا لظاهر الحديث" . ا هـ . صحيح مسلم شرح النووي :2/154، و : بداية المجتهد :1/325، العدة لبهاء الدين المقدسي : 74. =
= - والحاصل: أن ما قاله أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - ومن تابعه على ذلك في جواز السجود على الأنف فقط دون الجبهة، فإنه يحمل على حالة العذر ، أما في حال الاختيار فالمعتمد عند جمهور الفقهاء السجود على الجبهة والأنف معا ؛ لأن النبي : واظب على ذلك ، بل وأمرنا به صريحا في قوله: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الوجه والكفين والركبتين والقدمين" والله أعلم .(5/92)
، وذلك أقل من قدر الدرهم، واستعمال أقل من مقدار الدرهم من النجاسة لا يمنع جواز الصلاة.
فأما على قولهما: فالسجود على الجبهة واجب ، وذلك أكثر من مقدار الدرهم، فإذا استعمله في الصلاة لم يجز ،
فأما إذا سجد على موضع نجس ، وأعاد على موضع طاهر جاز ؛ لأن السجود على النجاسة غير معتد به ، فكأنه لم يسجد ، ولا يُجعل ذلك كمن استعمل النجاسة في حال الصلاة ؛ لأن الوضع على النجاسة أهون من حملها.
ألا ترى أن من وقف على بساط في جانبه نجاسة جاز، ولو تعمم بثوب طرفه ملقى على الأرض وعليه نجاسة لم يجز، إذا كان يتحرك بحركته ، ولو سجد على فراش وجهه طاهر ، و في باطنه نجاسة جاز(1).
ولو لبس جبة في حشوها نجاسة لم يجز ، وإذا كان حكم الوضع أخف صار الساجد على النجاسة كمن لم يسجد ،/ فإذا سجد على موضع طاهر جاز.
وأما القيام إذا افتتح على النجاسة منع ذلك من انعقاد الصلاة ، فإذا افتتح على موضع طاهر ، ثم نقل قدمه إلى موضع مكان نجس ثم أعاده إلى مكان طاهر صحت صلاته ؛ لأن ذلك الوضع على النجاسة غير معتد به إلا أن يتطاول حتى يصير في حكم الفعل إذا زيد في الصلاة أفسدها ، وأما إذا كانت النجاسة في موضع يديه أو ركبتيه فصلاته جائزة، لما بينا أن الوضع على النجاسة كلا وضع،
__________
(1) قال صاحب البحر الرائق: " ومن صلى على ما له بطانة متنجسة ، وهو قائم على ما يلي موضع النجاسة، فعن محمد يجوز، وعن أبى يوسف لا يجوز " ا هـ . [البحر الرائق :1/282] ، ولعل ما روي عن أبى يوسف هو ما ينبغى الأخذ به، لما روي عن ابن سيرين - رحمه الله تعالى - أنه سئل عن المسجد- يعني على مكان نجس-،فقال: مرَّ ابن مسعود - رضي الله عنه -على قوم يكبسون مسجدهم بروث أو قذر فنهاهم عن ذلك . [شرح العمدة ، 4/412].(5/93)
والسجود على الركبتين واليدين ليس بواجب عندنا(1)
__________
(1) الضمير راجع إلى الحنفية ؛ لأن محل إقامة فرض السجود عندهم هو بعض الوجه. بدائع الصنائع ، 1/105 ، حاشية ابن عابدين على الدر المختار:1/467 ، الهداية شرح بداية المبتدي:1/55، 56، البحر الرائق:1/282 .
- قلت: الحاصل فيما ذكر في مسألة : "من سجد على مكان نجس" وخلاف الأصحاب فيها يحتاج إلى تأمل ونظر لأمور:
* أولها: أن خلاف أبي يوسف - رحمه الله تعالى - لأبي حنيفة وصاحبه محمد -رحمهما الله تعالى- يمكن أن يتخرج على الأصل الذي تقرر في أصول الحنفية، وهو الأمر بالشيء يقتضى كراهة ضده" ، وبناء على ذلك، فإن ما روي عن أبي يوسف " فيمن سجد على مكان نجس لا تفسد صلاته إذا أعاد على موضع طاهر -يكون داخلا تحت هذا الأصل وبذلك يكون أبو يوسف قد أعطى للنهي الثابت بضد الأمر- في قوله تعالى-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } [ سورة الحج : 77 ] وقوله تعالى { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } [المدثر:4 ] أدنى درجات النهي وهي الكراهة.
*ثانيها : أما ما قاله أبو حنيفة ومحمد – رحمهما الله تعالى- : " فيمن سجد على مكان نجس : قد فسدت صلاته كلها إلا السجدة ؛ لأن الطهارة مشروطة عندهما على الدوام في الصلاة " : التقرير والتحبير :1/400 ، مجمع الأنهر :1/120.
وبهذا يكون قولهما خارجا عن الأصل الذي تقرر بعد ذلك عند عامة مشايخ الحنفية من أهل الأصول، كفخر الإسلام البزدوي ، والدبوسي ، والسرخسي وغيرهم .
* ثالثها: أن ما ذهب إليه الإمام وصاحبه محمد - رحمهما الله تعالى - وهو فساد صلاة من سجد على موضع نجس ، مبني على أصل قد اتفق عليه عامة الفقهاء وهو: أن طهارة البدن والثوب والمكان التي يصلى فيه شرط من شروط صحة الصلاة ، وبهذا يكون تطهير المواضع الثلاثة فرض ممتد من أول الصلاة إلى آخرها . بداية المجتهد 1/193 ، المغني : 1/535، المجموع : 3/158 ، التقرير والتحبير 1/400 .
*رابعها : أن ما ذكر من قول أبي يوسف - رحمه الله تعالى - " أن الوضع على النجاسة كلا وضع" ، قد أنكره عليه زفر - رحمه الله تعالى - فقال: لا يجوز لأبي يوسف أن يقول : إن الوضع على النجاسه كلا وضع" وقد مر ذكره منذ قليل.
لكن يعتذر لأبى يوسف - رحمه الله - في أن كلامه ربما يكون محمولا على حال النسيان أو العذر، أو يكون موضع السجود قد أصابته نجاسةيسيرة معفوُ عنها ، وتصح معها الصلاة. كما جاء في بعض كتبهم. الفقه النافع، للإمام ناصر الدين السمرقندي1/35 .(5/94)
، إلى هنا لفظ القدوري في شرحه.
ص : قوله: ولهذا قال أبو يوسف - رحمه الله - : إن إحرام الصلاة لا ينقطع بترك القراءة في مسائل النفل ؛لأنه أمر بالقراءة ولم ينه عن تركها قصدا ، فصار الترك حراما بقدر ما يفوت من الفرض وذلك لهذا الشفع(1)، فأما احتمال شفع آخر، فلا ينقطع به(2) .
ش : أي ولأجل أن الأمر بالشيء لا يوجب تحريم الضد قال أبو يوسف – رحمه الله تعالى -: إذا صلى أربع ركعات تطوعا، ولم يقرأ فيهن شيئا يعيد أربعا(3)؛ لأن
__________
(1) أي الشفع الأول في صلاة النوافل الرباعية كما في سنة الظهر القبلية فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليها أربعا متصلات . الهداية شرح بداية المبتدى :1/326 ، الفقه النافع :1/246، 247 ، سبل السلام : 2/4.
(2) معني هذه العبارة : فأما احتمال أداء شفع آخر بهذه التحريمة فلم ينقطع بترك فرض القراءة ، ولا تظهر حرمة هذا الترك في حق التحريمة فتبقى صحيحة قابلة لبناء شفع آخر عليها ، حتى وإن فسد أداء الشفع الأول أي الركعتين الأوليين بترك القراءة فيهما. كشف الأسرار لعبد العزيز البخارى: 2/488 .
(3) قلت: إن قول أبي يوسف – رحمه الله تعالى - مبني على أمور:
- منها: أن هذه الصورة - أي المسألة المذكورة في المتن - من قبيل أن الأمر بالقراءة مقصود في الصلاة، وذلك بقوله - تعالى - : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } فكان النهي عن ترك القراءة فيها ثابتا ضمنا ؛ لأن الثابت مقصودا ليس كالثابت ضمنا .
- ومنها: أن القراءة عنده – رحمه الله تعالى - شرط لصحة الأفعال ، وليست شرطا لصحة الإحرام، ولا يلزم من ترْك القراءة انقطاع الإحرام .
- ومنها: أن ترك القراءة في الشفع الأول لا يوجب بطلان التحريمة ، وإنما يوجب فساد الأداء . : أصول السرخسي :1/98،99، الهداية :1/ 330، البناية على الهداية : 635 - 646 الكافي علىأصول البزدوي:3/1204،كشف الأسرارللبخاري :2/ 488, مجمع الأنهر :1/133.(5/95)
لمصلى أُمر بالقراءة بقوله (تعالى) { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } (1).
وبقوله - عليه الصلاة والسلام - : "لا صلاة إلا بقراءة "(2) ولم يُنه عن ترك القراءة قصدا، فصار الترك حراما بقدر ما يَفُوت من فرض القراءة المأمور بها/ (3)
__________
(1) تمام الآية : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } سورة المزمل :20
(2) هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم - رحمه الله تعالى - من طريق أبي هريرة - رضي الله عنه - :1/297 ، كتاب الصلاة ، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة .
(3) اتفق الحنفية على أن القراءة فرض في ركعتين من صلاة الفريضة مطلقا, وأما تعيينها أي القراءة في الأوليين من الرباعية فواجب كما قال: صاحب مجمع الأنهر[1/132].
*وقال صاحب البناية: قال أصحابنا: القراءة فرض في الركعتين بغير أعينهما ، إن شاء في الأوليين ، وإن شاء في الأخريين ، وإن شاء في الأولى والرابعة ، وإن شاء الثانية والثالثة، وأفضلها في الأوليين .
ثم انتهى من تحرير أقوال أصحاب المذهب إلى : أن الصحيح القراءة فرض في الأوليين [البناية على الهداية، 624 ، 625].
وأما صلاة النوافل : فالقراءة فرض في جميع ركعاتها ، وكذا الوتر عندهم ؛ لأن كل شفع من النوافل صلاة على حدة. [الهداية شرح بداية المتبدي :329، حاشية ابن عابدين على الدر المختار :465]
قرآن كريم لكن ما المقصود بفرض القراءة عند الحنفية ؟
المقصود بفرض القراءة عندهم: ما تيسير من القرآن ، وليست الفاتحة تحديدا ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } وقالوا في توجيه ذلك: إن الله - تعالى- أمرنا بقراءة ما تيسر من القرآن ، وقراءة الفاتحة لا تتعين ركنا عندنا لأنها تثبت بطريق الآحاد ، وهو ظني الدلالة ، أما الأمر بالقراءة في الآية فهو قطعي الدلالة والثبوت ، والزيادة على الكتاب العزيز بخبر الواحد لا تجوز ، لكنه يوجب العمل؛ لذا قلنا بوجوبها ، ولم نقل بفرضيتها . البناية على الهداية:[2/631]
وبناء عليه : فإن ما ذهب إليه الحنفية وهو عدم فرضية الفاتحة في الصلاة ، = = وأنها ليست ركنا من أركانها ، وجعلهم الأمر في قوله تعالى { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } مقصورا على قراءة آية أو أكثر من القرآن بدون تعيين الفاتحة مخالف لجمهور الفقهاء .
- وجملة القول في ذلك: أن قراءة الفاتحة واجبة أو فرض في ركعات الصلاة كلها ، وأنها ركن من أركانها لا تصح إلا بها ، وذلك في المشهور عن الإمام أحمد ، وهو قول الإمام مالك ، والثورى، والإمام الشافعي - رحمهم الله تعالى. المغني 1/583 ، الشرح الصغير 1/108 ، حاشيتا الإمامين قليوبي وعميرة على المحلى، 1/148.
قرآن كريم واستدل الجمهور بالحديث الذي رواه الشيخان البخاري ومسلم - رحمهما الله - من طريق عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " فهذا الحديث يدل بمنطوقه على نفي صحة الصلاة أو نفي كمالها إذا لم يُقرأ فيها بأم القرآن ، وإن كان نفي الكمال هو الراجح عند الجمهور ، وعلى أية حال فترْك الفاتحة في صلاة الفريضة أو النافلة يُحدث نقصا فيها ، إن لم يكن يبطلها عند من يقول بوجوب قراءتها في جميع الركعات كالإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - [ الأم : 1/220 . ] .
- والحاصل: أن الحنفية فيما ذهبوا إليه قد نظروا إلى الدليل ، وبنوا اصطلاحاتهم عليه، فقالوا: إن كان قطعيا فما يثبت به فهو الفرض ، وإن كان ظنيا كخبر الواحد ، فهو الواجب، وإن كانوا يتفقون مع الجمهور في أن تارك الواجب يلحقه بعض الإثم ، كمن ترك الوتر. ولمزيد بيان في هذه المسألة يراجع: أصول الجصاص :1/250، بداية المجتهد :1/215، التمهيد للإسنوي : 62، الفقه النافع :1/247، المغني لابن قدامة :1/583 .(5/96)
وفوات فرض القراءة حصل لهذا الشفع- أعنى الشفع الأول-، لأن كل شفع من النفل صلاة على حدة(1) حتى فسد أداء الشفع الأول بفوات القراءة فيه، وبفساده لا تنقطع التحريمة(2) ؛ لأن فساد الأداء لا يزيد على تركه ، فصح شروعه في الثانى(3) فإذا لم يقرأ فيهن جميعا أعاد أربعا ؛ لأنه صح شروعه في الثاني ، وهذا معنى قوله(4) : ( فأما احتمال شفع آخر فلا ينقطع به ) يعنى لا ينقطع احتمال شفع آخر بالشروع فيه بسبب فوات القراءة في الشفع الأول وهذه المسألة على ثمانية أوجه(5)
__________
(1) أصول السرخسي :1/ 99، الهداية :1/ 330، كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري :2/ 489، البحر الرائق :1/310 حاشية رد المحتار على المختار :1/479، مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر :1/132.
(2) أي تكبيرة الإحرام . قال صاحب البحر الرائق : " وخصت التكبيرة الأولى بها لأنها تحرم الأشياء المباحة ... بخلاف سائر التكبيرات " ا هـ . البحر الرائق، 1/306.
(3) أي الشفع الثاني .
(4) الضمير راجع إلى المصنف .
(5) قال صاحب غاية البيان : " وهذه المسألة على ثمانية أوجه : وهذا لا يخلو إما أن لم يقرأ أصلا ، أو قرأ .
* فإن لم يقرأ فهو الوجه الأول : فعندهما - أي أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى - يقضي ركعتين وعند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - يقضي أربعا .
* وإن قرأ فلا يخلو : إما أن يقرأ في الكل ، أو في البعض. فإن قرأ في الكل فلا كلام فيه، وإن قرأ في البعض فلا يخلو: إما أن يقرأ في الأوليين فحسب - وهذا هو الوجه الثاني - ففيه قضاء الأخريين بالإجماع .
* أو قرأ في الأخيرتين فحسب - وهو الوجه الثالث - ففيه قضاء الأوليين بالإجماع.
* أو قرأ في الأوليين ، وإحدى الأخيرتين - وهو الوجه الرابع - ففيه قضاء الأخيرتين بالإجماع.
* أو قرأ في الأخيرتين، وإحدى الأوليين - وهو الوجه الخامس - ففيه قضاء الأوليين بالإجماع.
* أو قرأ في إحدى الأوليين ، وإحدى الأخيرتين - وهو الوجه السادس- فعند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - يلزمه الأربع، وكذا عند أبي حنيفة فيما روى محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة - رحمهم الله تعالى - ، وعند محمد يلزمه ركعتان ، وأنكر أبو يوسف هذه الرواية ، وقال محمد : رويت لك عن أبى حنيفة أنه يلزمه عنده قضاء ركعتين ، لا قضاء الأربع، ومحمد لم يرجع عن روايته .
* أو قرأ في إحدى الأوليين لا غير - وهو الوجه السابع - ففيه قضاء الأربع عندهما، وعند محمد: قضاء ركعتين . أو قرأ في إحدى الأخيرتين لا غير - وهو الوجه الثامن- ففيه قضاء الأربع عند أبي يوسف، وعندهما قضاء ركعتين" اهـ .(5/97)
مر بيانها في غاية البيان(1).
والأصل فيها(2) : أن ترك القراءة في ألأوليين جميعا يوجوب بطلان التحريمة(3)، ولا يوجبه تركه في إحداهما(4) عند أبي حنيفة ؛ لأن فساد الصلاة بترك القراءة في إحداهما مجتهد فيه(5) ، فيُقضى بالفساد في حق وجوب القضاء ، وببقاء التحريمة في حق وجوب الشفع الثاني .
وعند أبى يوسف - رحمه الله - : لا يُوجب فساد التحريمة ترْك القراءة فيهما جميعا " أعنى في الأوليين " .
وعند محمد يوجب بطلانها ترك القراءة في الأولين ، و في إحداهما، وقد عرف في الهداية(6).
__________
(1) : غاية البيان نادرة الأقران :1/ لوحة 113 0
(2) أي في المسألة التي نحن بصدد الحديث عنها .
(3) لأن القراءة في الركعتين الأوليين عند الحنفية فرض فيهما . مجمع الأنهر : 1/132 .
(4) أي:أن ترك فرض القراءة في إحدى ركعتي الشفع الأول لا يوجب بطلان هذا الشفع, ولا تنقطع تحريمته .
(5) بيان ذلك : أن القراءة فرض في ركعتين في الصلاة عن الحنفية ؛ لأن الله - عز وجل - يقول { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } والأمر بالفعل لا يقتضى التكرار ، فاقتضى ذلك أن تكون القراءة في ركعة واحدة كما ذهب إليه الحسن البصري - رحمه الله تعالى - .
وإنما أوجبوا القراءة في الركعة الثانية استدلالا بالأولى ؛ لأنهما يتشابهان - أي الركعتين - من كل وجه ، فعندهم وجوب القراءة في الركعة الثانية ثبت بدلالة النص ، لا بعبارته . : البناية في شرح الهداية ، 2/627.
(6) الهداية شرح بداية المبتدى :1/ 330، 331.(5/98)
ثم لنا نظر(1) في قول الشيخ : " فصار الترك حراما بقدر ما يفوت من الفرض" ؛ لأنه لا يستقيم على مذهبه ؛ لأن مذهبه أن الأمر بالشيء يقتضى كراهة ضده(2)، ولا يوجب حرمة ضده ، وإنما يستقيم على مذهب الجصاص ؛ لأن مذهبه أن الأمر بالشيء نهى عن ضده(3) فيكون تركه حراما عنده .
وقال / شمس الأئمة السرخسي في أصوله : " وعلى هذا قال :أبو يوسف :بترك القراءة في شفع من التطوع لا يُخرج من حرمة الصلاة، لأنه مأمور بالقراءة في الصلاة(4)، وذلك
نهى عن ضده اقتضاء(5)، فترْ ك القراءة ما لم يكن مفوتا للفرض لا يكون مفسدا، ومع احتمال أداء شفع آخر بهذه التحريمة لا يتحقق فوات هذا الفرض، فتبقى التحريمة صحيحة قابلة لبناء شفع آخر عليها ، وإن فسد أداء الشفع الأول بترك القراءة .
__________
(1) هذا استدراك من الشارح على شيخه فخر الإسلام البزدوي - رحمهما الله تعالى - وهو استدرك في موضعه ؛ لأن ما قاله الشيخ لا يتوافق مع المذهب المختار عنده، وعند مشايخ الحنفية كما عرف في أول الباب من الرسالة ص0000.
(2) الكافي شرح أصول البزدوي :3/1189، وكشف الأسرار للبخاري :2/479.
(3) أصول الجصاص :1/332.
(4) الهداية: 1/330، البناية على الهداية :2/637، الكافي شرح أصول البزدوي :3/1204 .
(5) أي أن تركَ القراءة ثابت اقتضاء بطريق الضرورة ، والأمر بالقراءة ثابت قصدا بدلالة قوله تعالى { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } ، وقول أبى يوسف – رحمه الله تعالى - هذا يستقيم مع ما تقرر في أصول الحنفية وهو: " أن الأمر بالشيء يقتضى كراهة ضدة ".
تقويم الأدلة : 48، أصول الجصاص :1/332، التقرير والتحبير :1/282، الكا في على البزدوي :3/1189 ، كشف الأسرار للبخارى :2/479 .(5/99)
وقال محمد - رحمه الله - : القراءة فرض من أول الصلاة إلى آخرها حكما؛ ولهذا لا يصلح الأمِّى(1) خليفة للقاريء(2) وإن كان قد رفع رأسه (3) من السجدة الأخيرة وأتى بفرض القراءة في محلها، وإذا كان مستداما(4) حكما يتحقق فوات ما هو الفرض بترك القراءة في ركعة، فيخرج به من تحريمة الصلاة (5).
وقال أبو حنيفة - رحمه الله - : كل شفع من التطوع صلاة على حده(6) ؛ ولهذا يفترض القراءة في كل ركعة من الشفع عندنا ، كما يفترض في كل ركعة من الفجر إلا أن بترك القراءة في ركعة من التطوع لا يفوت ما هو المأمور به من القراءة في الصلاة نصا(7)، فلا تنقطع التحريمة .
وبترك القراءة في الركعتين يفوت ما هو الفرض قطعا فيكون/ ذلك قطعا للتحريمة ،
وهكذا نقول: في الفجر ؛ فإنه بترك القراءة في ركعة يفسد الفرض ، ولكن لا تنحلُّ التحريمة بل ينقلب تطوعا في إحدى الروايتين عن أبى حنيفة ، و في الرواية الأخرى يقول: في التطوع احتمال بناء شفع آخر عليه قائم ، فإذا فعل ذلك كان الكل في حكم صلاة واحدة ، ولا تنقطع التحريمة(8) بترك ركعة في الفجر، ومثل هذا الاحتمال غير موجود في الفجر حتى في ظهر المسافر لبقاء هذا الاحتمال بنية الإقامة .
__________
(1) المراد بالأمِّى هنا: من لا يحسن فرض القراءة ؛ لأن السياق يدل على ذلك .
(2) : الهداية :1/ 305 ، 306، الأصل لمحمد بن الحسن:1/178 180.
(3) الضمير راجع على القارىء الذى كان إماما للأمى.
(4) في أصول السرخسي : 1/99 ، مستديما .
(5) كشف الأسرار لعبد العزيز البخارى :2/490
(6) قول أبى حنيفة في : الفقه النافع :1/248 ، البناية على الهداية :2/632 ، حاشية رد المحتار على الدر المختار :1/ 479، مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر :1/132.
(7) كما في قوله تعالى { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ }
(8) هذا الكلام في المبسوط : 1/160 ، 161 .(5/100)
قال أبو حنيفة وأبو يوسف -رحمهما الله تعالى - : لا تفسد(1) بترك القراءة في ركعة منها حتى إذا نوى الإقامة أتم صلاته وقضى ما ترك من القراءة في الشفع الثانى فيجزيه ذلك(2)،
وعلى ذلك يقول (أبو يوسف)(3): إن بترك القراءة في التطوع في الركعتين جميعا لا تنحل التحريمة عنده لاحتمال بناء شفع آخر عليه كما في فصل المسافر(4)، ولكنه يفسد ليتحقق فوات ما هو فرض في هذه الصلاة ، فإنه وإن بنى الشفع الثاني على تحريمته لا يخرج به من أن يكون الشفع الأول صلاة على حدة حقيقة وحكما(5).
ولهذا لا يفسد الشفع الأول بمفسد يعترض في الشفع الثاني ، والمسائل التي تُخرَّج على هذا الأصل(6) يكثر تعدادها- (والله اعلم)(7) إلى هنا لفظ شمس الأئمة(8)- - رحمه الله -.
ص : قوله : ولا يلزم أن الصوم يبطل / بالأكل ؛ لأن ذلك الفرض ممتد فكان ضده مفوِّتا أبدا .
__________
(1) أي : صلاة المسافر .
(2) لأن القراءة عند الحنفية فرض في ركعتين من الصلاة الرباعية كالظهر مثلا ، فإذا أتى بفرض القراءة في أي ركعتين من ركعات الصلاة فقد أجزاه ذلك ، وإن كان بعضهم يقول: إن محل القراءة المفروضة الركعتان الأوليان عينا في الصلاة الرباعية هو الصحيح من المذهب .
بدائع الصنائع :1/ 111، البناية على الهداية :2/624 وما بعدها ، مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر :1/132، حاشية رد المحتار على الدر المختار :1/479 -481.
(3) غير مثبتة في أصول السرخسي ، والصواب ما أثبته الشارح هنا .
(4) المحرر للسرخسي: 1/89.
(5) المبسوط للسرخسى :1/247.
(6) وهو أن الأمر بالشيء يقتضى كراهة ضده.
(7) ساقطة من : " د " ، " ت " ، ومثبتة في أصول السرخسي:1/99.
(8) : أصول السرخسي :1/99.(5/101)
ش : أي لا يلزم على أبى يوسف الأكل في الصوم(1)، والأكل منهي عنه في الصوم لا قصدا ، كترك القراءة في النفل في الشفع الأول، فإنه منهي عنه لا قصدا.
والنهى في الموضعين ثابت في ضمن الأمر، ومع هذا كان ترك القراءة في الشفع الأول غير مبطل للتحريمة ، وكان الأكل مبطلا للصوم ؛لأن فرض الصوم ممتد لقوله تعالى { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }
فبوجود ضد الصوم من الأكل والشرب والجماع عامدا ينقطع امتداد الصوم ، فيفوت الصوم لا محالة، وهذا كالإيمان بالله تعالى ، فإنه فرض ممتد فبوجود ضده،
__________
(1) هذا إشكال يمكن أن يَرِد على قول أبى يوسف - رحمه الله تعالى - ، ووجه وروده : أن الأكل في باب الصوم منهي نهيا ضمنا ؛ لأن الأمر بالكف عن المفطرات الثلاث هو المقصود من قوله تعالى { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } [البقرة:187] ؛ فصار النهى عن المفطرات نهيا ثابتا في ضمن الأمر ، كالنهى الثابت عن ترك القراءة في الأمر بالقراءة – قصدا في الصلاة، كما في قوله تعالى: : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } ، وهناك :أي عند أبى يوسف - رحمه الله تعالى - لا تنقطع التحريمة بترك القراءة في صلاة النافلة ؛ فيجب أن لا يفسد الصوم هنا أيضا بمجرد مباشرة المنهي عنه وهو الأكل وغيره، فما الفارق بين الحالين ؟
- الجواب : أن فرض الصوم ممتد إلى غروب الشمس ، فكان ضده مفوتا أبدا، كالإيمان بالله تعالى، فإنه فرض ممتد أبدا،وكان ضده وهو الارتداد والعياذ بالله مفوتا له = = وإن قل ، أما فرض القراءة فليس بممتد حقيقة من أول الصلاة إلى آخرها ، فترك القراءة في الشفع الأول لا يقطع التحريمة ، لاحتمال بناء شفع آخر عليها .
هذا هو تقرير الإشكال الذى يرد على قول أبى يوسف - رحمه الله تعالى - وبيان الجواب عليه ، والله أعلم . الكافي شرح أصول البزدوي :3/1204، 1205.(5/102)
وهو الكفر والعياذ بالله - تعالى - في أي جزء من أجزاء العمر يبطل الإيمان بخلاف ترك القراءة في الشفع الأول ، فإن فرض القراءة ليس بممتد حقيقة من أول الصلاة إلى آخرها، فتركها في الشفع الأول لا يقطع التحريمة فيصح شروعها في الثاني، فإذا لم يقرأ أصلا في الأربع (1)يقضيها أربعاً لصحة شروعه في الشفع الثاني(2) .
ص: قوله : ولهذا(3) قلنا(4): إن السجود على مكان نجس يقطع الصلاة عند أبى حنيفة ومحمد –رحمهما الله تعالى - وهو ظاهر الجواب ؛ لأن السجود لما كان فرضا صار الساجد على النجس بمنزلة الحامل مستعملاً له بحكم الفرضية ، والتطهير عن جُمَلْ النجاسة(5) فرض دائم في أركان الصلاة / و في المكان أيضا، فيصير ضده مفوتاً للفرض .
ش : وهذا الذي ذكره إيضاح لقوله :" لأن ذلك الفرض ممتد "، أي : لأجل أن الفرض إذا كان ممتدا يبطل الفرض بضده.
قال أبو حنيفة ومحمد- رحمهما الله تعالى- : إذا سجد على مكان نجس فسدت
__________
(1) أي في الأربع ركعات في صلاة النافلة.
(2) الهداية : 1/330 ، البناية على الهداية : 2/635 :646 .
(3) أي : ولما ذكر أبو يوسف ـ رحمه الله تعالى ـ أن الفرض الممتد يبطل بوجود الضد في جزء منه، كفرض الصوم يبطل بالضد وهو الأكل وغيره من المفطرات . كشف الأسرار للبخارى : 2/489 .
(4) الضمير راجع على الإمام أبى حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن ـ رحمهما الله تعالىـ لأن السياق يدل على ذلك .
(5) أي : مجموع النجاسات التي تتعلق بالبدن والثوب والمكان .(5/103)
صلاته، وعليه أن يستقبل الصلاة في ظاهر الرواية(1)،وهو رواية الأصل، وقد مرت قبل هذا(2) ؛ لأن السجود لما كان فرضا، وهو لا يتأتى ولا ينفعل إلا بوضع الجبهة على الأرض فلما وضع جبهته على الأرض النجسة صار كالحامل للنجس المستعمل له، وتطهير البدن والمكان فرض ممتد في أركان الصلاة عن جمل النجاسة(3).
فإذا وضع جبهته على المكان النجس انقطع امتداد فرضية وضع الجبهة، فصار ضد التطهير عن النجاسة من استعمال النجاسة مفّوتا للفرض لا محالة لا نقطاع الامتداد.
بخلاف وضع اليدين والركبتين على النجس حيث لا يفسد الصلاة(4)، لأن وضعها ليس بفرض، لوجود حقيقة السجود بوضع الجبهة، لا بها، فلما لم يكن وضع اليدين والركبتين فرضا في السجود لم تنتقل صفة النجاسة القائمة بالأرض إلى المصلّى فلم تنقطع الصلاة(5)، و في السجود على النجس إنما انتقلت صفة النجاسة إلى المصلى ؛ لأن وضع الجبهة هو الأصل(6).
__________
(1) ظاهر الرواية: هى كتب صنفها الإمام محمد بن الحسن الشيباني ـ رحمه الله تعالىـ وحرر فيها المذهب النعماني وهذه الكتب هى: الجامع الصغير، والجامع الكبير، والسير الصغير، والسير الكبير، والمبسوط، والزيادات، ويجمع هذه الكتب الستة كتاب الكافي للحاكم الشهيد . كشف الظنون : 2/1281، 1282.
(2) أي : مر تحقيق هذه المسألة في الرسالة ص132.
(3) التقرير والتحبير :1/400.
(4) قال العلامة عبد العزيز البخارى: "النجاسة إذا كانت في موضع اليدين والركبتين لا تمنع الجواز، وقال زفر – رحمه الله تعالى: تمنع الجواز، لأن أداء السجدة بوضع اليدين والركبتين والوجه جميعا، فكانت النجاسة في موضع اليدين والركبتين مثلها في موضع الوجه وهذا لا يدل على الجواز إذا وضع على مكان نجس" أ هـ. كشف الأسرار :2/489.
(5) هذا الكلام في "الكافي شرح أصول البزدوي :3/1205.
(6) هذا ما عليه أكثر الحنفية، وقد مر تحقيق ما ذهبوا إليه والرد عليهم من قبل الجمهور ص :134.(5/104)
فاعلم قوله: وهو ظاهر الجواب احتُرز به عما ذكره القدوري من الراوية الأخرى(1)،
وهى أن الصلاة جائزة، إذا أعاد السجود على / مكان طاهر، وقد مرت قبل هذا(2).
وقوله :والتطهير عن جُمَلْ النجاسة هي جمع جملة .
ص : قوله: ولهذا قال: محمد ـ رحمه الله تعالى ـ : إن إحرام الصلاة ينقطع بترك القراءة؛ لأن القراءة فرض دائم في التقدير على ما عُرف ، فينقطع الإحرام بانقطاعه بمنزلة أداء الركن مع النجاسة .
ش : أي؛ ولأن وجود الضد(3) مفوَّت للفرض الممتد(4) قال محمد- رحمه الله تعالى ـ : تنقطع الصلاة بترك القراءة مطلقا سواء كان تركها في ركعتي الشفع أو في إحداهما؛ لأن فرض القراءة ممتد حكما(5).
__________
(1) التى رواها أبو يوسف عن أبى حنيفة ـ رحمهما الله تعالى ـ : وهى أن النجاسة في موضع السجود لا تمنع من الجواز؛ لأن فرض السجود يتأدى بوضع الأنف على الأرض= =عنده وذلك دون قدر الدرهم فلا يمنع الحواز. والجواب عن ذلك أن الرواية الأولى هى الصحيحة؛ لأن أبا حنيفة – رحمه الله تعالىـ يقول: بفرضية الطهارة في الصلاة على الدوام من أولها إلى آخرها .التقرير والتحبير :1/400.
(2) الشامل : 4/ لوحة 213 .
(3) وهو ترك القراءة .
(4) أي: فرض القراءة الثابت بالأمر المقصود في قوله تعالى { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } المزمل :20.
(5) لأنها ـ أي القراءة ـ مع كونها ركنا لا اعتبار للصلاة بدونها في الشرع قال عليه الصلاة والسلام: " لا صلاة إلا بقراءة" سبق تخريجه (ص 138) كشف الأسرار للبخارى :2/490.(5/105)
ولهذا لا يصح استخلاف الأُمي بعد أن رفع الإمام رأسه من السجدة الأخيرة ، مع أن القارىء أتى بفرض القراءة في محلها(1)، فلما كانت القراءة فرضا ممتدا وقد انقطع الامتداد بتركها، انقطع الإحرام بتركها ، فلا يصح شروعه بعد ذلك في الشفع
الثاني فلا يقضى إلا الشفع(2).
ص : قوله: وقال أبو حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ الفساد بترك القراءة في ركعة ثابت بدليل محتمَل فلم يتعد إلى الإحرام، وإذا ترك في الشفع كله فقد صار (الفساد) (3) مقطوعا به بدليل موجِب للعلم ، فتعدى إلى الإحرام .
ش : أي وقال أبو حنيفة: الفساد إنما يكون بترك القراءة في ركعة واحدة عندنا بدليل محتمل، لأن من العلماء من يجوز الصلاة بالقراءة في ركعة واحدة(4)
__________
(1) ينظر الكلام في إمامة الأمي وحكم استخلافه للقارىء في الأصل للإمام محمد بن الحسن الشيباني :1/178، الهداية :1/305، 306 ، الكافي شرح أصول البزدوي :3/1206.
(2) أي: فلا يقضى إلا الشفع الأول؛ لأن الإحرام انقطع بترك القراءة فيه، فلا يصح شروعه في الشفع الثاني.
(3) في ( ت ) مثبتة في الصلب، و في (د) مثبتة في الهامش.
(4) قال الإمام الكاساني ـ رحمه الله تعالى ـ : "قال الإمام الحسن البصرى ـ رحمه الله تعالىـ : المفروض هو القراءة في ركعة واحدة، وقال الإمام مالك ـ رحمه الله تعالى ـ : في ثلاث ركعات ، وقال الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ : في كل ركعة (أي من ركعات الصلاة ) .
* واحتج الحسن البصرى بقوله تعالى: { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } والأمر بالفعل لا يقتضى التكرار، فإذا قرأ في ركعة واحدة فقد امتثل أمر الشرع،وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا صلاة إلا بقراءة" فأثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة بقراءة، وقد وجدت في ركعة، فثبتت الصلاة ضرورة، وبهذا يحتج الشافعي إلا أنه يقول: اسم الصلاة ينطبق على كل ركعة، فلا تجوز كل ركعة إلا بقراءة، وبهذا يحتج مالك إلا أنه يقول: القراءة في الأكثر أقيم مقام القراءة في الكل تيسيرا"اهـ.
بدائع الصنائع :1/111، وكذا الأم :1 / 176 ، بداية المجتهد :1/298، 299 ، المغني :1/485.(5/106)
فحسب ،
وهو الحسن البصرى(1)- رحمه الله تعالى - ، والخلاف المعتبر يورث الشبهة والاحتمال لا محالة ، فإذا كان الفساد/ بترك القراءة في ركعة بدليل محتمل لم يتعد الفساد إلى انقطاع الإحرام ، فلم ينقطع الإحرام فيقضِى أربعا(2).
بخلاف ترك القراءة في الشفع كله ، فإن الفساد ثابت بدليل قوى وهو الإجماع(3) (الموجب للعلم(4)، فتعدى الفساد إلى انقطاع الإحرام فلم يقض إلا ركعتين .
ص: قوله : ولهذا قال في مسافر ترك القراءة : إن إحرام الصلاة لا ينقطع ، وهو قول أبى يوسف - رحمه الله تعالى - ؛ لأن الترك متردد محتمل للوجود، لاحتمال نية الإقامة، فلم يصلح مفسدا.
__________
(1) هو الحسن بن الحسن البصري الفقيه الزاهد وسيد أهل زمانه علما وعملا، وهو إمام أهل البصرة بلا منازع ، ولد في زمن سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وتو في - رحمه الله تعالى- سنة عشر ومائة من الهجرة النبوية، من كتبه التفسير والرد على القدرية. الطبقات الكبرى لابن سعد :7/156، حلية الأولياء :2/131، صفة الصفوة :2/138، سير أعلام النبلاء :4/563، أعمار الأعيان : 76.
(2) المبسوط :1/160 ، الهداية شرح بداية المبتدى :1/ 330.
(3) قال العلامة حسام الدين السغناقي : "وأما الفساد بترك القراءة في الركعتين فثابت بدليل يوجب العلم ، لانعقاد الإجماع عليه، فصار - أي- الفساد قويا فتعدى إلى الإحرام". الكا في شرح أصول البزدوي :3/1207، كشف الأسرار للبخارى :2/490.
(4) مثبتة في " ت " في الصلب، و في " د " مثبت في الهامش .(5/107)
ش : أي : ولأجل أن الترك إذا كان بدليل محتمل لا بدليل قوى لا يقطع إحرام الصلاة(1) ، قال أبو حنيفة ، وهو قول أبى يوسف - أيضا: إذا ترك المسافر القراءة: في ركعة من الظهر لا ينقطع إحرام صلاته ؛ لأن ترك القراءة ليس بمقطوع به.
بل هو محتمل للوجود بنية الإقامة ، حتى إذا نوى الإقامة أتم الصلاة ، وقضى القراءة في الأخريين ، فلم يصلح ترك القراءة في ركعة مفسدا للإحرام ، فيجزيه ظَهره إذا قضى القراءة بعد نية الإقامة(2)، ( وتقييد قول أبى حنيفة، وأبى يوسف: احتراز عن قول محمد ؛ لأن عنده تنقطع التحريمة بترك القراءة في ركعة ) (3).
ص: قوله : "فصار هذا الباب أصلا يجب ضبطه"
ش: أي: صار ما قلنا: من أن الترك يصير حراما إذا فات المأمور به بمباشرة الضد، فإن لم يفُتْ يكون مكروها لا حراما (4).
ص : قوله : يبتنى عليه فروع يطول تعدادها .
ش : أي، على الأصل قال شيخنا حسام الدين، فمن تلك الفروع الاعتكاف ،
__________
(1) هذا ايضاح لقول المصنف : " لأنه أمر بالقراءة ولم يُنه عن تركها قصدا " ، فكذلك مباشرة النهى ، وهى ترك القراءة لم يوجب انقطاع التحريمة ؛ لثبوت النهى ضمنا للأمر القصدى في قوله تعالى { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } الكا في شرح أصول البزدوي :3/1207.
(2) : المبسوط للسرخسى :2/104 .
(3) مثبتة في الصلب في " ت " و في "د " في الحاشية .
(4) هذا الكلام بنصه في : الكا في شرح أصول البزدوي :3/1208.(5/108)
فإنه يبطل بالخروج وإن قلَّ (1)، لما أن الاعتكاف عبارة عن: اللُّبث الدائم في المسجد بنية الاعتكاف(2) .
ومنها : أن الصلاة تفسد بالانحراف عن القبلة بالبدن ؛ لأن المصلى مأمور بالاستقبال إلى القبلة ما دام هو في صلاته في غير حال الضرورة(3). لقوله تعالى: { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ َ } (4) فكان الانحراف عنها مفوتا له فيحرم .
__________
(1) قال صاحب الهداية: "ولا يخرج من المسجد إلا لحاجة الإنسان ، أو الجمعة ... ولو خرج من المسجد ساعة بغير عذر فسد اعتكافه عند أبى حنيفة - رحمة الله تعالى- لوجود المنا في وهو القياس ، وقالا- أي - الصاحبان لا يفسد حتى يكون أكثر من نصف يوم وهو الاستحسان ؛ لأن في القليل ضرورة " ا هـ، الهداية :2/70.
(2) معني الاعتكاف في : الهداية :2/69، الفقه النافع :1/399، بدائع الصنائع :2/108، فصول البدائع للفنارى :2/29.
(3) أما في حال الضرورة: كالصلاة في السفينة فإنه يتوجه عند الافتتاح إلى القبلة وكذا كلما دارت السفينة ؛ لأنها في حقه كالبيت 0 المبسوط :2/2، 3 .
* قلت: إلزام المصلى بالتوجه إلى القبلة كلما دارت السفينة إذا لم يترتب عليه مشقة فإذا نتج عنه مشقة أو دوران في الرأس فلا يلزمه ذلك ويكيفه التوجه إلى القبلة عند الافتتاح .
(4) تمام الآية { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } سورة البقرة الآية : 144 .(5/109)
ومنها: أن المصلى مأمور بأن يؤدى صلاته في الوقت لقوله تعالى: { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً } "(1) فكان القضاء خارج الوقت مفوتا له فيحرم .
وأما المواضع التي لا يحرم(2)، بل يكره، كمواضع الكراهة في الصلاة وغيرها فمنها :
الصلاة بقرب النجاسة مكروه لا مفسد(3) ؛ لأن المصلى مأمور بتطهير مكان صلاته ، بدلالة قوله تعالى: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } ولم يفت ذلك المأمور به هاهنا ، ولكن قرب من الفوات فصارت صلاته مكروهة لا فاسدة ، فصار كمن أخر القيام في موضع أُمِر بالقيام في صلاته(4) .
وكذلك لو أدى النصاب بنية الزكاة إلى فقير واحد يخرج به عن عهدة الزكاة، ولكنه يكره ، لما أن المأمور به : وهو إيتاء الزكاة إلى الفقير لم يفت، ولكن قرَّب هذا الأداء الفقير إلى الغنى ، فصار شبيها بمن أدى زكاته إلى الغني من وجه فكره لذلك (5) .
__________
(1) سورة النساء الآية : 103 .
(2) أي:الترك لا يصير حراما؛لأن المأموريه لا يفوت بمباشرة الضد، بل يكون مكروها .
(3) بداية المجتهد :1/277، كشف الأسرار للبخارى :2/491 .
(4) جامع الأسرار للكاكى :2/566.
(5) تنظر الفروع التى سبق ذكرها في : الكافي للعلامة حسام الدين السغناقى :3/1208، 1209، كشف الأسرار للبخارى :2/491.(5/110)