الخلاصة
في بيان أسباب اختلاف الفقهاء
إعداد
الباحث في القرآن والسُّنَّة
علي بن نايف الشحود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فهذا كتاب يتمم الكتاب الأول ، وهو الخلاصة في أحكام الاجتهاد والتقليد ، فهذا الكتاب يتحدث عن أسباب اختلاف الفقهاء .
وقد كثر القيل والقال في هذه المسالة الجلل ، وتفرق المعاصرون تبعاً لمشاربهم حول موقفهم من هذا الاختلاف :
فمنهم من زعم أن سبب الاختلاف هو سبب البغي واتباع الهوى !!!
ومنهم من زعم أنه إذا كان الاختلاف رحمة فالاتفاق سخط !!
ومنهم من رد الاختلاف إلى عدم وصول الحديث للمجتهد ، فأفتى برأيه ، وغيره وصله الحديث فعمل به .
ومنهم من زعم أن سبب الاختلاف هو التعصب لشخص أو إقليم ...!!
والقلة القليلة استطاعت الغوص إلى أعماق هذا الموضوع ، فبينوا أن هناك أسباباً موضوعية أدت إلى اختلاف الفقهاء عبر التاريخ .
ثم اختلف هؤلاء في موقفهم من هذا الاختلاف اختلافاً حادًّا :
فمنهم من انهال على المختلفين سبًّا وطعناً ، متهمهم في دينهم والعياذ بالله !!
ومنهم من دعا لترك المذاهب الفقهية ، وأخذ الأحكام من القرآن والسنة مباشرة ، ومنهم من زعم أن سبب تخلف المسلمين يعود لهذا الاختلاف ، وراح يتصيد الأخبار والحكايات من هنا وهناك لبيان آثار الاختلاف السلبية وما جرته على الأمة من ويلات .
ومنهم من لتوحيد المذاهب الفقهية لتكون مذهباً حسما للاختلاف !!!
ومنهم من قال : نأخذ بقول الجمهور وندع قول غير الجمهور وينتهي الأمر –على طريف المفاهيم الحديثة حول رأي الأكثرية ورأي الأقلية !!
ومنهم من دعا للحوار البناء بين المختلفين بغية التقارب بينهم .
ومنهم من قال إن الاختلاف أمر طبيعي ، ولكن التعصب وضيق الأفق وتبرير الأخطاء هو المذموم شرعاً .(1/1)
ومنهم من قال يجب علينا أن تعاون فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا البعض فيما اختلفنا فيه .
ومنهم من بهرته حضارة الغرب المادية ، فقال الحلُّ عندي هو استيراد قوانين الغرب ، ونبذ كلام هؤلاء الفقهاء المختلفين ، لأن قوانين الغرب مقننة ولا اختلاف فيها على حدِّ زعمه .!!!
ومنهم من قال غير ذلك .
وكلٌّ يدَّعي وصلاً بليلى وليلى لا تقرُّ لهم بذاكَ
وهذا الموضوع – بلا ريب – زلت فيه أقلام كثر ، لكثرة تشعباته ، وعدم الغوص إلى أعماقه .
وفي هذا الكتاب بيانٌ مفصَّل لأسباب اختلاف الفقهاء منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم وإلى الآن .
ثم مناقشة الشبهات التي ذكرنا بعضاً منها ، وغيرها .
وهذا الكتاب الذي بين يدينا يشتمل على الموضوعات التالية :
تمهيد وسبعة فصول:
الفصل الأول-أسباب اختلاف الفقهاء العامة ...
الفصل الثاني-فلسفة الاختلاف بين الفقهاء
الفصل الثالث-شبهات حول أسباب الاختلاف
الفصل الرابع-قضايا منوعة أسباب اختلاف الفقهاء ...
الفصل الخامس-حال الناس منذ عهد الصحابة حتى تقليد الأئمة الأربعة
الفصل السادس-أسباب ترك بعض الفقهاء الاحتجاج بالحديث
الفصل السابع-حول أدب الاختلاف
وأخيرا خاتمة فيها خلاصة هذه الدراسة .
وأما طريقتنا في العمل فهي كما يلي :
? نقل الأدلة من مصادرها ، فآيات القرآن كلها مشكلة ، ولكنها ليست بالرسم العثماني .
? تخريج الأحاديث من مصادرها الرئيسة ، والحكم على الحديث بما يناسبه جرحا وتعديلا إذا لم يكن في الصحيحين ، وفق منهج المعتدلين في الجرح والتعديل .
? النقل من المصادر الأساسية مباشرة ، والإكثار من النقول من أجل توضيح الغامض، أو تقرير حقيقة ....(1/2)
? تغيير النصوص في المصادر المنقول منها ، سواء أكانت نصوص قرآنية ، أو أحاديث نبوية ، أو أقوال منسوبة لأشخاص ، وذلك بالرجوع لمصادرها الأساسية ، بسبب كثرة الأخطاء في النصوص الشرعية أو المنقولة عن العلماء ، وبذلك تحاشينا الكلام عن الأخطاء المطبعية أو النصية .
? نقل ما ورد بالموسوعة الفقهية حول هذه المسائل،مع تدقيق المصادر ولاسيما الأحاديث النبوية والحكم عليها ، فقد كانت الموسوعة الفقهية في هذا الجانب قاصرة سواء في نقل النص أو الحكم عليه .
? حاولت تحرير كثير من مواطن النزاع ، ولاسيما الشائكة منها .
? رددت كثيراً من الأخطاء والأوهام .
? حاولت ضبط كثير من المسائل المختلف فيها .
? ذكرت مصادر ما أنقله عن غيري بالهامش .
? أسهبت في بعض المواضع ، لأهميتها ، أو بسبب غموضها والخطأ في فهمها .
فإن أصبت فمن الله تعالى وحده ، وله الفضل والمنة ، قال تعالى :{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ } (53) سورة النحل.
وإن أخطأت ، فمن تقصيري ، واستغفر الله { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (286) سورة البقرة .
وكتبه
الباحث في القرآن والسُّنَّة
علي بن نايف الشحود
في السابع من جمادى الآخرة لعام 1429 هـ الموافق ل 11/6/2008م
- - - - - - - - - - - - - - - -
تمهيدٌ(1/3)
عَن أَرْطَاةَ , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو عَوْنٍ , قَالَ : " رُبَّمَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَمْرِ , وَكِلَاهُمَا لَهُ الْحَقُّ " قَالَ الشَّيْخُ : فَاخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ يَا أَخِي رَحِمَكَ اللَّهُ فِي فُرُوعِ الْأَحْكَامِ , وَفَضَائِلِ السُّنَنِ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ بِعِبَادِهِ , وَالْمُوَفَّقُ مِنهُمْ مَأْجُورٌ , وَالْمُجْتَهِدُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ إِنْ أَخْطَأَهُ غَيْرُ مَأْزُورٍ , وَهُوَ يُحْسِنُ نِيَّتَهُ , وَكَوْنُهُ فِي جُمْلَةِ الْجَمَاعَةِ فِي أَصْلِ الِاعْتِقَادِ وَالشَّرِيعَةِ مَأْجُورٌ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ " , وَإِنْ تَأَوَّلَ مُتَأَوِّلٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَذْهَبًا فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ خَالَفَ فِيهَا الْإِجْمَاعَ , وَقَعَدَ عَنهُ فِيهَا الِاتْبَاعُ , كَانَ مُنْتَهَى الْقَوْلِ بِالْعَتْبِ عَلَيْهِ : أَخْطَأْتَ لَا يُقَالُ لَهُ : كَفَرْتَ , وَلَا جَحَدْتَ وَلَا أَلْحَدْتَ , لِأَنَّ أَصْلَهُ مُوَافِقٌ لِلشَّرِيعَةِ , وَغَيْرَ خَارِجٍ عَنِ الْجَمَاعَةِ فِي الدِّيَانَةِ "
وعَن عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ , قَالَ :" مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِاخْتِلَافِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ حُمْرَ النَّعَمِ "
وعَن مُوسَى الْجُهَنِيِّ قَالَ : كَانَ إِذَا ذُكِرَ عِنْدَ طَلْحَةَ الِاخْتِلَافُ قَالَ : " لَا تَقُولُوا : الِاخْتِلَافُ , وَلَكِنْ قُولُوا : السَّعَةُ "
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَن عَمِلَ لِلَّهِ فِي الْجَمَاعَةِ فَأَصَابَ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنهُ , وَإِنْ أَخْطَأَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ , وَمَن عَمِلَ لِلَّهِ فِي الْفُرْقَةِ فَأَصَابَ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنهُ , وَإِنْ أَخْطَأَ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ "(1/4)
قَالَ الشَّيْخُ : فَالْإِصَابَةُ فِي الْجَمَاعَةِ تَوْفِيقٌ وَرِضْوَانٌ , وَالْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ عَفْوٌ وَغُفْرَانٌ , وَأَهْلُ الْأَهْوَاءِ اخْتَلَفُوا فِي اللَّهِ وَفِي الْكَيْفِيَّةِ , وَفِي الْأَبْنِيَةِ , وَفِي الصِّفَاتِ , وَفِي الْأَسْمَاءِ , وَفِي الْقُرْآنِ , وَفِي قُدْرَةِ اللَّهِ , وَفِي عَظَمَةِ اللَّهِ وَفِي عِلْمِ اللَّهِ , تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْمُلْحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا "(1)
- - - - - - - - - - - - - - - -
الفصل الأول
أسباب اختلاف الفقهاء العامة
1-تعريفُ الاختلاف:
الاِخْتِلاَفُ لُغَةً : مَصْدَرُ اخْتَلَفَ . وَالاِخْتِلاَفُ نَقِيضُ الاِتِّفَاقِ . جَاءَ فِي اللِّسَانِ مَا مُفَادُهُ : اخْتَلَفَ الأَْمْرَانِ لَمْ يَتَّفِقَا . وَكُل مَا لَمْ يَتَسَاوَ فَقَدِ اخْتَلَفَ . وَالْخِلاَفُ : الْمُضَادَّةُ ، وَخَالَفَهُ إِلَى الشَّيْءِ عَصَاهُ إِلَيْهِ ، أَوْ قَصَدَهُ بَعْدَ أَنْ نَهَاهُ عَنهُ . وَيُسْتَعْمَل الاِخْتِلاَفُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَكَذَلِكَ الْخِلاَفُ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
2- الْخِلاَفُ :
__________
(1) - الْإِبَانَةُ الْكُبْرَى لِابْنِ بَطَّةَ (713 -716)(1/5)
جَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَالدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَحَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ ، وَنَقَلَهُ التَّهَانُوِيُّ عَن بَعْضِ أَصْحَابِ الْحَوَاشِي ، التَّفْرِيقَ بَيْنَ ( الاِخْتِلاَفِ ) ( وَالْخِلاَفِ ) بِأَنَّ الأَْوَّل يُسْتَعْمَل فِي قَوْلٍ بُنِيَ عَلَى دَلِيلٍ ، وَالثَّانِي فِيمَا لاَ دَلِيل عَلَيْهِ . وَأَيَّدَهُ التَّهَانُوِيُّ بِأَنَّ الْقَوْل الْمَرْجُوحَ فِي مُقَابَلَةِ الرَّاجِحِ يُقَال لَهُ خِلاَفٌ ، لاَ اخْتِلاَفٌ . قَال : وَالْحَاصِل مِنهُ ثُبُوتُ الضَّعْفِ فِي جَانِبِ الْمُخَالِفِ فِي ( الْخِلاَفِ ) ، كَمُخَالَفَةِ الإِْجْمَاعِ ، وَعَدَمِ ضَعْفِ جَانِبِهِ فِي ( الاِخْتِلاَفِ )(1).
وَقَدْ وَقَعَ فِي كَلاَمِ بَعْضِ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ عَدَمُ اعْتِبَارِ هَذَا الْفَرْقِ ، بَل يَسْتَعْمِلُونَ أَحْيَانًا اللَّفْظَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ(2)، فَكُل أَمْرَيْنِ خَالَفَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ خِلاَفًا ، فَقَدِ اخْتَلَفَا اخْتِلاَفًا . وَقَدْ يُقَال : إِنَّ الْخِلاَفَ أَعَمُّ مُطْلَقًا مِنَ الاِخْتِلاَفِ . وَيَنْفَرِدُ الْخِلاَفُ فِي مُخَالَفَةِ الإِْجْمَاعِ وَنَحْوِهِ .هَذَا وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ ( التَّنَازُعَ ) أَحْيَانَا بِمَعْنَى الاِخْتِلاَفِ .
3- الْفُرْقَةُ ، وَالتَّفَرُّقُ :
(
__________
(1) - فتح القدير 6 / 394 ، ط بولاق ، وحاشية ابن عابدين 4 / 331 ط أولى .
(2) - انظر مثلا كلام الشاطبي في الموافقات 4 / 161 وما بعدها ط المكتبة التجارية ، حيث يقول مثلا : " مراعاة الخلاف " ويقصد به ما فيه أدلة مختلف فيها . وانظر أيضا الفتاوى الهندية 3 / 312 ، حيث يقول : " إن اختلف المتقدمون على قولين ، ثم أجمع من بعدهم على أحد هذين القولين فهذا الإجماع هل يرفع الخلاف المتقدم " ، فما عبر عنه أولا بالاختلاف عبر عنه ثانيا بالخلاف . فهما شيء واحد .(1/6)
الاِفْتِرَاقُ ) ( وَالتَّفَرُّقُ ) ( وَالْفُرْقَةُ ) بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ كُل مَجْمُوعَةٍ مِنَ النَّاسِ وَحْدَهُمْ . فَفِي الْقَامُوسِ(1): الْفَرِيقُ الْقَطِيعُ مِنَ الْغَنَمِ ، وَالْفَرِيقَةُ قِطْعَةٌ مِنَ الْغَنَمِ تَتَفَرَّقُ عَنهَا فَتَذْهَبُ تَحْتَ اللَّيْل عَن جَمَاعَتِهَا . فَهَذِهِ الأَْلْفَاظُ أَخَصُّ مِنَ الاِخْتِلاَفِ .
الاِخْتِلاَفُ فِي الأُْمُورِ الاِجْتِهَادِيَّةِ ( عِلْمُ الْخِلاَفِ )
4-حَقِيقَةُ الاِخْتِلاَفِ وَأَنْوَاعُهُ :
عَلَى الْمُجْتَهِدِ تَحْقِيقُ مَوْضِعِ الاِخْتِلاَفِ ، فَإِنَّ نَقْل الْخِلاَفِ فِي مَسْأَلَةٍ لاَ خِلاَفَ فِيهَا خَطَأٌ ، كَمَا أَنَّ نَقْل الْوِفَاقِ فِي مَوْضِعِ الْخِلاَفِ لاَ يَصِحُّ(2)فَلَيْسَ كُل تَعَارُضٍ بَيْنَ قَوْلَيْنِ يُعْتَبَرُ اخْتِلاَفًا حَقِيقًا بَيْنَهُمَا ، فَإِنَّ الاِخْتِلاَفَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اخْتِلاَفًا فِي الْعِبَارَةِ ، أَوِ اخْتِلاَفَ تَنَوُّعٍ ، أَوِ اخْتِلاَفَ تَضَادٍّ . وَهَذَا الأَْخِيرُ هُوَ الاِخْتِلاَفُ الْحَقِيقِيُّ .
5 - أَمَّا الاِخْتِلاَفُ فِي الْعِبَارَةِ فَأَنْ يُعَبِّرَ كُلٌّ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ عَنِ الْمُرَادِ بِعِبَارَةٍ غَيْرِ عِبَارَةِ صَاحِبِهِ . مِثَال ذَلِكَ تَفْسِيرُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . قَال بَعْضُهُمْ : هُوَ الْقُرْآنُ ، وَقَال بَعْضُهُمْ : هُوَ الإِْسْلاَمُ . فَهَذَانِ الْقَوْلاَنِ مُتَّفِقَانِ ، لأَِنَّ دِينَ الإِْسْلاَمِ هُوَ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ . وَكَذَلِكَ قَوْل مَن قَال : هُوَ السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ .
__________
(1) - تاج العروس - (ج 1 / ص 6544)
(2) - الموافقات 4 / 215(1/7)
6 - وَأَمَّا اخْتِلاَفُ التَّنْوِيعِ ، فَأَنْ يَذْكُرَ كُلٌّ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ مِنَ الاِسْمِ الْعَامِّ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ عَلَى سَبِيل التَّمْثِيل وَتَنْبِيهِ الْمُسْتَمِعِ ، لاَ عَلَى سَبِيل الْحَدِّ الْمُطَابِقِ لِلْمَحْدُودِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ . مِثَال ذَلِكَ تَفْسِيرُ قَوْله تَعَالَى : :{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِن عِبَادِنَا فَمِنهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (32) سورة فاطر ، ثُمَّ جَعَلَ اللهُ تَعَالى القَائِمِينَ بالقُرآنِ العَظيمِ ، هُمُ الذِينَ اصْطَفَاهُمْ مِن عِبَادِهِ ، مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ، وَأَوْرَثَهُمُ الكِتَابَ . وَقَالَ تَعَالى في مَكَانٍ آخَرَ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الذِينَ اصْطَفَاهُمُ اللهُ لِلقِيَامِ بِالقُرآنِ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، وَجَعَلَهُمْ أقسَاماً ثَلاَثَةً :
- مِنهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُفَرِّطٌ فِي فِعْلِ بَعْضِ الوَاجِبَاتِ ، مُرْتَكِبٌ بَعْضَ المُحَرَّمَاتِ .
- وَمِنهُمْ مُقَتَصِدٌ ، وَهُوَ القَائِمُ بِالوَاجِبَاتِ ، التَّارِكُ لِلْمُحَرَّمَاتِ ، وَقَدْ يُقَصِّرُ في فِعْلِ بَعْضِ المُسْتَحَبَّاتِ ، وَيَفْعَلُ بَعْضَ المَكْرُوهَاتِ .
- وَمِنهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ - وَهُوَ الفَاعِلُ لِلْوَاجِبَاتِ ، وَالمُسْتَحَبَّاتِ ، التَّارِكُ لِلْمُحَرَّماتِ والمَكْرُوهَاتِ .
وَذَلِكَ المِيرَاثُ ، وَذَلِكَ الاصْطِفَاءُ ، فَضْلٌ عَظِيمٌ مِنَ اللهِ لاَ يُقَدَّرُ قَدْرُهُ .(1)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (ج 1 / ص 3573)(1/8)
قَال بَعْضُهُمْ : السَّابِقُ الَّذِي يُصَلِّي أَوَّل الْوَقْتِ ، وَالْمُقْتَصِدُ فِي أَثْنَائِهِ ، وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ الَّذِي يُؤَخِّرُ الْعَصْرَ إِلَى الاِصْفِرَارِ . وَقِيل : السَّابِقُ الْمُحْسِنُ بِالصَّدَقَةِ ، وَالْمُقْتَصِدُ بِالْبَيْعِ ، وَالظَّالِمُ بِأَكْل الرِّبَا(1).
وَاخْتِلاَفُ التَّنَوُّعِ فِي الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ قَدْ يَكُونُ فِي الْوُجُوبِ تَارَةً وَفِي الاِسْتِحْبَابِ أُخْرَى : فَالأَْوَّل مِثْل أَنْ يَجِبَ عَلَى قَوْمٍ الْجِهَادُ ، وَعَلَى قَوْمٍ الصَّدَقَةُ ، وَعَلَى قَوْمٍ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ . وَهَذَا يَقَعُ فِي فُرُوضِ الأَْعْيَانِ كَمَا مُثِّل . وَفِي فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ، وَلَهَا تَنَوُّعٌ يَخُصُّهَا ، وَهُوَ أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ عَلَى مَن لَمْ يَقُمْ بِهَا غَيْرُهُ : فَقَدْ تَتَعَيَّنُ فِي وَقْتٍ ، أَوْ مَكَانٍ ، وَعَلَى شَخْصٍ أَوْ طَائِفَةٍ كَمَا يَقَعُ مِثْل ذَلِكَ فِي الْوِلاَيَاتِ وَالْجِهَاتِ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ .
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ :" وَالتَّنَوُّعُ قَدْ يَكُونُ فِي الْوُجُوبِ تَارَةً وَفِي الِاسْتِحْبَابِ أُخْرَى . فَالْأَوَّلُ مِثْلَ مَا يَجِبُ عَلَى قَوْمٍ الْجِهَادُ وَعَلَى قَوْمٍ الزَّكَاةُ وَعَلَى قَوْمٍ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ وَهَذَا يَقَعُ فِي فُرُوضِ الْأَعْيَانِ وَفِي فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ .
__________
(1) - مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية في مجموع فتاوى ابن تيمية 13 / 337 ، والموافقات للشاطبي 4 / 214(1/9)
فَفُرُوضُ الْأَعْيَانِ مِثْلُ مَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ إقَامَةُ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ فِي مَكَانِهِ مَعَ أَهْلِ بُقْعَتِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ نَوْعِ مَالِهِ بِصَرْفِهِ إلَى مُسْتَحَقِّهِ لِجِيرَانِ مَالِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ مِن نَاحِيَتِهِ وَالْحَجُّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ مِن طَرِيقِهِ ،وَيَجِبُ عَلَيْهِ بِرُّ وَالِدَيْهِ وَصِلَتِهِ ذَوِي رَحِمِهِ وَالْإِحْسَانُ إلَى جِيرَانِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَمَالِيكِهِ وَرَعِيَّتِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِن الْأُمُورِ الَّتِي تَتَنَوَّعُ فِيهَا أَعْيَانُ الْوُجُوبِ، وَإِنْ اشْتَرَكَتْ الْأُمَّةُ فِي جِنْسِ الْوُجُوبِ ،وَتَارَةً تَتَنَوَّعُ بِالْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ كَتَنَوُّعِ صَلَاةِ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ ؛ وَالصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ وَالْآمِنِ وَالْخَائِفِ .
وَفُرُوضُ الْكِفَايَاتِ تَتَنَوَّعُ تَنَوُّعَ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، وَلَهَا تَنَوُّعٌ يَخُصُّهَا وَهُوَ أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ عَلَى مَن لَمْ يَقُمْ بِهَا غَيْرُهُ فَقَدْ تَتَعَيَّنُ فِي وَقْتٍ وَمَكَانٍ وَعَلَى شَخْصٍ أَوْ طَائِفَةٍ وَفِي وَقْتٍ آخَرَ أَوْ مَكَانٍ آخَرَ عَلَى شَخْصٍ آخَرَ أَوْ طَائِفَةٍ أُخْرَى كَمَا يَقَعُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْوِلَايَاتِ وَالْجِهَادِ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .(1/10)
وَأَمَّا فِي الِاسْتِحْبَابِ فَهُوَ أَبْلَغُ ؛ فَإِنَّ كُلَّ تَنَوُّعٍ يَقَعُ فِي الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ يَقَعُ مِثْلُهُ فِي الْمُسْتَحَبِّ وَيَزْدَادُ الْمُسْتَحَبُّ بِأَنَّ كُلَّ شَخْصٍ إنَّمَا يَسْتَحِبُّ لَهُ مِن الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ فِيهَا : « وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ ، »(1). مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَفْعَلُهُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ وَالْأَفْضَلُ لَهُ مِن الْأَعْمَالِ مَا كَانَ أَنْفَعَ لَهُ وَهَذَا يَتَنَوَّعُ تَنَوُّعًا عَظِيمًا فَأَكْثَرُ الْخَلْقِ يَكُونُ الْمُسْتَحَبُّ لَهُمْ مَا لَيْسَ هُوَ الْأَفْضَلَ مُطْلَقًا ؛ إذْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْأَفْضَلِ وَلَا يَصْبِرُونَ عَلَيْهِ إذَا قَدَرُوا عَلَيْهِ وَقَدْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ بَل قَدْ يَتَضَرَّرُونَ إذَا طَلَبُوهُ مِثْلَ مَن لَا يُمْكِنُهُ فَهْمُ الْعِلْمِ الدَّقِيقِ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ يُفْسِدُ عَقْلَهُ وَدِينَهُ أَوْ مَن لَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَلَى مَرَارَةِ الْفَقْرِ وَلَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَلَى حَلَاوَةِ الْغِنَى أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ فِتْنَةِ الْوِلَايَةِ عَن نَفْسِهِ وَالصَّبْرِ عَلَى حُقُوقِهَا .
__________
(1) - صحيح البخارى(6502 )(1/11)
وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا يَرْوِي عَن رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ " إَنَّ مِن عِبادي مِن لا يَصلُحُ إِيمانُه إلا بِالغِنَى وَلوْ أفقرتُه لَكفرَ ، وإِنَّ مِن عِبادي مَن لا يَصلُحُ إيمانُه إلا بالفقرِ وَلوْ أَغنيتُه لَكفرَ، وإِنَّ مِن عِبادي مَن لا يَصلُحُ إيمانُه إِلا بالسُّقْمِ وَلوْ أصحَحتُه لَكفرَ ، وإنَّ مِن عِبادي مِن لا يَصلُحُ إيمانُه إلا بِالصحةِ وَلوْ أسْقمتُه لَكفرَ "(1)،{ وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِأَبِي ذَرٍّ لَمَّا سَأَلَهُ الْإِمَارَةَ : « يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّى أَرَاكَ ضَعِيفًا وَإِنِّى أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِى لاَ تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلاَ تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ »(2). وَرُوِيَ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ لِلْعَبَّاسِ عَمِّهِ : يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللهِ نَفْسٌ تُنَجِّيهَا خَيْرٌ مِن إمَارَةٍ لاَ تُحْصِيهَا"(3)،وَلِهَذَا إذَا قُلْنَا : هَذَا الْعَمَلُ أَفْضَلُ فَهَذَا قَوْلٌ مُطْلَقٌ .
ثُمَّ الْمَفْضُولُ يَكُونُ أَفْضَلَ فِي مَكَانِهِ وَيَكُونُ أَفْضَلَ لِمَن لَا يَصْلُحُ لَهُ الْأَفْضَلُ مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِن الذِّكْرِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالِاعْتِبَارِ .
__________
(1) - الخطيب في تاريحه 6/15 وخلية الأولياء 1 وصفة الصفوة121 أنس والعلل المتناهية(26و27) ومسند الفردوس(8098-8100) من طرق ضعيفة ،حسن لغيره
(2) - صحيح مسلم (4824 )
(3) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 12 / ص 216) (33211) صحيح لغيره(1/12)
أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - :« أَفْضَلُ الْكَلاَمِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ وَهُوَ مِنَ الْقُرْآنِ لاَ يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ »(1). وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - " فَضْلُ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ "(2)وَقَوْلُهُ عَن اللَّهِ تعالى : « مَن شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَن مَسْأَلَتِى وَذِكْرِى أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ ثَوَابِ السَّائِلِينَ ، وَفَضْلُ كَلاَمِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلاَمِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ »(3). وَقَوْلُهُ : « وَمَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنهُ ». يَعْنِى الْقُرْآنَ.(4)، وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :إِنِّى لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فَعَلِّمْنِى شَيْئًا يُجْزِئْنِى مِنَ الْقُرْآنِ. فَقَالَ: « قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ »(5).
__________
(1) - مسند أحمد (20757) صحيح
(2) - الإبانة الكبرى لابن بطة (2002 ) والأسماء والصفات للبيهقي 237و238و239 والفتح 9/66 صحيح لغيره
(3) - سنن الدارمى(3419) والإتحاف 4/464 و5/8 حسن لغيره
(4) - مسند أحمد(22966) والإبانة الكبرى لابن بطة(2006) حسن لغيره -أذن : استمع
(5) - سنن النسائى(932 ) صحيح(1/13)
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ حَكَاهُ طَائِفَةٌ وَلَا عِبْرَةَ بِخِلَافِ جُهَّالِ الْمُتَعَبِّدَةِ . وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ فِيهَا الْقِرَاءَةُ ؛ فَإِنْ عَجَزَ عَنهَا انْتَقَلَ إلَى الذِّكْرِ وَلَا يَجْزِيه الذِّكْرُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالْمُبَدَّلُ مِنهُ أَفْضَلُ مِن الْبَدَلِ الَّذِي لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَن الْمُبَدِّلِ .(1/14)
وَأَيْضًا فَالْقِرَاءَةُ تُشْتَرَطُ لَهَا الطِّهَارَةُ الْكُبْرَى كَمَا تُشْتَرَطُ لِلصَّلَاةِ الطَّهَارَتَانِ وَالذِّكْرُ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْكُبْرَى وَلَا الصُّغْرَى فَعُلِمَ أَنَّ أَعْلَى أَنْوَاعِ ذِكْرِ اللَّهِ هُوَ الصَّلَاةُ ثُمَّ الْقِرَاءَةُ ثُمَّ الذِّكْرُ الْمُطْلَقُ ثُمَّ الذِّكْرُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ مِن قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِن الْعِبَادِ قَدْ يَنْتَفِعُ بِالذِّكْرِ فِي الِابْتِدَاءِ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِالْقِرَاءَةِ ؛ إذْ الذِّكْرُ يُعْطِيه إيمَانًا وَالْقُرْآنُ يُعْطِيه الْعِلْمَ ؛ وَقَدْ لَا يَفْهَمُهُ ؛ وَيَكُونُ إلَى الْإِيمَانِ أَحْوَجَ مِنهُ لِكَوْنِهِ قِي الِابْتِدَاءِ، وَالْقُرْآنُ مَعَ الْفَهْمِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ بِالِاتِّفَاقِ . فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ يُشْبِهُ تَنَوُّعَ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ كُلًّا مِنهُمْ بِالدِّينِ الْجَامِعِ، وَأَنْ نَعْبُدَهُ بِتِلْكَ الشِّرْعَةِ وَالْمِنهَاجِ، كَمَا أَنَّ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ كُلَّ مُسْلِمٍ مِن شَرِيعَةِ الْقُرْآنِ بِمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ إمَّا إيجَابًا وَإِمَّا اسْتِحْبَابًا وَإِنْ تَنَوَّعَتْ الْأَفْعَالُ فِي حَقِّ أَصْنَافِ الْأُمَّةِ فَلَمْ يَخْتَلِفْ اعْتِقَادُهُمْ وَلَا مَعْبُودُهُمْ وَلَا أَخْطَأَ أَحَدٌ مِنهُمْ ؛ بَل كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَلِكَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ."(1)
وَقَدْ نَظَرَ الشَّاطِبِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَحَصَرَ الْخِلاَفَ غَيْرَ الْحَقِيقِيِّ فِي عَشَرَةِ أَنْوَاعٍ .
مِنهَا : مَا تَقَدَّمَ مِنَ الاِخْتِلاَفِ فِي الْعِبَارَةِ .
__________
(1) - مجموع الفتاوى الكبرى 19 / 118 - 121(1/15)
وَمِنهَا : أَنْ لاَ يَتَوَارَدَ الْخِلاَفُ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ(1).
وَمِنهَا : اخْتِلاَفُ أَقْوَال الإِْمَامِ الْوَاحِدِ ، بِنَاءً عَلَى تَغَيُّرِ الاِجْتِهَادِ ، وَالرُّجُوعِ عَمَّا أَفْتَى بِهِ أَوَّلاً .
وَمِنهَا : أَنْ يَقَعَ الاِخْتِلاَفُ فِي الْعَمَل لاَ فِي الْحُكْمِ ، بِأَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْعَمَلَيْنِ جَائِزًا ، كَاخْتِلاَفِ الْقُرَّاءِ فِي وُجُوهِ الْقِرَاءَاتِ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقْرَءُوا بِمَا قَرَءُوا بِهِ عَلَى إِنْكَارِ غَيْرِهِ ، بَل عَلَى إِجَازَتِهِ وَالإِْقْرَارِ بِصِحَّتِهِ ، فَهَذَا لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ بِاخْتِلاَفٍ ، فَإِنَّ الْمَرْوِيَّاتِ عَلَى الصِّحَّةِ لاَ خِلاَفَ فِيهَا ، إِذِ الْكُل مُتَوَاتِرٌ .
وَهَذِهِ الأَْنْوَاعُ السَّابِقَةُ تَقَعُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ ، وَفِي اخْتِلاَفِهِمْ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ ، وَكَذَلِكَ فِي فَتَاوَى الأَْئِمَّةِ وَكَلاَمِهِمْ فِي مَسَائِل الْعِلْمِ . وَهِيَ أَنْوَاعٌ - وَإِنْ سُمِّيَتْ خِلاَفًا - إِلاَّ أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْوِفَاقِ(2).
5-الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلاِخْتِلاَفِ بِحَسَبِ أَنْوَاعِهِ :
أُمُورُ الدِّينِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهَا الْخِلاَفُ إِمَّا أُصُول الدِّينِ أَوْ فُرُوعُهُ ، وَكُلٌّ مِنهُمَا إِمَّا أَنْ يَثْبُتَ بِالأَْدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ أَوْ لاَ . فَهِيَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ :
__________
(1) - الموافقات 4 / 216 ، وانظر لتحقيق المسألة : العضد على مختصر ابن الحاجب .
(2) - الموافقات 4 / 217(1/16)
النَّوْعُ الأَْوَّل : أُصُول الدِّينِ الَّتِي تَثْبُتُ بِالأَْدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ ، كَوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتِهِ ، وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ أُمُورٌ لاَ مَجَال فِيهَا لِلاِخْتِلاَفِ ، مَن أَصَابَ الْحَقَّ فِيهَا فَهُوَ مُصِيبٌ ، وَمَن أَخْطَأَهُ فَهُوَ كَافِرٌ(1).
النَّوْعُ الثَّانِي : بَعْضُ مَسَائِل أُصُول الدِّينِ ، مِثْل مَسْأَلَةِ رُؤْيَةِ اللَّهِ فِي الآْخِرَةِ ، وَخَلْقِ الْقُرْآنِ ، وَخُرُوجِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ ، وَمَا يُشَابِهُ ذَلِكَ ، فَقِيل يَكْفُرُ الْمُخَالِفُ ، وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيُّ . فَمِن أَصْحَابِهِ مَن حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ . وَمِنهُمْ مَن حَمَلَهُ عَلَى كُفْرَانِ النِّعَمِ(2).
وَشَرْطُ عَدَمِ التَّكْفِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُخَالِفُ مُصَدِّقًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - . وَالتَّكْذِيبُ الْمُكَفِّرُ أَنْ يَنْفِيَ وُجُودَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُول وَيَزْعُمَ أَنَّ مَا قَالَهُ كَذِبٌ مَحْضٌ أَرَادَ بِهِ صَرْفَ النَّاسِ عَن شَيْءٍ يُرِيدُهُ ، كَذَا قَال الْغَزَالِيُّ(3).
النَّوْعُ الثَّالِثُ : الْفُرُوعُ الْمَعْلُومَةُ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَفَرْضِيَّةِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، وَحُرْمَةِ الزِّنَا ، فَهَذَا لَيْسَ مَوْضِعًا لِلْخِلاَفِ . وَمَن خَالَفَ فِيهِ فَقَدْ كَفَرَ(4)
__________
(1) - فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة .
(2) - إرشاد الفحول ص260 ط مصطفى الحلبي وكشف الخفاء 1 / 65 ، والمغني 2 / 417 ط الأولى بالمنار .
(3) - فيصل التفرقة للغزالي .
(4) - إرشاد الفحول ص 261 ط مصطفي الحلبي .(1/17)
النَّوْعُ الرَّابِعُ : الْفُرُوعُ الاِجْتِهَادِيَّةُ الَّتِي قَدْ تَخْفَى أَدِلَّتُهَا . فَهَذِهِ الْخِلاَفُ فِيهَا وَاقِعٌ فِي الأُْمَّةِ . وَيُعْذَرُ الْمُخَالِفُ فِيهَا ؛ لِخَفَاءِ الأَْدِلَّةِ أَوْ تَعَارُضِهَا ، أَوِ الاِخْتِلاَفِ فِي ثُبُوتِهَا . وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمُرَادُ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ إِذَا قَالُوا : فِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ . وَهُوَ مَوْضُوعُ هَذَا الْبَحْثِ عَلَى أَنَّهُ الْخِلاَفُ الْمُعْتَدُّ بِهِ فِي الأُْمُورِ الْفِقْهِيَّةِ .
فَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ فَخَالَفَهُ ، فَإِنَّهُ مَعْذُورٌ بَعْدَ بَذْل الْجَهْدِ ، وَيُعْذَرُ أَتْبَاعُهُ فِي تَرْكِ رَأْيِهِ أَخْذًا بِالدَّلِيل الصَّحِيحِ الَّذِي تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ(1).
فَهَذَا النَّوْعُ لاَ يَصِحُّ اعْتِمَادُهُ خِلاَفًا فِي الْمَسَائِل الشَّرْعِيَّةِ ، لأَِنَّهُ اجْتِهَادٌ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا ، وَإِنَّمَا يُعَدُّ فِي مَسَائِل الْخِلاَفِ الأَْقْوَال الصَّادِرَةُ عَن أَدِلَّةٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي الشَّرِيعَةِ(2)
6-أَدِلَّةُ جَوَازِ الاِخْتِلاَفِ فِي الْمَسَائِل الْفَرْعِيَّةِ :
__________
(1) - مستخلص من رسالة ابن تيمية " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " مطبوعة مع مجموع فتاوى ابن تيمية 19 / 232 ، 250 - 257
(2) - الموافقات 4 / 168(1/18)
أَوَّلاً : مَا وَقَعَ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ(1): رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ :« لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ » . فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِى الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نُصَلِّى حَتَّى نَأْتِيَهَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَل نُصَلِّى لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ . فَذُكِرَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنهُمْ(2).
ثَانِيًا : اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ فِي مَسَائِل تَنَازَعُوا فِيهَا عَلَى إِقْرَارِ كُل فَرِيقٍ لِلْفَرِيقِ الآْخَرِ عَلَى الْعَمَل بِاجْتِهَادِهِمْ ، كَمَسَائِل فِي الْعِبَادَاتِ وَالنِّكَاحِ وَالْمَوَارِيثِ وَالْعَطَاءِ وَالسِّيَاسَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ(3).
7-الاِخْتِلاَفُ فِيمَا لاَ فَائِدَةَ فِيهِ :
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ :" قَدْ يَقَعُ الاِخْتِلاَفُ فِي أَلْفَاظٍ مِن تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مَا لاَ مُسْتَنَدَ لَهُ مِنَ النَّقْل عَنِ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - أَوْ بِنَقْلٍ لاَ يُمْكِنُ تَمْيِيزُ الصَّحِيحِ مِنهُ مِنَ الضَّعِيفِ ، وَدُونَ اسْتِدْلاَلٍ مُسْتَقِيمٍ . وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الاِخْتِلاَفِ لاَ فَائِدَةَ مِنَ الْبَحْثِ عَنهُ ، وَالْكَلاَمُ فِيهِ مِن فُضُول الْكَلاَمِ . وَأَمَّا مَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ فِيهِ دَلِيلاً .
__________
(1) - فواتح الرحموت - (ج 2 / ص 345) وشرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام - (ج 1 / ص 4)
(2) - صحيح البخارى (946 )
(3) - مجموع الفتاوى لابن تيمية 9 / 123(1/19)
فَمِثَال مَا لاَ فَائِدَةَ فِيهِ اخْتِلاَفُهُمْ فِي أَصْحَابِ الْكَهْفِ ، وَفِي الْبَعْضِ الَّذِي ضَرَبَ بِهِ مُوسَى مِنَ الْبَقَرَةِ ، وَمِقْدَارِ سَفِينَةِ نُوحٍ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ الأُْمُورُ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهَا النَّقْل . فَمَا كَانَ مِن هَذَا مَنقُولاً نَقْلاً صَحِيحًا ، كَاسْمِ صَاحِبِ مُوسَى أَنَّهُ الْخَضِرُ ، فَهَذَا مَعْلُومٌ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَل كَانَ مِمَّا يُنْقَل عَن أَهْل الْكِتَابِ كَكَعْبٍ وَوَهْبٍ ، فَهَذَا لاَ يَجُوزُ تَصْدِيقُهُ وَلاَ تَكْذِيبُهُ إِلاَّ بِحُجَّةٍ(1).
8-الاِخْتِلاَفُ الْجَائِزُ هَل هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْوِفَاقِ :
يَرَى الشَّاطِبِيُّ أَنَّ مَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْخِلاَفِ فِي ظَاهِرِ الأَْمْرِ يَرْجِعُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى الْوِفَاقِ . فَإِنَّ الاِخْتِلاَفَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل الْفِقْهِيَّةِ رَاجِعٌ إِمَّا إِلَى دَوَرَانِهَا بَيْنَ طَرَفَيْنِ وَاضِحَيْنِ يَتَعَارَضَانِ فِي أَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَإِمَّا إِلَى خَفَاءِ بَعْضِ الأَْدِلَّةِ ، أَوْ إِلَى عَدَمِ الاِطِّلاَعِ عَلَى الدَّلِيل .
وَهَذَا الثَّانِي لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ خِلاَفًا ، إِذْ لَوْ فَرَضْنَا اطِّلاَعَ الْمُجْتَهِدِ عَلَى مَا خَفِيَ عَلَيْهِ لَرَجَعَ عَن قَوْلِهِ ، فَلِذَا يُنْقَضُ لأَِجْلِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي .
__________
(1) - مقدمة في أصول التفسير ص 13 وما بعدها ط مطبعة الترقي بدمشق و مجموع الفتاوى - (ج 13 / ص 345) و (ج 3 / ص 194)(1/20)
أَمَّا الأَْوَّل فَإِنَّ تَرَدُّدَهُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ تَحَرٍّ لِقَصْدِ الشَّارِعِ الْمُبْهَمِ بَيْنَهُمَا مِن كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَاتِّبَاعٌ لِلدَّلِيل الْمُرْشِدِ إِلَى تَعَرُّفِ قَصْدِهِ . وَقَدْ تَوَافَقُوا فِي هَذَيْنِ الْقَصْدَيْنِ تَوَافُقًا لَوْ ظَهَرَ مَعَهُ لِكُل وَاحِدٍ مِنهُمَا خِلاَفُ مَا رَآهُ لَرَجَعَ إِلَيْهِ ، وَلَوَافَقَ صَاحِبَهُ . وَسَوَاءٌ قُلْنَا بِالتَّخْطِئَةِ أَوْ بِالتَّصْوِيبِ ، إِذْ لاَ يَصِحُّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْمَل عَلَى قَوْل غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مُصِيبًا أَيْضًا .
فَالإِْصَابَةُ عَلَى قَوْل الْمُصَوِّبَةِ إِضَافِيَّةٌ . فَرَجَعَ الْقَوْلاَنِ إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ . فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُتَّفِقُونَ لاَ مُخْتَلِفُونَ . وَمِن هُنَا يَظْهَرُ وَجْهُ التَّحَابِّ وَالتَّآلُفِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَسَائِل الاِجْتِهَادِ ؛ لأَِنَّهُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَى طَلَبِ قَصْدِ الشَّارِعِ ، فَلَمْ يَصِيرُوا شِيَعًا ، وَلاَ تَفَرَّقُوا فِرَقًا(1).
__________
(1) - الموافقات4 / 220(1/21)
هَذَا وَقَدْ سَلَكَ الشَّعْرَانِيُّ مَسْلَكًا آخَرَ فِي إِرْجَاعِ مَسَائِل الْخِلاَفِ إِلَى الْوِفَاقِ ، بِأَنْ يُحْمَل كُل قَوْلٍ مِن أَقْوَال الْمُخْتَلِفِينَ عَلَى حَالٍ مِن أَحْوَال الْمُكَلَّفِينَ . فَمَن قَال مِنَ الأَْئِمَّةِ : بِأَنَّ الأَْمْرَ فِي بَابٍ مِن أَبْوَابِ الْعِبَادَةِ لِلْوُجُوبِ ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَقَال : إِنَّهُ لِلنَّدْبِ ، وَكَذَلِكَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي النَّهْيِ بِأَنَّهُ لِلْكَرَاهَةِ أَوْ لِلتَّحْرِيمِ ، فَلِكُلٍّ مِنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ رِجَالٌ ، فَمَن قَوِيَ مِنهُمْ مِن حَيْثُ إِيمَانُهُ وَجِسْمُهُ خُوطِبَ بِالْعَزِيمَةِ وَالتَّشْدِيدِ الْوَارِدِ فِي الشَّرِيعَةِ صَرِيحًا أَوْ ضِمْنًا . وَمَن ضَعُفَ مِنهُمْ خُوطِبَ بِالرُّخْصَةِ .فَالْمَرْتَبَتَانِ عِنْدَهُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْوُجُوبِيِّ لاَ التَّخْيِيرِ(1).
9-الاِخْتِلاَفُ الْفِقْهِيُّ هَل هُوَ رَحْمَةٌ؟(2):
__________
(1) - الميزان الكبرى ص 6
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 2 / ص 295) والموافقات للشاطبي 4/125(1/22)
الْمَشْهُورُ أَنَّ اخْتِلاَفَ مُجْتَهِدِي الأُْمَّةِ فِي الْفُرُوعِ رَحْمَةٌ لَهَا وَسَعَةٌ(1). وَالَّذِينَ صَرَّحُوا بِذَلِكَ احْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا مَهْمَا أُوتِيتُمْ مِن كِتَابِ اللَّهِ فَالْعَمَل بِهِ لاَ عُذْرَ لأَِحَدٍ فِي تَرْكِهِ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَسُنَّةٌ مِنِّي مَاضِيَةٌ . فَإِنْ لَمْ تَكُنْ سُنَّةٌ مِنِّي فَمَا قَال أَصْحَابِي . إِنَّ أَصْحَابِي بِمَنزِلَةِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ ، فَأَيُّمَا أَخَذْتُمْ بِهِ اهْتَدَيْتُمْ ، وَاخْتِلاَفُ أَصْحَابِي لَكُمْ رَحْمَةٌ(2). وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا وَجُعِل اخْتِلاَفُ أُمَّتِي رَحْمَةً وَكَانَ فِيمَن كَانَ قَبْلَنَا عَذَابًا(3).
وَاسْتَأْنَسُوا لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَن بَعْضِ التَّابِعِينَ مِن مِثْل قَوْل الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ : لَقَدْ نَفَعَ اللَّهُ بِاخْتِلاَفِ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَعْمَالِهِمْ ، لاَ يَعْمَل الْعَامِل بِعَمَل رَجُلٍ مِنهُمْ إِلاَّ رَأَى أَنَّهُ فِي سَعَةٍ ، وَرَأَى أَنَّ خَيْرًا مِنهُ قَدْ عَمِلَهُ(4).
__________
(1) - الموافقات 4 / 125 ، ورحمة الأمة في اختلاف الأئمة .
(2) - المدخل إلى السنن الكبرى(113 ) والخطيب فى الكفاية فى علم الرواية (1/48) ، وابن عساكر (22/359) ، والديلمى (4/160 ، رقم 6497) وسنده ضعيف جدا
(3) - قلت : لم يرد من طريق يعول عليه ، فلا أصل له في المرفوع ، جامع الأحاديث - (ج 2 / ص 40) برقم(874) والمقاصد الحسنة للسخاوي - (ج 1 / ص 58) وكشف الخفاء من المحدث - (ج 1 / ص 73) المنثور في القواعد - (ج 3 / ص 34) والبحر المحيط - (ج 8 / ص 140) وقواطع الأدلة فى الأصول / للسمعانى - (ج 3 / ص 384)
(4) - جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر برقم(1052 ) وهو صحيح مقطوع(1/23)
وَعَن عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ : مَا أُحِبُّ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ لَمْ يَخْتَلِفُوا ؛ لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلاً وَاحِدًا كَانَ النَّاسُ فِي ضِيقٍ ، وَأَنَّهُمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ ، فَلَوْ أَخَذَ أَحَدٌ بِقَوْل رَجُلٍ مِنهُمْ كَانَ فِي سَعَةٍ.(1)
وَعَن يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَال : اخْتِلاَفُ أَهْل الْعِلْمِ تَوْسِعَةٌ ، وَمَا بَرِحَ الْمُفْتُونَ يَخْتَلِفُونَ ، فَيُحَلِّل هَذَا وَيُحَرِّمُ هَذَا ، فَلاَ يَعِيبُ هَذَا عَلَى هَذَا ، وَلاَ هَذَا عَلَى هَذَا(2)
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ : الاِخْتِلاَفُ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ - لاَ مُطْلَقِ الاِخْتِلاَفِ - مِن آثَارِ الرَّحْمَةِ فَإِنَّ اخْتِلاَفَهُمْ تَوْسِعَةٌ لِلنَّاسِ . قَال : فَمَهْمَا كَانَ الاِخْتِلاَفُ أَكْثَرَ كَانَتِ الرَّحْمَةُ أَوْفَرَ(3).
__________
(1) - جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر - (ج 3 / ص 120) والموافقات في أصول الشريعة - (ج 3 / ص 79و83) وبرقم(1055 ) وهو صحيح مقطوع
(2) - المقاصد الحسنة للسخاوي - (ج 1 / ص 58) برقم (39) وكشف الخفاء من المحدث - (ج 1 / ص 73)برقم(153 ) وهو صحيح عنه
(3) - حاشية ابن عابدين 1 / 46(1/24)
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ لَيْسَتْ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَن مَالِكٍ أَنَّهُ قَال . لَيْسَ فِي اخْتِلاَفِ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَعَةٌ ، وَإِنَّمَا الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ(1). وَقَال الْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ : قَدْ ذَمَّ اللَّهُ الِاخْتِلَافَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ ، وَلَوْ كَانَ مِن دِينِهِ مَا ذَمَّهُ ، وَلَوْ كَانَ التَّنَازُعُ مِن حُكْمِهِ مَا رَدَّهُ إلَى كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ، وَلَا أَمَرَ بِإِمْضَاءِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ عَلَى مَا هُمَا بِهِ ، وَمَا حَذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ أُمَّتَهُ مِن الْفُرْقَةِ وَأَمَرَهَا بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ ..(2).
وَتَوَسَّطَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بَيْنَ الاِتِّجَاهَيْنِ ، فَرَأَى أَنَّ الاِخْتِلاَفَ قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً ، وَقَدْ يَكُونُ عَذَابًا . قَال : النِّزَاعُ فِي الْأَحْكَامِ قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً إذَا لَمْ يُفْضِ إلَى شَرٍّ عَظِيمٍ مِن خَفَاءِ الْحُكْمِ ؛ وَلِهَذَا صَنَّفَ رَجُلٌ كِتَابًا سَمَّاهُ " كِتَابُ الِاخْتِلَافِ " فَقَالَ أَحْمَد : سَمِّهِ " كِتَابَ السِّعَةِ " وَإِنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاحِدٌ وَقَدْ يَكُونُ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ بِبَعْضِ النَّاسِ خَفَاؤُهُ لِمَا فِي ظُهُورِهِ مِن الشِّدَّةِ عَلَيْهِ وَيَكُونُ مِن بَابِ قَوْله تَعَالَى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَن أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (101) سورة المائدة.
__________
(1) - الموافقات 4 / 129
(2) - البحر المحيط - (ج 6 / ص 203) والموافقات في أصول الشريعة - (ج 3 / ص 75)(1/25)
وَهَكَذَا مَا يُوجَدُ فِي الْأَسْوَاقِ مِنَ الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ قَدْ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَغْصُوبًا ،فَإِذَا لَمْ يَعْلَمُ الْإِنْسَان بِذَلِكَ كَانَ كُلُّهُ لَهُ حَلَالًا لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ بِحَالِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ فَخَفَاءُ الْعِلْمِ بِمَا يُوجِبُ الشِّدَّةَ قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً كَمَا أَنَّ خَفَاءَ الْعِلْمِ بِمَا يُوجِبُ الرُّخْصَةَ قَدْ يَكُونُ عُقُوبَةً كَمَا أَنَّ رَفْعَ الشَّكِّ قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً وَقَدْ يَكُونُ عُقُوبَةً . وَالرُّخْصَةُ رَحْمَةٌ ،وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهُ النَّفْسِ أَنْفَعَ كَمَا فِي الْجِهَادِ : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (216) سورة البقرة(1).
قلت : الاختلاف رحمة وسيبقى إلى قيام الساعة وذلك للأسباب التالية :
1- يستحيل إزالة أسباب الخلاف إزالة تامة، لأنه يرجع إلى النصوص نفسها فغالبها ليس قطعي الدلالة بل ظني الدلالة .
2- لو شاء الله تعالى لجعل نصوص الشريعة كلها قطعية الدلالة ،لا تحتمل أكثر من معنى ، ولكن لم يشأ ذلك ، فكيف نزيل الخلاف ؟
3- قول ابن حزم رحمه الله ، إذا كان الاختلاف رحمة كان الاتفاق سخطاً ، فهذا الثاني غير لازم قطعاً ولا مراد والاختلاف من طبيعة البشر والحياة والنصوص ، فمن أراد أن يزيله فليغير طبيعة البشر والحياة والنصوص حتى يتسنَّى له ذلك ، ولا يقدر على هذا إلا الله وحده .
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 14 / ص 159)(1/26)
10-أَسْبَابُ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ(1):
الاِخْتِلاَفُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَن هَوًى ، أَوْ عَنِ الاِجْتِهَادِ الْمَأْذُونِ فِيهِ .
فَأَمَّا مَا كَانَ نَاشِئًا عَن هَوًى فَهُوَ مَوْضِعُ الذَّمِّ ،قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (135) سورة النساء ، وقال تعالى : { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (26) سورة ص.
إِذْ أَنَّ الْفَقِيهَ تَابِعٌ لِمَا تَدُل عَلَيْهِ الأَْدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ فَإِنْ صَرَفَ الأَْدِلَّةَ إِلَى مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ فَقَدْ جَعَل الأَْدِلَّةَ تَابِعَةً لِهَوَاهُ(2).( وهذا من أكبر الكبائر )
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 3703) و (ج 10 / ص 822) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 5 / ص 161) والموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 2 / ص 296) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 64)
(2) - إحياء علوم الدين ط المكتبة التجارية 1 / 42(1/27)
وَذَكَرَ الشَّاطِبِيُّ أَنَّ الْخِلاَفَ النَّاشِئَ عَنِ الْهَوَى هُوَ الْخِلاَفُ حَقِيقَةً(1). وَإِذَا دَخَل الْهَوَى أَدَّى إِلَى اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ حِرْصًا عَلَى الْغَلَبَةِ وَالظُّهُورِ بِإِقَامَةِ الْعُذْرِ فِي الْخِلاَفِ ، وَأَدَّى إِلَى الْفُرْقَةِ وَالْبَغْضَاءِ ، لاِخْتِلاَفِ الأَْهْوَاءِ وَعَدَمِ اتِّفَاقِهَا . فَأَقْوَال أَهْل الأَْهْوَاءِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا فِي الْخِلاَفِ الْمُقَرَّرِ فِي الشَّرْعِ وَإِنَّمَا يَذْكُرُهَا بَعْضُ النَّاسِ لِيَرُدُّوا عَلَيْهَا وَيُبَيِّنُوا فَسَادَهَا ، كَمَا فَعَلُوا بِأَقْوَال الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِيُوَضِّحُوا مَا فِيهَا(2).
أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ الاِخْتِلاَفُ النَّاشِئُ عَن الاِجْتِهَادِ الْمَأْذُونِ فِيهِ فَلَهُ أَسْبَابٌ مُخْتَلِفَةٌ ، يَتَعَرَّضُ لَهَا الأُْصُولِيُّونَ لِمَامًا . وَقَدْ أَفْرَدَهَا بِالتَّأْلِيفِ قَدِيمًا وَحَاوَل الْوُصُول إِلَى حَصْرٍ لَهَا ابْنُ السَّيِّدِ الْبَطْلَيُوسِيُّ فِي كِتَابِهِ " الإِْنْصَافِ فِي أَسْبَابِ الْخِلاَفِ " وَابْنُ رُشْدٍ فِي مُقَدِّمَةِ " بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ " وَابْنُ حَزْمٍ فِي " الإِْحْكَامِ " وَالدَّهْلَوِيُّ فِي " الإِْنْصَافِ " وَغَيْرُهُمْ . وَيَرْجِعُ الاِخْتِلاَفُ إِمَّا إِلَى الدَّلِيل نَفْسِهِ ، وَإِمَّا إِلَى الْقَوَاعِدِ الأُْصُولِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ .
11-أَسْبَابُ الْخِلاَفِ الرَّاجِعِ إِلَى الدَّلِيل(3):
مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ السَّيِّدِ مِن ذَلِكَ :
__________
(1) - يعني أنه لا يرجع الوفاق كالخلاف الناشئ من نظر المجتهدين من أهل الحق في الأدلة ، إذ أنهم يلتزمون بمقتضى الدليل كما تقدم .
(2) - الموافقات 4 / 222 - 224
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 2 / ص 297) و الموافقات في أصول الشريعة - (ج 3 / ص 146)(1/28)
1 - الإِْجْمَال فِي الأَْلْفَاظِ وَاحْتِمَالُهَا لِلتَّأْوِيلاَتِ .
2 - دَوَرَانُ الدَّلِيل بَيْنَ الاِسْتِقْلاَل بِالْحُكْمِ وَعَدَمِهِ .
3 - دَوَرَانُهُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ، نَحْوُ قوله تعالى :{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ..} (256) سورة البقرة، اخْتُلِفَ فِيهِ هَل هُوَ عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ بِأَهْل الْكِتَابِ الَّذِينَ قَبِلُوا الْجِزْيَةَ .
4 - اخْتِلاَفُ الْقِرَاءَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَاخْتِلاَفُ الرِّوَايَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ .
5 - دَعْوَى النَّسْخِ وَعَدَمِهِ(1).
6 - عَدَمُ اطِّلاَعِ الْفَقِيهِ عَلَى الْحَدِيثِ الْوَارِدِ أَوْ نِسْيَانِهِ لَهُ .
12-أَسْبَابُ الْخِلاَفِ الرَّاجِعِ إِلَى الْقَوَاعِدِ الأُْصُولِيَّةِ :
مِنَ الْعُسْرِ بِمَكَانٍ حَصْرُ الأَْسْبَابِ الَّتِي مِن هَذَا النَّوْعِ ، فَكُل قَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ مُخْتَلَفٌ فِيهَا يَنْشَأُ عَنهَا اخْتِلاَفٌ فِي الْفُرُوعِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَيْهَا .
الإِْنْكَارُ وَالْمُرَاعَاةُ فِي الْمَسَائِل الْخِلاَفِيَّةِ :
أَوَّلاً : الإِْنْكَارُ فِي الْمَسَائِل الْخِلاَفِيَّةِ :
ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ قَاعِدَةَ : " لاَ يُنْكَرُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ وَلَكِنْ يُنْكَرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ " . وَقَال إِنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنهَا صُوَرٌ يُنْكَرُ فِيهَا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَذْهَبُ بَعِيدَ الْمَأْخَذِ . وَمِن ثَمَّ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِوَطْءِ الأَْمَةِ الْمَرْهُونَةِ وَلَمْ يُنْظَرْ لِلْخِلاَفِ الشَّاذِّ فِي ذَلِكَ .
__________
(1) - الموافقات 4 / 213(1/29)
الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَرَافَعَ فِيهِ لِحَاكِمٍ ، فَيَحْكُمَ بِعَقِيدَتِهِ . إِذْ لاَ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِخِلاَفِ مُعْتَقَدِهِ .
الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ لِلْمُنْكِرِ فِيهِ حَقٌّ ، كَالزَّوْجِ الْمُسْلِمِ يَمْنَعُ زَوْجَتَهُ الذِّمِّيَّةَ مِن شُرْبِ الْخَمْرِ بِالرَّغْمِ مِن وُجُودِ خِلاَفٍ فِي حَقِّهِ بِمَنعِهَا وَعَدَمِهِ(1).
وَذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي الأُْمُورِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَ الْحِل وَالتَّحْرِيمِ أَنَّ مُخَالِفَهُ قَدِ ارْتَكَبَ ( الْحَرَامَ ) فِي نَحْوِ حديث : « لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ »(2). وَلَكِنْ لاَ يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ وَاللَّعْنُ إِنْ كَانَ قَدِ اجْتَهَدَ الاِجْتِهَادَ الْمَأْذُونَ فِيهِ . بَل هُوَ مَعْذُورٌ مُثَابٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ .وَكَذَلِكَ مَن قَلَّدَهُ التَّقْلِيدَ السَّائِغَ(3).
ثَانِيًا : مُرَاعَاةُ الْخِلاَفِ(4):
__________
(1) - المنثور في القواعد - (ج 4 / ص 67) والأشباه والنظائر - (ج 1 / ص 285) و فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 3531)
(2) - سنن أبى داود(2078) صحيح
(3) - رفع الملام، ومجموع الفتاوى 19 / 278، وما بعدها .
(4) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 84) والمنثور في القواعد - (ج 2 / ص 122) وغمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر - (ج 3 / ص 104) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 4 / ص 276) والموافقات في أصول الشريعة - (ج 1 / ص 331)(1/30)
يُرَادُ بِمُرَاعَاةِ الْخِلاَفِ أَنَّ مَن يَعْتَقِدُ جَوَازَ الشَّيْءِ يَتْرُكُ فِعْلَهُ إِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا . كَذَلِكَ فِي جَانِبِ الْوُجُوبِ يُسْتَحَبُّ لِمَن رَأَى إِبَاحَةَ الشَّيْءِ أَنْ يَفْعَلَهُ إِنْ كَانَ مِنَ الأَْئِمَّةِ مَن يَرَى وُجُوبَهُ . كَمَن يَعْتَقِدُ عَدَمَ وُجُوبِ الْوِتْرِ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى عَدَمِ تَرْكِهِ ، خُرُوجًا مِن خِلاَفِ مَن أَوْجَبَهُ . وَلاَ يَتَأَتَّى مِمَّنِ اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ مُرَاعَاةُ قَوْل مَن يَرَى التَّحْرِيمَ ، وَلاَ مِمَّنِ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ مُرَاعَاةُ قَوْل مَن يَرَى الْوُجُوبَ .
حُكْمُ مُرَاعَاةِ الْخِلاَفِ(1):
ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْخِلاَفِ مُسْتَحَبٌّ .
__________
(1) - فتاوى معاصرة - (ج 1 / ص 19) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 9908) الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 2 / ص 298) والأشباه والنظائر - (ج 1 / ص 246) وكتب وليد بن راشد السعيدان - (ج 2 / ص 32)(1/31)
قلت : " إن الخروج من الخلاف بالأخذ بالأحوط في الأحكام الشرعية مستحب، ويكون الخروج من الخلاف بفعل ما اختلف في وجوبه، وترك ما اختلف في تحريمه ، وذلك اتقاء للشبهة لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ :« إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَن وَقَعَ فِى الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِى الْحَرَامِ كَالرَّاعِى يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلاَ وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ »(1). وعَن عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِيِنِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَن وَقَعَ فِى الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى ، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ . أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِى أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ ، أَلاَ وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ . أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ »(2)
__________
(1) - صحيح مسلم(4178 )
(2) - صحيح البخارى (52 )(1/32)
فلا شك أن صلاة اتفق الأئمة على صحتها أولى من صلاة قال الجمهور ببطلانها، فتجديد صاحب السلس للوضوء عند كل صلاة مستحب عند المالكية كما قال صاحب الرسالة، وهو واجب عند غيرهم إلا في حال الجمع فالأولى الخروج من الخلاف بالأخذ بالأحوط في هذا وهو تجديد الوضوء"(1).
شُرُوطُ الْخُرُوجِ مِن الْخِلاَفِ :
قَال السُّيُوطِيُّ : لِمُرَاعَاةِ الْخِلاَفِ شُرُوطٌ :
أَحَدُهَا : أَنْ لاَ تُوقِعَ مُرَاعَاتُهُ فِي خِلاَفٍ آخَرَ .
الثَّانِي : أَنْ لاَ يُخَالِفَ سُنَّةً ثَابِتَةً وَمِن ثَمَّ سُنَّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلاَةِ(2). وَلَمْ يُبَال بِقَوْل مَن قَال بِإِبْطَالِهِ الصَّلاَةَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ ؛ لأَِنَّهُ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن رِوَايَةِ خَمْسِينَ صَحَابِيًّا .
الثَّالِثُ : أَنْ يَقْوَى مُدْرَكُهُ - أَيْ دَلِيلُهُ - بِحَيْثُ لاَ يُعَدُّ هَفْوَةً . وَمِن ثَمَّ كَانَ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَفْضَل لِمَن قَوِيَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُبَال بِقَوْل دَاوُدَ : إِنَّهُ لاَ يَصِحُّ(3).
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ فِي هَذَا الشَّرْطِ الثَّالِثِ : أَنْ يَقْوَى مُدْرَكُهُ بِأَنْ يَقِفَ الذِّهْنُ عِنْدَهُ ، لاَ بِأَنْ تَنْهَضَ حُجَّتُهُ(4).
أَمْثِلَةٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْخِلاَفِ :
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 1051) رقم الفتوى 71228 مسائل فقهية متنوعة تاريخ الفتوى : 26 ذو الحجة 1426
(2) - انظر موطأ مالك برقم (165) وسنن النسائى برقم (891 ) وسنن ابن ماجه برقم(909) ومعرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني برقم(4701) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 8425) ونظم المتناثر - (ج 1 / ص 85) برقم( 67)
(3) - الأشباه والنظائر للسيوطي ط الحلبي ص 136، 137
(4) - تحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 7 / ص 336)(1/33)
جَمَعَ السُّيُوطِيُّ لِذَلِكَ أَمْثِلَةً مِن فِقْهِ الشَّافِعِيَّةِ مِنهَا(1):
1 - أَمْثِلَةٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِن خِلاَفِ مَن يَقُول بِالْوُجُوبِ : اسْتِحْبَابُ الدَّلْكِ فِي الطَّهَارَةِ ، وَاسْتِيعَابُ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ ، وَالتَّرْتِيبُ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ ، وَتَرْكُ الأَْدَاءِ خَلْفَ مَن يُصَلِّي الْقَضَاءَ ، وَتَرْكُ الْقَصْرِ فِيمَا دُونَ ثَلاَثِ مَرَاحِل ، وَتَرْكُ الْجَمْعِ ، وَقَطْعُ الْمُتَيَمِّمِ الصَّلاَةَ إِذَا رَأَى الْمَاءَ .
2 - أَمْثِلَةٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِن خِلاَفِ مَن يَقُول بِالتَّحْرِيمِ : كَرَاهَةُ الْحِيَل فِي بَابِ الرِّبَا ، وَكَرَاهَةُ نِكَاحِ الْمُحَلِّل ، وَكَرَاهَةُ مُفَارَقَةِ الإِْمَامِ بِلاَ عُذْرٍ ، وَكَرَاهَةُ صَلاَةِ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ .(2)
وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَمْثِلَةً مِنهَا : نَدْبُ الْوُضُوءِ لِلْخُرُوجِ مِن خِلاَفِ الْعُلَمَاءِ ، كَمَا فِي مَسِّ الذَّكَرِ أَوِ الْمَرْأَةِ .(3)
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُغْنِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ : اسْتِحْبَابَ السُّجُودِ عَلَى الأَْنْفِ خُرُوجًا مِن خِلاَفِ مَن أَوْجَبَهُ .(4)
وَذَكَرَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ : أَنَّهُ لاَ تُكْرَهُ الْبَسْمَلَةُ فِي الْفَرْضِ إِذَا قَصَدَ بِهَا الْخُرُوجَ مِن خِلاَفِ مَن أَوْجَبَهَا(5).
مُرَاعَاةُ الْخِلاَفِ فِيمَا بَعْدَ وُقُوعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ :
__________
(1) - الأشباه والنظائر - (ج 1 / ص 246)
(2) - حاشية ابن عابدين 1 / 99، 100، وتحفة المحتاج لابن حجر بحاشية الشرواني 2 / 242، والأشباه والنظائر ص 122 ط المكتبة التجارية 1359 هـ / 3 299 / 3
(3) - حاشية ابن عابدين 1 / 61
(4) - المغني 1 / 560 و و شرح زاد المستقنع - (ج 34 / ص 20)
(5) - منح الجليل 1/160(1/34)
ذَكَرَ الشَّاطِبِيُّ نَوْعًا آخَرَ مِن مُرَاعَاةِ الْخِلاَفِ(1). وَذَلِكَ فِيمَا لَوِ ارْتَكَبَ الْمُكَلَّفُ فِعْلاً مُخْتَلَفًا فِي تَحْرِيمِهِ وَجَوَازِهِ ، فَقَدْ يَنْظُرُ الْمُجْتَهِدُ الَّذِي يَرَى تَحْرِيمَ هَذَا الْفِعْل ، فَيُجِيزُ مَا وَقَعَ مِنَ الْفَسَادِ " عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ بِالْعَدْل ، نَظَرًا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْل وَافَقَ فِيهِ الْمُكَلَّفُ دَلِيلاً عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا ، فَهُوَ رَاجِحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِبْقَاءِ الْحَالَةِ عَلَى مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ أَوْلَى مِن إِزَالَتِهَا ، مَعَ دُخُول ضَرَرٍ عَلَى الْفَاعِل أَشَدَّ مِن مُقْتَضَى النَّهْيِ " .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 2 / ص 299) والموافقات في أصول الشريعة - (ج 3 / ص 141)(1/35)
وَضَرَبَ مَثَلاً لِذَلِكَ بِالنِّكَاحِ بِلاَ وَلِيٍّ(1). فَفِي الْحَدِيثِ « أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ».
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 32 / ص 21) وفتاوى الأزهر - (ج 7 / ص 174) والفتاوى الكبرى - (ج 3 / ص 453) و(ج 8 / ص 259) و (ج 8 / ص 282) و (ج 8 / ص 344) وفتاوى السبكي - (ج 1 / ص 292) والفتاوى الفقهية الكبرى - (ج 8 / ص 359) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 162 / ص 25) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 8354) و (ج 7 / ص 641و(ج 7 / ص 776و (ج 8 / ص 1093) وفتاوى ابن الصلاح - (ج 2 / ص 311 والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 90) والتشريع الجنائي في الإسلام - (ج 3 / ص 393) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 11 / ص 60) والأحكام للآمدي - (ج 1 / ص 198) والإحكام في أصول الأحكام - (ج 1 / ص 175) والمنخول - (ج 1 / ص 474) والمستصفى - (ج 2 / ص 400) وقواعد الأحكام في مصالح الأنام - (ج 2 / ص 160) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 3 / ص 367) والمنثور في القواعد - (ج 1 / ص 300) والأشباه والنظائر - (ج 1 / ص 186) وشرح الكوكب المنير - (ج 3 / ص 67) وتيسير التحرير - (ج 4 / ص 304) وقواطع الأدلة فى الأصول / للسمعانى - (ج 1 / ص 421)(1/36)
ثَلاَثَ مَرَّاتٍ « فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَالْمَهْرُ لَهَا بِمَا أَصَابَ مِنهَا فَإِنْ تَشَاجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِىُّ مَن لاَ وَلِىَّ لَهُ »(1)، فَلَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً بِلاَ وَلِيٍّ ، فَإِنَّ هَذَا النِّكَاحَ يَثْبُتُ بِهِ الْمِيرَاثُ ، وَيَثْبُتُ بِهِ نَسَبُ الأَْوْلاَدِ ، وَلاَ يُعَامَل مُعَامَلَةَ الزِّنَا لِثُبُوتِ الْخِلاَفِ فِيهِ ، وَثُبُوتُ الْمِيرَاثِ وَالنَّسَبِ تَصْحِيحٌ لِلْمَنهِيِّ عَنهُ مِن وَجْهٍ ، " وَإِجْرَاؤُهُمُ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ مَجْرَى الصَّحِيحِ فِي هَذِهِ الأَْحْكَامِ(2)، وَفِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَإِلاَّ لَكَانَ فِي حُكْمِ الزِّنَا . وَلَيْسَ فِي حُكْمِهِ بِالاِتِّفَاقِ " . وَقَدْ وَجَّهَهُ بِأَنَّ " الْعَامِل بِالْجَهْل مُخْطِئًا لَهُ نَظَرَانِ : نَظَرٌ مِن جِهَةِ مُخَالَفَتِهِ لِلأَْمْرِ وَالنَّهْيِ . وَهَذَا يَقْتَضِي الإِْبْطَال ، وَنَظَرٌ مِن جِهَةِ قَصْدِهِ الْمُوَافَقَةَ فِي الْجُمْلَةِ ؛ لأَِنَّهُ دَاخِلٌ مَدَاخِل أَهْل الإِْسْلاَمِ ، وَمَحْكُومٌ لَهُ بِأَحْكَامِهِمْ ، وَخَطَؤُهُ أَوْ جَهْلُهُ لاَ يَجْنِي عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ عَن حُكْمِ أَهْل الإِْسْلاَمِ ، بَل يُتَلاَفَى لَهُ حُكْمٌ يُصَحِّحُ مَا أَفْسَدَهُ بِجَهْلِهِ أَوْ خَطَئِهِ . . . إِلاَّ أَنْ يَتَرَجَّحَ جَانِبُ الإِْبْطَال بِالأَْمْرِ الْوَاضِحِ " .(3)
13-الْعَمَل فِي الْمَسَائِل الْخِلاَفِيَّةِ(4):
الْمُقَلِّدُ بَيْنَ التَّخَيُّرِ وَالتَّحَرِّي :
__________
(1) - سنن أبى داود برقم( 2085 ) وهو صحيح
(2) - الموافقات في أصول الشريعة - (ج 3 / ص 141)
(3) - الموافقات 4 / 202 - 205
(4) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 2 / ص 299)(1/37)
ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعَامِّيَّ إِذَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ فَتْوَى عُلَمَاءِ عَصْرِهِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ يَأْخُذُ بِأَيِّهَا شَاءَ قَال الشَّوْكَانِيُّ : وَاسْتَدَلُّوا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى عَدَمِ إِنْكَارِ الْعَمَل بِقَوْل الْمَفْضُول مَعَ وُجُودِ الأَْفْضَل(1).
وَقِيل : لَيْسَ هُوَ عَلَى التَّخْيِيرِ ، بَل لاَ بُدَّ مِن مُرَجِّحٍ . وَبِهِ قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ . ثُمَّ قَدْ قِيل : يَأْخُذُ بِالأَْغْلَظِ ، وَقِيل : بِالأَْخَفِّ ، وَقِيل : بِقَوْل الأَْعْلَمِ .(2)
وَقَال الْغَزَالِيُّ : يَأْخُذُ بِقَوْل أَفْضَلِهِمْ عِنْدَهُ وَأَغْلَبِهِمْ صَوَابًا فِي قَلْبِهِ .(3)
__________
(1) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 78) والبحر المحيط - (ج 8 / ص 251) وإرشاد الفحول الي تحقيق الحق من علم الاصول - (ج 2 / ص 137)
(2) - البحر المحيط - (ج 7 / ص 400) و(ج 8 / ص 252) وشرح الكوكب المنير - (ج 3 / ص 99) والتقرير والتحبير في شرح التحرير 3 / 349 ط بولاق 1316 هـ، وإرشاد الفحول ص 271
(3) - القسطاس المستقيم ص 87 ط -بيروت(1/38)
وَقَدْ أَيَّدَ الشَّاطِبِيُّ الْقَوْل الثَّانِيَ مِن أَنَّ الْمُقَلِّدَ لَيْسَ عَلَى التَّخْيِيرِ . قَال : لَيْسَ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَتَخَيَّرَ فِي الْخِلاَفِ ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُفْتِينَ مُتَّبِعٌ لِدَلِيلٍ عِنْدَهُ يَقْتَضِي ضِدَّ مَا يَقْتَضِيهِ دَلِيل صَاحِبِهِ . فَهُمَا صَاحِبَا دَلِيلَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ . فَاتِّبَاعُ أَحَدِهِمَا بِالْهَوَى اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى . فَلَيْسَ إِلاَّ التَّرْجِيحُ بِالأَْعْلَمِيَّةِ وَنَحْوِهَا . فَكَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ التَّرْجِيحُ ، أَوِ التَّوَقُّفُ ، فَكَذَلِكَ الْمُقَلِّدُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَتَبُّعِ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ مِن غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ .(1)
مَا يَصْنَعُ الْقَاضِي وَالْمُفْتِي فِي الْمَسَائِل الْخِلاَفِيَّةِ :
يَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مُجْتَهِدًا . وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ الْمُغْنِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَحْكُمُ بِتَقْلِيدِ غَيْرِهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ فَخَالَفَهُ فِيهِ غَيْرُهُ ، أَمْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ ، وَسَوَاءٌ أَضَاقَ الْوَقْتُ أَمْ لَمْ يَضِقْ . وَكَذَلِكَ لَيْسَ لِلْمُفْتِي الْفُتْيَا بِالتَّقْلِيدِ(2).
__________
(1) - الموافقات 4 / 133، 140 - 147
(2) - شرح الوجيز - (ج 3 / ص 230) وحاشية البجيرمي على الخطيب - (ج 4 / ص 134) والمغني - (ج 22 / ص 475)(1/39)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ تَعَذَّرَ هَذَا الشَّرْطُ فَوَلَّى سُلْطَانٌ أَوْ مَن لَهُ شَوْكَةٌ مُقَلِّدًا نَفَذَ قَضَاؤُهُ لِلضَّرُورَةِ .(1)
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازُ كَوْنِ الْقَاضِي مُقَلِّدًا .(2)وَالاِجْتِهَادُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ شَرْطُ أَوْلَوِيَّةٍ فَقَطْ .(3)
فَعَلَى قَوْل مَنِ اشْتَرَطَ الاِجْتِهَادَ ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ فِي الْمَسَائِل الْمُخْتَلَفِ فِيهَا مِمَّا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ وَلاَ إِجْمَاعٌ لاَ يَحْكُمُ إِلاَّ بِمَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ حَسَبَ أُصُول الاِجْتِهَادِ .
__________
(1) - فتاوى الرملي - (ج 5 / ص 355) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 83) وأسنى المطالب - (ج 22 / ص 87) وروضة الطالبين وعمدة المفتين - (ج 4 / ص 114) وحاشيتا قليوبي - وعميرة - (ج 16 / ص 419) والمنهاج للنووي - (ج 1 / ص 483) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 42 / ص 471) ومغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج - (ج 19 / ص 69) ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج - (ج 28 / ص 76) وحاشية البجيرمي على الخطيب - (ج 13 / ص 408) وحاشية البجيرمي على المنهج - (ج 16 / ص 280) والمنثور في القواعد - (ج 2 / ص 383)
(2) - الشرح الصغير وحاشية الصاوي ط دار المعارف بمصر 4 / 188 - 199
(3) - الهداية وفتح القدير 6/359(1/40)
وَعَلَى قَوْل مَن يُجِيزُ كَوْنَ الْقَاضِي مُقَلِّدًا ، ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْكُمُ الْمُقَلِّدُ بِقَوْل مُقَلِّدِهِ أَيْ بِالرَّاجِحِ مِن مَذْهَبِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ قَوْلَهُ - يَعْنِي إِمَامَ الْمَذْهَبِ - أَمْ قَوْل أَصْحَابِهِ ، لاَ بِالضَّعِيفِ ، وَلاَ بِقَوْل غَيْرِهِ مِنَ الْمَذَاهِبِ ، وَإِلاَّ نُقِضَ حُكْمُهُ ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِلضَّعِيفِ مُدْرَكٌ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ وَكَانَ مِن أَهْل التَّرْجِيحِ ، وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي . وَيَجُوزُ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَعْمَل بِالضَّعِيفِ لأَِمْرٍ اقْتَضَى ذَلِكَ عِنْدَهُ ، وَقِيل : بَل يُقَلِّدُ قَوْل الْغَيْرِ إِذَا كَانَ رَاجِحًا فِي مَذْهَبِ ذَلِكَ الْغَيْرِ(1)، قَال الصَّاوِيُّ : وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ لِجَوَازِ التَّقْلِيدِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ ضَرُورَةٌ(2).
__________
(1) - الشرح الكبير للشيخ الدردير - (ج 4 / ص 130) و مختصر خليل - (ج 1 / ص 230) والتاج والإكليل لمختصر خليل - (ج 10 / ص 490) ومواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل - (ج 17 / ص 27) وشرح مختصر خليل للخرشي - (ج 21 / ص 212) وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير - (ج 16 / ص 484) ومنح الجليل شرح مختصر خليل - (ج 17 / ص 288)
(2) - حاشية الصاوي على الشرح الصغير - (ج 9 / ص 297و298)(1/41)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَهُمْ فِي الْمَسَائِل الْخِلاَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ : فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ(1): يَحْكُمُ الْقَاضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِسُنَّةِ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِمَا وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ ، فَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ . فَيُرَجِّحُ قَوْل بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِاجْتِهَادِهِ إِنْ كَانَ مِن أَهْل الاِجْتِهَادِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُمْ جَمِيعًا . وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ ، وَخَالَفَهُمْ وَاحِدٌ مِنَ التَّابِعِينَ لاَ يُعْتَبَرُ خِلاَفُهُ إِلاَّ إِنْ كَانَ مِمَن أَدْرَكَ عَهْدَهُمْ وَزَاحَمَهُمْ فِي الْفُتْيَا كَشُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ .فَإِنْ لَمْ يَأْتِ عَنِ الصَّحَابَةِ شَيْءٌ فَبِإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ .
فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ خِلاَفٌ رَجَحَ قَوْل بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَقَضَى بِهِ . فَإِنْ لَمْ يَجِئْ عَنهُمْ شَيْءٌ اجْتَهَدَ إِنْ كَانَ مِن أَهْل الاِجْتِهَادِ . وَإِذَا اخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ ، قَال ابْنُ الْمُبَارَكِ : يَأْخُذُ بِقَوْل أَبِي حَنِيفَةَ لأَِنَّهُ كَانَ مِنَ التَّابِعِينَ .(2)وَلَوِ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهِ يَخْتَارُ وَاحِدًا مِن ذَلِكَ . وَلَوْ أَنَّ قَاضِيًا اسْتُفْتِيَ فِي حَادِثَةٍ وَأَفْتَى ، وَرَأْيُهُ بِخِلاَفِ رَأْيِ الْمُفْتِي ، فَإِنَّهُ يَعْمَل بِرَأْيِ نَفْسِهِ إِنْ كَانَ مِن أَهْل الرَّأْيِ . فَإِنْ تَرَكَ رَأْيَهُ وَقَضَى بِرَأْيِ الْمُفْتِي لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ . أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ لِمُصَادَفَتِهِ فَصْلاً مُجْتَهَدًا فِيهِ .
__________
(1) - الفتاوى الهندية - (ج 24 / ص 155-157)
(2) - وفي هذه المسألة قول آخر نذكره قريبا .(1/42)
أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي مِن أَهْل الاِجْتِهَادِ فَإِنْ عَرَفَ أَقَاوِيل الأَْصْحَابِ ، وَحَفِظَهَا عَلَى الإِْحْكَامِ وَالإِْتْقَانِ ، عَمِل بِقَوْل مَن يَعْتَقِدُ قَوْلَهُ حَقًّا عَلَى التَّقْلِيدِ .(1)
ارْتِفَاعُ الْخِلاَفِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ(2):
__________
(1) - الفتاوى الهندية - (ج 24 / ص 324) وتحفة الفقهاء - (ج 3 / ص 370)وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 7 / ص 134) والفصول في الأصول - (ج 3 / ص 117)
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 2 / ص 301) وفتاوى الأزهر - (ج 5 / ص 473) و(ج 9 / ص 440) و (ج 10 / ص 315) وتنقيح الفتاوى الحامدية - (ج 3 / ص 170) وفتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 9 / ص 85) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1160) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 1574) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 10 / ص 191) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 3 / ص 39) والفقه على المذاهب الأربعة - (ج 1 / ص 877) والفقه الإسلامي وأصوله - (ج 2 / ص 325) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 11 / ص 304) وحاشية رد المحتار - (ج 3 / ص 452) ورد المحتار - (ج 12 / ص 12) وغمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر - (ج 5 / ص 217) وشرح مختصر خليل للخرشي - (ج 5 / ص 159) وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير - (ج 16 / ص 218) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 9 / ص 152) ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج - (ج 20 / ص 303) وحاشية البجيرمي على المنهج - (ج 13 / ص 475) ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى - (ج 2 / ص 434)
قلت : وهذا خاص بالحاكم المسلم الصالح ، الذي يحكم بما أنزل الله تعالى ، وأن لا يكون هذا الحكم مستندا إلى رأي شاذٍّ ، فلا بد أن يكون معتبرا ، وله حظٌّ منَ النظر(1/43)
إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي فِي وَاقِعَةٍ مِنَ الْوَقَائِعِ بِحُكْمٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الْخِلاَفُ لِعَدَمِ مُخَالَفَتِهِ لِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ ، فَإِنَّ النِّزَاعَ يَرْتَفِعُ بِالْحُكْمِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ ، وَيَعُودُ الْحُكْمُ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ ، فَلَيْسَ لأَِحَدٍ نَقْضُهُ حَتَّى وَلاَ الْقَاضِي الَّذِي قَضَى بِهِ نَفْسُهُ .(1)كَمَا لَوْ حَكَمَ بِلُزُومِ الْوَقْفِ .
أَمَّا فِي غَيْرِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَإِنَّ الْخِلاَفَ لاَ يَرْتَفِعُ بِالْقَضَاءِ ،
وَهَذِهِ إِحْدَى الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ ، وَتُعَنوَنُ عَادَةً بِعُنْوَانِ ( الاِجْتِهَادُ لاَ يُنْقَضُ بِمِثْلِهِ )(2)وَعِلَّتُهَا أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لاَ يَسْتَقِرَّ حُكْمٌ ، وَفِيهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ ، فَلَوْ نُقِضَ لَنُقِضَ النَّقْضُ أَيْضًا . وَلأَِنَّهُ لَيْسَ الثَّانِي بِأَقْوَى مِنَ الأَْوَّل . وَقَدْ تَرَجَّحَ الأَْوَّل بِاتِّصَال الْقَضَاءِ بِهِ ، فَلاَ يُنْقَضُ بِمَا هُوَ دُونَهُ .
__________
(1) - حاشية ابن عابدين 3 / 361، 373
(2) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 364) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 10 / ص 487) والمبسوط - (ج 12 / ص 458) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق - (ج 17 / ص 473) ومراقي الفلاح - (ج 1 / ص 14) وأسنى المطالب - (ج 22 / ص 172) وشرح البهجة الوردية - (ج 1 / ص 268) وحاشيتا قليوبي - وعميرة - (ج 10 / ص 160) وكشف الأسرار - (ج 5 / ص 203) وشرح القواعد الفقهية ــ للزرقا - (ج 1 / ص 86)(1/44)
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إِجْمَاعِيَّةٌ . وَقَدْ حَكَمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ فِي مَسَائِل ، وَخَالَفَهُ فِيهَا بَعْدَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ وَلَمْ يَنْقُضْ حُكْمَهُ ، وَحَكَمَ عُمَرُ فِي الْمُشْرِكَةِ بِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ(1)، ثُمَّ حَكَمَ فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى بِالْمُشَارَكَةِ ، وَقَال : تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا ، وَهَذِهِ عَلَى مَا نَقْضِي(2). وَمِن هَذِهِ الْقَضِيَّةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَنْقُضُ الْمَاضِيَ ، وَأَمَّا فِي الْمُسْتَقْبَل فَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بِمَا يُخَالِفُ مَا مَضَى .
وَمِن شَرْطِ نَفَاذِ الْحُكْمِ فِي الْمَسَائِل الْخِلاَفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ فِي حَادِثَةٍ وَدَعْوَى صَحِيحَةٍ وَإِلاَّ كَانَ فَتْوَى لاَ حُكْمًا(3)
__________
(1) - الفتاوى الفقهية الكبرى - (ج 4 / ص 301) والأشباه والنظائر - (ج 1 / ص 185)
(2) - مصنف عبد الرزاق برقم(19006) والسنن الكبرى للبيهقي (ج 6 / ص 255) برقم(12846 و 12848 و20873) وسنن الدارقطنى برقم(4170 ) ومعرفة السنن والآثار للبيهقي - (ج 10 / ص 390) برقم(4009 ) وهو صحيح
وانظر مجموع الفتاوى - (ج 19 / ص 122) وفتاوى قطاع الإفتاء بالكويت - (ج 1 / ص 59) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 680) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 364) ومجموع رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية - (ج 51 / ص 8) وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير - (ج 20 / ص 68) ومنح الجليل شرح مختصر خليل - (ج 21 / ص 217) وشرح منتهى الإرادات - (ج 12 / ص 136) والمغني - (ج 22 / ص 486) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 147) وقواطع الأدلة فى الأصول / للسمعانى - (ج 3 / ص 414) وشرح القواعد الفقهية ــ للزرقا - (ج 1 / ص 86)
(3) - الأشباه والنظائر للسيوطي ص101، والأشباه والنظائر لابن نجيم بحاشية الحموي 1 / 141،140(1/45)
ارْتِفَاعُ الْخِلاَفِ بِتَصَرُّفِ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ(1):
إِذَا تَصَرَّفَ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ بِمَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الاِجْتِهَادَاتُ طِبْقًا لأَِحَدِ الأَْقْوَال الْمُعْتَبَرَةِ ، فَلاَ يَنْقُضُ مَا فَعَلَهُ كَذَلِكَ ، وَيَصِيرُ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ( أَيْ بِالنِّسْبَةِ لِمَا مَضَى . وَأَمَّا فِي الْمُسْتَقْبَل فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفًا مُغَايِرًا إِذَا تَغَيَّرَ وَجْهُ الْمَصْلَحَةِ فِي رَأْيِهِ ) . وَقَدْ قَرَّرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ الْعَطَاءَ بِالسَّوِيَّةِ ، وَلَمَّا جَاءَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ فَاضَل بَيْنَ النَّاسِ بِحَسَبِ سَابِقَتِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - . وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَنْقُضَ حِمَى مَن قَبْلَهُ مِنَ الأَْئِمَّةِ ؛ لأَِنَّهُ يَتْبَعُ الْمَصْلَحَةَ ، وَالْمَصْلَحَةُ قَدْ تَتَغَيَّرُ .
قَال ابْنُ نُجَيْمٍ : " إِذَا رَأَى الإِْمَامُ شَيْئًا ثُمَّ مَاتَ أَوْ عُزِل فَلِلثَّانِي تَغْيِيرُهُ حَيْثُ كَانَ مِنَ الأُْمُورِ الْعَامَّةِ . وَيُسْتَثْنَى هَذَا مِن قَاعِدَةِ عَدَمِ نَقْضِ الاِجْتِهَادِ بِالاِجْتِهَادِ ، لأَِنَّ هَذَا حُكْمٌ يَدُورُ مَعَ الْمَصْلَحَةِ ، فَإِذَا رَآهَا الثَّانِي وَجَبَ اتِّبَاعُهَا "(2).
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 2 / ص 301)
(2) - الأشباه والنظائر - حنفي - (ج 1 / ص 130) و غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر - (ج 2 / ص 190) والأشباه والنظائر لابن نجيم - (ج 1 / ص 106)(1/46)
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: " وَالْأُمُورُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْإِمَامِ مُتَعَلِّقَةٌ بِنُوَّابِهِ فَمَا كَانَ إلَى الْحُكَّامِ فَأَمْرُ الْحَاكِمِ الَّذِي هُوَ نَائِبُ الْإِمَامِ فِيهِ كَأَمْرِ الْإِمَامِ مِثْلَ تَزْوِيجِ الْأَيَامَى وَالنَّظَرِ فِي الْوُقُوفِ وَإِجْرَائِهَا عَلَى شُرُوطِ وَاقِفِيهَا وَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ وَوُقُوفِهَا ؛ حَيْثُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ فِعْلُ ذَلِكَ، فَمَا جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ جَازَ لِنَائِبِهِ فِيهِ ،وإِذَا كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ مِن مَسَائِل الاِجْتِهَادِ الَّتِي شَاعَ فِيهَا النِّزَاعُ لَمْ يَكُنْ لأَِحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الإِْمَامِ وَلاَ عَلَى نَائِبِهِ مِن حَاكِمٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَلاَ يَنْقُضُ مَا فَعَلَهُ الإِْمَامُ وَنُوَّابُهُ مِن ذَلِكَ(1).
وَمَعَ هَذَا يَذْكُرُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالأُْمَرَاءِ لَيْسَ مَعْصُومًا ، وَلِهَذَا يَسُوغُ لَنَا أَنْ نُبَيِّنَ الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ ،وَإِنْ كَانَ فِيهِ بَيَانُ خَطَأِ مَن أَخْطَأَ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالأُْمَرَاءِ(2).
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 30 / ص 407) والفتاوى الكبرى - (ج 7 / ص 197)
(2) - مجموع الفتاوى - (ج 19 / ص 123) ومجموع رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية - (ج 51 / ص 8)(1/47)
قال رحمه الله : "وَأَمَّا مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِن وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ؛ فَهُوَ : مَا تَنَازَعُوا فِيهِ مِمَّا أَقَرُّوا عَلَيْهِ وَسَاغَ لَهُمْ الْعَمَلُ بِهِ مِن اجْتِهَادِ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ كَاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ فِي قَطْعِ اللِّينَةِ وَتَرْكِهَا : وَاجْتِهَادِهِمْ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ لَمَّا بَعَثَهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يُصَلُّوا الْعَصْرَ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَصَلَّى قَوْمٌ فِي الطَّرِيقِ فِي الْوَقْتِ وَقَالُوا : إنَّمَا أَرَادَ التَّعَجُّلَ لَا تَفْوِيتَ الصَّلَاةِ . وَأَخَّرَهَا قَوْمٌ إلَى أَنْ وَصَلُوا وَصَلَّوْهَا بَعْدَ الْوَقْتِ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ لَفْظِ الْعُمُومِ فَلَمْ يُعَنِّفْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَاحِدَةً مِن الطَّائِفَتَيْنِ(1)،وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - :إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ »(2)..
__________
(1) - صحيح البخارى(946 )
(2) - صحيح البخارى(7352 )(1/48)
وَقَدْ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ فِي مَسَائِلَ تَنَازَعُوا فِيهَا ؛ عَلَى إقْرَارِ كُلِّ فَرِيقٍ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ عَلَى الْعَمَلِ بِاجْتِهَادِهِمْ كَمَسَائِلَ فِي الْعِبَادَاتِ والمناكح وَالْمَوَارِيثِ وَالْعَطَاءِ وَالسِّيَاسَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَحَكَمَ عُمَرُ أَوَّلَ عَامٍ فِي الْفَرِيضَةِ الحمارية بِعَدَمِ التَّشْرِيكِ وَفِي الْعَامِ الثَّانِي بِالتَّشْرِيكِ فِي وَاقِعَةٍ مِثْلَ الْأُولَى، وَلَمَّا سُئِلَ عَن ذَلِكَ قَالَ : تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذَا عَلَى مَا قَضَيْنَا(1).، وَهُمْ الْأَئِمَّةُ الَّذِينَ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ أَنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى بَاطِلٍ وَلَا ضَلَالَةٍ ،وَدَلَّ الْكِتَابُ والسُّنَّة عَلَى وُجُوبِ مُتَابَعَتِهِمْ . وَتَنَازَعُوا فِي مَسَائِلَ عِلْمِيَّةٍ اعْتِقَادِيَّةٍ كَسَمَاعِ الْمَيِّتِ صَوْتَ الْحَيِّ وَتَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ وَرُؤْيَةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - رَبَّهُ قَبْلَ الْمَوْتِ مَعَ بَقَاءِ الْجَمَاعَةِ وَالْأُلْفَةِ . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مِنهَا مَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ قَطْعًا، وَمِنهَا مَا الْمُصِيبُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاحِدٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَتْبَاعِ السَّلَفِ وَالْآخَرُ مُؤَدٍّ لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِحَسَبِ قُوَّةِ إدْرَاكِهِ وَهَلْ يُقَالُ لَهُ : مُصِيبٌ أَوْ مُخْطِئٌ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ .
__________
(1) - سنن الدارمى(670) والسنن الكبرى للبيهقي (ج 6 / ص 255)(12846) صحيح(1/49)
وَمِن النَّاسِ مَن يَجْعَلُ الْجَمِيعَ مُصِيبِينَ وَلَا حُكْمَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَى مَن اجْتَهَدَ وَإِنْ أَخْطَأَ، فَهَذَا النَّوْعُ يُشْبِهُ النَّوْعَ الْأَوَّلَ مِن وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، أَمَّا وَجْهُ الْمُخَالَفَةِ فَلِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَعْصُومُونَ عَن الْإِقْرَارِ عَلَى الْخَطَأِ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ مِن الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعْصُومًا مِن ذَلِكَ ،وَلِهَذَا يَسُوغُ ،بَل يَجِبُ أَنْ نُبَيِّنَ الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ بَيَانُ خَطَأِ مَن أَخْطَأَ مِن الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ ،وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ فَلَا يُبَيِّنُ أَحَدُهُمَا مَا يَظْهَرُ بِهِ خَطَأُ الْآخَرِ ،وَأَمَّا الْمُشَابَهَةُ فَلِأَنَّ كُلًّا مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ مَا بَانَ لَهُ مِن الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ كَأَمْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِاتِّبَاعِ مَا أُوحِيَ إلَيْهِ وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُوجِبَ عَلَى الْآخَرِ طَاعَتَهُ كَمَا لَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدِ النَّبِيِّينَ مَعَ الْآخَرِ، وَقَدْ يَظْهَرُ لَهُ مِن الدَّلِيلِ مَا كَانَ خَافِيًا عَلَيْهِ فَيَكُونُ انْتِقَالُهُ بِالِاجْتِهَادِ عَن الِاجْتِهَادِ وَيُشْبِهُ النَّسْخَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ ؛ لَكِنَّ هَذَا رَفْعٌ لِلِاعْتِقَادِ وَذَاكَ رَفْعٌ لِلْحُكْمِ حَقِيقَةً، وَعَلَى الْأَتْبَاعِ اتِّبَاعُ مَن وَلِيَ أَمْرَهُمْ مِن الْأُمَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ فِيمَا سَاغَ لَهُ اتِّبَاعُهُ وَأَمَرَ فِيهِ بِاتِّبَاعِ اجْتِهَادِهِ كَمَا عَلَى الْأُمَّةِ اتِّبَاعُ أَيِّ نَبِيٍّ بُعِثَ إلَيْهِمْ ،وَإِنْ خَالَفَ شَرْعُهُ شَرْعَ الْأَوَّلِ، لَكِنَّ تَنَوُّعَ الشَّرْعِ لِهَؤُلَاءِ وَانْتِقَالَهُ لَمْ(1/50)
يَكُنْ لِتَنَوُّعِ نَفْسِ الْأَمْرِ النَّازِلِ عَلَى الرَّسُولِ، وَلَكِنَّ تَنَوُّعَ أَحْوَالِهِمْ وَهُوَ : إدْرَاكُ هَذَا لِمَا بَلَغَهُ مِن الْوَحْيِ سَمْعًا وَعَقْلًا وَعَجْزُ الْآخَرِ عَن إدْرَاكِ ذَلِكَ الْبَلَاغِ إمَّا سَمْعًا لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِن سَمَاعِ ذَلِكَ النَّصِّ وَإِمَّا عَقْلًا لِعَدَمِ فَهْمِهِ لِمَا فَهِمَهُ الْأَوَّلُ مِن النَّصِّ وَإِذَا كَانَ عَاجِزًا سَقَطَ عَنهُ الْإِثْمُ فِيمَا عَجَزَ عَنهُ ،وَقَدْ يَتَبَيَّنُ لِأَحَدِهِمَا عَجْزُ الْآخَرِ وَخَطَؤُهُ وَيَعْذُرُهُ فِي ذَلِكَ وَقَدْ لَا يَتَبَيَّنُ لَهُ عَجْزُهُ ؛ وَقَدْ لَا يَتَبَيَّنُ لِكُلٍّ مِنهُمَا أَيُّهُمَا الَّذِي أَدْرَكَ الْحَقَّ وَأَصَابَهُ ؟ وَلِهَذَا امْتَنَعَ مَن امْتَنَعَ مِن تَسْمِيَةِ مِثْلِ هَذَا خَطَأً قَالَ : لِأَنَّ التَّكْلِيفَ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ فَمَا عَجَزَ عَنهُ مِن الْعِلْمِ لَمْ يَكُنْ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ فَلَا يُقَالُ : أَخْطَأَهُ . وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ : أَخْطَأَهُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ(1)لَكِنْ خَطَؤُهُ مَعْذُورٌ فِيهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ : عَجَزَ عَن إدْرَاكِهِ وَعِلْمِهِ لَكِنْ هَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ذَاكَ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ وَمَأْمُورُهُ ؛ فَإِنَّ عَجْزَ الْإِنْسَانِ عَن فَهْمِ كَلَامِ الْعَالِمِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَرَادَ بِكَلَامِهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَأَنْ يَكُونَ الَّذِي فَهِمَهُ هُوَ الْمُصِيبُ الَّذِي لَهُ الْأَجْرَانِ .
__________
(1) - قلت : هذا في مسائل قليلة ، وإلا ففي غالب المسائل المختلف فيها النصوص محتملة لهذا الراي أو ذاك ، فكلها صواب(1/51)
وَلِهَذَا تَنَازَعَ أَصْحَابُنَا فِيمَن لَمْ يُصِبِ الْحُكْمَ الْبَاطِنَ : هَلْ يُقَالُ : إنَّهُ مُصِيبٌ فِي الظَّاهِرِ ؛ لِكَوْنِهِ أَدَّى الْوَاجِبَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ مِن اجْتِهَادِهِ وَاقْتِصَارِهِ ؟ أَوْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِصَابَةِ بِحَالِ وَإِنْ كَانَ لَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَقَصْدِهِ الْحَقَّ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُصِبْ الْحُكْمَ الْبَاطِنَ وَلَكِنْ قَصَدَ الْحَقَّ وَهَلْ اجْتَهَدَ الِاجْتِهَادَ الْمَأْمُورَ بِهِ ؟ التَّحْقِيقُ : أَنَّهُ اجْتَهَدَ الِاجْتِهَادَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُصِيبٌ مِن هَذَا الْوَجْهِ مِن جِهَةِ الْمَأْمُورِ الْمَقْدُورِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُصِيبًا مِن جِهَةِ إدْرَاكِ الْمَطْلُوبِ وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ الْمُطْلَقِ . يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ نَوْعَانِ :
سُلْطَانُ الْحُجَّةِ وَالْعِلْمِ وَهُوَ أَكْثَرُ مَا سُمِّيَ فِي الْقُرْآنِ سُلْطَانًا حَتَّى رُوِيَ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كُلَّ سُلْطَانٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ الْحُجَّةُ ، وَالثَّانِي سُلْطَانُ الْقُدْرَةِ .(1/52)
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ لَا يَقُومُ إلَّا بِالسُّلْطَانَيْنِ فَإِذَا ضَعُفَ سُلْطَانُ الْحُجَّةِ كَانَ الْأَمْرُ بِقَدْرِهِ وَإِذَا ضَعُفَ سُلْطَانُ الْقُدْرَةِ كَانَ الْأَمْرُ بِحَسَبِهِ، وَالْأَمْرُ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ عَلَى السُّلْطَانَيْنِ فَالْإِثْمُ يَنْتَفِي عَن الْأَمْرِ بِالْعَجْزِ عَن كُلٍّ مِنهُمَا . وَسُلْطَانُ اللَّهِ فِي الْعِلْمِ هُوَ الرِّسَالَةُ وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } (165) سورة النساء، وَقَالَ تَعَالَى : {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} (23) سورة النجم ،وَقَالَ : {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} (35) سورة الروم ،وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ .(1/53)
فَالْمَذَاهِبُ وَالطَّرَائِقُ وَالسِّيَاسَاتُ لِلْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَالْأُمَرَاءِ إذَا قَصَدُوا بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْأَهْوَاءِ لِيَكُونُوا مُسْتَمْسِكِينَ بِالْمِلَّةِ وَالدِّينِ الْجَامِعِ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَاتَّبَعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِن رَبِّهِمْ مِن الْكِتَاب والسُّنَّة بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ التَّامِّ : هِيَ لَهُمْ مِن بَعْضِ الْوُجُوهِ بِمَنزِلَةِ الشَّرْعِ وَالْمَنَاهِجِ لِلْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ مُثَابُونَ عَلَى ابْتِغَائِهِمْ وَجْهَ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهُوَ الدِّينُ الْأَصْلِيُّ الْجَامِعُ كَمَا يُثَابُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى عِبَادَتِهِمْ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيُثَابُونَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا تَمَسَّكُوا بِهِ لَا مِن شِرْعَةِ رَسُولِهِ وَمِنهَاجِهِ كَمَا يُثَابُ كُلُّ نَبِيٍّ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِي شَرْعِهِ وَمِنهَاجِهِ .(1/54)
وَيَتَنَوَّعُ شَرْعُهُمْ وَمَنَاهِجُهُمْ مِثْلَ أَنْ يُبَلِّغَ أَحَدُهُمْ الْأَحَادِيثَ بِأَلْفَاظٍ غَيْرَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي بَلَغَتْ الْآخَرَ وَتُفَسَّرَ لَهُ بَعْضُ آيَاتِ الْقُرْآنِ بِتَفْسِيرٍ يُخَالِفُ لَفْظُهُ لَفْظَ التَّفْسِيرِ الْآخَرِ وَيَتَصَرَّفَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ النُّصُوصِ ،وَاسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ مِنهَا بِنَوْعٍ مِن التَّرْتِيبِ وَالتَّوْفِيقِ لَيْسَ هُوَ النَّوْعَ الَّذِي سَلَكَهُ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ فِي عِبَادَاتِهِ وَتَوَجُّهَاتِهِ وَقَدْ يَتَمَسَّكُ هَذَا بِآيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ وَهَذَا بِحَدِيثٍ أَوْ آيَةٍ أُخْرَى . وَكَذَلِكَ فِي الْعِلْمِ مِن الْعُلَمَاءِ مَن يَسْلُكُ بِالِاتِّبَاعِ طَرِيقَةَ ذَلِكَ الْعَالِمِ فَتَكُونُ هِيَ شَرْعَهُمْ حَتَّى يَسْمَعُوا كَلَامَ غَيْرِهِ وَيَرَوْا طَرِيقَتَهُ فَيُرَجِّحُ الرَّاجِحَ مِنهُمَا، فَتَتَنَوَّعُ فِي حَقِّهِمْ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ السَّالِفَةُ لَهُمْ مِن هَذَا الْوَجْهِ، وَهُمْ مَأْمُورُونَ بِأَنْ يُقِيمُوا الدِّينَ وَلَا يَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَمَا أُمِرَتْ الرُّسُلُ بِذَلِكَ، وَمَأْمُورُونَ بِأَنْ لَا يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْأُمَّةِ ،بَل هِيَ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا أُمِرَتْ الرُّسُلُ بِذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ آكَد ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ تَجْمَعُهُمْ الشَّرِيعَةُ الْوَاحِدَةُ وَالْكِتَابُ الْوَاحِدُ .(1/55)
وَأَمَّا الْقَدْرُ الَّذِي تَنَازَعُوا فِيهِ فَلَا يُقَالُ : إنَّ اللَّهَ أَمَرَ كُلًّا مِنهُمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِالتَّمَسُّكِ بِهَا هُوَ عَلَيْهِ كَمَا أُمِرَ بِذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ وَإِنْ كَانَ هَذَا قَوْلَ طَائِفَةٍ مِن أَهْلِ الْكَلَامِ فَإِنَّمَا يُقَالُ : إنَّ اللَّهَ أَمَرَ كُلًّا مِنهُمْ أَنْ يَطْلُبَ الْحَقَّ بِقَدْرِ وُسْعِهِ وَإِمْكَانِهِ فَإِنْ أَصَابَهُ وَإِلَّا فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا، وَقَدْ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (286) سورة البقرة وَقَالَ اللَّهُ : قَدْ فَعَلْت(1)،وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ } (5) سورة الأحزاب، فَمَن ذَمَّهُمْ وَلَامَهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُؤَاخِذْهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَدِ اعْتَدَى وَمَن أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ أَقْوَالَهُمْ وَأَفْعَالَهُمْ بِمَنزِلَةِ قَوْلِ الْمَعْصُومِ وَفِعْلِهِ وَيَنْتَصِرُ لَهَا بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ فَقَدْ اعْتَدَى وَاتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِن اللَّهِ وَمَن فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ بِحَسَبِ حَالِهِ : مِن اجْتِهَادٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَوْ تَقْلِيدٍ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاجْتِهَادِ ؛ وَسَلَكَ فِي تَقْلِيدِهِ مَسْلَكَ الْعَدْلِ فَهُوَ مُقْتَصِدٌ .
__________
(1) - صحيح مسلم (344 )(1/56)
إذْ الْأَمْرُ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } (286) سورة البقرة، فَعَلَى الْمُسْلِمِ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ أَنْ يُسَلِّمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ،وَيَدُومَ عَلَى هَذَا الْإِسْلَامِ فَإِسْلَامُ وَجْهِهِ إخْلَاصُهُ لِلَّهِ وَإِحْسَانُ فِعْلِهِ الْحَسَنِ . فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ أَصْلٌ جَامِعٌ نَافِعٌ عَظِيمٌ ". "(1)
14-الصَّلاَةُ خَلْفَ الْمُخَالِفِ فِي أَحْكَامِهَا(2):
وَرَدَ عَنِ الأَْئِمَّةِ مَا يَدُل عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَأْتَمُّ بِمَن يُخَالِفُ اجْتِهَادَهُ فِي أَحْكَامِ الصَّلاَةِ ، وَلَوْ كَانَ يَرَى أَنَّ مِثْل ذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلصَّلاَةِ ، أَوْ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنهُ . لأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ الإِْمَامُ مُجْتَهِدًا اجْتِهَادًا سَائِغًا ، أَوْ مُقَلِّدًا تَقْلِيدًا سَائِغًا ، فَإِنَّ الاِنْفِرَادَ عَنهُ نَوْعٌ مِنَ الْفُرْقَةِ ، وَاخْتِلاَفُ الظَّوَاهِرِ تُؤَدِّي إِلَى اخْتِلاَفِ الْبَوَاطِنِ . وَمِمَّا وَرَدَ مِن ذَلِكَ :
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 19 / ص 122-128)
(2) - الفتاوى الفقهية الكبرى - (ج 2 / ص 328) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 4 / ص 104) ومواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل - (ج 5 / ص 45) والذخيرة في الفقه المالكي للقرافي - (ج 2 / ص 99) وشرح البهجة الوردية - (ج 4 / ص 202) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 7 / ص 400) ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج - (ج 5 / ص 452) والشرح الممتع على زاد المستقنع - (ج 4 / ص 169) وتهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية - (ج 2 / ص 153) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 3 / ص 333)(1/57)
أ - كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ يَرَوْنَ الْوُضُوءَ مِن خُرُوجِ الدَّمِ . وَرَأَى أَبُو يُوسُفَ هَارُونَ الرَّشِيدَ احْتَجَمَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ- أَفْتَاهُ مَالِكٌ بِذَلِكَ - فَصَلَّى أَبُو يُوسُفَ خَلْفَهُ وَلَمْ يُعِدِ الصَّلاَةَ.
ب - الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ تَرَكَ الْقُنُوتَ فِي الصُّبْحِ لَمَّا صَلَّى مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فِي مَسْجِدِهِمْ بِضَوَاحِي بَغْدَادَ . فَقَال الْحَنَفِيَّةُ : فَعَل ذَلِكَ أَدَبًا مَعَ الإِْمَامِ ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ بَل تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ .
ج - كَانَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ يَرَى الْوُضُوءَ مِنَ الْحِجَامَةِ وَالْفَصْدِ . فَسُئِل عَمَن رَأَى الإِْمَامَ قَدِ احْتَجَمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ أَيُصَلِّي خَلْفَهُ ؟ فَقَال : كَيْفَ لاَ أُصَلِّي خَلَفَ مَالِكٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ؟(1)
إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْفُقَهَاءِ مَالُوا إِلَى التَّشَدُّدِ فِي ذَلِكَ .(2)
15-مُرَاعَاةُ الإِْمَامِ لِلْمُصَلِّينَ خَلْفَهُ إِنْ كَانُوا يُخَالِفُونَهُ فِي أَحْكَامِ الصَّلاَةِ :
تَقَدَّمَ ذِكْرُ مُرَاعَاةِ الْخِلاَفِ وَشُرُوطِهَا ، وَأَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ . وَمُرَاعَاةُ إِمَامِ الصَّلاَةِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَعْتَقِدُهُ الْمَأْمُومُ شَرْطًا أَوْ رُكْنًا أَوْ وَاجِبًا ، وَلَوْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ الإِْمَامُ كَذَلِكَ .
__________
(1) - تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق - (ج 2 / ص 314) وفقه العبادات - شافعي - (ج 1 / ص 81)
(2) - حاشية ابن عابدين 1 / 378، 448، ونهاية المحتاج 2 / 160، 161، وانظر أيضا تحفة المحتاج 2 / 254، وكشاف القناع 1 / 442، ط مطبعة أنصار السنة، ومجموع فتاوى ابن تيمية 23 / 352، 372، وقد ترك هذا " الاستحسان " والحمد لله، في عصرنا الحاضر، وعاد أمره إلى الاستنكار .(1/58)
وَكَذَلِكَ فِيمَا يَعْتَقِدُهُ الْمَأْمُومُ مِن سُنَّةِ الصَّلاَةِ . وَلاَ تَتَأَتَّى الْمُرَاعَاةُ ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ ، فِيمَا هُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَأْمُومِ وَمَكْرُوهٌ عِنْدَ الإِْمَامِ ، كَرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الاِنْتِقَالاَتِ ، وَجَهْرِ الْبَسْمَلَةِ . فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ لاَ يُمْكِنُ الْخُرُوجُ فِيهِ مِن عُهْدَةِ الْخِلاَفِ " فَكُلُّهُمْ يَتْبَعُ مَذْهَبَهُ "(1)، وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "وَلِذَلِكَ اسْتَحَبَّ الْأَئِمَّةُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ أَنْ يَدَعَ الْإِمَامُ مَا هُوَ عِنْدَهُ أَفْضَلُ إذَا كَانَ فِيهِ تَأْلِيفُ الْمَأْمُومِينَ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ فَصْلُ الْوِتْرِ أَفْضَلَ بِأَنْ يُسَلِّمَ فِي الشَّفْعِ ثُمَّ يُصَلِّيَ رَكْعَةَ الْوِتْرِ وَهُوَ يَؤُمُّ قَوْمًا لَا يَرَوْنَ إلَّا وَصْلَ الْوِتْرِ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى الْأَفْضَلِ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ الْحَاصِلَةُ بِمُوَافَقَتِهِ لَهُمْ بِوَصْلِ الْوِتْرِ أَرْجَحَ مِن مَصْلَحَةِ فَصْلِهِ مَعَ كَرَاهَتِهِمْ لِلصَّلَاةِ خَلْفَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مِمَن يَرَى الْمُخَافَتَةَ بِالْبَسْمَلَةِ أَفْضَلَ أَوْ الْجَهْرَ بِهَا وَكَانَ الْمَأْمُومُونَ عَلَى خِلَافِ رَأْيِهِ ، فَفَعَلَ الْمَفْضُولَ عِنْدَهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُوَافَقَةِ وَالتَّأْلِيفِ الَّتِي هِيَ رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ كَانَ جَائِزًا حَسَنًا .
__________
(1) - رد المحتار - (ج 4 / ص 250)(1/59)
وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ خِلَافَ الْأَفْضَلِ لِأَجْلِ بَيَانِ السُّنَّةِ وَتَعْلِيمِهَا لِمَن لَمْ يَعْلَمْهَا كَانَ حَسَنًا ؛ مِثْلَ أَنْ يَجْهَرَ بِالِاسْتِفْتَاحِ أَوْ التَّعَوُّذِ أَوْ الْبَسْمَلَةِ لِيَعْرِفَ النَّاسُ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ حَسَنٌ مَشْرُوعٌ "(1).
16-الاِخْتِلاَفُ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ(2):
قَدْ يَتَنَازَعُ شَخْصَانِ فِي إِثْبَاتِ حَقٍّ مِنَ الْحُقُوقِ لِلَّهِ تَعَالَى ، أَوْ لأَِحَدِهِمَا قِبَل الآْخَرِ ، نَاشِئٍ عَن عَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ ، كَالْبَيْعِ أَوِ الإِْجَارَةِ أَوِ النِّكَاحِ ، أَوْ فِي فَسْخٍ مِنَ الْفُسُوخِ ، كَالإِْقَالَةِ وَالطَّلاَقِ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ . وَالطَّرِيقُ إِلَى رَفْعِ ذَلِكَ الاِخْتِلاَفِ الاِدِّعَاءُ بِهِ لَدَى الْقَضَاءِ لِيَفْصِل فِي شَأْنِهِ ، وَيَحْكُمَ بِأَدَاءِ الْحَقِّ لِصَاحِبِهِ ، بِالطَّرِيقَةِ الصَّحِيحَةِ شَرْعًا . وَكُل نَوْعٍ مِن أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ تَقَعُ فِيهِ اخْتِلاَفَاتٌ تَخُصُّهُ . وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الاِخْتِلاَفَاتِ ، وَطَرِيقَ الْحُكْمِ فِي كُلٍّ مِنهَا ، فِي أَثْنَاءِ عَرْضِهِمْ لِلْعَقْدِ أَوِ الْفَسْخِ ..
17-اخْتِلَافُ الْحَدِيثِ وَسَائِرِ الْأَدِلَّةِ(3):
إِذَا اخْتَلَفَتِ الأَْدِلَّةُ وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا إِنْ أَمْكَنَ ، وَإِلاَّ يُرَجَّحُ بَيْنَهَا ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ التَّرْجِيحُ يُعْتَبَرُ الْمُتَأَخِّرُ مِنهُمَا نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ(4).
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 24 / ص 195)
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 2 / ص 303)
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 2 / ص 303)
(4) - انظر كتاب اختلاف الحديث للشافعي مطبوع مع الأم له(1/60)
18- أسبابُ اختلافِ الصحابة وفقهاء المذاهب في تفسير النصوص الشرعية(1)
لا غرابة في أن يختلفَ الصحابةُ في بعض أمور الدين، لأنَّ المسائل تتجدد يوماً بعد يوم، وأفهامُ الناس تختلف طبعاً، فأمَّا ما دعت إليه الحاجة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن الأمر فيه محسومٌ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المبلِّغ عن الله وهو الحكم في كل الأمور، فلم يكن ثمة احتمالِ وجود خلاف، وأمَّا بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - فإن الوحي قد انقطع من السماء فصارت الأحكام التي لم تطرح من قبل، وتفسير الآيات التي لم يسأل الصحابة عنها محلَّ خلاف.
وأقرب مثال لذلك ما ورد على أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الأيام الأولى من خلافته حين سئل عن معنى الأب من قول الله تعالى: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا {عبس: 31}. قال: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إذَا قُلْت فِي كِتَابِ اللهِ مَا لاَ أَعْلَمُ(2).
وإذا اختلفَ الصحابة رضي الله عنهم في بعض أحكام الدين لاختلاف اجتهادهم فكذلك اختلفَ من جاء بعدهم في الأمور التي لم يرد فيها نصوصٌ، أو كانت النصوصُ فيها تحتملُ أكثرَ من دلالةٍ.
19- وراءَ تباينِ أنظار العلماء حكمٌ لا حصرَ لها(3)
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 3859) رقم الفتوى 54719
(2) - شعب الإيمان للبيهقي برقم(2200 ) مصنف ابن أبي شيبة (ج 10 / ص 513)(30731) وفتح الباري لابن حجر - (ج 9 / ص 481) وهو صحيح لغيره
(3) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 3589) رقم الفتوى 16387 وراء تباين أنظار العلماء حكم لا حصر لها تاريخ الفتوى : 01 ربيع الأول 1423(1/61)
مما لا شك فيه عند المسلمين أن الدين دينُ الله والشرعَ شرعُه، ولا رادَّ لحكمه ولا معقب لأمره، حكمُه عدلٌ وقوله فصل، ومن حاد عن دين الله وحكم بغير شرعه فقد دخل في قوله تعالى (وَمَن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [ المائدة:44]، وشرعُ الله صالحٌ لكل زمان ومكان، وما ذلك إلا لأنه اشتمل على مقومات الاستمرار وعوامل الديمومة؛ ومنها صفة الثبات والمرونة، فهو ثابت في أصوله مرنٌ في فروعه، قال تعالى : {. مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ..} (38) سورة الأنعام ، والناظر من المجتهدين يجد حقيقة جلية وهي أن أحكام الشرع تنتظمها دائرتان: دائرةُ القطعياتِ وهي محلُّ اتفاق وإجماع، ويندرجُ تحتها ما لاحصرَ له من المسائلَ الحادثةِ.
ودائرةُ الظنياتِ ( الفروع ) : وهذه دائرة المرونة، وفيها يختلف أهل العلم وتتباين أنظارهم بحسب مداركهم من الشرع وسعة علومهم وما رزقهم الله تعالى من الأفهام، والحكمةُ من هذا الاختلاف تظهر جلية واضحة لكل ذي بصيرة، وهي أن الله أراد بهذا الاختلاف التوسيعَ على عباده، فإذا ضاقَ الأمر بهم في قول عالم في زمن من الأزمان أخذوا بقول آخر، ولو أراد الله أن تكون نصوص الكتاب والسُّنَّة لا تحتمل إلا وجهاً واحداً لا اختلاف فيه ما أعجزه ذلك، ولكنه أراد من ذلك الخلافَ حِكَمَاً يعلمها سبحانه، وقد ذكر الإمام ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله أن عمر بن عبد العزيز و القاسم بن محمد اجتمعا فجعلا يتذاكران الحديث فجعل عمر يجيء بالشيء مخالفاً فيه القاسم وجعل ذلك يشق على القاسم حتى تبين فيه! فقال له عمر : لا تفعل، فما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم"(1).
__________
(1) - الإبانة الكبرى لابن بطة - (ج 2 / ص 222) برقم(711 ) وانظر والموافقات في أصول الشريعة - (ج 3 / ص 79و83) ويسألونك فتاوى - (ج 3 / ص 361) وفتاوى الشبكة الإسلامية (ج 3 / ص 3589) و (ج 8 / ص 5191)(1/62)
ونظراً لاختلاف أحوال السائلين التي قد تضطر المفتي إلى ذكر أقوال أهل العلم رغبة في الوصول إلى مقصد الشريعة العظيم وهو إخراج المكلفين من الضيق والحرج الذي قد يلحقهم إن أفتاهم بقول واحدٍ نظرا لكل ذلك ساغ ذكر الخلاف، ولذا نصَّ بعض أهل العلم على أن للمفتي تخيير من استفتاه بين قوله وقول غيره، وممن نص على ذلك الإمام البهوتي الحنبلي في شرح منتهى الإرادات، وذكره عن جماعة. وقال ابن تيمية(1): "وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْحَاكِمَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَ غَيْرِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا لِلْعَالِمِ وَالْمُفْتِي أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا اسْتَشَارَ الرَّشِيدُ مَالِكًا أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى " مُوَطَّئِهِ " فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَنَعَهُ مِن ذَلِكَ . وَقَالَ : إنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَفَرَّقُوا فِي الْأَمْصَارِ وَقَدْ أَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ مِن الْعِلْمِ مَا بَلَغَهُمْ . وَصَنَّفَ رَجُلٌ كِتَابًا فِي الِاخْتِلَافِ فَقَالَ أَحْمَد : لَا تُسَمِّهِ " كِتَابَ الِاخْتِلَافِ " وَلَكِنْ سَمِّهِ " كِتَابَ السُّنَّةِ " .
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 30 / ص 79)(1/63)
وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ : إجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ وَاخْتِلَافُهُمْ رَحْمَةٌ وَاسِعَةٌ . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ : مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَخْتَلِفُوا ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا عَلَى قَوْلٍ فَخَالَفَهُمْ رَجُلٌ كَانَ ضَالًّا وَإِذَا اخْتَلَفُوا فَأَخَذَ رَجُلٌ بِقَوْلِ هَذَا وَرَجُلٌ بِقَوْلِ هَذَا كَانَ فِي الْأَمْرِ سَعَةٌ . وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُ مَالِكٍ مِن الْأَئِمَّةِ : لَيْسَ لِلْفَقِيهِ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مَذْهَبِهِ . وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُصَنِّفُونَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ مِن أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ : إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ لَا تُنْكَرُ بِالْيَدِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ فِيهَا ؛ وَلَكِنْ يَتَكَلَّمُ فِيهَا بِالْحُجَجِ الْعِلْمِيَّةِ فَمَن تَبَيَّنَ لَهُ صِحَّةُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ تَبِعَهُ وَمَن قَلَّدَ أَهْلَ الْقَوْلِ الْآخَرِ فَلَا إنْكَارَ عَلَيْهِ . وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَثِيرَةٌ : مِثْلَ تَنَازُعِ النَّاسِ فِي بَيْعِ الباقلا الْأَخْضَرِ فِي قِشْرَتِهِ وَفِي بَيْعِ المقاثي جُمْلَةً وَاحِدَةً وَبَيْعِ الْمُعَاطَاةِ وَالسَّلَمِ الْحَالِّ وَاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْكَثِيرِ بَعْدَ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ إذَا لَمْ تُغَيِّرْهُ وَالتَّوَضُّؤِ مِن مَسِّ الذَّكَرِ وَالنِّسَاءِ وَخُرُوجِ النَّجَاسَاتِ مِن غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ وَالْقَهْقَهَةِ وَتَرْكِ الْوُضُوءِ مِن ذَلِكَ وَالْقِرَاءَةِ بِالْبَسْمَلَةِ سِرًّا أَوْ جَهْرًا وَتَرْكِ ذَلِكَ .(1/64)
وَتَنْجِيسِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثِهِ أَوْ الْقَوْلِ بِطَهَارَةِ ذَلِكَ وَبَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ بِالصِّفَةِ وَتَرْكِ ذَلِكَ . وَالتَّيَمُّمِ بِضَرْبَةٍ أَوْ ضَرْبَتَيْنِ إلَى الْكُوعَيْنِ أَوْ الْمِرْفَقَيْنِ وَالتَّيَمُّمِ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوْ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ أَوْ الِاكْتِفَاءِ بِتَيَمُّمِ وَاحِدٍ وَقَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ الْمَنعِ مِن قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ ..".
ومن الأسبابِ التي تدعو المفتي إلى ذكر الأقوال أنه قد لا يتبين له رجحانُ أحد القولين لتكافؤ الأدلة -مثلاً- وهذا المنهج في الفتوى معمولٌ به عند سلفنا من العلماء، ومن نظر في كتب الفتاوى كفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام النووي والسبكي والرملي وصاحب المعيار وصاحب النوازل وغيرهم علم حقيقة ما قلناه. ومع ذلك فعلينا أنْ نسعى جاهدين، أنْ نبحث المسألة من كل جوانبها معملين النظر في الأدلة والدلالات مهتدين بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نتجاوز فَهْمَ خير القرون وسلف هذه الأمة، دون إغفال لمقاصد الشريعة.
20-الاختلافُ في الأحكام الشرعية... حكمتُه..وأسبابه(1)
المذهبُ لغة: مكان الذهاب. واصطلاحاً: ما اختص به المجتهد من الأحكام الشرعية الفرعية الاجتهادية المستفادة من الأدلة الظنية. ذكر ذلك جمعٌ من العلماء منهم: الحموي في شرحه على الأشباه والنظائر لابن نجيم(2). وقال الهيثميُّ في تحفة المحتاج: وأصله مكان الذهاب، ثم استعير لما يذهب إليه من الأحكام تشبيها للمعقول بالمحسوس(3). انتهى .
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 6507) رقم الفتوى 26350 الاختلاف في الأحكام الشرعية... حكمته..وأسبابه تاريخ الفتوى : 12 شوال 1423
(2) - غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر - (ج 1 / ص 40)
(3) - تحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 1 / ص 149)(1/65)
واعلم أخي أنَّ اختلاف الأئمة المجتهدين رحمةٌ من الله تعالى، قال العلامة بدر الدين الزركشي(1): اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُنَصِّبْ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَدِلَّةً قَاطِعَةً ، بَل جَعَلَهَا ظَنِّيَّةً قَصْدًا لِلتَّوْسِيعِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ ، لِئَلَّا يَنْحَصِرُوا فِي مَذْهَبٍ وَاحِدٍ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ يه. انتهى .
وقال الإمامُ ابن قدامة رحمه الله عن اختلاف الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين: اتِّفَاقُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ ، وَاخْتِلَافُهُمْ رَحْمَةٌ وَاسِعَةٌ(2).
ونقول : إنَّ الخلاف ينتج عن أسباب كثيرة منها:
__________
(1) - في البحر المحيط 8/120 و البحر المحيط - (ج 7 / ص 390)
(2) - فتاوى يسألونك - (ج 5 / ص 195) ودرر الحكام شرح غرر الأحكام - (ج 1 / ص 1) والمغني - (ج 1 / ص 2)(1/66)
1-عدمُ بلوغ الحديث إلى بعض المجتهدين وبلوغه البعض الآخر. قال الإمام ابن القيم في الصواعق المرسلة :(1)فإن مجموع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقواله وأفعاله وإقراره لا يوجد عند رجل واحد أبداً، ولو كان أعلمَ أهل الأرض، فإنْ قيل: فالسنَّة قد دونت وجمعت وضبطت وصار ما تفرق منها عند الفئة الكثيرة مجموعاً عند واحد، قيل: هذه الدواوينُ المشهورة في السنن إنما جمعت بعد انقراض عصر الأئمة المتبوعين، ومع هذا فلا يجوز أن يدعَّى انحصار سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دواوينَ معينة، ثم لو فرضَ انحصارُ السنَّة في هذه الدواوين فليس كل ما فيها يعلمه العالم، ولا يكاد يحصل ذلك لأحد أبداً؛ بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط علماً بما فيها، بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين كانوا أعلم بالسنَّة من المتأخرين بكثير، لأن كثيراً مما بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا إلا عن مجهول أو بإسناد منقطع أو لا يبلغنا بالكليَّة، وكانت دواوينُهم صدورَهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين. انتهى.
ومثل ذلك تماماً قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(2).
2-ومنها: أنَّ الحديثَ قد يبلغ الأئمة ولكنهم يختلفون بعد ذلك في صحته لأمور، منها: الاختلاف في بعض الرواة توثيقاً وتضعيفاً، أو الاختلاف في شروط الصحة، وهل يعتبر المرسل حجة أم لا؟ وهل يعمل بالضعيف أم لا؟ وقد يبلغ بعضهم الحديث بسند صحيح ويبلغ الآخر بسند ضعيف.
__________
(1) - 2/542 والصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة - (ج 1 / ص 181)الشاملة 2
(2) - في مجموع الفتاوى 20/293(1/67)
قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى وهو يتكلم عن أسباب الخلاف(1): السَّبَبُ الثَّالِثُ : اعْتِقَادُ ضَعْفِ الْحَدِيثِ بِاجْتِهَادِ قَدْ خَالَفَهُ فِيهِ غَيْرُهُ انتهى
وقال ابن القيم(2): فقد يعتقد أحد المجتهدين ضعف رجل ويعتقد الآخر ثقته وقوته، وقد يكون الصواب مع المضعِّف لاطلاعه على سببٍ خفيَ على الموثِق، وقد يكون الصواب مع الآخر لعلمه بأنَّ ذلك السببَ غيرٌ قادح في روايته وعدالته..... انتهى
3-ثم إنْ بلغَ الجميع واتفقوا على صحته، فقد يختلفون في فهمه أو ضبطه من حيث اللغة. فكم من الأحكام تختلف بناء على رفع كلمة أو خفضها، وهل ذلك الحديث أو تلك الآية منسوخة أم محكمة؟ وهل دلالة الآية أو الحديث عامة باقية على عمومها أم هي مخصوصة؟ وهل هي مطلقة أم مقيدة؟ وهل المراد بها الحقيقة أو المجاز؟ أو يكون اللفظ في عرف الشرع له معنيان فيحمله عالم على معنى، ويحمله الآخر على المعنى الآخر.
ومن أسباب الاختلافِ: اشتراطُ بعضهم في خبر الواحد شروطاً لا يشترطها غيره. قال الإمام ابن القيم(3): السبب الرابع: اشتراطُ بعضهم في خبر الواحد العدل شروطاً يخالفه فيها غيره، كاشتراط بعضهم أنْ يكون فقيها إذا خالف ما رواه القياس، واشتراط بعضهم انتشار الحديث وظهوره إذا كان مما تعم به البلوى... "
21-الاختلافُ المحمود والاختلافُ المذموم(4)
__________
(1) - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة - (ج 1 / ص 182) ومجموع الفتاوى - (ج 20 / ص 240) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 4 / ص 287)
(2) - في الصواعق المرسلة 2/556 و الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة - (ج 1 / ص 182)
(3) - في الصواعق المرسلة 2/559 والصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة - (ج 1 / ص 183)
(4) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 4202) رقم الفتوى 8675 الاختلاف المحمود والاختلاف المذموم تاريخ الفتوى : 27 ربيع الأول 1422(1/68)
التفرقُ في الدين أو الاختلاف فيه ينقسم إلى قسمين:
الأول: ما كان اختلافاً في العقائد، وأصول الأحكام الثابتة، وما ثبت بإجماع صحيح عن خير القرون، فهذا تفرقٌ مذمومٌ بلا شك، ذلك أن دلائل تلك المسائل واضحة في الكتاب والسُّنَّة، مجمع عليها عند سلف الأمة، فالمخالف فيها متبع للهوى مفارق لسبيل المؤمنين، مقدم عقله على نصوص الوحي، وهذا قد ذمَّه الله ورسوله والمؤمنون
أما الاختلاف في فروع العقيدة ، فقد وقع منذ عهد الصحابة ، فمنه ما هو سائغ وهو مما احتملته النصوص الشرعية ، ومنه ما هو غير سائغ وهو الذي يخالف النصوص الشرعية الثابتة ،كما حدث مع كثير من الفرق التي خالفت منهج أهل السنة والجماعة في فهم النصوص الشرعية ، قال ابن تيمية :" وَمَا زَالَ السَّلَفُ يَتَنَازَعُونَ فِي كَثِيرٍ مِن هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ مِنهُمْ عَلَى أَحَدٍ لَا بِكُفْرِ وَلَا بِفِسْقِ وَلَا مَعْصِيَةٍ كَمَا أَنْكَرَ شريح قِرَاءَةَ مَن قَرَأَ { بَل عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يَعْجَبُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي فَقَالَ إنَّمَا شريح شَاعِرٌ يُعْجِبُهُ عِلْمُهُ . كَانَ عَبْدُ اللَّهِ أَعْلَمَ مِنهُ وَكَانَ يَقْرَأُ { بَل عَجِبْتَ }(1). وَكَمَا نَازَعَتْ عَائِشَةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الصَّحَابَةِ فِي رُؤْيَةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - رَبَّهُ وَقَالَتْ : مَن زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ ، وَلَكِنْ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ فِى صُورَتِهِ ، وَخَلْقُهُ سَادٌّ مَا بَيْنَ الأُفُقِ(2).
__________
(1) - المستدرك للحاكم(3608) صحيح
(2) - صحيح البخارى(3234 )(1/69)
وَمَعَ هَذَا لَا نَقُولُ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمُنَازِعِينَ لَهَا : إنَّهُ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ . وَكَمَا نَازَعَتْ فِي سَمَاعِ الْمَيِّتِ كَلَامَ الْحَيِّ وَفِي تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ."(1)
وَمَعَ هَذَا فَمَا أَوْجَبَ هَذَا النِّزَاعُ تَهَاجُرًا وَلَا تَقَاطُعًا . وَكَذَلِكَ نَاظَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد أَقْوَامًا مِن أَهْلِ السُّنَّةِ فِي " مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ لِلْعَشَرَةِ بِالْجَنَّةِ " حَتَّى آلَتْ الْمُنَاظَرَةُ إلَى ارْتِفَاعِ الْأَصْوَاتِ، وَكَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ وَلَمْ يَهْجُرُوا مَن امْتَنَعَ مِن الشَّهَادَةِ ؛ إلَى مَسَائِلَ نَظِيرِ هَذِهِ كَثِيرَةٍ(2).
الثاني: ما كان خلافاً في الفروع الفقهية والمسائل التي لم تجمع الأمة فيها على رأيٍ واحد، وذلك كالاختلاف الواقع في المذاهب الأربعة، وكثير من المسائل الحادثة التي اختلف فيها أهل العلم، فهذا النوع من الاختلاف غيرُ مذمومٍ إذا وقع من أهله العارفين بأصوله، بل يمدحُ إن كان الحاملُ عليه اتباعَ الحق وتقديمه، ذلك أن نصوص القرآن والسُّنَّة في بيان تلك الأحكام ظنيةٌ في دلالتها، فربما رجح مجتهد مالم يرجحه آخر، فالكلُّ مأجور في اجتهاده، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ » متفق عليه(3).
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 3 / ص 229)
(2) - مجموع الفتاوى - (ج 6 / ص 502)
(3) - صحيح البخارى برقم(7352 ) وصحيح مسلم برقم(4584)(1/70)
وقد كان خلاف الصحابة، وأئمة السلف من هذا النوع، فلم يوجب فسقاً ولا بدعة، بل كان بعضهم يجلُّ بعضاً، ويكرمه من غير أن يكون خلافهم لتفرقهم، طالما أن الحقَّ بغيةُ كل واحدٍ منهم ومطلبه، لكن خلفهم خلوفٌ ادعَى كلُّ طائفةٍ منهم التمسك برأي إمامٍ، وتعصبَ كلُّ فريق لإمامة، وضللَّ الطائفة الأخرى، فتركت كل طائفة بعض ما أمرت به من الحقِّ، وارتكبت بعض ما نهيت عنه، فوقعت العداوةُ والبغضاءُ، شأن أهل الكتاب من قبلنا، فلله الأمر من قبل ومن بعدُ. والله المستعان.
22- الاختلاف المذموم والمحمود
الاختلاف المذموم(1):
وهو اختلاف تضاد ، ويرجع إلى أسباب خلقية متعددة ، ومن هذه الأسباب :
1- الغرور بالنفس والإعجاب بالرأي .
2- سوء الظن والمسارعة إلى اتهام الآخرين بغير بينة .
3- الحرص على الزعامة أو الصدارة أو المنصب .
4- اتباع الهوى وحب الدنيا .
5- التعصب لأقوال الأشخاص والمذاهب والطوائف .
6- العصبية لبلد أو إقليم أو حزب أو جماعة أو قائد .
7- قلة العلم في صفوف كثير من المتصدرين .
8- عدم التثبت في نقل الأخبار وسماعها .
وهذه الأسباب وغيرها من الرذائل الأخلاقية والمهلكات هي التي ينشأ عنها اختلاف غير محمود وتفرق مذموم ، وكل واحد من هذه الأسباب يطول شرحه ، وسنأتي على ذكر الكثير من هذه الأسباب عند الكلام عن القواعد العلمية والأخلاقية في أدب الخلاف .
الاختلاف المحمود(2):
وهو اختلاف تنوع ، وهو عبارة عن الآراء المتعددة التي تصب في مشرب واحد ، ومن ذلك ما يعرف بالخلاف الصوري ، والخلاف اللفظي ، والخلاف الاعتباري . وهذه الاختلافات مردها إلى أسباب فكرية ، واختلاف وجهات النظر ، في بعض القضايا العلمية ، كالخلاف في فروع الشريعة ، وبعض مسائل العقيدة التي لا تمس الأصول القطعية .
__________
(1) - آداب الحوار وقواعد الاختلاف - (ج 1 / ص 31)
(2) - آداب الحوار وقواعد الاختلاف - (ج 1 / ص 32)(1/71)
وكذلك الاختلافات في بعض الأمور العملية ، كالخلاف في بعض المواقف السياسية ، ومناهج الإصلاح والتغيير ، ويدخل في الخلافات الفكرية : اختلاف الرأي في تقويم بعض المعارف والعلوم مثل : علم الكلام والمنطق والفلسفة والتصوف . والاختلاف في تقويم الأحداث التاريخية وبعض الشخصيات التاريخية والعلمية .
وهذا الخلاف ليس فيه مذمة ، وإنما الذم في عدم مراعاة آداب الخلاف العملية والأخلاقية التي سيأتي ذكرها في ثنايا هذا البحث .
وجود الخلاف في خير قرون الأمة :
لقد كان الخلاف موجودًا في عصر الأئمة المتبوعين الكبار : أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والثوري والأوزاعي وغيرهم . ولم يحاول أحد منهم أن يحمل الآخرين على رأيه أو يتهمهم في علمهم أو دينهم من أجل مخالفتهم .
بل كان الخلاف موجودًا في عصر شيوخ الأئمة وشيوخ شيوخهم من التابعين الكبار والصغار ، بل كان الخلاف موجودا في عصر الصحابة نظرًا لاختلاف أفهامهم وتفسيرهم للنصوص .
بل إن الخلاف وجد في عهد النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، فأقره ولم ينكره ، كما في قضية صلاة العصر في بني قريظة ، وهي مشهورة ، وفي غيرها من القضايا.
فأما طبيعة الدين :
فقد أراد الله أن يكون في أحكامه المنصوص عليه والمسكوت عنه ، وأن يكون في المنصوص عليه : المحكمات والمتشابهات ، والقطعيات والظنيات ، والصريح والمؤول ، لتعمل العقول في الاجتهاد والاستنباط ، فيما يقبل الاجتهاد .
ولو شاء الله لأنزل كتابه كله نصوصًا محكمة قطعية الدلالة ، لا تختلف فيها الأفهام ، ولا تتعدد التفسيرات . ولكنه لم يفعل ذلك ، لتتفق طبيعة الدين مع طبيعة اللغة ، وطبيعة الناس وضروريات الزمن .
وأما طبيعة اللغة :
فإن نصوص القرآن والسُّنَّة ، جاءت على وفق ما تقتضيه اللغة في المفردات والتراكيب ، ففيها اللفظ المشترك الذي يحتمل أكثر من معنى ، وفيها ما يحتمل الحقيقة والمجاز ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد .
وأما طبيعة البشر :(1/72)
فقد خلقهم الله مختلفين ، فكل إنسان له شخصيته المستقلة ، وتفكيره المتميز ، وميوله الخاصة ، ومن العبث صب الناس في قالب واحد ، ومحو كل اختلاف بينهم ، فهذا أمر مخالف للفطرة التي فطر الله عليها الناس .
وأما طبيعة الكون والحياة :
فالكون الذي نعيش في جزء صغير منه ، خلقه الله - سبحانه - مختلف الأنواع والصور والألوان ، وهذا الاختلاف ليس اختلاف تضارب وتناقض بل هو اختلاف تنوع .
وكذلك طبيعة الحياة ، فهي أيضا تختلف وتتغير بحسب مؤثرات متعددة ، في المكان والزمان .
فالخلاف سنة كونية اقتضتها الحكمة الإلهية ، قال الله عز وجل : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً } [هود : 118] .
وفي الأثر :" لَا يَزَال النَّاس بِخَيْرٍ مَا تَفَاضَلُوا فَإِذَا تَسَاوَوْا هَلَكُوا" يَعْنِي لَا يَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا كَانَ فِيهِمْ أَهْل فَضْل وَصَلَاح وَخَوْف مِنَ اللَّه يُلْجَأ إِلَيْهِمْ عِنْد الشَّدَائِد وَيُسْتَشْفَى بِآرَائِهِمْ وَيُتَبَرَّك بِدُعَائِهِمْ وَيُؤْخَذ بِتَقْوِيمِهِمْ وَآثَارهمْ .(1).
الاختلاف رحمة(2):
الاختلاف مع كونه ضرورة ، هو كذلك رحمة بالأمة وتوسعة عليها .
ولهذا اجتهد الصحابة واختلفوا في أمور جزئية كثيرة ، ولم يضيقوا ذرعا بذلك بل نجد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز يقول عن اختلاف الصحابة رضي الله عنهم : "ما يسرني أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا ، لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن لنا رخصة" .
__________
(1) - انظر : [ فتح الباري 13 / 16] .
(2) - مجموع الفتاوى - (ج 30 / ص 80) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 4 / ص 88) وأبحاث هيئة كبار العلماء - (ج 3 / ص 177) والصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم - (ج 1 / ص 37)(1/73)
فهم باختلافهم أتاحوا لنا فرصة الاختيار من أقوالهم واجتهاداتهم ، كما أنهم سنوا لنا سنة الاختلاف في القضايا الاجتهادية ، وظلوا معها إخوة متحابين .
الاختلاف ثروة :
اختلاف الآراء الاجتهادية يثري الفقه ، وينمو ويتسع ، لأن كل رأي يستند إلى أدلة واعتبارات شرعية .
وبهذا التعدد والتنوع تتسع الثروة الفقهية التشريعية ، وإن تعدد المذاهب الفقهية وكثرة الأقوال كنوز لا يقدر قدرها وثروة لا يعرف قيمتها إلا أهل العلم والبحث ، فقد يكون بعضها أكثر ملاءمة لزمان ومكان من غيره(1).
23- بيانُ أسباب اختلاف مذاهب الفقهاء(2)
قال الإمام ولي الله الدهلوي في الحجة البالغة: "اعلم أن الله تعالى أنشأ بعد عصر التابعين نشئا من حملة العلم إنجازا لما وعده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حيث قال " يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِن كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ ، يَنْفُونَ عَنهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ ".(3)
__________
(1) - الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم ، للقرضاوي ، ص 53 .
(2) - حجة الله البالغة - (ج 1 / ص 280)
(3) - عدي 1/152 و153 و3/904 وبداية 10/337 وعقيلي 1/9 و10 و4/256 وشرف 14و 52 و 53 و 55 و 56 حسن لغيره(1/74)
فأخذوا عمن اجتمعوا معه منهم صفة الوضوء والغسل والصلاة والحج والنكاح والبيوع وسائر ما يكثر وقوعه ، ورووا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمعوا قضايا قضاة البلدان وفتاوى مفتيها ، وسألوا عن المسائل واجتهدوا في ذلك كله، ثم صاروا كبراءَ قوم ووسِّد إليهم الأمرُ فنسجوا على منوال شيوخهم، ولم يألوا في تتبع الإيماآت والاقتضاآت فقضوا وأفتوا ورووا وعلموا ، وكان صنيع العلماء في هذه الطبقة متشابهاً ، وحاصلُ صنيعهم أن يتمسك بالمسنَد من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمرسلٍ جميعا، ويستدلُّ بأقوال الصحابة والتابعين علما منهم أنها إما أحاديث منقولة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتقروها فجعلوها موقوفة، فعَن إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ " فَقِيلَ لَهُ : أَمَا تَحْفَظُ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا غَيْرَ هَذَا ، قَالَ : بَلَى ، وَلَكِنْ أَقُولُ قَالَ : عَبْدُ اللَّهِ ، قَالَ عَلْقَمَةُ ، أَحَبُّ إِلَيَّ .(1)
وعن عَاصِمَ قَالَ : سَأَلْتُ الشَّعْبِىَّ عَن حَدِيثٍ فَحَدَّثَنِيهِ فَقُلْتُ : إِنَّهُ يُرْفَعُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَالَ : لاَ ، عَلَى مَن دُونَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَحَبُّ إِلَيْنَا ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ كَانَ عَلَى مَن دُونَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - (2).
__________
(1) - سنن الدارمى (273) صحيح
المحاقلة : هى المزارعة على نصيب معلوم = المزابنة : بيع ثمر النخل بالتمر كيلا وبيع العنب بالزبيب كيلا
(2) - سنن الدارمى (272) حسن(1/75)
أو يكون استنباطاً منهم من المنصوص ، أو اجتهادا منهم بآرائهم ، وهم أحسنُ صنيعا في ذلك ممن يجيء بعدهم ، وأكثرُ إصابةً ، وأقدمُ زماناً ، وأوعَى علماً، فتعيَّنَ العملُ بها، إلا إذا اختلفوا وكان حديثُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخالفُ قولُهم مخالفةً ظاهرةً، وأنه إذا اختلفتْ أحاديثُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسألةٍ رجعوا إلى أقوال الصحابة، فإن قالوا بنسخ بعضها أو بصرفه عن ظاهره أو لم يصرحوا بذلك، ولكن اتفقوا على تركه وعدم القول بموجبه، فإنه كإبداء علَّةٍ فيه أو الحكم بنسخه أو تأويله اتبعوهم في كل ذلك ، وهو قول مالك في حديث ولوغ الكلب جاء هذا الحديث ولكن لا أدري ما حقيقته ، حكاه ابن الحاجب في مختصر الأصول يعني لم أر الفقهاء يعملون به ، وأنه إذا اختلفت مذاهب الصحابة والتابعين في مسألة فالمختارُ عند كلِّ عالمٍ مذهبُ أهل بلده وشيوخه، لأنه أعرفُ بصحيح أقاويلهم من السقيم ، وأوعى للأصول المناسبة لها، وقلبه أميل إلى فضلهم وتبحرهم، فمذهب عمر وعثمان وابن عمر وعائشة وابن عباس وزيد بن ثابت وأصحابهم مثلُ سعيد بن المسيب، فإنه كان أحفظَهم لقضايا عمر وحديث أبي هريرة ، ومثل عروة وسالم وعكرمة وعطاء بن يسار وقاسم وعبيد الله بن عبد الله والزهري ويحيى بن سعيد وزيد بن أسلم وربيعة وأمثالهم أحقُّ بالأخذ من غيره عند أهل المدينة لما بينَه النبيُ - صلى الله عليه وسلم - في فضائلِ المدينة، ولأنها مأوى الفقهاءِ ، ومجمعُ العلماء في كل عصر ، ولذلك ترى مالكا يلازم محجتهم ، وقد اشتهر عن مالك أنه متمسك بإجماع أهل المدينة، وعقد البخاريُّ بابا في الأخذ بما اتفق عليه الحرمانِ.(1/76)
ومذهب عبد الله بن مسعود وأصحابه وقضايا علي وشريح والشعبي وفتاوى إبراهيم أحق بالأخذ عند أهل الكوفة من غيره ، وهو قول علقمة حين مال مسروق إلى قول زيد بن ثابت في التشريك قال : هل أحد منهم أثبت من عبد الله ؟ فقال : لا ،ولكن رأيت زيد بن ثابت وأهل المدينة يشركون، فإن اتفق أهلُ البلد على شيء أخذوا عليه بالنواجذ، وهو الذي يقول في مثله مالك: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا كذا وكذا ،وإن اختلفوا أخذوا بأقواها وأرجحها، إما لكثرة القائلين به أو لموافقته لقياس قويٍّ ،أو تخريج من الكتاب والسُّنَّة ، وهو الذي يقول في مثله مالك :هذا أحسن ما سمعت ، فإذا لم يجدوا فيما حفظوا منهم جواب المسألةِ خرَّجوا من كلامهم ، وتتبعوا الإيماء والاقتضاء، وألهموا في هذه الطبقة التدوينَ ، فدوَّن مالكٌ ومحمدُ بن عبد الرحمن بن أبي ذئب بالمدينة ، وابنُ جريج وابنُ عيينة بمكة ، والثوريُّ بالكوفة ، والربيعُ بن صبيح بالبصرة ، وكلُّهم مشوا على هذا النهج الذي ذكرته.(1/77)
عن مُحَمَّدَ بْنِ عُمَرَ قَالَ : سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ : " لَمَّا حَجَّ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنصُورُ دَعَانِي فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَحَدَّثْتُهُ وَسَأَلَنِي فَأَجَبْتُهُ ، فَقَالَ : إِنِّي قَدْ عَزَمْتُ أَنْ آمُرَ بِكُتُبِكَ هَذِهِ الَّتِي وَضَعْتَهَا - يَعْنِي الْمُوَطَّأَ - فَيُنْسَخُ نُسَخًا ثُمَّ أَبْعَثُ إِلَى كُلِّ مِصْرٍ مِن أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ مِنهَا نُسْخَةً وَآمُرُهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا لَا يَتَعَدَّوْنَ إِلَى غَيْرِهِ , وَيَدَعُونَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِن هَذَا الْعِلْمِ الْمُحْدَثِ ؛ فَإِنِّي رَأَيْتُ أَصْلَ الْعِلْمِ رِوَايَةَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعِلْمَهُمْ، قَالَ : فَقُلْتُ : " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ سَبَقَتْ إِلَيْهِمْ أَقَاوِيلُ وَسَمِعُوا أَحَادِيثَ وَرَوَوْا رِوَايَاتٍ وَأَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا سَبَقَ إِلَيْهِمْ وَعَمِلُوا بِهِ وَدَانُوا بِهِ مِنَ اخْتِلَافِ النَّاسِ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَغَيْرَهُمْ ، وَإِنَّ رَدَّهُمْ عَمَّا اعْتَقَدُوهُ شَدِيدٌ ، فَدَعِ النَّاسَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ وَمَا اخْتَارَ كُلُّ أَهْلِ بَلَدٍ لِأَنْفُسِهِمْ ، فَقَالَ : لَعَمْرِي لَوْ طَاوَعْتَنِي عَلَى ذَلِكَ لَأَمَرْتُ بِهِ" وَهَذَا غَايَةٌ فِي الْإِنْصَافِ لِمَن فَهِمَ "(1)
__________
(1) - جامع بيان العلم : (622 ) وابن سعد ( 6606 ) وغيرهما وهي صحيحة(1/78)
وكان مالك رضي الله عنه أثبتهم في حديث المدنيين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوثقهم إسنادا وأعلمهم بقضايا عمر وأقاويل عبد الله بن عمر وعائشة وأصحابهم من الفقهاء السبعة ، وبه وبأمثاله قام علمُ الروايةِ والفتوى ، فلما وسِّدَ إليه الأمرُ حدَّث وأفتى وأفاد وأجاد ، وعليه انطبق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - « يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الإِبِلِ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَلاَ يَجِدُونَ أَحَدًا أَعْلَمَ مِن عَالِمِ الْمَدِينَةِ ».على ما قاله ابن عيينة وعبد الرزاق.(1)
وناهيك بهما، فجمع أصحابُه رواياته ومختاراته ولخصوها وحرروها وشرحوها، وخرَّجوا عليها وتكلَّموا في أصولها ودلائلها ، وتفرقوا إلى المغرب ونواحي الأرض فنفع الله بهم كثيرا من خلقه، وإن شئت أن تعرف حقيقة ما قلناه من أصل مذهبه فانظر في كتاب الموطأ تجده كما ذكرنا .
__________
(1) - سنن الترمذى (2896 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عُيَيْنَةَ. وَقَدْ رُوِىَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ فِى هَذَا سُئِلَ مَنْ عَالِمُ الْمَدِينَةِ فَقَالَ إِنَّهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ هُوَ الْعُمَرِىُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزَ الزَّاهِدُ. وَسَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مُوسَى يَقُولُ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ هُوَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ. وَالْعُمَرِىُّ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِن وَلَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.(1/79)
وكان أبو حنيفة رضي الله عنه ألزمَهم بمذهب إبراهيم وأقرانه ، لا يجاوزه إلا ما شاء الله ، وكان عظيمَ الشأن في التخريج على مذهبه دقيقَ النظر في وجوه التخريجات، مقبلاً على الفروع أتمَّ إقبالٍ، وإن شئتَ أن تعلمَ حقيقةَ ما قلناه، فلخِّص أقوالَ إبراهيم من كتاب الآثارِ لمحمد رحمه الله ، وجامع عبد الرزاق، ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة ثم قايسْه بمذهبِه تجدْه لا يفارقُ تلك المحجَّة إلا في مواضع يسيرة، وهو في تلك اليسيرةِ أيضاً لا يخرجُ عما ذهب إليه فقهاءُ الكوفةِ .(1/80)
وكان أشهرَ أصحابه ذكرا أبو يوسف تولَّى قضاءَ القضاة أيام هارون الرشيد ، فكان سبباً لظهورِ مذهبه، والقضاء به في أقطارِ العراق وخراسانِ وما وراء النهرِ، وكان أحسنَهم تصنيفاً وألزمَهم درساَ محمدُ بنُ الحسن، فكان منْ خبره أنه تفقَّه على أبي حنيفة وأبي يوسف ثم خرج إلى المدينة فقرأ الموطأ على مالك، ثمَّ رجع إلى بلده فطبَّقَ مذهبَ أصحابهِ على الموطأ مسألةً مسألةً ، فإنْ وافقَ منها ، وإلا فإن رأى طائفة من الصحابة والتابعين ذاهبين إلى مذهب أصحابه فكذلك ، وإن وجدَ قياساً ضعيفاً أو تخريجاً ليِّناً يخالفُه حديثٌ صحيحٌ مما عملَ به الفقهاءُ أو يخالفُه عملُ أكثرِ العلماء تركَهُ إلى مذهبٍ من مذاهبِ السلف، مما يراه أرجحُ ما هناك، وهما أي أبو يوسف ومحمد لا يزالان على محجة إبراهيم ما أمكن لهما، كما كان أبو حنيفة رحمه الله يفعل ذلك ، وإنما كان اختلافُهم في أحد شيئينِ : إما أن يكون لشيخهما تخريجٌ على مذهب إبراهيم يزاحمانه فيه ، أو يكون هناك لإبراهيمَ ونظرائه أقوالٌ مختلفةٌ يخالفانِ شيخهما في ترجيحِ بعضهما على بعض، فصنَّف محمدٌ رحمه الله وجمعَ رأي هؤلاء الثلاثةِ، ونفع كثيرا من الناس فتوجَّه أصحابُ أبي حنيفة رضي الله عنه إلى تلك التصانيف تلخيصاً وتقريباً أو شرحاً أو تخريجاً أو تأسيساً أو استدلالاً ، ثم تفرقوا إلى خراسان وما وراء النهر فسميَ ذلك مذهبُ أبي حنيفة ،وإنما عدَّ مذهبُ أبي حنيفةَ مع مذهب أبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى واحداً، مع أنهما مجتهدان مطلقانِ مخالفتهما غير قليلةٍ في الأصول والفروع، لتوافقِهم في هذا الأصل ، ولتدوين مذاهبهم جميعاً في المبسوطِ والجامعِ الكبيرِ.
ونشأ الشافعيُّ رضي الله عنه في أوائل ظهور المذهبين وترتيب أصولهما وفروعهما ، فنظر في صنيع الأوائل فوجدَ فيه أموراً، كبحتْ عنانَه عن الجريان في طريقهم وقد ذكرها في أوائل كتابه الأم :
((1/81)
1)- منها أنه وجدهم يأخذون بالمرسلِ والمنقطعِ فيدخل فيهما الخللُ، فإنه إذا جمع طرق الحديث يظهرُ أنه كمْ من مرسلٍ لا أصلَ له ، وكم من مرسلٍ يخالفُ مسنداً، فقرر ألا يأخذَ بالمرسَل إلا عند وجود شروطٍ، وهي مذكورة في كتب الأصولِ .
(2)- ومنها أنه لم تكنْ قواعدُ الجمعِ بين المختلفات مضبوطةٌ عندهم ، فكان يتطرقُ بذلك خللٌ في مجتهداتِهم ، فوضع لها أصولاً، ودوَّنها في كتاب، وهذا أولُ تدوينٍ كان في أصول الفقه .
مثاله ما بلغنا أنه دخل على محمد بن الحسن وهو يطعنُ على أهل المدينة في قضائهم بالشاهدِ الواحدِ مع اليمينِ، ويقول: هذا زيادة على كتاب الله، فقال الشافعي: أثبَتَ عندك أنه لا تجوزُ الزيادةُ على كتاب اللهِ بخبرِ الواحدِ ؟
قال: نعم ، قال: فلم قلت: إن الوصية للوارث لا تجوز لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ألا لا وصية لوارث ، وقد قال الله تعالى { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (181) سورة البقرة، وأورد عليه أشياء من هذا القبيل فانقطع كلامُ محمد بن الحسن .
(3) ومنها أن بعض الأحاديث الصحيحة لم تبلغ علماء التابعين ممن وسِّد إليهم الفتوى فاجتهدوا بآرائهم أو اتبعوا العموميات أو اقتدوا بمن مضَى من الصحابة فأفتوا حسب ذلك ، ثم ظهرتْ بعد ذلك في الطبقة الثالثة فلم يعملوا بها ظنًّا منهم أنها تخالفُ عملَ أهلِ مدينتِهم وسنَّتِهم التي لا اختلاف لهم فيها، وذلك قادحٌ في الحديثِ أو علةٌ مسقطةٌ له، أو لم تظهرْ في الثالثة وإنما ظهرتْ بعد ذلك عندما أمعنَ أهلُ الحديث في جمعِ طرقِ الحديثِ، ورحلوا إلى أقطارِ الأرض وبحثوا عن حملة العلم.
فكثيرٌ من الأحاديث لا يرويه من الصحابة إلا رجلٌ أو رجلانِ، ولا يرويه عنه أو عنهما إلا رجلٌ أو رجلانِ وهلم جرا، فخفيَ على أهل الفقهِ، وظهر في عصر الحفَّاظ الجامعينَ لطرق الحديث.(1/82)
وكثيرٌ من الأحاديث رواهُ أهل البصرة مثلاً وسائرُ الأقطار في غفلةٍ عنه، فبيَّنَ الشافعيُّ رحمه الله تعالى أنَّ العلماءَ من الصحابة والتابعين لم يزلْ شأنُهم أنهم يطلبونَ الحديثَ في المسألة ، فإذا لم يجدوا تمسَّكوا بنوع آخر من الاستدلال، ثم إذا ظهر عليهمُ الحديثُ بعدُ رجعوا عن اجتهادهم إلى الحديثِ، فإذا كان الأمر على ذلك لا يكونُ عدمُ تمسُّكهم بالحديث قدحاً فيه، اللهم إلا إذا بيَّنوا العلَّة القادحةَ.
مثاله حديثُ القلَّتين، فإنه حديثٌ صحيحٌ روي بطرق كثيرةٍ معظمُها ترجعُ إلى نسخةِ الوليدِ، أو أبي الوليد بن كثيرٍ عن محمد بن جعفر بن الزبير ،أو محمد بن عباد بن جعفر عن عبيد الله بن عبد الله وكلاهما عن ابن عمر ثم تشعبت الطرق بعد ذلك.(1/83)
وهذان وإنْ كانا من الثقات لكنهما ليسا ممن وسِّدَ إليهم الفتوَى وعوَّل الناسُ عليهم، فلم يظهرِ الحديثُ في عصر سعيد بن المسيب، ولا في عصر الزهري ، ولم يمشِ عليه المالكيةُ، ولا الحنفيةُ ، فلم يعملوا به، وعمل به الشافعيُّ .(1)
وحديث خيار المجلس فإنه حديث صحيح(2)
__________
(1) - ففي سنن الترمذى (67 )عَن مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُسْأَلُ عَنِ الْمَاءِ يَكُونُ فِى الْفَلاَةِ مِنَ الأَرْضِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ ». قَالَ عَبْدَةُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقُلَّةُ هِىَ الْجِرَارُ وَالْقُلَّةُ الَّتِى يُسْتَقَى فِيهَا. قَالَ أَبُو عِيسَى وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِىِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ قَالُوا إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَىْءٌ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ رِيحُهُ أَوْ طَعْمُهُ وَقَالُوا يَكُونُ نَحْوًا مِن خَمْسِ قِرَبٍ. = القلة : الجرة العظيمة ،وانظر تخريجه وطرقه والحكم عليه مفصلا في البدر المنير - (ج 1 / ص 404)
(2) - عَن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا - أَوْ قَالَ حَتَّى يَتَفَرَّقَا - فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِى بَيْعِهِمَا ، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا » . البخاري رقم(2082)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ، أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ » . وَرُبَّمَا قَالَ أَوْ يَكُونُ بَيْعَ خِيَارٍ . صحيح البخارى( 2109 )(1/84)
روي بطرق كثيرة، وعمل به ابن عمر وأبو هريرة من الصحابة، ولم يظهر على الفقهاء السبعة ومعاصريهم فلم يكونوا يقولون به فرأى مالك وأبو حنيفة أن هذه علةٌ قادحةٌ في الحديث، وعمل به الشافعيُّ
(4) ومنها أن أقوال الصحابة جمعت في عصر الشافعيِّ فتكثرت واختلفت وتشعبت، ورأى كثيراً منها يخالفُ الحديثَ الصحيحَ حيث لم يبلغهم ، ورأى السَّلفَ لم يزالوا يرجعون في مثل ذلك إلى الحديث، فتركَ التمسكَ بأقوالهم ما لم يتفقوا ، وقال : هم رجال ونحن رجال.
(5) ومنها أنه رأى قوماً من الفقهاء يخلُطون الرأيَ الذي لم يسوِّغه الشرعُ بالقياس الذي أثبته، فلا يميزون واحداً منهما من الآخر ،ويسمونه تارةً بالاستحسان ، وأعني بالرأي أن ينصبَ مظنِّةَ حرجٍ أو مصلحةٍ علةً لحكمٍ، وإنما القياسُ أن تخرجَ العلةُ من الحكم المنصوصِ، ويدارُ عليها الحكمُ ، فأبطلَ هذا النوعَ أتمَّ إبطالٍ، وقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَن اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّع(1)، فإنه أراد أن يكون شارعاً حكاه ابن الحاجب في مختصر الأصول،مثاله رشدُ اليتيم أمرٌ خفيٌّ، فأقاموا مظِنَّة الرشدِ- وهو بلوغُ خمسٍ وعشرينَ سنةً -مقامهُ، وقالوا : إذا بلغَ اليتيمُ هذا العمرَ سلِّمَ إليه مالهُ، قالوا : هذا استحسانٌ، والقياسُ ألا يسلَّمَ إليهِ .
وبالجملةِ فلمَّا رأى الشافعيُّ في صنيع الأوائل مثلَ هذه الأمور أخذَ الفقهَ منَ الرأسِ، فأسسَ الأصولَ، وفرَّعَ الفروعَ، وصنَّف الكتبَ فأجادَ وأفادَ، واجتمعَ عليها الفقهاءُ، وتصرَّفوا فيها اختصاراَ وشرحاً واستدلالاً وتخريجاً ، ثمَّ تفرَّقوا في البلدانِ فكانَ هذا مذهبُ الشافعيِّ رحمَهُ اللهُ تعالَى " .
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - الإحكام في أصول الأحكام - (ج 2 / ص 459) والمستصفى - (ج 1 / ص 432) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 7 / ص 381) وكشف الأسرار - (ج 7 / ص 104) والبحر المحيط - (ج 7 / ص 364) والتقرير والتحبير - (ج 5 / ص 448)(1/85)
الفصل الثاني
فلسفة الاختلاف بين الفقهاء(1)
1-أهميةُ معرفة الاختلاف الفقهي:
إن معرفة الاختلاف الفقهي من شروط الاجتهاد، وكذلك الإفتاء، وفي ذلك يقول هشام بن عبد الله الرازي : من لم يعرف الاختلاف فليس بفقيه.
ويقول عطاء : لا ينبغي لأحد أن يفتي حتى يكون عالمًا باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه ، ويقول قتادة : من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه(2).
وإذا كان الافتراق حول العقائد في جملته شرًّا، فإنه يجب أن نقرر أن الاختلاف الفقهي في غير ما جاء به نص من الكتاب والسُّنَّة لم يكن شرًّا، بل كان دراسة عميقة لمعاني الكتاب والسُّنَّة وما يستنبط منها من أقيسة، ولم يكن افتراقًا بل كان خلافًا في النظر، وكان يستعين كل فقيه بأحسن ما وصل إليه الفقيه الآخر، ويوافقه أو يخالفه(3). وكان عمر بن عبد العزيز يسره اختلاف الصحابة في الفروع، ويقول: ما أحب أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا، لأنه لو كان قولًا واحدًا لكان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم لكان في سعة. وفي عبارة أخرى له أيضًا: ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم(4).
وقال القاسم بن محمد بن أبي بكر : ( لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى نفسه في سعة، أو رأى أن خيرًا منه قد عمله).
وفي عبارة أخرى: (أي ذلك أخذت به لم يكن في نفسك منه شيء). وقال يحيى بن سعيد : اختلاف أهل العلم توسعة، وما برح المفتون يختلفون فيحلل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، ولا هذا على هذا .
__________
(1) - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - (ج 2 / ص 21784) فما بعدها
(2) - الموافقات للشاطبي: 4/61.
(3) - المذاهب الإسلامية لأبي زهرة، ص12، 16.
(4) - الاعتصام للشاطبي: 13/11، والموافقات للشاطبي: 4/125.(1/86)
وبالرغم من أن معظم المنقول عن العلماء يؤكد أن في الاختلاف رحمة وخيرًا، فقد روي عن بعض العلماء عكس ذلك، فعن مالك : ليس في اختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعة، وإنما الحق في واحد . وعن المزني : ذم الله الاختلاف وأمر بالرجوع عنده إلى الكتاب والسُّنَّة .
وقد جمع شيخ الإسلام ابن تيمية بين الاتجاهين، فبين أن الاختلاف قد يكون رحمة إذا لم يُفضِ إلى شر عظيم من خفاء الحكم ، إذ قد يكون خفاء الحكم على المكلف رحمة لما في ظهوره من الشدة عليه. وقد يكون عذابًا، فإن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة(1).
2-الاختلاف الحقيقي أو المعنوي، والخلاف اللفظي:
من الأمور المهمة في المقارنة الفقهية تحرير النزاع، وذلك لاستبعاد ما ظاهره الاختلاف وليس في الحقيقة كذلك، فإذا اعتبرت الرأيين اللذين ظاهرهما الخلاف وجدتهما متفقين في المعنى بالرغم من اختلاف التعبير الموهم بوجود خلاف.
الخلاف الحقيقي أو المعنوي: ما يترتب عليه آثار شرعية مختلفة، وأحكام متباينة، أو هو ما يتعدى الخلاف فيه من الألفاظ إلى المعاني بشكل يؤثر على اختلاف النتائج والأحكام، وذلك كمسألة ما يقع بالطلاق بالثلاث مجتمعة.
والخلاف اللفظي، أو الاختلاف في العبارة: ما يرجع فيه الخلاف إلى التسمية والاصطلاح الفقهي، وذلك كتسمية جمهور الفقهاء الفرض واجبًا، ولذا كان من الخطأ نقل الخلاف في مسألة لا خلاف فيها في الحقيقة، كما أن نقل الوفاق في محل الخلاف لا يصح، والأقوال إذا أمكن اجتماعها والقول بجميعها من غير إخلال بغرض القائل، فلا يصح نقل الخلاف فيها(2).
3-الفرق بين الخلاف والاختلاف:
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية: 14/159.
(2) - منهج البحث الفقهي، د. عبد الوهاب سليمان، ص177، ومن مراجعه (سلم الوصول شرح نهاية السؤل: 1/77).(1/87)
بعض العلماء يسمي الخلاف الحقيقي (خلافًا)، ويسمي الخلاف اللفظي (اختلافًا). ومن ذلك قول الكفوي : (الاختلاف هو أن يكون الطريق مختلفًا والمقصود واحد، والخلاف هو أن يكون كلاهما مختلفًا). والغالب استعمال لفظي الخلاف والاختلاف على لسان الأصوليين والفقهاء بمعنى واحد.
غير أن الشاطبي وبعض المؤلفين في الفقه والأصول فرقوا بين الخلاف والاختلاف على نحو آخر هو أن الخلاف ما نشأ عن متابعة الهوى، وهو الاجتهاد غير المعتبر شرعًا، لصدوره عمن ليس بعارف بما يفتقر إليه الاجتهاد، أو هو قول بلا دليل. أما (الاختلاف) فهو عند هؤلاء: ما يقع من آراء للمجتهدين في المسائل الدائرة بين طرفين واضحين يتعارضان في أنظارهم، أو بسبب خفاء بعض الأدلة أو عدم الاطلاع عليها.
فالاختلاف هو نتيجة لتحري المجتهد قصد الشارع، وذلك باتباعه الأدلة على الجملة والتفصيل والبحث عنها، أي هو قول بني على دليل(1).
4-الخلاف الزمني، والخلاف البلداني:
يتباين الحكم أحيانًا في موضوع واحد بين إمام المذهب وأصحابه، أو بين الفقهاء من طبقات مختلفة في الزمن، ويكون السبب في ذلك تغير العرف باختلاف محل الحكم، ومثاله: اختلاف أبي حنيفة وصاحبيه في سقوط خيار الرؤية بمشاهدة غرفة واحدة من الدار عند أبي حنيفة ، حيث كان المعتاد بناء الغرف على نحو موحد في عصره، وخالف في ذلك صاحباه فاشترطا رؤية جميع غرف الدار، وذلك لتغير طريقة البنيان في زمنهما. ويسمي المؤلفون هذا النوع: خلاف عصر وزمان وليس خلاف حجة وبرهان.
__________
(1) - الكليات للكفوي، ص61، والموافقات للشاطبي: 4/214، 222، وفتح القدير لابن الهمام: 6/394، وحاشية ابن عابدين : 4/331.(1/88)
وقد يكون منشأ الخلاف اختلاف البلاد، ففي سقوط خيار الرؤية أيضًا يرى زفر وابن أبي ليلى أنه لابد من الدخول داخل البيوت، ولا تكفي رؤية صحن الدار، قال البابرتي : الأصح أن جواب القدوري على وفاق عادتهم في الكوفة أو بغداد في الأبنية... أما اليوم فلابد من الدخول في داخل الدار للتفاوت في مالية الدور بقلة مرافقها وكثرتها(1).
اختلاف التنوع واختلاف التضاد : سيأتي الكلام عنه فيما بعد.
5-أسباب الاختلافات الفقهية:
الينبوع الصافي لهذه الشريعة هو كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . وإن النصوص تتناهى، ولكن الحوادث لا تتناهى، فكان لابد من استنباط حكم شرعي لكل حادثة من الحوادث، والنصوص إن شملت الأحكام الكلية، لا تجيء فيها الأحكام الجزئية في النص، فكان لابد من التعرف بالنظر والفحص، وقد تشعبت بين أيدي الدارسين طرق تعرف الأحكام، وكل أخذ بما استقام في منطقه ونظره، وبما وصل إليه من حديث أو أثر لصحابي صح عنده(2).
وهذا هو السبب الرئيسي للاختلاف بين الفقهاء، وقد أشار من كتبوا في أصول الفقه ، أو تاريخ التشريع من قدامى ومعاصرين؛ إلى أسباب الاختلاف، ومن أقدمها كتاب ابن السيد البطليوسي الأندلسي، وقد لخص الشاطبي أسباب الاختلاف من كتاب ابن السيد وهي أوسع المراجع لها، وحصرها في ثمانية أسباب:
السبب الأول: الاشتراك الواقع في الألفاظ، واحتمالها للتأويلات، وهو ثلاثة أقسام:
القسم الأول: اشتراك في موضوع اللفظ المفرد؛ كالقرء للمحيض وللطهر.
القسم الثاني: اشتراك في أحواله العارضة في التصريف، نحو: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ}[البقرة: 282]، لاحتمال لفظ (يضار) وقوع الضرر منهما إذا اعتبر مبنيًا للمعلوم، أو عليهما إذا اعتبر مبنيًا للمجهول.
__________
(1) - فتح القدير: 5/144، والعناية شرح الهداية: 5/144، والاختيار للموصلي: 2/23.
(2) - المذاهب الإسلامية، الشيخ محمد أبو زهرة، ص12، 16.(1/89)
القسم الثالث: اشتراك من قبل التركيب نحو { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [فاطر: 10]، لما جاء فيه من الاختلاف في الفاعل: هل هو (الكلم) أم (العمل)؟
السبب الثاني: دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز، وهو ثلاثة أقسام أيضًا:
القسم الأول: ما يرجع إلى اللفظ المفرد، نحو: { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [النور: 35].
القسم الثاني: ما يرجع إلى أحواله، نحو: { بَل مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [سبأ: 33].
القسم الثالث: ما يرجع إلى جهة التركيب، كإيراد الممتنع بصورة الممكن، وأشباهه مما يورد من أنواع الكلام بصورة غيره، كالأمر بصورة الخبر.
السبب الثالث: دوران الدليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه، كمسألة البيع بشرط، فكل قائل بشيء منها استند إلى دليل لم يلاحظ فيه دليل غيره، كما حصل لليث بن سعد مع أبي حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة .
السبب الرابع: دورانه بين العموم والخصوص، نحو: { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } [البقرة: 256]، هل هو خبر بمعنى النهي، أو هو خبر حقيقي؟
السبب الخامس: اختلاف الرواية، وله علل ثمانية: فساد الإسناد، ونقل الحديث على المعنى، أو من الصحف، والجهل بالإعراب، والتصحيف، وإسقاط جزء الحديث، أو سببه، وسماع بعض الحديث وفوت بعضه.
السبب السادس: جهات الاجتهاد والقياس.
السبب السابع: دعوى النسخ وعدمه.
السبب الثامن: ورود الأدلة على وجوه تحتمل الإباحة وغيرها؛ كالاختلاف في الأذان والتكبير على الجنائز، ووجوه القراءات.
ويذكر ابن رشد أسباب الاختلاف - وهي عنده ستة - كما يلي:
1 - تردد الألفاظ بين أن يكون اللفظ عامًا يراد به الخاص، أو خاصًا يراد به العام، أو عامًا يراد به العام، أو خاصًا يراد به الخاص. أو يكون له دليل خطاب أو لا يكون له.(1/90)
2 - الاشتراك الذي في الألفاظ، وذلك إما في اللفظ المفرد كالقرء، أو المركب كمرجع الاستثناء في { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا } [المائدة: 34] على الفاسق فقط أو الشاهد معه، فتجوز شهادة القاذف بعد توبته.
3 - اختلاف الإعراب.
4 - تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة، أو حمله على نوع من أنواع المجاز التي هي: إما الحذف وإما الزيادة، وإما التقديم وإما التأخير، وإما تردده على الحقيقة أو الاستعارة.
5 - إطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة، كإطلاق الرقبة وتقييدها بالأيمان للعتق.
6 - التعارض في الشيئين في جميع أصناف الألفاظ التي يتلقى منها شرع الأحكام بعضها من بعض، وكذلك التعارض الذي هو معارضة القول للفعل أو للإقرار أو القياس ، ومعارضة الإقرار للقياس(1).
وقد أورد الشيخ علي الخفيف أسباب اختلاف الفقهاء بأسلوب عصري مبسط، فردها إلى ستة أسباب هي:
1 - الاختلاف في فهم بعض آيات القرآن، أو السنة النبوية.
2 - التفاوت فيما يحفظه أو يطلع عليه كل إمام، أو في ضبط حال خاصة وفي روايتها.
3 - الاختلاف في القبول أو الرد لأسانيد ما وصل من الأحاديث إلى كل إمام.
4 - التفاوت في فهم أسرار الشريعة وعللها وأغراضها.
5 - اختلاف البيئات والعادات والمعاملات باختلاف الأقطار الإسلامية وتباعدها، حيث تختلف بذلك المصالح المعتبرة التي تقوم عليها كثير من الأحكام.
6 - اختلاف المسلمين سياسيًّا في آخر عهد عثمان وفي عهد علي بظهور الشيعة والخوارج(2).
ويذكر ولي الله الدهلوي أسبابًا رئيسية للاختلاف بين فقهاء الصحابة، وأكثرها يصدق أيضًا على اختلاف غيرهم بما يتناسب مع طبيعة السبب وتصوره في عهد التابعين أو الأئمة المجتهدين. وأهم هذه الأسباب التي لها صفة العموم هي:
__________
(1) - الموافقات للشاطبي: 4/172، 211 - 214؛ وكشف الأسرار للبزدوي: 4/1196؛ بداية المجتهد، لابن رشد: 1/5 - 6.
(2) - أحكام المعاملات المالية ، للشيخ علي الخفيف، ص14 - 15.(1/91)
1 - سماع حديث في قضية ولم يسمعه مجتهد آخر فاجتهد برأيه. ثم إما أن يوافق اجتهاده الحديث رغم عدم علمه به، أو يبلغه الحديث بسند مردود فلا يأخذ به، أو لا يبلغه الحديث أصلًا.
2 - اختلاف الاجتهاد في حمل الحكم على القربة أو الإباحة .
3 - الاختلاف في الجمع بين الأمرين المتعارضين(1).
وقد لخص أحد الباحثين هذه الأسباب في تقسيم رباعي:
1 - الاختلاف في ثبوت الحديث وعدم ثبوته.
2 - الاختلاف في فهم النص.
3 - الاختلاف في طرق الجمع والترجيح بين النصوص المتعارضة.
4 - الاختلاف في القواعد الأصولية وبعض مصادر الاستنباط(2).
المقارنة بين المذاهب الفقهية:
موضوع (محل) المقارنة ومعيارها:
موضوع المقارنة: هو الفروع الاجتهادية التي تخفى أدلتها، فهذه الخلاف فيها واقع في الأمة ويعذر المخالف فيها، لخفاء الأدلة أو تعارضها أو الاختلاف في ثبوتها.
وهذا النوع هو المراد في كلام الفقهاء إذا قالوا: في المسألة خلاف، وهناك أمور أخرى ليست موضوعًا للمقارنة، لأنها ليست من المحال التي يصح فيها الاختلاف، وهي أصول الدين الأساسية التي تثبت بالأدلة القاطعة والفروع المعلومة من الدين بالضرورة(3).
__________
(1) - الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف، للدهلوي، ص23 - 30.
(2) - دراسات في الاختلافات الفقهية، د. محمد أبو الفتح البيانوني، ص33 - 34.
(3) - الموسوعة الفقهية: 2/295، ومن مراجعها إرشاد الفحول للشوكاني، ص260 - 261، وللشاطبي كلام طويل متعلق بهذا تحت عنوان محل الاجتهاد (الموافقات: 4/154).(1/92)
وقد أورد الشاطبي في هذه المسألة بيانًا دقيقًا لفلسفة التشريع في هذه المسألة فقال: موضوع الاختلاف عند الأصوليين هو ما تعددت فيه آراء المجتهدين وأهل الرأي في المسائل التي لم يرد فيها دليل قطعي، إذ محل الاجتهاد المعتبر هو ما يتردد فيه بين طرفين ويظهر في كل منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر، فأما القطعي فلا مجال للنظر فيه بعد وضوح الحق في النفي أو الإثبات وليس محلًا للاجتهاد، وكل المسائل التي وقع فيها الاختلاف إنما وقع فيها لأنها دائرة بين طرفين واضحين فحصل الإشكال والتردد، وبإحكام النظر في هذا المعنى يترشح للناظر أن يبلغ درجة الاجتهاد، لأنه يصير بصيرًا بمواضع الاختلاف جديرًا بأن يتبين له الحق في كل نازلة تعرض له. ثم أورد الشاطبي حديث ابن مسعود : أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس، وإن كان مقصورًا في العمل(1).
6-المعيار النسبي للمسائل الخلافية:
هذا عن موضوع المقارنة، أما تحديد المخالف من غيره بين المذاهب فإن الحكم بكون المسألة الفقهية خلافية لا يستقيم إلا بوضع معيار لذلك، فإنه إذا لم يوجد ذلك المعيار اعتبر كل فريق أن سواهم هو المخالف.
وقد كثر الاختلاف في المسائل الفقهية إلا قليلًا، يعرف هذا من النظر في الكتب التي أفردت لهذا الغرض، مثل مراتب الإجماع لابن حزم وغيرهما من كتب الفقه المقارن.
__________
(1) - الموافقات للشاطبي: 4/162.(1/93)
والسبيل إلى حُسن الاستخدام لهذا المصطلح، في مجال التطابق والتناسق بين المذاهب، مراعاة الاتفاق والاختلاف، وليس المراد به اختلاف مذهب عن مذهب، وإنما المخالفة للجمهور، أي ما عليه بقية الفقهاء، قال الحجوي : وقد اتفقوا في مسائل كثيرة، فمنها ما وقع عليه إجماع الأمة معهم، ومنها ما خالفهم فيها غيرهم، وتلك المسائل التي فيها الاتفاق لا تنسب إلى واحد منهم، فلا يقال في نحو وجوب الزكاة: إنه مذهب مالك مثلًا، فلا يضاف لكل واحد منهم إلا ما اختص به(1).
وهناك نوع من الخلاف الذي يقع فيه لمذهب معين الانفراد عن جميع المذاهب يسميه بعض المؤلفين (المفردات) أي ما انفرد به صاحب المذهب عن غيره من الفقهاء، ومن الكتب المشهورة فيه: نظم المفردات للعمري وشرحه للبهوتي، وهو ما انفرد به الإمام أحمد بن حنبل عن بقية الاجتهادات، ولا يخفى أن هذا النمط من الخلاف هو الجدير بالاهتمام، للبحث في أسبابه وتحقيق مستنده، أملًا في زواله أو تضييقه إن كان ممكنًا.
ومن هذه المفردات نوع خاص يتصف بالغرابة والنكارة بالنسبة لجمهور الفقهاء، وهو بمثابة نشاز عن الاتجاهات الفقهية، ولذا يسمونه (نوادر الفقهاء) بمعنى المسائل الشاذة أو الخلاف المشذذ، والفرق بين هذا النوع وبين ما ينفرد به فقيه عن الجمهور دون تشذيذه، أنه قد يكون هذا الانفراد قوي المنزع ظاهر النفع لتحقيقه مقاصد التشريع، وهو حينئذ جدير أن يقويه العمل به، وهذا ما يحصل فعلًا باختياره للقضاء به في أحد العهود الماضية أو في العصر الحاضر (عصر التقنين).
ولعل هذا المشذذ هو المستحق للبحث والتمحيص، لأن هذا الانفراد مع الاستغراب والاستنكار من بقية الفقهاء، ومن وراءهم من الأتباع، يؤدي إلى الإنكار والجدل في أوساط المتمذهبين، وتنشأ عنه الفرقة والتنازع بين المسلمين.
__________
(1) - الفكر السامي: 4/415.(1/94)
وفي ذلك يقول التميمي في كتابه (نوادر الفقهاء): الاجتهاد إنما يجب على العلماء، ويلزم حذاق الفقهاء، إذا لم يكن في النازلة اتفاق على حكم، ولا حقيقة من علم، وإذ قد ثبت مذهبنا فيها بعد إقامة الدليل على مرادنا فيها، فلنصف الآن من مسائل الفقه ما وصل إلينا وقدرنا عليه من خلال الأقوال النادرة عن الإجماع على خلافها، ليكون من علم على حقيقة من أمره، وهداية في حكمه(1).
على أنه إذا وجدت المسألة في مذهبين فقد خرجت من هذا الباب، واندرجت في الخلاف الفقهي المعتاد الذي لا مطمع في إزالته، وهو مظهر صحة في جسم الفقه الإسلامي، ما دام أدب الخلاف محل رعاية وتطبيق.
والمسائل الخلافية أكثرها ذو طابع جزئي تفريعي، ويكون أصل المسألة موضع وفاق، لا شك أن الاشتغال بهذا لا طائل تحته، لأن هذه الفروع والمسائل الجزئية كثيرًا ما يقع الخلاف فيها داخل المذهب نفسه، كما تكون في الغالب من اجتهادات فقهائه المتأخرين بعد عهد أئمتهم المجتهدين.
وهناك أمر شبيه جدًّا بتلك التفريعات الفقهية المتأخرة عن عهد الأئمة والتخريجات المحمولة على مذاهبهم، أو الترجيحات المتنازع فيها، وهو تجدد الاجتهاد، أو ما يطلق عليه أجوبة المجتهد الحي لدى الشيعة، حيث هناك تفضيل للعمل، (وربما يتعين عند البعض)، أن تصدر أجوبة وإفادات فقهية من مجتهد حي، وكثيرًا ما تخالف في الرأي والترجيح - على الأقل - ما كان عليه العمل قبله أو في الكتب المصنفة، وسيأتي مزيد بيان ذلك.
7-مجال المقارنة وحياديتها:
__________
(1) - نوادر الفقهاء للتميمي، ص24.(1/95)
ويقصد بالمذاهب الفقهية المستهدفة للمقارنة جميع المذاهب المعمول بها الآن، وهذا يحقق النظرة المتكافئة بين جميع المذاهب التي ينتسب إليها فقهاء العالم الإسلامي الذين يضمهم هذا المجمع من أعضاء وخبراء، وهي المذاهب الأربعة: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، ويلحق بها المذهب الظاهري للاهتمام به في الدراسات المقارنة ولو لم يشتهر العمل به، والمذهب الإمامي، والمذهب الزيدي، والمذهب الإباضي.
وقد جرى الالتزام ببيان الأحكام الفقهية وفق هذه المذاهب في الرسائل العلمية الجامعية ونحوه، كما اهتمت بذلك الموسوعات والمدونات والأبحاث التي تقدم للمؤتمرات والندوات، فضلًا عن الاستمداد منها في أعمال التقنين والأنظمة المستمدة من الشريعة الإسلامية.
هذا، ويلحظ أن المقارنة بين المذاهب الفقهية بصورة شاملة لها جميعًا لم تحظَ بالاهتمام على مدى العصور، فأحيانًا تنشط وأحيانًا تهمل أو تقع على غير الوجه السوي، مع أنها ضرورية لمواجهة المستجدات العصرية بكل ما في التراث الفقهي من ثراء، دون تحفظ إلا بقدر ما تقضي به ضوابط سلامة الاجتهاد وتحقيق المقاصد الشرعية .
وفي هذا يقول ابن حزم : ولسنا نُخرج من جملة العلماء من ثبتت عدالته وبحثه عن حدود الفتيا (أي ضوابطها) وإن كان مخالفًا لنحلتنا، بل نعتد بخلافه، كسائر العلماء ولا فرق كعمرو بن عبيد ، ومحمد بن إسحاق ، وقتادة بن دعامة الدوسي ، وشبابة بن سوار ، والحسن بن حي ، وجابر بن زيد ونظرائهم ، وإن كان فيهم القدري والشيعي والإباضي والمرجئ، فهم كانوا أهل علم وفضل وخير واجتهاد رحمهم الله، وغَلَطُ هؤلاء بما خالفونا فيه كغلط سائر العلماء في التحريم والتحليل ولا فرق(1).
8-منهجية المحدثين في قبول أو رد رواية المخالفين:
__________
(1) - مراتب الإجماع ، لابن حزم ، ص15.(1/96)
من المقرر في علم مصطلح الحديث، أن العبرة في قبول أو رد الرواية هو توافر المعايير الدقيقة التي قام عليها هذا العلم، ولا اعتبار فيها لمذهب الراوي أو انتمائه إلى فرقة من الفرق، ما دام قد تحقق فيه عنصر العدالة والضبط فكان ثقة في مروياته.
وقد واجه علماء هذا الفن قضية الاختلاف في المقولات الإسلامية بتجرد وموضوعية، دون التوغل في مضمونها ما دام صاحبها يصدق عليه اسم المسلم، وكان الوصف - وهو أمر نسبي - هو البدعة. فالمبتدع (في نظر المحدث الراوي للسنة لها) لا تمتنع الرواية عنه إذا كان ثقة في الرواية، باستثناء ما لو كان داعية إلى بدعة (والمراد بالداعية هنا من يدعو فعلًا للبدعة مباشرة، فلا يشمل ذلك من يسيء بالموالاة لمبتدع أو بمدحه، كما وقع لعمران بن حطان) أو إذا روى ما يتعلق ببدعته.
ولهذا ضمت كتب السنة المشهورة العديد من روايات من وُصفوا بأنواع من البدع لمقولات إسلامية تشبثوا بها مخالفين غيرهم، كما شملت كتب الرجال الرواة من جميع الفرق الإسلامية والمذاهب، واتصف نقدهم توثيقًا أو تضعيفًا بالموضوعية التامة، من خلال عنصري العدالة والضبط، بالإضافة إلى ما يتعلق بشرط اتصال الرواية لاستبعاد التدليس والانقطاع، وكذلك الشذوذ أو العلة القادحة.
والملحوظ أن التآليف في كتب مصطلح الحديث، وكتب الرجال لم يقع تصنيفها بمنظور مذهبي، وإنما جمعت الاتجاهات المختلفة، ونحا تصنيفها مناحي فنية بحسب العصور، أو خدمة بعض المصنفات الحديثية، ولم تنشأ الكتابات المراعية للمذاهب إلا في عصور متأخرة، بعدما استقر أمر الرواية وتدوينها.(1/97)
ومع هذا أثيرت بعض الشبهات في هذا، ولابد من مناقشتها لتمحيص ما فيها، ومن ذلك ما أشار إليه الشيخ عبد الحسين شرف الدين في معرض كلامه عن سبب التباعد بين الطائفتين (السنة والشيعة)، من عدم احتجاج البخاري في صحيحه بأئمة أهل البيت النبوي، إذ لم يروِ شيئًا عن: الصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والزكي العسكري - وكان معاصرًا له - ولا روى عن الحسن بن الحسن (الإمام بعد الحسين السبط، على رأي الزيدية، وبعده زيد...)، ولا عن زيد بن علي بن الحسين ، ولا عن يحيى بن زيد ، ولا عن النفس الزكية، ولا عن... (وأورد جملة من سلالة آل البيت دون من سبق في الشهرة الذين اقتصرت على نقلهم لمجرد التمثيل...)، ثم قال: ولا عن غيرهم من أعلام العترة الطاهرة، وأغصان الشجرة الزاهرة... حتى إنه لم يروِ شيئًا من حديث سبطه الأكبر الحسن، مع احتجاجه بداعية الخوارج، وأشدهم عداوة لأهل البيت عمران بن حطان..(1).
وهذا الكلام ممن يورد اسمه بين الدعاة إلى وحدة الأمة في غاية الغرابة، وذلك لسعة علمه وإحاطته بمصادر السنة والشيعة، فإن السبب في هذا أمر موضوعي بحت، وهو أن الرواية في كتاب من كتب السنة الصحيحة لا يكفي لها التحري عن راوٍ معين من رواة سند الحديث، بل جميع رجال السند، فعدم رواية البخاري أو غيره عن علم أو أكثر من أعلام آل البيت ليس لشخصهم، بل لعدم توافر سند صحيح إليهم عند صاحب الكتاب، ولذا لم يروِ البخاري في صحيحه الذي التزم فيه شروطًا شديدة في الرواة عن عدد كبير من الصحابة روى عنهم غيره من أصحاب السنن والمسانيد لا لأشخاصهم، بل لما وقع في الأسانيد التي رويت بها الأخبار عنهم.
__________
(1) - الفصول المهمة في تأليف الأمة ، عبد الحسين شرف الدين، ص155 - 156، ط. النعمان، النجف : 1387 - 1967.(1/98)
هذا أولًا، ثم إن منهج أي كتاب من كتب السنة قائم على اختيار بعض الأحاديث، بل اختيار بعض الروايات أيضًا، فلا يترك أحدهم منهجه ليروي ما هو أبعد سندًا أو أقل دلالة... ثم بعدئذ لمَ لا ينظر إلى من روى لهم البخاري مثلًا من آل البيت لتوافر ما التزمه من الشروط في الرواة وطرق الرواية ووجوه الدلالة؟
وأما الرواية عن عمران بن حطان... رغم ما صدر عنه من استحسان الفعلة القبيحة من ابن ملجم، فهي مراعى فيها مبدأ أن المبتدع الموصوف بالضبط والصدق في الرواية يقبل منه ما رواه من أخبار، شريطة أن لا يتعلق موضوعها ببدعته، وأن لا يكون داعية لتلك البدعة مباشرة ولو أساء بموالاة أصحابها.
9-علاقة الخلاف الفقهي بأصول الفقه:
إذا كان الفقه قد نشأ موزعًا على المذاهب، فإن علم أصول الفقه قد اشتمل منذ بدايته على جميع الاختلافات في قواعده وحججه وأدلته، دون تمييز بين مذهب وآخر، وذلك للوصول إلى طرق الاستنباط الصحيحة، وهو أمر لا يحصل إلا بالمقارنة بين جميع الاتجاهات ومناقشتها والترجيح بينها.
ومع أن الاختلاف الفقهي هو المظهر العملي لشتى أنواع الخلاف، التي منها الخلاف في أصول الفقه، فإن التطابق أو التقارب والتناسق بين المذاهب الفقهية ممكن ولو لم يتم توحيد أصول الفقه كلها، لأنها قائمة على الشمولية والحصر العقلي وتجاذب الأدلة؛ وذلك لأنه كثيرًا ما تتباين وجوه الاستدلال وتتحد المقولة أو النتيجة، وهذه الحقيقة غنية عن الإثبات لكثرة أمثلتها، وهي شبيهة بمسائل الإجماع التي تختلف مستنداتها مع الاتفاق بين المجتهدين على حكم واحد فيها.
ومما يتصل بهذا الموضوع تحديد مصادر الأحكام وطرق الاستنباط لدى المذاهب، وإذا كانت هذه المصادر موحدة في الجملة لدى المذاهب الأربعة والزيدية والإباضية ، فإنها لدى الإمامية قليلة أو محصورة الاختلاف في وجوه معينة.(1/99)
ولعل من المفيد، لتحقيق منهجية المقارنة، تقديم نبذة عن مصادر الأحكام لدى الإمامية، مقدمة من أحد علمائهم في مجال المساعي للتعريف بالمذهب ضمن جهود التقريب بين المذاهب، وهو الشيخ محمد تقي القمي(1):
(مصادر الأحكام عند الإمامية أربعة: الكتاب والسُّنَّة والإجماع والعقل أو الأدلة العقلية:
1 -الكتاب:
من أكبر نعم الله على المسلمين، أنهم لا يختلفون في كتابهم... وهذا هو الأصل الأول في التشريع عند الإمامية كما هو عند غيرهم.
2 - السنة:
لا يختلف الشيعي عن السني في الأخذ بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بل يتفق المسلمون جميعًا على أنها المصدر الثاني للشريعة، ولا خلاف بين مسلم وآخر في أن قول الرسول وفعله وتقريره سنة لا بد من الأخذ بها، إلا أن هناك فرقًا بين من كان في عصر الرسالة يسمع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبين من يصل إليه الحديث الشريف بواسطة أو وسائط. ومن هنا جاءت مسألة الاستيثاق من صحة الرواية، واختلفت الأنظار؛ أي إن الاختلاف في الطريق وليس في السنة، وهذا ما حدث بين السنة والشيعة في بعض الأحايين. فالنزاع صغروي لا في الكبرى، فإن ما جاء به النبي لا خلاف في الأخذ به، وإنما الكلام في مواضع الخلاف ينصب على أن الفرد المروي: هل صدر عن الرسول أم لا؟...
فلا خلاف في أن السنة هي الأصل الثاني من أصول التشريع، وإنما الخلاف في ثبوت مروي أو عدم ثبوته، وهذا ليس خاصًا بالسنة والشيعة، وإنما يوجد بين مذاهب السنة بعضها وبعض، فكم من مروي ثبت عند الشافعي ولم يثبت عند غيره.
ومع أن الجمهور يأخذون برواية أي صحابي، والشيعة تشترط أن تكون الرواية عن طريق أئمة أهل البيت لأسباب عدة، منها اعتقادهم أنهم أعرف الناس بالسنة، فإن النتيجة في أكثر الأحيان لا تختلف...
__________
(1) - مقدمة التحقيق المعدة من الشيخ محمد تقي القمي، لكتاب (المختصر النافع) من صفحة (ع) إلى صفحة (ق).(1/100)
وإذا سميت طائفة بالسنة وطائفة بالشيعة، فليس هذا إلا اصطلاحًا، فإن الشيعة يعملون بالسنة، وأهل السنة يحبون آل البيت ويجلونهم أعظم الإجلال حسب ما في كتبهم عنهم، مع فارق واحد أن الشيعة يعتقدون فيهم النص بالإمامة، ولذلك سموا (الإمامية)، وهذا أنسب لهم لاعتقادهم في إمامة أهل البيت).اهـ.
ويلحظ هنا أن الشيخ القمي لم يتعرض بشكل صريح للعلاقة بين السنة وأقوال الأئمة خارج إطار مروياتهم، حيث إن من المقرر لدى الإمامية أن لأقوال الأئمة نفسها حجية بالإضافة إلى مروياتهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . ولو سمي ذلك أحيانًا بالاجتهاد فهو اجتهاد بمعنى آخر. وفي ذلك يقول أحد المؤلفين الجدد في مجال العرض لنظريات الفقه الجعفري: ( نحن لا ننكر أن الفقيه الشيعي ليس له أن يتخطى ما رسمه له الأئمة عليهم السلام، ولكننا نعتبر الإمام مجتهدًا كما هو الحال في أئمة المذاهب عند أهل السنة، بمعنى أن الأحكام التي نص عليها والمبادئ التي رسمها وخططها الإمام للحصول على الأحكام ليست من وحي الاجتهاد، ليكون كغيره من أئمة المذاهب الذين اجتهدوا في أحكام الدين، بل إن نظرتهم إلى الإمام تختلف عن ذلك أشد الاختلاف، وذلك لأنهم يرون الأئمة مصدرًا من مصادر التشريع فيما يأتون به من آراء وأحكام وغير ذلك، من غير فرق بينهم وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا من حيث إن الرسول يتلقى عن الوحي بلا واسطة، وهم يأخذون عن الرسول ما أوحي إليه يرويه المتقدم للمتأخر، فما رسموه وخططوه لمعرفة الأحكام هو من تخطيط النبي - صلى الله عليه وسلم - (1).
ثم يكمل الشيخ القمي مصادر الأحكام عند الشيعة بقوله:
3 - الإجماع :
أما الإجماع، فهو أصل من أصول التشريع عند الإمامية كما هو عند غيرهم، ويذكر بعد الكتاب والسُّنَّة كأصل ثالث.
__________
(1) - نظرية العقد في الفقه الجعفري، هاشم معروف الحسيني، ص27.(1/101)
وإن إجماع العلماء على حكم يكشف في الحقيقة عن حجة قائمة هي النص من المعصوم، ويورث عادة القطع بأن هذا العدد مع ورعهم في الفتوى، لولا الحجة لما أجمعوا على رأي واحد، فإذن هناك حجة، وحجية الإجماع ترجع إليها والإجماع يكشف عنها.
4 - العقل أو الدلائل العقلية:
المعروف عن دليل العقل أنه البراءة الأصلية والاستصحاب ، ويرى البعض أن الاستصحاب ثبت بالسنة، كما أن البعض الآخر يجعلون مع البراءة الأصلية والاستصحاب التلازم بين الحكمين (وهو يشمل مقدمة الواجب ، وأن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده الخاص) والدلالة الالتزامية، وفسره البعض بلحن الخطاب، وفحوى الخطاب، ودليل الخطاب، وما ينفرد العقل بالدلالة عليه... وهو إما وجوب كرد الوديعة ، أو قبح كالظلم والكذب، أو حسن كالإنصاف والصدق. ثم كل واحد من هذه كما يكون ضروريًّا فقد يكون كسبيًّا: كرد الوديعة مع الضرورة ، وقبح الكذب مع النفع)(1).
10-نتائج المقارنات الفقهية:
مجال الترجيح:
وجوب العمل بالنصوص القطعية الثبوت أو الدلالة، أو الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة أو البداهة، أو أجاميع العلماء هو محل اتفاق، وهذا كله لا مجال للاجتهاد فيه، وليس من موضوع الترجيح، إذ رجحانه لا منازعة فيه.
أما ما يجوز الاجتهاد فيه، وكذلك الترجيح، فهو الأحكام التي ورد فيها نص ظني الثبوت والدلالة، أو ظني أحدهما، والأحكام التي لم يرد فيها نص قاطع ولا إجماع، كالأحكام القياسية والمصلحية، والعرفية، فهو مجال الترجيح.
وعلى العلماء أن يأخذوا بما دل عليه ظاهر النص، أو الحديث الصحيح، أو كان محققًا لمصلحة تتفق مع جنس المصالح التي بنى الشرع الأحكام عليها، أو تعارف الناس عليها دون تصادم نص شرعي(2).
11- ترجيح العمل بالحديث المخالف للمذهب:
__________
(1) - مقدمة التحقيق للمختصر النافع (مرجع سابق).
(2) - مجلة مجمع الفقه الإسلامي: 8/1/76.(1/102)
قال شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام(1): ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه، بحيث لا يجد لضعفه مدفعًا، وهو مع ذلك يقلد فيه، ويترك من شهد له الكتاب والسُّنَّة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم، جمودًا على تقليد إمامه، بل يتحايل لدفع ظواهر الكتاب والسُّنَّة، ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطلة، نضالًا عن مقلده.
وقال ابن الصلاح : إن كان فيه (مرجح الحديث المخالف لمذهبه) آلات الاجتهاد مطلقًا، أو في ذلك الباب، أو في تلك المسألة، كان له الاستقلال بالعمل بذلك الحديث، وإن لم تكمل آلته، ووجد في قلبه حزازة من الحديث، ولم يجد معارضًا بعد البحث، فإن كان قد عمل بذلك الحديث إمام مستقل فله التمذهب به، ويكون ذلك عذرًا له في ترك قول إمامه(2).
ونقل ابن عابدين عن ابن الشحنة قوله: إذا صحَّ الحديث وكان على خلاف المذهب عمل بالحديث ، ويكون ذلك مذهبه، ولا يخرج مقلده عن كونه حنفيًّا بالعمل به، فقد صح عنه أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقد حكى ذلك ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة... ولا يخفى أن ذلك ممن كان أهلًا للنظر في النصوص ومعرفة محكمها من منسوخها، فإذا نظر أهل المذهب في الدليل وعملوا به صح نسبته إلى المذهب، لكونه صادرًا بإذن صاحب المذهب، إذ لا شك أنه لو علم ضعف دليله رجع عنه واتبع الدليل الأقوى، وقد قال نحو هذا العز بن عبد السلام ، وابن الصلاح على ما نقله عنه ولي الله الدهلوي الذي قال بعده: فحينئذ لا سبب لمخالفة حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا نفاق خفي أو حمق جلي(3).
12-التلفيق بين المذاهب الفقهية:
القائلون بجوار التلفيق: منهم قالوا به على الإطلاق، ومنهم بشروط منها:
__________
(1) - قواعد الأحكام: 2/135، ط. الاستقامة.
(2) - البحر المحيط للزركشي: 6/294.
(3) - حاشية ابن عابدين: 1/63؛ والإنصاف للدهلوي، ص99و107.(1/103)
الأول: ما ذكره ابن الهمام في تحريره: أنه إن عمل المقلد بحكم من أحكام مذهبه الذي يقلده لا يرجع عنه ويقلد مذهبًا آخر، وفي غير ما عمل به له أن يقلد غيره من المجتهدين.
الثاني: ما نقله ابن الهمام عن القرافي واعتمد عليه في تحريره: أن لا يترتب على تقليد من قلده أولًا ما يجتمع على بطلانه كلا المذهبين .
الثالث: أن لا يتبع الرخص ويلتقطها، وهذا الشرط اعتبره الإمام النووي وغيره. لكن ابن الهمام لم يعتبره ولم يلتفت إليه(1).
وقد عبر عن عملية التلفيق هذه في كتب الفقه الإمامي بالتبعيض، وفي ذلك يقول اليزدي في (العروة الوثقى):(مسألة 33: إذا كان هناك مجتهدان متساويان في العلم كان للمقلد تقليد أيهما شاء، ويجوز التبعيض في المسائل).
هذا وليس القول بجواز التلفيق مطلقًا، وإنما هو مقيد في دائرة معينة، فمنه ما هو باطل لذاته، كما إذا أدى إلى إحلال المحرمات كالخمر والزنى ونحوهما، ومنه ما هو محظور لا لذاته، بل لما يعرض له من العوارض، وهو ثلاثة أنواع(2):
أولها: تتبع الرخص عمدًا: بأن يأخذ الإنسان من كل مذهب ما هو الأخف أو الأهون عليه، بدون ضرورة أو عذر، وهذا محظور سدًا لذرائع الفساد بالانحلال من التكاليف الشرعية.
الثاني: التلفيق الذي يستلزم نقض حكم الحاكم، لأن حكمه يرفع الخلاف درءًا للفوضى.
الثالث: التلفيق الذي يستلزم الرجوع عما عمل به تقليدًا، أو عن أمر مجمع عليه لازم لأمر قلده.
13-دواعي العمل بالمذاهب الأربعة وجواز العمل بغيرها:
__________
(1) - بحث التلفيق، للشيخ خليل الميس، مجلة المجمع: 8/1/165، ومن مراجعه الكمال ابن الهمام : التقرير والتحبير: 3/350 - 351.
(2) - تمييز الفتاوي عن الأحكام للقرافي، ص50، ورسم المفتى لابن عابدين : 1/69.(1/104)
أما سبب ترجيح بعض العلماء المذاهب الأربعة على غيرها؛ فهو لتوافر أمور خارجية تستدعي ذلك في نظرهم، وفي ذلك يقول ولي الله الدهلوي: إن في الأخذ بالمذاهب الأربعة مصلحة عظيمة، وفي الإعراض عنها مفسدة كبيرة، وبين وجه ذلك فيما ملخصه:
1 - إن الأمة اجتمعت على الاعتماد على السلف في معرفة الشريعة، فالتابعون اعتمدوا على الصحابة، وتبع التابعين اعتمدوا على التابعين، وهكذا في كل طبقة، لأن الشريعة لا تعرف إلا بالنقل والاستنباط، وهذا لا يستقيم إلا بأن تأخذ كل طبقة عمن قبلها، ولا بد من توافر ضبط المرويات وبيان ما فيها، وهو المتوافر في المذاهب الأربعة.
2 - اندراس المذاهب الأخرى.
3 - طروء اتباع الأهواء في القضاء والإفتاء(1).
ولهذه الأسباب تقررت المقولة المعروفة عند الأصوليين في منع العمل بمذاهب الصحابة أو التابعين ما لم تقترن بالتوافق مع مذهب فقهي من المذاهب المدونة، وليس ذلك لأمر ذاتي في مذاهب السلف، بل لعدم النقل المنضبط المستكمل للقيود والشروط. ولهذا صرح الزركشي - ومن قبله العز بن عبد السلام - بأنه إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في حكم من الأحكام لم تجز مخالفته إلا بدليل أوضح من دليله. ثم قال العز: لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة، بل إن تحقق ثبوت مذهب عن واحد منهم جاز تقليده وِفَاقًا، وإلا فلا، لا لكونه لا يقلد، بل لأن مذهبه لم يثبت حق الثبوت .
__________
(1) - عقد الجيد في الاجتهاد والتقليد، للولي الدهلوي، والبحر المحيط للزركشي: 6/290 نقلًا عن فتاوى العز بن عبد السلام.(1/105)
قال ابن حجر الهيتمي : يجوز العمل بخلاف المذاهب الأربعة مما علمت نسبته لمن يجوز تقليده، وعرفت جميع شروطه عند المفهوم منه، إن العمل بالمقلد شرط في صحة التقليد... وحاصل المعتمد أنه يجوز تقليد كل من الأئمة الأربعة، وكذا من عداهم ممن حفظ مذهبه في تلك المسألة، ودون تحت ما عرفت شروطه وسائر معتبراته، فالإجماع الذي نقله غير واحد على منع تقليد الصحابة يحمل على ما فقد فيه شرط من ذلك(1).
ومما سبق تتبين محاذير إضفاء القداسة والاعتبار القطعي على واحد من الاختلافات الفقهية، فإن الاختلاف لا يكون رحمة بالأمة إلا إذا استفيد منه دون تعصب لمذهب واحد أو اقتصار عليه، فالمرونة التي يتصف بها قسم من أحكام الشريعة (وراء الثوابت فيها)، بما يضمن الصلاحية لها على اختلاف الأزمنة وتباين البيئات لا تتحقق إلا بالاستفادة من مختلف الاتجاهات الفقهية، فضلًا عن أن الإغراق في اعتبار مذهب إمام واحد وتخطئة الأئمة الآخرين يؤدي إلى القطيعة والتفرق، وأحيانًا إلى التخاصم والنتائج غير المرضية.
__________
(1) - الفواكه العديدة في المسائل المفيدة، للمنقور: 2/118.(1/106)
إن أتباع المذاهب الفقهية مدعوون للتوحيد والتعاون في مواجهة الغزو القانوني الوضعي للبلاد الإسلامية، وهي قضية مصيرية يجب تقديمها على الفتاوى الجزئية المتعجلة في حكم كل فريق على الآخر، ولابد من الأخذ بالشعار الذي رفعه المصلح الكبير الشيخ محمد رشيد رضا مستمدًا إياه من النصوص القرآنية والحديثية في اعتصام الأمة بحبل الله وعدم التفرق، وهو قوله: نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه. وليس هناك أمر متفق عليه أوضح من ضرورة الرجوع إلى الشريعة والفقه الإسلامي، ونبذ القوانين الوضعية المجافية لهما.وفي ذلك يقول الدكتور عبد الرزاق السنهوري: وفي رأينا أنه حيث ينبغي الرجوع إلى الفقه الإسلامي في كتبه المعتمدة، سواء كان هذا الفقه هو المصدر الرسمي الذي تستمد منه الأحكام، أم كان هو المصدر التاريخي الذي تفسر في ضوئه النصوص التشريعية، يجب أن يراعى أمران جوهريان:
الأول: هو عدم التقيد بمذهب معين من مذاهب الفقه الإسلامي، فكل مذاهب الفقه يجوز الرجوع إليها والأخذ منها، ولا محل للوقوف عند أرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة ، بل ولا التقيد بالمذهب الحنفي في جملته.
ولعلنا نذهب إلى مدى أبعد فنقول: إنه لا موجب للتقيد بالمذاهب الأربعة المعروفة. هناك مذاهب أخرى، كمذهب الإمامية والزيدية، يمكن الانتفاع بها إلى حد بعيد(1)
14-موقف الأئمة من التقليد ومعارضتهم للتعصب لهم:
لم يكن للأئمة توجيه خاص يدعو إلى الأخذ بمذاهبهم، أو إلزام الناس بتقليدهم، بل الذي ثبت عنهم أنهم نهوا الناس عن ذلك، وشددوا النكير على من يعمل بأقوالهم على وجه التقليد، دون أن يتعرف على سند القول ودليله.
__________
(1) - الوسيط شرح القانون المدني المصري، د. عبد الرزاق السنهوري: 1/49.(1/107)
فها هو ذا أبو حنيفة يقول: (لا ينبغي لمن لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي)، كما أنه كان إذا أصدر فتوى قال: (هذا رأي النعمان بن ثابت ، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه فهو أولى بالصواب).
وكذلك نقل عن الإمام مالك قوله: (ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ).
كما قال الإمام الشافعي : (إذا صح الحديث فهو مذهبي)، وفي رواية: (إذا رأيت كلامي يخالف الحديث فاعملوا بالحديث، واضربوا بكلامي الحائط)، كما روى عنه قوله: (مهما قلت من قول أو أصلت من أصل، فبلغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلاف ما قلت، فالقول ما قاله - صلى الله عليه وسلم - ) - وقال الشافعي يومًا لتلميذه المزني : (يا إبراهيم لا تقلدني في كل ما أقول، وانظر في ذلك لنفسك فإنه دين) - وأخيرًا يقول الشافعي : (مثل الذي يطلب العلم بلا حجة، كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب، وفيها أفعى وهو لا يدري).
كما نهى الإمام أحمد بن حنبل بعض الناس عن التقليد عامة، فقال: (لا تقلدني ولا تقلدنَّ مالكًا ، ولا الأوزاعي ولا النخعي ولا غيرهم، وخذ الأحكام من حيث أخذوا من الكتاب والسُّنَّة).
لا ينبغي لأحد أن يفتي إلا من يعرف أقاويل العلماء، ويعرف مذهبهم، كما قال: (من قلة فقه الرجل أن يقلد في دينه الرجال).
وقال الزركشي : هل يجب على العامي تقليد مذهب معين فيه كل واقعة؟.فيه وجهان: قال إلكيا: يلزمه ، وقال ابن برهان : لا ، ورجحه النووي وهو الصحيح.
فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم ينكروا على العامة تقليد بعضهم من غير تعيين.
وأختم هذا البحث بكلام لابن المنير في توجيه المفاضلة بين المذاهب حيث يقول:
وقد ذكر قوم من أتباع المذاهب في تفضيل أئمتهم، وأحق ما يقال في ذلك ما قالت أم الكملة عن بنيها: ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل؛ هم كالحلقة المفرغة لا يُدرى أين طرفاها.(1/108)
فما من واحد منهم إذا تجرد النظر إلى خصائصه إلا ويغني الزمان حتى لا يبقى فيهم فضلة لتفضيل على غيره.
وهذا سبب هجوم المفضلين على التعيين لأجل غلبة العادة، فلا يكاد يسع ذهن أحد من أصحابه لتفضيل غير مقلده إلى ضيق الأذهان عن استيعاب خصائص المفضلين، جاءت الإشارة بقوله تعالى: { وَمَا نُرِيهِمْ مِن آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِن أُخْتِهَا} [الزخرف: 48]، يريد والله أعلم أن كل آية إذا جرد النظر إليها قال الناظر حينئذ: هذه أكبر الآيات، وإلا فما يتصور في آيتين أن تكون كل واحدة أكبر من الأخرى بكل اعتبار، وإلا لتناقض الأفضلية والمفضولية(1).
15-سبل تضييق مساحة الخلاف:
مراعاة الخلاف قبل العمل:
يستحب الخروج من الخلاف ، باجتناب ما اختلف في تحريمه، وفعل ما اختلف في وجوبه، إن قلنا: كل مجتهد مصيب، لجواز أن يكون هو المصيب، وكذا إن قلنا: إن المصيب واحد، لأن المجتهد إذا كان خلاف ما غلب على ظنه، ونظر في متمسك مخالفة فرأى له موقعًا، فينبغي له أن يراعيه على وجه، وكذا الخلاف بين المجتهدين إذا كان أحدهم إمامًا، لما في المخالفة من الخروج على الأئمة.
وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه عاب على عثمان رضي الله عنه صلاته بمِنًى أربعًا وصلى معه، فقيل له في ذلك فقال: الخلاف شر.
وجعل العز بن عبد السلام الخلاف على أقسام:
1 - أن يكون في التحليل والتحريم ، فالخروج من الخلاف بالاجتناب أفضل.
2 - أن يكون الخلاف في الاستحباب والإيجاب ، فالفعل أفضل.
3 - أن يكون الخلاف في الشرعية، كقراءة البسملة في الفاتحة، فإنها مكروهة عند مالك واجبة عند الشافعي ، وكذلك صلاة الكسوف على الهيئة المنقولة في الحديث فإنها سنة عند الشافعي ، وأنكرها أبو حنيفة ، فالفعل أفضل.
__________
(1) - البحر المحيط للزركشي: 6/293.(1/109)
والضابط أن مأخذ الخلاف: إن كان في غاية الضعف فلا نظر إليه، لاسيما إذا كان مما ينقض الحكم بمثله، وإن تقاربت الأدلة بحيث لا يبعد قول المخالف كل البعد، فهذا مما يستحب الخروج منه، حذرًا من كون الصواب مع الخصم(1).
شروط مراعاة الخلاف:
1 - أن يكون مأخذ المخالف قويًّا، فإن كان واهيًا لم يراع، وقال القفال: يراعى الخلاف وإن ضعف المأخذ إذا كان فيه احتياط.
2 - أن لا تؤدي مراعاته إلى خرق الإجماع .
3 - أن يكون الجمع بين المذاهب ممكنًا، فإن لم يكن كذلك فلا يترك الراجح عند معتقده لمراعاة المرجوح ، لأن ذلك عدول عما وجب عليه من اتباع ما غلب على ظنه، وهو لا يجوز قطعًا... أما إذا لم يكن كذلك فينبغي الخروج من الخلاف، لاسيما إذا كان فيه زيادة تعبد... ثم أورد الزركشي بعد هذه الشروط أمثلة لمراعاة الخلاف، ومنها ومما أورده غيره تم تصنيف ما يلي حسب أبواب الفقه:
في الطهارة:
المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة يجب عند الحنفية والاستنشاق في الوضوء لخلاف أحمد ، والغسل من ولوغ الكلب ثماني مرات لخلاف أحمد ، والغسل من سائر النجاسات ثلاثًا (لخلاف أبي حنيفة ) وسبعًا (لخلاف أحمد بن حنبل ).
في الصلاة:
- التسبيح في الركوع والسجود لخلاف أحمد في وجوبه.
- استحباب السجود على الأنف (عند الحنابلة القائلين بعدم وجوبه).
- الترتيب في قضاء الفوائت عند الشافعية.
- ترك الأداء خلف من يصلي القضاء عند الشافعية.
- ترك القصر فيما دون ثلاث مراحل عند الشافعية.
- ترك الجمع فيما دون ثلاث مراحل عند الشافعية.
- كراهة مفارقة الإمام بلا عذر عند الشافعية.
- كراهة صلاة المفرد خلف الصف عند الشافعية.
- البسملة في الفرض (عند الماليكة).
في الصوم:
- التبييت في نية صوم النفل، فإن مذهب مالك وجوبه.
في الحج:
- إتيان القارن بطوافين وسعيين، مراعاة لخلاف أبي حنيفة .
__________
(1) - المنثور في القواعد، للزركشي: 2/127 - 129.(1/110)
- الموالاة بين الطواف والسعي، لأن مالكًا يوجبها.
في البيع :
- التنزه عن بيع العينة ونحوه من العقود المختلف فيها.
- ترك الحيل في باب الربا.
هذا، ولا يشترط عند جمهور الفقهاء في الإتيان بما اختلف في وجوبه أن يعتقد الوجوب ، بل يخرج من الخلاف بمجرد الفعل. وخالف في ذلك أبو إسحاق الإسفرايني(1).
حالات تعذر الخروج من الخلاف:
أ - قد يتعذر الخروج من الخلاف لتباين وجوهه، بحيث لا يمكن الجمع بينها، كما في البسملة، فإن الجهر بها عند الشافعي هو السنة، وعند أبي حنيفة وأحمد : الإسرار بها هو السنة، وعند مالك الترك بالكلية.
وقد يقال: إذا كان المنع مع الأكثر كان هو الأولى، هذا في المقلد، فأما المجتهد فمع اجتهاده.
ب - إذا كان في مجال حقوق العباد، وترتب على مراعاة الخلاف التجاوز على صاحب حق.
كما إذا كان ليتيم على يتيم حق مختلف في وجوبه، فلا يمكن للقاضي الصلح ههنا، إذ لا تجوز المسامحة بمال أحدهما، وعليه التورط في الخلاف.
وكذلك حكم الأب والوصي(2).
مراعاة الخلاف بعد وقوع المختلف فيه:
إذا ارتكب المكلف فعلًا مختلفًا في تحريمه وجوازه فقد يجيز من يرى التحريم ما وقع، نظرًا إلى أن ذلك الفعل وافق فيه المكلف دليلًا في الجملة، وهو - وإن كان مرجوحًا - راجح بالنسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه لأن ذلك أولى من إزالتها بضرر أشد من مقتضى النهي، كالنكاح بلا ولي يثبت به النسب والميراث ولا يعامل كالزنى لثبوت الخلاف فيه، ووجهه أن للعامل بالجهل مخطئًا نظرين: أحدهما مخالفة للأمر والنهي، وهو يقتضي الإبطال، والآخر قصده الموافقة لأحكام الشرع، وخطؤه أو جهله لا يخرج به عن حكم أهل الإسلام، بل يتلافى له حكم يصحح ما أفسده بجهله أو خطئه، إلا أن يترجح جانب الإبطال بأمر واضح.
__________
(1) - المنثور: 2/137 - 138.
(2) - المنثور: 2/137 - 138.(1/111)
هذا ملخص ما قرره الشاطبي في الموضوع. وقد نقل الشاطبي لهذا الرأي توجيهًا أورده عن بعضهم، مفاده: أن المسألة يكون لها دليل يقتضي المنع ابتداء ويكون هو الراجح ، ثم بعد الوقوع يصير الراجح مرجوحًا لمعارضة دليل آخر يقتضي رجحان دليل المخالف، فيختلف حكم ما بعد الوقوع عما بعده، أي لترتب آثار بالوقوع تقتضي حكمًا جديدًا(1).
16-الخلاف في الاستحباب وعدمه، وأمثلته، والعمل بالجواز:
__________
(1) - الموافقات: 4/202 - 205و4/151 - 152.(1/112)
قال ابن تيمية : "َامَّةُ هَذِهِ التَّنَازُعَاتِ إنَّمَا هِيَ فِي أُمُورٍ مُسْتَحَبَّاتٍ وَمَكْرُوهَاتٍ لَا فِي وَاجِبَاتٍ وَمُحَرَّمَاتٍ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا حَجَّ مُتَمَتِّعًا أَوْ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا كَانَ حَجُّهُ مُجْزِئًا عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي الْأَفْضَلِ مِن ذَلِكَ وَلَكِنَّ بَعْضَ الْخَارِجِينَ عَن الْجَمَاعَةِ يُوجِبُ أَوْ يَمْنَعُ ذَلِكَ فَمِن الشِّيعَةِ مَن يُوجِبُ الْمُتْعَةَ وَيُحَرِّمُ مَا عَدَاهَا وَمِن النَّاصِبَةِ مَن يُحَرِّمُ الْمُتْعَةَ وَلَا يُبِيحُهَا بِحَالِ . وَكَذَلِكَ الْأَذَانُ سَوَاءٌ رَجَّعَ فِيهِ أَوْ لَمْ يُرَجِّعْ فَإِنَّهُ أَذَانٌ صَحِيحٌ عِنْدَ جَمِيعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَعَامَّةِ خَلَفِهَا وَسَوَاءٌ رَبَّعَ التَّكْبِيرَ فِي أَوَّلِهِ أَوْ ثَنَّاهُ وَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ بَعْضُ شَوَاذِّ الْمُتَفَقِّهَةِ كَمَا خَالَفَ فِيهِ بَعْضُ الشِّيعَةِ فَأَوْجَبَ لَهُ الْحَيْعَلَةَ " بحي عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ " وَكَذَلِكَ الْإِقَامَةُ يَصِحُّ فِيهَا الْإِفْرَادُ وَالتَّثْنِيَةُ بِأَيِّهَا أَقَامَ صَحَّتْ إقَامَتُهُ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ إلَّا مَا تَنَازَعَ فِيهِ شُذُوذُ النَّاسِ . وَكَذَلِكَ الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْمُخَافَتَةِ كِلَاهُمَا جَائِزٌ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَإِنْ كَانَ مِن الْعُلَمَاءِ مَن يَسْتَحِبُّ أَحَدَهُمَا أَوْ يَكْرَهُ الْآخَرَ أَوْ يَخْتَارُ أَنْ لَا يَقْرَأَ بِهَا .(1/113)
فَالْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمْ فِي الْمُسْتَحَبِّ وَإِلَّا فَالصَّلَاةُ بِأَحَدِهِمَا جَائِزَةٌ عِنْدَ عَوَامِّ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ تَنَازَعُوا بِالْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فِي مَوْضِعِهِمَا هَلْ هُمَا وَاجِبَانِ أَمْ لَا ؟ وَفِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا فَهَذَا فِي الْجَوِّ الطَّوِيلِ بِالْقَدْرِ الْكَثِيرِ مِثْلَ الْمُخَافَتَةِ بِقُرْآنِ الْفَجْرِ وَالْجَهْرُ بِقِرَاءَةِ صَلَاةِ الظُّهْرِ . فَأَمَّا الْجَهْرُ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ أَوْ الْمُخَافَتَةُ بِهِ فَمِمَّا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يُبْطِلَ الصَّلَاةَ بِذَلِكَ وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهِ(1)..
اختلاف التنوع والعمل به كله:
بعض المسائل الخلافية في العبادات يأخذ فيها الخلاف صورة التنوع وليس صورة التضاد.
ومثل هذا لا ضير من إقراره ثم التنقل في التطبيق بينه جميعه.
وممن عني ببيان هذه القاعدة ابن تيمية رحمه الله؛ فإنه يقسم الخلاف في معرض الأذكار والأدعية التي في الصلاة (وهو تقسيم مخصوص يمكن استعارته للنظر في التوسع فيه) يقسم الخلاف إلى خلاف تنوع وتعدد، وخلاف تضاد وتغاير ويرى العمل بكل وجوه الخلاف في الأول منه سائغًا(2).
ويسمي ابن سريج هذا النوع من الخلاف (الخلاف المباح) وفيما يلي خلاصة ما ذكره الإمام الزركشي في تفصيل هذا الموضوع: إذا اختلفت الروايات (المنقولة) في إيقاع العبادات على أوجه متعددة فهناك رأيان:
- الترجيح باختيار أحدهما، وهي طريقة الإمام الشافعي غالبًا.
- الجمع، بفعلها في أوقات، باعتبار هذا الاختلاف من الجنس المباح، وهي طريقة ابن سريج .
__________
(1) - خلاف الأمة في العبادات، لابن تيمية ، مجموع الرسائل المنيرية: 3/115 - 127.و مجموع الفتاوى - (ج 22 / ص 368)
(2) - قاعدة في الاستفتاحات لابن تيمية، كتاب مستقل.(1/114)
- وأمثلة ذلك: الأحاديث الواردة في دعاء الاستفتاح، وأحاديث التشهد، وكيفية قبض أصابع اليمنى على الركبة في التشهد. قال ابن الصباغ: كيفما فعل من هذه الهيئات فقد أتي بالسنة، لأن الأخبار قد وردت بها جميعًا، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصنع هكذا مرة، وهكذا مرة كذا نقله الرافعي، ونقله ابن يونس عن المحققين.
- الجمع في إجابة المؤذن الحيعلة والحوقلة، عملًا بحيث التفضيل والإطلاق.
- الخلاف في تثنية الأذان وإفراد الإقامة: عده ابن سريج وابن خزيمة من الاختلاف المباح، وليس بعضه أولى من بعض، وهذا قول مصرح بإجماع المتقدمين على أن الخلاف في أولاه وأفضله.
- الاختلاف في سجود السهو قبل السلام أو بعده، وقد جمع الشافعي بينهما في موضع، فحمل ما قبله على ما إذا كان بنقص، وبعده على ما إذا كان بزيادة، وحمل اختلاف الروايات عليه.
- صلاة الخوف في الأنواع المشهورة، وقد نزلها الشافعي على كون العدو في جهة القبلة تارة، وعلى إذا لم يكن أخرى.
- عدد التكبيرات في صلاة الجنازة.
- قال ابن سريج: ما ورد عليها من الزيادة من الاختلاف المباح، والجميع سائغ.
- وخالفه الجمهور وقالوا: كان فيه خلاف في الصدر الأول ثم انعقد الإجماع على الأربع، نعم، لو خمس عمدًا لم يبطل في الأصح ، ولثبوتها في حديث مسلم ، وهو ظاهر إذا فعله عن اجتهاد أو تقليد، وإلا فتبطل، لأنه كالعابث.
- قوله: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا (بالثاء المثلثة)، ويروى كبيرًا (بالباء الموحدة)، قال النووي : وينبغي الجمع بينهما وهو بعيد، بل الأولى تنزيله على اختلاف الأوقات، فنقول هذا مرة، وهذا مرة(1).
هذا وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية مشروعية العمل بما ثبت على صورتين، أي بما هو من قبيل ( اختلاف التنوع ) كلما أمكن ذلك، على أن يجتنب التركيب باستحداث صورة جامعية لم يرد الشرع بها.
__________
(1) - المنثور: 2/142 - 146.(1/115)
وقد قال في ذلك: أصح القواعد: أن جميع صفات العبادات من الأقوال والأفعال، إذا كانت مأثورة أثرًا يصح التمسك به، لم يكره شيء من ذلك، يشرع ذلك كله كما قلنا في أنواع صلاة الخوف، وفي نوعي الأذان: الترجيح وتركه، ونوعي الإقامة: شفعها وإفرادها، وكما قلنا في أنواع التشهدات، وأنواع الاستفتحات، وأنواع الاستعاذات، وأنواع القراءات، وأنواع تكبيرات العيد الزوائد، وأنواع صلاة الجنازة، وسجود السهو، والقنوت قبل الركوع وبعده، والتحميد بإثبات الواو وحذفها، وغير ذلك، ولكن قد يستحب بعض هذه المأثورات، ويفضل على بعض إذا قام دليل يوجب التفضيل، ولا يكره الآخر.
ومعلوم أنه لا يمكن للمكلف أن يجمع في العبادة المتنوعة بين النوعين في الوقت الواحد، لا يمكنه أن يأتي بتشهدين معًا، ولا بصلاتي الخوف معًا، وإن فعل كل ذلك مرة واحدة كان ذلك منهيًّا عنه، فالجمع بين هذه الأنواع محرم تارة ومكروه تارة أخرى.
ولا تنظر إلى من قد يستحب الجمع في بعض ذلك، مثل ما رأيت بعضهم قد لفق ألفاظ الصلوات المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واستحب فعل ذلك الدعاء الملفق(1).
17-ارتفاع الخلاف بحكم الحاكم أو بتصرف الإمام:
يرتفع الخلاف في الوقائع المختلف في حكمها، إذا حكم فيها القاضي بما لا يخالف النص أو الإجماع، فيصبح الحكم فيها كالمجمع عليه، فلا يحق لأحد نقضه، وهذا في الحادثة التي فيها دعوة صحيحة، وإلا كان فتوى لا حكمًا(2).
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية: 24/242.
(2) - الموسوعة الفقهية: 2/301؛ ومن مراجعها: حاشية ابن عابدين : 3/361و373؛ والفتاوى الهندية: 3/311 - 313 والأشباه والنظائر للسيوطي 101؛ ولابن نجيم بحاشية الحموي: 1/141؛ ومعين الحكام، ص30.(1/116)
وكذلك لو تصرف الإمام أو نائبه باختيار أحد الأقوال المعتبرة فيما تختلف فيه الاجتهادات، فإنه لا ينقض ما فعله ، ويصبح كالمتفق عليه، وهذا بالنسبة لما مضى، أما في المستقبل فله أن يتصرف تصرفًا مغايرًا بحسب اقتضاء المصلحة ، قال ابن تيمية : (إذا كانت المسألة من مسائل الاجتهاد التي شاع فيها النزاع؛ لم يكن لأحد أن ينكر على الإمام، ولا على نائبه من حاكم أو غيره ولا ينقض ما فعله الإمام ونوابه من ذلك. ولكن يسوغ بيان الحق الذي عليه اتباعه، وإن كان فيه بيان خطأ من أخطأ الفقهاء من العلماء والأمراء).
وهناك فرصة من خلال أحد أعمال مجلس وزراء العدل العرب وهو وضع قانون موحد للأحوال الشخصية، والسبيل هنا هو أن يراعى في اللجان التي تدرس هذه الزمرة أن تكون من المعنيين بمقارنة المذاهب، وأخذ المسائل الخلافية بالاعتبار في ضوء مقاصد الشريعة ، ومنها حفظ النسل.
وفي هذه الحالات لا بد من مراعاة مقتضى الاختيار من ولي الأمر لأحد الاتجاهات للتطبيق الإلزامي حيث يسوغ، وهو ما كان ذا طابع عملي (لا علمي)، وكان هادفًا للمصلحة الغالبة، ووقع فيه التخصيص لواحد من الاتجاهات المستوفية لصفات الاعتبار، وإن هذا التخصيص للعمل - مع ترك المجال العلمي طليقًا - كفيل بإيجاد الاستقرار ونزع فتيل التنازع.
ويلحظ أن المسائل الخلافية في باب المعاملات قليلة، والسبب في ذلك تشعب الخلاف في هذه الزمرة، واشتمال المذاهب على أقاويل عديدة فيها، بحيث حصل التلاقي بينها وندر الانفراد، وهذا ما يسهل اختيار حكم يقع الإلزام به ولا يسري هذا الأمر على العبادات إلا ما كان فيه شبه بالمعاملات كالزكاة.
على أن الأساس في هذه الزمرة مراعاة مصالح الناس المعتبرة، وهي ما لا يصادمه نص أو قاعدة شرعية، ويكون محققًا لمقاصد الشريعة، هي حفظ المال.
18-الجمع بين المذاهب في العلم والعمل:(1/117)
إن باب الاجتهاد قد أقفل منعًا لكثرة الخلاف، وقضاء على الفوضى من الأحكام، ورأى بعض العلماء مع ذلك أن يقتصر الناس على تقليد إمام من الأئمة الأربعة، لما امتازت به مذاهبهم من العناية بالتدوين، والدقة في النقل، والحرص على المحافظة عليها، مما لم يمكن لغيرها من المذاهب التي اضمحلت، ولم يبق منها ما يذكر إلا في كتب الخلاف للبحث والمقارنة والموازنة لا للدرس والمعرفة، فكان من الميسور أن يقلد إمام من الأئمة الأربعة مع الاطمئنان إلى قوله وصحة نسبته إليه...
على أن ذلك إن ساغ قبوله في بعض الأحوال فلن يصح في بعضها الآخر، كما لا يصح أن يجعل سببًا في قصر الإنسان على تقليد واحد معين منهم، دون أن يكون له الخيرة في أن يقلد من شاء منهم متى شاء إذا ما اطمأن قلبه إلى ذلك، وليس خلاف بعضهم مع بعض بأبعد أثرًا ولا أشد تجافيًا مما كان من خلاف بين أحدهم وبين أصحابه، كأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد ، فإذا جاز أن يعد ما نقل عن جميع الأئمة من الآراء مذهبًا واحدًا كذلك، يتبين منه حكم الله في المسائل المختلفة، بحسب ما يفهم كل مجتهد؛ ذلك ما أراه حقًا، وذلك ما يجب أن تبنى عليه دراسة الأحكام الفقهية في المعاهد المختلفة، حتى يتبين ما لعلماء الإسلام من بحوث، ويتكشف ما كان لهم من نظر، وحتى لا يغيب عن طالب الفقه ذلك التراث المجيد، وما يحويه من أنظار واتجاهات في شرعه، لم يصل إليها التشريع الوضعي في هذه الأيام على تعدد نظرياته وتنوع بحوثه(1).
19-هل كل مجتهد مصيب؟ أو المصيب واحد غير معين؟
__________
(1) - أحكام المعاملات الشرعية ، للشيخ علي الخفيف، ص27، طبع بنك البركة الإسلامي - البحرين .(1/118)
المسألة الظنية من الفقهيات؛ إما أن يكون فيها نص أو لا، فإن لم يكن فيها نص فقد اختلفوا ولكل حجته، فقال قوم: كل مجتهد فيها مصيب، وأن حكم الله فيها لا يكون واحدًا، بل هو تابع لظن المجتهد؛ فحكم الله في حق كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده وغلب على ظنه، وهو قول القاضي أبي بكر وأبي الهزيل والجبائي وابنه ، ورأي الغزالي والمزني .
وذهب بشر المريسي وابن علية وأبو بكر الأصم ، ونفاة القياس كالظاهرية والإمامية ، إلى أنه ما من مسألة إلا والحق فيها متعين وعليه دليل قاطع، فمن أخطأه فهو آثم غير كافر ولا فاسق، ولأن الحكم في كل واقعة لا يكون إلا معينًا، لأن الطالب يستدعي مطلوبًا، وذلك المطلوب هو الأشبه عند الله في نفس الأمر، بحيث لو نزل نص لكان نصًا عليه، والمختار أن الحق واحد من أصابه أصاب ومن أخطأه أخطأ. وهو رأي الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر الفقهاء، وقد اتفق أهل الحق على أن الإثم محطوط عن المجتهدين في الأحكام الشرعية ، وحجتهم على ذلك ما نقل نقلًا متواترًا لا يدخله ريب ولا شك، وعلم علمًا ضروريًّا من اختلاف الصحابة فيما بينهم من المسائل الفقهية - على ما سبق بيانه - ولم يصدر منهم نكير ولا تأثيم لأحد، فلو كانت المسائل الاجتهادية منزلة منزلة مسائل قطعية ومأثومًا على المخالفة فيها لبالغوا في الإنكار والتأثيم، ولتوفرت الدواعي على نقله، واستحالت العادة كتمانه، ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (1): « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ »(2).
__________
(1) - صحيح البخارى(7352)
(2) - موسوعة الفقه الإسلامي، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ، مصر . ومن مراجعها هنا: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 4/244 - 247؛ والموافقات للشاطبي: 4/124.(1/119)
كل مجتهد مصيب أو (المصيب واحد غير معين):قال الحجاوي: اعلم أن الأمة لها قولان:
القول الأول: أن كل مجتهد مصيب في الفروع التي لا قاطع فيها، وهو قول ضعيف المدرك كما هو مبين في الأصول، وعليه فكل المجتهدين على هدى من ربهم.
القول الثاني: أن المصيب واحد. قال الشيخ أحمد بن مبارك اللمطي: قد اتفق أصحاب هذا القول على أنه غير معين، فما قاله السبكي في الطبقات من أن المصيب هو الشافعي مستدلًا بدلائل لا تفيده ليس بصواب، بل مخالف للإجماع المنعقد على أن الصواب إما مع الكل، أو مع واحد لا بعينه. نعم لكل أهل مذهب أن يرجحوا بما ينقدح في فكرهم من الدلائل، لكن لا يجزمون، ولا يخطئون غيرهم.
وأما عياض في (المدارك) فإنه ذهب إلى الترجيح لمذهب مالك بالوجوه التي بينها دون الجزم بصوابية واحد، وتخطئة سواه، فهو خرق للإجماع بل مخالف للمعقول، لأنه في المعنى كالوصف بالصحة لشخص هو نفسه اعترف بالخطأ في مسائل، فإن الشافعي له القول القديم والجديد، فأيهما أحق بالصواب؟ هذا مما لا معنى له(1).
ثم نقل الحجوي عن ابن القيم قوله في (إعلام الموقعين): إن هؤلاء الذين يرجحون مقلدون لا خبرة لهم بالأدلة، فكيف يتوصلون لمعرفة الراجح ، ولو كانوا مجتهدين، ما ساغ لهم التقليد الذي يوجب عليهم الترجيح.
وقد آل الأمر بأرباب المذاهب ذوي التعصب المذهبي إلى الهمز واللمز، وذلك كله تعصب ذميم.
20-التقارب بين المذاهب الفقهية:
__________
(1) - الفكر السامي للحجوي: 4/445؛ ومن الأمثلة في التحامل على المذاهب ما جاء في نظرية العقد من الفقه الجعفري، ص13؛ والمراجعات، ص32.(1/120)
ناقش الحجوي زعم بعض الفرنج أنها متباعدة كتباعد فرق النصارى والكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس، وكتباعد الفرق اليهودية النسطورية والسامرية ونحوها، وهذا ضلال مبين يراد به التضليل، فإن فرق النصارى يكفر بعضهم بعضًا، ولا يعده من النصرانية في شيء، ولا يقتدي به، حتى إنه لا يصلي هذا في كنيسة ذاك، وكذلك فرق اليهود، وكم وقعت بينهم من معارك وسالت من دماء.
ثم قال: أما مذاهبنا، فليست كذلك بل يقتدي بعضهم ببعض، ويعتبر كل واحد أخاه مسلمًا، نعم يعتقد أنه مخطئ في بعض من المسائل غير معين على القول بعدم تصويب المجتهدين، أما على القول به، فالكل على صواب في كل المسائل، وليس البون بينهم بعيدًا، إذ لم يكن بينهم خلاف في العقائد وإنما هو خلاف ثانوي في الفروع فقط التي هي محل الاجتهاد يأخذ فيها كل واحد بما قام عليه الدليل عنده للاكتفاء في أدلتها بالظنيات، ولذلك كان كل واحد من الأئمة يجل الآخر، فقد أخذ أبو حنيفة عن مالك ، كما أخذ مالك عنه، وأخذ الشافعي عن مالك ، وقال فيه: جعلته حجة بيني وبين ربي ، وأخذ ابن حنبل عن الشافعي ، وأثنى بعضهم على بعض علمًا ودينًا، وهكذا كان جلة أصحابهم بعضهم مع بعض، ولم يقع بينهم الخلاف في كل فرع، بل في بعض الفروع التي قامت لكل حجة على رأيه(1).
__________
(1) - الفكر السامي: 4/415.(1/121)
وقال محمد أبو زهرة: (الخلاف فيما يتعلق بالعقائد والفقه، لم يتجاوز الحد النظري والاتجاه الفكري، فإن العلماء الذين تصدوا لهذا لم يجرِ بينهم خلاف أدى إلى امتشاق الحسام، وطبيعة حياتهم العلمية لا تسمح لهم بأن ينقلوا الخلاف من ميدان القول إلى ميدان العمل ، ولم يكن الاختلاف النظري ليصل في حدته إلى أن يجعلوه عمليًّا، ولم تظهر الحدة إلا في أن يحكم كل واحد على الآخرين بالخطأ أو الابتداع، بل إن الاختلاف في الفقه لم يتجاوز حد اختلاف وجهة النظر، حتى إن كل فريق من المختلفين يقول: (رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب)(1).
هذا وقد أورد ابن تيمية تفصيلًا حسنًا في إطلاق الصواب على كل مجتهد في الظاهر، فقال: اختلف فيمن لم يصب الحكم الباطن: هل يقال: إنه مصيب في الظاهر، لكونه أدى الواجب المقدور عليه من اجتهاده وقصده، أو لا يطلق عليه اسم الإصابة بحال؟ وإن كان له أجر على اجتهاده وقصده الحق؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد ، وذلك لأنه لم يصب الحكم الباطن ولكن قصد الحق، واجتهد الاجتهاد المأمور به. والتحقيق أنه إن اجتهد الاجتهاد المقدور عليه فهو مصيب من هذا الوجه من جهة المأمور المقدور، وإن لم يكن مصيبًا من جهة إدراك المطلوب وفعل المأمور المطلق(2).
21-إنصاف الأئمة المجتهدين:
__________
(1) - المذاهب الإسلامية، لأبي زهرة، ص18.
(2) - مجموع فتاوى ابن تيمية: 19/128.(1/122)
امتنع الإمام مالك عن موافقة المنصور والرشيد في رغبتهما حمل الناس كلهم على مذهبه، وفي ذلك يقول مالك : ( لما حج المنصور قال لي: إني قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوه إلى غيره. فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ودانوا به من اختلاف الناس، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم)(1)، ويقول أيضًا: شاورني هارون الرشيد في أن يعلق (الموطأ) في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه فقلت: لا تفعل، فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكل عند نفسه مصيب، فقال: وفقك الله يا أبا عبد الله(2).
22-التثبت من نسبة الاختلاف:
لابد من التوثق في نسبة المسائل الخلافية إلى الأئمة، فهناك كثير من الأخطاء الناشئة عن التوهم أو النقل المتتابع أو بالتعلق الشائع. والطريقة العلمية هي نسبة ذلك الخلاف إلى كتب موثوقة الصلة بالإمام أو المذهب . ويلحظ أنه كثيرًا ما تختلف كتب المذهب نفسه في شأن بعض المسائل، فيرى فيها بعض المؤلفين ما لا يراه غيره، وربما تصبح الكتب المثبتة نادرة، أو تنقرض بعد نقل المسألة منها، فتحدث الفجوة بخلو الكتب المتداولة عن المسألة أو نفيها أحيانًا، وهذا يحدث بين أصحاب المذهب الواحد فلا يستغرب، فإذا انتقل ذلك لما بين المذاهب وقع النقد والنكير، ولاسيما في الأوساط الفقهية التي يغلب فيها تبدل الاجتهادات أو تجددها.
__________
(1) - الطبقات لابن سعد: 6/332.
(2) - حلية الأولياء: 6/332.(1/123)
وعلى سبيل المثال فإن ابن حزم(1)قال: (ومن الإمامية من يجيز نكاح تسع نسوة، ومنهم من يحرم الكرنب (كالقنبيط) لأنه نبت على دم الحسين، ولم يكن قبل ذلك) وقد قال الشيخ عبد الحسين شرف الدين(2)في معرض النقد لنسبة ذلك للشيعة: (ما زاد على أربع؛ أجمع الإمامية نصًا وفتوى على حرمته، والكرنب ليس عنه في كتبهم عنوان مخصوص، وحكمه كالخس والفجل واللفت. ثم قال شرف الدين: نسبوا للشيعة أنهم لا يأكلون لحم الإبل؛ مع أن الجزر تنحر في مشاهد أئمتهم! حتى إنهم لا يفتون بكراهة لحمها كما يفتون بكراهة الخيل والبغال والحمير. وكذلك عدم إيجاب العدة على النساء، مع أنهم أحوط فيها بحيث تبدأ لديهم مع العلم بالوفاة لا من نفس الوفاة، وإذا مات وهي حامل تتربص بأبعد الأجلين).
23-أدب الاختلاف وأخلاقيات نقله ودراسته:
__________
(1) - الفصل في الملل والنحل، 1842.
(2) - الفصول المهمة، ص143.(1/124)
الواقع أن هناك سببًا تاريخيًّا لأوهام النقل عن المذاهب، حيث ينسب إليها ما يتبرأ منه أصحاب المذهب نفسه، وهو وجود الغلاة في بعض المذاهب وعدم التمييز بين ما ينتحلونه من أقوال، وبين المعتدلين من أصحاب المذهب نفسه، وفي ذلك يقول الشيخ محمد تقي القمي: ثم إن هناك مبدأ علميًّا هامًَّا متفقًا عليه بين الباحثين الراسخين، ذلك هو أن الإنصاف والأمانة العلمية، تحتمان على الباحث أن يستقي ما يريده من المعلومات من مصادره الصحيحة، وأنه ما دامت المراجع المعتمدة لمذهب ما ميسرة، فلا يسوغ الرجوع إلى غيرها، ولاسيما إذا كانت تستند إلى الشائعات، أو تصدر عن عصبيات، وإنه لمن الخير أن يطبق أهل العلم في كل مذهب هذا المبدأ، وعندئذ سيتجلى لمن يدرس مذهب الإمامية، ويعرف آراءهم من الواقع الماثل أمامه، أي خير وأي علم في هذا المذهب، ثم يتجلى له مدى التجني الذي ناله من المتحيزين أو المتعصبين عليه، حتى خلطوا بين الغلاة الذين ينتحلون وصف الشيعة، وبين الشيعة أنفسهم الذين يبرؤون إلى الله منهم، ويحكمون بكفرهم. وكم من كتب خلطت بين الشيعة والفرق البائدة التي لا وجود لها إلا في زوايا التاريخ، أو في تفكير المتحيزين(1).
هذا، وإن التقسيم الرباعي الغالب هو: العبادات مع الحلال والحرام من الأشياء، والمعاملات المالية ، والأنكحة وما يتعلق بها ( الأحوال الشخصية )، والعقوبات مع الأقضية، وهذا التقسيم الرباعي هو المتبع في كتب المذاهب الأربعة والزيدية والإباضية والظاهرية، على اختلاف في تقديم بعض الزمر على بعض، وفي محتوى كل زمرة.
__________
(1) - من تقديم التحقيق المعد من الشيخ محمد تقي القمي، لكتاب المختصر النافع، صفحة (ش).(1/125)
أما الإمامية فيقول الشيخ محمد تقي القمي ما نصه: جرت العادة عند المؤلفين من فقهاء الإمامية أن يقسموا الموضوعات الفقهية إلى أربعة أقسام: (العبادات، العقود، الإيقاعات، الأحكام) ولعل وجه الحصر أن المبحوث عنه في الفقه إما أن يتعلق بالأمور الأخروية، أي معاملة العبد ربه، أو الدنيوية. فإن كان الأول فهو (عبادات)، أما الثاني فإما أن يحتاج إلى صيغة أو لا، فغير المحتاج إلى صيغة هو الأحكام؛ كالديات والميراث والقصاص والأطعمة، وما يحتاج إلى صيغة فقد يكون من الطرفين أو من طرف واحد، فمن طرف واحد يسمى (الإيقاعات) كالطلاق والعتق، ومن الطرفين يسمى (العقود) ويدخل فيها المعاملات والنكاح.
ثم قال: فقسم العبادات يبدأ بكتاب الطهارة وينتهي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقسم العقود يبدأ بكتاب التجارة وينتهي بكتاب النكاح ، وقسم الإيقاعات يبدأ بكتاب الطلاق وينتهي بكتاب النذر ، وقسم الأحكام يبدأ بالصيد والذبائح وينتهي بالديات(1).
24-لا إنكار في المختلف فيه:
الإنكار من المنكر إنما يكون فيما اجتمع عليه، فأما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين السلف في الفروع، ولا ينكر أحد على غيره مجتهدًا فيه، وإنما ينكرون ما خالف نصًّا أو إجماعًا قطعيًّا أو قياسيًّا جليًّا.
وهذا إذا كان الفاعل لا يرى تحريمه، فإن كان يراه فالأصح الإنكار(2).
وفي ذلك يقول الإمام سفيان الثوري : (إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه، وأنت ترى غيره فلا تنهه)، وعن الإمام أحمد روايات مجملها - على ما ذكره أبو يعلى - لا ينكر في المسائل الاختلافية إلا إذا ضعف فيها الخلاف.
__________
(1) - تقديم التحقيق لكتاب المختصر النافع، صفحة (ل، م)، وقد أوردته بطوله للاستفادة منه في جهود المقارنة مع المذاهب الأخرى بالرجوع إلى مدونات المذاهب نفسه.
(2) - المنثور: 2/140.(1/126)
وفي تفصيل لهذا يقول ابن تيمية : إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، فللاجتهاد فيها مساغ، فلا ينكر على من عمل بها مجتهدًا أو مقلدًا .
قال ابن تيمية : قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه(1).
وقال النووي : إنما ينكرون ما يجمع عليه الأئمة، وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم، وعلى المذهب الآخر المصيب واحد، والمخطئ غير متعين لنا، والإثم مرفوع عنه(2).
25-الاقتداء بالمخالف في الفروع:
كتب ابن حزم رسالة في جواز الاقتداء بالمخالف في الفروع، أجاب فيها سائلًا متشددًا، فرد عليه ممثلًا بأنواع المسائل الخلافية، ومبينًا ما نقل فيها من صلاة الصحابة خلف من قال بها مجتهدًا.
وقد وقع الاتفاق علمًا وعملًا من الأئمة على أن المصلي يأتم بمن يخالف اجتهاده، أو ما يقلده من مذهب في أحكام الصلاة، ولو كان يرى أن مثل ذلك مفسد للصلاة أو غيره أولى منه، وذلك دفعًا للتفرق، وهناك كثير من الأمثلة على ذلك من صنيع الأئمة(3).
- - - - - - - - - - - - - - -
الفصل الثالث
شبهات حول أسباب الاختلاف
المبحث الأول
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية:30/80.
(2) - الآداب لابن مفلح: 1/186؛ وجامع العلوم والحكم لابن رجب، ص284؛ وشرح صحيح مسلم للنووي: 2/23؛ وينظر دراسات في الاختلافات الفقهية للدكتور محمد البيانوني، ص103 - 118.
(3) - حاشية ابن عابدين : 1/378؛ ونهاية المحتاج: 2/160؛ وكشاف القناع: 1/442؛ ومجموع فتاوى ابن تيمية؛ ورسالة ابن حزم في مجموع رسائل ابن حزم، تحقيق إحسان عباس، بيروت ، 1981.(1/127)
أقوال العلماء في حديث "اختلافُ أمتي رحمةٌ"(1)
أما حديث: "اختلاف أمتي رحمة"، فهو حديث موضوع مكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وفي تذكرة المحتاج إلى أحاديث المنهاج - (ج 1 / ص 71)(62 )الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتُّونَ : حَدِيث: «اخْتِلَاف أمتِي رَحْمَة» .هَذَا الحَدِيث لم أر من خرجه مَرْفُوعا بعد الْبَحْث الشَّديد عَنهُ .وَإِنَّمَا نَقله ابْن الْأَثِير فِي مُقَدّمَة جَامعه من قَول مَالك ،وَفِي الْمدْخل للبيهقي عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد أَنه قَالَ: اخْتِلَاف أمة مُحَمَّد رَحْمَة.اهـ(2)
ونقل المناوي عن السبكي أنه قال: "ليس بمعروف عند المحدثين، ولم أقف له على سند صحيح، ولا ضعيف، ولا موضوع(3).
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 3255) رقم الفتوى 7158 أقوال العلماء في حديث "اختلاف أمتي رحمة" تاريخ الفتوى : 06 ذو الحجة 1421 وفتاوى الأزهر - (ج 8 / ص 209) وفتاوى الرملي - (ج 6 / ص 185) وفتاوى يسألونك - (ج 6 / ص 294) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1155) وفتاوى إسلامية - (ج 4 / ص 135) ومجموع فتاوى ابن باز - (ج 22 / ص 284) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 673) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 4 / ص 79) وشرح النيل وشفاء العليل - إباضية - (ج 32 / ص 143) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 4 / ص 487) والمنثور في القواعد - (ج 3 / ص 34) والبحر المحيط - (ج 8 / ص 140) وقواطع الأدلة فى الأصول / للسمعانى - (ج 3 / ص 384)
(2) - وانظر التفاصيل في المقاصد الحسنة للسخاوي(39) وكشف الخفاء ومزيل الإلباس (153 )
(3) - فيض القدير، شرح الجامع الصغير، (ج 2 / ص 19)(1/128)
في المقاصد الحسنة للسخاوي(39) حديث: اختلاف أمتي رحمة، البيهقي في المدخل من حديث سليمان ابن أبي كريمة عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : مهما أوتيتم من كتاب اللَّه فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب اللَّه فسنة مني ماضية، فإن لم تكن سنة مني فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة(1)، ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني، والديلمي في مسنده بلفظه سواء، وجويبر ضعيف جداً، والضحاك عن ابن عباس منقطع، وقد عزاه الزركشي إلى كتاب الحجة لنصر المقدسي مرفوعاً من غير بيان لسنده، ولا صحابيه وكذا عزاه العراقي لآدم بن أبي إياس في كتاب العلم والحكم بدون بيان بلفظ: اختلاف أصحابي رحمة لأمتي، قال: وهو مرسل ضعيف،(2)
__________
(1) - المدخل إلى السنن الكبرى(113) والكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (101 ) وابن عساكر (22/359) ، والديلمى (4/160 ، رقم 6497) .
(2) - تخريج أحاديث الإحياء(74 ) حديث " اختلاف أمتي رحمة . "** ذكره البيهقي في رسالته الأشعرية تعليقاً وأسنده في المدخل من حديث ابن عباس بلفظ " اختلاف أصحابي لكم رحمة " وإسناده ضعيف ..(1/129)
وبهذا اللفظ ذكره البيهقي في رسالته الأشعرية بغير إسناد، وفي المدخل له من حديث سفيان عن أفلح بن حميد عن القاسم بن محمد قال: اختلاف أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة لعباد اللَّه(1)، ومن حديث قتادة أن عمر بن عبد العزيز كان يقول: ما سرني لو أن أصحاب محمد صلى اللَّه عليه لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة(2)،ومن حديث الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد قال : « ما برح المستفتون يستفتون فيحل هذا ويحرم هذا فلا يرى المحرم أن المحلل هلك لتحليله ولا يرى المحلل أن المحرم هلك لتحريمه »(3)، وقد قرأت بخط شيخنا: إنه يعني هذا الحديث حديث مشهور على الألسنة، وقد أورده ابن الحاجب في المختصر في مباحث القياس بلفظ: اختلاف أمتي رحمة للناس، وكثر السؤال عنه، وزعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له، لكن ذكره الخطابي في غريب الحديث مستطرداً، وقال: اعترض على هذا الحديث رجلان، أحدهما ماجن، والآخر ملحد، وهما إسحاق الموصلي وعمرو بن بحر الجاحظ، وقالا جميعاً: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذاباً، ثم تشاغل الخطابي برد هذا الكلام، ولم يقع في كلامه شفاء في عزو الحديث، ولكنه أشعر بأن له أصلاً عنده، ثم ذكر شيخنا شيئاً مما تقدم في عزوه.
قلت : وفي الطبقات الكبرى لابن سعد - (ج 5 / ص 189) قال: أخبرنا قبيصة بن عُقبة قال: حدثنا أفلح بن حميد عن القاسم بن محمد قال: كان اختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحمة للناس.( وهذا إسناد صحيح مقطوع)
وعن قتادة ، أن عمر بن عبد العزيز ، كان يقول : « ما سرني لو أن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا ، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة »(4)(وهذا صحيح)
__________
(1) - الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي(736 ) صحيح
(2) - الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي(738 ) صحيح
(3) - جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر(1057 ) صحيح
(4) - الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي(738 ) صحيح(1/130)
فلعل بعض الضعفاء توهمه مرفوعاً كغيره ، ونسبه للنبي - صلى الله عليه وسلم -
فالصواب أنه من قول بعض التابعين ، ولا يصح رفعه ولا فقه .
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية :"وهذه العبارة قد أوردها كثير من العلماء والأئمة في كلامهم عن الاختلاف، وقد يشكل معناها خصوصاً مع تضافر نصوص الكتاب والسُّنَّة على ذمِّ الاختلاف، وقد وفق بين ذلك ابن حزم في (الإحكام في أصول الأحكام)(1)، فقال بعد ذكر هذه العبارة: وهذا من أفسد قول يكون، لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطاً، وهذا مما لا يقوله مسلم، لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف، وليس إلا رحمة أو سخط.. إلى أن قال بعد سرد الأدلة على ذمِّ الاختلاف، فإن قيل: إن الصحابة قد اختلفوا وهم أفاضل الناس ـ أفيلحقهم الذم المذكور؟.
__________
(1) - الأحكام لابن حزم - (ج 5 / ص 642)(1/131)
قيل: كلا، ما يلحق أولئك شيء من هذا، لأنَّ كلَّ امرئٍ منهم تحرَّى سبيل الله، ووجهته الحقُّ، فالمخطئُ منهم مأجورٌ أجراً واحداً لنيته الجميلة في إرادة الخير، وقد رفع عنهم الإثم في خطئهم، لأنهم لم يتعمدوه، ولا قصدوه، ولا استهانوا بطلبهم، والمصيبُ منهم مأجور أجرين. وهكذا كلُّ مسلم إلى يوم القيامة فيما خفيَ عليه من الدين ولم يبلغه، وإنما الذمُّ المذكور، والوعيد المنصوصُ لمن تركَ التعلق بحبل الله: وهو القرآنُ، وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد بلوغ النصِّ إليه، وقيام الحجةِ عليه، وتعلق بفلانٍ وفلان مقلداً عامداً للاختلاف، داعياً إلى عصبيةٍ، وحميةٍ الجاهلية، قاصداً للفرقة، متحريًّا في دعواه بردِّ القرآن والسُّنَّة إليها، فإن وافقها النصُّ أخذ به، وإنْ خالفها تعلقَ بجاهلية، وترك القرآن وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهؤلاء هم المختلفونَ المذمومون. وطبقةٌ أخرى وهم قومٌ بلغت بهم رقَّةُ الدين وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءَهم في قولة كل قائل، فهم يأخذونَ ما كان رخصةً في قول كلِّ عاملٍ، مقلِّدين له غير طالبين ما أوجبَه النصُّ عن الله وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - انتهى(1).
----------------
الرد على الشبكة الإسلامية وابن حزم
قلت : على هذا الكلام ملاحظات عدة :
الأولى – قولهم: (وهذه العبارة قد أوردها كثير من العلماء والأئمة في كلامهم عن الاختلاف)
قلت : بل أورده جميع الأئمة عند ذكرهم الاختلاف قديما وحديثاً ، وهذه كتبهم تشهد بذلك .
الثانية – وأما قولهم: (وقد يشكلُ معناها خصوصاً مع تضافر نصوص الكتاب والسُّنَّة على ذمِّ الاختلاف)
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 3240) رقم الفتوى 7134 و(ج 2 / ص 3255) رقم الفتوى 7158 أقوال العلماء في حديث "اختلاف أمتي رحمة"(1/132)
قلت : نصوص الكتاب والسُّنَّة متضافرة على ذم الاختلاف القائم على الهوى والتشهي ، وليس على الاختلاف المشروع ، فهذا التعميم غير صحيح ، قال تعالى: { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (26) سورة ص
الثالثة – نقلهم كلام ابن حزم على سبيل الإقرار والتسليم ، وهذه أدلة من فتاوى الشبكة الإسلامية تردُّ عليهم :
فقد سئلوا متى يكون الاختلاف بين العلماء رحمة ومتى يكون غير ذلك، وفى ماذا يكون الاختلاف؟(1)
فكان الجواب التالي :" إن عبارة (الاختلاف بين العلماء رحمة) ترد كثيراً في كلام أهل العلم، وقد حملها بعض أهل العلم على الاختلاف في المسائل التي يمكن فيها الاجتهاد، لعدم ورود نص فيها أو غموض في الأدلة الواردة فيها، وبالتالي تحصل توسعة على المقلدين في اتباع أحد طرفي الخلاف الواقع بين أهل العلم.
قال الزركشي في البحر المحيط: وأما التي يسوغ فيها الاجتهاد فهي المختلف فيها، كوجوب الزكاة في مال الصبي ونفي وجوب الوتر، وغيره مما عدمت فيها النصوص في الفروع وغمضت فيها الأدلة ويرجع فيها إلى الاجتهاد، فليس بآثم -أي المخطئ-، قال ابن السمعاني: ويشبه أن يكون سبب غموضها امتحاناً من الله لعباده ليتفاضل بينهم في درجات العلم ومراتب الكرامة، كما قال الله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11]، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76].
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 161) رقم الفتوى 40173 الاختلاف رحمة في المسائل التي يمكن فيها الاجتهاد تاريخ الفتوى : 22 رمضان 1424(1/133)
وعلى هذا يتأول ما ورد في بعض الأخبار اختلاف أمتي رحمة، فعلى هذا النوع يحمل هذا اللفظ. انتهى. "
وفي مكان آخر : " وإنما اختلف العلماء في الفروع الاجتهادية التي لم يأت فيها نص صريح قطعي الثبوت والدلالة، وهذا أمر طبيعي، لأن الاجتهاد يدعو إلى إعمال العقل، وعقول الناس متفاوتة، فلا بد أن يتفاوت فهمهم لهذه الأدلة التي تحتمل الاختلاف، ومثال القطعي: قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11]، فلا يمكن أن نقول هنا: للذكر مثل حظ الأنثى، لأنه لا مجال لاختلاف العقول فيها، أما قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [ البقرة:228]، فللعلماء أن يختلفوا في معنى ( القرء) لأنه لفظ مشترك بين الطهر والحيض، وقال بعضهم القرء : هو الطهر، وبناءً عليه سيختلف حساب العدة عند الفريقين، وهذا لا مانع منه شرعاً، لأن الاختلاف سنة من سنن الله تعالى في خلقه. وقد وقع الاختلاف بين الأنبياء، كما حكى القرآن عن سليمان وداود، وحصل بين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وبعد موته، ففي الحديث الذي رواه البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: « لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ » . فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِى الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نُصَلِّى حَتَّى نَأْتِيَهَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَل نُصَلِّى لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ . فَذُكِرَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنهُمْ .."(1)
وجاء فيها أيضاً:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 3849) رقم الفتوى 16829 اختلاف تنوع وفهم..لا اختلاف تضاد تاريخ الفتوى : 26 جمادي الأولى 1423(1/134)
" التفرق في الدين أو الاختلاف فيه ينقسم إلى قسمين:
الأول: ما كان اختلافاً في العقائد، وأصول الأحكام الثابتة، وما ثبت بإجماع صحيح عن خير القرون، فهذا تفرق مذموم بلا شك، ذلك أن دلائل تلك المسائل واضحة في الكتاب والسُّنَّة، مجمع عليها عند سلف الأمة، فالمخالف فيها متبع للهوى مفارق لسبيل المؤمنين، مقدم عقله على نصوص الوحي، وهذا قد ذمه الله ورسوله والمؤمنون.
الثاني: ما كان خلافاً في الفروع الفقهية والمسائل التي لم تجمع الأمة فيها على رأي واحد، وذلك كالاختلاف الواقع في المذاهب الأربعة، وكثير من المسائل الحادثة التي اختلف فيها أهل العلم، فهذا النوع من الاختلاف غير مذموم إذا وقع من أهله العارفين بأصوله، بل يمدح إن كان الحامل عليه اتباع الحق وتقديمه، ذلك أن نصوص القرآن والسُّنَّة في بيان تلك الأحكام ظنية في دلالتها، فربما رجح مجتهد ما لم يرجحه آخر، فالكل مأجور في اجتهاده، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ » . متفق عليه(1).
وقد كان خلاف الصحابة، وأئمة السلف من هذا النوع، فلم يوجب فسقاً ولا بدعة، بل كان بعضهم يجل بعضاً، ويكرمه من غير أن يكون خلافهم لتفرقهم، طالما أن الحق بغية كل واحدٍ منهم ومطلبه، لكن خلفهم خلوف ادعى كل طائفةٍ منهم التمسك برأي إمامٍ، وتعصب كل فريق لإمامة، وضلل الطائفة الأخرى، فتركت كل طائفة بعض ما أمرت به من الحق، وارتكبت بعض ما نهيت عنه، فوقعت العداوة والبغضاء، شأن أهل الكتاب من قبلنا، فلله الأمر من قبل ومن بعد. والله المستعان."(2)
__________
(1) - صحيح البخارى (7352 ) ومسلم (4584 )
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 4202) رقم الفتوى 8675 الاختلاف المحمود والاختلاف المذموم تاريخ الفتوى : 27 ربيع الأول 1422(1/135)
الرابعة – في كلام ابن حزم أما الجملة الأولى ( لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطا) فسوف نناقشها في المبحث الذي بعد هذا
الخامسة – كلام ابن حزم ينسف آخره أوله ، فالمذموم حسب وجهة نظره هو(وإنما الذمُّ المذكور، والوعيد المنصوصُ لمن تركَ التعلق بحبل الله: وهو القرآنُ، وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد بلوغ النصِّ إليه، وقيام الحجةِ عليه، وتعلق بفلانٍ وفلان مقلداً عامداً للاختلاف، داعياً إلى عصبيةٍ، وحميةٍ الجاهلية، قاصداً للفرقة، متحريًّا في دعواه بردِّ القرآن والسُّنَّة إليها، فإن وافقها النصُّ أخذ به، وإنْ خالفها تعلقَ بجاهلية، وترك القرآن وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهؤلاء هم المختلفونَ المذمومون)
فمن يخالف ابن حزم في هذا الكلام، فمن انطبقت عليه هذه الشروط ، ليس فقط مذموماً ، بل نخشى عليه الهلاك وسوء العاقبة ، وآيات الوعيد بلا ريب تتناول هؤلاء لاتحاد العلة بينهم وبين الكفار .
ولكن هل يوجد أحد في أتباع الأئمة الأربعة تنطبق عليه الشروط النادرة ؟.
لا أظن أحدا منهم يفعل ذلك ، لأنه خروج عن سواء السبيل بالاتفاق .
ولكن بما أن هذا الصنف من المقلدين بالكاد أن يوجد منهم ، فلا حاجة لهذا الكلام لأن النادر لا حكم له أصلاً .
ومن ثمَّ فالاستدلال بكلام ابن حزم – رحمه الله – على ذم التقليد مطلقاً وتحريمه – هو قول مكذوب مفترى عليه ، فلا بدَّ أن نفهم كلامه عن التقليد في سياقه ، لا أن نذكر بعض قوله الذي يوافق هوانا ، وندع الذي يخالفه .
ولما عذر الصحابة رضي الله عنهم في اختلافهم – والأئمة من هذا القبيل قطعاً- ذم المقلدين بالصفات المذكورة ، فدلَّ على أن المقلد الذي لا تنطبق عليه هذه الصفات المذمومة أو أكثرها فهو معذور ، مأجور على تقليده لأهل العلم ، لأنه عاجز عن معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية .(1/136)
وهناك طبقة أخرى تكلم عليها بقوله : ( وطبقةٌ أخرى وهم قومٌ بلغت بهم رقَّةُ الدين وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءَهم في قولة كل قائل، فهم يأخذونَ ما كان رخصةً في قول كلِّ عاملٍ، مقلِّدين له غير طالبين ما أوجبَه النصُّ عن الله وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - )
وهذا الصنف من الناس لا يخالفه أحد في ذمهم ، ولا يقبل إمام من الأئمة أن ينتسبوا إليه أصلاً .
===================
رأي الألباني رحمه الله حول هذا الحديث ومناقشته
وقال الألباني في تعليقه على هذا الحديث في الضعيفة 1/76 و77(57):
" لا أصل له ،ولقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند فلم يوفقوا ، حتى قال السيوطي في " الجامع الصغير " : ولعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا ! .
وهذا بعيد عندي ، إذ يلزم منه أنه ضاع على الأمة بعض أحاديثه - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا مما لا يليق بمسلم اعتقاده .
ونقل المناوي عن السبكي أنه قال : وليس بمعروف عند المحدثين ، ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع .
وأقره الشيخ زكريا الأنصاري في تعليقه على " تفسير البيضاوي " ( ق 92 / 2 )
ثم إن معنى هذا الحديث مستنكر عند المحققين من العلماء ، فقال العلامة ابن حزم في " الإحكام في أصول الأحكام " ( 5 / 64 ) بعد أن أشار إلى أنه ليس بحديث :
"وهذا من أفسد قول يكون ، لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطا ، وهذا ما لا يقوله مسلم ، لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف ، وليس إلا رحمة أو سخط..."(1)
__________
(1) - الإحكام 5/64(1/137)
"وإن من آثار هذا الحديث السيئة أن كثيراً من المسلمين يقرون بسببه الاختلاف الشديد الواقع بين المذاهب الأربعة,ولا يحاولون أبداً الرجوع بها إلى الكتاب والسُّنَّة الصحيحة كما أمرهم بذلك أئمتهم رضي الله عنهم, بل إن أولئك ليرون مذاهب هؤلاء الأئمة رضي الله عنهم إنما هي كشرائع متعددة يقولون هذا مع علمهم بما بينها من اختلاف وتعارض لا يمكن التوفيق بينها إلا بردِّ بعضها المخالف للدليل, وقبول البعض الآخر الموافق له،وهذا مالا يفعلونه, وبذلك نسبوا إلى الشريعة التناقض وهو وحده دليل على أنه ليس من الله عز وجل لو كانوا يتأملون قوله تعالى في حق القرآن {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِن عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (82) سورة النساء, فالآية صريحة في أن الاختلاف ليس من الله, فكيف يصحُّ إذن جعله شريعة متبعة, ورحمة منزلة ؟ ".
أقول: في هذا الكلام خلط عجيب, لا أعتقد أن أحداً من السابقين يقول به, وسأذكر بعضه:
الأول: زعمه أن (معنى هذا الحديث مستنكر عند المحققين من العلماء) ولم يورد شيئا لإثبات هذا الزعم سوى قول ابن حزم، فهل ابن حزم رحمه الله هو مرجع الأمة وحده ؟.
وهل هو ممثل العلماء ؟
وأين هم المحققون الذين استنكروا معنى هذا الكلام ؟
والصواب أنه م يستنكره إلا ابن حزم ، وسائر أهل العلم قد ذكروه في كتبهم دون نكير.
وهنا يصف ابن حزم بالعلامة وبالتحقيق ، بينما في كتبه الأخرى يقول عنه غير ذلك ، وإليك البيان :(1/138)
قال في تعليقه على الحديث " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير و الخمر.." قلت : وهذا إسناد صحيح ومتابعة قوية لهشام بن عمار وصدقة بن خالد ، و لم يقف على ذلك ابن حزم في " المحلى " ، ولا في رسالته في إباحة الملاهي ، فأعل إسناد البخاري بالانقطاع بينه وبين هشام ، وبغير ذلك من العلل الواهية ، التي بينها العلماء من بعده وردوا عليه تضعيفه للحديث من أجلها ، مثل المحقق ابن القيم في " تهذيب السنن " ( 5 / 270 - 272 ) والحافظ ابن حجر في " الفتح " وغيرهما ،وقد فصلت القول في ذلك في جزء عندي في الرد على رسالة ابن حزم المشار إليها ، يسر الله تبيضه و نشره .
وابن حزم رحمه الله مع علمه وفضله وعقله ، فهو ليس طويل الباع في الاطلاع
على الأحاديث وطرقها ورواتها . ومن الأدلة على ذلك تضعيفه لهذا الحديث . السلسلة الصحيحة(91 )
وقال في كلامه على حديث - " ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة .."
والآخر : أن الذين صححوها أكثر وأعلم بالحديث من ابن حزم ، لاسيما وهو معروف عند أهل العلم بتشدده في النقد ، فلا ينبغي أن يحتج به إذا تفرد عند عدم
المخالفة فكيف إذا خالف ؟ !السلسلة الصحيحة ( 204 )
وقال أيضاً " فلا يقبل بعد هذا قول ابن حزم فيه ( 8 / 196 ) : " وهو مجهول " وأعل الحديث به ، فإنه لا سلف له في ذلك ، وقد وثقه هؤلاء الأئمة ".السلسلة الصحيحة (260 )
وقال أيضاً :"وقال أبو الفتح الأزدي وابن حزم : ضعيف " . ومن عرف حال أبي الفتح الأزدي وما فيه من الضعف المذكور في ترجمته في " الميزان " وغيره و عرف شذوذ ابن حزم في علم الجرح عن الجماعة كمثل خروجه عنهم في الفقه لم يعتد بخلافهما لمن هم الأئمة الموثوق بهم في هذا العلم" السلسلة الصحيحة(503 )(1/139)
وقال أيضا :" وفيما تقدم رد قوي على ابن حزم في قوله في " رسالة الملاهي" (ص97) : أنه لم يثبت عن أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسير الآية بأنه الغناء ! قال : " وإنما هو قول بعض المفسرين ممن لا تقوم بقوله حجة " ! و مع سقوط كلامه هذا بما سبق ، فيخالفه صنيعه في " المحلى " ، فقد ساق فيه الروايات المتقدمة عن ابن مسعود وابن عباس ، وعن غيرهما من التابعين ، ولم يضعفها ، وإنما قال : " لا حجة لأحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " !
فنقول : كلمة حق أريد بها باطل ، لأنه لم يذكر عنه - صلى الله عليه وسلم - ما يخالف تفسيرهم . ثم زعم أنه قد خالفهم غيرهم من الصحابة والتابعين ! وهذا كالذي قبله ، فإنه لم يذكر ولا رواية واحدة مخالفة ، ولو كان لديه لسارع إلى بيانها . ثم احتج بأن الآية فيها صفة من فعلها كان كافرا . فنقول : هذا حق ، ولكن ذلك لا ينفي أن يؤاخذ المسلم بقدر ما قام فيه من تلك الصفة ، كالالتهاء بالأغاني عن القرآن . السلسلة الصحيحة (2922 )
الثاني - عدم معرفته بأسباب اختلاف الفقهاء, وقد ألفت عشرات الكتب فيها قديماً وحديثاً ككتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية رحمه الله وقد قمت بشرحه والتعليق عليه مطولا.
الثالث: يستحيل إزالة أسباب الخلاف إزالة تامة, لأنه يرجع إلى النصوص نفسها،فغالبها ليس قطعي الدلالة,بل ظني الدلالة, فكيف نرجع الخلاف إلى الكتاب والسُّنَّة الصحيحة ؟.
الرابع: أن الفقهاء استنبطوا أحكامهم من الكتاب والسُّنَّة والإجماع والقياس وليس من فراغ .
الخامس: لو شاء الله تعالى لجعل نصوص هذه الشريعة كلها قطعية الدلالة لا تحتمل أكثر من معنى, ولكن لم يشأ ذلك, فكيف نزيل الخلاف ؟(1/140)
السادس: يعني الفقهاء بقولهم الاختلاف رحمة: أنه يوجد في المسألة الواحدة أكثر من قول والمكلَّف في سعة من أمره طالما أنه لم يبلغ درجة الاجتهاد, وهذا الاختلاف موجود منذ عهد الصحابة وسيبقى إلى قيام الساعة،ولن يستطيع أحد إزالته .
السابع: قوله أنهم يرون مذاهب هؤلاء الأئمة رضي الله عنهم إنما هي كشرائع متعددة اهـ وعزاه لفيض القدير 1/209 .
قلت :" قال المناوي رحمه الله:" إن اختلافهم توسعة على الناس يجعل المذاهب كشرائع متعددة بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بكلها, لئلا تضيق بهم الأمور من إضافة الحق الذي فرضه الله تعالى على المجتهدين دون غيرهم, ولم يكلفوا مالا طاقة لهم به, توسعة في شريعتهم السمحة السهلة, فاختلاف المذاهب نعمة كبيرة وفضيلة جسيمة خصت بها هذه الأمة, فالمذاهب التي استنبطها أصحابه فمن بعدهم من أقواله وأفعاله على تنوعها كشرائع متعددة له, وقد وعد بوقوع ذلك, فوقع, وهو من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - , أما الاجتهاد في العقائد فضلالٌ ووبالٌ كما تقرر "1/209
وهناك فرق كبير بين كلام الشيخ ناصر وكلام المناوي ."
الثامن: منْ قال بأنَّ الشريعة متناقضةٌ ؟!،علماً أن الفقهاء يصرحون ويقولون قال أبو حنيفة:رأيي في هذه المسألة كذا, . وهكذا غيره, لذلك يقولون لك إذا سألتهم عن حكم مسألة مثلاً: هذه حلال في المذهب الشافعي, ولا يقولون من الله .. بل إن اختلاف الفقهاء هو اختلاف تنوُّع وليس اختلاف تضادٍّ .
التاسع: ما علاقة الآية القرآنية باختلاف الفقهاء،ولا سيما أنها واردة في حقِّ القرآن الكريم وليس على غيره كما هو معلوم ؟ .(1/141)
العاشر: ما قاله ابن حزم غير صحيح, إذا كان الاختلاف رحمة كان الاتفاق سخطاً, فهذا الثاني غير لازم قطعاً ولا مراد,والاختلاف من طبيعة البشر والحياة والنصوص, فمن أراد أن يزيله فليغير طبيعة البشر والحياة والنصوص حتى يتسنَّى له ذلك, ولا يقدر على هذا إلا اللهُ وحده.(1)
- - - - - - - - - - - - - - -
المبحث الثاني
الردُّ على ابن حزم بقوله :" لو كانَ الاختلافُ رحمةً لكانَ الاتفاقُ سخطاً "(2)
__________
(1) - إذا أردت التفصيل فارجع إلى كتاب الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم للدكتور يوسف القرضاوي .
(2) - انظر فتاوى يسألونك - (ج 6 / ص 294)(1/142)
أمَّا قولُ الإمام ابن حزم في رد الحديث دراية:[ لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطاً ] فغيرُ مسلَّم لأن كون الاختلاف رحمة لا يعني أن يكون الاتفاق سخطاً كما قال ،وهذا الكلام من ابن حزم إنما هو أخذ بمفهوم المخالفة وابن حزم لا يأخذ بمفهوم المخالفة أصلا فكيف يحتج به ، هذا أولاً(1).
__________
(1) - مفهوم المخالفة : معناه أن الأدلة إذا قيدت حكماً شرعياً بصفةٍ أو قيدٍ فإننا نعلم اختصاص هذا الحكم بهذا القيد وهذه الصفة ، فيوجد بوجودها ، ونفهم أنه إذا فقد هذا القيد أو هذه الصفة أن الحكم يختلف ولا شك ، ولابد من هذا القول : لأن الشارع حكيم ولا يعلق شيئاً على شيءٍ إلا وهو يقصد هذا التعليق ، فأثبت الحكم بشرطه وقيوده وصفاته ، وانف ما عداه فهذا النفي هو مفهوم المخالفة ، أي أنك تفهم أن ما خالف ذلك الشرط وهذا القيد أنه مخالف للحكم الثابت ..أي : أن حكم المسكوت عنه مخالف لحكم المنطوق به ، وهو حجة عند الجمهور وليس بحجة عند الإمام أبي حنيفة ، لكن الصواب أنه حجة ، وانظر للتوسع من أصول الفقه على منهج أهل الحديث - الرقمية - (ج 1 / ص 144-146) وانظر للتوسع كتب وليد بن راشد السعيدان - (ج 3 / ص 266) وإرشاد الفحول الي تحقيق الحق من علم الأصول - (ج 1 / ص 381) ومجموع الفتاوى - (ج 6 / ص 179) و (ج 15 / ص 446) و (ج 31 / ص 345) وفتاوى الأزهر - (ج 6 / ص 67) وفتاوى السبكي - (ج 1 / ص 220) و (ج 3 / ص 387) وفتاوى الرملي - (ج 3 / ص 370) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 936) و (ج 3 / ص 3826) و (ج 10 / ص 957) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 30) و (ج 3 / ص 267) و (ج 10 / ص 315) والتشريع الجنائي في الإسلام - (ج 1 / ص 205) والأحكام للآمدي - (ج 2 / ص 59) و (ج 2 / ص 257) والأحكام للآمدي - (ج 2 / ص 328) و (ج 3 / ص 66-71) والمحصول - (ج 3 / ص 11) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 3 / ص 91) وكشف الأسرار - (ج 4 / ص 64) والبحر المحيط - (ج 3 / ص 45) و (ج 3 / ص 327) و (ج 4 / ص 80) و(ج 4 / ص 81) و (ج 4 / ص 236-237) و (ج 4 / ص 424-434) والتقرير والتحبير - (ج 1 / ص 394) وشرح الكوكب المنير - (ج 2 / ص 261) وشرح التلويح على التوضيح - (ج 1 / ص 45) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 2 / ص 279) و (ج 2 / ص 320) وتيسير التحرير - (ج 3 / ص 226) وفواتح الرحموت - (ج 1 / ص 329) وغاية الوصول في شرح لب الأصول - (ج 1 / ص 24) والبرهان في أصول الفقه - الرقمية - (ج 1 / ص 166) والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد - الرقمية - (ج 1 / ص 135)(1/143)
وأمَّا ثانياً فقد قال الإمام النووي(1):[ قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَقَدْ رُوِيَ عَن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : " اِخْتِلَاف أُمَّتِي رَحْمَة " فَاسْتَصْوَبَ عُمَر مَا قَالَهُ ، وَقَدْ اِعْتَرَضَ عَلَى حَدِيث : اِخْتِلَاف أُمَّتِي رَحْمَة " رَجُلَانِ : أَحَدهمَا مَغْمُوض عَلَيْهِ فِي دِينه ، وَهُوَ عُمَر بْن بَحْر الْجَاحِظ ، وَالْآخَر مَعْرُوف بِالسُّخْفِ وَالْخَلَاعَة ، وَهُوَ إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْمَوْصِلِيّ ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا وَضَعَ كِتَابه فِي الْأَغَانِي ، وَأَمْكَنَ فِي تِلْكَ الْأَبَاطِيل لَمْ يَرْضَ بِمَا تَزَوَّدَ مِن إِثْمهَا حَتَّى صَدَّرَ كِتَابه بِذَمِّ أَصْحَاب الْحَدِيث ، وَزَعَمَ أَنَّهُمْ يَرْوُونَ مَا لَا يَدْرُونَ ، وَقَالَ هُوَ وَالْجَاحِظ : لَوْ كَانَ الِاخْتِلَاف رَحْمَة لَكَانَ الِاتِّفَاق عَذَابًا ، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ اِخْتِلَاف الْأُمَّة رَحْمَة فِي زَمَن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - خَاصَّة ؛ فَإِذَا اِخْتَلَفُوا سَأَلُوهُ ، فَبَيَّنَ لَهُمْ .
__________
(1) - شرح النووي على صحيح مسلم 4/258 وشرح النووي على مسلم - (ج 6 / ص 27)(1/144)
وَالْجَوَاب عَن هَذَا الِاعْتِرَاض الْفَاسِد : أَنَّهُ لَا يَلْزَم مِن كَوْن الشَّيْء رَحْمَة أَنْ يَكُون ضِدّه عَذَابًا ، وَلَا يَلْتَزِم هَذَا وَيَذْكُرهُ إِلَّا جَاهِل أَوْ مُتَجَاهِل . وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (73) سورة القصص، فَسَمَّى اللَّيْل رَحْمَة ، وَلَمْ يَلْزَم مِن ذَلِكَ أَنْ يَكُون النَّهَار عَذَابًا ، وَهُوَ ظَاهِر لَا شَكَّ فِيهِ . قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَالِاخْتِلَاف فِي الدِّين ثَلَاثَة أَقْسَام : أَحَدهَا : فِي إِثْبَات الصَّانِع وَوَحْدَانِيّته ، وَإِنْكَار ذَلِكَ كُفْر .
وَالثَّانِي : فِي صِفَاته وَمَشِيئَته ، وَإِنْكَارهَا بِدْعَة .
وَالثَّالِث فِي أَحْكَام الْفُرُوع الْمُحْتَمَلَة وُجُوهًا ، فَهَذَا جَعَلَهُ اللَّه تَعَالَى رَحْمَة وَكَرَامَة لِلْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ الْمُرَاد بِحَدِيثِ : اِخْتِلَاف أُمَّتِي رَحْمَة ، هَذَا آخِر كَلَام الْخَطَّابِيّ - رَحِمَهُ اللَّه -].(1/145)
وأمَّا ثالثاً فالاختلافُ المذكور هو الاختلافُ في الفروع الفقهية والاختلاف فيها ليس فيه حرجُ ما دام أنه قد صدر عن أهل الاجتهاد . والاختلاف في الفروع موجود منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما حصل في نهاية غزوة الأحزاب فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ :« لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ » . فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِى الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نُصَلِّى حَتَّى نَأْتِيَهَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَل نُصَلِّى لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ . فَذُكِرَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنهُمْ . رواه البخاري ومسلم(1).
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(946 ) وصحيح مسلم برقم(4701 )(1/146)
كما أنَّ كبار الصحابة قد اختلفوا في مسائل الفروع ،وهذا أمر مشهور معروف واختلافهم فيه توسعةٌ على الأمة . قال الشيخ ابن قدامة المقدسي في مقدمة كتابه العظيم المغني ما نصه(1):[ أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ وَطَوْلِهِ ، وَقُوَّتِهِ وَحَوْلِهِ ، ضَمِنَ بَقَاءَ طَائِفَةٍ مِن هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَجَعَلَ السَّبَبَ فِي بَقَائِهِمْ بَقَاءَ عُلَمَائِهِمْ ، وَاقْتِدَاءَهُمْ بِأَئِمَّتِهِمْ وَفُقَهَائِهِمْ ، وَجَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ مَعَ عُلَمَائِهَا ، كَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ مَعَ أَنْبِيَائِهَا ، وَأَظْهَرَ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِن فُقَهَائِهَا أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهَا ، وَيُنْتَهَى إلَى رَأْيِهَا ، وَجَعَلَ فِي سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَئِمَّةً مِن الْأَعْلَامِ ، مُهْدٍ بِهِمْ قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ ، وَأَوْضَحَ بِهِمْ مُشْكِلَاتِ الْأَحْكَامِ ، اتِّفَاقُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ ، وَاخْتِلَافُهُمْ رَحْمَةٌ وَاسِعَةٌ ، تَحْيَا الْقُلُوبُ بِأَخْبَارِهِمْ ، وَتَحْصُلُ السَّعَادَةُ بِاقْتِفَاءِ آثَارِهِمْ ، ثُمَّ اخْتَصَّ مِنهُمْ نَفَرًا أَعْلَى أَقْدَارَهُمْ وَمَنَاصِبَهُمْ وَأَبْقَى ذِكْرَهُمْ وَمَذَاهِبَهُمْ فَعَلَى أَقْوَالِهِمْ مَدَارُ الْأَحْكَامِ ، وَبِمَذَاهِبِهِمْ يُفْتِي فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ].
__________
(1) - المغني - (ج 1 / ص 2) والمغني 1/3-4(1/147)
وقد ذكر الحافظ ابن عبد البر عن جماعة من فقهاء السلف أن الاختلاف في الفروع فيه سعةٌ(1)فروى عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ : " لَقَدْ نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِاخْتِلَافِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَعْمَالِهِمْ ، لَا يَعْمَلُ الْعَالِمُ بِعَمَلِ رَجُلٍ مِنهُمْ إِلَّا رَأَى أَنَّهُ فِي سَعَةٍ وَرَأَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنهُ قَدْ عَمِلَهُ "(2).
فعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ : " لَقَدْ أَوْسَعَ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ بِاخْتِلَافِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، أَيُّ ذَلِكَ أَخَذْتَ بِهِ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِكَ مِنهُ شَيْءٌ "(3).
وعَن رَجَاءِ بْنِ جَمِيلٍ قَالَ : اجْتَمَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا فَجَعَلَا يَتَذَاكَرَانِ الْحَدِيثَ ، قَالَ : فَجَعَلَ عُمَرُ يَجِيءُ بِالشَّيْءِ يُخَالِفُ فِيهِ الْقَاسِمَ قَالَ : وَجَعَلَ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى الْقَاسِمِ حَتَّى تَبَيَّنَ فِيهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : " لَا تَفْعَلْ فَمَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِاخْتِلَافِهِمْ حُمْرَ النَّعَمِ "(4).
وعَن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ ، عَن أَبِيهِ ، أَنَّهُ قَالَ : لَقَدْ أَعْجَبَنِي قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ " مَا أُحِبُّ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَخْتَلِفُوا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلًا وَاحِدًا كَانَ النَّاسُ فِي ضِيقٍ وَإِنَّهُمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ وَلَوْ أَخَذَ رَجُلٌ بِقَوْلِ أَحَدِهِمْ كَانَ فِي سَعَةٍ "
__________
(1) - جامع بيان العلم وفضله 2/80
(2) - جامع بيان العلم برقم(1052 ) وهو صحيح
(3) - جامع بيان العلم برقم( 1053 ) وهو صحيح
(4) - نفسه برقم(1054 ) وهو صحيح(1/148)
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ : " هَذَا فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ "(1).
وعَن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : سَأَلْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ ، عَن الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِيمَا لَمْ يَجْهَرْ فِيهِ فَقَالَ : " إِنْ قَرَأْتَ فَلَكَ فِي رِجَالٍ مِن أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ، وَإِذَا لَمْ تَقْرَأْ فَلَكَ فِي رِجَالٍ مِن أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ "(2).
وعَن يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ : " مَا بَرِحَ الْمُسْتَفْتُونَ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُحِلُّ هَذَا وَيُحَرِّمُ هَذَا فَلَا يَرَى الْمُحَرِّمُ أَنَّ الْمُحَلِّلَ هَلَكَ لِتَحْلِيلِهِ، وَلَا يَرَى الْمُحَلْلَ أَنَّ الْمُحَرِّمَ هَلَكَ لِتَحْرِيمِهِ](3).
وسوف يمر معنا قول ولي الله الدهلوي حول اختلاف الصحابة في كثير من الأحكام ، فراجعه إن شئت(4).
وبعد اختلاف الصحابة والتابعين وتابعيهم اختلفَ الأئمةُ والعلماءُ في فروع الدين وما الاختلافُ بين أصحاب المذاهب الأربعة عنا ببعيد . ولا يجوزُ أن يقال :إنَّ اختلاف هؤلاء الفقهاء شرٌّ وسخطٌ وعذابٌ؛ بل فيه السعةُ والرأفةُ والرحمةُ بالأمة . وينبغي أنْ لا تضيق صدورنا بالخلافات الفقهية، فهي أمر ٌتعارفَ عليه المسلمون منذ الصدر الأول للإسلام ،بل إن الإمام مالك بن أنس رفض حملَ جميع المسلمين على مذهب واحد لما عرض عليه بعض الخلفاء العباسيين أن يحملوا المسلمين على ما قرره مالك في موطئه فرفض حمل الناس على ذلك حباً في التوسعة على المسلمين وعدم التضييق عليهم .
__________
(1) - نفسه برقم( 1055) وهو صحيح
(2) - نفسه برقم(1056 ) صحيح
(3) - نفسه برقم(1057 ) صحيح
(4) - حجة الله البالغة 1/295-296(1/149)
قال ابن أبي حاتم(1):[ قال مالك : ثم قال لي أبو جعفر المنصور : قد أردت أن أجعل هذا العلم علماً واحداً فأكتب به إلى أمراء الأجناد وإلى القضاة فيعملون به فمن خالف ضربت عنقه ! فقلت له : يا أمير المؤمنين أو غير ذلك قلت :إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في هذه الأمة وكان يبعث السرايا وكان يخرج فلم يفتح من البلاد كثيراً حتى قبضه الله عز وجل ،ثم قام أبو بكر - رضي الله عنه - بعده فلم يفتح من البلاد كثيراً ثم قام عمر - رضي الله عنه - بعدهما ففتحت البلاد على يديه ،فلم يجد بدًّا من أن يبعث أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - معلمين فلم يزل يؤخذ عنهم كابراً عن كابر إلى يومهم هذا، فإن ذهبت تحولهم مما يعرفون إلى ما لا يعرفون رأوا ذلك كفراً . ولكن أقرَّ أهل كل بلدة على ما فيها من العلمِ، خذْ هذا العلمَ لنفسك ،فقال لي : ما أبعدتَ القول اكتب هذا العلم لمحمد يعني ولده المهدي الخليفة من بعده ].
وقال الإمام السيوطي رحمه الله في كتابه النفيس ( جزيل المواهب في اختلاف المذاهب) ما نصه(2): " اعلم أنَّ اختلاف المذاهب في الملة نعمة كبيرةٌ ، وفضيلة عظيمةٌ ، وله سرٌّ لطيف أدركه العالمون ، وعميَ عنه الجاهلون ، حتى سمعت بعض الجهال يقول : النبي ( صلى الله عليه و سلم ) جاء بشرعٍ واحدٍ ، فمن أين مذاهبُ أربعة ٌ؟ ! .
ومن العجب أيضاً منْ يأخذُ في تفضيل بعض المذاهب على بعض تفضيلاً يؤدي ، إلى تنقيص المفضَّل عليه وسقوطه ، وربما أدَّى إلى الخصام بين السفهاء ، وصارت عصبيةً وحميةَ الجاهليةِ ، والعلماء منزَّهون عن ذلك .
__________
(1) - مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم - (ج 1 / ص 24) وأدب الاختلاف ص36-37
(2) - جزيل المواهب في اختلاف المذاهب - (ج 1 / ص 2و3) و آداب الاختلاف لدى الصحابة - (ج 1 / ص 25)(1/150)
وقد وقع الاختلافُ في الفروع بين الصحابة ( رضي الله عنهم و أرضاهم ) ، وهم خير الأمة ، فما خاصم أحد منهم أحداً ، ولا عادى أحدٌ أحداً ، ولا نسب أحد أحداً إلى خطأٍ ولا قصورٍ .
والسرُّ الذي أشرت إليه قد استنبطته من حديث ورد أن اختلاف هذه الأمة رحمة من الله لها ، وكان اختلاف الأمم السابقة عذاباً وهلاكاً . هذا أو معناه ، ولا يحضرني الآن لفظ الحديث .
فعرفَ بذلك أنَّ اختلاف المذاهب في هذه الأمة خصيصةٌ فاضلةٌ لهذه الأمة ، وتوسيعٌ في هذه الشريعة السمحة السهلة ، فكانت الأنبياءُ قبل النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) يبعث أحدهم بشرعٍ واحدٍ ، وحكمٍ واحدٍ ، حتى إنه من ضيق شريعتهِم لم يكن فيها تخييرٌ في كثير من الفروع التي شرع فيها التخيير في شريعتنا ؛ كتحريمِ القصاص في شريعةِ اليهود ، وتحتم الدية في شريعةِ النصارى.
ومن ضيقها أيضاً : لم يجتمع فيها الناسخُ والمنسوخُ كما وقع في شريعتنا ، ولذا أنكر اليهود النسخ ، واستعظموا نسخَ القبلة .
ومن ضيقها أيضاً : أنَّ كتابهم لم يكن يقرأ إلا على حرفٍ واحدٍ كما ورد بكل ذلك الأحاديث .
وهذه الشريعةُ سمةٌ سهلة ، لا حرج فيها ، كما قال تعالى {..يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ..} (185) سورة البقرة ، وقال : {.. وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِن حَرَجٍ ..} (78) سورة الحج .
وقال ( - صلى الله عليه وسلم - ) : " بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ "(1).
__________
(1) - أخرجه أحمد 5/266 برقم( 22951 ) و ابن كثير في التفسير 1/312 و 3/489 و 4/178 و 509 و 5/452 و الخطيب في تاريخ بغداد 7/209 و ابن سعد في الطبقات1/1/128 و الإتحاف للزبيدي 9/184 من طرق وهوصحيح لغيره
وانظر مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 346) ومجموع الفتاوى - (ج 20 / ص 114) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 2 / ص 216) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 4066) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5059) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7889) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11080) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 81)(1/151)
فمن سعتِها : أنَّ كتابها نزلَ على سبعةِ أحرفٍ يقرأ بأوجهَ متعددةٍ والكلُّ كلام الله .
ووقع فيه الناسخ والمنسوخ ليعملَ بهما معاً في هذه الملَّة في الجملة ، فكأنه عملَ فيها بالشرعين معاً .
ووقع فيها التخييرُ بين أمرين شرعَ كلٌّ منهما في ملَّة ، كالقصاص والدية ، فكأنها جمعت الشرعين معاً ،وزادت حسناً بشرع ثالث ، وهو التخييرُ الذي لم يكن في أحد الشريعتين .
ومن ذلك : مشروعيةُ الاختلاف بينهم في الفروع فكانتِ المذاهب على اختلافها كشرائعَ متعددةٍ(1)، كلٌّ مأمور بها في هذه الشريعة ، فصارت هذه الشريعة كأنها عدةَ شرائعَ بُعثَ النبيُّ ( - صلى الله عليه وسلم - ) بجميعها ، وفي ذلك توسعةٌ زائدةٌ لها ، وفخامةٌ عظيمةٌ لقدرِ النبي ( صلى الله عليه و سلم ) ، وخصوصيةٌ له على سائر الأنبياء ، حيث بعثَ كلٌّ منهم بحكمٍ واحدٍ ، وبُعثَ هو ( - صلى الله عليه وسلم - ) في الأمرِ الواحدِ بأحكامَ متنوعةٍ ، يحكَمُ بكلٍّ منها وينفّذُ ، ويصوبُ قائلهُ ، ويؤجر ُعليه ، ويهدي به .
وهذا معنى لطيفٌ فتحَ الله به ، ويستحسنه كلُّ منْ له ذوقٌ وإدراكٌ لأسرارِ الشريعةِ .
__________
(1) - المقصود بها هنا التشبيه وليس الحقيقة ، وهو يقارنها بالشرائع السابقة ، حيث جمعت هذه الشريعة الخاتمة خير ما في الشرائع السابقة وزادت عليها كثيرا، فصارت كأنها بمثابة شرائع متعددة(1/152)
وقد ذكر السبكيُّ في تأليف له أنَّ جميع الشرائع السابقة هي شرائعُ للنبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) بعثَ بها الأنبياءُ السابقون كالنيابة عنه ؛ لأنه نبيّ وآدمُ بين الروح والجسد(1)، وجعِلَ إذ ذاك نبيُّ الأنبياء ، وقدرَ بذلك قوله : " بعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً "(2)، فجعله مبعوثاً إلى الخلق كلهِم من لدن آدمَ إلى أنْ تقوم الساعةُ في كلامٍ طويل مشتملٍ ، على نفائسَ بديعاتٍ ، وقد سقته في أول كتاب المعجزات .
فإذا جعل السبكيُّ جميع الشرائع التي بعثت بها الأنبياء شرائعَ له ( - صلى الله عليه وسلم - ) زيادة في تعظيمه ، فالمذاهبُ التي استنبطها أصحابه من أقواله وأفعاله على تنوعها شرائعُ متعددة له من باب أولى ، خصوصاً وقد أخبر بوقوعها ، ووعد بالهداية على الأخذ بها . "
ولكن المذموم في الاختلاف في الفروع هو التعصب للرأي وإن ثبت أن َّهذا الرأي مخالف لما صحَّ عن رسول - صلى الله عليه وسلم - فالتعصبُ صفةٌ ذميمة لا ينبغي للمسلم أن يتصف بها.
__________
(1) - ففي سنن الترمذى برقم(3968 )عَن أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ قَالَ « وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ وهو كما قال
(2) - ففي مسند أحمد برقم( 2794) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِىٌّ قَبْلِى وَلاَ أَقُولُهُنَّ فَخْراً بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَأُحِلَّتْ لِىَ الْغَنَائِمُ وَلَم تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِى وَجُعِلَتْ لِىَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ فَأَخَّرْتُهَا لأُمَّتِى فَهِىَ لِمَنْ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً » وهو صحيح.(1/153)
وخلاصةُ الرأي أنَّ الاختلاف في الفروع لا بأسَ به ،وأن فيه توسعةً على الأمة ما دامَ صادراً عن أهل العلمِ والاجتهادِ .(1)
- - - - - - - - - - - - - -
المبحث الثالث
اختلافُ أقوال العلماء في المسائل الفرعية عن فقه وعلم لا عن جهل وهوى(2)
إنَّ من فضل الله وكرمه أن أصول الدين، وقطعيات الإسلام، وما اتفقت عليه الأمة من جلياتِ الشرعِ، لم تختلفْ فيها الأمة، ولا يجوز لها ذلك، فليست تلك المسائل محلاً للاجتهاد أصلاً، ولكن شاء الله أن يختلف الناس في أفهامهم ومداركهم، وجعل سبحانه كثيراً من أدلة الشريعة محتملاً أكثر من دلالة وذلك لحكمةٍ بالغةٍ.
فنتيجةٌ لذلك وقع الخلاف بين علماء المسلمين في المسائل الفرعية الاجتهادية، بل إن الصحابة رضوان الله عليهم مع علو مكانتهم، وقربهم من فترة الوحي، اختلفوا في المسائل الاجتهادية الفقهية. فغيرهم أولى بالوقوع في الاختلاف، لكنهم ومن بعدهم من أئمة المسلمين ما تعمَّدوا خلاف نصوص الشرع، فدينُ الله في قلوبهم أعظمُ وأجلُّ من أن يقدِّموا عليه رأي أحد من الناس، أو يعارضوه برأي، أو قياسٍ.
__________
(1) - انظر فتاوى يسألونك - (ج 6 / ص 294) فما بعدها
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 3019) رقم الفتوى 6787 اختلاف أقوال العلماء في المسائل الفرعية عن فقه وعلم لا عن جهل وهوى تاريخ الفتوى : 07 ذو القعدة 1421(1/154)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(1): وَلِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِن الْأَئِمَّةِ الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ قَبُولًا عَامًّا يَتَعَمَّدُ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شَيْءٍ مِن سُنَّتِهِ ؛ دَقِيقٍ وَلَا جَلِيلٍ ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ اتِّفَاقًا يَقِينِيًّا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَعَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِن النَّاسِ يُؤْخَذُ مِن قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَكِنْ إذَا وُجِدَ لِوَاحِدِ مِنهُمْ قَوْلٌ قَدْ جَاءَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِخِلَافِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِن عُذْرٍ فِي تَرْكِهِ انتهى.
فهم رضي الله عنهم إن وجد لهم مسائل جانبوا فيها الصواب، فإنهم ما قصدوا مخالفة الدليل، وإنما نتج ذلك عن اجتهاد منهم، وتحروا الحق، وركضوا وراءه، فأصابوا وأخطئوا، كلٌّ بحسب اجتهاده، فهم يترددون بين الأجر والأجرين، للمخطئ منهم أجر واحد، وللمصيب منهم أجران.
ويرجع السبب في اختلاف علماء المسلمين إلى أمور كثيرة منها:
أن لا يكون الدليل قد بلغ أحدهم، أو بلغه ولم يثبت عنده، أو ثبت عنده لكنه لا يراه يدل على المقصود، أو أنه منسوخ، أو أن له معارضاً أرجح منه.. إلى غير ذلك من الأسباب التي تسوّغ الخلاف بين العلماء.
فنحن لا ينبغي أن تضيق صدورنا باختلاف المجتهدين، ولا نحسبه تجزئةً في الدين، وإنما نراه من مظاهر نشاط فقهاء المسلمين.
وعرض اختلافهم في أمهات الكتب له فوائد عظيمة منها:
1-أنه يتيح التعرف على جميع الاحتمالات التي يمكن أن يكون الدليل رمى إليها بوجه من وجوه الدلالة.
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 20 / ص 232)ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 4 / ص 285) ومجموع رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية - (ج 31 / ص 1)(1/155)
2-أن هذا الاختلاف المنضبط بضوابط الشريعة فيه تنمية للملكة الفقهية، ورياضة للأذهان، وتلاقح للآراء، وفتح مجالات التفكير للوصول إلى سائر الافتراضات التي تستطيع العقول المختلفة الوصول إليها.
3-تعدد الحلول أمام الفقيه في الوقائع النازلة ليهتدي بذلك الفقه إلى الحلِّ المناسب لها وإلى أي الأدلة أقيس بها.
وعند اختلاف العلماء على المسلم إنْ كانَ له نظرٌ في الأدلة أن يتبعَ من أقوالهم ما كان أظهرَ صواباً وأرجحَ دليلاً، مع ترك التعصبِ للأئمة وتقديم أقوالهم على نصوص الشرع، مع إنزالهم منزلتهُم اللائقة بهم، والاستفادة من اجتهاداتهم في فهم نصوص الشرع، مع الحذر من تتبعِ رخص الأقوال والترجيحِ بالتشهِّي بما يناسب هوى المستفتي بحجةِ أنَّ في المسألة أقوالاً، فمجردُ الخلاف ليس دليلاً.
أمَّا إنْ كان عامياً ـ أيْ غيرُ متخصص في علوم الشريعة، ولا له نظر في الأدلة ـ فإنه لا يلزمه التمذهبُ بمذهبٍ، بل يستفتي من اتفق له ممن هو من أهل العلم والورع من غير ترخَّص.(1/156)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرُ بْنُ أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ : " فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَكَيْفَ تَقُولُ فِي الْمُسْتَفْتِي مِنَ الْعَامَّةِ إِذَا أَفْتَاهُ الرَّجُلَانِ وَاخْتَلَفَا فَهَلْ لَهُ التَّقْلِيدُ ؟ قِيلَ لَهُ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنْ كَانَ الْعَامِّيُّ يَتَّسِعُ عَقْلُهُ , وَيَكْمُلُ فَهْمُهُ إِذَا عَقَلَ أَنْ يَعْقِلَ , وَإِذَا فَهِمَ أَنْ يَفْهَمَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ الْمُخْتَلِفِينَ عَن مَذَاهِبِهِمْ عَن حُجَجِهِمْ , فَيَأْخُذُ بِأَرْجَحِهِمَا عِنْدَهُ , فَإِنْ كَانَ عَقْلُهُ لَمْ يَنْقُصْ عَن هَذَا , وَفَهْمُهُ لَا يَكْمُلُ لَهُ , وَسِعَهُ التَّقْلِيدُ لِأَفْضَلِهِمَا عِنْدَهُ وَقِيلَ : يَأْخُذُ بِقَوْلِ مَن شَاءَ مِنَ الْمُفْتِينَ , وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِن أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْلِ عَالِمٍ ثِقَةٍ , وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ , فَوَجَبَ أَنْ يَكْفِيَهُ , وَاللَّهُ أَعْلَمُ "(1)
وقال النووي في روضة الطالبين : ( وليس له التمذهب بمجرد التشهي، ولا بما وجد عليه أباه. هذا كلام الأصحاب. والذي يقتضيه الدليل أنه ـ أي العامي ـ لا يلزمه التمذهبُ بمذهبٍ، بل يستفتي من يشاء، أو من اتفق، لكن من غير تلقط للرخص) والله أعلم.(2)
- - - - - - - - - - - - - - -
المبحث الرابع
شبهات حول أسباب الفقهاء ومناقشتها(3)
__________
(1) - الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ (1216 )
(2) - روضة الطالبين وعمدة المفتين - (ج 4 / ص 121)
(3) - بحوث في علم أصول الفقه د- أحمد الحجي الكردي- (ج 1 / ص 26) وما بعدها(1/157)
إن بعض من الناس اتهم الشريعة الإسلامية بالتناقض والتخلخل وعدم الصلاحية للخلود والبقاء، استناداً إلى ما ابتنيت عليه من الخلافات المذهبية الكثيرة، حتى إنك لا تكاد تجد حكما واحدا متفقاً عليه بينهم ـ على حد قولهم ـ.
والآن بعد أن استعرضنا مواطن الاختلاف بين الفقهاء وأسبابه، نتعرض لتحليل هذه الشبهات والرد عليها، ونقدم لذلك نبذة نلقي فيها الضوء على طبيعة أسباب الاختلاف المتقدمة، فهي:(1/158)
1- أسباب ترجع إلى طبيعة اللغة العربية وأساليبها، وطرق دلالة اللفظ فيها على المعنى، وهذا مالا دخل للفقهاء الذين أقاموا صرح فقه هذه الشريعة فيه أبداً، إذ إن اللغة العربية نفسها تحتوي هذه الخلافات الفقهية وتحتملها، فان في اللغة العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمشترك والمتشابه، وفيها الحقيقة والمجاز وغير ذلك، ولكل قسم ونوع من هذه الأنواع وهذه الأساليب دلالة خاصة على المعنى المراد من لفظه، فبعضها تعتبر دلالته على معناه قطعية لا مثار فيها للخلافات، وهو ما اتفقت الأنظار الفقهية فيه من غير خلاف، وبعضها ظني الدلالة على معناه، بمعنى أنه يحتمل المعنى المتبادر منه ويحتمل معان أخرى إلى جانب هذا المعنى، وقد تكون هذه المعاني متساوية في قوة دلالة اللفظ فيها على المعنى أو تفاوته، وطبعي أمام هذه الاحتمالات كلها أن تختلف الأنظار الفقهية وتتعدد الأفهام البشرية، ويكفينا دليلا على صدق نيتهم في بذل الجهد كاملا في فهم هذه النصوص أنهم اتفقوا فيما يعتبر قطعي الدلالة ولم يختلفوا فيه، فهذه أصول العقائد وأصول العبادات تثبت عن طريق القطع فلم يختلف فيها أحد من الفقهاء، من ذلك فرضية الصلاة والزكاة والحج، ، ومن ذلك أيضاً صفات الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، وغير ذلك من الأحكام الكثيرة التي ثبتت بطرق قاطعة، وإذا كان الأمر كذلك فاللغة العربية هنا هي مشار الاختلاف ولا دخل للفقهاء فيه، ولا عيب فيهم إذا ما اختلفوا في بعض الأحكام تبعاً لذلك، بل العيب فيهم لو لم يختلفوا، ولا عيب في اللغة العربية إن كانت مثاراً لهذا الاختلاف أيضاً، لأن شأنها في ذلك شأن لغات العالم كله، فان هذا التعدد في قوة دلالة اللفظ على المعنى موجود في كل لغات العالم دون استثناء، هذا إذا لم تكن اللغة العربية أدق تلك اللغات كلها وأصدقها في التعبير والدلالة، بل هو الصحيح بشهادة الكتاب الأجانب أنفسهم وصدق من قال: (والفضل ما شهدت به(1/159)
الأعداء).
2- أسباب ترجع إلى طبيعة النفس البشرية: من ذلك مثلا اختلافهم على قبول رواية بعض الرواة أو عدم قبولهم، فإن ذلك أمر لا دخل للنزعات الشخصية فيه أبداً، بل هو أمر واقعي يفرض نفسه، فإن السنة الشريفة الشريفة كلها أو جلها رويت لنا مشافهة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طريق الرجال، وطبعي أن تختلف الأنظار في توثيقهم عدالة وجرحا ونسياناً وحفظاً وغير ذلك من طرق الجرح والتعديل، فيكون الراوي الفلاني ثقة عند فلان قليل الثقة في نظر غيره، فإن النفس البشرية هذا ميزانها وذلك هو جل طاقتها، وحسب الفقيه إن يبذل الجهد كاملاً في الوصول إلى الحق في التجريح والتعديل مخلصاً لله قصده، وإننا من تقصي تاريخ هؤلاء العلماء نستدل على صدقهم وحسن نيتهم في التجريح والتعديل، وهذه كتب التاريخ خير شاهد على ذلك.(1/160)
3- ومن ذلك أيضاً اختلاف أفهامهم وتغاير نظراتهم للأمور في حدود ما فطرت عليه النفس البشرية، فإن الله تعالى خلق هذه النفوس من جنس واحد هو التراب، ولكنه فاضل بينهما في العقول والأفهام، وهذا أمر لا ينكره أحد، وإن كان لهذا التفاوت في الأفهام حدود يجب أن يقف عندها فلا يتعداها إلى غيرها وإلا اعتبر شذوذاً وخروجا عما تحتمله النفس الإنسانية أو تسيغه، فالناس في الحدود العامة التي تسيغها وتحتملها هذه النفس يختلفون، ولا يجوز أن يعتبر اختلافهم هذا مطعنا في إنسانيتهم أو أداة للنيل من مدى الوثوق بهم، لأنه فطرة الله التي فطر الناس عليها، قال تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف:32)، أي إن سنن الكون تتطلب هذا الاختلاف وتفرضه، ولو رجعنا إلى ما تغايرت فيه أفهام الفقهاء لما وجدنا فيها خروجاً عن الحد الذي تقضي به وتفرضه الطبيعة الإنسانية.
ولذلك، ولما كانت تلك هي حدود النفس الإنسانية وطاقاتها ولا يمكن أن ترقى إلى ما هو أعلى منه، فإنه يكفي الفقهاء فخرا أنهم نماذج إنسانية من الطراز الأول في صدقهم وإخلاصهم للحق وقوة فهمهم وعلو مداركهم ودقة نظرتهم، والتاريخ شاهد حق على كل ذلك.(1/161)
4- ومنه مرونة بعض الأحكام، بحيث تكون قابلة للتغير بتغير العصور والأزمان، لأن الشرائع إنما وجدت لحماية مصالح البشرية، وهذه المصالح لا بد متطورة ومتغيرة، فما يعتبر مصلحة في زمن قد لا يعد كذلك في زمن آخر، وما يعتبر حسنا في أمة قد يعتبر سيئاً في أمة أخرى، ولما كانت الشريعة الإسلامية شريعة البشرية من يوم أرسل الله بها - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم يرث الله الأرض ومن عليها، كان لابد لها ـ لتتضمن وتؤمن مصالح البشر دائماً ـ من أن تكون نصوصها مرنة تحتمل هذا التطور وتواكبه، ولكن ليس معنى هذا أن عليها أن تواكب كل تحول وتوافق كل تغير، فقد يكون التغير إلى أدنى، وقد يكون التغير في غير الخط الذي رسمته هذه الشريعة مما يأباه الله تعالى، ولذلك كانت هذه النصوص مرنة في حدود لا يمكن أن تتعداها، ومحتملة ولكن للمصالح التي رضي الله عنها، ثم إن هنالك من المصالح ما يعتبر ثابتاً غير قابل للتغير، أو أن الشريعة الإسلامية لا ترضى بتغيره، وهذا هو الأهم من أحكام الشريعة، من ذلك مثلاً الكبائر والفرائض، فإنها أحكام لا تقبل التغير، ولذلك كانت النصوص فيها قاطعة واضحة لا تحتمل التبديل والتغير في هذه الأحكام، كحرمة الزنى والسرقة، فإنهما من الكبائر التي ستبقى ويجب أن تبقى كذلك في كل العصور، ومن ذلك فرضية الصلاة والزكاة والحج والصوم وغيرها، فإنها من الفرائض التي لا تقبل التغيير والتبديل، ولا يجوز أن تقبله بحال، أما الأمور التي تحتمل ذلك التغير بتغير الزمان والمكان، فإنما هي تلك الأحكام التي بنيت على العرف أو استندت في تحديدها وتقييدها إلى العرف، فإنها هي التي تتبدل بتبدل الزمان، ومن ذلك كثير من الأحكام المدنية والمالية، كالشروط العقدية، والكفاءة في الزواج، وغير ذلك مما هو مبين في كتب الفقه وأصوله، وطبيعي أمام هذا الاحتمال لتطور الأحكام الذي تتطلبه طبيعة خلود هذه الشريعة أن تختلف أفهام الفقهاء وأنظارهم تبعاً(1/162)
لاختلاف بيئاتهم وأزمانهم كما تقدم.
من هذا التحليل السريع لأسباب اختلاف الفقهاء نلاحظ أنه لا يوجد سبب واحد منه يرجع إلى شهوة فقيه أو ميوله الخاصة أو مصلحته الشخصية، وأنها كلها أسباب موضوعية تقوم وتنشأ أصلاً على أسس سليمة وقواعد قوية، ولا يمكن إلا أن يكون الأمر كذلك.
ولرد شبهات المغرضين المتقدمة يمكن أن نقول بإيجاز:
1ـ إن هذه الخلافات ليست شخصية حتى تكون مطعناً من المطاعن كما تقدم.(1/163)
2ـ إن بعض هذه الخلافات كان نتيجة تلبية الشريعة لداعي التطور الاجتماعي وتأمين الحق لكل البشر، وليس مظهراً من مظاهر التخلخل، لأن هذه الخلافات قائمة على أسس قويمة موضوعية كما تقدم، وما كان كذلك لا يكون تخلخلاً بطبيعة الحال، بل هو بحق ثروة تشريعية تعض عليها الأمة الإسلامية بالنواجذ، وتعدها كنزاً تباهي به الأمم كلها، لا سيما أن هذه الخلافات إنما كانت في فروع الشريعة لا في أصولها، لأن الأصول العامة التعبدية منها والاعتقادية والتشريعية واحدة في كل المذاهب الإسلامية المعتمدة، ولا خلاف فيها في شيء، وما تلك الاختلافات إلا في ميدان التطبيق والتفريع على هذه الأصول، مما سهل على الأمة التمسك بدينها والعمل بمنهاج ربها سبحانه، إذ أباح أن تسلك أي الطرق التي استنبطها الأئمة المجتهدون، وأن تأخذ بأي الأقوال التي قالوها لا حرج عليهم أن يدعوا قول فلان إلى قول فلان، ما دام كل منهما يسير في اجتهاده على منهج واضح وأسس مشروعة، فقد روي عَن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ ، عَن أَبِيهِ ، أَنَّهُ قَالَ : لَقَدْ أَعْجَبَنِي قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ " مَا أُحِبُّ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَخْتَلِفُوا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلًا وَاحِدًا كَانَ النَّاسُ فِي ضِيقٍ وَإِنَّهُمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ وَلَوْ أَخَذَ رَجُلٌ بِقَوْلِ أَحَدِهِمْ كَانَ فِي سَعَةٍ " ، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ : " هَذَا فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ "(1)
__________
(1) - جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر(1055 ) صحيح(1/164)
وقد علق الإمام الشاطبي على هذا القول بقوله: "ومعنى هذا أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه ، لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق ، لأن مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتفق عادة ـ كما تقدم ـ فيضير أهل الاجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونهم مكلفين باتباع خلافهم ، وهو نوع من تكليف ما لا يطاق ، وذلك من أعظم الضيق . فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي فيهم ، فكان فتح باب الأمة ، للدخول في هذه الرحمة ، فكيف لا يدخلون في قسم من رحم ربك ؟ !
فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها ، والحمد لله "(1)، كما أن الأستاذ الشيخ محمد أبا زهرة يعلق على قول الشاطبي هذا بقوله: (ولقد كان اختلاف الصحابة في الفروع رائده الإخلاص، لذا لم يكن بينهم تنازع في الفقه ولا تعصب، بل طلب للحقيقة وبحث عن الصواب من أي ناحية أخذ، ومن أي جهة استبان، وأن ذلك الاختلاف كان فيه شحذ للأذهان واستخراج للأحكام من القرآن واستنباط قانون شرعي عام وإن لم يكن مسطورا ..، ونحن لا نرى الخلاف في الفروع إلا ثمرات ناضجة لما بثه القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية في نفوس الناس من الحث على البحث بعقولهم وتدبير شؤونهم بالشورى ومبادلة الرأي، مستضيئين بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومستظلين بأحكام القرآن).
__________
(1) - كتاب الاعتصام - (ج 1 / ص 454)(1/165)
هذا ولا بد بعد ذكر ما تقدم من أقوال أئمة الشريعة الإسلامية من الانتباه إلى أن الكثيرين من علماء القانون والحقوق الوضعية في العصر الحديث يتباهون ويفخرون بما انحدر إليهم من تراث تشريعي ضخم عن الرومان يضم كثيرا من الآراء والنظريات المختلفة التي نظمها الفقهاء والشراح في العهد الروماني، ولا يعدون بحال تلك الآراء المختلفة والنظريات المتباينة المتناقضة أحيانا من النواقص التي يتمنون أن لا تكون في ميراثهم القانوني، ولا مظهرا من مظاهر التناقض أو التخلف أو عدم الصلاحية للبقاء والخلود ، مع أن الفقه الروماني على سعته هذه التي يفخرون بها لا يعد إلا نذرا يسيرا إذا ما قارناه بما يحتويه فقهنا العظيم من نظريات تشريعية، وآراء ومذاهب فقهية، وفروع متعددة، وثروة تشريعية ضخمة.(1/166)
3- إن الله تعالى - فضلا منه وكرما - لم يحتم علينا الوصول إلى الحق ومعرفة حكمه الأصلي في كل مسألة من المسائل التي شرعها لنا، لأن هذا فوق طاقتنا، وفيه حرج كبير علينا، والحرج مرفوع في الشريعة الإسلامية بنصوص تشريعية كثيرة، ولكن المفروض علينا هو بذل الجهد الكامل للوصول إلى الحق، ولذلك وردت النصوص كلها تدل على أن المجتهد إذا أصاب كان له أجران، وإذا أخطأ كان له أجرا واحدا، وطبعي أن المجتهد المخطئ لم يصب حكم الله الأصلي، لأن الحق لا يتعدد كما يذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء، وإذا كان الأمر كذلك لزم أن يكون المصيب من المجتهدين واحدا، والباقون الذين يخالفونه مخطئين، ولكن هذا الخطأ مرفوع في الشريعة، وأن ما توصلوا إليه من أحكام جائز تقليده والعمل به رخصة من الشارع، وذلك ضرورة أننا لم نستطيع أن نجزم بالحق الذي قضى به الله تعالى في سابق علمه وإرادته، وبذلك يكون ذلك الاختلاف مأذونا به من الشارع ومرضيا عنه منه، ولا يجوز بحال أن يعد مظهرا من مظاهر التخلخل، بل هو بحق مظهر من مظاهر الواقعية والاعتراف بالقدرات البشرية المحدودة التي تقرها السلطة الإلهية وتباركها، فتجعل للمخطئ من المجتهدين أجرا رغم خطئه وعدم قدرته على الوصول إلى الحق، فحسبه في ذلك أنه بذل جهده الذي منَّ الله تعالى به عليه كاملا، ولا يمكن أن يقال: إن معنى ذلك أن كل إنسان جاهل يعمل رأيه في فهم النصوص ثم يقول هذا جهدي وأنا مأجور عليه فيأتي من الأحكام بما لم تقره شريعة ولا عقل، إذ الجواب على ذلك واضح وبيِّن لا لبس فيه، وهو أن الله أمرنا ببذل الجهد كاملا، وأدار الثواب والعقاب عليه، ولا يعد الجهد مبذولا كاملا إلا إذا حصل الإنسان الآلة التي بها يستطيع فهم الأحكام من النصوص، والآلة هذه هي ما يسميه الفقهاء والأصوليون بملكة الاجتهاد وشروطه، فما لم يحصل الإنسان هذه الآلة فهو مقصر ولم يبذل الجهد، وبذلك لا يدخل في زمرة المأجورين.(1/167)
4- إن الاختلاف في فهم النصوص التشريعية لا بد منه نظرا لطبيعة تلك النصوص وما تتضمنه من احتمالات ومرونة تقتضيها طبيعة التشريع، فإنه إن كان من الأفضل أن تكون الأحكام التفصيلية والقواعد الجزئية واضحة ومحددة المعنى بصورة لا تقبل الاختلاف في فهمها، فإنه من الأفضل - دون شك - في النصوص التشريعية الدستورية أن تكون مرنة محتملة لعدة معان في حدود ما تقضي به الحاجة والضرورة، ليمكن أن تصاغ منها تلك المواد الجزئية وتلك الأحكام الفرعية على وفق الحاجة المتغيرة من زمن إلى زمن ومن بيئة إلى بيئة، ولو كانت تلك النصوص محددة بحيث لا تقبل الاختلاف ولا تحتمله، لكان الناس في عسر شديد وفي ضيق، ولما أمكن الخلود لمثل هذه القواعد والأسس".
- - - - - - - - - - - - - -
المبحث الخامس
هل صحة الحديث تزيل الخلاف بين الفقهاء ؟
يزعم بعض المشتغلين بالسنَّة النبوية ، أنه بمجرد صحة الحديث ، فإن الخلاف بين الفقهاء سوف يزول تماماً، وذلك لظنهم أن سبب الخلاف بين الفقهاء هذا فقط
ولكن هذه الدعوى عَريَّةٌ عن الصحة للأسباب التالية :
أولا- عامة النصوص في القرآن والسُّنَّة ظنية الدلالة على المعنى المراد فكيف نزيل الخلاف ؟.
ثانيا- قد يكون الحديث مختلفاً فيه ، فيصححه قوم ويضعِّفه آخرون ، فهل يلزم من ضعفه به ؟.
ثالثا- الحكمُ على الحديث قائم على غلبة الظن كذلك ، فقد يحكم عليه غيري بغيري حكمي .
رابعاً- حتى لو صح الحديث فليس بحجة قاطعة ، فقد يعارضه نصوص أقوى منه، فكيف يزيل الخلاف .
خامسا- صحَّة الحديث شيء وفهمه والعمل به شيء آخر ، لأن صحته تعود لعلم والعمل به يعود لعلم آخر .وهو علم أصول الفقه.
سادسا- لا يلزم الفقيه بمثل هذا الحديث الذي نصححه إلا إذا كان غير معارض بما هو أقوى منه عنده ، وصحَّ وفق القواعد والضوابط التي وضعها ذلك الإمام لقبول الأحاديث . والله أعلم .(1/168)
فلينتبه من يؤثِّم الفقهاء وأتباعهم لهذه الأمور ، فليس هو بأحرص منهم على اتباع السنَّة النبوية ، والعمل بها .
فقد صحت أحاديث عند الإمام مالك ترك العمل بها لمخالفتها لعمل أهل المدينة .
- - - - - - - - - - - - - - - -
المبحث السادس
الخلاصة في شرح قاعدة ( إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي )
قلت : قد ورد هذا الكلام عن الإمام الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة ، وقد أفرده الإمام السبكي برسالة لطيفة .
أولا-أقوال الأئمة في ذلك :
قال عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِالأَخْبَارِ الصِّحَاحِ مِنَّا، فَإِذَا كَانَ خَبَرٌ صَحِيْحٌ، فَأَعلِمْنِي حَتَّى أَذْهَبَ إِلَيْهِ، كُوفِيّاً كَانَ، أَوْ بَصْرِيّاً، أَوْ شَامِيّاً.
وَقَالَ حَرْمَلَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَا قُلْتُهُ فَكَانَ مِن رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خِلاَفُ قَوْلِي مِمَّا صَحَّ، فَهُوَ أَوْلَى، وَلاَ تُقَلِّدُوْنِي.
الرَّبِيْعُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: إِذَا وَجَدْتُمْ فِي كتَابِي خِلاَفَ سُنَّةِ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُوْلُوا بِهَا، وَدَعُوا مَا قُلْتُهُ.
وسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ - وَقَدْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ -: تَأْخُذُ بِهَذَا الحَدِيْثِ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟
فَقَالَ: مَتَى رَوَيْتُ عَن رَسُوْلِ اللهِ حَدِيْثاً صَحِيْحاً وَلَمْ آخُذْ بِهِ، فَأُشْهِدُكُم أَنَّ عَقْلِي قَدْ ذَهَبَ.
وَقَالَ الحُمَيْدِيُّ: رَوَى الشَّافِعِيُّ يَوْماً حَدِيْثاً، فَقُلْتُ: أَتَأْخُذُ بِهِ؟
فَقَالَ: رَأَيتَنِي خَرَجْتُ مِن كَنِيْسَةٍ، أَوْ عَلَيَّ زِنَّارٌ، حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ عَن رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيْثاً لاَ أقولُ بِهِ؟!(1/169)
قَالَ الرَّبِيْعُ: وَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا رَوَيْتُ عَن رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيْثاً فَلَمْ أقُلْ بِهِ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: كُلُّ حَدِيْثٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَهُوَ قَوْلِي، وَإِنْ لَمْ تَسْمَعُوهُ مِنِّي.
وَيُرْوَى أنَّهُ، قَالَ: إِذَا صَحَّ الحَدِيْثُ فَهُوَ مَذْهَبِي، وَإِذَا صَحَّ الحَدِيْثُ، فَاضْرِبُوا بِقَولِي الحَائِطَ.(1)
وقَالَ الرَّبِيعَ بْنَ سُلَيْمَانَ سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ - وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَن مَسْأَلَةٍ فَقَالَ : رُوِيَ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا ،فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ ؟ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَتَقُولُ بِهَذَا ؟ فَارْتَعَدَ الشَّافِعِيُّ وَاصْفَرَّ وَحَالَ لَوْنُهُ - وَقَالَ : وَيْحَكَ ، أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إذَا رَوَيْت عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا فَلَمْ أَقُلْ بِهِ ؟ نَعَمْ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنَيْنِ ، نَعَمْ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنَيْنِ .
قَالَ : وَسَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : مَا مِن أَحَدٍ إلَّا وَتَذْهَبُ عَلَيْهِ سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَعْزُبُ عَنهُ ، فَمَهْمَا قُلْت مِن قَوْلٍ أَوْ أَصَّلْت مِن أَصْلٍ فِيهِ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خِلَافَ مَا قُلْت فَالْقَوْلُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهُوَ قَوْلِي ، وَجَعَلَ يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ.
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (10/34) فما بعدها وتاريخ الإسلام للإمام الذهبي - (ج 14 / ص 320)(1/170)
وَقَالَ الرَّبِيعُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا نَسَبَتْهُ عَامَّةٌ أَوْ نَسَبَ نَفْسَهُ إلَى عِلْمٍ يُخَالِفُ فِي أَنْ فَرَضَ اللَّهُ اتِّبَاعَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّسْلِيمَ لِحُكْمِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ إلَّا اتِّبَاعَهُ ، وَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَوْلُ رَجُلٍ قَالَ إلَّا بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ ، وَإِنَّ مَا سِوَاهُمَا تَبَعٌ لَهُمَا ، وَإِنْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَعَلَى مَن بَعْدَنَا وَقَبْلَنَا فِي قَبُولِ الْخَبَرِ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفَرْضُ ، وَوَاجِبٌ قَبُولُ الْخَبَرِ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "(1)
__________
(1) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 427)(1/171)
وفي السنن الكبرى للبيهقي (ج 7 / ص 244)(14796) أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِى عَمْرٍو قَالاَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِىُّ قَالَ قَدْ رُوِىَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِأَبِى هُوَ وَأُمِّى : أَنَّهُ قَضَى فِى بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ وَنُكِحَتْ بِغَيْرِ مَهْرٍ فَمَاتَ زَوْجُهَا فَقَضَى لَهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا وَقَضَى لَهَا بِالْمِيرَاثِ. فَإِنْ كَانَ يَثْبُتُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَهُوَ أَوْلَى الأُمُورِ بِنَا ،وَلاَ حُجَّةَ فِى قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنْ كَثُرُوا وَلاَ فِى قِيَاسٍ وَلاَ شَىْءَ فِى قَوْلِهِ إِلاَّ طَاعَةُ اللَّهِ بِالتَّسْلِيمِ لَهُ وَإِنْ كَانَ لاَ يَثْبُتُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ لأَحَدٍ أَنْ يُثْبِتَ عَنهُ مَا لَمْ يَثْبُتْ وَلَمْ أَحْفَظْهُ بَعْدُ مِن وَجْهٍ يَثْبُتُ مِثْلُهُ. هُوَ مَرَّةً يُقَالُ عَن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَمَرَّةً عَن مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ وَمَرَّةً عَن بَعْضِ أَشْجَعَ لاَ يُسَمَّى : فَإِذَا مَاتَ أَوْ مَاتَتْ فَلاَ مَهْرَ لَهَا وَلاَ مُتْعَةَ."(1/172)
وفي السنن الكبرى للبيهقي (ج 5 / ص 302)(10919) أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِى عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ : مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ قُلْنَا لِلشَّافِعِىِّ إِنَّ عَلِىَّ بْنَ مَعْبَدٍ أَخْبَرَنَا بِإِسْنَادٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ أَجَازَ بَيْعَ الْقَمْحِ فِى سُنْبُلِهِ إِذَا ابْيَضَّ فَقَالَ أَمَّا هُوَ فَغَرَرٌ لأَنَّهُ مَحُولٌ دُونَهُ لاَ يُرَى فَإِنْ ثَبَتَ الْخَبَرُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قُلْنَا بِهِ وَكَانَ هَذَا خَاصًّا مُسْتَخْرَجًا مِن عَامٍّ لأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَن بَيْعِ الْغَرَرِ وَأَجَازَ هَذَا.(1/173)
وفي الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (124 ) وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ إِسْحَاقَ يَقُولُ : سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي سُرَيْجٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : قُلْتُ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ : رَأَيْتُ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : نَعَمْ رَأَيْتُهُ , وَلَوْ تَكَلَّمَ فِي السَّارِيةِ أَنْ يَجْعَلَهَا ذَهَبًا لَقَامَ بِحُجَّتِهِ وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ أَخَذَ الْعِلْمَ مِن أَهْلِ الْحِجَازِ ، عَن مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ , وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ , وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ , وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ , وَحَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَدَنِيِّ , وَأَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ اللَّيْثِيِّ , وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ , وَعَن أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ شَافِعٍ , وَغَيْرِهِمْ , وَهُمْ أَخَذُوهُ عَمَن أَدْرَكَ مِنهُمْ مَن أَدْرَكَ مِنَ التَّابِعِينَ , ثُمَّ عَمَن أَدْرَكُوا مَن أَدْرَكَ مِن فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ سَمَّيْنَاهُمْ فِيمَا مَضَى وَمَن لَمْ نُسَمِّ ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ مِن بَيْنِهِمْ أَخَذَ عِلْمَ فُقَهَاءِ الْمَكِّيِّينَ عَن عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ , وَابْنِ جُرَيْجٍ , وَغَيْرِهِمْ . وَعِلْمَ الْمَدَنِيِّينَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ , وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ , وَغَيْرِهِمَا .(1/174)
وَعِلْمُ الْعِرَاقِيِّينَ عَن أَبِي إِسْحَاقَ , وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ , وَمَنصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ , وَالْأَعْمَشِ , وَأَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ , وَغَيْرِهِمْ , وَأَخَذَهُ الشَّافِعِيُّ عَنهُ عَن جَمَاعَةٍ ، وَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ عَن مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزَّنْجِيِّ ، وَعَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيرِ بْنِ أَبِي رَوِادٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيِّ ، مِمَّا انْتَهَى إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ , مِن عِلْمِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ , وَطَاوُسٍ , وَمُجَاهِدٍ , وَغَيْرِهِمْ مِن فُقَهَاءِ الْمَكِّيِّينَ , ثُمَّ مِمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ مِن عِلْمِ الْمَدَنِيِّينَ , وَأَخَذَ مِن فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ , مِمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ مِن عِلْمِ مَنصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ , وَعَن سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ الْقِدَاحِ , مِمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ مِن عِلْمِ ابْنِ جُرَيْجٍ , وَغَيْرِهِْ مِنَ الْحِجَازِيِّينَ , ثُمَّ مِن عِلْمِ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ , وَغَيْرِهِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ , وَأَخَذَ مِن أَهْلِ الشَّامِ عَن عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ التِّنِّيسِيِّ , وَيَحْيَى بْنِ حَسَّانَ , وَغَيْرِهِمَا , مِمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ مِن عِلْمِ الْأَوْزَاعِيِّ , وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ , وَكَانَ يَتَأَسَّفُ عَلَى مَا فَاتَهُ مِن رِوَايَةِ اللَّيْثِ , وَأَخَذَ مِن أَهْلِ الْيَمَنِ عَن هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيِّ , وَغَيْرِهِ مِمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ مِن عِلْمِ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ صَاحِبِ الزُّهْرِيِّ , وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ الْيمَامِيِّ , وَغَيْرِهِ , وَأَخَذَ مِن أَهْلِ الْبَصْرَةِ , عَن عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيِّ ,(1/175)
وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ عُلَيَّةَ , وَغَيْرِهِمَا مِمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ مِن عِلْمِ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ , وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ , وَخَالِدِ بْنِ مِهْرَانَ الْحَذَّاءِ , وَغَيْرِهِمْ مِن أَصْحَابِ الْحَسَنِ , وَابْنِ سِيرِينَ , وَأَبِي قِلَابَةَ , وَغَيْرِهِمْ مِن فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ , مَعَ مِن أَدْرَكَا مِنَ التَّابِعِينَ , ثُمَّ عَن أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ , وَهِشَامِ بْنِ حَسَّانَ صَاحِبَيِ الْحَسَنِ , وَغَيْرِهِ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ , ثُمَّ عَن عَمْرِو بْنِ الْهَيْثَمِ أَبِي قَطَنٍ , وَغَيْرِهِ مِن أَصْحَابِ شُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ , ثُمَّ عَن أَصْحَابِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ , وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ , وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ , وَأَبِي عَوَانَةَ , وَهُشَيْمِ بْنِ بَشِيرٍ الْوَاسِطِيِّ , وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ . وَأَخَذَ مِن أَهْلِ الْكُوفَةِ , عَن مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيِّ , وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ , وَغَيْرِهِمَا مِن أَصْحَابِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ , وَالْأَعْمَشِ , وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ , وَغَيْرِهِمْ .(1/176)
وَأَخَذَ عَن جَمَاعَةٍ مِن أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ , عَن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ , وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ , وَأَخَذَ عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْخُرَاسَانِيِّ ، ثُمَّ عَن دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارِ عَنهُ , ثُمَّ أَخَذَ عَن أَصْحَابِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الرَّقِّيِّ مِن أَهْلِ الْجَزِيرَةِ , وَأَخَذَ عَن مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ ، مِن مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ صَاحِبِهِ مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ , حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا احْتَجَّا بِهِ , ثُمَّ نَاظَرَهُ فِيمَا كَانَ يَرَى خِلَافَهُ فِيهِ وَكَانَ يَقُولُ : مَا كَلَّمْتُ أَسْوَدَ الرَّأْسِ أَعْقِلَ مِن مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ . وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يُعَظِّمُهُ وَيُبَجِّلُهُ , وَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ فِي مَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ .(1/177)
وَكَانَ مَن مَضَى مِن عُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يَعْرِفُونَ مَذَاهِبَ أَهْلِ الْكُوفَةِ , وَأَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ يَعْرِفُونَ مَذَاهِبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ , فَكَانُوا إِذَا الْتَقَوْا , وَتَكَلَّمُوا , رُبَّمَا انْقَطَعَ الْمَدَنِيُّ , فَكَتَبَ الشَّافِعِيُّ مَذَاهِبَهُمْ , وَدَلَائِلَهُمْ , ثُمَّ لَمْ يُخَالِفْهُمْ إِلَّا فِيمَا قَوِيتْ حُجَّتُهُ عِنْدَهُ , وَضَعُفَتْ حُجَّةُ الْكُوفِيِّينَ فِيهِ , وَكَانَ يُكَلِّمُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ وَغَيْرَهُ عَلَى سَبِيلِ النَّصِيحَةِ , وَكَانَ يَقُولُ : مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا قَطُّ ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يُخْطِئَ , وَكَانَ يَقُولُ : مَا كَلَّمْتُ أَحَدًا قَطُّ , إِلَّا وَلَمْ أُبَالِ بَيْنَ اللَّهِ , الْحَقُّ عَلَى لِسَانِي أَوْ لِسَانِهِ . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَحْكِي عَن أَبِيهِ قَالَ : قَالَ لَنَا الشَّافِعِيُّ : أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ مِنِّي , فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فَأَعْلِمُونِي إِنْ شَاءَ يَكُونُ كُوفِيًّا أَوْ بَصْرِيًّا أَوْ شَامِيًّا , حَتَّى أَذْهَبَ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ صَحِيحًا أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ ، أَخْبَرَنِي نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَحْمَدَ الْعَدْلُ ، أبنا عُمَرُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ ، بِمِصْرَ , ثنا الْحَضْرَمِيٌّ ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، حَدَّثَنِي أَبِي فَذَكَرَهُ .(1/178)
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : وَلِهَذَا كَثُرَ أَخَذُهُ بِالْحَدِيثِ , وَهُوَ أَنَّهُ جَمَعَ عِلْمَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ , وَأَخَذَ بِجَمِيعِ مَا صَحَّ عِنْدَهُ مِن غَيْرِ مُحَابَاةٍ مِنهُ وَلَا مِيلٍ , إِلَّا مَا اسْتَجْلَاهُ مِن مُذْهِبِ أَهْلِ بَلَدِهِ , مَهْمَا بَانَ لَهُ الْحَقُّ فِي غَيْرِهِ , وَمِمَن كَانَ قَبْلَهُ مِمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى مَا عَهِدَ مِن مَذْهِبِ أَهْلِ بَلَدِهِ , وَلَمْ يَجْتَهِدْ فِي مَعْرِفَةِ صِحَّةِ مَا خَالَفَهُ , وَ اللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُمْ , وَيَرْحَمُنَا وَإِيَّاهُمْ , فَكُلٌّ مِنهُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ وَمَنِّهِ رَجَعَ فِي أَكْثَرِ مَا قَالَ , وَمُعْظَمُ مَا رُسِمَ إِلَى وَثِيقَةٍ أَكِيدَةٍ ، مِمَن يُقْتَدَى بِهِ فِي الدِّينِ , وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَالِاهْتِدَاءِ بِهَدْيهِمْ , وَجَمَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ بِفَضْلِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ , إِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ".(1/179)
وقال البيهقي(1): " قَالَ الرَّبِيعُ : أَنْبَأَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ : إِذَا حَدَّثَ الثِّقَةُ عَنِ الثِّقَةِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَهُوَ ثَابِتٌ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَا يُتْرَكُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثٌ أَبَدًا إِلَّا حَدِيثٌ وُجِدَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثٌ يُخَالِفُهُ . . . , ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْأَحَادِيثِ إِذَا اخْتَلَفَتْ مَعْنَى مَا مَضَى . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : إِذَا كَانَ الْحَدِيثُ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا مُخَالِفَ لَهُ عَنهُ وَكَانَ يُرْوَى عَن مَن دُونَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثٌ يُوَافِقُهُ لَمْ يَزِدْهُ قُوَّةً وَحَدِيثُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَغْنٍ بِنَفْسِهِ . وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُرْوَى عَمَن دُونَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثٌ يُخَالِفُهُ لَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى مَا خَالَفَهُ ، وَحَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ ، وَلَوْ عَلِمَ مَن رَوَى عَنهُ خِلَافَهُ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اتَّبَعَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ "
__________
(1) - المدخل إلى السنن الكبرى - (ج 1 / ص 13)- بَابُ الْحَدِيثِ الَّذِي يُرْوَى خِلَافُهُ عَن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/180)
وعَن هِشَامِ بْنِ يَحْيَى الْمَخْزُومِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِن ثَقِيفٍ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ فَسَأَلَهُ عَنِ امْرَأَةٍ حَاضَتْ ، وَقَدْ كَانَتْ زَارَتِ الْبَيْتَ يَوْمَ النَّحْرِ , أَلَهَا أَنْ تَنْفِرَ قَبْلَ أَنْ تَطْهُرَ ؟ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : لَا , فَقَالَ لَهُ الثَّقَفِيُّ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَفْتَانِي فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ مَا أَفْتَيْتَ , قَالَ : فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ يضْرِبُهُ بِالدِّرَّةِ وَيَقُولُ : لِمَ تَسْتَفْتُونِي فِي شَيْءٍ قَدْ أَفْتَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "
وعَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ ، أَنَّهُ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ فَسَأَلَهُ عَنِ امْرَأَةٍ ، تَطُوفُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ تَحِيضُ ؟ قَالَ : لِيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ , فَقَالَ الْحَارِثُ : كَذَا أَفْتَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : أَرِبْتَ عَن يدَيْكَ , سَأَلْتَنِي عَن شَيْءٍ سَأَلْتَ عَنهُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِكَيْمَا أُخَالِفَ.
وَالرِّوَايةُ الْأُولَى أَشْبَهُ بِالرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ فِي الرُّخْصَةِ لِلْحَائِضِ وَالْمَقْصُودُ مِنهُ إِشَارَةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ إِلَى الِاسْتِغْنَاءِ بِالسُّنَّةِ عَن غَيْرِهَا.
و قَالَ ابن خُزَيْمَةَ : لَيْسَ لِأَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَوْلٌ إِذَا صَحَّ الْخَبَرُ عَنهُ .(1/181)
وقال يَحْيَى بْنَ آدَمَ : لَا يُحْتَاجُ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى قَوْلِ أَحَدٍ وَإِنَّمَا كَانَ يُقَالُ : سُنَّةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا لِيُعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَاتَ وَهُوَ عَلَيْهَا "
وعَن مُجَاهِدٍ قَالَ : " لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا يُؤْخَذُ مِن قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ مِن قَوْلِهِ إِلَّا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - " وَرُوِّينَا مَعْنَاهُ عَن عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ "
وعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ ، قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ : مَا قَبَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ حَرَامٌ فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , وَمَا قَبَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ حَلَالٌ فَهُوَ حَلَالٌ يَعْنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ "(1/182)
وعَن رَجُلٍ ، مِن أَهْلِ وَاسِطٍ يُقَالُ لَهُ : شَيْبَةُ بْنُ مُسَاوِرٍ , أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ يُحَدِّثُ زَمَانَ اسْتُخْلِفَ وَجَلَسَ عَلَى الْمِنبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : " أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُرْسِلْ رَسُولًا بَعْدَ رَسُولِكُمْ ، وَلَمْ يُنَزِّلْ بَعْدَ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا ، فَمَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَهُوَ حَلَالٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِمُبْتَدِعٍ وَلَكِنِّي مُتَّبِعٌ , وَلَسْتُ بِقَاضٍ وَلَكِنِّي مَنَفِّذٌ , وَلَسْتُ بِخَيْرٍ مِن وَاحِدٍ مِنكُمْ , وَلَكِنِّي أَثْقَلُكُمْ حِمْلًا , أَلَا وَإِنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُطَاعَ فِي مَعَاصِي اللَّهِ أَلَا هَلْ أَسْمَعْتُ ؟ أَلَا هَلْ أَسْمَعْتُ ؟ .
وقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ فِي أَقَاوِيلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَضِيَ عَنهُمْ : " إِذَا تَفَرَّقُوا فِيهَا نَصِيرُ إِلَى مَا وَافَقَ الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ أَوِ الْإِجْمَاعَ ، أَوْ كَانَ أَصَحَّ فِي الْقِيَاسِ , وَإِذَا قَالَ الْوَاحِدُ مِنهُمُ الْقَوْلَ لَا نَحْفَظُ عَن غَيْرِهِ مِنهُمْ فِيهِ لَهُ مُوَافَقَةً وَلَا خِلَافًا , صِرْتُ إِلَى اتِّبَاعِ قَوْلِ وَاحِدِهِمْ ، إِذَا لَمْ أَجِدْ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا إِجْمَاعًا وَلَا شَيْئًا فِي مَعْنَاهُ يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِهِ أَوْ وُجِدَ مَعَهُ قِيَاسٌ "
ثانيا- نقول من بعض كتب الفقه حول ذلك :(1/183)
قال النووي رحمه الله : " فَصْلٌ صَحَّ عَن الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ : إذَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي خِلَافَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُولُوا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَدَعُوا قَوْلِي , وَرُوِيَ عَنهُ : إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ خِلَافَ قَوْلِي فَاعْمَلُوا بِالْحَدِيثِ وَاتْرُكُوا قَوْلِي , أَوْ قَالَ : فَهُوَ مَذْهَبِي , وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ .(1/184)
وَقَدْ عَمِلَ بِهَذَا أَصْحَابُنَا فِي مَسْأَلَةِ التَّثْوِيبِ وَاشْتِرَاطِ التَّحَلُّلِ مِن الْإِحْرَامِ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَغَيْرِهِمَا , مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ . وَقَدْ حَكَى الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ عَن الْأَصْحَابِ فِيهِمَا . وَمِمَن حَكَى عَنهُ أَنَّهُ أَفْتَى بِالْحَدِيثِ مِن أَصْحَابِنَا أَبُو يَعْقُوبَ الْبُوَيْطِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ , وَمِمَن نَصَّ عَلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ فِي كِتَابِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ , وَمِمَّن اسْتَعْمَلَهُ مِن أَصْحَابِنَا الْمُحَدِّثِينَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ وَآخَرُونَ , وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِن مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا إذَا رَأَوْا مَسْأَلَةً فِيهَا حَدِيثٌ , وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ خِلَافُهُ عَمِلُوا بِالْحَدِيثِ , وَأَفْتَوْا بِهِ قَائِلِينَ : مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مَا وَافَقَ الْحَدِيثَ , وَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ إلَّا نَادِرًا , وَمِنهُ مَا نُقِلَ عَن الشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلٌ عَلَى وَفْقِ الْحَدِيثِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ رَأَى حَدِيثًا صَحِيحًا قَالَ : هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَمِلَ بِظَاهِرِهِ , وَإِنَّمَا هَذَا فِيمَن لَهُ رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِن صِفَتِهِ أَوْ قَرِيبٍ مِنهُ , وَشَرْطُهُ : أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَقِفْ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ صِحَّتَهُ , وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مُطَالَعَةِ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ كُلِّهَا وَنَحْوِهَا مِن كُتُبِ أَصْحَابِهِ الْآخِذِينَ عَنهُ وَمَا أَشْبَهَهَا .(1/185)
وَهَذَا شَرْطٌ صَعْبٌ قَلَّ مَن يَتَّصِفَ بِهِ , وَإِنَّمَا اشْتَرَطُوا مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَرَكَ الْعَمَلَ بِظَاهِرِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ رَآهَا وَعَلِمَهَا , لَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ عَلَى طَعْنٍ فِيهَا أَوْ نَسْخِهَا أَوْ تَخْصِيصِهَا أَوْ تَأْوِيلِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ .(1/186)
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَيْسَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ بِالْهَيِّنِ , فَلَيْسَ كُلُّ فَقِيهٍ يَسُوغُ لَهُ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِالْعَمَلِ بِمَا يَرَاهُ حُجَّةً مِن الْحَدِيثِ , وَفِيمَن سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ مِن الشَّافِعِيِّينَ مَن عَمِلَ بِحَدِيثٍ تَرَكَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَمْدًا , مَعَ عِلْمِهِ بِصِحَّتِهِ لِمَانِعٍ اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَخَفِيَ عَلَى غَيْرِهِ , كَأَبِي الْوَلِيدِ مُوسَى بْنِ أَبِي الْجَارُودِ مِمَن صَحِبَ الشَّافِعِيَّ , قَالَ : صَحَّ حَدِيثُ { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } , فَأَقُولُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ , فَرَدَّا ذَلِكَ عَلَى أَبِي الْوَلِيدِ ; لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ تَرَكَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِصِحَّتِهِ , لِكَوْنِهِ مَنسُوخًا عِنْدَهُ , وَبَيَّنَ الشَّافِعِيُّ نَسْخَهُ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ , وَسَتَرَاهُ فِي ( كِتَابِ الصِّيَامِ ) إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى , وَقَدْ قَدَّمْنَا عَن ابْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّهُ قَالَ : لَا أَعْلَمُ سُنَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَمْ يُودِعْهَا الشَّافِعِيُّ كُتُبَهُ . وَجَلَالَةُ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَإِمَامَتُهُ فِي الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ , وَمَعْرِفَتِهِ بِنُصُوصِ الشَّافِعِيِّ بِالْمَحَلِّ الْمَعْرُوفِ . قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو : فَمَن وَجَدَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ حَدِيثًا يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ نَظَرَ إنْ كَمُلَتْ آلَاتُ الِاجْتِهَادِ فِيهِ مُطْلَقًا , أَوْ فِي ذَلِكَ الْبَابِ أَوْ الْمَسْأَلَةِ كَانَ لَهُ الِاسْتِقْلَالُ بِالْعَمَلِ بِهِ . وَإِنْ لَمْ يَكْمُلْ وَشَقَّ عَلَيْهِ مُخَالَفَةُ الْحَدِيثِ بَعْدَ أَنْ بَحَثَ .(1/187)
فَلَمْ يَجِدْ لِمُخَالَفَتِهِ عَنهُ جَوَابًا شَافِيًا , فَلَهُ الْعَمَلُ بِهِ إنْ كَانَ عَمِلَ بِهِ إمَامٌ مُسْتَقِلٌّ غَيْرَ الشَّافِعِيِّ , وَيَكُونُ هَذَا عُذْرًا لَهُ فِي تَرْكِ مَذْهَبِ إمَامِهِ هُنَا , وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حَسَنٌ مُتَعَيَّنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ"(1).
وقال ابن القيم : " وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى - مِنهُمْ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ - : مَن وَجَدَ حَدِيثًا يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ فَإِنْ كَمُلَتْ آلَةُ الِاجْتِهَادِ فِيهِ مُطْلَقًا أَوْ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ أَوْ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ أَوْ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَالْعَمَلُ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ أَوْلَى ، وَإِنْ لَمْ تَكْمُلْ آلَتُهُ وَوَجَدَ فِي قَلْبِهِ حَزَازَةً مِن مُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ بَعْدَ أَنْ بَحَثَ فَلَمْ يَجِدْ لِمُخَالَفَتِهِ عِنْدَهُ جَوَابًا شَافِيًا فَلْيَنْظُرْ : هَلْ عَمِلَ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ إمَامٌ مُسْتَقِلٌّ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ وَجَدَهُ فَلَهُ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبِهِ فِي الْعَمَلِ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي تَرْكِ مَذْهَبِ إمَامِهِ فِي ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . "(2)
وسُئِلَ الرملي عَن مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي ؟ " .
(
__________
(1) - المجموع شرح المهذب - (ج 1 / ص 63) وفتاوى ابن الصلاح - (ج 1 / ص 24) فما بعدها
(2) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 5 / ص 111)(1/188)
فَأَجَابَ ) بِأَنَّهُ قَدْ انْفَرَدَ بَعْضُهُمْ فِيهَا بِمُؤَلَّفٍ وَمِن جُمْلَةِ مَحَامِلِهِ أَنْ يَتَوَقَّفَ الْإِمَامُ فِي حُكْمٍ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ الدَّالِّ عَلَيْهِ فَيَقُولُ: إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ قُلْت بِهِ(1).
ثالثا- شرح معنى هذه القاعدة :
قلت : قول الأئمة رضي الله عنهم : إذا صح الحديث فهو مذهبي ، قول صحيح ، ولكن ليس على إطلاقه. ولكن للعمل به شروط :
الأول – أن يُسَلِّمَ له بأنه حديثٌ حديثٌ صحيحٌ ، فكثير من الأحاديث اختلفوا فيها صحتها وضعفها .
الثاني – أن لا يكون الإمام قد بلغه وتركه عمدا ، لعلَّةٍ ما ظهرت له ، مثل حديث أفطر الحاجم والمحجوم .
وما من إمام إلا وترك أحاديث صحيحة لم يعمل بها ، كترك الإمام مالك بعض الأحاديث الصحيحة التي رواها في الموطأ لمخالفتها لعمل أهل المدينة مثلاً .
أو ترك بعض الفقهاء لحديث صحيح عمل راويه بخلافه ... فنحن لا نستطيع إلزامهم بها ، وإنما نلزم أنفسنا – نحن الذين صح عندنا الحديث ، ولم نتقيد بشرط الإمام الفلاني – فقط .
الثالث-لا بد أن تتوفر فيه الشروط التي وضعها ذلك الإمام لقبول الأخبار
الرابع - أن يكون غير منسوخ عنده ، أو غير معارض لما هو أقوى منه .
الخامس- أن يكون قد عمل بهذا الحديث بعض الفقهاء ، كما ذكر ابن الصلاح وغيره ، لأن عدم أهل العلم به دليل إما على عدم صحته أو على نسخه .
فإذا سلم الحديث الصحيح من هذه العوارض عندئذ ، ينبغي على طالب العلم- القادر على تمييز الصحيح من الضعيف - الذي وصل إليه إذا غلب على ظنه صحته أن يعمل به ، ويدع قول صاحب المذهب الذي يقلده .
وهذا الأمر ليس بالهيِّن ، كما يظنه فريقٌ من الناس .
__________
(1) - فتاوى الرملي - (ج 6 / ص 277) وانظر مجلة مجمع الفقه الإسلامي - (ج 2 / ص 21798) وقواعد الأحكام: 2/135، ط. الاستقامة. والبحر المحيط للزركشي: 6/294. وحاشية ابن عابدين: 1/63؛ والإنصاف للدهلوي، ص99و107.(1/189)
قال الدهلوي : " إنما يتمُّ فيمن له ضربٌ من الاجتهاد ولو في مسألة واحدة وفيمن ظهر عليه ظهورا بينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بكذا ونهى عن كذا وأنه ليس بمنسوخ إما بأن يتتبع الأحاديث وأقوال المخالف والموافق في المسألة فلا يجد له نسخا أو بأن يرى جمعا غفيرا من المتبحرين في العلم يذهبون إليه ويرى المخالف له لا يحتجُّ إلا بقياس أو استنباط أو نحو ذلك فحينئذ لا سبب لمخالفة حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا نفاق خفي أو حمق جلي".(1)
قال الحافظ الذهبي في ترجمة : " الدَّارَكِيُّ عَبْدُ العَزِيْزِ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدٍ، الإِمَامُ الكَبِيْرُ، شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ بِالعِرَاقِ، أَبُو القَاسِمِ عَبْدُ العَزِيْزِ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ الدَّارَكِيُّ الشَّافِعِيُّ، سِبْطُ الحَسَنِ بنِ مُحَمَّدٍ الدَّارَكِيِّ الأَصْبَهَانِيُّ المُحَدِّثُ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ:كَانَ يُتَّهَمُ بِالاِعْتِزَالِ، وَكَانَ رُبَّمَا يَخْتَارُ فِي الفَتْوَى، فيُقَال لَهُ فِي ذَلِكَ، فَيَقُوْلُ:وَيْحَكمْ! حَدَّثَ فُلاَنٌ عَن فُلاَنٍ، عَن رَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا وَكَذَا، وَالأَخْذُ بِالحَدِيْثِ أَوْلَى مِنَ الأَخْذِ بِقَولِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيْفَةَ.
__________
(1) - الانصاف في بيان أسباب الاختلاف لولي الله الدهلوي - (ج 1 / ص 50) وعقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد- (ج 1 / ص 15) وحجة الله البالغة - (ج 1 / ص 302) حاشية ابن عابدين: 1/63؛(1/190)
قُلْتُ:هَذَا جَيِّدٌ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ بِذَلِكَ الحَدِيْثِ إِمَامٌ مِن نُظَرَاءِ الإِمَامَيْنِ مِثْلُ مَالِكٍ، أَوْ سُفْيَانَ، أَوِ الأَوْزَاعِيِّ، وَبأَنْ يَكُونَ الحَدِيْثُ ثَابِتاً سَالِماً مِن عِلَّةٍ، وَبأَنْ لاَ يَكُونَ حُجَّةُ أَبِي حَنِيْفَةَ وَالشَّافِعِيِّ حَدِيْثاً صحيحاً معَارضاً للآخَرِ.
أَمَّا مَن أَخَذَ بِحَدِيْثٍ صَحِيْحٍ وَقَدْ تنكَّبَهُ سَائِرُ أَئِمَّةِ الاِجتهَادِ، فَلاَ، كَخَبَرِ:(فَإِنْ شَرِبَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ)، وَكَحَدِيْثِ (لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ البَيْضَةَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ)."(1).
قلت : وإذا لم يكن أهلا لمعرفة الصحيح من الضعيف (وهو العاميِّ المحضُ) ، فلا يترك مذهبه الذي ينتسب إليه ، ولا يعمل بهذا الحديث ، وهو في هذه الحال معذور ، وليس مخالفاً لسنَّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وذلك لأنه مقلِّد ، فمن غير المعقول أن يترك قول إمام مذهبه لهذا الذي صحح الحديث اليوم ، وما يدريه أنه لا تنطبق عليه الشروط السابقة ، فقد يكون الذي صححه غير مسلَّم له به ، فكيف يوجب عليه تقليده ،وهو كذلك غير معصوم ، والكلُّ تقليد ، وهذا ربما لم يسلِّم له أقرب الناس إليه بذلك ، والإمام المتبوع سلمت له الأمة .
ومن ثمَّ لا يجوز اتهامه بأنه مخالف للسنَّة النبوية ، كما يدعي ذلك بعض المنسوبين للعلم !!!
كما أنه لا يقال بحق هذا المقلِّد - والذي لا يستطيع التمييز بين الغث والسمين- ما كان يقوله بعض السلف الصالح : أنا أقول له قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو يقول لي قال أبو حنيفة أو الشافعي ، فهذا الكلام اليوم قائم على مغالطة مفضوحة ، فهل أبو حنيفة أو الشافعي يتبعون غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟ أو غير سنته ؟!!
- - - - - - - - - - - - - - -
المبحث السابع
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (16/405)(293 )(1/191)
هل الحنفية بضاعتهم في الحديث مزجاة ؟
ما اشتهر من أن أهل الرأي بضاعتهم في الحديث مزجاة كلام غير صحيح ، ولا يدعمه الدليل ، وهو من باب الخلاف المذهبي .
فالراجح عند الحنفية تقديم الحديث الضعيف على القياس ، فكيف تكون بضاعتهم مزجاة ؟
قال الإمام ابن حزم:"جميعُ الحنفية مجمعون على أنَّ مذهبَ أبي حنيفةَ (رحمه اللهُ) أنَّ ضعيفَ الحديثِ أولى منَ القياسِ ولا يحلُّ القياسُ مع وجودهِ"(1).
وقال علي القاري في المرقاة:" إن مذهبهُم القويَّ تقديمُ الحديثِ الضعيفِ على القياسِ المجرَّدِ الذي يحتملُ التزييفَ"(2).
أقول: فاتهامهم بأنهم أصحابُ رأي،وأنَّ بضاعتهم في الحديث مزجاةٌ , فيه شططٌ كبيرٌ،وعصبيةٌ مقيتة .
روى الخطيب عن عَبْدَانَ , قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ , يقول: " لِيَكُنِ الَّذِي تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْأَثَرُ , وَخُذْ مِنَ الرَّأْيِ مَا يُفَسِّرُ لَكَ الْحَدِيثَ"(3)
مثال ذلك : كان الإمام أبو بكر بن أبي شيبة من المخالفين لأهل الرأي ، شديد التمسك بالأثر ، ومن ثم فقد أحصى المسائل التي خالف فيها أبو حنيفة ، رحمه الله السنَّة فبلغت- على حدِّ زعمه- مئة وأربعاً وعشرين مسألة لا غير ، وذكر ذلك في آخر مصنفه .
ومعنى هذا أن الإمام أبا حنيفة - أستاذ مدرسة الرأي - قد وافق السنَّة فيما سوى هذه المسائل القليلة وهي بعشرات الآلاف .
ولو نظرنا في هذه المسائل التي ذكرها ابن أبي شيبة في ردِّه على الإمام أبي حنيفة رحمه الله لوجدنا ما يلي :
أ - معظمها أمور مختلف فيها منذ عهد الصحابة لم ينفرد فيها الإمام أبو حنيفة .
ب- أو أمور وجد ما هو أقوى منها فلم يعمل بها .
مثال :
ففي مصنف ابن أبي شيبة (ج 14 / ص 148)
38- كِتابُ الرّدِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَة
__________
(1) - ملخص إبطال القياس ص 98 والإحكام 7/54
(2) - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح(ج 1 / ص 3)
(3) - الفقيه والمتفقه للخطيب (1068 )(1/192)
1- رَجْمُ الْيَهُودِيِّ وَالْيَهُودِيَّةِ.
37202- حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ، عَن سِمَاكٍ ، عَن جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجَمَ يَهُودِيًّا وَيَهُودِيَّةً.(حسن)
37203- حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، وَوَكِيعٌ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجَمَ يَهُودِيًّا.(صحيح)
37204- حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ ، عَن مُجَالِدٍ ، عَن عَامِرٍ ، عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجَمَ يَهُودِيًّا وَيَهُودِيَّةً.(حسن)
37205- حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ ، عَن نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ ، أَنَا فِيمَن رَجَمَهُمَا.( صحيح)
37206- حَدَّثَنَا جَرِيرٌ ، عَن مُغِيرَةَ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجَمَ يَهُودِيًّا وَيَهُودِيَّةً.( صحيح نرسل )
- وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : لَيْسَ عَلَيْهِمَا رَجْمٌ.
قلت : المسألة خلافية منذ عهد الصحابة :
ففي مصنف ابن أبي شيبة (ج 10 / ص 67)
115- فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ مِن أَهْلِ الْكِتَابِ ، ثُمَّ يَفْجُرُ.
29345- حَدَّثَنَا جَرِيرٌ ، عَن مُغِيرَةَ ، عَن إِبْرَاهِيمَ ، وَالشَّعْبِيِّ ؛ فِي الْحُرِّ يَتَزَوَّجُ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّة ثُمَّ يَفْجُرُ ، فَقَالاَ : يُجْلَدُ ، وَلاَ يُرْجَمُ.
29346- حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ ، عَن زَمْعَةَ ، عَنِ ابْنِ طَاوُوسٍ ، عَن أَبِيهِ ؛ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى أَنْ يُحْصِنَ الْحُرَّ ، إِلاَّ الْحُرَّةُ الْمُسْلِمَةُ.(1/193)
29347- حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ ، عَن أَبِي بَكْرٍ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ ، عَن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَن كَعْبٍ ؛ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً ، أَوْ نَصْرَانِيَّةً ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَن ذَلِكَ ؟ فَنَهَاهُ عَنهَا ، وَقَالَ : إِنَّهَا لاَ تُحْصِنُك.
29348- حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ ، عَن عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ، عَن نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ؛ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى مُشْرِكَةً مُحْصِنَةً.
29349- حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ ، عَن سُفْيَانَ ، عَن مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ، عَن نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : مَن أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصِن.
29350- حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَن يُونُسَ ، عَنِ الْحَسَنِ ؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إِذَا تَزَوَّجَهَا وَهُوَ غَيْرُ مُسْلِمٍ ، لَمْ تُحْصِنْهُ حَتَّى يَطَأَهَا فِي الإِسْلاَمِ.
116- مَن قَالَ تُحْصِنُ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّة الْمُسْلِمَ.
29351- حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَن سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ ، عَن قَتَادَةَ ، عَن جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ؛ فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة تَكُونُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ ، ثُمَّ يَفْجُرُ ، قَالاَ : يُرْجَمُ.
29352- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ ، عَن يُونُسَ ، عَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : كَانَ يَقُولُ : تُحْصِنُ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ الْمُسْلِمَ.
29353- حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَن عَطَاءٍ ؛ فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ مِن أَهْلِ الْكِتَابِ ، أَنَّهَا تُحْصِنُهُ.(1/194)
29354- حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ ، عَن إِسْرَائِيلَ ، عَن سَالِمٍ ، قَالَ : سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنِ الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْيَهُودِيَّةَ ، وَالنَّصْرَانِيَّةَ ، وَالأَمَةَ أَيُحْصَنُ بِهِنَّ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَلَوْ مَا.
وفي شرح معاني الآثار - (ج 5 / ص 160)
اخْتَلَفَ النَّاسُ مِن بَعْدُ فِي الْإِحْصَانِ ،فَقَالَ قَوْمٌ : لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُحْصَنًا بِامْرَأَتِهِ وَلَا الْمَرْأَةُ مُحْصَنَةً بِزَوْجِهَا حَتَّى يَكُونَا حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ بَالِغَيْنِ قَدْ جَامَعَهَا وَهُمَا بَالِغَانِ .
وَمِمَن قَالَ بِذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَالَ آخَرُونَ : يُحْصِنُ أَهْلُ الْكِتَابِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُحْصِنُ الْمُسْلِمُ النَّصْرَانِيَّةَ وَلَا تُحْصِنُ النَّصْرَانِيَّةُ الْمُسْلِمَ وَقَدْ كَانَ أَبُو يُوسُفَ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي الْإِمْلَاءِ فِيمَا حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ عَن أَبِيهِ .
فَاحْتَمَلَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الرَّجْمُ } أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى كُلِّ ثَيِّبٍ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَلَى خَاصٍّ مِن الثَّيِّبِ .
فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ فَوَجَدْنَاهُمْ مُجْتَمِعِينَ أَنَّ الْعَبِيدَ غَيْرُ دَاخِلِينَ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا ثَيِّبًا كَانَ أَوْ بِكْرًا وَلَا يُحْصِنُ زَوْجَتَهُ حَرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً ،وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ لَا تَكُونُ مُحْصَنَةً بِزَوْجِهَا حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا .
فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - { الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الرَّجْمُ } إنَّمَا وَقَعَ عَلَى خَاصٍّ مِن الثَّيِّبِ لَا عَلَى كُلِّ الثَّيِّبِ .(1/195)
فَلَمْ يَدْخُلْ فِيمَا أَجْمَعُوا أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى خَاصٍّ إلَّا مَا قَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ فِيهِ دَاخِلٌ .
وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ الْحُرَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ الْبَالِغَيْنِ الزَّوْجَيْنِ اللَّذَيْنِ قَدْ كَانَ مِنهُمَا الْجِمَاعُ مُحْصَنَيْنِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَن سِوَاهُمْ .
فَقَدْ أَحَاطَ عِلْمُنَا أَنَّ ذَلِكَ قَدْ دَخَلَ فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الرَّجْمُ } .
فَأَدْخَلْنَا فِيهِ وَلَمْ يُحِطْ عِلْمُنَا بِمَا سِوَى ذَلِكَ فَأَخْرَجْنَاهُ مِنهُ .
وَقَدْ كَانَ يَجِيءُ فِي الْقِيَاسِ - لَمَّا كَانَتْ الْأَمَةُ لَا تُحْصِنُ الْحُرَّ وَلَا يُحْصِنُهَا الْحُرُّ وَكَانَتْ هِيَ فِي عَدَمِ إحْصَانِهَا إيَّاهُ كَهُوَ فِي عَدَمِ إحْصَانِهِ إيَّاهَا - أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ النَّصْرَانِيَّةُ فَكَمَا هِيَ لَا تُحْصِنُ زَوْجَهَا الْمُسْلِمَ كَانَ هُوَ أَيْضًا كَذَلِكَ لَا يُحْصِنُهَا .
وَقَدْ رَأَيْنَا الْأَمَةَ أَيْضًا - لَمَّا بَطَلَ أَنْ تُحْصِنَ الْمُسْلِمَ - بَطَلَ أَنْ يُحْصِنَ الْكَافِرَ قِيَاسًا وَنَظَرًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .(1/196)
وفي الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 2 / ص 225): أَمَّا شَرْطُ الإِْسْلاَمِ فَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو يُوسُفَ مِن أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ يَشْتَرِطُونَ الإِْسْلاَمَ فِي إِحْصَانِ الرَّجْمِ ، فَإِنْ تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيَّةً فَوَطِئَهَا صَارَا مُحْصَنَيْنِ ، لِمَا رَوَى مَالِكٌ عَن نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَال : جَاءَ الْيَهُودُ إِلَى رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلاً مِنهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ؛ وَلأَِنَّ الْجِنَايَةَ بِالزِّنَى اسْتَوَتْ مِنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ ، فَيَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْحَدِّ . وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الذِّمِّيَّانِ مُحْصَنَيْنِ . وَحَدُّهُمَا الرَّجْمُ إِذَا زَنَيَا فَبِالأَْوْلَى إِذَا كَانَتِ الذِّمِّيَّةُ زَوْجَةً لِمُسْلِمٍ(1).
__________
(1) - الشرح الكبير 4 / 284 ، والمغني 10 / 129(1/197)
وَجَعَل مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ الإِْسْلاَمَ شَرْطًا مِن شُرُوطِ الإِْحْصَانِ ، فَلاَ يَكُونُ الْكَافِرُ مُحْصَنًا ، وَلاَ تُحْصِنُ الذِّمِّيَّةُ مُسْلِمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لأَِنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ لَمَّا أَرَادَ الزَّوَاجَ مِن يَهُودِيَّةٍ نَهَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَال : إِنَّهَا لاَ تُحْصِنُكَ(1)، وَلأَِنَّهُ إِحْصَانٌ مِن شَرْطِهِ الْحُرِّيَّةُ فَكَانَ الإِْسْلاَمُ شَرْطًا فِيهِ كَإِحْصَانِ الْقَذْفِ . وَعَلَى هَذَا فَالْمُسْلِمُ الْمُتَزَوِّجُ مِن كِتَابِيَّةٍ إِذَا زَنَى يُرْجَمُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَلاَ يُرْجَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لأَِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ مُحْصَنًا ؛ لأَِنَّ الْكِتَابِيَّةَ عِنْدَهُ لاَ تُحْصِنُ الْمُسْلِمَ . وَنَظَرًا لأَِنَّ مَالِكًا - وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - لاَ يَعْتَبِرُ تَوَفُّرَ شُرُوطِ الإِْحْصَانِ فِي الزَّوْجَيْنِ فَقَدْ قَال بِرَأْيِ الْجُمْهُورِ : أَنَّ الذِّمِّيَّةَ تُحْصِنُ الْمُسْلِمَ ، وَيَسْتَحِقُّ الرَّجْمَ إِذَا زَنَى "(2).
فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم اليهودي واليهودية . ويرى الإمام أبو حنيفة رحمه الله ومحمد والمالكية أن الإسلام شرط للإحصان ، ولهم أدلة ، وقالوا عن الحديث بأنه كان في أول الإسلام ثم نزل حكم الرجم باشتراط الإحصان واشتراط الإسلام ، وإن كان الراجح الرجم كما هو رأي الجمهور وأبي يوسف ، لكن المسألة خلافية(3)
وهكذا بقية المسائل ، وقد يكون الراجح فيها قول أبي حنيفة وقد يكون مرجوحاً.
__________
(1) - قال الدارقطني فيه أبو بكر بن مريم ضعيف ( 3 / 148 )
(2) - المنتقى شرح الموطأ 3 / 331
(3) - راجع التعليق الممجد 3/79-81 والنيل 7/93-94(1/198)
والخلاصة أنه لا يجوز الإنكار في المسائل المختلف فيها ، ولك أيها المسلم أن تأخذ بأي القولين ولا حرج عليك ، دون أن تعتقد بطلان ما سواه .
فقد اختلف الصحابة منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقرهم عليه وسيبقى هذا الاختلاف إلى قيام الساعة ، وهو يدلُّ على سعة هذا الدين ومرونته ومسايرته للحياة وملاءمته لطبائع الناس ومشاربهم ، وصلاحيته لكل زمان ومكان فحذار أيها المسلم أن تشغل نفسك بالخلاف ، وتترك الاتفاق فكلُّ الأئمة على خير ، ولا تجد واحداً منهم تعمد ترك العمل بنصٍّ ثابت عمداً ، أو عن هوى أو شهوة ، فقد كانوا من أتقى الناس وأعلمهم بهذا الدين .
- - - - - - - - - - - - - -
المبحث الثامن
هل يمكن الاستغناء بالقرآن عن السنة ؟
إننا لو فتشنا عن المحاربين لسُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لوجدنا أنهم يتظاهرون بإجلال القرآن واحترامه، وأنه الحجة التي ليس وراءها حجة، فيقولون : علينا بالاكتفاء بالقرآن الكريم فقط؛ فهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو المصدر الأول للإسلام، وهو الذي سلم من التغيير والتبديل ... إلى آخر ما يقولونه تظاهراً بحبهم للإسلام، ودفاعاً عنه، وغيرة على ما في كتاب الله عز وجل من شريعة وأحكام، غير أنهم لا يريدون - مع ذلك - أن يضبطوا أنفسهم وعقولهم بهذا الذي أمر القرآن الكريم بضبط أنفسنا وعقولنا به، من اتباع سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مصطنعين لأنفسهم ما يشاءون من آيات القرآن الكريم، يستدلون بها على الاكتفاء بالقرآن وحده، وعدم حجية السُنَّة والحاجة إليها .
وما استدلوا به من آيات قرآنية بنوا عليها شبهتين جعلوهما قاعدتين ينطلقون منهما تشكيكاً فى حجية السُنَّة . نذكرهما في مطلبين :
الأولى- شبهة الاكتفاء بالقرآن وعدم الحاجة إلى السُنَّة النبوية والرد عليها .
الثانية - شبهة أن السُنَّة لو كانت حجة لتكفل الله بحفظها والرد عليها .(1/199)
الشبهة الأولى - شبهة الاكتفاء بالقرآن
* يقول المشككون في السنَّة، إن القرآن الكريم محفوظ بحفظ الله تعالى، وبقوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (9) سورة الحجر، كيف لا ومفرداته كلام الله، وحروفه ثابتة، وأحكام تلاوته متواترة ومحفوظة في الصدور والسطور.
* كما أن القرآن كاف شاف يقول سبحانه وتعالى: { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (38) سورة الأنعام ،ويقول سبحانه: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِن أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (89) سورة النحل ، فما حاجتنا إلى السنة وفي القرآن اكتمال كل شيء، وتبيان كل شيء أيضا؟
* يضيف المتشككون أن التعهد الإلهي بحفظ القرآن الكريم لا يشمل السنَّة: التي هي كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهي غير محفوظة، وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بشر ينسى كما ينسى الناس، ويغضب كما يغضب الناس، فكيف نسجل جميع أحواله ونتعبد بها لله تعالى، خاصة فيما لم يقم عليه دليل في القرآن الكريم ؟ .
* علاوة على ما سبق، فقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه من خطورة الكذب عليه، في الحديث المتواتر: « مَن كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ »(1). فما حاجتنا إلى السنة؟ خاصة وهي غير محفوظة كالقرآن، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بشر، وتعمد الكثيرون الكذب عليه، فما حاجتنا إلى السنة؟
الردُّ على شبهة الاكتفاء بالقرآن
1. الدفع الأول : اثبتوا دعواكم من القرآن الكريم
__________
(1) - صحيح البخارى(1291)(1/200)
إذا كان فهم المتشككين لآيات الله تعالى صحيحا، وأن القرآن لم يفرط في شيء، وفيه تبيان كل شيء، فعليهم إثبات دعواهم بالاكتفاء بالقرآن ونبذ السنة من القرآن الكريم، هذا هو المصحف، فأين الآيات التي تأمرنا بالاكتفاء بالقرآن؟ وتطالبنا في نفس الوقت بنبذ سنة نبينا صلوات الله وسلامه عليه. ومطلبنا هذا تعلمناه من القرآن الكريم، في قوله تعالى: { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (111) سورة البقرة ، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَن أَنْكَرَ ».(1)
2. الدفع الثاني: القرآن والسُّنَّة من مشكاة واحدة
* القرآن الكريم كلام الله القديم، نزل به جبريل جملة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم نزل منجما على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك قوله سبحانه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5 [النجم/3-5] ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - المعصوم لا ينطق إلا بوحي من رب السماء والأرض.
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 8 / ص 123) (16882و21042 و21741 ) صحيح لغيره(1/201)
* نعم السنَّة كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله، ولكنه لا يتصرف من نفسه وهواه، وإنما هي وحي من الله تعالى، ينزل بها أمين الوحي جبريل عليه السلام، والمطلع على كتب السنة والسيرة يرى جبريل عليه السلام ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواقف كثيرة – يصعب استقصاؤها - لبيان أحكام أو إظهار حقائق خافية يستند إليها الحكم الإلهي، وفي الحديث الشريف عَن أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا. قَالَ « إِنِّى لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا ». قَالَ « إِنِّى لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا »..(1)
* إن الرسالة الخاتمة لابد أن تكون محفوظة حتى تصل إلى الناس مهما طال الزمن، ويخطئ كثير من الناس حين يظن أن الحق تبارك وتعالى تكفل بحفظ القرآن الكريم وحده، لقوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (9) سورة الحجر ، ولو كان المراد حفظ القرآن فقط لجاءت الآية قاطعة بذلك: فتقول مثلا: نزلنا القرآن وإنا له لحافظون، فاختيار لفظ الذكر بدلا من القرآن له حكمة عظيمة، فالذكر هو البلاغ والبيان عن الله، أي القرآن والسُّنَّة، وأبرز صور الحفظ هي: حفظ القرآن الكريم بالحفظ المباشر من الله تبارك وتعالى، وحفظ السنَّة بانتداب علمائها لوضع ضوابط وأسس تميز الصحيح من المكذوب المفترى على النبي - صلى الله عليه وسلم -
* لابدَّ أن يشمل حفظ الله لهذا الدين حفظ السنَّة أيضا، لأن السنة تبين القرآن الكريم، كما أشارت إلى ذلك سورة النحل، وهذا الأمر محل إجماع أهل السنة، فكيف يُحفظ المبيَّن وهو القرآن الكريم، ويترك المبيِّن وهي السنَّة مع أننا لن نتمكن من فهم القرآن الكريم إلا في ضوء بيان السنَّة المطهرة.
__________
(1) - سنن الترمذى(2121 ) أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. مَعْنَى قَوْلِهِ ِنَّكَ تُدَاعِبُنَا إِنَّمَا يَعْنُونَ إِنَّكَ تُمَازِحُنَا.(1/202)
* تعرُّضُ السنَّةِ لمحاولات الوضع وغيره، لا تعني أنها غير محفوظة، بل إن هذا الهجوم الشرس على السنَّة هو من أقوى الأدلة على حفظها، وذلك أن الحفظ الإلهي للسنَّة لم يكن يظهر لو لم تتعرض لهذا الهجوم الشديد، حتى تظهر عناية الله لها بأن هيأ لها وسائل الحفظ المعروفة عند العلماء، بل إن القرآن الكريم تعرض وما زال لمحاولات التبديل والتغيير، ولكن الله عاصمه، وعاصم نبيه، وكاشف كيد المبطلين، ونظير ذلك قوله تعالى لنبيه : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (67) سورة المائدة ، ومع ذلك فقد تعرَّض لمحاولات القتل والاعتداء كما في بني النضير(1)،
__________
(1) - قَالَ اِبْن إِسْحَاق " فَخَرَجَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إِلَى بَنِي النَّضِير يَسْتَعِينهُمْ فِي دِيَتهمَا فِيمَا حَدَّثَنِي يَزِيد بْن رُومَان ، وَكَانَ بَيْن بَنِي النَّضِير وَبَنِي عَامِر عَقْد وَحِلْف ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ يَسْتَعِينهُمْ قَالُوا : نَعَمْ . ثُمَّ خَلَا بَعْضهمْ بِبَعْضٍ فَقَالُوا : إِنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوهُ عَلَى مِثْل هَذِهِ الْحَال ..قَالَ : وَكَانَ جَالِسًا إِلَى جَانِب جِدَار لَهُمْ ، فَقَالُوا مَنْ رَجُل يَعْلُو عَلَى هَذَا الْبَيْت فَيُلْقِي هَذِهِ الصَّخْرَة عَلَيْهِ فَيَقْتُلهُ وَيُرِيحنَا مِنهُ ؟ فَانْتُدِبَ لِذَلِكَ عَمْرو بْن جِحَاش بْن كَعْب فَأَتَاهُ الْخَبَر مِن السَّمَاء فَقَامَ مُظْهِرًا أَنَّهُ يَقْضِي حَاجَة وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : لَا تَبْرَحُوا ، وَرَجَعَ مُسْرِعًا إِلَى الْمَدِينَة ، وَاسْتَبْطَأَهُ أَصْحَابه فَأُخْبِرُوا أَنَّهُ تَوَجَّهَ إِلَى الْمَدِينَة ، فَلَحِقُوا بِهِ ، فَأَمَرَ بِحَرْبِهِمْ وَالْمَسِير إِلَيْهِمْ ، فَتَحَصَّنُوا ، فَأَمَرَ بِقَطْعِ النَّخْل وَالتَّحْرِيق "فتح الباري لابن حجر - (ج 11 / ص 358) وهو صحيح مرسل(1/203)
وفي قصة الشاة المسمومة،(1)فتلك العصمة لم تظهر لنا بصورة واضحة جليَّة إلا مع تلك المحاولات.
3. الدفع الثالث: السنَّة ثابتة في حق جميع الأنبياء وتلقوها من ربهم?
إذا وافَقَنا مَن يناظرنا على ما طرحناه، فبها ونعمت، وإن لم يكفه ما قدمناه فيأتي دورنا في طرح هذا السؤال عليه: ماذا تلقى الأنبياء من ربهم? ولابد له أن يجيب أنهم تلقوا الكتاب فقط, لأنه لو قال معه غيره لبطلت دعواه, فيطالب بتفسير الحكمة المشار إليها في الآيات التالية:
* { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} (34) سورة الأحزاب
* (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)8
* { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} (151) سورة البقرة
__________
(1) - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْيَهُودِ أَهْدَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَاةً مَسْمُومَةً فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَقَالَ « مَا حَمَلَكِ عَلَى مَا صَنَعْتِ ». قَالَتْ أَحْبَبْتُ أَوْ أَرَدْتُ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَإِنَّ اللَّهَ سَيُطْلِعُكَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَبِيًّا أُرِيحُ النَّاسَ مِنكَ. قَالَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا وَجَدَ مِن ذَلِكَ شَيْئاً احْتَجَمَ . قَالَ فَسَافَرَ مَرَّةً فَلَمَّا أَحْرَمَ وَجَدَ مِن ذَلِكَ شَيْئاً فَاحْتَجَمَ. مسند أحمد (2837){1/306} صحيح(1/204)
* { وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (231) سورة البقرة
* { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِن أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (164) سورة آل عمران.
* { وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (113) سورة النساء
* { ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} (39) سورة الإسراء
* {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (2) سورة الجمعة(1/205)
* قول الحق سبحانه وفي حق عيسى عليه السلام { إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} (110) سورة المائدة ، ويقول سبحانه وتعالى: { وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } (63) سورة الزخرف ، ويقول جل من قائل: {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ} (50) سورة آل عمران ، و يقول سبحانه: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} (79) سورة آل عمران.
* ويقول سبحانه في حق إبراهيم الخليل عليه السلام: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا} (54) سورة النساء.(1/206)
* وفي حق نوح عليه السلام: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (62) سورة الأعراف
* وفي حق صالح عليه السلام: {فَتَوَلَّى عَنهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } (79) سورة الأعراف
وبالنظر إلى الآيات الواردة في شأن نبينا - صلى الله عليه وسلم - والتي وردت فيها كلمة الحكمة معطوفة على الكتاب ، فإن ذلك يدل على أن الحكمة غير الكتاب ؛ لأن العطف يقتضي المغايرة ، ولم يأتنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء غير القرآن مما يحتم أن يكون المراد بالحكمة أنها السنَّة . يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : " فَذَكَرَ اللَّهُ الْكِتَابَ وَهُوَ الْقُرْآنُ , وَذَكَرَ الْحِكْمَةَ , فَسَمِعْتُ مَن أَرْضَى مِن أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ يَقُولُ : الْحِكْمَةُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَهَذَا يُشْبِهُ مَا قَالَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ الْقُرْآنَ ذُكِرَ وَأَتْبَعَهُ الْحِكْمَةَ , وَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنَّهُ عَلَى خَلْقِهِ بِتَعْلِيمِهِمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ , فَلَمْ يَجُزْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يُقَالَ الْحِكْمَةُ هَا هُنَا إِلَّا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَذَلِكَ أَنَّهَا مَقْرُونَةٌ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ".(1)
كما نقل البيهقي في المدخل إلى السنن بأسانيده إلى الحسن وقتادة ويحيى بن أبي كثير قال : الحكمة هي السنة في آية : (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) .
__________
(1) - الفقيه والتفقه (252 )(1/207)
وقال ابن كثير(1): " يُذكر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - إليهم، يتلو عليهم آيات الله مبينات وَيُزَكِّيهم، أي: يطهرهم من رذائل الأخلاق ودَنَس النفوس وأفعال الجاهلية، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويعلمهم الكتاب -وهو القرآن -والحكمة -وهي السنة -ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون. فكانوا في الجاهلية الجَهْلاء يُسفَهُون بالقول الفرَى، فانتقلوا ببركة رسالته، ويُمن سفارته، إلى حال الأولياء، وسجايا العلماء فصاروا أعمق الناس علمًا، وأبرهم قلوبًا، وأقلهم تكلفًا، وأصدقهم لهجة. وقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِن أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } "
4. الدفع الرابع : قوله تعالى: { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } ، فما الداعي للسنَّة؟
الجواب:
أن المراد بالكتاب في هذه الآية ليس القرآن الكريم والدليل في نفس الآية، يقول سبحانه: { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (38) سورة الأنعام
فالكتاب هنا هو اللوح المحفوظ، المدون فيه ما كان وما سيكون من علم الله تعالى، ولا يقول عاقل أن استقصاء المخلوقات والدواب والطير مسطور في القرآن.
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 1 / ص 464)(1/208)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : قل لهؤلاء المعرضين عنك، المكذبين بآيات الله: أيها القوم، لا تحسبُنَّ الله غافلا عما تعملون، أو أنه غير مجازيكم على ما تكسبون! وكيف يغفل عن أعمالكم، أو يترك مجازاتكم عليها، وهو غير غافل عن عمل شيء دبَّ على الأرض صغيرٍ أو كبيرٍ، ولا عمل طائر طار بجناحيه في الهواء، بل جعل ذلك كله أجناسًا مجنَّسة وأصنافًا مصنفة، تعرف كما تعرفون، وتتصرف فيما سُخِّرت له كما تتصرفون، ومحفوظ عليها ما عملت من عمل لها وعليها، ومُثْبَت كل ذلك من أعمالها في أم الكتاب، ثم إنه تعالى ذكره مميتها ثم منشرها ومجازيها يوم القيامة جزاءَ أعمالها. يقول: فالرب الذي لم يضيِّع حفظَ أعمال البهائم والدوابّ في الأرض، والطير في الهواء، حتى حفظ عليها حركاتها وأفعالها، وأثبت ذلك منها في أم الكتاب، وحشرها ثم جازاها على ما سلف منها في دار البلاء، أحرى أن لا يُضيع أعمالكم، ولا يُفَرِّط في حفظ أفعالكم التي تجترحونها، أيها الناس، حتى يحشركم فيجازيكم على جميعها، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا، إذ كان قد خصكم من نعمه، وبسط عليكم من فضله، ما لم يعمَّ به غيركم في الدنيا، وكنتم بشكره أحقَّ، وبمعرفة واجبه عليكم أولى، لما أعطاكم من العقل الذي به بين الأشياء تميِّزون، والفهم الذي لم يعطه البهائم والطيرَ، الذي به بين مصالحكم ومضارِّكم تفرِّقون"(1)
وحتى مع القول بأن الكتاب في الآية الكريمة تعني القرآن، فإن الله تعالى قد جعله تبيانا لكل شيء، ولم يفرط فيه من شيء، ومن بين ما بينه سبحانه وتعالى في كتابه، ولم يفرط في توضيحه، أمره في عشرات الآيات وفي مواضع متعددة بطاعة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد بين لنا أن تلك السنَّة هي التي تبين القرآن، فلماذا تمسكتم بآية وغفلتم عن الآيات الأخرى، أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض.
__________
(1) - تفسير الطبري - (ج 11 / ص 344)(1/209)
5. الدفع الخامس: كفاية القرآن الكريم :
لقوله تعالى: { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِن أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (89) سورة النحل .
الجواب:
استدل بعض منكري العمل بالسنة، بهذه الآية على كفاية القرآن، فهذا لم يقل له سلف الأمة، ولو تأمل القائل ما يقول لبان له فساده من أول وهلة، إذ لو كانت الآية معناها استقلال الكتاب في بيان كل شيء، فعليه أن يقدم من القرآن تفصيل أحكام العبادات التي يقوم بها أركان الإسلام، فما بالك وأقوال علماء التفسير مجمعة على ما نقض دعواه، ومنها:
* وقال الأوزاعي: { وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } أي: بالسنة.(1).
* قول ابن الجوزي في زاد المسير: " فأما قوله تعالى : { لكل شيء } فقال العلماء بالمعاني: يعني : لكل شيء من أمور الدين ، إِما بالنص عليه ، أو بالإِحالة على ما يوجب العلم ، مثل بيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو إِجماع المسلمين ..(2)
* وقال الطاهر بن عاشور : " و«كلّ شيء» يفيد العموم؛ إلا أنه عموم عرفي في دائرة ما لمثله تجيء الأديان والشّرائع : من إصلاح النفوس ، وإكمال الأخلاق ، وتقويم المجتمع المدنيّ ، وتبيّن الحقوق ، وما تتوقّف عليه الدعوة من الاستدلال على الوحدانية ، وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما يأتي في خلال ذلك من الحقائق العلمية والدقائق الكونية ، ووصف أحوال الأمم ، وأسباب فلاحها وخسارها ، والموعظة بآثارها بشواهد التاريخ ، وما يتخلّل ذلك من قوانينهم وحضاراتهم وصنائعهم .
__________
(1) تفسير ابن كثير - (ج 4 / ص 595)
(2) - زاد المسير - (ج 4 / ص 121)(1/210)
وفي خلال ذلك كلّه أسرار ونكت من أصول العلوم والمعارف صالحة لأن تكون بياناً لكل شيء على وجه العموم الحقيقي إن سلك في بيانها طريق التفصيل واستنير فيها بما شرح الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما قفّاه به أصحابه وعلماء أمّته ، ثم ما يعود إلى الترغيب والترهيب من وصف ما أعدّ للطائعين وما أعدّ للمعرضين ، ووصف عالم الغيب والحياة الآخرة . "(1)
* وقال النسفي : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا } بليغاً { لّكُلِّ شَىْءٍ } من أمور الدين . أما في الأحكام المنصوصة فظاهر ، وكذا فيما ثبت بالسنة أو بالإجماع أو بقول الصحابة أو بالقياس ، لأن مرجع الكل إلى الكتاب حيث أمرنا فيه باتباع رسوله عليه السلام وطاعته بقوله : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } [ المائدة : 92 ] وحثنا على الإجماع فيه بقوله : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين } [ النساء : 115 ] وقد رضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته باتباع أصحابه بقوله : « أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم »(2)
__________
(1) - التحرير والتنوير - (ج 8 / ص 186)
(2) - وفي خلاصة البدر المنير - (ج 2 / ص 431) 2868 - حَدِيث أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ رَوَاهُ عبد بن حميد من رِوَايَة ابْن عمر وَغَيره من رِوَايَة عمر وَأبي هُرَيْرَة وأسانيدها كلهَا ضَعِيفَة قَالَ الْبَزَّار لَا يَصح هَذَا الْكَلَام عَن رَسُول الله صَلَّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ ابْن حزم خبر مَكْذُوب مَوْضُوع بَاطِل لم يَصح قطّ "
قلت : ويغني عنه ما رواه صحيح مسلم(6629 ) عَن أَبِى بُرْدَةَ عَن أَبِيهِ قَالَ صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قُلْنَا لَوْ جَلَسْنَا حَتَّى نُصَلِّىَ مَعَهُ الْعِشَاءَ - قَالَ - فَجَلَسْنَا فَخَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ « مَا زِلْتُمْ هَا هُنَا ». قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّيْنَا مَعَكَ الْمَغْرِبَ ثُمَّ قُلْنَا نَجْلِسُ حَتَّى نُصَلِّىَ مَعَكَ الْعِشَاءَ قَالَ « أَحْسَنْتُمْ أَوْ أَصَبْتُمْ ». قَالَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَكَانَ كَثِيرًا مِمَّا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ « النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِى فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِى مَا يُوعَدُونَ وَأَصْحَابِى أَمَنَةٌ لأُمَّتِى فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِى أَتَى أُمَّتِى مَا يُوعَدُونَ ».(1/211)
وقد اجتهدوا وقاسوا ووطّئوا طرق الاجتهاد والقياس مع أنه أمرنا به بقوله { فاعتبروا يا أولي الأبصار } [ الحشر : 2 ] فكانت السنة والإجماع وقول الصحابي والقياس مستندة إلى تبيان الكتاب فتبين أنه كان تبياناً لكل شيء { وَهُدًى وَرَحْمَةً وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ } ودلالة إلى الحق ورحمة لهم وبشارة لهم بالجنة ."(1)
__________
(1) - تفسير النسفي - (ج 2 / ص 175)(1/212)
* قول الجصاص في أحكام القرآن: " قَوْله تَعَالَى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } يَعْنِي بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ مِن أُمُورِ الدِّينِ بِالنَّصِّ وَالدَّلَالَةِ ، فَمَا مِن حَادِثَةٍ جَلِيلَةٍ وَلَا دَقِيقَةٍ إلَّا وَلِلَّهِ فِيهَا حُكْمٌ قَدْ بَيَّنَهُ فِي الْكِتَابِ نَصًّا أَوْ دَلِيلًا ، فَمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّمَا صَدَرَ عَن الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنهُ فَانْتَهُوا } وقَوْله تَعَالَى : { وَإِنَّك لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ } وَقَوْلِهِ : { مَن يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } فَمَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ فَهُوَ عَن اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ مِن تِبْيَانِ الْكِتَابِ لَهُ لِأَمْرِ اللَّهِ إيَّانَا بِطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ ، وَمَا حَصَلَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاع فَمَصْدَرُهُ أَيْضًا عَن الْكِتَابِ لِأَنَّ الْكِتَابَ قَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ وَأَنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالٍ ، وَمَا أَوْجَبَهُ الْقِيَاسُ وَاجْتِهَادُ الرَّأْيِ وَسَائِرُ ضُرُوبِ الِاسْتِدْلَالِ مِن الِاسْتِحْسَانِ وَقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ جَمِيعُ ذَلِكَ مِن تِبْيَانِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَجْمَعَ ، فَمَا مِن حُكْمٍ مِن أَحْكَامِ الدِّينِ إلَّا وَفِي الْكِتَابِ تِبْيَانُهُ مِن الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا .(1).
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 7 / ص 285)(1/213)
* قول الشوكاني في فتح القدير: " ومعنى كونه { تبياناً لكلّ شيء } أن فيه البيان لكثير من الأحكام ، والإحالة فيما بقي منها على السنة ، وأمرهم باتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يأتي به من الأحكام ، وطاعته كما في الآيات القرآنية الدالة على ذلك . وقد صحّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « إني أوتيت القرآن ومثله معه » { وهدى } للعباد { وَرَحْمَةً } لهم { وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ } خاصة دون غيرهم ، أو يكون الهدى والرحمة والبشرى خاصة بهم؛ لأنهم المنتفعون بذلك .(1)
* وقال الشنقيطي : " وقوله تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } .ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه نزل على رسوله هذا الكتاب العظيم تبياناً لكل شيء . وبين ذلك في غير هذا الموضع ، كقوله : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 38 ] على القول بأن المراد بالكتاب فيها القرآن . أما على القول بأنه اللوح المحفوظ . فلا بيان بالآية . وعلى كل حال فلا شك أن القرآن فيه بيان كل شيء . والسُّنَّة كلها تدخل في آية واحدة منه . وهي قوله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ] ."(2)
الدفع السادس: عرض الحديث على القرآن
يحتج بعض من يرد السنة النبوية بحديث: "ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله"، وهم بذلك يخالفون منهجهم في الاكتفاء بالقرآن، ويحتجون بالحديث، وهم لا يرون الاحتجاج بالحديث أصلا ؟
__________
(1) - فتح القدير - (ج 4 / ص 254)
(2) - أضواء البيان - (ج 3 / ص 58)(1/214)
أهو رفض الحق لأجل جحوده فحسب، كما قال تعالى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَل أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) [النور/48-52])
وعلى فرض التنزل مع الخصم فنقول: إن القاعدة تنص على أن الاحتجاج فرعٌ للصحة لا العكس، فكيف يحتج بما لا يعلم ثبوته من عدمه؟
ولذا كان الواجب على كل من يحتج بشيء أن يتأكد من ثبوته من عدمه، ولذا نناقش في البداية صحة هذا الحديث، لبيان صلاحيته للاحتجاج من عدمه، فنقول: إن الحديث رواية منقطعة عن رجل مجهول.(1/215)
وفي مَعْرِفَةُ السُّنَنِ وَالْآثَارِ لِلْبَيْهَقِيِّ(6 ) عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ يُخْبِرُ عَن أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا أَلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِن أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنهُ فَيَقُولُ : لَا أَدْرِي ، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ " قَالَ سُفْيَانُ : وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ مُرْسَلًا ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَفِي هَذَا تَثْبِيتُ الْخَبَرِ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِعْلَامِهِمْ أَنَّهُ لَازِمٌ لَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدُوا لَهُ نَصَّ حُكْمٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَرُوِّينَا فِي حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : " أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَسْتَلْقِي عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ : عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ حَلَالًا فَأَحِلُّوهُ ، وَمَا وَجَدْتُمْ حَرَامًا فَحَرِّمُوهُ ، أَلَا لَا يَحِلُّ أَكْلُ حِمَارٍ أَهْلِيٍّ ، وَلَا ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ " .(1/216)
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ : أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : كَانَ النَّاسُ مُسْتَقْبِلِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ ثُمَّ حَوَّلَهُمُ اللَّهُ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، فَأَتَى أَهْلَ قُبَاءٍ آتٍ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - كِتَابًا ، وَأَنَّ الْقِبْلَةَ حُوِّلَتْ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةَ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ ، وَأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ وَجَمَاعَةً كَانُوا يَشْرَبُونَ شَرَابَ فَضِيخٍ وَبُسْرٍ وَلَمْ يُحَرَّمْ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْأَشْرِبَةِ شَيْءٌ ، فَأَتَاهُمْ آتٍ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ ، فَأَمَرُوا أَنَسًا بِكَسْرِ جِرَارِ شَرَابِهِمْ ، وَذَلِكَ لَا أَشُكُّ أَنَّهُمْ لَا يُحْدِثُونَ مِثْلَ هَذَا إِلَّا ذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَيُشْبِهُ أَنْ لَوْ كَانَ قَبُولُ خَبَرِ مَن أَخْبَرَهُمْ وَهُوَ صَادِقٌ عِنْدَهُمْ مِمَّا لَا يَجُوزُ لَهُمْ قَبُولُهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي وَجْهِ الدَّلِيلِ مِنهُ ، قَالَ : وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُمَّ سَلَمَةَ أَنْ تُعْلِمَ امْرَأَةً أَنْ تُعْلِمَ زَوْجَهَا أَنَّ قُبْلَتَهَا وَهُوَ صَائِمٌ لَا تُحَرَّمُ عَلَيْهِ .(1/217)
وَلَوْ لَمْ يَرَ الْحُجَّةَ تَقُومُ عَلَيْهِ بِخَبَرِهَا إِذَا صَدَّقَهَا لَمْ يَأْمُرْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِهِ ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُنَيْسًا الْأَسْلَمِيَّ أَنْ يَغْدُوَ عَلَى امْرَأَةِ رَجُلٍ فَإِنِ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا ، فَاعْتَرَفَتْ ، فَرَجَمَهَا ، وَفِي ذَلِكَ إِفَاتَةُ نَفْسِهَا بِاعْتِرَافِهَا عِنْدَ أُنَيْسٍ ، وَهُوَ وَاحِدٌ ، وَأَمَرَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ أَنْ يَقْتُلَ أَبَا سُفْيَانَ ، وَقَدْ سَنَّ أَنَّ عَلَيْهِ إِنْ عَلِمَهُ أَسْلَمَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ قَتْلُهُ ، وَقَدْ يُحْدِثُ الْإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ ، وَأَمَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ أَنْ يَقْتُلَ خَالِدَ بْنَ سُفْيَانَ الْهُذَلِيَّ فَقَتَلَهُ ، وَمِن سُنَّتِهِ لَوْ أَسْلَمَ أَنْ لَا يَقْتُلَهُ ، فَكُلُّ هَؤُلَاءِ فِي مَعَانِي وُلَاتِهِ وَهُمْ وَاحِدٌ وَاحِدٌ يَمْضُونَ الْحُكْمَ بِأَخْبَارِهِمْ ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عُمَّالَهُ وَاحِدًا وَاحِدًا ، وَرُسُلَهُ وَاحِدًا وَاحِدًا ، وَإِنَّمَا بَعَثَ عُمَّالَهُ لِيُخْبِرُوا النَّاسَ بِمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِن شَرَائِعِ دِينِهِمْ وَيَأْخُذُوا مِنهُمْ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَيُعْطُوهُمْ مَا لَهُمْ ، وَيُقِيمُوا عَلَيْهِمُ الْحُدُودَ ، وَيُنَفِّذُوا فِيهِمُ الْأَحْكَامَ ، وَلَوْ لَمْ تَقُمِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِهِمْ إِذْ كَانُوا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ وَجَّهَهُمْ إِلَيْهَا أَهْلَ صِدْقٍ عِنْدَهُمْ لَمَا بَعَثَهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَسَاقَ الْكَلَامَ فِي بَعْثِ أَبِي بَكْرٍ وَالِيًا عَلَى الْحَجِّ ، وَبَعَثَ عَلِيًّا بِأَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَةَ ، وَبَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ ، وَبَسَطَ(1/218)
الْكَلَامَ فِيهِ . ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ زَعَمَ أَنَّ مَن جَاءَهُ مُعَاذٌ وَأُمَرَاءُ سَرَايَاهُ مَحْجُوجٌ بِخَبَرِهِمْ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ الْحُجَّةَ تَقُومُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَإِنْ زَعَمَ أَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ فَقَدْ أَعْظَمَ الْقَوْلَ ، وَإِنْ قَالَ : لَمْ يَكُنْ هَذَا أَنْكَرَ خَبَرِ الْعَامَّةِ عَمَن وَصَفْتَ ، وَصَارَ إِلَى طَرْحِ خَبَرِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ ، وَبَسَطَ الشَّافِعِيُّ الْكَلَامَ فِي هَذَا وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ : هَذَا عِنْدِي كَمَا وَصَفْتَ فَتَجِدُ حُجَّةً عَلَى مَن رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَا جَاءَكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا وَافَقَهُ فَأَنَا قُلْتُهُ ، وَمَا خَالَفَهُ فَلَمْ أَقُلْهُ " قَالَ الشَّافِعِيُّ فَقُلْتُ لَهُ : مَا رَوَى هَذَا أَحَدٌ يُثْبَتُ حَدِيثُهُ فِي شَيْءٍ صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ ، فَيُقَالُ لَنَا : قَدْ ثَبَتُّمْ حَدِيثَ مَن رَوَى هَذَا فِي شَيْءٍ ، قَالَ : وَهَذِهِ أَيْضًا رِوَايَةٌ مُنْقَطِعَةٌ عَن رَجُلٍ مَجْهُولٍ ، وَنَحْنُ لَا نَقْبَلُ مِثْلَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي شَيْءٍ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ *(1/219)
7 مَا أَخْبَرَنَا بِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو فِي كِتَابِ السِّيَرِ قَالَا : أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ ، قَالَ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ قَالَ : قَالَ أَبُو يُوسُفَ : حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ أَبِي كَرِيمَةَ ، عَن أَبِي جَعْفَرٍ ، عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ دَعَا الْيَهُودَ فَسَأَلَهُمْ فَحَدَّثُوهُ حَتَّى كَذَبُوا عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَصَعِدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْمِنبَرَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ : " إِنَّ الْحَدِيثَ سَيَفْشُو عَنِّي فَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ الْقُرْآنَ فَهُوَ عَنِّي وَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي يُخَالِفُ الْقُرْآنَ فَلَيْسَ عَنِّي "
قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَيْسَ يُخَالِفُ الْحَدِيثُ الْقُرْآنَ وَلَكِنَّ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُبَيِّنُ مَعْنَى مَا أَرَادَ خَاصًّا وَعَامًّا وَنَاسِخًا وَمَنسُوخًا ، ثُمَّ يُلْزِمُ النَّاسَ مَا سَنَّ بِفَرْضِ اللَّهِ ، فَمَن قَبِلَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَنِ اللَّهِ قَبِلَ . قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ : هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُنْقَطِعَةٌ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَجْهُولِ حَدِيثَ خَالِدِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ ، وَلَمْ يُعْرَفْ مِن حَالِهِ مَا يَثْبُتُ بِهِ خَبَرُهُ ، وَقَدْ رُوِيَ مِن أَوْجُهٍ أُخَرَ كُلِّهَا ضَعِيفٌ ، قَدْ بَيَّنْتُ ضَعْفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنهَا فِي كِتَابِ الْمَدْخَلِ *(1/220)
وعَن طَاوُسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَا يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَيَّ بِشَيْءٍ ؛ فَإِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ إِلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ ، وَلَا أُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ "
قَالَ الشَّافِعِيُّ : هَذَا مُنْقَطِعٌ وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنهُ ، وَفَرَضَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ عَلَى خَلْقِهِ ، وَمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ مِن هَذَا إِلَّا مَا تَمَسَّكُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ ثُمَّ عَن رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ عَن دَلَالَتِهِ ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ إِنْ كَانَ قَالَهُ : " لَا يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَيَّ بِشَيْءٍ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ كَانَ بِمَوْضِعِ الْقُدْوَةِ فَقَدْ كَانَتْ لَهُ خَوَاصٌّ أُبِيحَ لَهُ فِيهَا مَا لَمْ يُبَحْ لِلنَّاسِ ، وَحُرِّمَ عَلَيْهِ فِيهَا مَا لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى النَّاسِ .(1/221)
فَقَالَ : " لَا يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَيَّ بِشَيْءٍ مِنَ الَّذِي لِي أَوْ عَلَيَّ دُونَهُمْ " قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأَمَّا قَوْلُهُ : " فَإِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ إِلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَلَا أُحَرِّمُ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ " ، فَكَذَلِكَ صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَبِذَلِكَ أَمَرَ وَافْتَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ ، وَنَشْهَدُ أَنْ قَدِ اتَّبَعَهُ ، فَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَحْيٌ فَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ فِي الْوَحْيِ اتِّبَاعَ سُنَّتِهِ فِيهِ ، فَمَن قَبِلَ عَنهُ فَإِنَّمَا قَبِلَ بِفَرْضِ اللَّهِ ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنهُ فَانْتَهُوا ، وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ وَرُوِّينَا عَن أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ أَخَذَ بِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ حَدِيثَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي حُكْمِهِ بِدِيَةِ الْأَصَابِعِ مُخْتَلِفَةً ؛ لِاخْتِلَافِهَا فِي الْمَنَافِعِ وَالْجَمَالِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ تُرِكَ حِينَ وُجِدَ فِي كِتَابِ آلِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ " وَرَوَى الشَّافِعِيُّ أَيْضًا حَدِيثَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : الدِّيَةُ لِلْعَاقِلَةِ ، وَلَا تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِن دِيَةِ زَوْجِهَا شَيْئًا ، حَتَّى أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِن دِيَتِهِ ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ عُمَرُ .(1/222)
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ أَيْضًا حَدِيثَ عُمَرَ فِي الْجَنِينِ ، وَقَبُولَهُ خَبَرَ حَمَلِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ ، وَقَوْلَهُ : لَوْ لَمْ نَسْمَعْ هَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا وَرَوَى أَيْضًا حَدِيثَ عُمَرَ فِي جِزْيَةِ الْمَجُوسِ وَقَبُولَهُ خَبَرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي ذَلِكَ . وَقَدْ ذَكَرْنَا أَسَانِيدَ هَذِهِ الْآثَارِ فِي مَوْضِعِهَا مِنَ الْكِتَابِ
وفي الْإِبَانَةُ الْكُبْرَى لِابْنِ بَطَّةَ ( 104) عَن سَالِمٍ ، عَن أَبِيهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا عُمَرُ ، لَعَلَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ ثُمَّ يُكَذِّبُنِي ، مَا جَاءَكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنْ وَافَقَهُ ، فَأَنَا قُلْتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ فَلَمْ أَقُلْهُ " .(1/223)
قَالَ ابْنُ السَّاجِيِّ : قَالَ أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ : وَبَلَغَنِي عَن عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلٌ ، وَالزَّنَادِقَةُ وَضَعَتْ هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ الشَّيْخُ : " وَصَدَقَ ابْنُ السَّاجِيِّ ، وَابْنُ الْمَدِينِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ كِتَابُ اللَّهِ يُخَالِفُهُ ، وَيُكَذِّبُ قَائِلَهُ وَوَاضِعَهُ ، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ ، والسُّنَّة الْمَاضِيَةُ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَرُدُّهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء ، وَالَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ نَسْمَعَ وَنُطِيعَ ، وَلَا نَضْرِبَ لِمَقَالَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَقَايِيسَ ، وَلَا نَلْتَمِسَ لَهَا الْمَخَارِجَ ، وَلَا نُعَارِضَها بِالْكِتَابِ ، وَلَا بِغَيْرِهِ ، وَلَكِنْ نَتَلَقَّاهَا بِالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّسْلِيمِ إِذَا صَحَّتْ بِذَلِكَ الرِّوَايَةُ . وَأَمَّا السُّنَّةُ الْوَارِدَةُ عَنهُ - صلى الله عليه وسلم - الَّتِي تُخَالِفُ هَذَا الْحَدِيثَ الْمَوْضُوعَ الَّتِي نَقَلَهَا أَهْلُ الْعَدَالَةِ وَالْأَمَانَةِ ، فَهُوَ : مَا حَدَّثَنَا "(1/224)
وعَن عَلِيٍّ ، وَحَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ ثَابِتٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ ، - وَهَذَا لَفْظُهُ - قَالَا : حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَن عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، عَن أَبِي الْبَخْتَرِيِّ ، عَن أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ ، عَن عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ ، قَالَ : " إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا فَظُنُّوا بِرَسُولِ اللَّهِ أَهْنَاهُ ، وَأَتْقَاهُ ، وَأَهْدَاهُ " وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَعْمَشُ فِي حَدِيثِهِ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ . حَدَّثَنَا ابْنُ الصَّوَّافِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَن عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، عَن أَبِي الْبَخْتَرِيِّ ، عَن أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ ، عَن عَلِيٍّ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلَهُ أَوْ نَحْوَهُ . " فَالَّذِي ذَكَرْتُهُ رَحِمَكُمُ اللَّهُ فِي هَذَا الْبَابِ مِن طَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَحَضَضْتُ عَلَيْهِ مِنَ اتِّبَاعِ سُنَّتِهِ ، وَاقْتِفَاءِ أَثَرِهِ مُوَافِقٌ كُلُّهُ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ، وَهُوَ طَرِيقُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَعَلَيْهِ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِن فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَهِيَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ ، الَّتِي مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَهَا وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ ، وَسَاءَتْ مَصِيرًا .(1/225)
فَإِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمْ حَدِيثًا عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَوَاهُ الْعُلَمَاءُ ، وَاحْتَجَّ بِهِ الْأَئِمَّةُ الْعُقَلَاءُ ، فَلَا يُعَارِضْهُ بِرَأْيِهِ ، وَهَوَى نَفْسِهِ ، فَيُصِيبَهُ مَا تَوَعَّدَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ ، فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى : {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (63) سورة النور، وَهَلْ تَدْرِي مَا الْفِتْنَةُ هَاهُنَا ؟ هِيَ وَاللَّهِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ، وَالْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} (193) سورة البقرة ، يَقُولُ : حَتَّى لَا يَكُونَ شِرْكٌ فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى : {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِن حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} (191) سورة البقرة ، يَقُولُ : الشِّرْكُ بِاللَّهِ أَشَدُّ مِن قَتْلِكُمْ لَهُمْ ، ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (115) سورة النساء ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِن هَذِهِ الْأَهْوَالِ وَوَفَّقْنَا وَإِيَّاكُمْ لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ ".(1/226)
(1)
وطرق الحديث التي روي بها، معلولة مطعون فيها عند التحقيق العلمي، وهي على هذا لا تصح لئن يستدل بها من الأصل، وهذا حتى على مذهب من يأخذ بالقرآن فقط، لأن القرآن العظيم يأمرنا بالتثبت في نقل الأخبار كما يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات ، فعلى كل الأحوال طالما لم يثبت النقل والنبأ فلا حجة لكم فيه. فثبت بطلان استدلالكم بهذ الحديث.
وكل ما سبق بيانه يتعلق بنقد السند، أما المتن فمعلول أيضا، ويحمل الدليل على وضعه بين طياته، فإن حديثهم المزعوم بطلب عرض أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - على القرآن، فإن وافقه كان حديثا، وإلا فلا، وهذا ما فعله العلماء ثم قالوا: عرضنا حديث العرض على كتاب الله تعالى فوجدناه مكذوبا، فإنا لم نجد آية في كتاب الله تعالى تطلب منا عرض أقوال نبيه - صلى الله عليه وسلم - على القرآن، بل وجدنا عكس ذلك، وجدنا القرآن الكريم يطلب طاعة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بصفة مطلقة وبشكل قاطع، وبدون هذا العرض المزعوم، كما في قوله تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنهُ فَانتَهُوا } (7) سورة الحشر
الدفع السابع : السنَّة تحذرنا منكم ومن مزاعمكم :
__________
(1) - وانظر طرق الحديث في كشف الخفاء ومزيل الإلباس (220) والفوائد المجموعة للشوكاني بتحقيق المعلمي - (ج 1 / ص 128) واللآلي المصنوعة - (ج 1 / ص 195) وتنزيه الشريعة المرفوعة - (ج 1 / ص 264)(1/227)
1. عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : " أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِن حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِن حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ ، أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ ، وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ ، وَلَا لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ ، إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنهَا صَاحِبُهَا ، وَمَن نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ " ».(1)
وفي رواية عَن المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " " أَلَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ ، فَيَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالًا اسْتَحْلَلْنَاهُ . وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ " " ».(2)
__________
(1) - سنن أبى داود(4606 ) صحيح = يقرى : يكرم الضيف ويقوم بحق ضيافته
(2) - سنن الترمذى(2876 ) صحيح(1/228)
قَالَ الشَّافِعِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَقَدْ أَمَرَ بِاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنهُ وَفَرَضَ اللَّهُ ذَلِكَ فِى كِتَابِهِ عَلَى خَلْقِهِ وَمَا فِى أَيْدِى النَّاسِ مِن هَذَا إِلاَّ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ ثُمَّ عَنِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ عَن دَلاَلَتِهِ وَلَكِنْ قَوْلُهُ إِنْ كَانَ قَالَهُ لاَ يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَىَّ بِشَىْءٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا كَانَ بِمَوْضِعِ الْقُدْوَةِ فَقَدْ كَانَتْ لَهُ خَوَاصٌّ أُبِيحَ لَهُ فِيهَا مَا لَمْ يُبَحْ لِلنَّاسِ وَحَرُمَ عَلَيْهِ فِيهَا مَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ :« لاَ يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَىَّ بِشَىْءٍ مِنَ الَّذِى لِى أَوْ عَلَىَّ دُونَهُمْ فَإِنْ كَانَ مِمَّا عَلَىَّ وَلِى دُونَهُمْ فَلاَ يُمْسِكَنَّ بِهِ ».(1/229)
وَذَلِكَ مِثْلُ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَحَلَّ لَهُ مِن عَدَدِ النِّسَاءِ مَا شَاءَ وَأَنْ يَسْتَنْكِحَ الْمَرْأَةَ إِذَا وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى (خَالِصَةً لَكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) فَلَمْ يَكُنْ لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ : قَدْ جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَكْثَرَ مِن أَرْبَعٍ وَنَكَحَ امْرَأَةً بِغَيْرِ مَهْرٍ وَأَخَذَ صَفِيًّا مِنَ الْمَغْنَمِ وَكَانَ لَهُ خُمُسُ الْخُمُسِ فَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَهُ وَلاَ لِوُلاَتِهِمْ كَمَا يَكُونُ لَهُ لأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ فِى كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ ذَلِكَ لَهُ دُونَهُمْ وَفَرَضَ اللَّهُ أَنْ يُخَيِّرَ أَزْوَاجَهُ فِى الْمُقَامِ مَعَهُ أَوِ الْفِرَاقِ فَلَمْ يَكُنْ لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ عَلَىَّ أَنْ أُخَيِّرَ امْرَأَتِى عَلَى مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِنْ كَانَ قَالَهُ :« لاَ يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَىَّ بِشَىْءٍ ». {ق} قَالَ الشَّيْخُ : وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ الشَّافِعِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِى صِحَّةِ الْخَبَرِ فَقَالَ : إِنْ كَانَ قَالَهُ لأَنَّ الْحَدِيثَ مُرْسَلٌ وَلَيْسَ مَعَهُ مَا يُؤَكِّدُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولاً عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَكُونُ وَاضِحًا وَلِلأُصُولِ مُوَافِقًا.(1)
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي(ج 7 / ص 76) (13823)(1/230)
2. عَن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَافِعٍ عَن أَبِيهِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِن أَمْرِى مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنهُ فَيَقُولُ لاَ نَدْرِى مَا وَجَدْنَا فِى كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ ».(1)
وفي رواية , عَن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ , عَن أَبِيهِ أَبِي رَافِعٍ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا أَعْرِفَنَّ الرَّجُلَ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِن أَمْرِي إِمَّا أَمَرْتُ بِهِ وَإِمَّا نَهَيْتُ عَنهُ ، فَيَقُولُ : مَا أَدْرِي مَا هَذَا ؟ عِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ لَيْسَ هَذَا فِيهِ "(2)
3. وعَنِ الْحَسَنِ بْنِ جَابِرٍ , قَالَ : سَمِعْتُ الْمِقْدَامَ بْنَ مَعْدِ يكَرِبٍ يَقُولُ : حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَشْيَاءَ يَوْمَ خَيْبَرَ ثُمَّ قَالَ : " يُوشِكُ رَجُلٌ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثِي فَيَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ , فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِن حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ , وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِن حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ , وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ " ».(3)
__________
(1) - سنن أبى داود(4607 ) صحيح
(2) - الْكِفَايَةُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ(10 )
(3) - مسند أحمد (17657) صحيح(1/231)
وفي رواية عَنِ الْحَسَنِ بْنِ جَابِرٍ , قَالَ : سَمِعْتُ الْمِقْدَامَ بْنَ مَعْدِ يكَرِبٍ يَقُولُ : حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَشْيَاءَ يَوْمَ خَيْبَرَ ثُمَّ قَالَ : " يُوشِكُ رَجُلٌ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثِي فَيَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ , فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِن حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ , وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِن حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ , وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "(1)
__________
(1) - الْكِفَايَةُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ(7 )(1/232)
4. عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِىِّ قَالَ نَزَلْنَا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ وَمَعَهُ مَن مَعَهُ مِن أَصْحَابِهِ وَكَانَ صَاحِبُ خَيْبَرَ رَجُلاً مَارِدًا مُنْكَرًا فَأَقْبَلَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَلَكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا حُمُرَنَا وَتَأْكُلُوا ثَمَرَنَا وَتَضْرِبُوا نِسَاءَنَا فَغَضِبَ يَعْنِى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ « يَا ابْنَ عَوْفٍ ارْكَبْ فَرَسَكَ ثُمَّ نَادِ أَلاَ إِنَّ الْجَنَّةَ لاَ تَحِلُّ إِلاَّ لِمُؤْمِنٍ وَأَنِ اجْتَمِعُوا لِلصَّلاَةِ». قَالَ فَاجْتَمَعُوا ثُمَّ صَلَّى بِهِمُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَامَ فَقَالَ « أَيَحْسَبُ أَحَدُكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ قَدْ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلاَّ مَا فِى هَذَا الْقُرْآنِ أَلاَ وَإِنِّى وَاللَّهِ قَدْ وَعَظْتُ وَأَمَرْتُ وَنَهَيْتُ عَن أَشْيَاءَ إِنَّهَا لَمِثْلُ الْقُرْآنِ أَوْ أَكْثَرُ وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ بِإِذْنٍ وَلاَ ضَرْبَ نِسَائِهِمْ وَلاَ أَكْلَ ثِمَارِهِمْ إِذَا أَعْطَوْكُمُ الَّذِى عَلَيْهِمْ ».(1).
5. عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَأْتِيَهُ حَدِيثٌ مِن حَدِيثِي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ : دَعُونَا مِن هَذَا , مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَا ".(2)
__________
(1) - سنن أبى داود(3052 ) حديث حسن
(2) - الْكِفَايَةُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ( 11)(1/233)
6. إن فتنة الاكتفاء بالقرآن ليست حديثة العهد، فقد قذفها الشيطان في نفوس بعض الناس في القرن الأول، ففي الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ ( 230 ) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ : " السُّنَّةُ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِلتَّنْزِيلِ , وَالْمُوضِحَةُ لِحُدُودِهِ وَشَرَائِعِهِ , أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ حِينَ ذَكَرَ الْحُدُودَ , فَقَالَ : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ , فَجَعَلَهُ حُكْمًا عَامًّا فِي الظَّاهِرِ , عَلَى كُلِّ مَن زَنَا , ثُمَّ حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فِي الثَّيِّبَيْنِ بِالرَّجْمِ , وَلَيْسَ هَذَا بِخِلَافِ الْكِتَابِ , وَلَكِنَّهُ لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا عَنَى بِالْآيَةِ الْبِكْرَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا وَكَذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ الْفَرَائِضَ , فَقَالَ : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ , فَكَانَتِ الْآيَةُ شَامِلَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ , وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ , لَمْ يَكُنْ هَذَا بِخِلَافِ التَّنْزِيلِ , وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا عَنَى بِالْمُوَارَثَةِ أَهْلَ الدِّينِ الْوَاحِدِ دُونَ أَهْلِ الدِّينَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ , وَكَذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ الْوُضُوءَ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ , ثُمَّ مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْخُفَّيْنِ وَأَمَرَ بِهِ ,(1/234)
تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا عَنَى بِغُسْلٍ الأَرْجُلِ , إِذَا كَانَتِ الْأَقْدَامُ بَادِيَةً , لَا خِفَافَ عَلَيْهَا , وَكَذَلِكَ شَرَائِعُ الْقُرْآنِ كُلُّهَا , إِنَّمَا نَزَلَتْ جُمَلًا حَتَّى فَسَّرَتْهَا السُّنَّةُ"
وعَن قَتَادَةَ : أَنَّ عِكْرِمَةَ , أَنْكَرَ مَسَحَ الْخُفَّيْنِ , فَقُلْتُ لَهُ : إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ قَالَ : " ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا خَالَفَ الْقُرْآنَ لَمْ يُؤْخَذْ عَنهُ " قَالَ هَمَّامٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : عَن قَتَادَةَ قَالَ : قُلْتُ لِعِكْرِمَةَ : لَوْلَا ابْنُ عَبَّاسٍ مَا سَأَلَكَ أَحَدٌ عَن شَيْءٍ قُلْتُ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِن عِكْرِمَةَ , وَإِنَّمَا مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عِنْدَهُ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَهُ , وَحَمَلَ الْآيَةَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا عِكْرِمَةُ عَلَى مَا ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ , أَنَّ الْمُرَادَ بِغَسْلِ الْأَرْجُلِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَسْتُورَةً بِالْخِفَافِ , أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَّرَتْ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "
وعَن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ , أَنَّهُمْ تَذَاكَرُوا عِنْدَهُ الْأَحَادِيثَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : دَعَوْنَا مِنَ الْحَدِيثِ , وَهَاتُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى , فَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ : " إِنَّكَ لَأَحْمَقُ , أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الصَّلَاةَ مُفَسَّرَةً , فِي كِتَابِ اللَّهِ الصِّيَامُ مُفَسَّرٌ ؟ , الْكِتَابُ أَحْكَمَهُ والسُّنَّة فَسَّرَتْهُ "(1/235)
وعَن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : أَنَّ رَجُلًا , أَتَاهُ فَسَأَلَهُ عَن شَيْءٍ , فَحَدَّثَهُ , فَقَالَ الرَّجُلُ : حَدِّثُوا عَن كِتَابِ اللَّهِ , وَلَا تُحَدِّثُوا عَن غَيْرِهِ , فَقَالَ : " إِنَّكَ امْرُؤٌ أَحْمَقُ , أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ , أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ أَرْبَعٌ لَا يُجْهَرُ فِيهَا ؟ - وَعَدَّ الصَّلَوَاتِ , وَعَدَّ الزَّكَاةَ وَنَحْوَهَا ثُمَّ قَالَ : أَتَجِدُ هَذَا مُفَسَّرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ قَدْ أَحْكَمَ ذَلِكَ , والسُّنَّة تُفَسِّرُ ذَلِكَ "
وعَنِ الْحَسَنِ : أَنَّ رَجُلًا , قَالَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : يَا أَبَا نُجَيْدٍ , إِنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونَا بِأَحَادِيثَ , اللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِهَا , حَدِّثُونَا بِالْقُرْآنِ قَالَ : " الْقُرْآنُ وَاللَّهِ نَعَمْ , أَرَأَيْتَ لَوْ رَفَعْنَا إِلَيْهِ , وَقَدْ وَجَدْتَ فِي الْقُرْآنِ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ , ثُمَّ لَمْ نَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , كَيْفَ سَنَّ لَنَا , كَيْفَ نَرْكَعُ , كَيْفَ كُنَّا نَسْجُدُ ،كَيْفَ كُنَّا نُعْطِي زَكَاةَ أَمْوَالِنَا قَالَ : فَأَفْحَمَ الرَّجُلُ "(1/236)
وعَنِ الْحَسَنِ , قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : يَا أَبَا نُجَيْدٍ , حَدِّثْنَا بِالْقُرْآنِ , قَالَ : " أَلَيْسَ تَقْرَأُ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ , أَكُنْتُمْ تَعْرِفُونَ مَا فِيهَا , وَمَا رُكُوعُهَا وَسُجُودُهَا , وَحُدُودُهَا , وَمَا فِيهَا ؟ أَكُنْتَ تَدْرِي كَمِ الزَّكَاةُ فِي الْوَرِقِ وَالذَّهَبِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ , وَأَصْنَافِ الْمَالِ ؟ شَهِدْتَ وَوَعَيْتَ فَرْضَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فِي الزَّكَاةِ كَذَا وَكَذَا " قَالَ الرَّجُلُ : أَحْيَيْتَنِي يَا أَبَا نُجَيْدٍ , أَحْيَاكَ اللَّهُ كَمَا أَحْيَيْتَنِي قَالَ : فَمَا مَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ حَتَّى كَانَ مِن فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ "
- - - - - - - - - - - - - - - - -
الفصل الرابع
قضايا منوعة حول أسباب اختلاف الفقهاء
المبحث الأول
بيان الفرق بين أهل الحديث وأصحاب الرأي(1)
اعلم أنه كان من العلماء في عصر سعيد بن المسيب وإبراهيم والزهري وفي عصر مالك وسفيان وبعد ذلك قومٌ يكرهون الخوضَ بالرأي، ويهابون الفتيا والاستنباط، إلا لضرورة ، لا يجدون منها بدا، وكان أكبرُ همِّهم روايةَ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فعَن شَقِيقٍ قَالَ : سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ عَن شَىْءٍ فَقَالَ : إِنِّى لأَكْرَهُ أَنْ أُحِلَّ لَكَ شَيْئاً حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ، أَوْ أُحَرِّمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَكَ.(2)
__________
(1) - الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف لولي الله الدهلوي - (ج 1 / ص 15) وحجة الله البالغة - (ج 1 / ص 287)
(2) - سنن الدارمى( 148) صحيح(1/237)
وعن الصَّلْتَ بْنِ رَاشِدٍ قَالَ : سَأَلْتُ طَاوُساً عَن مَسْأَلَةٍ فَقَالَ لِى : كَانَ هَذَا ؟ قُلْتُ : نَعَمْ. قَالَ : آللَّهِ؟ قُلْتُ : آللَّهِ. قَالَ : إِنَّ أَصْحَابَنَا أَخْبَرُونَا عَن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَعْجَلُوا بِالْبَلاَءِ قَبْلَ نُزُولِهِ فَيُذْهَبَ بِكُمْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا ، وَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَعْجَلُوا بِالْبَلاَءِ قَبْلَ نُزُولِهِ لَمْ يَنْفَكَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَن إِذَا سُئِلَ سَدَّدَ ، وَإِذَا قَالَ وُفِّقَ.(1)
وروي نحو ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود في كراهة التكلم فيما لم ينزل ،وعَن جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَقِيَهُ فِى الطَّوَافِ فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا الشَّعْثَاءِ إِنَّكَ مِن فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ فَلاَ تُفْتِ إِلاَّ بِقُرْآنٍ نَاطِقٍ أَوْ سُنَّةٍ مَاضِيَةٍ ، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ غَيْرَ ذَلِكَ هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ.(2)
وعَن أَبِى نَضْرَةَ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ أَبُو سَلَمَةَ الْبَصْرَةَ أَتَيْتُهُ أَنَا وَالْحَسَنُ ، فَقَالَ لِلْحَسَنِ : أَنْتَ الْحَسَنُ؟ مَا كَانَ أَحَدٌ بِالْبَصْرَةِ أَحَبَّ إِلَىَّ لِقَاءً مِنكَ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَنِى أَنَّكَ تُفْتِى بِرَأْيِكَ ، فَلاَ تُفْتِ بِرَأْيِكَ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ سُنَّةٌ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ.(3)
وعَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ : إِنَّ الْعَالِمَ يَدْخُلُ فِيمَا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فَلْيَطْلُبْ لِنَفْسِهِ الْمَخْرَجَ.(4)
__________
(1) - سنن الدارمى (155) فيه انقطاع
(2) - سنن الدارمى (166) صحيح
(3) - سنن الدارمى (165) صحيح
(4) - سنن الدارمى( 139) صحيح(1/238)
وعَن دَاوُدَ قَالَ : سَأَلْتُ الشَّعْبِىَّ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ إِذَا سُئِلْتُمْ؟ قَالَ : عَلَى الْخَبِيرِ وَقَعْتَ ، كَانَ إِذَا سُئِلَ الرَّجُلُ قَالَ لِصَاحِبِهِ أَفْتِهِمْ ، فَلاَ يَزَالُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الأَوَّلِ.(1)
وعن مَالِكَ - هُوَ ابْنُ مِغْوَلٍ - قَالَ قَالَ لِىَ الشَّعْبِىُّ قَالَ : مَا حَدَّثُوكَ هَؤُلاَءِ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَخُذْ بِهِ ، وَمَا قَالُوهُ بِرَأْيِهِمْ فَأَلْقِهِ فِى الْحُشِّ.(2)
__________
(1) - سنن الدارمى (138) صحيح
(2) - سنن الدارمى (206) صحيح = الحش : البستان(1/239)
فوقع شيوعُ تدوين الحديث والأثر في بلدان الإسلام، وكتابة الصحف والنسخ حتى قلَّ من يكون من أهل الرواية إلا كان له تدوينٌ أو صحيفةٌ أو نسخةٌ من حاجتهم بموقع عظيم، فطاف من أدرك من عظمائهم ذلك الزمان بلادَ الحجاز والشام والعراق ومصر واليمن وخراسان، وجمعوا الكتب وتتبعوا النسخ، وأمعنوا في التفحص عن غريب الحديث ونوادر الأثر، فاجتمع باهتمام أولئك من الحديث والآثار ما لم يجتمع لأحدٍ قبلهم ، وتيسَّر لهم ما لم يتيسر لأحد قبلهم، وخلص إليهم من طرق الأحاديث شيءٌ كثير، حتى كان لكثير من الأحاديث عندهم مائةُ طريق فما فوقها، فكشفَ بعضَ الطرق ما استتر في بعضها الآخر ، وعرفوا محلَّ كلِّ حديث من الغرابة والاستفاضة، وأمكن لهم النظر في المتابعات والشواهد، وظهر عليهم أحاديثُ صحيحةٌ كثيرةٌ لم تظهرَ على أهل الفتوى من قبل، وقال أَحْمَدُ بن حنبلٍ : قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيَّ : " يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ , أَنْتَ أَعْلَمُ بِالْأَخْبَارِ الصِّحَاحِ مِنَّا ، فَإِذَا كَانَ خَبَرٌ صَحِيحٌ فَأَعْلِمْنِي حَتَّى أَذْهِبَ إِلَيْهِ كُوفِيًّا كَانَ أَوْ بَصْرِيًّا أَوْ شَامِيًّا " قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : جَمِيعُ مَا حَدَّثَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ : حَدَّثَنِي الثِّقَةُ ، أَوْ أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ ، فَهُوَ أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : وَكِتَابُهُ الَّذِي صَنَّفَهُ بِبَغْدَادَ هُوَ أَعْدَلُ مِن كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ بِمِصْرَ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ حَيْثُ كَانَ هَاهُنَا يَسْأَلُ ، وَسَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ : اسْتَفَادَ مِنَّا الشَّافِعِيُّ مَا لَمْ نَسْتَفِدْ مِنهُ "(1).
__________
(1) - حلية الأولياء ( 13954 ) صحيح(1/240)
وذلك لأنه كم من حديث صحيح لا يرويه إلا أهل بلد خاصة كأفراد الشاميين والعراقيين أو أهل بيت خاصة، كنسخة بريد عن أبي بردة عن أبي موسى(1)، ونسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده(2)،
__________
(1) - كما في صحيح البخارى(92 ) عَن بُرَيْدٍ عَن أَبِى بُرْدَةَ عَن أَبِى مُوسَى قَالَ سُئِلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَن أَشْيَاءَ كَرِهَهَا ، فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ « سَلُونِى عَمَّا شِئْتُمْ » . قَالَ رَجُلٌ مَنْ أَبِى قَالَ « أَبُوكَ حُذَافَةُ » . فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ مَنْ أَبِى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ « أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ » . فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِى وَجْهِهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
(2) - كما في سنن أبى داود (135)عَن عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَن أَبِيهِ عَن جَدِّهِ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الطُّهُورُ فَدَعَا بِمَاءٍ فِى إِنَاءٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلاَثًا ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلاَثًا ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِى أُذُنَيْهِ وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ وَبِالسَّبَّاحَتَيْنِ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاَثًا ثَلاَثًا ثُمَّ قَالَ « هَكَذَا الْوُضُوءُ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ ». (.صحيح)(1/241)
أو كان الصحابيُّ مقِلًّا خاملاً لم يحمل عنه إلا شرذمةٌ قليلونَ، فمثلُ هذه الأحاديث يغفلُ عنها عامةُ أهلِ الفتوى، واجتمعتْ عندهم آثارُ فقهاءِ كلِّ بلدٍ من الصحابة والتابعين ، وكانَ الرجلَ فيما قبلهم لا يتمكنُ إلا من جمعِ حديثِ بلدهِ وأصحابهِ، وكان مَن قبلهم يعتمدون في معرفة أسماءِ الرجالِ ومراتب عدالتِهم على ما يخلصُ إليهم من مشاهدة الحالِ، وتتبعِ القرائنَ ، وأمعنَ هذه الطبقةُ في هذا الفنِّ ، وجعلوه شيئاً مستقلًّا بالتدوين والبحث، وناظروا في الحكم بالصحَّةِ وغيرها ، فانكشفَ عليهم بهذا التدوين والمناظرة ما كان خفيًّا من حالِ الاتصاِل والانقطاعِ ، وكان سفيانُ ووكيعُ وأمثالهُما يجتهدونَ غاية الاجتهادِ فلا يتمكنون من الحديث المرفوع المتَّصلِ إلا منْ دون الألف حديثٍ، كما ذكره أبو داودَ السجستانيُّ في رسالته إلى أهل مكة ، وكان أهل هذه الطبقة يروونَ أربعينَ ألفَ حديثٍ، فما يقرب منها، بل صحَّ عن البخاري أنه اختصرَ صحيحه من ستمائةِ ألفِ حديثٍ، وعن أبي داودَ أنه اختصر سننه من خمسمائةِ ألفِ حديثٍ، وجعل أحمدُ مسندَه ميزاناً يعرَفُ به حديثُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فما وُجِدَ فيه ولو بطريقٍ واحدٍ من طرقِه فله أصلٌ، وإلا فلا أصلَ له(1)،
__________
(1) - قلت : هذا على سبيل التغليب ، وإلا فهناك أحاديث ليست في المسند ، وهي صحيحة وموجودة في المسانيد الأخرى أو السنن الأخرى أو الصحاح . والعبرة بصحة السند ليس إلا ..(1/242)
وكان رؤوس هؤلاء عبدُ الرحمن بنُ مهديٍّ، ويحيى بنُ سعيدٍ القطانَ، ويزيدُ بنُ هارونَ، وعبدُ الرزاقِ ، وأبو بكرٍ بنُ أبي شيبةَ ، ومسددٌ وهنادُ، وأحمدُ بنُ حنبلٍ، وإسحقُ بنُ راهويه، والفضلُ بنُ دكين، وعَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيّ وأقرانُهم ، وهذه الطبقةُ هي الطرازُ الأولُ من طبقات المحدِّثين فرجعَ المحققونَ منهم بعد إحكام فنِّ الروايةِ ومعرفةِ مراتبِ الأحاديثِ إلى الفقهِ، فلم يكنْ عندهم من الرأيِ أن يجمعَ على تقليدِ رجلٍ ممنْ مضى ،مع ما يروون من الأحاديثِ والآثارِ المناقضةِ في كلِّ مذهبٍ من تلك المذاهبِ، فأخذوا يتتبعونَ أحاديثَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وآثارَ الصحابِ والتابعينَ والمجتهدينَ على قواعدَ أحكموها في نفوسِهم، وأنا أبيِّنُها لكَ في كلماتٍ يسيرةٍ ، كان عندهم إنه إذا وُجد في المسألة قرآنٌ ناطقٌ فلا يجوزُ التحوًّلُ منه إلى غيره ، وإذا كان القرآنُ محتمِلاً لوجوهٍ فالسُّنَّةُ قاضيةٌ عليه، فإذا لم يجدوا في كتاب الله أخذوا بسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواءٌ كانَ مستفيضاً دائراً بين الفقهاءِ، أو يكونُ مختصًّا بأهلِ بلدٍ أو أهلِ بيتٍ ،أو بطريق خاصةٍ، وسواءٌ عمِلَ به الصحابةُ والفقهاءُ أو لم يعملوا به، ومتَى كان في المسألةِ حديثٌ فلا يتبعُ فيها خلافُه أثراً من الآثارِ، ولا اجتهادَ أحدٍ منَ المجتهدينَ، وإذا أفرغوا جهدهم في تتبعِ الأحاديثِ ولم يجدوا في المسألة حديثاً أخذوا بأقوالِ جماعةٍ من الصحابةِ والتابعينَ، ولا يتقيدونَ بقومٍ دون قومٍ، ولا بلدٍ دون بلدٍ كما كانَ يفعلُ مَن قبلهم، فإنِ اتفقَ جمهورُ الخلفاءِ والفقهاءِ على شيءٍ فهو المتبعُ، وإن اختلفوا أخذوا بحديثِ أعلمِهم علماً، أو أورعهم ورعاً، أو أكثرهِم ضبطاً، أو ما اشتهرَ عنهم، فإن وجدوا شيئاً يستوي فيه قولانِ فهي مسألةٌ ذاتُ قولينِ، فإن عجزوا عن ذلك تأمَّلوا في عمومات الكتابِ والسُّنَّة وإيماآتِهما(1/243)
واقتضاآتِهما، وحملوا نظير المسألةِ عليها في الجوابِ إذا كانتا متقاربتين باديَ الرأيِ، لا يعتمدون في ذلك على قواعدَ منَ الأصولِ، ولكن على ما يخلُص إلى الفهِم ويثلِجُ به الصدرَ، كما أنه ليس ميزانُ التواتر عددَ الرواة ولا حالَهم ، ولكنِ اليقينُ الذي يعقبُه في قلوبِ الناسِ كما نبَّهنا على ذلك في بيان حال الصحابةِ، وكانتْ هذه الأصولُ مستخرجةً من صنيعِ الأوائلَ وتصريحاتِهم .
عَن جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ حَدَّثَنَا مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ قَالَ : كَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْخَصْمُ نَظَرَ فِى كِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مَا يَقْضِى بَيْنَهُمْ قَضَى بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِى الْكِتَابِ وَعَلِمَ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى ذَلِكَ الأَمْرِ سُنَّةً قَضَى بِهِ ، فَإِنْ أَعْيَاهُ خَرَجَ فَسَأَلَ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ : أَتَانِى كَذَا وَكَذَا فَهَلْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِى ذَلِكَ بِقَضَاءٍ؟ فَرُبَّمَا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّفَرُ كُلُّهُمْ يَذْكُرُ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ قَضَاءً ، فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى جَعَلَ فِينَا مَن يَحْفَظُ عَلَى نَبِيِّنَا. فَإِنْ أَعْيَاهُ أَنْ يَجِدَ فِيهِ سُنَّةً مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - جَمَعَ رُءُوسَ النَّاسِ وَخِيَارَهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ ، فَإِنْ أَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَمْرٍ قَضَى بِهِ.(1)
__________
(1) - سنن الدارمى (163) وفيه انقطاع(1/244)
وعَن مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ ، قَالَ : كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْخَصْمُ نَظَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مَا يَقْضِي بَيْنَهُمْ قَضَى بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَعَلِمَ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ خَرَجَ فَسَأَلَ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ : هَلْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِي ذَلِكَ بِقَضَاءٍ ؟ فَرُبَّمَا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّفَرُ يَذْكُرُونَ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ قَضَاءً ، فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِينَا مَن يَحْفَظُ عَلَيْنَا دِينَنَا . أَوْ قَالَ : مَن يَحْفَظُ عَن نَبِيِّنَا "(1)
وعَن شُرَيْحٍ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَيْهِ : إِنْ جَاءَكَ شَىْءٌ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَاقْضِ بِهِ وَلاَ تَلْتَفِتْكَ عَنهُ الرِّجَالُ ، فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَانْظُرْ سُنَّةً عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاقْضِ بِهَا ، فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ سُنَّةٌ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَانْظُرْ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَخُذْ بِهِ ، فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ فَاخْتَرْ أَىَّ الأَمْرَيْنِ شِئْتَ : إِنْ شِئْتَ أَنْ تَجْتَهِدَ رَأْيَكَ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَتَقَدَّمْ ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأَخَّرَ فَتَأَخَّرْ ، وَلاَ أَرَى التَّأَخُّرَ إِلاَّ خَيْراً لَكَ.(2)
__________
(1) - معجم الإسماعيلي ( 84 ) وفيه انقطاعٌ
(2) - سنن الدارمى (169) صحيح(1/245)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ , قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ إِلَى شُرَيْحٍ : " إِذَا حَضَرَكَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنهُ فَانْظُرْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاقْضِ بِهِ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ , فَبِمَا قَضَى بِهِ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ , فَبِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ وَأَئِمَّةُ الْعَدْلِ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَجْتَهِدَ رَأْيَكَ , فَاجْتَهِدْ رَأْيَكَ , وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُؤَامِرَنِيَ فَآمِرْنِي , وَلَا أَرَى مُؤَامَرَتَكَ إِيَّايَ إِلَّا خَيْرًا لَكَ , وَالسَّلَامُ "(1)
وعَن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ ، قَالَ : أَكْثَرُوا عَلَى عَبْدِ اللهِ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، قَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ لَسْنَا نَقْضِي ، وَلَسْنَا هُنَاكَ ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ قَدَّر َأَنْ بَلَغَنَا مِنَ الأَمْرِ مَا تَرَوْنَ ، فَمَن عَرَضَ لَهُ مِنكُمْ قَضَاءٌ بَعْدَ الْيَوْمِ فَلِيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ ، فَإِنْ جَاءَهُ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِنْ جَاءَهُ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ ، وَلَمْ يَقْضِ بِهِ نَبِيُّهُ ، فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ ، فَإِنْ أَتَاهُ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ ، وَلاَ قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلاَ قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ ، فَلْيَجْتَهِدْ بِرَأْيِهِ ، وَلاَ يَقُولُ : إنِّي أَخَافُ وَإِنِّي أَخَافُ ، فَإِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ ، فَدَعْ مَا يَرْبِيكَ إلَى مَا لاَ يَرْبِيكَ.(2)
__________
(1) - الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ ( 527 ) صحيح لغيره
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 7 / ص 241)( 23445و23446) صحيح(1/246)
وعَنِ الْقَاسِمِ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : " إِذَا حَضَرَكَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنهُ ، فَانْظُرْ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاقْضِ بِهِ ، فَإِنْ عَيِيتَ فَمَا قَضَى بِهِ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنْ عَيِيتَ فَمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ ، فَإِنْ عَيِيتَ فَاؤُمَّ وَلَا تَأْلُ ، فَإِنْ عَيِيتَ فَأَقِرَّ ، وَلَا تَسْتَحِ "(1)
وعَن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ , قَالَ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ " إِذَا سُئِلَ عَنِ الشَّيْءِ , فَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ أَخْبَرَ بِهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقُرْآنِ , وَكَانَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَ بِهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَكَانَ عَن أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَخْبَرَ بِهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَن أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ اجْتَهَدَ فِيهِ رَأْيَهُ "(2)
وعن مُعْتَمِرَ عَن أَبِيهِ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَمَا تَخَافُونَ أَنْ تُعَذَّبُوا أَوْ يُخْسَفَ بِكُمْ أَنْ تَقُولُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ فُلاَنٌ.(3)
وعَن قَتَادَةَ قَالَ : حَدَّثَ ابْنُ سِيرِينَ رَجُلاً بِحَدِيثٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَجُلٌ : قَالَ فُلاَنٌ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : أُحَدِّثُكَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَقُولُ قَالَ فُلاَنٌ؟ لاَ أُكَلِّمُكَ أَبَداً.(4)
__________
(1) - الْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ ( 8830 ) صحيح لغيره
(2) - الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ (534 ) صحيح
(3) - سنن الدارمى (439) صحيح
(4) - سنن الدارمى (449) صحيح(1/247)
وعَنِ الأَوْزَاعِىِّ قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : إِنَّهُ لاَ رَأْىَ لأَحَدٍ فِى كِتَابِ اللَّهِ ، وَإِنَّمَا رَأْىُ الأَئِمَّةِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ كِتَابٌ وَلَمْ تَمْضِ بِهِ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ رَأْىَ لأَحَدٍ فِى سُنَّةٍ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .(1)
وعَنِ الأَعْمَشِ قَالَ سَأَلْتُ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الرَّجُلِ يُصَلِّى مَعَ الإِمَامِ فَقَالَ يَقُومُ عَن يَسَارِهِ. فَقُلْتُ حَدَّثَنِى سُمَيْعٌ الزَّيَّاتُ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ أنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَقَامَهُ عَن يَمِينِهِ فَأَخَذَ بِهِ.(2)
وعَنِ الشَّعْبِىِّ قَالَ : جَاءَهُ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ عَن شَىْءٍ ، فَقَالَ : كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِيهِ كَذَا وَكَذَا. قَالَ : أَخْبِرْنِى أَنْتَ بِرَأْيِكَ. فَقَالَ : أَلاَ تَعْجَبُونَ مِن هَذَا؟ أَخْبَرْتُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَيَسْأَلُنِى عَن رَأْيِى ، وَدِينِى عِنْدِى آثَرُ مِن ذَلِكَ ، وَاللَّهِ لأَنْ أَتَغَنَّى أُغْنِيَّةً أَحَبُّ إِلَىَّ مِن أَنْ أُخْبِرَكَ بِرَأْيِى "(3)أخرج هذه الآثار كلها الدارمي .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَلَّدَ نَعْلَيْنِ وَأَشْعَرَ الْهَدْىَ فِى الشِّقِّ الأَيْمَنِ بِذِى الْحُلَيْفَةِ وَأَمَاطَ عَنهُ الدَّمَ. قَالَ وَفِى الْبَابِ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ. قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
__________
(1) - سنن الدارمى (440) صحيح
(2) - مسند أحمد(3418) صحيح
(3) - سنن الدارمى (109) وفيه انقطاع(1/248)
وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِن أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَغَيْرِهِمْ يَرَوْنَ الإِشْعَارَ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِىِّ وَالشَّافِعِىِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. قَالَ أَبُو عِيسَى سَمِعْتُ يُوسُفَ بْنَ عِيسَى يَقُولُ سَمِعْتُ وَكِيعًا يَقُولُ حِينَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ لاَ تَنْظُرُوا إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الرَّأْىِ فِى هَذَا فَإِنَّ الإِشْعَارَ سُنَّةٌ وَقَوْلَهُمْ بِدْعَةٌ. قَالَ وَسَمِعْتُ أَبَا السَّائِبِ يَقُولُ كُنَّا عِنْدَ وَكِيعٍ فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ مِمَن يَنْظُرُ فِى الرَّأْىِ أَشْعَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ مُثْلَةٌ. قَالَ الرَّجُلُ فَإِنَّهُ قَدْ رُوِىَ عَن إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِىِّ أَنَّهُ قَالَ الإِشْعَارُ مُثْلَةٌ. قَالَ فَرَأَيْتُ وَكِيعًا غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَقَالَ أَقُولُ لَكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَقُولُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ مَا أَحَقَّكَ بِأَنْ تُحْبَسَ ثُمَّ لاَ تَخْرُجَ حَتَّى تَنْزِعَ عَن قَوْلِكَ هَذَا.(1)
وعن عبد الله بن عباس وعطاء ومجاهد ومالك بن أنس رضي الله تعالى عنهم أنهم كانوا يقولون: ما من أحد إلا ومأخوذٌ من كلامه ومردودٌ عليه إلا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - .(2)
__________
(1) - سنن الترمذى (916 ) صحيح
أشعر : طعن فى أحد جانبى سنام البعير حتى يسيل دمها = قلد : جعل فى عنق الهدى نعلين
(2) - الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف لولي الله الدهلوي - (ج 1 / ص 22) وعقد الجيد - (ج 1 / ص 27)(1/249)
وبالجملة فلمَّا مهَّدوا الفقهَ على هذه القواعد فلم تكن مسألةٌ من المسائلَ التي تكلم فيها مَن قبلهم والتي وقعتْ في زمانهم إلا وجدوا فيها حديثاً مرفوعاً متصلاَ أو مرسلاَ أو موقوفاً صحيحاً أو حسناً أو صالحاً للاعتبار،أو وجدوا أثراً من آثارِ الشيخينِ أو سائر الخلفاءِ وقضاةِ الأمصارِ وفقهاءِ البلدان، أو استنباطاً من عمومٍ أو إيماءً أو اقتضاءً فيسَّر اللهُ لهم العملَ بالسنَّة على هذا الوجه، وكان أعظمَهم شأناً وأوسعَهم روايةً وأعرفَهم للحديثِ مرتبةً وأعمقَهم فقهاُ أحمدُ بنُ حنبلٍ، ثمَّ إسحقُ بنُ راهويه، وكان ترتيبُ الفقهِ على هذا الوجه يتوقفُ على جمعِ شيءٍ كثيرٍ منَ الأحاديثَ والآثارِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُنَادِي : سَمِعْت رَجُلًا يَسْأَلُ أَحْمَدَ : إذَا حَفِظَ الرَّجُلُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ يَكُونُ فَقِيهًا ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَمِائَتَيْ أَلْفٍ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَثَلَاثَ مِائَةِ أَلْفٍ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَأَرْبَعَ مِائَةِ أَلْفٍ ، قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا ، وَحَرَّكَ يَدَهُ .(1)
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُنَادِي ، وَقَدْ سَمِعَ رَجُلًا يَسْأَلُهُ : إذَا حَفِظَ الرَّجُلُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ يَكُونُ فَقِيهًا ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَمِائَتَيْ أَلْفٍ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَأَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ ؟ قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا ، وَحَرَّكَهَا ، قَالَ حَفِيدُهُ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ : فَقُلْتُ لِجَدِّي : كَمْ كَانَ يَحْفَظُ أَحْمَدُ ؟ فَقَالَ أَجَابَ عَن سِتِّمِائَةِ أَلْفٍ .(2)ومراده الإفتاء على هذا الأصل.
__________
(1) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 56)
(2) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 5 / ص 60)(1/250)
ثم أنشأَ اللُه تعالى قرناً آخرَ فرأوا أصحابهم قد كفوهم مؤونةَ جمعِ الأحاديثِ وتمهيدَ الفقهِ على أصلهِم فتفرَّغوا لفنونٍ أخرَى كتمييزِ الحديثِ الصحيحِ المجمعِ عليهِ من كبراءِ أهل الحديثِ، كيزيدَ بنِ هارون ويحيى بنِ سعيد القطان وأحمدَ وإسحقَ وأضرابِهم ، وكجمعِ أحاديثَ الفقهِ التي بنَى عليها فقهاءُ الأمصارِ وعلماءُ البلدان مذاهبَهم ، وكالحكمِ على كلِّ حديثٍ بما يستحقُّه، وكالشاذةِ والفاذةِ منَ الأحاديثَ التي لم يرووها أو طرقها التي لم يخرج من جهتها الأوائل، مما فيهِ اتصالٌ أو علوُّ سندٍ أو روايةُ فقيهٍ عن فقيهٍ، أو حافظٌ عن حافظٍ أو نحو ذلك من المطالب العلمية ، وهؤلاءِ همُ البخاريُّ ومسلمٌ وأبو داودَ وعبدُ بنُ حميد والدارميُّ، وابنُ ماجةَ، وأبو يعلَى والترمذيُّ والنسائيُّ والدارقطنيُّ والحاكمُّ والبيهقيُّ والخطيبُّ والديلميُّ، وابنَ عبدِ البرِّ وأمثالُهم.
وكان أوسعَهم علماً عندي وأنفعَهم تصنيفاً وأشهرَهم ذكراً رجالٌ أربعةٌ متقاربونَ في العصرِ: أولهُم أبو عبد اللهِ البخاريُّ، وكان غرضُه تجريدَ الأحاديثَ الصِّحاحِ المستفيضةِ المتصلةِ من غيرها ، واستنباطَ الفقهِ والسيرةِ والتفسيرِ منها، فصنَّفَ جامعَهُ الصحيحَ ووفَّى بما شرطَ ، وبلغنا أنَّ رجلاً من الصالحين رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منامه وهو يقول: مالكَ اشتغلتَ بفقهِ محمدِ بنِ إدريسَ وتركتَ كتابي؟ قال: يا رسول الله وما كتابك؟ قال : صحيحُ البخاري ، ولعمري إنه نالَ منَ الشهرةِ والقبولِ درجةً لا يرامُ فوقَها .(1)
__________
(1) - قلت : لا تؤخذ الأحكام الشرعية من المنامات ، وفقه الإمام الشافعي ما هو إلا استنباط للأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والمصادر الأخرى ، فالاشتغالُ بالفقه الشافعي ، ليس فيه إعراضٌ عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكنه الفهم الصحيح لها .(1/251)
وثانيهم مسلمُ النيسابوريُّ توخَّى تجريدَ الصِّحاحِ المجمعِ عليها بين المحدِّثين المتصلةِ المرفوعة مما يستنبطُ منه السنَّةُ ، وأراد تقريبها إلى الأذهانِ وتسهيلَ الاستنباطِ منها، فرتَّبَهُ ترتيباً جيداً، وجمعَ طرقَ كل حديثٍ في موضع واحد، ليتضحَ اختلافُ المتون وتشعبِ الأسانيد أصرحَ ما يكون، وجمع بين المختلفاتِ، فلم يدع لمن له معرفةٌ بلسان العرب عذراً في الإعراض عن السنَّة إلى غيرها .
وثالثُهم أبو داودَ السجستانيُّ، وكان همُّه جمعَ الأحاديث التي استدلَّ بها الفقهاءُ، ودارتْ فيهم، وبنَى عليها الأحكامَ علماءُ الأمصارِ، فصنَّف سننَه، وجمعَ فيها الصحيحَ والحسنَ والليِّنَ والصالحَ للعملِ، قال أبو داودَ: وما ذكرتُ في كتابي حديثاً أجمعَ الناسُ على تركه، وما كان منها ضعيفاً أصرحُ بضعفه، وما كان فيه علةٌ بينتها بوجهٍ يعرفُه الخائضُ في هذا الشأن ، وترجمَ على كلِّ حديثٍ بما قد استنبط منه عالمٌ ، وذهبَ إليه ذاهبٌ، ولذلك صرح الغزاليُّ وغيره بأن كتابه كافٍ للمجتهدِ.
ورابعُهم أبو عيسى الترمذيُّ، وكأنه استحسن طريقة الشيخين حيث بيَّنا وما أبهما، وطريقة أبي داود حيثُ جمعَ كلَّ ما ذهبَ إليه ذاهبٌ، فجمعَ كلتا الطريقتين وزادَ عليهما بيانُ مذاهبِ الصحابةِ والتابعينَ وفقهاءِ الأمصار، فجمع كتاباً جامعاً واختصرَ طرقَ الحديثِ اختصاراً لطيفاً، فذكر واحداً وأومأَ إلى ما عداهُ، وبيَّن أمر كلِّ حديثٍ من أنه صحيحٌ أو حسنٌ أو ضعيفٌ أو منكرٌ، وبيَّن وجهَ الضعفِ ليكونَ الطالبُ على بصيرةٍ من أمرهِ فيعرفَ ما يصلحُ للاعتبارِ مما دونَه، وذكر أنه مستفيضٌ أو غريبٌ، وذكر مذاهبَ الصحابةِ وفقهاءِ الأمصار، وسمَّى من يحتاجُ إلى التسميةِ، وكنَّى من يحتاجُ إلى التكنيةِ فلم يدع خفاءً لمنْ هو من رجالِ العلم ، ولذلك يقالُ: إنه كافٍ للمجتهدِ، مُغْنٍ للمقلِّدِ .(1/252)
وكان بإزاء هؤلاء في عصر مالكَ وسفيانَ وبعدهم قومٌ لا يكرهونَ المسائل ، ولا يهابون الفُتيا، ويقولون على الفقهِ بناءُ الدِّين، فلا بدَّ من إشاعتِه، ويهابونَ روايةَ حديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،والرفعِ إليه، فعن عَاصِمَ قَالَ : سَأَلْتُ الشَّعْبِىَّ عَن حَدِيثٍ فَحَدَّثَنِيهِ فَقُلْتُ : إِنَّهُ يُرْفَعُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَالَ : لاَ ، عَلَى مَن دُونَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَحَبُّ إِلَيْنَا ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ كَانَ عَلَى مَن دُونَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - (1)
وعَن إِبْرَاهِيمَ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ. فَقِيلَ لَهُ : أَمَا تَحْفَظُ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثاً غَيْرَ هَذَا؟ قَالَ : بَلَى وَلَكِنِّى أَقُولُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ عَلْقَمَةُ أَحَبُّ إِلَىَّ.(2)
وعَنِ الشَّعْبِىِّ وَابْنِ سِيرِينَ : أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ إِذَا حَدَّثَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى الأَيَّامِ تَرَبَّدَ وَجْهُهُ وَقَالَ : هَكَذَا أَوْ نَحْوَهُ هَكَذَا أَوْ نَحْوَهُ.(3)
__________
(1) - سنن الدارمى (272) صحيح
(2) - سنن الدارمى (273) صحيح
المحاقلة : هى المزارعة على نصيب معلوم = المزابنة : بيع ثمر النخل بالتمر كيلا وبيع العنب بالزبيب كيلا
(3) - سنن الدارمى(277) صحيح لغيره = تربد : تغير لون وجهه(1/253)
وعَن قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَهْطاً مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى الْكُوفَةِ فَبَعَثَنِى مَعَهُمْ ، فَجَعَلَ يَمْشِى مَعَنَا حَتَّى أَتَى صِرَارَ - وَصِرَارُ مَاءٌ فِى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ - فَجَعَلَ يَنْفُضُ الْغُبَارَ عَن رِجْلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : إِنَّكُمْ تَأْتُونَ الْكُوفَةَ فَتَأْتُونَ قَوْماً لَهُمْ أَزِيزٌ بِالْقُرْآنِ فَيَأْتُونَكُمْ ، فَيَقُولُونَ : قَدِمَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ قَدِمَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ فَيَأْتُونَكُمْ فَيَسْأَلُونَكُمْ عَنِ الْحَدِيثِ ، فَاعْلَمُوا أَنَّ أَسْبَغَ الْوُضُوءِ ثَلاَثٌ ، وَثِنْتَانِ تُجْزِيَانِ. ثُمَّ قَالَ : إِنَّكُمْ تَأْتُونَ الْكُوفَةَ فَتَأْتُونَ قَوْماً لَهُمْ أَزِيزٌ بِالْقُرْآنِ ، فَيَقُولُونَ : قَدِمَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ قَدِمَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ فَيَأْتُونَكُمْ يَسْأَلُونَكُمْ عَنِ الْحَدِيثِ فَأَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا شَرِيكُكُمْ فِيهِ. قَالَ قَرَظَةُ : وَإِنْ كُنْتُ لأَجْلِسُ فِى الْقَوْمِ فَيَذْكُرُونَ الْحَدِيثَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنِّى لَمِن أَحْفَظِهِمْ لَهُ ، فَإِذَا ذَكَرْتُ وَصِيَّةَ عُمَرَ سَكَتُّ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : مَعْنَاهُ عِنْدِى الْحَدِيثُ عَن أَيَّامِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْسَ السُّنَنَ وَالْفَرَائِضَ.(1)
__________
(1) - سنن الدارمى (286) صحيح =الأزيز : خنين من الخوف وهو صوت البكاء(1/254)
وعَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ قَالَ : كَانَ الشَّعْبِىُّ إِذَا جَاءَهُ شَىْءٌ اتَّقَى ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَقُولُ وَيَقُولُ وَيَقُولُ. قَالَ أَبُو عَاصِمٍ : كَانَ الشَّعْبِىُّ فِى هَذَا أَحْسَنَ حَالاً عِنْدَ ابْنِ عَوْنٍ مِن إِبْرَاهِيمَ .(1)، أخرج هذه الآثار الدارميُّ .
فوقعَ تدوينُ الحديثِ والفقهِ والمسائلَ من حاجتهم بموقعٍ من وجهٍ آخرَ ، وذلك أنه لم يكن عندهم من الأحاديثَ والآثارِ ما يقدرون به على استنباط الفقهِ على الأصولِ التي اختارَها أهلُ الحديث، ولم تنشرحْ صدورُهم للنظر في أقوال علماء البلدانِ وجمعِها والبحث عنها ،واتَّهموا أنفسَهم في ذلك ، وكانوا اعتقدوا في أئمتهم أنهم في الدرجةِ العليا منَ التحقيق، وكانتْ قلوبُهم أميلَ شيءٍ إلى أصحابِهم، فعَن مَسْرُوقٍ : أَنَّهُ كَانَ يُشَرِّكُ ، فَقَالَ لَهُ عَلْقَمَةُ : هَلْ أَحَدٌ مِنهُمْ أَثْبَتُ مِن عَبْدِ اللَّهِ؟ فَقَالَ : لاَ وَلَكِنِّى رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَأَهْلَ الْمَدِينَةِ يُشَرِّكُونَ فِى ابْنَتَيْنِ وَبِنْتِ ابْنٍ وَابْنِ ابْنٍ وَأُخْتَيْنِ.(2)
قال أبو حنيفة رحمه الله: كان حَمَّاد أفقه من الزُّهري، وكان إبراهيم أفقه من سَالم، وعلْقَمَة ليس بدون ابن عمر في الفقه، وإن كانت لابن عمر صحبة، وإن كان له فضل صحبة، فالأسود له فضلٌ كثير، وعبدُ الله عبدُ الله.(3)
المبحث الثاني
تمهيد الفقه على قاعدة التخريج :
__________
(1) - سنن الدارمى (135) صحيح
(2) - سنن الدارمى(2952) صحيح
(3) - شرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 263) وفواتح الرحموت - (ج 2 / ص 205)(1/255)
وكان عندهم من الفطانةِ والحدس وسرعةِ انتقال الذهنِ من شيء إلى شيءٍ ما يقدرون به على تخريج جواب المسائل على أقوال أصحابهم : « وكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ »(1)، وقوله تعالى : { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)} [المؤمنون53 ]
فمهدوا الفقهَ على قاعدة التخريج ، وذلك أن يحفظَ كلُّ أحدٍ كتابَ من هو لسانُ أصحابه وأعرفِهم بأقوالِ القوم وأصحِّهم نظرا في الترجيح ، فيتأملُ في كل مسألة وجه الحكم ، فكلَّما سئلَ عن شيء ، أو احتاج إلى شيء رأى فيما يحفظُه من تصريحات أصحابهِ ، فإن وجد الجواب فيها ، وإلا نظر إلى عموم كلامِهم ، فأجراهُ على هذه الصورة ، أو إشارةٍ ضمنيةٍ لكلام ، فاستنبط منها .
وربما كان لبعض الكلام إيماءً أو اقتضاءً يفهم المقصودَ ،وربما كان للمسألة المصرح بها نظيرٌ يحمَلُ عليها ، وربما نظروا في علة الحكم المصرَّح به بالتخريج أو بالسبر
والحذف ، فأداروا حكمَه على غير المصرَّح به .
وربما كان له كلامان لو اجتمعا على هيأة القياس الاقتراني أو الشرطيِّ أنتجا جواب المسألة .
وربما كان في كلامهم ما هو معلومٌ بالمثال والقسمة غيرُ معلومٍ بالحدِّ الجامعِ المانعِ ، فيرجعون إلى أهل اللسانِ ، ويتكلَّفون ، في تحصيل ذاتياتِه ، وترتيبِ حدٍّ جامعٍ مانعٍ له ، وضبطِ مبهَمِه وتمييزِ مشكلِه .
__________
(1) - عَن عِمْرَانَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِيمَا يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ قَالَ: « كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ » . صحيح البخارى(7551 )
إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْمَآل مَحْجُوب عَن الْمُكَلَّف فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِد فِي عَمَل مَا أُمِرَ بِهِ وَلَا يَتْرُك وُكُولًا إِلَى مَا يَئُول إِلَيْهِ أَمْره فَيُلَام عَلَى تَرْك الْمَأْمُور وَيَسْتَحِقّ الْعُقُوبَة .عون المعبود - (ج 10 / ص 226)(1/256)
وربما كان كلامُهم محتملاً بوجهين ، فينظرون في ترجيحِ أحدِ المحتملين ، وربما يكون تقريبَ الدلائل خفيًّا ، فيبينون ذلك .
وربما استدلَّ بعضُ المخرجين من فعل أئمتهم وسكوتهم ونحو ذلك .
المبحث الثالث
المجتهدون في المذهب :
فهذا هو التخريجُ ويقال له: القول المخرَّج لفلان كذا ، ويقال على مذهب فلان ، أو على أصل فلان ، أو على قول فلان جواب المسألة كذا وكذا ، ويقال لهؤلاء : المجتهدون في المذهب ، وعني هذا الاجتهاد على هذا الأصل، من قال: من حفظ المبسوطَ كان مجتهداً ، أي وإن لم يكن له علمٌ بروايةٍ أصلاً ، ولا بحديثٍ واحدٍ فوقعَ التخريجُ في كلِّ مذهبٍ ، وكثرَ ، فأيُّ مذهبٍ كان أصحابه مشهورين وممدٌّ إليهم القضاءُ والإفتاءُ ، واشتهرت تصانيفُهم في الناس ، ودرسوا درساً ظاهراً انتشرَ في أقطار الأرض ، ولم يزل ينتشرُ كلَّ حين ، وأيُّ مذهبٍ كان أصحابُه خاملين ، ولم يولَّوا القضاءَ والإفتاءَ ولم يرغب فيهم الناسُ اندرسَ بعدَ حين .
المبحث الرابع
الأفضل الجمع بين التخريج على كلام الفقهاء وتتبع لفظ الحديث :(1/257)
اعلم أن التخريج على كلام الفقهاء وتتبع لفظ الحديث لكلٍّ منهما أصلٌ أصيلٌ في الدين ، ولم يزل المحققون من العلماء في كل عصر يأخذون بهما ، فمنهم من يقلُّ من ذا ويكثرُ من ذاك . . . ، ومنهم من يكثرُ من ذا ويقلُّ من ذاك ، فلا ينبغي أن يهملَ أمرٌ واحدٌ منهما بالمرة كما يفعله عامة الفريقين ، وإنما الحقُّ البحتُ أن يطابق أحدهُما بالأخر ، وأن يجبرَ خللَ كلٍّ بالأخرَ ، فعَنِ الْحَسَنِ قَالَ : سُنَّتُكُمْ وَالَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ بَيْنَهُمَا بَيْنَ الْغَالِى وَالْجَافِى ، فَاصْبِرُوا عَلَيْهَا رَحِمَكُمُ اللَّهُ ، فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ كَانُوا أَقَلَّ النَّاسِ فِيمَا مَضَى ، وَهُمْ أَقَلُّ النَّاسِ فِيمَا بَقِىَ ، الَّذِينَ لَمْ يَذْهَبُوا مَعَ أَهْلِ الإِتْرَافِ فِى إِتْرَافِهِمْ ، وَلاَ مَعَ أَهْلِ الْبِدَعِ فِى بِدَعِهِمْ ، وَصَبَرُوا عَلَى سُنَّتِهِمْ حَتَّى لَقُوا رَبَّهُمْ ، فَكَذَلِكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَكُونُوا.(1)
فمن كان من أهل الحديثِ ينبغي أن يعرضَ ما اختاره ، وذهب إليه على رأي المجتهدينَ من التابعين ، ومَن كان من أهل التخريج ينبغي له أن يجعلَ من السُّنَن ما يحترزُ به من مخالفةِ الصريحِ الصحيحِ، ومن القول برأيِه فيما فيه حديثٌ أو أثرٌ بقدر الطاقةِ .
المبحث الخامس
ينبغي للمحدِّث أن لا يرد الحديثَ لأدنى شائبةٍ :
__________
(1) - سنن الدارمى(222) حسن(1/258)
ولا ينبغي لمحدِّث أن يتعمق بالقواعد التي أحكمها أصحابُه ، وليست مما نصَّ عليه الشارعُ ، فيردَّ به حديثاً أو قياساً صحيحاً كردِّ ما فيه أدنى شائبة الإرسال والانقطاع كما فعله ابن حزم : ردَّ حديث تحريم المعازف لشائبة الانقطاع في رواية البخاري ، على أنه في نفسه متصلٌ صحيح(1)،
__________
(1) - ففي صحيح البخارى( 5590 ) وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلاَبِىُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الأَشْعَرِىُّ قَالَ حَدَّثَنِى أَبُو عَامِرٍ - أَوْ أَبُو مَالِكٍ - الأَشْعَرِىُّ وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِى سَمِعَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « لَيَكُونَنَّ مِن أُمَّتِى أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ ، يَأْتِيهِمْ - يَعْنِى الْفَقِيرَ - لِحَاجَةٍ فَيَقُولُوا ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا . فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعَلَمَ ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ » . الحِر : الفرج والمعنى يستحلون الزنا
وقال ابن حزم في المحلى(ج 7 / ص 494) : وَهَذَا مُنْقَطِعٌ لَمْ يَتَّصِلْ مَا بَيْنَ الْبُخَارِيِّ وَصَدَقَةَ بْنِ خَالِدٍ - وَلا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ أَبَدًا، وَكُلُّ مَا فِيهِ فَمَوْضُوعٌ، وَوَاللَّهِ لَوْ أُسْنِدَ جَمِيعُهُ أَوْ وَاحِدٌ مِنهُ فَأَكْثَرَ مِن طَرِيقِ الثِّقَاتِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَا تَرَدَّدْنَا فِي الأَخْذِ بِهِ.
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 16 / ص 61) :
َأَمَّا دَعْوَى اِبْن حَزْم الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا فَقَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهَا اِبْن الصَّلَاح فِي " عُلُوم الْحَدِيث " فَقَالَ : التَّعْلِيق فِي أَحَادِيث مِن صَحِيح الْبُخَارِيّ قُطِعَ إِسْنَادهَا ، وَصُورَته صُورَة الِانْقِطَاع وَلَيْسَ حُكْمه وَلَا خَارِجًا - مَا وُجِدَ ذَلِكَ فِيهِ مِن قَبِيل الصَّحِيح - إِلَى قَبِيل الضَّعِيف ، وَلَا اِلْتِفَات إِلَى أَبِي مُحَمَّد بْن حَزْم الظَّاهِرِيّ الْحَافِظ فِي رَدّ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ مِن حَدِيث أَبِي عَامِر وَأَبِي مَالِك الْأَشْعَرِيّ عَن رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - " لَيَكُونَنَّ فِي أُمَّتِي أَقْوَام يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِير وَالْخَمْر وَالْمَعَازِف " الْحَدِيث مِن جِهَة أَنَّ الْبُخَارِيّ أَوْرَدَهُ قَائِلًا " قَالَ هِشَام بْن عَمَّار " وَسَاقَهُ بِإِسْنَادِهِ ، فَزَعَمَ اِبْن حَزْم أَنَّهُ مُنْقَطِع فِيمَا بَيْن الْبُخَارِيّ وَهِشَام وَجَعَلَهُ جَوَابًا عَن الِاحْتِجَاج بِهِ عَلَى تَحْرِيم الْمَعَازِف ، وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ مِن وُجُوه ، وَالْحَدِيث صَحِيح مَعْرُوف الِاتِّصَال بِشَرْطِ الصَّحِيح ، وَالْبُخَارِيّ قَدْ يَفْعَل مِثْل ذَلِكَ لِكَوْنِهِ قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَدِيث فِي مَوْضِع آخَر مِن كِتَابه مُسْنَدًا مُتَّصِلًا ، وَقَدْ يَفْعَل ذَلِكَ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْأَسْبَاب الَّتِي لَا يَصْحَبهَا خَلَل الِانْقِطَاع ا ه . وَلَفْظ اِبْن حَزْم فِي " الْمُحَلَّى " : وَلَمْ يَتَّصِل مَا بَيْن الْبُخَارِيّ وَصَدَقَة بْن خَالِد . وَحَكَى اِبْن الصَّلَاح فِي مَوْضِع آخَر أَنَّ الَّذِي يَقُول الْبُخَارِيّ فِيهِ قَالَ فُلَان وَيُسَمِّي شَيْخًا مِن شُيُوخه يَكُون مِن قَبِيل الْإِسْنَاد الْمُعَنعَن ، وَحُكِيَ عَن بَعْض الْحُفَّاظ أَنَّهُ يَفْعَل ذَلِكَ فِيمَا يَتَحَمَّلهُ عَن شَيْخه مُذَاكَرَة ، وَعَن بَعْضهمْ أَنَّهُ فِيمَا يَرْوِيه مُنَاوَلَة . وَقَدْ تَعَقَّبَ شَيْخنَا الْحَافِظ أَبُو الْفَضْل كَلَام اِبْن الصَّلَاح بِأَنَّهُ وَجَدَ فِي الصَّحِيح عِدَّة أَحَادِيث يَرْوِيهَا الْبُخَارِيّ عَن بَعْض شُيُوخه قَائِلًا قَالَ فُلَان وَيُورِدهَا فِي مَوْضِع آخَر بِوَاسِطَةٍ بَيْنه وَبَيْن ذَلِكَ الشَّيْخ . قُلْت : الَّذِي يُورِدهُ الْبُخَارِيّ مِن ذَلِكَ عَلَى أَنْحَاء : مِنهَا مَا يُصَرِّح فِيهِ بِالسَّمَاعِ عَن ذَلِكَ الشَّيْخ بِعَيْنِهِ إِمَّا فِي نَفْس الصَّحِيح وَإِمَّا خَارِجه ، وَالسَّبَب فِي الْأَوَّل إِمَّا أَنْ يَكُون أَعَادَهُ فِي عِدَّة أَبْوَاب وَضَاقَ عَلَيْهِ مَخْرَجه فَتَصَرَّفَ فِيهِ حَتَّى لَا يُعِيدهُ عَلَى صُورَة وَاحِدَة فِي مَكَانَيْنِ ، وَفِي الثَّانِي أَنْ لَا يَكُون عَلَى شَرْطه إِمَّا لِقُصُورٍ فِي بَعْض رُوَاته وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مَوْقُوفًا ، وَمِنهَا مَا يُورِدهُ بِوَاسِطَةٍ عَن ذَلِكَ الشَّيْخ وَالسَّبَب فِيهِ كَالْأَوَّلِ ، لَكِنَّهُ فِي غَالِب هَذَا لَا يَكُون مُكْثِرًا عَن ذَلِكَ الشَّيْخ ، وَمِنهَا مَا لَا يُورِدهُ فِي مَكَان آخَر مِن الصَّحِيح مِثْل حَدِيث الْبَاب ، فَهَذَا مِمَّا كَانَ أَشْكَلَ أَمْره عَلَيَّ ، وَاَلَّذِي يَظْهَر لِي الْآن أَنَّهُ لِقُصُورٍ فِي سِيَاقه ، وَهُوَ هُنَا تَرَدُّد هِشَام فِي اِسْم الصَّحَابِيّ ، وَسَيَأْتِي مِن كَلَامه مَا يُشِير إِلَى ذَلِكَ حَيْثُ يَقُول : إِنَّ الْمَحْفُوظ أَنَّهُ عَن عَبْد الرَّحْمَن بْن غَنْم عَن أَبِي مَالِك ، وَسَاقَهُ فِي " التَّارِيخ " مِن رِوَايَة مَالِك بْن أَبِي مَرْيَم عَن عَبْد الرَّحْمَن بْن غَنْم كَذَلِكَ ، وَقَدْ أَشَارَ الْمُهَلَّب إِلَى شَيْء مِن ذَلِكَ . وَأَمَّا كَوْنه سَمِعَهُ مِن هِشَام بِلَا وَاسِطَة وَبِوَاسِطَةٍ فَلَا أَثَر لَهُ ، لِأَنَّهُ لَا يَجْزِم إِلَّا بِمَا يَصْلُح لِلْقَبُولِ ، وَلَا سِيَّمَا حَيْثُ يَسُوقهُ مَسَاق الِاحْتِجَاج . وَأَمَّا قَوْل اِبْن الصَّلَاح أَنَّ الَّذِي يُورِدهُ بِصِيغَةِ " قَالَ " حُكْمه حُكْم الْإِسْنَاد الْمُعَنعَن ، وَالْعَنعَنَة مِن غَيْر الْمُدَلِّس مَحْمُولَة عَلَى الِاتِّصَال ، وَلَيْسَ الْبُخَارِيّ مُدَلِّسًا ، فَيَكُون مُتَّصِلًا ، فَهُوَ بَحْث وَافَقَهُ عَلَيْهِ اِبْن مَنْدَهْ وَالْتَزَمَهُ فَقَالَ : أَخْرَجَ الْبُخَارِيّ " قَالَ " وَهُوَ تَدْلِيس ، وَتَعَقَّبَهُ شَيْخنَا بِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَصِف الْبُخَارِيّ بِالتَّدْلِيسِ ، وَاَلَّذِي يَظْهَر لِي أَنَّ مُرَاد اِبْن مَنْدَهْ أَنَّ صُورَته صُورَة التَّدْلِيس لِأَنَّهُ يُورِدهُ بِالصِّيغَةِ الْمُحْتَمَلَة وَيُوجَد بَيْنه وَبَيْنه وَاسِطَة وَهَذَا هُوَ التَّدْلِيس بِعَيْنِهِ ، لَكِنْ الشَّأْن فِي تَسْلِيم أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَة مِن غَيْر الْمُدَلِّس لَهَا حُكْم الْعَنعَنَة فَقَدْ قَالَ الْخَطِيب : وَهُوَ الْمَرْجُوع إِلَيْهِ فِي الْفَنّ أَنَّ " قَالَ " لَا تُحْمَل عَلَى السَّمَاع إِلَّا مِمَّنْ عُرِفَ مِن عَادَته أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا فِي مَوْضِع السَّمَاع ، مِثْل حَجَّاج بْن مُحَمَّد الْأَعْوَر ، فَعَلَى هَذَا فَفَارَقَتْ الْعَنعَنَة فَلَا تُعْطَى حُكْمهَا وَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ أَثَرهَا مِن التَّدْلِيس وَلَا سِيَّمَا مِمَّنْ عُرِفَ مِن عَادَته أَنْ يُورِدهَا لِغَرَضٍ غَيْر التَّدْلِيس ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْد الْحُفَّاظ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْبُخَارِيّ مِن التَّعَالِيق كُلّهَا بِصِيغَةِ الْجَزْم يَكُون صَحِيحًا إِلَى مَنْ عَلَّقَ عَنهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِن شُيُوخه ، لَكِنْ إِذَا وُجِدَ الْحَدِيث الْمُعَلَّق مِن رِوَايَة بَعْض الْحُفَّاظ مَوْصُولًا إِلَى مَنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطِ الصِّحَّة أَزَالَ الْإِشْكَال ، وَلِهَذَا عَنَيْت فِي اِبْتِدَاء الْأَمْر بِهَذَا النَّوْع وَصَنَّفَتْ كِتَاب " تَعْلِيق التَّعْلِيق " . وَقَدْ ذَكَرَ شَيْخنَا فِي شَرْح التِّرْمِذِيّ وَفِي كَلَامه عَلَى عُلُوم الْحَدِيث أَنَّ حَدِيث هِشَام بْن عَمَّار جَاءَ عَنهُ مَوْصُولًا فِي " مُسْتَخْرَج الْإِسْمَاعِيلِيّ " قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن سُفْيَان حَدَّثَنَا هِشَام بْن عَمَّار ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيّ فِي " مُسْنَد الشَّامِيِّينَ " فَقَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَزِيد بْن عَبْد الصَّمَد حَدَّثَنَا هِشَام بْن عَمَّار ، قَالَ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنه فَقَالَ حَدَّثَنَا عَبْد الْوَهَّاب بْن نَجْدَة حَدَّثَنَا بِشْر بْن بَكْر حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزِيد بْن جَابِر بِسَنَدِهِ اِنْتَهَى . وَنُنَبِّه فِيهِ عَلَى مَوْضِعَيْنِ :
أَحَدهمَا : أَنَّ الطَّبَرَانِيّ أَخْرَجَ الْحَدِيث فِي مُعْجَمه الْكَبِير عَن مُوسَى بْن سَهْل الْجُوَيْنِيّ وَعَن جَعْفَر بْن مُحَمَّد الْفِرْيَابِيّ كِلَاهُمَا عَن هِشَام ، وَالْمُعْجَم الْكَبِير أَشْهَر مِن مُسْنَد الشَّامِيِّينَ فَعَزْوه إِلَيْهِ أَوْلَى ، وَأَيْضًا فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْم فِي مُسْتَخْرَجه عَلَى الْبُخَارِيّ مِن رِوَايَة عَبْدَان بْن مُحَمَّد الْمَرْوَزِيِّ وَمِن رِوَايَة أَبِي بَكْر الْبَاغَنْدِيّ كِلَاهُمَا عَن هِشَام ، وَأَخْرَجَهُ اِبْن حِبَّان فِي صَحِيحه عَن الْحُسَيْن بْن عَبْد اللَّه الْقَطَّان عَن هِشَام .
ثَانِيهمَا : قَوْله : إِنَّ أَبَا دَاوُدَ أَخْرَجَهُ يُوهِم أَنَّهُ عِنْد أَبِي دَاوُدَ بِاللَّفْظِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النِّزَاع وَهُوَ الْمَعَازِف ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَل لَمْ يَذْكُر فِيهِ الْخَمْر الَّذِي وَقَعَتْ تَرْجَمَة الْبُخَارِيّ لِأَجَلِهِ فَإِنَّ لَفْظه عِنْد أَبِي دَاوُدَ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُور إِلَى عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزِيد " حَدَّثَنَا عَطِيَّة بْن قَيْس سَمِعْت عَبْد الرَّحْمَن بْن غَنْم الْأَشْعَرِيّ يَقُول حَدَّثَنِي أَبُو عَامِر أَوْ أَبُو مَالِك الْأَشْعَرِيّ وَاَللَّه مَا كَذَبَنِي أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّه يَقُول : لَيَكُونَنَّ مِن أُمَّتِي أَقْوَام يَسْتَحِلُّونَ الْحِر وَالْحَرِير وَالْخَمْر - وَذَكَرَ كَلَامًا قَالَ - يُمْسَخ مِنهُمْ قِرَدَة وَخَنَازِير إِلَى يَوْم الْقِيَامَة " نَعَمْ سَاقَ الْإِسْمَاعِيلِيّ الْحَدِيث مِن هَذَا الْوَجْه مِن رِوَايَة دُحَيْم عَن بِشْر بْن بَكْر بِهَذَا الْإِسْنَاد فَقَالَ : " يَسْتَحِلُّونَ الْحِر وَالْحَرِير وَالْخَمْر وَالْمَعَازِف " الْحَدِيث . اهـ(1/259)
فإن مثله إنما يصارُ إليه عند التعارض ، وكقولهم : فلان أحفظُ لحديث فلان من غيره ، فيرجِّحون حديثه على حديث غيره لذلك ، وإن كان في الآخر ألفُ وجه من الرجحان .
وكان اهتمامُ جمهور الرواة عند الرواية بالمعنى برؤوسِ المعاني دون الاعتباراتِ التي يعرفها المتعمقون من أهل العربية ، فاستدلالهُم بنحو الفاء والواو وتقديم كلمة وتأخيرها ونحو ذلك من التعمق ، وكثيراً ما يعبِّرُ الراوي الآخر عن تلك القصة ، فيأتي مكان ذلك الحرف بحرف آخر ، والحقُّ أن كلَّ ما يأتي به الراوي فظاهرُه أنه كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن ظهرَ حديثٌ آخرَ أو دليلٌ آخر وجبَ المصيرُ إليه .
المبحث السادس
ينبغي للمخرِّج أن لا يخرِّجَ قولاً لا يفيده نفسُ كلام أصحابه :
ولا ينبغي لمخرج أن يخرجَ قولاً لا يفيده نفسُ كلام أصحابه ، ولا يفهمُه منه أهلُ العرف والعلماء باللغة ، ويكون بناء على تخريج مناطٍ أو حملِ نظيرِ المسألةِ عليها مما يختلف فيه أهلُ الوجوه وتتعارضُ الآراء ، ولو أن أصحابه سئلوا عن تلك المسألة ربما يحملون النظيرَ على النظير المانعِ ، وربما ذكروا علةًّ غير ما خرَّجه هو وإنما جاز التخريجُ لأنه في الحقيقة من تقليدِ المجتهدِ ، ولا يتمُّ إلا فيما يفهمُ من كلامه .
المبحث السابع
رعايةُ الحديث أوجبُ :
ولا ينبغي أن يردَّ حديثاً أو أثراً تطابقَ عليه القومُ لقاعدة استخرجَها هو أو أصحابُه كردِّ حديث المصرَّاةِ(1)
__________
(1) - كما في صحيح البخارى (2151 ) ومسلم (3907 ) عن ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِى زِيَادٌ أَنَّ ثَابِتًا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنِ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فَاحْتَلَبَهَا ، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا ، وَإِنْ سَخِطَهَا فَفِى حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِن تَمْرٍ » .
المصراة : الشاة يجمع اللبن فى ضرعها عند إرادة البيع فتبدو أنها كثيرة اللبن
وفي إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 73) :
وَمِمَّا قِيلَ إنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ حَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ ، قَالُوا : وَهُوَ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ مِن وُجُوهٍ : مِنهَا أَنَّهُ تَضَمَّنَ رَدَّ الْبَيْعِ بِلَا عَيْبٍ وَلَا خَلْفَ فِي صِفَةٍ ، وَمِنهَا أَنَّ { الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ } ؛ فَاللَّبَنُ الَّذِي يَحْدُثُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ وَقَدْ ضَمَّنَهُ إيَّاهُ ، وَمِنهَا أَنَّ اللَّبَنَ مِن ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَقَدْ ضَمَّنَهُ إيَّاهُ بِغَيْرِ مِثْلِهِ ، وَمِنهَا أَنَّهُ إذَا انْتَقَلَ مِن التَّضْمِينِ بِالْمِثْلِ فَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْقِيمَةِ ، وَالتَّمْرُ لَا قِيمَةَ وَلَا مِثْلَ ، وَمِنهَا أَنَّ الْمَالَ الْمَضْمُونَ إنَّمَا يُضْمَنُ بِقَدْرِهِ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ ، وَقَدْ قُدِّرَ هَاهُنَا الضَّمَانُ بِصَاعٍ .
قَالَ أَنْصَارُ الْحَدِيثِ : كُلُّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ خَطَأٌ ، وَالْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِهَا ، وَلَوْ خَالَفَهَا لَكَانَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ ، كَمَا أَنَّ غَيْرَهُ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ ، وَأُصُولُ الشَّرْعِ لَا يُضْرَبُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ، كَمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَن أَنْ يُضْرَبَ كِتَابُ اللَّهِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ ، بَل يَجِبُ اتِّبَاعُهَا كُلِّهَا ، وَيُقَرُّ كُلٌّ مِنهَا عَلَى أَصْلِهِ وَمَوْضِعِهِ ؛ فَإِنَّهَا كُلُّهَا مِن عِنْدِ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ شَرْعَهُ وَخَلْقَهُ ، وَمَا عَدَا هَذَا فَهُوَ الْخَطَأُ الصَّرِيحُ .
فَاسْمَعُوا الْآنَ هَدْمَ الْأُصُولِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي يُعْتَرَضُ بِهَا عَلَى النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ : أَمَّا قَوْلُكُمْ : " إنَّهُ تَضَمَّنَ الرَّدَّ مِن غَيْرِ عَيْبٍ وَلَا فَوَاتِ صِفَةٍ " فَأَيْنَ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَلَقَّاةِ عَن صَاحِبِ الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى انْحِصَارِ الرَّدِّ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ ؟ وَتَكْفِينَا هَذِهِ الْمُطَالَبَةُ ، وَلَنْ تَجِدُوا إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى الْحَصْرِ سَبِيلًا ؛ ثُمَّ نَقُولُ : بَل أُصُولُ الشَّرِيعَةِ تُوجِبُ الرَّدَّ بِغَيْرِ مَا ذَكَرْتُمْ ، وَهُوَ الرَّدُّ بِالتَّدْلِيسِ وَالْغِشِّ ، فَإِنَّهُ هُوَ وَالْخُلْفُ فِي الصِّفَةِ مِن بَابٍ وَاحِدٍ ، بَل الرَّدُّ بِالتَّدْلِيسِ أَوْلَى مِن الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، فَإِنَّ الْبَائِعَ يُظْهِرُ صِفَةَ الْمَبِيعِ تَارَةً بِقَوْلِهِ وَتَارَةً بِفِعْلِهِ ، فَإِذَا أَظْهَرَ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ عَلَى صِفَةٍ فَبَانَ بِخِلَافِهَا كَانَ قَدْ غَشَّهُ وَدَلَّسَ عَلَيْهِ ، فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَالْفَسْخِ ، وَلَوْ لَمْ تَأْتِ الشَّرِيعَةُ بِذَلِكَ لَكَانَ هُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ وَمُوجَبُ الْعَدْلِ ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إنَّمَا بَذَلَ مَالَهُ فِي الْمَبِيعِ بِنَاءً عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي أَظْهَرَهَا لَهُ الْبَائِعُ ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِهَا لَمْ يَبْذُلْ لَهُ فِيهَا مَا بَذَلَ ، فَإِلْزَامُهُ لِلْمَبِيعِ مَعَ التَّدْلِيسِ وَالْغِشِّ مِن أَعْظَمِ الظُّلْمِ الَّذِي تَتَنَزَّهُ الشَّرِيعَةُ عَنهُ ، وَقَدْ أَثْبَتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْخِيَارَ لِلرُّكْبَانِ إذَا تُلُقُّوا وَاشْتُرِيَ مِنهُمْ قَبْلَ أَنْ يَهْبِطُوا السُّوقَ وَيَعْلَمُوا السِّعْرَ ، وَلَيْسَ هَاهُنَا عَيْبٌ وَلَا خُلْفٌ فِي صِفَةٍ ، وَلَكِنْ فِيهِ نَوْعُ تَدْلِيسٍ وَغِشٍّ .(1/260)
وكإسقاط سهم ذوي القربى ، فإن رعايةَ الحديثِ أوجبُ من رعاية تلك القاعدة المخرَّجة ، وإلى هذا المعنى أشار الشافعيُّ حيث قال(1):" مَا مِن أَحَدٍ إلَّا وَتَذْهَبُ عَلَيْهِ سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَعْزُبُ عَنهُ ، فَمَهْمَا قُلْت مِن قَوْلٍ أَوْ أَصَّلْت مِن أَصْلٍ فِيهِ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خِلَافَ مَا قُلْت فَالْقَوْلُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهُوَ قَوْلِي ، وَجَعَلَ يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ .
وَقَالَ الرَّبِيعُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا نَسَبَتْهُ عَامَّةٌ أَوْ نَسَبَ نَفْسَهُ إلَى عِلْمٍ يُخَالِفُ فِي أَنْ فَرَضَ اللَّهُ اتِّبَاعَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّسْلِيمَ لِحُكْمِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ إلَّا اتِّبَاعَهُ ، وَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَوْلُ رَجُلٍ قَالَ إلَّا بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ ، وَإِنَّ مَا سِوَاهُمَا تَبَعٌ لَهُمَا ، وَإِنْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَعَلَى مَن بَعْدَنَا وَقَبْلَنَا فِي قَبُولِ الْخَبَرِ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفَرْضُ ، وَوَاجِبٌ قَبُولُ الْخَبَرِ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا فِرْقَةٌ سَأَصِفُ قَوْلَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ ..اهـ
المبحث الثامن
تتبعُ الكتاب والآثار لمعرفة الأحكام الشرعية :
ومنها أن تتبع الكتاب والآثار لمعرفة الأحكام الشرعية على مراتب :
أعلاها أن يحصلَ له من معرفة الأحكام بالفعل أو بالقوة القريبة من الفعل ما يتمكنُ به من جوابِ المستفتينَ في الوقائع غالباً بحيث يكونُ جوابُه أكثرَ مما يتوقف فيه ، وتخصُّ (أي هذه المعرفة) باسمِ الاجتهاد .
__________
(1) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 427)(1/261)
المبحث التاسع
الإمعانُ في الروايات :
وهذا الاستعدادُ يحصل تارة بالإمعان في جمع الروايات وتتبع الشاذة والفاذة منها كما أشار إليه أحمدُ بن حنبل مع ما لا ينفكُّ منه العاقلُ العارفُ باللغة من معرفة مواقع الكلام ، وصاحبِ العلم بآثار السلف من طريق الجمع بين المختلفات وترتيب الاستدلالات ونحو ذلك ، وتارةً بإحكام طرق التخريج على مذهب شيخ من مشايخ الفقه مع معرفة جملة صالحةٍ من السنَن والآثار، بحيث يعلم أن قوله لا يخالفُ الإجماعَ .
المبحث العاشر
معرفةُ القرآن والسنن تمكِّنُ من معرفة مسائل الفقه :
وهذه طريقةُ أصحاب التخريج وأوسطها من كلتا الطريقتين أن يحصلَ له من معرفة القرآن والسُّنن ما يتمكَّن به من معرفة رؤوس مسائل الفقه المجمَع عليها بأدلتِها التفصيلية ، ويحصل له غايةَ العلم ببعضِ المسائل الاجتهادية من أدلتها، وترجيح بعض الأقوالِ على بعضٍ ونقدِ التخريجات ومعرفة الجيد والزيف .
وقال الخطابي في مقدمة معالم السنن : " رأيتُ أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين وانقسموا إلى فرقتين أصحاب حديث وأثر ، وأهل فقه ونظر ، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة ، لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل ، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع ، وكلُّ بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهارُ ، وكلُّ أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفرٌ وخرابٌ .
ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التداني في المحلين والتقارب في المنزلتين وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه إخواناً متهاجرين ، وعلى سبيل الحقِّ بلزوم التناصر والتعاون غيرُ متظاهرين .(1/262)
فأما هذه الطبقة الذين هم أهلُ الأثر والحديث فإنَ الأكثرين منهم إنمّا وكدُهم الروايات وجمعُ الطرق وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب، لا يراعون المتون ولا يتفهمون المعاني ولا يستنبطون سيرها ولا يستخرجون ركازها وفقهها، وربما عابوا الفقهاء وتناولوهم بالطعن وادعوا عليهم مخالفة السُّننِ ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصرونُ ،وبسوء القول فيهم آثمون .
وأمَّا الطبقة الأخرى وهم أهلُ الفقه والنظر فإن أكثرهم لا يعرِّجون من الحديث إلاّ على أقلِّه ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه ، ولا يعرفون جيده من رديئه ولا يعبؤون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها، ووافق آراءهم التي يعتقدونها، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبولِ الخبر الضعيفِ والحديثِ المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهرَ عندهم وتعاورتْه الألسنُ فيما بينهم، من غير ثبت فيه أو يقين علمٍ به ، فكان ذلك ضلةً من الرأي وغبناً فيه، وهؤلاء وفقنا اللّه وإياهم لو حكي لهم عن واحد من رؤساء مذاهبهم وزعماء نحلهم قولٌ يقولُه باجتهاد من قبل نفسه طلبوا فيه الثقة واستبرؤوا له العهدة . فتجدُ أصحاب مالك لا يعتمدون من مذهبه إلاّ ما كان من رواية ابن القاسم والأشهب وضربائهم من تلاد أصحابه، فإذا وجدت روايةُ عبد اللّه بن عبد الحكم وأضرابه لم تكن عندهم طائلاً .
وترى أصحاب أبي حنيفة لا يقبلون من الرواية عنه إلاّ ما حكاه أبو يوسف ومحمد بن الحسن والعليةُ من أصحابه، والأجلَّةُ من تلامذته ، فإن جاءهم عن الحسن بن زياد اللؤلؤي وذويه رواية قولٍ بخلافه لم يقبلوه ولم يعتمدوه .(1/263)
وكذلك تجدُ أصحاب الشافعي إنما يعولون في مذهبه على رواية المزني والربيع بن سليمان المرادي ، فإذا جاءت رواية حرملة والجيزي وأمثالهما لم يلتفتوا إليها ولم يعتدُّوا بها في أقاويله . وعلى هذا عادةُ كلِّ فرقة من العلماء في أحكام مذاهب أئمتهم وأستاذيهم .
فإذا كان هذا دأبهم وكانوا لا يقنعون في أمر هذه الفروع وروايتها عن هؤلاء الشيوخ إلاّ بالوثيقة والثبت، فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا في الأمر الأهمِّ والخطب الأعظم وأن يتواكلوا الرواية والنقل عن إمام الأئمة ورسول رب العزة ، الواجبِ حكمُه اللازمةِ طاعتُه ، الذي يجب علينا التسليمَ لحكمه والانقيادَ لأمره من حيث لا نجد في أنفسنا حرجاً مما قضاه، ولا في صدورنا غلاً من شيء مما أبرمه وأمضاه.
أرأيتم إذا كان للرجل أن يتساهل في أمر نفسه ويتسامح عن غرمائه في حقه فيأخذ منهم الزيف ويغضي لهم عن العيب، هل يجوز له أن يفعل ذلك في حقِّ غيره إذا كان نائباً عنه كولي الضعيف ووصي اليتيم ووكيل الغائب ؟ وهل يكون ذلك منه إذا فعله إلا خيانة للعهد وإخفاراً للذمة ؟ .(1/264)
فهذا هو ذاك إمَّا عيان حسٍّ وإما عيان مثل ، ولكن أقواماً عساهم استوعروا طريق الحقِّ واستطالوا المدة في درك الحظِّ وأحبُّوا عجالة النيل فاختصروا طريق العلم واقتصروا على نتفٍ وحروفٍ منتزعة عن معاني أصولِ الفقهِ، سموها عللاً وجعلوها شعاراً لأنفسهم في الترسم برسم العلم ، واتخذوها جُنّة عند لقاء خصومهم ونصبوها دريئة للخوض والجدال، يتناظرون بها ويتلاطمون عليها ، وعند التصادر عنها قد حكم للغالبِ بالحذقِ والتبريزِ فهو الفقيهُ المذكور في عصره ، والرئيسُ المعظم في بلده ومصره ، هذا وقد دسّ لهم الشيطانُ حيلةً لطيفةً وبلغ منهم مكيدة بليغةً . فقال لهم : هذا الذي في أيديكم علمٌ قصير وبضاعةٌ مزجاة لا تفي بمبلغ الحاجة والكفاية، فاستعينوا عليه بالكلامِ وصِلوه بمقطعات منه ، واستظهروا بأصول المتكلِّمين يتسعُ لكم مذهبُ الخوض ومجالُ النظر ، فصدَّق عليهم ظنُّه وأطاعه كثيرٌ منهم واتبعوه إلاّ فريقاً من المؤمنين .
فيا للرجال والعقول أنّى يذهب بهم وأنّى يختدعهم الشيطانُ عن حظِّهم وموضع رشدِهم واللّه المستعان . اهـ
المبحث الحادي عشر
أهمية الفقه الإسلامي ومذاهبه(1)
إن الأصول العامة لا يتطرق إليها خطأ في وصفها، ولا قصور في كفايتها وصلاحيتها لكل زمان، لأنها من وضع الخبير الذي أحاط بكل شيء علمًا، وإنما يقع الخطأ والقصور في الاستنباط منها والبناء عليها؛ لأنها من عمل العقول والأفهام، فقد يقع الخطأ في الطريق إلى ذلك لخفاء بعض حلقات الاستنباط والاستدلال أو فقدانها، وقد يقع القصور في تطبيقها للجهل أو للجمود وضيق الأفق في الفهم والتفكير.
__________
(1) - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - (ج 2 / ص 21775) فما بعدها(1/265)
وقد صدعوا بعد التفرقة بين عملية الاستنباط المعتد بها والمعتمد عليها، وبين عملية الاستنباط الناقصة الخاطئة، بأن المجتهد لا يجوز له قطعًا أن يعتمد الرأي الذي تستحسنه العقول دون رجوع إلى دلالة ما نزل به الكتاب، وجاءت به السنَّة، فإن ذلك ليس من التشريع الإلهي ولا مما تحتاجه الأمة المسلمة، وهو مرفوض، قال تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } [الأنعام: 57]، وقال جل وعلا: { ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [الممتحنة: 10].
ورغم ما تواضع عليه فقهاء المسلمين من ذلك في كل عصر، فإنا نجد أصحاب الاتجاه المعادي للفقه الإسلامي يحادون المذاهب الفقهية، ويهاجمونها مدعين أنها لم تكن تعبر إلا عن وجهات نظر أصحابها، وهي تترجم عن آراء شخصية، خاضعة في جملتها لبيئات خاصة وعصور معينة، وهذا وإن صح بالنسبة إلى جزئيات الأقوال والآراء المتصلة بالحوادث اليومية مما لا نص فيه، فإنه غير صحيح بالنسبة إلى مجموع الفقه الإسلامي الذي يمثل ثروة تشريعية ضخمة، شاركت في إنشائها وتنميتها شوامخ العقول الإسلامية ابتداء من عصر الصحابة، ومن بعدهم على توالي القرون، مهتدية بالقرآن الكريم والسُّنَّة النبوية المطهرة.
أما دعواهم الأخرى التي تبرز فيما بين تلك المذاهب من تفارق واختلاف في الأحكام، مما لا تقره وحدة الإسلام ولا شريعته الغراء، فمردود لأن المذاهب الفقهية بريئة من ذلك. ومعلوم أن كل إمام من أئمة الحق له في بحر النبوة ورد وله منه شرب، ومما وقفنا عليه من ذلك قول ابن خلدون:
" إن الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وأنظارهم، خلافًا لابد من وقوعه، واتسع في الملة اتساعًا عظيمًا، وكان للمقلدين أن يقلدوا من شاءوا:
فكلُّهم من رسول الله ملتمسٌ غرفًا من البحر أو رشفًا من الديم(1/266)
واختلاف المجتهدين ليس تفرقًا في الدِّين ، ولا تجريح فيه للمختلفين، وإنما هو أمر طبيعي فطري يمليه تفاوت الأفهام، كما أنه أثر لاختلاف مناهج البحث وطرق الاستدلال، وهذا لا يجري بينهم في القطعيات التي هي أساس التشريع ومحوره، وما يحدد اتجاه الإسلام وأهدافه، وإنما تظهر فقط فيما دون ذلك من أحكام ونظم.
قال أحد العلماء: فقد يكون في بعض المذاهب الاجتهادية من التيسير ما ليس في البعض الآخر، وكثيرًا ما تتفاوت المذاهب الفقهية شدة ويسرًا، وإن كانت في مجموعها لا تخرج عن دائرة الأصول الشرعية التي بنيت عليها. ومن الصور الفقهية الناطقة بذلك ما نجده بين الأئمة من اختلاف في الأحكام والفتاوى. وهذا في ذاته مصدر ثروة تشريعية ونظريات فقهية متعددة....
وعلى هذا تكون كتب المذاهب المختلفة، وفي مقدمتها كتب الخلاف، وكتب السنن والآثار، والفقه المقارن، قد سجلت القواعد والأحكام الأساسية المقررة في الكتاب والسُّنَّة، ووضعت الركيزة لمن يروم الاجتهاد اليوم، فهو يواصل السير ولا يبدأه من فراغ، ولكنه في عمله الاجتهادي، ينطلق من تلك الثروة الهائلة من الاجتهادات السابقة التي تعتبر الأساس القوي الذي لا يستهان به، ولا يمكن بحال لمجتهد الاستغناء عنه.
ونحن لا نشك بأن في عودتنا لفقهنا وشريعة ربنا وأصالة تراثنا ما يفتح الآفاق الواسعة لإنقاذنا من التبعية الشائنة، ويحررنا من القوانين الأجنبية الوضعية التي لا تتماشى مع طبيعتنا ولا تتجاوب معنا، كما أن في ذلك تحقيقًا لأمانينا وبلوغًا لحاجاتنا. وإننا بما نقوم به في مجمع الفقه الإسلامي؛ نفتح سبيلًا جديدة لا نلتزم فيها بعد عمق النظر والدرس بمذهب واحد؛ وإنما هو الأخذ بالأقوى برهانًا، والأوفى بمقاصد الشارع وتحقيق المصالح.(1/267)
وفيما يتطلبه هذا المنهج من بحث ودرس ومقارنة ما يرفع أولًا من مدارك العلماء الفقهية، ويمدهم بغزير الفوائد المترتبة على معرفة وجهات أنظار الأئمة في أحكامهم، والمقارنة بين أدلتهم والغوص على أسرار التشريع الإسلامي ومقاصده في مصنفاتهم وكتبهم الكثيرة، وما يمكنهم ثانيًا من التغلب على التعصب للمذاهب الفقهية، وعلى توسيع شقة الخلاف فيما بينها، بدافع الجمود وضيق الأفق، والوقوف من المسائل الخلافية موقف التنطع والتزمت والتضييق على الناس، كما يساندهم في القضاء على الأنانيات والعنصريات والعصبيات المهلكة التي ترتبت على ما ظهر بينهم من فرقة وتقاطع وتدابر، وأولى الناس باجتناب ذلك والتنفير منه العلماء لما قام بين أيديهم من أدلة.
وقد كان من مميزات الأئمة المتقدمين زمانًا وإحسانًا، والعلماء السابقين المتضلعين في الفقه عنايتهم بهذا الشأن، واحتفاؤهم بهذا المنهج، أمثال القاضي عبد الوهاب في الإشراف، والبيهقي في الخلافيات، وعبد الملك الجويني في الجمع والفرق، وابن الدهان في تقويم النظر، وابن رشد الحفيد في البداية، وابن قدامة في المغني، والقرافي في الذخيرة، ونحوهم... وهم بحمد الله كثر.
كما تجلَّى مثل ذلك لدى الشريف المرتضى في الانتصار، والطوسي في الخلاف، والحلي في التذكرة، وابن المرتضى في البحر الزخار. ومثل هذه القوائم يطول في كل مذهب من مذاهب الفقه الإسلامي، بإضافة العدد الكبير من علماء القرون الأخيرة ورجال عصرنا، بما ألقاه الشيوخ من دروس في الجامعات الإسلامية، وأشرفوا عليه من رسائل في هذا الفن. وقد لمسنا ذلك في الأزهر والزيتونة، وفي الموسوعات الفقهية، ووجدناه يتجدد على أيدي دعاة التقريب، أمثال الشيوخ: عبد المجيد سليم، ومحمد أبو زهرة، ومحمود شلتوت، ومحمد محمد المدني، والأعلام من فقهاء أهل البيت كالبروجردي، ومحمد الحسين كاشف الغطاء... ونحوهم.(1/268)
وإن مما يحقق التقارب بين أهل الملة ما وضعه مجمع الفقه الإسلامي من مشاريع، تلتقي فيها آراء الفقهاء والعلماء من كل صوب، كالموسوعة الفقهية الاقتصادية، ومعجم المصطلحات الفقهية، ومعلمة القواعد، ومدونة أدلة الأحكام الفقهية التي دعا إليها جمهرة من فقهائنا وعلماء عصرنا ممن ينتمي إلى المذاهب الأربعة، ومن إخوتنا من الإمامية والزيدية والإباضية المسهمين معنا في أعمال المجمع ومشاريعه.
وقد كانت الدعوة صريحة إلى هذا التقارب والتوحيد في الخطاب الافتتاحي للمؤتمر التأسيسي لمَجْمَع الفقه الإسلامي، وجاء فيه على لسان خادم الحرمين الشريفين حفظه الله: لقد التزمت المملكة هذه الروح في تنظيمها القضائي، وقررت توحيد الحكم الشرعي في المسائل الخلافية بين المذاهب المعتمدة ؛ وذلك بقرار يصدر عن هيئة علمية للعمل بأقوى المذاهب دليلًا من كتاب الله وسنة رسوله. وقد عقب قوله هذا بالدعوة التي توجه بها إلى عامة المشاركين في المجلس التأسيسي للمجمع قائلًا: أيها الإخوة الكرام؛ إنا لمطالبون جميعًا بالعمل على توحيد الأحكام في البلاد الإسلامية في كل شؤون الحياة على مقتضى أحكام الشريعة الإسلامية؛ فذلك هو السبيل الأوحد لتحقيق الوحدة الإسلامية بين الشعوب المسلمة.
وهكذا تلتقي الريادات السامية، والتوجهات الصادقة بإذن الله، في رحاب دين الله، وفي آداب وأحكام وأصول شريعته الخالدة، على تحقيق التقارب الإسلامي وتجديد بناء وحدة الأمة ، معتبرة أن القيام بهذه الرسالة فريضة على المسلمين، وخاصة في هذه الظروف الصعبة الحالكة التي تمر بها المجتمعات الإسلامية، فإنه لا يدرأ عنها الأخطار وشرور الفتنة، ولا يقيها أسباب التصدع وعوامل الفناء والانقراض، إلا رجوعها إلى دينها وتمسكها بشريعتها، وعملها الجاد في إنقاذ وحدتها وإعلاء كلمتها، وإيجاد الحلول الشرعية البينة لما يجد أو يستشكل من قضايا العصر في كل المجالات.(1/269)
ولقد أدت الشريعة الإسلامية في الماضي وظيفتها العظيمة - كما قال أحد أعلام رجال القانون - وذلك طالما كان المسلمون متمسكين بها، عاملين بأحكامها، تمسك بها المسلمون الأوائل وعملوا بها وهم قلة مستضعفة يخافون أن يتخطفهم الناس، فإذا هم في عشرين سنة سادة العالم وقادة البشر، ما أوصلهم لهذا إلا الشريعة الإسلامية التي علمتهم وأدبتهم، ورققت نفوسهم، وهذبت مشاعرهم، وأشعرتهم العزة والكرامة ، وأخذتهم بالمساواة التامة والعدالة المطلقة ، وأوجبت عليهم أن يتعاونوا على البرِّ والتقوى، وحرمت عليهم الإثم والعدوان، وحررت عقولهم ونفوسهم من نير الجهالات والشهوات. كان ذلك حال المسلمين طالما تمسكوا بشريعتهم، فلما تركوها وأهملوا أحكامها تركهم الرقي، وأخطأهم التقدم، ورجعوا القهقرى إلى الظلمات التي كانوا فيها يعمهون من قبل، فعادوا مستضعفين مستعبدين لا يستطيعون دفع معتد ولا الامتناع من ظالم.
ولعمري إن الجهود الكبيرة لخدمة الإسلام وبناء الأمة لا يستطيع أن ينهض بها على أكمل الوجوه غير علماء الملة، فإنهم المسؤولون عن ترشيد السير، وعن النصيحة لكل مسلم، وهم غرس الله الذين لا يزال يغرسهم في دينه، وهم الذين عناهم الإمام علي كرم الله وجهه بقوله: (لن تخلو الأرض من قائم لله بحجته).
المبحث الثاني عشر
شرعُ اللهِ واحدٌ لا اختلاف فيه ولا افتراق(1)
إن الله تعالى شرع لجميع الرسل دينا واحدا ونهى عن التفرق والاختلاف.
قال تعالى:{ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: من الآية13].
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 49) رقم الفتوى 40050 شرع الله واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق تاريخ الفتوى : 17 رمضان 1424(1/270)
وقال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنهُمْ فِي شَيْءٍ }[الأنعام: 159].
قال الإمام ابن كثير في تفسيره(1): والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله تعالى وكان مخالفا له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحدٌ لا اختلاف فيه ولا افتراق.
فمن اختلفَ فيه وكانوا شيعا أي فرقا كأهل الملل والنِّحل والأهواء والضلالات، فإنَّ الله تعالى قد برّأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما هم فيه. انتهى.
وعليه، فإن الافتراقَ في الدين سببهُ اتباعُ الهوى وسلوكُ الطريق المخالف لما شرع الله.
ولذا، فإن الفِرَقَ كلَّها على ضلالٍ وباطلٍ، إلا الفرقة الناجية التي تمسكت بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِى مَا أَتَى عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ حَتَّى إِنْ كَانَ مِنهُمْ مَن أَتَى أُمَّهُ عَلاَنِيَةً لَكَانَ فِى أُمَّتِى مَن يَصْنَعُ ذَلِكَ وَإِنَّ بَنِى إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِى عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِى النَّارِ إِلاَّ مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا وَمَن هِىَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِى » أخرجه الترمذي(2).
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 3 / ص 377)
(2) - سنن الترمذى برقم(2853 ) و السلسلة الصحيحة برقم (204) وهو صحيح لغيره(1/271)
أمَّا المذاهبُ: فخيرُ تعريفٍ لها: ما جاء في كتاب "الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة" حيث يقول(1): "المذاهب الفقهية هي مذاهب اجتهادية في مسائل الشريعة الفرعية، وهي جميعا لا تختلف حول أصول الشريعة، ولو في جزئية واحدة، والأصل أنه لا مذهبية، ولكن الضروة دعت إلى تتبع اجتهاد فقهاء المذاهب الفقهية من أجل التمكن من حل المشكلات العملية بيسر وسهولة".
وحول نشأة المذاهب المذكورة جاء في الكتاب المذكور:
" وقد نشأت هذه المذاهب كمدارس فقهية لتلبية حاجة المسلمين الماسة إلى معرفة أحكام دينهم، وإنزال هذه الأحكام على الوقائع الجديدة، وهذه الحاجة إلى الفقه قائمة في كل زمان لتنظيم علاقات الناس الاجتماعية من خلال معرفة حقوق كل إنسان وواجباته، وتبيان المصالح المتجددة ودرء المفاسد المتأصلة والطارئة.
وهي مذاهب اجتهادية أعوزت إليها الوقائع اللامتناهية، والتي لا يمكن أن تضبطها النصوص المتناهية، فقامت لإيجاد حل شرعي. انتهى.
وحول أسباب اختلاف العلماء أصحاب المذاهب يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "رفع الملام عن الأئمة الأعلام": وبعد، فيجب عل المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين، كما نطق به القرآن الكريم، وخصوصا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عاما يتعمد مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من سنته في دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد من عذر في قوله. انتهى.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 49)(1/272)
ثم بين رحمه الله أن الأئمة الفقهاء مجتهدون مخلصون لا مبتدعون، والمجتهد إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد(1).
والمذهب الصحيح هو المنسوب لإمام عُرف بتقوى الله تعالى، وورعه واتباعه لسنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
المبحث الثالث عشر
الاختلافُ رحمةٌ في المسائل التي يمكنُ فيها الاجتهاد(2)
إن عبارة (الاختلاف بين العلماء رحمة) ترد كثيراً في كلام أهل العلم، وقد حملها بعض أهل العلم على الاختلاف في المسائل التي يمكنُ فيها الاجتهاد، لعدم ورود نص فيها أو غموض في الأدلة الواردة فيها، وبالتالي تحصلُ توسعةٌ على المقلِّدين في اتباع أحد طرفي الخلاف الواقع بين أهل العلم.
قال الزركشيُّ في البحر المحيط(3): وَأَمَّا الَّتِي يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ فَهِيَ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا ، كَوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ ، وَنَفْيِ وُجُوبِ الْوِتْرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا عُدِمَتْ فِيهَا النُّصُوصُ فِي الْفُرُوعِ ، وَغَمُضَتْ فِيهَا الْأَدِلَّةُ وَيُرْجَعُ فِيهَا إلَى الِاجْتِهَادِ ، فَلَيْسَ بِآثِمٍ.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ : وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ عِوَضِهَا امْتِحَانًا مِن اللَّهِ لِعِبَادِهِ ، لِيَتَفَاضَلَ بَيْنَهُمْ فِي دَرَجَاتِ الْعِلْمِ وَمَرَاتِبِ الْكَرَامَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : {.. يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (11) سورة المجادلة, {..وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (76) سورة يوسف .
__________
(1) - محبة الرسول بين الاتباع والابتداع - (ج 1 / ص 123) ومجموع الفتاوى - (ج 20 / ص 232)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 161) رقم الفتوى 40173 الاختلاف رحمة في المسائل التي يمكن فيها الاجتهاد تاريخ الفتوى : 22 رمضان 1424
(3) - البحر المحيط - (ج 8 / ص 140)(1/273)
وَعَلَى هَذَا يَتَأَوَّلُ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ : { اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ }(1)فَعَلَى هَذَا النَّوْعِ يُحْمَلُ هَذَا لِلَّفْظِ دُونَ النَّوْعِ الْآخَرِ ، فَيَكُونُ اللَّفْظُ عَامًّا وَالْمُرَادُ خَاصًّا . انتهى.
المبحث الرابع عشر
الفرقُ بين اختلاف التنوُّع واختلاف التضادِّ(2)
__________
(1) - قلت لم يثبت من وجه ، وقد مر تخريجه
(2) - انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 3849) رقم الفتوى 16829 اختلاف تنوع وفهم..لا اختلاف تضاد -تاريخ الفتوى : 26 جمادي الأولى 1423(1/274)
اعلم أن الأئمة السابقين لم يختلفوا في أصول الدين، كالإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه، لأن هذه الأمور لا مجال فيها للاختلاف، ولم يختلفوا كذلك في وجوب الفروع المعلومة من الدين بالضرورة، كالصلاة والصيام والحج، وحرمة الزنا والسرقة، بل كانوا يكفرون من خالفهم في أحد الأمور السابقة وما يشبهها، وإنما اختلف العلماء في الفروع الاجتهادية التي لم يأت فيها نصٌّ صريحٌ قطعيُّ الثبوت والدلالةِ، وهذا أمر ٌطبيعيٌّ، لأن الاجتهاد يدعو إلى إعمال العقل، وعقولُ الناس متفاوتةٌ، فلا بد أن يتفاوت فهمهم لهذه الأدلة التي تحتمل الاختلاف، ومثال القطعي: قوله تعالى:{ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } [النساء:11]، فلا يمكن أن نقول هنا: للذكر مثل حظ الأنثى، لأنه لا مجال لاختلاف العقول فيها، أمَّا قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ }[ البقرة:228]، فللعلماء أن يختلفوا في معنى ( القرء) لأنه لفظٌ مشترك بين الطهر والحيض(1)، وقال بعضهم القرء : هو الطهر، وبناءً عليه سيختلفُ حساب العدة عند الفريقين، وهذا لا مانع منه شرعاً، لأن الاختلافَ سنةٌ من سننِ الله تعالى في خلقه. وقد وقع الاختلاف بين الأنبياء، كما حكى القرآنُ عن سليمان وداود غليهما السلام(2)،
__________
(1) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 9 / ص 595) والبحر المحيط - (ج 2 / ص 317) وإرشاد الفحول الي تحقيق الحق من علم الاصول - (ج 1 / ص 38)
(2) - في قوله تعالى : {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} (78) سورة الأنبياء
ففي سنن البيهقى بإسنادصحيح برقم( 20862)عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنهُ فِى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) قَالَ كَرْمٌ وَقَدْ أَنْبَتَتْ عَنَاقِيدُهُ فَأَفْسَدَتْهُ قَالَ فَقَضَى دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ فَقَالَ سُلَيْمَانُ غَيْرَ هَذَا يَا نَبِىَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ وَمَا ذَاكَ قَالَ تَدْفَعُ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ فَيَقُومُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ وَتَدْفَعُ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِ الْكَرْمِ فَيُصِيبُ مِنهَا حَتَّى إِذَا كَانَ الْكَرْمُ كَمَا كَانَ دَفَعْتَ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِهِ وَدَفَعْتَ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِهَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حَكَمًا وَعِلْمًا) {ت} وَرُوِّينَا عَن مَسْرُوقٍ وَمُجَاهِدٍ مَعْنَى هَذَا وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى الْحُكْمَ فِى هَذِهِ الْحَادِثِةِ وَأَشْبَاهِهَا إِلَى مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى نَاقَةِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ حِينَ دَخَلَتْ حَائِطًا لِقَوْمٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَأَفْسَدَتْ فَقَضَى أَنَّ حِفْظَ الأَمْوَالِ عَلَى أَهْلِهَا بِالنَّهَارِ وَعَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِى مَا أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِى بِاللَّيْلِ.{ش} قَالَ الشَّافِعِىُّ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِى الْحَسَنِ : لَوْلاَ هَذِهِ الآيَةُ لَرَأَيْتُ أَنَّ الْحُكَّامَ قَدْ هَلَكُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمِدَ هَذَا بِصَوَابِهِ وَأَثْنَى عَلَى هَذَا بِاجْتِهَادِهِ.(1/275)
وحصل بين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وبعد موته، ففي الحديث الذي رواه البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ :« لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ » . فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِى الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نُصَلِّى حَتَّى نَأْتِيَهَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَل نُصَلِّى لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ . فَذُكِرَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنهُمْ(1).
ولا ينبغي لأحدٍ أن يتخذَ الخلاف أو الاختلافَ الفقهيَّ وسيلةٌ للتفرقِ والتعصبِ، فيتركُ الصلاةَ خلفَ مخالفه في المذهب، أو لا يتزوجُ ابنته، أو يقطعُ زيارته، لأنَّ كلَّ هذا مما يخالف هدي الإسلام وسنة خير الأنام، وليعلمْ أنَّ الأئمة لم يختلفوا اتباعاً للهوى، أو إشباعاً لشهوةِ حبِّ الانتصارِ، وإنما اختلفوا لأنَّ كلَّ واحدٍ منهم يرَى أنَّ الحقَّ معه لما يرَى منْ موافقتهِ للأدلةِ الشرعيةِ الثابتةِ عنده . وهذا كله مما يسميه العلماء اختلاف تنوعٍ(2).
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(946 ) ومسلم برقم( 4701)
(2) - انظر فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 10 / ص 25) وفتاوى يسألونك - (ج 7 / ص 18) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 1855) و (ج 3 / ص 1358) و (ج 3 / ص 5298) و(ج 6 / ص 900) ومجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (ج 7 / ص 118) ومجموع فتاوى ابن باز - (ج 20 / ص 313) والأحكام للآمدي - (ج 3 / ص 10) وكتب وليد بن راشد السعيدان - (ج 3 / ص 448)(1/276)
أمَّا اختلافُ التضادِّ فهو أن يكونَ كلُّ واحدٍ من القولين منافياً للآخر.. فهذا الخطب فيه أشدُّ، فإنك تجد كثيراً من هؤلاء المتنازعين يكونُ في قول منازعه حقٌّ وباطلٌ فيرد القول كله، فيصيرُ مبطلاً في بعض ردهِ كما كان منازعُه مبطلاً في بعضِ قوله كما رأيته لكثير من أهل السنة في مسائل القدر والصفات والصحابة، ولكثير من الفقهاء في مسائل الفقه، أما أهل البدعة فالأمر فيهم ظاهرٌ(1).
- - - - - - - - - - - - - - - - -
المبحث الخامس عشر
هل يعتدُّ بخلاف الظاهرية لغيرهم ؟
قال الحافظ الذهبي في ترجمة داود الظاهري : "قُلْتُ: لِلعُلَمَاءِ قَوْلاَن فِي الاعتِدَاد، بِخِلاَفِ دَاوُدَ وَأَتْبَاعِهِ: فَمَن اعتَدَّ بِخِلاَفِهِم، قَالَ: مَا اعْتِدَادُنَا بِخِلاَفِهِم لأَنَّ مُفْرَدَاتِهِم حُجَّةٌ، بَلْ لِتُحكَى فِي الجُمْلَةِ، وَبَعْضُهَا سَائِغٌ، وَبَعْضُهَا قَوِيٌّ، وَبَعْضُهَا سَاقِطٌ، ثُمَّ مَا تَفَرَّدُوا بِهِ هُوَ شَيْءٌ مِن قَبِيْلِ مُخَالَفَةِ الإِجْمَاعِ الظَّنِّي، وَتَنْدُرُ مُخَالَفَتُهُم لإِجْمَاعٍ قَطْعِي.
وَمَن أَهْدَرَهُم، وَلَمْ يَعْتَدَّ بِهِم، لَمْ يَعُدَّهُم فِي مَسَائِلِهِم المُفْرِدَةِ خَارِجِيْنَ بِهَا مِنَ الدِّيْنِ، وَلاَ كَفَّرَهُم بِهَا، بَلْ يَقُوْلُ: هَؤُلاَءِ فِي حَيِّزِ العَوَامِّ، أَوْ هُم كَالشِّيْعَةِ فِي الفُرُوْعِ، وَلاَ نَلْتَفِتُ إِلَى أَقْوَالِهِم، وَلاَ نَنْصِبُ مَعَهُم الخِلاَفَ، وَلاَ يُعْتَنَى بِتَحْصِيْلِ كُتُبِهِم، وَلاَ نَدُلُّ مُسْتَفْتِياً مِنَ العَامَّةِ عَلَيْهِم.
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 13 / ص 343) وفتاوى يسألونك - (ج 7 / ص 18) ومجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (ج 7 / ص 119) والفصول في الأصول - (ج 1 / ص 238) و (ج 3 / ص 154) و (ج 1 / ص 237)(1/277)
وَإِذَا تَظَاهِرُوا بِمَسْأَلَةٍ مَعْلُوْمَةِ البُطْلاَنِ، كَمَسْحِ الرِّجِلَيْنِ، أَدَّبْنَاهُم، وَعَزَّرْنَاهُم، وَأَلزَمْنَاهُم بِالغَسْلِ جَزْماً.
قَالَ الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الإِسْفَرَايِيْنِيُّ: قَالَ الجُمْهُوْرُ:
إِنَّهُم -يَعْنِي: نُفَاةَ القِيَاسِ- لاَ يَبْلُغُونَ رُتْبَةَ الاجتِهَادِ، وَلاَ يَجُوْزُ تَقْلِيْدُهُم القَضَاءَ.
وَنَقَلَ الأُسْتَاذُ أَبُو مَنصُوْرٍ البَغْدَادِيُّ، عَن أَبِي عَلِيٍّ بنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَطَائِفَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ:
أَنَّهُ لاَ اعتِبَارَ بِخِلاَفِ دَاوُدَ، وَسَائِرِ نُفَاةِ القِيَاسِ، فِي الفُرُوْعِ دُوْنَ الأُصُوْلِ.
وَقَالَ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ أَبُو المَعَالِي: الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ التَّحْقِيْقِ: أَنَّ مُنْكِرِي القِيَاس لاَ يُعَدُّوْنَ مِن عُلَمَاءِ الأُمَّةِ، وَلاَ مِن حَمَلَةِ الشَّرِيْعَةِ؛ لأَنَّهُم مُعَانِدُوْنَ مُبَاهِتُوْنَ فِيمَا ثَبَتَ اسْتفَاضَةً وَتَوَاتُراً، لأَنَّ مُعْظَمَ الشَّرِيْعَةِ صَادِرٌ عَنِ الاجتِهَادِ، وَلاَ تَفِي النُّصُوْصُ بعُشْرِ مِعْشَارِهَا، وَهَؤُلاَءِ مُلتَحِقُوْنَ بِالعَوَامِّ.(1/278)
قُلْتُ: هَذَا القَوْلُ مِن أَبِي المعَالِي أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَهُم فَأَدَّاهُم اجتِهَادُهُم إِلَى نَفِي القَوْلِ بِالقِيَاسِ، فَكَيْفَ يُرَدُّ الاجتِهَادُ بِمِثْلِهِ، وَنَدْرِي بِالضَّرُوْرَةِ أَنَّ دَاوُدَ كَانَ يُقْرِئُ مَذْهَبَهُ، وَيُنَاظِرُ عَلَيْهِ، وَيُفْتِي بِهِ فِي مِثْلِ بَغْدَادَ، وَكَثْرَةِ الأَئِمَّةِ بِهَا وَبِغَيْرِهَا، فَلَم نَرَهُم قَامُوا عَلَيْهِ، وَلاَ أَنْكَرُوا فَتَاويه وَلاَ تَدْرِيسَهُ، وَلاَ سَعَوا فِي مَنعِهِ مِن بَثِّهِ، وَبَالحَضْرَةِ مِثْلُ إِسْمَاعِيْلَ القَاضِي شَيْخِ المَالِكِيَّةِ، وَعُثْمَانَ بنِ بَشَّارٍ الأَنْمَاطِيِّ شَيْخِ الشَّافِعِيَّة، وَالمَرُّوْذِيِّ شَيْخِ الحَنْبَلِيَّةِ، وَابْنَي الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَأَبِي العَبَّاسِ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدٍ البِرْتِيِّ شَيْخِ الحَنَفِيَّةِ، وَأَحْمَدَ بنِ أَبِي عِمْرَانَ القَاضِي، وَمِثْلُ عَالِمِ بَغْدَادَ إِبْرَاهِيْمَ الحَرْبِيِّ.
بَلْ سَكَتُوا لَهُ، حَتَّى لَقَدْ قَالَ قَاسِمُ بنُ أَصْبَغَ: ذَاكَرْتُ الطَّبرِيَّ -يَعْنِي: ابْنَ جَرِيْرٍ- وَابْنَ سُرَيْجٍ، فَقُلْتُ لَهُمَا: كِتَابُ ابْنِ قُتَيْبَةَ فِي الفِقَهِ، أَيْنَ هُوَ عِنْدَكُمَا؟
قَالاَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلاَ كِتَابُ أَبِي عُبَيْدٍ، فَإِذَا أَرَدْتَ الفِقْهَ فَكُتُبُ الشَّافِعِيِّ، وَدَاوُدَ، وَنُظَرَائِهِمَا.
ثمَّ كَانَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ المُغَلِّسِ، وَعِدَّةٌ مِن تَلاَمِذَةِ دَاوُدَ، وَعَلَى أَكْتَافِهِم مِثْلُ: ابْنِ سُرَيْجٍ شَيْخِ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَبِي بَكْرٍ الخَلاَّلِ شَيْخِ الحَنْبَلِيَّةِ، وَأَبِي الحَسَنِ الكَرْخِيِّ شَيْخِ الحَنَفِيَّةِ، وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ بِمِصْرَ.(1/279)
بَلْ كَانُوا يَتَجَالَسُوْنَ وَيَتَنَاظَرُوْنَ، وَيَبْرُزُ كُلٌّ مِنهُم بِحُجَجِهِ، وَلاَ يَسْعَوْنَ بِالدَّاودِيَّةِ إِلَى السُّلْطَانِ.
بَلْ أَبلغُ مِن ذَلِكَ، يَنْصِبُوْنَ مَعَهُم الخِلاَفَ فِي تَصَانِيفِهِم قَدِيْماً وَحَدِيْثاً، وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَهُم أَشْيَاءُ أَحْسَنُوا فِيْهَا، وَلَهُم مَسَائِلُ مُسْتَهْجَنَةٌ، يُشْغَبُ عَلَيْهِم بِهَا، وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيْرُ الإِمَامُ أَبُو عَمْرٍو بنُ الصَّلاَحِ، حَيْثُ يَقُوْلُ: الَّذِي اختَارَهُ الأُسْتَاذُ أَبُو مَنصُوْرٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ الصَّحِيْحُ مِنَ المَذْهَبِ، أَنَّهُ يُعْتَبَرُ خِلاَفُ دَاوُدَ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ الصَّلاحِ: وَهَذَا الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الأَمْرُ آخِراً، كَمَا هُوَ الأَغْلَبُ الأَعْرَفُ مِن صَفْوِ الأَئِمَّةِ المُتَأَخِّرِينَ، الَّذِيْنَ أَوْرَدُوا مَذْهَبَ دَاوُدَ فِي مُصَنَّفَاتِهِمُ المَشْهُوْرَةِ، كَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الإِسْفَرَايِيْنِيِّ، وَالمَاوَرْدِيِّ، وَالقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، فلَوْلاَ اعتِدَادُهُم بِهِ لَمَا ذَكَرُوا مَذْهَبَهُ فِي مُصَنَّفَاتِهِمُ المَشْهُوْرَةِ.
قَالَ: وَأَرَى أَنْ يُعْتَبَرَ قَوْلُهُ، إِلاَّ فِيمَا خَالَفَ فِيْهِ القيَاسَ الجَلِيَّ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ القِيَاسِيُّونَ مِن أَنْواعِهِ، أَوْ بَنَاهُ عَلَى أُصُولِهِ الَّتِي قَامَ الدَّلِيْلُ القَاطعُ عَلَى بُطلاَنِهَا، فَاتِّفَاقُ مَن سِوَاهُ إِجمَاعٌ مُنْعَقِدٌ، كَقَوْلِهِ فِي التَّغَوُّطِ فِي المَاءِ الرَّاكِدِ، وَتِلْكَ المَسَائِلِ الشَّنِيعَةِ، وَقُولِهُ: لاَ رِبَا إِلاَّ فِي السِّتَّةِ المَنصُوْصِ عَلَيْهَا، فَخِلاَفُهُ فِي هَذَا أَوْ نَحْوِهِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ، لأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا يُقْطَعُ بِبُطْلاَنِهِ.(1/280)
قُلْتُ: لاَ رَيْبَ أَنَّ كُلَّ مسَأَلَةٍ انْفَرَدَ بِهَا، وَقُطِعَ بِبُطْلاَنِ قَوْلِهِ فِيْهَا، فَإِنَّهَا هَدْرٌ، وَإِنَّمَا نَحْكِيهَا للتَّعَجُّبِ، وَكُلَّ مسَأَلَةٍ لَهُ عَضَدَهَا نَصٌّ، وَسَبَقَهُ إِلَيْهَا صَاحِبٌ أَوْ تَابِعٌ، فَهِيَ مِن مَسَائِلِ الخِلاَفِ، فَلاَ تُهْدَرُ.
وَفِي الجُمْلَةِ، فَدَاوُدُ بنُ عَلِيٍّ بَصِيرٌ بِالفِقْهِ، عَالِمٌ بِالقُرْآنِ، حَافظٌ للأَثَرِ، رَأْسٌ فِي مَعْرِفَةِ الخِلاَفِ، مِن أَوْعِيَةِ العِلْمِ، لَهُ ذكَاءٌ خَارِقٌ، وَفِيْهِ دِيْنٌ مَتِينٌ.
وَكَذَلِكَ فِي فُقَهَاءِ الظَّاهِرِيَّةِ جَمَاعَةٌ لَهُم عِلْمٌ بَاهِرٌ، وَذكَاءٌ قَوِيٌّ، فَالكَمَالُ عَزِيزٌ، وَاللهُ المُوَفِّقُ.
وَنَحْنُ: فَنَحْكِي قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي المُتعَةِ، وَفِي الصَّرْفِ، وَفِي إِنكَارِ العَوْلِ، وَقولَ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي تَرْكِ الغُسْلِ مِنَ الإِيْلاجِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَلاَ نُجَوِّزُ لأَحَدٍ تَقْلِيْدَهُم فِي ذَلِكَ. "(1)
- - - - - - - - - - - - - - - -
الفصل الخامس
حال الناس منذ عهد الصحابة حتى تقليد الأئمة الأربعة
المبحث الأول
بيانُ حال الناس في الصدر الأول وبعده(2)
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (13/104-109)
(2) - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 272)(1/281)
قال الإمام أبو زيد الدبوسي رحمه الله تعالى في تقويم الأدلة:" كان الناسُ في الصدر الأول - أعني الصحابة والتابعين والصالحين يبنون أمورهم على الحجَّة فكانوا يأخذون بالكتاب ثم بالسنة ثم بأقوال من بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يصح بالحجة، فكان الرجلُ يأخذ بقول عمر في مسألة ثم يخالفه بقول علي في مسألة أخرى، وقد ظهر من أصحاب أبي حنيفة أنهم وافقوه مرة وخالفوه أخرى بحسب ما تتضح لهم الحجة ولم يكن المذهبُ في الشريعة عمرياُ ولا علوياً، بل النسبة كانت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكانوا قروناً أثنى عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخير فكانوا يرون الحجَّة، لا علماءهم ولا نفوسهم، فلما ذهبتِ التقوى عن عالِمة القرن الرابع وكسلوا عن طلب الحجَج جعلوا علماءَهم حجَّة واتبعوهم ، فصار بعضُهم حنفيًّا وبعضُهم مالكيًّا ، وبعضهم شافعيًّا ينصرون الحجةَ بالرجالِ، ويعتقدون الصحةَ بالميلادِ على ذلك المذهب، ثم كلُّ قرنٍ بعدهم اتبع عالمَه كيف ما أصابَه، بلا تمييز حتى تبدلتِ السنن بالبدعِ فضلَّ الحقُّ بين الهوى " انتهى
وقال العلامة الدهلوي(1):
" كان الناسُ غير مجمعين على التقليد الخالص :
اعلم أن الناس كانوا قبل المائة الرابعة غير مجمعين على التقليد الخالص لمذهب واحد بعينه ، قال أبو طالب المكي في قوت القلوب(2): إن الكتب والمجموعات محدثةٌ ، والقول بمقالات الناس ، والفتيا بمذهب الواحد من الناس ، واتخاذ قوله ، والحكاية لهمن كل شيء ، والتفقه على مذهبه - لم يكن الناس قديما على ذلك في القرنين الأول والثاني انتهى .
كان العامة من المسلمين يقلدون صاحب الشرع :
__________
(1) - الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف لولي الله الدهلوي - (ج 1 / ص 30) وحجة الله البالغة - (ج 1 / ص 297)
(2) - قوت القلوب - (ج 1 / ص 225)(1/282)
أقول: وبعد القرنين حدث فيهم شيء من التخريج غير أن أهل المائة الرابعة لم يكونوا مجتمعين على التقليد الخالص على مذهب واحد والتفقه له والحكاية لقوله كما يظهر من التتبع ، بل كان فيهم العلماءُ والعامة .
وكان من خير العامة أنهم كانوا في المسائل الإجماعية التي لا اختلاف فيها بين المسلمين وجمهور المجتهدين لا يقلِّدون إلا صاحبَ الشرع ، وكانوا يتعلمون صفة الوضوء والغسل والصلاة والزكاة ونحو ذلك من آبائهم أو معلمي بلدانهم ، فيمشون حسب ذلك ، وإذا وقعت لهم واقعةُ استفتوا فيها أي مفتٍ وجدوا من غير تعيين مذهب.
كان الخاصةُ من أهل الحديث يشتغلون به :
وكان من خبر الخاصة أنه كان أهل الحديث منهم يشتغلون بالحديث ، فيخلص إليهم من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وآثار الصحابة مالا يحتاجون معه إلى شيء آخر في المسألة من حديث مستفيض أو صحيح قد عمل به بعض الفقهاء ، ولا عذر لتارك العمل به ، أو أقوال متظاهرة لجمهور الصحابة والتابعين مما لا يحسن مخالفتها فإن لم يجد في المسألة ما يطمئنُ به قلبه لتعارض النقل وعدم وضوح الترجيح ونحو ذلك - رجع إلى كلام بعض من مضى من الفقهاء ، فإن وجد قولين اختار أوثقهما سواء كان من أهل المدينة أومن أهل الكوفة .
كان الخاصةُ من أهل التخريج يخرِّجون ما لا يجدونه مصرحاً :
وكان أهل التخريج منهم يخرِّجون فيما لا يجدونه مصرحا ، ويجتهدون في المذهب ، وكان هؤلاء ينسبون إلى مذهب أحدهم فيقال : فلان شافعي ، وفلان حنفي ، وكان صاحب الحديث أيضاً قد ينسب إلى أحد المذاهب لكثرة موافقته له ، كالنسائي ، والبيهقي ينسبان إلى الشافعي ، فكان لا يتولى القضاء ولا الإفتاء إلا مجتهدٌ ، ولا يسمَّى الفقيهُ إلا مجتهدا .
بعد القرن الرابع حدثتْ أمورٌ :
ثم بعد هذه القرون كان ناس آخرون ذهبوا يمينا وشمالا . وحدث فيهم أمور:(1/283)
منها الجدلُ والخلافُ في علم الفقه وتفصيله - على ما ذكره الغزالي - أنه لما انقرض عهدُ الخلفاء الراشدين المهديين أفضت الخلافةُ إلى قوم تولوها بغير استحقاق ولا استقلالٍ بعلم الفتاوى والأحكام ، فاضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم .
وقد كان بقي من العلماء من هو مستمر على الطراز الأول وملازم صفو الدين ، فكانوا إذا طُلبوا هربوا ، وأعرضوا فرأى أهل تلك الأعصار عن العلماء وإقبال الأئمة عليهم مع إعراضهم ، فاشرأبوا بطلب العلم توصلا إلى نيل العزِّ ودرك الجاه ، فأصبح الفقهاءُ بعد أن كانوا مطلوبين طالبين ، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراضِ عن السلاطين أذلةً بالإقبال عليهم ، إلا من وفقه اللّه .
وقد كان من قبلهم قد صنف ناسٌ في علم الكلام وأكثروا القال والقيل والإيراد والجواب وتمهيد طريق الجدل ، فوقع ذلك منهم بموقع من قبل أن كان من الصدور والملوك من مالت نفسه إلى المناظرة في الفقه وبيان الأولى من مذهب الشافعي وأبي حنيفة رحمهما اللّه ، فتركَ الناسُ الكلام وفنون العلم ، وأقبلوا على المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة رحمهما اللّه على الخصوص ، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد بن حنبل وغيرهم ، وزعموا أن غرضهم استنباطُ دقائق الشرع وتقريرُ علل المذهب وتمهيدُ أصول الفتاوى ، وأكثروا فيها التصانيف والاستنباطات ، ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات وهم مستمرون عليه إلى الآن لسنا ندري ما الذي قدَّر اللّه تعالى فيما بعدها من الأعصار . فهذا هو الباعث على الإنكباب على الخلافيات والمناظرات لا غير ولو مالت نفوس أرباب الدنيا إلى الخلاف مع إمام آخر من الأئمة أو إلى علم آخر من العلوم لمالوا أيضاً معهم، ولم يسكنوا عن التعلل بأن ما اشتغلوا به هو علمُ الدين وأن لا مطلبَ لهم سوى التقرب إلى رب العالمين انتهى حاصله .(1)
__________
(1) - إحياء علوم الدين - (ج 1 / ص 45)(1/284)
ومنها : أنهم اطمأنوا بالتقليد ، ودبَّ التقليدُ في صدورهم دبيبَ النمل وهم لا يشعرون ، وكان سببُ ذلك تزاحمَ الفقهاء وتجادلَهم فيما بينهم، فإنهم لما وقعت فيهم المزاحمة في الفتوى كان كلُّ من أفتى بشيء نوقض في فتواه ، وردَّ عليه ، فلم ينقطع الكلام إلا بمسير إلى تصريح رجل من المتقدمين في المسألة .
وأيضا جورُ القضاة، فإن القضاة لما جار أكثرهم ، ولم يكونوا أمناء لم يقبل منهم إلا ما لا يريبُ العامة فيه ، ويكون شيئاً قد قيل من قبل .
وأيضا جهلُ رؤوس الناس واستفتاء الناس من لا علم له بالحديث ولا بطريق التخريج كما ترى ذلك ظاهراً في أكثر المتأخرين ، وقد نبَّه عليه ابن الهمام وغيره ، وفي ذلك الوقت يسمى غير المجتهد فقيهاً .
ومنها : أن أقبل أكثرهم على التعمقاتِ في كل فنٍّ ، فمنهم من زعم أنه يؤسس علم أسماء الرجال ومعرفة مراتب الجرح والتعديل ، ثم خرج من ذلك إلى التاريخ قديمه وحديثه . . ، ومنهم من تفحص عن نوادر الأخبار وغرائبها وإن دخلت في حد الموضوع . . . ، ومنهم من كثر القيل والقال في أصول الفقه ، واستنبط كل لأصحابه قواعد جدلية ، فأورد ، فاستقصى ، وأجاب ، وتفصَّى ، وعرف ، وقسم ، فحور طول الكلام تارة وتارة أخرى اختصر ، ومنهم من ذهب إلى هذا بفرض الصور المستبعدة التي من حقها ألا يتعرض لها عاقل وبفحص العمومات والإيماءات من كلام المخرَّجين فمن دونهم مما لا يرتضي استماعه عالم ولا جاهل .(1/285)
وفتنة هذا الجدل والخلاف والتعمق قريبة من الفتنة الأولى حين تشاجروا في الملك ، وانتصر كلُّ رجل لصاحبه ، فكما أعقبت تلك ملكاً عضوضاً ووقائع صماء عمياء ، فكذلك أعقبت هذه جهلاً واختلاطا وشكوكا ووهما ما لهما من أرجاء ، فنشأت بعدهم قرونٌ على التقليد الصرف لا يميزون الحقَّ من الباطل ولا الجدل عن الاستنباط . . . ، فالفقيهُ يومئذٍ : هو الثرثارُ المتشدق الذي حفظ أقوال الفقهاء قويها وضعيفها من غير تمييز،وسردها بشقشقة شدقيه . . . ، والمحدث : من عدَّ الأحاديث صحيحها وسقيمها وهذها كهذه الأسمار بقوة لحييه ، ولا أقول ذلك كليا مطردا فإن للّه طائفةً من عبادة لا يضرهم من خذلهم ، وهم حجة اللّه في أرضه ، وإن قلوا ، ولم يأت قرن بعد ذلك إلا وهو أكثر فتنة وأوفر تقليدا وأشد انتزاعا للأمانة من صدور الرجال حتى اطمأنوا بترك الخوض في أمر الدين وبأن يقولوا : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (22) سورة الزخرف ، وإلى اللّه المشتكى وهو المستعان وبه الثقة وعليه التكلان . "(1/286)
وقال ابن عربي في الفتوحات المكية(1): " اعلم - وفقنا الله وإياك - أيها الولي الحميم والصفيُّ الكريم أنا روينا في هذا الباب عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أصاب من عرضه فجاء إليه يستحله من ذلك فقاله له يا ابن عباس إنني قد نلت منك فاجعلني في حل من ذلك فقال أعوذ بالله أن أحل ما حرم الله إن الله قد حرم أعراض المسلمين فلا أحله، ولكن غفر الله لك، فانظر ما أعجب هذا التصريف وما أحسن العلم ، ومن هذا الباب حلفُ الإنسان على ما أبيح له فعله أن لا يفعله أو يفعله ففرض الله تحلَّة الأيمان وهو من باب الاستدراج والمكر الإلهي، إلا لمن عصمه الله بالتنبيه عليه فما ثم شارع إلا الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} (105) سورة النساء، ولم يقل له " بما رأيت " بل عاتبه سبحانه وتعالى لمَّا حرم على نفسه باليمين في قضية عائشة وحفصه فقال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (1) سورة التحريم ، فكان هذا مما أرته نفسه، فهذا يدلك أن قوله تعالى (بما أراك الله) أنه ما يوحي به إليه لا ما يراه في رأيه، فلو كان الدِّينُ بالرأي لكان رأيُ النبي أولى من رأي كلِّ ذي رأيٍ، فإذا كان هذا حالُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رأته نفسُه فكيف برأي من ليس بمعصومٍ، ومن الخطأُ أقربُ إليه من الإصابة ؟ .
__________
(1) - الفتوحات المكية - (ج 5 / ص 25)- الباب الثامن عشر وثلائمائة في معرفة منزل نسخ الشريعة المحمدية وغير المحمدية بالأعراض النفسية(1/287)
فدلَّ أن الاجتهادَ الذي ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو في طلب الدليل على تعيينِ الحكم في المسألة الواقعةِ ،لا في تشريعِ حكمٍ في النازلةِ، فإن ذلك شرعٌ لم يأذنْ به الله ، ولقد أخبرني القاضي عبد الوهاب الأسدي الإسكندري بمكة المشرفة سنة تسع وتسعين وخمسمائة قال : رأيتُ رجلاً من الصالحين بعد موته في المنام فسألته ما رأيتَ؟ فذكر أشياء منها قال: ولقد رأيت كتباً موضوعةً، وكتباً مرفوعةً فسألت ما هذه الكتب المرفوعةُ؟ فقيل لي : هذه كتبُ الحديث، فقلت : وما هذه الكتبُ الموضوعة؟ فقيل لي : هذه كتبُ الرأي حتى يسأل عنها أصحابُها، فرأيت الأمر فيه شدةٌ .(1/288)
اعلم - وفقنا الله وإياكَ - أنَّ الشريعةَ هي المحجَّةُ الواضحةُ البيضاءُ محجَّةُ السعداءِ وطريقُ السعادةِ، من مشَى عليها نجا ومن تركها هلك، عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطًّا ثُمَّ قَالَ :« هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ثُمَّ خَطَّ خُطُوطاً عَن يَمِينِهِ وَعَن شِمَالِهِ - ثُمَّ قَالَ - هَذِهِ سُبُلٌ - قَالَ يَزِيدُ - مُتَفَرِّقَةٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ». ثُمَّ قَرَأَ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (153) سورة الأنعام.(1/289)
(1)" وأشار إلى تلك الخطوط التي خطَّها عن يمين الخط ويساره " فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ " وأشار إلى الخط المستقيم ، ولقد أخبرني بمدينة " سلا " - مدينة بالمغرب على شاطئ البحر المحيط يقال لها منقطع التراب ليس وراءها أرض - رجلٌ من الصالحين الأكابر من عامة الناس قال: رأيتُ في النوم محجةً بيضاءَ مستويةً عليها نورٌ سهلةٌ، ورأيتُ عن يمين تلك المحجَّة وشمالها خنادقَ وشعاباً وأوديةً كلَّها شوكٌ لا تسلَكُ لضيقها وتوعُّر مسالكِها ، وكثرةِ شوكِها، والظلمةُ التي فيها، ورأيت جميعَ الناس يخبطون فيها خبطَ عشواءَ، ويتركون المحجَّةَ البيضاءَ السهلةَ، وعلى المحجَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونفرٌ قليلٌ معه يسيرُ وهو ينظر إلى مَن خلفَه، وإذا في الجماعة متأخرٌ عنها لكنهُ عليها الشيخُ أبو إسحاق إبراهيمُ بنُ قرقور المحدِّث كان سيداً فاضلاً في الحديث، اجتمعتُ بابنهِ فكان يفهمُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يقول له: نادِ في الناس بالرجوعِ إلى الطريقِ، فكان ابنُ قرقور يرفعُ صوته ويقول في ندائه: ولا من داعٍ ولا من متداعٍ " هلمُّوا إلى الطريق هلمُّوا " قال : فلا يجيبُه أحدٌ، ولا يرجع إلى الطريق أحدٌ .
__________
(1) - مسند أحمد (4225) صحيح(1/290)
" واعلمْ أنه لما غلبتِ الأهواءُ على النفوس، وطلبت العلماءُ المراتبَ عند الملوك تركوا المحجَّة البيضاءَ، وجنحوا إلى التأويلاتِ البعيدةِ لينفذوا أغراض الملوكِ فيما لهم فيه هوى نفس، ليستندوا في ذلك إلى أمرٍ شرعيٍّ مع كون الفقيهِ ربما لا يعتقدُ ذلك ويفتي به ، وقد رأينا منهم جماعةً على هذا من قضاتهم وفقهائهم، ولقد أخبرني الملك الظاهر غازي بن الملك الناصر صلاحِ الدين يوسفَ بنِ أيوبَ - وقد وقع بيني وبينه في مثل هذا كلام - فنادى بملوكٍ، وقال: جئني بالحرمدان(1)؟ فقلت: ما شأنُ الحرمدان؟ قال: أنت تنكرُ عليَّ ما يجري في بلدي ومملكتي من المنكراتِ والظلمِ وأنا واللهِ أعتقدُ مثلَ ما تعتقدُ أنتَ فيه من أن ذلك كلَّه منكرٌ، ولكن والله يا سيدي ما منه منكرٌ إلا بفتيا فقيهٍ وخطِّ يده عندي بجواز ذلك، فعليهم لعنةُ الله، ولقد أفتاني فقيهٌ هو فلانٌ - وعيَّن لي أفضلَ فقيهٍ عنده في بلده في الدِّين والتقشُّف - بأنه لا يجبُ عليَّ صومُ شهرِ رمضانَ هذا بعينه، بل الواجبُ عليَّ شهرٌ في السنَة، والاختيارُ لي فيه، أي شهرِ السَّنَة، قال السلطانُ: فلعنتُه في باطني ولم أظهرْ له ذلك - وهو فلانٌ فسمَّاه لي - رحم الله جمعيهم.
__________
(1) - الحرمدان اسم علم(1/291)
" فليعلم أنَّ الشيطان قد مكَّنه اللهُ من حضرة الخيال، وجعلَ له سلطاناً فيها ، فإذا رأى أن الفقيهَ يميلُ إلى هوًى يعرفُ أنه لا يرْضَى عند الله زيَّنَ له سوءُ عمله بتأويلٍ غريبٍ ، يمهِّدُ له فيه وجهاً يحسِّنُهُ في نظرهِ ويقولُ له : إنَّ الصدرَ الأولَ قد دانوا الله بالرأي، وقاسَ العلماءُ في الأحكام واستنبطوا العلل للأشياءَ فطردوها، وحكموا في المسكوتِ عنه بما حكموا به في المنصوصِ عليه للعلَّة الجامعة بينهما، والعلَّةُ من استنباطه، فإذا مهَّد له هذا السبيل جنحَ إلى نيل هواهُ وشهوتهِ بوجهٍ شرعيٍّ في زعمه، فلا يزالُ هكذا فعلُه في كلِّ مالَهُ أو لسلطانِه فيه هو نفسٌ، ويردُّ الأحاديث النبوية ويقول: لو أن هذا الحديثَ يكون صحيحاً ، وإن كان صحيحاً يقول: لو لم يكنْ له خبرٌ آخرُ يعارضه، وهو ناسخ له، لقال به الشافعيُّ إن كان هذا الفقيهُ شافعياً - أو قال به أبو حنيفة - إن كان الرجلُ حنفيًّا - وهكذا قولُ أتباعِ هؤلاء الأئمةِ كلِّهم ، ويرون أن الحديثَ والأخذ به مضلَّةٌ ، وأنَّ الواجبَ تقليدُ هؤلاءِ الأئمةِ وأمثالِهم فيما حكموا به، وإنْ عارضتْ أقوالُهمُ الأخبارَ النبويةَ، فالأولى الرجوعُ إلى أقاويلِهم وتركُ الأخذ بالأخبارِ والكتابِ والسُّنَّة ، فإنْ قلتَ لهم قد روينا عن الشافعيِّ رحمه الله أنه قال: إذا أتاكم الحديثُ يعارضُ قولي فاضربوا بقولي الحائط وخذوا بالحديث، فإنَّ مذهبي الحديثُ ، وقد روينا عن أبي حنيفة أنه قال لأصحابه: حرامٌ على كلِّ من أفتَى بكلامي ما لم يعرفْ دليلي ، وما روينا شيئاً من هذا عن أبي حنيفة إلا من طريق الحنفيننَ، ولا عن الشافعي إلا من طريق الشافعية ، وكذلك المالكية والحنابلة فإذا ضايقَهم في مجالِ الكلام هربوا وسكنوا ، وقد جرى لنا هذا معهم مراراً بالمغربِ وبالمشرقِ فما منهم أحدٌ على مذهبِ من يزعُمُ أنه على مذهبِه، فقد انتسختِ الشريعةُ بالأهواءِ، وإن كانتِ الأخبارُ الصِّحاحُ(1/292)
موجودةً مسطَّرةً في الكتب الصِّحاح، وكتبُ التواريخَ بالتجريح والتعديل موجودةٌ ، والأسانيدُ محفوظةٌ مصونةٌ من التغيير والتبديل، ولكنْ إذا تركَ العملُ بها واشتغل الناسُ بالرأيِ ودانوا أنفسَهم بفتاوى المتقدِّمين مع معارضةِ الأخبار الصِّحاحِ لها فلا فرقَ بين عدمِها ووجودِها إذا لم يبقَ لها حكمٌ عندهُم، وأيُّ نسخٍ أعظمُ من هذا ؟ .
وإذا قلتَ لأحدهم في ذلك شيئاً يقول لك: هذا هو المذهبُ، وهو واللهِ كاذبٌ، فإن صاحبَ المذهب قال له : إن عارضَ الخبر كلامي فخذْ بالحديث واترك كلامي في الحش، فإن مذهبي الحديثَ، فلو أنصفَ لكان على مذهب الشافعيِّ من تركِ كلام الشافعيِّ للحديثِ المعارضِ، فاللهُ يأخذُ بيدِ الجميعِ "
- - - - - - - - - - - - - - - -
المبحث الثاني
إجماعُ الأمَّة على جواز تقليد الأئمة الأربعة(1)
مما يناسبُ هذا المقام التنبيه على مسائل ضلت في بواديها الأفهامُ ،وزلت الأقدام ،÷وطغت الأقلام منها :
(1)- أنَّ هذه المذاهب الأربعة المدونة قد اجتمعتِ الأمةُ أو من يعتدُّ به منها على جواز تقليدها إلى بومنا هذا .
__________
(1) - حجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 98) فما بعدها(1/293)
وفي ذلك من المصالح ما لا يخفى لا سيما في هذه الأيام التي قصرت فيها الهمم ،وأشربتِ النفوسُ الهوى، وأعجبَ كلُّ ذي رأي برأيه، فما ذهب إليه ابن حزم حيث قال(1): التقليدُ حرامٌ ولا يحلُّ لأحدٍ أن يأخذَ قولَ أحدٍ غيرَ قولِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا برهانِ لقوله تعالى {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (3) سورة الأعراف ، وقوله تعالى :{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَل نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (170) سورة البقرة ،وقال مادحاً من لم يقلد: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (18) سورة الزمر ، وقال الله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء، فلم يبحِ اللهُ تعالى الردَّ عند التنازعِ إلى أحدٍ دون القرآنِ والسُّنَّة ،وحرَّم بذلك الردَّ عند التنازعِ إلى قولِ قائلٍ لأنهُ غيرُ القرآنِ والسُّنَّة، وقد صحَّ إجماعُ الصحابةِ كلِّهم أولِّهم عن آخرِهم وإجماعُ التابعين أولِّهم عن آخرهِم وإجماعُ تابعي التابعينَ إلى آخرهِم على الامتناعِ والمنعِ منْ أنْ يقصدَ منهم أحدٌ إلى قول إنسانٍ منهم أو ممنْ قبلهم فيأخذَهُ كلَّه ، فليعلمْ مَن أخذَ جميعَ أقوالِ أبي حنيفةَ أو جميعَ أقوالِ مالكَ أو جميعَ أقوال الشافعيِّ أو
__________
(1) - الأحكام لابن حزم - (ج 2 / ص 234)(1/294)
جميعَ أقوالِ أحمدَ رضيَ اللهُ عنهم ،ولم يتركْ قولَ من اتبع منهم أو من غيرهِم إلى قول غيرهِ، ولم يعتمدْ على ما جاءَ في القرآنِ والسُّنَّة غيرَ صارفٍ ذلكَ إلى قولِ إنسانٍ بعينهِ أنهُ قد خالفَ إجماع َالأمةٍ كلِّها منْ أولها إلى آخرِها بيقينٍ لا إشكالَ فيهِ، ولا يجدُ لنفسهِ سلفاً ولا إنساناً في جميع الأعصارِ المحمودةِ الثلاثةِ، فقد اتبعَ غيرَ سبيلِ المؤمنينِ ،فنعوذُ باللهِ منْ هذهِ المنزلةِ، وأيضاً فإنَّ هؤلاءِ الفقهاءَ كلَّهُم قدْ نهوا عنْ تقليدِ غيرهِم ،وقدْ خالفهُم مَن قلَّدهم، وأيضاً فما الذي جعلَ رجلاً منْ هؤلاءِ أو من غيرهِم أولى أنْ يقلَّد منْ عمرَ بن الخطابِ أو عليَّ بن أبي طالبٍ أو ابنِ مسعود أو ابنِ عمر َأو ابنِ عباسٍ أو عائشةَ أمِّ المؤمنين رضيَ اللهُ تعالى عنهُم، فلو ساغَ التقليدُ لكانَ كلُّ واحدٍ منْ هؤلاءِ أحقَّ بأنْ يتبعَ منْ غيرهِ انتهى .
إنما يتِمُّ(1)فيمنْ لهُ ضربٌ منَ الاجتهادِ ولو في مسألة واحدةٍ ، وفيمنْ ظهرَ عليه ظهوراً بيناً أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ بكذا ونهَى عنْ كذا، وأنهُ ليسَ بمنسوخٍ، إمَّا بأنْ يتتبعَ الأحاديثَ وأقوالَ المخالفِ والموافقِ في المسألةِ، فلا يجدُ له نسخاً، أو بأنْ يرَى جمعاً غفيراً منَ المتبحرينَ في العلمِ يذهبونَ إليهِ ويرَى المخالفَ لهُ لا يحتجُّ الا بقياسٍ أو استنباطٍ أو نحوِ ذلكَ، فحينئذٍ لا سببَ لمخالفةِ حديثِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلا نفاقٌ خفيٌّ أو حمقٌ جليٌّ .
__________
(1) - يعني يصح ذلك لمن ملك آلة الاجتهاد أو كان قادرا على معرفة الأدلة الشرعية من مصادرها الأصلية، وإلا كان تكليفاً بما لا يطاق ، فلا يمكن أن يكون كلُّ الناس مجتهدين ، ولا أطباء ، ولا مهندسين ، وذلك لأن الله تعالى شاء أن يكونوا مختلفين في طاقاتهم وقدراتهم العقلية والمادية ، فكيف نوجب على الجميع الاجتهاد ؟!!(1/295)
وهذا الذي أشارَ إليه الشيخُ عز الدينِ بنُ عبد السلام حيثُ قالَ(1):" وَمِن الْعَجَبِ الْعَجِيبِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ الْمُقَلِّدِينَ يَقِفُ أَحَدُهُمْ عَلَى ضَعْفِ مَأْخَذِ إمَامِهِ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ لِضَعْفِهِ مَدْفَعًا وَمَعَ هَذَا يُقَلِّدُهُ فِيهِ ، وَيَتْرُكُ مِن الْكِتَابِ والسُّنَّة وَالْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ لِمَذْهَبِهِ جُمُودًا عَلَى تَقْلِيدِ إمَامِهِ ، بَل يَتَحَلَّلُ لِدَفْعِ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ والسُّنَّة ، وَيَتَأَوَّلُهُمَا بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ الْبَاطِلَةِ نِضَالًا عَن مُقَلِّدِهِ ، وَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَجَالِسِ فَإِذَا ذُكِرَ لِأَحَدِهِمْ فِي خِلَافٍ مَا وَظَنَّ نَفْسَهُ عَلَيْهِ تَعَجَّبَ غَايَةَ التَّعَجُّبِ مِن اسْتِرْوَاحٍ إلَى دَلِيلٍ بَل لِمَا أَلِفَه مِن تَقْلِيدِ إمَامِهِ حَتَّى ظَنَّ أَنَّ الْحَقَّ مُنْحَصِرٌ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ أَوْلَى مِن تَعَجُّبِهِ مِن مَذْهَبِ غَيْرِهِ ، فَالْبَحْثُ مَعَ هَؤُلَاءِ ضَائِعٌ مُفْضٍ إلَى التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ مِن غَيْرِ فَائِدَةٍ يُجْدِيهَا ، وَمَا رَأَيْت أَحَدًا رَجَعَ عَن مَذْهَبِ إمَامِهِ إذَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ فِي غَيْرِهِ بَل يَصِيرُ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِضَعْفِهِ وَبُعْدِهِ ، فَالْأَوْلَى تَرْكُ الْبَحْثِ مَعَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إذَا عَجَزَ أَحَدُهُمْ عَن تَمْشِيَةِ مَذْهَبِ إمَامِهِ قَالَ :لَعَلَّ إمَامِي وَقَفَ عَلَى دَلِيلٍ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ وَلَمْ أَهْتَدِ إلَيْهِ ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْمِسْكِينُ أَنَّ هَذَا مُقَابَلٌ بِمِثْلِهِ وَيَفْضُلُ لِخَصْمِهِ مَا ذَكَرَهُ مِن الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ وَالْبُرْهَانِ اللَّائِحِ ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ مَن أَعْمَى التَّقْلِيدُ
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 1 / ص 2) وقواعد الأحكام في مصالح الأنام - (ج 2 / ص 277)(1/296)
بَصَرَهُ حَتَّى حَمَلَهُ عَلَى مِثْلِ مَا ذُكِرَ ، وَفَّقَنَا اللَّهُ لِاتِّبَاعِ الْحَقِّ أَيْنَ مَا كَانَ وَعَلَى لِسَانِ مَن ظَهَرَ ، وَأَيْنَ هَذَا مِن مُنَاظَرَةِ السَّلَفِ وَمُشَاوَرَتِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ وَمُسَارَعَتِهِمْ إلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ إذَا ظَهَرَ عَلَى لِسَانِ الْخَصْمِ ، وَقَدْ نُقِلَ عَن الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : مَا نَاظَرْت أَحَدًا إلَّا قُلْت اللَّهُمَّ أَجْرِ الْحَقَّ عَلَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مَعِي اتَّبَعَنِي وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مَعَهُ اتَّبَعْته ".
وقالَ الإمام أبو شامةَ: ينبغي لمنِ اشتغلَ بالفقهِ أنْ لا يقتصرَ على مذهبِ إمامٍ ويعتقدُ في كلِّ مسألةٍ صحةَ ما كانَ أقربَ إلى الكتابِ والسُّنَّة المحكَمةِ، وذلك سهلٌ عليهِ إذا كانَ أتقنَ العلومَ المتقدمةَ، وليجتنبِ التعصبَ والنظرَ في طرائقِ الخلافِ المتأخرةِ ،فإنها مضيعةٌ للزمانِ ولصفوهِ مكدرةً، فقد صحَّ عنِ الشافعيِّ أنه نهَى عنْ تقليدهِ وتقليدِ غيرهِ .
وقال صاحبه المزني في أول مختصره :" اخْتَصَرَتْ هَذَا مِن عِلْمِ الشَّافِعِيِّ ، وَمِن مَعْنَى قَوْلِهِ ، لِأُقَرِّبَهُ عَلَى مَن أَرَادَهُ ، مَعَ إعْلَامِيَّةِ نَهْيِهِ عَن تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ ،لِيَنْظُرَ فِيهِ لِدِينِهِ وَيَحْتَاطُ فِيهِ لِنَفْسِهِ "(1).
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 13 / ص 161) والقول المفيد في الاجتهاد والتقليد للشوكاني - (ج 1 / ص 27) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 5 / ص 297) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 305) و مجلة المنار - (ج 14 / ص 510)(1/297)
وفيمنْ يكونُ عاميًّا ويقلِّدُ رجلاً منَ الفقهاءِ بعينهِ يرَى أنْ يمتنعَ منْ مثلهِ الخطأُ ،وأنَّ ما قالهُ هو الصوابُ البتةُ، وأضمرَ في قلبهِ ألا يتركَ تقليدَه وإنْ ظهرَ الدليلُ على خلافهِ، وذلك ما رواهُ الترمذيُّ(1)عنْ عدي بن حاتم أنه قال : سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِى سُورَةِ بَرَاءَةَ يعني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - :{اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (31) سورة التوبة ، قَالَ: « أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ » .
وفيمنْ لا يجوزُ أنْ يستفتيَ الحنفيُّ مثلاً فقيهاً شافعيًّا وبالعكسِ، ولا يجوزُ أنْ يقتديَ الحنفيُّ بإمامٍ شافعيٍّ مثلاً، فإنَّ هذا قدْ خالفَ إجماعَ القرونِ الأولى، وناقضَ الصحابةَ والتابعينَ.
وليس محلُّه فيمنْ لا يدينُ إلا بقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،ولا يعتقدُ حلالاً إلا ما أحلَّهُ اللهُ ورسولهُ، ولا حراماً إلا ما حرَّمَهُ اللهُ ورسولهُ .
__________
(1) - برقم( 3378 ) ومصنف ابن أبي شيبة برقم( 34930) ومصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل - (ج 13 / ص 245) برقم(34930 ) وتفسير ابن أبي حاتم برقم (10291 و10292 ) والسنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 10 / ص 116) برقم(20847) وهو صحيح لغيره
وانظر مجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 98) ومجموع الفتاوى - (ج 20 / ص 216) ومجموع الفتاوى - (ج 20 / ص 289)(1/298)
لكنْ لمَّا لم يكنْ لهُ علمٌ بما قالهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،ولا بطريقِ الجمعِ بينَ المختلفاتِ من كلامِه ولا بطريقِ الاستنباطِ منْ كلامِه اتَّبعَ عالماً راشداً على أنهُ مصيبٌ فيما يقولُ ويُفتي ظاهراً متبعَ سنَّةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنْ خالفَ ما يظنُّه أقلعَ منْ ساعتِه منْ غيرِ جدالٍ ولا إصرارٍ، فهذا كيفَ ينكرهُ أحدٌ ؟!
مع أنَّ الاستفتاءَ والإفتاءَ لم يزلْ بينَ المسلمينَ منْ عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
ولا فرقَ بينَ أنْ يستفتيَ هذا دائماً أو أنْ يستفتيَ هذا حيناً، وذلك حيناً، بعدَ أنْ يكونَ مجمعاً على ما ذكرناهُ، كيف لا ولمْ نؤمنْ بفقيهٍ أيًّا كانَ أنهُ أوحَى اللهُ إليهِ الفقهِ، وفرضَ علينا طاعتَهُ وأنهُ معصومٌ، فإنِ اقتدينا بواحدٍ منهم فذلكَ لعلمِنا بأنهُ عالمٌ بكتابِ اللهِ وسنَّة ِرسولهِ ( - صلى الله عليه وسلم - )، فلا يخلو قولُه إمَّا أنْ يكونَ منْ صريحِ الكتابِ والسُّنَّة أو مستنبطاً منهُما بنحوٍ منِ الاستنباطِ، أو عرفَ بالقرائنَ أنَّ الحكمَ في صورةٍ ما منوطٌ بعلَّةِ كذا ،واطمأنَّ قلبُه بتلكَ المعرفةِ فقاسَ غيرَ المنصوصِ على المنصوصِ، فكأنهُ يقولُ: ظننتُ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ كلَّما وجدتَ هذهِ العلَّةَ فالحكمُ ثمَّةَ هكذا ، والمقيسُ مندرجٌ في هذا العمومِ، فهذا أيضا معزيٌّ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ولكنْ في طريقهِ ظنونٌ، ولولا ذلك ما قلَّدَ مؤمنٌ مجتهداً، فإنْ بلغَنا حديثاً منْ رسولِ اللِه المعصومِ - صلى الله عليه وسلم - الذي فُرضَ علينا طاعتُه بسندٍ صالحٍ يدلُّ على خلافِ مذهبهِ، وتركنا حديثَهُ واتبعنا ذلكَ التخمينَ فمنْ أظلمُ منَّا ؟!! وما عذرُنا يومَ يقومُ الناسُ لربِّ العالمينَ؟!
(2)- ومنها أنَّ تتبعَ الكتابُ والآثارُ لمعرفةِ الأحكامِ الشرعيةِ على مراتبَ:(1/299)
أعلاها أنْ يحصلَ له منْ معرفةِ الأحكام ِ بالفعلِ أو بالقوةِ القريبةِ منَ الفعلِ ما يتمكنُ بهِ منْ جوابِ المستفتينَ في الوقائعَ غالباً، بحيثُ يكونُ جوابهُ أكثرَ مما يتوقفُ فيهِ وتخصُّ باسمِ الاجتهادِ .
وهذا الاستعدادُ يحصلُ تارةً بالإمعانِ في جمعِ الرواياتِ وتتبعِ الشاذةِ والفاذَّةِ(1)منها كما أشارَ إليهِ أحمدُ بنُ حنبلٍ معَ ما لا ينفكُّ منهُ العاقلُ العارفُ باللغةِ منْ معرفةِ مواقعِ الكلامِ وصاحبَ العلمَ بآثارِ السلف منْ طريقِ الجمعِ بينَ المختلفاتِ، وترتيب ِالاستدلالاتِ ونحو ذلك .
وتارةً بإحكامِ طرقِ التخريجِ على مذهبِ شيخٍ منْ مشايخِ الفقهِ مع معرفةِ جملةٍ صالحةٍ منَ السُّننِ والآثارِ بحيثُ يعلمُ أنَّ قولهُ لا يخالفُ الإجماعَ، وهذه طريقةُ أصحابِ التخريجِ .
__________
(1) - الفَاذَّةُ " أَي المُنْفَرِدَة في مَعنَاهَا وكَلِمَةٌ فَذَّةٌ تاج العروس - (ج 1 / ص 2413) وفي لسان العرب - (ج 3 / ص 502): الفَاذَّة أَي المنفردة في معناها والفذُّ الواحد وقد فذ الرجل عن أَصحابه إِذا شذَّ عنهم وبقي فرداً(1/300)
وأوسطُها منْ كلتا الطريقتينِ أنْ يحصلَ له منْ معرفةِ القرآنِ والسُّننِ ما يتمكَّنُ بهِ منْ معرفةِ رؤوسِ مسائلِ الفقهِ المجمعِ عليها بأدلتِها التفصيليةِ، ويحصلُ له غايةَ العلمِ ببعضِ المسائل الاجتهاديةِ منْ أدلتِها ،وترجيحِ بعضِ الأقوال على بعضٍ، ونقدِ التخريجاتِ ومعرفةِ الجيدِ منَ الزيفِ، وإنْ لم يتكاملْ لهُ الأدواتُ كما يتكاملُ للمجتهدِ المطلَقِ فيجوزُ لمثلهِ أنْ يلفِّقَ منَ المذهبينِ إذا عرفَ دليلَهُما، وعلِمَ أنَّ قولَهُ مما لا ينفذُ فيهِ اجتهادُ المجتهدِ، ولا يقبلُ فيه قضاءُ القاضي ،ولا يجري فيه فتوَى المفتينَ أنْ يتركَ بعضَ التخريجاتِ التي سبق الناسُ إليها إذا عرفَ عدمَ صحَّتِها ، ولهذا لم يزلِ العلماءُ ممنْ لا يدَّعي الاجتهادَ المطلقَ يصنِّفونَ ويرتبونَ ويخرِّجونَ ويرجِّحونَ، وإذا كانَ الاجتهادُ يتجزأُ عندَ الجمهورِ والتخريجُ يتجزأُ، وإنما المقصودُ تحصيلُ الظنِّ وعليهِ مدارُ التكليفِ، فما الذي يستبعدُ منْ ذلك َ ؟.
وأمَّا دونَ ذلك منَ الناسِ فمذهبُه فيما يردُ عليه كثيراً ما أخذَهُ عنْ أصحابِه وآبائهِ وأهلِ بلدهِ منَ المذاهبِ المتبعةِ، وفي الوقائعَ النادرةٍ فتاوَى مفتيةٌ، وفي القضايا ما يحكُمُ القاضي .(1/301)
وعلى هذا وجدنا محققي العلماءِ منْ كلِّ مذهبٍ قديماً وحديثاً، وهو الذي وصَّى به أئمةُ المذاهبِ أصحابَهُم، وفي اليواقيتِ والجواهرِ أنهُ روي عن أبي حنيفةَ رضيَ اللهُ عنهُ أنهُ كانَ يقولُ(1): لا ينبغي لمنْ لم يعرفْ دليلي أنْ يفتيَ بكلامي، وكانَ رضيَ اللهُ عنه إذا أفتَى يقولُ: هذا رأيُ النعمانَ بنِ ثابتٍ يعني نفسَه وهو أحسنُ ما قدرِنا عليهِ فمن جاء بأحسن منه فهو أولى بالصوابِ(2).
وكانَ الإمامُ مالكٌ رضيَ اللهُ عنهُ يقولُ: ما منْ أحدٍ إلا وهوَ مأخوذٌ منْ كلامهِ ومردودٌ عليهِ إلا رسول اللهُ - صلى الله عليه وسلم - (3).
__________
(1) - الجامع الصغير - (ج 1 / ص 7) و فتاوى يسألونك - (ج 1 / ص 171) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 4646)
(2) - التقليد والإفتاء والاستفتاء - (ج 1 / ص 21) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 4 / ص 28) وفقه العبادات - حنفي - (ج 1 / ص 9) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 96)
(3) - قلت : لم أعثر عليه في مصدر من مصادر المالكية بهذا اللفظ ، وهو موجود في لقاءات الباب المفتوح - (ج 66 / ص 6) وفتاوى يسألونك - (ج 2 / ص 207) وفتاوى الشيخ ابن جبرين - (ج 63 / ص 253) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 1 / ص 223) و (ج 3 / ص 52) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 846) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 2263) وفتاوى نور على الدرب - (ج 1 / ص 25) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 4 / ص 93) وج 6 / ص 234) و (ج 13 / ص 52) وسير أعلام النبلاء - (ج 8 / ص 93) و (ج 10 / ص 73) و (ج 3 / ص 372)(1/302)
وروى الحاكمُ والبيهقيُّ عنِ الشافعيِّ رضي اللهُ عنهُ أنهُ كانَ يقولُ: إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي(1)،
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 175) وفتاوى الرملي - (ج 6 / ص 277) والفتاوى الفقهية الكبرى - (ج 3 / ص 340) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 3) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 3630) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 5 / ص 170) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 5 / ص 202) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4443) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 35) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 1 / ص 220) وحاشية رد المحتار - (ج 1 / ص 72) وفتح القدير - (ج 12 / ص 166) ورد المحتار - (ج 1 / ص 166) ومواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل - (ج 3 / ص 204) والذخيرة في الفقه المالكي للقرافي - (ج 1 / ص 128) والمجموع - (ج 1 / ص 92) وشرح البهجة الوردية - (ج 5 / ص 156) وحاشيتا قليوبي - وعميرة - (ج 13 / ص 406) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 1 / ص 219) ومغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج - (ج 1 / ص 49) ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج - (ج 1 / ص 127) وكتاب الإبهاج في شرح المنهاج - (ج 2 / ص 468) والتقليد والإفتاء والاستفتاء - (ج 1 / ص 5) وسير أعلام النبلاء - (ج 10 / ص 35)
قلت : وقد أخطأ كثير من الناس في فهم هذه القاعدة الذهبية التي اتفق عليها الفقهاء : بالرغم أنه قول صحيح ، ولكن ليس على إطلاقه. فلا بدَّ أنْ تتوفر فيه الشروطَ التي وضعها ذلك الإمامُ لقبولِ الأخبارِ ، وأنه غيرُ منسوخٍ عنده ، أو غيرُ معارضٍ لما هو أقوَى منه .وما منْ إمامٍ إلا وتركَ أحاديثَ صحيحةً لم يعملْ بها للأسبابِ التي أشار إليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، كترك الإمام مالك بعض الأحاديث الصحيحة التي رواها في الموطأ لمخالفتها لعمل أهل المدينة مثلاً .أو تركِ بعض الفقهاءِ لحديثٍ صحيحٍ عمل َراويهِ بخلافِه ...(1/303)
وفي روايةٍ : إذا رأيتُمْ كلامي يخالفُ الحديثَ فاعملوا بالحديثِ واضربوا بكلامي الحائطَ(1)، وقال يوماً للمزني: يا أبا إبراهيمُ لا تقلدني في كلِّ ما أقولُ وانظرْ في ذلكَ لنفسكَ فإنهُ دينٌ(2)، وكانَ رضي اللهُ عنه يقولُ: لا حجةَ في قولِ أحدٍ دونَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (3)،وإنْ كثُروا ولا في قياسٍ ولا في شيءٍ، وما ثَمَّ الا طاعةُ اللهِ ورسولهِ بالتسليمِ(4).
__________
(1) - لم أجده بهذا اللفظ
(2) - لم أجده بها الفظ
(3) - ذكره ابن حزم من قوله في المحلى في سبعة عشر موضعا انظر مثلا : المحلى - (ج 1 / ص 477) و (ج 2 / ص 742) و (ج 3 / ص 492) و (ج 4 / ص 688) و(ج 5 / ص 635)
(4) - لم أجده بهذا اللفظ(1/304)
وكان الإمامُ أحمدُ رضي الله عنه يقولُ: ليسَ لأحدٍ معَ اللهِ ورسولهِ كلامٌ،(1)وقال أيضاً لرجلٍ(2):" لَا تُقَلِّدْنِي وَلَا تُقَلِّدْ مَالِكًا وَلَا الثَّوْرِيَّ وَلَا الْأَوْزَاعِيَّ , وَخُذْ مِن حَيْثُ أَخَذُوا ."- يعني - منَ الكتابِ والسُّنَّة ،لا ينبغي لأحدٍ أنْ يفتيَ إلا أنْ يعرفَ أقاويلَ العلماءِ في الفتاوَى الشرعيةِ ويعرفَ مذهَبهم، فإنْ سئلَ عنْ مسألةٍ يعلمُ أنَّ العلماءَ الذين يتخذُ مذهبَهم قدِ اتفقوا عليها فلا بأسَ بأنْ يقول َ :هذا جائزٌ وهذا لا يجوزُ، ويكون قولهُ على سبيلِ الحكايةِ ،وانْ كانتْ مسألةٌ قدِ اختلفوا فيها فلا بأسَ بأنْ يقولَ هذا جائز ٌفي قولِ فلانٍ وفي قولِ فلانٍ لا يجوزُ، وليس له أنْ يختارَ فيجيبَ بقولِ بعضهِم ما لم يعرفْ حجَّتَه .
وعن أبي يوسفَ وزفرَ وغيرهِما رحمهُم اللهُ أنهم قالوا(3): لا يحلُّ لأحدٍ أنْ يفتيَ بقولنا ما لم يعلمْ منْ أينَ قلنا .
وقيلَ لعصامَ بنِ يوسفَ رحمَه اللهُ إنكَ تكثرُ الخلافَ لأبي حنيفةَ رحمَه اللهُ، قالَ: لأنَّ أبا حنيفةَ رحمَه اللهُ أوتيَ منَ الفهمِ لِما لمْ نؤتَ فأدركَ بفهمِه ما لم ندركْ، ولا يسعُنا أنْ نفتيَ بقولِه ما لمْ نفهمْ
__________
(1) - لم أجده بهذا اللفظ
(2) - الفتاوى الكبرى - (ج 7 / ص 212) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 1 / ص 224) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 3) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4679) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 5 / ص 297) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 5 / ص 317) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 306) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 197)
(3) - البحر الرائق شرح كنز الدقائق - (ج 13 / ص 300) و (ج 17 / ص 360) و (ج 17 / ص 362) وتيسير التحرير - (ج 4 / ص 363) وفواتح الرحموت - (ج 2 / ص 364)(1/305)
وعن محمدِ بنِ الحسنِ أنهُ سئلَ متَى يحلُّ للرجلِ أنْ يفتيَ؟ قالَ: إنْ كانَ منْ أهل ِالاجتهادِ فلا يسعُه ،قيلَ : كيفَ يكونُ منْ أهلِ الاجتهادِ؟ قالَ: أنْ يعرفَ وجوهَ المسائلِ ويناظرَ أقرانَه إذا خالفوهُ، قيلَ أدنى الشروط للاجتهاد: حفظُ المبسوطِ(1).
وفي البحر الرائقِ(2)"قَالَ الْإِمَامُ أَبُو اللَّيْثِ فِي نَوَازِلِهِ سُئِلَ أَبُو نَصْرٍ عَن مَسْأَلَةٍ وَرَدَتْ عَلَيْهِ مَا تَقُلْ رَحِمَك اللَّهُ وَقَعَتْ عِنْدَك كُتُبٌ أَرْبَعَةٌ كِتَابُ إبْرَاهِيمَ بْنِ رُسْتُمَ وَأَدَبِ الْقَاضِي عَن الْخَصَّافِ وَكِتَابُ الْمُجَرَّدِ وَكِتَابُ النَّوَادِرِ مِن جِهَةِ هِشَامٍ فَهَلْ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُفْتِيَ مِنهَا أَوْ لَا وَهَذِهِ الْكُتُبُ مَحْمُودَةٌ عِنْدَك فَقَالَ مَا صَحَّ عَن أَصْحَابِنَا فَذَلِكَ عِلْمٌ مَحْبُوبٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ مَرَضِيٌّ بِهِ .
وَأَمَّا الْفُتْيَا ، فَإِنِّي لَا أَرَى لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ بِشَيْءٍ لَا يَفْهَمُهُ وَلَا يَتَحَمَّلُ أَثْقَالَ النَّاسِ ، فَإِنْ كَانَتْ مَسَائِلَ قَدْ اُشْتُهِرَتْ وَظَهَرَتْ وَانْجَلَتْ عَن أَصْحَابِنَا رَجَوْت أَنْ يَسَعَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا فِي النَّوَازِلِ ".
__________
(1) - انظر تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق - (ج 12 / ص 57)
(2) - البحر الرائق شرح كنز الدقائق - (ج 1 / ص 286)(1/306)
وفيه أيضاً(1):لَوْ احْتَجَمَ أَوْ اغْتَابَ فَظَنَّ أَنَّهُ يُفَطِّرُهُ ثُمَّ أَكَلَ إنْ لَمْ يَسْتَفْتِ فَقِيهًا وَلَا بَلَغَهُ الْخَبَرُ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ جَهْلٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِعُذْرٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ إذَا كَانَ يَعْتَمِدُ عَلَى فَتْوَاهُ فَكَانَ مَعْذُورًا فِيمَا صَنَعَ وَإِنْ كَانَ الْمُفْتِي مُخْطِئًا فِيمَا أَفْتَى وَإِنْ لَمْ يَسْتَفْتِ وَلَكِنْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ :{ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - { الْغِيبَةُ تُفْطِرُ الصَّائِمَ } وَلَمْ يَعْرِفْ النَّسْخَ وَلَا تَأْوِيلَهُ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَاجِبُ الْعَمَلِ بِهِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِّيِّ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنسُوخِ وَلَوْ لَمَسَ امْرَأَةً أَوْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ اكْتَحَلَ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفَطِّرُهُ ثُمَّ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا اسْتَفْتَى فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ بِالْفِطْرِ أَوْ بَلَغَهُ خَبَرٌ فِيهِ وَلَوْ نَوَى الصَّوْمَ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ أَفْطَرَ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا كَذَا فِي الْمُحِيطِ وَقَدْ عُلِمَ مِن هَذَا أَنَّ مَذْهَبَ الْعَامِّيِّ فَتْوَى مُفْتِيهِ مِن غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمَذْهَبٍ وَلِهَذَا قَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ فَتْوَى مُفْتِيهِ .
__________
(1) - البحر الرائق شرح كنز الدقائق - (ج 6 / ص 271)(1/307)
وفيه أيضاً في بابِ قضاءِ الفوائت(1): إِنْ كَانَ عَامِّيًّا لَيْسَ لَهُ مَذْهَبٌ مُعَيَّنٌ فَمَذْهَبُهُ فَتْوَى مُفْتِيهِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَإِنْ أَفْتَاهُ حَنَفِيٌّ أَعَادَ الْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ، وَإِنْ أَفْتَاهُ شَافِعِيٌّ فَلَا يُعِيدُهُمَا وَلَا عِبْرَةَ بِرَأْيِهِ ،وَإِنْ لَمْ يَسْتَفْتِ أَحَدًا وَصَادَفَ الصِّحَّةَ عَلَى مَذْهَبٍ مُجْتَهِدٍ أَجْزَأَهُ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ .
قال ابن الصلاح من وجد من الشافعية حديثا يخالف مذهبه نظر، وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ(2): إنْ كَانَ فِيهِ آلَاتُ الِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا ، أَوْ فِي ذَلِكَ الْبَابِ ، أَوْ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ ، كَانَ لَهُ الِاسْتِقْلَالُ بِالْعَمَلِ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ ، وَإِنْ لَمْ تَكْتَمِلُ آلَتُهُ ، وَوَجَدَ فِي قَلْبِهِ حَزَازَةً مِن الْحَدِيثِ ، وَلَمْ يَجِدْ لَهُ مُعَارِضًا بَعْدَ الْبَحْثِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ إمَامٌ مُسْتَقِلٌّ فَلَهُ التَّمَذْهُبُ بِهِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي تَرْكِ قَوْلِ إمَامِهِ ، وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ إنَّمَا يَكُونُ هَذَا لِمَن لَهُ رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَذْهَبِ ، أَوْ قَرِيبٌ مِنهُ ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ ، أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَقِفْ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ صِحَّتَهُ ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مُطَالَعَةِ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ كُلِّهَا ، وَنَحْوِهَا مِن كُتُبِ أَصْحَابِ الْآخِذِينَ عَنهُ ، وَهَذَا شَرْطٌ صَعْبٌ ، قَلَّ مَن يَتَّصِفُ بِهِ .
__________
(1) - البحر الرائق شرح كنز الدقائق - (ج 4 / ص 387)
(2) - المدخل إلى مذهب الإمام أحمد - الرقمية - (ج 1 / ص 63) والمسودة - الرقمية - (ج 1 / ص 536) وفتاوى ابن الصلاح - (ج 1 / ص 25) والمجموع - (ج 1 / ص 64) والبحر المحيط - (ج 8 / ص 222)(1/308)
وَقَالَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ : إنْ كَانَتْ لَهُ قُوَّةٌ لِلِاسْتِنْبَاطِ ، لِمَعْرِفَتِهِ بِالْقَوَاعِدِ ، وَكَيْفِيَّةِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِن الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِالْمَنقُولِ ، بِحَيْثُ عَرَفَ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ مِن إجْمَاعٍ أَوْ اخْتِلَافٍ ، وَجَمَعَ الْأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا ، وَالْأَدِلَّةَ ، وَرُجْحَانَ الْعَمَلِ بِبَعْضِهَا ، فَهَذَا هُوَ الْمُجْتَهِدُ فِي الْجُزْئِيِّ ، وَالْمُتَّجَهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمَا قَامَ عِنْدَهُ عَلَى الدَّلِيلِ ، وَلَا يُسَوَّغُ لَهُ التَّقْلِيدُ" .
(3) – كثير من مسائل الخلاف بين الفقهاء هو في الترجيح بين الأقوال(1/309)
ومنها أنَّ أكثر صورِ الخلاف بين الفقهاءِ لا سيما في المسائل التي ظهرَ فيها أقوالُ الصحابةِ في الجانبينِ - كتكبيرات التشريقِ(1)وتكبيراتِ العيدينِ(2)ونكاحِ المحرم(3)وتشهدِ ابن عباسِ(4)وابن مسعودِ(5)والإخفاءِ بالبسملة(6)
__________
(1) - الفتاوى الهندية - (ج 3 / ص 185) الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 10 / ص 270)
(2) - انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 8083) والفتاوى الهندية - (ج 4 / ص 124) والفتاوى الهندية - (ج 4 / ص 357) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 2 / ص 269)
(3) - موطأ مالك - (ج 2 / ص 430) برقم(5 ) وصحيح البخارى برقم(5114 ) وصحيح مسلم برقم(3512) وسنن النسائى برقم(3284 و3288 ) وشرح معاني الآثار - (ج 3 / ص 349) بَابُ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ ومشكل الآثار للطحاوي - (ج 12 / ص 499) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 9 / ص 71)
(4) - مجموع الفتاوى - (ج 22 / ص 286) والفتاوى الكبرى - (ج 2 / ص 258) وفتاوى يسألونك - (ج 7 / ص 16) صفة التشهد في الصلاة ، وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 6087)
(5) - شرح معاني الآثار - (ج 1 / ص 456) ومشكل الآثار للطحاوي - (ج 8 / ص 294) ومجموع الفتاوى - (ج 22 / ص 69) و (ج 22 / ص 285) و (ج 22 / ص 286) و (ج 22 / ص 480) و (ج 27 / ص 398) والفتاوى الهندية - (ج 3 / ص 67) وفتاوى يسألونك - (ج 7 / ص 16-24) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1086) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 3831) و (ج 2 / ص 4179)
(6) - صحيح ابن حبان - (ج 5 / ص 100) برقم(1797و 1798) ومجموع الفتاوى - (ج 13 / ص 354) و (ج 20 / ص 198) و (ج 22 / ص 264) و (ج 22 / ص 269) و (ج 22 / ص 344) و (ج 22 / ص 366) و (ج 22 / ص 369) و (ج 22 / ص 371) و (ج 22 / ص 423) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 8 / ص 415) والمنتقى من فتاوى الفوزان - (ج 80 / ص 4) وفتاوى الشيخ ابن جبرين - (ج 10 / ص 3) و مجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 11 / ص 71) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 5 / ص 373) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 2348) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 2 / ص 26)(1/310)
ِوبآمينَ(1)والإشفاعِ والإيتار في الإقامة(2)ونحو ذلك- إنما هو في ترجيحِ أحدِ القولينِ .
__________
(1) - سنن ابن ماجه برقم(900 ) وصحيح ابن حبان - (ج 5 / ص 111) برقم( 1806 ) وصحيح ابن خزيمة برقم(546 ) وهو صحيح والأوسط لابن المنذر - (ج 4 / ص 280) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 8 / ص 473) و (ج 7 / ص 93) و فتاوى الأزهر - (ج 8 / ص 462)
(2) - مجموع الفتاوى - (ج 22 / ص 70) و (ج 22 / ص 254) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 10 / ص 249) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 3108)(1/311)
وكانَ السلفُ لا يختلفونَ في أصلِ المشروعيةِ، وإنما كانَ خلافهُم في أولى الأمرينِ، ونظيرهُ اختلافُ القراءِ في وجوهِ القراءاتِ(1)وقد عللوا كثيراً منْ هذا البابِ بأنَّ الصحابةَ مختلفونُ وأنهمُ جميعاً على الهدَى(2)،ولذلك لم يزلِ العلماءُ يجوِّزون فتاوَى المفتينَ في المسائلِ الاجتهاديةِ ويسلِّمون قضاءَ القضاةِ ، ويعملونَ في بعض الأحيانِ بخلافِ مذهبهِم ولا ترَى أئمةَ المذاهبِ في هذهِ المواضعَ إَّلا وهم يصحِّحونَ القولَ ويبينونَ الخلافَ يقولُ أحدهُم: هذا أحوطُ(3)وهذا هو المختارُ(4)
__________
(1) - مشكل الآثار للطحاوي - (ج 11 / ص 45) وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر برقم(967 ) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 3396) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 733)
(2) - ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين - (ج 1 / ص 100) برقم(80 ) ومجموع الفتاوى - (ج 13 / ص 343) والفتاوى الهندية - (ج 24 / ص 355) وفتاوى يسألونك - (ج 6 / ص 294) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 4560) و(ج 3 / ص 794) و (ج 4 / ص 6507) و (ج 6 / ص 5258) و (ج 8 / ص 3859) و (ج 10 / ص 2178)
(3) - انظر الفتاوى الهندية - (ج 3 / ص 468) والفتاوى الهندية - (ج 50 / ص 176) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 50 / ص 11) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 10 / ص 268) و فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 5423)وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 4799) وفتاوى الشيخ ابن جبرين - (ج 48 / ص 13) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 4 / ص 386) وشرح النيل وشفاء العليل - إباضية - (ج 6 / ص 329) وحلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء - (ج 2 / ص 83) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 6 / ص 56) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 34 / ص 255)
(4) - انظر على سبيل المثال : فتاوى الأزهر - (ج 5 / ص 486) والفتاوى الهندية - (ج 11 / ص 152) و (ج 16 / ص 84) وتنقيح الفتاوى الحامدية - (ج 7 / ص 291) ومجموع فتاوى ومقالات ابن باز - (ج 6 / ص 387) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1329) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 1097) وفتاوى إسلامية - (ج 1 / ص 474) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 5 / ص 10) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 9 / ص 221) وطرح التثريب - (ج 2 / ص 144) والفقه على المذاهب الأربعة - (ج 1 / ص 595) والفقه على المذاهب الأربعة - (ج 2 / ص 52) والفقه الإسلامي وأصوله - (ج 2 / ص 151) والأحكام للآمدي - (ج 1 / ص 256) و (ج 2 / ص 26) و (ج 3 / ص 21) وج 3 / ص 202) و (ج 4 / ص 76) والمحصول - (ج 2 / ص 151) والمنخول - (ج 1 / ص 124) والمستصفى - (ج 2 / ص 181) وقواعد الأحكام في مصالح الأنام - (ج 1 / ص 306) و (ج 2 / ص 323) وكشف الأسرار - (ج 3 / ص 358)والبحر المحيط - (ج 3 / ص 173) و (ج 4 / ص 340) و (ج 7 / ص 233) والتقرير والتحبير - (ج 2 / ص 379) و(ج 3 / ص 75) وشرح الكوكب المنير - (ج 1 / ص 145) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 3 / ص 215) وإرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول - (ج 2 / ص 60) وقواطع الأدلة فى الأصول / للسمعانى - (ج 1 / ص 235) وفواتح الرحموت - (ج 1 / ص 307) والبرهان في أصول الفقه - الرقمية - (ج 1 / ص 75)(1/312)
وهذا أحبُّ إليَّ(1)، ويقولُ : ما بلغنا إلا ذلكَ، وهذا كثير ٌفي المبسوطِ وآثار محمدٍ رحمه الله وكلامِ الشافعيِّ رحمهُ اللهُ .ثمَّ خلَفَ منْ بعدهِم خلفٌ اختصروا كلامَ القومِ فتأوَّلوا الخلافَ، وثبتوا على مختارِ أئمتهِم ،والذي يروَى عنِ السلفِ منَ تأكيدِ الأخذِ بمذهبِ أصحابهِم ،وألا يخرجَ عنها بحالٍ، فإنَّ ذلكَ إمَّا لأمرٍ جبليٍّ فإنَّ كلَّ إنسانٍ يحبُّ ما هو مختارُ أصحابهِ وقومهِ حتَى في الزيِّ والمطاعمِ، أو لصولةٍ ناشئةٍ منْ ملاحظةِ الدليلِ ،أو لنحو ذلكَ منَ الأسبابِ فظنَّهُ البعضُ تعصباً دينيًّا حاشاهُم منْ ذلكَ .
__________
(1) - انظر : فتاوى الأزهر - (ج 7 / ص 368) و (ج 10 / ص 106) و (ج 10 / ص 287) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 4366) و (ج 3 / ص 4349) و (ج 10 / ص 3367) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 420) والتشريع الجنائي في الإسلام - (ج 4 / ص 52) والروضة الندية - (ج 2 / ص 70) ومشكل الآثار - (ج 3 / ص 439) والتقرير والتحبير - (ج 3 / ص 340) وتيسير التحرير - (ج 2 / ص 331)(1/313)
وقد كانَ في الصحابةِ والتابعينَ ومنْ بعدهُم منْ يقرأُ البسملةَ، ومنهُم منْ لا يقرؤها(1)،ومنهم من يجهرُ بها ومنهم منْ لا يجهر ُبها ،وكان منهم مَن يقنتُ في الفجرِ ومنهم منْ لا يقنتُ في الفجرِ(2)،ومنهم منْ يتوضأُ منَ الحجامةِ والرعافِ والقيءِ ومنهم منْ لا يتوضأُ من ذلكَ(3)، ومنهم منْ يتوضأُ من مسِّ الذكَرِ ومسِّ النساءِ بشهوة ٍومنهم منْ لا يتوضأُ منْ ذلك(4)، ومنهم منْ يتوضأُ مما مستْهُ النارُ ومنهم منْ لا يتوضأُ منْ ذلكَ(5)،
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى - (ج 22 / ص 279) و (ج 23 / ص 374) وفتاوى يسألونك - (ج 4 / ص 26) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 2348) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 5790) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 7 / ص 37) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 2 / ص 22) والفقه الإسلامي وأصوله - (ج 1 / ص 418) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 8 / ص 65) وحاشية البجيرمي على الخطيب - (ج 4 / ص 219) والفروع لابن مفلح - (ج 2 / ص 121)
(2) - سنن الترمذى برقم(403 ) ومصنف عبد الرزاق مشكل - (ج 2 / ص 453)برقم(4946-4980) ومصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل - (ج 3 / ص 78) برقم(6943-7031) وتهذيب الآثار للطبري - (ج 6 / ص 67) برقم(2579-2747 ) وشرح معاني الآثار - (ج 1 / ص 414-426) وفتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 5) و مجموع الفتاوى - (ج 7 / ص 572) وج 22 / ص 267) و (ج 22 / ص 372) و(ج 23 / ص 374)
(3) - مجموع الفتاوى - (ج 23 / ص 375) وفتاوى يسألونك - (ج 4 / ص 26) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 4133)
(4) - مجموع الفتاوى - (ج 20 / ص 524) و (ج 23 / ص 375) وفتاوى يسألونك - (ج 6 / ص 298) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 4133) و (ج 8 / ص 5790) ومجموع رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية - (ج 44 / ص 10) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 41)
(5) - فتاوى يسألونك - (ج 6 / ص 298) و من أصول الفقه على منهج أهل الحديث الرقمية - (ج 1 / ص 54) وحجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 101)(1/314)
ومنهم منْ يتوضأُ منْ أكلِ لحمِ الإبلِ(1)ومنهم منْ لا يتوضأُ منْ ذلكَ .
وَمَعَ هَذَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُصَلِّي خَلْفَ بَعْضٍ(2): مِثْلَ مَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ يُصَلُّونَ خَلْفَ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِن الْمَالِكِيَّةِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَقْرَءُونَ الْبَسْمَلَةَ لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا وَصَلَّى أَبُو يُوسُفَ خَلْفَ الرَّشِيدِ وَقَدْ احْتَجَمَ وَأَفْتَاهُ مَالِكٌ بِأَنَّهُ لَا يَتَوَضَّأُ فَصَلَّى خَلْفَهُ أَبُو يُوسُفَ وَلَمْ يُعِدْ . وَكَانَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ يَرَى الْوُضُوءَ مِن الْحِجَامَةِ وَالرُّعَافِ فَقِيلَ لَهُ : فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ خَرَجَ مِنهُ الدَّمُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ . تُصَلِّي خَلْفَهُ ؟ فَقَالَ : كَيْفَ لَا أُصَلِّي خَلْفَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٍ(3).
ورويَ أنَّ أبا يوسف ومحمد كانا يكبرانِ في العيدين تكبيرَ ابن عباسٍ لأنَّ هارونَ الرشيدَ كانَ يحبُّ تكبيرَ جدِّه(4).
وصلَّى الشافعيُّ رحمهُ اللهُ الصبحَ قريباً من~ مقبرةِ أبي حنيفة َرحمهُ اللهُ فلمْ يقنتْ تأدباً معهُ وقال أيضاً: رُبما انحدرنا إلى مذهبِ أهلِ العراقِ(5).
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 23 / ص 375) وفتاوى يسألونك - (ج 4 / ص 27) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 4133) و (ج 8 / ص 5790)
(2) - الفتاوى الكبرى - (ج 3 / ص 62) وفتاوى يسألونك - (ج 4 / ص 27) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 4133) و (ج 8 / ص 5790) وحجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 101)
(3) - مجموع الفتاوى - (ج 23 / ص 375) و حجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 101)
(4) - يسألونك فتاوى - (ج 2 / ص 122) ويسألونك فتاوى - (ج 3 / ص 362) وحجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 101)
(5) - يسألونك فتاوى - (ج 2 / ص 122) وحجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 101)(1/315)
وقال مالكٌ رحمه الله للمنصورِ وهارونِ الرشيدِ ما ذكرنا عنهُ سابقاُ .
وفي البزازيةِ عن الإمامِ الثاني وهو أبو يوسفَ رحمهُ اللهُ أنه صلَّى يومَ الجمعةِ مغتسلاً منَ الحمامِ وصلَّى بالناسِ وتفرَّقوا ،ثمَّ أُخبرَ بوجودِ فأرةٍ ميتةٍ في بئرِ الحمامِ فقالَ : إذاً نأخذُ بقولِ إخواننا منْ أهلِ المدينةِ إذا بلغَ الماءُ قلَّتينِ لمْ يحملْ خبثاً(1).
وسئل الإمام الخجنديُّ رحمه الله عن رجلٍ شافعيِّ المذهبِ تركَ صلاةً سنةً أو سنتينِ ثم انتقلَ إلى مذهب أبي حنيفةَ رحمه اللهُ كيفُ يجبُ عليه القضاءُ أيقضيها على مذهبِ الشافعيِّ أو على مذهبِ أبي حنيفةَ؟ فقال : على أيِّ المذهبينِ قضَى بعد أنْ يعتقدَ جوازَها جازَ . انتهى(2)
__________
(1) - فتاوى يسألونك - (ج 6 / ص 298) و حجة الله البالغة 1/295-296 . وشرح معاني الآثار - (ج 1 / ص 2) فما بعدها والفتاوى الفقهية الكبرى - (ج 1 / ص 34) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 47) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 93) ورسم المفتي في حاشية ابن عابدين: 70/1 . وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق - (ج 1 / ص 142) وفتح القدير - (ج 1 / ص 128) ورد المحتار - (ج 1 / ص 189) وكتاب الإبهاج في شرح المنهاج - (ج 2 / ص 47) والإحكام في أصول الأحكام - (ج 2 / ص 147) والتقرير والتحبير - (ج 6 / ص 238) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 6 / ص 43) وفواتح الرحموت - (ج 1 / ص 274) والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد الرقمية - (ج 1 / ص 54) والإحكام في أصول الأحكام للآمدي - (ج 2 / ص 94) وحجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 69) وحجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 101)
قلت : والحديث صحيح
(2) - فتاوى يسألونك - (ج 4 / ص 27) ويسألونك فتاوى - (ج 2 / ص 122) وحجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 101)(1/316)
وفي جامع الفتاوَى أنهُ إنْ قالَ حنفيٌّ إنْ تزوجتُ فلانةً فهيَ طالقٌ ثلاثاً، ثم استفتَى شافعيًّا فأجابَ أنها لا تطلقُ ويمينهُ باطلٌ فلا بأسَ باقتدائهِ بالشافعيِّ في هذه المسألةَ، لأنَّ كثيراً من الصحابةِ في جانبهِ(1).
قال محمدٌ رحمة في أماليه: لو أنَّ فقيهاً قال لامرأتهِ أنتِ طالقٌ البتةَ وهو ممنْ يراها ثلاثاً ثمَّ قضَى عليه قاضٍ بأنها رجعيةٌ وسِعهُ المقامُ معها، وكذا كلُّ فصلٍ مما يختلفُ فيهُ الفقهاءُ منْ تحريمٍ أو تحليلٍ أو إعتاقٍ أو أخذِ مالٍ أو غيرهِ ينبغي للفقيهِ المقضيِّ عليهِ الأخذَ بقضاءِ القاضي ويدعُ رأيهَ ويلزِمُ نفسَه ما ألزمَ القاضي ويأخذُ ما أعطاهُ(2).
قال محمدٌ رحمهُ اللهُ: وكذلكَ رجلٌ لا علمَ له ابتليَ ببليةٍ فسألَ عنها الفقهاءَ فأفتوهُ فيها بحلالِ أو بحرامٍ وقضَى عليه قاضي المسلمينَ بخلافِ ذلكَ وهيَ مما يختلفُ فيه الفقهاءُ فينبغي له أنْ يأخذَ بقضاءِ القاضي ويدعَ ما أفتاهُ الفقهاءُ .(3)انتهى
وقد أطنبنا الكلامَ في هذا المقامِ غايةَ الإطنابِ واللهُ وحدهُ أعلمُ بالصوابِ " .
قلت : وكلامه الآنف الذكر نفيسٌ ، ينبغي أن يكتب بماء الذهب.
- - - - - - - - - - - - - - - - - -
المبحث الرابع
__________
(1) - فتاوى يسألونك - (ج 4 / ص 28) ويسألونك فتاوى - (ج 2 / ص 122) وحجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 101)
(2) - حجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 101) و الفتاوى الهندية - (ج 24 / ص 324) وفتاوى يسألونك - (ج 4 / ص 28) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 89)
(3) - حجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 101)(1/317)
رأي اللجنة الدائمة بالأئمة الأربعة(1)
أولا- المجتهدون من الفقهاء كثير وخاصة في القرون الثلاثة التي شهد لها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالخير وقد اشتهر من بينهم على مر السنين أربعة أبو حنيفة النعمان بن ثابت في العراق وأبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي في المدينة المنورة وأبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي القرشي عالم قريش وفخرها وأبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني إمام أهل الحديث وقدوتهم وفقيه أهل العراق في زمانه.
وأسباب شهرتهم كثيرة منها انتشار مذهبهم في البلد الذي نشأوا فيه أو ارتحلوا إليه على مقتضى السنَّة الكونية كأبي حنيفة وأحمد رحمهما الله في العراق ومالك في المدينة والشافعي في مكة ومصر ، ومنها نشاط تلاميذهم ومن أخذ بمذهبهم وبنى على أصولهم واجتهادهم في الدعوة إلى مذهبهم في بلادهم أو البلاد التي رحلوا إليها كمحمد بن الحسن وأبي يوسف مثلا في العراق، وابن القاسم وأشهب في مصر وسحنون في المغرب، والربيع بن سليمان في مصر ، وتلاميذ الإمام أحمد في الشام والعراق .
ومنها تبني الحكومات للمذهب ولعلمائه وتوليتهم إياهم المناصب كالقضاء وفتحهم المدارس لهم وإغداق الخير عليهم من أوقاف وغيرها
__________
(1) - فتاوى اللجنة الدائمة - 1 - (ج 5 / ص 31) - من يقول إن التقليد كفر مطلقا وفسق وشرك وينسبون إلى الأئمة الأربعة الكفر والضلال فماذا حكمه وهم يقولون هذا رأي علماء الحرمين والمملكة السعودية والكويت . و فتاوى اللجنة الدائمة - 1 - (ج 5 / ص 62) الفتوى رقم 12548(1/318)
ثانيا- أن أئمة المذاهب الأربعة وهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل من فضلاء أهل العلم ومن أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن أهل الاجتهاد والاستنباط للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وما قاله المؤلف المذكور من أنهم يصرفون الناس عن الحقيقة ويتبعون أهواءهم كذب وبهتان عليهم وليس مقلِّدهم بكافر، فإن الإنسان إذا لم يكن من أهل المعرفة بالأحكام واتبع أحد المذاهب الأربعة فإنه لا حرج عليه في ذلك
ثالثا- ليس كل تقليد كفرا بإطلاق أو فسقا أو شركا، بل الصواب أن في حكمه تفصيلا يعرف من الجواب على السؤال الثاني فيما تقدم.
رابعا- لم يدعُ أحد من الأئمة الأربعة إلى مذهبه ولم يتعصب له، ولم يلزم الناس بالعمل به أو بمذهب معين، إنما كانوا يدعون إلى العمل بالكتاب والسُّنَّة -رحمهم الله- ويشرحون نصوص الدين، ويبينون قواعده، ويفرعون عليها، ويفتون فيما يسألون عنه مع الدليل من الكتاب والسُّنَّة، دون أن يلزموا تلاميذهم أو غيرهم برأي أحد معين من علماء الأمة، بل يعيبون ذلك، ويأمرون أن يضرب برأيهم عرض الحائط إذا خالف الحديث الصحيح، ويقول قائلهم: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) وعلى المسلم أن يجتهد في معرفة الحق بنفسه إن استطاع ذلك، ويستعين بالله ثم بالثروة العلمية التي خلفها السابقون من علماء المسلمين لمن بعدهم، والتي يسِّر لهم بها طريق فهم النصوص وتطبيقها، ومن لم يستطع فهم الأحكام من أدلتها واستنباطها لأمر ما عاقه عن ذلك سأل أهل العلم الموثوق بهم عما يحتاجه من أحكام الشريعة، رجاء معرفة الحق بدليله قدر الاستطاعة لقوله تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (سورة النحل الآية 43) وعليه أن يتحرى في سؤاله من يثق به من المشهورين بالعلم والفضل والتقوى والصلاح. وبهذا يعلم أن الأئمة الأربعة براء مما اتهموا به وأن ما نسب إليهم من الكفر والضلال زور وبهتان.(1/319)
خامسا- ليس من علماء الحرمين مكة والمدينة ولا من سائر علماء المملكة السعودية من يذم أئمة الفقهاء مالكا وأبا حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل ونحوهم من علماء الفقه الإسلامي ولا من يزدريهم، بل المعروف عنهم أنهم يوقرونهم ويعرفون لهم فضلهم وأن لهم قدم صدق في خدمة الإسلام وحفظه وفهم نصوصه وقواعده وبيان ذلك وإبلاغه والجهاد في نصره والذود عنه ودفع الشبهة عنه وإبطال ما انتحله المنتحلون وابتدعه المفترون فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا.
يدلُّ على موقف علماء الحرمين وسائر علماء المملكة السعودية من الأئمة الأربعة موقف تكريم وتقدير عنايتهم بتدريس مذاهبهم ومؤلفاتهم في المسجد الحرام بمكة المشرفة والمدينة المنورة وسائر مساجد المملكة السعودية وفي جامعاتها وعنايتهم بطبع الكثير من كتبهم وتوزيعها ونشرها بين المسلمين في جميع الدول التي بها مسلمون" .
- - - - - - - - - - - - - - -
الفصل السادس
أسباب ترك بعض الفقهاء الاحتجاج بالحديث
أولا
ذكر الأسباب مفصلة
هناك أسباب عديدة تجعل الفقيه يترك العمل بحديث ما ، وهي كثيرة ، ولكننا سنذكر أهمها .(1/320)
" يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مُوَالَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ قال تعالى : {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (55) سورة المائدة، خُصُوصًا الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، فعَن كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِى الدَّرْدَاءِ فِى مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ إِنِّى جِئْتُكَ مِن مَدِينَةِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - لِحَدِيثٍ بَلَغَنِى أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا جِئْتُ لِحَاجَةٍ. قَالَ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَن سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِن طُرُقِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَمَن فِى الأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِى جَوْفِ الْمَاءِ وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَن أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ »(1).
__________
(1) - أخرجه أبو داود في سننه برقم (3643 ) وهو حديث صحيح.(1/321)
وهمُ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّهُ بِمَنزِلَةِ النُّجُومِ يُهْتَدَى بِهِمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ،وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ، إذْ كَلُّ أُمَّةٍ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَعُلَمَاؤُهَا شِرَارُهَا إلَّا الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ عُلَمَاءَهُمْ خِيَارُهُمْ ؛ فَإِنَّهُمْ خُلَفَاءُ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أُمَّتِهِ، والمحيون لِمَا مَاتَ مِن سُنَّتِهِ بِهِمْ قَامَ الْكِتَابُ وَبِهِ قَامُوا وَبِهِمْ نَطَقَ الْكِتَابُ وَبِهِ نَطَقُوا، فعَن أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِن كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ ، يَنْفُونَ عَنهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ "(1).
__________
(1) - أخرج الطحاوي في مشكل الآثار برقم(3269 ) وهو حسن لغيره(1/322)
وَلِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ قَبُولًا عَامًّا يَتَعَمَّدُ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شَيْءٍ مِن سُنَّتِهِ ؛ دَقِيقٍ وَلَا جَلِيلٍ ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ اتِّفَاقًا يَقِينِيًّا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (7) سورة الحشر ، ولقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِن أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (36) سورة الأحزاب ، وَعَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِن قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَكِنْ إذَا وُجِدَ لِوَاحِدِ مِنهُمْ قَوْلٌ قَدْ جَاءَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِخِلَافِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِن عُذْرٍ فِي تَرْكِهِ(1).
وَجَمِيعُ الْأَعْذَارِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ :
أَحَدُهَا : عَدَمُ اعْتِقَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَهُ .
وَالثَّانِي : عَدَمُ اعْتِقَادِهِ إرَادَةَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ .
__________
(1) - انظر : مجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 227) و (ج 3 / ص 347) و (ج 13 / ص 259)و (ج 20 / ص 209) و (ج 20 / ص 211) و (ج 20 / ص 232) و(ج 27 / ص 241) و (ج 33 / ص 28) و (ج 1 / ص 210) وج 4 / ص 300) و (ج 7 / ص 211) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 967) و (ج 4 / ص 9967) و (ج 6 / ص 49) و (ج 6 / ص 49) و(ج 9 / ص 4669و (ج 10 / ص 1051) ومن أصول الفقه على منهج أهل الحديث - الرقمية - (ج 1 / ص 175)(1/323)
وَالثَّالِثُ : اعْتِقَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مَنسُوخٌ .
وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ تَتَفَرَّعُ إلَى أَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ ، وهي :
السَّبَبُ الْأَوَّلُ
عدم بلوغ الحديث للفقيه
السَّبَبُ الْأَوَّلُ : أَلَّا يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَهُ ،وَمَن لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ لَمْ يُكَلَّفْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمُوجَبِهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ بَلَغَهُ، وَقَدْ قَالَ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ بِمُوجَبِ ظَاهِرِ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ آخَرَ ؛ أَوْ بِمُوجَبِ قِيَاسٍ ؛ أَوْ مُوجَبِ اسْتِصْحَابٍ : فَقَدْ يُوَافِقُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ تَارَةً وَيُخَالِفُهُ أُخْرَى . وَهَذَا السَّبَبُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَكْثَرِ مَا يُوجَدُ مِن أَقْوَالِ السَّلَفِ مُخَالِفًا لِبَعْضِ الْأَحَادِيثِ ؛ فَإِنَّ الْإِحَاطَةَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ تَكُنْ لِأَحَدِ مِن الْأُمَّةِ . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ ؛ أَوْ يُفْتِي ؛ أَوْ يَقْضِي ؛ أَوْ يَفْعَلُ الشَّيْءَ فَيَسْمَعُهُ أَوْ يَرَاهُ مَن يَكُونُ حَاضِرًا وَيُبَلِّغُهُ أُولَئِكَ أَوْ بَعْضُهُمْ لِمَن يُبَلِّغُونَهُ فَيَنْتَهِي عِلْمُ ذَلِكَ إلَى مَن يَشَاءُ اللَّهُ مِن الْعُلَمَاءِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَن بَعْدَهُمْ ثُمَّ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ قَدْ يُحَدِّثُ أَوْ يُفْتِي أَوْ يَقْضِي أَوْ يَفْعَلُ شَيْئًا وَيَشْهَدُهُ بَعْضُ مَن كَانَ غَائِبًا عَن ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَيُبَلِّغُونَهُ لِمَن أَمْكَنَهُمْ فَيَكُونُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مِن الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ مَا لَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ،وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُ الْعُلَمَاءُ مِن الصَّحَابَةِ وَمَن بَعْدَهُمْ بِكَثْرَةِ الْعِلْمِ أَوْ جَوْدَتِهِ .(1/324)
وَأَمَّا إحَاطَةُ وَاحِدٍ بِجَمِيعِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَهَذَا لَا يُمْكِنُ ادِّعَاؤُهُ قَطُّ، وذلك لأنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم قد تفرقوا في سائر الأمصار الإسلامية ، وحدَّثوا بها حسبَ حاجة الناس ، فصارتِ السنَّةُ النبويةُ موجودةً في سائر أقطار الإسلام ، وكان جمعُ السنَّة في البداية يقتصرُ على القُطر نفسِه ، إلى أن صار يشملُ أقطاراً أخرى.(1/325)
وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِأُمُورِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَسُنَّتِهِ وَأَحْوَالِهِ خُصُوصًا الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يُفَارِقُهُ حَضَرًا وَلَا سَفَرًا ، بَل كَانَ يَكُونُ مَعَهُ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى إنَّهُ يَسْمَرُ عِنْدَهُ بِاللَّيْلِ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - فَإِنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَثِيرًا مَا يَقُولُ : دَخَلْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَخَرَجْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ إِنِّى لَوَاقِفٌ فِى قَوْمٍ ، فَدَعَوُا اللَّهَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَدْ وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ ، إِذَا رَجُلٌ مِن خَلْفِى قَدْ وَضَعَ مِرْفَقَهُ عَلَى مَنكِبِى ، يَقُولُ رَحِمَكَ اللَّهُ ، إِنْ كُنْتُ لأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ ، لأَنِّى كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ كُنْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَفَعَلْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَانْطَلَقْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ . فَإِنْ كُنْتُ لأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَهُمَا . فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ "(1).
__________
(1) - صحيح البخاري برقم(3677 ) ومسلم برقم ( 6338 )(1/326)
ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَمَّا سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - عَن مِيرَاثِ الْجَدَّةِ قَالَ : مَا لَك فِي كِتَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ وَمَا عَلِمْت لَك فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِن شَيْءٍ، وَلَكِنْ اسْأَلْ النَّاسَ فَسَأَلَهُمْ فَقَامَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مسلمة فَشَهِدَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْطَاهَا السُّدُسَ(1)، وَقَدْ بَلَّغَ هَذِهِ السُّنَّةَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَيْضًا، فعَنِ الْحَسَنِ عَن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ إِنَّ ابْنِى مَاتَ فَمَا لِى فِى مِيرَاثِهِ قَالَ « لَكَ السُّدُسُ ». فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ :« لَكَ سُدُسٌ آخَرُ ». فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ قَالَ :« إِنَّ السُّدُسَ الآخَرَ طُعْمَةٌ ». "(2).
وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ مِن الْخُلَفَاءِ ثُمَّ قَدْ اخْتَصُّوا بِعِلْمِ هَذِهِ السُّنَّةِ الَّتِي قَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا .
__________
(1) - السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة - (ج 4 / ص 277) برقم(6312) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 15 / ص 373) برقم(17441 ) وصحيح ابن حبان - (ج 13 / ص 390) برقم(6031 ) وهو حسن
عثمان بن إسحاق بن خرشة، وهو القرشي العامري المدني، فقد ذكره المؤلف في "ثقاته" 7/190،وقال الدوري عن ابن معين: ثقة. وقال ابن عبد البر: هو معروف النسب، إلا أنه غير مشهور بالرواية، وقال الذهبي في "الميزان": شيخ ابن شهاب الزهري، لا يعرف، سمع قبيصة بن ذؤيب، وقد وثقوه.
(2) - سنن أبى داود - (ج 3 / ص 81) برقم(2898 ) سنن الترمذى برقم(2245 ) قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وفيه انقطاع الحسن لم يسمع من عمران(1/327)
وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ سُنَّةَ الِاسْتِئْذَانِ حَتَّى أَخْبَرَهُ بِهَا أَبُو مُوسَى وَاسْتَشْهَدَ بِالْأَنْصَارِ، فعَن عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِىَّ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ ، وَكَأَنَّهُ كَانَ مَشْغُولاً فَرَجَعَ أَبُو مُوسَى ، فَفَرَغَ عُمَرُ فَقَالَ أَلَمْ أَسْمَعْ صَوْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ائْذَنُوا لَهُ قِيلَ قَدْ رَجَعَ . فَدَعَاهُ . فَقَالَ كُنَّا نُؤْمَرُ بِذَلِكَ . فَقَالَ تَأْتِينِى عَلَى ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ . فَانْطَلَقَ إِلَى مَجْلِسِ الأَنْصَارِ ، فَسَأَلَهُمْ . فَقَالُوا لاَ يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا إِلاَّ أَصْغَرُنَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ . فَذَهَبَ بِأَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ . فَقَالَ عُمَرُ أَخَفِىَ عَلَىَّ مِن أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَلْهَانِى الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ(1)،وَعُمَرُ أَعْلَمُ مِمَن حَدَّثَهُ بِهَذِهِ السُّنَّةِ.
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(2062 ) ومسلم برمق(5757 ) يَعْنِى الْخُرُوجَ إِلَى تِجَارَةٍ . = الصفق : التبايع(1/328)
وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَيْضًا يَعْلَمُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَرِثُ مِن دِيَةِ زَوْجِهَا، بَل يَرَى أَنَّ الدِّيَةَ لِلْعَاقِلَةِ حَتَّى كَتَبَ إلَيْهِ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ - وَهُوَ أَمِيرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى بَعْضِ الْبَوَادِي – يُخْبِرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِن دِيَةِ زَوْجِهَا، فعَن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلاَ تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِن دِيَةِ زَوْجِهَا شَيْئًا. حَتَّى أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلاَبِىُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ إِلَيْهِ « أَنْ وَرِّثِ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِىِّ مِن دِيَةِ زَوْجِهَا »(1).
__________
(1) - سنن الترمذى برقم( 1478 ) وهو حديث صحيح . قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ.=العاقلة : العصبة والأقارب من قبل الأب(1/329)
وعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا ، قَالَ : قَامَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ عَلَى الْمِنبَرِ ، فَقَالَ : أُذَكِّرُ امْرَأً سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِي الْجَنِينِ ، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، كُنْتُ بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ يَعْنِي ضَرَّتَيْنِ ، فَخَرَجْتُ وَضَرَبْتُ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِعَمُودِ ظُلَّتِهَا فَقَتَلَتْهَا وَقَتَلَتْ مَا فِي بَطْنِهَا ، فَقَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ، فَقَالَ عُمَرُ : اللَّهُ أَكْبَرُ لَوْ لَمْ نَسْمَعْ بِهَذَا مَا قَضَيْنَا بِغَيْرِهِ"(1).
وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ حُكْمَ الْمَجُوسِ فِي الْجِزْيَةِ حَتَّى أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : سَنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ(2)
وعَن عَمْرٍو ، سَمِعَ بَجَالَةَ : " لَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ ، حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَهَا مِن مَجُوسِ هَجَرَ"(3).
__________
(1) - المستدرك للحاكم برقم(6460) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 3 / ص 491) برقم(3404) وهو حديث صحيح
(2) - موطأ مالك برقم(619 ) وعبد الرزاق برقم(10026) والسنن الكبرى للبيهقي (ج 9 / ص 189) برقم(19125) صحيح لغيره
ولكن غير آكلي طعامهم – ذبائحهم – ولا ناكحي نسائهم
(3) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (7538) جامع السنة و مُشْكِلُ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ (1703) والناسخ والمنسوخ للنحاس - (ج 1 / ص 299) برقم( 245 ) وهو حدبث صحيح(1/330)
وفي خبر الطاعون أيضاً ، فعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ عُمَرُ ادْعُ لِى الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ . فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ فَاخْتَلَفُوا . فَقَالَ بَعْضُهُمْ قَدْ خَرَجْتَ لأَمْرٍ ، وَلاَ نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنهُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ . فَقَالَ ارْتَفِعُوا عَنِّى . ثُمَّ قَالَ ادْعُوا لِى الأَنْصَارَ . فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلاَفِهِمْ ، فَقَالَ ارْتَفِعُوا عَنِّى . ثُمَّ قَالَ ادْعُ لِى مَن كَانَ هَا هُنَا مِن مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِن مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ . فَدَعَوْتُهُمْ ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنهُمْ عَلَيْهِ رَجُلاَنِ ، فَقَالُوا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ ، وَلاَ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ ، فَنَادَى عُمَرُ فِى النَّاسِ ، إِنِّى مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ ، فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ .(1/331)
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ أَفِرَارًا مِن قَدَرِ اللَّهِ فَقَالَ عُمَرُ لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ ، نَعَمْ نَفِرُّ مِن قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ ، إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ ، وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ قَالَ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِى بَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ إِنَّ عِنْدِى فِى هَذَا عِلْمًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنهُ » . قَالَ فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ(1).
__________
(1) - أخرجه البخارى برقم(5729 ) ومسلم برقم(5915 ). =العدوة : جانب الوادى(1/332)
وَتَذَاكَرَ هُوَ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَمْرَ الَّذِي يَشُكُّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَكُنْ قَدْ بَلَغَتْهُ السُّنَّةُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّهُ يَطْرَحُ الشَّكَّ وَيَبْنِي عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ لَهُ عُمَرُ : يَا غُلامُ هَلْ سَمِعْتَ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، أَوْ مِن أَحَدٍ مِن أَصْحَابِهِ : إِذَا شَكَّ الرَّجُلُ فِي صَلاتِهِ مَاذَا يَصْنَعُ ؟ قَالَ : فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ ، إِذِ اقْبَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، فَقَالَ : فِيمَ أَنْتُمَا ؟ فَقَالَ عُمَرُ : سَأَلْتُ هَذَا الْغُلامَ : هَلْ سَمِعْتَ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، أَوْ أَحَدٍ مِن أَصْحَابِهِ إِذَا شَكَّ الرَّجُلُ فِي صَلاتِهِ مَاذَا يَصْنَعُ ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ : " إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ ، فَلَمْ يَدْرِ أَوَاحِدَةً صَلَّى أَمْ ثِنْتَيْنِ ؟ فَلْيَجْعَلْهَا وَاحِدَةً ، وَإِذَا لَمْ يَدْرِ ثِنْتَيْنِ صَلَّى أَمْ ثَلاثًا ؟ فَلْيَجْعَلْهَا ثِنْتَيْنِ ، وَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَثَلاثًا صَلَّى أَمِ ارْبَعًا ؟ فَلْيَجْعَلْهَا ثَلاثًا ، ثُمَّ يَسْجُدِ اذَا فَرَغَ مِن صَلاتِهِ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ سَجْدَتَيْنِ "(1).
__________
(1) - مسند أحمد برقم(1699) ومصنف ابن أبي شيبة (ج 2 / ص 186) رقم(4414) وهو حسن لغيره(1/333)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : جَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ فَقَالَ : يَا ابْنَ عَبَّاسٍ هَلْ سَمِعْتَ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الرَّجُلِ إِذَا نَسِيَ صَلَاتَهَ فَلَمْ يَدْرِ أَزَادَ أَمْ نَقَصَ مَا أَمَرَ بِهِ فِيهِ ؟ قُلْتُ : وَمَا سَمِعْتَ أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينِ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا فِي ذَلِكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ مِنهُ فِيهِ شَيْئًا وَلَا سَأَلْتُ عَنهُ ، إِذْ جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، فَقَالَ : فِيمَا أَنْتُمَا ؟ فَأَخْبَرَهُ عُمَرُ ، فَقَالَ : سَأَلْتُ هَذَا الْفَتَى عَن كَذَا وَكَذَا فَلَمْ أَجِدْ عِنْدَهُ عِلْمًا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : لَكِنْ عِنْدِي لَقَدْ سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ عُمَرُ : فَأَنْتَ عِنْدَنَا الْعَدْلُ الرِّضَا فَمَاذَا سَمِعْتَ ؟ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَشَكَّ فِي الْوَاحِدَةِ وَالِثْنَتَيْنِ فَلْيَجْعَلْهُمَا وَاحِدَةً ، وَإِذَا شَكَّ فِي الِاثْنَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ فَلْيَجْعَلْهَا اثْنَتَيْنِ وَإِذَا شَكَّ فِي الثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ فَلْيَجْعَلْهَا ثَلَاثًا حَتَّى يَكُونَ الْوَهْمُ فِي الزِّيَادَةِ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ يُسَلِّم"(1).
وَكَانَ مَرَّةً فِي السَّفَرِ فَهَاجَتْ رِيحٌ فَجَعَلَ يَقُولُ : مَن يُحَدِّثُنَا عَن الرِّيحِ ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَبَلَغَنِي وَأَنَا فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ فَحَثَثْت رَاحِلَتِي حَتَّى أَدْرَكْته فَحَدَّثْته بِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ هُبُوبِ الرِّيحِ.
__________
(1) - البيهقي في السنن الكبرى(3552) حسن لغيره(1/334)
فعَنِ الزُّهْرِىِّ حَدَّثَنِى ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ أَخَذَتِ النَّاسَ رِيحٌ بِطَرِيقِ مَكَّةَ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَاجٌّ فَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ فَقَالَ عُمَرُ لِمَن حَوْلَهُ مَن يُحَدِّثُنَا عَنِ الرِّيحِ فَلَمْ يُرْجِعُوا إِلَيْهِ شَيْئاً فَبَلَغَنِى الَّذِى سَأَلَ عَنهُ عُمَرُ مِن ذَلِكَ فَاسْتَحْثَثْتُ رَاحِلَتَى حَتَّى أَدْرَكْتُهُ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أُخْبِرْتُ أَنَّكَ سَأَلْتَ عَنِ الرِّيحِ وَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: « الرِّيحُ مِن رَوْحِ اللَّهِ تَأْتِى بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِى بِالْعَذَابِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَلاَ تَسُبُّوهَا ،وَسَلُوا اللَّهَ خَيْرَهَا وَاسْتَعِيذُوا بِهِ مِن شَرِّهَا »(1)
فَهَذِهِ مَوَاضِعُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا حَتَّى بَلَّغَهُ إيَّاهَا مَن لَيْسَ مِثْلَهُ وَمَوَاضِعُ أُخَرَ لَمْ يَبْلُغْهُ مَا فِيهَا مِن السُّنَّةِ فَقَضَى فِيهَا أَوْ أَفْتَى فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِثْلَ مَا قَضَى فِي دِيَةِ الْأَصَابِعِ أَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ مَنَافِعِهَا،فعَن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، أَنَّ عُمَرَ قَضَى فِي الآِبْهَامِ وَاَلَّتِي تَلِيهَا نِصْفُ الْكَفِّ , وَفِي الْوُسْطَى بِعَشْرٍ فَرَائِضَ , وَاَلَّتِي تَلِيهَا بِتِسْعٍ فَرَائِضَ , وَفِي الْخِنْصَرِ بِسِتٍّ فَرَائِضَ(2).
__________
(1) - مسند أحمد برقم(7846) صحيح .
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 9 / ص 366) برقم(26991) والسنن الكبرى للبيهقي (ج 8 / ص 93) برقم(16718) وهو صحيح(1/335)
و عَن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , قَالَ : " كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَجْعَلُ فِي الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا نِصْفَ دِيَةِ الْكَفِّ , وَيَجْعَلُ فِي الْإِبْهَامِ خَمْسَ عَشْرَةَ , وَفِي الَّتِي تَلِيهَا عَشْرًا , وَفِي الْوُسْطَى عَشْرًا , وَفِي الَّتِي تَلِيهَا تِسْعًا , وَفِي الْأُخْرَى سِتًّا , حَتَّى كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَوَجَدَ كِتَابًا كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِيهِ : " وَفِي الْأَصَابِعِ عَشْرٌ عَشْرٌ " فَصَيَّرَهَا عُثْمَانُ : عَشْرًا عَشْرًا " "(1)
وعَن أَبِى غَطَفَانَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ : فِى الأَصَابِعِ عَشْرٌ عَشْرٌ فَأَرْسَلَ مَرْوَانُ إِلَيْهِ فَقَالَ : أَتُفْتِى فِى الأَصَابِعِ عَشْرٌ عَشْرٌ وَقَدْ بَلَغَكَ عَن عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنهُ فِى الأَصَابِعِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ مِن قَوْلِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنهُ.(2)
__________
(1) - اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة - (ج 4 / ص 62)[3415/1] . والمحلى (ج 10 / ص 321) برقم (2043 ) والْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ(350) من طرق وهو صحيح
(2) - سنن البيهقى برقم(16720) وهو حديث حسن(1/336)
وَقَدْ كَانَ عِنْد أَبِي مُوسَى وَابْنِ عَبَّاسٍ - وَهُمَا دُونَهُ بِكَثِيرِ فِي الْعِلْمِ - عِلْمٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ يَعْنِي : الْإِبْهَامَ وَالْخِنْصَرَ ،(1)فَبَلَغَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ لمعاوية رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ فِي إمَارَتِهِ فَقَضَى بِهَا، فعَن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَضَى فِيمَا أَقْبَلَ مِنَ الْفَمِ بِخَمْسِ فَرَائِضَ خَمْسٍ ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ دِينَارًا ، قِيمَةُ كُلِّ فَرِيضَةٍ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ ، وَفِي الأَضْرَاسِ بَعِيرٌ بَعِيرٌ،وَذَكَرَ يَحْيَى : أَنَّ مَا أَقْبَلَ مِنَ الْفَمِ ؛ الثَّنَايَا ، وَالرَّبَاعِيَاتُ ، وَالأَنْيَابُ،قَالَ سَعِيدٌ : حتَّى إِذَا كَانَ مُعَاوِيَةُ فَأُصِيبَتْ أَضْرَاسُهُ ، قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ بِالأَضْرَاسِ مِن عُمَرَ ، فَقَضَى فِيهِ خَمْسَ فَرَائِضَ . قَالَ سَعِيدٌ : لَوْ أُصِيبَ الْفَمُ كُلُّهُ فِي قَضَاءِ عُمَرَ لَنَقَصَتِ الدِّيَةُ ، وَلَوْ أُصِيبَ فِي قَضَاءِ مُعَاوِيَةَ لَزَادَتِ الدِّيَةُ ، وَلَوْ كُنْتُ أَنَا لَجَعَلْتُ فِي الأَضْرَاسِ بَعِيرَيْنِ بَعِيرَيْنِ..(2).
وَلَمْ يَجِدْ الْمُسْلِمُونَ بُدًّا مِن اتِّبَاعِ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ عَيْبًا فِي عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ .
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(6895 )
(2) - ففي مصنف ابن أبي شيبة (ج 9 / ص 190) (27532) وإسناده صحيح(1/337)
وَكَذَلِكَ كَانَ يُنْهِي الْمُحْرِمَ عَن التَّطَيُّبِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ؛ وَقَبْلَ الْإِفَاضَةِ إلَى مَكَّةَ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فعَن سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَن أَبِيهِ قَالَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : إِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ وَذَبَحْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَىْءٍ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ ، قَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ : طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِحُرْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ، وَلِحِلِّهِ بَعْدَ مَا رَمَى الْجَمْرَةَ وَقَبْلَ أَنْ يَزُورَ. قَالَ سَالِمٌ : وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ هُوَ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا وَغَيْرُهُمَا مِن أَهْلِ الْفَضْلِ(1).
وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهَا طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ، فعَن إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَن أَبِيهِ قَالَ ذَكَرْتُهُ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا يَنْضَخُ طِيبًا(2).
وعَن عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ(3).
__________
(1) - مسند الحميدى برقم(223و224) وهو صحيح على شرطهما
(2) - أخرجه البخارى برقم(267 ) ومسلم برقم(2883 ) = ينضخ : تفوح منه رائحة الطيب
(3) - البخارى برقم(1539 )(1/338)
وعَن إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَن أَبِيهِ قَالَ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - عَنِ الرَّجُلِ يَتَطَيَّبُ ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا فَقَالَ مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا لأَنْ أَطَّلِىَ بِقَطِرَانٍ أَحَبُّ إِلَىَّ مِن أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ. فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ - رضى الله عنها - فَأَخْبَرْتُهَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا لأَنْ أَطَّلِىَ بِقَطِرَانٍ أَحَبُّ إِلَىَّ مِن أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ إِحْرَامِهِ ثُمَّ طَافَ فِى نِسَائِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا.(1)
وَكَانَ يَأْمُرُ لَابِسَ الْخُفِّ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يَخْلَعَهُ مِن غَيْرِ تَوْقِيتٍ وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِن السَّلَفِ، فعَن يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ ، أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ بَعَثَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِفَتْحِ دِمَشْقَ فَخَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَدِمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَسَأَلَهُ عُمَرُ مَتَى خَرَجْتَ فَأَخْبَرَهُ ، وَقَالَ : لَمْ أَخْلَعْ لِي خُفًّا مُذْ خَرَجْتُ ، قَالَ عُمَرُ قَدْ أَحْسَنْتَ(2).
__________
(1) - مسلم برقم(2899 )
(2) - ففي مصنف ابن أبي شيبة برقم(1937) وهو صحيح ، وورد كذلك عدم التوقيت عن سعد والحسن وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة أخرج ذلك ابن أبي شيبة برقم( 1933-1936) وغالبها بأسانيد صحاح(1/339)
وَلَمْ تَبْلُغْهُمْ أَحَادِيثُ التَّوْقِيتِ الَّتِي صَحَّتْ عِنْدَ بَعْضِ مَن لَيْسَ مِثْلُهُمْ فِي الْعِلْمِ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ صَحِيحَةٍ(1).
__________
(1) - قد ورد توقيت المسح على الخفين يوم وليلة للمقيم ، وثلاثة أيام ولياليها للمسافر عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم ، ذكرهم الفقيه محمد بن جعفر الكتاني رحمه الله في كتابه وعدَّه من الأحاديث المتواترة .نظم المتناثر - (ج 1 / ص 60) برقم(32 )(1/340)
وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِأَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنهَا زَوْجُهَا تَعْتَدُّ فِي بَيْتِ الْمَوْتِ حَتَّى حَدَّثَتْهُ الْفُرَيْعَةُ بِنْتُ مَالِكٍ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الخدري بِقَضِيَّتِهَا لَمَّا تُوُفِّيَ زَوْجُهَا وَأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا : اُمْكُثِي فِي بَيْتِك حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ، فَأَخَذَ بِهِ عُثْمَانُ، فعَن عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ الْفُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ - وَهِىَ أُخْتُ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَسْأَلُهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِى بَنِى خُدْرَةَ فَإِنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِى طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِطَرَفِ الْقَدُومِ لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ. قَالَتْ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِى فِى بَنِى خُدْرَةَ فَإِنَّ زَوْجِى لَمْ يَتْرُكْنِى فِى مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ وَلاَ نَفَقَةَ. قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « نَعَمْ ». قَالَتْ فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِى الْحُجْرَةِ نَادَانِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ أَمَرَ بِى فَنُودِيتُ لَهُ فَقَالَ « كَيْفَ قُلْتِ ». فَرَدَّدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِى ذَكَرْتُ لَهُ مِن شَأْنِ زَوْجِى فَقَالَ « امْكُثِى فِى بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ». قَالَتْ فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا - قَالَتْ - فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَرْسَلَ إِلَىَّ فَسَأَلَنِى عَن ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ.(1/341)
(1).
وَأُهْدِيَ لَهُ مَرَّةً صَيْدٌ كَانَ قَدْ صِيدَ لِأَجْلِهِ فَهَمَّ بِأَكْلِهِ حَتَّى أَخْبَرَهُ الزبير رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَدَّ لَحْمًا أُهْدِيَ لَهُ، فعن بُسْرَ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ يُصَادُ لَهُ الْوَحْشُ عَلَى الْمَنَازِلِ ثُمَّ يُذْبَحُ فَيَأْكُلُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ سَنَتَيْنِ مِن خِلافَتِهِ، ثُمَّ إنَّ الزُّبَيْرَ كَلَّمَهُ، فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا يُصَادُ لَنَا وَمِن أَجْلِنَا لَوْ تَرَكْنَاهُ فَتَرَكَهُ(2).
__________
(1) - أخرجه مالك في الموطأ برقم(1250 ) وأبو داود برقم(2302 ) وهو حديث صحيح = أبق : هرب
(2) - أخرجه ابن حزم في المحلى (ج 5 / ص 24) وإسناده صحيح
وهناك حديث في سنده انقطاع وهو في سنن الترمذى برقم(856 )عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلاَلٌ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ ». قَالَ وَفِى الْبَابِ عَن أَبِى قَتَادَةَ وَطَلْحَةَ. قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ جَابِرٍ حَدِيثٌ مُفَسَّرٌ. وَالْمُطَّلِبُ لاَ نَعْرِفُ لَهُ سَمَاعًا مِن جَابِرٍ. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ لاَ يَرَوْنَ بِأَكْلِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ بَأْسًا إِذَا لَمْ يَصْطَدْهُ أَوْ لَمْ يُصْطَدْ مِن أَجْلِهِ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا أَحْسَنُ حَدِيثٍ رُوِىَ فِى هَذَا الْبَابِ وَأَفْسَرُ وَالَعَمَلُ عَلَى هَذَا وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ.(1/342)
وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ ، فعَن أَسْمَاءَ بْنِ الْحَكَمِ الْفَزَارِىِّ قَالَ سَمِعْتُ عَلِياًّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثاً نَفَعَنِى اللَّهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِى مِنهُ وَإِذَا حَدَّثَنِى غَيْرِى عَنهُ اسْتَحْلَفْتُهُ فَإِذَا حَلَفَ لِى صَدَّقْتُهُ وَحَدَّثَنِى أَبُو بَكْرٍ وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا مِن عَبْدٍ مُؤْمِنٍ يُذْنِبُ ذَنْباً فَيَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى إِلاَّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ». ثُمَّ تَلاَ {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (135) سورة آل عمران(1).
وعَن أَسْمَاءَ بْنِ الْحَكَمِ الْفَزَارِىِّ قَالَ سَمِعْتُ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ رضى الله عنه يَقُولُ : كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا نَفَعَنِى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِى مِنهُ ، وَإِذَا حَدَّثَنِى غَيْرُهُ اسْتَحْلَفْتُهُ ، فَإِذَا حَلَفَ لِى صَدَّقْتُهُ ، فَحَدَّثَنِى أَبُو بَكْرٍ - وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« لَيْسَ مِن عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَقُومُ فَيَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلاَّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ »(2)
__________
(1) - أخرجه أحمد في مسنده برقم(57) وهو صحيح
(2) - مسند الحميدى برقم(1) وهو صحيح .(1/343)
وعَنْ أَسْمَاءِ بْنِ الْحَكَمِ الْفَزَارِيِّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُ ، فَإِذَا حَدَّثَنِي غَيْرُهُ اسْتَحْلَفْتُهُ ، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَنِي وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ " قَالَ مِسْعَرٌ " ثُمَّ يُصَلِّي " وَقَالَ سُفْيَانُ " ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ "(1)
وَأَفْتَى هُوَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ.
أما حديث علي ،فعَن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ زَيْدٌ : قَدْ حَلَّتْ وَقَالَ عَلِيٌّ : أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا قَالَ زَيْدٌ : أَرَأَيْتَ إنْ كَانَتْ يَئِيسًا قَالَ عَلِيُّ : فَآخِرُ الأَجَلَيْنِ قَالَ عُمَرُ : لَوْ وَضَعَتْ ذَا بَطْنِهَا وَزَوْجُهَا عَلَى نَعْشِهِ لَمْ يَدْخُلْ حُفْرَتَهُ لَكَانَتْ قَدْ حَلَّتْ.(2)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : أَجَلُ كُلِّ حَامِلٍ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا قَالَ : وَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ : آخِرُ الأَجَلَيْنِ.(3)
وعَن عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : آخِرُ الأَجَلَيْنِ.(4)
__________
(1) - مسند الحميدى برقم(5)ِ وهو صحيح .
(2) - مصنف ابن أبي شيبة برقم(17094) وهو حديث صحيح
(3) - المصدر السابق برقم (17098) وهو حديث صحيح
(4) - نفسه برقم(17099) صحيح(1/344)
أما ابن عباس ،فعَنْ يَحْيَى ، قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ جَالِسٌ عِنْدَهُ ، فَقَالَ : أَفْتِنِي فِي امْرَأَةٍ وَلَدَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : آخِرُ الأَجَلَيْنِ ، قُلْتُ أَنَا : وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي - يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ - فَأَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ غُلاَمَهُ كُرَيْبًا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ يَسْأَلُهَا ، فَقَالَتْ : " قُتِلَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةِ وَهِيَ حُبْلَى ، فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، فَخُطِبَتْ فَأَنْكَحَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَ أَبُو السَّنَابِلِ فِيمَنْ خَطَبَهَا " ،(1).
وعن سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنَ عَبَّاسٍ اجْتَمَعَا عِنْدَ أَبِى هُرَيْرَةَ وَهُمَا يَذْكُرَانِ الْمَرْأَةَ تُنْفَسُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِدَّتُهَا آخِرُ الأَجَلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ قَدْ حَلَّتْ. فَجَعَلاَ يَتَنَازَعَانِ ذَلِكَ قَالَ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِى - يَعْنِى أَبَا سَلَمَةَ - فَبَعَثُوا كُرَيْبًا - مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ يَسْأَلُهَا عَن ذَلِكَ فَجَاءَهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ إِنَّ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ وَإِنَّهَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ".(2)
__________
(1) - أخرجه البخارى برقم(4909 ) ومسلم برقم(3796 ).
(2) - مسلم برقم(3796 )(1/345)
وأما ما ورد عن غيرهما فقد ورد عن ابن مسعود فعَن مَسْرُوقٍ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : وَاَللَّهِ لَمَن شَاءَ لَقَاسَمْتُهُ لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.(1)
وورد عنه عكسه ،فعَنِ الشَّعْبِيِّ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : أَجَلُ كُلِّ حَامِلٍ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا قَالَ : وَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ : آخِرُ الأَجَلَيْنِ.(2)
وعَن عَبْدِ الرَّحْمَانِِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ : شَهِدْتُ عَلِيًّا وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَن امْرَأَةٍ تُوُفِّيَ عَنهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ قَالَ : تَتَرَبَّصُ أَبْعَدَ الأَجَلَيْنِ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : نَقُولُ تَسْفِي نَفْسَهَا ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ : إنَّ فَرُّوخَ لاَ يَعْلَمُ.(3)
وورد عن عبد بن الرحمن بن أبي ليلى،فعَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ : كُنْتُ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ : فَقَالَ : آخِرُ الأَجَلَيْنِ قَالَ : فَذَكَرْتُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَن سُبَيْعَةَ قَالَ فَغَمَزَ إلَيَّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ قَالَ : فَقُلْتُ : إنِّي لَجَرِيءٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ إنْ كَذَبْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ.(4)
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة مرقم برقم(17095) وإسناده صحيح
(2) - مصنف ابن أبي شيبة برقم(17098) صحيح
(3) - نفسه برقم (17105) وهو صحيح
(4) - نفسه برقم (17101) وهو صحيح(1/346)
وَلَمْ يَكُنْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سبيعة الأسلمية حَيْثُ أَفْتَاهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّ عِدَّتَهَا وَضْعُ حَمْلِهَا ، فعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قَدْ حَلَلْتِ فَانْكِحِى مَن شِئْتِ »(1).
وَأَفْتَى هُوَ وَزَيْدٌ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ بِأَنَّ الْمُفَوَّضَةَ إذَا مَاتَ عَنهَا زَوْجُهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا.
فعَنِ ابْنِ عُمَرَ زَوَّجَ ابْنًا لَهُ امْرَأَةً مِن أَهْلِهِ فَتُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا صَدَاقًا فَطَلَبُوا إلَى ابْنِ عُمَرَ الصَّدَاقَ فَقَالَ : لَيْسَ لَهَا صَدَاقٌ , فَأَبَوْا أَنْ يَرْضَوْا بِذَلِكَ فَجَعَلُوا بَيْنَهُمْ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَأَتَوْهُ فَقَالَ : لَيْسَ لَهَا صَدَاقٌ , تَرِثُ وَتَعْتَدُّ(2).
وعَن أَبِي الشَّعْثَاءِ وَعَطَاءٍ فِي الَّذِي يُفْرَضُ إلَيْهِ فَيَمُوتُ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ قَالاَ : لَهَا الْمِيرَاثُ وَلَيْسَ لَهَا صَدَاقٌ.(3)
وعَن عَلِيٍّ قَالَ : لَهَا الْمِيرَاثُ وَلاَ صَدَاقَ لَهَا.(4)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلاً بِالْمَدِينَةِ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا قَالُوا : لَهَا الْمِيرَاثُ وَلاَ مَهْرَ لَهَا وَقَالَ مَسْرُوقٌ : لاَ يَكُونُ مِيرَاثٌ حَتَّى يَكُونَ قَبْلَهُ مَهْرٌ.(5)
__________
(1) - أخرجه في موطأ مالك برقم(1248) وهو صحيح .
(2) - مصنف ابن أبي شيبة برقم(17108) وإسناده صحيح
(3) - نفسه برقم (17109) وهو صحيح
(4) - نفسه برقم(17110و17117) وهو صحيح
(5) - نفسه برقم( 17111) وهو صحيح(1/347)
وَلَمْ تَكُنْ بَلَغَتْهُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بروع بِنْتِ وَاشِقٍ، فعَن عَبْدِ اللَّهِ فِى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَمَاتَ عَنهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا الصَّدَاقَ فَقَالَ لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلاً وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا الْمِيرَاثُ. فَقَالَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِهِ فِى بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ(1).
وعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ أُتِىَ فِى رَجُلٍ بِهَذَا الْخَبَرِ قَالَ فَاخْتَلَفُوا إِلَيْهِ شَهْرًا أَوْ قَالَ مَرَّاتٍ قَالَ فَإِنِّى أَقُولُ فِيهَا إِنَّ لَهَا صَدَاقًا كَصَدَاقِ نِسَائِهَا لاَ وَكْسَ وَلاَ شَطَطَ وَإِنَّ لَهَا الْمِيرَاثَ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّى وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ،فَقَامَ نَاسٌ مِن أَشْجَعَ فِيهِمُ الْجَرَّاحُ وَأَبُو سِنَانٍ فَقَالُوا يَا ابْنَ مَسْعُودٍ نَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَاهَا فِينَا فِى بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ وَإِنَّ زَوْجَهَا هِلاَلُ بْنُ مُرَّةَ الأَشْجَعِىُّ كَمَا قَضَيْتَ،قَالَ فَفَرِحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَرَحًا شَدِيدًا حِينَ وَافَقَ قَضَاؤُهُ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .(2)
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَبْلُغُ الْمَنقُولُ مِنهُ عَن أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَدَدًا كَثِيرًا جِدًّا .
__________
(1) - سنن أبى داود برقم(2116 ) صحيح
(2) - نفسه برقم( 2118 ) وهو صحيح(1/348)
وَأَمَّا الْمَنقُولُ مِنهُ عَن غَيْرِهِمْ فَلَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ ؛ فَإِنَّهُ أُلُوفٌ، فَهَؤُلَاءِ كَانُوا أَعْلَمَ الْأُمَّةِ وَأَفْقَهَهَا وَأَتْقَاهَا وَأَفْضَلَهَا فَمَن بَعْدَهُمْ أَنْقَصُ ؛ فَخَفَاءُ بَعْضِ السُّنَّةِ عَلَيْهِ أَوْلَى فَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ . فَمَن اعْتَقَدَ أَنَّ كُلَّ حَدِيثٍ صَحِيحٍ قَدْ بَلَغَ كُلَّ وَاحِدٍ مِن الْأَئِمَّةِ أَوْ إمَامًا مُعَيَّنًا فَهُوَ مُخْطِئٌ خَطَأً فَاحِشًا قَبِيحًا .
وَلَا يَقُولَن قَائِلٌ : الْأَحَادِيثُ قَدْ دُوِّنَتْ وَجُمِعَتْ ؛ فَخَفَاؤُهَا وَالْحَالُ هَذِهِ بَعِيدٌ . لِأَنَّ هَذِهِ الدَّوَاوِينَ الْمَشْهُورَةَ فِي السُّنَنِ إنَّمَا جُمِعَتْ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ ، وَمَعَ هَذَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ انْحِصَارَ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي دَوَاوِينَ مُعَيَّنَةٍ ،ثُمَّ لَوْ فُرِضَ انْحِصَارُ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَيْسَ كُلُّ مَا فِي الْكُتُبِ يَعْلَمُهُ الْعَالِمُ وَلَا يَكَادُ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِأَحَدِ . بَل قَدْ يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ الدَّوَاوِينُ الْكَثِيرَةُ وَهُوَ لَا يُحِيطُ بِمَا فِيهَا ،بَل الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ جَمْعِ هَذِهِ الدَّوَاوِينِ أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ مِن الْمُتَأَخِّرِينَ بِكَثِير(1)ِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّا بَلَغَهُمْ وَصَحَّ عِنْدَهُمْ قَدْ لَا يَبْلُغُنَا إلَّا عَن مَجْهُولٍ ؛ أَوْ بِإِسْنَادِ مُنْقَطِعٍ ؛ أَوْ لَا يَبْلُغُنَا بِالْكُلِّيَّةِ فَكَانَتْ دَوَاوِينُهُمْ صُدُورَهُمْ الَّتِي تَحْوِي أَضْعَافَ مَا فِي الدَّوَاوِينِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ مَن عَلِمَ الْقَضِيَّةَ.
__________
(1) - انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 6508) و(ج 6 / ص 832)(1/349)
قلت : وفي هذا ردٌّ على من يتسرعُ فينكر على الفقهاء حكماً معينا لم يطلع على دليله أو أنَّ دليله على حدِّ زعمه ضعيفٌ، دون أن يحيط علما بأدلتهم ، ككثير من فقهاء ومحدثي العصر مع الأسف !!!
وَلَا يَقُولَنَّ قَائِلٌ : مَن لَمْ يَعْرِفْ الْأَحَادِيثَ كُلَّهَا لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا؛ لِأَنَّهُ إنْ اُشْتُرِطَ فِي الْمُجْتَهِدِ عِلْمُهُ بِجَمِيعِ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَفِعْلُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ : فَلَيْسَ فِي الْأُمَّةِ مُجْتَهِدٌ، قد أحاط بالسنَّة النبوية كلِّها ، وهذا لم ولن يوجد حتى قيام الساعة، وعندئذ يبطل الاجتهاد، وهذا تكليف لما لا يطاق ، قال تعالى : {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا .} (286) سورة البقرة، وقال - صلى الله عليه وسلم - « سَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، وَاغْدُوا وَرُوحُوا ، وَشَىْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ ،وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا »(1)
وَإِنَّمَا غَايَةُ الْعَالِمِ أَنْ يَعْلَمَ جُمْهُورَ ذَلِكَ وَمُعْظَمَهُ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ إلَّا الْقَلِيلُ مِن التَّفْصِيلِ، ثُمَّ إنَّهُ قَدْ يُخَالِفُ ذَلِكَ الْقَلِيلَ مِن التَّفْصِيلِ الَّذِي يَبْلُغُهُ.
وبفضل الله تعالى ، فقد جمع كثيرٌ من السنَّة النبوية اليوم ، بعد أنْ كانت مفرَّقة في الأرض ،على برامج حاسوبية قيِّمة ، كالكتب والتسعة وغيرها ، بل هناك موقع على النت وهو( جامع الحديث النبوي ) وهو يجمع أكثر من أربعمائة كتاب مسند من الأحاديث النبوية ، وغالب هذه الكتب اليوم موجودة في برنامج المكتبة الشاملة 2 ، وفي برنامج جامع التراث .
ولكن لو جمعت كلها على سبيل الافتراض ،فليس جمعها وحده يزيل الخلاف ، لوجود أسباب أخرى متعلقة بهذا الموضوع ، كما سترى في الأسباب التالية .
- - - - - - - - - - - - - - - - -
السَّبَبُ الثَّانِي
__________
(1) - صحيح البخارى (6463 ) ومسلم (7300 )(1/350)
عدم ثبوت الحديث عند الفقيه(1)
أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَهُ لَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ،إمَّا لِأَنَّ مُحَدِّثَهُ أَوْ مُحَدِّثَ مُحَدِّثِهِ أَوْ غَيْرَهُ مِن رِجَالِ الْإِسْنَادِ مَجْهُولٌ عِنْدَهُ ، كما في سنن أبى داود(2191 ) عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَن مُظَاهِرٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَن عَائِشَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « طَلاَقُ الأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَقُرْؤُهَا حَيْضَتَانِ ». قَالَ أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنِى مُظَاهِرٌ حَدَّثَنِى الْقَاسِمُ عَن عَائِشَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَهُ إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ « وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ ». قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَهُوَ حَدِيثٌ مَجْهُولٌ. (قلت : المجهول : هو مظاهر )
وكما في سنن الترمذي(88 )عَن أَبِى زَيْدٍ عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ سَأَلَنِى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَا فِى إِدَاوَتِكَ ». فَقُلْتُ نَبِيذٌ. فَقَالَ « تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ ». قَالَ فَتَوَضَّأَ مِنهُ. قَالَ أَبُو عِيسَى وَإِنَّمَا رُوِىَ هَذَا الْحَدِيثُ عَن أَبِى زَيْدٍ عَن عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ،وَأَبُو زَيْدٍ رَجُلٌ مَجْهُولٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ لاَ يُعْرَفُ لَهُ رِوَايَةٌ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ.
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى - (ج 20 / ص 239) ومجموع رسائل ابن تيمية - (ج 31 / ص 5)(1/351)
وكما في سنن الترمذى(817 ) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْقُطَعِىُّ الْبَصْرِىُّ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِلاَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ الْبَاهِلِىِّ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِىُّ عَنِ الْحَارِثِ عَن عَلِىٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَن مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلاَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِى كِتَابِهِ (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِن هَذَا الْوَجْهِ وَفِى إِسْنَادِهِ مَقَالٌ. وَهِلاَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَجْهُولٌ وَالْحَارِثُ يُضَعَّفُ فِى الْحَدِيثِ.
أَوْ مُتَّهَمٌ في رواية الحديث ، ففي السنن الكبرى للبيهقي(ج 1 / ص 14)(40) وَأَمَّا حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ يَا عَمَّارُ مَا نُخَامَتُكَ وَلاَ دُمُوعُ عَيْنَيْكَ إِلاَّ بِمَنزِلَةِ الْمَاءِ الَّذِى فِى رَكْوَتِكَ إِنَّمَا تَغْسِلُ ثَوْبَكَ مِنَ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِىِّ وَالدَّمِ وَالْقَىْءِ. فَهَذَا بَاطِلٌ لاَ أَصْلَ لَهُ ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ ثَابِتُ بْنُ حَمَّادٍ عَن عَلِىِّ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَن عَمَّارٍ. {ج} وَعَلِىُّ بْنُ زَيْدٍ غَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهِ ، وَثَابِتُ بْنُ حَمَّادٍ مُتَّهَمٌ بِالْوَضْعِ.(1/352)
وفي السنن الكبرى للبيهقي (ج 4 / ص 132) (7748) فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِى أَخْبَرْنَاهُ أَبُو سَعْدٍ الْمَالِينِىُّ أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِىٍّ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى السَّرْخَسِىُّ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَنبَسَةَ حَدَّثَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَن حَمَّادٍ عَن إِبْرَاهِيمَ عَن عَلْقَمَةَ عَن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« لاَ يَجْتَمِعُ عَلَى الْمُسْلِمِ خَرَاجٌ وَعُشْرٌ ». {ج} فَهَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ وَصَلُهُ وَرَفْعُهُ وَيَحْيَى بْنُ عَنبَسَةَ مُتَّهَمٌ بِالْوَضْعِ. قَالَ أَبُو سَعْدٍ قَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِىٍّ إِنَّمَا يَرْوِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَن حَمَّادٍ عَن إِبْرَاهِيمَ مِن قَوْلِهِ. رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ عَنبَسَةَ عَن أَبِى حَنِيفَةَ فَأَوْصَلَهُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : وَيَحْيَى بْنُ عَنبَسَةَ مَكْشُوفُ الأَمْرِ فِى ضَعْفَهِ لِرِوَايَاتِهِ عَنِ الثِّقَاتِ بِالْمَوْضُوعَاتِ.(1/353)
وفي شعب الإيمان للبيهقي(8633 ) أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ السُّكَّرِيُّ ، قَالَ : أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُؤَمَّلِ ، قَالَ : نا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَيْهَقِيُّ ، قَالَ : نا النُّفَيْلِيُّ ، قَالَ : نا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَن طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ ، عَن ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ ، عَن أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَن جَابِرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تُسَلِّمُوا تَسْلِيمَ الْيَهُودِ ، وَالنَّصَارَى ، فَإِنَّ تَسْلِيمَهُمْ إِشَارَةٌ بِالْكُفُوفِ والْحَوَاجِبِ " .(1/354)
" هَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ بِمَرَّةٍ ، فَإِنَّ طَلْحَةَ بْنَ زَيْدٍ الرَّقِّيَّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ ، مُتَّهَمٌ بِالْوَضْعِ ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ضَعِيفٌ " ، وَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ وَالْمَحْفُوظُ فِي حَدِيثِ صُهَيْبٍ ، وَبِلَالٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : " أَنَّ الْأَنْصَارَ جَاءُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي ، فَكَانَ يُشِيرُ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ " ، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ : " أَنَّهُ جَاءَ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ " وَفِي حَدِيثِ ابْنِ سِيرِينَ فِي قِصَّةِ ابْنِ مَسْعُودٍ حِينَ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي : " فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ " ، وَإِنَّمَا الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي ذَلِكَ عَن ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ كَمَا (8637 ) َخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ ، قَالَ : أنا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ ، قَالَ : نا ابْنُ أَبِي قَمَّاشٍ ، قَالَ : نا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، عَن أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ ، عَن ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ ، عَن أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَن جَابِرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " تَسْلِيمُ الرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ بِإِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ فِعْلُ الْيَهُودِ " . " وَيُحْتَمَلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ كَرَاهِيَةَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْإِشَارَةِ فِي التَّسْلِيمِ دُونَ التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ التَّسْلِيمِ ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ تَمْنَعُهُ مِنَ التَّكْلِيمِ "(1/355)
أَوْ سَيِّئُ الْحِفْظِ ، وهذا يوجد في عديد من الرواة ، فقد يكون رواه بعد سوء حفظه فخالف الثقات أو وهم فيه ، ففي الضُّعَفَاءُ الْكَبِيرِ لِلْعُقَيْلِيِّ (1812 )حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ : سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى ، يُحَدِّثُ عَن سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , " يُوتِرُ بِـ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى , وَ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ , وَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " . قَالَ شُعْبَةُ : فَسَأَلْتُ سَلَمَةَ بْنَ كُهَيْلٍ ، فَحَدَّثَنِي عَن ذَرٍّ , عَنِ ابْنِ أَبْزَى , عَن أَبِيهِ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , نَحْوَهُ
(1813 ) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الرَّازِيُّ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ ، عَن شُعْبَةَ قَالَ : أَفَادَنِي ابْنُ أَبِي لَيْلَى , عَن سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ ، عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - , " كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ " . فَلَقِيتُ سَلَمَةَ فَسَأَلْتُهُ , فَقَالَ : حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى ، قُلْتُ : إِنَّمَا أَفَادَنِي عَنكَ ، عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى ، فَقَالَ : مَا ذَنْبِي إِنْ كَانَ يَكْذِبُ عَلَيَّ".
قلت : محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى كان سيء الحفظ(1)
__________
(1) - تقريب التهذيب(6081) والكاشف(5000)(1/356)
وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ مُسْنَدًا بَل مُنْقَطِعًا ؛ ففي المستدرك (7156 ) عن حَسَّانَ بْن عَطِيَّةَ ، عَن أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيُّ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا بِأَرْضِ مَخْمَصَةٍ ، فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنَ الْمَيْتَةِ ؟ قَالَ : إِذَا لَمْ تَصْطَبِحُوا ، وَلَمْ تَغْتَبِقُوا ، وَلَمْ تُحْتِفُوا ، فَشَأْنُكُمْ بِهَا"هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ "تعليق الحافظ الذهبي في التلخيص : فيه انقطاع( قلت : حسان بن عطية لم يدرك أبا واقد)
وفي السنن الكبرى للبيهقي (727)عَن سَعِيدٍ عَن قَتَادَةَ : أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَتَنَوَّرْ وَلاَ أَبُو بَكْرٍ وَلاَ عُمَرَ وَلاَ عُثْمَانَ(1). وهو منقطع
وفي السنن الكبرى للبيهقي(5417)عَن مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ رَفَعَهُ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« إِنْ جَاءَ رَجُلٌ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا فَلْيَخْتَلِجْ إِلَيْهِ رَجُلاً مِنَ الصَّفِّ فَلْيَقُمْ مَعَهُ فَمَا أَعْظَمَ أَجْرَ الْمُخْتَلِجِ».وَهُوَ مُنْقَطِعٌ. ومثله كثير
__________
(1) - النُّورَةُ من الحجر الذي يحرق ويُسَوَّى منه الكِلْسُ ويحلق به شعر العانة قال أَبو العباس يقال انْتَوَرَ الرجلُ وانْتارَ من النُّورَةِ قال ولا يقال تَنَوَّرَ إِلا عند إِبصار النار" لسان العرب - (ج 5 / ص 240)(1/357)
أَوْ لَمْ يَضْبُطْ لَفْظَ الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ قَدْ رَوَاهُ الثِّقَاتُ لِغَيْرِهِ بِإِسْنَادِ مُتَّصِلٍ بِأَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ يَعْلَمُ مِن الْمَجْهُولِ عِنْدَهُ الثِّقَةَ ، ففي السنن الكبرى للبيهقي(3620) أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنِى أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدُوسٍ قَالَ سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيًّا يَعْنِى ابْنَ الْمَدِينِىِّ يَقُولُ فِى هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ سُفْيَانُ سَمِعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ يَقُولُ أَخْبَرَنِى كَثِيرُ بْنُ كَثِيرٍ عَن أَبِيهِ عَن جَدِّهِ قَالَ : رَأَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ. قَالَ سُفْيَانُ : فَذَهَبْتُ إِلَى كَثِيرٍ فَسَأَلْتُهُ قُلْتُ: حَدِيثٌ تُحَدِّثُهُ عَن أَبِيكَ. قَالَ : لَمْ أَسْمَعْهُ مِن أَبِى ، حَدَّثَنِى بَعْضُ أَهْلِى عَن جَدِّى الْمُطَّلِبِ. قَالَ عَلِىٌّ : قَوْلُهُ لَمْ أَسْمَعْهُ مِن أَبِى شَدِيدٌ عَلَى ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ عُثْمَانُ يَعْنِى ابْنَ جُرَيْجٍ لَمْ يَضْبِطْهُ. {ت} قَالَ الشَّيْخُ وَقَدْ قِيلَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَن كَثِيرٍ عَن أَبِيهِ قَالَ حَدَّثَنِى أَعْيَانُ بَنِى الْمُطَّلِبِ عَنِ الْمُطَّلِبِ. وَرِوَايَةُ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَحْفَظُ.(1/358)
وكما في موطأ مالك (42 ) حَدَّثَنِى يَحْيَى عَن مَالِكٍ عَن صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَن سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ - مِن آلِ بَنِى الأَزْرَقِ - عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِى بُرْدَةَ - وَهُوَ مِن بَنِى عَبْدِ الدَّارِ - أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا أَفَنَتَوَضَّأُ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ».
فهذا الحديث حصل خلاف كبير في أسانيده وصححه أكثر أهل العلم ،وَخَالف الْحَافِظ أَبُو عمر ابْن عبد الْبر ، فَقَالَ فِي «تمهيده» : اخْتلف أهل الْعلم فِي إِسْنَاده . قَالَ : وَقَول البُخَارِيّ : صَحِيح . لَا أَدْرِي مَا هَذَا مِنهُ ؟ ! وَلَو كَانَ صَحِيحا عِنْده ، لأخرجه فِي كِتَابه . قَالَ : وَهَذَا الحَدِيث لم يحْتَج أهل الحَدِيث بِمثل إِسْنَاده . قَالَ : وَهُوَ عِنْدِي صَحِيح ؛ لِأَن الْعلمَاء تلقوهُ بِالْقبُولِ وَالْعَمَل بِهِ ، لَا يُخَالف [ فِي ] جملَته أحد (من) الْفُقَهَاء ، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي بعض مَعَانِيه(1).
__________
(1) - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد - (ج 16 / ص 218)(1/359)
وقد ردَّ عليه الملقن ردًّا قويًّا في البدر المنير ، فقال(1):"وَهَذَا الْكَلَام من الْحَافِظ أبي عمر فِيهِ نظر كَبِير ، لَا جرم أَن الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين تعقَّبه ، فَقَالَ فِي «شرح الإِلمام» : (قَوْله) : لَو كَانَ صَحِيحا لأخرجه (فِي كِتَابه) . غير لَازم ؛ لِأَنَّهُ (لم) يلْتَزم إِخْرَاج كل حَدِيث (صَحِيح) . وَأما قَوْله : لم يحْتَج أهل الحَدِيث بِمثل إِسْنَاده . فقد ذكرنَا فِي كتاب «الإِمام» وُجُوه التَّعْلِيل الَّتِي يُعلل بهَا الحَدِيث .
قلت : وحاصلها - كَمَا قَالَ فِيهِ - أَنه يُعلل بأَرْبعَة أوجه :
أَحدهَا : الْجَهَالَة [ بِسَعِيد ] بن سَلمَة ، والمغيرة بن أبي بردة ، الْمَذْكُورين فِي إِسْنَاده ، وادَّعى أَنه لم يرو عَن سعيد غير صَفْوَان بن سليم ، وَلَا عَن الْمُغيرَة غير سعيد بن سَلمَة ،قَالَ الإِمام الشَّافِعِي : فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث من لَا أعرفهُ .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» : يحْتَمل أَن يُرِيد سعيد بن سَلمَة ، أَو الْمُغيرَة أَو كِلَاهُمَا .
وَالْجَوَاب : أَنه رَوَاهُ عَن سعيد غير صَفْوَان ، رَوَاهُ عَنهُ : الجُلاَح ، بِضَم الْجِيم ، وَتَخْفِيف اللَّام ، وَآخره حاء مُهْملَة . قَالَ أَبُو عبيد فِي كِتَابه «الطّهُور» : وَخَالف أَبُو الْأسود أَصْحَابه ، فَقَالَ : الجلاخ - بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة . انْتَهَى - كنيته : أَبُو كثير ، رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من رِوَايَة قُتَيْبَة ، عَن لَيْث ، عَنهُ . وَلَفظه : «أنَّ نَاسا أَتَوا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالُوا : إنَّا نبعد فِي الْبَحْر ، وَلَا نحمل [ من المَاء ] إلاَّ الإِداوة والإِداوتين ، [ لأنَّا ] لَا نجد الصَّيْد حَتَّى نبعد ، فنتوضأ بِمَاء الْبَحْر ؟ فَقَالَ : «نعم ، إنَّه الحِلُّ ميتَته ، الطّهُور مَاؤُهُ» .
__________
(1) - البدر المنير - (ج 1 / ص 350)(1/360)
وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك» ، والحافظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه الْكَبِير» ، من طَرِيق : يَحْيَى بن بكير عَن اللَّيْث ، بِسَنَدِهِ ، وَلَفْظهمَا : «كُنَّا عِنْد رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا ، فَجَاءَهُ صَيَّاد ، فَقَالَ : يَا رَسُول الله ، إنَّنا ننطلق فِي الْبَحْر ، نُرِيد الصَّيْد فَيحمل أَحَدنَا (مَعَه) الإِداوة ، وَهُوَ يَرْجُو أَن يَأْخُذ الصَّيْد قَرِيبا ، فَرُبمَا وجده كَذَلِك ، وَرُبمَا لم يجد الصَّيْد حتَّى يبلغ من الْبَحْر مَكَانا لم يظنّ (أَن) يبلغهُ ، فَلَعَلَّهُ يَحْتَلِم ، أَو يتَوَضَّأ فإنْ اغْتسل أَو تَوَضَّأ بِهَذَا المَاء فَلَعَلَّ أَحَدنَا يُهْلِكُه الْعَطش ، فَهَل ترَى فِي مَاء الْبَحْر أَن نغتسل بِهِ ، أَو نَتَوَضَّأ (بِهِ) إِذا خفنا ذَلِك ؟ فَزعم أَن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : «اغتسلوا مِنهُ وَتَوَضَّئُوا بِهِ ، فَإِنَّهُ الطُّهُورُ مَاؤُهُ ، الحِلُّ ميتَته» .
قَالَ الْحَاكِم : قد احْتج مُسلم بالجلاح ، أبي كثير .
قلت : وَرَوَاهُ عَن الجلاح أَيْضا : يزِيد بن أبي حبيب ، وَعَمْرو بن الْحَارِث .
أما رِوَايَة عَمْرو : فَمن طَرِيق ابْن وهب ، وَأما رِوَايَة يزِيد : فَمن طَرِيق اللَّيْث عَنهُ ،وَأما الْمُغيرَة بن أبي بردة : فقد رَوَى عَنهُ يَحْيَى بن سعيد ، وَيزِيد بن مُحَمَّد الْقرشِي إِلَّا أَن يَحْيَى بن سعيد اخْتُلف عَلَيْهِ فِيهِ :
فَرَوَاهُ هشيم عَنهُ ، عَن الْمُغيرَة ، عَن رجل من بني مُدْلِج مَرْفُوعا .
وَرَوَاهُ حَمَّاد عَنهُ ، عَن الْمُغيرَة ، (عَن أَبِيه) ، عَن أبي هُرَيْرَة .ذكرهمَا الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» .
وَرِوَايَة يزِيد بن مُحَمَّد : أخرجهَا أَيْضا فِيهِ ، وَرَوَاهَا أَيْضا : أَحْمد بن عبيد الصَفَّار ، صَاحب «الْمسند» . وَمن جِهَته أخرجهَا الْبَيْهَقِيّ .(1/361)
قَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله بن مَندَه : (فاتفاق صَفْوَان والجلاح) ، مِمَّا يُوجب شهرة سعيد بن سَلمَة ، واتفاق يَحْيَى بن سعيد ، وَسَعِيد بن سَلمَة ، عَلَى الْمُغيرَة بن أبي بردة ، مِمَّا يُوجب شهرة الإِسناد ، فَصَارَ الإِسناد مَشْهُورا .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين : وَقد زِدْنَا عَلَى مَا ذكرنَا عَن ابْن مَندَه : رِوَايَة يزِيد بن مُحَمَّد الْقرشِي ، فتلخص أَن الْمُغيرَة رَوَى عَنهُ ثَلَاثَة ، فبطلت دَعْوَى التفرد الْمَذْكُور عَن سعيد وَصَفوَان .
قَالَ فِي «شرح الإِلمام» : فالجهالة فِي حق سعيد ترْتَفع بِرِوَايَة الجلاح وَصَفوَان عَنهُ ، وَذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُور عِنْد الْمُحدثين : بِرَفْع الْجَهَالَة عَن الرَّاوِي . والجهالة مُرْتَفعَة عَن الْمُغيرَة بِرِوَايَة ثَلَاثَة عَنهُ كَمَا تقدم ، مَعَ كَونه مَعْرُوفا من غير الحَدِيث فِي مَوَاقِف (الحذر) فِي الحروب بالمغرب .
قَالَ : وَزَوَال الْجَهَالَة عَن سعيد بِرِوَايَة [ اثْنَيْنِ ] عَنهُ ، وَعَن الْمُغيرَة بِرِوَايَة ثَلَاثَة عَنهُ يَكْتَفِي بِهِ من لَا يرَى أَنه لابد من معرفَة حَال الرَّاوِي فِي الْعَدَالَة ، بعد زَوَال الْجَهَالَة عَنهُ ، فإنْ كَانَ المصححون لَهُ قد علموها عَلَى جِهَة التَّفْصِيل ، فَلَا إِشْكَال مَعَ ذَلِك ، وإلاَّ فَلَا يبعد اعتمادهم عَلَى تحري مَالك ، وإتقانه للرِّجَال أَو عَلَى الِاكْتِفَاء بالشهرة .
قلت : قد ثَبت ثِقَة سعيد بن سَلمَة ، والمغيرة بن أبي بردة (صَرِيحًا) ، (فإنَّ الإِمام أَبَا عبد الرَّحْمَن النَّسَائِيّ وثقهما ، كَمَا نَقله عَنهُ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «تهذيبه» ، وَكَذَلِكَ أَبُو (حَاتِم) ابْن حبَان ، ذكرهمَا فِي كتاب «الثِّقَات») .(1/362)
وَرَوَى الْآجُرِيّ عَن أبي دَاوُد ، أَنه قَالَ : الْمُغيرَة بن أبي بردة مَعْرُوف . وأوضح ابْن يُونُس معرفَة عينه ، فارتفعت عَنهُمَا جَهَالَة الْحَال بِهَذَا ، وجهالة الْعين بِمَا تقدم . وينضم إِلَى ذَلِك تَصْحِيح الْأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين لَهُ : التِّرْمِذِيّ ، وَالْبُخَارِيّ ، وَابْن الْمُنْذر ، وَابْن خُزَيْمَة ، وَابْن حبَان ، وَالْبَيْهَقِيّ ، وَابْن مَندَه ، وَالْبَغوِيّ ، وَغَيرهم .
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك» : (مثل هَذَا الحَدِيث) الَّذِي صَدَّر بِهِ مَالك كتاب «الْمُوَطَّأ» ، وتداوله فُقَهَاء الإِسلام من عصره إِلَى وقتنا هَذَا ، لَا يُردُّ بِجَهَالَة هذَيْن الرجلَيْن . قَالَ : عَلَى أَن اسْم الْجَهَالَة مَرْفُوع عَنهُمَا بمتابعات . فَذكرهَا بأسانيده ،وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» : الَّذِي أَقَامَ إِسْنَاده ثِقَة ، أودعهُ مَالك فِي موطئِهِ .
الْوَجْه الثَّانِي من التَّعْلِيل : الِاخْتِلَاف فِي اسْم سعيد بن سَلمَة .
فَقيل - كَمَا قَالَ الإِمام مَالك - : سعيد بن سَلمَة ، من (آل) ابْن الْأَزْرَق . وَقيل : عبد الله بن سعيد المَخْزُومِي . وَقيل سَلمَة بن سعيد .
وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ المخالفان لرِوَايَة مَالك (هما من رِوَايَة : مُحَمَّد بن إِسْحَاق ، عَلَى الِاخْتِلَاف عَنهُ ، وَالتَّرْجِيح لرِوَايَة مَالك) - مَعَ جلالته ، وَعدم الِاخْتِلَاف عَلَيْهِ - أولَى ،وَإِن كَانَ أَبُو عمر ابْن عبد الْبر (قَالَ) : [ رُوَاة الْمُوَطَّأ ] اخْتلفُوا ، فبعضهم يَقُول : من آل بني الْأَزْرَق ، كَمَا قَالَ يَحْيَى . وَبَعْضهمْ يَقُول : من آل الْأَزْرَق . وَكَذَا قَالَ (القعْنبِي) . وَبَعْضهمْ يَقُول : من آل ابْن الْأَزْرَق ، كَذَلِك قَالَ [ ابْن ] الْقَاسِم ، وَابْن بكير . قَالَ ابْن عبد الْبر : وَهَذَا كُله مُتَقَارب غير (ضار) .(1/363)
قلت : وَهَذَا الْوَجْه هُوَ الَّذِي اعتذر بِهِ الْبَيْهَقِيّ عَن الشَّيْخَيْنِ فِي عدم تخريجهما لهَذَا الحَدِيث ، فَقَالَ فِي كتاب «الْمعرفَة» : (إنَّما) لم يخرجَاهُ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» لاخْتِلَاف وَقع فِي اسْم سعيد بن سَلمَة ، والمغيرة بن أبي بردة .
وَهَذَا غير ضار ؛ إِذْ قد زَالَت الْجَهَالَة عَنهُمَا عينا وَحَالا كَمَا تقدَّم ، فَلَا يضر حينئذٍ الِاخْتِلَاف فِي اسمهما .
الْوَجْه الثَّالِث من التَّعْلِيل : التَّعْلِيل بالإِرسال .
قَالَ أَبُو عمر ابْن عبد الْبر : ذكر ابْن أبي عمر ، والْحميدِي ، والمخزومي ، عَن ابْن عُيَيْنَة ، عَن يَحْيَى بن سعيد ، عَن رجل من أهل الْمغرب - يُقَال لَهُ : الْمُغيرَة بن عبد الله بن أبي بردة - : «أنَّ نَاسا من بني مُدْلِج أَتَوا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالُوا : يَا رَسُول الله ! إنَّا نركب أَرْمَاثًا فِي الْبَحْر ...» وسَاق الحَدِيث بِمَعْنى حَدِيث مَالك ،قَالَ أَبُو عمر : هُوَ مُرْسل ، وَيَحْيَى بن سعيد أحفظ من صَفْوَان بن سليم ، وَأثبت من سعيد بن سَلمَة ، وَلَيْسَ إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث مِمَّا تقوم بِهِ عِنْد أهل الْعلم بِالنَّقْلِ حجَّة ؛ لِأَن فِيهِ رجلَيْنِ غير معروفين بِحمْل الْعلم .
وَأَرَادَ أَبُو عمر بِالرجلَيْنِ : سعيدًا والمغيرة ، وَقد تقدَّم رَدُّ جهالتهما ، وَأكْثر مَا بَقِي فِي هَذَا الْوَجْه - بعد اشتهار سعيد والمغيرة - تَقْدِيم إرْسَال الأحفظ ، عَلَى إِسْنَاد من دونه ، فإنَّ يَحْيَى بن سعيد أرْسلهُ من هَذَا الْوَجْه ، وَسَعِيد بن سَلمَة أسْندهُ ، وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة فِي الْأُصُول .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «(شرح) الإِلمام» : وَهَذَا غير قَادِح عَلَى الْمُخْتَار عِنْد أهل الْأُصُول .(1/364)
قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم ابْن عَسَاكِر - بعد أَن ذكر رِوَايَة من رَوَى عَن الْمُغيرَة بن أبي بردة عَن أَبِيه وَقد جَوَّدَه عبد الله بن يُوسُف ، عَن مَالك ، عَن صَفْوَان ، سمع (الْمُغيرَة) أَبَا هُرَيْرَة ،وَأَيْضًا تقدم رِوَايَة مَالك وَمن تَابعه لعدم الِاضْطِرَاب فِيهَا ، عَلَى رِوَايَة يَحْيَى بن سعيد للِاخْتِلَاف عَلَيْهِ .
الْوَجْه الرَّابِع : التَّعْلِيل بِالِاضْطِرَابِ .
قد تقدم اتِّفَاق رِوَايَة مَالك ، وَيزِيد بن مُحَمَّد الْقرشِي ، والجلاح ، من جِهَة اللَّيْث ، وَعَمْرو بن الْحَارِث .
وَأما ابْن إِسْحَاق : فَرَوَاهُ عَن يزِيد ، عَن جلاح ، عَن عبد الله بن سعيد المَخْزُومِي ، عَن الْمُغيرَة بن أبي بردة ، عَن أَبِيه ، عَن أبي هُرَيْرَة ، عَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - ،وَرَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» كَذَلِك بالسند الْمَذْكُور (عَن أبي هُرَيْرَة) ، قَالَ : «أَتَى (رجال) من بني مُدْلِج إِلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ، (فَقَالُوا) : يَا رَسُول الله ، إنَّا أَصْحَاب هَذَا الْبَحْر ، نعالج الصَّيْد عَلَى رِمْث ، فَنَعْزُب فِيهِ اللَّيْلَة والليلتين وَالثَّلَاث والأربع ، ونحمل مَعنا من العذب لشفاهنا ، فإنْ نَحن توضأنا بِهِ خشينا عَلَى أَنْفُسنَا ، وإنْ نَحن آثرنا بِأَنْفُسِنَا ، وتوضأنا من الْبَحْر ، وجدنَا فِي أَنْفُسنَا من ذَلِك ، فَخَشِينَا أَن لَا يكون طهُورا . فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - : «توضئوا مِنهُ ، فإنَّه الطَّاهِرُ ماؤُه ، (الحِلُّ) ميتَته» .
وَفِي رِوَايَة عَن ابْن إِسْحَاق : سَلمَة بن سعيد ، عَن الْمُغيرَة بن أبي بردة حَلِيف بني عبد الدَّار ، عَن أبي هُرَيْرَة ، عَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - .(1/365)
قَالَ البُخَارِيّ : وَحَدِيث مَالك أصح ،وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ : اللَّيْث بن سعد أحفظ من مُحَمَّد بن إِسْحَاق ، وَقد أَقَامَ إِسْنَاده عَن يزِيد بن أبي حبيب ، وَتَابعه عَلَى ذَلِك عَمْرو بن الْحَارِث عَن الجلاح ، فَهُوَ أولَى أَن يكون صَحِيحا ، وَقد رَوَاهُ يزِيد بن مُحَمَّد الْقرشِي ، عَن الْمُغيرَة بن أبي بردة (نَحْو رِوَايَة من رَوَاهُ عَلَى الصِّحَّة .
وَالِاخْتِلَاف عَلَى يَحْيَى بن سعيد فِيهِ كَبِير ، وَقَالَ هشيم عَنهُ فِي رِوَايَة : عَن الْمُغيرَة بن أبي [ بَرزَة ]) . وَحمل التِّرْمِذِيّ الْوَهم عَلَى هشيم فِي ذَلِك ، وَحَكَاهُ عَن البُخَارِيّ ، فَقَالَ : وهم فِيهِ هشيم ، إنَّما هُوَ : ابْن أبي بردة ، وَقد رَوَاهُ أَبُو عبيد (عَن) هشيم عَلَى الصَّوَاب ، فقد يكون الْوَهم مِمَّن دونه "
ومثل حديث القلتين كما في سنن أبى داود (63 ) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ وَغَيْرُهُمْ قَالُوا حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ عَن مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَن أَبِيهِ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْمَاءِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ ».
فقد صححه قوم وضعفه آخرون ، فمن صححه كالشافعية عملوا به ، ومن ضعفه لم يعمل به كالحنفية(1)
__________
(1) وانظر الكلام عليه مطولا نصب الراية - (ج 1 / ص 104) والتلخيص الحبير - (ج 1 / ص 135)(4) والبدر المنير - (ج 1 / ص 404) فما بعد(1/366)
أَوْ يَكُونُ قَدْ رَوَاهُ غَيْرُ أُولَئِكَ الْمَجْرُوحِينَ عِنْدَهُ ؛ مثل حديث :« مَن غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ ».(1)
فقد صححه قوم وضعفه آخرون ، قال ابن الملقن :" هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق كَثِيرَة ، يَدُور - فِيمَا حصرنا مِنهَا - عَلَى سِتَّة من الصَّحَابَة أبي هُرَيْرَة ، وَعَائِشَة ، وَعلي ، وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ ، وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان ، والمغيرة رَضي اللهُ عَنهم .
ثم أما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فيحضرنا من (طرقه) ثَلَاثَة عشر طَرِيقا :
فذكرها جميعاً وذكر قول العلماء على جميعها ، ثم قال عقبها هَذَا مَا حَضَرنَا من كَلَام الْحفاظ قَدِيما وحديثًا عَلَيْهِ ، وَحَاصِله تَضْعِيف رَفعه وَتَصْحِيح وَقفه ، وَلَا بُد من النّظر فِي ذَلِك عَلَى سَبِيل التَّفْصِيل دون الِاكْتِفَاء بالتقليد ، وَقد قَامَ بذلك صَاحب «الإِمَام» وَحَاصِل مَا يعتل بِهِ فِي ذَلِك وَجْهَان :
أَحدهمَا : من جِهَة رجال الْإِسْنَاد ، فَأَما رِوَايَة صَالح مولَى التوءمة - وَهِي الطَّرِيق الثَّالِث - (فقد) سلف قَول مَالك وَشعْبَة فِيهِ ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : اخْتَلَط فِي آخر عمره ، فَخرج عَن (حد) الِاحْتِجَاج بِهِ .
وَأما رِوَايَة عَمْرو بن عُمَيْر - وَهِي الطَّرِيق الرَّابِع - فَقَالَ الْبَيْهَقِيّ (فِيهِ) : إِنَّمَا (يعرف) بِهَذَا الحَدِيث ، وَلَيْسَ بالمشهور . وَقَالَ ابْن الْقطَّان : إِنَّه مَجْهُول الْحَال لَا يعرف بِغَيْر هَذَا ، (وَهَذَا) الحَدِيث من غير مزِيد ذكره (ابْن أبي حَاتِم) .قَالَ ابْن الْقطَّان : وَهَذَا عِلّة الْخَبَر .
وَأما زُهَيْر الْمَذْكُور فِي الطَّرِيق الْخَامِس فَقَالَ الْبَيْهَقِيّ : قَالَ البُخَارِيّ : رَوَى عَنهُ أهل الشَّام أَحَادِيث مَنَاكِير . وَقَالَ النَّسَائِيّ : لَيْسَ بِالْقَوِيّ .
__________
(1) انظر طرقه وتخريجه في المسند الجامع - (ج 17 / ص 9)(13218 -13221)(1/367)
وَأما حَدِيث الْعَلَاء - وَهُوَ السَّادِس - فَقَالَ ابْن الْقطَّان : لَيْسَ بِمَعْرُوف .
وَأما السَّابِع : فَفِي إِسْنَاده أَبُو (وَاقد) واسْمه : صَالح بن مُحَمَّد بن زَائِدَة . قَالَ يَحْيَى بن معِين : لَيْسَ حَدِيثه بِذَاكَ . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَجَمَاعَة : ضَعِيف . وَقَالَ البُخَارِيّ : مُنكر الحَدِيث .
وَأما الثَّامِن : فَفِيهِ أَبُو إِسْحَاق ، وَهُوَ مَجْهُول ، كَمَا سلف عَن أبي حَاتِم الرَّازِيّ .
وَأما التَّاسِع : فمحمد بن (عَمْرو) قَالَ يَحْيَى : مَا زَالَ النَّاس يَتَّقُونَ حَدِيثه .
وَأما الْعَاشِر : فالبكراوي ، وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان ، طرح النَّاس حَدِيثه ، كَمَا قَالَه أَحْمد ، وَقَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ : ذهب حَدِيثه .
وَقَالَ أَبُو حَاتِم : لَيْسَ بِقَوي ، يكْتب حَدِيثه وَلَا يحْتَج بِهِ . وَقَالَ يَحْيَى وَالنَّسَائِيّ : ضَعِيف . وَقَالَ ابْن حبَان : يروي المقلوبات عَن الْأَثْبَات ، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ .
وَأما الْحَادِي عشر : فَقَالَ الْبَيْهَقِيّ : فِي إِسْنَاده ابْن لَهِيعَة (وحنين) بن أبي حَكِيم ، وَلَا يحْتَج بهما .
الْوَجْه الثَّانِي : التَّعْلِيل ؛ فَأَما رِوَايَة سُهَيْل فقد قَالَ التِّرْمِذِيّ : إِنَّه رُوِيَ مَوْقُوفا . وَأَيْضًا ؛ فقد رَوَاهُ سُفْيَان ، عَن سُهَيْل ، عَن أَبِيه ، عَن إِسْحَاق مولَى زَائِدَة ، عَن أبي هُرَيْرَة - كَمَا سلف - فَأدْخل (رجلا) بَين أبي صَالح وَأبي هُرَيْرَة ، وَهَذَا اخْتِلَاف .(1/368)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : وَإِنَّمَا لم يقو عِنْدِي أَنه يرْوَى عَن سُهَيْل بن أبي صَالح ، عَن أَبِيه ، عَن أبي هُرَيْرَة ، وَيدخل بعض الْحفاظ بَين أبي صَالح وَأبي هُرَيْرَة «إِسْحَاق مولَى زَائِدَة» . قَالَ : فَيدل عَلَى (أَن) أَبَا صَالح لم يسمعهُ من أبي هُرَيْرَة ، وَلَيْسَت معرفتي [ بِإسْحَاق ] مولَى زَائِدَة مثل معرفتي بِأبي صَالح ، وَلَعَلَّه أَن يكون ثِقَة .
(وَأما) رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب ؛ فقد أسلفنا (روايتنا) لَهُ عَن صَالح ، عَن أبي هُرَيْرَة ، وَعَن الْقَاسِم بن عَبَّاس ، عَن عَمْرو بن عُمَيْر ، عَن أبي هُرَيْرَة .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ عقب (رِوَايَة) ابْن أبي ذِئْب : وَصَالح مولَى التوءمة لَيْسَ بِالْقَوِيّ .
وَأما رِوَايَة مُحَمَّد بن عَمْرو فقد رَوَاهَا عبد الْوَهَّاب عَنهُ مَوْقُوفَة عَلَى أبي هُرَيْرَة ، وَرجحه بَعضهم عَلَى الرّفْع . قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَهُوَ الصَّحِيح كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ البُخَارِيّ . وَرَوَاهُ مُعْتَمر (أَيْضا) عَن مُحَمَّد فَوَقفهُ ، وَقد أسلفنا عَن أبي حَاتِم أَن الرّفْع خطأ . ثمَّ شرع الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين يُجيب عَن ذَلِك فَقَالَ : لقَائِل أَن يَقُول : أما الْكَلَام عَلَى صَالح مولَى التوءمة فَهُوَ وَإِن كَانَ مَالك قَالَ فِيهِ : إِنَّه لَيْسَ بِثِقَة - كَمَا قدمْنَاهُ - واستضعفه غَيره (فقد قَالَ) يَحْيَى فِيهِ : إِنَّه ثِقَة حجَّة . قيل لَهُ : إِن مَالِكًا (ترك) السماع مِنهُ ! فَقَالَ : (إِن) مَالِكًا إِنَّمَا أدْركهُ بعد أَن خرف ، وَلَكِن ابْن أبي ذِئْب سمع مِنهُ قبل أَن يخرف .(1/369)
وَقَالَ السَّعْدِيّ : تغير جدًّا ، وَحَدِيث ابْن أبي ذِئْب (مَقْبُول) مِنهُ لقدم سَمَاعه . قَالَ الشَّيْخ : فَهَذَا يَقْتَضِي أَن كَلَام مَالك فِيهِ بعد تغيره وَأَن رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب قديمَة مَقْبُولَة ، وَهَذَا الحَدِيث من رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب عَنهُ . قَالَ : وَبِهَذَا يحصل الْجَواب عَن قَول الْبَيْهَقِيّ فِيهِ «إِنَّه اخْتَلَط فِي آخر عمره ؛ فَخرج عَن حد الِاحْتِجَاج بِهِ» لِأَنَّهُ قد تبين بِشَهَادَة من تقدم بقدم سَماع ابْن أبي ذِئْب وَأَنه مَقْبُول .
قلت : وَبِه يُجَاب (أَيْضا) عَن إعلال ابْن الْجَوْزِيّ الحَدِيث بِهِ كَمَا أسلفناه عَنهُ . قَالَ الشَّيْخ : وَأما رِوَايَة سُهَيْل ، عَن أَبِيه ، عَن أبي هُرَيْرَة فسندها عِنْد التِّرْمِذِيّ من شَرط الصَّحِيح ، وَقَالَ فِيهَا التِّرْمِذِيّ : إِنَّه حَدِيث حسن ، وَعبد الْعَزِيز (بن) الْمُخْتَار وَأَبُو صَالح مُتَّفق عَلَيْهِمَا ، وَمُحَمّد بن عبد الْملك و (سُهَيْل) أخرج لَهما مُسلم . وَقَالَ الشَّيْخ فِي (الْإِلْمَام) أَيْضا : رِجَاله رجال مُسلم . وَقد أخرجهَا ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن الْحجَّاج الشَّامي ، حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة ، عَن سُهَيْل ، عَن أَبِيه ، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا : «من غسل مَيتا فليغتسل ، وَمن حمله فَليَتَوَضَّأ» وَفِي هَذِه الرِّوَايَة فَائِدَة أُخْرَى ؛ وَهِي مُتَابعَة حمادٍ عبدَ الْعَزِيز .
وَأما رِوَايَة سُفْيَان وَإِدْخَال إِسْحَاق بَين أبي صَالح وَأبي هُرَيْرَة ، فَكَمَا قَالَ الشَّافِعِي يدلُّ عَلَى أَن أَبَا صَالح لم يسمعهُ من أبي هُرَيْرَة ، وَلَكِن إِسْحَاق مولَى زَائِدَة موثق أخرج لَهُ مُسلم ، وَقَالَ يَحْيَى : ثِقَة . وَإِذا كَانَ ثِقَة ، فكيفما كَانَ الحَدِيث عَنهُ أَو عَن أبي صَالح ، عَن أبي هُرَيْرَة ، لم يخرج عَن ثِقَة .(1/370)
قلت : وَقَول الشَّافِعِي السالف إِن فِي إِسْنَاده رجلا لم أَقف (عَلَى معرفَة) ثَبت حَدِيثه إِلَى يومي عَلَى مَا يقنعني . الظَّاهِر أَنه أَرَادَ إِسْحَاق هَذَا وَقد وضح لَك ثقته ، وَقد قَالَ فِيهِ مرّة أُخْرَى : لَعَلَّه أَن يكون ثِقَة . كَمَا أسلفناه عَنهُ .
وَأما طَرِيق أبي دَاوُد الَّذِي زيد فِيهِ «إِسْحَاق» فَلَا أرَى لَهُ عِلّة لصِحَّة إِسْنَاده واتصاله . حَامِد بن يَحْيَى الْمَذْكُور فِي أول إِسْنَاده مَشْهُور ، قَالَ أَبُو حَاتِم : صَدُوق . وَذكر جَعْفَر الْفرْيَابِيّ أَنه سَأَلَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ عَنهُ فَقَالَ : يَا سُبْحَانَ الله ، أُبْقِي حَامِد إلىأن يحْتَاج يسْأَل عَنهُ ؟ ! وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَقَالَ : كَانَ أعلم زَمَانه وَمن بعده مخرج لَهُ فِي «الصَّحِيح» . وَقد جنح ابْن حزم الظَّاهِرِيّ (إِلَى تَصْحِيحه) فَإِنَّهُ احْتج بِهِ فِي الْمَسْأَلَة وَقَالَ : إِسْحَاق مولَى زَائِدَة ثِقَة مدنِي ، وَثَّقَهُ أَحْمد بن صَالح الْكُوفِي وَغَيره .
وَأما زُهَيْر فقد أخرج لَهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَبَاقِي الْكتب السِّتَّة . وَقَالَ يَحْيَى : ثِقَة . وَقَالَ أَحْمد : مقارب الحَدِيث . وَقَالَ مرّة : لَيْسَ بِهِ بَأْس . وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ : لَا بَأْس بِهِ . وَقَالَ الْعجلِيّ : جَائِز الحَدِيث . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : مَحَله الصدْق ، فِي حفظه سوء (وَقَالَ : حَدِيثه) بِالشَّام ، أنكر من حَدِيثه بالعراق لسوء حفظه ، وَمَا (حدث) بِهِ من حفظه فَهُوَ أغاليط .
قلت : وَهَذَا الحَدِيث من رِوَايَة أهل الشَّام عَنهُ (الَّتِي) قَالَ البُخَارِيّ فِيهَا مَا سلف ، لَكِن رَوَى البُخَارِيّ (أَيْضا) عَن أَحْمد أَنه قَالَ : كأنَّ (زهيرًا) الَّذِي رَوَى عَنهُ أهل الشَّام (زُهَيْر) آخر .(1/371)
وَأما رِوَايَة مُحَمَّد بن عَمْرو (فقد) احْتج بهَا ابْن حزم حَيْثُ رَوَاهَا من جِهَة حَمَّاد بن سَلمَة ، وَمُحَمّد بن عَمْرو رَوَى عَنهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ وتابع (بِهِ) مُسلم ، وَقد رفع هَذَا الحَدِيث حَمَّاد ، وَتَابعه أَبُو (بَحر) وَفِي قَول أبي حَاتِم : يكْتب حَدِيثه . مَا يَقْتَضِي أَن يَجْعَل تَأْكِيدًا فِي رَفعه ، وَرِوَايَة الْوَقْف لم يَعْتَبِرهَا ابْن حزم تَقْدِيمًا للرفع عَلَيْهَا ، وَقَالَ (عَلّي) بن الْمَدِينِيّ : كَانَ يَحْيَى بن سعيد حسن الرَّأْي فِي أبي بَحر .
وَأما ابْن لَهِيعَة فقد (سلفت) تَرْجَمته فِيمَا مَضَى ، وَأما حنين بن أبي حَكِيم فقد وَثَّقَهُ ابْن حبَان .
وَأما الِاخْتِلَاف عَلَى ابْن أبي ذِئْب فقد يُقَال : إنَّهُمَا إسنادان مُخْتَلِفَانِ لِابْنِ أبي ذِئْب لَا يُعلل أَحدهمَا بِالْآخرِ ؛ لاخْتِلَاف رجالهما .
وَأما قَول ابْن الْقطَّان فِي حَدِيث الْعَلَاء : إِنَّه لَيْسَ بِمَعْرُوف . إِن أَرَادَ أَنه لَا يعرف مخرجه فَلَيْسَ كَذَلِك ، فقد خرجه الْبَزَّار كَمَا أسلفناه ، وَإِن أَرَادَ (مَعَ) (معرفَة طَرِيقه) أَنه غير مَشْهُور ؛ فَلَا (يُنَاسِبه) ذَلِك ، وَإِنَّمَا (يُنَاسِبه) النّظر فِي رجال إِسْنَاده .(1/372)
وَأما أَبُو وَاقد فقد قَالَ أَحْمد فِيهِ : مَا أرَى بِهِ بَأْسا . فَلَعَلَّ ذَلِك يَقْتَضِي أَن يُتَابع بروايته ، وَأما (جَهَالَة) بعض رُوَاته فَلَا يقْدَح فِيمَا صَحَّ مِنهُمَا ؛ فقد ظهر صِحَة بعض طرقه وَحسن بَعْضهَا ومتابعة الْبَاقِي لَهَا ، فَلَا يخْفَى إِذا مَا فِي إِطْلَاق الضعْف عَلَيْهَا ، وَإِن الْأَصَح الْوَقْف ، وَقد علم أَيْضا مَا يعْمل عِنْد اجْتِمَاع الرّفْع وَالْوَقْف وشهرة الْخلاف (فِيهِ) ، وَقد نقل الإِمَام أَبُو الْحسن الْمَاوَرْدِيّ من أَئِمَّة أَصْحَابنَا فِي «حاويه» عَن بعض أَصْحَاب الحَدِيث أَنه خرج لصِحَّة هَذَا الحَدِيث مائَة وَعشْرين طَرِيقا ، فَأَقل أَحْوَاله (إِذا) أَن يكون حسنا .(1)
أَوْ قَدْ اتَّصَلَ مِن غَيْرِ الْجِهَةِ الْمُنْقَطِعَةِ ، كما في سنن النسائى(210 )أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ عَن مَالِكٍ عَن نَافِعٍ عَن سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَن أُمِّ سَلَمَةَ تَعْنِى أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُهَرَاقُ الدَّمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَفْتَتْ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَّيَالِى وَالأَيَّامِ الَّتِى كَانَتْ تَحِيضُ مِنَ الشَّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِى أَصَابَهَا فَلْتَتْرُكِ الصَّلاَةَ قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ فَإِذَا خَلَّفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ ثُمَّ لْتَسْتَثْفِرْ ثُمَّ لْتُصَلِّى »(2).
__________
(1) - البدر المنير - (ج 2 / ص 524) فما بعدها
(2) - تستثفر : تشد فرجها بخرقة بعد أن تحتشى قطنا =خلفت : تركت(1/373)
هَذَا الحَدِيث عَلَى شَرط الصَّحِيح(1)رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور الْأَئِمَّة : مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَالشَّافِعِيّ فِي «الْأُم» وَأحمد والدارمي فِي «مسنديهما» وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» ، وَابْن الْجَارُود فِي «الْمُنْتَقَى» من رِوَايَة سُلَيْمَان بن يسَار ، عَن أم سَلمَة رَضي اللهُ عَنها بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَة .
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» وَغَيره : إِسْنَاده عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم .
قلت : وَأعله جمَاعَة بالانقطاع ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : هَذَا حَدِيث مَشْهُور إِلَّا أَن سُلَيْمَان بن يسَار لم يسمعهُ من أم سَلمَة(2)، وَكَذَا (قَالَ) فِي «خلافياته» أَن سُلَيْمَان لم (يسمعهُ) مِنهَا ، إِنَّمَا سَمعه من رجل عَنهَا ، كَذَلِك رَوَاهُ اللَّيْث بن سعد وَعبيد الله بن (عمر) وصخر بن جوَيْرِية ، عَن نَافِع ، عَن سُلَيْمَان ، عَن رجل عَنهَا . وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي «الْوَهم وَالْإِيهَام» : هَذَا حَدِيث مُرْسل فِيمَا أرَى . وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي «شرح الْمسند» : إِنَّه مُرْسل . وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ : لم يسمعهُ سُلَيْمَان مِنهَا ، وَرَوَاهُ مُوسَى بن عقبَة ، عَن نَافِع ، عَن سُلَيْمَان ، عَن مرْجَانَة ، عَن أم سَلمَة .
__________
(1) - البدر المنير - (ج 3 / ص 121)
(2) - السنن الكبرى للبيهقي ج 1 / ص 332)(1/374)
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : (قد) اخْتلف فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث ، فَرَوَاهُ مَالك ، عَن نَافِع ، عَن سُلَيْمَان ، عَن أم سَلمَة . وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَسد بن مُوسَى ، عَن اللَّيْث ، عَن نَافِع . وَرَوَاهُ كَذَلِك أَسد أَيْضا ، عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر ، عَن الْحجَّاج ، عَن نَافِع بِهِ ،قَالَ : وَقيل بِإِدْخَال رجل بَين سُلَيْمَان ، وَأم سَلمَة ، فَرَوَاهُ اللَّيْث ، عَن نَافِع ، عَن سُلَيْمَان أَن رجلا أخبرهُ عَن أم سَلمَة ... الحَدِيث .
(رَوَاهُ) أَبُو دَاوُد من غير سِيَاقَة أَلْفَاظه كلهَا ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ صَخْر بن جوَيْرِية ، عَن نَافِع ، ذكره أَبُو دَاوُد محيلاً عَلَى رِوَايَة اللَّيْث ، وَسَاقه الدَّارَقُطْنِيّ وَابْن الْجَارُود بِتَمَامِهِ من حَدِيث صَخْر ، عَن نَافِع ، عَن سُلَيْمَان : أَنه حَدثهُ رجل عَن أم سَلمَة(1)، وَكَذَلِكَ ذكر عَن مُوسَى بن عقبَة ، عَن نَافِع ، عَن سُلَيْمَان ، عَن رجل ، عَن أم سَلمَة . ورأيته فِي «مُسْند السراج» لَيْسَ بَين سُلَيْمَان وَأم سَلمَة أحد .
وَأخرجه أَبُو دَاوُد ، عَن نَافِع ، عَن سُلَيْمَان ، عَن رجل من الْأَنْصَار : «أَن امْرَأَة كَانَت تهراق الدَّم» .
__________
(1) - سنن الدارقطنى (855 )(1/375)
وَذكر الرَّافِعِيُ - فِي شَرحه للمسند مقَالَة الْبَيْهَقِيّ السالفة ، وَأجَاب عَنهَا فَقَالَ : ذكر الْبَيْهَقِيّ أَن سُلَيْمَان لم يسمع هَذَا الحَدِيث من أم سَلمَة مستدلاً بِأَن اللَّيْث رَوَاهُ عَن نَافِع عَن سُلَيْمَان ، عَن رجل (عَنهَا) ، وَكَذَلِكَ (رَوَاهُ) جوَيْرِية بن أَسمَاء وَإِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن عقبَة ، وَعبيد الله بن (عمر) عَن نَافِع ، لَكِن يُمكن أَن يكون سَمعه سُلَيْمَان من رجل (عَن) أم سَلمَة ثمَّ سَمعه مِنهَا ، فروَى تَارَة هَكَذَا وَتارَة هَكَذَا . قَالَ : وَقد ذكر البُخَارِيّ فِي «التَّارِيخ» أَن سُلَيْمَان بن يسَار سمع ابْن عَبَّاس وَأَبا هُرَيْرَة وَأم سَلمَة(1). هَذَا آخر كَلَام الرَّافِعِيّ .
وَهُوَ جمع حسن وَبِه يتَّفق الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور وَقد (جزم) صَاحب «الْكَمَال» بِأَن سُلَيْمَان سمع مِنهَا ، وَتَبعهُ (الْمزي) والذهبي(2).
__________
(1) - التاريخ الكبير[ج 4 -ص 41 ] (1901)
(2) - تهذيب الكمال [ج12 -ص 100 ](2574) وتهذيب التهذيب[ج4 - صفحة 199 ] (391)(1/376)
وَقَدْ ضَبَطَ أَلْفَاظَ الْحَدِيثِ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ الْحُفَّاظِ ؛ وغيرهم لم يضبطها،كما في السنن الكبرى للبيهقي (ج 10 / ص 282)(21905) وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنِى أَبُو عَلِىٍّ الْحَافِظُ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حُرَيْثٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ حَدَّثَنِى أَبِى ح وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ الأَصْبَهَانِىُّ أَنْبَأَنَا عَلِىُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِىُّ حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِى عِيسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَن قَتَادَةَ عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَن بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَن أَبِى هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ شِقْصًا مِن مَمْلُوكٍ فَأَجَازَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عِتْقَهُ وَغَرَّمَهُ بَقِيَّةَ ثَمَنِهِ. قَالَ قَتَادَةُ : إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتُسْعِىَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ. {(1/377)
ج} أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا عَلِىٌّ قَالَ سَمِعْتُ النَّيْسَابُورِىَّ يَقُولُ مَا أَحْسَنَ مَا رَوَاهُ هَمَّامٌ ضَبَطَهُ وَفَصَلَ بَيْنَ قَوْلِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَبَيْنَ قَوْلِ قَتَادَةَ وَفِيمَا بَلَغَنِى عَن أَبِى سُلَيْمَانَ الْخَطَابِىِّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ صَاحِبِ الْخِلاَفِيَّاتِ قَالَ هَذَا الْكَلاَمُ مِن فُتْيَا قَتَادَةَ لَيْسَ مِن مَتْنِ الْحَدِيثِ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَلِىِّ بْنِ الْحَسَنِ عَنِ الْمُقْرِئِ عَن هَمَّامٍ ثُمَّ قَالَ فَقَدْ أُخْبَرَ هَمَّامٌ أَنَّ ذِكْرَ السِّعَايَةِ مِن قَوْلِ قَتَادَةَ وَأَلْحَقَ سَعِيدُ بْنُ أَبِى عَرُوبَةَ الَّذِى مَيَّزَهُ هَمَّامٌ مِن قَوْلِ قَتَادَةَ فَجَعَلَهُ مُتَّصِلاً بِالْحَدِيثِ. أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنِى أَبُو عَلِىٍّ الْحَافِظُ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حُرَيْثٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِىٍّ يَقُولُ أَحَادِيثُ هَمَّامٍ عَن قَتَادَةَ أَصَحُّ مِن حَدِيثِ غَيْرِهِ لأَنَّهُ كَتَبَهَا إِمْلاَءً.(1/378)
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ كَامِلٍ الْقَاضِى يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا قِلاَبَةَ الرَّقَاشِىَّ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِىَّ بْنَ الْمَدِينِىِّ يَقُولُ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ شُعْبَةُ أَعْلَمُ النَّاسِ بِحَدِيثِ قَتَادَةَ مَا سَمِعَ مِنهُ وَمَا لَمْ يَسْمَعْ وَهِشَامٌ أَحْفَظُ وَسَعِيدٌ أَكْثَرُ قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدِ اجْتَمَعَ شُعْبَةُ مَعَ فَضْلِ حِفْظِهِ وَعِلْمِهِ بِمَا سَمِعَ مِن قَتَادَةَ وَمَا لَمْ يَسْمَعْ وَهِشَامٌ مَعَ فَضْلِ حِفْظِهِ وَهَمَّامٌ مَعَ صِحَّةِ كِتَابِهِ وَزِيَادَةِ مَعْرِفَتِهِ بِمَا لَيْسَ مِنَ الْحَدِيثِ عَلَى خِلاَفِ ابْنِ أَبِى عَرُوبَةَ وَمَن وَافَقَهُ فِى إِدْرَاجِ السِّعَايَةِ فِى الْحَدِيثِ وَفِى هَذَا مَا يُشْكِلُ فِى ثُبُوتِ الاِسْتِسْعَاءِ فِى هَذَا الْحَدِيثِ.
أَوْ لِتِلْكَ الرِّوَايَةِ مِن الشَّوَاهِدِ وَالْمُتَابَعَاتِ مَا يُبَيِّنُ صِحَّتَهَا ،كما في مسند أحمد (134) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ أَنْبَأَنَا عَمَّارُ بْنُ أَبِى عَمَّارٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى فِى يَدِ رَجُلٍ خَاتَماً مِن ذَهَبٍ فَقَالَ « أَلْقِ ذَا ». فَأَلْقَاهُ فَتَخَتَّمَ بِخَاتَمٍ مِن حَدِيدٍ فَقَالَ « ذَا شَرٌّ مِنهُ ». فَتَخَتَّمَ بِخَاتَمٍ مِن فِضَّةٍ فَسَكَتَ عَنهُ.
فهذا الحديث في سنده انقطاع عمار بن أبي عمار لم يدرك عمر رضي الله عنه .(1/379)
وبنحوه في مسند أحمد (7165)عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِى أَنَّهُ لَبِسَ خَاتَماً مِن ذَهَبٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَأَنَّهُ كَرِهَهُ فَطَرَحَهُ ثُمَّ لَبِسَ خَاتَماً مِن حَدِيدٍ فَقَالَ :« هَذَا أَخْبَثُ وَأَخْبَثُ ». فَطَرَحَهُ ثُمَّ لَبِسَ خَاتَماً مِن وَرِقٍ فَسَكَتَ عَنهُ. وهذا حديث قوي ، فيقوى ذاك الحديث من أجله ، ويحتج به .
وهكذا كل حديث يقول عنه الإمام الترمذي : هذا حديث حسن ، فهو حديث ضعيف روي من أكثر من وجه .
تنحصرُ أسباب الضعف والقدح في الرواة في فئتين:
إحداهما تضمُّ ما يقدح في العدالة: كالكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ،أو التهمة به أو الكذبِ في أحاديث الناس،أو الفسق أو جهالة الراوي أو الابتداع بمكفر ونحو ذلك،فكلُّ ما كان ضعفُه ناشئاً عن مثل هذه الأسباب لا تؤثِّرُ فيه كثرةُ الطرق،ولا يرتقي عن درجة الضعف لشدةِ أسبابِ هذا الضعف،وتقاعدِ الجابر عن جبر ضعفِ المروي،نعم, قد يَرْتقي بمجموع طُرقه عن كَوْنهِ مُنْكرًا, أو لا أصل له, كما صرَّح به ابن حجر،حيث قال:" بَل ربَّما كَثُرت الطُّرقُ, حتَّى أوصلتهُ إلى درجة المَسْتُور, أو السَّيء الحفظ, بحيث إذا وجد له طريق آخر, فيه ضعفٌ قريبٌ مُحتمل, ارتقَى بمجمُوع ذلك إلى درجة الحَسَن.."(1)
__________
(1) - قواعد التحديث للقاسمي-(ج 1 / ص 69) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي-(ج 1 / ص 119)(1/380)
والفئةُ الثانيةُ: ينطوي تحتها ما يقدحُ في الحفظ والضبط والاتصال،والأسباب القادحةُ فيهما: الغفلةُ وكثرةُ الغلط وسوءُ الحفظ والاختلاطُ والوهمُ،كوصل مرسل أو منقطع،فكلُّ ما كان ضعفُه بسببِ عدمِ ضبطِ راويه الصدوقِ الأمينِ،الذي لم تثلمْ عدالتُه فإنَّ كثرة الطرق تقويه،ويجبرُ ضعفُه بمجيئهِ من وجهٍ آخرَ؛ لأننا نعرفُ من الوجهِ الآخر أنَّ حفظَ راو الطريقِ الأول لم يختلَّ فيه ضبطُه وبهذا يرتقي من درجة الضعيفِ ضعفاً يسيراً إلى درجةِ الحسَنِ لغيرهِ .
وَهَذَا أَيْضًا كَثِيرٌ جِدًّا . وَهُوَ فِي التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ إلَى الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ مِن بَعْدِهِمْ أَكْثَرُ مِن الْعَصْرِ الْأَوَّلِ أَوْ كَثِيرٌ مِن الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ،فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ كَانَتْ قَدْ انْتَشَرَتْ وَاشْتَهَرَتْ لَكِنْ كَانَتْ تَبْلُغُ كَثِيرًا مِن الْعُلَمَاءِ مِن طُرُقٍ ضَعِيفَةٍ، وَقَدْ بَلَغَتْ غَيْرَهُمْ مِن طُرُقٍ صَحِيحَةٍ غَيْرِ تِلْكَ الطُّرُقِ فَتَكُونُ حُجَّةً مِن هَذَا الْوَجْهِ مَعَ أَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ مَن خَالَفَهَا مِن هَذَا الْوَجْهِ، وَلِهَذَا وُجِدَ فِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِن الْأَئِمَّةِ تَعْلِيقُ الْقَوْلِ بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ عَلَى صِحَّتِهِ فَيَقُولُ : قَوْلِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَذَا وَقَدْ رُوِيَ فِيهَا حَدِيثٌ بِكَذَا ؛ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَهُوَ قَوْلِي.(1/381)
كما في السنن الكبرى للبيهقي (ج 8 / ص 111) برقم(16837) عَن حَنَشِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ الْكِنَانِىِّ عَن عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ : بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْيَمَنِ فَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ ثُمَّ قَالَ قَالَ عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنهُ : اجْمَعُوا فِى الْقَبَائِلِ الَّذِينَ حَضَرُوا رُبُعَ الدِّيَةِ وَثُلُثَ الدِّيَةِ وَنِصْفَ الدِّيَةِ وَالدِّيَةَ كَامِلَةً فَلِلأَوَّلِ الرُّبُعُ مِن أَجْلِ أَنَّهُ أَهْلَكَ مَن يَلِيهِ وَالثَّانِى ثُلُثُ الدِّيَةِ مِن أَجْلِ أَنَّهُ أَهْلَكَ مَن فَوْقَهُ وَالثَّالِثِ نِصْفُ الدِّيَةِ مِن أَجْلِ أَنَّهُ أَهْلَكَ مَن فَوْقَهُ وَالرَّابِعِ الدِّيَةُ كَامِلَةً فَزَعَمَ حَنَشٌ أَنَّ بَعْضَ الْقَوْمِ كَرِهَ ذَلِكَ حَتَّى أَتَوُا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَقُوهُ عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَصُّوا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَاحْتَبَى بُرْدَهُ ثُمَّ قَالَ أَنَا أَقْضِى بَيْنَكُمْ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : إِنَّ عَلِيًّا قَضَى بَيْنَنَا فَقَصُّوا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَأَجَازَهُ. فَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ أُرْسِلَ آخِرُهُ. {ج} وَحَنَشُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ غَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهِ قَالَ الْبُخَارِىُّ : حَنَشُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمُ ابْنُ رَبِيعَةَ يَتَكَلَّمُونَ فِى حَدِيثِهِ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الْمَالِينِىُّ أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِىٍّ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ حَمَّادٍ يَذْكُرُهُ عَنِ الْبُخَارِىِّ. {(1/382)
ق} وَأَصْحَابُنَا يَقُولُونَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ فِى الأَوَّلِ ثُلُثَا الدِّيَةِ ثُلُثُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِى وَثُلُثُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الثَّالِثِ لأَنَّهُ مَاتَ مِن فِعْلِ نَفْسِهِ وَفِعْلِ اثْنَيْنِ فَسَقَطَ ثُلُثُ الدِّيَةِ لِفِعْلِ نَفْسِهِ وَوَجَبَ الثُّلُثَانِ وَفِى الثَّانِى ثُلُثَا الدِّيَةِ ثُلُثُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الأَوَّلِ وَثُلُثُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الثَّالِثِ وَفِى الثَّالِثِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِى وَالآخَرُ ثُلُثَا الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الأَوَّلِ وَالثَّانِى وَفِى الرَّابِعِ جَمِيعُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الثَّالِثِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهَا عَلَى عَاقِلَةِ الأَوَّلِ وَالثَّانِى وَالثَّالِثِ فَإِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ تُرِكَ لَهُ الْقِيَاسُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(1/383)
وفي معرفة السنن والآثار للبيهقي: قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ أَتَى رَجُلٌ امْرَأَتَهُ حَائِضًا أَوْ بَعْدَ تَوْلِيَةِ الدَّمِ وَلَمْ تَغْتَسِلْ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَلَا يَعُدْ ، وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ شَيْءٌ لَوْ كَانَ ثَابِتًا أَخَذْنَا بِهِ ، وَلَكِنَّهُ لَا يُثْبَتُ مِثْلَهُ وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا ( 4441 ) أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى قَالَ : حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى ، عَن شُعْبَةَ ، عَنِ الْحَكَمِ ، عَن عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَن مِقْسَمٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ قَالَ : " يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ بِنِصْفِ دِينَارٍ " ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ السُّنَنِ ، عَن مُسَدَّدٍ ، ثُمَّ قَالَ : وَرُبَّمَا لَمَ يَرْفَعْهُ شُعْبَةُ ، وَهُوَ كَمَا قَالَ فَقَدْ رَوَاهُ عَفَّانُ وَجَمَاعَةٌ ، عَن شُعْبَةَ مَوْقُوفًا ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ، عَن شُعْبَةَ مَوْقُوفًا ، ثُمَّ قَالَ : قِيلَ لِشُعْبَةَ : إِنَّكَ كُنْتَ تَرْفَعُهُ قَالَ : إِنِّي كُنْتُ مَجْنُونًا فَصَحِحْتُ ، فَرَجَعَ عَن رَفْعِهِ بَعْدَ مَا كَانَ يَرْفَعُهُ" .
قلت : وقد اختلف هذا الحديث اختلافاً شديدا ، فأعل بالوقف ، وبالاضطراب ، وبضعف بعض رواته ، وعلى ذلك أئمة الشافعية الكبار بما فيهم الدارقطني وابن الصلاح والنووي ..
وردَّ عليهم من صحح الحديث ، بردود قوية كذلك .(1/384)
وقد ذكر ابن الملقن رحمه الله في كتابه النفيس البدر المنير ، كل ما يتعلق به جرحاَ وتعديلاً ، ورد على من ضعفه من الشافعية ، بكلام مطول بديع ، وهذه شذرات منه :
(وسيتكرر) عَلَى سَمعك من بعض الْمُحدثين أَن هَذَا الحَدِيث فِي كَفَّارَة من أَتَى حَائِضًا لَا يَصح ، فَليعلم أَنه لَا (عيب) لَهُ عِنْدهم إِلَّا الِاضْطِرَاب - زَعَمُوا - فَمِمَن صرح بذلك : أَبُو عَلّي بن السكن قَالَ : (هَذَا) حَدِيث مُخْتَلف فِي إِسْنَاده وَلَفظه وَلَا يَصح مَرْفُوعا ، لم يُصَحِّحهُ البُخَارِيّ ، وَهُوَ صَحِيح من كَلَام ابْن عَبَّاس . انْتَهَى كَلَامه .(1/385)
فَنَقُول لَهُ الرِّجَال الَّذين رَوَوْهُ مَرْفُوعا ثِقَات ، وَشعْبَة إِمَام أهل الحَدِيث قد تثبت فِي رَفعه إِيَّاه ، فَمِمَن رَوَاهُ عَنهُ مَرْفُوعا يَحْيَى الْقطَّان ، وناهيك بِهِ ، وغندر وَهُوَ أخص النَّاس بشعبة مَعَ ثقته . وَرَوَاهُ سعيد بن عَامر ، عَن شُعْبَة فَقَالَ فِيهِ : عَن الحكم ، عَن عبد الحميد ، عَن مقسم ، عَن ابْن عَبَّاس من قَوْله (وَقفه) عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ شُعْبَة : أما حفظي فمرفوع . وَقَالَ فلَان وَفُلَان أَنه كَانَ لَا يرفعهُ . فَقَالَ لَهُ بعض الْقَوْم : يَا أَبَا بسطَام حَدثنَا حفظك وَدعنَا من فلَان وَفُلَان . فَقَالَ : وَالله مَا أحب أَنِّي حدثت بِهَذَا - وَسكت - أَو أَنِّي عمرت فِي الدُّنْيَا عمر نوح عَلَيْهِ السَّلَام فِي قومه . فَهَذَا غَايَة التثبت فِيهِ ، وهبك أَن أوثق أهل الأَرْض خَالفه فِيهِ ، فَوَقفهُ عَلَى ابْن عَبَّاس كَانَ مَاذَا ؟ أَلَيْسَ إِذا رَوَى (الصَّحَابِيّ) حَدِيثا عَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - َ يجوز لَهُ بل يجب عَلَيْهِ أَن ينْقل مُقْتَضَاهُ فيفتي بِهِ ، هَذَا قُوَّة للْخَبَر لَا توهين لَهُ ، فَإِن قلت فَكيف بِمَا ذكر ابْن السكن ، ثَنَا يَحْيَى وَعبد الله بن سُلَيْمَان وَإِبْرَاهِيم قَالُوا : ثَنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي ، نَا شُعْبَة بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدّم مثله مَوْقُوفا ، فَقَالَ لَهُ رجل : إِنَّك كنت ترفعه ؟ فَقَالَ: إِنِّي كنت مَجْنُونا فصححت . ((1/386)
قلت : فَظن أَنه لما) أَكثر عَلَيْهِ فِي رَفعه إِيَّاه توقَّى رَفعه ، لَا لِأَنَّهُ مَوْقُوف ، لَكِن إبعاد (الظنة) عَن نَفسه ، وَأبْعد من هَذَا الِاحْتِمَال أَن يكون شكّ فِي رَفعه فِي ثَانِي حَال فَوَقفهُ ، فَإِن كَانَ هَذَا فَلَا يبالى بذلك أَيْضا ، بل لَو نسي (الحَدِيث) بعد أَن حدث بِهِ لم يضرّهُ ، فَإِن أَبيت إِلَّا أَن يكون شُعْبَة رَجَعَ عَن رَفعه ، فَاعْلَم أَن غَيره من أهل (النَّقْد) وَالْأَمَانَة (قد) رَوَاهُ عَن الحكم مَرْفُوعا كَمَا رَوَاهُ شُعْبَة (فِيمَا تقدم ، وَهُوَ عَمْرو بن قيس الْملَائي وَهُوَ ثِقَة ، قَالَ فِيهِ عَن الحكم مَا قَالَه شُعْبَة) (من رَفعه) إِيَّاه
وَإِذا تنبهت لهَذِهِ الدقائق الْمَذْكُورَة ظهر لَك احْتِيَاج هَذَا الْفَنّ إِلَى جودة التفكر (وَالنَّظَر) وَأَن الْأَمر لَيْسَ بالهين (لَا) كَمَا يَظُنّهُ قوم أَنه مُجَرّد [ حفظ ] وَنقل لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى غَيرهمَا
قلت : وَضعف (هَذَا) الحَدِيث من الْفُقَهَاء بعد الشَّافِعِي : إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ ، وَقَالَ ابْن الصّلاح فِي «مشكله» : إِنَّه حَدِيث ضَعِيف من أَصله لَا يَصح رَفعه ، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوف عَلَى ابْن عَبَّاس من قَوْله . قَالَ : وَقد حكم الْحَاكِم أَبُو عبد الله الْحَافِظ النَّيْسَابُورِي بِأَنَّهُ حَدِيث صَحِيح وَلَا الْتِفَات إِلَى ذَلِك مِنهُ فَإِنَّهُ خلاف (قَول غَيره من أَئِمَّة الحَدِيث) (وَالْحَاكِم) مَعْرُوف بالتساهل فِي مثل ذَلِك .(1/387)
قلت : لم يتساهل فِي ذَلِك بل الْحق مَعَه كَمَا (قَرَّرْنَاهُ) وَتَبعهُ عَلَى ذَلِك النَّوَوِيّ كعادته فَقَالَ فِي «خلاصته» بعد أَن ذكره فِي فصل الضَّعِيف : لَا يعْتد بقول الْحَاكِم أَنه حَدِيث صَحِيح ، فَإِنَّهُ مَعْرُوف بالتساهل فِي التَّصْحِيح . قَالَ : وَاتفقَ الْحفاظ عَلَى ضعف هَذَا الحَدِيث واضطرابه وتلونه . وَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» أَيْضا : اتّفق المحدثون عَلَى ضعفه واضطرابه ، وَرُوِيَ مَوْقُوفا ومرسلاً وألوانًا كَثِيرَة ، وَقد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَلَا يَجعله ذَلِك صَحِيحا . قَالَ : وَأما قَول الْحَاكِم أَنه صَحِيح فخلاف مَا قَالَه أَئِمَّة الحَدِيث . قَالَ : وَهُوَ عِنْدهم مَعْرُوف بالتساهل . وَقَالَ فِي «تنقيحه» : هَذَا (حَدِيث) ضَعِيف بِاتِّفَاق الْحفاظ ، وأنكروا عَلَى الْحَاكِم تَصْحِيحه ، وَإِنَّمَا هُوَ من قَول ابْن عَبَّاس مَوْقُوف عَلَيْهِ هَذَا آخر كَلَامه.
وَالْحق عدم الْإِنْكَار عَلَى الْحَاكِم و(تَصْحِيحه) من (طَرِيقه) كَمَا سبق تَقْرِيره وَاضحا وَالله (الملهم للصَّوَاب) .(1)
- - - - - - - - - - - - - - - - -
السَّبَبُ الثَّالِثُ
اعْتِقَادُه ضَعْفِ الْحَدِيثِ
السَّبَبُ الثَّالِثُ : اعْتِقَادُ ضَعْفِ الْحَدِيثِ .بِاجْتِهَادِ قَدْ خَالَفَهُ فِيهِ غَيْرُهُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَن طَرِيقٍ آخَرَ سَوَاءٌ كَانَ الصَّوَابُ مَعَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ أَوْ مَعَهُمَا عِنْدَ مَن يَقُولُ : كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ .
وَلِذَلِكَ أَسْبَابٌ :
1-مِنهَا : أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ يَعْتَقِدُهُ أَحَدُهُمَا ضَعِيفًا ؛ وَيَعْتَقِدُهُ الْآخَرُ ثِقَةً
وَمَعْرِفَةُ الرِّجَالِ عِلْمٌ وَاسِعٌ جدا.
__________
(1) - البدر المنير - (ج 3 / ص 87) فما بعدها(1/388)
قلت : نصفُ السنَّة النبوية قائم على رجال مختلف فيهم ، فمنهم من وثقه قوم ، ومنهم من ضعفه قوم ، والعلماء في الجرح والتعديل ثلاثة أصنافٍ :
متشددون في الجرح ، يجرحون الراوي لأدنى شبهة ويردون حديثه.
والنوع الثاني متساهلون في الجرح والتعديل .
والنوع الثالث معتدلون في الجرح والتعديل .
وعلى ضوء ذلك يختلف الحكم على الحديث ، فمن أخذ بقول المتشددين في الحديث ترك كثيرا من الأحاديث لعدم صحتها عنده ,
ومن أخذ بقول المتساهلين يكون قد صحح أو حسَّن أحاديث واحتجَّ بها وهي لا تستحقُّ ذلك على الصحيح .
ومن أخذ بقول المعتدلين كان وسطاً بين الطرفين ، وهم الغالبية العظمى من علماء الجرح والتعديل أمثال البخاري وأحمد وابن سعد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني وابن عدي والمنذري والبيهقي والحافظ العراقي والهيثمي ، وابن الملقن والحافظ ابن حجر العسقلا ني والسخاوي والشوكاني..
وهذه بعض الأمثلة من هذا ذكرهم الحافظ ابن حجر في التقريب ،مقارنة بتهذيب التهذيب لبعضهم وبقول الإمام الذهبي ولا سيما في الكاشف، لتتميز نقاط الاتفاق والاختلاف بينهما :
(12 ) أحمد بن بديل بن قريش أبو جعفر اليامي بالتحتانية قاضي الكوفة صدوق له أوهام من العاشرة مات سنة ثمان وخمسين ت ق.(1/389)
وفي التهذيب(1): "قال النسائي لا بأس به وقال ابن أبي حاتم محله الصدق وقال ابن عقدة رأيت إبراهيم بن إسحاق الصواف ومحمد بن عبد الله بن سليمان وداود بن يحيى لا يرضونه وقال ابن عدي حدث عن حفص بن غياث وغيره أحاديث أنكرت عليه وهو ممن يكتب حديثه على ضعفه وقال الدارقطني لين وقال صالح جزرة كان يسمَّى راهب الكوفة فلما تقلد القضاء، قال خذلت على كبر السن، وقال النضر قاضي همدان ثنا أَحْمَدُ بْنُ بُدَيْلٍ الْيَامِيُّ ، ثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ ، ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ ، عَن نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(2)فذكرته لأبي زرعة فقال: من حدثك قلت ابن بديل قال :شرٌّ له قال الدارقطني تفرد به أحمد عن حفص قال مطين مات 258 قلت: ذكره النسائي في أسماء شيوخه، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مستقيم الحديث ."
وفي الكاشف"أحمد بن بديل أبو جعفر اليامي قاضي الكوفة ثم همذان سمع أبا بكر بن عياش وحفص بن غياث وعدة وعنه الترمذي وابن ماجة وابن صاعد وابن عيسى الوزير وخلق قال: النسائي لا بأس به ،ولينه ابن عدي والدارقطني وكان عابدا توفي 258 ت ق(3)
(227 ) إبراهيم بن عيينة بن أبي عمران الهلالي مولاهم الكوفي أبو إسحاق أخو سفيان صدوقٌ يهِمُ من الثامنة مات قبل المائتين د س ق
__________
(1) - تهذيب التهذيب [ج 1 -ص15 ] وانظر تهذيب الكمال[ج1 -ص 270 ](13)
(2) - فَضَائِلُ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ لِلْحَسَنِ الْخَلَّالِ(34 )
(3) - الكاشف [ ج1 - ص190 ](10 )(1/390)
وفي التهذيب(1): " قال ابن معين كان مسلما صدوقا لم يكن من أصحاب الحديث، وقال أبو حاتم: شيخ يأتي بمناكير، وقال النسائي: ليس بالقوي،وقال الحضرمي مات سنة 197 وقال ابن أبي عاصم سنة تسع يعني بتقديم التاء، قلت وقال العجلي: صدوق وذكره ابن حبان في الثقات ،وقال أبو داود في بني عيينة: كلهم صالح "
وفي الكاشف"إبراهيم بن عيينة الهلالي عن أبي حيان التيمي وجماعة وعنه ابن معين والفلاس وابن عفان العامري حسن قال النسائي: ليس بالقوي توفي 199 د س ق(2).
(274 ) إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي صدوق يهم من السابعة مات سنة ثمان وتسعين خ م د س ق
وفي التهذيب(3): " قال عباس الدوري عن يحيى بن معين: ليس بشيء ،وقال النسائي: ليس بالقوي ،وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: ضعيف الحديث، وقال أبو حاتم :حسن الحديث يكتب حديثه، وقال أبو أحمد بن عدي له: أحاديث صالحة وليس بمنكر الحديث يكتب حديثه، قال أبو نصر الكلاباذي مات سنة ثمان وتسعين ومئة، روى له الجماعة سوى بن ماجة ، قلت: قرأت بخط الذهبي إبراهيم لم يدرك جده أبا إسحاق، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدارقطني: ثقة ،وقال ابن المديني: ليس كأقوى ما يكون، وقال الآجري: سألت أبا داود عنه فقال: ضعيف ".
وفي الكاشف"إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن الشيخ أبي إسحاق السبيعي عن أبيه وجده وعنه أبو كريب وجماعة فيه لين مات 198 خ م د ت س(4).
(289 ) الأحوص بن جواب بفتح الجيم وتشديد الواو الضبي يكنى أبا الجواب كوفي صدوق ربما وهم من التاسعة مات سنة إحدى عشرة م د ت س
__________
(1) - تهذيب التهذيب [ ج1 - ص131 ] و تهذيب الكمال [ ج2 - ص163 ](223 )
(2) - الكاشف [ ج1 - ص220 ] (184 )
(3) - تهذيب التهذيب[ج1 - ص160 ] وتهذيب الكمال[ ج2 - ص249 ](269)
(4) - الكاشف [ ج1 - ص227 ](225 )(1/391)
وفي التهذيب(1): " قال ابن معين ثقة، وقال مرة: ليس بذاك القوي، وقال أبو حاتم: صدوق ،وقال مطين مات سنة 211 ،قلت: وقال ابن حبان في الثقات: كان متقنا ربما وهم "(2).
وفي الكاشف " أحوص بن جواب أبو الجواب عن ابن أبي ليلى ويونس بن أبي إسحاق وعدة وعنه حجاج بن الشاعر وعباس الدوري وجمع صدوق توفي 211 م د ت س(3)
(1542) حميد بن الأسود بن الأشقر البصري أبو الأسود الكرابيسي صدوق يهم قليلا من الثامنة خ 4
وفي التهذيب(4):" قال القواريري كان صدوقا، وقال أبو حاتم ثقة، وقال غيره كان عفان يحمل عليه، وذكره ابن حبان في الثقات، روى له البخاري مقرونا بغيره والباقون سوى مسلم، قلت: وقال الأثرم عن أحمد :سبحان الله ما أنكر ما يجيء به، وقال العقيلي في الضعفاء: كان عفان يحمل عليه، لأنه روى حديثنا منكرا ،وقال الساجي والأزدي صدوق عنده مناكير، وقال الحاكم عن الدارقطني ليس به بأس "
وفي الكاشف "حميد بن الأسود الكرابيسي بصري عن سهيل وحبيب بن الشهيد وعنه مسدد وعلي ثقة خ 4(5).
(1903 ) الربيع بن يحيى بن مقسم الأشناني بضم الألف وسكون المعجمة أبو الفضل البصري صدوق له أوهام من كبار العاشرة مات سنة أربع وعشرين خ د
__________
(1) - تهذيب التهذيب[ج1 - ص167 ]
(2) - الثقات لابن حبان[ ج6 - ص89 ](6850)
(3) - الكاشف[ ج1 - ص229 ] (238 )
(4) - تهذيب التهذيب[ج3 - ص32 ] وتهذيب الكمال[ ج7 - ص350 ] (1523 )
(5) - الكاشف [ ج1 - ص352 ](1246 )(1/392)
وفي التهذيب(1):" قال أبو حاتم ثقة ثبت وذكره ابن حبان في الثقات(2)، قال ابن قانع مات سنة 224 ،قلت :وقال ابن قانع إنه ضعيف، وقال الدارقطني ضعيف ليس بالقوي يخطىء كثيرا حدث عن الثوري عن ابن المنكدر عن جابر جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الصلاتين وهذا حديث ليس لابن المنكدر فيه ناقة ولا جمل وهذا يسقط مائة ألف حديث، وقال أبو حاتم في العلل: هذا باطل عن الثوري "(3)
وفي الكاشف" الربيع بن يحيى الأشناني عن مالك بن مغول وشعبة وعنه البخاري وأبو داود والكجي قال أبو حاتم ثقة ثبت توفي 224 خ د(4)
وفي ميزان الاعتدال " الربيع بن يحيى الاشنانى [ خ، د ]عن شعبة وغيره،صدوق،روى عنه البخاري،وقد قال أبو حاتم مع تعنته: ثقة، ثبت: وأما الدارقطني فقال: ضعيف يخطئ كثيرا، قد أتى عن الثوري بخبر منكر، عن محمد بن المنكدر، عن جابر في الجمع بين الصلاتين،قال بعض الحفاظ: هذا يسقط كذا كذا ألف حديث،مات سنة أربع وعشرين ومائتين.(5)
__________
(1) - تهذيب التهذيب[ج3 - ص218 ]
(2) - وفي الثقات لابن حبان[ ج8 - ص240 ] (13218 ) الربيع بن يحيى أبو الفضل الأشناني من أهل البصرة يروى عن شعبة وزائدة روى عنه يعقوب بن سفيان والعراقيون يخطىء.
(3) - وفي علل الحديث (313) وَسَمِعْتُ أَبِي ، وقيل لَهُ : حَدِيث مُحَمَّد بْن المنكدر ، عَن جَابِرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الجمع بين الصلاتين فَقَالَ : حَدَّثَنَا الربيع بْن يَحْيَى ، عَنِ الثَّوْرِيِّ ، غير أَنَّهُ باطل عِنْدِي هَذَا خَطَأٌ لم أدخله فِي التصنيف أَرَادَ : أبا الزبير ، عَن جَابِرٍ ، أو : أبا الزبير ، عَن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، والخطأ من الربيع
(4) - الكاشف[ ج1 - ص392 ] (1542 )
(5) - ميزان الاعتدال (ج 2 / ص 43) ( 2747) وانظر لمزيد من الأمثلة كتابي ( الحافظ ابن حجر ومنهجه في تقريب التهذيب ) المرتبة الخامسة .(1/393)
2- قَدْ يَكُونُ الْمُصِيبُ مَن يَعْتَقِدُ ضَعْفَهُ ؛ لِاطِّلَاعِهِ عَلَى سَبَبٍ جَارِحٍ .
كحديث مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ , عَن سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ , عَن أَبِيهِ , عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : " مَن جَلَسَ مَجْلِسًا كَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ ".(1/394)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (الحاكم)(1): هَذَا حَدِيثٌ مَن تَأَمَّلَهُ لَمْ يَشُكَّ أَنَّهُ مِن شَرْطِ الصَّحِيحِ ، وَلَهُ عِلَّةٌ فَاحِشَةٌ (237) حَدَّثَنِي أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا حَامِدٍ أَحْمَدَ بْنَ حَمْدُونَ الْقَصَّارَ يَقُولُ : سَمِعْتُ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ : " وَجَاءَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ ، فَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَقَالَ : دَعْنِي حَتَّى أُقَبِّلَ رِجْلَيْكَ يَا أَسْتَاذَ الْأُسْتَاذَيْنِ ، وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ ، وَطَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ حَدَّثَكَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ قَالَ : ثَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ الْحَرَّانِيُّ قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ , عَن مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ , عَن سُهَيْلٍ , عَن أَبِيهِ , عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ فَمَا عِلَّتُهُ ؟ ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ : هَذَا حَدِيثٌ مَلِيحٌ وَلَا أَعْلَمُ فِي الدُّنْيَا فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ ، إِلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ " حَدَّثَنَا بِهِ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ : حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ : ثَنَا سُهَيْلٌ , عَن عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَوْلَهُ ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ : هَذَا أَوْلَى فَإِنَّهُ لَا يُذْكَرُ لِمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ سَمَاعًا مِن سُهَيْلٍ(2)
__________
(1) - شرح السنة للبغوي(1340) ومعرفة علوم الحديث (236 )
(2) - كونه فيه من لا يعرف بالسماع ممن روى عنه ، ليس هو العلة ، بل دليل على العلة ، وإنما العلة : أنه روي عن عون بن عبد الله موقوفا عليه ، وقد أعلَّه أبو حاتم في العلل (2079) بالوقف ، وبين الحافظ ابن حجر في النكت 2/726 أن قول البخاري : لا يذكر لموسى سماع من سهيل ، معناه أنه إذا كان غير معروف بالأخذ عنه ، ووقعت عنه رواية واحدة ، خالفه فيها من هو أعرف بحديثه وأكثر له ملازمة ، رجحت روايته على تلك الرواية المنفردة "
قلت : وهذا ذهاب منه إلى أن العلة الاختلاف بين رفعه ووقفه ، وكلامه يدلُّ على ترجيح الوقف ، ويدلُّ أيضاً على أن قول البخاري السابق هو من أدلته على ترجيح الوقف ، لآ أنه العلة المقصودة . تدريب الراوي هامش 1/422(1/395)
وعَن يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ , عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - : كَانَ إِذَا أَفْطَرَ عِنْدَ أَهْلِ بَيْتٍ ، قَالَ : " أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ ، وَنَزَلَتْ عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ "
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ( الحاكم) : قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا مِن غَيْرِ وَجْهٍ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ , عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنهُ هَذَا الْحَدِيثَ ، وَلَهُ عِلَّةٌ (248 )أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَاسِمُ بْنُ الْقَاسِمِ السَّيَّارِيُّ ، وَأَبُو مُحَمَّدِ الْحَسَنُ بْنُ حَلِيمٍ الْمَرْوَزِيَّانِ بِمَرْوَ ، قَالَا : حَدَّثَنَا أَبُو الْمُوَجِّهِ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدَانُ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا هِشَامٌ , عَن يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، قَالَ : حُدِّثْتُ عَن أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أَفْطَرَ عِنْدَ أَهْلِ بَيْتٍ ، قَالَ : " أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ "
3- وَقَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ مَعَ الْآخَرِ لِمَعْرِفَتِهِ أَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ غَيْرُ جَارِحٍ ؛ إمَّا لِأَنَّ جِنْسَهُ غَيْرُ جَارِحٍ ؛ أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ فِيهِ عُذْرٌ يَمْنَعُ الْجَرْحَ .
أمثلة على ذلك :
1 -قال ابن الجنيد : سألت يحيى بن معين عن هلال بن خباب وقلت : إن يحيى القطان يزعم أنه تغير قبل أن يموت واختلط ؟ فقال يحيى : " لا ، ما اختلط ، ولا تغير " ، قلت ليحيى : فثقة هو ؟ قال : " ثقة مأمون(1).
__________
(1) - سؤالات ابن الجنيد ( النص : 288 ) .(1/396)
قلت : وهذا النفي من ابن معين جائز أن يكون بالنظر إلى روايات الرجل ، فلم ير لما ذكر يحيى القطان تأثيراً فيها ، فكأنه يقول : لو صح ما قال القطان فلا وجه للقدح به ، إذ كأنه لم يكن .
2 -وقال الآجري : قلت لأبي داود : العوام بن حمزة ، حدث عنه يحيى القطان ، قال عباس ( يعني الدوري ) عن يحيى بن معين : إنه ليس بشيء ؟ قال : " ما نعرف له حديثاً منكراً "(1).
قلت : فأبو داود يقول : لا وجه لجرحه بما قال ابن معين ؛ لسلامة حديثه ، وخذ منه أن ابن معين ربما قال هذه العبارة لا يعني بها ردَّ حديث الراوي ، إنما يعني قلة حديثه .
3 -وقال علي بن المديني في ( عبد الحميد بن جعفر الأنصاري ) : " كان يقول بالقدر ، وكان عندنا ثقة ، وكان سفيان الثوري يضعفه "(2).
قلت: فلم يعتد بتضعيف سفيان ، وجائز أن يكون من أجل إجماله ، أو من أجل البدعة ، ولم يكن ابن المديني يرى لها أثراً في صدق الراوي وثقته .
4 -وفي طائفة من الرواة كان البخاري عدهم في جملة الضعفاء فيما ألفه في ذلك ، فخالفه فيهم أبو حاتم الرازي ، على ما يذكر من تشدده :
فمنهم : حريث بن أبي حريث ، قال أبو حاتم : " يحوَّلُ اسمه من هناك ، يكتب حديثه ولا يحتج به "(3)، يريد أنه صالح الحديث للاعتبار .
ومنهم : عبيد بن سلمان الأعرج ، قال أبو حاتم : " لا أرى في حديثه إنكاراً ، يحول من كتاب الضعفاء الذي ألفه البخاري إلى الثقات "(4).
__________
(1) - سؤالات الآجري ( النص : 355 ) .
(2) - سؤالات ابن أبي شيبة لابن المديني ( النص : 105 ) .
(3) - الجرح والتعديل ( 1 / 2 / 263 ) . يعني بقوْله : " من هُناك " أي : من كتاب " الضعفاء " للبخاري.
(4) - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم - (ج 5 / ص 407)(1/397)
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَلِلْعُلَمَاءِ بِالرِّجَالِ وَأَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ مِن الْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ مِثْلُ مَا لِغَيْرِهِمْ مِن سَائِر أَهْلِ الْعِلْمِ فِي عُلُومِهِمْ(1).
وذلك لأن علم الجرح والتعديل قائم على غلبة الظنِّ ، وليس على القطع واليقين ، فباب الاختلاف فيه واسع .(2)
4-وَمِنهَا : أَلَّا يَعْتَقِدَ أَنَّ الْمُحَدِّثَ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِمَن حَدَّثَ عَنهُ، فيكون الحديث منقطعا، لأنه روى عمَّن لم يره أولم يلقه ،وَغَيْرُهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَمِعَهُ لِأَسْبَابِ تُوجِبُ ذَلِكَ مَعْرُوفَةٍ.
وذلك للاختلاف في سِنِّه مثلا ،كالاختلاف في سنة ولادته ، أو سنة موته ، وكذلك كون الراوي عنه مدلِّسا أم غير مدلِّس ، فإنْ كان الأول فلا يقبل حديثه إلا إذا صرح فيه بالتحديث إذا كان يروي عن ثقات وغير ثقات ، وأمَّا إذا كان لا يروي إلا عن ثقات فيقبل حديثه ، أو كان الذي يروي عنه من أهل بلده الذين لازمهم كثيرا أو عن شيوخه الكبار ، فروايته عن هؤلاء بالعنعنة لا تضرُّ ، وتحمل روايته على السماع ..
وإذا لم يكن مدلسا فتقبل عنعنته مطلقا إذ أمكن اللقاء بينه وبين شيخه ، ومثل هذا كثير في الرواة.
__________
(1) - انظر مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم
(2) - وقد فصلت ذلك في كتابي (الخلاصة في علم الجرح والتعديل )(1/398)
مثال كما في سنن الترمذى(1608) عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَن أَبِى سَلَمَةَ عَن عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ نَذْرَ فِى مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ». قَالَ وَفِى الْبَابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ لاَ يَصِحُّ لأَنَّ الزُّهْرِىَّ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ مِن أَبِى سَلَمَةَ. قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَقُولُ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنهُمْ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ أَبِى عَتِيقٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَن سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ عَن يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ عَن أَبِى سَلَمَةَ عَن عَائِشَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ مُحَمَّدٌ وَالْحَدِيثُ هُوَ هَذَا.(1609) حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِىُّ - وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يُوسُفَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلاَلٍ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى أُوَيْسٍ عَن سُلَيْمَانَ بْنِ بِلاَلٍ عَن مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى عَتِيقٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَن سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ عَن يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ عَن أَبِى سَلَمَةَ عَن عَائِشَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ نَذْرَ فِى مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَهُوَ أَصَحُّ مِن حَدِيثِ أَبِى صَفْوَانَ عَن يُونُسَ. وَأَبُو صَفْوَانَ هُوَ مَكِّىٌّ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَقَدْ رَوَى عَنهُ الْحُمَيْدِىُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِن جِلَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ.(1/399)
وَقَالَ قَوْمٌ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ مِن أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَغَيْرِهِمْ لاَ نَذْرَ فِى مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَاحْتَجَّا بِحَدِيثِ الزُّهْرِىِّ عَن أَبِى سَلَمَةَ عَن عَائِشَةَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِن أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَغَيْرِهِمْ لاَ نَذْرَ فِى مَعْصِيَةٍ وَلاَ كَفَّارَةَ فِى ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِىِّ.
قال الحافظ ابن حجر في التلخيص :" وَلِلْحَدِيثِ طَرِيقٌ أُخْرَى رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِن حَدِيثِ كُرَيْبٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، فِيهِ طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى، وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ،وَقَالَ أَبُو دَاوُد: رُوِيَ مَوْقُوفًا، يَعْنِي: وَهُوَ أَصَحُّ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي "الرَّوْضَةِ"(1): حَدِيثُ: "لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ" ، ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ،قُلْت: قَدْ صَحَّحَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ السَّكَنِ، فَأَيْنَ الاتفاق؟"(2)
قلت : فمن صحح الحديث أخذ به ، ومن ضعفه لم يأخذ به(3)
5-وَمِنهَا : أَنْ يَكُونَ لِلْمُحَدِّثِ حَالَانِ :حَالُ اسْتِقَامَةٍ وَحَالُ اضْطِرَابٍ :
مِثْلَ أَنْ يَخْتَلِطَ ، مثال على ذلك عطاء بن السائب ، وقد وثقه أكثر المحدثين ، ولكن قد اختلط قبل موته ، ومن ثم فقد اختلفوا في حديثه ،فمن روى عنه قبل الاختلاط فحديثه حديث الثقات يحتجُّ به ، ومن روى بعد الاختلاط يتوقف فيه ، فإنْ كان له شاهد أو متابع قبلناه وإلا فلا .
__________
(1) - روضة الطالبين" للإمام النووي [5/ 216].
(2) - التلخيص الحبير - (ج 4 / ص 429)
(3) - انظر تفاصيل أقوال الفقهاء في الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 40 / ص 148) فما بعد(1/400)
وقد اختلفوا في رواية حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب : قَالَ العقيلى : سمع حماد من عطاء بعد اختلاطه ،والصحيح أَنه سمع منه قبل الاختلاط وهومَا ذكره ابن الجارود فِى الضعفاء فقَالَ : حديث سفيان وشعبة وحماد بن سلمة عنه جيد ، وقال يعقوب بن سفيان : هو ثقة حجة وما روى عنه سفيان وشعبة وحماد بن سلمة سماع هؤلاء قديم ---(1)وهومَا رجحه ابن حجر فِى الفتح وغيره والهيثمى وأحمد شاكر وهو الحق .
والذين رووا عن عطاء بن السائب قبل الاختلاط هم : سفيان الثورى وشعبة وزهير وزائدة وحماد بن سلمة ، حماد بن زيد ، أيوب وسفيان ابن عينيه --وحديثهم صحيح فهو ثقة اختلط بآخره ، وما رواه بعد الاختلاط يتوقف فيه.
أَوْ تَحْتَرِقَ كُتُبُهُ ، كعبد الله بن لهيعة المصري ، فقد احترقت كتبه بآخر عمره سنة 169 أو170 هـ ومات سنة 174 هـ فخلط بعدها، وقد اختلفوا فيه، وخلاصة الأمر فيه ما قاله ابن عدي : وحديثه أحاديث حسان ، وما قد ضعفه السلف هو حسن الحديث يكتب حديثه ، وقد حدث عنه الثقات : الثوري وشعبة ومالك وعمرو بن الحارث والليث بن سعد.
قلت : وقالوا رواية عبد الله بن وهب عنه وابن المبارك وعبد الله بن يزيد المقري وقتيبة بن سعيد أعدل من غيرها عنه ، وينبغي أن يضاف لهؤلاء ما رواه عنه أبو الأسود والحسن بن موسى، وقد روى الإمام أحمد في مسنده أحاديث ابن لهيعة من طريق الحسن بن موسى وأبي الأسود غالباً .(2)
__________
(1) - التهذيب للحافظ ابن حجر 7/206-207
(2) - راجع تهذيب الكمال [ج 15 -ص487 ] برقم(3513 ) و وتهذيب التهذيب [ج 5 -ص327 ] برقم(648) والجرح والتعديل [ ج 5 - ص145 ] برقم(682 ) والكامل في الضعفاء [ ج 4 - ص 144 ] برقم(977 ) وتذكرة الحفاظ برقم(224) وتاريخ دمشق [ج 32 -ص136 ] برقم(3474)(1/401)
فَمَا حَدَّثَ بِهِ فِي حَالِ الِاسْتِقَامَةِ صَحِيحٌ وَمَا حَدَّثَ بِهِ فِي حَالِ الِاضْطِرَابِ ضَعِيفٌ فَلَا يَدْرِي ذَلِكَ الْحَدِيثَ مِن أَيِّ النَّوْعَيْنِ ؟ وَقَدْ عَلِمَ غَيْرُهُ أَنَّهُ مِمَّا حَدَّثَ بِهِ فِي حَالِ الِاسْتِقَامَةِ.
كما في سنن ابن ماجه( 4314 ) حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِىِّ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَن عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنِ الأَغَرِّ أَبِى مُسْلِمٍ عَن أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِى وَالْعَظَمَةُ إِزَارِى مَن نَازَعَنِى وَاحِدًا مِنهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِى جَهَنَّمَ ».
قال البوصيري في مصباح الزجاجة (841) هذا إسناد رجاله ثقات إلا أن عطاء بن السائب اختلط بآخرة ولم يعرف حال عبد الرحمن بن محمد المحاربي هل روى عنه قبل الاختلاط أو بعده وله شاهد من حديث أبي هريرة رواه مسلم في صحيحه وغيره.
فلت : فاته أنه قد توبع ، ففي مسند أحمد(9129) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَن عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنِ الأَغَرِّ عَن أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْنِى « قَالَ اللَّهُ الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِى وَالْعَظَمَةُ إِزَارِى فَمَن نَازَعَنِى وَاحِداً مِنهُمَا أَدْخَلْتُهُ جَهَنَّمَ ».
وبرقم(9598) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَن عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنِ الأَغَرِّ عَن أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا يَحْكِى عَن رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ « الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِى وَالْعَظَمَةُ إِزَارِى مَن نَازَعَنِى وَاحِداً مِنهُمَا قَذَفْتُهُ فِى النَّارِ ».(1/402)
وبرقم(9756) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنِ الأَغَرِّ عَن أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِى وَالْعَظَمَةُ إِزَارِى فَمَن يُنَازِعُنِى وَاحِدَةً مِنهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِى جَهَنَّمَ ».
وبرقم(9954) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَن عَطَاءٍ - يَعْنِى ابْنَ السَّائِبِ - عَنِ الأَغَرِّ أَبِى مُسْلِمٍ عَن أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِى وَالْعَظَمَةُ إِزَارِى فَمَن نَازَعَنِى شَيْئاً مِنهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِى جَهَنَّمَ ».
فقد تابعه سُفْيَانُ وحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وإِسْمَاعِيلُ وعَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وبعضهم روى عنه قبل الاختلاط ، فالحديث صحيح بلا ريب ، بدون الشواهد والطرق الأخرى
6- وَمِنهَا : أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ قَدْ نَسِيَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ:
فَلَمْ يَذْكُرْهُ فِيمَا بَعْدُ أَوْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ حَدَّثَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّ هَذَا عِلَّةٌ تُوجِبُ تَرْكَ الْحَدِيثِ . وَيَرَى غَيْرُهُ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، قال الذهبي في السير :"حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (ع)الْحَافِظُ الْحُجَّةُ الْمُعَمَّرُ أَبُو الْهُذَيْلِ السُّلَمِيُّ الْكُوفِيُّ ابْنُ عَمِّ مَنصُورٍ. وُلِدَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ فِي حُدُودِ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ.(1/403)
رَوَى أَبُو حَاتِمٍ، عَن أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الثِّقَةُ الْمَأْمُونُ مِن كِبَارِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ،وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: ثِقَةٌ،وَقَالَ أَحْمَدُ الْعِجْلِيُّ: كَوَفِيٌّ ثِقَةٌ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ، سَكَنَ بَلَدَ الْمُبَارَكِ بِأَخْرَةَ، وَالْوَاسِطِيُّونَ أَرَوَى النَّاسِ عَنهُ،قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قُلْتُ: لِأَبِي زُرْعَةَ، حُصَيْنٌ حُجَّةٌ ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ،وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: ثِقَةٌ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ: وَفِي آخِرِ عُمْرِهِ سَاءَ حِفْظُهُ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: تَغَيَّرَ،وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: طَلَبْتُ الْحَدِيثَ وَحُصَيْنٌ حَيٌّ، كَانَ يُقْرَأُ عَلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ نَسِيَ. وَعَن يَزِيدَ قَالَ: اخْتَلَطَ حُصَيْنٌ،وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ: لَمْ يَخْتَلِطْ.
قُلْتُ: احْتَجَّ بِهِ أَرْبَابُ الصِّحَاحِ، وَهُوَ أَقْوَى مِن عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَمِن سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، وَمَا هُوَ بِدُونِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْعَجَبُ مِن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيِّ، وَمِنَ الْعُقَيْلِيِّ، وَابْنِ عَدِيٍّ، كَيْفَ تَسَرَّعُوا إِلَى ذِكْرِ حُصَيْنٍ فِي كُتُبِ الْجَرْحِ."(1).
وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ، وقد ذكرها العلماء تحت عنوان :
حكمُ رواية من حَدَّثَ ونَسِيَ(2):
__________
(1) - سير أعلام النبلاء - (ج 5 / ص 422) برقم(186 )
(2) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 22) وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 330) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 2 / ص 144) ونزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 37)(1/404)
فإذا رَوَى ثقة عن ثقة حديثا, ثمَّ نفاه المسمع لمَّا رُوجع فيه، فالمُخْتار عند المُتأخِّرين أنَّه إن كان جَازمًا بنفيه, بأن قال: ما رويته أو كذب عليَّ ونحوه, وجب ردُّه لتعارض قولهما, مع أنَّ الجاحد هو الأصل ، ولكن لا يقدح ذلك في باقي روايات الرَّاوي عنه ولا يثبت به جرحه, لأنَّه أيضًا مُكذِّبٌ لشيخه في نفيه لذلك, وليس قَبُول جرح كلٍّ منهما أولى من الآخر فتساقطا, فإن عاد الأصْل وحدَّث به, أو حدَّث فرع آخر ثقة عنه, ولم يُكذبه فهو مقبول. صرَّح به القاضي أبو بكر والخطيب وغيرهما(1)
__________
(1) - البرهان في أصول الفقه - الرقمية - (ج 1 / ص 250) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 264)
لكن ينبغي أن يتنبه هنا إلى أمرٍ هام ، وهو أن هذا الحكم إنما يكون إذا كان كلٌّ من الشيخ والراوي عنه ثقة ، أما إذا كان أحدهما ضعيفاً ، فلا تقبل دعواه ، ويقدم قول الثقة .
فمثال ضعف الشيخ :
قال الحاكم في معرفة علوم الحديث (367 )حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ : ثنا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , عَن إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَطَاءٍ , عَن مُوسَى بْنِ وَرْدَانَ , عَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ مَاتَ مَرِيضًا ، مَاتَ شَهِيدًا ، وَوُقِيَ فَتَّانَ الْقَبْرِ ، وَغُدِيَ ، وَرِيحَ عَلَيْهِ بِرِزْقِهِ مِنَ الْجَنَّةِ " قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : إِبْرَاهِيمُ هَذَا هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَحْيَى الْأَسْلَمِيُّ سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ مُحَمَّدَ بْنَ يَعْقُوبَ يَقُولُ : سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدٍ الدُّورِيَّ يَقُولُ : سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ : " حَدِيثُ : " مَنْ مَاتَ مَرِيضًا ، مَاتَ شَهِيدًا " ، كَانَ ابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ فِيهِ : إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَطَاءٍ وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَحْيَى "
وروى ابن الجوزي في الموضوعات (1739) بإسناده إلى ابن أبي سكينة الحلبي ، قال : سمعت إبراهيم بن أبي يحيى يقول : حدَّثتُ ابن جريج بهذا الحديث : ( من مات مرابطا) فروى عني (من مات مريضا) وما هكذا حدثته .
قال ابن الجوزي : ابن جريج هو الصادق ، وذلك لأن ابن أبي يحيى الأسلمي ضعيف ، وابن جريج ثقة .
ومثال ضعف الراوي :
عن شعبة قال روى الحسن بن عمارة عن الحكم عن يحيى بن الجزار عن علي سبعة أحاديث فلقيت الحكم فسألته عنها فقال ما حدثت بشيء منها.
والحسن بن عمارة ضعيف ، بل متروك ، والحكم بن عتيبة ثقة حافظ .
وهذه القصة تدلُّ على سوء حفظ الحسن بن عمارة ، لأنه روى عن الحكم أحاديث لا أصل لها عنه ، ولذا لما سئل الحكم عنها قال : ما سمعت بهذا شيئاَ .
فإن قيل : قد روى الخطيب في الكفاية (280 )أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْقَطِيعِيُّ ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ الْحَافِظُ ، ثنا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ ، ثنا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ , قَالَ : سَأَلْتُ أَيُّوبَ بْنَ سُوَيْدٍ عَنِ الَّذِي كَانَ شُعْبَةُ يَطْعَنُ بِهِ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ فَقَالَ لِي : " كَانَ يَقُولُ : إِنَّ الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ لَمْ يُحَدِّثْ عَن يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ , وَالْحَسَنُ يُحَدِّثُ عَنِ الْحَكَمِ عَن يَحْيَى أَحَادِيثَ كَثِيرَةً , قَالَ : فَقُلْتُ ذَلِكَ لِلْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ فَقَالَ : إِنَّ الْحَكَمَ أَعْطَانِي حَدِيثَهُ عَن يَحْيَى فِي كِتَابٍ لِأَحْفَظَهُ فَحَفِظْتُهُ "
فإن قيل : أليس هذا كافياً في تبرئة الحسن بن عمارة ، إذ أنه صرح بأنه حفظ عن الحكم ما لم يحفظه غيره ؟!
قلت : كلا ، لأمور :
الأول: أنه رجل سيئ الحفظ ، فمهما ادعى من شيء فلن يسمع له .
الثاني : أنه لم يحدث بها من الكتاب ، بل من حفظه كما يفهم من كلامه ، وقد مرَّ أنه سيئ الحفظ ، فلا يؤمن عليه أن يخطئ فيدخل حديثا في حديث ، أو يقلب بعض الأسانيد عن غير قصد .
الثالث: أن الحكم بن عتيبة لما سئل عن هذه الأحاديث أنكرها ، وهو ثقة حجَّةٌ ، فلا يردُّ قوله لقول الحسن بن عمارة الضعيف .
الرابع : أن هذه الأحاديث التي تفرد بها عن الحكم يحيى بن الجزار ، وجدها الئمة أحاديث منكرة غير مستقيمة ، وهذا أكبر دليل على الحكم لم يحدث بها ، لأن الأحاديث المناكير لا تأتي إلا من الرجال المناكير كالحسن بن عمارة وأمثاله " التدريب هامش 1/561-562(1/405)
ومُقَابل المُختار في الأوَّل عدم رد المَرْوي.
واختارهُ السَّمعاني, وعزاهُ الشَّاشي للشَّافعي, وحكى الهِنْدي الإجْمَاع عليه.
وجزمَ المَاوردي والرُّوياني بأنَّ ذلك لا يقدح في صِحَّة الحديث, إلاَّ أنَّه لا يَجُوز للفرع أن يرويه عن الأصْل, فحصلَ ثلاثة أقْوَال.
وثَمَّ قولٌ رابع: أنَّهما يتعارضَان, ويُرجَّح أحدهما بطريقه, وصار إليه إمام الحرمين.
ومن شواهد القبول ما رواهُ الشَّافعي في المسند( 175 )أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ ، عَن عَمْرٍو ، عَن أَبِي مَعْبَدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا قَالَ : " كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالتَّكْبِيرِ " . قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ : ثُمَّ ذَكَرْتُهُ لِأَبِي مَعْبَدٍ بَعْدُ ، فَقَالَ : لَمْ أُحَدِّثْكَهُ . قَالَ عُمَرُ : وَقَدْ حَدَّثَنِيهِ قَالَ : وَكَانَ مِن أَصْدَقِ مَوَالِي ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : كَأَنَّهُ نَسِيَهُ بَعْدَمَا حَدَّثَهُ إِيَّاهُ .
قال الخطيب في الكفاية : " (1191) أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ الْقَاسِمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْهَاشِمِيُّ ، ثنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَيَّاشٍ الْمَتُّوثِيُّ ، ثنا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ الطُّوسِيُّ ، ثنا وَهْبٌ يَعْنِي ابْنَ جَرِيرٍ ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ , قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ , قَالَ : " كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا " , قَالَ شُعْبَةُ : لَقِيتُهُ بِوَاسِطَ فَسَأَلْتُهُ عَنهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ " .(1/406)
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْعَمَلِ بِمِثْلِ هَذَا وَشِبْهِهِ , فَقَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ مِن أَصْحَابِ مَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا , وَجُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ : إِنَّ الْعَمَلَ بِهِ وَاجِبٌ , إِذَا كَانَ سَامِعُهُ حَافِظًا وَالنَّاسِي لَهُ بَعْدَ رِوَايَتِهِ عَدْلًا , وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ , وَزَعَمَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِن أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَبُولُ الْخَبَرِ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ , وَلَا الْعَمَلُ بِهِ , قَالُوا : وَلِهَذَا لَزِمَ اطِّرَاحُ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ فِي الْمَرْأَةِ تُنْكَحُ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا , وَحَدِيثِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ فِي الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ , لِأَنَّهُمَا لَمْ يَعْتَرِفَا بِهِ لِمَا ذَكَرَاهُ , وَاعْتَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ "
((1/407)
1192 ) وَقَدْ أَخْبَرَنَا بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرَانَ الْمُعَدِّلُ ، أنا أَبُو سَهْلٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ الْقَطَّانُ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ , حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ أَبُو هَاشِمٍ , حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ ، ثنا ابْنُ جُرَيْجٍ ، أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى , عَنِ الزُّهْرِيِّ , عَن عَائِشَةَ , قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا نُكِحَتِ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ , فَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا مَهْرُهَا بِمَا أَصَابَ مِنهَا , فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَن لَا وَلِيَّ لَهُ " , وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : فَلَقِيتُ الزُّهْرِيَّ فَسَأَلْتُهُ عَن هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ , وَقَالَ زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ دَلُّوَيْهِ : سَقَطَ عَلَيَّ فِي الْحَدِيثِ عُرْوَةُ , لَمْ أَفْهَمْ مِن إِسْمَاعِيلَ , وَعُرْوَةُ فِيهِ ثَابِتٌ .
((1/408)
1193) وَأَمَّا حَدِيثُ سُهَيْلٍ فَأَخْبَرَناهُ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، أنا أَبُو سَهْلِ بْنُ زِيَادٍ الْقَطَّانُ ، ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ ، ثنا يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ ، ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ , وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ , عَن رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ , عَن سُهَيْلٍ , عَن أَبِيهِ , عَن أَبِي هُرَيْرَةَ , : " أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ " قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ : فَلَقِيتُ سُهَيْلًا فَسَأَلْتُهُ عَن هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ " وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ , أَنَّهُ إِذَا كَانَ رَاوِي الْخَبَرِ الَّذِي نَسِيَهُ عَدْلًا , وَالَّذِي حَفِظَهُ عَنهُ عَدْلًا , فَإِنَّهُمَا لَمْ يُحَدِّثَا إِلَّا بِمَا سَمِعَاهُ , وَلَوِ احْتَمَلَتْ حَالُهُمَا غَيْرَ ذَلِكَ لَخَرَجَا عَن حُكْمِ الْعَدَالَةِ , وَكَانَ السَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَى الْإِنْسَانِ , وَلَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يُحَدِّثَهُ وَيَنْسَى أَنَّهُ قَدْ حَدَّثَهُ , وَذَلِكَ غَيْرُ قَادِحٍ فِي أَمَانَتِهِ وَلَا تَكْذِيبَ لِمَن يَرْوِي عَنهُ , وَلِهَذَا كَانَ سُهَيْلٌ بَعْدَ أَنْ نَسِيَ حَدِيثَهُ , وَذَكَرَهُ لَهُ رَبِيعَةُ يَقُولُ : حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي عَن أَبِي - وَيَسُوقُ الْحَدِيثَ .
((1/409)
1194 )أَخْبَرَناهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرَانَ الْوَاعِظُ ، ثنا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْفَاكِهِيُّ , بِمَكَّةَ ، ثنا أَبُو يَحْيَى بْنُ أَبِي مَسَرَّةَ ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْرَقُ ، ثنا الدَّرَاوَرْدِيُّ , عَن رَبِيعَةَ , عَن سُهَيْلٍ , عَن أَبِيهِ , عَن أَبِي هُرَيْرَةَ , : " أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ " قَالَ الدَّرَاوَرْدِيُّ : ثُمَّ أَتَيْتُ سُهَيْلًا فَسَأَلْتُهُ عَن هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ : حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي عَن أَبِي , ثُمَّ ذَكَرَهُ لِي ".
وَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ أَحَادِيثَ ثُمَّ نَسُوهَا , وَذُكِّرُوا بِهَا فَكَتَبُوهَا عَمَن حَفِظَهَا عَنهُمْ , وَكَانُوا يَرْوُونَهَا وَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُمْ : حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنِّي عَن فُلَانٍ بِكَذَا وَكَذَا , وَيَسُوقُونَ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ , وَقَدْ جَمَعْنَاهُ فِي كِتَابٍ أَفْرَدْنَاهُ لَهَا , وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُجَوِّزُونَ نِسْيَانَهُمْ لِتِلْكَ الْأَخْبَارِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ عَلَيْهِمْ , فَلَا يُوجِبُونَ لِأَجْلِهِ رَدَّ خَبَرِ الْعَدْلِ وَلَا الْقَدْحَ فِيهِ
((1/410)
1195 ) أَخْبَرَنَا بُشْرَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرُّومِيُّ ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّاشِدِيُّ ، ثنا أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ , قَالَ : قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : " يُضَعَّفُ الْحَدِيثُ عِنْدَكَ بِمِثْلِ هَذَا : أَنْ يُحَدِّثَ الرَّجُلُ الثِّقَةُ بِالْحَدِيثِ عَنِ الرَّجُلِ , فَيَسْأَلُهُ عَنهُ فَيُنْكِرُهُ وَلَا يَعْرِفُهُ ؟ فَقَالَ : لَا , مَا يُضَعَّفُ عِنْدِي بِهَذَا , فَقُلْتُ : مِثْلُ حَدِيثِ الْوَلِيِّ , وَمَثْلُ حَدِيثِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ؟ فَقَالَ : قَدْ كَانَ مُعْتَمِرٌ يَرْوِي عَن أَبِيهِ عَن نَفْسِهِ عَن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قُلْتُ , لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : مَن رَوَى هَذَا عَن مُعْتَمِرٍ ؟ قَالَ : بَعْضُ أَصْحَابِنَا بَلَّغَنِي عَنهُ "
((1/411)
1196 ) أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الدَّاوُدِيُّ ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ ، ثنا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَامٍ , قَالَ : قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : حُبَيْشِ بْنِ مُبَشِّرٍ الْفَقِيهِ : حَدِيثُ عَائِشَةَ , عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ " ؟ قَالَ : يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ يُصَحِّحُهُ , " فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَإِنَّ السُّلْطَانَ وَلِيُّ مَن لَا وَلِيَّ لَهُ " , فَقُلْتُ : هَذَا مِن كَلَامِ عَائِشَةَ ؟ فَقَالَ : لَا هَذَا مِن كَلَامِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْحَدِيثُ مَا كَانَ السُّلْطَانُ وَلِيَ مَن لَا وَلِيَّ لَهُ عِنْدَ النَّاسِ كُلِّهِمْ , فَقُلْتُ : فَابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ : سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ فَلَمْ يَعْرِفْهُ ؟ فَقَالَ : نَسِيَ الزُّهْرِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ كَمَا نَسِيَ ابْنُ عُمَرَ حَدِيثَ صَلَاةِ الْقُنُوتِ , وَكَمَا نَسِيَ سَمُرَةُ حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ , وَلَمْ يَقُلْ هَذَا عَنِ الزُّهْرِيِّ غَيْرُ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , كَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ ".(1/412)
وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا , أَنَّهُ لَيْسَ مِن شَرْطِ الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ ذِكْرُ رَاوِيهِ لَهُ , وَعِلْمُهُ بِأَنَّهُ قَدْ حَدَّثَ بِهِ , لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبِ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْمَرِيضِ وَالْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ وَالْمَيِّتِ بَعْدَ رِوَايَتِهِ , لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِن هَؤُلَاءِ يَعْلَمُ أَنَّهُ رَوَى مَا يُرْوَى عَنهُ , فَالسَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ دُونَ هَذِهِ الْأُمُورِ , وَأَيْضًا فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ كَافَّةً اتَّفَقُوا عَلَى الْعَمَلِ بِاللَّفْظِ الزَّائِدِ فِي الْحَدِيثِ , إِذَا قَالَ رَاوِيهِ : لَا أَحْفَظُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ , وَأَحْفَظُ أَنِّي رَوَيْتُ مَا عَدَاهَا , فَكَذَلِكَ سَبِيلُ نِسْيَانِهِ لِرِوَايَةِ جَمِيعِ الْحَدِيثِ , لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ مِنَ النِّسْيَانِ , وَالرَّاوِي عَنهُ ضَابِطٌ عَدْلٌ , فَوَجَبَ قَبُولُ خَبَرِهِ , فَإِنْ قَالَ الْمُخَالِفُ : قَوْلُنَا فِي اللَّفْظِ الزَّائِدِ كَقَوْلِنَا فِي جَمِيعِ الْحَدِيثِ , قِيلَ : هَذَا شَيْءٌ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهِ , فَرُكُوبُهُ بَاطِلٌ , وَلَوْ جَازَ رُكُوبُ ذَلِكَ لَوَجَبَ جَوَازُ مِثْلِهِ , إِذَا قَالَ الرَّاوِي : لَا أَذْكُرُ أَنِّي رَوَيْتُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى هَذَا الْإِعْرَابِ , مَتَى رُوِيَ عَنهُ بِإِعْرَابٍ يُوجِبُ حُكْمًا , وَلَوْ أَسْقَطَهُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ الْحُكْمَ , وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ نِسْيَانَهُ لِإِعْرَابِ لَفْظِ الْخَبَرِ لَا يُوجِبُ رَدَّ الْخَبَرِ , فَإِنْ قَالَ : الْفَرْقُ بَيْنَ نِسْيَانِ اللَّفْظَةِ مِنَ الْحَدِيثِ وَنِسْيَانِ إِعْرَابِهِ : وَبَيْنَ نِسْيَانِ الْحَدِيثِ بِأَسْرِهِ : أَنَّ مِثْلَ نِسْيَانِ اللَّفْظِ وَالْإِعْرَابِ يَجُوزُ فِي الْعَادَةِ , وَلَا يَجُوزُ نِسْيَانُ الْحَدِيثِ بِأَسْرِهِ ,(1/413)
قِيلَ : أَيُّ عَادَةٍ فِي ذَلِكَ , بَل الِاعْتِمَادُ كَوْنُ ذَلِكَ أَجْمَعَ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ , وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ بِأَنَّ نِسْيَانَ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ أَقَلُّ مِن نِسْيَانِ اللَّفْظَةِ مِنهُ , وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ"(1).
7-وَمِنهَا : أَنَّ كَثِيرًا مِن الْحِجَازِيِّينَ يَرَوْنَ أَلَّا يُحْتَجَّ بِحَدِيثِ عِرَاقِيٍّ أَوْ شَامِيٍّ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ بِالْحِجَازِ .
حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ : نَزِّلُوا أَحَادِيثَ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِمَنزِلَةِ أَحَادِيثِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ ، وهذه المقولة باطلةٌ ، ولا أساس لها من الصحة ، بل وجد في الكوفة والبصرة وبغداد فيما بعد آلاف المحدِّثين الثقات الأثبات ، فكيف يقال هذا الكلام الباطل بحقهم ؟؟!!!.
وَقِيلَ لِآخَرَ : سُفْيَانُ عَن مَنصُورٍ عَن إبْرَاهِيمَ عَن عَلْقَمَةَ عَن عَبْدِ اللَّهِ حُجَّةٌ ؟ قَالَ: إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ بِالْحِجَازِ فَلَا .
قلت : هذا من أصح الأسانيد ، فكيف يقال هذا بحقه ، فقد أخرج البخاري حديثا بهذا السند في صحيح البخارى برقم(4886 ) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَن مَنصُورٍ عَن إِبْرَاهِيمَ عَن عَلْقَمَةَ عَن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُوتَشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ ..
__________
(1) -انظر البحر المحيط - (ج 5 / ص 379) مَسْأَلَةٌ [ إنْكَارُ الشَّيْخِ مَا حَدَّثَ بِهِ ] إذَا رَوَى ثِقَةٌ عَن ثِقَةٍ حَدِيثًا ، ثُمَّ رَجَعَ الشَّيْخُ فَأَنْكَرَهُ ، ُ .(1/414)
بل هذا أصح أسانيد الكوفيين، وقد روى سائر أئمة الحديث بهذا السند أحاديث كثيرة ، وفي الكفاية :( 1235 ) أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الدَّقَّاقُ قَالَ : قَرَأْنَا عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ هَارُونَ الْقَاضِي , عَن أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سَعِيدٍ , قَالَ : ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ نُوحٍ الْبَلخِيُّ , قَالَ : سَمِعْتُ أَبِي , يَقُولُ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ , يَقُولُ : " مَا أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى شَيْءٍ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى هَذَا الْإِسْنَادِ سُفْيَانُ عَن مَنصُورٍ عَن إِبْرَاهِيمَ عَن عَلْقَمَةَ عَن عَبْدِ اللَّهِ "(1).
والسبُ في ذلك هو اعتقادهم أَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ ضَبَطُوا السُّنَّةَ فَلَمْ يَشِذَّ عَنهُمْ مِنهَا شَيْءٌ، وَأَنَّ أَحَادِيثَ الْعِرَاقِيِّينَ وَقَعَ فِيهَا اضْطِرَابٌ أَوْجَبَ التَّوَقُّفَ فِيهَا.
قلت : وهذا فيه نظر أيضاً ، فكلُّ إقليم فيه علماء أفذاذ ضبطوا السنَّة ونقَّوها مما علق بها ، وميزوا صحيحها من منخولها ، وهناك علماء آخرون لم يضبطوا ذلك ، فكيف يتهم أصحاب إقليم ما بهذه التهمة الموجودة عند الجميع بما فيهم الحجازيين ؟؟!!.
وَبَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ يَرَى أَلَّا يُحْتَجَّ بِحَدِيثِ الشَّامِيِّينَ.
__________
(1) - انظر قواطع الأدلة فى الأصول / للسمعانى - (ج 1 / ص 404) والحد الفاصل - (ج 1 / ص 238) والكفاية في علم الرواية - (ج 1 / ص 386) وتدريب الراوي (ج 2 / ص 71)(1/415)
قلت : هذا من التعصب المذموم للإقليم أو الشخص أو المذهب، فالحديث متى استوفى شروط الصحَّة وجب العمل به سواء رواه أهل الحجاز أو أهل الشام أو أهل العراق ، أو غيرها من بلدان المسلمين ، وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم قد تفرقوا في أمصار المسلمين فاتحين وبعدها يعلمون الناس أصول دينهم ، فما وصل لأهل هذا الإقليم لم يصل إلى غيرهم ، وحصرُ الأحاديث في إقليم واحد يدلُّ على جهل قائله ، فأكثرُ من ثمانين بالمائة من الصحابة لم يموتوا في مكة أو المدينة بل خارجهما ، بل حتى أصحاب الإقليم الواحد لم يحصوا أحاديث إقليمهم كلها ، ولا أقاويلهم كالإمام مالك رحمه الله ، الذي يقدِّم عمل أهل المدينة على حديث الآحاد مثلا ، فقد رد عليه الإمام الشافعي وغيره ، وبيَّنوا له أن المسائل التي يقول بها إنها عمل أهل المدينة أن بعض علماء أهل المدينة قد خالفوها فكيف بغيرهم من الأمصار الأخرى ؟! .
ولذلك فإنَّ َأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى تَرْكِ التَّضْعِيفِ بِهَذَا، فَمَتَى كَانَ الْإِسْنَادُ جَيِّدًا كَانَ الْحَدِيثُ حُجَّةً سَوَاءٌ كَانَ الْحَدِيثُ حِجَازِيًّا أَوْ عِرَاقِيًّا أَوْ شَامِيًّا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ كما قلنا.
وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو داود السجستاني كِتَابًا فِي مفاريد أَهْلِ الْأَمْصَارِ مِن السُّنَنِ يُبَيِّنُ مَا اخْتَصَّ بِهِ أَهْلُ كُلِّ مِصْرٍ مِن الْأَمْصَارِ مِن السُّنَنِ الَّتِي لَا تُوجَدُ مُسْنَدَةً عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِثْلَ الْمَدِينَةِ ؛ وَمَكَّةَ ؛ وَالطَّائِفِ ؛ وَدِمَشْقَ وَحِمْصَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا . إلَى أَسْبَابٍ أُخَرَ غَيْرِ هَذِهِ .
- - - - - - - - - - - - - -
السَّبَبُ الرَّابِعُ
اشْتِرَاطُهُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ الْحَافِظِ شُرُوطًاً يُخَالِفُهُ فِيهَا غَيْرُهُ
مِثْلُ اشْتِرَاطِ بَعْضِهِمْ عَرْضَ الْحَدِيثِ عَلَى الْكِتَابِ والسُّنَّة !! .(1/416)
قلت : هذا الشرط ليس معتبراً ، فقد نجد كثيراً من الأحاديث الساقطة والواهية لو عرضت على الكتاب والسُّنَّة لما خالفتهما ، ككثير من الحِكم والأمثال ، فهل نقبلها على أنها أحاديث صحيحة عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - ونعمل بموجبها ؟؟!!
فهذا لا يقول به أحد من أهل العلم ، ولكن من حيث الجملة : لا يجوز أن يخالف الحديث أصول الدين العامة ، فهذا صحيح . وفي الموضوعات لابن الجوزي – "كل حديث رأيته يخالف المعقول ، أو يناقض الأصول ، فاعلم أنه موضوع فلا تتكلف اعتباره "(1).
قلت : وكثيرا ما يقع الخلل في اعتباره مناقضا أم لا ؟ وقد ردَّ المعتزلة ومن لفَّ لفَّهم كثيرا من الأحاديث الصحيحة بحجة مناقضتها لعقولهم القاصرة ، كحديث السحر(2)، وقلع موسى عليه السلام لعين ملك الموت(3)، ونحو ذلك...
وَاشْتِرَاطِ بَعْضِهِمْ أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ فَقِيهًا إذَا خَالَفَ قِيَاسَ الْأُصُولِ.
قال الزركشي(4): " وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ سَوَاءٌ خَالَفَتْ رِوَايَتُهُ الْقِيَاسَ أَمْ لَا .
__________
(1) - الموضوعات لابن الجوزي - (ج 1 / ص 106)
(2) - انظره في صحيح البخارى(5763) وصحيح مسلم (5832)
(3) - انظره في صحيح البخارى (1339 ) ومسلم (6297)
(4) - انظر البحر المحيط للزركشي - (ج 5 / ص 367)[ اشْتِرَاطُ كَوْنِ الرَّاوِي فَقِيهًا ] وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ سَوَاءٌ خَالَفَتْ رِوَايَتُهُ الْقِيَاسَ أَمْ لَا .(1/417)
وَشَرَطَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِقْهَ الرَّاوِي لِتَقْدِيمِ الْخَبَرِ عَلَى الْقِيَاسِ ، وَلِهَذَا رَدَّ حَدِيثَ الْمُصَرَّاةِ ، وَتَابَعَهُ أَكْثَرُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ ، وَمِنهُمْ الدَّبُوسِيُّ ، وَأَمَّا الْكَرْخِيّ وَأَتْبَاعُهُ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ ، بَل قَبِلُوا خَبَرَ كُلِّ عَدْلٍ إذَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ أَو السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ ، وَيُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ ،قَالَ أَبُو الْيُسْرِ مِنهُمْ : وَإِلَيْهِ مَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ .
قَالَ صَاحِبُ " التَّحْقِيقِ " : وَقَدْ عَمِلَ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ ، ثُمَّ ذَكَرَ ، فَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ "(1).وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ ، حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْلَا الرِّوَايَةُ لَقُلْت بِالْقِيَاسِ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَن أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ:" إِذَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَإِذَا جَاءَ عَن أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَخْتَارُ مِن قَوْلِهِمْ وَإِذَا جَاءَ عَنِ التَّابِعِينَ زَاحَمْنَاهُمْ.(2)
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ عَلَى تَقْدِيرِ الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ بِمَذْهَبِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مُقَلِّدًا لَهُ ، فَمَا ظَنُّك بِأَبِي هُرَيْرَةَ مَعَ أَنَّهُ أَفْقَهُ مِن أَنَسٍ .
__________
(1) - مسند أحمد(10641) صحيح
(2) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ(22 ) وهو صحيح(1/418)
قَالَ : وَلَمْ يُنْقَلْ عَن أَحَدٍ مِن السَّلَفِ اشْتِرَاطُ الْفِقْهِ فِي الرَّاوِي ، فَثَبَتَ أَنَّهُ قَوْلٌ مُحْدَثٌ ط
وَكَذَا قَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ ، قَالَ : وَلِهَذَا قُلْنَا بِحَدِيثِ الْقَهْقَهَةِ ، وَأَوْجَبْنَا الْوُضُوءَ فِيهَا ، وَلَيْسَتْ بِحَدَثٍ فِي الْقِيَاسِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُوجِبُوا الْوُضُوءَ عَلَى مَن قَهْقَهَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ، وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَرِدْ إلَّا فِي صَلَاةٍ ذَاتِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ .
قُلْت : وَالصَّوَابُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ مِن فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ ، وَقَدْ أَفْرَدَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ السُّبْكِيُّ جُزْءًا فِي فَتَاوِيهِ ، وَقَالَ شَارِحُ الْبَزْدَوِيِّ : بَل كَانَ فَقِيهًا ، وَلَمْ يَعْدَمْ شَيْئًا مِن آلَاتِ الِاجْتِهَادِ ، وَكَانَ يُفْتِي فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ ، وَمَا كَانَ يُفْتِي فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إلَّا فَقِيهٌ مُجْتَهِدٌ ، وَقَدْ انْتَشَرَ عَنهُ مُعْظَمُ الشَّرِيعَةِ ، فَلَا وَجْهَ لِرَدِّ حَدِيثِهِ بِالْقِيَاسِ .اهـ .(1/419)
وأما أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ فَقِيهًا إذَا خَالَفَ قِيَاسَ الْأُصُولِ، فمثاله حديث أخرجه مالك برقم(1367) والبخارى برقم( 2111 ) عَن مَالِكٍ عَن نَافِعٍ عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ » وهذا السند من أصح الأحاديث . ولم يعمل المالكية ولا الحنفية ، لأنه على حد قولهم خالف الأصول(1)
وفي الْكِفَايَةُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ-بَابُ الْقَوْلِ فِيمَن رَوَى عَن رَجُلٍ حَدِيثًا ثُمَّ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ جَرْحًا لِلْمَرْوِيِّ عَنهُ ؟
__________
(1) -وانظر شرحه مفصلا في طرح التثريب - (ج 6 / ص 394){ بَابُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ } والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7056) فما بعد وفتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 24 / ص 389) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 6 / ص 339) فما بعد وشرح الكوكب المنير - (ج 2 / ص 446) وحجة الله البالغة - (ج 2 / ص 112) والكفاية في علم الرواية - (ج 1 / ص 114)(1/420)
إِذَا رَوَى رَجُلٌ عَن شَيْخٍ حَدِيثًا يَقْتَضِي حُكْمًا مِنَ الْأَحْكَامِ , فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ , لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَرْحًا مِنهُ لِلشَّيْخِ , لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَرَكَ الْعَمَلَ بِالْخَبَرِ لِخَبَرٍ آخَرَ يُعَارِضُهُ , أَوْ عُمُومٍ , أَوْ قِيَاسٍ , أَوْ لِكَوْنِهِ مَنسُوخًا عِنْدَهُ , أَوْ لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ أَوْلَى مِنهُ , وَإِذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ قَدْحًا فِي رَاوِيهِ وَمِثْلُ هَذَا(288 ) مَا أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ الْقَاسِمُ بْنُ جَعْفَرٍ الْهَاشِمِيُّ ، ثنا أَبُو عَلِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ اللُّؤْلُؤِيُّ ، ثنا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ , عَن مَالِكٍ , عَن نَافِعٍ , عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا , إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ " فَهَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ , وَزَعَمَ أَنَّهُ رَأَى أَهْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِهِ , فَلَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ الْعَمَلَ بِهِ قَدْحًا فِي نَافِعٍ" .
وكذلك مثل َاشْتِرَاطِ بَعْضِهِمْ انْتِشَارَ الْحَدِيثِ وَظُهُورَهُ إذَا كَانَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلوَى(1/421)
قال الإمام الغزاليُّ(1):
""مَسْأَلَةٌ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلوَى مَقْبُولٌ خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا نَقَلَهُ الْعَدْلُ وَصِدْقُهُ فِيهِ مُمْكِنٌ وَجَبَ تَصْدِيقُهُ ، فَمَسُّ الذَّكَرِ مَثَلًا نَقَلَهُ الْعَدْلُ وَصِدْقُهُ فِيهِ مُمْكِنٌ فَإِنَّا لَا نَقْطَعُ بِكَذِبِ نَاقِلِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ انْفَرَدَ وَاحِدٌ بِنَقْلِ مَا تُحِيلُ الْعَادَةُ فِيهِ أَنْ لَا يَسْتَفِيضَ كَقَتْلِ أَمِيرٍ فِي السُّوقِ وَعَزْلِ وَزِيرٍ وَهُجُومٍ فِي الْجَامِعِ مَنَعَ النَّاسَ مِن الْجُمُعَةِ أَوْ كَخَسْفٍ أَوْ زَلْزَلَةٍ أَوْ انْقِضَاضِ كَوْكَبٍ عَظِيمٍ وَغَيْرِهِ مِن الْعَجَائِبِ ، فَإِنَّ الدَّوَاعِيَ تَتَوَفَّرُ عَلَى إشَاعَةِ جَمِيعِ ذَلِكَ وَيَسْتَحِيلُ انْكِتَامُهُ ، وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ لِعِلْمِنَا بِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - تَعَبَّدَ بِإِشَاعَتِهِ وَاعْتَنَى بِإِلْقَائِهِ إلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ ، فَإِنَّ الدَّوَاعِيَ تَتَوَفَّرُ عَلَى إشَاعَتِهِ وَنَقْلِهِ لِأَنَّهُ أَصْلُ الدِّينِ ، وَالْمُنْفَرِدُ بِرِوَايَةِ سُورَةٍ أَوْ آيَةٍ كَاذِبٌ قَطْعًا ، فَأَمَّا مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلوَى فَلَا نَقْطَعُ بِكَذِبِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيهِ .
__________
(1) - في المستصفى - (ج 1 / ص 342) وانظر :أصول السرخسي - (ج 1 / ص 369) والأحكام للآمدي - (ج 2 / ص 113) والمحصول - (ج 5 / ص 442) والتقرير والتحبير - (ج 4 / ص 268) وكتب وليد بن راشد السعيدان - (ج 3 / ص 18) القاعدة الثانية ( خبر الآحاد معتمد فيما تعم به البلوى) وتيسير التحرير - (ج 3 / ص 160-164) والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد - الرقمية - (ج 1 / ص 103) والمسودة - الرقمية - (ج 1 / ص 238)(1/422)
فَإِنْ قِيلَ : بِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى مَن يَقْطَعُ بِكَذِبِهِ ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ مِن السَّبِيلَيْنِ لَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَنْفَكُّ عَنهُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِرَارًا وَكَانَتْ الطَّهَارَةُ تَنْتَقِضُ بِهِ لَا يَحِلُّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ لَا يَشِيعَ حُكْمَهُ وَيُنَاجِيَ بِهِ الْآحَادَ ؛ إذْ يُؤَدِّي إلَى إخْفَاءِ الشَّرْعِ وَإِلَى أَنْ تَبْطُلَ صَلَاةُ الْعِبَادِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ، فَتَجِبُ الْإِشَاعَةُ فِي مِثْلِهِ ثُمَّ تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ ، وَكَذَلِكَ مَسُّ الذَّكَرِ مِمَّا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ فَكَيْفَ يَخْفَى حُكْمُهُ ؟ قُلْنَا : هَذَا يَبْطُلُ أَوَّلًا بِالْوَتْرِ وَحُكْمِ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَالْقَهْقَهَةِ وَوُجُوبِ الْغُسْلِ مِن غُسْلِ الْمَيِّتِ وَإِفْرَادِ الْإِقَامَةِ وَتَثْنِيَتِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلوَى وَقَدْ أَثْبَتُوهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
فَإِنْ زَعَمُوا أَنْ لَيْسَ عُمُومُ الْبَلوَى فِيهَا كَعُمُومِهَا فِي الْأَحْدَاثِ ، فَنَقُولُ : فَلَيْسَ عُمُومُ الْبَلوَى فِي اللَّمْسِ وَالْمَسِّ كَعُمُومِهَا فِي خُرُوجِ الْأَحْدَاثِ ، فَقَدْ يَمْضِي عَلَى الْإِنْسَانِ مُدَّةٌ لَا يَلْمِسُ وَلَا يَمَسُّ الذَّكَرَ إلَّا فِي حَالَةِ الْحَدَثِ كَمَا لَا يَفْتَصِدُ وَلَا يَحْتَجِمُ إلَّا أَحْيَانًا فَلَا فَرْقَ .(1/423)
وَالْجَوَابُ الثَّانِي وَهُوَ التَّحْقِيقُ : أَنَّ الْفَصْدَ وَالْحِجَامَةَ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَكَرَّرُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَكِنَّهُ يَكْثُرُ ، فَكَيْفَ أُخْفِيَ حُكْمُهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَى بُطْلَانِ صَلَاةِ خَلْقٍ كَثِيرٍ ؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْأَكْثَرَ فَكَيْفَ وَكُلُّ ذَلِكَ إلَى الْآحَادِ ؟ وَلَا سَبَبَ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْ رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - إشَاعَةَ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ ، بَل كَلَّفَهُ إشَاعَةَ الْبَعْضِ وَجَوَّزَ لَهُ رَدَّ الْخَلْقِ إلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْبَعْضِ ، كَمَا جَوَّزَ لَهُ رَدَّهُمْ إلَى الْقِيَاسِ فِي قَاعِدَةِ الرِّبَا ، وَكَانَ يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ : لَا تَبِيعُوا الْمَطْعُومَ بِالْمَطْعُومِ أَوْ الْمَكِيلَ بِالْمَكِيلِ ، حَتَّى يُسْتَغْنَى عَن الِاسْتِنْبَاطِ مِن الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلوَى مَن جُمْلَةِ مَا تَقْتَضِي مَصْلَحَةُ الْخَلْقِ أَنْ يَرُدُّوا فِيهِ إلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ صِدْقُ الرَّاوِي مُمْكِنًا فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ ، وَلَيْسَ عِلَّةُ الْإِشَاعَةِ عُمُومَ الْحَاجَةِ أَوْ نُدُورَهَا ، بَل عِلَّتُهُ التَّعَبُّدُ وَالتَّكْلِيفُ مِن اللَّهِ ، وَإِلَّا فَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَثِيرٌ كَالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْأَكْثَرُ فِي كَوْنِهِ شَرْعًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْفَى .(1/424)
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الضَّابِطُ لِمَا تَعَبَّدَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ بِالْإِشَاعَةِ ؟ قُلْنَا : إنْ طَلَبْتُمْ ضَابِطًا لِجَوَازِهِ عَقْلًا فَلَا ضَابِطَ بَل لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ فِي تَكْلِيفِ رَسُولِهِ مِن ذَلِكَ مَا يَشَاءُ ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ وُقُوعَهُ فَإِنَّمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِن فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .
وَإِذَا اسْتَقْرَيْنَا السَّمْعِيَّاتِ وَجَدْنَاهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ ، الْأَوَّلُ : الْقُرْآنُ ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ عُنِيَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي إشَاعَتِهِ .
الثَّانِي : مَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسُ ، كَكَلِمَتَيْ الشَّهَادَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَقَدْ أَشَاعَهُ إشَاعَةً اشْتَرَكَ فِي مَعْرِفَتِهِ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ .
الثَّالِثُ : أُصُولُ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ ضَرُورِيَّةً مِثْلُ أَصْلِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْضًا قَدْ تَوَاتَرَ ، بَل كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ ، فَإِنَّ هَذَا تَوَاتَرَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ إمَّا بِالتَّوَاتُرِ وَإِمَّا بِنَقْلِ الْآحَادِ فِي مَشْهَدِ الْجَمَاعَاتِ مَعَ سُكُوتِهِمْ ، وَالْحُجَّةُ تَقُومُ بِهِ ، وَلَكِنَّ الْعَوَامَّ لَمْ يُشَارِكُوا الْعُلَمَاءَ فِي الْعِلْمِ ، بَل فَرْضُ الْعَوَامّ فِيهِ الْقَبُولُ مِن الْعُلَمَاءِ .(1/425)
الرَّابِعُ : تَفَاصِيلُ هَذِهِ الْأُصُولِ ، فَمَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَالْعِبَادَاتِ وَيَنْقُضُ الطَّهَارَةَ مِن اللَّمْسِ وَالْمَسِّ وَالْقَيْءِ وَتَكْرَارِ مَسْحِ الرَّأْسِ ، فَهَذَا الْجِنْسُ مِنهُ مَا شَاعَ وَمِنهُ مَا نَقَلَهُ الْآحَادُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلوَى ، فَمَا نَقَلَهُ الْآحَادُ فَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ وَلَا مَانِعَ ، فَإِنَّ مَا أَشَاعَهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ لَا يُتَعَبَّدَ فِيهِ بِالْإِشَاعَةِ ، وَمَا وَكَّلَهُ إلَى الْآحَادِ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُتَعَبَّدَ فِيهِ بِالْإِشَاعَةِ ، لَكِنَّ وُقُوعَ هَذِهِ الْأُمُورِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعَبُّدَ وَقَعَ كَذَلِكَ فَمَا كَانَ يُخَالِفُ أَمَرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي شَيْءٍ مِن ذَلِكَ . هَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي الْأَخْبَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .اهـ
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَوَاضِعِهِ.
قلت ": ومثله حديث عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرًا قَالَ دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ فَقَالَ: « أَصَلَّيْتَ » . قَالَ : لاَ . قَالَ: « فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ »(1).
فقد ردَّ هذا الحديث الصحيح بعض الفقهاء(2)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(931 ) ومسلم برقم(2057 )
(2) - وانظر شرحه مفصلا في طرح التثريب - (ج 4 / ص 73 فما بعدها) والموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 27 / ص 205)(1/426)
ومثله حديث المصراة ، عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه –قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنِ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فَاحْتَلَبَهَا ، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا ، وَإِنْ سَخِطَهَا فَفِى حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِن تَمْرٍ »(1).
فقد ردَّ العمل بهذا الحديث فريق من الفقهاء ، بحجة مخالفته للقياس!!(2)
وقال الشوكاني :
__________
(1) - أخرجه البخاري برقم(2151 ،2140 ، 2148 ، 2150 ، 2160 ، 2162 ، 2723 ، 2727 ، 5144 ، 5152 ) ومسلم برقم(3907 -3909)- المصراة : الشاة يجمع اللبن فى ضرعها عند إرادة البيع فتبدو أنها كثيرة اللبن
(2) - انظر قول ابن القيم في إعلام الموقعين (ج 2 / ص 73) فَصْلٌ :[ بَيَانُ أَنَّ الْمُصَرَّاةَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ ] و انظر المسألة مفصلة في الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 12 / ص 74-77)(1/427)
" ولا يضرُّه كونُه في الحدودِ والكفاراتِ خلافاً للكرخي منَ الحنفية وأبي عبد الله البصري في أحدِ قوليه(1)،
__________
(1) - قال الزركشي في البحر المحيط - (ج 5 / ص 418): مَسْأَلَةٌ [ رَدُّ الْحَدِيثِ إذَا كَانَ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ ] وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَمِنهُمْ أَبُو يُوسُفَ ، وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِن الْحَنَفِيَّةِ ، وَاخْتَارَهُ الْجَصَّاصُ ، قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ : وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ ، وَخَالَفَ الْكَرْخِيّ مِن الْحَنَفِيَّةِ ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ رَاوِيَهُ كَذَبَ أَوْ سَهَا أَوْ أَخْطَأَ ، فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ ، وَهَذَا يُشْكِلُ بِإِثْبَاتِ الْحَدِّ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ ، وَقَوْلِ الْمُفْتِي ..(1/428)
ولا وجهَ لهذا الخلافِ ، فهو خبرُ عدلٍ في حكمٍ شرعيٍّ ، ولم يثبتْ في الحدودِ والكفاراتِ دليلٌ يخصُّها منْ عموم الأحكامِ الشرعيةِ ، واستدلالهم بحديث إدرأوا الحدود بالشبهات(1)باطلٌ فالخبرُ الموجبُ للحدِّ يدفعُ الشبهةَ على فرضِ وجودها ، ولا يضرُّه أيضاً كونُه زيادةٌ على النصِّ القرآنيِّ أو السنَّةِ القطعيةِ خلافاً للحنفيةِ فقالوا :إنَّ خبرَ الواحد إذا وردَ بالزيادةِ في حكمِ القرآنِ أو السنَّة القطعيةِ كانَ نسخاً لا يقبلُ ، والحقُّ القبولُ لأنها زيادةٌ غيرُ منافيةٍ للمزيدِ(2)، فكانتْ مقبولةً ودعوى أنها ناسخةٌ ممنوعةٌ ،وهكذا إذا وردَ الخبرُ مخصصاً للعامِّ منْ كتابٍ أو سنَّةٍ ، فإنّهُ مقبولٌ ويبنىَ العامُّ على الخاصِّ خلافاً لبعض الحنفيةِ، وهكذا إذا وردَ مقيِّداً لمطلقِ الكتابِ أو السنَّةِ القطعيةِ .
__________
(1) - ورد عن عائشة الترمذي (1424) والبيهقي فس السنن الكبرى 8/238 والحاكم في المستدرك4/384 والدارقطني 3/84 وبنحوه عبد الرزاق في المصنف (18698 و13641 و13640) عن إبراهيم وابن مسعود وعمر ، فهو حسن لغيره
(2) - وفي البحر المحيط - (ج 5 / ص 419): مَسْأَلَةٌ [ رَدُّ الْحَدِيثِ بِدَعْوَى أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ] وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا وَرَدَ بِالزِّيَادَةِ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْقَطْعِيَّةِ كَانَ نَسْخًا لَا يُقْبَلُ ، كَالْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَنَحْوِهِ ، وَسَبَقَ فِي النَّسْخِ .(1/429)
ولا يضرُّه كونُ راويِه انفردَ بزيادةٍ فيه على ما رواهُ غيرُه إذا كان عدلاً ، فقد يحفظُ الفردُ ما لا يحفظُه الجماعةُ ،وبه قال الجمهورُ إذا كانتْ تلكَ الزيادةُ غيرَ منافيةٍ للمزيدِ . أمَّا إذا كانتْ منافيةً فالترجيحُ ، وروايةُ الجماعةِ أرجحُ من روايةِ الواحدِ ، وقيلَ: لا تقبلُ روايةُ الواحدِ إذا خالفتْ روايةَ الجماعةِ وإنْ كانتْ تلك الزيادةُ غيرَ منافيةٍ للمزيدِ إذا كان مجلسُ السَّماعِ واحداً وكانتِ الجماعةُ بحيثُ لا يجوزُ عليهمُ الغفلةُ عن مثلِ تلك الزيادةِ ، وأمَّا إذا تعددَ مجلسُ السَّماع فتقبلُ تلكَ الزيادةُ بالاتفاقِ ، ومثلُ انفرادِ العدلِ بالزيادةِ انفرادُه برفعِ الحديثِ إلى رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الذي وقفَهُ الجماعةُ ، وكذا انفرادُه بإسنادِ الحديثِ الذي أرسلوهُ وكذا انفرادُه بوصلِ الحديثِ الذي قطعوه ، فإنَّ ذلك مقبولٌ منه لأنهُ زيادةٌ على ما رووهُ وتصحيحٌ لما أعلُّوه ، ولا يضرُّه أيضاً كونُه خارجاً مخرجَ ضربِ الأمثالِ . ورويَ عن إمامِ الحرمين أنهُ لا يقبلُ لأنهُ موضعُ تجوُّزٍ ، فأجيبَ عنه بأنهُ وإنْ كانَ موضعَ تجوُّزٍ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لا يقولُ إلا حقًّا لمكانِ العصمةِ .اهـ
- - - - - - - - - - - - - - - -
السَّبَبُ الْخَامِسُ
أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَهُ وَثَبَتَ عِنْدَهُ لَكِنْ نَسِيَهُ(1/430)
وَهَذَا يَرِدُ فِي الْكِتَابِ والسُّنَّة مِثْلَ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عَن سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَن أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً أَتَى عُمَرَ فَقَالَ إِنِّى أَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدْ مَاءً. فَقَالَ لاَ تُصَلِّ. فَقَالَ عَمَّارٌ أَمَا تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ أَنَا وَأَنْتَ فِى سَرِيَّةٍ فَأَجْنَبْنَا فَلَمْ نَجِدْ مَاءً فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فِى التُّرَابِ وَصَلَّيْتُ. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الأَرْضَ ثُمَّ تَنْفُخَ ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ ». فَقَالَ عُمَرُ اتَّقِ اللَّهَ يَا عَمَّارُ . قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ شِئْتَ لَمْ أَذْكُرْهُ مَا عِشْتُ أَوْ مَا حَيِيتُ. قَالَ كَلاَّ وَاللَّهِ وَلكِنْ نُوَلِّيكَ مِن ذَلِكَ مَا تَوَلَّيْتَ(1).
فَهَذِهِ سُنَّةٌ شَهِدَهَا عُمَرُ ثُمَّ نَسِيَهَا حَتَّى أَفْتَى بِخِلَافِهَا وَذَكَّرَهُ عَمَّارُ فَلَمْ يَذْكُرْ وَهُوَ لَمْ يُكَذِّبْ عَمَّارًا بَل أَمَرَهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ.
__________
(1) - صحيح مسلم برقم(846 ) وأحمد برقم( 19395) ومصنف عبد الرزاق - (ج 1 / ص 163) برقم(915) = تمعكت : تقلبت فى التراب(1/431)
قال الإمام النووي(1):" مَعْنَاهُ قَالَ عُمَر لِعَمَّارٍ : اِتَّقِ اللَّه تَعَالَى فِيمَا تَرْوِيه وَتُثْبِت . فَلَعَلَّك نَسِيت ، أَوْ اِشْتَبَهَ عَلَيْك الْأَمْر . وَأَمَّا قَوْل عَمَّار إِنْ شِئْت لَمْ أُحَدِّث بِهِ فَمَعْنَاهُ ، وَاَللَّه أَعْلَم ؛ إِنْ رَأَيْت الْمَصْلَحَة فِي إِمْسَاكِي عَن التَّحْدِيث بِهِ رَاجِحَة عَلَى مَصْلَحَة تَحْدِيثِي بِهِ أَمْسَكْت ، فَإِنَّ طَاعَتك وَاجِبَة عَلَيَّ فِي غَيْر الْمَعْصِيَة ، وَأَصْل تَبْلِيغ هَذِهِ السُّنَّة وَأَدَاء الْعِلْم قَدْ حَصَلَ ، فَإِذَا أَمْسَكَ بَعْد هَذَا لَا يَكُون دَاخِلًا فِيمَن كَتَمَ الْعِلْم . وَيَحْتَمِل أَنَّهُ أَرَادَ إِنْ شِئْت لَمْ أُحَدِّث بِهِ تَحْدِيثًا شَائِعًا بِحَيْثُ يَشْتَهِر فِي النَّاس ، بَل لَا أُحَدِّث بِهِ إِلَّا نَادِرًا . وَاَللَّه أَعْلَم ." ا.هـ
__________
(1) - شرحه على مسلم - (ج 2 / ص 85)(1/432)
أما القول إن عمر خالف بهذا المذهب ظاهر القرآن ، فالجواب أنه كان متأولاً في ذلك ،إذ كان يعتقد أن الجنب لا يدخلُ في المعنى المراد بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (43) سورة النساء، فكان يذهب إلى أن الملامسة ما دون الجماع ، وكان مجتهداً في ذلك ، ولم تبلغه الأحاديث الخاصة في ذلك السالمة من المعارضة ، مثل حديث أبي ذر. وفي ذلك كما يقول ابن كثير :" ما يدلكَ على أن أخبار الآحاد العدول من علم الخاصة قد يخفى على الجليل من العلماء منها الشيء، فليس فيما ذهب إليه عمر ما يحط من قدره ، طالما أنه قال على سبيل الاجتهاد ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ »(1)
قلت : وقد زعم بعض الناس أن عمر رضي الله عنه قد خالف القرآن الكريم و أمر بغير شرع الله ،فليس: لهؤلاء متمسك في هذا الأثر على أن عمر - رضي الله عنه - أمر بغير شرع الله - حاشاه من ذلك - وإذا كان هذا - أعني دعوى الأمر بغير شرع الله - لا يتصور في آحاد الصالحين من هذه الأمة، فكيف يتصور ذلك في الخليفة الراشد الذي أجمعت الأمة في وقته على صحة خلافته؟ ولكنه الهوى والتعصب يجعل من الأسود أبيض ومن الأبيض أسود!! نعوذ بالله من الهوى.
__________
(1) - أخرجه البخاري برقم(7352 ) ومسلم برقم( 4584 )(1/433)
واعلم أنه ما من أحد من العلماء - إلا ما ندر - إلا وله من الأقوال والآراء ما يخالف فيه السنَّة، نظراً لأنَّ السنَّة لا يمكن لأحد أن يحيط بها إحاطة تامة، بحيث لا يشذ عنه منها شيء، هذا لم يقع لكبار الصحابة - رضي الله عنهم - فضلاً عن غيرهم ممن أتى بعدهم، ومع ذلك فلم يقل أحد من العلماء: إن مخالفة عالم للسنَّة - بسبب خفائها عليه أو لعذر غيره - إن ذلك من تبديل شرع الله تعالى.
ولهذا لم يقل أحد من الأئمة إن علياً - رضي الله عنه - قد بدَّل الشريعة حينما قال: إن المتوفى عنها زوجها تعتدُّ بأطول الأجلين ، لمخالفة قوله هذا للسنَّة الصحيحة الصريحة في حديث سبيعة الأسلمية - رضي الله عنها - والتي أفتاها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها انقضت عدتها بمجرد وضع حملها؟
فعَن يَزِيدَ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ عَن أَبِيهِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى ابْنِ الأَرْقَمِ أَنْ يَسْأَلَ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ كَيْفَ أَفْتَاهَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ أَفْتَانِى إِذَا وَضَعْتُ أَنْ أَنْكِحَ "(1).
__________
(1) - صحيح البخارى(5319 )(1/434)
وعَن يَحْيَى ، قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ جَالِسٌ عِنْدَهُ ، فَقَالَ : أَفْتِنِي فِي امْرَأَةٍ وَلَدَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : آخِرُ الأَجَلَيْنِ ، قُلْتُ أَنَا : وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي - يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ - فَأَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ غُلاَمَهُ كُرَيْبًا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ يَسْأَلُهَا ، فَقَالَتْ : " قُتِلَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةِ وَهِيَ حُبْلَى ، فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، فَخُطِبَتْ فَأَنْكَحَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَ أَبُو السَّنَابِلِ فِيمَن خَطَبَهَا "(1)
بل أهل العلم يعتبرون هذا من جملة الاجتهادات التي يعذر فيها صاحبها، ولا يوافق على قوله، وتمثِّلُ هذه الطريقة تعامل أهل العلم المنصفين مع اجتهادات العلماء التي تبين خطؤها، سواء كان العالم من الصحابة - رضي الله عنهم - وهم أولى الناس بالتماس الأعذار - أو مع غيرهم.
__________
(1) - البخاري ( 4909) ومسلم (3796 )(1/435)
وبخصوص حديث عمر هذا، فإن قول عمر - رضي الله عنه - له سبب - كما قال ابن عبد البر في "التمهيد (19/273): (وذلك أن عمر - رضي الله عنه - كان يذهب إلى أن الجنب لا يجزيه إلا الغسل بالماء، فلما أخبره عمار - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بأن التيمم يكفيه، سكت عنه ولم ينهه، فلما لم ينهه علمنا أنه قد وقع بقلبه تصديق عمار - رضي الله عنه -، لأن عماراً - رضي الله عنه - قال له: إن شئت لم أذكره، ولو وقع في قلبه تكذيب عمار لنهاه، لما كان الله قد جعل في قلبه من تعظيم حرمات الله، ولا شيء أعظم من الصلاة، وغير متوهم عن عمر أن يسكت على صلاة تصلَّى عنده بغير طهارة، وهو الخليفة المسؤول عن العامة، وكان أتقى الناس لربه وأصلحهم لهم في دينهم في ذلك الوقت رضي الله عنه "انتهى كلام ابن عبد البر رحمه الله.
فتحصل من كلامه رضي الله عنه أمران:
الأول: أن عمر رضي الله عنه كان قد خفيت عليه السنَّة أو نسيها، وكان يظن أن الجنب لا يصلي حتى يغتسل بالماء، وأن التيمم لا يكفيه، حتى أخبره عمار - رضي الله عنه-.
الثاني: أن عمر - رضي الله عنه - قد رجع إلى السنَّة حينما أخبره عمار بها - كما وضح وجه ذلك ابن عبد البر، وهذا هو الظن بكل مسلم تتبين له السنَّة، فضلاً عن الصحابة - رضي الله عنهم -، فضلاً عن الخليفة الراشد الوقاف عند حدود الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.(1/436)
ولكن المشكلة في بعض الناس - الذي يفقد الإنصاف - حينما يتعامل مع الأخبار والقصص - وفي نفسه شيء على من يقرأ أخباره - فإنه حين يقرأ، إنما يقرأ لتتبع الأخطاء والزلات ونسيان الحسنات، فهو كالذباب لا يقع إلا على الجرح، وهذا مخالف للمنهج القرآني الذي رسمه ربنا بقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" [المائدة:8]، ويقول سبحانه: "وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" [الأنعام:152].
فنسأل الله العدل والإنصاف مع نفوسنا وإخواننا وخصومنا، ونقول: "وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بالإيمان وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ" [الحشر:10].(1)
__________
(1) - وانظر للتوسع فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 46) رقم الفتوى 10064 مذهب عمر رضي الله عنه في التيمم تاريخ الفتوى : 09 جمادى الثانية 1422 وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 3 / ص 23)(1/437)
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا ذَكَّرَ الزُّبَيْرَ يَوْمَ الْجَمَلِ شَيْئًا عَهِدَهُ إلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَهُ حَتَّى انْصَرَفَ عَن الْقِتَالِ ،فعَن أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ ، قَالَ : شَهِدْتُ الزُّبَيْرَ خَرَجَ يُرِيدُ عَلِيًّا ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ أَنْشُدُكَ اللَّهَ : هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ : تُقَاتِلُهُ وَأَنْتَ لَهُ ظَالِمٌ ، فَقَالَ : لَمْ أَذْكُرْ ، ثُمَّ مَضَى الزُّبَيْرُ مُنْصَرِفًا "(1).
قلت : ولم يكن قصد الزبير رضي الله عنه الخروج على علي رضي الله عنه ، بل المطالبة بإقامة الحد على قتلة عثمان رضي الله عنه ، الذي قتل مظلوما باتفاقهم ، والقتلةُ في جيش علي رضي الله عنه ، فلما ذكَّره بالحديث ترك القتال وقتل غيلة رضي الله عنه وأرضاه .
وعَن أَبِي الْبَخْتَرِيِّ ، قَالَ : سُئِلَ عَلِيٌّ ، عَن أَهْلِ الْجَمَلِ ، قَالَ : قِيلَ : أَمُشْرِكُونَ هُمْ ، قَالَ : مِنَ الشِّرْكِ فَرُّوا ، قِيلَ : أَمُنَافِقُونَ هُمْ ، قَالَ : إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ، قِيلَ : فَمَا هُمْ ، قَالَ : إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا.(2)
وعَن عَبْدِ خَيْرٍ قَالَ : سُئِلَ عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنهُ عَن أَهْلِ الْجَمَلِ فَقَالَ : إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا فَقَاتَلْنَاهُمْ وَقَدْ فَاءُوا وَقَدْ قَبِلْنَا مِنهُمْ.(3)
__________
(1) - المستدرك للحاكم برقم(5574) وهو حديث حسن لغيره - وضعفه عديدون ، وانظر تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 49) وسير أعلام النبلاء - (ج 1 / ص 58)
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 15 / ص 255)(38918) صحيح بغيره
(3) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 8 / ص 182)(17199)صحيح(1/438)
وعَن رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ ، قَالَ : قَالَ عَلِيٌّ : إنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِمَن ، قَالَ اللَّهُ :{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِن غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } [سورة الحجر ، الآية : 47](1)
قلت : وهَذَا كَثِيرٌ فِي السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ،كما في سنن أبى داود(3612) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِى بَكْرٍ أَبُو مُصْعَبٍ الزُّهْرِىُّ حَدَّثَنَا الدَّرَاوَرْدِىُّ عَن رَبِيعَةَ بْنِ أَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَن سُهَيْلِ بْنِ أَبِى صَالِحٍ عَن أَبِيهِ عَن أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَزَادَنِى الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُؤَذِّنُ فِى هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ أَخْبَرَنِى الشَّافِعِىُّ عَن عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسُهَيْلٍ فَقَالَ أَخْبَرَنِى رَبِيعَةُ - وَهُوَ عِنْدِى ثِقَةٌ - أَنِّي حَدَّثْتُهُ إِيَّاهُ وَلاَ أَحْفَظُهُ.
قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَقَدْ كَانَ أَصَابَتْ سُهَيْلاً عِلَّةٌ أَذْهَبَتْ بَعْضَ عَقْلِهِ وَنَسِىَ بَعْضَ حَدِيثِهِ فَكَانَ سُهَيْلٌ بَعْدُ يُحَدِّثُهُ عَن رَبِيعَةَ عَنهُ عَن أَبِيهِ.(2)
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 15 / ص 280)(38976) صحيح
(2) - انظر الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 261) وشرح نخبة الفكر الشيخ سعد بن عبد الله الحميد - (ج 1 / ص 491)(1/439)
وفي مسند أحمد(24937) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِى سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى عَنِ الزُّهْرِىِّ عَن عُرْوَةَ عَن عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إِذَا نُكِحَتِ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ مَوْلاَهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا مَهْرُهَا بِمَا أَصَابَ مِنهَا فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِىُّ مَن لاَ وَلِىَّ لَهُ ». قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فَلَقِيتُ الزُّهْرِىَّ فَسَأَلْتُهُ عَن هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ. قَالَ وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى وَكَانَ فَأَثْنَى عَلَيْهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَبِى السُّلْطَانُ الْقَاضِى لأَنَّ إِلَيْهِ أَمْرَ الْفُرُوجِ وَالأَحْكَامِ. وهو حديث صحيح .(1/440)
وقد ردَّ العمل به بعض الفقهاء لهذا السبب ، قال ابن حبان ردًّا عليهم(1): "هَذَا خَبَرٌ أَوْهَمَ مَن لَمْ يَحْكُمْ صِنَاعَةَ الْحَدِيثِ ، أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ أَوْ لاَ أَصْلَ لَهُ بِحِكَايَةٍ حَكَاهَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي عَقِبِ هَذَا الْخَبَرِ ، قَالَ : ثُمَّ لَقِيتُ الزُّهْرِيَّ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يَهِيَ الْخَبَرُ بِمِثْلِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَيِّرَ الْفَاضِلَ الْمُتْقِنَ الضَّابِطَ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ يَنْسَاهُ ، وَإِذَا سُئِلَ عَنهُ لَمْ يَعْرِفْهُ فَلَيْسَ بِنِسْيَانِهِ الشَّيْءَ الَّذِي حَدَّثَ بِهِ بِدَالٍّ عَلَى بُطْلاَنِ أَصْلِ الْخَبَرِ ، وَالْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - خَيْرُ الْبَشَرِ صَلَّى فَسَهَا ، فَقِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللهِ أَقَصُرَتِ الصَّلاَةُ أَمْ نَسِيتَ ؟ فَقَالَ : كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَلَمَّا جَازَ عَلَى مَنَ اصْطَفَاهُ اللَّهُ لِرِسَالَتِهِ ، وَعَصَمَهُ مِن بَيْنِ خَلْقِهِ ، النِّسْيَانُ فِي أَعَمِّ الْأُمُورِ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِي هُوَ الصَّلاَةُ حَتَّى نَسِيَ ، فَلَمَّا اسْتَثْبَتُوهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَكُنْ نِسْيَانُهَ بِدَالٍ عَلَى بُطْلاَنِ الْحُكْمِ الَّذِي نَسِيَهُ كَانَ مَن بَعْدِ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - مِن أُمَّتِهِ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مَعْصُومِينَ جَوَازُ النِّسْيَانِ عَلَيْهِمْ أَجُوزُ ، وَلاَ يَحُوزُ مَعَ وُجُودِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلاَنِ الشَّيْءِ الَّذِي صَحَّ عَنهُمْ قَبْلَ نِسْيَانِهِمْ ذَلِكَ.
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (ج 9 / ص 385)(1/441)
ذِكْرُ نَفْيِ إِجَازَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ (4075) أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَمْدَانِيُّ مِن أَصْلِ كِتَابِهِ ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَن سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَن عُرْوَةَ ، عَن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ ، وَمَا كَانَ مِن نِكَاحٍ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَهُوَ بَاطِلٌ ، فَإِنْ تَشَاجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَن لاَ وَلِيَّ لَهُ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِي خَبَرِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَن سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى ، عَنِ الزُّهْرِيِّ هَذَا وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ إِلاَّ ثَلاَثَةُ أَنْفَسٍ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ عَن حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْحَجَبِيُّ عَن خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ يُونُسَ الرَّقِّيُّ عَن عِيسَى بْنِ يُونُسَ ، وَلاَ يَصِحُّ فِي ذِكْرِ الشَّاهِدَيْنِ غَيْرَ هَذَا الْخَبَرِ.".
- - - - - - - - - - - - - - - -
السَّبَبُ السَّادِسُ
عَدَمُ مَعْرِفَتِهِ بِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ
فتَارَةً لِكَوْنِ اللَّفْظِ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ غَرِيبًا عِنْدَهُ مِثْلَ لَفْظِ الْمُزَابَنَةِ ، فعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ ، وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلاً ، وَبَيْعُ الزَّبِيبِ بِالْكَرْمِ كَيْلاً .(1)
__________
(1) - أخرجه البخارى برقم(2171 )(1/442)
وَالْمُحَاقَلَةِ ،فعَن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَن بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةُ أَنْ يُبَاعَ ثَمَرُ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ وَالْمُحَاقَلَةُ أَنْ يُبَاعَ الزَّرْعُ بِالْقَمْحِ وَاسْتِكْرَاءُ الأَرْضِ بِالْقَمْحِ. قَالَ وَأَخْبَرَنِى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ « لاَ تَبْتَاعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهُ وَلاَ تَبْتَاعُوا الثَّمَرَ بِالتَّمْرِ ».(1)
وَالْمُخَابَرَةِ ، فعَن عَطَاءٍ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - نَهَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْمُخَابَرَةِ ، وَالْمُحَاقَلَةِ ، وَعَنِ الْمُزَابَنَةِ ، وَعَن بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا ، وَأَنْ لاَ تُبَاعَ إِلاَّ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ ، إِلاَّ الْعَرَايَا ، وقَالَ عَطَاءٌ فَسَّرَ لَنَا جَابِرٌ قَالَ أَمَّا الْمُخَابَرَةُ فَالأَرْضُ الْبَيْضَاءُ يَدْفَعُهَا الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فَيُنْفِقُ فِيهَا ثُمَّ يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَرِ. وَزَعَمَ أَنَّ الْمُزَابَنَةَ بَيْعُ الرُّطَبِ فِى النَّخْلِ بِالتَّمْرِ كَيْلاً. وَالْمُحَاقَلَةُ فِى الزَّرْعِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ يَبِيعُ الزَّرْعَ الْقَائِمَ بِالْحَبِّ كَيْلاً.(2)
__________
(1) - ومسلم برقم(3958 )
(2) - أخرجه البخارى برقم(2381 ) ومسلم برقم(3991)(1/443)
وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ ، فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ - رضى الله عنه - أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الْمُنَابَذَةِ ، وَهْىَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالْبَيْعِ إِلَى الرَّجُلِ ، قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ ، أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ ، وَنَهَى عَنِ الْمُلاَمَسَةِ ، وَالْمُلاَمَسَةُ لَمْسُ الثَّوْبِ لاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ(1).
وعَن أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ نُهِىَ عَن بَيْعَتَيْنِ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ. أَمَّا الْمُلاَمَسَةُ فَأَنْ يَلْمِسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ تَأَمُّلٍ وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُمَا ثَوْبَهُ إِلَى الآخَرِ وَلَمْ يَنْظُرْ وَاحِدٌ مِنهُمَا إِلَى ثَوْبِ صَاحِبِهِ.(2)
وَالْغَرَرِ، فعَن أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَن بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَن بَيْعِ الْغَرَرِ.(3)
قال النووي رحمه الله : أَمَّا بَيْع الْحَصَاة فَفِيهِ ثَلَاث تَأْوِيلَات :
أَحَدهَا أَنْ يَقُول : بِعْتُك مِن هَذِهِ الْأَثْوَاب مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْحَصَاة الَّتِي أَرْمِيهَا . أَوْ بِعْتُك مِن هَذِهِ الْأَرْض مِن هُنَا إِلَى مَا اِنْتَهَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الْحَصَاة .
وَالثَّانِي أَنْ يَقُول : بِعْتُك عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ إِلَى أَنْ أَرْمِي بِهَذِهِ الْحَصَاة .
وَالثَّالِث أَنْ يَجْعَلَا نَفْس الرَّمْي بِالْحَصَاةِ بَيْعًا ، فَيَقُول : إِذَا رَمَيْت هَذَا الثَّوْب بِالْحَصَاةِ فَهُوَ مَبِيع مِنك بِكَذَا .
__________
(1) - أخرجه البخارى برقم(2144 )
(2) - صحيح مسلم برقم(3878 )
(3) -أخرجه مسلم برقم(3881 )(1/444)
وَأَمَّا النَّهْي عَن بَيْع الْغَرَر فَهُوَ أَصْل عَظِيم مِن أُصُول كِتَاب الْبُيُوع ، وَلِهَذَا قَدَّمَهُ مُسْلِم وَيَدْخُل فِيهِ مَسَائِل كَثِيرَة غَيْر مُنْحَصِرَة كَبَيْعِ الْآبِق وَالْمَعْدُوم وَالْمَجْهُول وَمَا لَا يَقْدِر عَلَى تَسْلِيمه وَمَا لَمْ يَتِمّ مِلْك الْبَائِع عَلَيْهِ وَبَيْع السَّمَك فِي الْمَاء الْكَثِير وَاللَّبَن فِي الضَّرْع وَبَيْع الْحَمْل فِي الْبَطْن وَبَيْع بَعْض الصُّبْرَة مُبْهَمًا وَبَيْع ثَوْب مِن أَثْوَاب وَشَاة مِن شِيَاه وَنَظَائِر ذَلِكَ ، وَكُلّ هَذَا بَيْعه بَاطِل لِأَنَّهُ غَرَر مِن غَيْر حَاجَة . وَقَدْ يَحْتَمِل بَعْض الْغَرَر بَيْعًا إِذَا دَعَتْ إِلَيْهِ حَاجَة كَالْجَهْلِ بِأَسَاسِ الدَّار وَكَمَا إِذَا بَاعَ الشَّاة الْحَامِل وَاَلَّتِي فِي ضَرْعهَا لَبَن فَإِنَّهُ يَصِحّ لِلْبَيْعِ ، لِأَنَّ الْأَسَاس تَابِع لِلظَّاهِرِ مِن الدَّار ، وَلِأَنَّ الْحَاجَة تَدْعُو إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِن رُؤْيَته . وَكَذَا الْقَوْل فِي حَمْل الشَّاة وَلَبَنهَا . وَكَذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَاز أَشْيَاء فِيهَا غَرَر حَقِير ، مِنهَا أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّة بَيْع الْجُبَّة الْمَحْشُوَّة وَإِنْ لَمْ يُرَ حَشْوهَا ، وَلَوْ بِيعَ حَشْوهَا بِانْفِرَادِهِ لَمْ يَجُزْ . وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَاز إِجَارَة الدَّار وَالدَّابَّة وَالثَّوْب وَنَحْو ذَلِكَ شَهْرًا مَعَ أَنَّ الشَّهْر قَدْ يَكُون ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ يَكُون تِسْعَة وَعِشْرِينَ . وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَاز دُخُول الْحَمَّام بِالْأُجْرَةِ مَعَ اِخْتِلَاف النَّاس فِي اِسْتِعْمَالهمْ الْمَاء وَفِي قَدْر مُكْثهمْ . وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَاز الشُّرْب مِن السِّقَاء بِالْعِوَضِ مَعَ جَهَالَة قَدْر الْمَشْرُوب وَاخْتِلَاف عَادَة الشَّارِبِينَ وَعَكْس هَذَا .(1/445)
وَأَجْمَعُوا عَلَى بُطْلَان بَيْع الْأَجِنَّة فِي الْبُطُون وَالطَّيْر فِي الْهَوَاء .
قَالَ الْعُلَمَاء : مَدَار الْبُطْلَان بِسَبَبِ الْغَرَر . وَالصِّحَّة مَعَ وُجُوده عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ أَنَّهُنَّ إِنْ دَعَتْ حَاجَة إِلَى اِرْتِكَاب الْغَرَر وَلَا يُمْكِن الِاحْتِرَاز عَنهُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ وَكَانَ الْغَرَر حَقِيرًا جَازَ الْبَيْع وَإِلَّا فَلَا ، وَمَا وَقَعَ فِي بَعْض مَسَائِل الْبَاب مِن اِخْتِلَاف الْعُلَمَاء فِي صِحَّة الْبَيْع فِيهَا وَفَسَاده كَبَيْعِ الْعَيْن الْغَائِبَة مَبْنِيّ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَة ، فَبَعْضهمْ يَرَى أَنَّ الْغَرَر حَقِير فَيَجْعَلهُ كَالْمَعْدُومِ فَيَصِحّ الْبَيْع ، وَبَعْضهمْ يَرَاهُ لَيْسَ بِحَقِيرٍ فَيَبْطُل الْبَيْع وَاَللَّه أَعْلَم .
وَاعْلَمْ أَنَّ بَيْع الْمُلَامَسَة وَبَيْع الْمُنَابَذَة وَبَيْع حَبَل الْحَبَلَة وَبَيْع الْحَصَاة وَعَسْب الْفَحْل وَأَشْبَاههَا مِن الْبُيُوع الَّتِي جَاءَ فِيهَا نُصُوص خَاصَّة هِيَ دَاخِلَة فِي النَّهْي عَن بَيْع الْغَرَر وَلَكِنْ أُفْرِدَتْ بِالذِّكْرِ ، وَنُهِيَ عَنهَا لِكَوْنِهَا مِن بِيَاعَات الْجَاهِلِيَّة الْمَشْهُورَة وَاَللَّه أَعْلَم" .(1)
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 296) برقم(2783 )(1/446)
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن الْكَلِمَاتِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي قَدْ يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِهَا، َكَالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ : « لاَ طَلاَقَ وَلاَ عَتَاقَ فِى إِغْلاَقٍ »(1). فَإِنَّهُمْ قَدْ فَسَّرُوا الْإِغْلَاقَ بِالْإِكْرَاهِ ، وَمَن يُخَالِفُهُ لَا يَعْرِفُ هَذَا التَّفْسِيرَ .
قال الزيلعي(2): " قَالَ أَبُو دَاوُد : أَظُنُّهُ الْغَضَبُ يَعْنِي الْإِغْلَاقَ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : الْإِغْلَاقُ الْإِكْرَاهُ ؛ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ " ، وَقَالَ : عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ، قَالَ فِي " التَّنْقِيحِ " : وَقَدْ فَسَّرَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا بِالْغَضَبِ ، قَالَ شَيْخُنَا : وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَعُمُّ الْإِكْرَاهَ ، وَالْغَضَبَ ، وَالْجُنُونَ ، وَكُلَّ أَمْرٍ انْغَلَقَ عَلَى صَاحِبِهِ عِلْمُهُ وَقَصْدُهُ ، مَأْخُوذٌ مِن غَلَقَ الْبَابَ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ : « وَضَعَ اللَّهُ عَن أُمَّتِى الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ »"(3).
__________
(1) - سنن ابن ماجه برقم( 2124 ) وأبو داود( 2193) وابن أبي شيبة برقم(18034 ) وأحمد برقم(27115 ) والمستدرك برقم (2802و2803) والسنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 7 / ص 357) برقم( 15493 و15494 و20509) وسنن الدارقطنى برقم(4035 ) والمسند الجامع برقم( 16734) وإرواء الغليل - (ج 7 / ص 113) برقم( 2047 ) وحسنه عَن صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ حَدَّثَتْنِى عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ طَلاَقَ وَلاَ عَتَاقَ فِى إِغْلاَقٍ ». من طرق وهو حديث صحيح لغيره
(2) - نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية - (ج 6 / ص 230)
(3) - سنن ابن ماجه(2121) و السنن الكبرى للبيهقي (ج 7 / ص 357) (15492) وهو صحيح لغيره(1/447)
قلت : الغضبُ ينقسم إلى ثلاثة أقسام كما ذكر العلماء:
أَحَدُهَا : أَنْ يَحْصُل لَهُ مَبَادِئُ الْغَضَبِ بِحَيْثُ لاَ يَتَغَيَّرُ عَقْلُهُ ، وَيَعْلَمُ مَا يَقُول وَيَقْصِدُهُ ، وَهَذَا لاَ إِشْكَال فِيهِ .
الثَّانِي : أَنْ يَبْلُغَ النِّهَايَةَ ، فَلاَ يَعْلَمُ مَا يَقُول وَلاَ يُرِيدُهُ ، فَهَذَا لاَ رَيْبَ أَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ شَيْءٌ مِن أَقْوَالِهِ .
الثَّالِثُ : مَن تَوَسَّطَ بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ بِحَيْثُ لَمْ يَصِرْ كَالْمَجْنُونِ ، فَهَذَا مَحَل النَّظَرِ وَالأَْدِلَّةُ تَدُل عَلَى عَدَمِ نُفُوذِ أَقْوَالِهِ .(1/448)
ثُمَّ قَال ابْنُ عَابِدِينَ : وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَدْهُوشِ وَالْغَضْبَانِ لاَ يَلْزَمُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لاَ يَعْلَمُ مَا يَقُول ، بَل يُكْتَفَى فِيهِ بِغَلَبَةِ الْهَذَيَانِ وَاخْتِلاَطِ الْجِدِّ بِالْهَزْل كَمَا هُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي السَّكْرَانِ . . ثُمَّ قَال : فَاَلَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيل عَلَيْهِ فِي الْمَدْهُوشِ وَنَحْوِهِ : إِنَاطَةُ الْحُكْمِ بِغَلَبَةِ الْخَلَل فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ الْخَارِجَةِ عَن عَادَتِهِ ، فَمَا دَامَ فِي حَال غَلَبَةِ الْخَلَل فِي الأَْقْوَال وَالأَْفْعَال لاَ تُعْتَبَرُ أَقْوَالُهُ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُهَا وَيُرِيدُهَا ، لأَِنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ وَالإِْرَادَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِعَدَمِ حُصُولِهَا عَن إِدْرَاكٍ صَحِيحٍ كَمَا لاَ تُعْتَبَرُ مِنَ الصَّبِيِّ الْعَاقِل.(1/449)
(1)
__________
(1) - انظر: المبدع(7/252) الفروع(5/282)، الإنصاف(8/432)، ورجحه ابن باز - رحمه الله تعالى-، الفتاوى(21/373) لحديث المذكور وقد أفرد ابن القيم - رحمه الله تعالى- هذه المسألة بمصنف جمع فيه الأدلة من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين، وذكر أن عدم الوقوع مقتضى القياس الصحيح والاعتبار وأصول الشريعة، وأجاب عن أدلة الموقعين، ومن قرأ ما كتبه اطمأن لقوله وانظر فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 82) وفتاوى معاصرة - (ج 1 / ص 182) وفتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 11 / ص 8) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 2301) و(ج 1 / ص 4439) و(ج 1 / ص 6853) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 2780) ومجموع فتاوى ابن باز - (ج 19 / ص 118) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 6 / ص 272) والروضة الندية - (ج 2 / ص 272) والسيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار - الرقمية - (ج 1 / ص 402) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 11 / ص 308) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 433) وتلقيح الافهام العلية بشرح القواعد الفقهية - (ج 1 / ص 104) وفي فتاوى يسألونك - (ج 1 / ص 129)(1/450)
وَتَارَةً لِكَوْنِ مَعْنَاهُ فِي لُغَتِهِ وَعُرْفِهِ غَيْرَ مَعْنَاهُ فِي لُغَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَحْمِلُهُ عَلَى مَا يَفْهَمُهُ فِي لُغَتِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللُّغَةِ، كَمَا سَمِعَ بَعْضُهُمْ آثَارًا فِي الرُّخْصَةِ فِي النَّبِيذِ فَظَنُّوهُ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْمُسْكِرِ ؛ لِأَنَّهُ لُغَتُهُمْ وَإِنَّمَا هُوَ مَا يُنْبَذُ لِتَحْلِيَةِ الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ(1)؛
__________
(1) - ففي صحيح مسلم برقم(3240 )عَن بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِىِّ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَأَتَاهُ أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ مَا لِى أَرَى بَنِى عَمِّكُمْ يَسْقُونَ الْعَسَلَ وَاللَّبَنَ وَأَنْتُمْ تَسْقُونَ النَّبِيذَ أَمِن حَاجَةٍ بِكُمْ أَمْ مِن بُخْلٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا بِنَا مِن حَاجَةٍ وَلاَ بُخْلٍ قَدِمَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى رَاحِلَتِهِ وَخَلْفَهُ أُسَامَةُ فَاسْتَسْقَى فَأَتَيْنَاهُ بِإِنَاءٍ مِن نَبِيذٍ فَشَرِبَ وَسَقَى فَضْلَهُ أُسَامَةَ وَقَالَ « أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ كَذَا فَاصْنَعُوا ». فَلاَ نُرِيدُ تَغْيِيرَ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 4 / ص 452) :
وَقَدْ اِتَّفَقَ أَصْحَابنَا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبّ أَنْ يَشْرَب الْحَاجّ وَغَيْره مِن نَبِيذ سِقَايَة الْعَبَّاس لِهَذَا الْحَدِيث ، وَهَذَا النَّبِيذ مَاء مُحَلًّى بِزَبِيبٍ أَوْ غَيْره بِحَيْثُ يَطِيب طَعْمه ، وَلَا يَكُون مُسْكِرًا . فَأَمَّا إِذَا طَالَ زَمَنه وَصَارَ مُسْكِرًا فَهُوَ حَرَام .
وفيه برقم(5345 )عَن يَحْيَى الْبَهْرَانِىِّ قَالَ ذَكَرُوا النَّبِيذَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُنْتَبَذُ لَهُ فِى سِقَاءٍ - قَالَ شُعْبَةُ مِن لَيْلَةِ الاِثْنَيْنِ - فَيَشْرَبُهُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالثَّلاَثَاءِ إِلَى الْعَصْرِ فَإِنْ فَضَلَ مِنهُ شَىْءٌ سَقَاهُ الْخَادِمَ أَوْ صَبَّهُ.
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 7 / ص 34)
فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث دَلَالَة عَلَى جَوَاز الِانْتِبَاذ ، وَجَوَاز شُرْب النَّبِيذ مَا دَامَ حُلْوًا لَمْ يَتَغَيَّر وَلَمْ يَغْلِ ، وَهَذَا جَائِز بِإِجْمَاعِ الْأُمَّة ، وَأَمَّا سَقْيه الْخَادِم بَعْد الثَّلَاث وَصَبّه ، فَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَن بَعْد الثَّلَاث تَغَيُّره ، وَكَانَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَنَزَّه عَنهُ بَعْد الثَّلَاث(1/451)
فَإِنَّهُ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ صَحِيحَةٍ .
فعَن بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِىِّ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَأَتَاهُ أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ مَا لِى أَرَى بَنِى عَمِّكُمْ يَسْقُونَ الْعَسَلَ وَاللَّبَنَ وَأَنْتُمْ تَسْقُونَ النَّبِيذَ أَمِن حَاجَةٍ بِكُمْ أَمْ مِن بُخْلٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا بِنَا مِن حَاجَةٍ وَلاَ بُخْلٍ قَدِمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَاحِلَتِهِ وَخَلْفَهُ أُسَامَةُ فَاسْتَسْقَى فَأَتَيْنَاهُ بِإِنَاءٍ مِن نَبِيذٍ فَشَرِبَ وَسَقَى فَضْلَهُ أُسَامَةَ وَقَالَ: « أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ كَذَا فَاصْنَعُوا ». فَلاَ نُرِيدُ تَغْيِيرَ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (1).
قال النووي : " وَقَدْ اِتَّفَقَ أَصْحَابنَا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبّ أَنْ يَشْرَب الْحَاجّ وَغَيْره مِن نَبِيذ سِقَايَة الْعَبَّاس لِهَذَا الْحَدِيث ، وَهَذَا النَّبِيذ مَاء مُحَلًّى بِزَبِيبٍ أَوْ غَيْره بِحَيْثُ يَطِيب طَعْمه ، وَلَا يَكُون مُسْكِرًا . فَأَمَّا إِذَا طَالَ زَمَنه وَصَارَ مُسْكِرًا فَهُوَ حَرَام ."(2)
وعَن يَحْيَى الْبَهْرَانِىِّ قَالَ ذَكَرُوا النَّبِيذَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُنْتَبَذُ لَهُ فِى سِقَاءٍ - قَالَ شُعْبَةُ مِن لَيْلَةِ الاِثْنَيْنِ - فَيَشْرَبُهُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالثَّلاَثَاءِ إِلَى الْعَصْرِ فَإِنْ فَضَلَ مِنهُ شَىْءٌ سَقَاهُ الْخَادِمَ أَوْ صَبَّهُ.(3)
__________
(1) - صحيح مسلم برقم(3240 )
(2) - شرح النووي على مسلم - (ج 4 / ص 452)
(3) - مسلم برقم(5345 )(1/452)
وفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث دَلَالَة عَلَى جَوَاز الِانْتِبَاذ ، وَجَوَاز شُرْب النَّبِيذ مَا دَامَ حُلْوًا لَمْ يَتَغَيَّر وَلَمْ يَغْلِ ، وَهَذَا جَائِز بِإِجْمَاعِ الْأُمَّة ، وَأَمَّا سَقْيه الْخَادِم بَعْد الثَّلَاث وَصَبّه ، فَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَن بَعْد الثَّلَاث تَغَيُّره ، وَكَانَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَنَزَّه عَنهُ بَعْد الثَّلَاث" .(1)
وَسَمِعُوا لَفْظَ الْخَمْرِ فِي الْكِتَابِ والسُّنَّة فَاعْتَقَدُوهُ عَصِيرَ الْعِنَبِ الْمُشْتَدِّ خَاصَّةً بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي اللُّغَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ مِن الْأَحَادِيثِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ تُبَيِّنُ أَنَّ الْخَمْرَ اسْمٌ لِكُلِّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ .
فعَن أَنَسٍ قَالَ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الْخَمْرُ حِينَ حُرِّمَتْ وَمَا نَجِدُ - يَعْنِى بِالْمَدِينَةِ - خَمْرَ الأَعْنَابِ إِلاَّ قَلِيلاً ، وَعَامَّةُ خَمْرِنَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ .(2)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنبَرِ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهْىَ مِن خَمْسَةٍ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ .(3)
وعَن أَبِى حَرِيزٍ أَنَّ عَامِرًا حَدَّثَهُ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« إِنَّ الْخَمْرَ مِنَ الْعَصِيرِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَإِنِّى أَنْهَاكُمْ عَن كُلِّ مُسْكِرٍ »(4)
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (ج 7 / ص 34)
(2) - صحيح البخارى برقم(5580 )
(3) - صحيح البخارى برقم(5581)
(4) - سنن أبى داود برقم(3679 ) وهو صحيح .(1/453)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَمَن شَرِبَ الْخَمْرَ فِى الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَتُبْ لَمْ يَشْرَبْهَا فِى الآخِرَةِ ».(1)
وعَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ »(2).
وَتَارَةً لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُشْتَرِكًا أَوْ مُجْمَلًا .
وقد عرف علماء الأصول الكلام المجمل بأنه: ما احتمل معنيين أو أكثر دون رجحان أحدهما عند السامع، قال صاحب المراقي:
وذو وضوح محكم، والمجمل هو الذي المراد منه يجهل.
والمبين هو الكلام المجمل إذا بين وأصبح واضح المعنى، كما قال صاحب المراقي في تعريفه:
تصيير مشكل من الجلي....
والكلام البيِّن هو الدالُّ على المعنى دون احتمال أو مع احتمال مرجوح.
والمجمل أنواع منها: اللفظ المشترك وهو ما وضع لأكثر من معنى كالقرء للطهر والحيض، وكالعين للباصرة والجارية....(3)
__________
(1) - - صحيح مسلم برقم(5336 )
(2) - سنن أبى داود برقم(3683 ) وهو صحيح .
(3) - انظر المنثور في القواعد - (ج 3 / ص 106) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 3 / ص 82) ومذكرة أصول الفقه - (ج 1 / ص 7) وروضة الناظر وجنة المناظر - (ج 2 / ص 70) ومعالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة - (ج 1 / ص 359) والتحبير شرح التحرير - (ج 6 / ص 2754)(1/454)
أَوْ كانَ اللفظُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ(1)
الْحَقِيقَةُ(2)عَلَى وَزْنِ فَعِيلَةٍ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْحَقِّ ، وَمِن مَعَانِيهِ لُغَةً الثُّبُوتُ ، قَال تَعَالَى : { لَقَدْ حَقَّ الْقَوْل عَلَى أَكْثَرِهِمْ } (سورة يس / 7 ) أَيْ ثَبَتَ وَوَجَبَ . وَحَقِيقَةُ الشَّيْءِ مُنْتَهَاهُ وَأَصْلُهُ الْمُشْتَمِل عَلَيْهِ .(3)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا أَكْثَرُ الأُْصُولِيِّينَ وَعُلَمَاءِ الْبَيَانِ : بِأَنَّهَا الْكَلِمَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ فِي اصْطِلاَحٍ يَقَعُ بِهِ التَّخَاطُبُ بِالْكَلاَمِ الْمُشْتَمِل عَلَى تِلْكَ الْكَلِمَةِ(4)
__________
(1) - - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 18 / ص 49) و أصول السرخسي - (ج 1 / ص 170) والأحكام للآمدي - (ج 1 / ص 28) والمحصول - (ج 1 / ص 285) واللمع - (ج 1 / ص 58) والمستصفى - (ج 1 / ص 467) وتهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية - (ج 3 / ص 470) وكشف الأسرار - (ج 1 / ص 170) والبحر المحيط - (ج 2 / ص 318) والتقرير والتحبير - (ج 1 / ص 427) والأشباه والنظائر - (ج 1 / ص 113) وشرح الكوكب المنير - (ج 1 / ص 88) وشرح التلويح على التوضيح - (ج 1 / ص 52) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 2 / ص 377) و(ج 2 / ص 486) وإرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول - (ج 1 / ص 41) وقواطع الأدلة فى الأصول / للسمعانى - (ج 1 / ص 236) والتلخيص فى أصول الفقه / لإمام الحرمين - (ج 1 / ص 30) والتنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين - (ج 1 / ص 5) وغاية الوصول في شرح لب الأصول - (ج 1 / ص 39)
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 18 / ص 49)
(3) - لسان العرب والمصباح مادة : ( حقق ) وشرح جمع الجوامع 1 / 300 .
(4) - التعريفات للجرجاني ، ومختصر المعاني للتفتازاني 1 / 143 ، 144 ، ومسلم الثبوت 1 / 203 .(1/455)
وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ : بِأَنَّهَا لَفْظٌ أُرِيدَ بِهِ مَا وُضِعَ لَهُ ابْتِدَاءً بِحَيْثُ يَدُل عَلَيْهِ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ(1)
وَالْمُرَادُ مِنَ الْوَضْعِ تَعْيِينُ اللَّفْظَةِ بِإِزَاءِ مَعْنًى تَدُل عَلَيْهِ بِنَفْسِهَا(2).
والْمَجَازُ اسْمٌ لِمَا أُرِيدَ بِهِ غَيْرَ مَا وُضِعَ لَهُ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا ، كَتَسْمِيَةِ الشُّجَاعِ أَسَدًا ، سُمِّيَ مَجَازًا لأَِنَّهُ جَاوَزَ وَتَعَدَّى مَحَلَّهُ وَمَعْنَاهُ الْمَوْضُوعُ لَهُ إِلَى غَيْرِهِ لِمُنَاسِبَةٍ بَيْنَهُمَا ، فَالْمَجَازُ خَلَفٌ عَنِ الْحَقِيقَةِ ، أَيْ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُسْتَعْمَل فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ خَلَفٌ لِنَفْسِ اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَل فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ .(3)
__________
(1) - جمع الجوامع 1 / 300 .
(2) - كشف الأسرار عن أصول البزدوي 1 / 61 ، ومختصر المعاني 1 / 144 .
(3) - التعريفات للجرجاني ، وجمع الجوامع 1 / 305 ، ومسلم الثبوت 1 / 203 ، 213 ، والمستصفى للغزالي 1 / 341 وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 1 / 62 والموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 18 / ص 49)(1/456)
فَيَحْمِلُهُ عَلَى الْأَقْرَبِ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْآخَرَ كَمَا حَمَلَ جَمَاعَةٌ مِن الصَّحَابَةِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ عَلَى الْحَبْلِ، فعَن عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ :{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (187) سورة البقرة، عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ أَسْوَدَ وَإِلَى عِقَالٍ أَبْيَضَ ، فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِى ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِى اللَّيْلِ ، فَلاَ يَسْتَبِينُ لِى ، فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ « إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ »(1).
__________
(1) - أخرجه البخارى برقم (1916 ) ومسلم برقم(2585) =العقال : الحبل الذى يعقل به البعير(1/457)
وَكَمَا حَمَلَ آخَرُونَ قَوْلَهُ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (43) سورة النساء ، عَلَى الْيَدِ إلَى الْإِبِطِ، فعَنِ الزُّهْرِيِّ , قَالَ : " التَّيَمُّمُ إِلَى الْآبَاطِ "(1)وَعِلَّةُ مَن قَالَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِمَسْحِ الْيَدِ فِي التَّيَمُّمِ كَمَا أَمَرَ بِمَسْحِ الْوَجْهِ , وَقَدِ أجْمَعُوا أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَمْسَحَ جَمِيعَ الْوَجْهِ , فَكَذَلِكَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْيَدِ , وَمِن طَرَفِ الْكَفِّ إِلَى الْإبْطِ يَدٌ . وَاعْتَلُّوا مِنَ الْخَبَرِ بِمَا :( 9670 ) حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : ثنا صَيْفِيُّ بْنُ رِبْعِيٍّ , عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ , عَنِ الزُّهْرِيِّ , عَن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , عَن عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَبِى الْيَقْظَانِ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَهَلَكَ عِقْدٌ لِعَائِشَةَ فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَضَاءَ الْفَجْرُ فَتَغَيَّظَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَائِشَةَ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ الرُّخْصَةُ فِى الْمَسْحِ بِالصُّعُدَاتِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ إِنَّكِ لَمُبَارَكَةٌ لَقَدْ نَزَلَ عَلَيْنَا فِيكِ رُخْصَةٌ فَضَرَبْنَا بِأَيْدِينَا لِوُجُوهِنَا وَضَرَبْنَا بِأَيْدِينَا ضَرْبَةً إِلَى الْمَنَاكِبِ وَالآبَاطِ.
__________
(1) - تفسير الطبري (ج 8 / ص 418)(9669 ) صحيح(1/458)
"(1)
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحَدَّ الَّذِي لَا يُجْزِئُ الْمُتَيَمِّمَ أَنْ يَقْصُرَ عَنهُ فِي مَسَحِهِ بِالتُّرَابِ مِن يَدَيْهِ , الْكَفَّانِ إِلَى الزَّنْدَيْنِ لِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ التَّقْصِيرَ عَن ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ , ثُمَّ هُوَ فِيمَا جَاوَزَ ذَلِكَ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ بَلَغَ بِمَسْحِهِ الْمِرْفَقَيْنِ , وَإِنْ شَاءَ الْآبَاطَ .
__________
(1) - سنن أبى داود(318 ) ومسند أحمد(19401) وهو صحيح -الصعدات : جمع صعد وهى الطرقات(1/459)
وَالْعِلَّةُ الَّتِي مِن أَجَلِهَا جَعَلْنَاهُ مُخَيَّرًا فِيمَا جَاوَزَ الْكَفَّيْنِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَحِدَّ فِي مَسْحِ ذَلِكَ بِالتُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ حَدًّا لَا يَجُوزُ التَّقْصِيرُ عَنهُ , فَمَا مَسَحَ الْمُتَيَمِّمُ مِن يَدَيْهِ أَجْزَأَهُ , إِلَّا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ , أَوْ قَامَتِ الْحُجَّةُ بِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ التَّقْصِيرُ عَنهُ , وَقَدْ أَجْمَعَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ التَّقْصِيرَ عَنِ الْكَفَّيْنِ غَيْرُ مُجْزِئٍ , فَخَرَجَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ , وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ , وَإِذْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ , وَكَانَ الْمَاسِحُ بِكَفَّيْهِ دَاخِلًا فِي عُمُومِ الْآيَةِ كَانَ خَارِجًا مِمَّا لَزِمَهُ مِن فَرْضِ ذَلِكَ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْجُنُبِ , هَلْ هُوَ مِمَن دَخَلَ فِي رُخْصَةِ التَّيَمُّمِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِن أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَن بَعْدَهُمْ مِنَ الْخَالِفِينَ : حُكْمُ الْجُنُبِ فِيمَا لَزِمَهُ مِنَ التَّيَمُّمِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ حُكْمُ مَن جَاءَ مِنَ الْغَائِطِ , وَسَائِرِ مَن أَحْدَثَ مِمَن جَعَلَ التَّيَمُّمَ لَهُ طَهُورًا لِصَلَاتِهِ , وَقَدْ ذَكَرْتُ قَوْلَ بَعْضِ مَن تَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ : أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ أَوْ جَامَعْتُمُوهُنَّ , وَتَرَكْنَا ذِكْرَ الْبَاقِينَ لِكَثْرَةِ مَن قَالَ ذَلِكَ . وَاعْتَلَّ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِأَنَّ لِلْجُنُبِ التَّيَمُّمَ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ فِي سَفَرِهِ بِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَى ذَلِكَ نَقْلًا عَن نَبِيِّهَا - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي يَقْطَعُ الْعُذْرَ , وَيُزِيلُ الشَّكَّ .(1/460)
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ : لَا يُجْزِئُ الْجُنُبَ غَيْرُ الِاغْتِسَالِ بِالْمَاءِ , وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ , وَالتَّيَمُّمُ لَا يُطَهِّرُهُ . قَالُوا : وَإِنَّمَا جُعِلَ التَّيَمُّمُ رُخْصَةً لِغَيْرِ الْجُنُبِ , وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ اللَّهِ : وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ قَالُوا : وَقَدْ نَهَى اللَّهُ الْجُنُبَ أَنْ يَقْرَبَ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ إِلَّا مُجْتَازًا فِيهِ حَتَّى يَغْتَسِلَ , وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ بِالتَّيَمُّمِ . قَالُوا : وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ : أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ أَوْ لَامَسْتُمُوهُنَّ بِالْيَدِ دُونَ الْفَرْجِ وَدُونَ الْجِمَاعِ . قَالُوا : فَلَمْ نَجِدِ اللَّهَ رَخَّصَ لِلْجُنُبِ فِي التَّيَمُّمِ , بَل أَمَرَهُ بِالْغُسْلِ , وَأَنْ لَا يَقْرَبَ الصَّلَاةَ إِلَّا مُغْتَسِلًا . قَالُوا : وَالتَّيَمُّمِ لَا يُطَهِّرُهُ لِصَلَاتِهِ" .(1)
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (8847 و8848) وهو صحيح(1/461)
وفي سنن الترمذى (144 ) حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الفَلَّاسُ قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ ، عَن قَتَادَةَ ، عَن عَزْرَةَ ، عَن سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى ، عَن أَبِيهِ ، عَن عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، " " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِالتَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ " " ، وَفِي البَابِ عَن عَائِشَةَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، " " حَدِيثُ عَمَّارٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَقَدْ رُوِيَ عَن عَمَّارٍ مِن غَيْرِ وَجْهٍ ، وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِن أَهْلِ العِلْمِ مِن أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنهُمْ : عَلِيٌّ ، وَعَمَّارٌ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ ، مِنهُمْ : الشَّعْبِيُّ ، وَعَطَاءٌ ، وَمَكْحُولٌ قَالُوا : التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ ، وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ ، وقَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ مِنهُمْ : ابْنُ عُمَرَ ، وَجَابِرٌ ، وَإِبْرَاهِيمُ ، وَالحَسَنُ قَالُوا : التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى المِرْفَقَيْنِ ، وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ ، وَمَالِكٌ ، وَابْنُ المُبَارَكِ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ عَن عَمَّارٍ فِي التَّيَمُّمِ أَنَّهُ قَالَ : لِلْوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ مِن غَيْرِ وَجْهٍ " " وَقَدْ رُوِيَ عَن عَمَّارٍ أَنَّهُ قَالَ : " تَيَمَّمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المَنَاكِبِ وَالآبَاطِ " فَضَعَّفَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ حَدِيثَ عَمَّارٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ لَمَّا رُوِيَ عَنهُ حَدِيثُ المَنَاكِبِ وَالآبَاطِ ،(1/462)
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ : حَدِيثُ عَمَّارٍ فِي التَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، وَحَدِيثُ عَمَّارٍ : تَيَمَّمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المَنَاكِبِ وَالآبَاطِ لَيْسَ هُوَ بِمُخَالِفٍ لِحَدِيثِ الوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ ، لِأَنَّ عَمَّارًا لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا قَالَ : فَعَلْنَا كَذَا وَكَذَا ، فَلَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِالوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا أَفْتَى بِهِ عَمَّارٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّيَمُّمِ أَنَّهُ قَالَ : الوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ ، فَفِي هَذَا دَلَالَةٌ أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى مَا عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتَارَةً لِكَوْنِ الدَّلَالَةِ مِن النَّصِّ خَفِيَّةً(1)؛
قلت : أما عبارة النص: فهي دلالةُ اللَّفظِ على المعنى المُتبادِرِ فهمُه من نفسِ صيغَتِهِ. ويسمَّى (المعنى الحرفيَّ للنَّصِّ).
وأكثرُ أحكامِ الشَّريعةِ مُستفادَةٌ من عباراتِ نصُوصِ الكتابِ والسُّنَّة، والعلَّةُ في ذلكَ أنَّ الله تعالى أرادَ أن يكونَ قانونًا متَّبعًا، ولا يتهيَّأُ ذلكَ إلاَّ إذا كانَ مفهومًا مُدركًا للمُكلَّفِ دالاًّ على المُرادِ منهُ بنفسِ صيغةِ الخِطابِ.
__________
(1) - انظر بحوث في علم أصول الفقه - (ج 1 / ص 84-87) والمستصفى - (ج 1 / ص 251) وكشف الأسرار - (ج 3 / ص 479)(1/463)
فلوْ أخذتْ لهُ مثالاً بقولهِ تعالى: { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } [النساء: 3]، فعبارةُ النَّصِّ دلَّتْ بلفظِهَا على أحكامٍ ثلاثةٍ هي: 1ـ إباحَةُ النِّكاحِ. 2ـ تحديدُ تعدُّدِ الزَّوجاتِ بأربعٍ كحدٍ أقصَى.
3ـ وُجوبُ الاكتِفاءِ بواحدَةٍ عندَ خوفِ الجورِ.
وأما إشارة النص فالمقصود بها:دلالةُ اللَّفظِ على معنى غيرِ مقصودٍ من سياقِه، لكنَّهُ لازمٌ لِما يُفهمُ من (عبارَةِ النَّصِّ)،وقد يكونُ التَّلازُمُ بينَ (العبارَةِ) و(الإشارَةِ) ظاهرًا، وقد لا يُدركُ إلاَّ بِبحثٍ وتأمُّلٍ.
مثالها قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (187) سورة البقرة
فعبارَةُ النَّصِّ: إباحةُ إتيانِ الزَّوجَةِ في ليلَةِ الصِّيامِ في أيِّ وقتٍ من اللَّيلِ، إلى ظُهورِ الفجرِ، وإشارَةُ النَّصِّ: أنَّ الجنابَةَ لا أثرَ لها في الصَّومِ، وذلكَ أنَّ من له أن يُجامعَ ولوْ في آخرِ لحظَةٍ من اللَّيلِ فإنَّهُ قد يُصبحُ جُنبًا، فلازِمُ الإباحَةِ أنَّ الجنَابَةَ لا أثرَ لهَا.(1/464)
وأما دلالة النص: فالمقصود بها: دلالَةُ اللَّفظِ على ثُبوتِ حكمِ المنطوقِ (أي: عبارة النَّصِّ) لمسكوتٍ عنهُ لاشتِراكِهِمَا في علَّةِ الحُكمِ،وهذهِ العلَّةُ تُدركُ بمجرَّدِ فهمِ اللُّغةِ، لا تتوقَّفُ على بحثٍ واجتهادٍ، وتدلُّ على كونِ المسكوتِ عنه أولَى بالحُكمِ من المنطُوقِ، أو مُساويًا لهُ.
مثالها قوله تعالى: { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } [الإسراء: 23]، دلالَةُ العبارَةِ: تحريمُ قولِ (أفٍّ) للوالدينِ،وهذا هوالمنطُوقِ،ودلالَةُ الدَّلالةِ: تحريمُ سبِّهمَا وشتمِهمَا ولعنِهمَا، وهذا هو المسكوتُ عنهُ، فنبَّه بمنعِ الأدنَى على منعِ ما هوَ أولى منهُ، وهوَ معنَى يُدركُ من غيرِ بحثٍ ولا نظرِ.
وأما اقتضاء النص: فالمقصود به:المعنَى الَّذي لا تستقيمُ دلالَةُ الكلامُ إلاَّ بتقديرهِ.
مثاله قوله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [النساء: 23] عِبارَةُ النَّصِّ: تحريمُ أشخاصِ الأمَّهاتِ، وهذا لا معنَى له وليسَ مُرادًا بالنَّصِّ قطعًا، فاقتضَى تقديرَ شيءٍ في الكلامِ لتَظهرَ دلالتُهُ، وذلكَ التَّقديرُ مُستفادٌ بمجرَّدِ امتناعِ دلالةِ العِبارَةِ، فكانَ المقدَّرُ ههُنَا: (نِكاحُهُنَّ).(1)
فَإِنَّ جِهَاتِ دَلَالَاتِ الْأَقْوَالِ مُتَّسِعَةٌ جِدًّا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي إدْرَاكِهَا وَفَهْمِ وُجُوهِ الْكَلَامِ بِحَسَبِ مِنَحِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَمَوَاهِبِهِ ،ثُمَّ قَدْ يَعْرِفُهَا الرَّجُلُ مِن حَيْثُ الْعُمُومُ وَلَا يَتَفَطَّنُ لِكَوْنِ هَذَا الْمَعْنَى دَاخِلًا فِي ذَلِكَ الْعَامِّ، ثُمَّ قَدْ يَتَفَطَّنُ لَهُ تَارَةً ثُمَّ يَنْسَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ .
__________
(1) - انظر تيسير علم أصول الفقه .. للجديع - (ج 3 / ص 43) بحوث في علم أصول الفقه - (ج 1 / ص 84-87) والمستصفى - (ج 1 / ص 251) وكشف الأسرار - (ج 3 / ص 479)(1/465)
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ جِدًّا لَا يُحِيطُ بِهِ إلَّا اللَّهُ ،وَقَدْ يَغْلَطُ الرَّجُلُ فَيَفْهَمُ مِن الْكَلَامِ مَا لَا تَحْتَمِلُهُ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ الَّتِي بُعِثَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - بِهَا.
- - - - - - - - - - - - - - - -
السَّبَبُ السَّابِعُ
اعْتِقَادُهُ أَنْ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَعْرِفْ جِهَةَ الدَّلَالَةِ، وَالثَّانِي عَرَفَ جِهَةَ الدَّلَالَةِ لَكِن اعْتَقَدَ أَنَّهَا لَيْسَتْ دَلَالَةً صَحِيحَةً بِأَنْ يَكُونَ لَهُ مِن الْأُصُولِ مَا يَرُدُّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ صَوَابًا أَوْ خَطَأً .(1/466)
أي أنه لا يرى أن دلالة الحديث دلالة صحيحة، وأحياناً قد يتنازع الفقهاء في حديث، كحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا ، قَالَ : بِتُّ عِنْدَ مَيْمُونَةَ ، فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَى حَاجَتَهُ ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ، ثُمَّ نَامَ ، ثُمَّ قَامَ ، فَأَتَى القِرْبَةَ فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا بَيْنَ وُضُوءَيْنِ لَمْ يُكْثِرْ وَقَدْ أَبْلَغَ ، فَصَلَّى ، فَقُمْتُ فَتَمَطَّيْتُ ، كَرَاهِيَةَ أَنْ يَرَى أَنِّي كُنْتُ أَتَّقِيهِ ، فَتَوَضَّأْتُ ، فَقَامَ يُصَلِّي ، فَقُمْتُ عَن يَسَارِهِ ، فَأَخَذَ بِأُذُنِي فَأَدَارَنِي عَن يَمِينِهِ ، فَتَتَامَّتْ صَلاَتُهُ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ، ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ ، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ ، فَآذَنَهُ بِلاَلٌ بِالصَّلاَةِ ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ ، وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : " اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا ، وَفِي بَصَرِي نُورًا ، وَفِي سَمْعِي نُورًا ، وَعَن يَمِينِي نُورًا ، وَعَن يَسَارِي نُورًا ، وَفَوْقِي نُورًا ، وَتَحْتِي نُورًا ، وَأَمَامِي نُورًا ، وَخَلْفِي نُورًا ، وَاجْعَلْ لِي نُورًا "(1)
فهل هذا يدلُّ على أن المصافة إذا كان المأموم فرداً لازمة عن يمين الإمام، أم أنه يدلُّ على أنها سنَّة؟ .
__________
(1) - البخاري برقم(6316) و صحيح مسلم(1824 )(1/467)
هنا الدلالة متنازع فيها بين الفقهاء، فالحنابلة يرون أنها لازمة، قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أداره، فأحدث ذلك حركة في الصلاة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وحركةً لابن عباس، ونحو ذلك مما يدلُّ على اللزوم، ولو كان هذا من باب المستحب لتركه حتى ينصرف من صلاته ثم يبين له ذلك الأمر، والجمهور يرون أن الحديث لا يدلُّ على اللزوم، قالوا: لأنه لو كان يدل على اللزوم والصحة لما صحَّ تكبير ابن عباس للإحرام؛ لأن ابن عباس كبَّر تكبيرة الإحرام وهو عن يسار النبي - صلى الله عليه وسلم - . فأحياناً قد يكون الحديث واحداً ولكن هذا يأخذه من منزع، وهذا يأخذه من منزع آخر.(1)
__________
(1) - انظر شرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام - (ج 1 / ص 43)(1/468)
ومِثْلَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ لَيْسَ بِحُجَّةِ(1)، وَأَنَّ الْمَفْهُومَ لَيْسَ بِحُجَّةِ(2)وَأَنَّ الْعُمُومَ الْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ مَقْصُورٍ عَلَى سَبَبِهِ ، وَالنَّاسُ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ هَلْ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ أَمْ لَا ؟ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِن عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ عمومات الْكِتَابِ والسُّنَّة تَخْتَصُّ بِالشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ ، وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يُقَالُ إنَّهَا تَخْتَصُّ بِنَوْعِ ذَلِكَ الشَّخْصِ فَيَعُمُّ مَا يُشْبِهُهُ وَلَا يَكُونُ الْعُمُومُ فِيهَا بِحَسَبِ اللَّفْظِ ،وَالْآيَةُ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُعَيَّنٌ إنْ كَانَتْ أَمْرًا وَنَهْيًا فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلِغَيْرِهِ مِمَن كَانَ بِمَنزِلَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ خَبَرًا بِمَدْحِ أَوْ ذَمٍّ فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَغَيْرِهِ مِمَن كَانَ بِمَنزِلَتِهِ أَيْضًا ."(3)
__________
(1) - انظر البحر المحيط - (ج 4 / ص 214-219) الْبَحْثُ الثَّانِي فِي تَخْصِيصِ الْمَقْطُوعِ بِالْمَظْنُونِ
(2) - انظر البحر المحيط - (ج 4 / ص 236) مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ ، سَوَاءٌ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ ..
(3) - انظر مجموع الفتاوى - (ج 13 / ص 339)(1/469)
أَوْ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُجَرَّدَ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ(1)؛ أَوْ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ(2),أَوْ أَنَّ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ لَا عُمُومَ لَهُ(3),أَوْ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمَنفِيَّةَ لَا تَنْفِي ذَوَاتِهَا وَلَا جَمِيعَ أَحْكَامِهَا.
__________
(1) - انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 5134) رقم الفتوى 66156 بحث في القاعدة الأصولية الأمر للوجوب إلا أن تصرفه قرينة تاريخ الفتوى : 17 رجب 1426ووفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 15 / ص 436) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - هل يفيد الوجوب ؟ وشرح الكوكب المنير - (ج 2 / ص 47) وإرشاد الفحول الي تحقيق الحق من علم الأصول - (ج 1 / ص 200) ومن أصول الفقه على منهج أهل الحديث - الرقمية - (ج 1 / ص 108) وتلقيح الأفهام العلية بشرح القواعد الفقهية - (ج 1 / ص 82)
(2) - - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 28 / ص 298) والأحكام للآمدي - (ج 4 / ص 32) والبحر المحيط - (ج 3 / ص 194) وشرح الكوكب المنير - (ج 2 / ص 52) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 3 / ص 218)
(3) - انظر.البحر المحيط - (ج 3 / ص 370) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 6 / ص 18) والتقرير والتحبير - (ج 2 / ص 12) وشرح الكوكب المنير - (ج 3 / ص 155) وشرح التلويح على التوضيح - (ج 1 / ص 218) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 3 / ص 304) وإرشاد الفحول الي تحقيق الحق من علم الأصول - (ج 1 / ص 268) وتيسير التحرير - (ج 1 / ص 220) وفواتح الرحموت - (ج 1 / ص 241) وغاية الوصول في شرح لب الأصول - (ج 1 / ص 60)(1/470)
قلت : الأفعال المنفية بـ ( لا ) النافية للجنس هي لنفي الكمال عند الحنفية وأما الجمهور فإنها لنفي الحقيقة الشرعية عندهم فقوله - صلى الله عليه وسلم - :« لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِىٍّ »(1). هو لنفي الكمال عند الأحناف ولنفي الصحة عند الجمهور ولا شك أن الراجح قول الجمهور فانظر كيف اختلفوا في هذا الفرع للاختلاف في القاعدة(2)
أَوْ أَنَّ الْمُقْتَضِي لَا عُمُومَ لَهُ(3)؛ فَلَا يَدَّعِي الْعُمُومَ فِي الْمُضْمَرَاتِ وَالْمَعَانِي(4)، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَّسِعُ الْقَوْلُ فِيهِ، فَإِنَّ شَطْرَ أُصُولِ الْفِقْهِ تَدْخُلُ مَسَائِلُ الْخِلَافِ مِنهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُصُولُ الْمُجَرَّدَةُ لَمْ تُحِطْ بِجَمِيعِ الدَّلَالَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا وَتُدْخِلْ فِيهِ أَفْرَادَ أَجْنَاسِ الدَّلَالَاتِ : هَلْ هِيَ مِن ذَلِكَ الْجِنْسِ أَمْ لَا ؟ مِثْلَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ الْمُعَيَّنَ مُجْمَلٌ بِأَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا لَا دَلَالَةَ تُعَيِّنُ أَحَدَ مَعْنَيَيْهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.
- - - - - - - - - - - - - - - - -
السَّبَبُ الثَّامِنُ
اعْتِقَادُهُ أَنَّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ قَدْ عَارَضَهَا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُرَادَةً
__________
(1) - سنن أبى داود(2087 ) صحيح
(2) - - انظر كتب وليد بن راشد السعيدان - (ج 6 / ص 65)
(3) - انظر المبسوط - (ج 34 / ص 30) والعناية شرح الهداية - (ج 5 / ص 183) وفتح القدير - (ج 11 / ص 87) والمجموع - (ج 14 / ص 179) والمحصول - (ج 2 / ص 382) والمستصفى - (ج 2 / ص 90) وكشف الأسرار - (ج 4 / ص 25)
(4) - انظر المسودة - الرقمية - (ج 1 / ص 90-97) والمجموع - (ج 9 / ص 394) والحاوي في فقه الشافعي - الماوردي - (ج 11 / ص 492)(1/471)
مِثْلَ مُعَارَضَةِ الْعَامِّ بِخَاصِّ ، كما في البخارى برقم(1483) عَن سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَن أَبِيهِ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ ، وَمَا سُقِىَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ »
فهذا لفظ عام في كل ما أخرجت الأرض دون تحديد للنصاب
وقد عارضه نص خاص ففي صحيح البخارى برقم(1459)عَن أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الإِبِلِ صَدَقَةٌ » .
وهذا الحديث قد خص عموم الذي قبله ، فبين فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه إذا كان دون خمسة أوسق فلا زكاة فيه ، وقد اختلف الفقهاء في هذه المسالة فالأكثرون على التخصيص وأما الحنفية فلم يأخذوا به وبقوا على العموم(1)
أَوْ معارضة الْمُطْلَقِ بِمُقَيَّدِ .
المُطلقُ: هو اللَّفظُ الدَّالُّ على فردٍ غيرِ مُعيَّنٍ، أو أفرادٍ غيرِ مُعيَّنينَ.
مثلُ: (رجل) لفردٍ غير مُحدَّدٍ، و(رجال) لأفرادٍ غيرِ مُحدَّدينَ.
والمقيَّدُ: هوَ اللَّفظُ االدَّالُّ على فردٍ غيرِ مُعيَّنٍ، أو أفرادٍ غيرِ مُعيَّنينَ مع اقترَانِه بصفةٍ تُحدِّدُ المُرادُ بهِ.
__________
(1) - انظر شرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 407) وفتح الباري لابن حجر - (ج 5 / ص 56) وفتاوى معاصرة - (ج 1 / ص 124) وسبل السلام - (ج 3 / ص 224) ونيل الأوطار - (ج 6 / ص 397) والمحلى (ج 3 / ص 523) وشرح معاني الآثار - (ج 2 / ص 459) والمبسوط - (ج 3 / ص 374) وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 4 / ص 79) وبداية المجتهد ونهاية المقتصد - (ج 1 / ص 222) وكشف الأسرار - (ج 2 / ص 282)(1/472)
واللَّفظُ المُطلقُ باقٍ على إطلاقِهِ حتَّى يرِدَ دليلُ التَّقييدِ.
مثاله قوله تعالى في كفَّارة الظِّهارِ: { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِن قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } [المجادلة: 3].
لفظُ { رَقَبَةٍ } مطلقٌ من أيِّ قيدٍ، فلو أعتقَ المُظاهرُ رقبةً على أيِّ وصفٍ أجزأهُ مؤمِنةً كانتْ أو كافرَةً، خلافًا للشَّافعيَّةِ والمالكيَّةِ(1/473)
ونحو قوله تعالى في أحكامِ المواريث: { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } [النساء: 11]، فلفظ { وَصِيَّةٍ } مُطلقٌ وردَ الدَّليلُ من السُّنَّةِ بتقييدِه بالثُّلثِ، فعَن عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ عَن أَبِيهِ - رضى الله عنه - قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُنِى عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِن وَجَعٍ اشْتَدَّ بِى فَقُلْتُ إِنِّى قَدْ بَلَغَ بِى مِنَ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ ، وَلاَ يَرِثُنِى إِلاَّ ابْنَةٌ ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَىْ مَالِى قَالَ « لاَ » . فَقُلْتُ بِالشَّطْرِ فَقَالَ « لاَ » ثُمَّ قَالَ « الثُّلُثُ وَالثُّلْثُ كَبِيرٌ - أَوْ كَثِيرٌ - إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِى بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا ، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِى فِى امْرَأَتِكَ » . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِى قَالَ « إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً صَالِحًا إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً ، ثُمَّ لَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِى هِجْرَتَهُمْ ، وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ ابْنُ خَوْلَةَ ، يَرْثِى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ »(1)
قاعدة المقيد: يجبُ العملُ بالقيدِ إلاَّ إذا قامَ دليلٌ على إلغائِهِ.
__________
(1) - صحيح البخارى(1295 ) ومسلم (4296 )-البائس : شديد الفقر [ أو الحزين ] =العالة : الفقراء =يتكففون : يمدون أكفهم يسألون الناس(1/474)
من أمثلةِ القاعدَة: قوله تعالى في كفَّارةِ الظِّهار: { فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } [المجادلة: 4]، فقولُه: { مُتَتَابِعَيْنِ } قيدٌ يجبُ إعمالُه، فلا تُجزيءُ الكفَّارَةُ لو صامَ شهرينِ مُقطَّعينِ.
متى يُحمل المطلق على المقيد؟
إذا وردَ القيدُ مُقترنًا باللَّفظِ فالقاعِدَةُ ـ كما تقدَّم ـ وُجوبُ إعمالِ القيدِ، ولكنْ إذا جاءَ القيدُ منفصلاً عن الإطلاقِ، بأنْ يجيءَ هذا في نصٍّ، وهذا في نصٍّ آخرَ، فلهُ أربعُ حالاتٍ:
1ـ إذا اتَّحد في الحُكمِ والسَّببِ، فيجبُ حملُ المُطلقِ على المقيَّدِ:
مثالهُ: قوله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } [المائدة: 3]، مع قولِهِ: { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ } [الأنعام: 145]، فلفظُ (الدَّمِ) في الآيةِ الأولى مُطلقٌ، وفي الآية الثَّانية مقيَّدٌ بالمسفوحِ، الحُكمُ: حُرمَةُ الدَّمِ، والسَّببُ: بيانُ حُكمِ المطاعِمِ المحرَّمةِ في الآيتينِ والدَّمُ فيهما واحدٌ.
2ـ إذا اختلفَا في الحُكمِ والسَّببِ، فلا يُحملُ المُطلقُ على المقيَّد:
مثالُهُ: قوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38] مع قولهِ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } [المائدة: 6]، فلفظُ (الأيدي) مُطلقٌ في الآيةِ الأولى، ومقيَّدٌ في الآية الثانية، لكنَّ حُكمَ الأولى وجوبُ قطعِ الأيدي، وسببهَا السَّرقةُ، وحُكمَ الثَّانيَةِ وجوبُ غسلِ الأيدي، وسبَبَهَا القيامُ إلى الصَّلاةِ.(1/475)
فعلاقَةُ التَّأثيرِ منعدِمَةٌ بينَ الحُكمينِ، فلا يصحُّ حملُ المُطلقِ على المقيَّدِ:
ولِذا رُوِي في السُّنَّةِ تقييدُ القَطعِ بالكفِّ إلى الرُّسغِ، وهذا وإن كانَ النَّقلُ بخُصوصِهِ لا يثبتُ بهِ إسنادٌ، لكنَّهُ لم يُنقلُ غيرُهُ والرِّوايةُ فيه ليستْ بساقِطَةٍ، وهو المرويُّ فِعلُهُ عنِ أصحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وقدِ اعتضَدَ بأصلٍ شرعيٍّ ، ذلكَ أنَّ لرفلظ (اليد) يُرادُ به الكفُّ، كما يُرادُ به إلى المِرفقِ، كما يُرادُ به إلى المنكِبِ، والحدُّ يسقُطُ بالشُّبهَةِ، كما لا يُتجاوزُ بهِ قدْرُ اليقينِ، واليقينُ ههُنا بقطْعِ أدنى ما يُسمَّى يدًا، وبهِ يتحقَّقُ المقصودُ.
3ـ إذا اختلفَا في الحُكمِ واتَّحدَا في السَّببِ، فلا يُحملُ المُطلقُ على المقيَّدِ:
مثالُهُ قولهُ تعالَى:{ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنهُ} [المائدة: 6]، مع قولِهِ قبل ذلكَ في الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } فلفظُ (الأيدي)، في الموضعِ الأوَّل مُطلقٌ، وفي الثَّاني مقيَّدٌ (إلى المرافقِ)، السَّببُ مُتَّحدٌ في النَّصَّينِ، فكلاهُمَا في القيامِ إلى الصَّلاةِ لكنَّ الحُكم مختلفٌ ففي الأوَّل وجوبُ التَّيمُّمِ للصَّلاةِ عندَ فقدِ الماءِ، وفي الثَّاني وجوبُ الوُضوءِ.
فلا يصحُّ في هذه الحالةِ أن يُقالَ: تُمسحُ الأيدِي في التَّيمُّمِ إلى المرافقِ، حملاً للمُطلقِ في نصِّ التَّيمُّمِ على المقيَّدِ في نصِّ الوُضوءِ.(1/476)
ولذَا جاءَت السُّنَّةُ بعَدمِ اعتبارِهَا هذا القيد ِفي التَّيمُّمِ خلافًا للحنفيَّةِ والشَّافعيَّة ومن وافقهُم، وذلكَ قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمَّارِ بن ياسرٍ: ((إنَّما كان يكفيكَ أن تضربَ بيدَيكَ الأرضَ، ثمَّ تَنفُخَ، ثمَّ تمسَحَ بهمَا وجهَكَ وكفَّيكَ)) [متفقٌ عليه]، وهو قولُ عليِّ بن أبي طالبٍ، وجماعةٍ من التَّابعينَ ومذهبُ أحمدَ بنِ حنبلٍ وكثيرٍ من أهلِ الحديثِ، وما رُويَ من الأحاديثِ في أنَّ التَّيمُمَ إلى المِرفقينِ فلا يثبُتُ منهُ شيءٌ من قِبِلِ الرِّوايةِ.
4ـ إذا اتَّحدَ في الحُكمِ واختلفَا في السَّببِ، فلا يُحملُ المُطلقُ على المقيَّدِ.
مثالُه قوله تعالى في كفَّارةِ الظِّهارِ: { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِن قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } [المجادلة: 3]، مع قولهِ في كفَّارةِ قتلِ الخطإ: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } [النساء: 92]، فلفظُ (رقبَة) في الآية الأولى مُطلقٌ، وفي الثَّانية مقيَّدٌ بالإيمانِ، الحُكمُ واحدٌ هو الكفَّارةُ، والسَّببُ مُختلفٌ، فالأولى الظِّهارُ، والثَّانيةُ القتلُ.
فلا يصحُّ في هذا الحالةِ حملُ المُطلقِ على المقيَّدِ عندَ الحنفيَّةِ ومن وافقهُم خلافًا للشَّافعيَّةِ، يؤيِّدُ ذلك في المثالِ المذكورِ أنَّ الكفَّارةَ عقوبةٌ شُرعتْ لعلَّةٍ، ولكلِّ حُكمٍ علَّتُهُ المُناسبَةُ لهُ، قدْ تظهرُ وقدْ تخفَى، ولعلَّ المقامَ هُنا أنْ شُدِّدَ في كفَّارةِ القتلِ لشدَّةِ أمرِهِ بخلافِ الظِّهارِ، والقيدُ في هذا الحُكمِ تشديدٌ كما لا يخفى، واللهُ تعالى رحيمٌ بعبادِهِ، فحيثُ لم يُشدِّد فلا يُقالُ: أرادَ هُنا التَّشديدَ لكونِه شدَّدَ في حُكمٍ آخرَ ماثلَ هذا الحُكمَ في مُسمَّاهُ، فتلكَ زيادَةٌ في الشَّرعِ ومشقَّةٌ على الأمَّةِ.
مسألة أصولية للحنفيَّة:(1/477)
إذا جاءَ النَّصُّ مُطلقًا وأمكَن العملُ به على إطلاقِه لوُضوحِهِ في نفسِهِ وتمامِ بيانِهِ وعدمِ احتمالِهِ الزِّيادَةَ، لأنَّهُ لو اقتضاهَا لوجبَ أنْ تُذكرَ معهُ استيفاءً للبيانِ، فإذَا جاءتِ الزِّيادَةُ حينئذٍ فلا يكونُ لها حكمُ القيدِ، لأنَّهَا حينئذٍ بمنزلةِ النَّسخِ وإنَّما لها اعتبارٌ شرعيٌّ آخرَ وإليكَ مثاليْنِ لتوضيحِ ذلكَ:
1ـ قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } [المائدة: 6]، فالمأمورُ بهِ على الإطلاقِ هو الغَسْلُ، فلا يجوزُ أن يُزادَ عليه شرطُ النِّيَّةِ والتَّرتيبِ والمُوالاَةِ والتَّسميَّةِ، إذْ لو كانتْ من شرْطِ الوُضوءِ لتضمَّنهَا نصُّ الكتابِ، فحيثُ لم يرِدْ ذلكَ كانتْ من قبيلِ السُّننِ في الوُضوءِ.(1/478)
2ـ قوله تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } [النور: 2]، فالنَّصُّ بيِّنٌ في عُقُوبةِ الزَّاني أنَّها الجلدُ، وقدْ علمنَا في نصوصِ قطعيَّةِ الثُّبوتِ أنَّ هذا حُكمُ الزَّاني غيرِ المُحصنِ، لكنْ ما جاءتْ بهِ السُّنَّةُ من التَّغريبِ سنةً مع الجلدِ، فهذهِ زيادَةٌ على نصِّ الكتابِ البيِّنِ، ولو كانتْ لازمَةً لوجبتْ بنفسِ النَّصِّ مع الجلدِ، أو لبيَّنها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عندَ نُزُولِ الآيةِ، فحيثُ لم يكُن ذلكَ فقدْ دلَّ على أنَّ هذا من قبيلِ التَّعزيرِ يفعَلُه الإمامُ سياسَةً.(1)
أَوْ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ بِمَا يَنْفِي الْوُجُوبَ أَوْ الْحَقِيقَةَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَجَازِ إلَى أَنْوَاعِ الْمُعَارَضَاتِ.
__________
(1) -انظر تيسير علم أصول الفقه .. للجديع - (ج 2 / ص 75) و كتب وليد بن راشد السعيدان - (ج 3 / ص 126) و كشف الأسرار - (ج 2 / ص 424) وكشف الأسرار - (ج 5 / ص 281) والتقرير والتحبير - (ج 2 / ص 291) وشرح الكوكب المنير - (ج 2 / ص 117) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 4 / ص 37) والموافقات في أصول الشريعة - (ج 2 / ص 253) وفواتح الرحموت - (ج 1 / ص 229) والتلخيص فى أصول الفقه / لإمام الحرمين - (ج 2 / ص 70) والأصول من علم الأصول - الرقمية - (ج 1 / ص 44) والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد - الرقمية - (ج 1 / ص 130)(1/479)
اعلم أن من أباح شيئاً من المحرمات من العلماء، فإنما ذلك لكونه لم يبلغه في ذلك نص، فاجتهد، أو استند إلى موجب ظاهر آية أو حديث، أو موجب قياس، أو موجب استصحاب، أو بلغه في ذلك نص لكنه لم يثبت عنده، لشيء مما قد يعرض للعالم من تضعيف الحديث، أو لعلة من جهالة أو انقطاع أو غير ذلك، وإن كان قد ثبت عند غيره، أو بلغه الحديث لكنه نسيه، أو لعدم معرفته بدلالة الحديث، أو اعتقد أن هذا النص لا دلالة فيه، أو اعتقد أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مرادة، مثل معارضة العام بخاص، أو المطلق بمقيد، أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب، أو الحقيقة بما يدل على المجاز من أنواع المعارضات، أو غير ذلك من الأعذار، مما ذكره أهل العلم لأهل العلم. فإذا جاء حديث صحيح، فيه تحليل، أو تحريم، أو حكم، فلا يجوز أن يعتقد أن التارك له من العلماء، الذين وصفنا أسباب تركهم، يعاقَب لكونه حلل الحرام، أو حرم الحلال، أو حكم بغير ما أنزل الله; وكذلك إن كان في الحديث وعيد على فعل، مِن لعنة، أو غضب، أو عذاب، أو براءة، أو ليس منا، ونحو ذلك، فلا يجوز أن يقول أحد: إن ذلك الذي أباح هذا من العلماء، أو فعله، داخل في هذا الوعيد; فهذه أسباب يعذر بها العلماء.(1)
وَهُوَ بَابٌ وَاسِعٌ أَيْضًا ؛ فَإِنَّ تَعَارُضَ دَلَالَاتِ الْأَقْوَالِ وَتَرْجِيحَ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بَحْرٌ خِضَمٌّ(2).
- - - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 8 / ص 488)
(2) - انظر الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 68) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 1024) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 10483) والروضة الندية - (ج 1 / ص 357) والسيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار - الرقمية - (ج 1 / ص 121) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 4 / ص 451) والمستصفى - (ج 2 / ص 443) والموافقات في أصول الشريعة - (ج 1 / ص 223)(1/480)
السَّبَبُ التَّاسِعُ
اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ أَوْ نَسْخِهِ...
أي اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ ؛ أَوْ نَسْخِهِ ؛ أَوْ تَأْوِيلِهِ إنْ كَانَ قَابِلًا لِلتَّأْوِيلِ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارَضًا بِالِاتِّفَاقِ، مِثْلَ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ آخَرَ أَوْ مِثْلَ إجْمَاعٍ :
وَهَذَا نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ هَذَا الْمُعَارِضَ رَاجِحٌ فِي الْجُمْلَةِ فَيَتَعَيَّنُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ مِن غَيْرِ تَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنهَا . وَتَارَةً يُعَيِّنُ أَحَدَهَا بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ مَنسُوخٌ ؛ أَوْ أَنَّهُ مُؤَوَّلٌ . ثُمَّ قَدْ يَغْلَطُ فِي النَّسْخِ فَيَعْتَقِدُ الْمُتَأَخِّرَ مُتَقَدِّمًا وَقَدْ يَغْلَطُ فِي التَّأْوِيلِ بِأَنْ يَحْمِلَ الْحَدِيثَ عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ أَوْ هُنَاكَ مَا يَدْفَعُهُ، وَإِذَا عَارَضَهُ مِن حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَقَدْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْمُعَارِضُ دَالًّا، وَقَدْ لَا يَكُونُ الْحَدِيثُ الْمُعَارِضُ فِي قُوَّةِ الْأَوَّلِ إسْنَادًا أَوْ مَتْنًا وَتَجِيءُ هُنَا الْأَسْبَابُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَغَيْرُهَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَالْإِجْمَاعُ الْمُدَّعَى فِي الْغَالِبِ..
قال ابن تيمية : "وقد وَتَنَازَعُوا فِي الْإِجْمَاعِ : هَلْ هُوَ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ أَوْ ظَنِّيَّةٌ ؟ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ قَطْعِيَّهُ قَطْعِيٌّ وَظَنِّيَّهُ ظَنِّيٌّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(1/481)
وَقَدْ ذُكِرَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَذُكِرَ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ قَوْلُهُ : {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} (24) سورة الزخرف، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ مَن بَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ هُوَ أَهْدَى مِن الْقَوْلِ الَّذِي نَشَأَ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَهُ كَمَا قَالَ : {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (55) سورة الزمر، وَقَالَ : {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (18) سورة الزمر، وَالْوَاجِبُ فِي الِاعْتِقَادِ أَنْ يَتَّبِعَ أَحْسَنَ الْقَوْلَيْنِ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ قَوْلًا وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْقَوْلَ الْمُخَالِفَ لَهُ أَحْسَنُ مِنهُ، وَمَا خُيِّرَ فِيهِ بَيْنَ فِعْلَيْنِ وَأَحَدِهِمَا أَفْضَلُ فَهُوَ أَفَضْلُ وَإِنْ جَازَ لَهُ فِعْلُ الْمَفْضُولِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ ،وَيَكُونُ ذَاكَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِن هَذَا ؛ وَهَذَا اتِّبَاعٌ لِلْأَحْسَنِ .
وَإِذَا نَقَلَ عَالِمُ الْإِجْمَاعِ وَنَقَلَ آخَرُ النِّزَاعَ : إمَّا نَقْلًا سُمِّيَ قَائِلُهُ ؛ وَإِمَّا نَقْلًا بِخِلَافٍ مُطْلَقًا وَلَمْ يُسَمَّ قَائِلُهُ فَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ نَقْلًا لِخِلَافٍ لَمْ يَثْبُتْ ؛ فَإِنَّهُ مُقَابِلٌ بِأَنْ يُقَالَ وَلَا يَثْبُتُ نَقْلُ الْإِجْمَاعِ، بَل نَاقِلُ الْإِجْمَاعِ نَافٍ لِلْخِلَافِ، وَهَذَا مُثْبِتٌ لَهُ وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي .(1/482)
وَإِذَا قِيلَ : يَجُوزُ فِي نَاقِلِ النِّزَاعِ أَنْ يَكُونَ قَدْ غَلِطَ فِيمَا أَثْبَتَهُ مِن الْخِلَافِ : إمَّا لِضَعْفِ الْإِسْنَادِ ؛ أَوْ لِعَدَمِ الدَّلَالَةِ ،قِيلَ لَهُ : وَنَافِي النِّزَاعِ غَلَطُهُ أجوز ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ لَمْ تَبْلُغْهُ ؛ أَوْ بَلَغَتْهُ وَظَنَّ ضَعْفَ إسْنَادِهَا وَكَانَتْ صَحِيحَةً عِنْدَ غَيْرِهِ ؛ أَوْ ظَنَّ عَدَمَ الدَّلَالَةِ وَكَانَتْ دَالَّةً، فَكُلُّ مَا يَجُوزُ عَلَى الْمُثْبِتِ مِن الْغَلَطِ يَجُوزُ عَلَى النَّافِي مَعَ زِيَادَةِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْخِلَافِ . وَهَذَا يَشْتَرِكُ فِيهِ عَامَّةُ الْخِلَافِ ؛ فَإِنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ لَيْسَ عِلْمًا بِالْعَدَمِ، لَا سِيَّمَا فِي أَقْوَالِ عُلَمَاءِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إلَّا رَبُّ الْعَالَمِينَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِن الْعُلَمَاءِ : مَن ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَقَدْ كَذَبَ ؛ هَذِهِ دَعْوَى الْمَرِيسِيَّ وَالْأَصَمِّ ؛ وَلَكِنْ يَقُولُ : لَا أَعْلَمُ نِزَاعًا ،وَاَلَّذِينَ كَانُوا يَذْكُرُونَ الْإِجْمَاعَ كَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِمَا يُفَسِّرُونَ مُرَادَهُمْ : بِأَنَّا لَا نَعْلَمُ نِزَاعًا،وَيَقُولُونَ هَذَا هُوَ الْإِجْمَاعُ الَّذِي نَدَّعِيه .(1/483)
فَتَبَيَّنَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِجْمَاعِ الَّذِي قُوبِلَ بِنَقْلِ نِزَاعٍ وَلَمْ يُثْبِتْ وَاحِدٌ مِنهُمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ ،وَمَن لَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدَهُ نَقْلُ مُثْبِتِ النِّزَاعِ عَلَى نَافِيهِ وَلَا نَافِيهِ عَلَى مُثْبِتِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْضًا أَنْ يُقَدِّمَهُ عَلَى النَّصِّ وَلَا يُقَدِّمَ النَّصَّ عَلَيْهِ؛ بَل يَقِفُ لِعَدَمِ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا عِنْدَهُ ؛ فَإِنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ الْمُثْبِتُ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يُعَارِضْهُ إجْمَاعٌ يَعْمَلُ بِهِ وَيَنْظُرُ فِي ذَلِكَ إلَى مُثْبِتِ الْإِجْمَاعِ وَالنِّزَاعِ، فَمَن عُرِفَ مِنهُ كَثْرَةُ مَا يَدَّعِيه مِن الْإِجْمَاعِ وَالْأَمْرِ بِخِلَافِهِ لَيْسَ بِمَنزِلَةِ مَن لَمْ يُعْلَمْ مِنهُ إثْبَاتُ إجْمَاعٍ عُلِمَ انْتِفَاؤُهُ ،وَكَذَلِكَ مَن عُلِمَ مِنهُ فِي نَقْلِ النِّزَاعِ أَنَّهُ لَا يَغْلَطُ إلَّا نَادِرًا لَيْسَ بِمَنزِلَةِ مَن عُلِمَ مِنهُ كَثْرَةُ الْغَلَطِ .
وَإِذَا تَضَافَرَ عَلَى نَقْلِ النِّزَاعِ اثْنَانِ لَمْ يَأْخُذْ أَحَدُهُمَا عَن صَاحِبِهِ فَهَذَا يَثْبُتُ بِهِ النِّزَاعُ بِخِلَافِ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ تَضَافَرَ عَلَيْهِ عَدَدٌ لَمْ يُسْتَفَدْ بِذَلِكَ إلَّا عَدَمُ عِلْمِهِمْ بِالنِّزَاعِ،وَهَذَا لِمَن أَثْبَتَ النِّزَاعَ فِي جَمْعِ الثَّلَاثِ(1)وَمَن نَفَى النِّزَاعَ ،مَعَ أَنَّ عَامَّةَ مَن أَثْبَتَ النِّزَاعَ يَذْكُرُ نَقْلًا صَحِيحًا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَلَيْسَ مَعَ النَّافِي مَا يُبْطِلُهُ ."(2)
إنَّمَا هُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْمُخَالِفِ.
وقال ابن القيم ":" [ أُصُولُ فَتَاوَى أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ ]
__________
(1) - أي الطلاق الثلاث بلفظ واحد
(2) - مجموع الفتاوى - (ج 19 / ص 270)(1/484)
أَحَدُهَا : النُّصُوصُ ، فَإِذَا وَجَدَ النَّصَّ أَفْتَى بِمُوجَبِهِ ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى مَا خَالَفَهُ وَلَا مَن خَالَفَهُ كَائِنًا مَن كَانَ ، وَلِهَذَا لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى خِلَافِ عُمَرَ فِي الْمَبْتُوتَةِ لِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ(1)، وَلَا إلَى خِلَافِهِ فِي التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ لِحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ(2)، وَلَا خِلَافِ فِي اسْتِدَامَةِ الْمُحْرِمِ الطِّيبَ الَّذِي تَطَيَّبَ بِهِ قَبْلَ إحْرَامِهِ لِصِحَّةِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ(3)، وَلَا خِلَافِهِ فِي مَنعِ الْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ مِن الْفَسْخِ إلَى التَّمَتُّعِ لِصِحَّةِ أَحَادِيثِ الْفَسْخِ(4)، وَكَذَلِكَ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَأَبِي أَيُّوبَ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ فِي الْغُسْلِ مِن الْإِكْسَالِ(5)لِصِحَّةِ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا فَعَلَتْهُ هِيَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاغْتَسَلَا(6)، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن عَلِيٍّ أَنَّ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنهَا الْحَامِلُ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ ؛ لِصِحَّةِ حَدِيثِ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ(7)، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِ مُعَاذٍ وَمُعَاوِيَةَ فِي تَوْرِيثِ الْمُسْلِمِ مِن الْكَافِرِ(8)
__________
(1) - سنن أبى داود (2286) صحيح
(2) - السنن الكبرى للإمام النسائي (304) صحيح
(3) - صحيح مسلم (2899)
(4) - سنن النسائى (2748)
(5) - صحيح مسلم (801)
(6) - صحيح مسلم(809 -813)
(7) - المسند الجامع - (ج 19 / ص 272)(15952)
(8) - عَن أَبِي الأَسْوَدِ الدِّيَلِيِّ ، قَالَ : كَانَ مُعَاذٌ بِالْيُمْنِ فَارْتَفَعُوا إلَيْهِ فِي يَهُودِيٍّ مَاتَ أَخَاهُ مُسْلِماً ، فَقَالَ مُعَاذٌ : إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : إنَّ الإسْلاَمَ يَزِيدُ وَلاَ يَنْقُصُ فَوَرَّثَهُ.مصنف ابن أبي شيبة(ج 11 / ص 374)(32101) صحيح
وعَن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَعْقِلٍ ، قَالَ : مَا رَأِيْت قَضَاءٌ بَعْدَ قَضَاءِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ مِن قَضَاءٍ قَضَى بِهِ مُعَاوِيَةُ فِي أَهْلِ كِتَابٍ ، قَالَ : نَرِثُهُمْ وَلاَ يَرِثُونَنَا ، كَمَا يَحِلُّ لَنَا النِّكَاحُ فِيهِمْ ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُمَ النِّكَاحُ فِينَا.مصنف ابن أبي شيبة(ج 11 / ص 374)(32102) صحيح(1/485)
لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ الْمَانِعِ مِن التَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا(1)، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّرْفِ(2)لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ بِخِلَافِهِ(3)، وَلَا إلَى قَوْلِهِ بِإِبَاحَةِ لُحُومِ الْحُمُرِ كَذَلِكَ(4)، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا ، وَلَمْ يَكُنْ يُقَدِّمُ عَلَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَمَلًا وَلَا رَأْيًا وَلَا قِيَاسًا وَلَا قَوْلَ صَاحِبٍ وَلَا عَدَمَ عِلْمِهِ بِالْمُخَالِفِ الَّذِي يُسَمِّيهِ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ إجْمَاعًا وَيُقَدِّمُونَهُ عَلَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَقَدْ كَذَّبَ أَحْمَدُ مَن ادَّعَى هَذَا الْإِجْمَاعَ ، وَلَمْ يَسِغْ تَقْدِيمَهُ عَلَى الْحَدِيثِ الثَّابِتِ ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا نَصَّ فِي رِسَالَتِهِ الْجَدِيدَةِ عَلَى أَنَّ مَا لَا يُعْلَمُ فِيهِ بِخِلَافٍ لَا يُقَال لَهُ إجْمَاعٌ ، وَلَفْظُهُ : مَا لَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ فَلَيْسَ إجْمَاعًا(5).
__________
(1) - سنن أبى داود(2913) صحيح
(2) - صحيح مسلم(4170) لكنه رجع عن ذلك كما في سنن ابن ماجه(2343 )عَن أَبِى الْجَوْزَاءِ قَالَ سَمِعْتُهُ يَأْمُرُ بِالصَّرْفِ - يَعْنِى ابْنَ عَبَّاسٍ - وَيُحَدَّثُ ذَلِكَ عَنهُ ثُمَّ بَلَغَنِى أَنَّهُ رَجَعَ عَن ذَلِكَ فَلَقِيتُهُ بِمَكَّةَ فَقُلْتُ إِنَّهُ بَلَغَنِى أَنَّكَ رَجَعْتَ. قَالَ نَعَمْ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ رَأْيًا مِنِّى وَهَذَا أَبُو سَعِيدٍ يُحَدِّثُ عَن رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّرْفِ.(صحيح)
(3) - مسند أحمد (9888) صحيح
(4) - صحيح مسلم(5129)
(5) - الأحكام لابن حزم - (ج 4 / ص 542) والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد - الرقمية - (ج 1 / ص 48)(1/486)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : سَمِعْت أَبِي يَقُولُ : مَا يَدَّعِي فِيهِ الرَّجُلُ الْإِجْمَاعَ فَهُوَ كَذِبٌ ، مَن ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَهُوَ كَاذِبٌ ، لَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا ، مَا يُدْرِيهِ ، وَلَمْ يَنْتَهِ إلَيْهِ ؟ فَلْيَقُلْ : لَا نَعْلَمُ النَّاسَ اخْتَلَفُوا ، هَذِهِ دَعْوَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمِّ ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ : لَا نَعْلَمُ النَّاسَ اخْتَلَفُوا ، أَوْ لَمْ يَبْلُغْنِي ذَلِكَ ، هَذَا لَفْظُهُ وَنُصُوصُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَجَلُّ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ مِن أَنْ يُقَدِّمُوا عَلَيْهَا تَوَهُّمَ إجْمَاعٍ مَضْمُونُهُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْمُخَالِفِ ، وَلَوْ سَاغَ لَتَعَطَّلَتْ النُّصُوصُ ، وَسَاغَ لِكُلِّ مَن لَمْ يَعْلَمْ مُخَالِفًا فِي حُكْمِ مَسْأَلَةٍ أَنْ يُقَدِّمَ جَهْلُهُ بِالْمُخَالِفِ عَلَى النُّصُوصِ ؛ فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ مِن دَعْوَى الْإِجْمَاعِ ، لَا مَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ اسْتِبْعَادٌ لِوُجُودِهِ ."(1)
__________
(1) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 35)(1/487)
وَقَدْ وَجَدْنَا مِن أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ مَن صَارُوا إلَى الْقَوْلِ بِأَشْيَاءَ مُتَمَسَّكُهُمْ فِيهَا عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْمُخَالِفِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُمْ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يُمْكِنُ الْعَالِمُ أَنْ يَبْتَدِئَ قَوْلًا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ قَائِلًا ؛ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ النَّاسَ قَدْ قَالُوا خِلَافَهُ حَتَّى إنَّ مِنهُمْ مَن يُعَلِّقُ الْقَوْلَ فَيَقُولُ : إنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعٌ فَهُوَ أَحَقُّ مَا يَتْبَعُ وَإِلَّا فَالْقَوْلُ عِنْدِي كَذَا وَكَذَا، وَذَلِكَ مِثْلُ مَن يَقُولُ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَجَازَ شَهَادَةَ الْعَبْدِ.
قلت : اختلف أهل العلم في شهادة العبد وقد ورد عن الصحابة والتابعين أقوالا مختلفة في ذلك(1)
__________
(1) - انظرها في مصنف ابن أبي شيبة (ج 6 / ص 77)(20652-20665) و انظر الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 9 / ص 67) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 7 / ص 586) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 3 / ص 229) ونيل الأوطار - (ج 13 / ص 377) والمحلى (ج 8 / ص 583) والمبسوط - (ج 19 / ص 152) وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 14 / ص 310) والمحيط البرهاني للإمام برهان الدين ابن مازة - (ج 2 / ص 631) وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير - (ج 17 / ص 276) وبداية المجتهد ونهاية المقتصد - (ج 1 / ص 771) والمهذب للشيرازي - (ج 5 / ص 451) و الحاوي في فقه الشافعي - الماوردي - (ج 17 / ص 22) والإنصاف - (ج 17 / ص 352) والمغني - (ج 23 / ص 223) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 31) والبحر المحيط - (ج 6 / ص 178) والخلاف بين العلماء - الرقمية - (ج 1 / ص 24)(1/488)
وَقَبُولُهَا مَحْفُوظٌ عَن عَلِيٍّ(1)وَأَنَسٍ(2)وشريح(3)وَغَيْرِهِمْ.
وَيَقُولُ : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُعْتَقَ بَعْضُهُ لَا يَرِثُ وَتَوْرِيثُهُ مَحْفُوظٌ عَن عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَفِيهِ حَدِيثٌ حَسَنٌ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (4).
وَيَقُولُ آخَرُ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الصَّلَاةِ ، وَإِيجَابُهَا مَحْفُوظٌ عَن أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِر(5)ِ.
__________
(1) - أخرجه ابن أبي شيبة برقم(20656) عَنِ الشَّعْبِيِّ ، قَالَ : قَالَ شُرَيْحٌ : لاَ تُجِيزُ شَهَادَةَ الْعَبِيدِ فَقَالَ : عَلِيٌّ : لاَ , كُنَّا نُجِيزُهَا ، قَالَ : فَكَانَ شُرَيْحٌ بَعْدُ يُجِيزُهَا إلاَ لِسَيِّدِهِ.وإسناده صحيح
(2) - أخرجه ابن أبي شيبة برقم(20652) عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ ، قَالَ : سَأَلْتُُ أَنَسًا ، عَن شَهَادَةِ الْعَبِيدِ فَقَالَ : جَائِزَةٌ. وهو صحيح
(3) - أخرجه ابن أبي شيبة برقم(20656) ، عَن عَامِرٍ ، أَنَّ شُرَيْحًا أَجَازَ شَهَادَةَ الْعَبِيدِ. وهو صحيح
(4) - انظر روضة الطالبين وعمدة المفتين - (ج 2 / ص 311) والشرح الكبير لابن قدامة - (ج 7 / ص 222) والمحلى (ج 8 / ص 54) و (ج 8 / ص 286) وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 5 / ص 355) والمغني - (ج 14 / ص 8) والمحصول - (ج 3 / ص 81) وقواطع الأدلة فى الأصول / للسمعانى - (ج 1 / ص 160)
(5) - انظر فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 2 / ص 190) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 3608) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 2926) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 2 / ص 93) وشرح الكوكب المنير - (ج 2 / ص 57) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 9746)(1/489)
وَذَلِكَ أَنَّ غَايَةَ كَثِيرٍ مِن الْعُلَمَاءِ أَنْ يَعْلَمَ قَوْلَ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ أَدْرَكَهُمْ فِي بِلَادِهِ وَأَقْوَالَ جَمَاعَاتٍ غَيْرِهِمْ، كَمَا تَجِدُ كَثِيرًا مِن الْمُتَقَدِّمِينَ لَا يَعْلَمُ إلَّا قَوْلَ الْمَدَنِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ ،وَكَثِيرٌ مِن الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يَعْلَمُ إلَّا قَوْلَ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مِن الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ وَمَا خَرَجَ عَن ذَلِكَ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِهِ قَائِلًا ،وَمَا زَالَ يَقْرَعُ سَمْعَهُ خِلَافُهُ، فَهَذَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَصِيرَ إلَى حَدِيثٍ يُخَالِفُ هَذَا ؛ لِخَوْفِهِ أَنْ يَكُونَ هَذَا خِلَافًا لِلْإِجْمَاعِ أَوْ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ وَالْإِجْمَاعُ أَعْظَمُ الْحُجَجِ .
وَهَذَا عُذْرُ كَثِيرٍ مِن النَّاسِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَتْرُكُونَهُ، وَبَعْضُهُمْ مَعْذُورٌ فِيهِ حَقِيقَةً ؛ وَبَعْضُهُمْ مَعْذُورٌ فِيهِ ،وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَعْذُورِ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِن الْأَسْبَابِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ ، لأنه متى ثبت النصُّ ، ولم نجد له معارضاً وجب العملُ به ،هذا إذا علمنا أنَّ أحدا من العلماء السابقين قد عمل به ، لأنَّ عدم العلم به يدلُّ إما على نسخه أو يوجد ما يعارضه .
- - - - - - - - - - - - - - - - -
السَّبَبُ الْعَاشِرُ
مُعَارَضَتُهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ أَوْ نَسْخِهِ أَوْ تَأْوِيلِهِ مِمَّا لَا يَعْتَقِدُهُ غَيْرُهُ
مُعَارَضَتُهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ أَوْ نَسْخِهِ أَوْ تَأْوِيلِهِ مِمَّا لَا يَعْتَقِدُهُ غَيْرُهُ أَوْ جِنْسُهُ مُعَارِضٌ ؛ أَوْ لَا يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَارِضًا رَاجِحًا .(1/490)
كَمُعَارَضَةِ كَثِيرٍ مِن الْكُوفِيِّينَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ مِن الْعُمُومِ وَنَحْوُهُ مُقَدَّمٌ عَلَى نَصِّ الْحَدِيثِ ، ثُمَّ قَدْ يَعْتَقِدُ مَا لَيْسَ بِظَاهِرِ ظَاهِرًا لِمَا فِي دَلَالَاتِ الْقَوْلِ مِن الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ .
وَلِهَذَا رَدُّوا حَدِيثَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِين وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ يَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ مَا يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ ، فعَن أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ.(1)
وَلَوْ كَانَ فِيهِ ذَلِكَ فَالسُّنَّةُ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِلْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ . وَلِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ(2)
__________
(1) - - سنن أبى داود برقم(3612 ) والترمذي برقم(1393) وهو حديث متواتر
(2) - وفي الرسالة للشافعي - (ج 1 / ص 25) : باب : ما نزل عاماًّ دلت السنة خاصة على أنه يراد به الخاص
قال الله - جل ثناؤه - : " وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ( 11 ) " [ النساء ] وقال : " وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِن اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ( 12 ) " [ النساء ]
فأبان أن للوالدين والأزواج مما سمى في الحالات وكان عامَّ المخرج فدلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنه إنما أريد به بعض الوالدين والأزواج دون بعض وذلك أن يكون دين الوالدين والمولود والزوجين واحداً ولا يكون الوارث منهما قاتلاً ولا مملوكاً
وقال : " مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ "
فأبان النبي أن الوصايا مقتَصَرٌ بها على الثلث لا يُتَعدى ولأهل الميراث الثلثان وأبان أن الدَّين قبل الوصايا والميراث وأن لا وصية ولا ميراث حتى يستوفي أهل الدَّين دينهم
ولولا دلالة السنة ثم إجماعُ الناس لم يكن ميراثٌ إلا بعد وصية أو دين ولم تعد الوصية أن تكون مُبَدَّاةً على الدين أو تكون والدين سواء وقال الله : " إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ( 6 ) " [ المائدة ]
فقصد - جل ثناؤه - قصْدَ القدمين بالغسل كما قصد الوجه واليدين فكان ظاهر هذه الآية أنه لا يجزئ في القدمين إلا ما يجزئ في الوجه من الغسل أو الرأس من المسح وكان يحتمل أن يكون أريد بغسل القدمين أو مسحهما بعضُ المتوضئين دون بعض
فلما مسح رسول الله على الخفين وأمر به من أدخل رجليه في الخفين وهو كامل الطهارة دلت سنة رسول الله على أنه إنما أريد بغسل القدمين أو مسحهما بعضُ المتوضئين دون بعض
وقال الله تبارك وتعالى : " وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِن اللَّهِ ( 38 ) " [ المائدة ]
وسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن : " لاَ قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلاَ كَثَرٍ " وأن لا يقطع إلا من بلغت سرقته ربع دينار فصاعداً
وقال الله : " الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ " [ النور ]
وقال في الإماء : " فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِن الْعَذَابِ ( 25 ) " [ النساء ]
فدل القُرَآن على أنه إنما أريد بجلد المائة : الأحرارُ دون الإماء . فلما رجم رسول الله الثيب من الزناة ولم يجلده : دلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن المراد بجلد المائة من الزناة : الحُرَّان البِكْرَان وعلى أن المراد بالقطع في السرقة : من سرَق من حِرْز وبلغت سرقته ربع دينار دون غيرهما ممن لزمه اسم سرقة وزنا وقال الله : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِن شَيْءٍ [ ص 68 ] فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ( 41 ) " [ الأنفال ]
فلما أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني هاشم وبني المطلب سهم ذي القربى : دلت سنة رسول الله أن ذا القربى الذين جعل الله لهم سهماً من الخمس : بنو هاشم وبنو المطلب دون غيرهم
وكل قريش ذو قرابة وبنو عبد شمس مساويةُ بني المطلب في القرابة هم مَعًا بنو أب وأم وإن انفرد بعض بني المطلب بولادة من بني هاشم دونَهم
فلما لم يكن السهم لمن انفرد بالولادة من بني المطلب دون من لم تصبه ولادة من بني هاشم منهم : دل ذلك على أنهم إنما أعطُوا خاصة دون غيرهم بقرابة جذم النسب مع كَيْنُونَتِهِمْ معًا مجتمعين في نصر النبي بالشِّعْب وقبله وبعده وما أراد الله - جل ثناؤه - بهم خاصًّا
ولقد وَلَدَتْ بنو هاشم في قريش فما أعطي منهم أحد بولادتهم من الخمس شيئاً وبنو نوفل مُسَاوِيَتُهُمْ في جِذْمِ النسب وإن انفردوا بأنهم بنوا أم دونهم
قال الله : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ( 41 ) " [ الأنفال ]
فلما أعطى رسول الله السلَبَ القاتلَ في الإقبال : دلَّت سنة النبي على أن الغنيمة المَخْمُوسَة في كتاب الله غيرُ السلب إذْ كان السلب مَغْنُوماً في الإقبال دون الأسلاب المأخوذة في غير الإقبال وأن الأسلاب المأخوذة في غير الإقبال غنيمةٌ تُخمس مع ما سواها من الغنيمة بالسنة
ولولا الاستدلال بالسنة وحُكْمُنا بالظاهر: قطعنا من لزمه اسمُ سرقة وضربنا مائةً كلَّ مَنْ زَنَى حُراًّ ثيباً وأعطينا سهم ذي القربى كل من بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - قرابة ثم خلص ذلك إلى طوائف من العرب لأن له فيهم وَشَايِجَ أرحام وَخَمَسْنا السَّلَب لأنه من المَغْنم مع ما سواه من الغنيمة .(1/491)
وفي السُّنَّةُ لِلْمَرْوَزِيِّ - ذِكْرُ الْوَجْهِ الثَّانِي مِنَ السُّنَنِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا أَهِيَ نَاسِخَةٌ لِبَعْضِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ أَمْ هِيَ مُبَيِّنَةٌ عَن خُصُوصِهَا وَعُمُومِهَا ؟
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي السُّنَّةِ هَلْ تَنْسَخُ الْكِتَابَ أَمْ لَا ؟
فَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ : لَا تَنْسَخُ السُّنَّةُ الْكِتَابَ ، وَلَا يَنْسَخُ الْكِتَابُ إِلَّا الْكِتَابُ ، والسُّنَّة تُتَرْجِمُ الْكِتَابَ وَتُفَسِّرُ مُجْمَلَهُ ، وَتُبَيِّنُ عَن خُصُوصِهِ ، وَعُمُومِهِ وَتَزَيدُ فِي الْفَرَائِضِ وَالْأَحْكَامِ ، وَلَا تَنْسَخُ الْكِتَابَ ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : مَا نَنْسَخْ مِن آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنهَا أَوْ مِثْلِهَا وَبِقَوْلِهِ : وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَبِقَوْلِهِ : قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ، فَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : جَائِزٌ أَنْ تَنْسَخَ السُّنَّةُ الْكِتَابَ وَذَلِكَ أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِحُكْمٍ ، ثُمَّ يُوحِي إِلَى نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَدْ نَسَخَ ذَلِكَ الْحُكْمَ ، وَيَأْمُرُ بِخِلَافِهِ ، فَيَأْمُرُ بِذَلِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ ، وَلَا يَنْزِلُ بِهِ قُرْآنًا يُتْلَى ، فَعَلَى النَّاسِ تَصْدِيقُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَقَبُولُ ذَلِكَ عَنهُ وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَنْسَخْ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا يُتْلَى لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَالنَّجْمِ إِذَا(1/492)
هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى وَلِقولِهِ : إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ فَمِنَ الْوَحْيِ مَا هُوَ قُرْآنٌ ، وَمِنهُ مَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : مَا نَنْسَخْ مِن آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنهَا وَلَمْ يَقُلْ نَأْتِ بِآيَةٍ خَيْرٍ مِنهَا ، وَلَا بِقُرْآنٍ خَيْرٍ مِنهَا"
قَالَ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ: " كُنْتُ أَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ فَلَا أَعْرِفُهَا مَا نَنْسَخْ مِن آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنهَا ، أَقُولُ هَذَا قُرْآنٌ وَهَذَا قُرْآنٌ فَكَيْفَ يَكُونُ خَيْرًا مِنهَا حَتَّى فُسِّرَ لِي فَكَانَ بَيِّنًا ، نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنهَا لَكُمْ أَيْسَرُ عَلَيْكُمْ ، أَخَفُّ عَلَيْكُمْ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ".(1/493)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ( المروزي) : فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا حَكَى ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالُوا : فَإِنَّمَا مَعْنَى النَّسْخِ هُوَ أَنْ يَنْسَخَ حُكْمَهُ الْأَوَّلَ الَّذِي أَوْجَبَهُ بِكَلَامِهِ عَلَى عِبَادِهِ بِحُكْمٍ خَيْرٍ لَهُمْ مِنهُ فَإِنَّمَا خَفَّفَ عَلَى الْعِبَادِ فَأَبْدَلَهُمْ عَمَلًا أَخَفَّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا أَرَادَ حُكْمًا خَيْرًا لَهُمْ مِن حُكْمِ الْآيَةِ الْأُولَى أَوْسَعَ لَهُمْ وَأَخَفَّ عَلَيْهِمْ كَمَا نَسَخَ قِيَامَ اللَّيْلِ بِمَا تَيَسَّرَ مِنهُ فَكَانَ مَا تَيَسَّرَ خَيْرًا لَهُمْ فِي السَّعَةِ وَالْخِفَّةِ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ بِطُولِ قِيَامِ اللَّيْلِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَامُوا حَوْلًا حَتَّى تَوَرَّمَتْ أَقْدَامُهُمْ فَخَفَّفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنهُمْ ، وَكَذَلِكَ كَانُوا لَا يُنَاجُونَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَتَصَدَّقُوا بِصَدَقَةٍ فَخَفَّفَ ذَلِكَ عَنهُمْ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ خَيْرًا لَهُمْ بِأَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ إِذَا هُمْ عَمِلُوا بِهِ وَخَيْرًا لَهُمْ فِي الْعَاقِبَةِ ، قَالُوا : فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ الْحُكْمِ الثَّانِي الَّذِي أُبْدِلَ بِهِ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ فِي كِتَابِهِ مُنَزَّلًا وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ بَيَانَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا يُنْزِلَهُ فِي كِتَابِهِ "(1/494)
عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ : عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِن حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِن حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَلَا كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ " (صحيح)
وعَنِ الْحَسَنِ بْنِ جَابِرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ الْمِقْدَامَ بْنَ مَعْدِي كَرِبَ يَقُولُ : حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ خَيْبَرَ أَشْيَاءَ ثُمَّ قَالَ : " يُوشِكُ بِرَجُلٍ مُتَّكِئٍ عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثِي ، فَيَقُولُ : سَأُنَبِّئُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ مَا وَجَدْنَا فِيهِ مِن حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِن حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ "(صحيح)(1/495)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَمِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ هَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ مِمَّا فَرَضَهُ مُثْبَتٌ فِي الْكِتَابِ ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى نَسْخِهِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا مَا الَّذِي نَسَخَهُ الْكِتَابُ أَمِ السُّنَّةُ ؟ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ إِيجَابَ الْوَصِيَّةِ لِكُلِّ وَارِثٍ مِنَ الْأَقْرَبِينَ مَنسُوخٌ ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي أَجَازَتْ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ : إِنَّمَا صَارَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ مَنسُوخَةً بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " وَقَالَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى : بَلْ نَسَخَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ فَرَائِضَ الْمَوَارِيثِ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ هُوَ الْمُبَيِّنُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ : " لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ جَائِزًا أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ ثَابِتَةً مَعَ الْمَوَارِيثِ ، وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الْمَوَارِيثُ نَسَخَتِ الْوَصِيَّةَ ، فَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَوَارِيثَ نَسَخَتِ الْوَصِيَّةَ ، لَا أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ الَّذِي نَسَخَ الْوَصِيَّةَ لَهُمْ ، فَقَالَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى : لَيْسَ فِي فَرْضِ الْمَوَارِيثِ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ بَلْ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حِينَ فَرَضَ الْمَوَارِيثَ أَخْبَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا فَرَضَهَا مِن(1/496)
بَعْدِ الْوَصَايَا ، فَقَالَ فِي عَقِبِ فَرَائِضِ الْمَوَارِيثِ : مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ فَكَانَ اللَّازِمُ عَلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ إِذَا أَوْصَى الْمَيِّتُ لِوَالِدَيْهِ أَوْ لِسَائِرِ وَرَثَتِهِ بِوَصَايَا أَنْ يَبْدَءُوا بِإِعْطَائِهِمُ الْوَصَايَا ، ثُمَّ يُعْطَوْنَ مَوَارِيثَهُمْ مِن بَعْدِ الْوَصَايَا لِقَوْلِهِ : مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ قَالُوا : فَكَانَتِ السُّنَّةُ هِيَ النَّاسِخَةَ لِإِيجَابِ الْوَصِيَّةِ لَا غَيْرُ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ، قَالُوا : وَظَاهِرُ الْكِتَابِ أَيْضًا مُوجِبٌ إِجَازَةَ الْوَصِيَّةِ لِغَيْرِ الْوَارِثِ ، وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا فَرَضَ الْمَوَارِيثَ مِن بَعْدِ الْوَصَايَا وَلَمْ يُؤَقِّتِ الْوَصَايَا ثُلُثًا ، وَلَا أَقَلَّ وَلَا أَكْثَرَ ، فَلَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَكَمَ بِأَنَّ الْوَصَايَا لَا تَجُوزُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ جَائِزَةً عَلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ وَعُمُومِهِ ، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ جَاءَتْ بِتَحْدِيدِ الثُّلُثِ فِي الْوَصَايَا "(1/497)
فعَن عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ ، عَن أَبِيهِ ، قَالَ : عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِن وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنهُ عَلَى الْمَوْتِ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَ بِي مَا تَرَى مِنَ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَيْسَ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ قَالَ : " لَا " ، قُلْتُ : أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ ؟ قَالَ : " لَا الثُّلُثُ ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ إِنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ، وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِيِّ امْرَأَتِكَ "( صحيح)
وعَن عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، عَن أَبِيهِ ، قَالَ : كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمَرِضْتُ مَرَضًا أَشْفَى عَلَيَّ الْمَوْتُ فَعَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مَالِي كَثِيرٌ وَلَيْسَ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي أَفَأُوصِي بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ قَالَ : " لَا " ، قُلْتُ : فَبِشَطْرِ مَالِي ؟ قَالَ : " لَا " ، قُلْتُ : فَبِثُلُثِ مَالِي ؟ قَالَ : " الثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ يَا سَعْدُ إِنْ تَتْرُكْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ " (صحيح)(1/498)
وعَن سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ ، عَن أَبِيهِ ، قَالَ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا مَرِيضٌ يَعُودُنِي فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ ؟ قَالَ : " لَا " ، قُلْتُ : فَبِثُلُثَيْهُ ؟ قَالَ: " لَا " ، قُلْتُ : فبِالنِّصْفِ ؟ قَالَ : " لَا " ، قُلْتُ : فَبِالثُّلُثِ ؟ فَسَكَتَ ، (صحيح)
وعَن مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ ، عَن أَبِيهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ بِمَكَّةَ وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا ابْنَةٌ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَيْسَ لِي إِلَّا ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ ؟ قَالَ : " لَا " ، قُلْتُ : فَبِالشَّطْرِ قَالَ : " لَا " ، قُلْتُ : فَبِالثُّلُثِ ؟ قَالَ : " الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ " (صحيح)
وقَالَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ سَعْدٍ: قَالَ سَعْدٌ : اشْتَكَيْتُ شَكْوَى لِي بِمَكَّةَ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُنِي فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي تَرَكْتُ مَالًا كَثِيرًا وَلَيْسَ لِي إِلَّا ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ أَفَأُوصِي بِثُلُثَيْ مَاليِ وَأَتْرُكُ لَهَا الثُّلُثَ ؟ قَالَ : " لَا " قُلْتُ : فَأُوصِي بِنِصْفِ مَالِي وَأَتْرُكُ لَهَا النِّصْفَ ؟ قَالَ : " لَا " قُلْتُ : فَأُوصِي بِالثُّلُثِ وَأَتْرُكُ لَهَا الثُّلُثَيْنِ ؟ قَالَ : " الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ " ثَلَاثًا ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِي فَمَسَحَ جَبْهَتِي ، وَقَالَ : " اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا وَأَتِمَّ لَهُ هِجْرَتَهُ " قَالَ : فَمَا زِلْتُ أَجِدُ بَرْدَ يَدِهِ حَتَّى السَّاعَةِ "(صحيح)(1/499)
وعَن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، قَالَ : عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَرَضٍ فَقَالَ : " أَوْصَيْتَ ؟ " قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : بِكَمْ ؟ قُلْتُ : بِمَالِي كُلِّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قَالَ : " فَمَا تَرَكْتَ لِوَلَدِكَ؟ " قُلْتُ : هُمْ أَغْنِيَاءُ ، قَالَ : " أَوْصِ بِالْعُشْرِ " ، فَمَا زَالَ يَقُولُ وَأَقُولُ حَتَّى قَالَ : " أَوْصِ بِالثُّلُثِ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ "(صحيح)
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ : فَنَحْنُ نَسْتَحِبُّ أَنْ نُنْقِصَ مِنَ الثُّلُثِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : " وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ "
فعَن سَعْدٍ ، قَالَ : عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا بِمَكَّةَ فَقَالَ : " أَوْصَيْتَ ؟ " قُلْتُ : نَعَمْ بِمَالِي كُلِّهِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، قَالَ : " أَوْصِ بِالْعُشْرِ " ، قُلْتُ : إِنَّ وَرَثَتِي أَغْنِيَاءُ ، قَالَ : " أَوْصِ بِالْعُشْرِ " ، فَلَمْ يَزَلْ يُنَاقِصُنِي وَأُنَاقِصُهُ حَتَّى قَالَ : " أَوْصِ بِالثُّلُثِ وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ " ، قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ : فَكَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُوصَى بِالثُّلُثِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : " وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ " ( صحيح)
وعَن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، أَنَّ رَجُلًا ، أَعْتَقَ سِتَّةً مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُمْ فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ ، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً وَقَالَ فِيهِ قَوْلًا شَدِيدًا " .(حسن)(1/500)
وعَن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَعْتَقَ سِتَّةً مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا غَيْرَهُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَغَضِبَ وَقَالَ : " هَمَمْتُ أَلَّا أُصَلِّيَ عَلَيْهِ " ثُمَّ دَعَا بِهِمْ فَجَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً"(حسن)
فَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِبْطَالِ الْوَصِيَّةِ فِيمَا يُجَاوِزُ الثُّلُثَ : فَقَالَ الَّذِينَ أَجَازُوا نَسْخَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ : السُّنَّةُ هِيَ الَّتِي نَسَخَتْ إِجَازَةَ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَأَبْطَلَتْهُ وَقَالَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى : السُّنَنُ لَمْ تَنْسَخْ مِنَ الْكِتَابِ شَيْئًا وَلَكِنَّهَا بَيَّنَتْ عَن خُصُوصِهِ وَعُمُومِهِ فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ : مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا بَعْضَ الْوَصَايَا دُونَ بَعْضٍ فأَرَادَ مَا كَانَ مِنَ الْوَصَايَا دُونَ الثُّلُثِ إِلَى الثُّلُثِ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ : أَوْ دَيْنٍ الدَّيْنَ كُلَّهُ عُمُومًا لَا خُصُوصَ فِيهِ وَبَدَأَ فِي كِتَابِهِ بِذِكْرِ الْوَصِيَّةِ قَبْلَ الدَّيْنِ ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الدَّيْنَ يُبْدَأُ بِهِ قَبْلَ الْوَصَايَا مِن جَمِيعِ الْمَالِ ، ثُمَّ الْوَصَايَا مِن بَعْدِ الدَّيْنِ فَخْرَّجَةٌ مِنَ الثُّلُثِ ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْعَمَلِ بِذَلِكَ مِن لَدُنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى يَوْمِنَا هَذَا يَتَوَارَثُونَ الْعَمَلَ بِذَلِكَ قَرْنًا عَن قَرْنٍ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ "(2/1)
وعَن عَلِيٍّ ، قَالَ : قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ وَأَنْتُمْ تَقْرَءُونَهَا : مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنَّ أَعْيَانَ بَنِي الْأُمِّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعِلَّاتِ "(حسن لغيره)
وعَن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ : مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ وَإِنَّ أَعْيَانَ بَنِي الْأُمِّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعِلَّاتِ يَرِثُ الرَّجُلُ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ دُونَ أَخِيهِ لِأَبِيهِ "
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ الْآيَةَ كُلَّهَا "
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : حَرَّمَ عَلَيْكُمْ سَبْعًا نَسَبًا وَسَبْعًا صِهْرًا "( صحيح)(2/2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : " حُرِّمَ مِنَ النَّسَبِ سَبْعٌ وَمِنَ الصِّهْرِ سَبْعٌ ، مِنَ النَّسَبِ : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ فَهَذَا النَّسَبُ ، وَمِنَ الصِّهْرِ : وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِن نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِن أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ، وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ " ( صحيح)
وعَن عَمْرِو بْنِ سَالِمٍ مَوْلَى الْأَنْصَارِ قَالَ : " حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ النَّسَبِ سَبْعًا وَمِنَ الصِّهْرِ سَبْعًا قَالَ : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَمِنَ الصِّهْرِ : وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ الْآيَةَ "( صحيح)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : فَحَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْآيَةِ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ، لَمْ يُحَرِّمِ الْجَمْعَ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ غَيْرِهِمَا ثُمَّ قَالَ : وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ فَحَرَّمَتِ السُّنَّةُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا "
فعَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، أَوْ عَلَى خَالَتِهَا "( صحيح)(2/3)
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا " ( صحيح)
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا يَجْمَعُ الرَّجُلُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا ، وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا "( صحيح)
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، أَوْ عَلَى خَالَتِهَا " ( صحيح)
وعَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، وَلَا الْعَمَّةُ عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا ، وَلَا بِنْتُ أُخْتِهَا عَلَى خَالَتِهَا ، وَلَا الْخَالَةُ عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا ، وَلَا تُنْكَحُ الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى وَلَا الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى " ( صحيح)
وعَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا "( صحيح)
وعَن عَاصِمٍ ، قَالَ : عَرَضْتُ عَلَى الشَّعْبِيِّ كِتَابًا فِيهِ عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، أَوْ عَلَى خَالَتِهَا " فَقَالَ : أَنَا سَمِعْتُهُ مِن جَابِرٍ"( صحيح)
وعَن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ : " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَن نِكَاحَيْنِ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ ، وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا " ( صحيح)(2/4)
وعَن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَن أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ ، وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا نِكَاحًا " ( صحيح)
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا " ( صحيح)
وعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَنَدَ إِلَى الْبَيْتِ فَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ فَقَالَ : " لَا تُسَافِرِ امْرَأَةٌ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ مَسِيرَةَ ثَلَاثِ لَيَالٍ ، وَلَا تَقْدُمَنَّ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا " ( صحيح)
وعَن عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَن أَبِيهِ ، عَن جَدِّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : " وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا "( صحيح)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " نَهَى أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ عَلَى خَالَتِهَا " ( صحيح)
وعَن عَائِشَةَ ، قَالَتْ : وُجِدَ فِي قَائِمِ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كِتَابَانِ فِي أَحَدِهِمَا " " وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا " ( صحيح)
وعَن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " نَهَى أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا ، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا "( صحيح)
وعَن سَالِمٍ ، عَن أَبِيهِ ، قَالَ : " " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَن نِكَاحَيْنِ : الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، وَعَلَى خَالَتِهَا " ( صحيح)(2/5)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَحَرَّمَ فِي الْآيَةِ امْرَأَتَيْنِ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَقَطْ : الْأُمُّ وَالْأُخْتُ لَمْ يُحَرِّمْ غَيْرَهُمَا مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ فَصَارَ اللَّازِمُ فِي الْحُكْمِ عَلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ وَعُمُومِهِ أَنْ يَكُونَ مَا وَرَاءَ مَا حُرِّمَ فِي الْآيَةِ مِنَ النِّسَاءِ مُحَلَّلَاتِ النِّكَاحِ بِقَوْلِهِ : وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ، فَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ الثَّابِتَةُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّهُ حَرَّمَ بِنْتَ الْأَخِ وَبِنْتَ الْأُخْتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يُحَرِّمُ مِنَ الْوِلَادَةِ "
فعَن عَائِشَةَ ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ عِنْدَهَا وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَستَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ يَستَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَرَاهُ فُلَانًا " ، - لِعَمِّ حَفْصَةَ - فَقَالَتْ عَائِشَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَوْ كَانَ فُلَانٌ حَيًّا - لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ - دَخَلَ عَلَيَّ ؟ قَالَ : " نَعَمْ إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ "( صحيح)
وعَن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا لَكَ تَتُوقُ فِي قُرَيْشٍ وَتَدَعُنَا ؟ فَقَالَ : " هَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ ؟ " فَقَالَ : بِنْتُ حَمْزَةَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ "( صحيح)(2/6)
وعَن عَلِيٍّ ، قَالَ : لَمَّا خَرَجْنَا مِن مَكَّةَ اتَّبَعَتْنِي ابْنَةُ حَمْزَةَ تُنَادِينِي يَا عَمُّ يَا عَمُّ ، فَتَنَاوَلْتُهَا بِيَدِهَا فَدَفَعتُهَا إِلَى فَاطِمَةَ فَقُلْتُ : دُونَكِ بِنْتُ عَمِّكِ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَتَزَوَّجُهَا ؟ فَقَالَ : " إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ " ( صحيح)
وعَن زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ ، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَنْكِحْ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ - لِأُختِهَا - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَوَ تُحِبِّينَ ذَلِكَ ؟ " قَالَتْ : نَعَمْ لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ مَن شَارَكَني فِي خَيْرٍ أُخْتِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِي " ، قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَقَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّكَ نَاكِحٌ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ ، قَالَ : بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي ، إِنَّهَا لَابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ " صحيح)(2/7)
وعَن زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ ، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَنْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَوَ تُحِبِّينَ ذَلِكَ ؟ " قَالَتْ : مَا أَنَا بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ مَن شَرَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي ، قَالَ : " فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ " ، قَالَتْ : فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَتَحَدَّثُ إِنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ ، قَالَ : " بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ ؟ " قَالَتْ : قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَوَاللَّهِ " لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا لَابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ " قَالَ عُرْوَةُ : وَكَانَتْ ثُوَيْبَةُ مَوْلَاةً لِأَبِي لَهَبٍ أَعْتَقَهَا فَأَرْضَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا مَاتَ رَأَى أَبَا لَهَبٍ بَعْضُ أَهْلِهِ فِي النَّوْمِ فَسَأَلَهُ : مَا وَجَدْتَ ؟ فَقَالَ : مَا وَجَدْتُ بَعْدَكُمْ رَاحَةً غَيْرَ أَنِّي سَقَيْتُ فِي هَذِهِ مِنِّي - فِي الثَّغْرَةِ الَّتِي بَيْنَ الْإِبْهَامِ وَبَيْنَ الَّتِي تَلِيهَا - بِعِتْقِي ثُوَيْبَةَ"( صحيح)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي أَثَرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَفِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ : كَانَتْ ثُوَيْبَةُ قَدْ أَرْضَعَتْ حَمْزَةَ أَيْضًا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَحَمْزَةُ وَأَبُو سَلَمَةَ إِخْوَةً بِإِرْضَاعِ ثُوَيْبَةَ إِيَّاهُمْ "(2/8)
وقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ ، أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا رَسُولَ اللَّهِ انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ ، فَزَعَمَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا : " أَوَ تُحِبِّينَ ذَلِكَ ؟ " قَالَتْ : نَعَمْ لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ مَن شَرَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي ، قَالَتْ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ " ، قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَتَحَدَّثُ أَنَّكَ لَتُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " ابْنَةُ أُمِّ سَلَمَةَ ؟ " قَالَتْ : نَعَمْ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " فَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا لَابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ " حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى ، ثنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ ، عَن يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِمٍ ، كَتَبَ يَذْكُرُ أَنَّ عُرْوَةَ ، حَدَّثَهُ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَتْهَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَتْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : انْكِحْ أُخْتِي عَزَّةَ ، نَحْوَ حَدِيثِ مَعْمَرٍ وَيَعْقُوبَ "( حسن)(2/9)
وعَن زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ ، قَالَتْ : جَاءَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ : هَلْ لَكَ فِي أُخْتِي ؟ قَالَ : " وَمَا أَصْنَعُ بِهَا ؟ " قَالَتْ : تَتَزَوَّجُهَا ، قَالَ : " وَتُحِبِّينَ ذَلِكَ ؟ " قَالَتْ : نَعَمْ لَسْتُ بِمُخْلِيَةٍ لَكَ وَأَحَبُّ مَن شَرَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي ، قَالَ : " فإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي " ، قَالَتْ : فَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّكَ تَخْطُبُ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ ، فَقَالَ : " إِنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي وَفِي حِجْرِي لَمْ تَحِلَّ لِي ، لَقَدْ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ - مَوْلَاةٌ لِبَنِي هَاشِمٍ - فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ "( صحيح)
وعَن عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ زَيْنَبَ ، حَدَّثَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّكَ نَاكِحٌ دُرَّةَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَوْ أَنِّي لَمْ أَنْكِحْ أُمَّ سَلَمَةَ مَا حَلَّتْ لِي ؛ إِنَّ أَبَاهَا أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ "( صحيح)
وعَنِ الْبَرَاءِ ، أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَلَا تَخْطُبُ بِنْتَ حَمْزَةَ ؟ فَقَالَ : " إِنَّ حَمْزَةَ أَخِي فِي الرَّضَاعَةِ " ( صحيح)(2/10)
وعن حُمَيْدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، قالَ : سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تَقُولُ : قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَيْنَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَن بِنْتِ حَمْزَةَ أَوْ قِيلَ أَلَا تَخْطُبُ بِنْتَ حَمْزَةَ ؟ فَقَالَ : " إِنَّ حَمْزَةَ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ " ( صحيح)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُرِيدَ عَلَى بِنْتِ حَمْزَةَ فَقَالَ : إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ وَإِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ "( صحيح)
وعَن أَبِي أُمَامَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ " ( صحيح)
وعَن عُرْوَةَ ، عَن عَائِشَةَ ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا ، وَهُوَ عَمُّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ قَالَتْ : فأبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ عَلَيَّ "( صحيح)
وعَن عَائِشَةَ ، قَالَتْ : جَاءَ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا فَقَالَ : إِنِّي عَمُّهَا فَأَبَتْ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : " أَفَلَا أَذِنْتِ لِعَمِّكِ ؟ " فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ قَالَ : فَأْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يَمِينُكِ ، وَكَانَ أَبُو الْقُعَيْسِ زَوْجَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرْضَعَتْ عَائِشَةَ "( صحيح)(2/11)
وقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ عَائِشَةَ ، أخْبَرَتْهُ أَنَّهَا ، جَاءَهَا أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ وَأَبُو الْقُعَيْسِ أَرْضَعَ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فجَاءَهَا - زَعَمَتْ - أَخُوهُ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا فَأَبَتْ أَنْ تَأْذنَ لَهُ حَتَّى ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ فَلَمْ آذَنْ لَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " وَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْذَنِي لِعَمِّكِ ؟ " فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا قَعِيسٍ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي ، إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " ائْذَنِي لَهُ حِينَ يَأْتِيكَ ، فَإِنَّهُ عَمُّكِ "( صحيح)
وعَن عَطَاءٍ ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ عَائِشَةَ ، أَخْبَرَتْهُ فَقَالَتْ ، : اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ عَمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ أَبُو الْجَعْدِ فَرَدَدْتُهُ ، فَقَالَ لِي هِشَامٌ : إِنَّمَا هُوَ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَخَبَرْتُهُ بِذَلِكَ ، قَالَ: " أَفَلَا أَذِنْتِ لَهُ ؟ تَرِبَتْ يَمِينُكِ أَوْ : يَدُكِ "( صحيح)
و قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لَهُ - يَعْنِي لِعَطَاءٍ - لَبَنُ الْفَحْلِ أَيُحَرِّمُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قُلْتُ : أَبَلَغَكَ مِن ثَبْتٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ اللَّهُ : وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَهِيَ أُخْتُكَ مِن أَبِيكَ".( صحيح)(2/12)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَحَرَّمَ اللَّهُ فِي الْآيَةِ الْأُمَّ وَالْأُخْتَ مِنَ الرَّضَاعَةِ لَمْ يَخُصَّ رَضَاعًا دُونَ رَضَاعٍ فَكَانَ الَّذِي يَلْزَمُ عَلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ ، وَعُمُومِهِ أَنْ يَحْرُمَ بِقَلِيلِ الرَّضَاعِ كَمَا يَحْرُمُ بِكَثِيرِهِ ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَن حَرَّمَ بِقَلِيلِ الرَّضَاعِ وَكَثِيرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَن بَعْدَهُمْ "
وعَن أَبِي الزُّبَيْرِ ، قَالَ : أَرْسَلَنِي عَطَاءٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَسَأَلْنَاهُ عَنِ الْمَرْأَةِ تُرْضِعُ الصَّبِيَّ فِي الْمَهْدِ رَضْعَةً وَاحِدَةً ، فَقَالَ : هِيَ عَلَيْهِ حَرَامٌ ، قَالَ : قُلْتُ : إِنَّ عَائِشَةَ ، وَابنَ الزُّبَيْرِ يَزْعُمَانِ أَنَّهُ لَا تُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ رَضْعَتَانِ ، قَالَ : كِتَابُ اللَّهِ أَصْدَقُ مِن قَوْلِهِمَا ثُمَّ قَرَأَ آيَةَ الرَّضَاعِ "( صحيح)(2/13)
وعَن عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، قَالَ : سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَن شَيْءٍ ، مِنَ الرَّضَاعِ فَقَالَ : لَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ الْأُخْتَ مِنَ الرَّضَاعَةِ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : فَإِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ : لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : قَضَاءُ اللَّهِ خَيْرٌ مِن قَضَائِكَ وَقَضَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : فَلَوْلَا الْخَبَرُ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ لَكَانَ الْعَمَلُ وَاجِبًا بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ فَلَمَّا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بِذِكْرِ الرَّضَاعَةِ بَعْضَ الرَّضَاعَةِ دُونَ بَعْضٍ "(صحيح)
وعَن أُمِّ الْفَضْلِ ، قَالَتْ : قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ "(صحيح)
وعَن عَائِشَةَ ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ ، وَلَا الْمَصَّتَانِ " (صحيح)
وعَنِ الزُّهْرِيِّ ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ ، حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَلَا الْمَصَّتَانِ " ( صحيح)
وعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ مِنَ الرَّضَاعَةِ " ( صحيح)(2/14)
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَا تُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ الْمَصَّةُ ، وَلَا الْمَصَّتَانِ لَا يُحَرِّمُ إِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ " ( صحيح)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا فَلَوْلَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ الْمُبَيِّنَةُ عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَوَجَبَ الْقَطْعُ عَلَى كُلِّ مَن لَزِمَهُ اسْمُ سَارِقٍ قَلَّتْ سَرِقَتُهُ أَمْ كَثُرَتْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَمَّ كُلَّ سَارِقٍ وَسَارِقَةٍ لَمْ يَخُصَّ سَارِقًا دُونَ سَارِقٍ ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَنَّ أَنَّ السَّارِقَ لَا يُقْطَعُ حَتَّى تَبْلُغَ سَرِقَتُهُ قِيمَةً اخْتَلَفُوا فِي مَبْلَغِ تِلَكَ الْقِيمَةِ ، وَالْخَبَرُ الثَّابِتُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ أَزَالَ الْقَطْعَ عَمَن سَرَقَ أَقَلَّ مِن رُبْعِ دِينَارٍ ، فَقَالَ الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا "
فعَن عَائِشَةَ ، عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا "( صحيح)
وعَن عَائِشَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا" ( صحيح)
وعَن عَائِشَةَ ، زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا " ( صحيح)
وعَن عَائِشَةَ ، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا " ( صحيح)(2/15)
وعَن عَمْرَةَ ، أَنَّهَا سَمِعتْ عَائِشَةَ ، تُحَدِّثُ أَنَّهَا سَمِعتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَمَا فَوْقَهُ "( صحيح)
وعَن عَائِشَةَ ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ "( صحيح)
وعَن عَائِشَةَ ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا " ( صحيح)
وعَن عَائِشَةَ ، قَالَتْ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا "( صحيح)(2/16)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : فَقَالَ الَّذِينَ أَجَازُوا نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ كَانَ الْقَطْعُ عِنْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا وَبَعْدَ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ سَارِقٍ قَلَّتْ سَرِقَتُهُ أَمْ كَثُرَتْ إِلَى أَنْ أَسْقَطَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْقَطْعَ عَمَن سَرَقَ أَقَلَّ مِن رُبْعِ دِينَارٍ فَصَارَ بَعْضُ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِقَطْعِ السَّارِقِ مَنسُوخًا بِسُنَّةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَمَا فِيهَا مُحْكَمٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ لَمْ تَنْسَخِ السُّنَّةُ مِنَ الْكِتَابِ شَيْئًا ، وَلَكِنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهَا عَامًّا فِي التِّلَاوَةِ فَهِيَ خَاصَّةٌ فِي الْمَعْنَى الْمَعْنِيِّ بِهَا بَعْضَ السُّرَّاقِ دُونَ بَعْضٍ ، وَنَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ نِكَاحَ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ فَقَالَ : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ فَكَانَ ذَلِكَ عَامًّا فِي الظَّاهِرِ وَاقِعًا عَلَى جَمِيعِ الْمُشْرِكَاتِ ، وَأَحَلَّ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ نِكَاحَ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُنَّ مُشْرِكَاتٌ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنهُمْ : كَانَ نِكَاحُ الْمُشْرِكَاتِ جَمِيعًا : الْكِتَابِيَّاتِ وَغَيْرِهِنَّ مُحَرَّمًا فِي الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَحْرِيمَ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَأَحَلَّهُنَّ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَتَرَكَ سَائِرَ الْمُشْرِكَاتِ مُحَرَّمَاتٍ عَلَى حَالِهِنَّ ، فَبَعْضُ الْآيَةِ الْأُولَى فِي هَذَا الْقَوْلِ مَنسُوخٌ وَبَاقِيهَا مُحْكَمٌ ، رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ(2/17)
عَن جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ "
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ، الْآيَةَ ، فَنَسَخَ مِن ذَلِكَ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ فأَحَلَّهُنَّ لِلْمُسْلِمِينَ وَحَرَّمَ الْمُسْلِمَاتِ عَلَى رِجَالِهِمْ" (صحيح)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ حَجَرَ النَّاسُ أَنْفُسَهُمْ عَنهُنَّ حَتَّى نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ قَالَ : فَنَكَحَ النَّاسُ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ "( صحيح)
وعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، فِي قَوْلِهِ : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ قَالَ : نَزَلَتِ الَّتِي بَعْدَهَا فِي الْمَائِدَةِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَاستَثْنَى مِنَ الْمُشْرِكَاتِ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ "(حسن)
وعَن مَكْحُولٍ ، قَالَ : لَا تَنْكِحُوا مِن نِسَاءِ الْمَجُوسِ حُرَّةً وَلَا أَمَةً فِي حَضَرٍ ، وَلَا فِي غَزْوٍ حَتَّى يُسْلِمْنَ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فَأَحَلَّ لَهُمُ الْيَهُودِيَّاتِ وَالنَّصرَانِيَّاتِ وَتَرَكَ سَائِرَهُنَّ" قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَقَالَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ : لَيْسَ فِي الْآيَتَيْنِ نَاسِخٌ وَلَا مَنسُوخٌ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ الْمُشْرِكَاتِ سِوَى أَهْلِ الْكِتَابِ "
عَن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، فِي قَوْلِ اللَّهِ : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ قَالَ : " أَهْلُ الْأَوْثَانِ "( صحيح)(2/18)
وعَن قَتَادَةَ ، فِي قَوْلِهِ : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ قَالَ : " يَعْنِي مُشْرِكَاتِ الْعَرَبِ مِن عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ " ( صحيح)
وعَن قَتَادَةَ ، فِي قولِهِ : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ، قَالَ : " الْمُشْرِكَاتُ مِمَن لَيْسَ مِن أَهْلِ الْكِتَابِ "( صحيح)(2/19)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَمَذْهَبُ الشَّافِعيِّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى مَا أَعْلَمْتُكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي وَاحِدَةٍ مِنهَا نَاسِخٌ وَلَا مَنسُوخٌ ، إِلَّا أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ وَمِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْمُفَسَّرُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ آيتَيْنِ جَاءَتَا فِي كِتَابِ اللَّهِ مَخْرَجُ إِحْدَاهُمَا عَامٌّ يُحَرِّمُ أَشْيَاءَ أَوْ يُحِلُّهَا تَحْرِيمًا أَوْ حَلَالًا عَامًّا فِي الظَّاهِرِ ، وَالْأُخْرَى تَخُصُّ بَعْضَ الْعُمُومِ بِالتَّحْرِيمِ فَيُحِلُّهُ أَوْ يَخُصُّ بَعْضَ الْعُمُومِ بِالْإِحْلَالِ فَتُحَرِّمُهُ ، ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ إِحْدَى الْآيَتَيْنِ تُوجِبُ فَرْضًا عَامًّا ، وَالْأُخْرَى تَخُصُّ بَعْضَ الْفَرْضِ فتُسْقِطُهُ ، فَفِي ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ نَحْوٌ مِمَّا حَكَيْنَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ تَرَكْنَا حِكَايَةَ جَمِيعِ ذَلِكَ كَرَاهةً لِلتَّطْوِيلِ ، وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى كَثِيرٍ مِن ذَلِكَ فِي سَائِرِ كُتُبِنَا ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ آيَةٍ جَاءَتْ تَعُمُّ فَرْضَ شَيْءٍ أَوْ تُحِلُّهُ أَوْ تُحَرِّمُهُ ، وَجَاءَتِ السُّنَّةُ بإِسْقَاطِ بَعْضِ الْفَرْضِ الْمَعْمُومِ فِي الْآيَةِ ، أَوْ بإِحْلَالِ بَعْضِ الْمَعْمُومِ تَحْرِيمُهُ أَوْ تَحْرِيمُ بَعْضِ الْمَعْمُومِ إِحلَالُهُ فَفي ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ نَحْوٌ مِمَّا قَدْ حَكَيْتُ كَثِيرًا مِنهُ ، وَمِن ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَاسمُ الزَّانِي وَقَعَ عَلَى الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الزَّانِيَيْنِ حَدٌ مَعْلُومٌ كَانَتْ عُقُوبَتُهُمَا الْحَبْسَ وَالْأَذَى كَذَلِكَ(2/20)
"
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فِي قولِهِ : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِسَائِكُمْ الْآيَةَ ، قَالَ : " كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا فَجَرَتْ حُبِسَتْ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ - يَعْنِي قَوْلَهُ : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا فَجُعِلَ سَبِيلُهُمُ الْحُدُودَ " ( صحيح)
وعَن مُجَاهِدٍ : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِسَائِكُمْ قَالَ : الزِّنَا ، قَالَ : كَانَ أُمِرَ بِحَبْسِهِنَّ حِينَ يَشْهدُ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ حَتَّى يَمُتْنَ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ، وَالسَّبِيلُ الْحَدُّ وَفي قَوْلِ اللَّهِ : وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ الرَّجُلَانِ الزَّانِيَانِ فَآذُوهُمَا ، قَالَ : سَبًّا كُلُّ هَذَا نَسَخَتْهُ الْآيَةُ الَّتِي فِي النُّورِ بِالْحَدِّ الْمَفْرُوضِ " ( صحيح)
وعَن قَتَادَةَ ، : فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا قَالَ : كَانَ هَذَا قَبْلَ الْحُدُودِ كَانَا يُؤْذَيَانِ جَمِيعًا فَتُحْبَسُ الْمَرْأَةُ ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بَعْدَ ذَلِكَ ، فَجُعِلَ سَبِيلُ مَن أُحْصِنَ جَلْدَ مِائَةٍ ، ثُمَّ رَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ ، وَمَن لَمْ يُحْصَنْ جَلْدَ مِائَةٍ وَنَفْيَ سَنَةٍ " ( صحيح)
وعَن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُنْزِلَ ذَاتَ يوْمٍ فَنَكَّسَ أَصْحَابُهُ ، فَلَمَّا سُرِّيَ رَفَعَ أَصْحَابُهُ رُءُوسَهُمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ، الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ ثُمَّ رَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ ، وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ " ( صحيح لغيره)(2/21)
وعَن قَتَادَةَ ، : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا قَالَ : كَانَتْ هَذِهِ قَبْلَ الْحُدُودِ : وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنهُمَا قَالَ : كَانَ هَذَا أَوَّلَ أَمْرٍ كَانَ فِيهِمَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ تُحْبَسُ وَيُؤْذَيَانِ بِالْقَوْلِ وَالشَّتِيمَةِ جَمِيعًا ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النُّورِ فَجَعَلَ لَهُنَّ سَبِيلًا : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ " ( صحيح)
وعَن قَتَادَةَ ، وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ الْآيَةَ ، قَالَ : نَسَخَتْهَا الْحُدُودُ " ( صحيح)
وعَن قَتَادَةَ ، فِي قَوْلِهِ : فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ قَالَ : نَسَخَتْهَا الْحُدُودُ " ( صحيح)
وعن عُبَيْدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْبَاهِلِيِّ ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ : أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا : الْحَدُّ نَسَخَ هَذِهِ الْآيَةَ " ( صحيح)(2/22)
وعَن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، قَالَ : أَنْزَلَ اللَّهُ : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا فَكَانَ عُقُوبَةُ ذَلِكَ الْحَبْسَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " خُذُوا خُذُوا قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ ، وَنَفْيُ سَنَةٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ " ( صحيح لغيره)
وعَن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ " ( صحيح)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَحَكَى الْمِصْرِيُّونَ عَنِ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ : كَانَتِ الْعُقُوبَاتُ فِي الْمَعَاصِي قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ ثُمَّ نَزَلَتِ الْحُدُودُ فَنُسِخَتِ الْعُقُوبَاتُ فِيمَا فِيهِ الْحُدُودُ "
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُرَّةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَا تَقُولُونَ فِي الشَّارِبِ وَالزَّانِي وَالسَّارِقِ؟ " - وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ - قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولَهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : " هُنَّ فَوَاحِشُ وَفِيهِنَّ عُقُوبَةٌ " ( صحيح مرسل)(2/23)
قَالَ الشَّافِعِيُّ : مِثْلُ مَعْنَى هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ، قَالَ اللَّهُ : " وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِسَائِكُمْ الْآيَةَ ، وَالَّتِي بَعْدَهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ عُقُوبَةِ الزَّانِيَيْنِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ نَسَخَ هَذَا عَنِ الزُّنَاةِ كُلِّهِنَّ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فَحَدَّ اللَّهُ الْبِكْرَيْنِ الْحُرَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ ، فَقَالَ : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ، وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الَّذِي :
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ ، وَشِبْلِ بْنِ مَعْبَدٍ ، قَالُوا : كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَلَّا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَقَامَ خَصْمُهُ وَكَانَ أَفْقَهَ مِنهُ فَقَالَ : صَدَقَ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَائْذَنْ لِي فَقَالَ : قُلْ ، فَقَالَ : إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا وَإِنَّهُ زَنَى بِامْرَأَتِهِ فَافْتَدَيْتُ مِنهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ ، ثُمَّ سَأَلْتُ رِجَالًا مِن أَهْلِ الْعِلْمِ ، فَأَخْبَرُوني أَنَّ عَلَى ابْنِكَ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ ، وَعَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ ، الْمِائَةُ شَاةٍ وَالْخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْكَ ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا ، فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا ". النُّعْمَانِ بْنِ مُرَّةَ(2/24)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَوْلَهُ : " خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي " قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ مَا نُسِخَ مِن حَبْسِ الزَّانِيَيْنِ وَإِيذَائِهِمَا وَأَوَّلَ حَدَّينِ نَزَلَ فِيهِمَا ثُمَّ نُسِخَ الْجَلْدُ عَنِ الثَّيِّبَيْنِ وَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا الرَّجْمَ ، فَرَجَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - امْرَأَةَ الرَّجُلِ وَلَمْ يَجْلِدْهَا ، وَرَجَمَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ وَلَمْ يَجْلِدْهُ ، وَرَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ وَلَمْ يَجْلِدْهُمَا"
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ ، وَشِبْلٍ ، أَنَّهُمْ قَالُوا : رَجَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَجْلِدْ". النُّعْمَانِ بْنِ مُرَّةَ(2/25)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ امْرَأَةَ الرَّجُلِ وَمَاعِزًا بَعْدَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : عَلَى الثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ ؟ ، قِيلَ : إِذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : خُذُوا عَنِّي فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ، الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ ، فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ أَوَّلَ حَدِّ الزَّانِيَيْنِ وَإِذَا كَانَ أَوَّلًا فَكُلُّ حَدٍّ جَاءَ بَالِغُهُ ، فَالْعِلْمُ يُحيطُ أَنَّهُ بَعْدَهُ وَالَّذِي بَعْدَهُ يَنْسَخُ مَا قَبْلَهُ إِذَا كَانَ يُخَالِفُهُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْفُتْيَا مِن أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَغَيْرِهِمْ مِن أَهْلِ الْأَثَرِ أَنَّ عَلَى الزَّانِي الْبِكْرِ الَّذِي لَمْ يُحْصَنْ جَلْدَ مِائَةٍ وَنَفْيَ سَنَةٍ ، وَعَلَى الثَّيِّبِ الَّذِي قَدْ أُحْصِنَ الرَّجْمَ وَلَا جَلْدَ عَلَيْهِ ، فَمَنُ عَرَفَ مِنهُمْ حَدِيثَ عُبَادَةَ وَثَبَتَهُ زَعَمَ أَنَّهُ جَلَدَ الزَّانِيَيْنِ الْبِكْرَيْنِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَنَفَاهُمَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَاحْتَجَّ فِي نَفْيِهِ إِيَّاهُمَا بِحَدِيثِ عُبَادَةَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي رُوِيَتْ فِي النَّفْيِ ، وَأَنَّهُ أَسْقَطَ الْجَلْدَ عَنِ الثَّيِّبَيْنِ وَأَثْبَتَ عَلَيْهِمَا الرَّجْمَ بِالْأَخْبَارِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الشَّافِعِيُّ ، وَجَعَلَ الْجَلْدَ مَنسُوخًا عَنِ الثَّيِّبَيْنِ بِالسُّنَّةِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : فَقَدْ أَثْبَتَ الشَّافِعيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْجَلْدَ مَعَ(2/26)
النَّفْيِ عَلَى الْبِكْرَيْنِ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ فِي جَلْدِ الزَّانِيَيْنِ الْجَلْدُ بِالْكِتَابِ والسُّنَّة وَالنَّفْيُ بِالسُّنَّةِ ، وَكَذَلِكَ أَثْبَتَ الْجَلْدَ مَعَ الرَّجْمِ عَلَى الثَّيِّبَيْنِ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ : الْجَلْدُ بِالْكِتَابِ والسُّنَّة وَالرَّجْمُ بِالسُّنَّةِ ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ حَدِّ الزَّانِيَيْنِ الثَّيِّبَيْنِ ، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ رَفَعَ الْجَلْدَ عَنِ الثَّيِّبَيْنِ وَأَثْبَتَ عَلَيْهَا الرَّجْمَ ، فَأَقَرَّ بِأَنَّ الْجَلْدَ الَّذِي كَانَ وَاجِبًا عَلَى الثَّيِّبَيْنِ بِكِتَابِ اللَّهِ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ قَدْ رَفَعَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ ، فَصَارَ الْجَلْدُ عَنهُمَا مَنسُوخًا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، هَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ وَاضِحٌ غَيْرُ مُشْكِلٍ ، وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفوَا حَدِيثَ عُبَادَةَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي الْآيَةِ أَحَدَ قَوْلَيْنِ ، - كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا - مَن أَجَازَ مِنهُمْ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ جَعَلَ بَعْضَ الْآيَةِ مَنسُوخًا بِالسُّنَّةِ ، وَبَاقِيَهَا مُحْكَمٌ ، وَجَعَلَهَا الْفَرِيقُ الْآخَرُ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ ، فَقَالُوا : أَرَادَ بِقَوْلِهِ : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا الْبِكْرَيْنِ غَيْرَ الْمُحْصَنَتَيْنِ دُونَ الثَّيِّبَيْنِ الْمُحَصَنَيْنِ ، هَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَقَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِن أَهْلِ عَصْرِنَا وَقُرْبِهِ إِلَى إِيجَابِ الْعَمَلِ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ عَلَى وَجْهِهِ فَأَوْجَبُوا عَلَى(2/27)
الزَّانِيَيْنِ الْبِكْرَيْنِ جَلْدَ مِائَةً بِكِتَابِ اللَّهِ وَنَفْيَ سَنَةٍ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَوْجَبُوا عَلَى الزَّانِيَيْنِ الثَّيِّبَيْنِ الْجَلْدَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَالرَّجْمَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَقَالُوا : قد عَمِلَ بِذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَفْتَى بِهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَقَالُوا : لَيْسَ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى إِسْقَاطِ الْجَلْدِ عَنِ الثَّيِّبَيْنِ دَلِيلُ نَصٍّ يُوجِبُ رَفْعَ الْجَلْدِ عَنهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا ذِكْرٌ لِلْجَلْدِ بِوَاحِدَةٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ جَلَدَهُمَا وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْحَدِيثِ ، وَلَعَلَّهُمْ إِنَّمَا اختَصُروَا ذِكْرَهُ مِنَ الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوَا الْجَلْدَ ثَابِتًا عَلَى الزَّانِيَيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاسْتَغْنَوْا بِكِتَابِ اللَّهِ عَن ذِكْرِهِ فِي السُّنَّةِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا الرَّجْمَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ذِكْرٌ ؛ لِيَنْتَشِرَ ذِكْرُهْ فِي النَّاسِ وَيَشِيعَ فِي الْعَامَّةِ ؛ فَيَعْلَمُوا أَنَّهُ سُنَّةٌ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَا يُمْكِنُهُمْ إِنكَارُهُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أنْكَرَهُ نَاسٌ مِن أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ "(2/28)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أَلَا إِنَّ الرَّجْمَ حَدٌّ مِن حُدُودِ اللَّهِ فَلَا تُخْدَعُنَّ عَنهُ ، أَلَا إِنَّ آيَةَ ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ رَجَمَ ، وَرَجَمَ أَبُو بَكْرٍ ، وَرَجَمْنَا مِن بَعْدِهِمَا ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَكْتُبَ فِي نَاحِيَةِ : الْمُصْحَفِ شَهِدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجَمَ ، أَلَا إِنَّهُ سَيَأْتِي مِن بَعْدِكُمْ أَقْوَامٌ يُكَذِّبُونَ بِالرَّجْمِ وَبِالدَّجَّالِ ، وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ ، وَالشَّفَاعَةِ ، وَقَوْمٌ يُخْرَجُونَ مِنَ النَّارِ بَعْدَمَا امْتَحَشُوا "(حسن)
وعَنِ الشَّيْبَانِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَامِرًا ، يَقُولُ : جَلَدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ امْرَأَةً ، ثُمَّ رَجَمَهَا فَقَالَ : جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَرَجَمْتُهَا بِالسُّنَّةِ " ( صحيح لغيره)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ ، أَنَّ عَلِيًّا جَلَدَ شُرَاحَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ، وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَقَالَ : أَجْلِدُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَأَرْجُمُهَا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "( صحيح لغيره)
و قَالَ الشَّعْبِيَّ: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ جَلْدُ مِائَةٍ ، وَالرَّجْمُ الْبَتَّةَ ، فَقِيلَ لِلشَّعْبِيِّ : أَيُجْمَعَانِ عَلَيْهِمَا ؟ فَقَالَ : فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو الحَسَنٍ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي هَذِهِ الرَّحْبَةِ بِفُلَانٍ وَفُلَانَةَ ، جَلَدَهُمَا مِائَةً وَرَجَمَهُمَا "( صحيح لغيره)(2/29)
وعَن عَلِيٍّ أَنَّ امْرَأَةً ، أَتَتْهُ فَقَالَتْ : إِنِّي زَنَيْتُ ، فَقَالَ : " لَعَلَّكِ أُوتِيتِ وَأَنْتِ نَائِمَةٌ فِي فِرَاشِكِ فَأُكْرِهْتِ ؟ " فَقَالَتْ : زَنَيْتُ طَائِعَةً غَيْرَ مُكْرَهَةٍ ، قَالَ : " لَعَلَّكِ غُصِبْتِ عَلَى نَفْسِكِ ؟ " قَالَتْ : مَا غُصِبْتُ ، فَحَبَسَهَا فَلَمَّا وَلَدَتْ ، وَشَبَّ ابْنُهَا جَلَدَهَا ، ثُمَّ أَمَرَ فَحُفِرَ لَهَا إِلَى مَنكِبِهَا فِي الرَّحْبَةِ ثُمَّ أُدْخِلَتْ فِيهَا ، ثُمَّ رَمَى وَرَمَيْنَا فَقَالَ : " جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - " (حسن)
وعَن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ : " يُجْلَدُ الرَّجُلُ إِذَا زَنَى وَلَمْ يُحْصِنْ ، ثُمَّ يُنْفَى وَيُجْلَدُ الَّذِي قَدْ أُحْصِنَ ثُمَّ يُرْجَمُ " (صحيح)
وعَن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ : " الْبِكْرَانِ يُجْلَدَانِ وَيُنْفَيَانِ وَالثَّيِّبَانِ يُجْلَدَانِ وَيُرْجَمَانِ " (حسن لغيره)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَمِن ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فَصَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ "
عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ " يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ تَطُوُّعٍا فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَكْتُوبَةَ نَزَلَ فَيُصَلِّي مُسْتَقْبِلَ القبلة " (صحيح)(2/30)
وعَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مُتَطَوِّعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ فِي السَّفَرِ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَكْتُوبَةَ نَزَلَ عَن دَابَّتِهِ ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ " (صحيح)
وعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ، يَقُولُ : رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ النَّوَافِلَ فِي كُلِّ جِهَةٍ وَلَكِنَّهُ يُخَفِّضُ السَّجْدَتَيْنِ مِنَ الرَّكْعَةِ وَيُومِئُ إِيمَاءً "(صحيح)
وعَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي تَطَوُّعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ فِي غَزْوَةِ أَنْمَارٍ "(صحيح)
وعَنِ الزُّهْرِيِّ ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، عَن أَبِيهِ ، قَالَ : " رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ النَّوَافِلَ فِي كُلِّ وُجْهَةٍ " (صحيح)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَبِّحُ وَهُوَ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، وَيُومِئُ بِرَأْسِهِ قِبَلَ أَيِّ وُجْهَةٍ تُوَجِّهُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ "(صحيح)(2/31)
وعَنِ الزُّهْرِيِّ ، وَسَأَلْتُهُ ، عَن مُسَافِرٍ صَلَّى مُتَطَوِّعًا عَلَى ظَهْرِ دَابَّتِهِ وَوَجْهُهُ نَحْوَ الْمَشْرِقِ ، أَوِ الْمَغْرِبِ ؟ فَقَالَ : حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُسَبِّحُ وَهُوَ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ لَا يُبَالِي حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ وَيُومِئُ بِرَأْسِهِ إِيمَاءً ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ " (صحيح)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، قَالَ : قَالَ سَالِمٌ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُسَافِرٌ ، وَلَا يُبَالِي حَيْثُ مَا كَانَ وَجْهُهُ ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ قَبِلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ " (صحيح)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي سُبْحَتَهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ ، قَالَ نَافِعٌ : وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ "(صحيح)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ ، وَيَقُولُ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ "(صحيح)
وعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ، قَالَ : رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ ، وَيَقُولُ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ "(صحيح)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : " رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى خَيْبَرَ "(صحيح)(2/32)
وعَن أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ ، قَالَ : رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُصَلِّي عَلَى حِمَارِهِ مِن قِبَلِ الْمَشْرِقِ ، وَقُلْتُ : رَأَيْتُكَ تُصَلِّي لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ ، قَالَ : لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ يَعْنِي مَا فَعَلْتُهُ"(صحيح)
وعَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي عَلَى نَاقَتِهِ تَطَوُّعًا فِي السَّفَرِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ " (صحيح)
وعَن أَبِي مُوسَى ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " الصَّلَاةُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا " ، وَأَشَارَ أَبُو عَاصِمٍ عَن يَمِينِهِ ، وَعَن يَسَارِهِ ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ".(صحيح)(2/33)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : فَقَالَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي أَجَازَتْ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ : نَسَخَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِسُنَّتِهِ فَرْضَ تَوَجُّهِ الْمُسَافِرِ بِوَجْهِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ إِذَا صَلَّى تَطَوُّعًا رَاكِبَا ، فَصَارَتِ الْآيَةُ مَنسُوخَةً عَنِ الْمُسَافِرِ الْمُصَلِّي رَاكِبَا تَطَوُّعًا مُحْكَمَةً مُسْتَعْمِلَةً فِي سَائِرِ الْمُصَلِّينَ ، وَأَبَى الْآخَرُونَ ذَلِكَ ، وَقَالُوا : بَلِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ بِأَسْرِهَا لَيْسَ مِنهَا مَنسُوخٌ غَيْرَ أَنَّهَا مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ ، فَأُرِيدَ بِهَا جَمِيعُ الْمُصَلِّينَ غَيْرَ الْمُسَافِرِ الْمُتَطَوِّعِ بِالصَّلَاةِ فِي حَالِ رُكُوبِهِ فَالتَّطَوُّعُ بِالصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ سُنَّةٌ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُبَيِّنَةٌ عَن خُصُوصِ الْآيَةِ وَلَيْسَتْ بِنَاسِخَةٍ لِشَيْءٍ مِنهَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَمِن ذَلِكَ قَوْلُهُ : إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فَقَالَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ : أَوْجَبَ اللَّهُ فِي الْآيَةِ غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِسُنَّتِهِ فَغَسَلَ قَدَمَيْهُ ، وَأَمَرَ بِذَلِكَ ، وَأَوْعَدَ عَلَى تَرْكِ غَسْلِهِمَا ، وَوَعَدَ الثَّوَابَ عَلَى غَسْلِهِمَا ، ثُمَّ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَأَمَرَ بِهِ ، فَنُسِخَ غَسْلُ الْقَدَمَيْنِ عَنهُمَا إِذَا كَانَا مُتَغَطِّيَيْنِ بِخُفَّيْنِ قَدْ لَبِسَهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ ، وَبَقِيَ فَرْضُ الْغُسْلِ عَلَيْهِمَا إِذَا كَانَتَا مَكْشُوفَتَيْنِ ، وَأَبَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى ذَلِكَ ،(2/34)
وَقَالَتْ : إِنَّمَا فَرَضَ اللَّهُ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ فِي الْآيَةِ إِذَا لَمْ يَكُونَا فِي خُفَّيْنِ قَدْ أُدْخِلَتَا فِيهِمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ ، وَإِيَّاهُمَا أَرَادَ بِفَرْضِ الْغُسْلِ خُصُوصًا لَا عُمُومًا ، فَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ سُنَّةٌ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُبَيِّنَةٌ عَلَى خُصُوصِ الْآيَةِ لَيْسَتْ بِنَاسِخَةٍ لِشَيْءٍ مِنهَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَقَدْ أَنْكَرَ طَوَائِفُ مِن أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ مِنَ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنَ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ خِلَافٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَمَن أَنْكَرَ ذَلِكَ لَزِمَهُ إِنْكَارُ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ السُّنَنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ نَذْكُرْ ، وَذَلِكَ خُرُوجٌ مِن جَمَاعَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ".(2/35)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَمِن ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ الْآيَةَ وَالَّتِي تَلِيهَا ، وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ الْآيَةَ ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَوْرِيثَ الْأَوْلَادِ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْآبَاءِ ، وَالْأُمَّهَاتِ مِنَ الْأَوْلَادِ ، وَالزَّوْجَيْنِ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ ، وَسَائِرِ مَن وَرِثَ مِنَ الْقَرَابَاتِ بَعْضِهِمْ مِن بَعْضٍ ذِكْرًا عَامًّا لَمْ يُخِصَّ بَعْضَ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ دُونَ بَعْضٍ ، وَلَا بَعْضَ الْأَزْوَاجِ دُونَ بَعْضٍ ، فَجَاءَ الْخَبَرُ الثَّابِتُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ ، وَلَا الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْكَافِرَ ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْفُتْيَا مِن عُلَمَاءِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ ، وَمِن أَهْلِ الْأَثَرِ وَالرَّأْيِ جَمِيعًا عَلَى الْقَوْلِ بِجُمْلَةِ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِلْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي ذَلِكَ "
وعَن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ ، وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ "(صحيح)
وقال يُونُسُ: سَأَلْتُ ابْنَ شِهَابٍ : هَلْ يَتَوَارَثُ الْمُسْلِمُونَ وَالنَّصَارَى ؟ فقَالَ ابْنُ شِهَابٍ : " قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُمْ لَا يَتَوَارَثُونَ ، وَأَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ ، وَعُثْمَانُ " (صحيح)(2/36)
وعَن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ ، وَلَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ " (صحيح)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : فَقَالَ الَّذِينَ أَجَازُوا نَسْخَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ : قَدْ نَطَقَ الْكِتَابُ بِتَوْرِيثِ الْأَوْلَادِ مِنَ الْآبَاءِ ، وَالْآبَاءِ مِنَ الْأَوْلَادِ ، وَالزَّوْجَيْنَ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ ، وَلَمْ يَخُصَّ مُسْلِمًا دُونَ كَافِرٍ ، فَنَسَخَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِسُنَّتِهِ تَوْرِيثَ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ ، وَالْكَافِرِ مِنَ الْمُسْلِمِ ، لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ تَوْرِيثُ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ ثَابِتًا بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُونَ ذَلِكَ ، وَقَالُوا : هَذَا مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِئْنَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَرِثُونَ الْكُفَّارَ وَأَنَّهُمْ يَرِثُهُمُ الْكُفَّارُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ ، بَلِ الْخَبَرُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ وَرِثَهُ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ وَلَمْ يَرِثْهُ عَلِيٌّ وَلَا جَعْفَرٌ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا ، وَكَانَ عَقِيلٌ ، وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ فَوَرِثَاهُ دُونَ عَلِيٍّ ، وَجَعْفَرٍ ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ فَلَمْ يَرِثَاهُ ، وَكَانَ مَوْتُ أَبِي طَالِبٍ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ ، وَآيَاتُ الْمَوَارِيثِ إِنَّمَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ "(2/37)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، أَخْبَرَهُ عَن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَتَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ ؟ قَالَ : " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِن رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ ؟ " ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلَا عَلِيٌّ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَكَانَ عَقِيلٌ ، وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ "(صحيح)
وعَن عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمْ يَرِثْ أَبَا طَالِبٍ وَإِنَّمَا وَرِثَهُ عَقِيلٌ ، وَطَالِبٌ ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ : مِن أَجْلِ ذَلِكَ تَرَكْنَا نَصِيبَنَا مِنَ الشِّعْبِ"( منقطع)
وعَن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، عَن رَسُولِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ " ، قَالَ : وَوَرَّثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَقِيلًا وَطَالِبًا مِن أَبِي طَالِبٍ وَلَمْ يُوَرِّثْ عَلِيًّا ، وَلَا جَعْفَرًا ، وَقَالَ : فَلِذَلِكَ تَرَكْنَا نَصِيبَنَا مِنَ الشِّعْبِ" (صحيح)(2/38)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : قَالَ هَؤُلَاءِ : فَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّوَارُثَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ لَمْ تَزَلْ مُنْقَطِعَةً عَلِمْنَا أَنَّ الْآيَاتِ الْمُنْزَلَاتِ فِي الْمَوَارِيثِ وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهَا عَامًّا فِي التِّلَاوَةِ ، إِنَّمَا هِيَ خَاصٌّ فِي الْمَعْنَى ، الْمُرَادُ بِهَا الْأَحْرَارُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ قَاتِلُ عَمْدٍ لِلْمَيِّتِ وَلَيْسَ فِيهَا مَنسُوخٌ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَاحْتَجَّ الَّذِينَ قَالُوا : إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْسَخْ شَيْئًا مِن أَحْكَامِ كِتَابِهِ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ قَالُوا : جَعَلَ اللَّهُ كِتَابَهُ الْمُهَيْمِنَ الْمُصَدَّقَ الشَّاهِدَ عَلَى مَا مَضَى مِن كُتُبِهِ وَالنَّاسِخَ لِبَعْضِ أَحْكَامِهَا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ خَاتَمَ الْكُتُبِ فَأَمَرَ أَنْ يُعْتَصَمَ بِحَبْلِهِ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ قَدْ نَسَخَ بَعْضَهُ وَبَدَّلَ حُكْمَهُ ؟ قَالُوا : وَأَخْبَرَنَا رَبُّنَا أَنَّهُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَنُورٌ ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنهُ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُ مُبَدَّلًا بِالسُّنَّةِ ، لَكَانَ بَعْضُهُ عَمَاءً لِمَن اتَّبَعَهُ ، وَكَانَ عَلَى الْخَلْقِ إِذَا أَقَرُّوا أَحْكَامَهُ أَنْ لَا يَحْكُمُوا بِهَا حَتَّى يَطْلُبُوا الْعِلْمَ فِي السُّنَّةِ ، هَلْ بَدَّلَتْ بَعْضَ أَحْكَامِهِ أَمْ لَمْ تُبَدِّلْهُ فَلَا يَكُونُ حِينَئِذٍ شِفَاءً لِلْقُلُوبِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، وَلَوْ كَانَتِ السُّنَّةُ قَدْ نَسَخَتْ بَعْضَ أَحْكَامِهِ لَكَانَ بَعْضُ تَحْرِيمِ اللَّهِ فِي(2/39)
كِتَابِهِ حَلَالًا ، وَبَعْضُ تَحْلِيلِهِ فِي كِتَابِهِ حَرَامًا وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ حُجَّةٌ بِالْقُرْآنِ حَتَّى يَعْلَمَ جَمِيعَ السُّنَّةِ ، وَحَتَّى يَعْلَمَ مَا بُدِّلَ مِنهُ بِالسُّنَّةِ ، قَالُوا : فَمَا أَحَلَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِسُنَّتِهِ ، وَلَا حَرَّمَ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ إِمَّا نَصًّا ، وَإِمَّا بِمَا أَوْجَبَهُ مِن طَاعَتِهِ ، وَكَانَ إِجْمَاعُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعِينَ عَلَى أَنَّ أُصُولَ الْعِلْمِ وَالْأَحْكَامِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَمِنهُ بَيِّنٌ مَفْهُومٌ فِي تِلَاوَتِهِ ، وَمِنهُ مُسْتَنْبَطٌ بِالْبَحْثِ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ عَنِ اللَّهِ ، وَلَوْ كَانَتِ السُّنَّةُ نَاسِخَةً لِبَعْضِ أَحْكَامِهِ لَمَا حَلَّ لِأَحَدٍ أَنْ يُشَبِّهَ حَادِثَةً بِأَصْلٍ مِن أُصُولِهِ حَتَّى يَعْلَمَ ذَلِكَ الْأَصْلَ نُسِخَ بِغَيْرِهِ ، أَمْ لَا ، فَمَا زَالُوا يُعَظِّمُونَ شَأْنَهُ وَيَأْمُرُونَ بَاتِّبَاعِهِ وَلَا يَأْمُرُونَ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنهُ لِغَيْرِهِ ، وَلَقَدْ رَأَى كَثِيرٌ مِنهُمْ أَنَّ مِصْدَاقَ كَثِيرٍ مِمَّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي كِتَابِ اللَّهِ يُؤَكِّدُونَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِلسُّنَّةِ ، وَأَنَّهَا لَا تُبَدِّلُ مَا فِيهِ ، وَلَوْ كَانَتْ تُبَدِّلُ مَا فِيهِ لَمْ يَكُنْ طَلَبُ مِصْدَاقِهَا فِيهِ أَوْلَى مِن أَنْ يُطْلَبَ مِصْدَاقُهُ فِيهَا ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَنَا رَبُّنَا أَنَّهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ جُمَلَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَبِّهِ ، وَلَمْ يَبْعَثْهُ لِيُبْطِلَ بَعْضَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ ، وَيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَهُ أَنْ يُبَدِّلَهُ وَيُحَوِّلَهُ بِقَوْلِهِ ،(2/40)
فَاللَّهُ يَنْسَخُ قَوْلًا مِنهُ بِقَوْلِهِ وَلَا يَنْسَخُ قَوْلَهُ بِقَوْلِ نَبِيِّهِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ فَرَائِضَهُ بِكَلَامِهِ وَأَجْمَلَ كَثِيرًا مِنهَا وَأَمَرَ نَبِيَّهُ بِتَفْسِيرِ مَا أَجْمَلَ مِن فَرَائِضِهِ ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ قَدْ جَعَلَهُ الْمُبَيِّنَ لَهُمْ ذَلِكَ عَن رَبِّهِ ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ أَنْ يُبَدِّلَ حُكْمَ كِتَابِهِ الَّذِي جَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ وَقَطَعَ بِهِ عُذْرَهُمْ ، وَلَوْ كَانَ بَدَّلَ بَعْضَ أَحْكَامِهِ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِ لَتَحَيَّرَ الْعِبَادُ فِيهِ ، أَمَّا عَالِمُهُمْ وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ عَامَّةَ السُّنَنِ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثٌ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ رَوَاهُ بَعْضُ الثِّقَاتِ لَمْ يَسْمَعْهُ قَدْ بَدَّلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِهِ بَعْضَ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ فَلَا يَقُومُ عَلَيْهِ حُجَّةٌ فِي حُكْمٍ مِن أَحْكَامِ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي الَّذِي قَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ كُلِّهَا ، وَأَمَّا الْجَاهِلُ فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ نَسَخَتْ بَعْضَ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لَمْ يُقِرَّ اللَّهُ فِيهِ حُكْمًا إِلَّا لَمْ يَأْمَن أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ بَدَّلَهُ وَنَسَخَهُ بِحَدِيثٍ قَدْ وَرِثَهُ الْعُلَمَاءُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ فَتَسْقُطُ حُجَّةُ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ عَن عِبَادِهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَاحْتَجَّ الَّذِينَ رَأَوْا أَنَّ اللَّهَ قَدْ نَسَخَ بَعْضَ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ فَقَالُوا : الْقُرْآنُ والسُّنَّة أَمْرَانِ فَرَضَ اللَّهُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ بِهِمَا عَلَى خَلْقِهِ ، وَقَرَنَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ ، فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا ، فَمَحَلُّهُمَا فِي التَّصْدِيقِ(2/41)
بِهِمَا وَاحِدٌ كِلَاهُمَا مِن عِنْدِ اللَّهِ ، قَالَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَحْكِي عَن خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ دَعَا رَبَّهُ لِذُرِّيَّتِهِ فَقَالَ : وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَقَالَ : كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَقَالَ : لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِن أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَقَالَ : وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ، وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمْ وَقَالَ : وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْكِتَابَ وَهُوَ الْقُرْآنُ ، وَذَكَرَ الْحِكْمَةَ ، فَسَمِعْتُ مَن أَرْضَى مِن أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ يَقُولُ : الْحِكْمَةُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهَذَا يُشْبِهُ مَا قَالَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْقُرْآنَ وَأَتْبَعَهُ الْحِكْمَةَ وَذَكَرَ مَنَّهُ عَلَى خَلْقِهِ بِتَعْلِيمِهِمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ، فَلَمْ يَجُزْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، الْحِكْمَةُ هَا هُنَا إِلَّا(2/42)
سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَذَلِكَ أَنَّهَا مَقْرُونَةٌ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ طَاعَةَ رَسُولِهِ وَحَتَّمَ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ أَمْرِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِقَوْلٍ : هُوَ فَرْضٌ إِلَّا لِكِتَابِ اللَّهِ ، ثُمَّ سُنَّةُ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبِمَا وَصَفْنَا مِن أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْإِيمَانَ بِرَسُولِهِ مَقْرُونَا بِالْإِيمَانِ بِهِ فَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُبَيِّنَةٌ عَنِ اللَّهِ مَعْنَى مَا أَرَادَ دَلِيلَهُ عَلَى خَاصِّهِ وَعَامِّهِ ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ هَذَا لِأَحَدٍ مِن خَلْقِهِ غَيْرَ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - "
وعَن قَتَادَةَ ، : وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ قَالَ : السُّنَّةُ ".(صحيح)
وعَن قَتَادَةَ ، : وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ قَالَ : السُّنَّةُ "(صحيح)
وقال رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ ، فِي قَوْلِهِ : وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ قَالَ : ثنا سَعِيدٌ عَن قَتَادَةَ قَالَ : أَيِ السُّنَّةُ يَمْتَنُّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ" (صحيح)(2/43)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : فَقَالَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ بَيَّنَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُعَلِّمَ النَّاسَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ، فَالْحِكْمَةُ غَيْرُ الْكِتَابِ ، وَهِيَ مَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ ، وَكُلٌّ فَرْضٌ لَا افْتِرَاقَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ مَجِيئَهُمَا وَاحِدٌ وَكُلٌّ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِتَعْلِيمِهِ الْخَلْقَ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِم الْأَخْذَ بِالسُّنَّةِ وَالْعَمَلَ بِهَا كَمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْعَمَلَ بِالْكِتَابِ ، فَكَانَ مَعْنَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنهُمَا مَعْنَى الْآخَرِ ، وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ طَاعَةَ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَهَا مُفْتَرَضَةً عَلَى خَلْقِهِ كَافْتِرَاضِ طَاعَتِهِ عَلَيْهِمْ لَا فُرْقَانَ بَيْنَهُمَا فِي الْوُجُوبِ فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يُنْسَخَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا نَسَخَ الْقُرْآنَ بِالْقُرْآنِ ، فَإِنَّمَا نَسَخَ مَا أَمَرَ بِهِ بِأَمْرِهِ ، وَكَذَلِكَ إِذَا نَسَخَ حُكْمًا فِي الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ فَإِنَّمَا يَنْسَخُ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ بِأَمْرِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَمَن فَرَّقَ بَيْنَ ذَلِكَ فَقَدْ قَصُرُ عِلْمُهُ فَإِنْ كَانَ إِنَّمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ تَعْظِيمُ الْقُرْآنِ أَنْ يُنْسَخَ بَعْضُ أَحْكَامِهِ بِالسُّنَّةِ ، فَالْقُرْآنُ عَظِيمٌ أَعْظَمُ مِن كُلِّ شَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ يَنْسَخُ اللَّهُ كَلَامَهُ فَيُبْطِلُهُ جَلَّ عَن ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَنْسَخُ الْمَأْمُورَ بِهِ كَلَامُهُ بِمَأْمُورٍ بِهِ فِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَالْمَأْمُورُ بِهِمَا مُتَسَاوِيَانِ ؛(2/44)
لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ ، وَالْقُرْآنُ أَعْظَمُ مِنَ السُّنَّةِ وَلَوْ جَازَ لِمَن عَظَّمَ الْقُرْآنَ - وَهُوَ أَهْلٌ أَنْ يُعَظَّمَ - ، أَنْ يُنْكِرَ أَنْ يَنْسَخَ اللَّهُ حُكْمًا فِيهِ بِحُكْمٍ فِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَجَازَ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِالسُّنَّةِ ، وَيُوجِبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَرْجَمَ الْقُرْآنُ إِلَّا بِقُرْآنٍ مُنَزَّلٍ مِثْلِهِ ، فَإِنْ جَازَ هَذَا جَازَ هَذَا ، فَفِي إِقْرَارِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَرْجَمَ الْقُرْآنَ وَفَسَّرَهُ بِسُنَّتِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ سَاوَوْا بَيْنَ الْقُرْآنِ والسُّنَّة فِي هَذَا الْمَعْنَى ، بَلْ جَعَلُوا السُّنَّةَ أَعْلَى مِنهُ وَأَرْفَعَ فِي قِيَاسِهِمْ ، إِذْ كَانَ الْقُرْآنُ لَا يُعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالسُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَحْتَاجُ أَنْ تُفَسَّرَ بِالْقُرْآنِ ، وَاحْتَاجَ الْعِبَادُ فِي الْقُرْآنِ إِلَى أَنْ فَسَّرَهُ لَهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِسُنَّتِهِ فَقَدْ أَقَرُّوا بِمِثْلِ مَا أَنْكَرُوا ؛ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ تَنْسَخُهُ السُّنَّةُ لَكَانَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ إِذْ كَانَ غَيْرُهُ يَنْسَخُهُ ، وَأَنَّ اللَّهَ عَظَّمَ شَأْنَهُ فَقَالَ : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَجَعَلَهُ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ فَأَنْكَرُوا إِذْ عَظَّمَهُ اللَّهُ أَنْ تَنْسَخَهُ سُنَّةُ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ أَقَرُّوا أَنَّ عَامَّةَ أَحْكَامِ اللَّهِ فِيهِ وَأَخْبَارَهُ وَمَدْحَهُ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالسُّنَّةِ ، قَالُوا : وَأَمَّا قَوْلُ مَن خَالَفَنَا : إِنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُنْسَخَ الْقُرْآنُ بِالسُّنَّةِ لَجَازَ أَنْ يُنْسَخَ(2/45)
كُلُّ أَحْكَامِهِ فَلَا يَكُونُ لِلَّهِ فِيهِ حُكْمٌ يَلْزَمُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَعْظَمُ مِن ذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ جُمَلَ فَرَائِضِ اللَّهِ إِلَّا بِتَفْسِيرِ السُّنَّةِ ، فَكَانَ جَائِزًا أَنْ يُجْمِلَ اللَّهُ كُلَّ فَرْضٍ فِيهِ فَلَا يُنْقِصُ مِنهُ شَيْئًا حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ الْمُفَسِّرَ لِكُلِّ فَرْضٍ فِيهِ ، فَلَا يَكُونُ لِلَّهِ فِيهِ حُكْمٌ يُعْرَفُ إِلَّا بِالسُّنَّةِ ، فَقَدْ أَقَرُّوا بِمِثْلِ مَا قَاسُوا عَلَى مَن خَالَفَهُمْ ، وَزَادُوا مَعْنًى هُوَ أَكْثَرُ ، قَالُوا : لِأَنَّا قُلْنَا إِنَّمَا يَنْسَخُ اللَّهُ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْضَ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَلَا تُنْسَخُ أَخْبَارُهُ وَلَا مَدْحُهُ ، وَأَقَرُّوا أَنَّ كَثِيرًا مِن أَخْبَارِ اللَّهِ وَمَدْحِهِ فَسَّرَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِسُنَّتِهِ ، فَهَذَا أَكْثَرُ فِي الْمَعْنَى مِمَّا قُلْنَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَزَعَمَ أَبُو ثَوْرٍ أَنَّ الْقَائِلَ إِنَّ السُّنَّةَ تَنْسَخُ الْكِتَابَ مُغَفَّلٌ ، قَالَ : وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ، وَيُحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ قَالَ : وَهَذَا افْتِرَاءٌ ، فَقَالَ : بَعْضُ مَن يُخَالِفُهُ أَعْظَمُ غَفْلَةً مِن هَذَا وَأَشَدُّ افْتِرَاءً مَن حَكَى عَن مُخَالِفِهِ مَا لَا يَقُولُهُ وَشَنَّعَ بِهِ عَلَيْهِ ، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ : إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ، وَلَا يُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ، بَلِ الْقَوْلُ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ يُحِلُّ إِلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَلَا يُحَرِّمُ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ،(2/46)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : إِلَّا أَنَّ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ مِنَ اللَّهِ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ تَحْرِيمَ شَيْءٍ فِي كِتَابِهِ فُيُسَمِّيَهُ قُرْآنًا كَقَوْلِهِ : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أَشْبَهُ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ حَرَّمَهُ فِي كِتَابِهِ ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِ وَحْيًا عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ ، أَوْ تَحْلِيلِهِ ، أَوِ افْتِرَاضِهِ فَيُسَمِّيهُ حِكْمَةً ، وَلَا يُسَمِّيهُ قُرْآنًا ، وَكِلَاهُمَا مِن عِنْدِ اللَّهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ : وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَقَالَ : وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ، فَتَأَوَّلَتِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْحِكْمَةَ هَا هُنَا هِيَ السُّنَّةُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ الْكِتَابَ ، ثُمَّ قَالَ : وَالْحِكْمَةِ فَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِالْوَاوِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ غَيْرُ الْكِتَابِ ، وَهِيَ مَا سَنَّ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ إِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ : وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْكِتَابَ وَهَذَا يَبْعُدُ ، فَيُقَالُ لِمَن قَالَ بِقَوْلِ أَبِي ثَوْرٍ مَا أَنْكَرْتَ أَنْ يُحَوَّلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَمَّا فُرِضَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ بِالْكِتَابِ فَيَأْمُرُهُ أَنْ يَعْمَلَ بِغَيْرِ ذَلِكَ بِوَحْيٍ يُوحِيهُ إِلَيْهِ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ مِن غَيْرِ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ قُرْآنًا وَلَكِنْ يُنَزِّلُ عَلَيْهِ حِكْمَةً يُسَمِّيهَا سُنَّةً ، وَهَذَا مَا لَا يُنْكِرُهُ إِلَّا ضَعِيفُ(2/47)
الرَّأْيِ " .
وعَن حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ ، قَالَ : كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالسُّنَّةِ ، كَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ فُيُعَلِّمُهُ إِيَّاهَا كَمَا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ "(صحيح مرسل)
وعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ : عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِن حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِن حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ ، أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ " . (صحيح)
وعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمَا يَعْدِلُهُ وَيُوشِكُ بِشَبْعَانَ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ هَذَا الْكِتَابُ ، فَمَا كَانَ فِيهِ مِن حَلَالٍ أَحْلَلْنَاهُ وَمَا كَانَ فِيهِ مِن حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ ، وَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ أَلَا لَا يَحِلُّ ذُو نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ ، وَلَا الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ ، وَلَا لُقَطَةٌ مِن مَالِ مُعَاهَدٍ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنهَا " يَعْنِي صَاحِبَهَا "(صحيح)(2/48)
وعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ ، قَالَ : نَزَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ وَمَعَهُ مَن مَعَهُ مِن أَصْحَابِهِ فَقَالَ : " يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ ارْكَبْ فَرَسًا فَنَادِ " إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِمُؤْمِنٍ ، وَأَنِ اجْتَمِعُوا إِلَى الصَّلَاةِ " ، فَاجْتَمَعُوا فَصَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَامَ فَقَالَ : " أَيَحْسَبُ امْرُؤٌ قَدْ شَبِعَ حَتَّى بَطِنَ ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلَّا مَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ ، أَلَا وَإِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ حَدَّثْتُ ، وَأَمَرْتُ ، وَوَعَظْتُ بِأَشْيَاءَ إِنَّهَا لَمِثْلُ الْقُرْآنِ أَوْ أَكْثَرُ ، وَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكُمْ مِنَ السِّبَاعِ كُلُّ ذِي نَابٍ ، وَلَا الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ الْمُعَاهَدِينَ إِلَّا بِإِذْنٍ ، وَلَا أَكْلَ أَمْوَالِهِمْ ، وَلَا ضَرْبَ نِسَائِهِمْ إِذَا أَعْطَوْكُمُ الَّذِي عَلَيْهِمْ إِلَّا مَا طَابُوا بِهِ نَفْسًا "(1)
وقال الإمام الشافعي رحمه الله :" باب : ما نزل عاماًّ دلت السنة خاصة على أنه يراد به الخاص .
__________
(1) - السُّنَّةُ لِلْمَرْوَزِيِّ (211-346)(2/49)
قال الله - جل ثناؤه - : " وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ( 11 ) " [النساء ] وقال : " وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِن اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ( 12 ) " [ النساء ]
فأبان أن للوالدين والأزواج مما سمى في الحالات وكان عامَّ المخرج فدلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنه إنما أريد به بعض الوالدين والأزواج دون بعض وذلك أن يكون دين الوالدين والمولود والزوجين واحداً ولا يكون الوارث منهما قاتلاً ولا مملوكاً
وقال : " مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ " فأبان النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الوصايا مقتَصَرٌ بها على الثلث لا يُتَعدى ولأهل الميراث الثلثان وأبان أن الدَّين قبل الوصايا والميراث وأن لا وصية ولا ميراث حتى يستوفي أهل الدَّين دينهم.(2/50)
ولولا دلالة السنَّة ثم إجماعُ الناس لم يكن ميراثٌ إلا بعد وصية أو دين ولم تعد الوصية أن تكون مُبَدَّاةً على الدَّين أو تكون والدَّين سواء، وقال الله : " إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ( 6 ) " [ المائدة ]
فقصد - جل ثناؤه - قصْدَ القدمين بالغسل كما قصد الوجه واليدين فكان ظاهر هذه الآية أنه لا يجزئ في القدمين إلا ما يجزئ في الوجه من الغسل أو الرأس من المسح وكان يحتمل أن يكون أريد بغسل القدمين أو مسحهما بعضُ المتوضئين دون بعض.
فلما مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين وأمر به من أدخل رجليه في الخفين وهو كامل الطهارة دلت سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنه إنما أريد بغسل القدمين أو مسحهما بعضُ المتوضئين دون بعض
وقال الله تبارك وتعالى : " وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِن اللَّهِ ( 38 ) " [ المائدة ]
وسنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن : " لاَ قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلاَ كَثَرٍ " وأن لا يقطع إلا من بلغت سرقته ربع دينار فصاعداً .
وقال الله : " الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ " [ النور ]
وقال في الإماء : " فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِن الْعَذَابِ (25) " [ النساء ](2/51)
فدلَّ القُرَآن على أنه إنما أريد بجلد المائة : الأحرارُ دون الإماء . فلما رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثيب من الزناة ولم يجلده : دلَّت سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن المراد بجلد المائة من الزناة : الحُرَّان البِكْرَان، وعلى أن المراد بالقطع في السرقة : من سرَق من حِرْز وبلغت سرقته ربع دينار دون غيرهما ممن لزمه اسم سرقة وزنا وقال الله : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِن شَيْءٍ [ ص 68 ] فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ( 41 ) " [ الأنفال ]
فلما أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني هاشم وبني المطلب سهم ذي القربى : دلَّت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ذا القربى الذين جعل الله لهم سهماً من الخمس : بنو هاشم وبنو المطلب دون غيرهم.
وكل قريش ذو قرابة وبنو عبد شمس مساويةُ بني المطلب في القرابة هم مَعًا بنو أب وأم وإن انفرد بعض بني المطلب بولادة من بني هاشم دونَهم.
فلما لم يكن السهم لمن انفرد بالولادة من بني المطلب دون من لم تصبه ولادة من بني هاشم منهم : دلَّ ذلك على أنهم إنما أعطُوا خاصة دون غيرهم بقرابة جذم النسب مع كَيْنُونَتِهِمْ معًا مجتمعين في نصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشِّعْب وقبله وبعده وما أراد الله - جل ثناؤه - بهم خاصًّا .
ولقد وَلَدَتْ بنو هاشم في قريش فما أعطي منهم أحد بولادتهم من الخمس شيئاً وبنو نوفل مُسَاوِيَتُهُمْ في جِذْمِ النسب وإن انفردوا بأنهم بنوا أم دونهم.
قال الله : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ( 41 ) " [الأنفال ](2/52)
فلما أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلَبَ القاتلَ في الإقبال : دلَّت سنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن الغنيمة المَخْمُوسَة في كتاب الله غيرُ السلب، إذْ كان السلب مَغْنُوماً في الإقبال دون الأسلاب المأخوذة في غير الإقبال، وأن الأسلاب المأخوذة في غير الإقبال غنيمةٌ تُخمس مع ما سواها من الغنيمة بالسنَّة .
ولولا الاستدلال بالسنَّة وحُكْمُنا بالظاهر: قطعنا من لزمه اسمُ سرقة وضربنا مائةً كلَّ مَن زَنَى حُراًّ ثيباً وأعطينا سهم ذي القربى كل من بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - قرابة ثم خلص ذلك إلى طوائف من العرب ،لأن له فيهم وَشَايِجَ أرحام وَخَمَسْنا السَّلَب لأنه من المَغْنم مع ما سواه من الغنيمة "(1).
__________
(1) - الرسالة للشافعي - (ج 1 / ص 25)(2/53)
وقال أيضاً :" بَابُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : فَخَالَفَنَا بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ، فَجَرَّدَ خِلَافَ حَدِيثِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ، وَخَالَفَ بَعْضٌ مَعْنَى الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَقَدْ كَتَبْتُ عَلَيْهِ فِيهَا حُجَجًا اخْتَصَرْتُ فِي هَذَا الْكِتَابِ بَعْضَهَا ، فَكَانَ مِمَّا رُدَّ بِهِ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ أَنْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : شَهِيدَيْنِ مِن رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ، فَقُلْتُ لَهُ : لَسْتُ أَعْلَمُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَحْرِيمَ أَنْ يَجُوزَ أَقَلُّ مِن شَاهِدَيْنِ بِحَالٍ ، قَالَ : فَإِنْ قُلْتَ : فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ لَا يَجُوزَ أَقَلُّ مِن شَاهِدَيْنِ ، قُلْتُ : فَقُلْهُ ، قَالَ : فَقَدْ قُلْتُهُ ، قُلْتُ : فَمَنِ الشَّاهِدَانِ اللَّذَانِ أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهِمَا ؟ قَالَ : عَدْلَانِ حُرَّانِ مُسْلِمَانِ ، فَقُلْتُ : فَلِمَ أَجَزْتَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَقُلْتُ : لِمَ أَجَزْتَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ وَحْدَهَا ؟ قَالَ : لِأَنَّ عَلِيًّا أَجَازَهَا ، قُلْتُ : فَخِلَافٌ هِيَ لِلْقُرْآنِ ؟ قَالَ : لَا ، قُلْتُ : فَقَدْ زَعَمْتَ أَنَّ مَن حَكَمَ بِأَقَلَّ مِن شَاهِدَيْنِ خَالَفَ الْقُرْآنَ ، وَقُلْتُ لَهُ : يَجُوزُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ أَنْ يُخَالِفَ الْقُرْآنَ ؟ قَالَ : فَإِنْ قُلْتُهُ ، فَيُقَالُ لَكَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ إِلَى : فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ، وَقَالَ : ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن(2/54)
عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ، فَزَعَمْتَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا خَلَا بِالْمَرْأَةِ ، وَأَغْلَقْ بَابًا ، وَأَرْخَى سِتْرًا ، أَوْ خَلَا بِهَا فِي صَحْرَاءَ وَهُمَا يَتَصَادَقَانِ بِأَنْ لَمْ يَمَسَّهَا ، كَانَ لَهَا الْمَهْرُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، فَخَالَفْتَ الْقُرْآنَ ، قَالَ : لَا ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مَا قُلْتَ ، وَإِذَا قَالَا : لَمْ نَجْعَلْهُ لِلْقُرْآنِ خِلَافًا ، قُلْتُ : فَمَا رُوِيَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمُبَيِّنِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ، أَلَمْ تَقُولُوا هَذَا فِيهِ ، وَهُوَ أَبْعَدُ مِن أَنْ يَكُونَ خِلَافًا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ مِن هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَذَكَرَ لَهُ غَيْرَهُمَا ؟ وَقُلْتُ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : شَاهِدَيْنِ ، وَشَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا تَتِمُّ بِهِ الشَّهَادَةُ حَتَّى لَا يَكُونَ عَلَى مَن أَقَامَ الشَّاهِدَيْنِ يَمِينٌ ، لَا أَنَّهُ حَرَّمَ أَنْ يُحْكَمَ بِأَقَلَّ مِنهُ ، وَمَن جَاءَ بِشَاهِدٍ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِشَيْءٍ حَتَّى يَحْلِفَ مَعَهُ ، فَهُوَ حُكْمٌ غَيْرُ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدَيْنِ ، كَمَا يَكُونُ أَنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ الْحَقَّ فَيَنْكُلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْيَمِينِ ، فَيَلْزَمُهُ عِنْدَكَ مَا نَكَلَ عَنهُ ، وَعِنْدَنَا إِذَا حَلَفَ الْمُدَّعِي فَهُوَ حُكْمٌ غَيْرُ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَشَاهِدَيْنِ ، قَالَ : فَإِنَّا نَدْخُلُ عَلَيْكُمْ فِيهَا وَفِي الْقَسَامَةِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي " .(2/55)
قُلْتُ : فَهَذَا الْقَوْلُ خَاصٌّ أَوْ عَامٌّ ؟ قَالَ : بَلْ عَامٌّ ، قُلْتُ : فَأَنْتَ إِذًا أَشَدُّ النَّاسِ لَهُ خِلَافًا ، قَالَ : وَأَيْنَ ؟ قُلْتُ : أَنْتَ تَزْعُمُ لَوْ أَنَّ قَتِيلًا وُجِدَ فِي مَحِلَّةٍ أَحْلَفْتَ أَهْلَهَا خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَغَرَّمْتَهُمُ الدِّيَةَ ، وَأَعْطَيْتَ وَلِيَّ الدَّمِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ، وَقَدْ زَعَمْتَ أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي " عَامٌّ ، فَلَا يُعْطَى أَحَدٌ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَأَحْلَفْتَ أَهْلَ الْمَحِلَّةِ وَلَمْ تُبَرِّئْهُمْ ، وَقَدْ زَعَمْتَ أَنَّ فِيَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " ، أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا حَلَفَ بَرِئَ مِمَّا ادُّعِيَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ قُلْتَ هَذَا بِأَنَّ عُمَرَ قَضَى بِهِ ، قُلْتُ : فَمَنِ احْتَجَّ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الثَّابِتِ عَنهُ أَوْلَى بِالْحُجَّةِ مِمَّنِ احْتَجَّ بِقَضَاءِ غَيْرِهِ ، فَإِنْ قَالَ : بَلْ مَنِ احْتَجَّ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قُلْتُ : فَقَدِ احْتَجَجْتَ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَزَعَمْتَ أَنَّ قَوْلَهُ : " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " عَامٌّ ، قَالَ : مَا هُوَ بِعَامٍّ ، قُلْنَا : فَلِمَ امْتَنَعْتَ مِن أَنْ تَقُولَ بِمَا إِذَا كَشَفْتَ عَنهُ أُعْطِيتَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَيْكَ أَنْ تَقُولَ بِهِ ، وَقُلْتَ بِمَا إِذَا كَشَفْتَ عَنهُ وَوُجِدَ عَلَيْكَ خِلَافُهُ ؟ قَالَ : فَقَدْ جَعَلْتُمُ الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ تَامَّةً فِي شَيْءٍ نَاقِصَةً غَيْرَهُ ، وَكَذَلِكَ جَعَلْتُمُ الشَّاهِدَيْنِ تَامَّيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا(2/56)
الزِّنَا ، وَجَعَلْتُمْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ تَامَّيْنِ فِي الْمَالِ نَاقِصَيْنِ فِي الْحُدُودِ ، وَجَعَلْتُمْ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ تَامَّةً بَيْنَهُمْ نَاقِصَةً بَيْنَ غَيْرِهِمْ ، وَشَهَادَةَ الْمَرْأَةِ تَامَّةً فِي عُيُوبِ النِّسَاءِ نَاقِصَةً فِي غَيْرِهَا ، قَالَ : وَاحْتَجَّ فِي الْقَسَامَةِ بِأَنْ قَالَ : أَعْطَيْتَهُمْ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ، قُلْتُ : فَكَذَلِكَ أَعْطَيْتَ فِي قَسَامَتِكَ ، وَاحْتَجَّ بِأَنْ قَالَ : أَحْلَفْتَهُمْ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُونَ ، قُلْتُ : فَقَدْ يَعْلَمُونَ بِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ مِمَن يَصْدُقُونَ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، وَإِقْرَارُ الْقَاتِلِ عِنْدَهُمْ بِلَا بَيِّنَةٍ ، وَلَا يَحْكُمُ بِادِّعَائِهِمْ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ وَغَيْرُ ذَلِكَ ، قَالَ : الْعِلْمُ مَا رَأَوْا بِأَعْيُنِهِمْ ، أَوْ سَمِعُوا بِآذَانِهِمْ ، قُلْتُ : وَلَا عِلْمَ ثَالِثَ ؟ قَالَ : لَا ، قُلْتُ : فَإِذَا اشْتَرَى ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً عَبْدًا وُلِدَ بِالْمَشْرِقِ مُنْذُ خَمْسِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ ، ثُمَّ بَاعَهُ ، فَادَّعَى الَّذِي ابْتَاعَهُ أَنَّهُ كَانَ آبِقًا ، فَكَيْفَ تُحَلِّفُهُ ؟ قَالَ : الْبَتَّةَ ، قَالَ : يَقُولُ لَكَ : تَظْلِمُنِي ، فَإِنَّ هَذَا وُلِدَ قَبْلِي ، وَبِبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِي ، وَتُحَلِّفُنِي عَلَى الْبَتَّةِ ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَا أُحِيطُ بِأَنْ لَمْ يَأْبَقْ قَطُّ عِلْمًا ، قَالَ : يُسْأَلُ ، قُلْتُ : يَقُولُ لَكَ : فَأَنْتَ تُحَلِّفُنِي عَلَى مَا تَعْلَمُ أَنِّي لَا أَبَرُّ فِيهِ ، قَالَ : وَإِذَا سَأَلْتَ وِسْعَكَ أَنْ تَحْلِفَ ، قُلْتُ : أَفَرَجُلٌ قُتِلَ أَبُوهُ فَغُبِّيَ مِن سَاعَتِهِ ، فَسَأَلَ أَوْلَى أَنْ يُعْلَمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ بَعْضُ مَن حَضَرَهُ : بَلْ مَن قُتِلَ أَبُوهُ ، قُلْتُ :(2/57)
فَقَدْ عِبْتَ يَمِينَهُ عَلَى الْقَسَامَةِ ، وَنَحْنُ لَا نَأْمُرُهُ أَنْ يَحْلِفَ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ ، وَالْعِلْمُ يُمَكِّنُهُ ، وَالْيَمِينُ عَلَى الْقَسَامَةِ سُنَّةٌ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَقُلْتَ بِرَأْيِكَ : يَحْلِفُ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي وَصَفْتَ ، قَالَ : فَقَدْ خَالَفَ حَدِيثَكُمُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ بُجَيْدٍ ، قُلْتُ : أَفَأَخَذْتَ بِحَدِيثِ سَعِيدٍ وَابْنِ بُجَيْدٍ ، فَتَقُولُ : اخْتَلَفَتْ أَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخَذْتُ بِأَحَدِهَا ؟ قَالَ : لَا ، قُلْتُ : فَقَدْ خَالَفْتَ كُلَّ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْقَسَامَةِ ، قَالَ : لَا ، قُلْتُ : فَلِمَ لَمْ تَأْخُذْ بِحَدِيثِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ ؟ قَالَ : هُوَ مُنْقَطِعٌ ، وَالْمُتَّصِلُ أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ ، وَالْأَنْصَارِيُّونَ أَعْلَمُ بِحَدِيثِ صَاحِبِهِمْ مِن غَيْرِهِمْ ، قَالَ : فَكَيْفَ لَمْ تَأْخُذْ بِحَدِيثِ ابْنِ بُجَيْدٍ ؟ قُلْتُ : لَا يَثْبُتُ ثُبُوتَ حَدِيثِ سَهْلٍ ، بِهَذَا صِرْنَا إِلَى حَدِيثِ سَهْلٍ دُونَهُ ، قَالَ : فَإِنَّ صَاحِبَكُمْ قَالَ : لَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ إِلَّا بِلَوْثٍ مِن بَيِّنَةٍ ، أَوْ دَعْوَى مِن مَيِّتٍ ، ثُمَّ وَصَفَ اللَّوْثَ بِغَيْرِ مَا وَصَفْتَ ، قُلْتُ : قَدْ رَأَيْتُنَا تَرَكْنَاهُ عَلَى أَصْحَابِنَا ، وَصِرْنَا إِلَى أَنْ نَقْضِيَ فِيهِ بِمِثْلِ الْمَعْنَى الَّذِي قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، لَا بِشَيْءٍ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ ، قَالَ : وَأَعْطَيْتُمُ بِالْقَسَامَةِ فِي النَّفْسِ ، وَلَمْ تُعْطُوا بِهَا فِي الْجِرَاحِ ، قُلْتُ : أَعْطَيْنَا بِهَا حَيْثُ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : الْجِرَاحُ مُخَالِفَةٌ لِلنَّفْسِ ، قُلْتُ :(2/58)
لِأَنَّ الْمَجْرُوحَ قَدْ يَتَبَيَّنُ مِن جُرْحِهِ ، وَيُدِّلُ عَلَى مَن عَمِلَ ذَلِكَ ، وَلَا يَتَبَيَّنُ الْمَيِّتُ ذَلِكَ ، قَالَ : نَعَمْ ، قُلْنَا : فَبِهَذَا لَمْ نُعْطِ بِهَا فِي الْجِرَاحِ كَمَا أَعْطَيْنَا بِهَا فِي النَّفْسِ ، وَالْقَضِيَّةُ الَّتِي خَالَفُوا بِهَا : " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " ، أَنَّهُمْ أَحْلَفُوا أَهْلَ الْمَحِلَّةِ وَلَمْ يُبْرِئُوهُمْ ، وَإِنَّمَا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْيَمِينَ مَوْضِعَ بَرَاءَةٍ ، وَقَدْ كَتَبْنَا الْحُجَّةَ فِي هَذَا مَعَ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَتَبْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ ، وَمَا رَأَيْنَاهُمُ ادَّعَوَا الْحُجَّةَ فِي شَيْءٍ إِلَّا تَرَكُوهُ ، وَلَا عَابُوا شَيْئًا إِلَّا دَخَلُوا فِي مِثْلِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنهُ .(2/59)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِي اللهُ عَنهُ : وَمِن كِتَابِ عُمَرَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ ، عَن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بُجَيْدِ بْنِ قِبْطِيٍّ ، أَحَدِ بَنِي حَارِثَةَ ، قَالَ مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ إِبْرَاهِيمَ : وَايْمُ اللَّهِ ، مَا كَانَ سَهْلٌ بِأَكْثَرَ عِلْمًا مِنهُ ، وَلَكِنَّهُ كَانَ أَسَنَّ مِنهُ ، قَالَ : وَاللَّهِ مَا هَكَذَا كَانَ الشَّأْنُ ، وَلَكِنَّ سَهْلًا أَوْهَمَ ، مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : احْلِفُوا عَلَى مَا لَا عَلِمَ لَهُمْ بِهِ ، وَلَكِنَّهُ كَتَبَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ حِينَ كَلَّمَتْهُ الْأَنْصَارُ : أَنَّهُ وُجِدَ قَتِيلٌ بَيْنَ أَبْيَاتِكُمْ فَدُوهُ ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَتَلُوهُ ، وَلَا يَعْلَمُونَ لَهُ قَاتِلًا ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِن عِنْدِهِ .(2/60)
قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَقَالَ لِي قَائِلٌ : مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَأْخُذَ بِحَدِيثِ ابْنِ بُجَيْدٍ ؟ قُلْتُ : لَا أَعْلَمُ ابْنَ بُجَيْدٍ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَهُوَ مُرْسَلٌ ، وَلَسْنَا وَلَا إِيَّاكَ نُثْبِتُ الْمُرْسَلَ ، وَقَدْ عَلِمْتَ سَهْلًا صَحِبَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَسَمِعَ مِنهُ ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ سِيَاقًا لَا يُثْبِتُهُ إِلَّا الْأَثْبَاتُ ، فَأَخَذْتُ بِهِ لِمَا وَصَفْتُ ، قَالَ : فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْخُذَ بِحَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ ؟ قُلْتُ : مُرْسَلٌ ، وَالْقَتِيلُ أَنْصَارِيٌّ ، وَالْأَنْصَارِيُّونَ أَوْلَى بِالْعِنَايَةِ بِالْعِلْمِ بِهِ مِن غَيْرِهِمْ إِذَا كَانَ كُلٌّ ثِقَةً ، وَكُلٌّ عِنْدَنَا بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ثِقَةٌ".
وَللإمام ِأَحْمَدَ فِيهَا رِسَالَتُهُ الْمَشْهُورَةُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَن يَزْعُمُ الِاسْتِغْنَاءَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ عَن تَفْسِيرِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ أَوْرَدَ فِيهَا مِن الدَّلَائِلِ مَا يَضِيقُ هَذَا الْمَوْضِعُ عَن ذِكْرِهِ .
- - - - - - - - - - - - - - - - -
ثانيا
مَن تَرَكَ الْعَمَلَ بِحَدِيثِ ما فَلَا يَخْلُو مِن ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ
إمَّا أَنْ يَكُونَ تَرْكًا جَائِزًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَالتَّرْكِ فِي حَقِّ مَن لَمْ يَبْلُغْهُ ؛ وَلَا قَصَّرَ فِي الطَّلَبِ مَعَ حَاجَتِهِ إلَى الْفُتْيَا أَوْ الْحُكْمِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَن الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ ،فَهَذَا لَا يَشُكُّ مُسْلِمٌ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَلْحَقُهُ مِن مَعَرَّةِ التَّرْكِ شَيْءٌ .(2/61)
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَرْكًا غَيْرَ جَائِزٍ، فَهَذَا لَا يَكَادُ يَصْدُرُ مِن الْأَئِمَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَكِنْ قَدْ يَخَافُ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَاصِرًا فِي دَرْكِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ : فَيَقُولُ مَعَ عَدَمِ أَسْبَابِ الْقَوْلِ وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهَا نَظَرٌ وَاجْتِهَادٌ أَوْ يُقَصِّرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَيَقُولُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ النَّظَرُ نِهَايَتَهُ مَعَ كَوْنِهِ مُتَمَسِّكًا بِحُجَّةِ أَوْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ عَادَةٌ أَوْ غَرَضٌ يَمْنَعُهُ مِن اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ لِيَنْظُرَ فِيمَا يُعَارِضُ مَا عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقُلْ إلَّا بِالِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَإِنَّ الْحَدَّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ قَدْ لَا يَنْضَبِطُ لِلْمُجْتَهِدِ .(2/62)
وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ يَخَافُونَ مِثْلَ هَذَا خَشْيَةَ أَلَّا يَكُونَ الِاجْتِهَادُ الْمُعْتَبَرُ قَدْ وُجِدَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الْمَخْصُوصَةِ فَهَذِهِ ذُنُوبٌ(1)؛ لَكِنَّ لُحُوقَ عُقُوبَةِ الذَّنْبِ بِصَاحِبِهِ إنَّمَا تُنَالُ لِمَن لَمْ يَتُبْ وَقَدْ يَمْحُوهَا الِاسْتِغْفَارُ وَالْإِحْسَانُ وَالْبَلَاءُ وَالشَّفَاعَةُ وَالرَّحْمَةُ ،وَلَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا مَن يَغْلِبُهُ الْهَوَى وَيَصْرَعُهُ حَتَّى يَنْصُرَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ ،أَوْ مَن يَجْزِمُ بِصَوَابِ قَوْلٍ أَوْ خَطَئِهِ مِن غَيْرِ مَعْرِفَةٍ مِنهُ بِدَلَائِلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا ؛ فَإِنَّ هَذَيْنِ فِي النَّارِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :« الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ وَاحِدٌ فِى الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِى النَّارِ فَأَمَّا الَّذِى فِى الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِى الْحُكْمِ فَهُوَ فِى النَّارِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِى النَّارِ »(2).
__________
(1) - انظر الموافقات في أصول الشريعة - (ج 3 / ص 111)
(2) - سنن أبى داود برقم(3575) وهو حديث صحيح.(2/63)
وَالْمَفْتُونُ كَذَلِكَ . لَكِنَّ لُحُوقَ الْوَعِيدِ لِلشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ أَيْضًا لَهُ مَوَانِعُ كَمَا بَيَّنَّاهُ ،فَلَوْ فُرِضَ وُقُوعُ بَعْضِ هَذَا مِن بَعْضِ الْأَعْيَانِ مِن الْعُلَمَاءِ الْمَحْمُودِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ - مَعَ أَنَّ هَذَا بَعِيدٌ أَوْ غَيْرُ وَاقِعٍ - لَمْ يَعْدَمْ أَحَدُهُمْ أَحَدَ هَذِهِ الْأَسْبَابِ ؛ وَلَوْ وَقَعَ لَمْ يَقْدَحْ فِي إمَامَتِهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّا لَا نَعْتَقِدُ فِي الْقَوْمِ الْعِصْمَةَ ، بَل تَجُوزُ عَلَيْهِمْ الذُّنُوبُ وَنَرْجُو لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ ؛ لِمَا اخْتَصَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِن الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ ،وَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُصِرِّينَ عَلَى ذَنْبٍ ،وَلَيْسُوا بِأَعْلَى دَرَجَةٍ مِن الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ، وَالْقَوْلُ فِيهِمْ كَذَلِكَ فِيمَا اجْتَهَدُوا فِيهِ مِن الْفَتَاوَى وَالْقَضَايَا وَالدِّمَاءِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ . ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ التَّارِكَ الْمَوْصُوفَ مَعْذُورٌ بَل مَأْجُورٌ لَا يَمْنَعُنَا أَنْ نَتَّبِعَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي لَا نَعْلَمُ لَهَا مُعَارِضًا يَدْفَعُهَا، وَأَنْ نَعْتَقِدَ وُجُوبَ الْعَمَلِ عَلَى الْأُمَّةِ وَوُجُوبَ تَبْلِيغِهَا . وَهَذَا مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِيهِ(1).
1-من خالف أحاديث الوعيد من الفقهاء هل هو معذور؟
__________
(1) - انظر مجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 9 / ص 145) فما بعدهت(2/64)
إذا كَانَ الخبرُ قَدْ تَضَمَّنَ حُكْمًا عِلْمِيًّا مِثْلَ الْوَعِيدِ وَنَحْوِهِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ : فَذَهَبَ طَوَائِفُ مِن الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ إذَا تَضَمَّنَ وَعِيدًا عَلَى فِعْلٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَلَا يَعْمَلُ بِهِ فِي الْوَعِيدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا ،وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَتْنُ قَطْعِيًّا لَكِنَّ الدَّلَالَةَ ظَاهِرَةٌ ،وَعَلَى هَذَا حَمَلُوا قَوْلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهَا ،فعَنِ الْعَالِيَةِ قَالَتْ : كُنْتُ قَاعِدَةً عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنهَا فَأَتَتْهَا أُمُّ مُحِبَّةَ فَقَالَتْ لَهَا : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَكُنْتِ تَعْرِفِينَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَالَتْ : نَعَمْ. قَالَتْ : فَإِنِّى بِعْتُهُ جَارِيَةً لِى إِلَى عَطَائِهِ بِثَمَانِمِائَةٍ نَسِيئَةً وَإِنَّهُ أَرَادَ بَيْعَهَا بِسِتِّمِائَةٍ نَقْدًا.(1)فَقَالَتْ لَهَا : بِئْسَمَا اشْتَرَيْتِ وَبِئْسَمَا اشْتَرَى أَبْلِغِى زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنْ لَمْ يَتُبْ(2).
__________
(1) - العطاء : هو ما كان يعطيه الأمراء للناس من قرارتهم وديوانهم الذي يقررونه لهم في بيت المال ، كان يصل إليهم في أوقات معلومة من السنة .
(2) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 5 / ص 330) برقم(11113) ومصنف عبد الرزاق برقم(14813و14814) والدراقطني في السنن برقم(3045) حسن(2/65)
وعن يُونُسَ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ , عَن أُمِّهِ الْعَالِيَةِ بِنْتِ أَنْفَعَ , قَالَتْ :خَرَجْتُ أَنَا وَأُمُّ مَحَبَّةَ إِلَى مَكَّةَ فَدَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهَا , فَقَالَتْ لَنَا : " مَن أَنْتُنَّ ؟ " , قُلْنَا : مِن أَهْلِ الْكُوفَةِ , قَالَتْ : فَكَأَنَّهَا أَعْرَضَتْ عَنَّا , فَقَالَتْ لَهَا أُمُّ مَحَبَّةَ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ وَإِنِّي بِعْتُهَا مِن زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ الْأَنْصَارِيِّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَى عَطَائِهِ , وَإِنَّهُ أَرَادَ بَيْعَهَا فَابْتَعْتُهَا مِنهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا , قَالَتْ : فَأَقْبَلَتْ عَلَيْنَا , فَقَالَتْ : " بِئْسَمَا شَرَيْتِ وَمَا اشْتَرَيْتِ , فَأَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا أَنْ يَتُوبَ " , فَقَالَتْ لَهَا : أَرَأَيْتِ إِنْ لَمْ آخُذْ مِنهُ إِلَّا رَأْسَ مَالِي ؟ , قَالَتْ : "{ فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَن عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(275) سورة البقرة"(1).
__________
(1) - سُنَنُ الدَّارَقُطْنِيِّ (3045) قَالَ الشَّيْخُ : أُمُّ مَحَبَّةَ وَالْعَالِيَةُ مَجْهُولَتَانِ لَا يُحْتَجُّ بِهِمَا ، قلت الصواب أنه حسن ، وسكت عليه الحافظ ابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية - (ج 2 / ص 151)(776)
وقال صاحب الجوهر النقي ص 330 ج 5، قلت: العالية معروفة، روى عنها زوجها، وابنها، وهما إمامان، وذكرهما ابن حبان في الثقات، وذهب إلى حديثهما هذا الثوري، والأوزاعي. وأبو حنيفة، وأصحابه. ومالك، وابن حنبل، والحسن ابن صالح، وروى عن الشعبي، والحكم، وحماد، فمنعوا ذلك، كذا في الاستذكار انتهى.(2/66)
وقَالَ الشَّافِعِيُّ : قَدْ تَكُونُ عَائِشَةُ لَوْ كَانَ هَذَا ثَابِتًا عَنهَا عَابَتْ عَلَيْهَا بَيْعًا إِلَى الْعَطَاءِ ؛ لِأَنَّهُ أَجَلٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَهَذَا مَا لَا نُجِيزُهُ , لَا أَنَّهَا عَابَتْ عَلَيْهَا مَا اشْتَرَتْ بِنَقْدٍ وَقَدْ بَاعَتْهُ إِلَى أَجَلٍ وَلَوِ اخْتَلَفَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي شَيْءٍ , فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ شَيْئًا , وَقَالَ غَيْرُهُ خِلَافَهُ كَانَ أَصْلُ مَا نَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّا نَأْخُذُ بِقَوْلِ الَّذِي مَعَهُ الْقِيَاسُ وَالَّذِي مَعَهُ الْقِيَاسُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ , قَالَ : وَجُمْلَةُ هَذَا أَنَّا لَا نُثْبِتُ مِثْلَهُ عَلَى عَائِشَةَ مَعَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ لَا يَبِيعُ إِلَّا مَا يَرَاهُ حَلَالًا , وَلَا يَبْتَاعُ إِلَّا مِثْلَهُ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ شَيْئًا أَوِ ابْتَاعَهُ نَرَاهُ نَحْنُ مُحَرَّمًا وَهُوَ يَرَاهُ حَلَالًا لَمْ نَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَحْبِطُ بِهِ مِن عَمَلِهِ شَيْئًا".(1)
__________
(1) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلْبَيْهقِيِّ (10131 ) وقال فِي التَّنْقِيحِ: هَذَا إسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَإِنْ كَانَ الشَّافِعِيُّ قَالَ: لَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ عَن عَائِشَةَ، وَكَذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيُّ، قَالَ فِي الْعَالِيَةِ: هِيَ مَجْهُولَةٌ، لَا يُحْتَجُّ بِهَا، فِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ، وَلَوْلَا أَنَّ عند أم المؤمنين عِلْمًا مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ لَمْ تَسْتَجِزْ أَنْ تَقُولَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ بِالِاجْتِهَادِ، انْتَهَى..وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالُوا: الْعَالِيَةُ امْرَأَةٌ مَجْهُولَةٌ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهَا، قُلْنَا: بَلْ هِيَ امْرَأَةٌ مَعْرُوفَةٌ جَلِيلَةُ الْقَدْرِ، ذَكَرَهَا ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فَقَالَ: الْعَالِيَةُ بِنْتُ أَيْفَعَ بْنِ شَرَاحِيلَ امْرَأَةُ أَبِي إسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ سَمِعَتْ مِن عَائِشَةَ، انْتَهَى كَلَامُهُ.نصب الراية - (ج 4 / ص 16) وانظر الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 5 / ص 142) وشرح النيل وشفاء العليل - إباضية - (ج 14 / ص 150) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 6 / ص 326) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 3 / ص 384)(2/67)
والذبن عملوا بالحديث قَالُوا : فَعَائِشَةُ ذَكَرَتْ الْوَعِيدَ لِأَنَّهَا كَانَتْ عَالِمَةً بِهِ وَنَحْنُ نَعْمَلُ بِخَبَرِهَا فِي التَّحْرِيمِ ،وَإِنْ كُنَّا لَا نَقُولُ بِهَذَا الْوَعِيدِ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا ثَبَتَ عِنْدَنَا بِخَبَرِ وَاحِدٍ .
وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْوَعِيدَ مِن الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ ؛ فَلَا تَثْبُتُ إلَّا بِمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ ،وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفِعْلَ إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا فِي حُكْمِهِ لَمْ يَلْحَقْ فَاعِلَهُ الْوَعِيدُ .
فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يُحْتَجُّ بِأَحَادِيثِ الْوَعِيدِ فِي تَحْرِيمِ الْأَفْعَالِ مُطْلَقًا وَلَا يَثْبُتُ بِهَا الْوَعِيدُ إلَّا أَنْ تَكُونَ الدَّلَالَةُ قَطْعِيَّةً ،وَمِثْلُهُ احْتِجَاجُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ بِالْقِرَاءَاتِ الَّتِي صَحَّتْ عَن بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَعَ كَوْنِهَا لَيْسَتْ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ، فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ عَمَلًا وَعِلْمًا وَهِيَ خَبَرُ وَاحِدٍ صَحِيحٌ فَاحْتَجُّوا بِهَا فِي إثْبَاتِ الْعَمَلِ ،وَلَمْ يُثْبِتُوهَا قُرْآنًا لِأَنَّهَا مِن الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ إلَّا بِيَقِينِ(1).
2-َذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِن الْفُقَهَاءِ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ السَّلَفِ إلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ حُجَّةٌ فِي جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِن الْوَعِيدِ .
__________
(1) - انظر مناهل العرفان للزرقاني - (ج 1 / ص 457)(2/68)
فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ مَا زَالُوا يُثْبِتُونَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْوَعِيدَ كَمَا يُثْبِتُونَ بِهَا الْعَمَلَ ،وَيُصَرِّحُونَ بِلُحُوقِ الْوَعِيدِ الَّذِي فِيهَا لِلْفَاعِلِ فِي الْجُمْلَةِ ،وَهَذَا مُنْتَشِرٌ عَنهُمْ فِي أَحَادِيثِهِمْ وَفَتَاوِيهِمْ ،وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَعِيدَ مِن جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي ثَبَتَتْ بِالْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ تَارَةً وَبِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ أُخْرَى ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمَطْلُوبُ الْيَقِينَ التَّامَّ بِالْوَعِيدِ؛ بَل الْمَطْلُوبُ الِاعْتِقَادُ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْيَقِينِ وَالظَّنِّ الْغَالِبِ كَمَا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ اعْتِقَادِ الْإِنْسَانِ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا وَأَوْعَدَ فَاعِلَهُ بِالْعُقُوبَةِ الْمُجْمَلَةِ وَاعْتِقَادِهِ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ وَأَوْعَدَهُ عَلَيْهِ بِعُقُوبَةِ مُعَيَّنَةٍ مِن حَيْثُ إنَّ كُلًّا مِنهُمَا إخْبَارٌ عَن اللَّهِ، فَكَمَا جَازَ الْإِخْبَارُ عَنهُ بِالْأَوَّلِ بِمُطْلَقِ الدَّلِيلِ فَكَذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنهُ بِالثَّانِي، بَل لَوْ قَالَ قَائِلٌ : الْعَمَلُ بِهَا فِي الْوَعِيدِ أَوْكَدُ ؛ كَانَ صَحِيحًا .(2/69)
وَلِهَذَا كَانُوا يُسَهِّلُونَ فِي أَسَانِيدِ أَحَادِيثِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مَا لَا يُسَهِّلُونَ فِي أَسَانِيدِ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ ؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْوَعِيدِ يَحْمِلُ النُّفُوسَ عَلَى التَّرْكِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْوَعِيدُ حَقًّا كَانَ الْإِنْسَانُ قَدْ نَجَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْوَعِيدُ حَقًّا بَل عُقُوبَةُ الْفِعْلِ أَخَفُّ مِن ذَلِكَ الْوَعِيدِ لَمْ يَضُرَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَرَكَ ذَلِكَ الْفِعْلَ خَطَؤُهُ فِي اعْتِقَادِهِ زِيَادَةَ الْعُقُوبَةِ، لِأَنَّهُ إنْ اعْتَقَدَ نَقْصَ الْعُقُوبَةِ فَقَدْ يُخْطِئُ أَيْضًا وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَعْتَقِدْ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا، فَقَدْ يُخْطِئُ فَهَذَا الْخَطَأُ قَدْ يُهَوِّنُ الْفِعْلَ عِنْدَهُ فَيَقَعُ فِيهِ فَيَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الزَّائِدَةَ إنْ كَانَتْ ثَابِتَةً أَوْ يَقُومُ بِهِ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ .
فَإِذًا الْخَطَأُ فِي الِاعْتِقَادِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ تَقْدِيرِ اعْتِقَادِ الْوَعِيدِ وَتَقْدِيرِ عَدَمِهِ سَوَاءٌ وَالنَّجَاةُ مِن الْعَذَابِ عَلَى تَقْدِيرِ اعْتِقَادِ الْوَعِيدِ أَقْرَبُ فَيَكُونُ هَذَا التَّقْدِيرُ أَوْلَى .(2/70)
وَبِهَذَا الدَّلِيلِ رَجَّحَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ الدَّلِيلَ الْحَاظِرَ عَلَى الدَّلِيلِ الْمُبِيحِ(1)وَسَلَكَ كَثِيرٌ مِن الْفُقَهَاءِ دَلِيلَ الِاحْتِيَاطِ فِي كَثِيرٍ مِن الْأَحْكَامِ بِنَاءً عَلَى هَذَا، وَأَمَّا الِاحْتِيَاطُ فِي الْفِعْلِ فَكَالْمُجْمَعِ عَلَى حُسْنِهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ فِي الْجُمْلَةِ فَإِذَا كَانَ خَوْفُهُ مِن الْخَطَإِ بِنَفْيِ اعْتِقَادِ الْوَعِيدِ مُقَابِلًا لِخَوْفِهِ مِن الْخَطَإِ فِي عَدَمِ هَذَا الِاعْتِقَادِ : بَقِيَ الدَّلِيلُ الْمُوجِبُ لِاعْتِقَادِهِ وَالنَّجَاةُ الْحَاصِلَةُ فِي اعْتِقَادِهِ دَلِيلَيْنِ سَالِمَيْنِ عَن الْمُعَارِضِ .
__________
(1) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 20 / ص 30) و (ج 22 / ص 102) و(ج 28 / ص 146) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 422) م الفتوى 10914 حكم لبس قليل الحرير للرجال وأبحاث هيئة كبار العلماء - (ج 7 / ص 338) ومجلة مجمع الفقه الإسلامي - (ج 2 / ص 11630) و(ج 2 / ص 14512) و(ج 2 / ص 16022) و(ج 2 / ص 20185) و(ج 2 / ص 20550) وغمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر - (ج 2 / ص 210) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 5 / ص 445) والأشباه والنظائر لابن نجيم - (ج 1 / ص 110) وشرح التلويح على التوضيح - (ج 2 / ص 230)(2/71)
وَلَيْسَ لِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ عَدَمُ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ عَلَى الْوَعِيدِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِهِ كَعَدَمِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ عَلَى الْقِرَاءَاتِ الزَّائِدَةِ عَلَى مَا فِي الْمُصْحَفِ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَمَن قَطَعَ بِنَفْيِ شَيْءٍ مِن الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى وُجُودِهَا كَمَا هُوَ طَرِيقَةُ طَائِفَةٍ مِن الْمُتَكَلِّمِينَ فَهُوَ مُخْطِئٌ خَطَأً بَيِّنًا، لَكِنْ إذَا عَلِمْنَا أَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ الدَّلِيلِ وَعَلِمْنَا عَدَمَ الدَّلِيلِ وَقَطَعْنَا بِعَدَمِ الشَّيْءِ الْمُسْتَلْزِمِ، لِأَنَّ عَدَمَ اللَّازِمِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْمَلْزُومِ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الدَّوَاعِيَ مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى نَقْلِ كِتَابِ اللَّهِ وَدِينِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأُمَّةِ كِتْمَانُ مَا يُحْتَاجُ إلَى نَقْلِهِ حُجَّةً عَامَّةً، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ نَقْلًا عَامًّا صَلَاةً سَادِسَةً وَلَا سُورَةً أُخْرَى عَلِمْنَا يَقِينًا عَدَمَ ذَلِكَ . وَبَابُ الْوَعِيدِ لَيْسَ مِن هَذَا الْبَابِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ فِي كُلِّ وَعِيدٍ عَلَى فِعْلٍ أَنْ يُنْقَلَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا كَمَا لَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِلْوَعِيدِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا فِي مُقْتَضَاهَا : بِاعْتِقَادِ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ مُتَوَعَّدٌ بِذَلِكَ الْوَعِيدِ لَكِنَّ لُحُوقَ الْوَعِيدِ بِهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى شُرُوطٍ ؛ وَلَهُ مَوَانِعُ .
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَظْهَرُ بِأَمْثِلَةِ:
المثال الأول- حول ربا الفضل وربا الأجل :(2/72)
فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَه " .(1)
مِنهَا أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ :" لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ "(2)
وعَن يَحْيَى قَالَ سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَبْدِ الْغَافِرِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ - رضى الله عنه - قَالَ جَاءَ بِلاَلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِتَمْرٍ بَرْنِىٍّ فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مِن أَيْنَ هَذَا » . قَالَ بِلاَلٌ كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِىٌّ ، فَبِعْتُ مِنهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ ، لِنُطْعِمَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ « أَوَّهْ أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبَا ، لاَ تَفْعَلْ ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِىَ فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِهِ »(3).
وعَن مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ سَمِعَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « الْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ »(4)
__________
(1) - سنن الترمذى برقم(1248 ) وهو صحيح
(2) - سنن الترمذى برقم(1248 ) ٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ. وهو صحيح
(3) - صحيح البخارى برقم(2312 ) ومسلم برقم(4167 )
(4) - صحيح البخارى برقم(2170 )(2/73)
وَهَذَا يُوجِبُ دُخُولَ نَوْعَيْ الرِّبَا : رِبَا الْفَضْلِ وَرِبَا النسأ فِي الْحَدِيثِ . وعَنِ الأَوْزَاعِىِّ قَالَ حَدَّثَنِى عَطَاءُ بْنُ أَبِى رَبَاحٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ لَقِىَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ أَرَأَيْتَ قَوْلَكَ فِى الصَّرْفِ أَشَيْئًا سَمِعْتَهُ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمْ شَيْئًا وَجَدْتَهُ فِى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَلاَّ لاَ أَقُولُ أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ، وَأَمَّا كِتَابُ اللَّهِ فَلاَ أَعْلَمُهُ وَلَكِنْ حَدَّثَنِى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « أَلاَ إِنَّمَا الرِّبَا فِى النَّسِيئَةِ »(1).
__________
(1) - صحيح مسلم برقم(4173 -4175)
قال النووي : "مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا عَن اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس أَنَّهُمَا كَانَا يَعْتَقِدَانِ أَنَّهُ لَا رِبَا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ ، وَأَنَّهُ يَجُوز بَيْع دِرْهَم بِدِرْهَمَيْنِ ، وَدِينَار بِدِينَارَيْنِ ، وَصَاع تَمْر بِصَاعَيْنِ مِن التَّمْر ، وَكَذَا الْحِنْطَة وَسَائِر الرِّبَوِيَّات ، كَانَا يَرَيَانِ جَوَاز بَيْع الْجِنْس بَعْضه بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا ، وَأَنَّ الرِّبَا لَا يَحْرُم فِي شَيْء مِن الْأَشْيَاء إِلَّا إِذَا كَانَ نَسِيئَة ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله : إِنَّهُ سَأَلَهُمَا عَن الصَّرْف فَلَمْ يَرَيَا بِهِ بَأْسًا ، يَعْنِي الصَّرْف مُتَفَاضِلًا كَدِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ ، وَكَانَ مُعْتَمَدهمَا حَدِيث أُسَامَة بْن زَيْد ( إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة ) ثُمَّ رَجَعَ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس عَن ذَلِكَ وَقَالَا بِتَحْرِيمِ بَيْع الْجِنْس بَعْضه بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا حِين بَلَغَهُمَا حَدِيث أَبِي سَعِيد كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِم مِن رُجُوعهمَا صَرِيحًا .
وَهَذِهِ الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم تَدُلّ عَلَى أَنَّ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس لَمْ يَكُنْ بَلَغَهُمَا حَدِيث النَّهْي عَن التَّفَاضُل فِي غَيْر النَّسِيئَة ، فَلَمَّا بَلَغَهُمَا رَجَعَا إِلَيْهِ .
وَأَمَّا حَدِيث أُسَامَة ( لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَة ) فَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ بِأَنَّهُ مَنْسُوخ بِهَذِهِ الْأَحَادِيث ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَرْك الْعَمَل بِظَاهِرِهِ ، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى نَسْخه .
وَتَأَوَّلَهُ آخَرُونَ تَأْوِيلَات :
أَحَدهَا : أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى غَيْر الرِّبَوِيَّات ، وَهُوَ كَبَيْعِ الدَّيْن بِالدَّيْنِ مُؤَجَّلًا بِأَنْ يَكُون لَهُ عِنْده ثَوْب مَوْصُوف ، فَيَبِيعهُ بِعَبْدٍ مَوْصُوف مُؤَجَّلًا ، فَإِنْ بَاعَهُ بِهِ حَالًّا جَازَ
الثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى الْأَجْنَاس الْمُخْتَلِفَة ، فَإِنَّهُ لَا رِبَا فِيهَا مِن حَيْثُ التَّفَاضُل ، بَلْ يَجُوز تَفَاضُلهَا يَدًا بِيَدٍ .
الثَّالِث : أَنَّهُ مُجْمَل ، وَحَدِيث عُبَادَة بْن الصَّامِت وَأَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ وَغَيْرهمَا مُبَيِّن ، فَوَجَبَ الْعَمَل بِالْمُبَيِّنِ ، وَتَنْزِيل الْمُجْمَل عَلَيْهِ . هَذَا جَوَاب الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه .وفي شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 461)(2/74)
فهؤلاء الَّذِينَ بَلَغَهُمْ قَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّمَا الرِّبَا فِى النَّسِيئَةِ ».
فَاسْتَحَلُّوا بَيْعَ الصَّاعَيْنِ بِالصَّاعِ يَدًا بِيَدِ؛ مِثْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ وَأَصْحَابِهِ : أَبِي الشَّعْثَاءِ ؛ وَعَطَاءٍ ؛ وطاوس ؛ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ ؛ وَغَيْرِهِمْ مِن أَعْيَانِ الْمَكِّيِّينَ الَّذِينَ هُمْ مِن صَفْوَةِ الْأُمَّةِ عِلْمًا وَعَمَلًا : لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ أَحَدًا مِنهُمْ بِعَيْنِهِ أَوْ مَن قَلَّدَهُ بِحَيْثُ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ : تَبْلُغُهُمْ لَعْنَةُ آكِلِ الرِّبَا ؛ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ تَأْوِيلًا سَائِغًا فِي الْجُمْلَةِ .
تحريم ربا الفضل :
هذا وقد أَطْبَقَتِ الأُْمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُل فِي بَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ إِذَا اجْتَمَعَ التَّفَاضُل مَعَ النَّسَاءِ ، وَأَمَّا إِذَا انْفَرَدَ نَقْدًا فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِ خِلاَفٌ قَدِيمٌ : صَحَّ عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ إِبَاحَتُهُ ، وَكَذَلِكَ عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا مَعَ رُجُوعِهِ عَنهُ ، وَرُوِيَ عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ ، وَفِيهِ عَن مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ شَيْءٌ مُحْتَمَلٌ ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَأَمَّا التَّابِعُونَ : فَصَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَن عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَفُقَهَاءِ الْمَكِّيِّينَ ، وَرُوِيَ عَن سَعِيدٍ وَعُرْوَةَ(1).
__________
(1) - المجموع 10 / 26، 33(2/75)
ونَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ قَال : أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الأَْمْصَارِ : مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَمَن تَبِعَهُ مِن أَهْل الْمَدِينَةِ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَن وَافَقَهُ مِن أَهْل الْعِرَاقِ ، وَالأَْوْزَاعِيُّ وَمَن قَال بِقَوْلِهِ مِن أَهْل الشَّامِ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدِ وَمَن وَافَقَهُ مِن أَهْل مِصْرَ ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ ، وَلاَ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ ، وَلاَ بُرٍّ بِبُرٍّ ، وَلاَ شَعِيرٍ بِشَعِيرٍ ، وَلاَ تَمْرٍ بِتَمْرٍ ، وَلاَ مِلْحٍ بِمِلْحٍ ، مُتَفَاضِلاً يَدًا بِيَدٍ ، وَلاَ نَسِيئَةً ، وَأَنَّ مَن فَعَل ذَلِكَ فَقَدْ أَرْبَى وَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ ، قَال : وَقَدْ رَوَيْنَا هَذَا الْقَوْل عَن جَمَاعَةٍ مِن أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَمَاعَةٍ يَكْثُرُ عَدَدُهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ(1).
وَنَاقَشَ السُّبْكِيُّ دَعْوَى الإِْجْمَاعِ مِن عِدَّةِ وُجُوهٍ ، وَانْتَهَى إِلَى الْقَوْل : فَعَلَى هَذَا امْتَنَعَ دَعْوَى الإِْجْمَاعِ فِي تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْل بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ، لَكِنَّا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَغْنُونَ عَنِ الإِْجْمَاعِ فِي ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَضَافِرَةِ ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى الإِْجْمَاعِ فِي مَسْأَلَةٍ خَفِيَّةٍ سَنَدُهَا قِيَاسٌ أَوِ اسْتِنْبَاطٌ دَقِيقٌ(2).
الأَْحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْل :
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْل(3)
__________
(1) - المجموع 10 / 40 - 41
(2) - المجموع 10 / 40 ، 41 ، 43 ، 47 - 50
(3) - المجموع 10 / 40 - 59(2/76)
فعَن عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ وَلاَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ ».(1)
وعَن أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لاَ فَضْلَ بَيْنَهُمَا »(2)
وعَن مُجَاهِدٍ قَالَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لاَ فَضْلَ بَيْنَهُمَا هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْنَا.(3)
وعَن مُجَاهِدٍ أَنَّ صَائِغًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ ، فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنِّي أَصُوغُ ، ثُمَّ أَبِيعُ الشَّيْءِ بِأَكْثَرَ مِن وَزْنِهِ ، وَأَسْتَفْضِلُ مِن ذَلِكَ قَدْرَ عَمَلِي ، أَوْ قَالَ عِمَالَتِي ، فَنَهَاهُ عَن ذَلِكَ ، فَجَعَلَ الصَّائِغُ يَرُدُّ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ ، وَيَأْبَى ابْنُ عُمَرَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَابِهِ أَوْ قَالَ : بَابَ الْمِسْجِدِ ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ ، لا فَضْلَ بَيْنَهُمَا ، هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْنَا ، وَعَهْدِنَا إِلَيْكُمْ"(4)
وعَن أَبِي سَعِيدٍ : أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لَيْسَ بَيْنَها فَضْلٌ ، وَلاَ يُبَاعُ عَاجِلٌ بِآجِلٍ.(5)
__________
(1) - صحيح مسلم(4142 )
(2) - سنن النسائى(4584) صحيح
(3) - سنن النسائى(4585 ) صحيح
(4) - مصنف عبد الرزاق(14575) صحيح
(5) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 7 / ص 101)(22931) صحيح(2/77)
وعَن أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ يَصْلُحُ دِرْهَمٌ بِدِرْهَمَيْنِ ، وَلاَ صَاعٌ بِصَاعَيْنِ ، الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ.(1)
وعن يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ نَافِعًا أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ ثَابِتٍ الْعُتْوَارِيَّ، ذَكَرَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يُحَدِّثُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ: الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَضْلٌ. فَمَشَى ابْنُ عُمَرَ مَعَهُ، وَمَعَهُ نَافِعٌ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَدِيثِ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى عَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ، فَقَالَ: بَصُرَ عَيْنِي، وَسَمِعَ أُذُنِي رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَضْلٌ، وَلا يُبَاعُ عَاجِلٌ بِآجِلٍ.(2)
__________
(1) - .مصنف ابن أبي شيبة(ج 7 / ص 102)(22933) صحيح
(2) - مسند أبي عوانة (4369) صحيح(2/78)
وعَن أَبِي قِلَابَةَ ، قَالَ : كُنْتُ بِالشَّامِ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ ، فَجَاءَ أَبُو الْأَشْعَثِ ، قَالَ : قَالُوا : أَبُو الْأَشْعَثِ ، أَبُو الْأَشْعَثِ ، فَجَلَسَ ، فَقُلْتُ لَهُ : حَدِّثْ أَخَانَا حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، قَالَ : نَعَمْ ، غَزَوْنَا غَزَاةً وَعَلَى النَّاسِ مُعَاوِيَةُ ، فَغَنِمْنَا غَنَائِمَ كَثِيرَةً ، فَكَانَ فِيمَا غَنِمْنَا آنِيَةٌ مِن فِضَّةٍ ، فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ رَجُلًا أَنْ يَبِيعَهَا فِي أَعْطِيَاتِ النَّاسِ ، فَتَسَارَعَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ ، فَبَلَغَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ ، فَقَامَ ، فَقَالَ : إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَنْهَى عَن بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ ، وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ ، إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، عَيْنًا بِعَيْنٍ ، فَمَن زَادَ ، أَوِ ازْدَادَ ، فَقَدْ أَرْبَى " ، فَرَدَّ النَّاسُ مَا أَخَذُوا ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَامَ خَطِيبًا ، فَقَالَ : أَلَا مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَحَدَّثُونَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَادِيثَ قَدْ كُنَّا نَشْهَدُهُ وَنَصْحَبُهُ فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنهُ ، فَقَامَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ فَأَعَادَ الْقِصَّةَ ، ثُمَّ قَالَ : " لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَةُ - أَوْ قَالَ : وَإِنْ رَغِمَ - مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَصْحَبَهُ فِي جُنْدِهِ لَيْلَةً سَوْدَاءَ "(1)
__________
(1) - صحيح مسلم(4145 )(2/79)
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَال : إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ(1)فَقَدْ قَال ابْنُ الْقَيِّمِ : مِثْل هَذَا يُرَادُ بِهِ حَصْرُ الْكَمَال وَأَنَّ الرِّبَا الْكَامِل إِنَّمَا هُوَ فِي النَّسِيئَةِ ، كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (سورة الأنفال / 2) ،وَكَقَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ : إِنَّمَا الْعَالِمُ الَّذِي يَخْشَى اللَّهَ ، وَمِثْلُهُ عِنْدَ ابْنِ حَجَرٍ ، قَال : قِيل الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ : لاَ رِبًا إِلاَّ فِي النَّسِيئَةِ الرِّبَا الأَْغْلَظُ الشَّدِيدُ التَّحْرِيمِ الْمُتَوَعَّدُ عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ ، كَمَا تَقُول الْعَرَبُ : لاَ عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إِلاَّ زَيْدٌ مَعَ أَنَّ فِيهَا عُلَمَاءَ غَيْرَهُ ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ نَفْيُ الأَْكْمَل لاَ نَفْيُ الأَْصْل(2).
__________
(1) - صحيح مسلم (4172)
(2) - المغني 4 / 4، أحكام القرآن 1 / 466، وصحيح مسلم 11 / 25، وأعلام الموقعين 2 / 155، وفتح الباري 4 / 304 .(2/80)
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ : يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ مَفْهُومَ حَدِيثِ أُسَامَةَ عَامٌّ ؛ لأَِنَّهُ يَدُل عَلَى نَفْيِ رِبَا الْفَضْل عَن كُل شَيْءٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الأَْجْنَاسِ الرِّبَوِيَّةِ أَمْ لاَ ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنهَا مُطْلَقًا ، فَيُخَصَّصُ هَذَا الْمَفْهُومُ بِمَنطُوقِهَا(1).
المثال الثاني- اتيان النساء في أدبارهن:
وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَن طَائِفَةٍ مِن فُضَلَاءِ الْمَدَنِيِّينَ مِن إتْيَانِ الْمُحَاشِ مَعَ مَا رَوَاهُ أَبُو داود عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : « مَن أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، أَوْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِى دُبُرِهَا فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ »(2).
أَفَيَسْتَحِلُّ مُسْلِمٌ أَنْ يَقُولَ : إنَّ فُلَانًا وَفُلَانًا كَانَا كَافِرَيْنِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ؟!
__________
(1) - نيل الأوطار 5 / 216 – 217 ، وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 22 / ص 60) و مجموع فتاوى ابن باز - (ج 17 / ص 295) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 5 / ص 369) ونيل الأوطار - (ج 8 / ص 300) والسيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار - الرقمية - (ج 1 / ص 508) والمحلى(ج 7 / ص 258) والإحكام في أصول الأحكام - (ج 2 / ص 150) والمستصفى - (ج 1 / ص 493) و (ج 2 / ص 134) و(ج 2 / ص 171) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 6 / ص 261) وكشف الأسرار - (ج 6 / ص 297) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 239) والبحر المحيط - (ج 3 / ص 111) و(ج 4 / ص 22-25) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 2 / ص 336) والفصول في الأصول - (ج 1 / ص 257) وكتب وليد بن راشد السعيدان - (ج 3 / ص 13) والتلخيص فى أصول الفقه / لإمام الحرمين - (ج 2 / ص 81)
(2) - سنن أبى داود برقم(3906 ) وهو صحيح لغيره(2/81)
والظَّاهِرُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ كَمَا قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ ،وَقِيلَ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْإِتْيَانَ بِاسْتِحْلَالٍ وَتَصْدِيقٍ، فَالْكُفْرُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِنْ كَانَ بِدُونِهِمَا فَهُوَ عَلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ(1).
المثال الثالث – حول تحريم الخمر:
وَكَذَلِكَ قَدْ ثَبَتَ عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى الْخَمْرِ عَشَرَةً عَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَالْمُشْتَرِىَ لَهَا وَالْمُشْتَرَاةَ لَهُ"(2).
وَثَبَتَ عَنهُ - صلى الله عليه وسلم - مِن وُجُوهٍ أَنَّهُ قَالَ : « كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ »(3).
وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : « كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ »(4).
__________
(1) - تحفة الأحوذي - (ج 1 / ص 162)
(2) - - سنن الترمذى برقم(1342 ) وهو صحيح لغيره
(3) - صحيح البخارى برقم(242 ) و صحيح مسلم برقم(5329 )
(4) - صحيح مسلم برقم(5336 -5339) وانظر نيل الأوطار - (ج 11 / ص 321)(2/82)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ ، وَهْىَ مِن خَمْسَةِ أَشْيَاءَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ ، وَثَلاَثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يُفَارِقْنَا حَتَّى يَعْهَدَ إِلَيْنَا عَهْدًا الْجَدُّ وَالْكَلاَلَةُ وَأَبْوَابٌ مِن أَبْوَابِ الرِّبَا . قَالَ قُلْتُ يَا أَبَا عَمْرٍو فَشَىْءٌ يُصْنَعُ بِالسِّنْدِ مِنَ الرُّزِّ . قَالَ ذَاكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ قَالَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ .(1)
وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا مَا كَانُوا يَشْرَبُونَهُ فِي الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَرَابٌ إلَّا الْفَضِيخُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِن خَمْرِ الْأَعْنَابِ شَيْءٌ.
فعَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ كُنْتُ أَسْقِى أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ مِن فَضِيخِ زَهْوٍ وَتَمْرٍ فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ . فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ قُمْ يَا أَنَسُ فَأَهْرِقْهَا . فَأَهْرَقْتُهَا(2).
__________
(1) - - صحيح البخارى برقم(5588 )ِ وانظر شرحه في فتح الباري لابن حجر - (ج 16 / ص 60)
(2) - - صحيح البخارى برقم(5582 )َ = الفضيخ : شراب يتخذ من البسر(2/83)
وعن مُعْتَمِرَ عَن أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ كُنْتُ قَائِمًا عَلَى الْحَىِّ أَسْقِيهِمْ - عُمُومَتِى وَأَنَا أَصْغَرُهُمُ - الْفَضِيخَ ، فَقِيلَ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ . فَقَالُوا أَكْفِئْهَا . فَكَفَأْتُهَا . قُلْتُ لأَنَسٍ مَا شَرَابُهُمْ قَالَ رُطَبٌ وَبُسْرٌ . فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَنَسٍ وَكَانَتْ خَمْرَهُمْ . فَلَمْ يُنْكِرْ أَنَسٌ(1).
وعَن أَنَسٍ قَالَ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الْخَمْرُ حِينَ حُرِّمَتْ وَمَا نَجِدُ - يَعْنِى بِالْمَدِينَةِ - خَمْرَ الأَعْنَابِ إِلاَّ قَلِيلاً، وَعَامَّةُ خَمْرِنَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ .(2)
وَقَدْ كَانَ رِجَالٌ مِن أَفَاضِلِ الْأُمَّةِ عِلْمًا وَعَمَلًا مِن الْكُوفِيِّينَ يَعْتَقِدُونَ أَنْ لَا خَمْرَ إلَّا مِن الْعِنَبِ ،وَأَنَّ مَا سِوَى الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ لَا يَحْرُمُ مِن نَبِيذِهِ إلَّا مِقْدَارُ مَا يُسْكِرُ وَيَشْرَبُونَ مَا يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ(3).
فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَؤُلَاءِ مُنْدَرِجُونَ تَحْتَ الْوَعِيدِ لِمَا كَانَ لَهُمْ مِن الْعُذْرِ الَّذِي تَأَوَّلُوا بِهِ ،أَوْ لِمَوَانِعَ أُخَرَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الشَّرَابَ الَّذِي شَرِبُوهُ لَيْسَ مِن الْخَمْرِ الْمَلْعُونِ شَارِبُهَا، فَإِنَّ سَبَبَ الْقَوْلِ الْعَامِّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِيهِ ،وَلَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ خَمْرٌ مِن الْعِنَبِ.
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (5583 )
(2) - - صحيح البخارى برقم(5580 )
(3) - انظر المحلى لابن حزم - (ج 3 / ص 412)(1099 )(2/84)
وعَن أَبِى عَلْقَمَةَ مَوْلاَهُمْ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْغَافِقِىِّ أَنَّهُمَا سَمِعَا ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ »(1)
وَقَدْ بَاعَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ خَمْرًا حَتَّى بَلَغَ عُمَرَ فَقَالَ : قَاتَلَ اللَّهُ فُلاَنًا ، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا »(2).
وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّ بَيْعَهَا مُحَرَّمٌ وَلَمْ يَمْنَعْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ عِلْمُهُ بِعَدَمِ عِلْمِهِ أَنْ يُبَيِّنَ جَزَاءَ هَذَا الذَّنْبِ ؛ لِيَتَنَاهَى هُوَ وَغَيْرُهُ عَنهُ بَعْدَ بُلُوغِ الْعِلْمِ بِهِ .
__________
(1) - - سنن أبى داود برقم(3676 ) وهو صحيح .
(2) - - صحيح البخارى برقم(2223 ) = جمل : أذاب
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ مَا حُرِّمَتْ عَيْنُهُ ،وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الصَّحَابَةِ الْقِيَاسَ فِي الْأُمُورِ ، مِن غَيْرِ نَكِيرٍ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَاسَ تَحْرِيمَ بَيْعِ الْخَمْرِ عِنْدَ تَحْرِيمِهَا عَلَى بَيْعِ الشُّحُومِ عِنْدَ تَحْرِيمِهَا وَهُوَ قِيَاسٌ مِن غَيْرِ شَكٍّ ، وَقَدْ وَقَعَ تَأْكِيدُ أَمْرِهِ بِأَنْ قَالَ عُمَرُ فِيمَنْ خَالَفَهُ " قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا " وَفُلَانٌ الَّذِي كُنِّيَ عَنهُ : هُوَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ .إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام - (ج 3 / ص 194)(2/85)
وَقَدْ لَعَنَ الْعَاصِرَ وَالْمُعْتَصِرَ ؛ وَكَثِيرٌ مِن الْفُقَهَاءِ يُجَوِّزُونَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْصِرَ لِغَيْرِهِ عِنَبًا وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ مِن نِيَّتِهِ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَمْرًا(1)، فَهَذَا نَصٌّ فِي لَعْنِ الْعَاصِرِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَعْذُورَ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنهُ لِمَانِعِ .
المثال الرابع- حول لعن الواصلة والموصولة :
وَكَذَلِكَ لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ صِحَاحٍ(2)
__________
(1) - انظر تفاصيل هذا الموضوع: الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 9 / ص 208) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 4 / ص 233) وأبحاث هيئة كبار العلماء - (ج 5 / ص 414) ومجلة مجمع الفقه الإسلامي - (ج 2 / ص 10744) و(ج 2 / ص 18611)
(2) - صحيح البخارى برقم(5941 )عن أَسْمَاءَ قَالَتْ سَأَلَتِ امْرَأَةٌ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِى أَصَابَتْهَا الْحَصْبَةُ ، فَامَّرَقَ شَعَرُهَا ، وَإِنِّى زَوَّجْتُهَا أَفَأَصِلُ فِيهِ فَقَالَ « لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ » . امرقَّ : تساقط
و مسند أحمد يرقم (2302)عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ وَالْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ. وهو صحيح
والمعجم الكبير للطبراني - (ج 7 / ص 206) برقم(7675 ) عَن أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"لَعَنَ الْوَاصِلَةَ، وَالْمَوْصُولَةَ، وَالْوَاشِمَةَ، وَالْمَوْشُومَةَ".صحيح
الواصِلة : التي تَصِل شَعْرَها بشَعْرٍ آخرَ زُورٍ = الموصولة : التي تستخدم شعرا مستعارا لإطالة شعرها= الواشمة : هي فاعلة الوشم وهو أن يغرز الجلد بإبرة ثم يحشى بكحل أو نيل فيزرق أثره أو يخضر(2/86)
فعن أَسْمَاءَ قَالَتْ سَأَلَتِ امْرَأَةٌ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِى أَصَابَتْهَا الْحَصْبَةُ ، فَامَّرَقَ شَعَرُهَا ، وَإِنِّى زَوَّجْتُهَا أَفَأَصِلُ فِيهِ فَقَالَ « لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ »(1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ وَالْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ.(2)
وعَن أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - :"لَعَنَ الْوَاصِلَةَ، وَالْمَوْصُولَةَ، وَالْوَاشِمَةَ، وَالْمَوْشُومَةَ"(3)
__________
(1) - - صحيح البخارى برقم(5941 ) . امرقَّ : تساقط
(2) - مسند أحمد يرقم (2302) وهو صحيح
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 7 / ص 206) برقم(7675 ) صحيح
الواصِلة : التي تَصِل شَعْرَها بشَعْرٍ آخرَ زُورٍ = الموصولة : التي تستخدم شعرا مستعارا لإطالة شعرها= الواشمة : هي فاعلة الوشم وهو أن يغرز الجلد بإبرة ثم يحشى بكحل أو نيل فيزرق أثره أو يخضر(2/87)
ومع هذا فإنَّ مِن الْفُقَهَاءِ مَن يَكْرَهُهُ فَقَطْ، قال الحافظ ابن حجر :" قَالَ الطَّبَرِيُّ : لَا يَجُوز لِلْمَرْأَةِ تَغْيِير شَيْء مِن خِلْقَتهَا الَّتِي خَلَقَهَا اللَّه عَلَيْهَا بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْص اِلْتِمَاس الْحُسْن لَا لِلزَّوْجِ وَلَا لِغَيْرِهِ كَمَن تَكُون مَقْرُونَة الْحَاجِبَيْنِ فَتُزِيل مَا بَيْنهمَا تَوَهُّم الْبَلَج أَوْ عَكْسه ، وَمَن تَكُون لَهَا سِنّ زَائِدَة فَتَقْلَعهَا أَوْ طَوِيلَة فَتَقْطَع مِنهَا أَوْ لِحْيَة أَوْ شَارِب أَوْ عَنفَقَة فَتُزِيلهَا بِالنَّتْفِ ، وَمَن يَكُون شَعْرهَا قَصِيرًا أَوْ حَقِيرًا فَتُطَوِّلهُ أَوْ تُغْزِرهُ بِشَعْرِ غَيْرهَا ، فَكُلّ ذَلِكَ دَاخِل فِي النَّهْي . وَهُوَ مِن تَغْيِير خَلْق اللَّه تَعَالَى . قَالَ : وَيُسْتَثْنَى مِن ذَلِكَ مَا يَحْصُل بِهِ الضَّرَر وَالْأَذِيَّة كَمَن يَكُون لَهَا سِنّ زَائِدَة أَوْ طَوِيلَة تُعِيقهَا فِي الْأَكْل أَوْ إِصْبَع زَائِدَة تُؤْذِيهَا أَوْ تُؤْلِمهَا فَيَجُوز ذَلِكَ ، وَالرَّجُل فِي هَذَا الْأَخِير كَالْمَرْأَةِ ، وَقَالَ النَّوَوِيّ : يُسْتَثْنَى مِن النِّمَاص مَا إِذَا نَبَتَ لِلْمَرْأَةِ لِحْيَة أَوْ شَارِب أَوْ عَنفَقَة فَلَا يَحْرُم عَلَيْهَا إِزَالَتهَا بَل يُسْتَحَبّ .(2/88)
قُلْت : وَإِطْلَاقه مُقَيَّد بِإِذْنِ الزَّوْج وَعِلْمه ، وَإِلَّا فَمَتَى خَلَا عَن ذَلِكَ مُنِعَ لِلتَّدْلِيسِ . وَقَالَ بَعْض الْحَنَابِلَة : إِنْ كَانَ النَّمْص أَشْهَر شِعَارًا لِلْفَوَاجِرِ اِمْتَنَعَ وَإِلَّا فَيَكُون تَنْزِيهًا ، وَفِي رِوَايَة يَجُوز بِإِذْنِ الزَّوْج إِلَّا إِنْ وَقَعَ بِهِ تَدْلِيس فَيَحْرُم ، قَالُوا وَيَجُوز الْحَفّ وَالتَّحْمِير وَالنَّقْش وَالتَّطْرِيف إِذَا كَانَ بِإِذْنِ الزَّوْج لِأَنَّهُ مِن الزِّينَة . وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِن طَرِيق أَبِي إِسْحَاق عَن اِمْرَأَته أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَة وَكَانَتْ شَابَّة يُعْجِبهَا الْجَمَال فَقَالَتْ : الْمَرْأَة تَحُفّ جَبِينهَا لِزَوْجِهَا فَقَالَتْ : أَمِيطِي عَنك الْأَذَى مَا اِسْتَطَعْت(1).
__________
(1) - عَن أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ : دَخَلَتِ امْرَأَتِي عَلَى عَائِشَةَ ،...وَسَأَلَتْهَا امْرَأَتِي عَنِ الْمَرْأَةِ تَحُفُّ جَبِينَهَا فَقَالَتْ : " أَمِيطِي عَنكِ الْأَذَى مَا اسْتَطَعْتِ " مُسْنَدُ ابْنِ الْجَعْدِ (392 ) حسن
وعَنِ امْرَأَةِ ابْنِ أَبِي الصَّقْرِ ، أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ فَسَأَلَتْهَا امْرَأَةٌ ؟ فَقَالَتْ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّ فِي وَجْهِي شَعَرَاتٌ أَفَأَنْتِفُهُنَّ أَتَزَيَّنُ بِذَلِكَ لِزَوْجِي ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : " أَمِيطِي عَنكِ الْأَذَى ، وَتَصَنَّعِي لِزَوْجِكِ كَمَا تَصَنَّعِينَ لِلزِّيَارَةِ ، وَإِذَا أَمَرَكِ فَلْتُطِيعِيهِ ، وَإِذَا أَقْسَمَ عَلَيْكِ فَأَبِرِّيهِ ، وَلَا تَأْذَنِي فِي بَيْتِهِ لِمَنْ يَكْرَهُ "مصنف عبد الرزاق(5105) وفيه جهالة(2/89)
وَقَالَ النَّوَوِيّ : يَجُوز التَّزَيُّن بِمَا ذُكِرَ ، إِلَّا الْحَفّ فَإِنَّهُ مِن جُمْلَة النِّمَاص ."(1)
المثال الخامس – حول آنية الفضة:
عَن أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « الَّذِى يَشْرَبُ فِى آنِيَةِ الْفِضَّةِ، إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِى بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ »(2).
وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ، قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ ، فَإِنَّهُ مَن شَرِبَ فِيهِ فِي الدُّنْيَا ، لَمْ يَشْرَبْ فِيهِ فِي الآخِرَةِ.(3)
وقد اتفق الفقهاء في أمر واختلفوا في آخر،قَال النَّوَوِيُّ : قَال أَصْحَابُنَا : أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الاِسْتِعْمَال فِي إِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ إِلاَّ مَا حُكِيَ عَن دَاوُدَ ، وَإِلاَّ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ - وَقَدْ رَجَعَ عَنهُ - وَلأَِنَّهُ إِذَا حَرُمَ الشُّرْبُ فَالأَْكْل أَوْلَى ، لأَِنَّهُ أَطْوَل مُدَّةً وَأَبْلَغُ فِي السَّرَفِ(4).
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (ج 17 / ص 41) والمحلى لابن حزم - (ج 1 / ص 496)(433 ) وفتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 449) تزجيج الحواجب وفتاوى يسألونك - (ج 4 / ص 159) ما هو النمص ؟ وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 2832) رقم الفتوى 22826 هناك فرق بين النمص والحف و(ج 4 / ص 9575) رقم الفتوى 29137 يجوز نتف الشعر من الوجه
(2) - صحيح مسلم يرقم(5506 ) .يجرجر : يحدر فيه
(3) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 8 / ص 22)(24616) صحيح
(4) المجموع شرح المهذب ( 1 / 250 ) .(2/90)
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ النَّوَوِيُّ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ فِي تَحْرِيمِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ ، وَكَذَا سَائِرُ أَنْوَاعِ الاِسْتِعْمَالاَتِ ، وَمِنهَا تَزْيِينُ الْحَوَانِيتِ وَالْبُيُوتِ بِهَا ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ وَمِن قَبْلِهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ ، مَعَ مُلاَحَظَةِ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ عَبَّرُوا فِي هَذَا الْمَقَامِ بِالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ لاَ الْحَرَامِ ، وَأَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ هِيَ : عَيْنُ الْفِضَّةِ ، أَوِ الْخُيَلاَءُ وَالسَّرَفُ(1).
وأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اقْتِنَاءَ الْفِضَّةِ عَلَى غَيْرِ صُورَةِ الأَْوَانِي لاَ يَحْرُمُ إِذَا كَانَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْفِضَّةِ عَلَى صُورَةِ الأَْوَانِي وَنَحْوِهَا مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ ، فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ آرَاءٌ :
__________
(1) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 32 / ص 162) واللباب للميداني 4 / 158، وبدائع الصنائع 5 / 132، ونتائج الأفكار مع الهداية والعناية 10 / 7 - 6، والرسالة لابن أبي زيد القيرواني ص75، وشرح أبي الحسن على الرسالة بحاشية العدوي 2 / 430، والقوانين الفقهية ص26، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 64، والخرشي مع حاشية العدوي 1 / 100، والمجموع 1 / 250، وصحيح مسلم ، بشرح النووي 14 / 27 - 37، والأم للشافعي 1 / 8، ومختصر المزني بهامش الأم 1 / 4، والمغني 1 / 75، والمبدع 1 / 66، وشرح منتهى الإرادات 1 / 24 .(2/91)
الرَّأْيُ الأَْوَّل ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الرَّاجِحَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ، وَهَؤُلاَءِ يَرَوْنَ أَنَّ اقْتِنَاءَ أَوَانِي الْفِضَّةِ تَحْرُمُ كَمَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا ، لأَِنَّ مَا لاَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لاَ يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ ، وَلأَِنَّ اتِّخَاذَهُ يُؤَدِّي إِلَى اسْتِعْمَال مُحَرَّمٍ ، فَيَحْرُمُ ، كَإِمْسَاكِ الْخَمْرِ ، وَلأَِنَّ الْمَنعَ مِنَ الاِسْتِعْمَال لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُيَلاَءِ وَالسَّرَفِ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الاِتِّخَاذِ ، وَلأَِنَّ الاِتِّخَاذَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ عَبَثٌ ، فَيَحْرُمُ(1).
الرَّأْيُ الثَّانِي : أَنَّ اتِّخَاذَ أَوَانِي الْفِضَّةِ لاَ يَحْرُمُ إِذَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَرِوَايَةٌ أَوْ وَجْهٌ عَن أَحْمَدَ ، لأَِنَّ الْخَبَرَ إِنَّمَا وَرَدَ بِالاِسْتِعْمَال فَلاَ يَحْرُمُ الاِتِّخَاذُ ، كَمَا لَوِ اتَّخَذَ الرَّجُل ثِيَابَ الْحَرِيرِ وَاقْتَنَاهَا دُونَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا ، فَكَذَا اقْتِنَاءُ أَوَانِي الْفِضَّةِ دُونَ اسْتِعْمَالِهَا(2).
__________
(1) - نتائج الأفكار مع الهداية 10 / 8، وحاشية العدوي على شرح أبي الحسن 2 / 430، المجموع للنووي 1 / 252، والمغني 1 / 77 .
(2) - المبدع 1 / 66، وشرح أبي الحسن مع حاشية العدوي 2 / 430 .(2/92)
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى تَحْرِيمِ الاِتِّخَاذِ فِي بَابِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ ، فَقَال فِي الْمُخْتَصَرِ : فَإِنِ اتَّخَذَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ إِنَاءَ ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ زَكَّيَاهُ فِي الْقَوْلَيْنِ(1)لأَِنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنهُمَا اتِّخَاذُهُ(2).
الرَّأْيُ الثَّالِثُ : أَنَّ التَّحْرِيمَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الاِتِّخَاذُ بِقَصْدِ الاِسْتِعْمَال ، أَمَّا إِذَا كَانَ اتِّخَاذُهُ بِقَصْدِ الْعَاقِبَةِ ، أَوْ لِزَوْجَتِهِ ، أَوْ بِنْتِهِ ، أَوْ لاَ لِشَيْءٍ ، فَلاَ حُرْمَةَ ، وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ الْعَدَوِيُّ(3).
وَقَال الدَّرْدِيرُ : وَحَرُمَ اقْتِنَاؤُهُ - أَيِ ادِّخَارُهُ - وَلَوْ لِعَاقِبَةِ دَهْرٍ ، لأَِنَّهُ ذَرِيعَةٌ لِلاِسْتِعْمَال ، وَكَذَا التَّجَمُّل بِهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ ، وَقَوْلُنَا : " وَلَوْ لِعَاقِبَةِ دَهْرٍ " هُوَ مُقْتَضَى النَّقْل ، وَيُشْعِرُ بِهِ التَّعْلِيل ، وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي الْجَزْمُ بِهِ ، إِذِ الإِْنَاءُ لاَ يَجُوزُ لِرَجُلٍ وَلاَ لاِمْرَأَةٍ ، فَلاَ مَعْنَى لاِِتِّخَاذِهِ لِلْعَاقِبَةِ ، بِخِلاَفِ الْحُلِيِّ(4).
__________
(1) - مختصر المزني بهامش الأم 1 / 238، والمجموع 1 / 252 .
(2) - المطلب العالي مخطوط ج1 ورقة 160 أ .
(3) - حاشية العدوي على الخرشي 1 / 98 .
(4) - الشرح الكبير 1 / 64 .(2/93)
وَقَال الدُّسُوقِيُّ : وَالْحَاصِل أَنَّ اقْتِنَاءَهُ إِنْ كَانَ بِقَصْدِ الاِسْتِعْمَال فَحَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ ، وَإِنْ كَانَ لِقَصْدِ الْعَاقِبَةِ أَوِ التَّجَمُّل أَوْ لاَ لِقَصْدِ شَيْءٍ ، فَفِي كُلٍّ قَوْلاَنِ ، وَالْمُعْتَمَدُ الْمَنعُ(1).
__________
(1) - الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 64 .، الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 32 / ص 162) وانظر فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 228) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 150 / ص 15) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 2667) ومجموع رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية - (ج 31 / ص 16) و لقاءات الباب المفتوح - (ج 150 / ص 15) حكم اتخاذ آنية الذهب والفضة للزينة(2/94)
وقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي النَّيْلِ(1): وَلَا شَكَّ أَنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَأَمَّا سَائِرُ الِاسْتِعْمَالَاتِ فَلَا، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ ، فَإِنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ عَن الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ هِيَ التَّشَبُّهُ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ حَيْثُ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَّةٍ مِن فِضَّةٍ ، وَذَلِكَ مَنَاطٌ مُعْتَبَرٌ لِلشَّارِعِ كَمَا ثَبَتَ عَنهُ لَمَّا رَأَى رَجُلًا مُتَخَتِّمًا بِخَاتَمٍ مِن ذَهَبٍ فَقَالَ مَالِي أَرَى عَلَيْك حِلْيَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ . أَخْرَجَهُ الثَّلَاثَةُ مِن حَدِيثِ بُرَيْدَةَ ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ وَإِلَّا لَزِمَ تَحْرِيمُ التَّحَلِّي بِالْحُلِيِّ وَالِافْتِرَاشِ لِلْحَرِيرِ لِأَنَّ ذَلِكَ اِسْتِعْمَالٌ وَقَدْ جَوَّزَهُ الْبَعْضُ مِن الْقَائِلِينَ بِتَحْرِيمِ الِاسْتِعْمَالِ .
__________
(1) - تحفة الأحوذي - (ج 5 / ص 95) ونيل الأوطار - (ج 1 / ص 170)(2/95)
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ إِلَّا بِدَلِيلٍ يُسَلِّمُهُ الْخَصْمُ ، وَلَا دَلِيلَ فِي الْمَقَامِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، فَالْوُقُوفُ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ الْمُعْتَضِدِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ هُوَ وَظِيفَةُ الْمُنْصِفِ الَّذِي لَمْ يُخْبَطْ بِسَوْطِ هَيْبَةِ الْجُمْهُورِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَيَّدَ هَذَا الْأَصْلَ حَدِيثُ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« مَن أَحَبَّ أَنْ يُحَلَّقَ حَبِيبُهُ حَلْقَةً مِن نَارٍ فَلْيُحَلِّقْهُ حَلْقَةً مِن ذَهَبٍ ، وَمَن أَحَبَّ أَنْ يُطَوَّقَ حَبِيبَهُ طَوْقًا مِن نَارٍ فَلْيُطَوِّقْهُ طَوْقًا مِن ذَهَبٍ ، وَمَن أَحَبَّ أَنْ يُسَوَّرَ حَبِيبُهُ سِوَارًا مِن نَارٍ فَلْيُسَوِّرْهُ سِوَارًا مِن ذَهَبٍ ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِالْفِضَّةِ فَالْعَبُوا بِهَا لَعِبًا»." أَخْرَجَهُ ( البيهقي)(1)، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا روي عَن عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ أَرْسَلَنِى أَهْلِى إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِقَدَحٍ مِن مَاءٍ - وَقَبَضَ إِسْرَائِيلُ ثَلاَثَ أَصَابِعَ - مِن فِضَّةٍ فِيهِ شَعَرٌ مِن شَعَرِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ إِذَا أَصَابَ الإِنْسَانَ عَيْنٌ أَوْ شَىْءٌ بَعَثَ إِلَيْهَا مِخْضَبَهُ ، فَاطَّلَعْتُ فِى الْجُلْجُلِ فَرَأَيْتُ شَعَرَاتٍ حُمْرًا(2). اِنْتَهَى كَلَامُ الشَّوْكَانِيِّ بتصرف(3)
فنلاحظ أن المسالة وقع فيها خلاف بين العلماء .
المثال السادس – النهي عن قتال المسلم لأخيه :
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 4 / ص 140)(7803) حيث حسن
(2) - صحيح البخارى(5896 ) -الجحل : السقاء الضخم -الجلجل : الجرس الصغير وقد يتخذ إناء
(3) - انظر فتح الباري لابن حجر - (ج 16 / ص 488)(2/96)
عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ ذَهَبْتُ لأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ ، فَلَقِيَنِى أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ قُلْتُ أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ . قَالَ ارْجِعْ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِى النَّارِ » . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ: « إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ »(1).
يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي تَحْرِيمِ قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ،ثُمَّ إنَّا نَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ الْجَمَلِ وصفين لَيْسُوا فِي النَّارِ؛ لِأَنَّ لَهُمَا عُذْرًا وَتَأْوِيلًا فِي الْقِتَالِ وَحَسَنَاتٍ مَنَعَتْ الْمُقْتَضِي أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَهُ(2).
__________
(1) - - صحيح البخارى برقم(31 ) ومسلم برقم(7435 ) وفي شرح ابن بطال - (ج 1 / ص 68) وثبت أن حديث أبى بكرة لا يرد به الإلزام والحتم بالنار لكل قاتل ومقتول من المسلمين، لأنه - صلى الله عليه وسلم - سماهما مسلمين وإن التقيا بسيفيهما وقتل أحدهما صاحبه، ولم يخرجهما بذلك من الإسلام، وإنما يستحقان النار إن أنفذ الله عليهما الوعيد، ثم يخرجهما من النار بما فى قلوبهما من الإيمان وعلى هذا مضى السلف الصالح.
(2) - وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 1 / ص 268)
(
فَصْلٌ ) وَلَا يَجُوزُ تَكْفِيرُ الْمُسْلِمِ بِذَنْبِ فَعَلَهُ وَلَا بِخَطَأِ أَخْطَأَ فِيهِ كَالْمَسَائِلِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الْقِبْلَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِن رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِن رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ وَغَفَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ خَطَأَهُمْ . وَالْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ الَّذِينَ أَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِقِتَالِهِمْ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ . وَاتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ أَئِمَّةُ الدِّينِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ . وَلَمْ يُكَفِّرْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرُهُمَا مِن الصَّحَابَةِ بَلْ جَعَلُوهُمْ مُسْلِمِينَ مَعَ قِتَالِهِمْ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ عَلِيٌّ حَتَّى سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ وَأَغَارُوا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَقَاتَلَهُمْ لِدَفْعِ ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ لَا لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ . وَلِهَذَا لَمْ يَسْبِ حَرِيمَهُمْ وَلَمْ يَغْنَمْ أَمْوَالَهُمْ . وَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ثَبَتَ ضَلَالُهُمْ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لَمْ يُكَفَّرُوا مَعَ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِقِتَالِهِمْ فَكَيْفَ بِالطَّوَائِفِ الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ الْحَقُّ فِي مَسَائِلَ غَلِطَ فِيهَا مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنهُمْ ؟ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ مِن هَذِهِ الطَّوَائِفِ أَنْ تُكَفِّرَ الْأُخْرَى وَلَا تَسْتَحِلَّ دَمَهَا وَمَالَهَا وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا بِدْعَةٌ مُحَقَّقَةٌ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الْمُكَفِّرَةُ لَهَا مُبْتَدِعَةً أَيْضًا ؟ وَقَدْ تَكُونُ بِدْعَةُ هَؤُلَاءِ أَغْلَظَ وَالْغَالِبُ أَنَّهُمْ جَمِيعًا جُهَّالٌ بِحَقَائِقِ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ . وَالْأَصْلُ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ مُحَرَّمَةٌ مِن بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَا تَحِلُّ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا خَطَبَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ " { إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا } " وَقَالَ " { كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ : دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ } " . وَقَالَ " { مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } " وَقَالَ " { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ ؟ قَالَ : إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ } " وَقَالَ : " { لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ } " وَقَالَ " { إذَا قَالَ الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا } " وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا فِي الصِّحَاحِ . وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ مُتَأَوِّلًا فِي الْقِتَالِ أَوْ التَّكْفِيرِ لَمْ يُكَفَّرْ بِذَلِكَ كَمَا { قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بلتعة : يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ ؟ } وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَفِيهِمَا أَيْضًا : مِن حَدِيثِ الْإِفْكِ : { أَنَّ أسيد بْنَ الحضير . قَالَ لِسَعْدِ بْنِ عبادة : إنَّك مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَن الْمُنَافِقِينَ وَاخْتَصَمَ الْفَرِيقَانِ فَأَصْلَحَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَهُمْ } . فَهَؤُلَاءِ الْبَدْرِيُّونَ فِيهِمْ مَنْ قَالَ لِآخَرَ مِنهُمْ : إنَّك مُنَافِقٌ وَلَمْ يُكَفِّرْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَا هَذَا وَلَا هَذَا بَلْ شَهِدَ لِلْجَمِيعِ بِالْجَنَّةِ . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن { أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا بَعْدَ مَا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَعَظَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَلِكَ لَمَّا أَخْبَرَهُ وَقَالَ يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْته بَعْدَ مَا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ وَكَرَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ أُسَامَةُ : تَمَنَّيْت أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْت إلَّا يَوْمَئِذٍ } . وَمَعَ هَذَا لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ قَوَدًا وَلَا دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً لِأَنَّهُ كَانَ مُتَأَوِّلًا ظَنَّ جَوَازَ قَتْلِ ذَلِكَ الْقَائِلِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ قَالَهَا تَعَوُّذًا . فَهَكَذَا السَّلَفُ قَاتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِن أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين وَنَحْوِهِمْ وَكُلُّهُمْ مُسْلِمُونَ مُؤْمِنُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ اقْتِتَالِهِمْ وَبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إخْوَةٌ مُؤْمِنُونَ وَأَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ . وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ مَعَ الِاقْتِتَالِ يُوَالِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا مُوَالَاةَ الدِّينِ ، لَا يُعَادُونَ كَمُعَادَاةِ الْكُفَّارِ فَيَقْبَلُ بَعْضُهُمْ شَهَادَةَ بَعْضٍ وَيَأْخُذُ بَعْضُهُمْ الْعِلْمَ عَن بَعْضٍ وَيَتَوَارَثُونَ وَيَتَنَاكَحُونَ وَيَتَعَامَلُونَ بِمُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ ، مَعَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِن الْقِتَالِ وَالتَّلَاعُنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتَهُ بِسَنَةِ عَامَّةٍ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ وَسَأَلَهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِن غَيْرِهِمْ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ وَسَأَلَهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَلَمْ يُعْطَ ذَلِكَ } " وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِن غَيْرِهِمْ يَغْلِبُهُمْ كُلَّهُمْ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا وَبَعْضُهُمْ يَسْبِي بَعْضًا . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِن فَوْقِكُمْ } قَالَ أَعُوذُ بِوَجْهِك { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قَالَ أَعُوذُ بِوَجْهِك { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قَالَ هَاتَانِ أَهْوَنُ } " . هَذَا مَعَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف وَنَهَى عَن الْبِدْعَةِ وَالِاخْتِلَافِ وَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنهُمْ فِي شَيْءٍ } وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - " { عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ } " وَقَالَ : " { الشَّيْطَانُ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِن الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ } " وَقَالَ : " { الشَّيْطَانُ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ وَالذِّئْبُ إنَّمَا يَأْخُذُ الْقَاصِيَةَ وَالنَّائِيَةَ مِن الْغَنَمِ } " . فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا صَارَ فِي مَدِينَةٍ مِن مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُمْ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَيُوَالِيَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يُعَادِيَهُمْ وَإِنْ رَأَى بَعْضَهُمْ ضَالًّا أَوْ غَاوِيًا وَأَمْكَنَ أَنْ يَهْدِيَهُ وَيُرْشِدَهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُوَلِّيَ فِي إمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَفْضَلَ وَلَّاهُ وَإِنْ قَدَرَ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يُظْهِرُ الْبِدَعَ وَالْفُجُورَ مَنَعَهُ . وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ فَالصَّلَاةُ خَلْفَ الْأَعْلَمِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ الْأَسْبَقِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَفْضَلُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً . فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا } " . وَإِنْ كَانَ فِي هَجْرِهِ لِمُظْهِرِ الْبِدْعَةِ وَالْفُجُورِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ هَجَرَهُ كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . وَأَمَّا إذَا وَلَّى غَيْرَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَيْسَ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ كَانَ تَفْوِيتُ هَذِهِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ جَهْلًا وَضَلَالًا وَكَانَ قَدْ رَدَّ بِدْعَةً بِبِدْعَةِ . حَتَّى إنَّ الْمُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ خَلْفَ الْفَاجِرِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي إعَادَتِهِ الصَّلَاةَ وَكَرِهَهَا أَكْثَرُهُمْ حَتَّى قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ عبدوس : مَنْ أَعَادَهَا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ . وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يُعِيدُونَ الصَّلَاةَ إذَا صَلَّوْا خَلْفَ أَهْلِ الْفُجُورِ وَالْبِدَعِ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ أَحَدًا إذَا صَلَّى كَمَا أَمَرَ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ . وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ صَلَّى بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ لَا يُعِيدَ حَتَّى الْمُتَيَمِّمَ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ وَمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ إذَا صَلَّى بِحَسَبِ حَالِهِ وَالْمَحْبُوسُ وذووا الْأَعْذَارِ النَّادِرَةِ وَالْمُعْتَادَةِ وَالْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْقَطِعَةِ لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنهُمْ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ إذَا صَلَّى الْأُولَى بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الصَّحَابَةَ صَلَّوْا بِغَيْرِ مَاءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ لَمَّا فَقَدَتْ عَائِشَةُ عِقْدَهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْإِعَادَةِ بَلْ أَبْلَغُ مِن ذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ جَهْلًا بِوُجُوبِهَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ فَعَمْرٌو وَعَمَّارٌ لَمَّا أَجْنَبَا وَعَمْرٌو لَمْ يُصَلِّ وَعَمَّارٌ تَمَرَّغَ كَمَا تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ لَمْ يَأْمُرْهُمَا بِالْقَضَاءِ وَأَبُو ذَرٍّ لَمَّا كَانَ يُجْنِبُ وَلَا يُصَلِّي لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ وَالْمُسْتَحَاضَةُ لَمَّا اسْتَحَاضَتْ حَيْضَةً شَدِيدَةً مُنْكَرَةً مَنَعَتْهَا الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ لَمْ يَأْمُرْهَا بِالْقَضَاءِ . وَاَلَّذِينَ أَكَلُوا فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِأَحَدِهِمْ الْحَبْلُ الْأَبْيَضُ مِن الْحَبْلِ الْأَسْوَدِ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقَضَاءِ وَكَانُوا قَدْ غَلِطُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَظَنُّوا أَنَّ قَوْله تَعَالَى { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } هُوَ الْحَبْلُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - " { إنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ } " وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقَضَاءِ ، وَالْمُسِيءُ فِي صَلَاتِهِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا تَقَدَّمَ مِن الصَّلَوَاتِ وَاَلَّذِينَ صَلَّوْا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِمَكَّةَ وَالْحَبَشَةِ وَغَيْرِهِمَا بَعْدَ أَنْ نُسِخَتْ ( بِالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ وَصَارُوا يُصَلُّونَ إلَى الصَّخْرَةِ حَتَّى بَلَغَهُمْ النَّسْخُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ مَا صَلَّوْا وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ أَعْذَرَ مِن غَيْرِهِمْ لِتَمَسُّكِهِمْ بِشَرْعِ مَنْسُوخٍ .
وانظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 887) رقم الفتوى 41122 الفتن في عهد الخلفاء الراشدين تاريخ الفتوى : 15 شوال 1424(2/97)
قال ابن تيمية : " وَلَا يَجُوزُ تَكْفِيرُ الْمُسْلِمِ بِذَنْبِ فَعَلَهُ وَلَا بِخَطَأِ أَخْطَأَ فِيهِ كَالْمَسَائِلِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الْقِبْلَةِ،فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (285) سورة البقرة ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ وَغَفَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ خَطَأَهُمْ .(2/98)
وَالْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ الَّذِينَ أَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِقِتَالِهِم(1)
__________
(1) - كما في صحيح البخارى(4351 ) عَن عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ شُبْرُمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى نُعْمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ يَقُولُ بَعَثَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ - رضى الله عنه - إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ فِى أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِن تُرَابِهَا ، قَالَ فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ ، وَأَقْرَعَ بْنِ حَابِسٍ وَزَيْدِ الْخَيْلِ ، وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِن أَصْحَابِهِ كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِن هَؤُلاَءِ . قَالَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « أَلاَ تَأْمَنُونِى وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِى السَّمَاءِ ، يَأْتِينِى خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً » . قَالَ فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ ، نَاشِزُ الْجَبْهَةِ ، كَثُّ اللِّحْيَةِ ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ ، مُشَمَّرُ الإِزَارِ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اتَّقِ اللَّهَ . قَالَ « وَيْلَكَ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأَرْضِ أَنْ يَتَّقِىَ اللَّهَ » . قَالَ ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ ، قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ قَالَ « لاَ ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّى » . فَقَالَ خَالِدٌ وَكَمْ مِن مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِى قَلْبِهِ ..قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنِّى لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ قُلُوبَ النَّاسِ ، وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ » قَالَ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهْوَ مُقَفٍّ فَقَالَ « إِنَّهُ يَخْرُجُ مِن ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ » . وَأَظُنُّهُ قَالَ « لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ » . =المُشرف : مرتفع الوجنتين =الضئضئ : النسل(2/99)
ْ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ . وَاتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ أَئِمَّةُ الدِّينِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَن بَعْدَهُمْ . وَلَمْ يُكَفِّرْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرُهُمَا مِن الصَّحَابَةِ، بَل جَعَلُوهُمْ مُسْلِمِينَ مَعَ قِتَالِهِمْ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ عَلِيٌّ حَتَّى سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ وَأَغَارُوا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَاتَلَهُمْ لِدَفْعِ ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ لَا لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ . وَلِهَذَا لَمْ يَسْبِ حَرِيمَهُمْ وَلَمْ يَغْنَمْ أَمْوَالَهُمْ .
وَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ثَبَتَ ضَلَالُهُمْ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لَمْ يُكَفَّرُوا مَعَ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِقِتَالِهِمْ فَكَيْفَ بِالطَّوَائِفِ الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ الْحَقُّ فِي مَسَائِلَ غَلِطَ فِيهَا مَن هُوَ أَعْلَمُ مِنهُمْ ؟
فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ مِن هَذِهِ الطَّوَائِفِ أَنْ تُكَفِّرَ الْأُخْرَى وَلَا تَسْتَحِلَّ دَمَهَا وَمَالَهَا وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا بِدْعَةٌ مُحَقَّقَةٌ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الْمُكَفِّرَةُ لَهَا مُبْتَدِعَةً أَيْضًا ؟(2/100)
وَقَدْ تَكُونُ بِدْعَةُ هَؤُلَاءِ أَغْلَظَ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُمْ جَمِيعًا جُهَّالٌ بِحَقَائِقِ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ . وَالْأَصْلُ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ مُحَرَّمَةٌ مِن بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَا تَحِلُّ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا خَطَبَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ :« أَلاَ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا وَكَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا وَكَحُرْمَةِ بَلَدِكُمْ هَذَا »(1).
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا ». وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ « بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ».(2).
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَن صَلَّى صَلاَتَنَا ، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا ، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا ، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِى لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ ، فَلاَ تُخْفِرُوا اللَّهَ فِى ذِمَّتِهِ »(3)
وعَن جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ :« اسْتَنْصِتِ النَّاسَ » فَقَال: « لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ »(4).
__________
(1) - مسند أحمد(19480) صحيح
(2) - صحيح مسلم(6706 )
(3) - صحيح البخارى(391 )-تخفر : تنقض العهد
(4) - صحيح البخارى(121)(2/101)
وعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ . فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا »(1).
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا فِي الصِّحَاحِ . وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ مُتَأَوِّلًا فِي الْقِتَالِ أَوْ التَّكْفِيرِ لَمْ يُكَفَّرْ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ . قَالَ :« إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ » وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ(2).
وَفِيهِمَا أَيْضًا : مِن حَدِيثِ الْإِفْكِ : فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا وَاللَّهِ أَعْذِرُكَ مِنهُ ، إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِن إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَكَ . فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلاً صَالِحًا وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَقَالَ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ ، لاَ تَقْتُلُهُ وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ فَقَالَ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ ، وَاللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ . فَثَارَ الْحَيَّانِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنبَرِ فَنَزَلَ فَخَفَّضَهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ(3).
__________
(1) - صحيح البخارى(6104 )
(2) - صحيح البخارى (3007 ) ومسلم (6557)
(3) - صحيح البخارى(2661 ) ومسلم (7196)(2/102)
فَهَؤُلَاءِ الْبَدْرِيُّونَ فِيهِمْ مَن قَالَ لِآخَرَ مِنهُمْ : إنَّك مُنَافِقٌ وَلَمْ يُكَفِّرِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَا هَذَا وَلَا هَذَا، بَل شَهِدَ لِلْجَمِيعِ بِالْجَنَّةِ .
وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عن أبي ظَبْيَانَ قَالَ سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ - رضى الله عنهما - يَقُولُ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْحُرَقَةِ ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنهُمْ ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . فَكَفَّ الأَنْصَارِىُّ ، فَطَعَنتُهُ بِرُمْحِى حَتَّى قَتَلْتُهُ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - – فَقَالَ: « يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ » قُلْتُ كَانَ مُتَعَوِّذًا . فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ"(1).
وَمَعَ هَذَا لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ قَوَدًا وَلَا دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً ، لِأَنَّهُ كَانَ مُتَأَوِّلًا ظَنَّ جَوَازَ قَتْلِ ذَلِكَ الْقَائِلِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ قَالَهَا تَعَوُّذًا .
__________
(1) - صحيح البخارى(4269) وصحيح مسلم (288)(2/103)
فَهَكَذَا السَّلَفُ قَاتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِن أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين وَنَحْوِهِمْ وَكُلُّهُمْ مُسْلِمُونَ مُؤْمِنُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (9) سورة الحجرات، فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ اقْتِتَالِهِمْ وَبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إخْوَةٌ مُؤْمِنُونَ وَأَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ .
وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ مَعَ الِاقْتِتَالِ يُوَالِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا مُوَالَاةَ الدِّينِ ، لَا يُعَادُونَ كَمُعَادَاةِ الْكُفَّارِ فَيَقْبَلُ بَعْضُهُمْ شَهَادَةَ بَعْضٍ وَيَأْخُذُ بَعْضُهُمْ الْعِلْمَ عَن بَعْضٍ وَيَتَوَارَثُونَ وَيَتَنَاكَحُونَ وَيَتَعَامَلُونَ بِمُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ ، مَعَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِن الْقِتَالِ وَالتَّلَاعُنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .(2/104)
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَن ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِىَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِى سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِىَ لِى مِنهَا وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ وَإِنِّى سَأَلْتُ رَبِّى لأُمَّتِى أَنْ لاَ يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ وَأَنْ لاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِن سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ وَإِنَّ رَبِّى قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّى إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ وَإِنِّى أَعْطَيْتُكَ لأُمَّتِكَ أَنْ لاَ أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ وَأَنْ لاَ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِن سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَن بِأَقْطَارِهَا - أَوْ قَالَ مَن بَيْنَ أَقْطَارِهَا - حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِى بَعْضُهُمْ بَعْضًا »(1)..
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيح عَن جَابِرٍ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِن فَوْقِكُمْ ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَعُوذُ بِوَجْهِكَ » . قَالَ ( أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) قَالَ « أَعُوذُ بِوَجْهِكَ ( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « هَذَا أَهْوَنُ » . أَوْ « هَذَا أَيْسَرُ »(2).
__________
(1) - صحيح مسلم(7440 ) -البيضة : مجتمعهم وموضع سلطانهم -السنة : الجدب والقحط
(2) - صحيح البخارى(4628 )(2/105)
هَذَا مَعَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف وَنَهَى عَن الْبِدْعَةِ وَالِاخْتِلَافِ وَقَالَ : {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } (159) سورة الأنعام.
المثال السابع – الأمر بالجماعة والنهي عن الاختلاف:
قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ »(1).
وَقَالَ : " { الشَّيْطَانُ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِن الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ } "(2)وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ يَأْخُذُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ فَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ وَعَلَيْكُمْ بِالْجَماعَةِ وَالْعَامَّةِ والْمَسْجِدِ »(3).
__________
(1) - مسند أحمد (23846) صحيح
(2) - مسند أحمد (115) صحيح لغيره
(3) - مسند أحمد (22679) حسن لغيره(2/106)
فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا صَارَ فِي مَدِينَةٍ مِن مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُمْ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَيُوَالِيَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يُعَادِيَهُمْ، وَإِنْ رَأَى بَعْضَهُمْ ضَالًّا أَوْ غَاوِيًا وَأَمْكَنَ أَنْ يَهْدِيَهُ وَيُرْشِدَهُ فَعَلَ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا، وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُوَلِّيَ فِي إمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَفْضَلَ وَلَّاهُ وَإِنْ قَدَرَ أَنْ يَمْنَعَ مَن يُظْهِرُ الْبِدَعَ وَالْفُجُورَ مَنَعَهُ . وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ فَالصَّلَاةُ خَلْفَ الْأَعْلَمِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ الْأَسْبَقِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَفْضَلُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: « يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِى الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِى السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِى الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا وَلاَ يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِى سُلْطَانِهِ وَلاَ يَقْعُدْ فِى بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ »(1).
__________
(1) - صحيح مسلم(1564) -السلم : الإسلام =التكرمة : الفراش والبساط الخاص بصاحب المنزل(2/107)
وَإِنْ كَانَ فِي هَجْرِهِ لِمُظْهِرِ الْبِدْعَةِ وَالْفُجُورِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ هَجَرَهُ كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . وَأَمَّا إذَا وَلَّى غَيْرَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَيْسَ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ كَانَ تَفْوِيتُ هَذِهِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ جَهْلًا وَضَلَالًا وَكَانَ قَدْ رَدَّ بِدْعَةً بِبِدْعَةِ .
حَتَّى إنَّ الْمُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ خَلْفَ الْفَاجِرِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي إعَادَتِهِ الصَّلَاةَ وَكَرِهَهَا أَكْثَرُهُمْ حَتَّى قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ عبدوس : مَن أَعَادَهَا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ . وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يُعِيدُونَ الصَّلَاةَ إذَا صَلَّوْا خَلْفَ أَهْلِ الْفُجُورِ وَالْبِدَعِ ،وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ أَحَدًا إذَا صَلَّى كَمَا أَمَرَ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ . وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَن صَلَّى بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ لَا يُعِيدَ حَتَّى الْمُتَيَمِّمَ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ وَمَن عَدِمَ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ إذَا صَلَّى بِحَسَبِ حَالِهِ وَالْمَحْبُوسُ وذووا الْأَعْذَارِ النَّادِرَةِ وَالْمُعْتَادَةِ وَالْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْقَطِعَةِ لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنهُمْ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ إذَا صَلَّى الْأُولَى بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ .(2/108)
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الصَّحَابَةَ صَلَّوْا بِغَيْرِ مَاءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ لَمَّا فَقَدَتْ عَائِشَةُ عِقْدَهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْإِعَادَةِ(1)، بَل أَبْلَغُ مِن ذَلِكَ أَنَّ مَن كَانَ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ جَهْلًا بِوُجُوبِهَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ فَعُمَر وَعَمَّارٌ لَمَّا أَجْنَبَا وَعُمَر لَمْ يُصَلِّ وَعَمَّارٌ تَمَرَّغَ كَمَا تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ لَمْ يَأْمُرْهُمَا بِالْقَضَاءِ(2)،وَأَبُو ذَرٍّ لَمَّا كَانَ يُجْنِبُ وَلَا يُصَلِّي لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ، وَالْمُسْتَحَاضَةُ لَمَّا اسْتَحَاضَتْ حَيْضَةً شَدِيدَةً مُنْكَرَةً مَنَعَتْهَا الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ لَمْ يَأْمُرْهَا بِالْقَضَاءِ(3).
__________
(1) - صحيح البخارى(336)
(2) - سنن أبى داود(321 ) صحيح
(3) - مسند أحمد (28236) حسن(2/109)
وَاَلَّذِينَ أَكَلُوا فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِأَحَدِهِمْ الْحَبْلُ الْأَبْيَضُ مِن الْحَبْلِ الْأَسْوَدِ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقَضَاءِ وَكَانُوا قَدْ غَلِطُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَظَنُّوا أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (187) سورة البقرة ،هُوَ الْحَبْلُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - " { إنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ }(1)، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقَضَاءِ ، وَالْمُسِيءُ فِي صَلَاتِهِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا تَقَدَّمَ مِن الصَّلَوَاتِ(2)وَاَلَّذِينَ صَلَّوْا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِمَكَّةَ وَالْحَبَشَةِ وَغَيْرِهِمَا بَعْدَ أَنْ نُسِخَتْ ، بِالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ وَصَارُوا يُصَلُّونَ إلَى الصَّخْرَةِ حَتَّى بَلَغَهُمْ النَّسْخُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ مَا صَلَّوْا وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ أَعْذَرَ مِن غَيْرِهِمْ لِتَمَسُّكِهِمْ بِشَرْعِ مَنسُوخٍ"(3).
المثال الثامن – ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة:
__________
(1) - صحيح البخارى(1916 )
(2) - صحيح البخارى(757)
(3) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 1 / ص 268) وانظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 887) رقم الفتوى 41122 الفتن في عهد الخلفاء الراشدين تاريخ الفتوى : 15 شوال 1424(2/110)
عَن أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهْوَ كَاذِبٌ ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ ، فَيَقُولُ اللَّهُ الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِى ،كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ »(1).
وعَن سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو كَتَبَ إِلَى عَامِلٍ لَهُ عَلَى أَرْضٍ لَهُ أَنْ لاَ تَمْنَعْ فَضْلَ مَائِكَ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَن مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ فَضْلَ الْكَلإِ مَنَعَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَضْلَهُ »(2)
فَهَذَا وَعِيدٌ عَظِيمٌ لِمَن مَنَعَ فَضْلَ مَائِهِ مَعَ أَنَّ طَائِفَةً مِن الْعُلَمَاءِ يُجَوِّزُونَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَمْنَعَ فَضْلَ مَائِهِ.
قال المهلب: إنما خص النبى - صلى الله عليه وسلم - هذا الوقت بالتعظيم وجعل الإثم فيه أكبر من غيره؛ لشهود ملائكة الليل والنهار فى وقت العصر، وليرتدع الناس عن الأيمان الكاذبة فى هذا الوقت المعظم.
وقوله: « ثلاثة لا يكلمهم الله » يعنى: وقتًا دون وقت لمن أنفذ الله عليه الوعيد، وليس على الاستمرار والخلود. هذا مذهب أهل السنة، وفيه أنه قد يستحق النوع من العذاب على ذنوب مختلفة، فالمانع لفضل الماء أصغر معصية من المبايع الناكث، والحالف الآثم، والله أعلم.(3)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(2672 ، 2358 ، 2369 ، 7212 ، 7446 ) ومسلم برقم (306 - 312)
(2) - - مسند أحمد برقم(6893) صحيح لغيره
(3) - شرح ابن بطال - (ج 15 / ص 67)(2/111)
قلت : أما إذا كان الْمَنبَعُ مَمْلُوكًا : كَأَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي مَوَاتٍ لِلتَّمَلُّكِ ، أَوِ انْفَجَرَتْ فِي مِلْكِهِ عَيْنٌ . فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الْمَاءَ لأَِنَّهُ نَمَاءٌ مَلَكَهُ كَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْل الْفَاضِل مِنَ الْمَاءِ عَن شُرْبِهِ لِشُرْبِ غَيْرِهِ ، وَبَذْل مَا فَضَل عَن مَاشِيَتِهِ لِمَاشِيَةِ غَيْرِهِ لِحَدِيثِ : الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ : فِي الْكَلأَِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ "(1)بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ كَلأٌَ تَرْعَى الْمَاشِيَةُ مِنهُ ، وَلاَ يَجِدُ مَاءً مُبَاحًا أَوْ مَمْلُوكًا يَبْذُلُهُ صَاحِبُهُ لَهُ مَجَّانًا .
وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنهُ ، لِلنَّهْيِ عَن بَيْعِ فَضْل الْمَاءِ ، وَلاَ يَجِبُ بَذْل فَضْل الْمَاءِ لِزَرْعِهِ .
__________
(1) - سنن أبى داود (3479 ) صحيح(2/112)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : لَهُ مَنعُهُ مِن غَيْرِهِ ، وَبَيْعُهُ ، وَهِبَتُهُ ، وَالتَّصَدُّقُ بِهِ ، إِلاَّ مَن خِيفَ عَلَيْهِ هَلاَكٌ أَوْ ضَرَرٌ شَدِيدٌ ، وَلاَ ثَمَنَ مَعَهُ حِينَ الْخَوْفِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ ، فَلَيْسَ لِلْمَالِكِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَنعُهُ وَلاَ بَيْعُهُ ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُهُ لَهُ مَجَّانًا ، وَلاَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ . أَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ مَالٌ فَلاَ يَبْذُل لَهُ إِلاَّ بِالثَّمَنِ . وَكَذَا يَجِبُ عَلَى مَالِكِ الْمَاءِ بَذْل الْفَاضِل مِنَ الْمَاءِ لِزَرْعِ جَارِهِ ، بِشَرْطِ أَنْ يَظُنَّ هَلاَكَ الزَّرْعِ ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَاءُ فَاضِلاً عَن زَرْعِ مَالِكِ الْمَاءِ ، وَأَنْ يَزْرَعَ الْجَارُ زَرْعَهُ عَلَى مَاءٍ لَهُ ، وَأَنْ يَشْرَعَ فِي إِصْلاَحِ بِئْرِهِ .
فَإِنْ لَمْ يَفْضُل عَن زَرْعِهِ شَيْءٌ ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْل الْمَاءِ لِغَيْرِهِ ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَزْرَعِ الْجَارُ زَرْعَهُ عَلَى مَاءِ لِمُخَاطَرَتِهِ وَتَعْرِيضِهِ زَرْعَهُ لِلْهَلاَكِ ، وَكَذَا إِنْ كَانَ قَدْ زَرَعَ عَلَى مَاءٍ فَعَطِبَ وَلَمْ يَشْرَعْ فِي إِصْلاَحِهِ .(2/113)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : إِنَّ مَاءَ الآْبَارِ وَالْحِيَاضِ وَالْعُيُونِ لاَ يُمْلَكُ ، بَل هُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ ، سَوَاءٌ حُفِرَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أَوْ أَرْضٍ مُبَاحَةٍ ، وَلَكِنْ لِحَافِرِ الْبِئْرِ فِي مِلْكِهِ ، أَوْ فِي مَوَاتٍ لِلتَّمَلُّكِ ، وَلِمَن نَبَعَتِ الْعَيْنُ فِي أَرْضٍ يَمْلِكُهَا حَقُّ الاِخْتِصَاصِ ؛ لأَِنَّ الْمَاءَ فِي الأَْصْل خُلِقَ مُبَاحًا ، لِقَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ : الْكَلأَِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ وَالشَّرِكَةُ تَقْتَضِي الإِْبَاحَةَ لِجَمِيعِ الشُّرَكَاءِ إِلاَّ إِذَا حَصَل فِي إِنَاءٍ وَأَحْرَزَهُ بِهِ ، فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا ، لأَِنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَهُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لأَِحَدٍ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ غَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بَقِيَ عَلَى أَصْل الإِْبَاحَةِ الثَّابِتَةِ بِالشَّرْعِ ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ لأَِنَّ الْبَيْعَ لاَ يَصِحُّ فِي مَالٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ . وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنَ الشُّرْبِ بِأَنْفُسِهِمْ وَسَقْيِ دَوَابِّهِمْ مِنهُ لأَِنَّهُ مُبَاحٌ .(2/114)
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَمْنَعَ نَقْعَ الْبِئْرِ(1)وَهُوَ فَضْل مَائِهَا الَّذِي يَخْرُجُ مِنهَا ، فَلِلنَّاسِ أَنْ يَشْرَبُوا مِنهَا وَيَسْقُوا مِنهَا دَوَابَّهُمْ ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَلِصَاحِبِهَا أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الدُّخُول فِي مِلْكِهِ ؛ لأَِنَّ فِي الدُّخُول فِي مِلْكِهِ إِضْرَارًا بِهِ مِن غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عَن نَفْسِهِ . وَإِنِ اضْطُرُّوا إِلَيْهِ بِأَنْ لَمْ يَجِدُوا مَاءً غَيْرَهُ وَخَافُوا الْهَلاَكَ ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي الدُّخُول فِي مِلْكِهِ أَوْ يُخْرِجَ الْمَاءَ لَهُمْ ، وَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُ عَلَى ذَلِكَ بِالسِّلاَحِ لِيَأْخُذُوهُ ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ"(2)
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ ؛ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ بِكِتَابِ أَوْ سُنَّةٍ إذَا كَانَ بَعْضُ الْأُمَّةِ لَمْ يَبْلُغْهُمْ أَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ فَاسْتَحَلُّوهَا ،أَوْ عَارَضَ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ عِنْدَهُمْ أَدِلَّةٌ أُخْرَى رَأَوْا رُجْحَانَهَا عَلَيْهَا مُجْتَهِدِينَ فِي ذَلِكَ التَّرْجِيحِ بِحَسَبِ عَقْلِهِمْ وَعِلْمِهِمْ.
__________
(1) - مسند أحمد (25829) صحيح ، النقع : الفضل
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 25 / ص 374) فما بعد و المنتقى - شرح الموطأ - (ج 4 / ص 39) و نيل الأوطار - (ج 8 / ص 183)(2/115)
فَإِنَّ التَّحْرِيمَ لَهُ أَحْكَامٌ مِن التَّأْثِيمِ وَالذَّمِّ وَالْعُقُوبَةِ وَالْفِسْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَكِنْ لَهَا شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ فَقَدْ يَكُونُ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ مُنْتَفِيَةٌ لِفَوَاتِ شَرْطِهَا أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ ؛ أَوْ يَكُونُ التَّحْرِيمُ مُنْتَفِيًا فِي حَقِّ ذَلِكَ الشَّخْصِ مَعَ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ .
ولذلك لَمْ يَجُزْ أَنْ نُعَيِّنَ شَخْصًا مِمَن فَعَلَ بَعْضَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَنَقُولَ : هَذَا الْمُعَيَّنُ قَدْ أَصَابَهُ هَذَا الْوَعِيدُ ؛ لِإِمْكَانِ التَّوْبَةِ وَغَيْرِهَا مِن مُسْقِطَاتِ الْعُقُوبَةِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ نَقُولَ : هَذَا يَسْتَلْزِمُ لَعْنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَعْنَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ لَعْنَ الصِّدِّيقِينَ أَوْ الصَّالِحِينَ ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ : الصِّدِّيقُ وَالصَّالِحُ متى صَدَرَتْ مِنهُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَلَا بُدَّ مِن مَانِعٍ يَمْنَعُ لُحُوقَ الْوَعِيدِ بِهِ مَعَ قِيَامِ سَبَبِهِ، فَفِعْلُ هَذِهِ الْأُمُورِ مِمَن يَحْسِبُ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ بِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ نَوْعًا مِن أَنْوَاعِ الصِّدِّيقِينَ الَّذِينَ امْتَنَعَ لُحُوقُ الْوَعِيدِ بِهِمْ لِمَانِعِ ،كَمَا امْتَنَعَ لُحُوقُ الْوَعِيدِ بِهِ لِتَوْبَةِ أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السَّبِيلَ هِيَ الَّتِي يَجِبُ سُلُوكُهَا ؛ فَإِنَّ مَا سِوَاهَا طَرِيقَانِ خَبِيثَانِ :(2/116)
أَحَدُهُمَا : الْقَوْلُ بِلُحُوقِ الْوَعِيد لِكُلِّ فَرْدٍ مِن الْأَفْرَادِ بِعَيْنِهِ وَدَعْوَى أَنَّ هَذَا عَمَلٌ بِمُوجَبِ النُّصُوصِ ، وَهَذَا أَقْبَحُ مِن قَوْلِ الْخَوَارِجِ الْمُكَفِّرِينَ بِالذُّنُوبِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَفَسَادُهُ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ وَأَدِلَّتُهُ مَعْلُومَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
الثَّانِي : تَرْكُ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ بِمُوجَبِ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ظَنًّا أَنَّ الْقَوْلَ بِمُوجَبِهَا مُسْتَلْزِمٌ لِلطَّعْنِ فِيمَا خَالَفَهَا . وَهَذَا التَّرْكُ يَجُرُّ إلَى الضَّلَالِ وَاللُّحُوقِ بِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (31) سورة التوبة، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ »(1)
وَيُفْضِي إلَى طَاعَةِ الْمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ عَلَيْهِ وَلاَ طَاعَةَ »(2)
__________
(1) - - سنن الترمذى برقم(3378 ) وهو حسن لغيره .
(2) - - سنن الترمذى برقم(1809) وهو صحيح(2/117)
وَيُفْضِي إلَى قُبْحِ الْعَاقِبَةِ وَسُوءِ التَّأْوِيلِ الْمَفْهُومِ مِن فَحْوَى قَوْله تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء.
ثُمَّ إنَّ الْعُلَمَاءَ يَخْتَلِفُونَ كَثِيرًا ؛ فَإِنْ كَانَ كُلُّ خَبَرٍ فِيهِ تَغْلِيظٌ خَالَفَهُ مُخَالِفٌ تُرِكَ الْقَوْلُ بِمَا فِيهِ مِن التَّغْلِيظِ أَوْ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ مُطْلَقًا لَزِمَ مِن هَذَا مِن الْمَحْذُورِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِن أَنْ يُوصَفَ : مِنَ الْكُفْرِ وَالْمُرُوقِ مِن الدِّينِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَحْذُورُ مِن هَذَا أَعْظَمَ مِن الَّذِي قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ دُونَهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ نُؤْمِنَ بِالْكِتَابِ وَنَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا مِن رَبِّنَا جَمِيعِهِ ،لقوله تعالى : {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (3) سورة الأعراف.
وَلَا نُؤْمِنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَنَكْفُرَ بِبَعْضِ،لقوله تعالى : {ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (85) سورة البقرة.(2/118)
وَتَلِينَ قُلُوبُنَا لِاتِّبَاعِ بَعْضِ السُّنَّةِ ، وَتَنْفِرَ عَن قَبُولِ بَعْضِهَا بِحَسَبِ الْعَادَاتِ وَالْأَهْوَاءِ، فَإِنَّ هَذَا خُرُوجٌ عَن الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إلَى صِرَاطِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ.
- - - - - - - - - - - - - - - - -
الفصل السابع
أثر التنازع بين الفقهاء في العبادات الظاهرة(1)
مِثْلُ الْأَذَانِ وَالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ وَالتَّسْلِيمِ فِي الصَّلَاةِ وَرَفْعِ الْأَيْدِي فِيهَا وَوَضْعُ الْأَكُفِّ فَوْقَ الْأَكُفِّ . وَمِثْلُ التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ فِي الْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
فَإِنَّ التَّنَازُعَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالشَّعَائِرِ أَوْجَبَ أَنْوَاعًا مِن الْفَسَادِ الَّذِي يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَعِبَادُهُ الْمُؤْمِنُونَ :
" أَحَدُهَا " جَهْلُ كَثِيرٍ مِن النَّاسِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ بِالْأَمْرِ الْمَشْرُوعِ الْمَسْنُونِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاَلَّذِي سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأُمَّتِهِ وَاَلَّذِي أَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ .
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى - (ج 22 / ص 356)-" قَاعِدَةٌ " فِي صِفَاتِ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا تَنَازُعٌ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي الرِّوَايَةِ وَالرَّأْيِ(2/119)
" الثَّانِي " ظُلْمُ كَثِيرٍ مِن الْأُمَّةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ بَعْضَهُمْ لِبَعْضِ وَبَغْيُهُمْ عَلَيْهِمْ : تَارَةً بِنَهْيِهِمْ عَمَّا لَمْ يَنْهَ اللَّهُ عَنهُ وَبُغْضُهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُبْغِضُهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَتَارَةً بِتَرْكِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ مِن حُقُوقِهِمْ وَصِلَتِهِمْ لِعَدَمِ مُوَافَقَتِهِمْ لَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُؤْثِرُونَهُ حَتَّى يُقَدِّمُونَ فِي الْمُوَالَاةِ وَالْمَحَبَّةِ وَإِعْطَاءِ الْأَمْوَالِ وَالْوِلَايَاتِ مَنْ يَكُونُ مُؤَخَّرًا عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَتْرُكُونَ مَنْ يَكُونُ مُقَدَّمًا عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِذَلِكَ .
" الثَّالِثُ " اتِّبَاعُ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ حَتَّى يَصِيرَ كَثِيرٌ مِنهُمْ مَدِينًا بِاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ . وَحَتَّى يَصِيرَ فِي كَثِيرٍ مِن الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَعَبِّدَةِ مِن الْأَهْوَاءِ مِن جِنْسِ مَا فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْخَارِجِينَ عَن السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ : كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (26) سورة ص ،وَقَالَ فِي كِتَابِهِ : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} (77) سورة المائدة .(2/120)
" الرَّابِعُ " التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ الْمُخَالِفُ لِلِاجْتِمَاعِ والائتلاف حَتَّى يَصِيرَ بَعْضُهُمْ يُبْغِضُ بَعْضًا وَيُعَادِيهِ وَيُحِبُّ بَعْضًا وَيُوَالِيهِ عَلَى غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ وَحَتَّى يُفْضِيَ الْأَمْرُ بِبَعْضِهِمْ إلَى الطَّعْنِ وَاللَّعْنِ وَالْهَمْزِ وَاللَّمْزِ . وَبِبَعْضِهِمْ إلَى الِاقْتِتَالِ بِالْأَيْدِي وَالسِّلَاحِ وَبِبَعْضِهِمْ إلَى الْمُهَاجَرَةِ وَالْمُقَاطَعَةِ حَتَّى لَا يُصَلِّيَ بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ وَهَذَا كُلُّهُ مِن أَعْظَمِ الْأُمُورِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ .(2/121)
وَالِاجْتِمَاعُ والائتلاف مِن أَعْظَمِ الْأُمُورِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) [آل عمران/102-108] }, قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ(1).
__________
(1) - تفسير ابن أبي حاتم (3998) وتفسير ابن كثير - (ج 2 / ص 92)(2/122)
وَكَثِيرٌ مِن هَؤُلَاءِ يَصِيرُ مِن أَهْلِ الْبِدْعَةِ بِخُرُوجِهِ مِن السُّنَّةِ الَّتِي شَرَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأُمَّتِهِ وَمِن أَهْلِ الْفُرْقَةِ بِالْفُرْقَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ قَالَ تَعَالَى : {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } (159) سورة الأنعام، وَقَالَ تَعَالَى : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (213) سورة البقرة، وَقَالَ تَعَالَى : {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) } [البينة/4-5]، وَقَالَ تَعَالَى : {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (19) سورة آل عمران، وَقَالَ تَعَالَى : {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ(2/123)
بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } (17) سورة الجاثية، وَقَالَ تَعَالَى : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (1) سورة الأنفال ، وَقَالَ : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (10) سورة الحجرات ، وَقَالَ تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (114) سورة النساء .(2/124)
وَهَذَا الْأَصْلُ الْعَظِيمُ : وَهُوَ الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَأَنْ لَا يَتَفَرَّقَ هُوَ مِن أَعْظَمِ أُصُولِ الْإِسْلَامِ وَمِمَّا عَظُمَتْ وَصِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ فِي كِتَابِهِ . وَمِمَّا عَظُمَ ذَمُّهُ لِمَنْ تَرَكَهُ مِن أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ وَمِمَّا عَظُمَتْ بِهِ وَصِيَّةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَوَاطِن عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ : إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا فَقَالَ : " أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ ، وَلَا يُسْتَحْلَفُ ، وَحَتَّى يَشْهَدَ وَلَا يُسْتَشْهَدُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبَعْدُ ، لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ ثَلَاثَ مِرَارٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا شَيْطَانٌ ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ ، مَنْ سَرَّتَهُ حَسَنَتْهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ "(1)
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ " .(2)
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ "(3)
__________
(1) - سنن الترمذى (2318) والسنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة - (ج 6 / ص 45)(9181) صحيح لغيره
(2) - السُّنَّةُ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ (81 ) صحيح
(3) - السُّنَّةُ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ (69 ) صحيح(2/125)
وعن ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ ، إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً » .(1)
وعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ ». قَالُوا بَلَى. قَالَ « إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِىَ الْحَالِقَةُ »(2).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً ، فَقُتِلَ ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي ، يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا ، وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا ، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ "(3)
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ، قَالَ: قَدِمْتُ وَافِدًا مَعَ وَفْدِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "مَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ، يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ، فَاقْتُلُوهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ".(4)
__________
(1) - صحيح البخارى (7054 ) ومسلم (4896 )
(2) - مسند أحمد (28273) صحيح -الحَالقة : الخصلة التى من شأنها أن تهلك وتستأصل الدين وقيل هى قطيعة الرحم
(3) - مسلم (4892)
(4) - مسند أبي عوانة(5743 ) صحيح(2/126)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا , وَيُؤَخِّرُونَ عَنْ وَقْتِهَا ، فَمَا صَلُّوهَا لِوَقْتِهَا وَصَلَّيْتُمُوهَا مَعَهُمْ فَلَكُمْ وَلَهُمْ ، وَمَا أَخَّرُوهَا عَنْ وَقْتِهَا , فَصَلَّيْتُمُوهَا مَعَهُمْ , فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ ، وَمَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ خَلَعَ رَبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ ، وَمَنْ مَاتَ نَاكِثًا الْعَهْدَ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ "(1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " تَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً " . قَالُوا : وَمَا تِلْكَ الْفِرْقَةُ ؟ قَالَ : " مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي "(2)
__________
(1) - مُسْنَدُ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ (7203) حسن لغيره وأصله في الصحيح عن أبي هريرة
(2) - الْمُعْجَمُ الْأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ (5043 ) صحيح لغيره
قلت : لا يقتضي أن يكونوا كفارا ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - اعتبرهم من أمته ، فالوعيد غير لازم.(2/127)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ عَمِلَ لِلَّهِ فِي الْجَمَاعَةِ فَأَصَابَ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ , وَإِنْ أَخْطَأَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ , وَمَنْ عَمِلَ لِلَّهِ فِي الْفُرْقَةِ فَأَصَابَ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ , وَإِنْ أَخْطَأَ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " قَالَ الشَّيْخُ : فَالْإِصَابَةُ فِي الْجَمَاعَةِ تَوْفِيقٌ وَرِضْوَانٌ , وَالْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ عَفْوٌ وَغُفْرَانٌ(1)
وَبَابُ الْفَسَادِ الَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ . بَلْ وَفِي غَيْرِهَا : هُوَ التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ فَإِنَّهُ وَقَعَ بَيْنَ أُمَرَائِهَا وَعُلَمَائِهَا مِن مُلُوكِهَا وَمَشَايِخِهَا وَغَيْرِهِمْ مِن ذَلِكَ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ . وَإِنْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ مَغْفُورًا لِصَاحِبِهِ لِاجْتِهَادِهِ الَّذِي يُغْفَرُ فِيهِ خَطَؤُهُ أَوْ لِحَسَنَاتِهِ الْمَاحِيَةِ أَوْ تَوْبَتِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ يُعْلَمُ أَنَّ رِعَايَتَهُ مِن أَعْظَمِ أُصُولِ الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا كَانَ امْتِيَازُ أَهْلِ النَّجَاةِ عَن أَهْلِ الْعَذَابِ مِن هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ،وَيَذْكُرُونَ فِي كَثِيرٍ مِن السُّنَنِ وَالْآثَارِ فِي ذَلِكَ مَا يَطُولُ ذِكْرُهُ . وَكَانَ الْأَصْلُ الثَّالِثُ بَعْدَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّذِي يَجِبُ تَقْدِيمُ الْعَمَلِ بِهِ هُوَ الْإِجْمَاعُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى ضَلَالَةٍ .
__________
(1) - الْإِبَانَةُ الْكُبْرَى لِابْنِ بَطَّةَ (716 ) حسن(2/128)
إذَا تَبَيَّنَ بَعْضُ مَا حَصَلَ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ مِن الْفَسَادِ فَنَحْنُ نَذْكُرُ طَرِيقَ زَوَالِ ذَلِكَ وَنَذْكُرُ مَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي الدِّينِ فِي هَذِهِ الْمُنَازَعَاتِ وَذَلِكَ بِبَيَانِ الْأَصْلَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا " السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ "الْمَدْلُولُ عَلَيْهِمَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ إذَا اُتُّبِعَ كِتَابُ اللَّهِ وَمَا تَضَمَّنَهُ مِن اتِّبَاعِ رَسُولِهِ وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ جَمِيعًا حَصَلَ الْهُدَى وَالْفَلَاحُ وَزَالَ الضَّلَالُ وَالشَّقَاءُ . أَمَّا الْأَصْلُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ " الْجَمَاعَةُ " وَبَدَأْنَا بِهِ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ عِنْدَ عُمُومِ الْخَلْقِ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ تَقْدِيمُ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَا يَظُنُّونَهُ مِن مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
فَنَقُولُ : عَامَّةُ هَذِهِ التَّنَازُعَاتِ إنَّمَا هِيَ فِي أُمُورٍ مُسْتَحَبَّاتٍ وَمَكْرُوهَاتٍ لَا فِي وَاجِبَاتٍ وَمُحَرَّمَاتٍ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا حَجَّ مُتَمَتِّعًا أَوْ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا كَانَ حَجُّهُ مُجْزِئًا عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي الْأَفْضَلِ مِن ذَلِكَ وَلَكِنَّ بَعْضَ الْخَارِجِينَ عَن الْجَمَاعَةِ يُوجِبُ أَوْ يَمْنَعُ ذَلِكَ ..
وَكَذَلِكَ الْأَذَانُ سَوَاءٌ رَجَّعَ فِيهِ أَوْ لَمْ يُرَجِّعْ فَإِنَّهُ أَذَانٌ صَحِيحٌ عِنْدَ جَمِيعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَعَامَّةِ خَلَفِهَا وَسَوَاءٌ رَبَّعَ التَّكْبِيرَ فِي أَوَّلِهِ أَوْ ثَنَّاهُ ،وَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ بَعْضُ شَوَاذِّ الْمُتَفَقِّهَةِ ..
وَكَذَلِكَ الْإِقَامَةُ يَصِحُّ فِيهَا الْإِفْرَادُ وَالتَّثْنِيَةُ بِأَيِّهَا أَقَامَ صَحَّتْ إقَامَتُهُ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ إلَّا مَا تَنَازَعَ فِيهِ شُذُوذُ النَّاسِ .(2/129)
وَكَذَلِكَ الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْمُخَافَتَةِ كِلَاهُمَا جَائِزٌ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَإِنْ كَانَ مِن الْعُلَمَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ أَحَدَهُمَا أَوْ يَكْرَهُ الْآخَرَ أَوْ يَخْتَارُ أَنْ لَا يَقْرَأَ بِهَا .
فَالْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمْ فِي الْمُسْتَحَبِّ وَإِلَّا فَالصَّلَاةُ بِأَحَدِهِمَا جَائِزَةٌ عِنْدَ عَوَامِّ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ تَنَازَعُوا بِالْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فِي مَوْضِعِهِمَا هَلْ هُمَا وَاجِبَانِ أَمْ لَا ؟ وَفِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا فَهَذَا فِي الْجَهر الطَّوِيلِ بِالْقَدْرِ الْكَثِيرِ مِثْلَ الْمُخَافَتَةِ بِقُرْآنِ الْفَجْرِ وَالْجَهْرُ بِقِرَاءَةِ صَلَاةِ الظُّهْرِ .
فَأَمَّا الْجَهْرُ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ أَوْ الْمُخَافَتَةُ بِهِ فَمِمَّا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يُبْطِلَ الصَّلَاةَ بِذَلِكَ وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهِ . فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِى الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ ، يُطَوِّلُ فِى الأُولَى ، وَيُقَصِّرُ فِى الثَّانِيَةِ ، وَيُسْمِعُ الآيَةَ أَحْيَانًا ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِى الْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ ، وَكَانَ يُطَوِّلُ فِى الأُولَى ، وَكَانَ يُطَوِّلُ فِى الرَّكْعَةِ الأُولَى مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ ، وَيُقَصِّرُ فِى الثَّانِيَةِ(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (759 )(2/130)
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِىِّ قَالَ كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّى وَرَاءَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: « سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ » . قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : « مَنِ الْمُتَكَلِّمُ » . قَالَ أَنَا . قَالَ: « رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا ، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ »(1).
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْلَا جَهْرُهُ بِهَا لَمَا سَمِعَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا الرَّاوِي . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِلْمَأْمُومِ الْمُخَافَتَةُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَجْهَرُ بِهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ يَقُولُ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ(2). .
وَهَذَا فِعْلُهُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . وَالسُّنَّةُ الرَّاتِبَةُ فِيهِ الْمُخَافَتَةُ، وَكَذَلِكَ كَانَ مِن الصَّحَابَةِ مَنْ يَجْهَرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ .
__________
(1) - صحيح البخارى(799 )
(2) - صحيح مسلم (918 )(2/131)
و عن شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ ، قَالَ : حَضَرْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى بِنَا عَلَى جِنَازَةٍ بِالْأَبْوَاءِ وَكَبَّرَ ، ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ رَافِعًا صَوْتَهُ بِهَا ، ثُمَّ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ قَالَ : " اللَّهُمَّ عَبْدُكَ ، وَابْنُ عَبْدِكَ ، وَابْنُ أَمَتِكَ ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ ، وَيَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ ، أَصْبَحَ فَقِيرًا إِلَى رَحْمَتِكَ ، وَأَصْبَحْتَ غَنِيًّا عَنْ عَذَابِهِ ، يُخَلَّى مِنَ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا ، إِنْ كَانَ زَاكِيًا فَزَكِّهِ ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فَاغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ ، وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ " ، ثُمَّ كَبَّرَ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ : " أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي لَمْ أَقْرَأْ عَلَنًا إِلَّا لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا السُّنَّةُ "(1).
وَأَيْضًا فَلَا نِزَاعَ أَنَّهُ كَانَ مِن الصَّحَابَةِ مَنْ يَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ كَابْنِ الزُّبَيْرِ وَنَحْوِهِ وَمِنهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِهَا كَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ وَتَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُبْطِلْ أَحَدٌ مِنهُمْ صَلَاةَ أَحَدٍ فِي ذَلِكَ .(2)
__________
(1) - الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (1329) حسن
(2) - انظر صحيح ابن حبان - (ج 5 / ص 102) والبغوي في "شرح السنة" 3/54(2/132)
وَهَذَا مِمَّا لَمْ أَعْلَمِ فِيهِ نِزَاعًا وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي وُجُوبِ قِرَاءَتِهَا فَتِلْكَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى . وَكَذَلِكَ الْقُنُوتُ فِي الْفَجْرِ إنَّمَا النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ فِي اسْتِحْبَابِهِ أَوْ كَرَاهِيَتِهِ وَسُجُودِ السَّهْوِ لِتَرْكِهِ أَوْ فِعْلِهِ، وَإِلَّا فَعَامَّتُهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ تَرَكَ الْقُنُوتَ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَكَذَلِكَ مَنْ فَعَلَهُ إذْ هُوَ تَطْوِيلٌ يَسِيرٌ لِلِاعْتِدَالِ وَدُعَاءِ اللَّهِ فِي هَذَا في هذا الموضع ، ولو فعل ذلك في غير الفجر لم تبطل صلاته باتفاق العلماء ، فيما أعلم .
وكذلك القنوتُ في الوتر هل هو في جميع الأحوال أو النصف الآخر من رمضان ؟ إنما هو في الاستحباب ، إذ لا نزاع أنه لا يجبُ القنوت ، ولا تبطل الصلاة به ، وكذلك كونه قبل الركوع أو بعده .
وكذلك التسليمة الثانية هل هي مشروعة في الصلاة الكاملة والناقصة أو في الكاملة فقط ، أم ليست مشروعة ، هو نزاع في الاستحباب ، لكن عن الإمام أحمد رواية أن التسليمة الثانية واجبة في الصلاة الكاملة ، إما وجوب الأركان أو وجوب ما يسقط بالسهو على نزاع في ذلك ، والرواية الأخرى الموافقة للجمهور أنها مستحبة في الصلاة الكاملة .
وكذلك تكبيرات العيد الزوائد ، إنما النزاع في المستحب منها ، وإلا فلا نزاع في أنه يجزئ ذلك كله ، وكذلك أنواع التشهدات كلها جائز ما أعلم في ذلك خلافاً ،إلا خلافاً شاذًّا ، وإنما النزاع في المستحب .
وكذلك أنواع الاستفتاح في الصلاة ، وأصلُ الاستفتاح إنما النزاع في استحبابه ، وفي أي الأنواع أفضل ، والخلاف في وجوبه خلاف قليل ،يذكر قولا في مذهب الإمام أحمد .(2/133)
وإذا كان النزاع إنما هو في الاستحباب عُلِمَ الاجتماع على جواز ذلك وإجزائه ، ويكون ذلك بمنزلة القراآت في القرآن ، فإن جميعها جائز - وهو ما يسمَّى اختلاف التنوع - ، وإن كان من الناس من يختار بعض القراآت على بعض ، وبهذا يزول الفساد المتقدم ، فإنه إذا عُلم أن ذلك جميعه جائز مجزئ في العبادة ، لم يكن النزاع في الاختيار ضارًّا، بل قد يكون النوعان سواء ، وإن رجَّح بعض الناس بعضها ، ولو كان أحدهما أفضل لم يجز أن يظلم من يختار المفضول ، ولا يذمُّ ، ولا يعابُ بإجماع المسلمين ، بل المجتهد المخطئ لا يجوز ذمُّه بإجماع المسلمين ، ولا يجوز التفرق بذلك بين الأمة ، ولا أن يعطى المستحبُّ فوق حقِّه ، فإنه قد يكون من أتى بغير ذلك المستحب من أمور أخرى واجبة ومستحبة أفضل بكثير ، ولا يجوز أن تجعل المستحباتُ بمنزلة الواجبات ، بحيث يمتنع الرجل من تركها ، ويرى أنه قد خرج من دينه ، وعصى الله ورسوله ،بل قد يكون ترك المستحبات لمعارض راجحٍ أفضلُ من فعلها ، بل الواجبات كذلك ،ومعلوم أن ائتلاف قلوب الأمة أعظمُ في الدين من بعض هذه المستحبات، فلو تركها المرءُ لائتلاف القلوب كان ذلك حسناً ، وذلك أفضلُ إذا كان مصلحة ائتلاف القلوب دون مصلحة ذلك المستحب ، وقد أخرج مسلم عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهَا قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: « لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ - أَوْ قَالَ بِكُفْرٍ - لأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلَجَعَلْتُ بَابَهَا بِالأَرْضِ وَلأَدْخَلْتُ فِيهَا مِنَ الْحِجْرِ »(1).
__________
(1) - صحيح مسلم (3307 )(2/134)
وقد احتجَّ بهذا الحديث البخاري وغيره على أن الإمام قد يترك بعض الأمور المختارة ، لأجل تأليف القلوب ودفعها لنفرتها ، فقد عنون له ب بَابُ مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الِاخْتِيَارِ ، مَخَافَةَ أَنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ عَنْهُ ، فَيَقَعُوا فِي أَشَدَّ مِنْهُ"
قال النووي : " وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِقَوَاعِد مِن الْأَحْكَام مِنْهَا : إِذَا تَعَارَضَتِ الْمَصَالِح أَوْ تَعَارَضَتْ مَصْلَحَة وَمَفْسَدَة وَتَعَذَّرَ الْجَمْع بَيْن فِعْل الْمَصْلَحَة وَتَرْك الْمَفْسَدَة بُدِئَ بِالْأَهَمِّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّ نَقْضَ الْكَعْبَة وَرَدَّهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَوَاعِد إِبْرَاهِيم - صلى الله عليه وسلم - مَصْلَحَة ، وَلَكِنْ تُعَارِضهُ مَفْسَدَة أَعْظَم مِنْهُ ، وَهِيَ خَوْف فِتْنَة بَعْض مَنْ أَسْلَمَ قَرِيبًا ، وَذَلِكَ لِمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ فَضْل الْكَعْبَة ، فَيَرَوْنَ تَغْيِيرهَا عَظِيمًا ، فَتَرَكَهَا - صلى الله عليه وسلم - .
وَمِنْهَا فِكْر وَلِي الْأَمْر فِي مَصَالِح رَعِيَّته ، وَاجْتِنَابه مَا يَخَاف مِنْهُ تَوَلُّد ضَرَر عَلَيْهِمْ فِي دِينَ أَوْ دُنْيَا إِلَّا الْأُمُور الشَّرْعِيَّة كَأَخْذِ الزَّكَاة وَإِقَامَة الْحُدُود وَنَحْو ذَلِكَ .
وَمِنْهَا : تَأَلُّف قُلُوب الرَّعِيَّة وَحُسْن حِيَاطَتهمْ وَأَلَّا يَنْفِرُوا وَلَا يَتَعَرَّض لِمَا يَخَاف تَنْفِيرهمْ بِسَبَبِهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَرْك أَمْر شَرْعِيّ كَمَا سَبَقَ "(1)
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (ج 4 / ص 487)(2/135)
وقد نصَّ الإمام أحمد على أنه يجهر بالبسملة عند المعارض الراجح ، فقال : يجهر بها إذا كان بالمدينة ،قال القاضي : لأن أهلها إذ ذاك كانوا يجهرون ، فيجهر بها للتأليف ، وليعلمهم أنه يقرأ بها ، وقال غيره : بل لأنهم كانوا لا يقرؤنها بحال ، فيجهر بها ليعلمهم أنه يقرأ بها ، وأنَّ قراءتها سنَّةٌ،كما جهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة .(1)
فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته ، وبهذا يزول الشكُّ والطعن، فإن الاتفاق إذا حصل على جواز الجميع ، وإجزائه عُلم أنه داخل في المشروع ، فالتنازعُ في الرجحان لا يضرُّ ، كالتنازع في بعض القراآت وبعض العبادات، ونحو ذلك ، بل قد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كلا من القراء أن يقرأ كما يعلم ، ونهاهم عن الاختلاف في ذلك ، فمن خالف في ذلك كان ممن ذمه الله ورسوله ، فأما أهل الجماعة فلا يختلفون في ذلك .
وأما الأصل الثاني ، فنقول :السنَّة المحفوظة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها من السعة والخير ما يزول به الحرج ، وإنما وقعت الشبهةُ لإشكال بعض ذلك على بعض الناس .
أما الأذان فقد ثبت في الأحاديث الصحيحين عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أُمِرَ بِلاَلٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ وَأَنْ يُوتِرَ الإِقَامَةَ إِلاَّ الإِقَامَةَ(2).
__________
(1) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 16 / ص 181)
(2) - صحيح البخارى(605 ) ومسلم(864)(2/136)
وفي مسند أحمد عن أبي مَحْذُورَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمَهُ الأَذَانَ تِسْعَ عَشَرَةَ كَلِمَةً وَالإِقَامَةَ سَبْعَ عَشَرَةَ كَلِمَةً. الأَذَانُ « اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ حَىَّ عَلَى الصَّلاَةِ حَىَّ عَلَى الصَّلاَةِ حَىَّ عَلَى الْفَلاَحِ حَىَّ عَلَى الْفَلاَحِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ». وَالإِقَامَةُ مَثْنَى مَثْنَى « اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ حَىَّ عَلَى الصَّلاَةِ حَىَّ عَلَى الصَّلاَةِ حَىَّ عَلَى الْفَلاَحِ حَىَّ عَلَى الْفَلاَحِ قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ».(1)
__________
(1) - مسند أحمد(15777) صحيح(2/137)
فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِن مُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ صَارَ ذَلِكَ مِثْلَ تَعْلِيمِهِ الْقُرْآنَ لِعُمَرِ بِحَرْفِ وَلِهُشَامِ بْنِ حَكِيمٍ بِحَرْفِ آخَرَ كِلَاهُمَا قُرْآنٌ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ يَقْرَأَ بِهِ . وَكَذَلِكَ التَّرْجِيعُ فِي الْأَذَانِ هُوَ ثَابِتٌ فِي أَذَانِ أَبِي مَحْذُورَةَ وَهُوَ مَحْذُوفٌ مِن أَذَانِ بِلَالٍ الَّذِي رَوَوْهُ فِي السُّنَنِ ، فعَنْ أَبِى مَحْذُورَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَقْعَدَهُ وَأَلْقَى عَلَيْهِ الأَذَانَ حَرْفًا حَرْفًا. قَالَ إِبْرَاهِيمُ مِثْلَ أَذَانِنَا. قَالَ بِشْرٌ فَقُلْتُ لَهُ أَعِدْ عَلَىَّ. فَوَصَفَ الأَذَانَ بِالتَّرْجِيعِ.(1)
وَكَذَلِكَ الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْمُخَافَتَةِ بِهَا صَحَّ الْجَهْرُ بِهَا عَن طَائِفَةٍ مِن الصَّحَابَةِ وَصَحَّتْ الْمُخَافَتَةُ بِهَا عَن أَكْثَرِهِمْ وَعَن بَعْضِهِمْ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا .
__________
(1) - سنن الترمذى (191 ) قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ أَبِى مَحْذُورَةَ فِى الأَذَانِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رُوِىَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمَكَّةَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِىِّ.-الترجيع : العود إلى الشهادتين مرتين برفع الصوت يكررها(2/138)
وَأَمَّا الْمَأْثُورُ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَاَلَّذِي فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ ؛ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِهَا كَمَا عَلَيْهِ عَمَلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَأُمَّتِهِ فَفِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ أَنَس وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً بَيِّنَةً لَا شُبْهَةَ فِيهَا، وَفِي السُّنَنِ أَحَادِيثُ أُخَرُ : مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ مُغَفَّلٍ وَغَيْرِهِ وَلَيْسَ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ حَدِيثٌ فِيهِ ذِكْرُ جَهْرِهِ بِهَا وَالْأَحَادِيثُ الْمُصَرِّحَةُ بِالْجَهْرِ عَنهُ غالبها ضَعِيفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَلِهَذَا لَمْ يُخَرِّجُوا فِي أُمَّهَاتِ الدَّوَاوِينِ مِنهَا شَيْئًا ، وَلَكِنْ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ أَحَادِيثُ مُحْتَمَلَةٌ . وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِي بِإِسْنَادِ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:كَانَ يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.(1)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني(10504 ,11279) حسن(2/139)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا ، إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا ، قُلْنَا لَهُ : مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ ، قَالَ : " نَزَلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ " ثُمَّ قَالَ : " هَلْ تَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ ؟ " قُلْنَا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : " فَإِنَّهُ نَهَرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي فِي الْجَنَّةِ ، آنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْكَوَاكِبِ ، تَرِدْهُ عَلَيَّ أُمَّتِي فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ ، فَأَقُولُ : يا رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي ، فَيَقُولُ : إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ بَعْدَكَ "(1)
وَأَنَّهُ لَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ تَرَكَ الْجَهْرَ بِهَا حَتَّى مَاتَ .فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : " صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمْ يُسْمِعْنَا قِرَاءَةَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَصَلَّى بِنَا أَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُمَا "(2)
__________
(1) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (964 ) جامع الحديث النبوي (صحيح)
(2) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (965 ) جامع الحديث النبوي (صحيح)(2/140)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ : " صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "(1)
وَهَذَا يُنَاسِبُ الْوَاقِعَ ؛ فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ كَانَ الْجَهْرُ بِهَا وَأَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْكُوفَةِ فَلَمْ يَكُونُوا يَجْهَرُونَ بِهَا ،وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ وَبَعْضُهُمْ كَانَ يَجْهَرُ بِهَا وَلِهَذَا سَأَلُوا أَنَسًا عَن ذَلِكَ . وَلَعَلَّ النَّبِيَّ ً - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَجْهَرُ بِهَا بَعْضَ الْأَحْيَانِ أَوْ جَهْرًا خَفِيفًا إذَا كَانَ ذَلِكَ مَحْفُوظًا، وَإِذَا كَانَ فِي نَفْسِ كُتُبِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ فَعَلَ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً زَالَتْ الشُّبْهَةُ .
وَأَمَّا الْقُنُوتُ فَأَمْرُهُ بَيِّنٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ عِنْدَ التَّأَمُّلِ التَّامِّ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ قَنَتَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَيَقُولُ « عُصَيَّةُ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ »(2)
وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ ثُمَّ تَرَكَهُ.(3)
__________
(1) - نفسه( 966 ) صحيح وانظر الْإِنْصَافُ لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ -بَابُ ذِكْرِ اخْتِلَافِهِمْ فِي قِرَاءَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي الصَّلَاةِ أَوَّلَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ , وَهَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْهَا ؟
(2) - صحيح البخارى (4094 ) ومسلم (1577)
(3) - صحيح مسلم(1586)(2/141)
وَلَمْ يَكُنْ تَرَكَهُ نَسْخًا لَهُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنهُ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ قَنَتَ بَعْدَ ذَلِكَ يَدْعُو لِلْمُسْلِمِينَ : مِثْلَ الْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ وَالْمُسْتَضْعَفِين مِن الْمُؤْمِنِينَ وَيَدْعُو عَلَى مُضَرَ وَثَبَتَ عَنهُ أَنَّهُ قَنَتَ أَيْضًا فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ قُنُوتُ اسْتِنْصَارٍ . فَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ مَنْقُولٌ ثَابِتٌ عَنهُ لَكِنْ اعْتَقَدَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِن الْكُوفِيِّينَ أَنَّهُ تَرَكَهُ تَرْكَ نَسْخٍ فَاعْتَقَدَ أَنَّ الْقُنُوتَ مَنْسُوخٌ(1)، وَاعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ مِن الْمَكِّيِّينَ أَنَّهُ مَا زَالَ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ الْقُنُوتَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : " مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا "(2)
__________
(1) - انظر صحيح ابن حبان - (ج 5 / ص 326)(1988)
(2) - مُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (12993) والأحاديث المختارة للضياء - (ج 3 / ص 58) (2127-2128) وحسن إسناده ، وفيه أبو جعفر الرازي صدوق شيء الحفظ(2/142)
وفي تَهْذِيبُ الْآثَارِ لِلطَّبَرِيِّ(2682 ) وعِلَّةُ قَائِلِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ مَا حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْبَاهِلِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ ، عَنِ الرَّبِيعِ ، قَالَ : سُئِلَ أَنَسٌ عَنْ قُنُوتِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَنَّهُ قَنَتَ شَهْرًا " ، فَقَالَ : مَا زَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ حَتَّى مَاتَ قَالُوا : فَالْقُنُوتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ لَمْ يَزَلْ مِنْ عَمَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا ، قَالُوا : وَالَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَنَتَ شَهْرًا ثُمَّ تَرَكَهُ ، إِنَّمَا كَانَ قُنُوتُهُ عَلَى مَنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ مِنْ قَتَلَةِ أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ ، مِنْ رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَأَشْبَاهِهِمْ ، فَإِنَّهُ قَنَتَ يَدْعُو عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ صَلَاةٍ ، ثُمَّ تَرَكَ الْقُنُوتَ عَلَيْهِمْ ، فَأَمَّا فِي الْفَجْرِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتْرُكْهُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا ، كَمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ وَقَالَ آخَرُونَ : لَا قُنُوتُ فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ ، وَإِنَّمَا الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ "(2/143)
وذكر أحاديث كثيرة بعدم القنوت ، ثم قال (2747): وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ: صَحَّ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَنَتَ يَدْعُو عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَهُ بِبِئْرِ مَعُونَةَ مُدَّةً ، إِمَّا شَهْرًا ، وَإِمَّا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، فِي كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ ، ثُمَّ تَرَكَ فِعْلَ ذَلِكَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ ، وَثَبَتَ قُنُوتُهُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَصَحَّ الْخَبَرُ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا . وَرَوَى أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ : مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ .(2/144)
وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الرِّوَايَاتِ وَالْأَخْبَارِ عِنْدَنَا صَحِيحٌ ، فَالْقُنُوتُ إِذَا نَابَتِ الْمُسْلِمِينَ نَائِبَةٌ ، أَوْ نَزَلَتْ بِهِمْ نَازِلَةٌ ، نَظِيرَةُ النَّائِبَةِ وَالنَّازِلَةِ الَّتِي نَابَتْ وَنَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ بِمُصَابِهِمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ بِبِئْرِ مَعُونَةَ ، عَلَى مَنْ قَتَلَهُمْ وَأَعَانَ قَاتِلِيهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، فِي كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ ، عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِعْلِهِ فِي ذَلِكَ ، إِلَى أَنْ يَكْشِفَ اللَّهُ عَنْهُمُ النَّازِلَةَ الَّتِي نَزَلَتْ ، إِمَّا بِالظَّفَرِ بِعَدُوِّهِمُ الَّذِي كَانَ مِنْ قِبَلِهِمُ النَّازِلَةُ ، وَإِمَّا بِدُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ ، أَوْ بِاسْتِسْلَامِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْفَرَجُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ مَكْرُوهِ مَا نَزَلَ بِهِمْ ، سُنَّةٌ حَسَنَةٌ ، وَإِنْ كَانَتِ النَّائِبَةُ وَالنَّازِلَةُ سَبَبًا غَيْرَ ذَلِكَ ، فَإِلَى أَنْ يَزُولَ ذَلِكَ عَنْهُمْ ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قُنُوتَهُ عَلَى كُفَّارِ مُضَرَ شَهْرًا ، وَذَكَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ بَعْدَ ذَلِكَ ، قَالَ : فَقُلْتُ : مَا بَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الدُّعَاءَ ؟ فَقِيلَ لِي : أَوَمَا تُرَاهُمْ قَدْ جَاءُوا - يَعْنِي أَنَّ الَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَلَيْهِمْ - قَدْ جَاءُوا مُسْلِمَيْنِ .(2/145)
فَالْقُنُوتُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ ، إِذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ نَائِبَةٌ عَامَّةٌ أَوْ خَاصَّةٌ ، وَذَلِكَ الدُّعَاءُ فِي آخِرِ رَكْعَةٍ مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ حَسَنٌ جَمِيلٌ ، كَمَا رُوِّينَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قُنُوتِهِ كَذَلِكَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ لِلسَّبَبِ الَّذِي ذَكَرْنَا قُنُوتَهُ لَهُ . وَلَسْنَا وَإِنْ رَأَيْنَا ذَلِكَ حَسَنًا جَمِيلًا ، بِمُوجِبَينَ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ إِعَادَةَ صَلَاتِهِ الَّتِي تَرَكَ ذَلِكَ فِيهَا ، وَلَا سُجُودَ سَهْوٍ ، عَامِدًا كَانَ تَرَكُهُ ذَلِكَ أَوْ سَاهِيًا . وَذَلِكَ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ سَلَفِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهِمْ ، لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ صَلَاةَ مُصَلٍّ ، وَأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي ، عِنْدَ مَنْ يُوجِبُهُ بَدَلًا مِنْ نَقْصٍ أَوْ زِيَادَةٍ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عَمَلُهَا فِي صَلَاتِهِ فَعَمِلَهَا ، فَتَرْكُ الْقُنُوتِ فِيهَا خَارِجٌ مِنْ كُلِّ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ ، فَلَا وَجْهَ لِإِيجَابِ الْبَدَلِ مِنْهُ ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ سَبَبٌ يَدْعُو الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْقُنُوتِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ ، إِمَّا لِنَائِبَةٍ أَوْ نَازِلَةٍ بِهِمْ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ ، فَتَرْكُ الْقُنُوتِ فِي كُلِّ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ ، خَلَا صَلَاةَ الصُّبْحِ ، هُوَ الْحَقُّ .(2/146)
وَذَلِكَ لِصِحَّةِ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَرَكَ الْقُنُوتَ الَّذِي كَانَ يَقْنُتُهُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ ، بَعْدَ دُخُولِ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانَ يَقْنُتُ عَلَيْهِمْ فِي الْإِسْلَامِ ، إِلَّا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ، فَإِنَّهُ فِيمَا ذَكَرَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ فِيهَا حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا .(2/147)
وَلَا شَكَّ أَنَّ دُعَاءَهُ فِي ذَلِكَ كَانَ عَلَى غَيْرِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ ، فَتَرَكَ الْقُنُوتَ وَالدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِنَّكَ قَدْ صَحَّحْتَ حَدِيثَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، وَقُلْتَ بِهِ فِي جَوَازِ الْقُنُوتِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَتَرَكْتَ الْقَوْلَ بِخَبَرِ طَارِقِ بْنِ أَشْيَمَ الْأَشْجَعِيِّ ، مَعَ قَوْلِكَ بِتَصْحِيحِهِ ، وَخِلَافِ خَبَرِهِ خَبَرَ أَنَسٍ ؟ قِيلَ لَهُ : لَيْسَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ كَالَّذِي ظَنَنْتَ ، بَلْ نَحْنُ قَائِلُونَ بِتَصْحِيحِهِمَا وَتَصْحِيحِ الْعَمَلِ بِهِمَا ، فَإِنْ قَالَ : وَكَيْفَ تَكُونُ مُصَحِّحًا لَهُمَا وَلِلْعَمَلِ بِهِمَا ، وَأَحَدُهُمَا يُخْبِرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا ، وَالْآخَرُ مِنْهُمَا يُخْبِرُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ قَنَتَ ، وَكِلَاهُمَا قَدْ صَلَّى مَعَهُ ؟ قِيلَ : إِنَّا لَمْ نَقُلْ إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْقُنُوتِ فِي كُلِّ صَلَاةِ صُبْحٍ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا : الْقُنُوتُ فِيهَا حَسَنٌ ، فَإِنْ قَنَتَ فِيهَا قَانِتٌ فَبِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمِلَ ، وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ تَارِكٌ ، فَبِرُخْصَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ .(2/148)
وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْنُتُ فِيهَا أَحْيَانًا ، وَيَتْرُكُ الْقُنُوتَ فِيهَا أَحْيَانًا ، فَأَخْبَرَ أَنَسٌ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ فِيهَا ، عَلَى مَا لَمْ يَزَلْ يَعْهَدْهُ مِنْ فِعْلِهِ فِي ذَلِكَ بِالْقُنُوتِ فِيهَا مَرَّةً ، وَتَرْكِ الْقُنُوتِ فِيهَا أُخْرَى ، مُعْلِمًا بِذَلِكَ أُمَّتَهُ أَنَّهُمْ مُخَيَّرُونَ فِي الْعَمَلِ بِأَيِّ ذَلِكَ شَاءُوا وَعَمِلُوا بِهِ ، وَأَخْبَرَ طَارِقُ بْنُ أَشْيَمَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَهُ فَلَمْ يَرَهُ قَنَتَ ، وَغَيْرُ مُنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ صَلَّى خَلْفَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَمْ يَقْنُتْ فِيهَا فِي صَلَاتِهِ ، فَأَخْبَرَ عَنْهُ بِمَا رَأَى وَشَاهَدَ ، وَلَيْسَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : لَمْ أَرِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ ، بِحُجَّةٍ يَدْفَعُ بِهَا قَوْلَ مَنْ قَالَ : رَأَيْتُهُ قَنَتَ ، وَلَاسِيَّمَا وَالْقُنُوتُ أَمْرٌ مُخَيَّرٌ الْمُصَلِّي فِيهِ وَفِي تَرْكِهِ ، كَالَّذِي ذَكَرْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَمَلِهِ بِهِ أَحْيَانًا ، وَتَرْكِهِ إِيَّاهُ أَحْيَانًا ، تَعْلِيمًا مِنْهُ أُمَّتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبِيلَ الصَّوَابِ فِيهِ . وَلَوْ كَانَ قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِهِ : " لَمْ أَرْ رَسُولَ اللَّهِ قَنَتَ " دَافِعًا قَوْلَ مَنْ قَالَ : " رَأَيْتُهُ يَقْنُتُ " ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : لَمْ أَرَهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِهِ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ ، دَافِعًا قَوْلَ مَنْ قَالَ : رَأَيْتُهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَهُمَا .(2/149)
وَكَذَلِكَ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا حُكِيَ عَنْهُ مِنَ اخْتِلَافٍ كَانَ يَكُونُ مِنْهُ فِي صَلَاتِهِ ، مِمَّا فَعَلَهُ تَعْلِيمًا مِنْهُ أُمَّتَهُ فِي أَنَّهُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ الْعَمَلِ بِهِ وَتَرْكِهِ ، غَيْرَ جَائِزٍ الْعَمَلُ إِلَّا بِأَحَدِهِمَا ، وَفِي إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَأَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي حَالِ الرُّكُوعِ وَحَالِ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ غَيْرُ مُفْسِدٍ صَلَاةَ الْمُصَلِّي ، وَلَا تَرْكُهُ مُوجِبٌ عَلَيْهِ قَضَاءً وَلَا بَدَلًا مِنْهُ ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُهُ أَحْيَانًا فِي صَلَاتِهِ وَيَتْرُكَهُ أَحْيَانًا . وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي الْقُنُوتِ ، إِذْ كَانَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ أَحْيَانًا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَيَتْرُكَهُ أَحْيَانًا ، مُعْلِمًا بِذَلِكَ أُمَّتَهُ أَنَّهُمْ مُخَيَّرُونَ فِي الْعَمَلِ بِهِ وَالتَّرْكِ . وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ عِنْدَنَا فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ ، فَإِنَّ سَبِيلَ الِاخْتِلَافِ عَنْهُمْ فِيهِ ، سَبِيلُ الِاخْتِلَافِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .(2/150)
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْنُتُونَ أَحْيَانًا عَلَى مَا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ، وَأَحْيَانًا يَتْرُكُونَ الْقُنُوتَ عَلَى مَا عَهِدُوهُ يَتْرُكُ ، فَيَشْهَدُ قُنُوتَهُمْ فِي الْحَالِ الَّتِي يَقْنُتُونَ فِيهَا قَوْمٌ ، فَيَرْوُونَ عَنْهُمْ مَا رَأَوْا مِنْ فِعْلِهِمْ ، وَيَشْهَدُهُمْ آخَرُونَ فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يَقْنُتُونَ فِيهَا ، فَيَرْوُونَ عَنْهُمْ مَا رَأَوْا مِنْ فِعْلِهِمْ ، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ مُحِقٌّ صَادِقٌ".
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ قَنَتَ لِسَبَبِ وَتَرَكَهُ لِزَوَالِ السَّبَبِ .
فَالْقُنُوتُ مِن السُّنَنِ الْعَوَارِضِ لَا الرَّوَاتِبِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ تَرَكَهُ لَمَّا زَالَ الْعَارِضُ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى ثُمَّ تَرَكَهُ لَمَّا زَالَ الْعَارِضُ، وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ لَمْ يَقْنُتْ بَعْدَ الرُّكُوعِ إلَّا شَهْرًا هَكَذَا ثَبَتَ عَن أَنَسٍ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ قَطُّ عَنهُ أَنَّهُ قَنَتَ الْقُنُوتَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ لَا قَبْلَ الرُّكُوعِ وَلَا بَعْدَهُ وَلَا فِي كُتُبِ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ، بَلْ قَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ كَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي مَالِكٍ الأشجعي وَغَيْرِهِمَا .(2/151)
وَمِن الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّ الرَّسُولَ - صلى الله عليه وسلم - لَوْ كَانَ كُلَّ يَوْمٍ يَقْنُتُ قُنُوتًا يَجْهَرُ بِهِ لَكَانَ لَهُ فِيهِ دُعَاءٌ يَنْقُلُهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ نَقَلُوا مَا كَانَ يَقُولُهُ فِي الْقُنُوتِ الْعَارِضِ وَقُنُوتِ الْوِتْرِ، فَالْقُنُوتُ الرَّاتِبُ أَوْلَى أَنْ يُنْقَلَ دُعَاؤُهُ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ الَّذِي نَسْتَحِبُّهُ إنَّمَا يَدْعُو فِيهِ لِقُنُوتِ الْوِتْرِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالْيَقِينِ الْقَطْعِيِّ كَمَا يُعْلَمُ عَدَمُ النَّصِّ عَلَى هَذَا وَأَمْثَالِهِ ، فَإِنَّهُ مِن الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ أَهْمَلُوا نَقْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ قَطْعًا . وَكَذَلِكَ الْمَأْثُورُ عَن الصَّحَابَةِ مِثْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا هُوَ الْقُنُوتُ الْعَارِضُ قُنُوتُ النَّوَازِلِ ،فعَن عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ : اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك وَنُؤْمِنُ بِكَ وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْك وَنُثْنِي عَلَيْك الْخَيْرَ ، وَلا نَكْفُرُك ، اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَلَك نُصَلِّي وَنَسْجُدُ وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ ، نَرْجُو رَحْمَتَكَ وَنَخْشَى عَذَابَك ، إنَّ عَذَابَك بِالْكَافِرِينَ مُلْحَقٌ ، اللَّهُمَّ عَذِّبْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِك"(1)
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 10 / ص 389)(30337) صحيح(2/152)
وَكَذَلِكَ دُعَاءُ عَلِيٍّ عِنْدَ قِتَالِهِ لِبَعْضِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سُوَيْد الْكَاهِلِيِّ ، أَنَّ عَلِيًّا قَنَتَ فِي الْفَجْرِ بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ : اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك وَنَسْتَغْفِرُك وَنُثْنِي عَلَيْك الْخَيْرَ ، وَلا نَكْفُرُك ، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ ، اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ ، وَلَك نُصَلِّي وَنَسْجُدُ وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ وَنَرْجُو رَحْمَتَكَ وَنَخْشَى عَذَابَك ، إنَّ عَذَابَك بِالْكَافِرِينَ مُلْحَقٌ.(1)
وَالْقُنُوتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ هُوَ الْقِيَامُ الطَّوِيلُ ؛ إذْ لَفْظُ الْقُنُوتِ مَعْنَاهُ دَوَامُ الطَّاعَةِ فَتَارَةً يَكُونُ فِي السُّجُودِ وَتَارَةً يَكُونُ فِي الْقِيَامِ.
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 10 / ص 388)(30335) حسن(2/153)
وَأَمَّا حَجَّةُ الْوَدَاعِ وَإِنْ اشْتَبَهَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِن النَّاسِ فَإِنَّمَا أَتَوْا مِن جِهَةِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ حَيْثُ سَمِعُوا بَعْضَ الصَّحَابَةِ يَقُولُ : إنَّهُ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَهَؤُلَاءِ أَيْضًا يَقُولُونَ إنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ إنَّهُ قَرَنَ الْعُمْرَةَ إلَى الْحَجِّ وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ . فَإِنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحِلَّ مِن إحْرَامِهِ وَأَنَّهُ كَانَ قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ وَنَحَرَهُ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ الْحَجَّةِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِن أَصْحَابِهِ إلَّا عَائِشَةُ أَمَرَ أَخَاهَا أَنْ يَعْمُرَهَا مِن التَّنْعِيمِ أَدْنَى الْحِلِّ ، وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنهُ فِيهَا أَنَّهُ لَمْ يَطُفْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً مَعَ طَوَافِهِ الْأَوَّلِ .
فَاَلَّذِينَ نَقَلُوا أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ صَدَقُوا لِأَنَّهُ أَفْرَدَ أَعْمَالَ الْحَجِّ لَمْ يَقْرِنْ بِهَا عَمَلَ الْعُمْرَةِ كَمَا يَتَوَهَّمُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سعيين وَلَمْ يَتَمَتَّعْ تَمَتُّعًا حَلَّ بِهِ مِن إحْرَامِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُتَمَتِّعُ الَّذِي لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ ؛ بَلْ قَدْ أَمَرَ جَمِيعَ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ لَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ أَنْ يَحِلُّوا مِن إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً وَيُهِلُّوا بِالْحَجِّ بَعْدَ قَضَاءِ عُمْرَتِهِمْ .
===================
قلت : وسأذكر أمثلة أخرى هامة وقع التنازع بين المسلمين بسببها :
أولا
صلاة الظهر بعد الجمعة(2/154)
إن تعدد صلاة الجمعة في البلد الواحد جائز عند أهل العلم نظراً للحاجة الداعية إلى تعدد الجمعة فإذا كان البلد كبيراً وأهله كثير لا يسعهم مسجد واحد فلا مانع من تعدد الجمعة . وبهذا قال المحققون من العلماء من أتباع المذاهب الأربعة وغيرهم قال السرخسي :[ والصحيح من قول أبي حنيفة في هذه المسالة أنه يجوز إقامة الجمعة في مصر واحد في موضعين وأكثر ](1)
وقال الزيلعي شارحاً ومحللاً لقول النسفي :[ وتؤدى في مصر في مواضع أي تؤدى الجمعة في مصر واحد في مواضع كثيرة وهو قول أبي حنيفة ومحمد وهو الأصح لأن في الاجتماع في موضع واحد في مدينة كبيرة حرجاً بيناً وهو مدفوع ](2)
وأجاز فقهاء المالكية تعدد الجمعة للضرورة(3)
وذكر الإمام النووي أن الصحيح من مذهب الشافعية جواز تعدد الجمعة في موضعين وأكثر وقال :[ وقد دخل الشافعي بغداد وهم يقيمون الجمعة في موضعين وقيل في ثلاثة فلم ينكر ذلك واختلف أصحابنا في الجواب عن ذلك وفي حكم بغداد في الجمعة على أربعة أوجه ذكر المصنف الثلاثة الأولى منها هنا وكلامه في التنبيه يقتضي الجزم بالرابع ، أحدها أن الزيادة على جمعة في بغداد جائزة وإنما جازت لأنه بلد كبير يشق اجتماعهم في موضع منه قال أصحابنا فعلى هذا تجوز الزيادة على جمعة في جميع البلاد التي يكثر الناس فيها ويعسر اجتماعهم في موضع وهذا الوجه هو الصحيح وبه قال أبو العباس بن سريج وأبو إسحاق المروزي ، قال الرافعي : واختاره أكثر أصحابنا تصريحاً وتعريضاً وممن رجحه ابن كج والحناطي بالحاء المهملة والقاضي أبو الطيب في كتابه المجرد والروياني والغزالي وآخرون ، قال الماوردي وهو اختيار المزني ودليله قوله تعالى :( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ](4)
__________
(1) - المبسوط 2/102 .
(2) - تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 1/218 .
(3) - كما في شرح الخرشي وحاشية العدوي عليه 2/74-75 .
(4) - المجموع 4/585-586 .(2/155)
وقال الخرقي من الحنابلة :[ وإذا كان البلد كبيراً يحتاج إلى جوامع فصلاة الجمعة في جميعها جائزة ]
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً كلام الخرقي السابق :[ وجملته : أن البلد متى كان يشق على أهله الاجتماع في مسجد واحد ويتعذر ذلك لتباعد أقطاره أو ضيق مسجده عن أهله كبغداد وأصبهان ونحوهما من الأمصار الكبيرة جازت إقامة الجمعة فيما يحتاج إليه من جوامعهما وهذا قول عطاء وأجازه أبو يوسف في بغداد دون غيرها ، لأن الحدود تقام فيها في موضعين والجمعة حيث تقام الحدود ، ومقتضى قوله : أنه لو وجد بلد آخر تقام فيه الحدود في موضعين جازت إقامة الجمعة في موضعين منه . لأن الجمعة حيث تقام الحدود وهذا قول ابن المبارك ... ولنا : أنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة فجازت فيما يحتاج إليه من المواضع كصلاة العيد . وقد ثبت أن علياً - رضي الله عنه - كان يخرج يوم العيد إلى المصلى ويستخلف على ضَعَفَةِ الناس أبا مسعود البدري فيصلي بهم. فأما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - إقامة جمعتين فلغناهم عن إحداهما ولأن أصحابه كانوا يرون سماع خطبته وشهود جمعته وإن بعدت منازلهم . لأنه المبلغ عن الله تعالى وشارع الأحكام ولما دعت الحاجة إلى ذلك في الأمصار صليت في أماكن ولم ينكر فصار إجماعاً ](1)
__________
(1) - المغني 2/248 .(2/156)
والخلاصة: أن رأي الجمهور ( المالكية على المشهور، والشافعية والحنابلة) والكاساني من الحنفية: هو عدم جواز التعدد إلا لحاجة. أما الحنفية(1)على المذهب وعليه الفتوى فقالوا: يؤدى أكثر من جمعة في مصر واحد بمواضع كثيرة دفعاً للحرج؛ لأن في إلزام اتحاد الموضع حرجاً بيناً، لتطويل المسافة على أكثر الحاضرين، ولم يوجد دليل على عدم جواز التعدد، والضرورة أو الحاجة تقضي بعدم اشتراطه، لا سيما في المدن الكبرى.
__________
(1) - الدر المختار ورد المحتار: 755/1 ومابعدها. قال في شرح المنية: الأولى هو الاحتياط: لأن الخلاف في جواز التعدد عدمه قوي، وكون الصحيح جواز التعدد للضرورة للفتوى: لايمنع شرعية الاحتياط للتقوى.(2/157)
والحقُّ: رجحان هذا الرأي، لاتساع البنيان، وكثرة الناس، وللحاجة في التيسير عليهم في أداء الجمعة، ولأن منع التعدد لم يقم عليه دليل صحيح، قال ابن رشد(1): " وَلَمْ يَرَ مَالِكٌ الْمِصْرَ وَلَا السُّلْطَانَ شَرْطًا فِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُنَاسِبٍ لِأَحْوَالِ الصَّلَاةِ وَرَأَى أَنَّ الْمَسْجِدَ شَرْطًا لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ مُنَاسَبَةً ، حَتَّى لَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ هَلْ مِنْ شَرْطِ الْمَسْجِدِ السَّقْفُ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ تَكُونَ الْجُمُعَةُ رَاتِبَةً فِيهِ أَمْ لَا ؟ وَهَذَا كُلُّهُ لَعَلَّهُ تَعَمُّقٌ فِي هَذَا الْبَابِ وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ . وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ شُرُوطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ لَمَا جَازَ أَنْ يَسْكُتَ عَنْهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَا أَنْ يَتْرُكَ بَيَانَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ) ، وَاللَّهُ الْمُرْشِدُ لِلصَّوَابِ . "
__________
(1) - بداية المجتهد: 154/1.و بداية المجتهد ونهاية المقتصد - (ج 1 / ص 135) الشاملة 2(2/158)
وتعدد الجمع اليوم يتفق مع مبدأ يسر الإسلام ودفع الحرج عن المصلين، ولا تجب صلاة الظهر على أحد من المصلين، كما قرر بعض الشافعية كالرملي في المدن الكبرى كالقاهرة وبغداد ودمشق، وأما كون الجمعة لمن سبق فمعناه زيادة الأجر لمن بكر في المجيء للمسجد. قال ابن تيمية(1): "فَإِقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي الْمَدِينَةِ الْكَبِيرَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ لِلْحَاجَةِ يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا بُنِيَتْ بَغْدَادُ وَلَهَا جَانِبَانِ أَقَامُوا فِيهَا جُمُعَةً فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ وَجُمُعَةً فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ . وَجَوَّزَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ"(2)
وبهذا يظهر لنا أن المعتمد في المذاهب الأربعة جواز تعدد الجمعة للحاجة وهذا القول هو الصواب الموافق لقواعد الشرع المطهر ولعمل المسلمين فيما مضى من الأعصار في جميع الأمصار .
وكيف يصنع المسلمون في المدن الكبيرة التي تغص بالسكان وقد يبلغ سكانها الملايين وكيف يجتمعون في مسجد واحد فمدينة كالقاهرة مثلاً فيها أكثر من عشرة ملايين نسمة ، كيف يصلون في مكان واحد ؟!
إن نصوص الشريعة وقواعدها القاضية برفع الحرج ودفع المشقة تجيز تعدد الجمعة في مساجد كثيرة مهما بلغ عددها ما دامت الحاجة تدعو لذلك .
إن إقامة صلاة الظهر بعد الجمعة لم تثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن الأئمة المهديين.
وقد ثبت أن الإمام الشافعي رحمه الله قد دخل بغداد وأقام بها مدة من الزمن وكانت الجمعة تقام بأكثر من موضع ولم ينقل عنه أنه كان يصلي الظهر بعد الجمعة(3).
__________
(1) - فتاوى ابن تيمية 208/24.
(2) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 2 / ص 438) فما بعدها
(3) - القول المبين ص 384 .(2/159)
وقال الشيخ القاسمي :[ والذي اعتمده الإمام ابن نجيم والعلامة ابن عبد الحق الأخير ووافقه غيره من أن لا وجوب للظهر - أي بعد الجمعة - هو الحق لما فيه من رفع الحرج، وهل يطالب مكلف بفريضتين في وقت واحد مع ما في أدائه جماعة من صورة نقض الجمعة وإيقاع العامة في اعتقاد أن ليوم الجمعة بعد زواله فرضين صلاة الجمعة وصلاة الظهر،بل هو الذي لا يرتابون فيه ويزيدون عليه أنه لا يصح إلا جماعة بل تنطع بعض الغلاة المتصولحين مرة فقال لي : كيف السبيل إلى سنَّة الظهر القبلية قبل فرض يوم الجمعة وهي تفوتني بعجلة أداء الظهر .
فتأمل كيف رحم الله العباد ففرض عليهم ركعتين في ذلك اليوم وأمرهم إذا قضوهما أن ينتشروا في الأرض ويبتغوا من فضله تيسيراً عليهم إذ يحتاجون لصرف حصة في سماع الخطبة ، وانظر كيف شددوا على أنفسهم وربما المتنطع منهم يطالب بأداء اثنتين وعشرين ركعة بعد الزوال إذا يصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً كالظهر وكلاهما مع الجمعة عشر ، ثم يتطوع بأربع قبل الظهر وأربع بعدها وكلاهما مع الظهر اثنا عشر أيضاً ، فالجملة ما ذكرنا ولا يخفى أن محو اعتقاد غير الصواب من صدور العامة لتمحيص الحق باب عظيم من أبواب الدعوة إلى سبيل الله وهدى نبيه عليه السلام ، وقد اتفق في عهد حسين باشا والي مصر المذاكرة لديه في بدعة الظهر جماعة بعد الجمعة فمنع أهل الأزهر منها ، نقله الشبراملسي في رسالته التي ألفها في سبب صلاة الظهر يومئذ فرحمه الله على منعه من هذه البدعة وأثابه خيراً ووفق من تنبه لمنعها بمنّه وكرمه ](1)
__________
(1) - إصلاح المساجد ص 50-51 .(2/160)
وقال الشيخ الغلايني :[ ومن الأدلة على عدم طلب الظهر بعد الجمعة بل على عدم مشروعيتها يوم الجمعة مطلقاً صليت الجمعة أم لم تصلَّ ما ورد من اجتماع عيد وجمعة في عهد الرسول الأكرم - صلى الله عليه وسلم - فصلى العيد ورخص في الجمعة ولم يرد أنه أمرهم بالظهر لأنه لم يثبت ذلك وهاك النصوص : عَنْ إِيَاسِ بْنِ أَبِى رَمْلَةَ الشَّامِىِّ قَالَ شَهِدْتُ مُعَاوِيَةَ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ شَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عِيدَيْنِ اجْتَمَعَا قَالَ نَعَمْ صَلَّى الْعِيدَ أَوَّلَ النَّهَارِ ثُمَّ رَخَّصَ فِى الْجُمُعَةِ فَقَالَ « مَنْ شَاءَ أَنْ يُجَمِّعَ فَلْيُجَمِّعْ ». رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة(1).
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ « قَدِ اجْتَمَعَ فِى يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ ». رواه أبو داود وابن ماجة(2).
__________
(1) - مسند أحمد (19839) صحيح لغيره
(2) - سنن أبى داود(1075 ) وابن ماجة (1371 ) صحيح(2/161)
وعن وهب بن كيسان قَالَ اجْتَمَعَ عِيدَانِ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَأَخَّرَ الْخُرُوجَ حَتَّى تَعَالَى النَّهَارُ ثُمَّ خَرَجَ فَخَطَبَ فَأَطَالَ الْخُطْبَةَ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى وَلَمْ يُصَلِّ لِلنَّاسِ يَوْمَئِذٍ الْجُمُعَةَ. فَذُكِرَ ذَلِكَ لاِبْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ أَصَابَ السُّنَّةَ. رواه النسائي(1)وأبو داود بنحوه عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى رَبَاحٍ قَالَ صَلَّى بِنَا ابْنُ الزُّبَيْرِ فِى يَوْمِ عِيدٍ فِى يَوْمِ جُمُعَةٍ أَوَّلَ النَّهَارِ ثُمَّ رُحْنَا إِلَى الْجُمُعَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْنَا فَصَلَّيْنَا وُحْدَانًا وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ فَلَمَّا قَدِمَ ذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ أَصَابَ السُّنَّةَ..(2)
ولأبي داود عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ عَطَاءٌ اجْتَمَعَ يَوْمُ جُمُعَةٍ وَيَوْمُ فِطْرٍ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ عِيدَانِ اجْتَمَعَا فِى يَوْمٍ وَاحِدٍ فَجَمَعَهُمَا جَمِيعًا فَصَلاَّهُمَا رَكْعَتَيْنِ بُكْرَةً لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ.(3).
فهذه الأحاديث ناطقة بلسان فصيح على منبر الحق بأنه لا ظهر بعد الجمعة، بل إن الظهر لم تشرع ذلك اليوم أقيمت الجمعة أم لم تقم ](4)
وأمَّا ما احتج به بعضهم على مشروعية الظهر بعد الجمعة بأن الجمعة لمن سبق ، فهذا ليس بحديث ,وإنما هو قول لبعض الفقهاء .
__________
(1) - سنن النسائى (1603 ) صحيح
(2) - سنن أبى داود(1073 ) صحيح
(3) - سنن أبى داود(1074) صحيح
(4) - البدعة في صلاة الظهر بعد الجمعة ص 138-139 .(2/162)
وقال أستاذنا د. وهبة الزحيلي :[ وينبغي العمل على منع الظهر بجماعة بعد الجمعة حفاظاً على وحدة المسلمين ولا يصح قياس حالة البلدان وكثرة سكانها على حالة المدينة في صدر الإسلام حيث كان المسلمون قلة والخليفة خطيب المسلمين وخبره وسيلة إعلام جميع المسلمين في الجهاد وعلاج أزمة القحط والوباء ونحو ذلك من الأحداث الكبرى ](1)
وقال أيضاً : " لم يفرض الله تعالى في يوم سوى خمس صلوات ، وقد حلَّت صلاة الجمعة محل صلاة الظهر ، وهذا هو الصحيح المقرر عند جمهور الفقهاء ، إلا أن الشافعية - ولم ينقل ذلك عن الشافعي - اجتهدوا بالمطالبة بصلاة الظهر وجوباً إن تعددت الجمع في البلد لغير حاجة ، واحتياطاً إن تعددت لحاجة ، أخذاً بقاعدة هي السابقة غيرها بتكبيرة الإحرام ، لأن ( ( الجمعة لمن سبق ) ) وهذه مقولة ليست حديثاً ، وعلى الرغم من أني شافعي اتبع ما قرره مشايخي علماء الأزهر ، وأغلبهم شافعيون ، بأنه لا حاجة لصلاة الظهر بعد الجمعة ، عملاً بوحدة الأمة المسلمة في عبادتهم ، والله أعلم."(2)
==============
ثانياً
__________
(1) - الفقه الإسلامي وأدلته 2/311 .
(2) - فتاوى الزحيلي - (ج 1 / ص 411) -ما حكم صلاة الظهر بعد الجمعة؟ وما تفصيل القول فيه؟ وانظر فتاوى يسألونك - (ج 5 / ص 31) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 12 / ص 196) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 2197) -رقم الفتوى 14017 لا تشرع صلاة الظهر بعد الجمعة(2/163)
اختلاف المطالع(1)
اخْتِلاَفُ مَطَالِعِ الْهِلاَل أَمْرٌ وَاقِعٌ بَيْنَ الْبِلاَدِ الْبَعِيدَةِ كَاخْتِلاَفِ مَطَالِعِ الشَّمْسِ ، لَكِنْ هَل يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي بَدْءِ صِيَامِ الْمُسْلِمِينَ وَتَوْقِيتِ عِيدَيِ الْفِطْرِ وَالأَْضْحَى وَسَائِرِ الشُّهُورِ فَتَخْتَلِفُ بَيْنَهُمْ بَدْءًا وَنِهَايَةً أَمْ لاَ يُعْتَبَرُ بِذَلِكَ ، وَيَتَوَحَّدُ الْمُسْلِمُونَ فِي صَوْمِهِمْ وَفِي عِيدَيْهِمْ ؟ ،
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 22 / ص 35) و فتاوى الأزهر - (ج 1 / ص 107) -اختلاف المطالع فى رؤية الهلال وفتاوى الأزهر - (ج 1 / ص 117)اختلاف المطالع فى اثبات رؤية هلال رمضان وفتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 252) هلال رمضان وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 12 / ص 122) وفتاوى يسألونك - (ج 5 / ص 54)الاختلاف في بداية الصيام وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 839) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 17 / ص 206) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 897) رقم الفتوى 2536 اختلاف المطالع له اعتباره وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 2300) رقم الفتوى 5445 من أخذ بأن رؤية الهلال في قطر ملزمة لبقية الأقطار لزمه الصوم وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 2778) رقم الفتوى 6375 الأصل في الصوم أو الإفطار رؤية الهلال وليس تقليد بلد بعينه والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 3 / ص 39) وأبحاث هيئة كبار العلماء - (ج 3 / ص 32) ومجلة مجمع الفقه الإسلامي - (ج 2 / ص 661)(2/164)
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ عِبْرَةَ بِاخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ ، وَهُنَاكَ مَنْ قَال بِاعْتِبَارِهَا ، وَخَاصَّةً بَيْنَ الأَْقْطَارِ الْبَعِيدَةِ ، فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ : بِأَنَّهُ لِكُل بَلَدٍ رُؤْيَتُهُمْ ، وَأَوْجَبُوا عَلَى الأَْمْصَارِ الْقَرِيبَةِ اتِّبَاعَ بَعْضِهَا بَعْضًا ، وَأَلْزَمُوا أَهْل الْمِصْرِ الْقَرِيبِ فِي حَالَةِ اخْتِلاَفِهِمْ مَعَ مِصْرٍ قَرِيبٍ مِنْهُمْ بِصِيَامِهِمْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ ، وَصِيَامِ الآْخَرِينَ ثَلاَثِينَ اعْتِمَادًا عَلَى الرُّؤْيَةِ أَوْ إِتْمَامَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ أَنْ يَقْضُوا الْيَوْمَ الَّذِي أَفْطَرُوهُ ؛ لأَِنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ حَسَبَ مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْمِصْرِ الآْخَرِ ، وَالْمُعْتَمَدُ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ اعْتِبَارَ بِاخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ فَإِذَا ثَبَتَ الْهِلاَل فِي مِصْرٍ لَزِمَ سَائِرَ النَّاسِ فَيُلْزَمُ أَهْل الْمَشْرِقِ بِرُؤْيَةِ أَهْل الْمَغْرِبِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ(1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى جَمِيعِ أَقْطَارِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا رُئِيَ الْهِلاَل فِي أَحَدِهَا .
وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ هَذَا التَّعْمِيمَ فَاسْتَثْنَى الْبِلاَدَ الْبَعِيدَةَ كَثِيرًا كَالأَْنْدَلُسِ وَخُرَاسَانَ(2).
__________
(1) - ابن عابدين : رسائل ابن عابدين 1 / 228، 229
(2) - القرافي ، الفروق 2 / 203، والحطاب، مواهب الجليل 2 / 384 .(2/165)
وَبَيَّنَ الْقَرَافِيُّ اخْتِلاَفَ مَطَالِعِ الْهِلاَل عِلْمِيًّا ، وَذَكَرَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِهِ مُكْتَفِيًا بِهِ عَنِ الْبَقِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ : وَهُوَ أَنَّ الْبِلاَدَ الْمَشْرِقِيَّةَ إِذَا كَانَ الْهِلاَل فِيهَا فِي الشُّعَاعِ وَبَقِيَتِ الشَّمْسُ تَتَحَرَّكُ مَعَ الْقَمَرِ إِلَى الْجِهَةِ الْغَرْبِيَّةِ فَمَا تَصِل الشَّمْسُ إِلَى أُفُقِ الْمَغْرِبِ إِلاَّ وَقَدْ خَرَجَ الْهِلاَل عَنِ الشُّعَاعِ فَيَرَاهُ أَهْل الْمَغْرِبِ وَلاَ يَرَاهُ أَهْل الْمَشْرِقِ . وَاسْتَنْتَجَ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ وَمِنَ اتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعِهِمْ عَلَى اخْتِلاَفِ أَوْقَاتِ الصَّلاَةِ وَمُرَاعَاةِ ذَلِكَ فِي الْمِيرَاثِ بِحَيْثُ أَفْتَوْا بِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَخَوَانِ عِنْدَ الزَّوَال أَحَدُهُمَا بِالْمَشْرِقِ وَالآْخَرُ بِالْمَغْرِبِ حُكِمَ بِأَسْبَقِيَّةِ مَوْتِ الْمَشْرِقِيِّ ؛ لأَِنَّ زَوَال الْمَشْرِقِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى زَوَال الْمَغْرِبِ فَيَرِثُ الْمَغْرِبِيُّ الْمَشْرِقِيَّ ، فَقَرَّرَ بَعْدَ إِثْبَاتِهِ اخْتِلاَفَ الْهِلاَل بِاخْتِلاَفِ الآْفَاقِ وُجُوبَ أَنْ يَكُونَ لِكُل قَوْمٍ رُؤْيَتُهُمْ فِي الأَْهِلَّةِ ، كَمَا أَنَّ لِكُل قَوْمٍ أَوْقَاتَ صَلَوَاتِهِمْ ، وَرَأَى أَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَى جَمِيعِ الأَْقَالِيمِ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل بِقُطْرٍ مِنْهَا بَعِيدٌ عَنِ الْقَوَاعِدِ ، وَالأَْدِلَّةُ لَمْ تَقْتَضِ ذَلِكَ(1).
__________
(1) - القرافي، الفروق 2 / 204 .(2/166)
وَعَمِل الشَّافِعِيَّةُ بِاخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ فَقَالُوا : " إِنَّ لِكُل بَلَدٍ رُؤْيَتَهُمْ وَإِنَّ رُؤْيَةَ الْهِلاَل بِبَلَدٍ لاَ يَثْبُتُ بِهَا حُكْمُهُ لِمَا بَعُدَ عَنْهُمْ " . كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ النَّوَوِيُّ(1).
وَاسْتَدَلُّوا مَعَ مَنْ وَافَقَهُمْ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَعْمَل بِرُؤْيَةِ أَهْل الشَّامِ لِحَدِيثِ كُرَيْبٍ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ قَالَ فَقَدِمْتُ الشَّامَ فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا وَاسْتُهِلَّ عَلَىَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ فَرَأَيْتُ الْهِلاَلَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِى آخِرِ الشَّهْرِ فَسَأَلَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلاَلَ فَقَالَ مَتَى رَأَيْتُمُ الْهِلاَلَ فَقُلْتُ رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ. فَقَالَ أَنْتَ رَأَيْتَهُ فَقُلْتُ نَعَمْ وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ. فَقَالَ لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلاَ نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلاَثِينَ أَوْ نَرَاهُ. فَقُلْتُ أَوَلاَ تَكْتَفِى بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ فَقَالَ لاَ هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.(2)
وَقَدْ عَلَّل النَّوَوِيُّ هَذِهِ الْفَتْوَى مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّ الرُّؤْيَةَ لاَ يَثْبُتُ حُكْمُهَا فِي حَقِّ الْبَعِيدِ(3).
وَقَال الْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ ، وَأَلْزَمُوا جَمِيعَ الْبِلاَدِ بِالصَّوْمِ إِذَا رُئِيَ الْهِلاَل فِي بَلَدٍ(4).
__________
(1) - المجموع شرح المهذب 5 / 273 - 275، وشرح مسلم 5 / 58 - 59، والشوكاني نيل الأوطار 4 / 268 ( دار الجيل ) .
(2) - صحيح مسلم (2580 )
(3) - شرح مسلم 5 / 58 - 59
(4) - ابن قدامة، المغني 3 / 88 - 89(2/167)
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ بِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ (4) ، فَقَدْ أَوْجَبَ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّوْمَ بِمُطْلَقِ الرُّؤْيَةِ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ تَقْيِيدِهَا بِمَكَانٍ ، وَاعْتَبَرُوا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ اجْتِهَادِهِ ، وَلَيْسَ نَقْلاً عَنِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .(1)
قلت : بالرغم أنه ثبت أن المسافة الفلكية بين طنجا- جاكرتا هي تسع ساعات فلكية ، فأيُّ بلد مسلم رأت الهلال يمكن أن تخبر بقية الأقطار الإسلامية قبل الفجر ، ولكن هذا الأمر لم يحدث بسبب تفرق كلمة المسلمين .
وفي قرارات مجمع الفقه الإسلامي ذهبوا لقول الجمهور حيث قالوا :
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م.
بعد استعراضه في قضية «توحيد بدايات الشهور القمرية» مسألتين:
الأولى: مدى تأثير اختلاف المطالع على توحيد بداية الشهور
الثانية: حكم إثبات أوائل الشهور القمرية بالحساب الفلكي.
وبعد استماعه إلى الدراسات المقدمة من الأعضاء والخبراء حول هذه المسألة. قرر:
1 - في المسألة الأولى: إذا ثبتت الرؤية في بلد وجب على المسلمين الالتزام بها ولا عبرة لاختلاف المطالع لعموم الخطاب بالأمر بالصوم والإفطار.
2 - في المسألة الثانية: وجوب الاعتماد على الرؤية، ويستعان بالحساب الفلكي والمراصد مراعاة للأحاديث النبوية والحقائق العلمية.(2)
وأما قرار هيئة كبار العلماء بالسعودية فهو ما يلي :
__________
(1) - صحيح البخارى(1909 ) ومسلم (2567)
(2) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 115)(2/168)
أولاً: اختلاف مطالع الأهلة من الأمور التي علمت بالضرورة حسا وعقلاً ولم يختلف فيها أحد، وإنما وقع الاختلاف بين علماء المسلمين في اعتبار اختلاف المطالع من عدمه.
ثانياً: مسألة اعتبار اختلاف المطالع من عدمه من المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال والاختلاف فيها وفي أمثالها واقع ممن لهم الشأن في العلم والدين وهو من الخلاف السائغ الذي يؤجر فيه المصيب أجرين: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، ويؤجر فيه المخطئ أجر الاجتهاد، وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين، فمنهم من رأى اعتبار اختلاف المطالع، ومنهم من لم ير اعتباره، واستدل كل فريق بأدلته من الكتاب والسنة، وربما استدل الفريقان بالنص الواحد كاشتراكهما في الاستدلال بقوله تعالى: "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج"، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته". الحديث... وذلك لاختلاف الفهم في النص وسلوك كل منهما طريقاً في الاستدلال به، وعند بحث هذه المسألة في مجلس الهيئة، ونظراً لاعتبارات قدَّرتها الهيئة، ولأن هذا الخلاف في مسألة اعتبار اختلاف المطالع من عدمه ليس له آثار تخشى عواقبها، وقد مضى على ظهور هذا الدين مدة أربعة عشر قرناً لا نعلم منها فترة جرى فيها توحيد الأمة الإسلامية على رؤية واحدة، فإن أعضاء الهيئة يرون بقاء الأمر على ما كان عليه وعدم إثارة هذا الموضوع، وأن يكون لكل دولة إسلامية حق اختيار ما تراه بواسطة علمائها من الرأيين المشار إليهما في المسألة إذ لكل منهما أدلته ومستنداته.(1)
قلت : وهذا ما أميلُ إليه اليوم حسماً للنزاع الذي يحصلُ بين المسلمين في كل بداية رمضان ونهايته ، ومنْ صام قبل بلده لسببٍ ما ، فلا يفطر قبل أن يفطروا درءا للفتنة ، وحسماً للاختلاف . والله أعلم .
==============
الثالث
التراويح في رمضان
__________
(1) - فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 17 / ص 232)(2/169)
في كل سنة في رمضان تثار هذه المسألة في كثير من البلدان ، حول هل تصلَّى التراويح عشرين ركعة أم ثماني ركعات ، ويحصل تراشق التهم بين الطرفين المتنازعين إلى حدٍّ بعيد،فسنحاول بحثها باختصار علَّها تنهي هذا النزاع والخصام بين الإخوة .
أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى سُنِّيَّةِ قِيَامِ لَيَالِيِ رَمَضَانَ ، وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقِيَامِ رَمَضَانَ صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ يَعْنِي أَنَّهُ يَحْصُل الْمَقْصُودُ مِنَ الْقِيَامِ بِصَلاَةِ التَّرَاوِيحِ(1). وَقَدْ جَاءَ فِي فَضْل قِيَامِ لَيَالِيِ رَمَضَانَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ(2).
وقد اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى سُنِّيَّةِ صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ ، وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ، وَهِيَ سُنَّةٌ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ ، وَهِيَ مِنْ أَعْلاَمِ الدِّينِ الظَّاهِرَةِ(3)
وَقَدْ سَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَةَ التَّرَاوِيحِ وَرَغَّبَ فِيهَا ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَرَضَ صِيَامَ رَمَضَانَ عَلَيْكُمْ وَسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ».(4)
__________
(1) - فتح الباري 4 / 251 .
(2) - صحيح البخارى(37 ) ومسلم (1815) و الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 23 / ص 144)
(3) - الاختيار 1 / 68 ، رد المحتار 1 / 472 ، العدوي على كفاية الطالب 1 / 352 ، 2 / 321 ، الإقناع للشربيني 1 / 107 ، المجموع 4 / 31 ، مطالب أولي النهى 1 / 563 .
(4) - سنن النسائى(2222 ) وفيه انقطاع(2/170)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُرَغِّبُ فِى قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ(1)فَيَقُولُ « مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ». فَتُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ كَانَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِى خِلاَفَةِ أَبِى بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ.(2)
قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ وَغَيْرُهُ : اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ صَلاَةَ التَّرَاوِيحِ هِيَ الْمُرَادَةُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ .
وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ صَلاَةَ التَّرَاوِيحِ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي ، وَلَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهَا ، وَبَيَّنَ الْعُذْرَ فِي تَرْكِ الْمُوَاظَبَةِ وَهُوَ خَشْيَةُ أَنْ تُكْتَبَ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا، فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رضى الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ فِى الْمَسْجِدِ فَصَلَّى بِصَلاَتِهِ نَاسٌ ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ « قَدْ رَأَيْتُ الَّذِى صَنَعْتُمْ وَلَمْ يَمْنَعْنِى مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلاَّ أَنِّى خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ » ، وَذَلِكَ فِى رَمَضَانَ .(3)
__________
(1) - المعنى : لا يأمرهم به أمر تحتيم وإلزام وهو العزيمة ، بل أمر ندب وترغيب فيه بذكر فضله . المجموع 4 / 31 ، الإقناع 1 / 107 ، الترغيب والترهيب 2 / 90 .
(2) - صحيح مسلم (1816 ) -الصدر : أول خلافته
(3) - صحيح البخارى(1129) ومسلم (1819)(2/171)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ لَيْلَةً مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ ، فَصَلَّى فِى الْمَسْجِدِ ، وَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلاَتِهِ ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا ، فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ ، فَصَلَّوْا مَعَهُ ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا ، فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى ، فَصَلَّوْا بِصَلاَتِهِ ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ ، حَتَّى خَرَجَ لِصَلاَةِ الصُّبْحِ ، فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ ، فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ « أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَىَّ مَكَانُكُمْ ، وَلَكِنِّى خَشِيتُ أَنْ تُفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا » . فَتُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ(1)
وَقَدْ وَاظَبَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً ، وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هُوَ الَّذِي جَمَعَ النَّاسَ فِيهَا عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ .
__________
(1) - صحيح البخارى(2012)(2/172)
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِىِّ أَنَّهُ قَالَ خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - لَيْلَةً فِى رَمَضَانَ ، إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّى الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ ، وَيُصَلِّى الرَّجُلُ فَيُصَلِّى بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ فَقَالَ عُمَرُ إِنِّى أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ . ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ قَارِئِهِمْ ، قَالَ عُمَرُ نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ ، وَالَّتِى يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِى يَقُومُونَ . يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ(1).
__________
(1) - صحيح البخارى(2010 ) ومالك (249) -الأوزاع : المتفرقون غير المجتمعين على إمام واحد(2/173)
وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَال : سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنِ التَّرَاوِيحِ وَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ ، فَقَال : التَّرَاوِيحُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ، وَلَمْ يَتَخَرَّصْ(1)عُمَرُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مُبْتَدِعًا ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ إِلاَّ عَنْ أَصْلٍ لَدَيْهِ وَعَهْدٍ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَقَدْ سَنَّ عُمَرُ هَذَا وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَصَلاَّهَا جَمَاعَةً وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ وَمَا رَدَّ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، بَل سَاعَدُوهُ وَوَافَقُوهُ وَأَمَرُوا بِذَلِكَ(2)
وأما عَدَدُ رَكَعَاتِ التَّرَاوِيحِ : فقد قَال السُّيُوطِيُّ : الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَالْحِسَانُ الأَْمْرُ بِقِيَامِ رَمَضَانَ وَالتَّرْغِيبُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِعَدَدٍ ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى التَّرَاوِيحَ عِشْرِينَ رَكْعَةً ، وَإِنَّمَا صَلَّى لَيَالِيَ صَلاَةً لَمْ يُذْكَرْ عَدَدُهَا ، ثُمَّ تَأَخَّرَ فِي اللَّيْلَةِ الرَّابِعَةِ خَشْيَةَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا(3).
__________
(1) - من معاني الخرص : الكذب ، وكل قول بالظن ، يقال : تخرص عليه إذا افترى ، واخترص إذا اختلق . ( القاموس المحيط ) .
(2) - فتح القدير 1 / 333 ، الاختيار 1 / 68 - 69 ، المغني 2 / 166 ، المنتقى 1 / 207 .
(3) - المصابيح في صلاة التراويح ص 14 - 15 .(2/174)
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ : لَمْ يَصِحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى التَّرَاوِيحَ عِشْرِينَ رَكْعَةً ، وَمَا وَرَدَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عِشْرِينَ رَكْعَةً فَهُوَ شَدِيدُ الضَّعْفِ(1).
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِيمَا كَانَ يُصَلَّى بِهِ فِي رَمَضَانَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - : فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - مِنَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَالشَّافِعِيَّةِ ، وَالْحَنَابِلَةِ ، وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّ التَّرَاوِيحَ عِشْرُونَ رَكْعَةً ، لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ مِنْ قِيَامِ النَّاسِ فِي زَمَانِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِعِشْرِينَ رَكْعَةً ، وَجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ مِنَ الرَّكَعَاتِ جَمْعًا مُسْتَمِرًّا ، قَال الْكَاسَانِيُّ : جَمَعَ عُمَرُ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَصَلَّى بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ(2).
وَقَال الدُّسُوقِيُّ وَغَيْرُهُ : كَانَ عَلَيْهِ عَمَل الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ(3)
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ : عَلَيْهِ عَمَل النَّاسِ شَرْقًا وَغَرْبًا(4)
وَقَال عَلِيٌّ السَّنْهُورِيُّ : هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَل النَّاسِ وَاسْتَمَرَّ إِلَى زَمَانِنَا فِي سَائِرِ الأَْمْصَارِ(5)
__________
(1) - الفتاوى الكبرى 1 / 194 .
(2) - بدائع الصنائع 1 / 288 ،
(3) - حاشية الدسوقي 1 / 315 .
(4) - رد المحتار 1 / 474 .
(5) - شرح الزرقاني 1 / 284 .(2/175)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : وَهَذَا فِي مَظِنَّةِ الشُّهْرَةِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إِجْمَاعًا(1)وَالنُّصُوصُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِىَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً قَالَ وَقَدْ كَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعِصِىِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ وَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلاَّ فِى فُرُوعِ الْفَجْرِ..(2)
وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ أَنَّهُ قَالَ كَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ فِى زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِى رَمَضَانَ بِثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً.،(3)
قَال الْبَيْهَقِيُّ وَالْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمَا : أَيْ بِعَشْرَيْنَ رَكْعَةً غَيْرَ الْوِتْرِ ثَلاَثَ رَكَعَاتٍ(4)،
وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى شَهْرِ رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً - قَالَ - وَكَانُوا يَقْرَءُونَ بِالْمِئِينِ ، وَكَانُوا يَتَوَكَّئُونَ عَلَى عُصِيِّهِمْ فِى عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ شِدَّةِ الْقِيَامِ.(5)
__________
(1) - كشاف القناع 1 / 425 .
(2) - موطأ مالك (250 ) والتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد - (ج 8 / ص 114) وقال هكذا قال مالك في هذا الحديث إحدى عشرة ركعة وغيره يقول فيه إحدى وعشرين
(3) - موطأ مالك (251 ) صحيح مرسل
(4) - وانظر المنتقى 1 / 209 ، وشرح المنهاج للمحلي 1 / 217 .
(5) - السنن الكبرى للبيهقي(ج 2 / ص 496)(4801) صحيح و فتح القدير 1 / 334 ، والمغني 1 / 208 ، والمجموع 4 / 32 - 33 .(2/176)
قَال الْبَاجِيُّ : يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ عُمَرُ أَمَرَهُمْ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، وَأَمَرَهُمْ مَعَ ذَلِكَ بِطُول الْقِرَاءَةِ ، يَقْرَأُ الْقَارِئُ بِالْمِئِينَ فِي الرَّكْعَةِ ؛ لأَِنَّ التَّطْوِيل فِي الْقِرَاءَةِ أَفْضَل الصَّلاَةِ ، فَلَمَّا ضَعُفَ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً عَلَى وَجْهِ التَّخْفِيفِ عَنْهُمْ مِنْ طُول الْقِيَامِ ، وَاسْتَدْرَكَ بَعْضُ الْفَضِيلَةِ بِزِيَادَةِ الرَّكَعَاتِ(1).
وَقَال الْعَدَوِيُّ : الإِْحْدَى عَشْرَةَ كَانَتْ مَبْدَأَ الأَْمْرِ ، ثُمَّ انْتَقَل إِلَى الْعِشْرِينَ . وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ : رَجَعَ عُمَرُ إِلَى ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً(2)
__________
(1) - المنتقى 2 / 208 .
(2) - حاشية العدوي على كفاية الطالب 1 / 353 .(2/177)
وَخَالَفَ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ مَشَايِخَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعِشْرِينَ سُنَّةٌ فِي التَّرَاوِيحِ فَقَال : قِيَامُ رَمَضَانَ سُنَّةٌ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً بِالْوِتْرِ فِي جَمَاعَةٍ ، فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ ، أَفَادَ أَنَّهُ لَوْلاَ خَشْيَةَ فَرْضِهِ عَلَيْهِمْ لَوَاظَبَ بِهِمْ ، وَلاَ شَكَّ فِي تَحَقُّقِ الأَْمْنِ مِنْ ذَلِكَ بِوَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ سُنَّةً ، وَكَوْنُهَا عِشْرِينَ سُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ(1)" نَدْبٌ إِلَى سُنَّتِهِمْ ، وَلاَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ ذَلِكَ سُنَّتَهُ ؛ إِذْ سُنَّتُهُ بِمُوَاظَبَتِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ إِلاَّ لِعُذْرٍ ، وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ ذَلِكَ الْعُذْرِ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُ ، فَتَكُونُ الْعِشْرُونَ مُسْتَحَبًّا ، وَذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْهَا هُوَ السُّنَّةُ ، كَالأَْرْبَعِ بَعْدَ الْعِشَاءِ مُسْتَحَبَّةٌ وَرَكْعَتَانِ مِنْهَا هِيَ السُّنَّةُ ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْمَشَايِخِ أَنَّ السُّنَّةَ عِشْرُونَ ، وَمُقْتَضَى الدَّلِيل مَا قُلْنَا فَيَكُونُ هُوَ الْمَسْنُونَ ، أَيْ فَيَكُونُ الْمَسْنُونُ مِنْهَا ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ وَالْبَاقِي مُسْتَحَبًّا(2).
__________
(1) - سنن الترمذى (2891 ) صحيح
(2) - فتح القدير 1 / 333 - 334 .(2/178)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : الْقِيَامُ فِي رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً أَوْ بِسِتٍّ وَثَلاَثِينَ وَاسِعٌ أَيْ جَائِزٌ ، فَقَدْ كَانَ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَقُومُونَ فِي رَمَضَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْمَسَاجِدِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً ، ثُمَّ يُوتِرُونَ بِثَلاَثٍ ، ثُمَّ صَلُّوا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ سِتًّا وَثَلاَثِينَ رَكْعَةً غَيْرَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ .
قَال الْمَالِكِيَّةُ : وَهُوَ اخْتِيَارُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ ، قَال : هُوَ الَّذِي لَمْ يَزَل عَلَيْهِ عَمَل النَّاسِ أَيْ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَقَالُوا : كَرِهَ مَالِكٌ نَقْصَهَا عَمَّا جُعِلَتْ بِالْمَدِينَةِ .
وَعَنْ مَالِكٍ - أَيْ فِي غَيْرِ الْمُدَوَّنَةِ - قَال : الَّذِي يَأْخُذُ بِنَفْسِي فِي ذَلِكَ الَّذِي جَمَعَ عُمَرُ عَلَيْهِ النَّاسَ ، إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْهَا الْوِتْرُ ، وَهِيَ صَلاَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْمَذْهَبِ أَقْوَالٌ وَتَرْجِيحَاتٌ أُخْرَى(1).
__________
(1) - كفاية الطالب 1 / 353 شرح الزرقاني 1 / 284 .(2/179)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : وَلأَِهْل الْمَدِينَةِ فِعْلُهَا سِتًّا وَثَلاَثِينَ ؛ لأَِنَّ الْعِشْرِينَ خَمْسُ تَرْوِيحَاتٍ ، وَكَانَ أَهْل مَكَّةَ يَطُوفُونَ بَيْنَ كُل تَرْوِيحَتَيْنِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ ، فَحَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ بَدَل كُل أُسْبُوعٍ تَرْوِيحَةً لِيُسَاوُوهُمْ ، قَال الشَّيْخَانِ : وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ . . وَهُوَ الأَْصَحُّ كَمَا قَال الرَّمْلِيُّ لأَِنَّ لأَِهْل الْمَدِينَةِ شَرَفًا بِهِجْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَدْفِنِهِ ، وَخَالَفَ الْحَلِيمِيُّ فَقَال : وَمَنَ اقْتَدَى بِأَهْل الْمَدِينَةِ فَقَامَ بِسِتٍّ وَثَلاَثِينَ فَحَسَنٌ أَيْضًا(1).
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : لاَ يَنْقُصُ مِنَ الْعِشْرِينَ رَكْعَةً ، وَلاَ بَأْسَ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا نَصًّا ، قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ : رَأَيْتُ أَبِي يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ مَا لاَ أُحْصِي ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَْسْوَدُ يَقُومُ بِأَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بَعْدَهَا بِسَبْعٍ(2).
__________
(1) - أسنى المطالب 1 / 201 ، نهاية المحتاج 2 / 123 .
(2) - مطالب أولي النهى 1 / 563 ، كشاف القناع 1 / 425 .(2/180)
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ : وَالأَْفْضَل يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ أَحْوَال الْمُصَلِّينَ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمُ احْتِمَالٌ لِطُول الْقِيَامِ ، فَالْقِيَامُ بِعَشْرِ رَكَعَاتٍ وَثَلاَثٍ بَعْدَهَا ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ هُوَ الأَْفْضَل . وَإِنْ كَانُوا لاَ يَحْتَمِلُونَهُ فَالْقِيَامُ بِعِشْرِينَ هُوَ الأَْفْضَل . وَهُوَ الَّذِي يَعْمَل بِهِ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَ الْعَشْرِ وَبَيْنَ الأَْرْبَعِينَ ، وَإِنْ قَامَ بِأَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا جَازَ ذَلِكَ وَلاَ يُكْرَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ . وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الأَْئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . قَال : وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ فِيهِ عَدَدٌ مُوَقَّتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يُزَادُ فِيهِ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ(1).
قلت : من خلال أقوال الفقهاء نلاحظ أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عددا للتراويح ، وإنما ثبت العدد عن عمر رضي الله عنه .
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية 22 / 272 .(2/181)
وقد زعم قوم أن التراويح لا تصحُّ بأكثر من ثماني ركعات استنادا لحديث عائشة رضي الله عنها ، فعَنْ أَبِى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - كَيْفَ كَانَتْ صَلاَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى رَمَضَانَ فَقَالَتْ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَزِيدُ فِى رَمَضَانَ وَلاَ فِى غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، يُصَلِّى أَرْبَعًا فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ، ثُمَّ يُصَلِّى أَرْبَعًا فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ، ثُمَّ يُصَلِّى ثَلاَثًا ، قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ . فَقَالَ « يَا عَائِشَةُ ، إِنَّ عَيْنَىَّ تَنَامَانِ وَلاَ يَنَامُ قَلْبِى »(1).
والصواب من القول أنه لا يعارض رواية العشرين ، لأنه يتحدث عن قيام الليل ، المرغب به كل ليلة ، ولكن رمضان خصَّ بشيء زائد على ذلك ، فلو كان قيام رمضان هو نفس قيام الليل لما كان فيه أية ميزة تميزه عن غيره ، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ »(2).
ومن جهة ثانية لو كان فعل عمر رضي الله عنه- الذي كان بحضرة الصحابة ومنهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- منكرا لأنكره عليه الصحابة ولا سيما أم المؤمنين عائشة ، فتقول له لقد خالفت فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن هذا الأمر لم يحصل بتاتا ، مع أنها أنكرت عليه وعلى غيره بعض الأشياء كتعذيب الميت ببكاء الحي ونحوه .
ومن جهة أخرى لم بجعل أحد من الفقهاء هذا الحديث معارضا لفعل عمر رضي الله عنه.
فلو كان المقصود به التراويح لما اختلف الفقهاء منذ عهد الصحابة بعدد ركعاتها .
__________
(1) - صحيح البخارى(1147 )
(2) - صحيح البخارى (37 )(2/182)
والصواب أنه يوجد في رمضان تراويح وقيام ليل (تهجد) ولا تعارض بينهما أصلاً ،بدليل قول عمر رضي الله عنه " نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ ، وَالَّتِى يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِى يَقُومُونَ . يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ ."(1)
وفي مصنف ابن أبي شيبة(ج 2 / ص 392)
680- كم يصلي فِي رَمَضَانَ مِنْ رَكْعَةٍ.
7762- حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ ، عَنْ شُتَيْرِ بْنِ شَكَلٍ : أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً وَالْوِتْرَ.
7763- حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ حَسَنِ بْنِ صَالِحٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ ، عَنِ أَبِي الْحَسْنَاءِ : أَنَّ عَلِيًّا أَمَرَ رَجُلاً يُصَلِّي بِهِمْ فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً.
7764- حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَمَرَ رَجُلاً يُصَلِّي بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً.
7765- حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ : كَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يُصَلِّي بِنَا فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً وَيَقْرَأُ بِحَمْدِ الْمَلاَئِكَةِ فِي رَكْعَةٍ.
7766- حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ حَسَنٍ ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ ، قَالَ : كَانَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي رَمَضَانَ بِالْمَدِينَةِ عِشْرِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بِثَلاَثٍ.
7767- حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، عَنْ حَجَّاجٍ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنِ الْحَارِثِ : أَنَّهُ كَانَ يَؤُمُّ النَّاسَ فِي رَمَضَانَ بِاللَّيْلِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بِثَلاَثٍ وَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ.
__________
(1) - صحيح البخارى (2010 )(2/183)
7768- حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ خَلَفٍ ، عَنْ رَبِيعٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ : أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي خَمْسَ تَرْوِيحَاتٍ فِي رَمَضَانَ وَيُوتِرُ بِثَلاَثٍ.
7769- حَدَّثَنَا حَفْصٌ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ ، قَالَ : كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ يُصَلِّي بِنَا فِي رَمَضَانَ أَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بِسَبْعٍ.
7770- حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ ، عَنْ عَطَاءٍ ، قَالَ : أَدْرَكْت النَّاسَ وَهُمْ يُصَلُّونَ ثَلاَثًا وَعِشْرِينَ رَكْعَةً بِالْوِتْرِ.
7771- حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ ، قَالَ : أَدْرَكْتُ النَّاسَ بِالْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ يُصَلُّونَ سِتَّة وَثَلاَثِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُونَ بِثَلاَثٍ.
7772- حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ : أَنَّ عَلِيَّ بْنَ رَبِيعَةَ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ فِي رَمَضَانَ خَمْسَ تَرْوِيحَاتٍ وَيُوتِرُ بِثَلاَثٍ.
7773- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ ، عَنْ وِقَاءٍ ، قَالَ : كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَؤُمُّنَا فِي رَمَضَانَ فَيُصَلِّي بِنَا عِشْرِينَ لَيْلَةً سِتَّ تَرْوِيحَاتٍ ، فَإِذَا كَانَ الْعَشْرُ الأَخَرُ اعْتَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ وَصَلَّى بِنَا سَبْعَ تَرْوِيحَاتٍ.
7774- حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ ، عَنِ الْحَكَمِ ، عَنْ مِقْسَمٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً وَالْوِتْرَ.(2/184)
وفي فَضَائِلُ الْأَوْقَاتِ لِلْبَيْهَقِيِّ (124 ) أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الدَّيْنَوَرِيُّ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ السُّنِّيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ ، قَالَ : كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً ، قَالَ : وَكَانُوا يَقْرَءُونَ بِالْمِائَتَيْنِ ، وَكَانُوا يَتَوَكَّئُونَ عَلَى عِصِيِّهِمْ فِي عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مِنْ شِدَّةِ الْقِيَامِ قَالَ الشَّيْخُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَبِمَعْنَاهُ رَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مُرْسَلًا ، وَرُوِّينَا عَنْ شُتَيْرِ بْنِ شَكَلٍ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَؤُمُّهُمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بِثَلَاثٍ , وَعَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ أَنَّهُ كَانَ يَؤُمُّهُمْ فِي رَمَضَانَ فَيُصَلِّي خَمْسَ تَرْوِيحَاتٍ عِشْرِينَ رَكْعَةً وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّهُ قَالَ : دَعَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِثَلَاثِ قُرَّاءٍ فَاسْتَقْرَأَهُمْ فَأَمَرَ أَسْرَعَهُمْ قِرَاءَةً أَنْ يَقْرَأَ لِلنَّاسِ فِي رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ آيَةً وَأَمَرَ أَوْسَطَهُمْ أَنْ يَقْرَأَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ وَأَمَرَ أَبْطَأَهُمْ أَنْ يَقْرَأَ لِلنَّاسِ عِشْرِينَ آيَةً(2/185)
وفي قِيَامُ رَمَضَانَ لِمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ -بَابُ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا الْإِمَامُ لِلنَّاسِ فِي رَمَضَانَ تَقَدَّمَ حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " صَلَّى فِي رَمَضَانَ فِي لَيْلَةٍ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ ثُمَّ أَوْتَرَ " وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ : " أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً " وَفِي رِوَايَةٍ : كُنَّا نُصَلِّي فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي رَمَضَانَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنَّا نُخْرِجُ إِلَّا فِي وِجَاهِ الصُّبْحِ , كَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ فِي رَكْعَةٍ بِخَمْسِينَ آيَةً , سِتِّينَ آيَةً .(2/186)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ : " كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً يُطِيلُونَ فِيهَا الْقِرَاءَةَ وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ " قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمَا سَمِعْتُ فِيَ ذَلِكَ حَدِيثًا هُوَ أَثْبَتُ عِنْدِي وَلَا أَحْرَى بِأَنْ يَكُونَ , كَانَ مِنْ حَدِيثِ السَّائِبِ , وَذَلِكَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً " وَعَنِ السَّائِبِ أَيْضًا : " أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ فِي رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً , وَيَقْرَءُونَ بِالْمِئِينَ مِنَ الْقُرْآنِ , وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَمِدُونَ عَلَى الْعِصِيِّ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ : " كَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَمَضَانَ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً " وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ : " مَا زَالَ النَّاسُ يَقُومُونَ بِسِتٍّ وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ إِلَى الْيَوْمِ فِي رَمَضَانَ " زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُصَلِّي بِنَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَيَنْصَرِفُ وَعَلَيْهِ لَيْلٌ " قَالَ الْأَعْمَشُ : " كَانَ يُصَلِّي عِشْرِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بِثَلَاثٍ " وَقَالَ عَطَاءٌ : " أَدْرَكْتُهُمْ يُصَلُّونَ فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً , وَالْوِتْرُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ " عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ عَنْ شُتَيْرٍ : وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَعْدُودِينَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً(2/187)
وَيُوتِرُ بِثَلَاثٍ " مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ : إِنَّ مُعَاذًا أَبَا حَلِيمَةَ الْقَارِئَ كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي رَمَضَانَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ رَكْعَةً " ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ , عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةَ قَالَ : " أَدْرَكْتُ النَّاسَ قَبْلَ الْحَرَّةِ يَقُومُونَ بِإِحْدَى وَأَرْبَعِينَ رَكْعَةً يُوتِرُونَ مِنْهَا بِخَمْسٍ " قَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ : فَقُلْتُ : لَا يُسَلِّمُونَ بَيْنَهُنَّ ؟ فَقَالَ : " بَلْ يُسَلِّمُونَ بَيْنَ كُلِّ ثِنْتَيْنِ وَيُوتِرُونَ بِوَاحِدَةٍ إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا " عَمْرُو بِنُ مُهَاجِرٍ : إِنَّ عَمْرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ " كَانَتْ تَقُومُ الْعَامَّةُ بِحَضْرَتِهِ فِي رَمَضَانَ بِخَمْسَ عَشْرَةَ تَسْلِيمَةً وَهُوَ فِي قُبَّتِهِ لَا نَدْرِي مَا يَصْنَعُ " دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ : " أَدْرَكْتُ الْمَدِينَةَ فِي زَمَانِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ يُصَلُّونَ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ " نَافِعٌ : " لَمْ أُدْرِكِ النَّاسَ إِلَّا وَهُمْ يُصَلُّونَ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُونَ مِنْهَا بِثَلَاثٍ " وَرْقَاءُ بْنُ إِيَاسٍ : كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يُصَلِّي بِنَا فِي رَمَضَانَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى عِشْرِينَ لَيْلَةً سِتَّ تَرْوِيحَاتٍ , فَإِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ زَادَ تَرْوِيحَةً " حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ سِتَّ تَرْوِيحَاتٍ يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ , كُلُّ تَرْوِيحَةٍ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ " يُونُسُ رَحِمَهُ اللَّهُ : " أَدْرَكْتُ مَسْجِدَ الْجَامِعَ قَبْلَ فِتْنَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ يُصَلِّي بِهِمْ عَبْدُ(2/188)
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ , وَعِمْرَانُ الْعَبْدِيُّ كَانُوا يُصَلُّونَ خَمْسَ تَرَاوِيحَ , فَإِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ زَادُوا وَاحِدَةً , وَيَقْنُتُونَ فِي النِّصْفِ الْآخِرِ , وَيَخْتِمُونَ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ " عِمْرَانُ بْنُ حُدَيْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : " كَانَ أَبُو مِجْلَزٍ يُصَلِّي بِهِمْ أَرْبَعَ تَرْوِيحَاتٍ وَيَقْرَأُ بِهِمْ سُبْعَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ " ذَكْوَانُ الْجُرَشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " شَهِدْتُ زُرَارَةَ بْنَ أَوْفَى يُصَلِّي بِالْحَيِّ فِي رَمَضَانَ سِتَّ تَرْوِيحَاتٍ , فَإِذَا كَانَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ صَلَّى سَبْعَ تَرْوِيحَاتٍ كُلَّ لَيْلَةٍ , وَشَهِدْتُهُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ يُصَلِّي سِتَّ رَكَعَاتٍ لَا يَقْعُدُ بَيْنَهُنَّ يَقْعُدُ فِي السَّادِسَةِ " ابْنُ الْقَاسِمِ : سَمِعْتُ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ يَذْكُرُ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ سُلَيْمَانَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ : أَنْتَقِصُ مِنْ قِيَامِ رَمَضَانَ , فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ , فَقِيلَ لَهُ : قَدْ كَرِهَ ذَلِكَ , قَالَ : نَعَمْ , وَقَدْ قَامَ النَّاسُ هَذَا الْقِيَامَ قَدِيمًا , قِيلَ لَهُ : فَكَمِ الْقِيَامُ ؟ فَقَالَ : تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ رَكْعَةً بِالْوِتْرِ " ابْنُ أَيْمَنَ : قَالَ مَالِكٌ : " أَسْتَحِبُّ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ فِي رَمَضَانَ بِثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً ثُمَّ يُسَلِّمُ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ ثُمَّ يُوتِرُ بِهِمْ بِوَاحِدَةٍ , وَهَذَا الْعَمَلُ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ الْحَرَّةِ مُنْذُ بِضْعٍ وَمِائَةِ سَنَةٍ إِلَى الْيَوْمِ " وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ : قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ : كَمْ مِنْ رَكْعَةٍ تُصَلِّي فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ ؟ فَقَالَ : قَدْ قِيلَ فِيهِ أَلْوَانٌ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ ، إِنَّمَا هُوَ(2/189)
تَطَوَّعٌ , قَالَ إِسْحَاقُ : نَخْتَارُ أَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ أَخَفَّ " الزَّعْفَرَانِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : رَأَيْتُ النَّاسَ يَقُومُونَ بِالْمَدِينَةِ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً قَالَ : " وَأَحَبُّ إِلَيَّ عِشْرُونَ , قَالَ : وَكَذَلِكَ يَقُومُونَ بِمَكَّةَ , قَالَ : وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا ضِيقٌ وَلَا حَدٌّ يَنْتَهِي إِلَيْهِ , لَأَنَّهُ نَافِلَةٌ فَإِنْ أَطَالُوا الْقِيَامَ وَأَقَلُّوا السُّجُودَ فَحَسَنٌ , وَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ , وَإِنْ أَكْثَرُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَحَسَنٌ .
والصواب أنه كله جائز سواء أصلى ثماني ركعات أو عشرين أو ستة وثلاثين ونحو ذلك لا حرج فيه ، وهو من اختلاف التنوع الذي يقصد به التسهيل على الناس .
فالزعم بأنه لا تصحُّ التراويح بأكثر من ثماني ركعات غير صحيح ، كما أن الزعم بأنه لا تصح بأقل من عشرين غير صحيح أيضاً .
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية : " اختلف العلماء في عدد ركعات صلاة التراويح على أقوال:
قال ابن قدامة :" وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِيهَا عِشْرُونَ رَكْعَةً ،وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ،وَقَالَ مَالِكٌ : سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ ."(1).
وقال النووي في المجموع : ونقله عياض عن الجمهور أنها عشرون ركعة(2)، قال العيني: وقيل إحدى عشرة ركعة وهو اختيار مالك لنفسه واختيار أبي بكر بن العربي.(3)
وقال الترمذي : أكثر ما قيل أنه يصلى إحدى وأربعين ركعة بركعة الوتر . انتهى(4).
__________
(1) - المغني - (ج 3 / ص 388)
(2) - المجموع شرح المهذب - (ج 4 / ص 31)
(3) - عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 12 / ص 458)
(4) - سنن الترمذى (811)(2/190)
واحتج الجمهور بأدلة منها حديث في الصحيحين عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَلاَةِ اللَّيْلِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى ، فَإِذَا خَشِىَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً ، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى »(1).
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَهُ عَنْ صَلاَةِ اللَّيْلِ فَقَالَ « صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى تُسَلِّمُ فِى كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَصَلِّ رَكْعَةً تُوتِرُ لَكَ مَا قَبْلَهَا ».(2)
وعن عُقْبَةَ بْنِ حُرَيْثٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا رَأَيْتَ أَنَّ الصُّبْحَ يُدْرِكُكَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ ». فَقِيلَ لاِبْنِ عُمَرَ مَا مَثْنَى مَثْنَى قَالَ أَنْ يُسَلِّمَ فِى كُلِّ رَكْعَتَيْنِ.(3)
ومنها حديث السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى شَهْرِ رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً - قَالَ - وَكَانُوا يَقْرَءُونَ بِالْمِئِينِ ، وَكَانُوا يَتَوَكَّئُونَ عَلَى عُصِيِّهِمْ فِى عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ شِدَّةِ الْقِيَامِ.(4). وإسناده صحيح كما قال النووي في المجموع ورواه مالك في الموطأ.
__________
(1) - صحيح البخارى(990 ) ومسلم (1782)
(2) - مسند أحمد (5465) صحيح
(3) - صحيح مسلم (1799)
(4) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 2 / ص 496)(4801) صحيح(2/191)
ومنها حديث ربيعة بن كعب قَالَ كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِى « سَلْ ». فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِى الْجَنَّةِ. قَالَ « أَوَغَيْرَ ذَلِكَ ». قُلْتُ هُوَ ذَاكَ. قَالَ « فَأَعِنِّى عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ». رواه مسلم(1).
قلت : "وذهب الألباني إلى وجوب الاقتصار على إحدى عشرة ركعة وأن الزيادة عليها بدعة واحتجَّ:
أولاً: بحديث عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ يَزِيدُ فِى رَمَضَانَ ، وَلاَ فِى غَيْرِهَا عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، البخاري(2)
وثانياً: حديث زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىِّ أَنَّهُ قَالَ: لأَرْمُقَنَّ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اللَّيْلَةَ فَصَلَّى. رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثُمَّ أَوْتَرَ فَذَلِكَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً.رواه مسلم(3).
__________
(1) - صحيح مسلم(1122 )
(2) - صحيح البخارى (2013)
(3) - صحيح مسلم(1840 )(2/192)
ثالثاً: حديث عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثَمَانَ رَكَعَاتٍ وَأَوْتَرَ ، فَلَمَّا كَانَتِ الْقَابِلَةُ اجْتَمَعْنَا فِي الْمَسْجِدِ ، وَرَجَوْنَا أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْنَا ، فَلَمْ نَزَلْ فِيهِ حَتَّى أَصْبَحْنَا ، ثُمَّ دَخَلْنَا فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اجْتَمَعْنَا فِي الْمَسْجِدِ ، وَرَجَوْنَا أَنْ تُصَلِّيَ بِنَا ، فَقَالَ : " إِنِّي خَشِيتُ - أَوْ كَرِهْتُ - أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمُ الْوِتْرُ " . رواه ابن نصر والطبراني وحسنه الألباني(1).
رابعاً: حديث عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِىَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً قَالَ وَقَدْ كَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعِصِىِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ وَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلاَّ فِى فُرُوعِ الْفَجْرِ. رواه مالك في الموطأ(2)وصححه الألباني ، واحتج بقياس صلاة التراويح على السنن الرواتب وغيرها كصلاة الاستسقاء.
خامساً: أن حديث عائشة مخصص أو مقيد لحديث ابن عمر وربيعة بن كعب "
والجواب على هذه الأدلة:
أولاً: قول الألباني بوجوب الإحدى عشرة ركعة وتبديع المخالف لم يسبقه إليه أحد وليس له فيه سلف كما تبين من مذاهب العلماء التي سبق ذكرها.
__________
(1) - صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ(2450) والمعجم الصغير للطبراني (525) وأبو يعلى (1802) و صَحِيحُ ابْنِ خُزَيْمَةَ (1005) كلهم من طريق عيسى بن جارية عن جابر وهو ضعيف منكر
(2) - موطأ مالك(250 )(2/193)
ثانياً: حديث عائشة حكاية فعل وغايتها استحباب هذا العدد وهو لا ينافي مشروعية غيره، وأيضاً ثبت عند البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ كَانَ صَلاَةُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً . يَعْنِى بِاللَّيْلِ(1). وهو زيادة على الإحدى عشرة ركعة.
ثالثاً: حديث زيد بن خالد ليس فيه حجة للألباني ،بل هو حجة عليه لأن فيه الزيادة على الإحدى عشرة ركعة، وهو ما دفع الألباني إلى تأويل الزيادة بأنها سنة العشاء البعدية، وكذلك قال في حديث ابن عباس وهو تكلُّفٌ شديد.
رابعا-حديث جابر لا يصح ، فقد تفرد به (عيسى بن جارية ) وهو لين الحديث ، وهذا الحديث غير محفوظ كما قال ابن عدي في الكامل تهذيب التهذيب [ج 8 -ص 185] (383) والكامل في الضعفاء [ج5 -ص 248 ](1392 )
وفي تقريب التهذيب (5288 ) عيسى بن جارية بالجيم الأنصاري المدني فيه لين من الرابعة ق ، وفي الكاشف( 4368 ) عيسى بن جارية الأنصاري عن جرير وجابر وعنه أبو صخر حميد بن زياد ويعقوب القمي مختلف فيه قال ابن معين عنده مناكير ق
وقد تناقض الألباني فضعف عيسى هذا ، ففي سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة - (ج 14 / ص 494) وفي ترجمة عيسى ساقه ابن عدي في " الكامل " ( 5/ 249 ) مع أحاديث أخرى له، وقال فيها:"وكلها غير محفوظة ". ولذلك قال فيه الذهبي في " الكاشف ": "مختلف فيه. قال ابن معين: عنده مناكير". وفي "المغني ": " مختلف فيه. قال النسائي: متروك. وقال أبو زرعة: لا بأس به !. وقال الحافظ:" ليَّن،.
__________
(1) - صحيح البخارى (1138 )(2/194)
وقال في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة - (ج 14 / ص 868): وأما ( عيسى بن جارية ) فهو علة الحديث ؛ لأنه لم يوثقه غير ابن حبان ( 5/214 )، مع تضعيف الآخرين، فقال ابن معين:" عنده مناكير ". وكذا قال أبو داود. وقال في موضع آخر: " منكر الحديث ". وضعفه آخرون،نعم ؛ قال أبو زرعة: "لابأس به "
وهذا عين التناقص ، فقد تفرد بالرواية عيسى وأنركت عليه ، فكيف تحسن ؟!!
خامسا- وأما حديث مالك والذي فيه أحد عشر ركعة ، فقد قال ابن عبد البر:" هكذا قال مالك في هذا الحديث (إحدى عشرة ركعة ) وغير مالك يخالفه فيقول في موضع إحدى عشرة ركعة (إحدى وعشرين ) ولا أعلم أحدا قال في هذا الحديث إحدى عشرة ركعة غير مالك والله أعلم.
إلا أنه يحتمل أن يكون القيام في أول ما عمل به عمر بإحدى عشرة ركعة ثم خفف عليهم طول القيام ونقلهم إلى إحدى وعشرين ركعة يخففون فيها القراءة ويزيدون في الركوع والسجود، إلا أن الأغلب عندي في إحدى عشرة ركعة الوهم والله أعلم"(1)
سادساً: قياسه صلاة التراويح على السُّنن الرواتب وصلاة الكسوف فهو قياس مع الفارق لأن هذه السنن وردت مقيدة بعدد معين وهو ما يمنع الزيادة عليها بخلاف صلاة التراويح فهي من قيام الليل الذي قال عنه الشارع "مثنى مثنى"، وما ورد من عدد صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يعارض ولا يمنع من الزيادة.
__________
(1) - الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار - (ج 2 / ص 53)(2/195)
قال ابن تيمية : " كَمَا أَنَّ نَفْسَ قِيَامِ رَمَضَانَ لَمْ يُوَقِّتْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ عَدَدًا مُعَيَّنًا ؛ بَلْ كَانَ هُوَ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى ثَلَاثَ عَشْرَةِ رَكْعَةً(1)لَكِنْ كَانَ يُطِيلُ الرَّكَعَاتِ فَلَمَّا جَمَعَهُمْ عُمَرُ عَلَى أبي بْنِ كَعْبٍ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً ثُمَّ يُوتِرُ بِثَلَاثِ وَكَانَ يُخِفُّ الْقِرَاءَةَ بِقَدْرِ مَا زَادَ مِن الرَّكَعَاتِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَخَفُّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ مِنْ تَطْوِيلِ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ ثُمَّ كَانَ طَائِفَةٌ مِن السَّلَفِ يَقُومُونَ بِأَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثِ، وَآخَرُونَ قَامُوا بِسِتِّ وَثَلَاثِينَ وَأَوْتَرُوا بِثَلَاثِ ،وَهَذَا كُلُّهُ سَائِغٌ فَكَيْفَمَا قَامَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَقَدْ أَحْسَنَ . وَالْأَفْضَلُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُصَلِّينَ فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ احْتِمَالٌ لِطُولِ الْقِيَامِ فَالْقِيَامُ بِعَشْرِ رَكَعَاتٍ وَثَلَاثٍ بَعْدَهَا كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ هُوَ الْأَفْضَلُ ،وَإِنْ كَانُوا لَا يَحْتَمِلُونَهُ فَالْقِيَامُ بِعِشْرِينَ هُوَ الْأَفْضَلُ وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَ الْعَشْرِ وَبَيْنَ الْأَرْبَعِينَ ،وَإِنْ قَامَ بِأَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا جَازَ ذَلِكَ وَلَا يُكْرَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ . وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ .
__________
(1) - قلت : هذا الجزم فيه نظر ، فحديث عائشة ليس دليلاً قاطعاً على هذا العدد، ولو صح عند الصحابة ذلك ما خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/196)
وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ فِيهِ عَدَدٌ مُوَقَّتٌ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ ،فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ السَّعَةُ فِي نَفْسِ عَدَدِ الْقِيَامِ فَكَيْفَ الظَّنُّ بِزِيَادَةِ الْقِيَامِ لِأَجْلِ دُعَاءِ الْقُنُوتِ أَوْ تَرْكِهِ كُلُّ ذَلِكَ سَائِغٌ حَسَنٌ . وَقَدْ يَنْشَطُ الرَّجُلُ فَيَكُونُ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ تَطْوِيلَ الْعِبَادَةِ وَقَدْ لَا يَنْشَطُ فَيَكُونُ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ تَخْفِيفَهَا . وَكَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُعْتَدِلَةً . إذَا أَطَالَ الْقِيَامَ أَطَالَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَإِذَا خَفَّفَ الْقِيَامَ خَفَّفَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ فِي الْمَكْتُوبَاتِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ." انتهى(1)
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 22 / ص 272)(2/197)
سابعاً : تضعيف الألباني لرواية ابن خصيفة بالشذوذ لمخالفتها لرواية الإحدى عشرة ركعة غير جيد ، لنه لم يسبق لهذا التضعيف، فالحديث صحيح بلا ريب،كما أنها لا تعارضها والجمع بينهما ممكن باختلاف الأحوال، قال الحافظ ابن حجر في الفتح : "وَالْجَمْعُ بَيْن هَذِهِ الرِّوَايَات مُمْكِنٌ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَال ، وَيَحْتَمِل أَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ بِحَسَبِ تَطْوِيلِ الْقِرَاءَة وَتَخْفِيفِهَا فَحَيْثُ يُطِيلُ الْقِرَاءَة تَقِلُّ الرَّكَعَات وَبِالْعَكْسِ وَبِذَلِكَ جَزَمَ الدَّاوُدِيُّ وَغَيْره ، وَالْعَدَد الْأَوَّل مُوَافِق لِحَدِيثِ عَائِشَة الْمَذْكُور بَعْد هَذَا الْحَدِيث فِي الْبَاب ، وَالثَّانِي قَرِيب مِنْهُ ، وَالِاخْتِلَاف فِيمَا زَادَ عَنْ الْعِشْرِينَ رَاجِعٌ إِلَى الِاخْتِلَاف فِي الْوِتْر وَكَأَنَّهُ كَانَ تَارَة يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ وَتَارَة بِثَلَاثٍ. انتهى.(1)
سابعاً: جعل حديث عائشة مخصصاً لحديث ابن عمر وحديث ربيعة بن كعب غير صحيح، لأن العمل بالعام والخاص يكون عند التعارض بين الأدلة وليس هناك تعارض بين أحاديث الباب، فالجمعُ يسير بمثل ما جمع به الحافظ، وحديث عائشة فردٌ من أفراد حديث ابن عمر، وموافق العام لا يخصص كما هو مقرر في الأصول.
وكذلك لا علاقة له بالتراويح على الصحيح ، بل بقيام الليل مطلقاً .
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (ج 6 / ص 292)(2/198)
قالوا :"وأرجح الأقوال في عدد ركعاتها هو إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة لحديث عائشة وحديث ابن عباس السابقين وهو ما اختاره مالك لنفسه كما سبق، وأما الزيادة عليها فجائزة للأدلة التي احتج بها الجمهور.والله أعلم"."(1)
قلت : وهذا الذي رجحوه فيه نظر ، فلو كان حديث عائشة يعني التراويح لأعترضت على عمر ، فالراجح رواية العشرين ، وتجوز التراويح بما دون ذلك أو أكثر .(2)
قال ابن عثيمين رحمه الله في حكم الزيادة في صلاة التراويح على إحدى عشرة ركعة(3):
__________
(1) - انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 3923) -رقم الفتوى 54790 هل الزيادة على إحدى عشرة ركعة في التراويح بدعة؟ وانظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 874) رقم الفتوى 2497 لا حرج في صلاة التراويح بأي كيفية أو عدد ورد عن السلف
(2) - انظر فتاوى الأزهر - (ج 1 / ص 48) صلاة التراويح وفتاوى السبكي - (ج 1 / ص 307) والحاوي للفتاوي للسيوطي - (ج 2 / ص 12)
(3) - لقاءات الباب المفتوح - (ج 179 / ص 32)-حكم الزيادة في صلاة التراويح على إحدى عشرة ركعة(2/199)
" إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقوم بإحدى عشرة ركعة(1)، لكن هل قال للناس: لا تزيدوا عليها؟ لم يقل، بل جعل الباب مفتوحاً، لما سأله الرجل عن صلاة الليل قال: « صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى ، فَإِذَا خَشِىَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً ، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى »(2)ولم يقيدها، ثم إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم بإحدى عشرة ركعة لكن هل هو كقيامنا؟ كان يقوم حتى تتورم قدماه، وحتى يعجز الشباب من الصحابة عن متابعته إلا بمشقة، ألم تعلم أن ابن مسعود قام معه ليلة فقرأ النبي عليه الصلاة والسلام وأطال القراءة حتى هم أن يجلس من طول القيا(3)م، فالأمر في هذا واسع؛ إن شئت إحدى عشرة لكن بتأنٍ وطمأنينة وقراءة، وإن شئت بثلاثٍ وعشرين، وإن شئت بتسعٍ وثلاثين، الأمر واسع، المهم ألا تشق على نفسك. ثم إن قولك: إن عمر جعلها ثلاثاً وعشرين يحتاج إلى دليل، من قال هذا؟ أغلب ما فيه أن عمر أمر أبي بن كعب و تميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وهذا هو المظنون بعمر أن يأمر بما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعله.
__________
(1) - قلت : الصواب أن هذا قيام ليل وليس التراويح
(2) - صحيح البخارى (990)
(3) - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةً ، فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ . قُلْنَا وَمَا هَمَمْتَ قَالَ هَمَمْتَ أَنْ أَقْعُدَ وَأَذَرَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - صحيح البخارى(1135)(2/200)
لكن في حديث يزيد بن رومان وفيه انقطاع: [أن الناس كانوا في عهد عمر يقومون بثلاثٍ وعشرين] فهذا فيه أن الناس يفعلونه، فجائز أن عمر يدري أو لا يدري، وقد يكون أمر به فلم يكن، لكن إذا ثبت أنه أقر بذلك فيقال: هذا يدل على أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه -وهو أعلم منا بالسنَّة وأخشى منا لله- يرى أنه لا بأس أن يزيد الإنسان على إحدى عشرة ركعة."
قلت : نفيه أن يكون عمر أمرهم بالثلاث والعشرين فيه نظر ، وقد ذكرنا الأحاديث الصحيحة التي تدلُ على ذلك .
وقال العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ في فتاويه : " الحمد لله. ذهب أَكثر أَهل العلم كالإِمام أَحمد والشافعي وأَبي حنيفة إِلى أَن صلاةِ التراويح عشرون ركعة؛ لأَن عمر رضي الله عنه لما جمع الناس على أُبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة، وكان هذا بمحضر من الصحابة، فيكون كالإِجماع، وعلى هذا عمل الناس اليوم الآن. فلا ينبغي الانكار عليهم بل يتركون على ما هم عليه؛ لأَنه قد ينشأ من الإِنكار عليهم وقوع الاختلاف والنزاع وتشكيك العوام في سلَفهم، ولا سيما في هذه المسأَلة التي هي من التطوع، والأَمر فيها واسع، وزيادة التطوع أَمر مرغوب فيه ولا سيما في رمضان رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الأَسْلَمِىِّ قَالَ كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِى « سَلْ ». فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِى الْجَنَّةِ. قَالَ « أَوَغَيْرَ ذَلِكَ ». قُلْتُ هُوَ ذَاكَ. قَالَ « فَأَعِنِّى عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ».(1).
وإِذا كان من عادة أَهل بلد فعل صلاة التراويح على وجه آخر مما له أَصل شرعي فلا وجه للإِنكار عليهم أَيضًا. والمقصودُ من ذلك كله هو البعد عن أَسباب الشقاق والنزاع في أَمر فيه سعة.
__________
(1) - صحيح مسلم (1122 )(2/201)
وقد لاحظ الرسول صلى الله عليه وسلم هذا وترك أَمرًا عظيمًا مخافة ما يقع في قلوب الناس، كما جاء في حديث عائشة. وترجم البخاري في هذا المعنى فقال (باب مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الاِخْتِيَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ عَنْهُ فَيَقَعُوا فِى أَشَدَّ مِنْهُ .) وساق حديث عائشة « أَلَمْ تَرَىْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ » . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ . قَالَ « لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ »(1)
وَقَالَ عَلِىٌّ "حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ "(2)
و عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ ، قَالَ : صَلَّى عُثْمَانُ بِمِنًى أَرْبَعًا ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : " صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ ، وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ " ، زَادَ ، عَنْ حَفْصٍ ، وَمَعَ عُثْمَانَ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ ، ثُمَّ أَتَمَّهَا زَادَ مِنْ هَا هُنَا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ ، ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمُ الطُّرُقُ فَلَوَدِدْتُ أَنْ لِي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَيْنِ مُتَقَبَّلَتَيْنِ . قَالَ : الْأَعْمَشُ ، فَحَدَّثَنِي مُعَاوِيَةَ بْنُ قُرَّةَ ، عَنْ أَشْيَاخِهِ ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ صَلَّى أَرْبَعًا ، قَالَ : فَقِيلَ لَهُ : عِبْتَ عَلَى عُثْمَانَ ثُمَّ صَلَّيْتُ أَرْبَعًا ، قَالَ : " الْخِلَافُ شَرٌّ "(3). شر. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أَجمعين. "(4)
قلت : وهذا جواب في غاية الروعة والدقة.
__________
(1) - صحيح البخارى(1583 )
(2) - صحيح البخارى(127 )
(3) - سنن أبى داود(1962) صحيح
(4) - فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 2 / ص 196)(2/202)
وفي فتاوى يسألونك : " من المعلوم أن صلاة التراويح سنة ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان هديه - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي إحدى عشرة ركعة كما ثبت ذلك عنه في حديث عائشة رضي الله عنها قالت:(ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) رواه البخاري ومسلم. وأكثر الفقهاء يرون أنها تصلى عشرون ركعة والوتر ثلاث ركعات وهذا قول مشهور من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا الحاضر وكثير من مساجد المسلمين تصلى فيها التراويح كذلك ومنهم من زاد على العشرين فقيل تسع وثلاثين وقيل إحدى وأربعين وقيل غير ذلك. ومن أهل العلم من يرى أنه لا حد لعدد ركعات صلاة التراويح فيجوز أن يزيد على إحدى عشرة ركعة ولا حرج في ذلك وهذا أرجح أقوال أهل العلم فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحدد عدداً محدوداً لصلاة التراويح تمنع الزيادة عليه."
ونقل كلام ابن تيمية الآنف الذكر ،(1)وقال الإمام الشوكاني رحمه الله:[وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ الْبَابِ وَمَا يُشَابِهُهَا هُوَ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِيَامِ فِي رَمَضَانَ ، وَالصَّلَاةُ فِيهِ جَمَاعَةً وَفُرَادَى ، فَقَصْرُ الصَّلَاةِ الْمُسَمَّاةِ بِالتَّرَاوِيحِ عَلَى عَدَدٍ مُعَيَّنٍ ، وَتَخْصِيصُهَا بِقِرَاءَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَمْ يَرِدْ بِهِ سُنَّةٌ .](2)
قال : " إذا تقرر هذا فإنه لا يجوز لأحد أن ينكر على من يصلي التراويح بأكثر من إحدى عشرة ركعة كمن يصلون ثلاثاً وعشرين ركعة فإن الأمر فيه سعة.
__________
(1) - مجموع فتاوى شيخ الإسلام 22/272.
(2) - نيل الأوطار 3/61و نيل الأوطار - (ج 4 / ص 333) الشاملة 2(2/203)
قال الإمام الشافعي يرحمه الله:[ رَأَيْت النَّاس يَقُومُونَ بِالْمَدِينَةِ بِتِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَبِمَكَّة بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ ، وَلَيْسَ فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ ضِيقٌ "](1).
وقال الحافظ ابن عبد البر يرحمه الله:[وقد أجمع العلماء على أن لا حدّ ولا شيء مقدراً في صلاة الليل وأنها نافلة فمن شاء أطال فيها القيام وقلَّت ركعاته ومن شاء أكثر الركوع والسجود](2).
وقال العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه الله:[وإن أوتر بثلاث وعشرين كما فعل ذلك عمر والصحابة رضي الله عنهم في بعض الليالي من رمضان فلا بأس، فالأمر واسع، وثبت عن عمر والصحابة أيضاً أنهم أوتروا بإحدى عشرة، كما في حديث عائشة، فقد ثبت عن عمر هذا وهذا، ثبت عنه - رضي الله عنه - أنه أمر من عين من الصحابة أن يصلي إحدى عشرة، وثبت عنهم أنهم صلوا بأمره ثلاثاً وعشرين، وهذا يدل على التوسعة في هذا، وأن الأمر عند الصحابة واسع، كما دل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -:(صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى) ولكن الأفضل من حيث فعله - صلى الله عليه وسلم - إحدى عشرة أو ثلاث عشرة، وسبق ما يدل على أن إحدى عشرة أفضل لقول عائشة رضي الله عنها:(ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) يعني غالباً، ولهذا ثبت عنها أنه صلى ثلاث عشرة وثبت عن غيرها، فدل ذلك أن هذا هو الأغلب،...
ثم استفسر من الشيخ سائل قائلاً: أحسن الله إليك، بعض المصلين يرون أن هذه هي السنَّة، وعندما يأتون إلى مساجد تصلي ما يزيد على ثلاث وعشرين ركعة يصلون إحدى عشرة ركعة أو عشر ركعات ولا يتمون مع الإمام؟
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (ج 6 / ص 292)
(2) - الاستذكار 5/244.(2/204)
يوضح الشيخ رحمه الله قائلاً: لا، السنة الإتمام مع الإمام ولو صلى ثلاثاً وعشرين، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: « إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ ».(1)... فالأفضل للمأموم أن يقوم مع الإمام حتى ينصرف، سواء صلى إحدى عشرة أو ثلاث عشرة أو ثلاثاً وعشرين، هذا هو الأفضل؛ أن يتابع الإمام حتى ينصرف والثلاث والعشرون فعلها عمر- رضي الله عنه - مع الصحابة، فليس فيها نقص وليس فيها خلل، بل هي من السنن، من سنة الخلفاء الراشدين...](2)
__________
(1) - سنن الترمذى(811 ) صحيح
(2) - فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 11 / ص 175)(2/205)
وقال العلامة عبد العزيز بن باز أيضاً:[ومن الأمور التي قد يخفى حكمها على بعض الناس ظن بعضهم أن التراويح لا يجوز نقصها عن عشرين ركعة وظن بعضهم أنه لا يجوز أن يزاد فيها على إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة وهذا كله ظن في غير محله بل هو خطأ مخالف للأدلة.وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صلاة الليل موسع فيها فليس فيها حد محدود لا تجوز مخالفته بل ثبت عنه أنه كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة وربما صلى ثلاث عشرة ركعة وربما صلى أقل من ذلك في رمضان وفي غيره ولما سئل - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل قال:(مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى) متفق على صحته. ولم يحدد ركعات معينة لا في رمضان ولا في غيره ولهذا صلى الصحابة رضي الله عنهم في عهد عمر - رضي الله عنه -في بعض الأحيان ثلاثاً وعشرين ركعة وفي بعضها إحدى عشرة ركعة كل ذلك ثبت عن عمر - رضي الله عنه - وعن الصحابة في عهده. وكان بعض السلف يصلي في رمضان ستاً وثلاثين ركعة ويوتر بثلاث وبعضهم يصلى إحدى وأربعين ذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أهل العلم كما ذكر رحمة الله عليه أن الأمر في ذلك واسع](1)
__________
(1) - فتاوى إسلامية - (ج 2 / ص 211) ومجموع فتاوى ابن باز - (ج 14 / ص 50)(2/206)
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين يرحمه الله:[. لا ينبغي لنا أن نغلو أو نفرط فبعض الناس يغلو من حيث التزام السنة في العدد فيقول لا تجوز الزيادة على العدد الذي جاءت به السنَّة وينكر أشد النكير على من زاد على ذلك ويقول إنه آثمٌ عاصٍ وهذا لا شك أنه خطأ وكيف يكون آثماً عاصياً وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل؟ فقال:(مثنى مثنى) ولم يحدد بعدد ومن المعلوم أن الذي سأله عن صلاة الليل لا يعلم العدد لأن من لا يعلم الكيفية فجهله بالعدد من باب أولى وليس ممن خدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى نقول إنه يعلم ما يحدث داخل بيته فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بين له كيفية الصلاة دون أن يحدد له بعدد علم أن الأمر في هذا واسع وأن للإنسان أن يصلي مئة ركعة ويوتر بواحدة.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -:(صلوا كما رأيتموني أصلي)(1)فهذا ليس على عمومه... وإنما المراد (صلوا كما رأيتموني أصلي) في الكيفية أما في العدد فلا إلا ما ثبت النص بتحديده.وعلى كلٍ ينبغي للإنسان أن لا يشدد على الناس في أمر واسع حتى إنا رأينا من الإخوة الذين يشددون في هذا من يبدعون الأئمة الذين يزيدون على إحدى عشرة ويخرجون من المسجد فيفوتهم الأجر الذي قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - :(من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) وقد يجلسون إذا صلوا عشر ركعات فتتقطع الصفوف بجلوسهم وربما يتحدثون أحياناً فيشوشون على المصلين وكل هذا من الخطأ ونحن لا نشك بأنهم يريدون الخير وأنهم مجتهدون لكن ليس كل مجتهد يكون مصيباً](2)
================
الرابع
صلاة الوتر في رمضان جماعة(3)
__________
(1) - صحيح البخارى(7246 )
(2) - الشرح الممتع 4/73-74.
(3) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 27 / ص 289) فما بعدها(2/207)
ومن الأمور التي يحصل فيها نزاع بين الشافعية الحنفية خاصة صلاة الوتر في رمضان جماعة ، فالحنفية يصلونها موصولة والشافعية مفصولة .
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوِتْرَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ، وَلَيْسَ وَاجِبًا ، وَدَلِيل سُنِّيَّتِهِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ ، فَأَوْتِرُوا يَا أَهْل الْقُرْآنِ(1)وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ وَوَاظَبَ عَلَيْهِ .
وَاسْتَدَلُّوا لِعَدَمِ وُجُوبِهِ بِمَا ثَبَتَ عَنْ أَبِى سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ، ثَائِرُ الرَّأْسِ ، يُسْمَعُ دَوِىُّ صَوْتِهِ ، وَلاَ يُفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا ، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلاَمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - - صلى الله عليه وسلم - « خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ » . فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا قَالَ « لاَ ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ » . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَصِيَامُ رَمَضَانَ » . قَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُ قَالَ « لاَ ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ » . قَالَ وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الزَّكَاةَ . قَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا قَالَ « لاَ ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ » . قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ »(2).
__________
(1) - سنن الترمذى (455) صحيح لغيره
(2) - صحيح البخارى(46)(2/208)
وعَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُدْعَى الْمُخْدَجِيَّ سَمِعَ رَجُلًا بِالشَّامِ يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ ، يَقُولُ : إِنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ ، فَقَالَ : الْمُخْدَجِيُّ فَرُحْتُ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَاعْتَرَضْتُ لَهُ وَهُوَ رَائِحٌ إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ ، فَقَالَ : عُبَادَةُ كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْعِبَادِ ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ ، لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا ، اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ . وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ ، فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ . إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ "(1).
وَقَال عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْوِتْرُ لَيْسَ بِحَتْمٍ كَهَيْئَةِ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ ، وَلَكِنْ سُنَّةٌ ، سَنَّهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2)
قَالُوا : وَلأَِنَّ الْوِتْرَ يَجُوزُ فِعْلُهُ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِغَيْرِ الضَّرُورَةِ ، وَثَبَتَ ذَلِكَ بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَال ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُسَبِّحُ عَلَى الرَّاحِلَةِ قِبَلَ أَىِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ وَيُوتِرُ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُصَلِّى عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ.(3)
__________
(1) - موطأ مالك (268 ) صحيح
(2) - سنن الترمذى(456 ) حسن
(3) - صحيح مسلم(1652 )(2/209)
فَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمَا صَلاَّهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ ، كَالْفَرَائِضِ(1).
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ - خِلاَفًا لِصَاحِبَيْهِ - وَأَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ : إِلَى أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْهُ فَرْضًا ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ ، وَلاَ يُؤَذَّنُ لَهُ كَأَذَانِ الْفَرَائِضِ ، وَاسْتَدَل بِوُجُوبِهِ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا ».(2)
وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَدَّكُمْ بِصَلاَةٍ هِىَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمُرِ النَّعَمِ جَعَلَهَا اللَّهُ لَكُمْ فِيمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ »(3). وَهُوَ أَمْرٌ ، وَالأَْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ، وَالأَْحَادِيثُ الآْمِرَةُ بِهِ كَثِيرَةٌ ؛ وَلأَِنَّهُ صَلاَةٌ مُؤَقَّتَةٌ تُقْضَى .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ سُنَّةٌ ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ : أَنَّهُ فَرْضٌ ، لَكِنْ قَال ابْنُ الْهُمَامِ : مُرَادُهُ بِكَوْنِهِ سُنَّةً : أَنَّهُ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ ، فَلاَ يُنَافِي الْوُجُوبَ ، وَمُرَادُهُ بِأَنَّهُ فَرْضٌ : أَنَّهُ فَرْضٌ عَمَلِيٌّ ، وَهُوَ الْوَاجِبُ(4).
__________
(1) - المغني لابن قدامة 2 / 210 ، والمجموع للنووي ( ط . المنيرية 4 / 12 - 21 ) والدسوقي 1 / 312 .
(2) - سنن أبى داود(1421 ) صحيح
(3) - مسند أحمد (28419) حسن لغيره
(4) - الهداية وفتح القدير 1 / 300 - 303 ط . بولاق .(2/210)
وصَلاَةُ الْوِتْرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ السَّابِقِ ، وَالأَْحَادِيثُ الَّتِي تَحُضُّ عَلَيْهَا ، وَحَدِيثُ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ أَسَاءَ ، وَكُرِهَ لَهُ ذَلِكَ . قَال أَحْمَدُ : مَنْ تَرَكَ الْوِتْرَ عَمْدًا فَهُوَ رَجُل سُوءٍ ، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَل لَهُ شَهَادَةٌ . اهـ .
وَالْوِتْرُ مِنَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ ، وَهُوَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ : آكَدُ الرَّوَاتِبِ وَأَفْضَلُهَا(1).
وَآكَدُ النَّوَافِل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : صَلاَةُ الْكُسُوفِ ؛ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتْرُكْهَا عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهَا ، ثُمَّ الاِسْتِسْقَاءُ ؛ لأَِنَّهُ تُشْرَعُ لَهَا الْجَمَاعَةُ مُطْلَقًا ؛ فَأَشْبَهَتِ الْفَرَائِضَ ، ثُمَّ التَّرَاوِيحُ ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهَا خَشْيَةَ أَنْ تُفْرَضَ ، لَكِنَّهَا أَشْبَهَتِ الْفَرَائِضَ مِنْ حَيْثُ مَشْرُوعِيَّةُ الْجَمَاعَةِ لَهَا ، ثُمَّ الْوِتْرُ ؛ لأَِنَّهُ وَرَدَ فِيهِ مِنَ الأَْخْبَارِ مَا لَمْ يَأْتِ مِثْلُهُ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ، ثُمَّ سُنَّةُ الْفَجْرِ ، ثُمَّ سُنَّةُ الْمَغْرِبِ ، ثُمَّ بَاقِي الرَّوَاتِبِ سَوَاءٌ(2).
__________
(1) - كفاية الطالب 1 / 256 ، 257 ، والمغني 2 / 160 ، 11 ، وكشاف القناع 1 / 415 ، 422 .
(2) - عميرة على شرح المنهاج 1 / 212 ، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 317 ، وكفاية الطالب 1 / 256 ، لبنان ، دار المعرفة ، كشاف القناع 1 / 414 ، 415 ، والمغني 2 / 161 .(2/211)
وأَقَل صَلاَةِ الْوِتْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ . قَالُوا : وَيَجُوزُ ذَلِكَ بِلاَ كَرَاهَةٍ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ يَخْطُبُ فَقَالَ كَيْفَ صَلاَةُ اللَّيْلِ فَقَالَ « مَثْنَى مَثْنَى ، فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ ، تُوتِرُ لَكَ مَا قَدْ صَلَّيْتَ »(1). وَالاِقْتِصَارُ عَلَيْهَا خِلاَفُ الأَْوْلَى ، لَكِنْ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : شَرْطُ الإِْيتَارِ بِرَكْعَةٍ سَبْقُ نَفْلٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ مِنْ سُنَّتِهَا ، أَوْ غَيْرِهَا لِيُوتِرَ النَّفَل .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - خِلاَفُ الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ - : يُكْرَهُ الإِْيتَارُ بِرَكْعَةٍ حَتَّى فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ ، تُسَمَّى الْبُتَيْرَاءُ ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الإِْنْصَافِ .
__________
(1) - صحيح البخارى(473 )(2/212)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ : لاَ يَجُوزُ الإِْيتَارُ بِرَكْعَةٍ ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْبُتَيْرَاءِ(1)، وعَنِ الْوَضِينِ بْنِ عَطَاءٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ , عَنْ أَبِيهِ " أَنَّهُ كَانَ يَفْصِلُ بَيْنَ شَفْعِهِ وَوِتْرِهِ بِتَسْلِيمَةٍ , وَأَخْبَرَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ "(2)، فَقَدْ سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ هَذَا مِنْ الرَّجُلِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ(3)
__________
(1) - وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي "كِتَابِهِ": هَذَا حَدِيثٌ شَاذٌّ، لا يعرج على روايته نصب الراية - (ج 2 / ص 120)
(2) - شَرْحُ مَعَانِي الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ (1037 ) حسن، وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 3 / ص 420) وَإِسْنَاده قَوِيّ . وَلَمْ يَعْتَذِر الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ إِلَّا بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِقَوْلِهِ بِتَسْلِيمَةٍ أَيْ التَّسْلِيمَة الَّتِي فِي التَّشَهُّد وَلَا يَخْفَى بَعْد هَذَا التَّأْوِيل وَاَللَّه أَعْلَم .
(3) - نصب الراية - (ج 2 / ص 120) و الهداية وفتح القدير والعناية 1 / 304 .(2/213)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : أَكْثَرُ الْوِتْرِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَكْثَرُهُ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ، وَيَجُوزُ بِمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الأَْوْتَارِ ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلاَثٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ »(1).
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « لاَ تُوتِرُوا بِثَلاَثٍ أَوْتِرُوا بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ وَلاَ تُشَبِّهُوا بِصَلاَةِ الْمَغْرِبِ »(2).
__________
(1) - سنن أبى داود (1424 ) صحيح، وفي مَعْرِفَةُ السُّنَنِ وَالْآثَارِ لِلْبَيْهَقِيِّ(1468 ) قال عقبه : رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ السُّنَنِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَهَذَا حَدِيثٌ قَدْ رَفَعَهُ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ ، وَتَابَعَهُ عَلَى رَفْعِهِ الْأَوْزَاعِيُّ وَهُوَ إِمَامٌ . وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ وَهْبُ بْنُ خَالِدٍ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ ، فَوَقَفُوهُ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ . فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَرْوِيهِ مِنْ فُتْيَاهُ مَرَّةً ، وَمِنْ رِوَايَتِهِ أُخْرَى ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَنُجِيزُ الْوِتْرَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ ، وَعَلَى كُلِّ وَجْهٍ صَحَّ الْخَبَرُ بِهِ عَنْ سَيِّدِنَا الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَا نَدَعُ مِنْهَا شَيْئًا بِحَالٍ بِحَمْدِ اللَّهِ وَمَنِّهِ وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ
(2) - سنن الدارقطنى (1669 ) صحيح(2/214)
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، قَالَتْ : " " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ ، فَلَمَّا كَبِرَ وَضَعُفَ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ " " وَفِي البَابِ عَنْ عَائِشَةَ : " " حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ " وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " " الوَتْرُ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ ، وَتِسْعٍ ، وَسَبْعٍ ، وَخَمْسٍ ، وَثَلَاثٍ ، وَوَاحِدَةٍ " " قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ : " " مَعْنَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ ، قَالَ : إِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً مَعَ الوِتْرِ ، فَنُسِبَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ إِلَى الوِتْرِ " " ، وَرَوَى فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ عَائِشَةَ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " " أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ القُرْآنِ " " ، قَالَ : إِنَّمَا عَنَى بِهِ قِيَامَ اللَّيْلِ ، يَقُولُ : إِنَّمَا قِيَامُ اللَّيْلِ عَلَى أَصْحَابِ القُرْآنِ(1)
لَكِنْ قَال الْمَحَلِّيُّ : يُحْمَل هَذَا عَلَى أَنَّهَا حَسِبَتْ فِيهِ سُنَّةَ الْعِشَاءِ .
__________
(1) - سنن الترمذى (460) حسن(2/215)
وَأَدْنَى الْكَمَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ثَلاَثُ رَكَعَاتٍ ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى رَكْعَةٍ كَانَ خِلاَفَ الأَْوْلَى . وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ : عَلَى أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ الإِْيتَارُ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَوْ بِلاَ عُذْرٍ . وَأَكْمَل مِنَ الثَّلاَثِ خَمْسٌ ، ثُمَّ سَبْعٌ ، ثُمَّ تِسْعٌ ثُمَّ إِحْدَى عَشْرَةَ ، وَهِيَ أَكْمَلُهُ(1).
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ : فَلَمْ يَذْكُرُوا فِي عَدَدِهِ إِلاَّ ثَلاَثَ رَكَعَاتٍ ، بِتَشَهُّدَيْنِ وَسَلاَمٍ ، كَمَا يُصَلَّى الْمَغْرِبُ . وَاحْتَجُّوا بِقَوْل عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بِثَلاثٍ لاَ يُسَلِّمُ إِلاَّ فِي آخِرِهِنَّ(2)، وَفِي الْهِدَايَةِ : حَكَى الْحَسَنُ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الثَّلاَثِ .(3)
__________
(1) - شرح المحلى على المنهاج ، وحاشية القليوبي 1 / 212 2132 ، وكشاف القناع 1 / 416 ، والإنصاف 1 / 168 ، والمغني 2 / 150 ، 165 .
(2) - المستدرك للحاكم (1140) صحيح
(3) - وَفِي مُصَنَّفِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الْحَسَنِ وَهُوَ الْبَصْرِيُّ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ ثَلَاثٌ لَا يُسَلِّمُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنْ الْحَسَنِ وَرَاوِيهِ عَنْهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ الْمُبْتَدَعُ الضَّالُّ وَلَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ ؛ سَمِعْت وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ . طرح التثريب - (ج 3 / ص 365) ونصب الراية - (ج 2 / ص 122) والدراية في تخريج أحاديث الهداية - (ج 1 / ص 193)(2/216)
وقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ السَّبْعَةِ ، سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ , وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ , وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ , وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ , وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ , فِي مَشْيَخَةٍ سِوَاهُمْ أَهْلِ فِقْهٍ وَصَلَاحٍ وَفَضْلٍ وَرُبَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الشَّيْءِ فَأَخَذَ بِقَوْلِ أَكْثَرِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ رَأْيًا . فَكَانَ مِمَّا وَعَيْتُ عَنْهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ : " أَنَّ الْوِتْرَ ثَلَاثٌ لَا يُسَلِّمُ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ "(1)
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : فَإِنَّ الْوِتْرَ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ ، لَكِنْ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ شَفْعٍ يَسْبِقُهَا . وَاخْتُلِفَ : هَل تَقْدِيمُ الشَّفْعِ شَرْطُ صِحَّةٍ أَوْ كَمَالٍ ؟ قَالُوا : وَقَدْ تُسَمَّى الرَّكَعَاتُ الثَّلاَثُ وِتْرًا إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ ، وَالْوِتْرُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ . وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَاحِدَةً فَقَطْ ، بَل بَعْدَ نَافِلَةٍ ، وَأَقَل تِلْكَ النَّافِلَةِ رَكْعَتَانِ ، وَلاَ حَدَّ لأَِكْثَرِهَا . قَالُوا : وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ حَدِيثُ : صَلاَةُ اللَّيْل مَثْنَى مَثْنَى ، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى .
__________
(1) - شَرْحُ مَعَانِي الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ(1111 ) صحيح و الهداية وفتح القدير والعناية 1 / 303 ، 304 .(2/217)
وَيُسْتَثْنَى مِنْ كَرَاهَةِ الإِْيتَارِ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ مَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ ، كَالْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ ، فَقَدْ قِيل : لاَ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ ، وَقِيل : يُكْرَهُ لَهُ أَيْضًا . فَإِنْ أَوْتَرَ دُونَ عُذْرٍ بِوَاحِدَةٍ دُونَ شَفْعٍ قَبْلَهَا ، قَال أَشْهَبُ : يُعِيدُ وِتْرَهُ بِأَثَرِ شَفْعٍ مَا لَمْ يُصَل الصُّبْحَ . وَقَال سَحْنُونٌ : إِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ ذَلِكَ أَيْ بِالْقُرْبِ ، شَفَعَهَا بِرَكْعَةٍ ثُمَّ أَوْتَرَ ، وَإِنْ تَبَاعَدَ أَجْزَأَهُ(1).
وَقَالُوا : لاَ يُشْتَرَطُ فِي الشَّفْعِ الَّذِي قَبْل رَكْعَةِ الْوِتْرِ نِيَّةٌ تَخُصُّهُ ، بَل يَكْتَفِي بِأَيِّ رَكْعَتَيْنِ كَانَتَا(2).
وَإِنْ أَوْتَرَ بِثَلاَثٍ ، فَلَهُ ثَلاَثُ صُوَرٍ :
__________
(1) - المنتقى للباجي ( 1 / 223 القاهرة ، مطبعة السعادة ، 1331 هـ وكفاية الطالب الرباني مع حاشية العدوي 1 / 257 ، 258 ، بيروت دار المعرفة عن طبعة القاهرة ، والقوانين الفقهية ( ص 61 ) .
(2) - كفاية الطالب وحاشية العدوي 1 / 257 .(2/218)
الصُّورَةُ الأُْولَى : أَنْ يَفْصِل الشَّفْعَ بِالسَّلاَمِ ، ثُمَّ يُصَلِّيَ الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ بِتَكْبِيرَةِ إِحْرَامٍ مُسْتَقِلَّةٍ . وَهَذِهِ الصُّورَةُ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ ، وَهِيَ الْمُعَيَّنَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ، فَيُكْرَهُ مَا عَدَاهَا ، إِلاَّ عِنْدَ الاِقْتِدَاءِ بِمَنْ يُصَل ،وَأَجَازَهَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ، وَقَالُوا : إِنَّ الْفَصْل أَفْضَل مِنَ الْوَصْل ، لِزِيَادَتِهِ عَلَيْهِ السَّلاَم وَغَيْرُهُ . وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : إِنْ كَانَ إِمَامًا فَالْوَصْل أَفْضَل ، لأَِنَّهُ يَقْتَدِي بِهِ الْمُخَالِفُ ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَالْفَصْل أَفْضَل . قَالُوا : وَدَلِيل هَذِهِ الصُّورَةِ مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَال : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْصِلُ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ بِتَسْلِيمٍ يُسْمِعُنَاهُ.(1)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْصِلُ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوِتْر(2)ِ.
وعَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُسَلِّمُ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَالرَّكْعَةِ فِى الْوِتْرِ حَتَّى يَأْمُرَ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ..(3)
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ فِعْل الرَّكْعَةِ بَعْدَ الشَّفْعِ بَعْدَ تَأْخِيرٍ لَهَا عَنْهُ . نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ لِيَفْصِل . وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَنْوِي فِي الرَّكْعَتَيْنِ إِنْ أَرَادَ الْفَصْل : ( رَكْعَتَيْنِ مِنَ الْوِتْرِ )
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (ج 6 / ص 190)(2434) حسن
(2) - صحيح ابن حبان - (ج 6 / ص 189)(2433) صحيح
(3) - موطأ مالك(274 ) صحيح(2/219)
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُصَلِّيَ الثَّلاَثَ مُتَّصِلَةً سَرْدًا ، أَيْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْصِل بَيْنَهُنَّ بِسَلاَمٍ وَلاَ جُلُوسٍ ، وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَوْلَى مِنَ الصُّورَةِ التَّالِيَةِ(1). وَاسْتَدَلُّوا لِهَذِهِ الصُّورَةِ بما روي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُوتِرُ بِخَمْسٍ وَلاَ يَجْلِسُ إِلاَّ فِى آخِرِهِنَّ.(2). وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُوتِرُ بِخَمْسِ سَجَدَاتٍ لاَ يَجْلِسُ بَيْنَهُنَّ حَتَّى يَجْلِسَ فِى الْخَامِسَةِ ثُمَّ يُسَلِّمَ.(3)
وَهَذِهِ الصُّورَةُ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ، لَكِنْ إِنْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ فَعَل ذَلِكَ فَيُوَاصِل مَعَهُ(4).
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ : الْوَصْل بَيْنَ الرَّكَعَاتِ الثَّلاَثِ ، بِأَنْ يَجْلِسَ بَعْدَ الثَّانِيَةِ فَيَتَشَهَّدَ وَلاَ يُسَلِّمَ ، بَل يَقُومَ لِلثَّالِثَةِ وَيُسَلِّمَ بَعْدَهَا ، فَتَكُونُ فِي الْهَيْئَةِ كَصَلاَةِ الْمَغْرِبِ ، إِلاَّ أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي الثَّالِثَةِ سُورَةً بَعْدَ الْفَاتِحَةِ خِلاَفًا لِلْمَغْرِبِ .
__________
(1) - الدسوقي 1 / 316 ، المنهاج وشرح حاشية القليوبي 1 / 212 ، وكشاف القناع 1 / 416 ، 417 .
(2) - سنن النسائى(1728) صحيح
(3) - مسند أحمد (25089) صحيح
(4) - الدسوقي والشرح الكبير 1 / 316 ، وشرح المنهاج 1 / 212 ، 213 ، والإنصاف 2 / 170 .(2/220)
وَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ الْمُتَعَيِّنَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . قَالُوا : فَلَوْ نَسِيَ فَقَامَ لِلثَّالِثَةِ دُونَ تَشَهُّدٍ فَإِنَّهُ لاَ يَعُودُ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ عَامِدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ . وَالْقِيَاسُ أَنْ يَعُودَ ، وَاحْتَجُّوا لِتَعَيُّنِهَا بِقَوْل أَبِي الْعَالِيَةِ : " عَلَّمَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَلَّمُونَا أَنَّ الْوِتْرَ مِثْلُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ , غَيْرَ أَنَّا نَقْرَأُ فِي الثَّالِثَةِ , فَهَذَا وِتْرُ اللَّيْلِ , وَهَذَا وِتْرُ النَّهَارِ "(1).
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : هِيَ جَائِزَةٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ ؛ لأَِنَّ تَشْبِيهَ الْوِتْرِ بِالْمَغْرِبِ مَكْرُوهٌ .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : لاَ كَرَاهَةَ إِلاَّ أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا يَعْلَى مَنَعَ هَذِهِ الصُّورَةَ . وَخَيَّرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بَيْنَ الْفَصْل وَالْوَصْل(2).
ج - أَنْ يُصَلِّيَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ : وَهُوَ جَائِزٌ - كَمَا تَقَدَّمَ - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ .
قَال الشَّافِعِيَّةُ : فَالْفَصْل بِسَلاَمٍ بَعْدَ كُل رَكْعَتَيْنِ أَفْضَل ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّى فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلاَةِ الْعِشَاءِ - وَهِىَ الَّتِى يَدْعُو النَّاسُ الْعَتَمَةَ - إِلَى الْفَجْرِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ فَإِذَا "(3)
__________
(1) - شَرْحُ مَعَانِي الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ(1098) صحيح ، وذكر أحاديث أخرى مثله عن بعض الصحابة والتابعين
(2) - فتح القدير 1 / 303 ، حاشية ابن عابدين 1 / 445 ، والهندية 1 / 113 ، وشرح المنهاج 1 / 212 ، والإنصاف 2 / 170 .
(3) - صحيح مسلم(1752 )(2/221)