* من وظائف النظريات التشريعية العامة المحكمة التي أرسى أصولها الإسلام، لصيانة مصالح الدولة، والأمة، والأفراد، من التهافت والانهيار .
* الدور الوقائي لنظرية التعسف في استعمال الحق التي فاجأ الإسلام بها الدنيا كفيل برعاية مصالح الدولة، والأمة، والأفراد قبل وقوع الضرر، جراء سوء استعمال الحقوق والحريات العامة، وعلى مر العصور .
(2)
بقلم الأستاذ الدكتور محمد فتحي الدريني
* التطبيقات التشريعية للدور الوقائي لنظرية التعسف في التقنين المدني الجزائري، وسائر التقنينات العربية، وفي التشريع الإسلامي، باعتباره الأصل الذي استمدت منه أحكام هذه النظرية، سواء في التصرفات القولية، أم الفعلية :
1 - نصت المادة 203 مدني مصري على أنه : '' 1 - يجبر المدين بعد اعذاره ، طبقا للمادتين 219 و 220 على تنفيذ التزامه عينا، متى كان ممكنا'' .
2- ''على أنه إذا كان في التنفيذ العيني إرهاق للمدين ، جاز له أن يقتصر على دفع تعويض نقدي ، إذا كان لا يلحق بالدائن ضررا جسيما'' .
هذا، فضلا عن أن في انتزاع الولد من أمه، أو حرمانها من إرضاعه، ودفعه إلى مرضعة أُخرى، إضرارا بالرضيع نفسه، لأن لبن أمه أصبح متعينا لتغذيته، والطفل ما ثبت له حق الرضاع على أمه منذ ولادته، إلا لهذه التغذية، والتنمية الطبعية، إلى جانب أنها أرق وأحن على ولدها من غيرها .
2 . تمنع الأم كذلك من التعسف في استعمال حقها في إرضاع طفلها، إضرارا بالأب .
فليس للأم -إذا كانت مطلقة وانتهت عدتها- أن تطلب أجرا على الرضاع، إذا كان غيرها يرضعه مجانا، وكانت قادرة على ذلك، وغير محتاجة، أو بأجر أقل مما تطلب هي، منعا من الإضرار بالأب .
وهذا دور وقائي للتعسف يقرره قوله تعالى : (لا تضادّ والدة بولدها، ولا مولود له بولده) والمولود له هو الأب .
3 . منع الدائن من استعمال حقه في مطالبة مدينه المعسر .(1/1)
للدائن حق في ذمة المدين، ويتفرع عن حق الدين هذا، حق الدائن في مطالبة المدين، غير أنه إذا كان المدين معسرا، فإن الدائن يمنع من المطالبة باستيفاء الدين، فينتقل حق الدائن في المطالبة إلى وجوب الإمهال والانتظار حتى اليسار، إذ لا تستعمل الحقوق لمجرد الإضرار، أو للعبث، بل لمصلحة جدية شرع الحق من أجلها، منعا للتعسف في استعمال الحق .
ومعلوم أن استعمال الحق في المطالبة، إنما شرع وسيلة لاستيفاء الدين، لكن المدين معسر، فأصبح هذا الاستعمال خاليا من المصلحة، أي تعسفياً، لأنه عبث، ولا مصلحة مشروعة جدية فيه، وهذا هو المعيار الثالث من معايير التعسف، وقد قرره ا لله تعالى بقوله : (وإن كان(1) ذو عسرة فنظرة(2) إلى ميسرة) (3) .
وإذا كان حق المطالبة وسيلة لاستيفاء الدين، فإن هذه الوسيلة تسقط مشروعيتها إذا لم تؤدّ إلى مقصودها، وهو استيفاء الدين للإعسار، وهو عدم القدرة على وفاء الدين، والقاعدة العامة المقررة في الفقه الإسلامي : ''أن الوسائل تسقط بسقوط مقاصدها'' .
لأنا أشرنا آنفا إلى أن الوسائل لم تشرع لذاتها، وإنما شرعت للتوسل بها إلى تحقيق مقصدها، فإذا تعذر تحقيق هذا المقصد سقطت الوسيلة، ومنع صاحبها من اتخاذها ابتداء لانتفاء المصلحة الجدية المشروعة التي شرع حق المطالبة من أجلها، وهذا وقاية لضرب من التعسف، كما علمت .
__________
(1) : وإن كان، يعني : وإن وجد .
(2) : والنظرة، بفتح النون، وكسر الظاء، الإمهال، أي فالواجب على الدائن هو الانتظار والإمهال حتى اليسار .
(3) : الميسرة : بفتح الميم، وتسكين الياء، وفتح السين، هي اليسار - وهو ضد الإعسار .(1/2)
4 . حبس المدين المعسر، لحمله على وفاء دينه، تعسف، فيمنع الدائن من المطالبة بحبسه لأنه ضرر محض . وكذلك لا يجوز حبس المدين المعسر، لأن حق الحبس شرع للدائن وسيلة لحمل المدين على الوفاء، لا لذات الحبس(1)، فإذا تعذر تحقق الوفاء، وهو المقصد، سقطت الوسيلة -وهي حق الحبس - لسقوط غايتها، فيمنع الدائن من استعمال حق الحبس هذا، لأنه أصبح يفضي -في مثل هذه الحال - إلى مجرد الإضرار المحض بالمدين المعسر، وهذا من أبشع صور التعسف في الفقه الإسلامي، لأن كل حق، إنما شرع لتحقيق غاية مشروعة لا يجوز الانحراف عنها، لمحض الإضرار، أو لتحقيق أضرار ومصالح غير مشروعة . فأساس التعسف هذا، مجرد الضرر بالمدين، أو العبث، وكلاهما لا يجوز التوسل إليه، باستعمال الحقوق، لمنافاته غائية الحق، وأنه شرع لمصلحة مشروعة يجب تحقيقها .
وقد أشرنا، إلى أن القاعدة العامة في ''سد الذرائع '' تقضي بأن : ''كل تصرف في الأصل مشروع، يصبح غير مشروع، إذا أدى إلى مال ممنوع '' فيمنع ابتداء، توقياً للتعسف في استعمال المباح، وترتب آثاره، من الضرر، قبل الوقوع .
الدور الوقائي للنظرية في وجهه الإيجابي :
ضربنا لذلك مثلا ''الاحتكار'' وهو محرم في الإسلام .
الاحتكار : تصرف في حق الملكية، وهو مباح في الأصل - ومعنى الاحتكار احتباس السلع والمنافع، مما يحتاج إليه الناس، تربصا بالناس الغلاء .
فالامتناع عن بيع السلع والمنافع بالثمن والأجر المعقول العادل، مع حاجة الناس إليها، تعسف في حق الملك، لأنه يؤدي إلى الضرر العام، أي بالناس جميعا، وما شرع حق الملك لهذا .
__________
(1) : راجع كتابنا : ''نظرية التعسف في استعمال الحق، ص 97 إلى ص 99، الطبعة الثانية . وراجع البدائع في ترتيب الشرائع : ج 7، ص 173، للإمام الكاساني .(1/3)
فموقف التاجر أو المالك سلبي، والدور الوقائي هنا، هو إجبار المالك على إخراج السلع، وعرضها في السوق، وبذل منافع الدور والمساكن، أو خدمات الأطباء والمهندسين وغيرهم، وبيعها بالسعر أو الأجر المعتاد العادل، أو بما تحدده السلطة المختصة، عدلا، لا وكس فيه ولا شطط، حفظا للحقين، للمالك والأمة، ودفعا للضرر العام .
فالإجبار على الفعل هو تصرف إيجابي .
وقلنا أيضا إن مناقضة المصلحة الخاصة للمصلحة العامة، تعسف غير جائز في الإسلام، ولهذا حرم الاحتكار تحريما قاطعاً، فضلا عن التهديد عليه بعذاب يفوق التهديد على اقتراف الربا، منعاً للاستغلال، ولا سيما في الأزمات .
فمعيار التعسف هنا، هو الضرر العام .
والجزاء، هو إجبار المالك على عرض سلعه، وبذل المنافع والخدمات من قبل أربابها جبرا، بالسعر العادل، أو بيعها عليهم رغما عنهم، درءا للضرر العام، ومنعا للتعسف وآثاره قبل الوقوع، ورفعا للتناقض بين المصلحة الخاصة والعامة، حتى تكون المصلحة الخاصة للتجار والمالكين في دائرة الصالح العام، لا تناقضه، ولا تضر به، تحقيقاً للتكافل بينهما .
مفهوم الحق في التقنين المدني الجزائري، والبلاد العربية :
قبل البحث في نظرية التعسف في استعمال الحق، وأثرها في التقنين المدني الجزائري، لابد من تحديد ''مفهوم الحق '' فيه، بالنظر لما نرى له من ارتباط وثيق بمدلول التعسف نفسه، وما اشتق منه من معايير، وما يتبع ذلك من دور هذه النظرية في تقييد الحق بغايته التي شرع من أجلها، ومن مسؤولية وجزاء .
ولا بد أيضا من مقارنة ذلك بما استقر للحق من مفهوم في المذهب الفردي، وفيما يسمى بمذهب التضامن الاجتماعي، لأن الدراسة المقارنة من أعظم الوسائل لتحديد المفاهيم وتجليتها هذا ومن المعلوم أن ''مفهوم الحق '' هو الذي تقوم على أساسه نظرية القانون، وتتضح به فلسفته العامة، وتتحدد على ضوئه غايته، وتتفرع عنه حلوله وأحكامه .
1 - مفهوم الحق في المذهب الفردي(1/4)
أساس الفلسفة الفردية هو اعتبار الفرد وحقوقه ''محور القانون وغايته '' لأن هذه الحقوق في نظره سابقة في الوجود على القانون نفسه، وعلى المجتمع، بل وعلى الدولة، لأنها حقوق طبعية مستمدة من ذات الإنسان باعتباره إنسانا كان يتمتع بها منذ الفطرة الأولى، فهي -لذلك - امتيازات طبعية مطلقة .
وتأسيسا على هذا، كانت هذه ''الحقوق '' هي أساس القانون وليس القانون هو أساسها، بل القانون، وكذلك المجتمع والدولة، كل أولئك -في فلسفة هذا المذهب - إنما وجد لخدمة الفرد وحقوقه، وتمكينه من التمتع بها(1) . وبذلك تحددت وظيفة الدولة بحراسة هذا الحق وحمايته، أثرا لمفهوم الحق فيه، لأنها ما وجدت إلا مسخرة لذلك، وللمحافظة على الأمن والدفاع .
فالفرد وحده هو محور القانون وغايته في منطق هذا المذهب .
ويرى هذا المذهب أن لا ضير من إطلاق هذه الحقوق، يتصرف بها أصحابها على النحو الذي يشاءون، دون قيد، ولا يقيد ويمنع إلا في حال الاعتداء والمجاوزة على حق الغير، أي الخروج عن حدود الحق الموضوعية، وهذا محرم في جميع الشرائع
ويرى أيضا أن في إطلاق الحق، وتمكين صاحبه من التصرف فيه، واستعماله وفق مشيئته، تنمية لمواهبه وملكاته التي بها تقدم المجتمع وازدهاره، ومن هنا، لم يقم وزنا لنظرية التعسف ! بل لم يكن لها وظيفة في منطق هذا المذهب ! لتطرفه نحو اليمين ! ولإطلاق مفهوم الحق الفردي فيه !
أصل الدولة ووظيفتها في منطق هذا المذهب وعلى ضوء مفهوم الحق فيه
نشأت الدولة في نظر هذا المذهب - باتفاق إرادات الأفراد الحرة، وهذا الاتفاق بمثابة ''عقد اجتماعي'' بغية أن تقوم الدولة بحماية الحقوق الفردية (مجرد حراسة) والنهوض بمهمة الأمن والدفاع، كما أشرنا .
__________
(1) : راجع كتابنا ''الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده '' دراسة مقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون - رسالة دكتوراه نالت درجة الامتياز بمرتبة الشرف الأولى من الجامعة الأزهرية .(1/5)
وعلى هذا، فليس للدولة أن تتدخل في هذه الحقوق المطلقة، للحد منها، أو للتقييد من استعمالها، لأنها إن فعلت ذلك فقدت مبرر وجودها، وجاوزت وظيفتها، وقضت على الغرض الذي .أنشئت من أجله، وهو تمكين الفرد من حريته بصورة مطلقة، في التصرف، والنشاط الاجتماعي، والاقتصادي، و الفكري، والاعتقادي، والسياسي، شريطة ألا يتعدى على حق الغير .
وهذا ما عناه (سييز) بقوله ''إن الغرض الأساسي(1) من إقامة أي هيئة عامة، هو ضمان الحريات الفردية'' .
فالدولة لا يحق لها التدخل في النشاط الفردي بحميع وجوهه، وليس لها من حق في توجيه نشاطه الاقتصادي بوجه خاص، بل ولا تقييد تصرفه إلا بالقدر اللازم، لمنع التعارض بينه وبين غيره من الأفراد، لمجرد التنسيق عند تعارض الحريات الفردية .
فإذا كانت الضرورة لإعمال فكرة القانون اللازمة لكفالة الحريات تقتضي التنازل عن قسط من الحرية، فهذا التقييد الجزئي استثناء من الأصل العام(2)، وهو الإباحة المطلقة حتى يرد قيد صريح .
وهذه القيود الاستثنائية تبقى محكومة بالمبدأ العام الثابت، من أن الاستثناء لا يجوز القياس عليه، ولا التوسع فيه .
فالقانون في الفلسفة الفردية -كما ترى- هو قانون ''توفيق وتنسيق '' بين الحريات الفردية، منعا من الاعتداء والمجاوزة، لا قانون إلزام وإخضاع وتوجيه .
وإن ''العدل '' في نظره، هو ''العدل التبادلي '' الذي يتيحه قانون ''العرض والطلب '' نتيجة للمنافسة الحرة، أو الحرية الاقتصادية، وهو الذي يعطي ''كل ذي حق حقه '' أي أن العدل هو ما ترتضيه الإرادة الحرة .
__________
(1) : المرجع السابق، ص 40 وما يليها، ونظرية الحق الفردي، الدكتور السيد صبري، مجلة القانون والاقتصاد، العددان 3 و 4، السنة العشرون، ص 61 1 وما يليها .
(2) : الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده، ص 40 وما يليها، للمؤلف .(1/6)
أما المصلحة الاجتماعية العامة -في منطق هذا المذهب - فليس لها حقيقة مستقلة، وإنما هي حصيلة(1) المصالح الفردية، تتحقق تلقائيا إذا روعيت تلك المصالح، إذ الجماعة -في فلسفة هذا المذهب - ليست إلا أفرادا يستقل بعضهم عن بعض، كل ومصلحته الخاصة، ونشاطه الحر، ولا تجمع بينهم إلا علاقة المجاورة المكانية دون العلاقة الشعورية الموحدة، لأنه إذا دخل الجماعة، كان مزودا بحقوقه الطبعية السابقة في الوجود على الجماعة والدولة -كما ذكرنا- فليست حقوقه إذن مستمدة من الجماعة، ليعمل لصالحها، كما لم يستمدها من الدولة، إذ الدولة لم تمنح الحق، وإذا لم تكن هي مانحة للحق، فليس لها الحق أن تتدخل فيه، فضلا عن أن تسلبه .
وأيضا الجماعة لا قيمة لها في ذاتها، وإنما هي مجرد تنظيم لتمكين الفرد من التمتع بحقوقه وحرياته المطلقة على النحو الذي يشاء، ومعنى هذا أن للإرادة الفردية الحرة الدور الأول، في العقد، والحق، والملك، تقديسا للفرد، وحقوقه، واعتبارها محور القانون وغايته، بل والقيمة العليا، والوحيدة، في مواجهة الأمة .
وعلى هذا، كان حق الملك مطلقا، بمعنى أنه يحول صاحبه سلطات مطلقة، يتصرف فيها المالك بمحض مشيئته، بل ويتمكن من ممارسة هذا الحق، ولو أضر بغيره من الفرد أو المجتمع، وتمتد الحرية إلى حد إتلاف الملك، والمال، دون مقصد مشروع أو معقول . وأما العقد، فيرى هذا المذهب، أنه يقوم على الإرادة الفردية الحرة المطلقة، و .أن إرادة المتعاقدين هي التي تنظم العلاقات القانونية كافة، وأنها تحل محل إرادة المشرع : ''العقد شريعة المتعاقدين '' أي هو القانون الذي يحكم علاقتهما التي أنشاها بإرادتيهما، ولا يحد من ذلك إلا ما يتنافى والنظام العام والآداب .
__________
(1) : الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده، ص 40 وما يليها، للمؤلف .(1/7)
2- وأما من الناحية السياسية، فالفرد هو الذي ينشيء الدولة بإرادته الحرة، ويمارس السيادة، ليحكم نفسه بنفسه، وهذه التي تسمى (الديمقراطية)(1) التي منشؤها ما يسمى بالنظام النيابي، فإرادته حرة في حياته الخاصة والعامة .
3- أما من الناحية الاقتصادية، فيحرم هذا المذهب تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي للأفراد الذي يجب أن يبقى (هذا النشاط) حرا قائما على أساس المنافسة الحرة، ومبادرة الأفراد الحرة، وعلى الدولة أن تخلي بين الأفراد وبين نشاطهم الحر في الصناعة، والتجارة، والزراعة، والعمل بوجه عام، وعدم تقييد الحريات العامة، والمنافسة الحرة هي الحافز القوي للنشاط الاقتصادي وازدهاره في نظريتهم !
4- أما من الناحية الاجتماعية، فالفرد ذو كيان مستقل، وشخصية كاملة عاملة حرة عاقلة، بل هو القيمة الكبرى في مواجهة كل من الجماعة، والدولة، بل هو العنصر الأساسي في تكوين الجماعة، كما أن حقوقه هي العنصر الأساسي في القانون، وهو غاية الجماعة، كما هو غاية القانون، على السواء .
وعلى هذا، فمفهوم الحق بوجه عام، في فلسفة هذا المذهب، قانونيا، وسياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، فردي مطلق، لا يعترف بأي حق آخر لا للمجتمع ولا للدولة، وهو أساس القانون وغايته، تقديسا للفرد وإرادته الحرة، وحرياته العامة، وليس للدولة من وظيفة إلا حراسة هذه الحقوق والحريات، وتمكين الأفراد منها،كما بينا .
وأما ''مفهوم العدل '' في فلسفة هذا المذهب، فهو الذي ترتضيه الإرادة الفردية الحرة، في العقد والحق، والملك، والسياسة والحكم .
__________
(1) : وهو غير نظام الديمقراطية الذي يقوم على أساس من الشورى الإسلامية على ما سيأتي بيانه وتفصيلة .(1/8)
إذن، نظرية التعسف لا تجد لها أساسا تنهض عليه في منطق هذا المذهب، لسبب بسيط، هو أن ''الحق مطلق '' لا يجوز تقييده، لأنه غاية في ذاته، لا مجرد وسيلة، وأنه يقر استعماله على أي وجه كان، ولو ترتب عليه ضرر بالغير، لأنه سلطة مطلقة ما دام في حدوده الموضوعية، بل ولو أضر بالمجتمع، إذ لا حقيقة مستقلة لهذا المجتمع تقوم عليها مصلحة عامة مستقلة أيضا، وحينئذ لا يتصور التعارض بين المصلحة العامة والخاصة، أو اختلال التوازن، بناء على هذا النظر، فلا يكون بالتالي دور للتعسف، لا في دفع الضرر العام، لأنه يسوغ وقوعه، إذا كان ناشئا عن استعمال الحق الفردي، أو هو لا يتصور تعسف من الفرد في استعمال حقه، مهما كانت النتائج، وأيضا، لا يسوغ هذا المذهب تدخل الدولة، لتقييد الحق تشريعا وإلزاما، دفعا للضرر عن الغير، بل لا يجيز للدولة التدخل لرعاية الصالح العام، لأنها هي بذاتها مسخرة لحراسة المصالح الفردية وحدها، وتمكين أفرادها منها .
وأخيراً، يعطي للفرد حرية مطلقة، ويجعل الدور الأول للعقد، استجابة لمقتضى مبدأ سلطان الإرادة المطلق(1) وكذلك للمبادرة الفردية في النشاط الاقتصادي .
ومن هنا أطلق حق الملك، والحرية العامة .
ما يتجه على المذهب الفردي من نقد في نظر التشريع الإسلامي
__________
(1) : راجع مؤلفنا -الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده، ص 45 وما يليها، أصول القوانين - ص 61 وما بعدها - للدكتور السنهوري والدكتور حشمت أبي ستيت - المدخل للعلوم القانونية، ص 36 - للدكتور عبد المنعم البدراوي .(1/9)
أ - لعل أهم ما يؤخذ على هذا المذهب، أنه لا يعترف بالصالح العام أصلا، إذ ليس له -في فلسفته - حقيقة ذاتية مستقلة عن المصلحة الفردية، بسبب ما ذهب إليه من افتراض خيالي، أن ''المصلحة العامة'' ليست إلا ''مجموعة المصالح الفردية'' أو حصيلتها، وأنه إذا روعيت هذه الأخيرة، فقد تحققت الأولى تلقائياً، فلا يتصور التعارض بينهما، إذ التعارض فرع وجود المتعارضين، وهما لم يوجد منهما إلا حق الفرد وحده .
وقد علمت أن ليس للمصلحة العامة!-في نظره - وجود مستقل .
ب - إنكاره للمصلحة العامة مكابرة، دفعه إلى التطرف في الفردية، ودليل ذلك، أن التعارض واقع ومشهود بين المصلحة الخاصة، والعامة، والتعارض فرع الوجود والاستقلال لكل منهما .
ولا ريب أن إهدار الصالح العام ظلم عظيم، فرعايته عدل شامل، وبذلك فقد هذا المذهب أهم ركن ''للعدل '' بإنكاره للصالح العام .(1/10)
ج - ليس صحيحا ما يقال من أنه لا يتصور التعارض بين مصلحة المجتمع والمصلحة الخاصة إذا روعيت هذه الأخيرة، إذ الواقع ينقض هذا التصور من أساسه، كما ذكرنا، وتفسير ذلك، أن الأنانية الفردية، وحب الذات، واتخاذ الفرد ذاته محورا لنشاطه العام، دون أن يشعر بمصالح غيره، سبب كاف لإحداث هذا التعارض الواقع الذي لا سبيل إلى إنكاره أو تجاهله، إذ كثيرا ما نرى الأفراد لا يفكرون في رعاية المصالح العامة، وإذا كان هذا المذهب قد تطرف نحو الفردية كرد فعل لاستبداد الحكام والساسة في عصور ما قبل الثورة الفرنسية في أوروبا، فينبغي ألا تقام النظريات التشريعية ومفهوم الحق، والعدل، على أساس ردود الفعل، والمشاعر العدائية(1) !! .
ولأن الأنانية هي المثل الأعلى الذي لا تعلوه مثل عليا غيرها في منطق هذا المذهب .
- على أن موضوعنا ''الحق '' وهو لا يتصور إلا في وسط اجتماعي، لا في الفرد المنعزل أو البدائي الفطري، أو الإنسان الهائم في شريعة الغاب ! فحيث تكون الجماعة، تنشأ الحقوق، والروابط الاجتماعية، كما يقول ابن خلدون .
ح - هذا ومن الثابت علميا، أن الإنسان اجتماعي بطبعه وفطرته، فضلا عن كون ذلك أمرا واقعيا .
__________
(1) : وقد رأيت أن ''المصلحة العامة'' في التشريع الإسلامي مقدمة، بالإجماع، وأن ثمة قاعدة مستقرة في هذا التشريع العظيم، ترسي أصل المصلحة العامة، كحقيقة واقعة مستقلة بذاتها عن المصلحة الفردية، وأن لها حق التقديم والاعتبار عند تعارضها مع المصلحة الفردية واستحالة التوفيق بينهما، ولو ترتب على ذلك ضرر خاص، لأن تحمل هذا الأخير، أهون من الضرر الناشيء عن إهدار المصلحة العامة بالبداهة، وهذه القاعدة المستقرة تقضي بأنه ''يتحمل الضرر الخاص في سبيل دفع ضرر عام، ''مادة 26- مجلة الأحكام العدلية . - الموافقات : ج 4، ص 196 وما يليها .(1/11)
ط - أما أن الدور الأول ''للعقد'' وأنه شريعة المتعاقدين، احتراما لمبدأ سلطان الإرادة المطلق، فقد كان من مساوئ ذلك، الاستغلال، نتيجة تباين المراكز الاقتصادية بين المتعاقدين قوة وضعفا، فعجز هذا المذهب عن إيجاد القواعد التي تحمي الطرف الضعيف، ولأن قبوله الظاهري لا ينبيء عن إرادة حرة، أو رضا حقيقي، بل هو -في واقع الأمر- مقهور!
ومن مساوئه أيضا، مظالم الرأسمالية المتطرفة التي جعل لها هذا المذهب السيادة المطلقة، ولا سيما بالنسبة للشركات الاحتكارية، واستغلال أرباب الأعمال للعمال، تحت ستار ''العقد'' وحرية التعاقد المطلقة، وهو واقع تاريخي لا يسع أحدا إنكاره .(1/12)
ى- إن التصرف في المال، والحق، على الوجه المطلق، ولا سيما حق الملك، دون اكتراث بالأضرار التي تنجم عن ذلك، لا يجعل للحق ولا للمال، وظيفة اجتماعية، أو مصلحة معقولة، ولا مصلحة تتصور مع إطلاق الحرية إلى حد إتلاف المال مثلا، ذلك لأن إتلاف المال لا يتعلق به مقصد مشروع، أو غرض معقول، وهذا المذهب يجيزه، فضلا عما يترتب على ذلك من ضرر عام(1)، بديل أن تكون الإرادة متجهة إلى تحقيق مصلحة مشروعة، تفسر حكمه تشريع وجود المال نفسه، وامتلاكه، والتصرف فيه، وتفسر كذلك الغائية المعقولة لاستعمال الحق، وإلا كان العبث والتحكم، وكلاهما غير مشروع عقلا ومنطقا .
__________
(1) : قدمنا، أن كل حكم، وكل حق في التشريع الإسلامي، إنما شرع لمصلحة معينة هي الغاية المقصودة منه، وأن استعمالها ينبغي أن يكون على وفق الغاية من كل منهما، تحقيقا لها . أما التصرف في المال إتلافا، فمحرم شرعا، لأن تضييع المال عبثٌ لا يشرع، إذ لا يتعلق به مقصد شرعي، ولأنه يتنافى مع حكمة خلق المال للبشر، ليستعينوا به على ما يحقق مصالحهم في دنياهم فضلا عن آخرتهم، وأن تحريم العبث بالمال من حق ا لله تعالى، أو من النظام العام، فلا يجوز إسقاطه ولو بإرادة مالكه . ولذا نرى الإمام القرافي المالكي يقرر هذا الأصل بقوله : ''فحجر -منع - الرب تعالى برحمته على عبده في تضييع ماله الذي هو عونه على أمر دينه ودنياه وآخرته، -ولو رضي العبد بإسقاط حقه في ذلك - لم يؤثر رضاه، وكذلك حجر الرب تعالى على العبد في إلقاء ماله في البحر، وتضييعه من غير مصلحة، ولو رضي العبد بذلك، لم يعتبر رضاه - الفروق، ج 2، ص 141 .(1/13)
أجاز هذا المذهب ''الاستغلال '' بجميع وجوهه، وانتهاز فرصه، لأن حق الملك سمة مطلق، ومن ذلك الاحتكار، والربا المضاعف، والغبن الفاحش، والتلاعب بالأسعار، مما أدى إلى وقوع أزمات اقتصادية حادة، تحت شعار ''الاقتصاد الحر'' ولا سيما من قبل أصحاب الثروات الضخمة، لأنه أباح للفرد جمع المال، وتأثيل الثروات، بكل وسيلة، كما جعل لسلطان الإرادة والعقد الدور الأول .
وأما نقده من الناحية السياسية، فقد أدى إلى عدم استقرار السياسة في البلاد، نتيجة لارتباطها بأصحاب الثروات الضخمة، فتتقلب السياسة بغير الأغلبية، وهذا مما يؤدي إلى إضعاف الدولة .
هذه المساوئ تبدو بصورة أشد في البلاد المتخلفة التي لم ينضج فيها الوعي السياسي، بل قد ينقلب ذلك وبالا عليها، وهذا على خلاف ما جاء به الإسلام، كما سنبينه في موضعه، مبنيا على أصوله وقواعده، بحيث تتجه إلى التوسط والاعتدال، وتقيم التوازن بينهما من خلال نظرية التعسف، عدلا ومصلحة حقيقية معتبرة .
ونكتفي بهذا القدر، ونتابع الموضوع في بحوث أخرى .
والله ولي التوفيق .(1/14)