الخلاصة
في أحكام الاجتهاد والتقليد
إعداد
الباحث في القرآن والسُّنَّة
علي بن نايف الشحود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
اللهم {لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } (32) سورة البقرة
الله علمنا ما يفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما يا أرحم الراحمين .
أما بعد :
فإنه من المعلوم أن الله جل وعلا قد بعث رسوله - صلى الله عليه وسلم - بدين الإسلام ، وجعله - صلى الله عليه وسلم - خاتم الرسل، وجعل ملته ناسخة لجميع الملل، وكتابه مهيمنا على كافة الكتب قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (48) سورة المائدة.
وكان من تمام النعمة على العباد، أن أكمل الله ـ جل وعلا ـ لهم هذا الدين، وكفاهم به عن غيره، فانتظمت بذلك مصالحهم واستقامت أمورهم على وجه التمام والكمال. كما قال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } (3) سورة المائدة.(1/1)
ومن المعلوم أيضا ـ بالضرورة ـ أن مقتضى كمال الدين وتمام النعمة صلاحيته لكل زمان ومكان، على اختلاف الأعصار وتنائي الأمصار. وذلك لأن كمال الملة إنما كان لتحقق وصفين اثنين: الأول: كونها تفي بمقاصد التشريع العامة. والثاني: كونها صالحة لكل زمان ومكان. إذا عُلم هذا فَليعْلم أن حاجات الخلق تختلف وتتغير بحسب ظروف المكان والأوان، وتحصل للناس أقضية بحسبهم، ووقائعهم تتلوَّن بحسب واقعهم، فمن المعلوم بداهة أن هذه الوقائع لا تتناهى والنصوص الشرعية ليست كذلك، فاقتضى ذلك تشريع الاجتهاد في هذه الملة المباركة لتفي بحاجات الخلق ومصالحهم المتجددة المتغيرة. وهذا الذي قررناه المعلوم بالضرورة من دين المسلمين ، وباتفاق جميع المسلمين.(1)
ولكن المسلمين اليوم قد تفرقوا طَرائِقَ قِدَداً حول موضوع الاجتهاد والتقليد:
فمنهم من زعم أن باب الاجتهاد مفتوح لكل مسلم ، ويستطيع أي واحد منهم ولوجه ، ولا فرق بيننا وبين الأئمة السابقين (فهم رجال ونحن رجال !!)، ولاسيما أنه قد توفر لدينا اليوم أكثر مما توفر لجميع الأئمة ، ووصلت بهم الجرأة على دين الله تعالى وعلى الأئمة حدًّا بعيداً .
وبعضهم يوجب الاجتهاد ، ويحرِّم التقليد على عامة الناس ، وذلك لأن الله تعالى قد ذمَّ التقليد ، وأن الأئمة قد نهوا عنه، ومن ثمَّ فإنه يصبُّ جام غضبه على المقلِّدين ، فيتهمهم بالابتداع في الدِّين ، ومخالفة السلف الصالح !! .
وفريق آخر قابلوا هؤلاء فأوجبوا التقليد على عامة الناس ، وحرَّموا على المقلِّد الخروج عن مذهب إمامه الذي التزمه ، وكأنه خارج من الدِّين !! .
وغلا بعضهم فحرَّم الصلاة وراء المخالف للمذهب !!
ورددوا المقولة المشهورة ( لا تعترض فتنطرد) .
__________
(1) - انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 959) رقم الفتوى 2673 الاجتهاد موجود ومعتبر بضوابطه(1/2)
وحصل تراشق للتُّهم بين الفريقين ، حتى وصل بهم الحال إلى اتهام بعضهم بعضا بأسوأ التهم التي ما أنزل الله تعالى بها من سلطان ، كالفسوق والمروق من الدِّين ....
وفريق آخر من أهل العلم قد تكلموا عن هذه الموضوعات ، ما بين مفصل ، وموجز ..
وهذه الكتابات بالرغم مما قدمته من خير كثير ، يبصِّرُ الناس بحقيقة دينهم .
إلا أن كثيرا منها كانت صدى لهذا الواقع المر والأليم ، الذي تواجهه الأمة اليوم .
فهذا متأثر بالحضارة الغربية العفنة ، وذاك متأخر بالجماعة الفلانية ، وآخر ضيق الأفق ، يتبرم بمخالفيه في الرأي ، ويتهمهم بسوء النية .
وآخر يكتب كتابة تقليدية بحتة ، ليس فيها إلا الاختصار والإيجاز .
والقلة القليلة منهم استطاعوا إلى يبحروا إلى أعماق هذا الموضوع الجلل ، ويستخرجوا لنا كثيرا من الكنوز ، التي نحن بأمس الحاجة إليها .
ولن أتكلم عن شطحات كثير من طلاب العلم في كتاباتهم عن الاجتهاد والتقليد ، لأن هذا أمر يطول ، وليس في ذكره كبير فائدة ، ولا يخلو منه إنسان منا .
هذا وقد كتبت عددا من المباحث حول هذا الموضوع من قبل .
وهذا الكتاب الذي بين يدينا يشتمل على بابين رئيسين وخاتمة :
البابُ الأولُ ... -الخلاصة في أحكام الاجتهاد
تمهيد اشتمل على ثلاثة مباحث ...
الفصل الأول ... -أحكام الاجتهاد وصفاته وشروطه
الفصل الثاني ... -حول الإصابة والخطأ في أقوال المجتهدين
الفصل الثالث ... -الخلاصة في أحكام الفتوى
الفصل الرابع ... -مسائل منوعة حول الاجتهاد
الباب الثاني -الخلاصة في أحكام التقليد ...
الفصل الأول ... -أحكام التقليد
الفصل الثاني- أحكام تتبع الرخص
الفصل الثالث ... -الخلاصة في أحكام التلفيق
الفصل الرابع ... -قضايا تتعلق بالتقليد
وأخيرا خاتمة فيها خلاصة هذه الدراسة .
وأما طريقتنا في العمل فهي كما يلي :
? نقل الأدلة من مصادرها ، فآيات القرآن كلها مشكلة ، ولكنها ليست بالرسم العثماني .(1/3)
? تخريج الأحاديث من مصادرها الرئيسة ، والحكم على الحديث بما يناسبه جرحا وتعديلا إذا لم يكن في الصحيحين ، وفق منهج المعتدلين في الجرح والتعديل .
? النقل من المصادر الأساسية مباشرة ، والإكثار من النقول من أجل توضيح الغامض، أو تقرير حقيقة ....
? تغيير النصوص في المصادر المنقول منها ، سواء أكانت نصوص قرآنية ، أو أحاديث نبوية ، أو أقوال منسوبة لأشخاص ، وذلك بالرجوع لمصادرها الأساسية ، بسبب كثرة الأخطاء في النصوص الشرعية أو المنقولة عن العلماء ، وبذلك تحاشينا الكلام عن الأخطاء المطبعية أو النصية .
? نقل ما ورد بالموسوعة الفقهية حول هذه المسائل،مع تدقيق المصادر ولاسيما الأحاديث النبوية والحكم عليها ، فقد كانت الموسوعة الفقهية في هذا الجانب قاصرة سواء في نقل النص أو الحكم عليه .
? حاولت تحرير كثير من مواطن النزاع ، ولاسيما الشائكة منها .
? رددت كثيراً من الأخطاء والأوهام .
? حاولت ضبط كثير من المسائل المختلف فيها .
? ذكرت مصادر ما أنقله عن غيري بالهامش .
? أسهبت في بعض المواضع ، لأهميتها ، أو بسبب غموضها والخطأ في فهمها .
« اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِى لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ».(1)
فإن أصبت فمن الله تعالى وحده ، وله الفضل والمنة ، قال تعالى :{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ } (53) سورة النحل.
__________
(1) - صحيح مسلم (1847 )(1/4)
وإن أخطأت ، فمن تقصيري ، واستغفر الله { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (286) سورة البقرة .
وكتبه
الباحث في القرآن والسُّنَّة
علي بن نايف الشحود
في السابع من جمادى الآخرة لعام 1429 هـ الموافق ل 11/6/2008م
- - - - - - - - - - - - - - - -
البابُ الأولُ
الخلاصة في أحكام الاجتهاد
تمهيد اشتمل على ثلاثة مباحث ...
الفصل الأول ... -أحكام الاجتهاد وصفاته وشروطه
الفصل الثاني ... -حول الإصابة والخطأ في أقوال المجتهدين
الفصل الثالث ... -الخلاصة في أحكام الفتوى
الفصل الرابع ... -مسائل منوعة حول الاجتهاد
التمهيد
المبحث الأول
وُجُوبُ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ
قال الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه(1):
عَن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَعْرِفَ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ , وَالْحَرَامَ وَالْحُدُودَ وَالْأَحْكَامَ " ( ضعيف وأوله صحيح لغيره)
وعَن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ , عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " طَلَبُ الْفِقْهِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ "( صحيح لغيره)
وعَن أَنَسٍ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " طَلَبُ الْفِقْهِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " ( صحيح لغيره بلفظ العلم )
__________
(1) - الفقيه والمتفقه - (ج 1 / ص 168) باب وجوب التفقه في الدين على كافة المسلمين(1/5)
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إِنَّمَا عَنَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , بِهَذَا الْقَوْلِ عِلْمَ التَّوْحِيدِ , وَمَا يَكُونُ الْعَاقِلُ مُؤْمِنًا بِهِ , فَإِنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ , وَلَا يَسَعُ أَحَدًا جَهْلُهُ , إِذْ كَانَ وُجُوبُهُ عَلَى الْعُمُومِ دُونَ الْخُصُوصِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ : أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ , إِذَا لَمْ يَقُمْ بِطَلَبِهِ مِن كُلِّ سُقْعٍ وَنَاحِيَةٍ مَن فِيهِ الْكِفَايَةُ , وَهَذَا الْقَوْلُ يُرْوَى عَن سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ .
وقَالَ مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى , فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ : كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ , فَجَرَى ذِكْرُ هَذَا الْحَدِيثِ , فَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ : " لَيْسَ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ فَرِيضَةً , إِذَا طَلَبَ بَعْضُهُمْ أَجْزَأَ عَن بَعْضٍ مِثْلُ الْجِنَازَةِ إِذَا قَامَ بِهَا بَعْضُهُمْ أَجْزَأَ عَن بَعْضٍ , وَنَحْوِ ذَلِكَ " قُلْتُ : وَالَّذِي أَرَادَ ابْنُ عُيَيْنَةَ مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِفُرُوعِ الدِّينِ , فَأَمَّا الْأُصُولُ الَّتِي هِيَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَوْحِيدُهُ وَصِفَاتُهُ وَصِدْقُ رُسُلِهِ فَمِمَّا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَعْرِفَتُهُ , وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَنُوبَ فِيهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ عَن بَعْضٍ وَقِيلَ : مَعْنَى قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنَّ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَرْضًا أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا لَا يَسَعُهُ جَهْلُهُ مِن عِلْمِ حَالِهِ ".(1/6)
وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فَقَالَ : " لَيْسَ هُوَ الَّذِي تَطْلُبُونَ , إِنَّمَا طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ أَنْ يَقَعَ الرَّجُلُ فِي شَيْءٍ مِن أَمْرِ دِينِهِ , يَسْأَلُ عَنهُ حَتَّى يَعْلَمَهُ " ( 164) وقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ : مَا الَّذِي يَجِبُ عَلَى النَّاسِ مِن تَعْلِيمِ الْعِلْمِ ؟ قَالَ : " أَنْ لَا يُقْدِمَ الرَّجُلُ عَلَى الشَّيْءِ إِلَّا بِعِلْمٍ , يَسْأَلُ وَيَتَعَلَّمُ , فَهَذَا الَّذِي يَجِبُ عَلَى النَّاسِ مِن تَعْلِيمِ الْعِلْمِ " وَفَسِّرْهُ قَالَ : " لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَيْسَ لَهُ مَالٌ , لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَاجِبًا أَنْ يَتَعَلَّمَ الزَّكَاةَ , فَإِذَا كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ , وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ كَمْ يُخْرِجُ , وَمَتَى يُخْرِجُ وَأَيْنَ يَضَعُ , وَسَائِرَ الْأَشْيَاءِ عَلَى هَذَا " قُلْتُ : وَهَكَذَا رُوِيَ عَن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ , أَنَّهُ أَمَرَ تَاجِرًا بِالْفِقْهِ قَبْلَ التِّجَارَةِ".
وعَن مَالِكٍ , وَذَكَرَ الْعِلْمَ , فَقَالَ : " إِنَّ الْعِلْمَ لَحَسَنٌ , وَلَكِنِ انْظُرْ مَا يَلْزَمُكَ مِن حِينِ تُصْبِحُ , إِلَى حِينَ تُمْسِي , وَمِن حِينِ تُمْسِي , إِلَى حِينِ تُصْبِحُ , فَالْزَمْهُ , وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْهِ شَيْئًا "(1/7)
وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: سَأَلْتُ أَبِي عَنٍ الرَّجُلِ , يَجِبُ عَلَيْهِ طَلَبُ الْعِلْمِ ؟ فَقَالَ: " أَمَّا مَا يُقِيمُ بِهِ الصَّلَاةَ , وَأَمْرَ دِينِهِ مِنَ الصَّوْمِ , وَالزَّكَاةِ , وَذِكْرِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ " قَالَ : " يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ " قُلْتُ : فَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ طَلَبُ مَا يَلْزَمُهُ مَعْرِفَتُهُ , مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ , عَلَى حَسَبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ لِنَفْسِهِ , وَكُلُّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى , حُرٍّ وَعَبْدٍ , تُلْزَمُهُ الطَّهَارَةُ وَالصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ فَرْضًا , فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ تَعَرُّفُ عِلْمِ ذَلِكَ , وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ , أَنْ يُعْرَفَ مَا يَحِلُّ لَهُ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ , مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ , فَجَمِيعُ هَذَا لَا يَسَعُ أَحَدًا جَهْلُهُ , وَفَرْضٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْخُذُوا فِي تَعَلُّمِ ذَلِكَ , حَتَّى يَبْلُغُونَ الْحُلُمَ وَهُمْ مُسْلِمُونَ , أَوْ حِينَ يُسْلِمُونَ بَعْدَ بُلُوغِ الْحُلُمِ , وَيُجْبِرُ الْإِمَامُ أَزْوَاجَ النِّسَاءِ وَسَادَاتِ الْإِمَاءِ عَلَى تَعْلِيمِهِنَّ مَا ذَكَرْنَا , وَفَرْضٌ عَلَى الْإِمَامِ أَيْضًا , أَنْ يَأْخُذَ النَّاسَ بِذَلِكَ , وَيُرَتِّبَ أَقْوَامًا لِتَعْلِيمِ الْجُهَّالِ , وَيُفْرَضَ لَهُمُ الرِّزْقَ فِي بَيْتِ الْمَالِ , وَيَجِبَ عَلَى الْعُلَمَاءِ تَعْلِيمُ الْجَاهِلِ , لِيَتَمَيَّزَ لَهُ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ ".(1/8)
وعَن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه , قَالَ : " مَا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقًا مِن أَهْلِ الْجَهْلِ بِطَلَبِ الْعِلْمِ , حَتَّى أَخَذَ مِيثَاقًا مِن أَهْلِ الْعِلْمِ بِبَيَانِ الْعِلْمِ لِلْجُهَّالِ , لِأَنَّ الْعِلْمَ كَانَ قَبْلَ الْجَهْلِ " ( فيه جهالة )
- - - - - - - - - - - - - - -
المبحث الثاني
الْعِلْمِ الْعَامِّ الَّذِي لَا يَسَعُ الْبَالِغَ الْعَاقِلَ جَهْلُهُ
قال البيهقي في المدخل(1):
" قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : مَثَلُ أَنَّ الصَّلَوَاتِ خَمْسٌ , وَأَنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ , وَحَجَّ الْبَيْتِ إِنِ اسْتَطَاعُوهُ , وَزَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ , وَأَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الزِّنَا , وَالْقَتْلَ , وَالسَّرِقَةَ , وَالْخَمْرَ , وَمَا كَانَ فِي مَعْنَى هَذَا , مِمَّا كُلِّفَ الْعِبَادُ أَنْ يَفْعَلُوهُ وَيَعْلَمُوهُ , وَفِي نُسْخَةٍ أُخْرَىْ أَنْ يَعْقِلُوهُ وَيَعْمَلُوهُ وَيُعْطُوهُ مِن أَنْفُسِهِمْ , وَأَمْوَالِهِمْ , وَأَنْ يَكُفُّوا عَنهُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنهُ وَإِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ , بِهَذَا مَا يَجِبُ عَلَيْهِ اعْتِقَادُهُ , وَاعْتَقَدَهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.
__________
(1) - المدخل إلى السنن الكبرى - (ج 1 / ص 234) باب العلم العام الذي لا يسع البالغ العاقل جهله(1/9)
عَن يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَيْفِيٍّ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مَعْبَدٍ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ : لَمَّا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ : " إِنَّكَ تُقْدِمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ , فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ أَنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ , فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ , فَإِذَا صَلَّوْا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِن غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ , فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فَخُذْ مِنهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَلَاءِ , وَأَخْرَجَاهُ مِن وَجْهٍ آخَرَ عَن إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ(1).
__________
(1) - صحيح البخارى(1458،1395 ، 1496 ، 2448 ، 4347 ، 7371 ، 7372 )- الكرائم : جمع كريمة وهى خيار المال وأفضله(1/10)
وعَن يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ : قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ , إِنَّ قَوْمًا يَزْعُمُونَ لَيْسَ قَدَرٌ قَالَ : هَلْ عِنْدَنَا مِنهُمْ أَحَدٌ ؟ قَالَ : قُلْتُ : لَا , قَالَ : فَأَبْلِغْهُمْ عَنِّي إِذَا لَقِيتَهُمْ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ بَرِيءٌ إِلَى اللَّهِ مِنكُمْ وَأَنْتُمْ بَرَاءٌ إِلَى اللَّهِ مِنهُ .(1/11)
سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أُنَاسٍ , إِذْ جَاءَ رَجُلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ سَحْنَاءُ سَفَرٍ , وَلَيْسَ مِنَ الْبَلَدِ يَتَخَطَّى , حَتَّى وَرِكَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , كَمَا يَجْلِسُ أَحَدُنَا فِي الصَّلَاةِ , ثُمَّ وَضَعَ يدَهُ عَلَى رُكْبَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ , مَا الْإِسْلَامُ ؟ فَقَالَ : " الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ , وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ , وَتَحُجَّ , وَتَعْتَمِرَ , وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ , وَتُتِمَّ الْوُضُوءَ , وَتَصُومَ رَمَضَانَ " قَالَ : فَإِنْ فَعَلْتُ هَذَا , فَأَنَا مُسْلِمٌ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " , قَالَ : صَدَقْتَ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ , مَا الْإِيمَانُ ؟ قَالَ : " الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ , وَتُؤْمِنَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْمِيزَانِ , وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ , وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ " قَالَ : فَإِنْ فَعَلْتُ هَذَا , فَأَنَا مُؤْمِنٌ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " قَالَ : صَدَقْتَ , قَالَ : يَا مُحَمَّدُ , مَا الْإِحْسَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ كَأَنَّكَ تَرَاهُ , فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَرَاهُ , فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ : فَإِنْ فَعَلْتُ هَذَا فَأَنَا مُحْسِنٌ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " قَالَ : صَدَقْتَ , قَالَ : فَمَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ : " سُبْحَانَ اللَّهِ , مَا الْمَسْئُولُ بِأَعْلَمَ بِهَا مِنَ السَّائِلِ " قَالَ : " إِنْ شِئْتَ أُنْبِئُكَ بِأَشْرَاطِهَا " قَالَ : أَجَلْ , قَالَ : " إِذَا(1/12)
رَأَيْتَ الْعَالَةَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ يتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ , وَكَانُوا مُلُوكًا " قَالَ : مَا الْعَالَةُ الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ ؟ قَالَ : " الْغَرِيبُ " . قَالَ : " وَإِذَا رَأَيْتَ الْأَمَةَ تَلِدُ رَبَّهَا وَرَبَّتَهَا , فَذَلِكَ مِن أَشْرَاطِ السَّاعَةِ " قَالَ : صَدَقْتَ , ثُمَّ نَهَضَ فَوَلَّى . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " عَلَيَّ بِالرَّجُلِ " قَالَ : فَطَلَبْنَاهُ , فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " هَلْ تَدْرُونَ مَن هَذَا ؟ هَذَا جِبْرِيلُ , أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ فَخُذُوا عَنهُ , فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيدِهِ , مَا شُبِّهَ عَلَيَّ مُنْذُ أَتَانِي قَبْلَ مُدَّتِي , وَمَا عَرَفْتُهُ حَتَّى وَلَّى " رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَن حَجَّاجِ بْنِ الشَّاعِرِ عَن يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ(1)
__________
(1) - صحيح مسلم(102) - الأُنف : المستأنف الذى لم يسبق به قدر- يتقفر : يطلب ويتتبع ويجمع(1/13)
وعَن أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيَّ نَصْرَ بْنِ عِمْرَانَ قَالَ : قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ : إِنَّ لِي جَرَّةَ نَبِيذٍ , لِي فِيهَا نَبِيذٌ حُلْوٌ , فَإِنْ شَرِبْتُ مِنهُ فَأَطَلْتُ مُجَالَسَةَ الْقَوْمِ , خَشِيتُ أَنْ أُفْتَضَحَ , فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : جَاءَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : " مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ غَيْرَ الْخَزَايَا وَلَا النَّدَامَى " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ , وَإِنَّا لَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ , فَمُرْنَا بِأَمْرٍ إِذَا عَمِلْنَاهُ دَخَلْنَا الْجَنَّةَ وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَن وَرَاءَنَا قَالَ : فَقَالَ : " آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ , تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , وَتُقِيمُوا الصَّلَاةَ , وَتُؤْتُوا الزَّكَاةَ , وَتَصُومُوا رَمَضَانَ , وَتَحُجُّوا الْبَيْتَ وَأَحْسَبُهُ قَالَ : وَتُؤَدُّوا الْخُمُسَ مِنَ الْمَغَانِمِ وَأَنْهَاكُمْ عَن أَرْبَعٍ : عَنِ الْجَرِّ , وَالدُّبَّاءِ , وَالنَّقِيرِ , وَالْمُزَفَّتِ " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ .(1)
__________
(1) - صحيح البخارى(523) ومسلم (124)(1/14)
وَإِنَّمَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنِ الْأَوْعِيةِ لَمَا يُسْرِعُ فِيهَا الْفَسَادُ , إِلَى مَا يُنْتَبَذُ بِهَا ثُمَّ رُخِّصَ فِي الْأَوْعِيةِ , وَبَقِيَ تَحْرِيمُ الْمُسْكِرِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ , كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ , وَالْمَقْصُودُ مِن هَذَا الْخَبَرِ هَهُنَا أَنَّهُ سَمَّى كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ وَمَا بَعْدَهَا فِي هَذَا الْخَبَرِ إِيمَانًا , وَسَمَّاهَا فِي الْخَبَرِ الَّذِي قَبْلَهُ إِسْلَامًا , وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ عِبَارَتَانِ عَنِ الدِّينِ الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ وَأَنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ تُسَمَّى إِيمَانًا , وَتُسَمَّى إِسْلَامًا , وَبِهِ كَانَ يَقُولُ صَاحِبُنَا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ وَأَقْرَانُهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ .
وعَن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِن أَصْحَابِهِ : " بَايعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا , وَلَا تَسْرِقُوا , وَلَا تَزْنُوا , وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ , وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ , وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ فَمَن وَفَى مِنكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ , وَمَن أَصَابَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ , فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ , وَمَن أَصَابَ مِن ذَلِكَ شَيْئًا , ثُمَّ سَتَرَهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَى عَنهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ " قَالَ : فَبَايعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَن أَبِي الْيمَانِ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِن وَجْهٍ آخَرَ , عَنِ الزُّهْرِيِّ(1)
__________
(1) - صحيح البخارى(18)(1/15)
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ , وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ , وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ , وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ " وَعَن أَبِي هُرَيْرَةَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ هَذَا , إِلَّا النُّهْبَةَ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ , عَن سَعِيدِ بْنِ عُفَيْرٍ عَنِ اللَّيْثِ , وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِن وَجْهٍ آخَرَ(1)
__________
(1) - صحيح البخارى(5578 ) ومسلم (211 )
هَذَا الْحَدِيث مِمَّا اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَاهُ . فَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ مَعْنَاهُ : لَا يَفْعَل هَذِهِ الْمَعَاصِي وَهُوَ كَامِل الْإِيمَان . وَهَذَا مِنْ الْأَلْفَاظ الَّتِي تُطْلَق عَلَى نَفْيِ الشَّيْء وَيُرَاد نَفْي كَمَالِهِ وَمُخْتَاره كَمَا يُقَال : لَا عِلْم إِلَّا مَا نَفَعَ ، وَلَا مَال إِلَّا الْإِبِل ، وَلَا عَيْش إِلَّا عَيْش الْآخِرَة . وَإِنَّمَا تَأَوَّلْنَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرّ وَغَيْره " مَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه دَخَلَ الْجَنَّة وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ " وَحَدِيث عُبَادَةَ بْن الصَّامِت الصَّحِيح الْمَشْهُور أَنَّهُمْ بَايَعُوهُ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَنْ لَا يَسْرِقُوا وَلَا يَزْنُوا ، وَلَا يَعْصُوا إِلَى آخِره . ثُمَّ قَالَ لَهُمْ - صلى الله عليه وسلم - " فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه ، وَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَته ، وَمَنْ فَعَلَ وَلَمْ يُعَاقَب فَهُوَ إِلَى اللَّه تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَفَا عَنهُ ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ " فَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ مَعَ نَظَائِرهمَا فِي الصَّحِيح مَعَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} مَعَ إِجْمَاع أَهْل الْحَقّ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ وَالسَّارِقَ وَالْقَاتِلَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَصْحَاب الْكَبَائِر غَيْر الشِّرْك ، لَا يَكْفُرُونَ بِذَلِكَ ، بَلْ هُمْ مُؤْمِنُونَ نَاقِصُو الْإِيمَان . إِنْ تَابُوا سَقَطَتْ عُقُوبَتهمْ ، وَإِنْ مَاتُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْكَبَائِر كَانُوا فِي الْمَشِيئَة . فَإِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى عَفَا عَنهُمْ وَأَدْخَلَهُمْ الْجَنَّة أَوَّلًا ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ ، ثُمَّ أَدْخَلَهُمْ الْجَنَّة . وَكُلّ هَذِهِ الْأَدِلَّة تَضْطَرُّنَا إِلَى تَأْوِيل هَذَا الْحَدِيث وَشِبْهِهِ . ثُمَّ إِنَّ هَذَا التَّأْوِيل ظَاهِرٌ سَائِغ فِي اللُّغَة مُسْتَعْمَلٌ فِيهَا كَثِير . وَإِذَا وَرَدَ حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ ظَاهِرًا وَجَبَ الْجَمْع بَيْنهمَا . وَقَدْ وَرَدَا هُنَا فَيُجِبْ الْجَمْع وَقَدْ جَمَعْنَا . شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 148)(1/16)
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هِيَ ؟ قَالَ : " الشِّرْكُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَالسِّحْرُ , وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ , وَأَكَلُ الرِّبَا , وَأَكَلُ مَالِ الْيتِيمِ , وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ , وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ , عَن عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأُوَيْسِيِّ , وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِن وَجْهٍ آخَرَ , عَن سُلَيْمَانَ(1)
وعَن عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ , فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : " أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ الْمُصَلُّونَ , أَلَّا وَإِنَّهُ مِن يُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ يَرَاهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ حَقًّا , وَيُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ احْتِسَابًا , وَيصُومُ رَمَضَانَ , وَيجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ " ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَمَا الْكَبَائِرُ ؟ قَالَ : " تِسْعٌ : أَعْظَمُهَا الشِّرْكُ بِاللَّهِ , وَقَتْلُ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ , وَأَكَلُ الرِّبَا , وَأَكَلُ مَالِ الْيتِيمِ , وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ , وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ , وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ , وَالسِّحْرُ , وَاسْتِحْلَالُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ , مَن لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنهُنَّ كَانَ مَعِي فِي جُنَّةٍ مَصَارِيعُهَا مِن ذَهَبٍ "(2)
__________
(1) - صحيح البخارى(2766 )
(2) - المستدرك للحاكم(197 و7666 ) وهو حديث حسن(1/17)
وعَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " اطْلُبُوا الْعِلْمَ وَلَوْ بِالصِّينِ , فَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " هَذَا حَدِيثٌ مَتْنُهُ مَشْهُورٌ , وَأَسَانِيدُهُ ضَعِيفَةٌ , لَا أَعْرِفُ لَهُ إِسْنَادًا يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ الْحَدِيثُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وقال عَلِيٍّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ الْحَافِظَ: صَحَّ عِنْدِي عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي " طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " إِسْنَادُهُ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : وَإِنْ صَحَّ , فَإِنَّمَا أَرَادَ - وَ اللَّهُ أَعْلَمُ - الْعِلْمَ الْعَامَّ الَّذِي لَا يَسَعُ الْبَالِغَ الْعَاقِلَ جَهْلُهُ , أَوْ عِلْمَ مَا يَنْوِيهُ خَاصَّةً , أَوْ أَرَادَ أَنَّهُ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَتَّى يَقُومَ بِهِ مَن فِيهِ الْكِفَايَةُ .
وقال ابْنُ وَهْبٍ ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَجُلٍ مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ سَأَلَهُ عَن طَلَبِ الْعِلْمِ فَقَالَ لَهُ : إِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ يَحْسُنُ , لَكِنِ انْظُرِ الَّذِي يَلْزَمُكَ مِن حِينِ تُصْبِحُ حَتَّى تُمْسِيَ , وَمِن حِينِ تُمْسِي حَتَّى تُصْبِحَ , فَالْزَمْهُ , وَلَا تُؤْثِرَنَّ عَلَيْهِ شَيْئًا.
وقَالَ حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ: سَأَلْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ قُلْتُ : " طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " أَيُّ شَيْءٍ تَفْسِيرُهُ ؟ قَالَ : لَيْسَ هُوَ الَّذِي يَطْلُبُونَ إِنَّمَا طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ , أَيْ يَقَعُ الرَّجُلُ فِي شَيْءٍ مِن أَمْرِ دِينِهِ , فَيَسْأَلُ عَنهُ حَتَّى يَعْلَمَهُ ".
- - - - - - - - - - - - - -
المبحث الثالث
الْعِلْمِ الْخَاصِّ الَّذِي لَمْ تُكَلَّفْهُ الْعَامَّةٌ(1/18)
قال البيهقي(1):
" قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : هَذَا مِثْلُ مَا يَكُونُ مِنهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِن سَهْوٍ يَجِبُ بِهِ سُجُودُ السَّهْوِ أَوْ لَا يَجِبُ , وَمَا يُفْسِدُ الْحَجَّ وَلَا يُفْسِدُهُ , وَمَا يَجِبُ بِهِ الْفِدْيةُ وَلَا يَجِبُ , مِمَّا يَفْعَلُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخِرَ : وَهُوَ مَا يَنُوبُ الْعِبَادُ مِن فُرُوعِ الْفَرَائِضِ , وَمَا يَخُصُّ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَيْسَ فِيهِ نَصُّ كِتَابٍ وَلَا فِي أَكْثَرِهِ نَصُّ سَنَةٍ , وَإِنْ كَانَتْ فِي شَيْءٍ مِنهُ سَنَةٌ فَإِنَّمَا هِيَ مِن أَخْبَارِ الْخَاصَّةِ , وَمَا كَانَ مِنهُ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وَيُسْتَدْرَكُ فِيهِ شَيْءٌ قَالَ : وَهَذِهِ دَرَجَةٌ مِنَ الْعِلْمِ لَيْسَ يَبْلُغُهَا الْعَامَّةُ , وَإِذَا قَامَ بِهَا خَاصَّتُهُمْ مَن فِيهِ الْكِفَايَةُ , لَمْ يَخْرُجْ غَيْرُهُ مِمَن تَرَكَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ , وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِينْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنهُمْ طَائِفَةٌ لِيتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِينْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ وَأَخْبَرَنَا بِجَمِيعِ هَذَا الْكَلَامِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ , ثنا أَبُو الْعَبَّاسِ ، ثنا الرَّبِيعُ ، أبنا الشَّافِعِيُّ ، فَذَكَرَهُ وَجَعَلَ مِثَالِ ذَلِكَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَالصَّلَاةَ عَلَى الْجَنَائِزِ , وَدَفْنَهَا , وَرَدَّ السَّلَامِ , وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ السُّنَنِ مَا وَرَدَ فِي أَمْثِلَتِهِ مِنَ الْآثَارِ".
__________
(1) - المدخل إلى السنن الكبرى - (ج 1 / ص 248) -باب العلم الخاص الذي لم تكلفه العامة وكلف على ذلك من فيه الكفاية للقيام به(1/19)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِينْفِرُوا كَافَّةً يَعْنِي : مَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِينْفِرُوا جَمِيعًا , وَيَتْرُكُوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَحْدَهُ , فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنهُمْ طَائِفَةٌ . يَعْنِي عُصْبَةٌ , يَعْنِي السَّرَايَا , فَلَا يَسِيرُوا إِلَّا بِإِذْنِهِ , فَإِذَا رَجَعَتِ السَّرَايَا , وَقَدْ نَزَلَ بَعْدَهُمْ قُرْآنٌ يُعَلَّمُهُ الْقَاعِدُونَ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا : إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَكُمْ قُرْآنًا , وَقَدْ تَعَلَّمْنَاهُ فَيمْكُثُ السَّرَايَا يَتَعَلَّمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِمْ بَعْدَهُمْ , وَيبْعَثُ سَرَايَا أُخَرَ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ لِيتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ يَقُولُ : يَتَعَلَّمُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ وَيُعَلِّمُونَ السَّرَايَا إِذَا رَجَعَتْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ .(1)
وعَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كَانَ أَخَوَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَكَانَ أَحَدُهُمَا يَأْتِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - , وَالْآخَرُ يَحْتَرِفُ , فَشَكَا الْمُحْتَرِفُ أَخَاهُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , فَقَالَ : " لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بِهِ "(2)
__________
(1) - حديث حسن ، السرية : هي طائفةٌ من الجَيش يبلغُ أقصاها أربَعمائة تُبْعث سرا إلى العَدوّ، وجمعُها السَّرَايا، وقد يراد بها الجنود مطلقا
(2) - سنن الترمذى(2516 ) صحيح
(
فَقَالَ : تُرْزَقُ بِهِ ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ أَرْجُو وَأَخَافُ أَنَّك مَرْزُوقٌ بِبَرَكَتِهِ لِأَنَّهُ مَرْزُوقٌ بِحِرْفَتِك فَلَا تَمْنُنْ عَلَيْهِ بِصَنْعَتِك . قَالَ الطِّيبِيُّ : وَمَعْنَى لَعَلَّ فِي قَوْلِهِ : لَعَلَّك يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيُفِيدُ الْقَطْعَ وَالتَّوْبِيخَ كَمَا وَرَدَ فَهَلْ تُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ وَأَنْ يَرْجِعَ الْمُخَاطَبُ لِيَبْعَثَهُ عَلَى التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فَيَنْتَصِفَ مِنْ نَفْسِهِ ، تحفة الأحوذي - (ج 6 / ص 130).(1/20)
وعَن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي , وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ , وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ , وَالصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ , وَإِذَا مَرَّ الْقَوْمُ بِقَوْمٍ , فَسَلَّمَ مِنهُمْ وَاحِدٌ أَجْزَأَ مِنهُمْ , وَإِذَا رَدَّ مِنَ الْآخَرِينَ وَاحِدٌ أَجْزَأَ عَنهُمْ " وَرَوَاهُ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ , عَن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، كَذَلِكَ مُرْسَلًا , وَرُوِّينَاهُ فِي كِتَابِ السُّنَنِ , عَن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ مَرْفُوعًا مَوْصُولًا.( صحيح مرسل)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : وَلَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَا وَصَفْتُ يَتَفَقَّهُ أَقَلُّهُمْ , وَيشْهَدُ الْجَنَائِزَ بَعْضُهُمْ , وَيُجَاهِدُ وَيَرُدُّ السَّلَامَ بَعْضُهُمْ , وَيَتَخَلَّفُ عَن ذَلِكَ غَيْرُهُمْ , فَيَعْرَفُونَ الْفَضْلَ لِمَن قَامَ بِهِ , وَلَا يُؤْتِمُونَ مَن قَصُرَ عَنهُ , إِذْ كَانَ لِهَذَا قَائِمُونَ بِكِفَايَتِهِ ".
- - - - - - - - - - - - - -
الفصل الأول
أحكام الاجتهاد وصفاته وشروطه(1)
المبحث الأول
تعريف الاجتهاد
الاِجْتِهَادُ فِي اللُّغَةِ بَذْل الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ فِي طَلَبِ أَمْرٍ لِيَبْلُغَ مَجْهُودَهُ وَيَصِل إِلَى نِهَايَتِهِ . وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَن هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ(2).
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 1 / ص 316)
(2) - كشاف اصطلاحات الفنون ط كلكتا 1 / 198 ، والمصباح مادة ( جهد )(1/21)
أَمَّا الأُْصُولِيُّونَ فَمِن أَدَقِّ مَا عَرَّفُوهُ بِهِ أَنَّهُ بَذْل الطَّاقَةِ مِنَ الْفَقِيهِ فِي تَحْصِيل حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ظَنِّيٍّ(1)، فَلاَ اجْتِهَادَ فِيمَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ ، كَوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ ، وَكَوْنِهَا خَمْسًا.
وَمِن هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِن دَلِيلِهِ الْقَطْعِيِّ لاَ تُسَمَّى اجْتِهَادًا(2)
المبحث الثاني
الْقِيَاسُ(3)
الَّذِي عَلَيْهِ الأُْصُولِيُّونَ أَنَّ الاِجْتِهَادَ أَعَمُّ مِن الْقِيَاسِ(4). فَالاِجْتِهَادُ يَكُونُ فِي أَمْرٍ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ ، بِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ لَهُ ، لِوُجُودِ عِلَّةِ الأَْصْل فِيهِ ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ . وَيَكُونُ الاِجْتِهَادُ أَيْضًا فِي إِثْبَاتِ النُّصُوصِ بِمَعْرِفَةِ دَرَجَاتِهَا مِن حَيْثُ الْقَبُول وَالرَّدُّ ، وَبِمَعْرِفَةِ دَلاَلاَتِ تِلْكَ النُّصُوصِ ، وَمَعْرِفَةِ الأَْحْكَامِ مِن أَدِلَّتِهَا الأُْخْرَى غَيْرِ الْقِيَاسِ ، مِن قَوْل صَحَابِيٍّ ، أَوْ عَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ ، أَوِ الاِسْتِصْحَابِ ، أَوِ الاِسْتِصْلاَحِ أَوْ غَيْرِهَا ، عِنْدَ مَن يَقُول بِهَا .
المبحث الثالث
التَّحَرِّي(5):
__________
(1) - التقرير والتحبير - (ج 6 / ص 141) وفواتح الرحموت - (ج 2 / ص 338)
(2) - مسلم الثبوت 2 / 362 ط بولاق .
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 1 / ص 317)
(4) - المستصفى - (ج 2 / ص 204) وكشف الأسرار - (ج 6 / ص 223)
(5) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 1 / ص 317)(1/22)
هُوَ لُغَةً الطَّلَبُ وَالاِبْتِغَاءُ ، وَشَرْعًا طَلَبُ شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ(1)، عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى الْحَقِيقَةِ . وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالْعِبَادَاتِ لأَِنَّهُمْ كَمَا قَالُوا ( التَّحَرِّي ) فِيهَا ، قَالُوا ( التَّوَخِّي ) فِي الْمُعَامَلاَتِ . وَالتَّحَرِّي غَيْرُ الشَّكِّ وَالظَّنِّ ، فَإِنَّ الشَّكَّ أَنْ يَسْتَوِيَ طَرَفَا الْعِلْمِ وَالْجَهْل ، وَالظَّنُّ تَرَجُّحُ أَحَدِهِمَا مِن دَلِيلٍ ، وَالتَّحَرِّي تَرَجُّحُ أَحَدِهِمَا بِغَالِبِ الرَّأْيِ . وَهُوَ دَلِيلٌ يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى طَرَفِ الْعِلْمِ ، وَإِنْ كَانَ لاَ يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى مَا يُوجِبُ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ . كَذَا قَال السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ(2).
وَفِيهِ أَيْضًا : الاِجْتِهَادُ مَدْرَكٌ مِن مَدَارِكِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْعُ لاَ يَثْبُتُ بِهِ ابْتِدَاءً ، وَكَذَلِكَ التَّحَرِّي مَدْرَكٌ مِن مَدَارِكِ التَّوَصُّل إِلَى أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِبَادَةُ لاَ تَثْبُتُ بِهِ ابْتِدَاءً.(3)
المبحث الرابع
الِاسْتِنْبَاطُ(4):
وَهُوَ اسْتِخْرَاجُ الْعِلَّةِ أَوِ الْحُكْمِ إِذَا لَمْ يَكُونَا مَنصُوصَيْنِ ، بِنَوْعٍ مِنَ الاِجْتِهَادِ .
المبحث الخامس
أَهْلِيَّةُ الاِجْتِهَادِ(5):
__________
(1) - أي من غير دليل .
(2) - كتاب التحري من المبسوط 10 / 185 - 205 ط الساسي .، المبسوط - (ج 12 / ص 441) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق - (ج 6 / ص 90) الشاملة 2
(3) - المبسوط 10 / 186 ط الأولى .
(4) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 1 / ص 317)
(5) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 1 / ص 317)(1/23)
اشْتَرَطَ الأُْصُولِيُّونَ فِي الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا صَحِيحَ الْفَهْمِ عَالِمًا بِمَصَادِرِ الأَْحْكَامِ ، مِن كِتَابٍ وَسُنَّةٍ وَإِجْمَاعٍ وَقِيَاسٍ ، وَبِالنَّاسِخِ مِنهَا وَالْمَنسُوخِ ، عَالِمًا بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ نَحْوِهَا وَصَرْفِهَا وَبَلاَغَتِهَا ، عَالِمًا بِأُصُول الْفِقْهِ .
وَالْمُرَادُ بِمَعْرِفَةِ الْكِتَابِ مَعْرِفَةُ آيَاتِ الأَْحْكَامِ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حِفْظُهَا بَل مَعْرِفَةُ مَوَاقِعِهَا بِحَيْثُ يَسْتَطِيعُ الْوُصُول إِلَيْهَا بِيُسْرٍ وَسُهُولَةٍ ، وَيَسْتَطِيعُ مَعْرِفَةَ مَعَانِيهَا كَذَلِكَ . وَالْمُرَادُ بِمَعْرِفَةِ السُّنَّةِ مَعْرِفَةُ مَا وَرَدَ مِنَ الأَْحَادِيثِ فِي الأَْحْكَامِ(1)، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حِفْظَهَا ، وَإِنَّمَا يَكْفِي أَنْ يَكُونَ لَدَيْهِ أَصْلٌ جَامِعٌ لِغَالِبِيَّةِ أَحَادِيثِ الأَْحْكَامِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَعَرَّفَ فِيهِ بِيُسْرٍ وَسُهُولَةٍ مَوَاقِعَ كُل بَابٍ مِنهَا لِيُرْجَعَ إِلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ الْمَقْبُول مِنهَا مِنَ الْمَرْدُودِ . وَاشْتُرِطَتْ مَعْرِفَتُهُ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنسُوخِ ؛ لِئَلاَّ يُفْتِيَ بِمَا هُوَ مَنسُوخٌ . وَاشْتُرِطَتْ مَعْرِفَتُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ لِكَيْ يَتَمَكَّنَ مِن فَهْمِ الْقُرْآنِ والسُّنَّة عَلَى وَجْهِهِمَا الصَّحِيحِ ؛ لأَِنَّهُمَا وَرَدَا بِلِسَانِ الْعَرَبِ ، وَجَرَيَا عَلَى أَسَالِيبِ كَلاَمِهِمْ . وَاشْتُرِطَتْ مَعْرِفَتُهُ بِأُصُول الْفِقْهِ لِكَيْ لاَ يَخْرُجَ فِي اسْتِنْبَاطِهِ لِلأَْحْكَامِ وَفِي التَّرْجِيحِ عِنْدَ التَّعَارُضِ ، عَنِ الْقَوَاعِدِ الصَّحِيحَةِ لِذَلِكَ .
__________
(1) - كما في نيل الأوطار للشوكاني مثلا(1/24)
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ إِنَّمَا هِيَ لِلْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الْمُتَصَدِّي لِلاِجْتِهَادِ فِي جَمِيعِ مَسَائِل الْفِقْهِ .
المبحث السادس
دَرَجَاتُ الاِجْتِهَادِ(1):
الاِجْتِهَادُ قَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا كَاجْتِهَادِ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُطْلَقٍ، يعني أن يكون مستقلا ببعض المسائل دون الجميع .
وهم على ست درجات(2):
1 ً - المجتهد المستقل: وهو الذي استقل بوضع قواعده لنفسه، يبني عليها الفقه، كأئمة المذاهب الأربعة. وسمى ابن عابدين هذه الطبقة:( طبقة المجتهدين في الشرع ).
2 ً - المجتهد المطلق غير المستقل: وهو الذي وجدت فيه شروط الاجتهاد التي اتصف بها المجتهد المستقل، لكنه لم يبتكر قواعد لنفسه، بل سلك طريق إمام من أئمة المذاهب في الاجتهاد، فهو مطلق منتسب، لا مستقل، مثل تلامذة الأئمة السابق ذكرهم كأبي يوسف ومحمد وزفر من الحنفية، وابن القاسم وأشهب وأسد ابن الفرات من المالكية، والبويطي والمزني من الشافعية، وأبي بكر الأثرم، وأبي بكر المروذي من الحنابلة، وسمى ابن عابدين هذه الطبقة:(طبقة المجتهدين في المذهب): وهم القادرون على استخراج الأحكام من الأدلة على مقتضى القواعد التي قررها أستاذهم في الأحكام، وإن خالفوه في بعض أحكام الفروع، لكن يقلدونه في قواعد الأصول.وهاتان المرتبتان قد فقدتا من زمان.
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 1 / ص 317)
(2) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 45) والرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي: ص39-42، حاشية ابن عابدين: 71/1 ومابعدها، رسالة رسم المفتي: ص11-12، مالك لأبي زهرة: ص438، 440-450، ابن حنبل لأبي زهرة: ص368-372. صفة الفتوى والمفتي والمستفتي لأحمد بن حمدان الحراني الحنبلي: ص16، الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية: ص39.(1/25)
3 ً - المجتهد المقيد، أو مجتهد المسائل التي لا نص فيها عن صاحب المذهب أو مجتهد التخريج، كالخصاف والطحاوي والكرخي والحلواني والسرخسي والبزدوي وقاضي خان من الحنفية، والأبهري وابن أبي زيد القيرواني من المالكية، وأبي إسحاق الشيرازي والمروذي ومحمد بن جرير وأبي نصر وابن خزيمة من الشافعية، والقاضي أبي يعلى والقاضي أبي علي بن أبي موسى من الحنابلة.وهؤلاء يسمون أصحاب الوجوه؛ لأنهم يخرِّجون ما لم ينص عليه على أقوال الإمام، ويسمى ذلك وجهاً في المذهب، أو قولاً فيه، فهي منسوبة للأصحاب، لا لإمام المذهب، وهذا مألوف في المذهبين الشافعي والحنبلي.
4 ً - مجتهد الترجيح: وهو الذي يتمكن من ترجيح قول لإمام المذهب على قول آخر، أو الترجيح بين ما قاله الإمام وما قاله تلاميذه أو غيره من الأئمة، فشأنه تفضيل بعض الروايات على بعض، مثل القدوري والمرغيناني صاحب الهداية من الحنفية، والعلامة خليل من المالكية،والرافعي والنووي من الشافعية، والقاضي علاء الدين المرداوي منقح مذهب الحنابلة، وأبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني البغدادي (510هـ) المجتهد في مذهب الحنابلة.
5 ً - مجتهد الفتيا: وهو أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في الواضحات والمشكلات، ويميز بين الأقوى والقوي والضعيف، والراجح والمرجوح، ولكن عنده ضعف في تقرير أدلته وتحرير أقيسته، كأصحاب المتون المعتبرة من المتأخرين، مثل صاحب الكنز، وصاحب الدر المختار، وصاحب الوقاية، وصاحب مجمع الأنهر من الحنفية، والرملي وابن حجر من الشافعية.
6 ً - طبقة المقلدين: الذين لا يقدرون على ما ذكر من التمييز بين القوي وغيره، ولا يفرقون بين الغث والسمين.
هذا ولم يفرق الجمهور بين المجتهد المقيد، ومجتهد التخريج، وجعل ابن عابدين طبقة مجتهد التخريج مرتبة رابعة بعد المجتهد المقيد، ومثل له بالرازي الجصاص (المتوفى سنة 370هـ) وأمثاله.
- - - - - - - - - - - - - - - -
المبحث السابع(1/26)
هل بلغ مرتبة الاجتهاد المطلق غير الأئمة الأربعة ؟
قال ابن الصلاح(1): " إمام الحرمين والإمام الغزالي والإمام أبو اسحق رضي الله عنهم هل بلغ أحد هؤلاء الأئمة المذكورين درجة الاجتهاد في المذهب على الإطلاق أم لا وما حقيقة الاجتهاد على الإطلاق وما حقيقة الاجتهاد في المذهب وهل بلغ أحد منهم رتبة الاجتهاد على الإطلاق؟ .
أجاب رضي الله عنه لم يكن لهم الاجتهاد المطلق وبلغوا الاجتهاد المقيد في مذهب الشافعي رضي الله عنه، ودرجة الاجتهاد المطلق يحصل بتمكنه من تعرف الأحكام الشرعية من أدلتها استدلالا من غير تقليد، والاجتهاد المقيَّد درجته تحصل بالتبحُّر في مذهب إمام من الأئمة بحيث يتمكن من إلحاق ما لم ينصَّ عليه ذلك الإمام بما نص عليه معتبرا قواعد مذهبه وأصوله".
وقال أيضاً عند كلامه على شروط المجتهد المطلق(2): " الثالث إنما يشترط اجتماع العلوم المذكورة في المفتي المطلق في جميع أبواب الشرع، أما المفتي في باب خاص من العلم نحو علم المناسك أو علم الفرائض أو غيرهما فلا يشترط فيه جميع ذلك، ومن الجائز أن ينال الإنسان منصب الفتوى والاجتهاد في بعض الأبواب دون بعض، فمن عرف القياس وطرقه وليس عالما بالحديث فله أن يفتي في مسائل قياسية يعلم أنه لا تعلق لها بالحديث، ومن عرف أصول علم المواريث وأحكامها جاز أن يفتي فيها وإن لم يكن عالما بأحاديث النكاح ولا عارفا بما يجوز له الفتوى في غير ذلك من أبواب الفقه، قطع بجوازه الغزالي وابن برهان وغيرهما،ومنهم من منع من ذلك مطلقا، وأجازه أبو نصر ابن الصباغ غير أنه خصصه بباب المواريث، قال : لأن الفرائض لا تبنى على غيرها من الأحكام، فأما ما عداها من الأحكام فبعضه مرتبط ببعض، والأصحُّ أن ذلك لا يختصُّ بباب المواريث والله أعلم.
__________
(1) - فتاوى ابن الصلاح - (ج 1 / ص 133)
(2) - فتاوى ابن الصلاح - (ج 1 / ص 10)(1/27)
القسم الثاني المفتي الذي ليس بمستقلٍّ منذ دهر طويل ،طويَ بساطُ المفتي المستقلِّ المطلق والمجتهد المستقل، وأفضى أمرُ الفتوى إلى الفقهاء المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة، وللمفتي المنتسب أحوال أربعٌ:
الأولى أن لا يكون مقلِّدا لإمامه لا في المذهب ولا في دليله لكونه قد جمع الأوصاف والعلوم المشترطة في المستقلِّ، وإنما ينسب إليه لكونه سلك طريقه في الاجتهاد ودعا إلى سبيله ،وقد بلغنا عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني رحمه الله أنه ادَّعى هذه الصفة لأئمة أصحابنا، فحكى عن أصحاب مالك وأحمد وداود وأكثر أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله أنهم صاروا إلى مذاهب أئمتهم تقليدا لهم ، ثم قال: الصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابُنا وهو أنهم صاروا إلى مذهب الشافعيِّ رحمه الله لا على جهة التقليد له؛ ولكن لما وجدوا طريقه في الاجتهاد والفتاوى أسدَّ الطرق وأولاها ولم يكن لهم يدٌ من الاجتهاد سلكوا طريقه في الاجتهاد وطلبوا معرفة الأحكام بالطريق الذي طلبها الشافعي به ",
قلتُ: وهذا الرأيُ الذي حكاه عن أصحابنا واقعٌ على وفق ما رسمه لهم الشافعي ثم المزنيًّ في أول مختصره وفي غيره، وذكر الشيخ أبو علي السنجي شبيها بذلك فقال: اتبعنا قول الشافعي دون قول غيره من الأئمة لمَّا وجدنا قوله أصحَّ الأقوال وأعدلها، لا أنا قلدناهُ في قوله".
قلت : دعوى انتفاء التقليد عنهم مطلقًا من كل وجهٍ لا يستقيمُ إلا أن يكونوا قد أحاطوا بعلوم الاجتهاد المطلق وفازوا برتبة المجتهدين المستقلِّين ؛وذلك لا يلائم المعلوم من أحوالهم أو أحوال أكثرهم.(1/28)
وقد ذكر بعضُ الأصوليين منا أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهدٌ مستقلٌّ وحكى اختلافا بين أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة في أبي يوسف وأبي محمد المزني وابن سريج خاصة هل كانوا من المجتهدين المستقلِّين أو من المجتهدين في المذاهب ؟ ولا ينكَر دعوى ذلك فيهم في فنٍّ من الفقه دون فنٍّ، بناء على ما قدمناه في جواز تجريد منصب المجتهد المستقِلِّ، ويبعد جريانُ ذلك الخلاف في حق هؤلاء المتبحرين الذين عم نظرهم الأبواب كلها، فإنه لا يخفى على أحدهم إذا أكمل في بابٍ مالا يتعلَّقُ منه بغيره من الأبواب التي لم يكمل فيها لعموم نظره وجولانه في الأبواب كلها ،إذا عرفت هذا ففتوى المستفتين في هذه الحالة في حكم فتوى المجتهدِ المستقلِّ المطلَقِ يعملُ بها ويعتدُّ بها في الإجماع والخلاف والله أعلم.(1/29)
الحالةُ الثانيةُ أن يكون في مذهب إمامه مجتهدا مقيَّدا فيستقلُّ بتقرير مذاهبه بالدليل غير أنه لا يتجاوزُ في أدلته أصول إمامه وقواعده ،ومن شأنُه أن يكون عالما بالفقه خبيرا بأصول الفقه ،عارفا بأدلة الأحكام تفصيلاً، بصيرا بمسالك الأقيسة والمعاني، تامَّ الارتياض في التخريج والاستنباط، قيِّما بإلحاق ما ليس بمنصوص عليه في مذهب إمامه بأصول مذهبه وقواعده، ولا يعرَى عن شوبٍ من التقليد له لإخلاله ببعض العلوم والأدوات المعتبرة في المستقل؛ مثلُ أن يخلَّ بعلم الحديث أو بعلم اللغة العربية، وكثيرا ما وقع الإخلالُ بهذين العلمين في أهل الاجتهاد المقيَّد، ويتخذُ أصولَ نصوص إمامه أصولاً يستنبط منها، نحو ما يفعله المستقلُّ بنصوص الشارع، وربما مرَّ بهِ الحكمُ وقد ذكره إمامُه بدليله فيكتفي بذلك ،ولا يبحث هل لذلك الدليلِ من معارضٍ، ولا يستوفي النظر في شروطه كما يفعله المستقلُّ، وهذه صفةُ أصحاب الوجوه والطرق في المذهب، وعلى هذه الصفة كان أئمةُ أصحابِنا أو أكثرُهم ،ومَن كان هذا شأنَه فالعاملُ بفتياهُ مقلِّدٌ لإمامهِ لا لهُ معوِّلٌ على صحة إضافةِ ما يقوله إلى إمامه لعدم استقلالِه بتصحيحِ نسبتهِ إلى الشارع واللهُ أعلم".
=================
وقال ابن حجر الهيثمى(1)جوابا على سؤال:"قَالَ الشَّيْخَانِ: النَّاسُ كَالْمُجْمِعِينَ الْيَوْمَ عَلَى أَنَّهُ لَا مُجْتَهِدَ الْيَوْمَ هَلْ لَهُمَا مُسْتَنَدٌ فِي ذَلِكَ مَعَ مَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِن تَعَطُّلِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَتَأْثِيمِ النَّاسِ وَالْمُفْتِينَ غَيْرُ الْمُجْتَهِدِينَ ؟ .
(
__________
(1) - الفتاوى الفقهية الكبرى - (ج 10 / ص 102)الشاملة 2 و فتاوى ابن حجر الهيثمى - (ج 6 / ص 317)(1/30)
فَأَجَابَ ) بِقَوْلِهِ سَبَقَهُمَا إلَى ذَلِكَ الْفَخْرُ الرَّازِيّ وَغَيْرُهُ ،بَلْ قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ مِنَّا لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ عَصْرِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنهُ مُجْتَهِدٌ مُسْتَقِلٌّ أَيْ مِن كُلِّ الْوُجُوهِ، فَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُ كَثِيرِينَ مِن أَصْحَابِنَا اتَّبَعْنَا الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى دُونَ غَيْرِهِ ؛لِأَنَّا وَجَدْنَا قَوْلَهُ أَرْجَحَ لَا أَنَّا قَلَّدْنَاهُ ،أَيْ فِي كُلِّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَلْ وَافَقَ اجْتِهَادُنَا اجْتِهَادَهُ فِي كَثِيرٍ مِن الْمَسَائِلِ وَمِن ثَمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَابْنِ الصَّلَاحِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: وَدَعْوَى انْتِفَاءِ التَّقْلِيدِ عَنهُمْ مُطْلَقًا لَا يَسْتَقِيمُ وَلَا يُلَائِمُ الْمَعْلُومَ مِن حَالِهِمْ أَوْ حَالِ أَكْثَرِهِمْ، لَكِنْ نَازَعَهُمْ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَاخْتَارَ قَوْلَ الْحَنَابِلَةِ لَا يَخْلُو الْعَصْرُ عَن مُجْتَهِد،ٍ وَمَالَ إلَيْهِ فِي الْخَادِمِ، قَالَ وَالِدُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيد:ِ وَعِزَّةُ الْمُجْتَهِدِ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ لَيْسَ لِتَعَذُّرِ حُصُولِ آلَةِ الِاجْتِهَادِ؛ بَلْ لِإِعْرَاضِ النَّاسِ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُفْضِيَةِ إلَيْهِ ،وَظَاهِرُ كَلَامِهِ هَذَا تَأْثِيمُ كُلِّ النَّاسِ مِن عَصْرِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنهُ إلَى الْآنَ؛ لِأَنَّ مِن فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ عَصْرٍ مَن يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ كَابْنِ الصَّلَاحِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى :وَمِن دَهْرٍ طَوِيلٍ يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ عُدِمَ الْمُجْتَهِدُ الْمُسْتَقِلُّ، وَلِقَوْلِهِمْ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لَا يَتَأَتَّى بِأَصْحَابِ(1/31)
الْوُجُوهِ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَيَظْهَرُ تَأَدِّي الْفَرْضَ بِهِ فِي الْفَتْوَى وَإِنْ لَمْ يَتَأَدَّ فِي إحْيَاءِ الْعُلُومِ الَّتِي مِنهَا اسْتِمْدَادُ الْفَتْوَى؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمُسْتَقِلِّ، وَعَلَى تَسْلِيمِ مَا ذَكَرَهُ فَقَدْ تَعَطَّلَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ ،فَاَلَّذِي يَجِبُ الْجَزْمُ بِهِ أَنَّ عِزَّةَ الْمُجْتَهِدِ إنَّمَا هُوَ لِتَعَذُّرِ حُصُولِ آلَةِ الِاجْتِهَادِ لَا لِلْإِعْرَاضِ عَن طَرِيقِهِ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَنَا وَغَيْرَهُمْ بَذَلُوا جُهْدَهُمْ فَوْقَ مَا يُطْلَقُ كَمَا يُعْلَمُ لِمَن تَأَمَّلَ أَخْبَارَهُمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَظْفَرُوا بِرُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ كَمَا مَرَّ ،وَأَيْضًا فَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ فَرْضِيَّةَ مَا مَرَّ إنَّمَا يُخَاطَبُ بِهَا مَن جَمَعَ الشُّرُوطَ الَّتِي ذَكَرُوهَا، وَإِذَا تَأَمَّلْت جَمِيعَ أَهْلِ الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ لَمْ تَجِدْهُمْ جَمَعُوا تِلْكَ الشُّرُوطَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِمْ ،إذْ مِن تِلْكَ الشُّرُوطِ الذَّكَاءُ، وَالْمُرَادُ بِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ ذَكَاءٌ يُوَصِّلُ إلَى رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ لِمَن بَذَلَ جُهْدَهُ وَأَفْنَى عُمُرَهُ فِي اقْتِنَاصِ شَوَارِدِ الْعُلُومِ ،وَأَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ قَدْ بَذَلُوا جُهْدَهُمْ وَأَفْنَوْا عُمُرَهُمْ وَلَمْ يَظْفَرُوا بِذَلِكَ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَتَّصِفُوا بِالذَّكَاءِ الْمَذْكُورِ فَلَا وُجُوبَ عَلَيْهِمْ، وَكَذَا يُقَالُ فِي أَعْصَارِنَا الَّتِي خَلَتْ عَنِ الْمُجْتَهِدِ بِجَمِيعِ أَقْسَامِهِ حَتَّى مُجْتَهِدِ الْفَتْوَى فَلَا إثْمَ عَلَيْهِمْ فِي تَعَطُّلِ الْفَرْضِ بِالْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ السَّابِقِ، فَإِنْ قُلْتَ:مَا وَجْهُ(1/32)
التَّعَطُّلِ عَن مُجْتَهِدِ الْفَتْوَى؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرَهُمَا مِمَن لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةُ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ كَالْغَزَالِيِّ وَإِمَامِهِ عَلَى نِزَاعٍ فِي ذَلِكَ ،إنَّمَا هُمْ مُجْتَهِدُونَ فِي الْفَتْوَى لَا فِي الْمَذْهَبِ وَلَا مُجْتَهِدُونَ مُنْشِئُونَ، وَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ كَذَلِكَ فَأَنَّى لَك فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ أَنْ تَجِدَ مِثْلَ أَقَلِّهِمْ؟!.(1/33)
وَيَدُلُّ لِمَا ذَكَرْته قَوْلُ الْجَلَالِ الْمَحَلِّيِّ عَقِبَ حِكَايَتِهِ الْقَوْلَ بِجَوَازِ إفْتَاءِ الْمُقَلِّدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى التَّفْرِيعِ وَالتَّرْجِيحِ، لِأَنَّهُ نَاقِلٌ لِمَا يُفْتِي بِهِ عَن إمَامِهِ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِنَقْلِهِ عَنهُ ،وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ ،وَقَوْلُ النَّوَوِيِّ كَابْنِ الصَّلَاحِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْمُنْتَسِبَ وَمُجْتَهِدَ الْمَذْهَبِ : الثَّالِثَةُ أَنْ لَا يَبْلُغَ مَرْتَبَةَ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ لَكِنَّهُ فَقِيهُ النَّفْسِ حَافِظُ مَذْهَبِ إمَامِهِ إلَى أَنْ قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى أَوَاخِرِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ ،الصِّنْفُ الَّذِينَ رَتَّبُوا الْمَذْهَبَ وَحَرَّرُوهُ وَصَنَّفُوا فِيهِ تَصَانِيفَ مِنهَا مُعْظَمُ اشْتِغَالِ النَّاسِ الْيَوْمَ ،وَلَمْ يَلْحَقُوا الَّذِينَ قَبْلَهُمْ فِي التَّخْرِيجِ ثُمَّ قَالَ : الرَّابِعَةُ أَنْ يَقُومَ بِحِفْظِ الْمَذْهَبِ وَفَهْمِهِ وَلَكِنْ عِنْدَهُ ضَعْفٌ فِي تَقْرِيرِ أَدِلَّتِهِ وَتَحْرِيرِ أَقْيِسَتِهِ، ثُمَّ قَالَ :وَمَا لَمْ تَجِدْهُ مَنقُولًا إنْ وُجِدَ فِي الْمَنقُولِ مَعْنَاهُ بِحَيْثُ يُدْرَكُ بِغَيْرِ كَبِيرِ فِكْرٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا جَازَ إلْحَاقُهُ بِهِ فِي الْفَتْوَى ،وَكَذَا مَا يُعْلَمُ انْدِرَاجُهُ تَحْتَ ضَابِطٍ مُمَهِّدٍ فِي الْمَذْهَبِ ،وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ يَجِبُ إمْسَاكُهُ ،وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ نَادِرًا فِي حَقِّ الْمَذْكُورِ، إذْ يَبْعُدُ كَمَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنْ تَقَعَ مَسْأَلَةٌ لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهَا فِي الْمَذْهَبِ وَلَا هِيَ فِي مَعْنَى الْمَنصُوصِ وَلَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ ضَابِطٍ، فَانْظُرْ جَعْلَهُ مَن بَعْدَ(1/34)
الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ لَيْسَ مِن مُجْتَهِدِي الْمَذْهَبِ الدَّالِّ لِمَا قَدَّمْته، ثُمَّ كَلَامُ الْجَلَالِ الْمَحَلِّيِّ الْمَذْكُورُ يُفْهِمُ اعْتِمَادَهُ لِذَلِكَ الْقَوْلِ وَهُوَ قَرِيبٌ لِئَلَّا يَلْزَمَ عَلَيْهِ تَأْثِيمُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ بِإِفْتَائِهِمْ مَعَ قُصُورِهِمْ عَن دَرَجَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي كَلَامِ النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ،وَأَمَّا قَوْلُهُ عَقِبَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ :وَكُلُّ صِنْفٍ مِنهَا يُشْتَرَطُ فِيهِ حِفْظُ الْمَذْهَبِ ،أَيْ مُعْظَمِهِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْوُقُوفِ عَلَى الْبَاقِي عَلَى قُرْبٍ كَمَا ذَكَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَفِقْهُ النَّفْسِ، فَمَن تَصَدَّى لِلْفُتْيَا وَلَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَقَدْ بَاءَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)} [المطففين/4، 5], فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا وُجِدَ هُنَاكَ مُتَّصِفٌ بِأَحَدِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ :فَإِنْ قِيلَ مَن حَفِظَ كِتَابًا أَوْ أَكْثَرَ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ قَاصِرٌ لَمْ يَتَّصِفْ بِصِفَةِ أَحَدٍ مِمَن سَبَقَ وَلَمْ يَجِدِ الْعَامِّيُّ فِي بَلَدِهِ غَيْرَهُ فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِهِ؟ فَالْجَوَابُ: إنْ كَانَ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ مُفْتٍ يَجِدُ السَّبِيلَ إلَيْهِ وَجَبَ التَّوَصُّلُ إلَيْهِ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَكَرَ مَسْأَلَتَهُ لِذَلِكَ الْقَاصِرِ، فَإِنْ وَجَدَهَا بِعَيْنِهَا فِي كِتَابٍ مَوْثُوقٍ بِصِحَّتِهِ وَهُوَ مِمَن يُقْبَلُ خَبَرُهُ، نَقَلَ لَهُ حُكْمَهَا بِنَصِّهَا ،وَكَانَ الْعَامِّيُّ فِيهَا مُقَلِّدًا صَاحِبَ الْمَذْهَبِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا وَجَدْته فِي ضِمْنِ كَلَامِ بَعْضِهِمْ(1/35)
وَالدَّلِيلُ يُعَضِّدُهُ اهـ .
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَقِبِ ذَلِكَ: ثُمَّ لَا يُعَدُّ هَذَا الْقَاصِرُ بِأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنَ الْمُفْتِينَ وَلَا مِنَ الْأَصْنَافِ الْمُسْتَعَارِ لَهُمْ سِمَةُ الْمُفْتِينَ، وَأَمَّا مَا قَطَعَ بِهِ الْحَلِيمِيُّ وَالْجُوَيْنِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِن تَحْرِيمِ إفْتَاءِ الْمُقَلِّدِ بِمَا هُوَ مُقَلِّدٌ فِيهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَى مَا إذَا ذَكَرَهُ بِصُورَةِ مَن يَقُولُهُ مِن عِنْدِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: فَعَلَى هَذَا مَن عَهِدْنَاهُ مِنَ الْمُفْتِينَ الْمُقَلِّدِينَ لَيْسُوا مُفْتِينَ حَقِيقَةً، لَكِنْ لَمَّا قَامُوا مَقَامَهُمْ وَأَدَّوْا عَنهُمْ عُدُّوا مَعَهُمْ، وَسَبِيلُهُمْ أَنْ يَقُولُوا مَثَلًا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنهُ كَذَا وَنَحْوَ هَذَا وَمَن تَرَكَ الْإِضَافَةَ فَقَدْ اكْتَفَى بِالْمَعْلُومِ مِنَ الْحَالِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِهِ اهـ .
===============(1/36)
وقال ابن بدران(1): "إن هذه الشروط المذكورة كلها إنما تشترط للمجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الشرع، أما من أفتى في فن واحد في مسألة واحدة ووجدت فيه شروط الاجتهاد بالنسبة إلى ذلك الفن أو تلك المسألة فلا يشترط له ذلك وجاز له أن يجتهد فيما حصل شروط الاجتهاد فيه وإن لم تتوفر فيه الشروط في غيرها، وخالف قوم في هذا وهذا مبني على أنه هل يجوز تجزيء الاجتهاد أم لا يجوز؟ والحق أنه يتجزأ ؛لأن كثيرا من أئمة السلف الصحابة وغيرهم كانوا يسألون عن بعض مسائل الأحكام فيقولون لا ندري حتى إن مالكا رضي الله عنه قال لا أدري في ست وثلاثين مسألة من ثماني وأربعين مسألة، وقد توقف الشافعي وأحمد بل الصحابة والتابعون في الفتاوى كثيرا، فلو كان الاجتهاد المطلق في جميع الأحكام شرطا في الاجتهاد في كل مسألة على حدتها لما كان هؤلاء الأئمة مجتهدين، لكنه خلاف الإجماع فدلَّ على أن ذلك لا يشترط ،ولا يشترط عدالة المجتهد في اجتهاده لكنها مشترطة في قبول فتياه وخبره هذا ما يذكره علماء الأصول في المجتهد المطلق، ويسمى عندهم بالمجتهد المستقِلِّ ويعرفونه بأنه الذي يستقلُّ بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد ولا تقييد بمذهب معين.
وقد جعل بعض المتأخرين أقسام المجتهدين على خمسة مراتب وممن علمناه جنح إلى هذا التقسيم أبا عمرو ابن الصلاح وابن حمدان من أصحابنا في كتابه أدب المفتي وتلاهما شيخ الإسلام أحمد بن تيمية فإنه نقل في مسودة الأصول كلام ابن الصلاح ولم يتعقبه ،وتتبعهم العلامة الفتوحي في آخر كتابه شرح المنتهى الفقهي ونحن نلخص كلامهم هنا فنقول ذهبوا إلى أن المفتي يعني المجتهد ينقسم إلى مستقل وغير مستقل.
فالمستقلُّ: هو المجتهد المطلق وقد مر بيانه.
__________
(1) - المدخل إلى مذهب الإمام أحمد - الرقمية - (ج 1 / ص 195)(1/37)
وأما غير المستقلِّ فقد كان ابن الصلاح ومن دهر طويل طوى بساط المفتي المستقل والمجتهد المطلق وأفضى أمر الفتيا إلى الفقهاء المنتسبين لأئمة المذاهب المتنوعة انتهى. ولا يلزم من طي البساط عدم الوجود فإن فضل الله لا ينحصر في زمان ولا في مكان. سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى ثم إن للمفتي المنتسب إلى أحد المذاهب أربع أحوال:
أحدها : أن لا يكون مقلدا لإمامه لا في مذهبه ولا في دليله لكنه سلك طريقه في الاجتهاد والفتوى ودعا إلى مذهبه وقرأ كثيرا منه على أهله فوجده صوابا وأولى من غيره وأشد موافقة فيه وفي طريقه، وإلى هذا أشرنا أول الكتاب حيث بينا لأي شيء اختار كبار أصحاب أحمد مذهبه على مذهب غيره. ويؤخذ هذا من كلام ابن الصلاح أيضا فإنه قال: ذكر عن أبي إسحاق الإسفراييني أنه حكى عن أصحاب مالك وأحمد وداود وأكثر أصحاب أبي حنيفة أنهم صاروا إلى مذاهب أئمتهم تقليدا لهم. قال ابن الصلاح والصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا وهو أنهم صاروا إلى مذهب الشافعي لا على جهة التقليد له ،لكن لأنهم وجدوا طريقه في الاجتهاد والفتاوى أسدَّ الطريق، قال أبو عمرو: ودعوى انتفاء التقليد مطلقا من كل وجه لا يستقيم إلا أن يكونوا قد أحاطوا بعلوم الاجتهاد المطلق وذلك لا يلائم المعلوم من أحوالهم أو أحوال أكثرهم، وذهب بعض الأصوليين من أصحابنا إلى أنه لم يوجد بعد عصر الصحابة مجتهد مستقلٌّ، وحكى اختلافا بين الحنفية والشافعية في أبي يوسف ومحمد والمزني وابن سريج هل كانوا مستقلين أم لا؟ قال: ولا تستنكر دعوى ذلك فيهم في فن من فنون الفقه بناء على جواز تجزئ منصب الاجتهاد ،ويبعد جريان الخلاف في حق هؤلاء المتبحرين الذين عم نظرهم الأبواب كلها ،وفتوى المنتسبين في هذه الحال في حكم فتوى المجتهد المستقل المطلق يعمل بها ويعتدُّ بها في الإجماع والخلاف.(1/38)
ثانيها : أن يكون مجتهدا مقيَّدا في مذهب إمامه يستقلُّ بتقرير مذهبه بالدليل ،غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه، ولا بد أن يكون عالما بأصول الفقه لكنه قد أخل ببعض الأدوات كالحديث واللغة ،وإذا استدل بدليل إمامه لا يبحث عن معارض له ولا يستوفي النظر في شروطه، وقد اتخذ نصوص إمامه أصولا يستنبط منها كما يفعل المجتهد المستقل بنصوص الشارع، والعامل بفتيا هذا مقلد لإمامه، قال: ومثل هذا يتأدَّى به فرض الكفاية في الفتوى ولا يتأدَّى به في إحياء العلوم التي منها استمدادُ الفتوى ؛لأنه قائمٌ مقام المطلق.
ثالثها : أن لا يبلغَ رتبة أئمة المذهب أصحاب الوجوه والطرق غير أنه فقيه النفس حافظ مذهب إمامه عارف بأدلته قائم بتقريره ونصرته يصور ويحرر ويمهد ويقرر ويزيف ويرجح لكنه قصَّر عن درجة أولئك، إمَّا لكونه لا يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم، وإما لكونه غير متبحر في أصول الفقه ونحوه، غير أنه لا يخلو مثله في ضمن ما يحفظه من الفقه ويعرفه من أدلته عن أطراف من قواعد أصول الفقه ونحوه، وإما لكونه مقصرا في غير ذلك من العلوم التي هي أدوات الاجتهاد الحاصلة لأصحاب الاجتهاد بالوجوه والطرق،قال ابن الصلاح :وهذه هي مرتبة المصنفين إلى أواخر المائة الخامسة وقد قصَّروا عن الأولين في تمهيد المذهب وأمَّا في الفتوى فبسطوا بسط أولئك وقاسوا على المنقول والمسطور غير مقصِّرين على القياس الجلي وإلغاء الفارق.(1/39)
رابعها : أن يحفظَ المذهب ويفهمه في واضحات المسائل ومشكلاتها، غير أنه مقصِّر في تقرير أدلته، فهذا يعتمد نقله وفتواه في نصوص إمامه وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه، وما لم يجده منقولا، فإن وجد في المنقول ما يعلم أنه مثله من غير فضل فكر وتأمل أنه لا فارق بينهما كما في الأمَة بالنسبة إلى العبد المنصوص عليه في إعتاق الشريك جاز له إلحاقه به والفتوى به ،وكذلك ما يعلم اندراجه تحت ضابطٍ منقول ممهد في المذهب فإنه يجوز له إلحاقه به والفتوى به، وما لم يكن كذلك فعليه الإمساكُ عن الفتوى به، قال ابن الصلاح: ويندر عدم ذلك، كما قال أبو المعالي: يبعد أن تقع واقعة لم ينص على حكمها في المذهب ولا هي في معنى شيء من المنصوص فيه من غير فرق ولا هي مندرجة تحت شيء من ضوابطه، ولا بدَّ في صاحب هذه المرتبة أن يكون فقيه النفس، لأن تصور المسائل على وجهها ونقل أحكامها لا يقوم به إلا فقيه النفس، قال ابن حمدان: ويكفيه أن يستحضر أكثر المذاهب مع قدرته على مطالعة بقيته انتهى.
وقال ابن الصلاح: ولا تجوز الفتوى لغير هؤلاء الأصناف الخمسة يعني المجتهد المطلق والطبقات الأربع بعده كما قطع به أبو المعالي في الأصولي الماهر المتصرف في الفقه أنه يجب عليه الاستفتاء، قال ابن الصلاح: وكذا المتصرف النظار البحَّاث في الفقه" هذا كلامه وكلام غيره في طبقات الفقهاء.
المبحث الثامن
( حكم الاجتهاد التَّكْلِيفِيّ )(1)
الاِجْتِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ ؛ إِذْ لاَ بُدَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنِ اسْتِخْرَاجِ الأَْحْكَامِ لِمَا يَحْدُثُ مِنَ الأُْمُورِ .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 1 / ص 318) والبحر المحيط - (ج 8 / ص 75) والتقرير والتحبير - (ج 6 / ص 268) وتيسير التحرير - (ج 4 / ص 352) وفواتح الرحموت - (ج 2 / ص 360)(1/40)
وَيَتَعَيَّنُ الاِجْتِهَادُ عَلَى مَن هُوَ أَهْلُهُ إِنْ سُئِل عَن حَادِثَةٍ وَقَعَتْ فِعْلاً ، وَلَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ ، وَضَاقَ الْوَقْتُ بِحَيْثُ يَخَافُ مَن وَقَعَتْ بِهِ فَوَاتَهَا إِنْ لَمْ يَجْتَهِدْ مَن هُوَ أَهْلٌ لِتَحْصِيل الْحُكْمِ فِيهَا .
وَقِيل : يَتَعَيَّنُ أَيْضًا إِذَا وَقَعَتِ الْحَادِثَةُ بِالْمُجْتَهِدِ نَفْسِهِ وَكَانَ لَدَيْهِ الْوَقْتُ لِلاِجْتِهَادِ فِيهَا ،وَهَذَا رَأْيُ الْبَاقِلاَّنِيِّ وَالآْمِدِيِّ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . وَقَال غَيْرُهُمْ : يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ مُطْلَقًا ، وَقَال آخَرُونَ : يَجُوزُ فِي أَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ(1).
المبحث التاسع
صِفَةُ الاِجْتِهَادِ بِالاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيِّ ( حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ )(2)
يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الاِجْتِهَادِ سِوَى الاِجْتِهَادِ فِي الأَْدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ، يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُ فِي الْقِيَامِ بِالْعِبَادَاتِ عِنْدَ حُصُول الاِشْتِبَاهِ .
فَمِن ذَلِكَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْدِيدِ الْقِبْلَةِ لأَِجْل اسْتِقْبَالِهَا فِي صَلاَتِهِ ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا لاَ يَجِدُ مَن يُخْبِرُهُ بِالْجِهَةِ ، فَيَسْتَدِل عَلَيْهَا بِأَدِلَّتِهَا الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا ، كَمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَمَطَالِعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاتِّجَاهِ الرِّيحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَيَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَبَاحِثِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي مُقَدِّمَاتِ الصَّلاَةِ .
__________
(1) - الإحكام للآمدي 3 / 140 - 146 .
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 1 / ص 318)(1/41)
وَمِن ذَلِكَ الاِجْتِهَادُ عِنْدَ اشْتِبَاهِ ثِيَابٍ طَاهِرَةٍ بِثِيَابٍ نَجِسَةٍ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا ، أَوْ مَاءٍ طَهُورٍ بِمَاءٍ نَجِسٍ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُمَا ، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي مَبَاحِثِ شَرْطِ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ فِي مُقَدِّمَاتِ الصَّلاَةِ كَذَلِكَ .
وَمِنهُ أَيْضًا اجْتِهَادُ مَن حُبِسَ فِي مَكَانٍ لاَ يَعْرِفُ فِيهِ دُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ ، أَوْ وَقْتِ الصَّوْمِ ، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي مَبْحَثِ مَعْرِفَةِ دُخُول الشَّهْرِ مِن أَبْوَابِ الصَّوْمِ(1).
المبحث العاشر
شروط الاجتهاد(2):
أما الشروط اللازم توفرها في المجتهد فيمكن إجمالها فيما يأتي :
الشرط الأول: الإسلام، وهو واضح.
الشرط الثاني: العقل، وهو واضح أيضًا.
الشرط الثالث: البلوغ؛ لأن الصبي لا يعتمد على خبره وشهادته، فمن باب أولى اجتهاده.
الشرط الرابع: إشرافه على نصوص القرآن، أي ما يتعلق منها بالأحكام، وقد ذكر بعض أهل الأصول أنها خمسمائة آية، ومنهم من قال: إن ذلك إنما يعني الآيات الدالة على الأحكام، بدلالة المطابقة فحسب، لا ما دل على الأحكام بالتضمن والالتزام.
الشرط الخامس: معرفة ما يحتاج إليه من السنن المتعلقة بالأحكام.
__________
(1) - نهاية المحتاج 1 / 77 - 80 ، و3 / 171 مصطفى الحلبي ، والمهذب 1 / 8 ، 9 ط عيسى الحلبي ، وبداية المجتهد 2 / 499 ، ط الكليات الأزهرية ، والهداية 3 / 101 ط مصطفى الحلبي ، وكشاف القناع 1 / 39 و2 / 277 ط أنصار السنة
(2) - انظر: "الرسالة" (509 - 511)، و"إبطال الاستحسان" (40)، و"جامع بيان العلم وفضله" (2/61)، و"روضة الناظر" (2/4091 - 406)، و"مجموع الفتاوى" (20/583)، و"إعلام الموقعين" (1/46)، و"شرح الكوكب المنير" (4/459 - 467)، و"مذكرة الشنقيطي" (311، 312). وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 4414) - رقم الفتوى 34462 الاجتهاد.. شروطه وضوابطه(1/42)
الشرط السادس: معرفة مواقع الإجماع والخلاف، حتى لا يفتي بما يخالف الإجماع أو يدعي الإجماع على ما ليس بإجماع، أو يحدث قولاً جديدًا لم يسبق إليه.
الشرط السابع: معرفة القياس، فإنه مناط الاجتهاد وأصل الرأي ومنه يتشعب الفقه، فمن لا يعرفه لا يمكنه استنباط الأحكام.
الشرط الثامن: أن يكون عارفًا بلسان العرب وموضوع خطابهم، وذلك حتى يميز بين الأحكام التي مرجعها إلى اللغة، كصريح الكلام وظاهره ومجمله ومبينه وعامه وخاصه، وحقيقته ومجازه. وغير ذلك.
الشرط التاسع: معرفة الناسح والمنسوخ، حتى لا يفتي بالحكم المنسوخ، قال علي رضي الله عنه لأحد القضاة: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت.
الشرط العاشر: معرفة حال الرواة في القوة والضعف، وتمييز الصحيح من الفاسد، والمقبول من المردود.
الشرط الحادي عشر: أن يكون ذا ملكة يستطيع أن يستنبط بها الأحكام، ولا تتأتى هذه الملكة إلا بالدربة في فروع الأحكام،أي أن يبذل المجتهد وسعه قدر المستطاع وألا يقصر في البحث والنظر،قال الشافعي: «وعليه في ذلك بلوغ غاية جهده، والإنصاف عن نفسه حتى يعرف من أين قال ما يقول، وترك ما يترك»(1).
الشرط الثاني عشر: العدالة، فلا يقبل اجتهاد الفاسق، ويجوز أن يعمل هو باجتهاده.
قال ابن قدامة: « فأما العدالة فليست شرطًا لكونه مجتهدًا، بل متى كان عالمًا بما ذكرناه فله أن يأخذ باجتهاد نفسه، لكنها شرط لجواز الاعتماد على قوله، فمن ليس عدلاً لا تقبل فتياه»(2).
واشترط بعضهم: العلم بالمنطق والكلام، ولم يشترط ذلك الأكثرون. ولا يلزم في هذه الشروط أن يبلغ فيها الشخص المنتهى والغاية، بل يكفيه أن يكون ضابطًا لكل فن منها، وهو ما يعبرون عنه بذي الدرجة الوسطى في هذه العلوم.
__________
(1) - "الرسالة" (511).
(2) - "روضة الناظر" (2/402).(1/43)
الشرط الثالث عشر: أن يحيط بمدارك الأحكام وهي: الكتاب والسُّنَّة والإجماع والقياس والاستصحاب، وغيرها من الأدلة التي يمكن اعتبارها،وأن تكون لديه معرفة بمقاصد الشريعة، والمعتبر في ذلك أن يعرف من الكتاب والسُّنَّة ما يتعلق بالأحكام، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، ومواقع الإجماع والخلاف، وصحيح الحديث وضعيفه.
الشرط الرابع عشر : أن يكون عارفًا بالعام والخاص، والمطلق والمقيد، والنص والظاهر والمؤول، والمجمل والمبين، والمنطوق والمفهوم، والمحكم والمتشابه، والأمر والنهي. ولا يلزمه من ذلك إلا القدر الذي يتعلق بالكتاب والسُّنَّة ويدرك به مقاصد الخطاب ودلالة الألفاظ، بحيث تصبح لديه ملكة وقدرة على استنباط الأحكام من أدلتها.
الشرط الخامس عشر : أن يستند المجتهد في اجتهاده إلى دليل، وأن يرجع إلى أصل.
وقد بوب لذلك ابن عبد البر، فقال: «باب اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة» وبعد ذكره رحمه الله لبعض الآثار ،قال : قال أبو عمر: هذا يوضح لك أن الاجتهاد لا يكون إلا على أصول يضاف إليها التحليل والتحريم، وأنه لا يجتهد إلا عالم بها، ومَن أشكل عليه شيء لزمه الوقوف، ولم يجز له أن يحيل على الله قولا في دينه لا نظير له من أصل، ولا هو في معنى أصل؛ وهو الذي لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديما وحديثا فتدبره.(1)
وقال محمد بن الحسن: مَن كان عالما بالكتاب والسُّنَّة وبقول أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما استحسن فقهاء المسلمين وسعه أن يجتهد رأيه فيما ابتلي به ويقضي به ويمضيه في صلاته وصيامه وحجه وجميع ما أمر به ونهي عنه، فإذا اجتهد ونظر وقاس على ما أشبه ولم يأل وسعه العمل بذلك وإن أخطأ الذي ينبغي أن يقول به.
__________
(1) - جامع بيان العلم وفضله - مؤسسة الريان - (ج 2 / ص 123)(1/44)
وقال الشافعي: لا يقيس إلا مَن جمع آلات القياس، وهي: العلم بالأحكام من كتاب الله فرضه وأدبه وناسخه ومنسوخه, وعامه وخاصه، وإرشاده، وندبه، ويستدل على ما احتمل التأويل منه بسنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبإجماع المسلمين فإذا لم يكن سنة ولا إجماع فالقياس على كتاب الله، فإن لم يكن فالقياس على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يكن فالقياس على قول عامة السلف الذين لا يعلم لهم مخالف، ولا يجوز القول في شيء من العلم إلا من هذه الأوجه، أو من القياس عليها ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالما بما مضى قبله من السنن وأقاويل السلف وإجماع الناس واختلافهم ولسان العرب، ويكون صحيح العقل حتى يفرق بين المشتبه، ولا يعجل بالقول ولا يمتنع من الاستماع ممن خالفه؛ لأن له في ذلك تنبيها على غفلة ربما كانت منه أو تنبيها على فضل ما اعتقد من الصواب وعليه بلوغ غاية جهده والإنصاف من نفسه حتى يعرف من أين قال ما يقوله.قال: وإذا قاس مَن له القياس واختلفوا وسع كلا أن يقول بمبلغ اجتهاده ولم يسعه اتباع غيره فيما أداه إليه اجتهاده.
والاختلاف على وجهين: فما كان منصوصا لم يحل فيه الاختلاف.
وما كان يحتمل التأويل أو يدرك قياسا فذهب المتأول أو القائس إلى معنى يحتمل وخالفه غيره لم أقل: إنه يضيق عليه ضيق الاختلاف في المنصوص.
قال أبو عمر: قد أتى الشافعي -رحمه الله- في هذا الباب بما فيه كفاية وشفاء، وهذا باب يتسع فيه القول جدا وقد ذكرنا منه كفاية.(1)
__________
(1) - جامع بيان العلم وفضله - مؤسسة الريان - (ج 2 / ص 130)(1/45)
وقد ذكر ابن القيم أن من أنواع الرأي المذموم باتفاق السلف(1): " هُوَ الْكَلَامُ فِي الدِّينِ بِالْخَرْصِ وَالظَّنِّ ، مَعَ التَّفْرِيطِ وَالتَّقْصِيرِ فِي مَعْرِفَةِ النُّصُوصِ وَفَهْمِهَا وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا ، فَإِنَّ مَنْ جَهِلَهَا وَقَاسَ بِرَأْيِهِ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، بَلْ لِمُجَرَّدِ قَدْرٍ جَامِعٍ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَلْحَقَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ ، أَوْ لِمُجَرَّدِ قَدْرِ فَارِقٍ يَرَاهُ بَيْنَهُمَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى النُّصُوصِ وَالْآثَارِ ؛ فَقَدْ وَقَعَ فِي الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ الْبَاطِلِ ."
السادس عشر : أن يكون المجتهد عارفًا بالواقعة، مدركًا لأحوال النازلة المجتهد فيها.
قال الشافعي: « ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل وحتى يفرِّق بين المشتبه ولا يَعْجَلَ بالقول به دون التثبيت ،ولا يمتنع من الاستماع ممن خالفه لأنه قد يتنبه بالاستماع لترك الغفلة ويزدادُ به تثبيتاً فيما اعتقده من الصواب،وعليه في ذلك بلوغُ غاية جهده والإنصافُ من نفسه حتى يعرف من أين قال ما يقول وترك ما يترك،ولا يكون بما قال أَعنَى منه بما خالفه حتى يعرف فضل ما يصير إليه على ما يترك إن شاء الله
__________
(1) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 87)(1/46)
فأما مَن تمَّ عقله ولم يكن عالماً بما وصفنا فلا يحلُّ له أن يقول بقياس وذلك أنه لا يعرف ما يقيس عليه كما لا يحل لفقيه عاقل أن يقول في ثمن درهم ولا خبرة له بسوقه،ومن كان عالماً بما وصفنا بالحفظ لا بحقيقة المعرفة : فليس له أن يقول أيضاً بقياس لأنه قد يذهب عليه عَقْل المعاني ،وكذلك لو كان حافظاً مقصِّرَ العقلِ أو مقصِّراً عن علم لسان العرب : لم يكن له أن يقيس من قِبَلِ نقص عقله عن الآلة التي يجوز بها القياس ،ولا نقول يَسَع - هذا والله أعلم - أن يقول أبداً إلا اتباعاً ولا قياساً"(1)..
__________
(1) - الرسالة للشافعي [ ص 511 ](1/47)
وقال ابن القيم: " وَأَمَّا قَوْلُهُ " الْخَامِسَةُ مَعْرِفَةُ النَّاسِ(1)" فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُفْتِي وَالْحَاكِمُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا فِيهِ فَقِيهًا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ثُمَّ يُطَبِّقُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَإِلَّا كَانَ مَا يَفْسُدُ أَكْثَرَ مِمَّا يَصْلُحُ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا فِي الْأَمْرِ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالنَّاسِ تَصَوَّرَ لَهُ الظَّالِمُ بِصُورَةِ الْمَظْلُومِ وَعَكْسُهُ ، وَالْمُحِقُّ بِصُورَةِ الْمُبْطِلِ وَعَكْسُهُ ، وَرَاجَ عَلَيْهِ الْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ وَالِاحْتِيَالُ ، وَتَصَوَّرَ لَهُ الزِّنْدِيقُ فِي صُورَةِ الصِّدِّيقِ ، وَالْكَاذِبُ فِي صُورَةِ الصَّادِقِ ، وَلَبِسَ كُلُّ مُبْطِلٍ ثَوْبَ زُورٍ تَحْتَهَا الْإِثْمُ وَالْكَذِبُ وَالْفُجُورُ ، وَهُوَ لِجَهْلِهِ بِالنَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَعُرْفِيَّاتِهِمْ لَا يُمَيِّزُ هَذَا مِنْ هَذَا ، بَلْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا فِي مَعْرِفَةِ مَكْرِ النَّاسِ وَخِدَاعِهِمْ وَاحْتِيَالِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَعُرْفِيَّاتِهِمْ ، فَإِنَّ الْفَتْوَى تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْعَوَائِدِ وَالْأَحْوَالِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ دِينِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ"(2)
وأما الشروط اللازم توفرها في المسألة المجتَهد فيها فيمكن إجمالها فيما يأتي:
أولاً: ألا يوجد في المسألة نصٌّ قاطع ولا إجماع، وإن وجد نص فيشترط أن يكون هذا النص محتملاً غير قاطع(3).
__________
(1) - أي: الإمام أحمد
(2) - إعلام الموقعين" (4/204، 205) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 5 / ص 59) الشاملة 2
(3) - انظر: "مذكرة الشنقيطي" (314، 315).(1/48)
والدليل على هذا الشرط حديث معاذ - رضي الله عنه – المشهور، وهو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ :« كَيْفَ تَقْضِى إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ ». قَالَ أَقْضِى بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ :« فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِى كِتَابِ اللَّهِ ». قَالَ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ :« فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ فِى كِتَابِ اللَّهِ ». قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِى وَلاَ آلُو. فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَدْرَهُ وَقَالَ :« الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِى رَسُولَ اللَّهِ »(1).
إذ جعل الاجتهاد مرتبة متأخرة إذا لم يوجد كتاب ولا سنة.
وقد كان منهج الصحابة رضي الله عنهم النظر في الكتاب ثم السنة ثم الإجماع ثم الاجتهاد(2).
ومعلوم أن الاجتهاد يكون ساقطًا مع وجود النص، قال ابن عبد البر: «باب اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة»(3)
وقال الخطيب البغدادي أيضًا: «باب في سقوط الاجتهاد مع وجود النص»(4)
وقال ابن القيم: «فصل في تحريم الإفتاء والحكم في دين الله بما يخالف النصوص، وسقوط الاجتهاد والتقليد عند ظهور النص، وذكر إجماع العلماء على ذلك»(5).
__________
(1) - سنن أبى داود(3594 ) حديث حسن وهو مجمع على العمل به
(2) - انظر: "إعلام الموقعين" (1/85، 61، 62، 84)
(3) - "جامع بيان العلم وفضله" (2/55).
(4) - "الفقيه والمتفقه" (1/206).
(5) - "إعلام الموقعين" (2/279).(1/49)
ثانيًا: أن يكون النص الوارد في هذه المسألة -إن ورد فيها نص- محتملاً، قابلاً للتأويل، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: « لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ » . فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِى الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نُصَلِّى حَتَّى نَأْتِيَهَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّى لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ . فَذُكِرَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ(1).
فقد فهم بعض الصحابة من هذا النص ظاهره من الأمر بصلاة العصر في بني قريظة ولو بعد وقتها، وفهم البعض من النص الحث على المسارعة في السير مع تأدية الصلاة في وقتها ولم ينكر - صلى الله عليه وسلم - على الفريقين ما فهم، ولم يعنف الطرفين على ما فعل(2).
قال الشافعي: « قال: فما الاختلاف المحرم؟ قلت: كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - منصوصًا بينًا لم يحل الاختلافُ فيه لمن علمه، وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويدرك قياسًا، فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره، لم أقل: إنه يضيق عليه ضيق الخلاف في المنصوص»(3).
وقد استدل الشافعي على أن الاختلاف مذموم فيما كان نصُّه بينًا بقوله تعالى: { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } [البينة: 4]، وقوله تعالى: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [آل عمران: 105].
__________
(1) - صحيح البخارى(946 )
(2) - انظر: "مجموع الفتاوى" (3/344).
(3) - "الرسالة" (560).(1/50)
وقد عد ابن تيمية ذلك من أسٍباب الاختلاف بين العلماء فقال: "وَتَارَةً يَخْتَلِفُونَ فِي كَوْنِ الدَّلَالَةِ قَطْعِيَّةً لِاخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ : هَلْ هُوَ نَصٌّ أَوْ ظَاهِرٌ ؟ وَإِذَا كَانَ ظَاهِرًا فَهَلْ فِيهِ مَا يَنْفِي الِاحْتِمَالَ الْمَرْجُوحَ أَوْ لَا ؟ وَهَذَا أَيْضًا بَابٌ وَاسِعٌ فَقَدْ يَقْطَعُ قَوْمٌ مِن الْعُلَمَاءِ بِدَلَالَةِ أَحَادِيثَ لَا يَقْطَعُ بِهَا غَيْرُهُمْ إمَّا لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى أَوْ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْمَعْنَى الْآخَرَ يَمْنَعُ حَمْلَ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ "(1).
ثالثًا: ألا تكون المسألة المجتهد فيها من مسائل العقيدة، فإن الاجتهاد والقياس خاصان بمسائل الأحكام.
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 20 / ص 259)(1/51)
قال ابن عبد البر: « " لَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ ، وَهُمْ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ فِي التَّوْحِيدِ وَإِثْبَاتِهِ فِي الْأَحْكَامِ إِلَّا دَاوُدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ الْأَصْفَهَانِيَّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيَّ(1)
__________
(1) - هو: داود بن علي بن خلف الأصبهاني ثم البغدادي، الفقيه المشهور بالظاهري، وكان صاحب مذهب مستقل، وتبعه جمع يعرفون بالظاهرية، وكان ولده أبو بكر محمد على مذهبه، توفي سنة (270ه). انظر: "وفيات الأعيان" (2/255)، و"شذرات الذهب" (2/158)..(1/52)
وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ ، فَإِنَّهُمْ نَفَوَا الْقِيَاسَ فِي التَّوْحِيدِ وَالْأَحْكَامِ جَمِيعًا ، وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ سِوَى الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ ، مِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ الْقِيَاسَ فِي التَّوْحِيدِ وَالْأَحْكَامِ جَمِيعًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهُ فِي التَّوْحِيدِ وَنَفَاهُ فِي الْأَحْكَامِ وَأَمَّا دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ ، فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا الدَّلِيلَ وَالِاسْتِدْلَالَ فِي الْأَحْكَامِ وَأَوْجَبُوا الْحُكْمَ بِخَبَرِ الْآحَادِ الْعُدُولِ كَقَوْلِ سَائِرِ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجُمْلَةِ ، وَالدَّلِيلُ عِنْدَ دَاوُدَ وَمَنْ اتّبَعَهُ نَحْوُ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ لَوْ قَالَ قَائِلٌ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى رَدِّ شَهَادَةِ الْفُسَّاقِ كَانَ مُسْتَدِلًّا مُصِيبًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا وَكَانَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْعَدْلِ ، وَنَحْوُ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَانِعٍ مِنَ السَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ تَرْكُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ ، وَنَحْوُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا إِذَا بِيعَتْ وَلَمْ تُؤَبَّرْ فَثَمَرُهَا لِلْمُبْتَاعِ ، وَمِثْلُ هَذَا النَّحْوِ حَيْثُ كَانَ مِنَ الْكِتَابِ والسُّنَّة ، وَقَالَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ : فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ(1/53)
نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ وَضَرْبٌ مِنْهُ عَلَى مَا رَتَّبَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ مَرَاتِبِ الْقِيَاسِ وَضُرُوبِهِ وَأَنَّهُ يَدْخُلُهُ مَا يَدْخُلُ الْقِيَاسَ مِنَ الْعِلَلِ ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَنَّهُ هُوَ القِيَاسُ بِعَيْنِهِ وَفَحْوَى خِطَابِهِ " قَالَ أَبُو عُمَرَ : " الْقِيَاسُ الَّذِي لَا يُخْتَلَفُ أَنَّهُ قِيَاسٌ هُوَ تَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ إِذَا أَشْبَهَهُ وَالْحُكْمُ لِلنَّظِيرِ بِحُكْمِ نَظِيرِهِ إِذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ وَالْحُكْمُ لِلْفَرْعِ بِحُكْمِ أَصْلِهِ إِذَا قَامَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا وَقَعَ الْحُكْمُ ، وَمِثَالُ الْقِيَاسِ أَنَّ السُّنَّةَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا وَرَدَتْ بِتَحْرِيمِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ بِالْوَرِقِ وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَيَدًا بِيَدٍ فَقَالَ قَائِلُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ : الْقِيَاسُ حُكْمُ الزَّبِيبِ وَالسُّلْتِ وَالدُّخْنِ وَالْأُرْزِ كَحُكْمِ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَكَذَلِكَ الْفُولُ وَالْحِمَّصُ ، وَكُلُّ مَا يُكَالُ وَيُؤْكَلُ وَيُدَّخَرُ وَيَكُونُ قُوتًا وَإِدَامًا وَفَاكِهَةً مُدَّخَرَةً ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ مَوْجُودَةٌ ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَابَعَهُمْ وَقَالَ آخَرُونَ : الْعِلَّةُ فِي الْبُرِّ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَوْزُونٌ أَوْ مَكِيلٌ فَكُلُّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا مَا يَجُوزُ فِي السُّنَّةِ مِنَ النِّسَاءِ وَالتَّفَاضُلِ هَذَا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَمَنْ(1/54)
تَابَعَهُمْ وَقَالَ آخَرُونَ : الْعِلَّةُ فِي الْبُرِّ أَنَّهُ مَأْكُولٌ وَكُلُّ مَأْكُولٍ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ، يَدًا بِيَدٍ ، سَوَاءٌ كَانَ مُدَّخَرًا أَوْ غَيْرَ مُدَّخَرٍ ، سَوَاءٌ كَانَ يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَوْ لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ ، هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَهُ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الذَّهَبَ وَالْوَرِقَ لَا يُشْبِهُهُمَا غَيْرُهُمَا مِنَ الْمَوْزُونَاتِ ، لِأَنَّهُمَا قِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ وَأْثَمْانُ الْمَبِيعَاتِ فَلَيْسَتَا كَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمَذْكُورَاتِ مَعَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَجُوزَانِ تَسْلِيمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهُمَا وَإِلَى هَذَا مَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي تَعْلِيلِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ خَاصَّةً ، وَقَالَ دَاوُدُ : الْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقُ بِالْوَرِقِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ ، هَذِهِ السِّتَّةُ الْأَصْنَافُ لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْهَا بِجِنْسِهِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْهَا بِجِنْسِهِ وَلَا بِغَيْرِ جِنْسِهِ مِنْهَا نَسِيئَةً وَمَا عَدَا ذَلِكَ كُلِّهِ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ نَسِيئَةً وَيَدًا بِيَدٍ ، مُتَفَاضِلًا وَغَيْرَ مُتَفَاضِلٍ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَكُلُّ بَيْعٍ حَلَالٌ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَمْ يَحْكُمْ لِشَيْءٍ بِمَا فِي مَعْنَاهُ وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْمَعَانِيَ وَالْعِلَلَ وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا سَبَقَهُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ إِلَّا طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مُبْتَدَعَةُ ابْنِ سَيَّارٍ النَّظَّامِ وَمَنْ(1/55)
سَلَكَ سَبِيلَهُ ، وَأَمَّا فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَلَفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَقَدْ ذُكِرَ حُجَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَمَا اعْتَلَّ بِهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ وَالْأَثَرِ فِي كِتَابِ التَّمْهِيدِ فَأَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ هَا هُنَا ، وَأَمَّا دَاوُدُ فَلَمْ يَقِسْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ السِّتِّ فِي الْحَدِيثِ غَيْرَهَا ، وَرَدَّ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلَ وَحَكَمُوا لِكُلِّ شَيْءٍ مَذْكُورٍ بِمَا فِي مَعْنَاهُ وَرَدُّوا عَلَى دَاوُدَ مَا أَصَّلَ بِضُرُوبٍ مِنَ الْقَوْلِ ، وَأَلْزَمُوهُ صُنُوفًا مِنَ الْإِلْزَامَاتِ يَطُولُ ذِكْرُهَا لَا سَبِيلَ إِلَى الْإِتْيَانِ بِهَا فِي كِتَابِنَا هَذَا وَحُجَجُ الْفَرِيقَيْنِ كَثِيرَةٌ جِدًّا مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ قَدْ أَفْرَدُوا لَهَا كِتَابًا " »(1).
__________
(1) - "جامع بيان العلم وفضله" (2/74).(1/56)
قلت : وهذا الشرط فيه نظر ، فقد اجتهد الصحابة والتابعون ومن بعدهم بمسائل العقيدة الفرعية ، والفِرق التي شذت عن أهل السنة والجماعة ، إنما كان الخلاف معها بسبب اجتهادها ببعض مسائل العقيدة ،المخالفة للمشهور ،ومن الأمثلة على مثل هذه المسائل الجزئية في خلاف العقيدة مسألة رؤية سيدنا محمد ربه في المعراج، فَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَدْ خَالَفَتِ ابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَبَّهُ ليلة المعراج،وَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ(1)مَعَ أَنَّهُمْ لَا يُبَدِّعُونَ الْمَانِعِينَ الَّذِينَ وَافَقُوا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
__________
(1) - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:(مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى) قَالَ:رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ. صحيح مسلم (455 ) قلت:وهذا هوالراجح في هذه المسألة بالتالي لا خلاف بين الأمة فالخلاف موهو م.(1/57)
وَكَذَلِكَ أَنْكَرَتْ عائشة رضي الله عنها أَنْ يَكُونَ الْأَمْوَاتُ يَسْمَعُونَ دُعَاءَ الْحَيِّ مستدلة بقول اللَّهُ تَعَالَى:« إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» (النمل:80) »(1). وَمَعَ هَذَا فقد ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الْمَوْتَى يَسْمَعُونَ خَفْقَ النِّعَالِ(2)،وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :" مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ عَلَى قَبْرِ رَجُلٍ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ " صَحَّ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ(3).
رابعًا: أن تكون المسألة المجتهد فيها من النوازل، أو مما يمكن وقوعه في الغالب والحاجة إليه ماسة. أما استعمال الرأي قبل نزول الواقعة والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات والاستغراق في ذلك، فهو مما كرهه جمهور أهل العلم واعتبروا ذلك تعطيلاً للسنن وتركًا لما يلزم الوقوف عليه من كتاب الله عز وجل ومعانيه(4).
__________
(1) - صحيح البخاري( 1370و1371)
(2) - كما في صحيح مسلم ( 7396) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« إِنَّ الْمَيِّتَ إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إِذَا انْصَرَفُوا ».
(3) تفسير ابن كثير ، (ج 6 / ص 325) . مُعْجَمُ الشُّيُوخِ لِابْنِ جُمَيْعٍ الصَّيْدَاوِيِّ (326 ) من طرق يقوي بعضها. ابن تيمية، مجموع الفتاوى ، (ج 24 / ص 174).
(4) - انظر: "جامع بيان العلم وفضله" (2/139)، و"إعلام الموقعين" (1/69)، و"جامع العلوم والحكم" (1/240 - 252)، و"شرح الكوكب المنير" (4/584 - 588).(1/58)
وقد استدل الجمهور على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَىْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ »(1).
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا قِيلَ وَقَالَ ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ »(2).
قال ابن القيم: « ولكن إنما كانوا [أي الصحابة رضي الله عنهم } يسألونه [أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ] عما ينفعهم من الواقعات، ولم يكونوا يشتغلون بتفريع المسائل وتوليدها، بل كانت هممهم مقصورة على تنفيذ ما أمرهم به فإذا وقع بهم أمر سألوا عنه فأجابهم، وقد قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ } [المائدة: 101، 102].
ولم ينقطع حكم هذه الآية، بل لا ينبغي للعبد أن يتعرض للسؤال عما إن بدا له ساءه، بل يستعفي ما أمكنه ويأخذ بعفو الله ...»(3).
فعلم بذلك أن المجتهد لا ينبغي له أن يبحث ابتداء في مسألةٍ لا تقع، أو وقوعها نادر، لكن إن سئل عن مسألة من هذا القبيل، فهذه قضية أخرى، لعل الكلام عليها أليق بمسائل الفتوى.
المبحث الحادي عشر
سقوط الاجتهاد مع وجود النص(4)
__________
(1) - صحيح البخارى(7289) ومسلم (6265 )
(2) - صحيح البخارى(1477 ) ومسلم (4582 )
(3) - إعلام الموقعين - (ج 1 / ص 71) ومعالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة - (ج 1 / ص 434)
(4) - الفقيه والمتفقه - (ج 1 / ص 504)-باب في سقوط الاجتهاد مع وجود النص(543-553) ومجلة مجمع الفقه الإسلامي - (ج 2 / ص 837) و(ج 2 / ص 11311)(1/59)
قال الخطيب البغدادي : " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ , قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ , فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ " فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إِذَا رَأَى أَحَدُنَا رَجُلًا عَلَى امْرَأَتِهِ , يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ ؟ فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ " , فَقَالَ هِلَالٌ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ , إِنِّي لَصَادِقٌ , وَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ فِي أَمْرِي مَا يُبْرِئُ ظَهْرِي مِنَ الْحَدِّ , فَنَزَلَتْ : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ قَرَأَ حَتَّى بَلَغَ مِنَ الصَّادِقِينَ , فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا , فَجَاءَا , فَقَامَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ , فَشَهِدَ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ , فَهَلْ مِنكُمَا مِن تَائِبٍ ؟ " , ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ , فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْخَامِسَةِ , أَنَّ غَضِبَ اللَّهِ عَلَيْهَا , إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ , وَقَالُوا لَهَا : إِنَّهَا مُوجِبَةٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا سَتَرْجِعُ , فَقَالَتْ : لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ , فَمَضَتْ , فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " أَبْصِرُوهَا , فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ , سَابِغَ الْإِلْيَتَيْنِ , خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ " , فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ , فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " لَوْلَا مَا مَضَى(1/60)
مِن كِتَابِ اللَّهِ , لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ " قُلْتُ : عَنَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا مَضَى مِن كِتَابِ اللَّهِ قَوْلَهُ : وَيَدْرَأُ عَنهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشَهْدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ , وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ : لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهَا لِمُشَابَهَةِ وَلَدِهَا الرَّجُلَ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ",(1)
وعَن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ , عَن أَبِيهِ , قَالَ : أَرْسَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى شَيْخٍ مِن بَنِي زُهْرَةَ كَانَ يَسْكُنُ دَارَنَا , فَذَهَبْتُ مَعَهُ إِلَى عُمَرَ , فَسَأَلَهُ عَن وِلَادٍ مِن وِلَادِ الْجَاهِلِيَّةِ , فَقَالَ : أَمَّا الْفِرَاشُ فَلِفُلَانٍ , وَأَمَّا النُّطْفَةُ فَلِفُلَانٍ , فَقَالَ عُمَرُ يَعْنِي ابْنَ الْخَطَّابِ - : " صَدَقْتَ , وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالْفِرَاشِ "(2)
__________
(1) - صحيح البخارى (4747 ) -الخدلج : ممتلئ الساقين -السابغ : العظيم
(2) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 7 / ص 402)(15722) صحيح(1/61)
وقَالَ مَخْلَدُ بْنُ خُفَافٍ: ابْتَعْتُ غُلَامًا , فَاسْتَغْلَلْتُهُ , ثُمَّ ظَهَرَتْ مِنهُ عَلَيَّ عَيْبٌ , فَخَاصَمْتُ فِيهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ , فَقَضَى لِي بِرَدِّهِ , وَقَضَى عَلَيَّ بِرَدِّ غَلَّتِهِ , فَأَتَيْتُ عُرْوَةَ فَأَخْبَرْتُهُ , فَقَالَ أَرُوحُ إِلَيْهِ الْعَشِيَّةَ فَأُخْبِرُهُ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْنِي : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ " , فَعُجِّلْتُ إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ مَا أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ , عَن عَائِشَةَ , عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَقَالَ عُمَرُ : فَمَا أَيْسَرَ عَلَيَّ مِن قَضَاءٍ قَضَيْتُهُ , اللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أُرِدْ فِيهِ إِلَّا الْحَقَّ , فَبَلَغَتْنِي فِيهِ سَنَةٌ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَأَرُدُّ قَضَاءَ عُمَرَ , وَأُنَفِّذُ سَنَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَاحَ إِلَيْهِ عُرْوَةُ , فَقَضَى لِي أَنْ آخُذَ الْخَرَاجَ مِنَ الَّذِي قَضَى بِهِ عَلَيَّ لَهُ"(1)
__________
(1) - معرفة السنن والآثار للبيهقي (12 ) صحيح لغيره(1/62)
وعَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ , قَالَ : " قَضَى سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَلَى رَجُلٍ بِقَضِيَّةٍ بِرَأْيِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ , فَأَخْبَرْتُهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِخِلَافِ مَا قَضَى بِهِ , فَقَالَ سَعْدٌ لِرَبِيعَةَ : هَذَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ , وَهُوَ عِنْدِي ثِقَةٌ يُخْبِرُنِي عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِخِلَافِ مَا قَضَيْتُ بِهِ , فَقَالَ لَهُ رَبِيعَةُ : قَدِ اجْتَهَدْتَ وَمَضَى حُكْمُكَ , فَقَالَ سَعْدٌ : وَاعَجَبًا أُنْفِذُ قَضَاءَ سَعْدِ ابْنِ أُمِّ سَعْدٍ , وَأَرُدُّ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ بَلْ أَرُدُّ قَضَاءَ سَعْدِ ابْنِ أُمِّ سَعْدٍ , وَأُنْفِذُ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَدَعَا سَعْدٌ بِكِتَابِ الْقَضِيَّةِ , فَشَقَّهُ وَقَضَى لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ"
وعَن هِشَامِ بْنِ يَحْيَى الْمَخْزُومِيِّ : أَنَّ رَجُلًا , مِن ثَقِيفٍ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَسَأَلَهُ عَنِ امْرَأَةٍ حَاضَتْ وَقَدْ كَانَتْ زَارَتِ الْبَيْتَ يَوْمَ النَّحْرِ : أَلَهَا أَنْ تَنْفِرَ قَبْلَ أَنْ تَطْهُرَ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : " لَا " فَقَالَ لَهُ الثَّقَفِيُّ : فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَفْتَانِي فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ مَا أَفْتَيْتَ قَالَ فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ يَضْرِبُهُ بِالدِّرَّةِ وَيَقُولُ : " لِمَ تَسْتَفْتِنِي فِي شَيْءٍ قَدْ أَفْتَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "
وعَن عَتَّابِ بْنِ مَنصُورٍ , قَالَ : قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : " لَا رَأْيَ لِأَحَدٍ مَعَ سُنَّةٍ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "(1/63)
وعَن حَمَّادٍ , قَالَ : كُنْتُ أَسْأَلُ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الشَّيْءِ , اهْتَمُّ بِهِ قَالَ : فَيَقِيسُهُ لِي , وَيَجِيءُ الشَّيْءُ فَلَا أَعْرِفُهُ , فَيَقُولُ : " لَيْسَ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَجِيءُ الْقِيَاسُ " قُلْتُ : وَهَذَا صَحِيحٌ , مِثَالُهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : قَضَى فِي الْجَنِينِ يُجْنَي عَلَى أُمِّهِ فَتُسْقِطُهُ مَيِّتًا , أَنَّ فِيهِ غُرَّةٌ قَوَّمَهَا أَهْلُ الْعِلْمِ : خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ , وَسَوَاءٌ كَانَ الْجَنِينُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى , وَلَوْ أَسْقَطَتِ الْجَنِينَ أُمُّهُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ نُظِرَ , فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا جُعِلَ فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ , وَإِنْ كَانَ أُنْثَى جُعِلَ فِيهِ خَمْسُونَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ عَلَى الْجَنِينِ غَيْرُهُ ".
وقَالَ عُمَرُ بْنُ شَبِيبٍ: سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ سَلَمَةَ , يَقُولُ لِأَبِي حَنِيفَةَ : " إِنَّمَا نَحْتَاجُ إِلَى قَوْلِكَ , إِذَا لَمْ نَجِدْ أَثَرًا , فَإِذَا وَجَدْنَا أَثَرًا ضَرَبْنَا بِقَوْلِكَ الْحَائِطَ " قُلْتُ : وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي عَيْبِ الْقِيَاسِ قَوْلًا , يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقِيَاسَ الْمُخَالِفَ لِلنَّصِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وعَن وَكِيعٍ , قَالَ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْبَوْلُ فِي الْمَسْجِدِ أَحْسَنُ مِن بَعْضِ الْقِيَاسِ "
وقَالَ سَمِعْتُ وَكِيعَ بْنَ الْجَرَّاحِ لِيَحْيَى بْنَ صَالِحٍ الْوحَاظِيِّ : يَا أَبَا زَكَرِيَّا احْذَرِ الرَّأْيَ , فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا حَنِيفَةَ , يَقُولُ : " الْبَوْلُ فِي الْمَسْجِدِ أَحْسَنُ مِن بَعْضِ قِيَاسِهِمْ " (صحيح)
وعَن زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ , قَالَ : " إِنَّمَا نَأْخُذُ بِالرَّأْيِ مَا لَمْ يَجِئِ الْأَثَرُ , فَإِذَا جَاءَ الْأَثَرُ تَرَكْنَا الرَّأْيَ , وَأَخَذْنَا بِالْأَثَرِ "(1/64)
المبحث الثاني عشر
دليلُ المجتهدين في زيادة الأحكام المستنبطة من الكتاب والسُّنَّة(1)
قال ابن عليش : " فَإِنْ قِيلَ فَمَا دَلِيلُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي زِيَادَاتِهِمْ الْأَحْكَامَ الَّتِي اسْتَنْبَطُوهَا عَلَى صَرِيحِ الْكِتَابِ والسُّنَّة وَهَلَّا كَانُوا وَقَفُوا عَلَى حَدِّ مَا رَأَوْهُ صَرِيحًا فَقَطْ وَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا ; لِحَدِيثِ " مَا تَرَكْتُ شَيْئًا يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ عَنِ النَّارِ إِلَّا قَدْ بَيَّنْتُهُ لَكُمْ ، وَإِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّهَا لَا تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ أَقْصَى رِزْقَهَا ، وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا ، فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ، وَلَا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ رِزْقِهِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ لَا يُدْرِكُ مَا عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ "(2).
فَالْجَوَابُ :
__________
(1) - فتاوى ابن عليش - (ج 1 / ص 91)
(2) - مصنف عبد الرزاق(20101) وجامع معمر (707) وقيه جهالة(1/65)
دَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ الِاتِّبَاعُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي تَبْيِينِهِ مَا أُجْمِلَ فِي الْقُرْآنِ مَعَ قوله تعالى :{ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } (38) سورة الأنعام، فَإِنَّهُ لَوْلَا بَيَّنَ لَنَا كَيْفِيَّةَ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا اهْتَدَى أَحَدٌ مِن الْأَئِمَّةِ لِمَعْرِفَةِ اسْتِخْرَاجِ ذَلِكَ مِن الْقُرْآنِ وَلَا كُنَّا نَعْرِفُ عَدَدَ رَكَعَاتِ الْفَرَائِضِ وَلَا النَّوَافِلِ وَغَيْرَ ذَلِكَ فَكَمَا أَنَّ الشَّارِعَ بَيَّنَ لَنَا بِسُنَّتِهِ مَا أُجْمِلَ فِي الْقُرْآنِ فَكَذَلِكَ الْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ بَيَّنُوا لَنَا مَا أُجْمِلَ فِي أَحَادِيثِ الشَّرِيعَةِ وَلَوْلَا بَيَانُهُمْ لَنَا ذَلِكَ لَبَقِيَتْ الشَّرِيعَةُ عَلَى إجْمَالِهَا , وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي أَهْلِ كُلِّ دَوْرٍ بِالنِّسْبَةِ لِلدَّوْرِ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ الْإِجْمَالَ لَمْ يَزَلْ سَارِيًا فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَوْلَا ذَلِكَ مَا شُرِحَتْ الْكُتُبُ وَلَا عُمِلَ عَلَى الشُّرُوحِ حَوَاشٍ .(1/66)
وَسَمِعْت بَعْضَ أَهْلِ الْكَشْفِ يَقُولُ إنَّمَا يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى الْمُجْتَهِدُونَ بِالِاجْتِهَادِ لِيَحْصُلَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِن التَّشْرِيعِ وَتَثْبُتَ لَهُمْ فِيهِ الْقَدَمُ الرَّاسِخَةُ فَلَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ سِوَى نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَيُحْشَرُ عُلَمَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَحُفَّاظُ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ الْعَارِفُونَ بِمَعَانِيهَا فِي صُفُوفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ لَا فِي صُفُوفِ الْأُمَمِ فَمَا مِن نَبِيٍّ أَوْ رَسُولٍ إلَّا وَبِجَانِبِهِ عَالِمٌ مِن عُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَكْثَرُ وَكُلُّ عَالِمٍ نَهِمٌ لَهُ دَرَجَةُ الْأُسْتَاذِيَّةِ فِي عِلْمِ الْأَحْكَامِ وَالْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ وَالْمُنَزَّلَاتِ إلَى خِتَامِ الدُّنْيَا بِخُرُوجِ الْمَهْدِيِّ عليه السلام وَمِن هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ جَمِيعَ الْمُجْتَهِدِينَ تَابِعُونَ لِلشَّارِعِ فِي التَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ فَيَا سَعَادَةَ مَن أَطْلَعَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى عَيْنِ الشَّرِيعَةِ الْأُولَى كَمَا أَطْلَعَنَا وَرَأَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَيَا فَوْزَهُ وَكَثْرَةَ سُرُورِهِ إذَا رَآهُ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخَذُوا بِيَدِهِ وَتَبَسَّمُوا فِي وَجْهِهِ وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ يُبَادِرُ إلَى الشَّفَاعَةِ فِيهِ وَيُزَاحِمُ غَيْرَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَقُولُ مَا يَشْفَعُ فِيهِ إلَّا أَنَا وَيَا نَدَامَةَ مَن قَالَ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَالْبَاقِي مُخْطِئٌ فَإِنَّ جَمِيعَ مَن خَطَّأَهُمْ يَعْبِسُونَ فِي وَجْهِهِ لِتَخْطِئَتِهِ لَهُمْ وَتَجْرِيحِهِمْ بِالْجَهْلِ وَسُوءِ الْأَدَبِ وَفَهْمِهِ السَّقِيمِ فَاسْعَ يَا أَخِي فِي الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ عَلَى وَجْهِ(1/67)
الْإِخْلَاصِ وَالْوَرَعِ وَالْعَمَلِ بِكُلِّ مَا عَلِمْت حَتَّى تُطْوَى لَك الطَّرِيقُ بِسُرْعَةٍ وَتُشْرِفَ عَلَى مَقَامَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ وَتَقِفَ عَلَى الْعَيْنِ الْأُولَى الَّتِي أَشْرَفَ عَلَيْهَا إمَامُك وَتُشَارِكَهُ فِي الِاغْتِرَافِ مِنهَا فَكَمَا كُنْت مُتَّبِعًا لَهُ حَالَ سُلُوكِك مَعَ حِجَابِك عَن الْعَيْنِ الَّتِي يَشْهَدُ مِنهَا كَذَلِكَ تَكُونُ مُتَّبِعًا لَهُ فِي الِاغْتِرَافِ مِن الْعَيْنِ الَّتِي اغْتَرَفَ مِنهَا ثُمَّ إذَا دَخَلْت ذَلِكَ الْمَقَامَ فَاسْتَصْحِبْ شُهُودَ الْعَيْنِ وَمَا تَفَرَّعَ مِنهَا فِي سَائِرِ الْأَدْوَارِ تَصِيرُ تُوَجِّهُ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ ،وَلَا تَرُدُّ مِنهَا قَوْلًا وَاحِدًا ،إمَّا لِصِحَّةِ دَلِيلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنهُمْ عِنْدَك مِن تَخْفِيفٍ أَوْ تَشْدِيدٍ وَإِمَّا لِشُهُودِك صِحَّةَ اسْتِنْبَاطِهِمْ وَاتِّصَالِهِمْ بِعَيْنِ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ نَزَلْت فِي آخِرِ الْأَدْوَارِ . فَإِنْ قُلْت إذَا قُلْتُمْ إنَّ جَمِيعَ مَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنهَا عَن الشَّرِيعَةِ فَأَيْنَ الْخَطَأُ الْوَارِدُ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ ، فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ ، فَلَهُ أَجْرٌ " ،(1). مَعَ اسْتِمْدَادِ الْعُلَمَاءِ كُلِّهِمْ مِن بَحْرِ الشَّرِيعَةِ .
__________
(1) - صحيح البخارى (7352 ) ومسلم (4584 )(1/68)
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَطَأِ هُنَا هُوَ خَطَأُ الْمُجْتَهِدِ فِي عَدَمِ مُصَادَفَةِ الدَّلِيلِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لَا الْخَطَأُ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَن الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ عَن الشَّرِيعَةِ فَلَا أَجْرَ لَهُ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - :« مَن أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ »(1)وَقَدْ أَثْبَتَ الشَّارِعُ لَهُ الْأَجْرَ فَمَا بَقِيَ إلَّا أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا اجْتَهَدَ وَصَادَفَ نَفْسَ الدَّلِيلِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ عَن الشَّارِعِ فَلَهُ أَجْرَانِ أَجْرُ التَّتَبُّعِ وَأَجْرُ مُصَادَفَةِ الدَّلِيلِ وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ عَيْنَ الدَّلِيلِ وَإِنَّمَا صَادَفَ حُكْمَهُ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَجْرُ التَّتَبُّعِ فَالْمُرَادُ بِالْخَطَأِ هُنَا الْخَطَأُ الْإِضَافِيُّ لَا الْخَطَأُ الْمُطْلَقُ فَافْهَمْ فَإِنَّ اعْتِقَادَنَا أَنَّ سَائِرَ أُمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هُدًى مِن رَبِّهِمْ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِمْ ،وَمَا ثَمَّ إلَّا قَرِيبٌ مِن عَيْنِ الشَّرِيعَةِ وَأَقْرَبُ وَبَعِيدٌ عَنهَا وَأَبْعَدُ بِحَسَبِ طُولِ السَّنَدِ وَقِصَرِهِ وَكَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِصِحَّةِ جَمِيعِ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ نَسْخِهَا مَعَ اخْتِلَافِهَا وَمُخَالَفَةِ أَشْيَاءَ فِيهَا لِظَاهِرِ شَرِيعَتِنَا ،فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ اعْتِقَادُ صِحَّةِ جَمِيعِ مَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ وَإِنْ خَالَفَ كَلَامُهُمْ ظَاهِرَ كَلَامِ إمَامِهِمْ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كُلَّمَا بَعُدَ عَن شُعَاعِ نُورِ الشَّرِيعَةِ خَفِيَ مَدْرَكُهُ وَنُورُهُ وَظَنَّ غَيْرُهُ أَنَّ كَلَامَهُ خَارِجٌ عَن الشَّرِيعَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
__________
(1) - صحيح البخارى(2697 ) ومسلم (4589)(1/69)
وَلَعَلَّ ذَلِكَ سَبَبُ تَضْعِيفِ الْعُلَمَاءِ كَلَامَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي سَائِرِ الْأَدْوَارِ إلَى عَصْرِنَا هَذَا فَتَجِدُ أَهْلَ كُلِّ دَوْرٍ يَطْعَنُ فِي صِحَّةِ قَوْلِ بَعْضِ الْأَدْوَارِ الَّتِي قَبْلَهُ وَأَيْنَ مَن يَخْرِقُ بَصَرُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ جَمِيعَ الْأَدْوَارِ الَّتِي مَضَتْ قَبْلَهُ حَتَّى يَصِلَ إلَى شُهُودِ اتِّصَالِهَا بِعَيْنِ الشَّرِيعَةِ الْأُولَى الَّتِي هِيَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِمَن هُوَ مَحْجُوبٌ عَن ذَلِكَ ، فَإِنَّ بَيْنَ الْمُقَلِّدِينَ الْآنَ وَبَيْنَ الدَّوْرِ الْأَوَّلِ مِن الصَّحَابَةِ نَحْوَ خَمْسَةَ عَشَرَ دَوْرًا مِن الْعُلَمَاءِ فَاعْلَمْ ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُ الْعَارِفِ الشَّعْرَانِيِّ بِتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ .(1/70)
وَقَالَ فِي الْمَدْخَلِ: فَلَمَّا أَنْ مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ طَاهِرِينَ عَقَبَهُمْ التَّابِعُونَ لَهُمْ رضي الله تعالى عنهم فَجَمَعُوا مَا كَانَ مِن الْأَحَادِيثِ مُتَفَرِّقًا وَبَقِيَ أَحَدُهُمْ يَرْحَلُ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ وَالْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ وَضَبَطُوا أَمْرَ الشَّرِيعَةِ أَتَمَّ ضَبْطٍ وَتَلَقَّوْا الْأَحْكَامَ وَالتَّفْسِيرَ مِن فِي الصَّحَابَةِ رضوان الله عليهم ..(1/71)
وَقَالَ عبد الله بن مسعود فِي ابْنِ عَبَّاسٍ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ"(1)فَمَن لَقِيَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ كَيْفَ يَكُونُ عِلْمُهُ وَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ وَعَمَلُهُ فَحَصَلَ لِلْقَرْنِ الثَّانِي نَصِيبٌ وَافِرٌ أَيْضًا فِي إقَامَةِ هَذَا الدِّينِ , وَرُؤْيَةِ مَن رَأَى بِعَيْنِ رَأْسِهِ صَاحِبَ الشَّرِيعَةِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - فَلِذَلِكَ كَانُوا خَيْرًا مِن الَّذِينَ بَعْدَهُمْ ثُمَّ عَقَبَهُمْ التَّابِعُونَ لَهُمْ , وَهُمْ تَابِعُو التَّابِعِينَ رضي الله عنهم فِيهِمْ حَدَّثَ الْفُقَهَاءُ الْمُقَلِّدُونَ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِمْ فِي النَّوَازِلِ الْكَاشِفُونَ لِلْكُرُوبِ فَوَجَدُوا الْقُرْآنَ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مَجْمُوعًا مُيَسَّرًا وَوَجَدُوا الْأَحَادِيثَ قَدْ ضُبِطَتْ , وَأُحْرِزَتْ فَجَمَعُوا مِنهَا مَا كَانَ مُفَرَّقًا وَتَفَقَّهُوا فِي الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَاسْتَخْرَجُوا فَوَائِدَ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ وَاسْتَنْبَطُوا مِنهَا فَوَائِدَ وَأَحْكَامًا وَبَيَّنُوا عَلَى مُقْتَضَى الْمَنقُولِ وَالْمَعْقُولِ وَدَوَّنُوا الدَّوَاوِينَ وَيَسَّرُوا عَلَى النَّاسِ وَأَزَالُوا الْمُشْكِلَاتِ بِاسْتِخْرَاجِ الْفُرُوعِ مِن الْأُصُولِ وَرَدُّوا الْفَرْعَ إلَى أَصْلِهِ وَتَبَيَّنَ الْأَصْلُ مِن فَرْعِهِ فَانْتَظَمَ الْحَالُ وَاسْتَقَرَّ مِن الدِّينِ لِأُمَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - بِسَبَبِهِمْ الْخَيْرُ الْعَمِيمُ فَحَصَلَتْ لَهُمْ فِي إقَامَةِ هَذَا الدِّينِ خُصُوصِيَّةٌ أَيْضًا بِلِقَائِهِمْ مَن رَأَى صَاحِبَ الْعِصْمَةِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُبْقُوا لِمَن بَعْدَهُمْ شَيْئًا يَحْتَاجُ أَنْ
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 12 / ص 111)(32884) صحيح موقوف(1/72)
يَقُولَ بِهِ بَلْ كُلُّ مَن أَتَى بَعْدَهُمْ إنَّمَا هُوَ مُقَلِّدٌ لَهُمْ فِي الْغَالِبِ وَتَابِعٌ لَهُمْ فَإِنْ ظَهَرَ لَهُمْ فِقْهٌ غَيْرُ فِقْهِهِمْ أَوْ فَائِدَةٌ غَيْرُ فَائِدَتِهِمْ فَمَرْدُودٌ كُلُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَعْنِي بِذَلِكَ أَنْ يَزِيدَ فِي حُكْمٍ مِن الْأَحْكَامِ الَّتِي تَقَرَّرَتْ أَوْ يُنْقِصَ مِنهَا فَذَلِكَ مَرْدُودٌ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا مَا اسْتَخْرَجَهُ مَن بَعْدَهُمْ مِن الْفَوَائِدِ غَيْرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْكَامِ فَمَقْبُولٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي الْقُرْآنِ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا يَخْلَقُ ،وَلا يَخْلَقُ مِن كَثْرَةِ الرَّدِّ "(1)فَعَجَائِبُ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ لَا تَنْقَضِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلُّ قَرْنٍ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ فَوَائِدَ جَمَّةً خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا وَضَمَّهَا إلَيْهِ لِتَكُونَ بَرَكَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُسْتَمِرَّةً إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ قَالَ عليه الصلاة والسلام :« مَثَلُ أُمَّتِى مَثَلُ الْمَطَرِ لاَ يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ »(2)يَعْنِي فِي الْبَرَكَةِ وَالْخَيْرِ وَالدَّعْوَى إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَتَبْيِينِ الْأَحْكَامِ لَا أَنَّهُمْ يُحْدِثُونَ حُكْمًا مِن الْأَحْكَامِ اللَّهُمَّ إلَّا مَا يَنْدُرُ وُقُوعُهُ مِمَّا لَمْ يَقَعْ فِي زَمَانِ مَن تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ لَا بِالْفِعْلِ وَلَا بِالْقَوْلِ , وَلَا بِالْبَيَانِ فَيَجِبُ إذْ ذَاكَ أَنْ يُنْظَرَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ عَنهُمْ الْمُبَيَّنَةِ الصَّرِيحَةِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مُقْتَضَى أُصُولِهِمْ قَبِلْنَاهُ فَلَمَّا أَنْ مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ طَاهِرِينَ ثُمَّ
__________
(1) - سنن الترمذى(3153 ) حسن لغيره
(2) - سنن الترمذى (3109 ) صحيح لغيره(1/73)
أَتَى مَن جَاءَ بَعْدَهُمْ وَلَمْ يَجِدْ فِي هَذَا الدِّينِ وَظِيفَةً يَقُومُ بِهَا وَيَخْتَصُّ بِهَا بَلْ وَجَدَ الْأَمْرَ عَلَى أَكْمَلِ الْحَالَاتِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا أَنْ يَحْفَظَ مَا دَوَّنُوهُ وَاسْتَنْبَطُوهُ وَاسْتَخْرَجُوهُ وَأَفَادُوهُ فَاخْتَصَّتْ إقَامَةُ هَذَا الدِّينِ بِالْقُرُونِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ إلَّا فَلِأَجْلِ ذَلِكَ ،كَانُوا خَيْرًا مِمَن أَتَى بَعْدَهُمْ وَلَا يَحْصُلُ لِمَن أَتَى بَعْدَ هَذِهِ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِ خَيْرٌ إلَّا بِالِاتِّبَاعِ لِمَن شَهِدَ لَهُ صَاحِبُ الْعِصْمَةِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - بِالْخَيْرِ فَبَقِيَ كُلُّ مَن أَتَى بَعْدَهُمْ فِي مِيزَانِهِمْ وَمِن بَعْضِ حَسَنَاتِهِمْ فَبَانَ مَا قَالَ عليه الصلاة والسلام " خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ "(1)فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ وَعُلِمَ فَكُلُّ مَن أَتَى بَعْدَهُمْ يَقُولُ فِي بِدْعَةٍ إنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ ثُمَّ يَأْتِي بِدَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ خَارِجٍ عَن أُصُولِهِمْ فَذَلِكَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ انْتَهَى .
__________
(1) - مسند البزار(4508) صحيح(1/74)
فَتَبَيَّنَ مِن هَذِهِ النُّقُولِ الصَّحِيحَةِ وَالنُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ إنَّ كُتُبَ الْفِقْهِ لَا تَخْلُو مِن الْخَطَأِ وَفِيهَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ , وَأَمَّا قَوْلُهُمْ كَيْفَ تَتْرُكُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ وَتُقَلِّدُ الْأَئِمَّةَ فِي اجْتِهَادِهِمْ الْمُحْتَمِلِ لِلْخَطَأِ فَجَوَابُهُ أَنَّ تَقْلِيدَ الْأَئِمَّةِ فِي اجْتِهَادِهِمْ لَيْسَ تَرْكًا لِلْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بَلْ هُوَ عَيْنُ التَّمَسُّكِ وَالْأَخْذِ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ مَا وَصَلَ إلَيْنَا إلَّا بِوَاسِطَتِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ أَعْلَمَ مِنَّا بِنَاسِخِهِ وَمَنسُوخِهِ وَمُطْلَقِهِ وَمُقَيَّدِهِ وَمُجْمَلِهِ وَمُبَيَّنِهِ وَمُتَشَابِهِهِ وَمُحْكَمِهِ وَأَسْبَابِ نُزُولِهِ وَمَعَانِيهِ وَتَأْوِيلَاتِهِ وَلُغَاتِهِ وَسَائِرِ عُلُومِهِ وَتَلَقِّيهِمْ ذَلِكَ عَن التَّابِعِينَ الْمُتَلَقِّينَ ذَلِكَ عَن الصَّحَابَةِ الْمُتَلَقِّينَ عَن الشَّارِعِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - الْمَعْصُومِ مِن الْخَطَأِ الشَّاهِدِ لِلْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ بِالْخَيْرِيَّةِ .(1/75)
وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ مَا وَصَلَتْ إلَيْنَا إلَّا بِوَاسِطَتِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ أَعْلَمَ مِمَن بَعْدَهُمْ بِصَحِيحِهَا وَحَسَنِهَا وَضَعِيفِهَا وَمَرْفُوعِهَا وَمُرْسَلِهَا وَمُتَوَاتِرِهَا وَآحَادِهَا وَمُعْضِلِهَا وَغَرِيبِهَا وَتَأْوِيلِهَا وَتَارِيخِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنسُوخِ وَأَسْبَابِهَا وَلُغَاتِهَا وَسَائِرِ عُلُومِهَا مَعَ تَمَامِ ضَبْطِهِمْ وَتَحْرِيرِهِمْ لَهَا وَكَمَالِ إدْرَاكِهِمْ وَقُوَّةِ دِيَانَتِهِمْ وَاعْتِنَائِهِمْ وَتَفَرُّغِهِمْ , وَنُورِ بَصَائِرِهِمْ فَلَا يَخْلُو أَمْرُ هَذِهِ الشِّرْذِمَةِ مِن أَحَدِ شَيْئَيْنِ إمَّا نِسْبَةُ الْجَهْلِ لِلْأَئِمَّةِ الْمُجْمَعِ عَلَى كَمَالِ عِلْمِهِمْ الْمُشَارِ لَهُ فِي أَحَادِيثِ الشَّارِعِ الصَّادِقِ عليه الصلاة والسلام ،وَإِمَّا نِسْبَةُ الضَّلَالِ وَقِلَّةُ الدِّينِ لِلْأَئِمَّةِ الَّذِينَ هُمْ مِن خَيْرِ الْقُرُونِ بِشَهَادَةِ الرَّسُولِ الْمُعَظَّمِ - صلى الله عليه وسلم - { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (46) سورة الحج , وَقَوْلُهُمْ لِمَن قَلَّدَ مَالِكًا مَثَلًا نَقُولُ لَك قَالَ اللَّهُ أَوْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنْتَ تَقُولُ قَالَ مَالِكٌ أَوْ ابْنُ الْقَاسِمِ أَوْ خَلِيلٌ . . .(1/76)
إلَخْ جَوَابُهُ أَنَّ قَوْلَ الْمُقَلِّدِ قَالَ مَالِكٌ إلَخْ مَعْنَاهُ قَالَ مَالِكٌ فَاهِمًا مِن كَلَامِ اللَّهِ أَوْ كَلَامِ رَسُولِهِ أَوْ مُتَمَسِّكًا بِعَمَلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الْفَاهِمِينَ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ كَلَامَ رَسُولِهِ أَوْ الْمُتَأَسِّينَ بِفِعْلِ رَسُولِهِ , وَمَعْنَى قَوْلِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إنَّهُ نَقَلَ عَن مَالِكٍ مَا فَهِمَهُ مِن كَلَامِ اللَّهِ إلَخْ أَوْ أَنَّهُ فَهِمَهُ نَفْسُ ابْنِ الْقَاسِمِ مِن كَلَامِ اللَّهِ إلَخْ وَمَعْنَى قَوْلِهِ قَالَ خَلِيلٌ مَثَلًا أَنَّهُ نَاقِلٌ عَمَن ذَكَرَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ مُجْمَعٌ عَلَى إمَامَتِهِمَا وَمِن خَيْرِ الْقُرُونِ وَالتَّارِكُ لِلتَّقْلِيدِ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ أَوْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ مُسْتَقِلًّا بِفَهْمِهِ مَعَ عَجْزِهِ عَن ضَبْطِ الْآيَةِ , وَالْحَدِيثِ وَوَصْلِ السَّنَدِ فَضْلًا عَن عَجْزِهِ عَن مَعْرِفَةِ نَاسِخِهِ وَمَنسُوخِهِ وَمُطْلَقِهِ وَمُقَيَّدِهِ وَمُجْمَلِهِ وَمُبَيَّنِهِ وَظَاهِرِهِ , وَنَصِّهِ وَعَامِّهِ وَخَاصِّهِ وَتَأْوِيلِهِ وَسَبَبِ نُزُولِهِ وَلُغَاتِهِ وَسَائِرِ عُلُومِهِ فَانْظُرْ أَيَّهُمَا يُقَدِّمُ قَوْلَ الْمُقَلِّدِ . قَالَ مَالِكٌ : الْإِمَامُ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ قَوْلُ الْجَهُولِ قَالَ اللَّهُ أَوْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ إنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ .(1/77)
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ هَذَا الزَّيْغِ لِلظَّاهِرِيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا ظَهَرُوا فِي الْأَنْدَلُسِ وَتَقَوَّتْ شَوْكَتُهُمْ مُدَّةً ثُمَّ مَحَا اللَّهُ آثَارَهُمْ فَشَرَعَتْ هَذِهِ الشِّرْذِمَةُ فِي إحْيَائِهَا قَالَ الْبُرْزُلِيُّ وَأَوَّلُ مَن طَعَنَ فِي الْمُدَوَّنَةِ سَعِيدُ بْنُ الْحَدَّادِ , فَفِي الْمَدَارِكِ أَنَّ ابْنَ الْحَدَّادِ صَحِبَ سَحْنُونَ أَوَّلًا وَسَمِعَ مِنهُ وَنَزَعَ آخِرًا إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بَلْ كَثِيرًا مَا يُخَالِفُهُ وَيَعْتَمِدُ عَلَى النَّظَرِ وَالْحُجَّةِ وَكَانَ يُسَمِّي الْمُدَوَّنَةَ الْمُرُونَةَ وَيَنْقُضُ بَعْضَهَا . وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ قَالَ تَرَكَ النَّاسُ السُّنَنَ وَانْتَقَلُوا إلَى قَوْلِهِ قُلْت رَأَيْت فَرَفَضَهُ أَصْحَابُ سَحْنُونَ وَهَجَرُوهُ وَأَغْرَوْا بِهِ ابْنَ طَالِبٍ الْقَاضِيَ فَهَمَّ بِهِ ثُمَّ نَشَأَتْ بَيْنَهُمَا صُحْبَةٌ فَتَرَكَهُ وَبَقِيَ مَهْجُورَ الْبَابِ قَلِيلَ الْأَصْحَابِ إلَى أَنْ نَاظَرَ آخِرًا عَبْدَ اللَّهِ الشِّيعِيَّ وَأَخَاهُ الْعَبَّاسَ عِنْدَ دُخُولِهِمَا بِدَعْوَةِ بَنِي عُبَيْدٍ الْقَيْرَوَانِ فَمَالَتْ إلَيْهِ قُلُوبُ الْعَامَّةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى فَضْلِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَامَ مَعَهُمْ مَقَامَ ابْنِ حَنْبَلٍ فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَبَاعَ نَفْسَهُ فِي مُنَاظَرَتِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَكَانَ نَافَ عَلَى سَبْعِينَ سَنَةً وَقَالَ قَتِيلُ الْخَوَارِجِ خَيْرُ قَتِيلٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَتَلُوا اثْنَيْنِ مِن أَصْحَابِ سَحْنُونَ وَأَرَادُوا حَمْلَ النَّاسِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ فَدَخَلَ مِنهُمْ عَلَى أَهْلِ الْقَيْرَوَانِ رَوْعٌ كَبِيرٌ فَنَاظَرَهُمْ حَتَّى أَوْقَفَهُمْ وَسَلَّمَهُ اللَّهُ مِنهُمْ بِحُسْنِ نِيَّتِهِ .(1/78)
ثُمَّ قَالَ الْبُرْزُلِيُّ وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ تَوَارِيخِ الْأَنْدَلُسِ أَنَّ ابْنَ حَزْمٍ رَأْسَ الظَّاهِرِيَّةِ بِالْأَنْدَلُسِ قَالَ إنَّمَا أُشْهِرُ مَذْهَبَ مَالِكٍ وَالْمَدَنِيِّينَ وَهَذِهِ الْفُرُوعُ بِإِفْرِيقِيَّةَ دُخُولُ سَحْنُونَ بْنِ سَعِيدٍ بِمَسَائِلِهِ فَوُلِّيَ الْقَضَاءَ بِهَا فَأَخَذَتْ عَنهُ مَسَائِلَهُ لِأَجْلِ قَضَائِهِ وَرِيَاسَتِهِ وَاشْتُهِرَ أَمْرُهُ وَاشْتُهِرَتْ مَسَائِلُ مَالِكٍ بِالْأَنْدَلُسِ لِدُخُولِ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَغَيْرِهِمْ مِن رُؤَسَاءِ الْأَنْدَلُسِ وَقُضَاتِهَا فَاشْتُهِرَ عَنهُمْ أَخْذُهَا وَالتَّمَذْهُبُ بِهَا , وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِرِيَاسَتِهِمْ فَتَرَكَ النَّاسُ السُّنَنَ وَاتَّبَعُوهُ .(1/79)
وَذَكَرَ الْبَاجِيُّ أَنَّهُ اجْتَمَعَ مَعَ ابْنِ حَزْمٍ بِمَيْرُوقَهَ وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا مُطَالَبَاتٌ وَاحْتِجَاجَاتٌ آلَ أَمْرُهَا عَلَى مَا قَالَ إلَى إبْطَالِ مَذْهَبِهِ وَذَكَرَ أَنَّ أَخَاهُ إبْرَاهِيمَ بْنَ خَلَفٍ الْبَاجِيَّ لَقِيَ ابْنَ حَزْمٍ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ مَا قَرَأْت عَلَى أَخِيك فَقَالَ لِي كَثِيرًا أَقْرَأُ عَلَيْهِ فَقَالَ أَلَا اخْتَصَرَ لَك الْعِلْمَ فَيُقْرِئَك مَا تَنْتَفِعُ بِهِ فِي الزَّمَنِ الْقَرِيبِ فِي سَنَةٍ أَوْ أَقَلَّ فَقَالَ لَهُ لَوْ صَحَّ هَذَا الْفِعْلُ فَقَالَ غَيْرُهُ يَنْفَعُك بِذَلِكَ فِي سَنَةٍ فَقَالَ أَنَا أُحِبُّ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ أَوْ فِي شَهْرٍ فَقَالَ ذَلِكَ أَشْهَى إلَيَّ فَقَالَ أَوْ فِي جُمُعَةٍ أَوْ دَفْعَةٍ فَقَالَ هَذَا أَشْهَى إلَيَّ مِن كُلِّ شَيْءٍ فَقَالَ لَهُ إذَا وَرَدَتْ عَلَيْك مَسْأَلَةٌ فَاعْرِضْهَا عَلَى الْكِتَابِ فَإِنْ وَجَدْتهَا فِيهِ وَإِلَّا فَاعْرِضْهَا عَلَى السُّنَّةِ فَإِنْ وَجَدْت ذَلِكَ فِيهَا وَإِلَّا فَاعْرِضْهَا عَلَى مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ فَإِنْ وَجَدْتهَا وَإِلَّا فَالْأَصْلُ الْإِبَاحَةُ فَافْعَلْهَا فَقُلْتُ لَهُ مَا أَرْشَدْتَنِي إلَيْهِ يَفْتَقِرُ إلَى عُمُرٍ طَوِيلٍ وَعِلْمٍ جَلِيلٍ , لِأَنَّهُ يَفْتَقِرُ لِمَعْرِفَةِ الْكِتَابِ وَمَعْرِفَةِ نَاسِخِهِ وَمَنسُوخِهِ وَمُؤَوَّلِهِ وَظَاهِرِهِ وَمَنصُوصِهِ وَمُطْلَقِهِ وَعُمُومِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن أَحْكَامِهِ وَيَفْتَقِرُ أَيْضًا إلَى حِفْظِ الْأَحَادِيثِ وَمَعْرِفَةِ صَحِيحِهَا مِن سَقِيمِهَا وَمُسْنَدِهَا وَمُرْسَلِهَا وَمُعْضِلِهَا وَتَأْوِيلِهِ وَتَارِيخِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ مِنهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَيَفْتَقِرُ إلَى مَعْرِفَةِ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ وَتَتَبُّعِهَا فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ وَقَلَّ مَن(1/80)
يُحِيطُ بِهَذَا . قَالَ الْبَاجِيُّ وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ مَعَهُ قُوَّةُ عِلْمٍ وَلَا تَضَلُّعٌ فِي الِاحْتِجَاجِ وَلَكِنْ إلْمَامُهُ بِالْأُمُورِ الْفَارِغَةِ وَمُبْتَدِئِ الطَّلَبَةِ فَإِذَا سُئِلَ عَن مَسْأَلَةٍ يَقُولُ لِمَن حَضَرَهُ أَوْ السَّائِلِ مَا قُلْتَ أَنْتَ فِيهَا وَمَا ظَهَرَ لَك وَلَا يَزَالُ يَسْتَمِيلُ حَتَّى يَنْطِقَ فِيهَا بِشَيْءٍ مِن رَأْيِهِ فَيُجَوِّدُ فِعْلَهُ وَيَسْتَحْسِنُ رَأْيَهُ وَيَقُولُ لَهُ قَوْلُك فِيهَا خَيْرٌ مِن قَوْلِ مَالِكٍ وَيُزَيِّنُ لَهُ ذَلِكَ وَيُشَكِّكُهُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَصِيرَ يَرَى رَأْيَ نَفْسِهِ وَيَتَعَاظَمَ وَيَقَعَ فِي مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِن الْعُلَمَاءِ وَقَدْ سُلِّطَتْ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ كَثِيرٍ فَحَمَلَ أَمْرَهُ وَاسْتَجْهَلَهُ أَهْلُ الْفُرُوعِ بِالْأَنْدَلُسِ وَلَمْ يَزَلْ فِي خُمُولٍ وَعَدَمِ اعْتِنَاءٍ فِي مَذْهَبِهِ وَكَثُرَ أَهْلُ الشُّورَى وَالْفِقْهِ وَالْوَثَائِقِ بِالْأَنْدَلُسِ حَتَّى خَرَجَ الْمُوَحِّدُونَ وَأَخَذُوا مُرَاكِشَ مِن لَمْتُونَةَ حَضْرَةَ مَلِكِهِمْ فَوَجَدُوا فِيهَا كُتُبَ فِقْهٍ كَثِيرَةً فَاسْتَصْعَبُوهَا وَبَاعُوهَا مِن الشَّوَّاشِينَ وَغَيْرِهِمْ وَتَقَدَّمُوا إلَى الْفُقَهَاءِ الْفَرْعِيَّيْنِ ،وَلَمَّا أَنْ اطْمَأَنَّتْ بِالْأَمِيرِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ الدَّارُ جَمَعَ الْفُقَهَاءَ إمَّا لِاخْتِبَارِ مَذْهَبِهِمْ أَوْ حَمْلِهِمْ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ حَزْمٍ فَحَكَى عَن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَرْقُونٍ جَامِعَ الِاسْتِذْكَارِ وَالْمُنْتَقَى قَالَ كُنْت فِيمَن جَمَعَهُمْ فَقَامَ عَلَى رَأْسِهِ كَاتِبُهُ وَوَزِيرُهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنِ عَطِيَّةَ فَخَطَبَ خُطْبَةً مُخْتَصَرَةً ثُمَّ رَدَّ رَأْسَهُ إلَى الْفُقَهَاءِ وَقَالَ لَهُمْ بَلَغَ سَيِّدُنَا أَنَّ قَوْمًا مِن(1/81)
أُولِي الْعِلْمِ تَرَكُوا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام وَصَارُوا يَحْكُمُونَ بَيْنَ النَّاسِ وَيُفْتُونَ بِهَذِهِ الْفُرُوعِ وَالْمَسَائِلِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا فِي الشَّرْعِ أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ وَقَدْ أَمَرَ أَنَّ مَن فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ وَنَظَرَ فِي شَيْءٍ مِن الْفُرُوعِ وَالْمَسَائِلِ عُوقِبَ الْعِقَابَ الشَّدِيدَ وَفُعِلَ بِهِ كَذَا وَكَذَا وَسَكَتَ وَرَفَعَ الْأَمِيرُ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ رَأْسَهُ إلَيْهِ , وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْجُلُوسِ فَجَلَسَ , وَقَالَ سَمِعْتُمْ مَا قَالَ فَقَالَ لَهُ الطَّلَبَةُ نَعَمْ قَالَ وَسَمِعْنَا أَنَّ عِنْدَ الْقَوْمِ تَأْلِيفًا مِن هَذِهِ الْفُرُوعِ يُسَمُّونَهُ الْكِتَابَ يَعْنِي الْمُدَوَّنَةَ وَأَنَّهُمْ إذَا قَالَ لَهُمْ قَائِلٌ مَسْأَلَةً مِن السُّنَّةِ وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ أَوْ مُخَالِفَةً لَهُ قَالُوا مَا هِيَ فِي الْكِتَابِ أَوْ مَا هُوَ مَذْهَبُ الْكِتَابِ وَلَيْسَ ثَمَّ كِتَابٌ يُرْجَعُ إلَيْهِ إلَّا كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ وَأَرْعَدَ وَأَبْرَقَ فِي التَّخْوِيفِ وَالتَّحْذِيرِ مِن النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ وَالْفُقَهَاءُ سُكُوتٌ ثُمَّ قَالَ : وَمِن الْعَجَبِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ أَقْوَالًا بِرَأْيِهِمْ وَلَيْسَتْ مِن الشَّرْعِ أَوْ قَالَ مِن الدِّينِ فَيَقُولُونَ مَن طَرَأَ عَلَيْهِ خَلَلٌ فِي صَلَاتِهِ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ فَيَتَحَكَّمُونَ فِي دِينِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِأَنَّهَا إمَّا صَحِيحَةٌ فَلَا إعَادَةَ أَوْ بَاطِلَةٌ فَيُعِيدُ أَبَدًا فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مِن أَيْنَ أَخَذُوهُ ،فَصَمَتَ الْقَوْمُ وَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ لِحِدَّةِ الْأَمْرِ وَالْإِنْكَارِ .(1/82)
قَالَ ابْنُ زَرْقُونٍ فَحَمَلَتْنِي الْغَيْرَةُ عَلَى أَنْ تَكَلَّمْت وَتَلَطَّفْت فِي الْكَلَامِ لَهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَا بِهِمْ الْحَقَّ وَأَهْلَهُ وَأَمَاتَ الْبَاطِلَ وَأَهْلَهُ وَذَكَرَ نَحْوَ هَذَا الْمَنحَى , وَقُلْت :إنْ أُذِنَ لِي فِي الْجَوَابِ تَكَلَّمْتُ وَأَدَّيْتُ نَصِيحَتِي وَهِيَ السُّنَّةُ فَقَالَ كَالْمُنْكِرِ عَلَيَّ وَهِيَ السُّنَّةُ أَيْضًا وَكَرَّرَهَا فَقُلْتُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ وَقَالَ : « ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ » فَصَلَّى ، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ » . ثَلاَثًا . فَقَالَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَمَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِى . قَالَ « إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِى صَلاَتِكَ كُلِّهَا »(1).
__________
(1) - صحيح البخارى(793 ،757 ، 6251 ، 6252 ، 6667)(1/83)
فَأَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الْوَقْتِيَّةِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا خَرَجَ وَقْتُهُ مِن الصَّلَوَاتِ . فَعَلَى هَذَا بَنَى الْفُقَهَاءُ أَمْرَهُمْ فِيمَن دَخَلَ عَلَيْهِ خَلَلٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا أَصْغَى إلَيَّ اتَّسَعَ لِي الْقَوْلُ فَقُلْت لَهُ يَا سَيِّدِي جَمِيعُ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكِتَابِ والسُّنَّة وَأَقْوَالِ السَّلَفِ وَالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا اخْتَصَرَهُ الْفُقَهَاءُ تَقْرِيبًا لِمَن يَنْظُرُ فِيهِ مِن الْمُتَعَلِّمِينَ وَالطَّالِبِينَ فَانْطَلَقَتْ أَلْسِنَةُ الْفُقَهَاءِ الْحَاضِرِينَ حِينَئِذٍ وَوَافَقُونِي عَلَى مَا قُلْتُ، ثُمَّ دَعَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ , وَقَامَ إلَى مَنزِلِهِ فَقَالَ الْوَزِيرُ أَقَدِمْت عَلَى سَيِّدِنَا الْيَوْمَ يَا فَقِيهُ فَقُلْتُ لَوْ سَكَتُّ لَلَحِقَتْنِي عُقُوبَةُ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ: فَكُنْت أَدْخُلُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ فَأَرَى مِنهُ الْبِرَّ التَّامَّ وَالتَّكْرِمَةَ، ثُمَّ سَكَتَ الْحَالُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَ أَيَّامُ حَفِيدِهِ الْأَمِيرِ يَعْقُوبَ فَأَرَادَ حَمْلَ النَّاسِ عَلَى كُتُبِ ابْنِ حَزْمٍ فَعَارَضَهُ فُقَهَاءُ وَقْتِهِ وَفِيهِمْ أَبُو يَحْيَى بْنُ الْمَوَّاقِ وَكَانَ أَعْلَمَهُمْ بِالْحَدِيثِ وَالْمَسَائِلِ فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ لَزِمَ دَارِهِ وَعَارَضَ وَأَكَبَّ عَلَى جَمْعِ الْمَسَائِلِ الْمُنْتَقَدَةِ عَلَى ابْنِ حَزْمٍ حَتَّى أَتَمَّهَا ،وَكَانَ لَا يَغِيبُ عَنهُ فَلَمَّا أَتَمَّهَا جَاءَ إلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَن حَالِهِ وَغَيْبَتِهِ وَكَانَ ذَا جَلَالَةٍ عِنْدَهُ وَمُبِرًّا لَهُ فَقَالَ لَهُ : يَا سَيِّدُنَا قَدْ كُنْتُ فِي خِدْمَتِكُمْ لَمَّا سَمِعْتُكُمْ تَذْكُرُونَ حَمْلَ النَّاسِ عَلَى كُتُبِ ابْنِ حَزْمٍ وَفِيهَا(1/84)
أَشْيَاءُ أُعِيذُكُمْ بِاَللَّهِ مِن حَمْلِ النَّاسِ عَلَيْهَا وَأَخْرَجْتُ لَهُ دَفْتَرًا فَلَمَّا أَخَذَهُ الْأَمِيرُ جَعَلَ يَقْرَؤُهُ , وَيَقُولُ أَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ أَحْمِلَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى هَذَا وَأَثْنَى عَلَى ابْنِ الْمَوَّاقِ ،وَدَخَلَ مَنزِلَهُ ثُمَّ سَكَتَ الْحَالُ بَعْدُ فِي الْفُرُوعِ وَظَهَرَتْ وَقَوِيَتْ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَهِيَ إذَا أَخَذْت مَسْأَلَةً مَسْأَلَةً وَجَدْت كُلَّهَا رَاجِعَةً إلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الْكِتَابِ والسُّنَّة وَالْإِجْمَاعِ وَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنهَا خَارِجًا عَنهَا ; لِأَنَّ وَاضِعَهَا وَمُسْتَنْبِطَهَا مِن خِيَارِ سَلَفِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ وَعُدُولِهِمْ وَأَهْلِ التَّفَقُّهِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالشَّرْعِ ، فَهُمْ قَوْمٌ غُذُّوا بِالتَّقْوَى وَرُبُّوا بِالْهُدَى فَهُمْ أَنْوَارُ الدُّنْيَا وَرَيَاحِينُهَا وَبَرَكَاتُ الْأُمَّةِ وَمَيَامِينُهَا، عُدُولُ كُلِّ خَلَفٍ، وَأَئِمَّةُ كُلِّ سَلَفٍ ،سَادَةٌ أَفْنَوْا أَعْمَارَهُمْ فِي اسْتِنْبَاطِهَا وَتَحْقِيقِهَا بَعْدَ تَمْيِيزِ الصَّحِيحِ مِن السُّنَنِ مِن السَّقِيمِ وَالنَّاسِخِ مِن الْمَنسُوخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن عُلُومِهَا، وَدَوَّنُوهَا كُتُبًا وَجَعَلُوهَا أَبْوَابًا مُهَذَّبَةً مُقَرَّبَةً وَكَفَوْا مَن أَتَى بَعْدَهُمْ الْمُؤْنَةَ بِأَنْ تَرَكُوا الْأُصُولَ عَلَى أَصْلِهَا وَفَرَّعُوا عَلَيْهَا فُرُوعَهَا مِن الْفِقْهِ تَقْتَضِيهَا وَمَسَائِلَ طَلَبًا لِلِاخْتِصَارِ وَتَقْرِيبًا عَلَى النَّاظِرِ فَجَزَاهُمْ اللَّهُ عَن الْمُسْلِمِينَ أَحْسَنَ جَزَائِهِ، كَمَا جَعَلَهُمْ وَرَثَةَ أَنْبِيَائِهِ وَحَفَظَةَ شَرْعِهِ وَجَعَلَنَا مِن الْمُتَّبِعِينَ لَهُمْ .(1/85)
وَذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ فِي أَوَّلِ الْمُقَدِّمَاتِ أَنَّ الْمُدَوَّنَةَ تَدُورُ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ إمَامِ دَارِ الْهِجْرَةِ وَابْنُ الْقَاسِمِ الْمِصْرِيِّ الْوَلِيِّ الصَّالِحِ وَسَحْنُونٌ وَكُلُّهُمْ مَشْهُورُونَ بِالْإِمَامَةِ وَالْعِلْمِ وَالْفَضْلِ وَنَحْوِهِ لِابْنِ الرَّقِيقِ وَالْمَدَارِكِ اهـ كَلَامُ الْبُرْزُلِيِّ بِتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ، وَأَمَّا قَصْرُ الرُّبَاعِيَّةِ فِي نِصْفِ يَوْمٍ فَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِن الظَّاهِرِيَّةِ مَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ وَفِطْرُ رَمَضَانَ فِيهِ لَمْ أَرَ مَن قَالَ بِهِ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ بِلَا طَهَارَةٍ مَذْهَبٌ شَاذٌّ مَرْدُودٌ وَسُجُودُ التِّلَاوَةِ وَإِنْ كَانَ فِي الْبُخَارِيِّ عَن ابْنِ عُمَرَ فَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ، وَعَارَضَهُ الْحُفَّاظُ بِمَا خَرَّجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَن ابْنِ عُمَرَ قَالَ لَا يَسْجُدُ الرَّجُلُ إلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ(1)، وَالْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْقَبْضُ وَالْقُنُوتُ جَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ مَذْهَبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَتَأْخِيرُ الصُّبْحِ لِلْإِسْفَارِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَؤُلَاءِ تَرَكُوا تَقْلِيدَ إمَامٍ مُعَيَّنٍ وَاتَّبَعُوا الْأَحَادِيثَ بِزَعْمِهِمْ فَتَارَةً وَافَقُوا بَعْضَ الْمَذَاهِبِ الصَّحِيحَةِ وَتَارَةً بَعْضَ الْمَذَاهِبِ الشَّاذَّةِ وَتَارَةً خَرَقُوا الْإِجْمَاعَ ،وَهَذَا شُؤْمُ الْخُرُوجِ عَن الْمَذَاهِبِ وَالِابْتِدَاعِ، قَالَ الْعَارِفُ الشَّعْرَانِيُّ : فَإِنْ قُلْت فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمَحْجُوبِ عَن الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَيْنِ الْأُولَى التَّقَيُّدُ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ ؟
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 1 / ص 90)(435)(1/86)
فَالْجَوَابُ: نَعَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِئَلَّا يَضِلَّ فِي نَفْسِهِ وَيُضِلَّ غَيْرَهُ انْتَهَى .
وَتَقَدَّمَ عَن الْخَوَّاصِ أَيْضًا مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ . وَالْحِمَى عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ سُنَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ مَنَعَتْهُ الشَّرِيعَةُ الْحَنِيفِيَّةُ، وَأَكْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ حُرْمَتُهُ مِن الدِّينِ ضَرُورِيَّةٌ فَإِنْ اسْتَحَلُّوهُ فَقَدْ خَرَجُوا عَن دَائِرَةِ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ ،وَإِنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ سَقْيُ السُّمِّ اسْتَوْجَبَ الْقِصَاصَ وَوَعِيدُهُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْآيَةِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَنَفْيُ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ شَقَاءٌ مُؤَبَّدٌ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ مُطْلَقًا ،أَوْ مَعَ الْإِصْرَارِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ ".
المبحث الثالث عشر
اجتهادُ النبي - صلى الله عليه وسلم - (1)(1)
__________
(1) - انظر فتاوى يسألونك - (ج 5 / ص 191)-مسألة اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفتاوى الأزهر - (ج 8 / ص 64) اجتهاد النبى - صلى الله عليه وسلم - والفصول في الأصول - (ج 2 / ص 293) ومذكرة أصول الفقه - (ج 1 / ص 60) وحجة الله البالغة - (ج 1 / ص 260) والموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 40 / ص 60)(1/87)
إن الله جل وعلا افترض طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما افترض طاعته سبحانه وتعالى، قال عز من قائل: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} (92) سورة المائدة. وجعل المولى تبارك وتعالى طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من تمام طاعته فقال تعالى: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (80) سورة النساء. وتكون طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنته التي هي وحي من الله تعالى، قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) [النجم/3-4].
وعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَىْءٍ أَسْمَعُهُ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِى قُرَيْشٌ وَقَالُوا أَتَكْتُبُ كُلَّ شَىْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِى الْغَضَبِ وَالرِّضَا فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ :« اكْتُبْ فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنهُ إِلاَّ حَقٌّ »(1).
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَزَادَ فِيهِ : وَمَا أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّهُ مِن عِنْدِ اللهِ فَهُوَ الَّذِي لاَ شَكَّ فِيهِ "(2)
__________
(1) - سنن أبى داود (3648 ) وأحمد(6666) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (ج 5 / ص 465)(2106) ومسند البزار(8900) حسن(1/88)
وعَن أَبِى هُرَيْرَةَ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ « إِنِّى لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا ». قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَإِنَّكَ تُدَاعِبُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ « إِنِّى لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا ».(1)
فإذا تقرر هذا فلنعد لخلاصة السؤال وهي: هل النبي - صلى الله عليه وسلم - يجتهد كما يجتهد غيره من الأمة؟ وهل يجري على اجتهاده ما يجري على اجتهاد غيره؟ .
وللجواب على السؤال نقول: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِح الدُّنْيَا وَتَدْبِيرِ الْحُرُوبِ وَنَحْوِهَا وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ ، كَمَا قَالَ سُلَيْمٌ ، وَكَذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ وَمَثَّلَهُ بِإِرَادَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُصَالِحَ غَطَفَانَ عَلَى ثُلُثِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ(2)، فَهَذَا مُبَاحٌ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَهَبُوا مِن أَمْوَالِهِمْ مَا أَحَبُّوا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي تَلْقِيحِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ ، لِأَنَّهُ يُبَاحُ لِلْمَرْءِ أَنْ يُلَقِّحَ نَخْلَةً وَأَنْ يَتْرُكَهَا(3)، قَالَ : وَقَدْ أَخْبَرَنِي بَعْضُهُمْ أَنَّهُ تَرَكَ ثِمَارَهُ سِنِينَ دُونَ تَأْبِيرٍ فَاسْتَغْنَى عَنهُ "(4)
وأما اجتهاده في الأحكام الشرعية والأمور الدينية، فقد اختلفوا في ذلك إلى ثلاثة أقوال: الأول: ليس له ذلك لقدرته على النص بنزول الوحي .
__________
(1) - مسند أحمد(8705) صحيح
(2) - دلائل النبوة للبيهقي(1315) صحيح مرسل
(3) - سنن ابن ماجه(2565 ) وأحمد(12880) وهو صحيح ، وأصله في مسلم
(4) - البحر المحيط - (ج 8 / ص 101) و الأحكام لابن حزم - (ج 5 / ص 703) وإرشاد الفحول - (ج 2 / ص 218)(1/89)
والثاني : الوقف عن القطع بشيء في هذا وقد زعم الصيرفي في شرح الرسالة أنه مذهب الشافعي، لأن الشافعي حكى الأقوال ولم يختر منها شيئاً ، فدلَّ ذلك على أنه متوقف وهو اختيار الباقلاني وأبي حامد الغزالي .
الثالث : أنه يجوز له أن يجتهد في الأحكام الشرعية والأمور الدينية وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم ، ، قال أبو إسحاق الشيرازي :[ كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجتهد في الحوادث ويحكم فيها بالاجتهاد وكذلك سائر الأنبياء عليهم السلام . ومن أصحابنا من قال ما كان له ذلك وبه قال بعض المعتزلة ](1).
وجاء في جمع الجوامع وشرحه لجلال الدين المحلي:[ والصحيح جواز الاجتهاد للنبي - صلى الله عليه وسلم - – ووقوعه.. الخ ](2).
وفصل الشوكاني مسألة اجتهاد الأنبياء فذكر خلاف العلماء فقال :[ المذهب الأول ليس لهم ذلك لقدرتهم على النص بنزول الوحي ... المذهب الثاني أنه يجوز لنبينا - صلى الله عليه وسلم - ولغيره من الأنبياء وإليه ذهب الجمهور ... ](3).
واحتجوا بأن الله سبحانه خاطب نبيه كما خاطب عباده وضرب له الأمثال وأمره بالتدبر والاعتبار وهو أجلّ المتفكرين في آيات الله وأعظم المعتبرين بها . وإذا جاز لغيره من الأمة ممن هو أهل لذلك أن يجتهد - بالإجماع - مع كونه معرضاً للخطأ فلأن يجوز لمن هو مؤيد بالوحي ومعصوم عن الخطأ أولى .
وأما في مسألة الخطأ في الاجتهاد فقال أبو إسحاق الشيرازي :[ يجوز الخطأ على رسول - صلى الله عليه وسلم - في اجتهاده إلا أنه لا يقرُّ عليه بل ينبه عليه . ومن أصحابنا من قال لا يجوز عليه الخطأ ] ثم ساق أدلة الفريقين وانتصر للقول الأول(4).
__________
(1) - التبصرة في أصول الفقه ص 521
(2) - جمع الجوامع وشرحه لجلال الدين المحلي 2/386
(3) - إرشاد الفحول ص 255-256
(4) - التبصرة في أصول الفقه ص 524(1/90)
وقال الآمدي :[ القائلون بجواز الاجتهاد للنبي عليه الصلاة والسلام اختلفوا في جواز الخطأ عليه في اجتهاده فذهب بعض أصحابنا إلى المنع من ذلك .
وذهب أكثر أصحابنا والحنابلة وأصحاب الحديث والجبائي وجماعة من المعتزلة إلى جوازه لكن بشرط أن لا يقرَّ عليه وهو المختار ودليله المنقول والمعقول ... الخ ](1).
وقال الكمال بن الهمام :[ وقد ظهر أن المختار جواز الخطأ في اجتهاده عليه الصلاة والسلام إلا أنه لا يقر على خطأ بخلاف غيره ](2).
وإذا اجتهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في حكم فإن كان صواباً أقرَّ عليه ، وإن كان خطأ لم يقرَّ عليه ونزل الوحي مبيناً ذلك ، والأمثلة على ذلك كثيرة منها اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - في أسارى بدر وأخذه الفداء منهم ، فنزل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (67) سورة الأنفال. ونحو اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - في إذنه للمنافقين في التخلف عن عزوة تبوك ، فنزل قوله تعالى: {عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (43) سورة التوبة.
فعاتبه على ما وقع منه، ولو لم يكن عن اجتهاده وكان ذلك بالوحي لم يعاتبه .
قلت : ولكنه لم ينقض حكمه في كلا المسألتين المستدَل بهما ، فدلَّ على جواز ذلك ، ولا يعدو الأمر أن يكون اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الفاضل والمفضول ، والصحيح والأصح ، ولا يمكن نسبة الخطأ إليه في مثل هذه القضايا، وهو الراجح عندي .
__________
(1) - الإحكام في أصول الأحكام 4/216
(2) - تيسير التحرير 4/190(1/91)
فالحاصل أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجتهد في الأحكام الشرعية التي لا نصَّ فيها ، فإذا أقرَّ على اجتهاده فالواجب اتباعه ولا يجوز العدول عنه بحال وعلى هذا فكلُّ ما ثبتَ مما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - فهو حقٌّ لا مرية فيه وهو منزَلُ من عند الله ، ومن فرَّق بينه وبين القرآن في الحجية واتخذ ذلك منهجاً فقد خرج من ملِّة الإسلام ، والله أعلم .
والذي أريد أن أصل إليه هو أن هذه المسائل وغيرها لا يبحثها ولا يناقشها العوام من طلبة العلم وأشباه المتعلمين ،وأنه ليس في مقدرتهم الترجيح بين أقوال العلماء في هذه المسائل الاجتهادية الخلافية وكون عالم قال بأحد الأقوال في المسألة لا ينبغي الإنكار عليه والهجوم عليه وسبُّه وشتمه ،لأن قوله لا يوافق ما نهوى ونتمنَّى .
إن العلماء قد اختلفوا في هذه المسألة الاجتهادية وأمثالها من المسائل التي لا يوجد فيها نص صريح من كتاب الله أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فلا يصح الإنكار على عالم قال برأي فيها .
وقديماً قال العلماء :[ لا يصح الإنكار في مسائل الخلاف ](1)والمقصود بذلك مسائل الخلاف الاجتهادية التي لا يوجد فيها نصوص صريحة من الكتاب أو السنة
فكلُّ مسألة اختلف فيها العلماء ولم يثبت فيها نصٌّ صريح يدل على صحة أحد الأقوال فيها ،وإنما المستند فيها الاجتهاد فلا يجوز الإنكار على العالم فيما قال باجتهاده ؛ لأن المجتهد لم يخالف نصًّا بل خالف اجتهاد مجتهد آخر، وهذه المسائل لا يعرف فيها المجتهد المصيب على وجه القطع ،لذا لا ينبغي الإنكار على من خالف رأياً لم يثبت بأنه صواب قطعاً .(2)
__________
(1) - انظر فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 12 / ص 472) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 3531) رقم الفتوى 74043 محل وضع اليدين في الصلاة في القيام وإعلام الموقعين - (ج 3 / ص 288) وله تفصيل فيها
(2) - راجع حكم الإنكار في مسائل الخلاف ص 72-73.(1/92)
قال الإمام النووي :[ وَلاَ يُنْكِرُ مُحْتَسِبٌ وَلاَ غَيْرُهُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ قَالُوا : لَيْسَ لِلْمُفْتِي وَلاَ لِلْقَاضِي أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى مَن خَالَفَهُ إِذَا لَمْ يُخَالِفْ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا . وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ ، فَإِِنَّ الْحُكْمَ يَنْقُصُ إِذَا خَالَفَ الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ أَوِ الإِِْجْمَاعَ أَوِ الْقِيَاسَ " ](1)
وقد سئل ابن تيمية عَمَن يُقَلِّدُ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ : فَهَلْ يُنْكَرُ عَلَيْهِ أَمْ يُهْجَرُ ؟ وَكَذَلِكَ مَن يَعْمَلُ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ؟
فَأَجَابَ :فأجاب [ الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ مَن عَمِلَ فِيهَا بِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُهْجَرْ وَمَن عَمِلَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ : فَإِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَظْهَرُ لَهُ رُجْحَانُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَمِلَ بِهِ وَإِلَّا قَلَّدَ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ فِي بَيَانِ أَرْجَحِ الْقَوْلَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ](2)
__________
(1) - شرح النووي على مسلم 2 / 24 ، الفروق 4 / 40 ، 41 وتهذيب الفروق 4 / 80 . الفواكه الدواني 2 / 394 ، حاشية رد المحتار 5 / 292 ، 400 - 402 ، 685 ، تيسير التحرير 4 / 34 ، كتاب الفقيه والمتفقه 2 / 65 ، غاية الوصول شرح لب الأصول 149 ، إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك 149 ، 150 .
(2) - مجموع فتاوى شيخ الإسلام 20/207 .(1/93)
وختاماً فينبغي على طلبة العلم وعلى عامة الناس أن تتسع صدورهم لسماع خلاف العلماء في مسائل العلم الشرعي، وعلى هؤلاء وأولئك أن يعلموا أن العلماء عندما يختلفون فإنهم لا يصدرون في اختلافهم عن هوى أو تشهِّي أو قول في دين الله بغير علم أو مستند . وعليهم أن يعلموا أن الخلافات العلمية في المسائل التي لا يوجد فيها نصوص قطعيةٌ ليست مذمومة، والخلاف فيها قديم والأمر فيه سعة ، فلا تحجِّروا واسعاً .
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي :[ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ وَطَوْلِهِ ، وَقُوَّتِهِ وَحَوْلِهِ ، ضَمِنَ بَقَاءَ طَائِفَةٍ مِن هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَجَعَلَ السَّبَبَ فِي بَقَائِهِمْ بَقَاءَ عُلَمَائِهِمْ ، وَاقْتِدَاءَهُمْ بِأَئِمَّتِهِمْ وَفُقَهَائِهِمْ ، وَجَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ مَعَ عُلَمَائِهَا ، كَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ مَعَ أَنْبِيَائِهَا ، وَأَظْهَرَ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِن فُقَهَائِهَا أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهَا ، وَيُنْتَهَى إلَى رَأْيِهَا ، وَجَعَلَ فِي سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَئِمَّةً مِن الْأَعْلَامِ ، مُهْدٍ بِهِمْ قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ ، وَأَوْضَحَ بِهِمْ مُشْكِلَاتِ الْأَحْكَامِ ، اتِّفَاقُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ ، وَاخْتِلَافُهُمْ رَحْمَةٌ وَاسِعَةٌ ، تَحْيَا الْقُلُوبُ بِأَخْبَارِهِمْ ، وَتَحْصُلُ السَّعَادَةُ بِاقْتِفَاءِ آثَارِهِمْ ، ثُمَّ اخْتَصَّ مِنهُمْ نَفَرًا أَعْلَى أَقْدَارَهُمْ وَمَنَاصِبَهُمْ وَأَبْقَى ذِكْرَهُمْ وَمَذَاهِبَهُمْ فَعَلَى أَقْوَالِهِمْ مَدَارُ الْأَحْكَامِ ، وَبِمَذَاهِبِهِمْ يُفْتِي فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ .](1)
__________
(1) - المغني لابن قدامة 1/ 4-5(1/94)
ولا بد أن يتأدب طلبةُ العلم وعامةُ الناس مع العلماء ،وأن ينزلوهم منزلة الإكرام والاحترام ،وإن لم ترق لبعضنا آراؤهم واجتهاداتهم ، فلكلِّ مجتهدٍ نصيبٌ .(1)
المبحث الرابع عشر
اجتهادُ النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحيٌ الإقراري(2):
الوحيُ الإقراريُّ : هو أن يجتهد صلى الله عليه وسلم في الأمر فيسلك فيه مسلكا ما، فإن كان صوابا أقره الوحي، وإن كان غير صواب نبهه الوحي، وحينئذ يكون إعلاميا، فالوحي التقريري هو ما أقرَّ الله سبحانه وتعالى نبيه فيه على صواب فعله من تلقاء نفسه.
وعليه فما صدر منه صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو إقرار دائر بين حالين:
أ - حال الإيحاء، بأن يوحي الله إليه بالأمر ابتداء فيمتثل، أو يوحي إليه انتهاء ليعرفه سبحانه ما يتفق وشريعته، وهذا قليل نادر، ومثاله ما حدث في أسرى بدر.
__________
(1) - انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 1251) -رقم الفتوى 3217 أقسام اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم-تاريخ الفتوى : 16 صفر 1420
(2) - انظر فتاوى يسألونك - (ج 5 / ص 191)-مسألة اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفتاوى الأزهر - (ج 8 / ص 64) اجتهاد النبى - صلى الله عليه وسلم - والفصول في الأصول - (ج 2 / ص 293) ومذكرة أصول الفقه - (ج 1 / ص 60) وحجة الله البالغة - (ج 1 / ص 260) والموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 40 / ص 60)(1/95)
فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا ، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ : " اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي ، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي ، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ " ، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ ، وَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ ، قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ : فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ : بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ : أَقْدِمْ حَيْزُومُ ، فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ ، وَشُقَّ وَجْهُهُ ، كَضَرْبَةِ السَّوْطِ فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ ، فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ ، فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ(1/96)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : " صَدَقْتَ ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ " ، فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ ، قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَلَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ : " مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى ؟ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ " قُلْتُ : لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ ، فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ ، وَتُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ نَسِيبًا لِعُمَرَ ، فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا ، فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جِئْتُ ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمِ الْفِدَاءَ ، لَقَدْ عُرِضَ(1/97)
عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا فَأَحَلَّ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ "(1)
وهذه الحال الكثير الغالب، فكثيرا ما ابتدأه الوحي،فعَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَمَرَنِى جِبْرِيلُ بِرَفْعِ الصَوْتِ فِى الإِهْلاَلِ فَإِنَّهُ مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ ».(2)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : أَمَرَنِي جِبْرِيلُ أَنْ أُكَبِّرَ أَوْ قَالَ : أَنْ قَدِّمُوا التَّكْبِيرَ ،(3)
وعَنْ سُلَيْمَانَ مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِىٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالْبِشْرُ يُرَى فِى وَجْهِهِ فَقَالَ « إِنَّهُ جَاءَنِى جِبْرِيلُ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ أَمَا يُرْضِيكَ يَا مُحَمَّدُ أَنْ لاَ يُصَلِّىَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إِلاَّ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا وَلاَ يُسَلِّمَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إِلاَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا ».(4)
__________
(1) - صحيح مسلم (4687)
(2) - مسند أحمد(8537) صحيح لغيره
(3) - المعجم الكبير للطبراني(406) حسن
(4) - سنن النسائى (1303 ) حسن(1/98)
وعَنْ خَلاَّدِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « جَاءَنِى جِبْرِيلُ فَقَالَ لِى يَا مُحَمَّدُ مُرْ أَصْحَابَكَ أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ ».(1)
وعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَخَرَةٍ إِذَا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ فَأَرَادَ أَنْ يَنْهَضَ قَالَ : " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ ، عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي ، فَاغْفِرْ لِي ، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ " قَالَ : فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ هَذِهِ كَلِمَاتٌ أَحْدَثْتَهُنَّ ؟ قَالَ : " أَجَلْ ، جَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، هُنَّ كَفَّارَاتُ الْمَجْلِسِ "(2)
__________
(1) - سنن النسائى(2765 ) صحيح
(2) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي ( 10188) حسن(1/99)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ارْتَقَى عَلَى الْمِنْبَرِ فَأَمَّنَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ قَالَ : " تَدْرُونَ لِمَ أَمَّنْتُ ؟ " قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : " جَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَأَخْبَرَنِي : أَنَّهُ مَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ دَخَلَ النَّارَ ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ ، فَقُلْتُ : آمِينَ ، وَمَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا ، فَلَمْ يَبَرَّهُمَا دَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ ، فَقُلْتُ : آمِينَ ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ دَخَلَ النَّارَ ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ ، فَقُلْتُ : آمِينَ "(1)
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « قَالَ لِى جِبْرِيلُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ ، أَوْ لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ ، قَالَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ وَإِنْ »(2).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ {وآمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (90) سورة يونس ، قَالَ قَالَ لِى جِبْرِيلُ يَا مُحَمَّدُ لَوْ رَأَيْتَنِى وَقَدْ أَخَذْتُ حَالاً مِنْ حَالِ الْبَحْرِ فَدَسَّيْتُهُ فِى فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ الرَّحْمَةُ »(3).
__________
(1) - الْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ(12388 ) صحيح لغيره
(2) - صحيح البخارى (3222 )
(3) - مسند أحمد( 2874) حسن -الحال : الطين الأسود(1/100)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كُنَّ أَزْوَاجُ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَهُ لَمْ يُغَادِرْ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِى مَا تُخْطِئُ مِشْيَتُهَا مِنْ مِشْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا فَلَمَّا رَآهَا رَحَّبَ بِهَا فَقَالَ « مَرْحَبًا بِابْنَتِى ». ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ سَارَّهَا فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا فَلَمَّا رَأَى جَزَعَهَا سَارَّهَا الثَّانِيَةَ فَضَحِكَتْ. فَقُلْتُ لَهَا خَصَّكِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ بَيْنِ نِسَائِهِ بِالسِّرَارِ ثُمَّ أَنْتِ تَبْكِينَ فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَأَلْتُهَا مَا قَالَ لَكِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ مَا كُنْتُ أُفْشِى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سِرَّهُ. قَالَتْ فَلَمَّا تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قُلْتُ عَزَمْتُ عَلَيْكِ بِمَا لِى عَلَيْكِ مِنَ الْحَقِّ لَمَا حَدَّثْتِنِى مَا قَالَ لَكِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ أَمَّا الآنَ فَنَعَمْ أَمَّا حِينَ سَارَّنِى فِى الْمَرَّةِ الأُولَى فَأَخْبَرَنِى « أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ الْقُرْآنَ فِى كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ وَإِنَّهُ عَارَضَهُ الآنَ مَرَّتَيْنِ وَإِنِّى لاَ أُرَى الأَجَلَ إِلاَّ قَدِ اقْتَرَبَ فَاتَّقِى اللَّهَ وَاصْبِرِى فَإِنَّهُ نِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ ». قَالَتْ فَبَكَيْتُ بُكَائِى الَّذِى رَأَيْتِ فَلَمَّا رَأَى جَزَعِى سَارَّنِى الثَّانِيَةَ فَقَالَ « يَا فَاطِمَةُ أَمَا تَرْضَىْ أَنْ تَكُونِى سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ ». قَالَتْ فَضَحِكْتُ ضَحِكِى الَّذِى رَأَيْتِ.(1)
__________
(1) - صحيح مسلم(6467 )(1/101)
وعَنِ الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُتِىَ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ ، وَلَبَنٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا ، ثُمَّ أَخَذَ اللَّبَنَ ، فَقَالَ جِبْرِيلُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ ، وَلَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ .(1)
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَا زَالَ يُوصِينِى جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ »(2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا ، فَأَحِبَّهُ . فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ، فَيُنَادِى جِبْرِيلُ فِى أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا ، فَأَحِبُّوهُ . فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِى أَهْلِ الأَرْضِ »(3).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- تَلاَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى إِبْرَاهِيمَ ( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى) الآيَةَ.
__________
(1) - صحيح البخارى(5576 )
(2) - صحيح البخارى(6014 )
(3) - صحيح البخارى(6040 )(1/102)
وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ « اللَّهُمَّ أُمَّتِى أُمَّتِى ». وَبَكَى فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ - فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَا قَالَ. وَهُوَ أَعْلَمُ. فَقَالَ اللَّهُ يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِى أُمَّتِكَ وَلاَ نَسُوءُكَ.(1)
__________
(1) - صحيح مسلم (520 )(1/103)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ عَنِّى وَعَنْ أُمِّى قَالَ فَظَنَنَّا أَنَّهُ يُرِيدُ أُمَّهُ الَّتِى وَلَدَتْهُ. قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ عَنِّى وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قُلْنَا بَلَى. قَالَ قَالَتْ لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِىَ الَّتِى كَانَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فِيهَا عِنْدِى انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ فَاضْطَجَعَ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلاَّ رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا فَجَعَلْتُ دِرْعِى فِى رَأْسِى وَاخْتَمَرْتُ وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِى ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ فَلَيْسَ إِلاَّ أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ فَقَالَ « مَا لَكِ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيَةً ». قَالَتْ قُلْتُ لاَ شَىْءَ. قَالَ « لَتُخْبِرِينِى أَوْ لَيُخْبِرَنِّى اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ». قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى. فَأَخْبَرْتُهُ قَالَ « فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِى رَأَيْتُ أَمَامِى ». قُلْتُ نَعَمْ. فَلَهَدَنِى فِى صَدْرِى لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِى ثُمَّ قَالَ « أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ ». قَالَتْ مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ نَعَمْ.(1/104)
قَالَ « فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِى حِينَ رَأَيْتِ فَنَادَانِى فَأَخْفَاهُ مِنْكِ فَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِى فَقَالَ إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِىَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ ». قَالَتْ قُلْتُ كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « قُولِى السَّلاَمُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلاَحِقُونَ ».(1)
وعن ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِى أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ لَبِسَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا قَبَاءً مِنْ دِيبَاجٍ أُهْدِىَ لَهُ ثُمَّ أَوْشَكَ أَنْ نَزَعَهُ فَأَرْسَلَ بِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقِيلَ لَهُ قَدْ أَوْشَكَ مَا نَزَعْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ « نَهَانِى عَنْهُ جِبْرِيلُ ». فَجَاءَهُ عُمَرُ يَبْكِى فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَرِهْتَ أَمْرًا وَأَعْطَيْتَنِيهِ فَمَا لِى قَالَ « إِنِّى لَمْ أُعْطِكَهُ لِتَلْبَسَهُ إِنَّمَا أَعْطَيْتُكَهُ تَبِيعُهُ ». فَبَاعَهُ بِأَلْفَىْ دِرْهَمٍ.(2)
__________
(1) - صحيح مسلم(2301 )
أجاف : أغلق = الحشيا : وقع عليك الحشا وهو الربو والنهيج =أحضر : عدا عدوا
الرابية : التى أخذها الربو وهو التهيج وتواتر النفس الذى يعرض للمسرع فى مشيه = تقنعت : لبست =اللهدة : الدفع الشديد فى الصدر =لهد : دفع بشدة فى الصدر
(2) - صحيح مسلم (5540 ) -القباء : نوع من الثياب(1/105)
وعَنِ ابْنِ السَّبَّاقِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ أَخْبَرَتْنِى مَيْمُونَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَصْبَحَ يَوْمًا وَاجِمًا فَقَالَتْ مَيْمُونَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدِ اسْتَنْكَرْتُ هَيْئَتَكَ مُنْذُ الْيَوْمِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ وَعَدَنِى أَنْ يَلْقَانِى اللَّيْلَةَ فَلَمْ يَلْقَنِى أَمَ وَاللَّهِ مَا أَخْلَفَنِى ». قَالَ فَظَلَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَهُ ذَلِكَ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ وَقَعَ فِى نَفْسِهِ جِرْوُ كَلْبٍ تَحْتَ فُسْطَاطٍ لَنَا فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ مَاءً فَنَضَحَ مَكَانَهُ فَلَمَّا أَمْسَى لَقِيَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ « قَدْ كُنْتَ وَعَدْتَنِى أَنْ تَلْقَانِى الْبَارِحَةَ ». قَالَ أَجَلْ وَلَكِنَّا لاَ نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ. فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَئِذٍ فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلاَبِ حَتَّى إِنَّهُ يَأْمُرُ بِقَتْلِ كَلْبِ الْحَائِطِ الصَّغِيرِ وَيَتْرُكُ كَلْبَ الْحَائِطِ الْكَبِيرِ.(1)
وربما سئل عن الشيء فسكت حتى جاءه الوحي، ومن أمثلة ذلك:
__________
(1) - صحيح مسلم(5635)
الجرو : الكلب الصغير = الحائط : البستان =فسطاط : المراد به بعض أستار البيت =الواجم : من اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام(1/106)
فعن صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ يَعْنِى عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الْخَلُوقِ أَوْ قَالَ صُفْرَةٍ فَقَالَ كَيْفَ تَأْمُرُنِى أَنْ أَصْنَعَ فِى عُمْرَتِى فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَسُتِرَ بِثَوْبٍ وَوَدِدْتُ أَنِّى قَدْ رَأَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ . فَقَالَ عُمَرُ تَعَالَ أَيَسُرُّكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْوَحْىَ قُلْتُ نَعَمْ . فَرَفَعَ طَرَفَ الثَّوْبِ ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ لَهُ غَطِيطٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ كَغَطِيطِ الْبَكْرِ . فَلَمَّا سُرِّىَ عَنْهُ قَالَ « أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْعُمْرَةِ اخْلَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ أَثَرَ الْخَلُوقِ عَنْكَ ، وَأَنْقِ الصُّفْرَةَ ، وَاصْنَعْ فِى عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِى حَجِّكِ » .(1)
__________
(1) - صحيح البخارى(1789 ) -البكر : الفتى من الإبل - الخلوق : طيب مركب من الزعفران وغيره من أنواع الطيب تغلب عليه الحمرة والصفرة -الغطيط : الصوت الذى يخرج من نفس النائم(1/107)
وعن ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ. فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً كَادَ يُصْرَعُ مِنْهَا فَقَالَ لِمَ تَدْفَعُنِى فَقُلْتُ أَلاَ تَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ الْيَهُودِىُّ إِنَّمَا نَدْعُوهُ بِاسْمِهِ الَّذِى سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ اسْمِى مُحَمَّدٌ الَّذِى سَمَّانِى بِهِ أَهْلِى ». فَقَالَ الْيَهُودِىُّ جِئْتُ أَسْأَلُكَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَيَنْفَعُكَ شَىْءٌ إِنْ حَدَّثْتُكَ ». قَالَ أَسْمَعُ بِأُذُنَىَّ فَنَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِعُودٍ مَعَهُ. فَقَالَ « سَلْ ». فَقَالَ الْيَهُودِىُّ أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « هُمْ فِى الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ ». قَالَ فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً قَالَ « فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ ». قَالَ الْيَهُودِىُّ فَمَا تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَالَ « زِيَادَةُ كَبِدِ النُّونِ » قَالَ فَمَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى إِثْرِهَا قَالَ « يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِى كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا ».
قَالَ فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ قَالَ « مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ». قَالَ صَدَقْتَ. قَالَ وَجِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ شَىْءٍ لاَ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ إِلاَّ نَبِىٌّ أَوْ رَجُلٌ أَوْ رَجُلاَنِ. قَالَ « يَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ ». قَالَ أَسْمَعُ بِأُذُنَىَّ.(1/108)
قَالَ جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنِ الْوَلَدِ قَالَ « مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ فَإِذَا اجْتَمَعَا فَعَلاَ مَنِىُّ الرَّجُلِ مَنِىَّ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللَّهِ وَإِذَا عَلاَ مَنِىُّ الْمَرْأَةِ مَنِىَّ الرَّجُلِ آنَثَا بِإِذْنِ اللَّهِ ». قَالَ الْيَهُودِىُّ لَقَدْ صَدَقْتَ وَإِنَّكَ لَنَبِىٌّ ثُمَّ انْصَرَفَ فَذَهَبَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَقَدْ سَأَلَنِى هَذَا عَنِ الَّذِى سَأَلَنِى عَنْهُ وَمَا لِى عِلْمٌ بِشَىْءٍ مِنْهُ حَتَّى أَتَانِىَ اللَّهُ بِهِ ».(1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ النَّاسَ فَذَكَرَ الإِيمَانَ بِاللَّهِ وَالْجِهَادَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ أَفْضَلِ الأَعْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنَا صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرَ مُدْبِرٍ كَفَّرَ اللَّهُ عَنِّى خَطَايَاىَ قَالَ « نَعَمْ ». قَالَ « فَكَيْفَ قُلْتَ ». قَالَ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَوْلَ كَمَا قَالَ. قَالَ « نَعَمْ ». قَالَ « فَكَيْفَ قُلْتَ ». قَالَ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَوْلَ أَيْضاً. قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ صَابِراً مُحْتَسِباً مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ كَفَّرَ اللَّهُ عَنِّى خَطَايَاىَ قَالَ « نَعَمْ إِلاَّ الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ سَارَّنِى بِذَلِكَ ».(2)
__________
(1) - صحيح مسلم(742 ) -النون : الحوت
(2) - مسند أحمد (8296) صحيح(1/109)
وعَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ حَدَّثَنَا أَنَسٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلاَمٍ بَلَغَهُ مَقْدَمُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ ، فَأَتَاهُ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ ، فَقَالَ إِنِّى سَائِلُكَ عَنْ ثَلاَثٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ نَبِىٌّ مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَمَا بَالُ الْوَلَدِ يَنْزِعُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ قَالَ « أَخْبَرَنِى بِهِ جِبْرِيلُ آنِفًا » . قَالَ ابْنُ سَلاَمٍ ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ . قَالَ « أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ ، فَزِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ ، وَأَمَّا الْوَلَدُ ، فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَتِ الْوَلَدَ » . قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ . قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ ، فَاسْأَلْهُمْ عَنِّى قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلاَمِى ، فَجَاءَتِ الْيَهُودُ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَىُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ فِيكُمْ » . قَالُوا خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا وَأَفْضَلُنَا وَابْنُ أَفْضَلِنَا . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ » . قَالُوا أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ . فَأَعَادَ عَلَيْهِمْ ، فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .(1/110)
قَالُوا شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا . وَتَنَقَّصُوهُ . قَالَ هَذَا كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ .(1)
ب - حال عدم الإيحاء: وذلك بتركه صلى الله عليه وسلم وشأنه فيتصرف صوابا، فيقرُّه الله سبحانه وتعالى على ذلك.
وهذه الحال من مستلزمات سلامة الدين، فما كان الله عز وجل ليترك خطأ يصدر من رسوله صلى الله عليه وسلم المبلغ عنه، مما يترتب عليه وقوع الأمة فيه اتباعا، وإذا كانت الحكمة من إرسال الرسل ألا تكون للناس حجة {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } (165) سورة النساء ، فإن ذلك يتمُّ بعصمة المرسَل من الوقوع في أي خطأ، وإلا نبهه كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ أَيُكَفِّرُ اللَّهُ عَنِّى خَطَايَاىَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « نَعَمْ ». فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ نَادَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَوْ أَمَرَ بِهِ فَنُودِىَ لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « كَيْفَ قُلْتَ ». فَأَعَادَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « نَعَمْ إِلاَّ الدَّيْنَ كَذَلِكَ قَالَ لِى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ».(2)
__________
(1) - صحيح البخارى(3938 ) 89/5
(2) - سنن النسائى (3169 ) صحيح(1/111)
ولقد كان معلوما لدى الصحابة أن إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم إقرار من الله سبحانه وتعالى، وأنه لو حدث أمر يخالف الإسلام لجاء الوحي فأنكر عليهم ذلك، لقد كانوا يعرفون أن الوحي قريب وكثير، فلن يترك أمرا مخالفا يمرُّ، فما أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم دون وحي فإنما هو من الإسلام وإلا جاء الوحي.
يشهد لذلك ما روي عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ.لَوْ كَانَ شَيْئًا يُنْهَى عَنْهُ لَنَهَانَا عَنْهُ الْقُرْآنُ.(1)
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ : كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ فَلاَ نُنْهَى.(2)
__________
(1) - صحيح البخارى (5208) وصحيح مسلم( 3632 ) واللفظ له
(2) - مصنف ابن أبي شيبة(ج 4 / ص 219) (16856) صحيح(1/112)
وعَنْ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ وَكَانَ عَقَبِيًّا بَدْرِيًّا - قَالَ كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ يُفْتِى النَّاسَ فِى الْمَسْجِدِ - بِرَأْيِهِ - فِى الَّذِى يُجَامِعُ وَلاَ يُنْزِلُ. فَقَالَ أَعْجِلْ بِهِ فَأُتِىَ بِهِ فَقَالَ يَا عَدُوَّ نَفْسِهِ أَوَ قَدْ بَلَغْتَ أَنْ تُفْتِىَ النَّاسَ فِى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِرَأْيِكَ قَالَ مَا فَعَلْتُ وَلَكِنْ حَدَّثَنِى عُمُومَتِى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ أَىُّ عُمُومَتِكَ قَالَ أُبَىُّ بْنُ كَعْب وَأَبُو أَيُّوبَ وَرِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ فَالْتَفَتُّ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ مَا يَقُولُ هَذَا الْفَتَى ؟ فَقُلْتُ كُنَّا نَفْعَلُهُ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ فَسَأَلْتُمْ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِهِ فَلَمْ نَغْتَسِلْ. قَالَ فَجَمَعَ النَّاسَ وَأَصْفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنَ الْمَاءِ إِلاَّ رَجُلَيْنِ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالاَ إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ وَجَبَ الْغُسْلُ. قَالَ فَقَالَ عَلِىٌّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِهَذَا أَزْوَاجُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَأَرْسَلَ إِلَى حَفْصَةَ فَقَالَتْ لاَ عِلْمَ لِى. فَأَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ وَجَبَ الْغُسْلُ. قَالَ فَتَحَطَّمَ عُمَرُ - يَعْنِى تَغَيَّظَ - ثُمَّ قَالَ لاَ يَبْلُغُنِى أَنَّ أَحَداً فَعَلَهُ وَلَمْ يَغْتَسِلْ إِلاَّ أَنْهَكْتُهُ عُقُوبَةً.(1)
__________
(1) - مسند أحمد (21692) صحيح - تحطم : تغيظ = أصفق : اجتمع(1/113)
ويظهر لي من كلام جابر هذا: أن جابرا استدلَّ على شرعية العزل بتقرير الله سبحانه وتعالى، وعليه فجابر يرى أن الوحي لا يقتصر على مراقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يراقب الأمة كلها، فأيما فعل فعلوه مخالفا الإسلام نبه الوحي عليه، وأيما فعل فعلوه زمن الوحي وأقرهم عليه الوحي فهو من الإسلام.
والذي يظهر لي أن هذا - إقرار الوحي الأمة - هو الذي يفيده حديث جابر الذي معنا وتفيده نصوص أخرى(1)ففي رواية لحديث جَابِرٍ قَالَ :كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ .(2)
ففيه تصريح بنزول الوحي مع إضافته لعهده صلى الله عليه وسلم، مما يشعر أنه يلحظ قضية إقرار الوحي الأمة على ما تفعل أو ينكر.
وهذا هو الذي يفيده حديث ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ: كُنَّا نَتَّقِى الْكَلاَمَ وَالاِنْبِسَاطَ إِلَى نِسَائِنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - هَيْبَةَ أَنْ يُنْزَلَ فِينَا شَىْءٌ فَلَمَّا تُوُفِّىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - تَكَلَّمْنَا وَانْبَسَطْنَا .(3)
__________
(1) - استغرب ابن دقيق هذا، فقال: استدلال جابر بالتقرير من الله غريب (إحكام الأحكام 2 / 208).
(2) - صحيح البخارى(5209) ومسلم (3632 )
(3) - صحيح البخارى(5187 )(1/114)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَسِيرُ فِى بَعْضِ أَسْفَارِهِ ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلاً ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ شَىْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا عُمَرُ ، نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، كُلُّ ذَلِكَ لاَ يُجِيبُكَ . قَالَ عُمَرُ فَحَرَّكْتُ بَعِيرِى ثُمَّ تَقَدَّمْتُ أَمَامَ الْمُسْلِمِينَ ، وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ فِىَّ قُرْآنٌ ، فَمَا نَشِبْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِى - قَالَ - فَقُلْتُ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِىَّ قُرْآنٌ . وَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ « لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَىَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِىَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ، ثُمَّ قَرَأَ ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) »(1).
__________
(1) - صحيح البخارى(4177 ) = ثكلت : فقدت = نزرت : ألححت عليه(1/115)
وعَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِىِّ قَالَ : كُنْتُ امْرَأً أُصِيبُ مِنَ النِّسَاءِ مَا لاَ يُصِيبُ غَيْرِى ، فَلَمَّا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ خِفْتُ أَنْ أُصِيبَ فِى لَيْلِى شَيْئاً فَيَتَتَابَعَ بِى ذَلِكَ إِلَى أَنْ أُصْبِحَ - قَالَ - فَتَظَاهَرْتُ إِلَى أَنْ يَنْسَلِخَ ، فَبَيْنَا هِىَ لَيْلَةً تَخْدُمُنِى إِذْ تَكَشَّفَ لِى مِنْهَا شَىْءٌ ، فَمَا لَبِثْتُ أَنْ نَزَوْتُ عَلَيْهَا ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ خَرَجْتُ إِلَى قَوْمِى فَأَخْبَرْتُهُمْ وَقُلْتُ : امْشُوا مَعِى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالُوا : لاَ وَاللَّهِ لاَ نَمْشِى مَعَكَ مَا نَأْمَنُ أَنْ يَنْزِلَ فِيكَ الْقُرْآنُ أَوْ أَنْ يَكُونَ فِيكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَقَالَةٌ يَلْزَمُنَا عَارُهَا ، وَلَنُسْلِمَنَّكَ بِجَرِيرَتِكَ. فَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ خَبَرِى فَقَالَ :« يَا سَلَمَةُ أَنْتَ بِذَاكَ؟ ». قُلْتُ : أَنَا بِذَاكَ. قَالَ : « يَا سَلَمَةُ أَنْتَ بِذَاكَ؟ ». قُلْتُ : أَنَا بِذَاكَ.
قَالَ : « يَا سَلَمَةُ أَنْتَ بِذَاكَ؟ ». قُلْتُ : أَنَا بِذَاكَ ، وَهَا أَنَا ذَا صَابِرٌ نَفْسِى ، فَاحْكُمْ فِىَّ مَا أَرَاكَ اللَّهُ.
قَالَ :« فَأَعْتِقْ رَقَبَةً ». قَالَ : فَضَرَبْتُ صَفْحَةَ رَقَبَتِى فَقُلْتُ : وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَصْبَحْتُ أَمْلِكُ رَقَبَةً غَيْرَهَا. قَالَ :« فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ». قُلْتُ : وَهَلْ أَصَابَنِى الَّذِى أَصَابَنِى إِلاَّ فِى الصِّيَامِ؟ قَالَ :« فَأَطْعِمْ وَسْقاً مِنْ تَمْرٍ سِتِّينَ مِسْكِيناً ». فَقُلْتُ : وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ بِتْنَا لَيْلَتَنَا وَحْشَى مَا لَنَا طَعَامٌ.(1/116)
قَالَ :« فَانْطَلِقْ إِلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِى زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا إِلَيْكَ ، وَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً وَسْقاً مِنْ تَمْرٍ ، وَكُلْ بَقِيَّتَهُ أَنْتَ وَعِيَالُكَ ». قَالَ : فَأَتَيْتُ قَوْمِى فَقُلْتُ : وَجَدْتُ عِنْدَكُمُ الضِّيقَ وَسُوءَ الرَّأْىِ وَوَجَدْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- السَّعَةَ وَحُسْنَ الرَّأْىِ ، وَقَدْ أَمَرَ لِى بِصَدَقَتِكُمْ.(1)
ومن إنكار الوحي عليهم حديث عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىِّ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ « هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ » . قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ « أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِى مُؤْمِنٌ بِى وَكَافِرٌ ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِى وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِى وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ »(2).
__________
(1) - سنن الدارمى (2328) صحيح = الصفحة : الجانب = الوحش : الجائع
(2) - صحيح البخارى(846 ) -السماء : المطر = النوء : المنزلة من منازل القمر وكانت العرب تنسب المطر إليها(1/117)
وهكذا يتضح أن الوحي كان يراقب تصرفاته صلى الله عليه وسلم ويراقب الأمة أيضا، فأي خطأ ارتكبوه يظنونه صوابا نبههم القرآن عليه، وربما فعلوا الشيء فسألوه صلى الله عليه وسلم، فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ - رضى الله عنه - قَالَ انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَىٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَىِّ ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَىْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَىْءٌ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَىْءٌ ، فَأَتَوْهُمْ ، فَقَالُوا يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ ، إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ ، وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَىْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَىْءٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَعَمْ وَاللَّهِ إِنِّى لأَرْقِى ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضِيِّفُونَا ، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً . فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الْغَنَمِ ، فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ ، فَانْطَلَقَ يَمْشِى وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ ، قَالَ فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِى صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ اقْسِمُوا . فَقَالَ الَّذِى رَقَى لاَ تَفْعَلُوا ، حَتَّى نَأْتِىَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِى كَانَ ، فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا .(1/118)
فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرُوا لَهُ ، فَقَالَ « وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ - ثُمَّ قَالَ - قَدْ أَصَبْتُمُ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِى مَعَكُمْ سَهْمًا » . فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -(1)
وعَنْ عَلِىٍّ - رضى الله عنه - قَالَ بَعَثَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - سَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ ، فَغَضِبَ فَقَالَ أَلَيْسَ أَمَرَكُمُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تُطِيعُونِى . قَالُوا بَلَى . قَالَ فَاجْمَعُوا لِى حَطَبًا . فَجَمَعُوا ، فَقَالَ أَوْقِدُوا نَارًا . فَأَوْقَدُوهَا ، فَقَالَ ادْخُلُوهَا . فَهَمُّوا ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا ، وَيَقُولُونَ فَرَرْنَا إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ النَّارِ . فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتِ النَّارُ ، فَسَكَنَ غَضَبُهُ ، فَبَلَغَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، الطَّاعَةُ فِى الْمَعْرُوفِ »(2).
__________
(1) - صحيح البخارى(2276 ) = القلبة : العلة
(2) - صحيح البخارى(4340)(1/119)
وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رضى الله عنهما - قَالَ خَطَبَنَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الأَضْحَى بَعْدَ الصَّلاَةِ فَقَالَ « مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَإِنَّهُ قَبْلَ الصَّلاَةِ ، وَلاَ نُسُكَ لَهُ » . فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ خَالُ الْبَرَاءِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَإِنِّى نَسَكْتُ شَاتِى قَبْلَ الصَّلاَةِ ، وَعَرَفْتُ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونَ شَاتِى أَوَّلَ مَا يُذْبَحُ فِى بَيْتِى ، فَذَبَحْتُ شَاتِى وَتَغَدَّيْتُ قَبْلَ أَنْ آتِىَ الصَّلاَةَ . قَالَ « شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ » . قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَإِنَّ عِنْدَنَا عَنَاقًا لَنَا جَذَعَةً هِىَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ شَاتَيْنِ ، أَفَتَجْزِى عَنِّى قَالَ « نَعَمْ ، وَلَنْ تَجْزِىَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ »(1).
وعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ احْتَلَمْتُ فِى لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِى غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلاَسِلِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِى الصُّبْحَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ ». فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِى مَنَعَنِى مِنَ الاِغْتِسَالِ وَقُلْتُ إِنِّى سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ (وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.(2)
__________
(1) - صحيح البخارى(955 ) - الجَذعة : ما استكمل سنة ولم يدخل فى الثانية = العناق : الأنثى من ولد المعز أتى عليها أربعة أشهر
(2) - سنن أبى داود(334 ) صحيح(1/120)
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ خَرَجْنَا فِى سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلاً مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِى رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ هَلْ تَجِدُونَ لِى رُخْصَةً فِى التَّيَمُّمِ فَقَالُوا مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ « قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلاَّ سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِىِّ السُّؤَالُ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ ». أَوْ « يَعْصِبَ ». شَكَّ مُوسَى « عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ ».(1)
وربما فعلوه ظانين صوابه فلم يسألوا فجاء الوحي فنبه/ كما في أسرى بدر.(2)
وبهذا يتضح أن السنَّة وحيٌ: حالا أو مآلا، أي إنها وحيٌ: ابتداء، أو انتهاء (بالإقرار أو التصويب).
وبذلك تصحُّ تلك الأوامر المطلقة والنصوص العامة التي وردت في الكتاب والسنة، من مثل قوله تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (7) سورة الحشر ،
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، إِلاَّ مَنْ أَبَى » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ « مَنْ أَطَاعَنِى دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ أَبَى »(3).
__________
(1) - سنن أبى داود(336) حسن = العي : الجهل
(2) - انظر: السنة النبوية للدكتور عبد المهدي ص 32 - 35.
(3) - صحيح البخارى (7280 )(1/121)
فهذه النصوص الدالة الدلالة القطعية على وجوب تصديق خبره صلى الله عليه وسلم وطاعة أوامره صلى الله عليه وسلم (وبعد وفاته) لا يحتمل أن يكون في أقواله وأخباره ما لم يقرَّه الله تعالى، وبالتالي: فجميع ما لم يصوَّب من أقواله صلى الله عليه وسلم فكلُّه وحيُّ من الله تعالى، وما صوب فقد بلغ صلى الله عليه وسلم ذلك التصويب، وبقي هذا التصويب دليلا من أدلة نبوته صلى الله عليه وسلم، لأن مدعي النبوة كذبا لن يحرص على الدلالة على أنه قد وقع في الخطأ !
والأهم في ذلك: أنه بهذا التبليغ للتصويب قد تمَّ البلاغ وحفظ الدِّين وعصمت السنة من أي سببٍ يدعو إلى التردد في الطاعة أو التصديق.
فعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، يَقُولُ : " فِيمَ الرَّمَلَانُ الْيَوْمَ وَالْكَشْفُ عَنِ المَنَاكِبِ وَقَدْ أَطَّأَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ ، وَنَفَى الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ مَعَ ذَلِكَ لَا نَدَعُ شَيْئًا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "(1)
__________
(1) - سنن أبى داود( 1889 ) صحيح ، وَحَاصِله أَنَّ عُمَر كَانَ قَدْ هَمَّ بِتَرْكِ الرَّمَل فِي الطَّوَاف لِأَنَّهُ عَرَفَ سَبَبه وَقَدْ اِنْقَضَى فَهَمَّ أَنْ يَتْرُكهُ لِفَقْدِ سَبَبه ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون لَهُ حِكْمَة مَا اِطَّلَعَ عَلَيْهَا فَرَأَى أَنَّ الِاتِّبَاع أَوْلَى "عون المعبود - (ج 4 / ص 279)(1/122)
وبذلك يتضحُ أنه لا فرق بين ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بوحي ابتداء وما صدر عنه صلى الله عليه وسلم باجتهاد في وجوب التصديق لخبره والطاعة لأمره، فكما كان الموحَى به إليه ابتداء لا خلاف في وجوب ذلك فيه، فكذلك الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، لأنه موحَى به إليه انتهاء بالإقرار. فلا فرق بين سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فكلُّها وحيٌ يوجبُ التصديق والطاعة، بدلالة عمومات النصوص السابقة في الكتاب والسنة، والتي لم تخصص سنَّة من سننه صلى الله عليه وسلم: لا سنَّة الوحي ابتداء ولا سنَّة الوحي انتهاء، ولا سنَّة الدين ولا سنَّة الدنيا، فالعمومات تشملُ جميع السنَّة، ولم تخرج منها شيئا.(1)
قال الشاطبي - رحمه الله - (كل ما أخبر به رسول الله صلي الله عليه وسلم من خبر فهو كما أخبر، وهو حقٌّ وصدق معتمد عليه فيما أخبر به وعنه(2)، سواء انبنى عليه في التكليف حكم أم لا(3)،
__________
(1) - انظر: إضاءات بحثية في علوم السنة النبوية ص 23، 24.
(2) - فإذا قال: إن الملك ألقى في روعي كذا؛ فهو صادق في أنه ألقى الملك إليه كذا، وصادق في مضمون الخبر. "د".
(3) - ولا ينافي هذا ما ورد في حديث مسلم في مسألة تأبير النخل(6276 )، قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ : قَدِمَ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ فَقَالَ :« مَا تَصْنَعُونَ ». قَالُوا كُنَّا نَصْنَعُهُ قَالَ :« لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا ». فَتَرَكُوهُ فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ - قَالَ - فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ :« إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ رَأْىٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ».
فإن هذا ليس في الواقع خبرًا، وإنما هو من باب الشك في عادة عندهم اعتقدوها سببًا عاديًّا، وكأنه قال لهم: جربوها، وهذا هو ما يفهم من قوله: « لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا »؛ فهو لم يذكره خبرًا جازمًا، بل هو من باب المشورة عليهم في الأخذ بالتجربة في سبب عادي ليس من الأمور الشرعية، ولا مما قصد به الإخبار عن أمر يعلمه. "د".(1/123)
كما أنه إذا شرع حكما أو أقر أو نهي فهو كما قال عليه الصلاة والسلام، لا يفرق في ذلك بين ما أخبر به الملك عن الله، وبين ما نفث في روعه والقي في نفسه(1)، أو رآه رؤية كشف واطلاع علي مغيب علي وجه خارق للعادة، أو كيف ما كان فذلك معتبر يحتج به، ويبنى عليه في الاعتقادات والأعمال جميعا، لأنه صلي الله عليه وسلم مؤيد بالعصمة، وما ينطق عن الهوى)(2)
هناك شبهة يتشبث بها بعض الذين تأثروا بعفن الحضارة الغربية ونتنها ، حيث يستدلون بقصة تدابير النخل ، على غير ما ذكرنا ليتهربوا من الالتزام بالسنَّة ، وبالتالي من أحكام الإسلام العلمية ، وهذا نص الحديث :
__________
(1) - وهو الإشارة المفهمة من غير بيان بالكلام، وقوله: "وألقي في نفسه" هو الإلهام الذي يكون بدون عبارة الملك وإشارته، ويكون الإلقاء مقرونًا بخلق علم ضروري أنه منه تعالى، وهذا القدر مشترك بين الثلاثة؛ إذ في المشافهة والإشارة لا بد أيضًا من خلق علم ضروري أنه مخاطبة الملك، ولذا كانت الثلاثة حجة قطعية عليه وعلى غيره، والثلاثة وحي ظاهر، يلزمه انتظار واحد منها عند الحاجة للحكم، وإن لم تحصل اجتهد، واجتهاده إنما يكون بالقياس، لا بالترجيح عند التعارض بين الدليلين لعدم علم المتأخر، ولا بغيره مما يكون فيه الاجتهاد عند غيره -صلى الله عليه وسلم- والاجتهاد وحي باطني. "د".
(2) - الموافقات - (ج 4 / ص 464) دار ابن عفان(1/124)
فعن رَافِعَ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ قَدِمَ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ فَقَالَ « مَا تَصْنَعُونَ ». قَالُوا كُنَّا نَصْنَعُهُ قَالَ « لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا ». فَتَرَكُوهُ فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ - قَالَ - فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ « إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ رَأْىٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ».(1)
قَالَ الْعُلَمَاء : قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مِنْ رَأْي ) أَيْ فِي أَمْر الدُّنْيَا وَمَعَايِشهَا لَا عَلَى التَّشْرِيع . فَأَمَّا مَا قَالَهُ بِاجْتِهَادِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرَآهُ شَرْعًا يَجِبُ الْعَمَل بِهِ ، وَلَيْسَ إِبَارُ النَّخْل مِنْ هَذَا النَّوْع ، بَلْ مِنَ النَّوْع الْمَذْكُور قَبْله ، مَعَ أَنَّ لَفْظَةَ الرَّأْي إِنَّمَا أَتَى بِهَا عِكْرِمَة عَلَى الْمَعْنَى لِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيث : قَالَ عِكْرِمَة : أَوْ نَحْو هَذَا ، فَلَمْ يُخْبِرْ بِلَفْظِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَقَّقًا . قَالَ الْعُلَمَاء : وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْل خَبَرًا ، وَإِنَّمَا كَانَ ظَنًّا كَمَا بَيَّنَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَات . قَالُوا : وَرَأْيه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمُور الْمَعَايِش وَظَنّه كَغَيْرِهِ ، فَلَا يُمْتَنَعُ وُقُوع مِثْل هَذَا ، وَلَا نَقْص فِي ذَلِكَ ، وَسَبَبه تَعَلُّق هِمَمهمْ بِالْآخِرَةِ وَمَعَارِفهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .(2)
__________
(1) - صحيح مسلم (6276 ) يأبر : يلقح = نفضت : أسقطت ثمرها
(2) - شرح النووي على مسلم - (ج 8 / ص 85)(1/125)
قلت : فلا تعلق لهم بهذا الخبر بتاتاً ، ومن ثم لو قال أي قول في الطب أو الأمور الحياتية ، فلا يمكن أن تكون إلا وحيا ، طالما أن الله تعالى لم ينبهه عليها ، وهو صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يقول شيئا من عند نفسه ، وهو لم يكن على معرفة دراية تامة به ، معاذ الله تعالى ، فكل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم وحيٌ بلا ريب ، ولكن هذا الوحي غير المتلو على درجات من حيث الصحة أو من حيث الاحتجاج ، ففيه الواجب وفيه السنَّة وفيه المباح وفيه المكروه وفيه الحرام .
قال الشيخ محمد صالح المنجد :" هذا الخبر إن دل على شيء فإنما يدل على أن الأمور الدنيوية التي لا صلة لها بالتشريع تحليلاً أو تحريماً أو صحة أو فساداً ، بل هي من الأمور التجريبية ، لا تدخل تحت مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم كمبلّغ عن ربه ، بل هذا الحديث يدل على أن مثل هذه الأمور خاضعة للتجربة ، والرسول صلى الله عليه وسلم بهذا كان قدوة عملية لحثنا على أن الأمور الدنيوية البحتة التي لا علاقة لها بالتشريع ينبغي علينا أن نبذل الجهد في معرفة ما هو الأصلح من غيره ، وأن نبحث ونستكشف بإجراء التجارب وتحليل المشاهدات وغيرها سائر ما ينفعنا في مجالات التطوير والتحسين في أمور الزراعة والصناعة والبناء وغيرها وأنّ الأمر الذي سكتت فيه الشّريعة فلم تأت فيه بحكم معيّن فالعمل فيه مباح لنا بحسب الضوابط الشّرعية العامة كقاعدة لا ضرر ولا ضرار وهكذا .
وشتان بين هذه الحادثة ومدلولاتها وبين أن يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا حلال أو حرام ، أو أن هذا الأمر موجب للعقوبة أو غير موجب ، أو أن هذا البيع صحيح أو غير صحيح ، إلى آخر ذلك في أمور الدنيا والدين لأن هذه الصور من صلب وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أوجب الله علينا طاعته في كل ما يبلغ عن ربه .(1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية 1/45(1/126)
والذين يحاولون حصر الدّين في الشّعائر التّعبدية فقط كالصلاة والصيام والحجّ ويريدون عزل الدّين عن التحكّم في مجالات الحياة المختلفة كالمجال الاجتماعي والاقتصادي والسّياسي ويقولون إنّ هذا من شأن البشر يفعلون فيه ما يريدون ويحكمون ويشرّعون ما يشتهون ويشاؤون هم كفرة مجرمون لا يريدون أن يجعلوا لشريعة الله سلطانا على حياة النّاس ولا يريدون أن يضبط الإسلام شؤون البشر مع أنّ الله أنزله حاكما ومنظّما وضابطا لا تصلح الحياة إلا به ولا تحصل السّعادة إلا بحكمه ، والنّاس بدونه في تخبّط وضياع وظلم كما نشاهد اليوم في جميع المجتمعات التي لا تحكمها شريعة الله . نسأل أن يهدينا للحقّ ويفتح أبصارنا لمعرفته ويرزقنا قبوله واتّباعه ، وصلى الله على نبينا محمد .اهـ(1)
وقال أيضاً : "إننا ننتبه غاية الانتباه لقول من يُريد أن يطْعن في تبليغه للوحي من خلال كونه صلى الله عليه وسلم قد يُخْطئ في أمور الدنيا ، وشتّان ما بين هذا وهذا ، وكذلك أن ننتبه للضالين الذين يقولون إنّ بعض الأحكام الشّرعية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم هي اجتهادات شخصيّة قابلة للصواب والخطأ أين هؤلاء الضلال من قول الله تعالى . وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) [النجم/3-5] ) ، نسأل الله أن يجنّبنا الزّيغ وأن يعصمنا من الضلالة ، والله تعالى أعلم ، والله أعلم . "(2)
المبحث الخامس عشر
هل اجتهادُ النبي – - صلى الله عليه وسلم - – ينافي كون السنَّة وحيٌ ؟
__________
(1) - الإسلام سؤال وجواب (1053 )
(2) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 5838)(1/127)
فإن قيل: فما قولكم في اجتهاد النبي – - صلى الله عليه وسلم - ؟ إن قلتم بجواز اجتهاده – - صلى الله عليه وسلم - ، فقد رجعتم عن قولكم في أن السنّة وحي، وبالتالي رجعتم عن الإلزام بالتصديق والطاعة؛ لاحتمال الخطأ في الاجتهاد. وإن منعتم الاجتهاد عنه – - صلى الله عليه وسلم - , ماذا تفعلون بالنصوص الدالة على اجتهاده – - صلى الله عليه وسلم - ؟
والجواب: أن وقوع الاجتهاد من النبي – - صلى الله عليه وسلم - مسألةٌ خلافيّة بين العلماء، فمنهم من منعه، مستدلًّا بأدلة عصمة الأنبياء عليهم السلام. ومن أهل العلم من نقل الإجماع على جواز اجتهاد النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا، ومنع من وقوعه في أمور الدين(1).
ومنهم من جَوّز الاجتهاد في أمور الدين، وهو قول الجمهور، واختلفوا: هل هو معصومٌ في اجتهاده, وفي ذلك يقول أبو المظفّر السمعاني(2): « وإنما تحرم المخالفة, وإن كان صدر عن اجتهاد؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان معصومًا عن الخطأ في الأحكام، فإن كان معصومًا عن الخطأ محروساً عن الزّلل، كان ما يصدر عنه محكومًا بصحّته، مقطوعًا بذلك؛ فلذلك حَرُمت مخالفته ».
ومنهم من قال هو غير معصوم لكنه لا يُقَرُّ على الخطأ، ووقع الإجماعُ على عدم الإقرار بالخطأ مطلقًا(3), سواءً كانت دنوية أو دينيّة، ومما يدل على ذلك آيات عتابه –صلى الله عليه وسلم-, مما يدل على حصول الاجتهاد منه –صلى الله عليه وسلم-, ووقوع الخطأ، وأنه –صلى الله عليه وسلم- لم يقرّ عليه.
__________
(1) - البحر المحيط للزركشي (4/214)، والتحبير شرح التحرير للمرداوي (8/3889) .
(2) - في قواطع الأدلة (4/84- 85)
(3) - المسوّدة لآل تيمية (79، 190)(1/128)
ومن ذلك أيضاً: حديث عائشة ل، قالت: دخل عليّ رسول الله –صلى الله عليه وسلم-, وعندي امرأةٌ من اليهود، وهي تقول: هل شعرت أنكم تُفْتَنُون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله–صلى الله عليه وسلم-، وقال: "إنما تُفْتَنُ يهود". قالت عائشة: فلبثنا لياليَ، ثم قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "هل شعرتِ أنه أُوحِىَ إليَّ أنّكم تُفتنون في القبور؟". قالت عائشة: فسمعتُ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بَعْدُ يستعيذُ من عذاب القبر.(1)
قال العلماء(2): " إن النبيّ –صلى الله عليه وسلم- نفى فتنة القبر أوّلًا عن أهل التوحيد، اجتهادًا منه، لمّا وجد أماراتٍ تدلُّ على أن عذاب القبر خاصٌّ بالكفار. ثمّ أُوحي إليه بأن من أهل التوحيد من يُعذّب في قبره، فرجع عن اجتهاده، وأخبر بما نزل عليه به الوحي في ذلك.
وفي هذا الحديث إلزامٌ قويٌّ لمن احتجّ باجتهاد النبيّ –صلى الله عليه وسلم- في أمور الدنيا وخطأه فيها، كما في حديث تأبير النخل، على أن السنَّة في أمور الدنيا ليست وحياً. فهذا الحديث وقع فيه للنبيّ –صلى الله عليه وسلم- اجتهادٌ في أمر عقدي من أمور الدين، وأخطأ فيه، فهل سيلتزمون بطريقة استدلالهم: أن السنَّة في أمور العقيدة أو الدين عمومًا ليست وحيًا؟! هذا مما يدل على وهاء استدلالهم.
__________
(1) - أخرجه مسلم رقم( 584)
(2) - وقد شرحه الطحاوي في مشكل الآثار (13/191 – 198)، والقرطبي في المفهم (2/207 – 208) والنووي في المنهاج شرح مسلم (3/87- 88) وغيرهم: بما دلَّ عليه ظاهر الحديث(1/129)
وفي ذلك يقول القاضي عياض (ت544هـ) في "الشفا بتعريف حقوق المصطفى": "وأمّا أقواله الدنيويّة: من إخباره عن أحواله وأحوال غيره، وما يفعله أو فعله، فقد قدّمْنا أن الخُلفَ فيها ممتنع عليه من كل حال وعلى أي وجهٍ: من عمدٍ أو سهوٍ، أو صحّةٍ أو مرضٍ، أ و رضيً أو غضب. وأنه – - صلى الله عليه وسلم - معصومٌ فيما طريقُه الخبر المحض مما يدخله الصِّدْقُ والكذب"(1).
وبذلك نخلص أن اجتهاد النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا والدِّين لا يُخْرِجُ السنَّة عن أن تكون بوحي؛ لأن اجتهاده – - صلى الله عليه وسلم - في بعض المسائل لا ينفي أنه كان يُوحَى إليه بسنن غيرها ابتداءً (وهذا محلّ إجماع)، وأمّا اجتهاده – - صلى الله عليه وسلم - : فهو إما أن يُقَرَّ عليه من ربّه –عز وجل-، وهو الغالب, بدليل قلّة المسائل التي صُوّبَ فيها اجتهاده –صلى الله عليه وسلم-, وبدليل أنه –صلى الله عليه وسلم- أَوْلَى الخلق بإصابة الحقِّ.
فيكون بهذا الإقرار منزَّهًا عن الخطأ، وإمّا أن يُصَوَّبَ اجتهادُه بنزول الوحي عليه بكتابٍ أو سنَّةٍ ببيان أنه أخطأ وأن الصواب كذا وكذا، وهو بهذا التصويب عُصِم من نَقْصِ البلاغ أو تكذيب الواقع لخطابه – - صلى الله عليه وسلم - .
وهذا التقرير البالغ هو الذي يفيدنا التقرير التالي، الذي به تتحرَّر المسألة، وينحلّ محلّ النزاع، وهو: أنّ السنّة وحيٌ: حالًا أو مآلًا، أي إنها وحي: ابتداءً، أو انتهاء (بالإقرار أو التصويب).
__________
(1) - الشفا -مع شرحه لملّا علي القاري- (4/471).(1/130)
وأنت تلحظ في هذين الجوابين أنهما يعودان بالاجتهاد النبوي إلى أنه معبِّرٌ عن مراضي الله تعالى في التشريع: إمّا بعصمة النبي –صلى الله عليه وسلم- عن الخطأ في الاجتهاد، أو بعدم إقراره –صلى الله عليه وسلم- على الخطأ، فما أُقرَّ عليه (وهو الغالب) فهو مُقَرٌّ عليه من الله تعالى، فالله تعالى راضٍ عنه. وما لم يُقرَّ عليه، فقد بلَّّغنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فيه عن مراضي الله، فكان اجتهادُه –صلى الله عليه وسلم- الأول كالمنسوخ ببلاغه الثاني لتصويب الله تعالى الذي جاء كالناسخ له.
ولم يقل أحدٌ من أهل العلم، لا من السلف ولا من الخلف: إن ما لم يُقرَّ عليه النبيّ –صلى الله عليه وسلم- إلى وفاته مشروعٌ يجوز العمل به، وكيف يقول هذا أحدٌ وهو –صلى الله عليه وسلم- لم يُقرَّ عليه من ربّه عز وجل. فهذا الصِّنف من اجتهاداته –صلى الله عليه وسلم- خارجُ محلِّ النقاش أصلاً، ولا ينازع فيه أحد. وأمّا ما سواه: فقد أفادنا الجوابان السابقان أنّ الاجتهاد النبوي فيه معّبِّرٌ عن مراضي الله عز وجل، في التشريع، وبالتالي فهو وَحْيٌ، لكنه وَحْيٌ مآلاً.(1/131)
وبذلك تصحّ تلك الأوامرُ المطلقةُ والنصوصُ العامةُ التي أضاء بها الكتاب وتلألأت بها السنة: الدالةُ الدلالةَ القطعيةَ: على وجوب تصديق خبره – - صلى الله عليه وسلم - ، وطاعة أوامره – - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه – - صلى الله عليه وسلم - (وبعد وفاته) لا يُحتملُ أن يكون في أقواله وأخباره ما لم يُقرّه الله تعالى، وبالتالي: فجميع ما لم يُصَوَّب من أقواله – - صلى الله عليه وسلم - فكُلُّه وحي من الله تعالى، وما صُوِّب فقد بلَّغ – - صلى الله عليه وسلم - عن ربّه –عز وجل- ذلك التصويب، وبقي هذا التصويب دليلًا من أدلّة نبوّته – - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنّ مدّعي النبوّة كذبًا لن يحرص على الدلالة على أنه قد وقع في الخطأ! والأهم في ذلك: أنه بهذا التبليغ للتصويب قد تمَّ البلاغُ وحُفِظَ الدين وعُصمت السنَّةُ من أي سببٍ يدعو إلى التردّد في الطاعة أو التصديق.
وبذلك يتّضح أنه لا فرق بين ما صدر عن النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - بوحي ابتداءً وما صدر عنه " باجتهاد : في وجوب التصديق لخبره والطاعة لأمره ؛ فكما كان الموحَى به إليه ابتداءً لا خلاف في وجوب ذلك فيه , فكذلك الاجتهادُ منه" ؛ لأنه مُوحَى به إليه انتهاءً بالإقرار . فلا فرق بين سنة النبيّ " , فكلُّها وحيٌ يُوجِبُ التصديق والطاعة , بدلالة عمومات النصوص السابقة في الكتاب والسنة , والتي لم تُخصِّصْ سنةً من سننه " : لا سنةَ الوحي ابتداءً ولا سنة الوحي انتهاءً , ولا سنَّةَ الدِّين ولا سنةَ الدنيا . فالعموماتُ تشملُ جميع السنة, ولم تُخرج منها شيئًا . بل من تلك النصوص ما ورد في وجوب طاعته " في اجتهاده خاصة, ومنها ما ورد في وجوب طاعته في أمور الدنيا على وجه التحديد .(1/132)
ومن هنا أدخل في الجواب عن الحديث الذي جعله بعضهم مُتّكأَهُ لردّ كثير من السُّننِ الثابتة عنه – - صلى الله عليه وسلم - , لا من جهة عدم صحّتها عنه – - صلى الله عليه وسلم - عندهم، وإنما من جهة أنها اجتهادٌ قابلٌ للصواب والخطأ. فهم قد لا يُعارضون في الثبوت، بل قد يقرّرون أن النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - قد قال ذلك الحديث؛ لكنّهم يعارضون في وجوب التصديق بما تضمّنه ذلك الحديث، وفي العمل بما دلّ عليه؛ لأنه عندهم ليس من السنّة التي هي وحيٌ.
وهذا الحديث هو عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ فَقَالَ « لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ ». قَالَ فَخَرَجَ شِيصًا(1)فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ « مَا لِنَخْلِكُمْ ». قَالُوا قُلْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ « أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ »..(2)
وفي لفظ آخر لهذا الوجه من أوجه روايات الحديث: عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ أَصْوَاتًا. فَقَالَ « مَا هَذَا الصَّوْتُ ».
قَالُوا النَّخْلُ يُؤَبِّرُونَهُ فَقَالَ « لَوْ لَمْ يَفْعَلُوا لَصَلَحَ ». فَلَمْ يُؤَبِّرُوا عَامَئِذٍ فَصَارَ شِيصًا فَذَكَرُوا لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :« إِنْ كَانَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنَكُمْ بِهِ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ دِينِكُمْ فَإِلَىَّ »..(3)
__________
(1) - الشِّيص: التمر الذي لم يكتمل نُمُوُّهُ ونُضْجُهُ، حتى ربّما لم يأتِ له نوى .
(2) - صحيح مسلم (6277 )
(3) - سنن ابن ماجه(2565 ) صحيح(1/133)
ووجه دلالة هذا الحديث على ما يستدلُّ به القومُ المشار إليهم آنفًا: أنه صريح في أنّ النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في أمور الدنيا، وأنه – - صلى الله عليه وسلم - لذلك قد يخطئ، وبناءً على ذلك وضع قاعدةً عامّةً لنصوصه المتعلّقة بأمور الدنيا، وأعلمنا أنّ الأمر فيها راجع إلى تحقيق المصلحة التي يعرفها أهل الدنيا، وأنه لا يلزمنا فيها اتّباع أمره – - صلى الله عليه وسلم - , وذلك عندما قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، وقال: "إذا كان شيءٌ من أمر دنياكم: فشأنكم، وإذا كان شيءٌ من أمر دينكم: فإليَّ".
هذا الحديث هو عمدة فئامٍ كبيرٍ ممّن ردّوا عامّةَ السنة أو قدْرًا منها، وجعلوه أصلًا ما أكثر ما يلهجون به في مقالاتهم وبحوثهم، وكأنّه أصل الأصول، وأصحُّ منقول!!
وأوّلُ ما يؤخذ على هؤلاء هو هذا الاعتماد المبالغ فيه وفي دلالته، حيث جعلوا هذا الحديث الوحيد أساسًا ترجع النصوص إليه؛ وكأنّه هو المُحْكَمُ الذي تؤول إليه كل نصوص القرآن والسنَّة التي تقدّم قطرةٌ من بحرها، وغرفةٌ من نهرها!!
وهذا خطأٌ منهجيّ، لا من جهة أنه نصٌّ واحد مقابل عشرات ... بل مئات النصوص، بل من جهة أنّهم لم يُمعنوا النظر في ألفاظ الرّواية، لينظروا هل هي دالةٌ على ما يريدون، أم لا تدل؟ وهذا الخطأ كان سيكون مقبولًا، لو لم يكن هذا الاستدلالُ يخالف جميع تلك النصوص.
أمَا وقد خالفها، فكان هذا يوجب عليهم عميق النظر والدراسة.
وقبل الدخول إلى مناقشتهم في انتقائيّتهم لأحد ألفاظ الرواية؛ لأنها هي الرواية التي يؤيّد لفظُها مُرادَهم، أودّ مُبَاحَثَتَهم في أصل استدلالهم باللفظ الذي أوردوه واستدلّوا به:(1/134)
فأقول لهم: ما المراد بأمر الدنيا الذي تجعلونه ممّا لا يرُجع فيه إلى السنّة؟ حيث إنه يدخل في أمر الدنيا كلّ ما لا يدخلُ في أمر العقائد والعبادات المحضة: كالمعاملات: من بيع وشراء، ونكاح وطلاق، وآداب للحديث واللباس والطعام والشراب وعموم الأخلاق ... وغير ذلك.
فإن قالوا: المقصود جميعُ ما ذُكر، لدخوله تحت دلالة قوله (أمر الدنيا)، كان هذا القول منهم دليلًا على سقوط فهمهم وبطلانه؛ لأنه خالف قطعيّات الكتاب والسنَّة الدالة على وجوب طاعة النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - فيما ذُكر من أمور المعاملات والآداب والأخلاق، وخالف أيضًا إجماعَ العلماء: فهذه كتب الفقه على جميع المذاهب وكتب العلم لدى جميع أهل العلم: حفيلةٌ بنصوص السنَّة في ذلك، عظيمةُ العناية بالاهتداء بنورها، مستضيئةٌ بهدايتها.
وإن قالوا: بل بعض ذلك دون بعض، كأحاديث الطبّ.
قلنا: وما دليل هذا التخصيص؟ ثم إن الحديث الذي تحتجّون به ليس في الطب، بل النصّ الذي تعتمدونه ظاهره العموم (أمر الدنيا). فالتخصيص بلا دليل، دليلٌ على بطلان ذلك القيل.
وبذلك نخلص أن هذا الفهم باطلٌ من أساسه؛ فلا عُمومُهُ مقبول، ولا خُصوصُه بالذي يُساعدهُ الدليل؛ بل بُطلان طرفيه أوضحُ مِنْ أن يحتاجَ إلى شيءٍ من التطويل.
وهذا يكفي لانعقاد القلوب على خلاف هذا الفهم، وعلى أن نعلم علم اليقين أن معارضة النصوص القاطعة في الكتاب والسنة بهذا الفهم السَّقيم لهذا الحديث غير قويم.
فإن قيل: فما الفهم الصحيح لهذا الحديث؟
قيل: هو أن تجمع طرق الحديث، وتنظر في ألفاظه أوّلًا:(1/135)
فقد روى هذا الحديث مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ فَقَالَ « مَا يَصْنَعُ هَؤُلاَءِ ». فَقَالُوا يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِى الأُنْثَى فَيَلْقَحُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا أَظُنُّ يُغْنِى ذَلِكَ شَيْئًا ». قَالَ فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ فَقَالَ « إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنِّى إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلاَ تُؤَاخِذُونِى بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّى لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ »..(1)
ورواه رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ قَالَ قَدِمَ نَبِىُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ فَقَالَ « مَا تَصْنَعُونَ ». قَالُوا كُنَّا نَصْنَعُهُ قَالَ: « لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا ». فَتَرَكُوهُ فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ - قَالَ - فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: « إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ رَأْىٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ». قَالَ عِكْرِمَةُ أَوْ نَحْوَ هَذَا. قَالَ الْمَعْقِرِىُّ فَنَفَضَتْ. وَلَمْ يَشُكَّ.(2).
وسنقف مع هذين اللفظين عدة وقفات:
__________
(1) - صحيح مسلم(6275 )
(2) - صحيح مسلم (6276) -يأبر : يلقح = نفضت : أسقطت ثمرها(1/136)
أوّلاً: جاء التصريح في كلا اللفظين من النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - أنه لم ينههم عن تلقيح النخل إلا بناءً على الاجتهاد، ووضّح لهم – - صلى الله عليه وسلم - ابتداءً أنه لا يقول ما يقوله في ذلك اعتمادًا على خبر السماء، بل اعتمادًا على ظنّه واجتهاده. فقد قال في رواية طلحة –رضي الله عنه-: "ما أظن يغني ذلك شيئًا"، وقال في رواية رافع –رضي الله عنه- : "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا"، ومن المعلوم أنه لو كان ما قاله في شأن تلقيح النخل وحيًا لما قال: "أظن" ولا "لعلكم"، فهذان اللفظان قاطعان لمن سمعهما منه – - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يُخبر عن وحي السماء, وإنما يُخبر عن اجتهاده.
وهذا التنبيه يوجب علينا التفريق بين نصٍّ نبويٍّ صريح بأنه اجتهادٌ غير مجزوم به، مثل هذا النص, ومن أمثلته أيضاً حديث ثابت بن يزيد الأنصاري –رضي الله عنه-، قال: كنّا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في جيش، فأصبنا ضِبَابًا، فشويت منها ضَبًّا، فأتيتُ به النبيّ –صلى الله عليه وسلم-، فجعل ينظر إليه ويُقلِّبُه, وقال: " إن أُمّةً مُسخت، لا يُدْرَي ما فَعَلت، وإني لا أدري لعل هذا منها ". فما أمر بأكلها، ولا نهى.(1)
__________
(1) - أخرجه أبو داود: رقم( 3789) والنسائي: رقم( 4320 – 4322) وابن ماجه: رقم(3238) بإسناد صحيح.(1/137)
وحديث أَبِى سَعِيدٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ إِنِّى فِى غَائِطٍ مَضَبَّةٍ وَإِنَّهُ عَامَّةُ طَعَامِ أَهْلِى - قَالَ - فَلَمْ يُجِبْهُ فَقُلْنَا عَاوِدْهُ. فَعَاوَدَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ثَلاَثًا ثُمَّ نَادَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى الثَّالِثَةِ فَقَالَ « يَا أَعْرَابِىُّ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ أَوْ غَضِبَ عَلَى سِبْطٍ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ فَمَسَخَهُمْ دَوَابَّ يَدِبُّونَ فِى الأَرْضِ فَلاَ أَدْرِى لَعَلَّ هَذَا مِنْهَا فَلَسْتُ آكُلُهَا وَلاَ أَنْهَى عَنْهَا ».(1)
وحديث أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ لاَ يُدْرَى مَا فَعَلَتْ وَلاَ أُرَاهَا إِلاَّ الْفَأْرَ أَلاَ تَرَوْنَهَا إِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الإِبِلِ لَمْ تَشْرَبْهُ وَإِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ شَرِبَتْهُ ».(2)
ثم إن النبيّ –صلى الله عليه وسلم- أُوحي إليه بما صحّ من حديث عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : وَذُكِرَتْ عِنْدَهُ الْقِرَدَةُ قَالَ مِسْعَرٌ وَأُرَاهُ قَالَ وَالْخَنَازِيرُ مِنْ مَسْخٍ فَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِمَسْخٍ نَسْلاً وَلاَ عَقِبًا وَقَدْ كَانَتِ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ قَبْلَ ذَلِكَ ».(3)
فتبيّن أن ما قاله –صلى الله عليه وسلم- في شأن الضبّ والفأر كان ظنًّا (كما جاء مصرِّحًا به)، ثم أُوحي إليه –صلى الله عليه وسلم- بأن المُسُوخ لا نسل لها. فقطع بذلك دون ظنّ أو تردّد.(4)
__________
(1) - صحيح مسلم (5156 )
(2) - صحيح مسلم(7688 )
(3) - صحيح مسلم(6941)
(4) - وهذا ما قرّره الطحاوي في شرح مشكل الآثار (8/325-327، 328، 338 رقم 3273 – 3288).(1/138)
ونصٍّ آخر صدر منه – - صلى الله عليه وسلم - على وجه القطع وعدم الشك، فهذا حقٌ مطلقًا،إلا أن يُصوّبه النبي – - صلى الله عليه وسلم - بما يُوحَى إليه من قرآن أو سنّة.
ثانيًا: أن الخطأ في هذا الحديث قد وقع من الصحابة الذين تركوا تلقيح النَّخل(1)؛ لأنهم حملوا ظنّ النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - على عدم احتمال الخطأ، وكأنه وحيٌ، فقدّموا ظنّه – - صلى الله عليه وسلم - على ما علموه يقينًا من ضرورة تلقيح النخل!!
قال المناوي في (فيض القدير): « قوله: "إنما أنا بشر" يعني: أُخطئ وأُصيب فيما لا يتعلّق بالدين؛ لأن الإنسان محلُّ السهو والنسيان، ومراده بالرأي: في أمور الدنيا، على ما عليه جمعٌ. لكنّ بعض الكاملين قال: أراد به الظنّ؛ لأن ما صدر عنه برأيه واجتهاده وأُقِرَّ عليه حُجَّةُ الإسلام مطلقًا »(2).
وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء الكاملون، هو الذي يدلّ عليه لفظ الحديث وسياقُه، فاحرص أن تكون من الكاملين!!
فإنك إن نظرت في لفظ الحديث بروايتيه السابقتين، تجد أنه – - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم بظنّه المصرَّح بأنه ظنّ، ثم لمّا أخذوا بظنِّه قال لهم: (( إنما ظننتُ ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظنّ ))، أي ما دمتُ قد صَرّحتُ لكم بأني أظنّ فلا مؤاخذةَ عليَّ، ثم إنه – - صلى الله عليه وسلم - جعل الذي يُقابل الظن: ما أخبر به عن الله تعالى، فقال: (( ولكن إذا حدثكم عن الله شيئًا فخذوا به )). إذن فليس هناك إلا ظنٌّ أو وحيٌ، والظنّ هو ما صرَّح بكونه ظنًّا، والوحي ما قطع به وأُقرّ عليه؛ لأنه – - صلى الله عليه وسلم - لا يُقَرّ على خطأ.
__________
(1) - هذا ما صرح به شيخ الإسلام إن تيميه (مجموع الفتاوى: 18/12) .
(2) - فيض القدير (2/567) .(1/139)
ويشهد لذلك أيضًا اللفظ الآخر، فإنه – - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إنما أنا بشر، فإذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي، فإنما أنا بشر ))، فتنبّه أنه قابَلَ بين الدين والرأي (أي: الاجتهاد الظنّي)، ولم يُقابل بين الدين والدنيا.
والمعنى: أنّ السنّة التي من الدِّين (أي من الوحي) هي التي لم تكن باجتهاد، وليست هي التي تكون في أمور الدنيا مطلقًا. فسياق الحديث دلّ الصحابة على الطريقة التي يفرّقون بها بين سنة الدين والرأي (الاجتهاد)، ولم يأت في الحديث ما يفرّقون به بينهما؛ إلا تصريحُه بأنه قال ما قال عن ظنّ واجتهاد. فالحديث جاء للتفريق بين النصّ الذي يُصَرَّح فيه بأنه ظنّ، والنصّ الآخر القاطع، وقد قال الطحاوي معلّقاً على هذا الحديث: " فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَا قَالَهُ مِنْ جِهَةِ الظَّنِّ , فَهُوَ فِيهِ كَسَائِرِ النَّاسِ فِي ظُنُونِهِمْ , وَأَنَّ الَّذِي يَقُولُهُ , مِمَّا لَا يَكُونُ عَلَى خِلَافِ مَا يَقُولُهُ هُوَ مَا يَقُولُهُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . فَلَمَّا كَانَ نَهْيُهُ عَنِ الْغَيْلَةِ , لِمَا كَانَ خَافَ مِنْهَا عَلَى أَوْلَادِ الْحَوَامِلِ , ثُمَّ أَبَاحَهَا "(1).
فتنبهْ أن الطحاوي (رحمه الله) جعل القِسْمَةَ: ظنًّا ووحيًا، لا دنيا ودين، وهذا هو موطن الشاهد في كلامه، وهو واضح الدلالة لمن تأمله.
أمَّا ما اجتهد فيه النبي – - صلى الله عليه وسلم - وأخبر به جازمًا، ثم صَوّبه الوحي بعد ذلك؛ فهذا وَجْهٌ آخر للتفريق بين سنَّة الوحي والاجتهاد منه – - صلى الله عليه وسلم - الذي ليس بوحي، بأن يُقال في هذا الوجه: إنّ ما أُقر عليه النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - فهو وحيٌ، وما صُوّبَ فقد عرفنا بالتصويب أنه ما قاله قبله ليس وحيًا.
__________
(1) - شرح معاني الآثار (3/48) (2854 ) و وانظر أيضا قوله (4538)(1/140)
وقد سبق أ ن ما اجتهد فيه النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - وصَوّبه له الوحي لا يختصُّ بأمور الدنيا, فقد اجتهد النبيّ في أمور الدين أيضًا وصَوّب الوحي له اجتهاده. فإن كان مجرّد تصويب الوحي لاجتهاده – - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا سببًا لاعتقاد أنها ليست وحيًا، فيلزم أن يكون تصويب الوحي لاجتهاده – - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدين سببًا لاعتقاد أنها ليست وحيًا أيضًا!!
وهذا ما لا يقوله إلا غُلاة أهل الضلال؛ لأنه يخالف قطعيات الكتاب والسنَّة وإجماع علماء المسلمين وعوامّهم.
وبذلك نخلص أن الشرع المحفوظ ونصوصه المصونة قد جعلا لنا وسيلتين للتمييز بين: سنَّة الوحي التي لا تحتملُ إلا الصدق وتوجب العلم أو العلم والعمل، وسنة الاجتهاد التي تحتمل الصواب والخطأ.
وهاتان الوسيلتان هما:
(1) ما صرّح النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - فيه بأنه يقوله عن ظنّ واجتهاد .
(2) وما لم يُقرّه عليه الوحي، فصوّبه له. وما سوى ذلك وحيٌ مطلقًا, سواءٌ أكان في أمور الدين أو أمور الدنيا.
ولذلك لمّا سُئل شيخ الإسلام ابن تيميّة: ما حدُّ الحديث النبوي؟ مَا قَالَهُ فِي عُمُرِهِ أَوْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ أَوْ تَشْرِيعًا فَكُلُّ مَا قَالَهُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَأَقَرَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْسَخْ فَهُوَ تَشْرِيعٌ لَكِنَّ التَّشْرِيعَ يَتَضَمَّنُ الْإِيجَابَ وَالتَّحْرِيمَ وَالْإِبَاحَةَ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَنَافِعِ فِي الطِّبِّ . فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ إبَاحَةَ ذَلِكَ الدَّوَاءِ وَالِانْتِفَاعَ بِهِ فَهُوَ شَرْعٌ لِإِبَاحَتِهِ وَقَدْ يَكُونُ شَرْعًا لِاسْتِحْبَابِهِ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ تَنَازَعُوا فِي التَّدَاوِي هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ أَوْ وَاجِبٌ ؟ .(1/141)
وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُبَاحٌ ؛ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ وَهُوَ : مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ بَقَاءُ النَّفْسِ لَا بِغَيْرِهِ كَمَا يَجِبُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عِنْد الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ قَالَ مَسْرُوقٌ : مَن اُضْطُرَّ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَقَدْ يَحْصُلُ أَحْيَانًا لِلْإِنْسَانِ إذَا اسْتَحَرَّ الْمَرَضَ مَا إنْ لَمْ يَتَعَالَجْ مَعَهُ مَاتَ وَالْعِلَاجُ الْمُعْتَادُ تَحْصُلُ مَعَهُ الْحَيَاةُ كَالتَّغْذِيَةِ لِلضَّعِيفِ وَكَاسْتِخْرَاجِ الدَّمِ أَحْيَانًا . وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ جَمِيعَ أَقْوَالِهِ يُسْتَفَادُ مِنْهَا شَرْعٌ وَهُوَ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا مرَّ بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ فَقَالَ: « مَا يَصْنَعُ هَؤُلاَءِ ». فَقَالُوا يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِى الأُنْثَى فَيَلْقَحُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا أَظُنُّ يُغْنِى ذَلِكَ شَيْئًا ». قَالَ فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ فَقَالَ « إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنِّى إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلاَ تُؤَاخِذُونِى بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّى لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ »(1).
__________
(1) - صحيح مسلم(6275)(1/142)
وَقَالَ : « إِذَا كَانَ شَىْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ فَإِذَا كَانَ مِنْ أَمْر دِينِكُمْ فَإِلَىَّ »(1). وَهُوَ لَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ التَّلْقِيحِ لَكِنْ هُمْ غَلِطُوا فِي ظَنِّهِمْ أَنَّهُ نَهَاهُمْ كَمَا غَلِطَ مَنْ غَلِطَ فِي ظَنِّهِ أَنَّ ( الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ ) و ( الْخَيْطَ الْأَسْوَدَ ) هُوََ الْحَبْلُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ ».(2)
ثالثًا: قوله – - صلى الله عليه وسلم - في اللفظ الذي يحتجّ به المخالفون: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، لم يأت مبتورًا بلا قصّة، ولا كان هو اللفظ الوحيد الذي جاء به هذا الخبر، والروايات الصحيحة يفسّر بعضها بعضًا، بل هي أولى ما يُفسَّر به الحديث.
فالنبيّ – - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، إنما قاله لما صَرّح لهم بالظنّ والاجتهاد، وما دام هذا هو سياق الخبر، فالمعنى على هذا السياق: إذا أخبرتكم بالظنّ وكان عندكم يقينٌ بخلافه مما تعلمونه من أمور دنياكم(3)، فقدّموا يقينكم بالأمر الدنيوي على ظنّي فيه .
__________
(1) - مسند أحمد (12880) صحيح
(2) - مجموع الفتاوى - (ج 18 / ص 11)
(3) - لأن أمور الدين لا يمكن أن يكون عندهم فيها يقينٌ، ولا يكون عند النبي –صلى الله عليه وسلم- فيه إلا الظنّ!(1/143)
ومن ثَمَّ: لم يكن قوله – - صلى الله عليه وسلم - : "أنتم أعلم بأمر دينكم" قاعدةً عامّةً في أمور الدنيا، ولا يصحّ أن يُتصَوَّر هذا في عموم العقلاء والحكماء أصلًا، فضلًا عن النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - . فإنه مما لا شكَّ فيه أن النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - كان له من العقل والحكمة ما يجعله باجتهاده أقدرَ على تسيير كثير من أمور الدنيا في السياسة العامة وترتيب أمر الدولة وإصلاح المجتمع وغير ذلك بما لا يصل إليه أعلمُ أهل الدنيا علمًا بها. فكيف يصحُّ تصوّرُ فَهْمِ المخالفين، من أن قوله – - صلى الله عليه وسلم - : "أنتم أعلم بأمر دنياكم" قاعدةٌ عامّةٌ في كل أمور الدنيا؟!!
هلّا أنزلوا النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - منزلة عامة العقلاء الذين لا بدّ أن يكون للواحد منهم من اليقين في أمور الدنيا اليقينيّاتُ الكثيرة!!
إذن فيلزمهم أن لا يقولوا: إن ذلك النصّ قاعدةٌ عامّة, بل عليهم أن يقولوا: إن المقصود به بعض أمور الدنيا لا كلّها، أو بعض أخباره – - صلى الله عليه وسلم - عن أمور الدنيا لا كُّ أخباره – - صلى الله عليه وسلم - عنها. ثم لابُدّ بعد هذا التبعيض أن يبيّنوا كيفيّة تمييز هذا النوع من ذاك، وإلا أدّى عدم التمييز إلى إبطال الكل، وما هذا في السوء إلا كالذي هربنا منه، من إنزال النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - دون منزلة بقية العقلاء؛ لأن القولين أدّيا إلى ردِّ كل أخباره – - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا، وكأنّ النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - عندما قال لهم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" على هذا الفَهْم السقيم يُشرّع لهم مخالفته في كل أمور الدنيا، وكأنه يقول لهم: لا تطيعوني في أمور دنياكم أبدًا، إنما الطاعة في الدين فقط!!! وما أقبح هذا من فهم!! وما أسوأ أثره على الدين والدنيا!!!(1/144)
ونحن نعلم أن هناك فرقًا بين أحكامه – - صلى الله عليه وسلم - في حوادث خاصّة، مما لا عموم لها، كحكمه بين الخصوم للقضاء، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِى لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ ».(1)
مما يُعبّر عنه العلماء بأنه حادثة عين لا عموم لها، فهناك فرقٌ بين هذه وبين إطلاقاته العامّة التي لا علاقة لها بفرد ولا اختصاص لها بأحد، وإن كان بعضُها قد جاء لسبب، إذا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
وهذه الأحكام الخاصّة التي لا عموم فيها (كحكمه – - صلى الله عليه وسلم - على سبيل القضاء والإمامة والسياسة) هي التي ربما عَبّر عنها العلماء بأمور الدنيا، التي لا يلزم أن تكون بوحي، بل التي قد يحكم النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - فيها بحكم ولا يُصَوَّب ويكون مخالفًا للواقع. لأنّ الخطأ في هذه الأمور لا يؤدّي إلى خطأ في التصوّر للأمة كلها إلى قيام الساعة، ولا يَفْهَمُ الناسُ منه أنه حكمٌ يتعدَّى إلى غير من حُكم له أو عليه، ولا يَؤُولُ إلى خلل في بلاغ الدين.
__________
(1) - صحيح مسلم(4570) -الألحن : الأعرف والأقدر على بيان مقصوده(1/145)
لذلك لو أخطأ النبي –صلى الله عليه وسلم- في مثل هذه الأمور ولو لم يصوَّب هذا الخطأ لا يكون في ذلك خطر على صحّة تبليغ الشريعة، ولا يؤدّي ذلك الخطأ –لو وقع- إلى تحريف معالم الدِّين؛ ولذلك لم يكن هناك ضرورة مطلقةٌ إلى تصويب مثله. وهذا بخلاف الخبر الجازم من النبيّ –صلى الله عليه وسلم-، الذي يفهم المخاطَبون به أنه حقٌّ وصِدْق، وهو بخلاف ذلك، فيما لو أُقر النبيّ –صلى الله عليه وسلم- فيه على الخطأ. فإنه يؤدّي إلى تحريف الحقيقة، وتشويه الدين..
ولذلك عَلّق القاضي عياض على حديث التأبير بقوله: « وقول النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - ها هنا للأنصار في النخل ليس على وجه الخبر الذي يدخله الصدق والكذب، فَيُنَزَّهُ النبيُّ – - صلى الله عليه وسلم - عن الخُلْف فيه، وإنما كان على طريق الرأي منه, ولذلك قال لهم : (( إنما ظننت ظنًا, وأنتم أعلم بأمر دنياكم)) (قال القاضي:) وحكمُ الأنبياء وآراؤهم في حكم أمور الدنيا حكمُ غيرهم، من اعتقاد بعض الأمور على خلاف ما هي عليه، ولا وُصِمَ عليهم في ذلك، إذ هِمَمُهُم متعلّقةٌ بالآخرة والملأ الأعلى وأوامِر الشريعةِ ونواهيها، وأمرُ الدنيا يُضادُّها »(1).
فانظر كيف جعل سبب عدم عَدِّ ما وقع منه – - صلى الله عليه وسلم - في هذا الخبر خُلْفًا للواقع هو أنه رأيٌ وظنٌّ واجتهادٌ، ولم يجعل السبب أنه من أمور الدنيا. ولذلك لمّا ساوى بين الأنبياء وغيرهم في أحكام الدنيا ينبغي أن يُحْمَل قوله على أحد أمرين: إمّا على مساواة ظنّهم واجتهادهم في احتماله الخطأ لظنّ غيرهم في مطلق هذا الاحتمال، وهو الذي يشهد له فاتحة كلامه. وإمّا أن يُحملَ على حوادث الأعيان التي لا عموم لها، فاجتهادهم فيها غير معصوم.. لا ابتداءً ولا انتهاءً.
__________
(1) - إكمال المعلم للقاضي عياض (7/334-335).(1/146)
وكيف يُفهم كلام القاضي عياض على خلاف ذلك، وقد نقلنا آنفًا كلامًا له يقطع بأنه لا يخالفه, والذي قال في خاتمته متحدثًا عن أقواله – - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا: « وأنه – - صلى الله عليه وسلم - معصومٌ من الخُلْف، هذا فيما طريقُه الخبر المحض, مما يدخله الصدق والكذب»(1)
فالجمعُ بين قوليه يُبَيِّنُ مُرادَهُ بوضوح، خاصة مع تنبيهه (رحمه الله) أن كلامَ النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - في تأبير النخل لم يكن خبرًا أصلًا، وإنما كان ظنًّا؛ لأن الخبر هو الذي يحتمل التصديق والتكذيب، وأمّا الظن فلا يحتملهما، وإن كان يحتمل التخطئ والتصويب. وهذا هو الفرق بين: القول الجازم وهو الخبر المحض، فلا يصحُّ اعتقادُ خُلْفِه؛ لأنّ الخُلْفَ فيه يدلُّ على التكذيب. وأمّا الظنّ والاجتهاد فاعتقادُ الخُلْفِ فيه لا يدلُّ إلا على اعتقاد الخطأ، فلم يكن فيه معارضة لمقام النبوّة.
رابعًا: في هذا الحديث (حديث تأبير النخل) حجّةٌ قويّةٌ على المخالفِين، من جهة إظهار الفهم الذي كان مستقرًّا في قلوب الصحابة –رضي الله عنهم- عن سنَّة النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - ، ولو كانت في أمرٍ من أمور الدنيا. فإنهم –رضي الله عنهم- ما إن سمعوا بإرشاده في ترك التأبير، حتى سارعوا بتركه دون مراجعة، وهُمْ أهل النخل العارفون بضرورة تأبير النخل لإصلاحه. فقدّموا ما فهموا أنه جزمٌ منه – - صلى الله عليه وسلم - , فَرجَّحُوهُ على يقينهم؛ لأن اليقين المتلقَّى عن الوحي أقوى من أي يقين سواه؛ فإن الله قادرٌ على تبديل السُّنَن، والسنن لا تخالف أمر الله تعالى.
__________
(1) - الشفا للقاضي عياض – مع شرحه لملا علي القاري– (4/471).(1/147)
ثم إن النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - لم يخطئهم في اتباعهم لأمره، ولو كان من أمور الدنيا، بل خطّأهم في عملهم بظنّه الذي صرّح لهم فيه أنه مجرّد ظنّ: "إني إنما ظننت ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن". وقد تقدّم بيان هذا، أنّ خطأهم في اتّباعهم الظنّ مع معارضته ليقينهم، لا في اتّباعهم له في أمر من أمور الدنيا.
فالصحابةُ –رضي الله عنهم - قد بلغ تعظيمهم لأمر النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - في أمر الدنيا والدين، أنهم قدّموا ظنونه – - صلى الله عليه وسلم - على يقينيّاتهم!!
ما أبعد هذا ممّن أراد أن يقدّم ظنون نفسه على يقينيّاته – - صلى الله عليه وسلم - !!! وهي كل خبر جازم أقرّه الله تعالى عليه، سواء أكان في دين أو دنيا.
وللصحابة من الحوادث التي تُثبت أن هذا هو ما فهموه من علاقته – - صلى الله عليه وسلم - بالوحي ما لا يدخل تحت الحصر، ومن أصرح ذلك: ما جاء في قصّة الأحزاب، من مَيْل النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - إلى مصالحة غطفان على نصف تمر المدينة، لينفضّوا عن الأحزاب.(1/148)
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : جَاءَ الْحَارِثُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : نَاصِفْنَا تَمْرَ الْمَدِينَةِ ، وَإِلَّا مَلَأْتُهَا عَلَيْكَ خَيْلًا وَرِجَالًا ، فَقَالَ : " حَتَّى أَسْتَأْمِرَ السُّعُودَ : سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ ، وَسَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ " يَعْنِي : يُشَاوِرُهُمَا ، فَقَالَا : لَا وَاللَّهِ ، مَا أُعْطِينَا الدَّنِيَّةَ مِنْ أَنْفُسِنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَكَيْفَ وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ ؟ ! فَرَجَعَ إِلَى الْحَارِثِ فَأَخْبَرَهُ ، فَقَالَ : غَدَرْتَ يَا مُحَمَّدُ ، قَالَ : فَقَالَ حَسَّانُ : يَا حَارِ مَنْ يَغْدِرْ بِذِمَّةِ جَارِهِ مِنْكُمْ فَإِنَّ مُحَمَّدًا لَا يَغْدِرْ إِنْ تَغْدِرُوا فَالْغَدْرُ مِنْ عَادَاتِكُمْ وَاللُّؤْمُ يَنْبُتُ فِي أُصُولِ السَّخْبَرِ وَأَمَانَةُ النَّهْدِيِّ حِينَ لَقِيتُهَا مِثْلُ الزُّجَاجَةِ صَدْعُهَا لَا يُجْبَرُ قَالَ : فَقَالَ الْحَارِثُ : كُفَّ عَنَّا يَا مُحَمَّدُ لِسَانَ حَسَّانَ ، فَلَوْ مُزِجَ بِهِ مَاءُ الْبَحْرِ لَمُزِجَ . رَوَاهُ الْبَزَّارُ ، وَالطَّبَرَانِيُّ . وَلَفْظُهُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : جَاءَ الْحَارِثُ الْغَطَفَانِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، شَاطِرْنَا تَمْرَ الْمَدِينَةِ ، فَقَالَ: " حَتَّى أَسْتَأْمِرَ السُّعُودَ " ، فَبَعَثَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، وَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ ، وَسَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ ، وَسَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ ، فَقَالَ : " إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنَّ الْحَارِثَ سَأَلَكُمْ تُشَاطِرُوهُ تَمْرَ الْمَدِينَةِ ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْفَعُوهُ عَامَكُمْ هَذَا فِي أَمْرِكُمْ بَعْدُ ؟ " .(1/149)
فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أُوحِيَ مِنَ السَّمَاءِ فَالتَّسُلَيْمُ لِأَمْرِ اللَّهِ ، أَوْ عَنْ رَأْيِكَ وَهَوَاكَ ؟ فَرَأْيُنَا نَتَّبِعُ هَوَاكَ وَرَأْيَكَ ؟ فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ الْإِبْقَاءَ عَلَيْنَا ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتَنَا وَإِيَّاهُمْ عَلَى سَوَاءٍ ، مَا يَنَالُونَ مِنَّا تَمْرَةً إِلَّا شِرَاءً أَوْ قِرًى ،."(1)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني (5271) والبزار (كشف الأستار: رقم 1803)، وابن الأعرابي في معجمه (رقم 1708) وهو حديث حسن وله شواهد، فانظر: التلخيص الحبير لابن حجر (4/114 – 115)، ومرويات غزوة الخندق للدكتور إبراهيم المدخلي (134-135)(1/150)
وفي غزوة بدر وجاء فيها " فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُبَادِرُهُمْ إلَى السّمَاءِ حَتّى إذَا جَاءَ أَدُنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ نَزَلَ بِهِ ، فقالَ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ : يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ وَلَا نَتَأَخّرَ عَنْهُ أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ؟ قَالَ بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ؟ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ فَانْهَضْ بِالنّاسِ حَتّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ ، فَنَنْزِلَهُ ثُمّ نُغَوّرُ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ ثُمّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً ثُمّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرّأْيِ . فَنَهَضَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَنْ مَعَهُ مِنْ النّاسِ فَسَارَ حَتّى إذَا أَتَى أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ نَزَلَ عَلَيْهِ ثُمّ أَمَرَ بِالْقُلُبِ فَغُوّرَتْ وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْقَلِيبِ الّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ فَمُلِئَ مَاءً ثُمّ قَذَفُوا فِيهِ الْآنِيَةَ "(1)
فهذا أمرٌ من أمور السياسة الحربيّة، وهو من أخص أمور الدنيا، ويدعوهم النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - للمشورة, ومع ذلك لا يبادرون بالردّ, لأنه إما وحيٌ, أو اجتهادٌ ممّن أحرى به أن يصيب الصواب!!
أين هذا ممن جعل كل خبر له – - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا، ولو كان خبرًا جازمًا ليس وحيًا؟!!
أرأيتم لو أمرهم – - صلى الله عليه وسلم - دون مشورة، ماذا كانوا سيفعلون؟! أرأيتم كيف خشوا أن يكون ما مال إليه من المصالح وحيًا؟!
__________
(1) - سيرة ابن هشام - (ج 1 / ص 620) ودلائل النبوة للبيهقي(874) صحيح مرسل(1/151)
مع أنه في أمر من أمور الدنيا، ومع أنه – - صلى الله عليه وسلم - يشاورهم فيه!! رحم الله الأنصار، وأبناء الأنصار!
وهذا الذي كان عليه الصحابة من طاعة النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - في كل أمر، سواء في الدين أو الدنيا، أكثر من أن يحتاج إلى انتزاع دليل عليه، أو أن نَنْصَب في تسويد صفحاتٍ فيه.
وما زال علماء الملّة كذلك، وهذه مصنّفاتهم من الموطأ للإمام مالك (ت179هـ)، إلى المسانيد والمصنّفات، إلى كتب الصحاح والسنن = كلّها لا تفرّق بين أحاديث النبي – - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا عن أمور الدين، مَنْ كان يبوّب يبوّب بما يدل عليه لفظها، ومن كان لا يبوّب يوردها بالسياق الذي يورد فيه غيرها من السنن، فلا أمور الدنيا عندهم بدون أمور الدين في وجوب التثبت لها والتحرّي في شأنها، ولا تجنّبوا العناية بتدوينها وكتابتها، بل هي أحاديثُ النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - ، كلُّها عندهم سواء. بل نصّوا على التساهل في أحاديث الترغيب والترهيب والفضائل، ولا نصّوا على التساهل في أحاديث الطِّبّ مثلًا.(1/152)
والعجب ممن يترك النصوص المتواترة والأدلّة المتكاثرة وإجماعَ علماء الأمّة، ليتمسّك بقول ابن خلدون (ت808هـ) عن الطب النبوي: « والطبُّ المنقولُ في الشرعيّات من هذا القبيل (يعني الطب التجريبي)، وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمرٌ كان عاديًا للعرب، ووقَعَ في ذكر أحوال النبي – - صلى الله عليه وسلم - من نوع ذِكْر أحواله التي هي عادةٌ وجبلّةٌ، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل؛ فإنه – - صلى الله عليه وسلم - إنما بُعث ليعلّمنا الشرائع، ولم يُبعث لتعريف الطبّ ولا غيره من العاديات. وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم. فلا ينبغي أن يُحمل شيءٌ من الطبِّ الذي وقع في الأحاديث المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدلّ عليه. اللهم إلا إذا استُعمل على جهة التبُّرك وصدق العَقْدِ الإيماني, فيكون له أثرٌ عظيم في النفع »(1)
فلا أدري ما يأتي كلام ابن خلدون (رحمه الله) هذا مع كلام الله تعالى ورسوله – - صلى الله عليه وسلم - وإجماع أهل العلم؟!
وأمّا احتجاجُه بحديث تلقيح النخل, فقد أبطلنا حجّته، بل بانَ أنه حجّةٌ عليه!
وأمَّا قوله: إن النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - لم يُبعث لتعريف الطبّ, فما في هذا الخلاف، لكن إذا تكلّم النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - بالطبّ, كما قد وقع، فأيّهما الأكمل لشأنه – - صلى الله عليه وسلم - ؟ أن نقول: إنه لم يأت لتعريف الطبّ، وأن كلامه فيه باطل، وأنه أطلق عباراتٍ من غير يقين لتضرَّ الناسَ ولا تنفعهم!!!
__________
(1) - مقدمة ابن خلدون (493 – 494) .(1/153)
أم أن نقول: إنه وإن لم يأت لتعريف الطبّ، لكن دلّ أمته بالوحي على أصول من أصول التداوي؛ كما جاء في القرآن الكريم قولُه تعالى: "يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ" [النحل:69]، وما ادُّعِيَ في القرآن لهذا ولغيره من أخبار الكون والعلوم المختلفة أنه ليس وحيًا؛ بحجّة أنه لم يأتِ إلا للشرعيّات!!!
بأيّ حجّة يُخرجُ أحاديثَ الطبِّ من النصوص الدالة على أنه – - صلى الله عليه وسلم - لا ينطقُ إلا بوحيٍ: ابتداءً، أ و إقرارًا، أ و تصويبًا. أمّا ما صرّح – - صلى الله عليه وسلم - بأنه قاله بالظن، كما في حديث تلقيح النخل، فهذا قد صَرّح – - صلى الله عليه وسلم - فيه أنه ليس وحيًا، فلا حُجّة فيه على ما قطع به؛ للتباين الكبير الواضح بين الخبرين الصادرين عنه – - صلى الله عليه وسلم - : الخبر المظنون، والمُتَيَقَّن، فهو تباينٌ واضحٌ وضوحَ الفرق بين اليقين والظنّ!.
ولولا ضيق الوقت ونفاسة الزمان لأتيتُ على كل حديث من أحاديث الطبّ، اتّخذه بعض المعاصرين دليلًا على أنها ليست من الوحي, فأجبت عنها حديثًا حديثًا، ولكني أضع للقارئ قواعدَ الجوابِ عن استشكالاتهم على الأحاديث النبوية.
وقواعد الجواب هي:
- أن يكون الحديث غير صحيح، وربما كان باطلًا شنيع اللفظ، فيتخذونه دليلًا على أنه ليس بوحي. وكان الأولى بهم أن يتثبّتوا من صحّته أوّلًا، لكي لا ينسبوا إلى النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - ما يُنزَّهُ العقلاء عنه، فضلًا عن أفضل الخلق – - صلى الله عليه وسلم - .(1/154)
- أن يكون فهمهم للحديث غير صحيح. حتى لقد وجدت بعضهم ينقل التأويل الصحيح للحديث المرويّ في الطب عن أهل العلم السابقين, ولجهله بأساليب البيان العربي يستنكر ذلك التأويل. فبدلًا من أن يفرح بأن فسّر له العلماءُ الحديثَ بما لا يخالف العلم المعاصر, إذا به يردّ ذلك التفسير؛ لأنه لابُدّ أن يُثبتَ خطأ النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الحديث!!
ليقول أخيرًا -مخالفًا مُحكمات النصوص- : إن أحاديث الطب ليست وحيًا!!!
أهذا شيءٌ يستحقّ كُلَّ ذلك التشمير؟!!
أحنظلٌ وعلى رؤوس النخل؟!!
- أن يكون العلم المعاصر لا يخالف الحديث، ومع ذلك يتسرّعون إلى ردّ الحديث بدعوى مخالفته له.
ولهذا صُور: إمّا أن الذي في العلم المعاصر مما لم يزل ظنًّا غير مجزومٍ به (نظريّة)، ومع ذلك يتّخذه دليلًا على ردّ الحديث. وإمّا أن العلم المعاصر لم يدرس ما جاء في الحديث النبوي, فلا في العلم المعاصر ما يثبته ولا ما ينافيه، ومع ذلك يردّه هؤلاء؛ لأنّ ما لم يُثبته العلم عندهم ليس بثابت!! إلى هذا الحدّ بلغ غلوّهم في العلوم العصريّة على حساب ضعف ثقتهم بالسنَّة النبويّة!!!
وإمّا أن العلم المعاصر أثبت ما جاء في الحديث النبوي، لكن لجهلهم بالعلم المعاصر, ولعدم مواكبتهم لاكتشافاته الحديثة، جهلوا أنه قد توصّل إلى ما أنكروه، ونسبوا إليه جهلًا هذا الإنكار!!!
وأقول لهؤلاء: من أوْلى من النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - عملًا بقوله تعالى: "وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" [الإسراء: 36 ]؟!
ومن أحقّ الناس بُعْدًا عمّا عاب الله به المشركين من النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - ؟!
وذلك في قوله تعالى: "وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً" [النجم:28]
وقوله تعالى: "إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ" [الأنعام: 116]؟!!(1/155)
ثم يُريد هؤلاء أن يجعلوا النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث الطبّ (وغيرها من أمور الدنيا) لا متكلّمًا بغير وحي فقط, بل متكلّماً جهلًا بغير علم !!! وحاشاه من ظنّ السوء – - صلى الله عليه وسلم - !!!
واللهِ .. لو جمعتُ ما صحّ من أحاديث الطب (وغيرها من أمور الدنيا) عن النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - , وفيها ما فيها من أحكام جازمة، وعباراتٍ ذاتِ دلالاتٍ قطعيّةٍ، ثم نسبتُها إلى غيره من الناس، وأطلعتُ أحد العقلاء عليها، على أنها مقالاتٌ صدرت من أحد الناس على الظن، وأنه أخطأ فيها .. لنسبَ الذي أطْلَعْتُهُ عليها صاحبَ تلك المقالاتِ إلى المجازفات والكذب وقلّة الأمانة أو نقص العقل!!!
أفلا يتنبّهُ هؤلاء طَيِّبُو النوايا، إلى ما في مذهبهم من خبيث الجنايا!!!
إنّي لأحبسهم لو تَنبّهوا إلى اللوازم الفاسدة من مذهبهم هذا، لكانوا أنفر الناس منه وأبعدهم عنه، وهو المظنون بعامّتهم .
وما أحسن قول العالم الفقيه الحنفي الصوفي أبي بكر الكلاباذي (ت380هـ) في كتابة (بحر الفوائد) : « وردُّ الأخبار والمتشابه من القرآن طريقٌ سهلٌ، يستوي فيه العالم والجاهل، والسفيه والعاقل. وإنما يتبيّنُ فضلُ علم العلماء، وعقل العقلاء، بالبحثِ والتفتيش، واستخراج الحكمة من الآية والسنّة، وحَمْل الأخبار على ما يوافق الأصول، وتُصحّحه العقول »(1).
قلت : وقد قام الإجماع على وجوب طاعة النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - في كل مُحْكمٍ غير منسوخ ووجوب تصديقه في كل ما أخبر به؛ لأن هذا من المعلوم من الدين بالضرورة، ومن مقتضيات شهادة (أن محمداً رسول الله).
ولذلك قال ابن حزم في مراتب الإجماع(2): "واتّفقوا أن كلام رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إذا صحَّ أنه كلامه بيقين: فواجبٌ اتّباعه.. واتّفقوا أنه لا يحل ترك ما صحّ من الكتاب والسنة".
__________
(1) - بحر الفوائد للكلاباذي (356) .
(2) - (175)(1/156)
وقال أبو الحسن ابن القطان الفاسي في الإقناع في مسائل الإجماع(1): "وأجمعوا على التصديق بما جاء به رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - في كتاب الله تعالى، وما ثبت به النقل من سائر سُننه، ووجوب العمل بمحكمه، والإقرار بنصّ بمتشابهه، وردّ كل ما لم نُحط به علمًا بتفسيره إلى الله تعالى، مع الإيمان بنصّه"..
أما الأفعال التي يفعلها النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى الجبّلة البشرية، فليست وحيًا.
وهذه مما يستدلّ العلماء كلُّهم على إباحة تلك الأفعال التي كان يفعلها النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - على وجه البشرية.
ولكنْ هل كان أحدٌ منهم يقول أو يعتقد: أن هذه الأفعال يُمكن أن تكون محرّمة مع كون النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - كان يفعلها؟!!
إذن فإقرار الله تعالى لتلك الأفعال الجبليّة من النبي – - صلى الله عليه وسلم - يجعل أقل ما يُستفاد منها الإباحة، والإباحة تشريع. كما أن الإقرار الإلهي لنبيّه – - صلى الله عليه وسلم - وَجْهٌ من وجوه الوحي، كما قدّمناه. ولذلك نزلت تشريعاتٌ وقيود في بعض الأمور العاديّة البشرية: في الأكل والشرب واللباس.. وغيرها، ولا تردَّدَ أحدٌ من أهل العلم في الاحتجاج بها.
وبذلك يتّضح أن قولي بأنّ السنَّة كلّها وحي حالاً أو مآلاً، يتناول أيضًا الأفعال التي كان النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - يفعلها على وجه الجبلّة والعادة؛ لأنّها مع الإقرار الإلهي تدل على الإباحة في أقل الأحوال.
__________
(1) - (رقم 129)(1/157)
وهنا أنبّه إلى وَهَمٍ قد ينقدح في بعض الأذهان، وهو أن القول بوجوب الطاعة المطلقة للنبيّ – - صلى الله عليه وسلم - ، لا يعني أن كلَّ ما صدر من النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - يقتضي الوجوب، ولا يقول هذا أحد. وإنما المقصود وجوب الامتثال لما دلّت عليه السنة، سواء أكانت قوليّة أو فعليّة أو تقريريّة، فقد تدلُّ على الوجوب أو التحريم، وقد تدلُّ على الاستحباب أو الكراهة، وقد تدلُّ على الإباحة. فالواجب امتثال دلالة السنة مطلقاً، دون استثناء؛ إلا ما لا حاجة إلى استثنائه، لوضوحه.(1/158)
وقد احتج بعضهم بحديث أَبِى قَتَادَةَ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى سَفَرٍ فَقَالَ « إِنَّكُمْ إِنْ لاَ تُدْرِكُوا الْمَاءَ غَداً تَعْطَشُوا ». وَانْطَلَقَ سَرَعَانُ النَّاسِ يُرِيدُونَ الْمَاءَ وَلَزِمْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَالَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَاحِلَتُهُ فَنَعَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَدَعَمْتُهُ فَأَدْعَمَ ثُمَّ مَالَ فَدَعَمْتُهُ فَأَدْعَمَ ثُمَّ مَالَ حَتَّى كَادَ أَنْ يَنْجَفِلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَدَعَمْتُهُ فَانْتَبَهُ فَقَالَ « مَنِ الرَّجُلُ ». قُلْتُ أَبُو قَتَادَةَ. قَالَ « مُذْ كَمْ كَانَ مَسِيرُكَ ». قُلْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ. قَالَ « حَفِظَكَ اللَّهُ كَمَا حَفِظْتَ رَسُولَهُ ». ثُمَّ قَالَ لَوْ عَرَّسْنَا فَمَالَ إِلَى شَجَرَةٍ فَنَزَلَ فَقَالَ « انْظُرْ هَلْ تَرَى أَحَداً ». قُلْتُ هَذَا رَاكِبٌ هَذَانِ رَاكِبَانِ حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةً. فَقَالَ « احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلاَتَنَا ». فَنِمْنَا فَمَا أَيْقَظَنَا إِلاَّ حَرُّ الشَّمْسِ فَانْتَبَهْنَا فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَارَ وَسِرْنَا هُنَيْهَةً ثُمَّ نَزَلَ فَقَالَ « أَمَعَكُمْ مَاءٌ ». قَالَ قُلْتُ نَعَمْ مَعِى مِيضَأَةٌ فِيهَا شَىْءٌ مِنْ مَاءٍ. قَالَ « ائْتِ بِهَا ». فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ « مَسُّوا مِنْهَا مَسُّوا مِنْهَا ». فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ وَبَقِيَتْ جَرْعَةٌ فَقَالَ « ازْدَهِرْ بِهَا يَا أَبَا قَتَادَةَ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَهَا نَبَأٌ ». ثُمَّ أَذَّنَ بِلاَلٌ وَصَلَّوُا الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ ثُمَّ صَلَّوُا الْفَجْرَ ثُمَّ رَكِبَ وَرَكِبْنَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَرَّطْنَا فِى صَلاَتِنَا.(1/159)
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا تَقُولُونَ إِنْ كَانَ أَمْرَ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنُكُمْ وَإِنْ كَانَ أَمْرَ دِينِكُمْ فَإِلَىَّ ». قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَرَّطْنَا فِى صَلاَتِنَا. فَقَالَ « لاَ تَفْرِيطَ فِى النَّوْمِ إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِى الْيَقَظَةِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَصَلُّوهَا وَمِنَ الْغَدِ وَقْتَهَا ». ثُمَّ قَالَ ظُنُّوا بِالْقَوْمِ قَالُوا إِنَّكَ قُلْتَ بِالأَمْسِ إِنْ لاَ تُدْرِكُوا الْمَاءَ غَداً تَعْطَشُوا فَالنَّاسُ بِالْمَاءِ....(1)
وهذا الحديث جاء في الاجتهاد من الصحابة في أمر الدين بمحضر النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا كالاجتهاد في مورد النصّ؛ ولذلك قال النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - لهم هذا القول. ومعنى الحديث حينها: أمور الدنيا التي لا نصّ فيها فلكم الاجتهاد فيها، أما ما كان فيه نصّ فلا اجتهاد في مورد النصّ. ولا علاقة لهذا الحديث بتقسيم السنَّة إلى: سنَّة في أمور الدنيا، وسنَّة في أمور الدين؛ لأن من أمور الدنيا ما وردت فيه سنةُ وحي ، وعندها ستكون هذه الأمور الدنيوية التي وردت فيها السنة (بورودها فيه) من أمور الدين؛ لأنها أصبحت تشريعًا وحكمًا إلهيًّا. فالقسمة لا يصح أن تكون بناءً على الدنيا والدين، بمعنى فصل الدِّين عن الحياة، هذا التقسيم باطلٌ من أساسه.
__________
(1) - مسند أحمد (23209) صحيح(1/160)
وإنما جاء الحديث ليبيّن للصحابة: متى يحقُّ لهم الاجتهاد بمحضر النبيّ – - صلى الله عليه وسلم - ومتى لا يحقُّ لهم ذلك. فما كان فيه نصٌ فهو دينٌ بورود النصّ فيه، وما يتعلق بالحلال والحرام فهو دينٌ أيضاً، كالنوم عن الصلاة وترتّب الإثم عليه وعدم ترتبه عليه؛ فهذا لا حاجة للاجتهاد فيه مع وجود المبلِّغ عن الله تعالى وحضوره بين أيديهم، وهو رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - . وما لم يكن فيه نصٌّ من أمور الدنيا والمعاش، فهذا ما يجوز للصحابة أن يجتهدوا فيه، ولو بمحضره – - صلى الله عليه وسلم - .(1)
المبحث السادس عشر
هل باب الاجتهاد مغلق ؟(2)
فال الفوزان : "نعم لا شك أن الاجتهاد المطلق قد توقف منذ أمد بعيد، بسبب عدم وجود المؤهلين له، وباب الاجتهاد لم يغلق بل هو مفتوح، ولكن أين الذين يدخلونه ؟ ! خاصة وأن الاجتهاد ليس بالأمر السهل حيث له شروطه ومقوماته وخواصه، ولابدَّ له من مؤهلات تؤهل الإنسان أن يجتهد في استنباط الأحكام الشرعية، ومن لم تتوفر لديه المقدرة فإنه يقلد الأئمة السابقين، ويأخذ من رصيدهم ما ترجح بالدليل لقوله تعالى : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }[سورة النحل : آية 43 ] ، فالتقليد يكون في بعض الأحيان واجبًا إذا كان لا يستطيع الاجتهاد بنفسه، وليس عنده المؤهلات، فإنه يأخذ من أقوال الأئمة الذين يثق فيهم ليستفيد منهم، ويسير على ضوئهم، والله تعالى يقول : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ سورة التغابن : آية 16 ] ، أما إذا كان الإنسان لا يملك شروط الاجتهاد ولا يأخذ بما قاله الأئمة والعلماء فهذا هو الضياع والفوضى" .
__________
(1) - انظر مقال السنة وحي من رب العالمين في أمور الدنيا والدين" للدكتور / الشريف حاتم العوني حفظه الله
(2) - المنتقى من فتاوى الفوزان - (ج 97 / ص 3) (477)(1/161)
قلت : وفي جوابه الأول نظر ، فالاجتهاد المطلق انتهى أمره منذ القرون الأولى ، لأن القواعد قد وضحت ، ومعالم الأصول قد رسخت ، فالمجتهد بعد ذلك لن يكون سوى مرجِّحٍ بين هذا القول أو ذاك ، وهذا لا يسمَّى في الحقيقة مجتهداً مطلقاً ، بل هو مجتهدٌ غير مستقلٍّ ، فالاجتهادُ المطلقُ انتهى أمره ، وأمَّا الاجتهادُ المقيَّدُ ، فهذا الذي لم ينته ، ولن ينتهي حتى يرث الله الأرض ومن عليها .
فكان عليه أن يفرِّقَ بينهما ، حتى لا يظنَّ ظانٌّ أن باب الاجتهاد المطلق مازال مفتوحاً ،والله أعلم.
- - - - - - - - - - - - - - -
المبحث السابع عشر
يَجُوزُ خُلُوُّ الْعَصْرِ عَن الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ(1)
__________
(1) - البحر المحيط للزركشي (ج 8 / ص 93)(1/162)
قال الزركشي :"يَجُوزُ خُلُوُّ الْعَصْرِ عَن الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمَحْصُولِ " وَقَالَ الرَّافِعِيُّ : الْخَلْقُ كَالْمُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا مُجْتَهِدَ الْيَوْمَ وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِن الْإِمَامِ الرَّازِيَّ ، أَوْ مِن قَوْلِ الْغَزَالِيِّ فِي الْوَسِيطِ " : قَدْ خَلَا الْعَصْرُ عَن الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ وَنَقْلُ الِاتِّفَاقِ فِيهِ عَجِيبٌ ، وَالْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَابِلَةِ ، وَسَاعَدَهُمْ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْفَقِيهَ الْفَطِنَ الْقَيَّاسَ كَالْمُجْتَهِدِ فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ ، لَا النَّاقِلِ فَقَطْ ،وَقَالَتْ الْحَنَابِلَةُ : لَا يَجُوزُ خُلُوُّ الْعَصْرِ عَن مُجْتَهِدٍ(1)، وَبِهِ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالزُّبَيْرِيُّ فِي الْمُسْكِتِ " فَقَالَ الْأُسْتَاذُ : وَتَحْتَ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ : لَا يُخْلِي اللَّهُ زَمَانًا مِن قَائِمٍ بِالْحُجَّةِ ، أَمْرٌ عَظِيمٌ ، وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْهَمَهُمْ ذَلِكَ وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ خَلَّى زَمَانًا مِن قَائِمٍ بِحُجَّةٍ زَالَ التَّكْلِيفُ ، إذ التَّكْلِيفُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْحُجَّةِ الظَّاهِرَةِ وَإِذَا زَالَ التَّكْلِيفُ بَطَلَتْ الشَّرِيعَةُ ،وَقَالَ الزُّبَيْرِيُّ : لَنْ تَخْلُوَ الْأَرْضُ مِن قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَدَهْرٍ وَزَمَانٍ ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ فِي كَثِيرٍ ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَوْجُودٍ - كَمَا
__________
(1) - شرح الكوكب المنير - (ج 3 / ص 91) والتقليد والإفتاء والاستفتاء - (ج 1 / ص 31) والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد - الرقمية - (ج 1 / ص 203) وإرشاد الفحول - (ج 2 / ص 212) والتحبير شرح التحرير - (ج 8 / ص 4059) والمختصر في أصول الفقه - (ج 1 / ص 167)(1/163)
قَالَ الْخَصْمُ - فَلَيْسَ بِصَوَابٍ ، لِأَنَّهُ لَوْ عَدِمَ الْفُقَهَاءُ لَمْ تَقُمْ الْفَرَائِضُ كُلُّهَا ، وَلَوْ عُطِّلَتْ الْفَرَائِضُ كُلُّهَا لَحَلَّتْ النِّقْمَةُ بِذَلِكَ فِي الْخَلْقِ ، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ : « لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ عَلَى شِرَارِ النَّاسِ »(1). وَنَحْنُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ نُؤَخَّرَ مَعَ الْأَشْرَارِ .انْتَهَى .
__________
(1) - صحيح مسلم(5066)(1/164)
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا ، لَكِنْ إلَى الْحَدِّ الَّذِي يُنْتَقَضُ بِهِ الْقَوَاعِدُ بِسَبَبِ زَوَالِ الدُّنْيَا فِي آخَرِ الزَّمَانِ، وَقَالَ فِي شَرْحِ خُطْبَةِ الْإِلْمَامِ " : وَالْأَرْضُ لَا تَخْلُو مِن قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ ،وَالْأُمَّةُ الشَّرِيفَةُ لَا بُدَّ لَهَا مِن سَالِكٍ إلَى الْحَقِّ عَلَى وَاضِحِ الْمُحَجَّةِ ، إلَى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الْكُبْرَى ، وَيَتَتَابَعُ بَعْدَهُ مَا بَقِيَ مَعَهُ إلَى قُدُومِ الْأُخْرَى وَمُرَادُهُ بِالْأَشْرَاطِ الْكُبْرَى : طُلُوعُ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِهَا مَثَلًا ، وَلَهُ وَجْهٌ حَسَنٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْخُلُوَّ مِن مُجْتَهِدٍ يَلْزَمُ مِنهُ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى الْخَطَأِ ، وَهُوَ تَرْكُ الِاجْتِهَادِ الَّذِي هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ ،وَقَالَ وَالِدُهُ الْعَلَّامَةُ مَجْدُ الدِّينِ فِي كِتَابِهِ تَلْقِيحِ الْأَفْهَامِ " : عَزَّ الْمُجْتَهِدُ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ حُصُولِ آلَةِ الِاجْتِهَادِ ، بَلْ لِإِعْرَاضِ النَّاسِ فِي اشْتِغَالِهِمْ عَن الطَّرِيقِ الْمُفْضِيَةِ إلَى ذَلِكَ وَتَوْقِيفُ الْفُتْيَا عَلَى حُصُولِ الْمُجْتَهِدِ يُفْضِي إلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ فَالْمُخْتَارُ قَبُولُ فَتْوَى الرَّاوِي عَن الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا سَيَأْتِي .(1/165)
وَقَالَ جَدُّهُ الْإِمَامُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعِزِّ الْمُقْتَرَحِ ، مُعْتَرِضًا عَلَى قَوْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ : " لَا يَجُوزُ انْحِطَاطُ الْعُلَمَاءِ " : إنْ أَرَادَ الْمُجْتَهِدِينَ فَلَا يَصِحُّ ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ ، وَزَمَانُنَا هَذَا قَدْ يَشْغَرُ مِنهُمْ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ النَّقَلَةَ فَهَذَا يُتَّجَهُ ، فَإِنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَقْضِ بِانْحِطَاطِهِمْ وَالدَّوَاعِي تَتَوَفَّرُ عَلَى نَقْلِ الْأَحَادِيثِ وَلَفْظِ الْمَذَاهِبِ وَنَقْلِ الْقُرْآنِ نَعَمْ ، إنْ فَتَرَتْ الدَّوَاعِي وَقَلَّتْ الْهِمَمُ فَيَجُوزُ شُغُورُ الزَّمَانِ عَنهُمْ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ" وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ : وَقَدْ خَلَا الْعَصْرُ عَن الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ فَقَدْ سَبَقَهُ إلَيْهِ الْقَفَّالُ شَيْخُ الْخُرَاسَانِيِّينَ ، فَقِيلَ : الْمُرَادُ مُجْتَهِدٌ قَائِمٌ بِالْقَضَاءِ ، فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِن الْعُلَمَاءِ كَانُوا يَرْغَبُونَ عَنهُ ، وَلَا يَلِي فِي زَمَانِهِمْ غَالِبًا إلَّا مَن هُوَ دُونَ ذَلِكَ وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْقَضَاءُ عَلَى الْأَعْصَارِ بِخُلُوِّهَا عَن مُجْتَهِدٍ وَالْقَفَّالُ نَفْسُهُ كَانَ يَقُولُ لِلسَّائِلِ فِي مَسْأَلَةِ الصُّبْرَةِ : تَسْأَلُ عَن مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَمْ مَا عِنْدِي؟ وَقَالَ هُوَ وَالشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَالْقَاضِي الْحُسَيْنُ : لَسْنَا مُقَلِّدَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ ، بَلْ وَافَقَ رَأْيُنَا رَأْيَهُ فَمَاذَا كَلَامُ مَن يَدَّعِي رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ ،وَلَمْ يَخْتَلِفْ اثْنَانِ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ ،وَكَذَلِكَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَصْرَ خَلَا عَن الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ ، لَا عَن مُجْتَهِدٍ فِي مَذْهَبِ(1/166)
أَحَدِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ،وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ مُنْحَصِرٌ فِي هَذِهِ الْمَذَاهِبِ ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِغَيْرِهَا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الِاجْتِهَادُ إلَّا فِيهَا ".
قلت : ونقله الاتفاق على أن الحقَّ منحصرٌ في المذاهب الأربعة فقط ، هذا في الأغلب ، وليس بالضرورة أن يصيب الأئمة دائماً ، فهناك مذاهب الصحابة والتابعين ، وأقران الأئمة والطبري ، وابن حزم ونحوهم .
ومن ثمَّ فليس اتفاق الأئمة الأربعة على حكم مسألة يعني أن الأمة أجمعت عليها بالضرورة ، قال ابن حجر المكي : " عَلَى أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا اتِّفَاقَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَا يَحْصُلُ الْإِجْمَاعُ أَيْضًا.."(1)
بل اتفاق الخلفاء الأربعة على حكم لا يعدُّ على الصحيح إجماعاً ،قال الزركشي : " قَالَ الْقَاضِي أَبُو خَازِمٍ - بِالْخَاءِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَتَيْنِ - مِن الْحَنَفِيَّةِ : إجْمَاعُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ حُجَّةٌ ، وَحَكَمَ بِذَلِكَ فِي زَمَنِ الْمُعْتَضِدِ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِ زَيْدٍ ، وَقَبِلَ مِنْهُ الْمُعْتَضِدُ ذَلِكَ ، وَرَدَّهَا إلَيْهِمْ ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إلَى الْآفَاقِ ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ : وَبَلَغَنِي أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْبَرَاذِعِيَّ كَانَ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ .قَالَ : وَهَذَا فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ،فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : لَا أَعُدُّ هَذَا خِلَافًا عَلَى الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ ، وَقَدْ حَكَمْت بِرَدِّ هَذَا الْمَالِ إلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّبِعَهُ بِالنَّسْخِ .اهـ .
__________
(1) - الفتاوى الفقهية الكبرى - (ج 3 / ص 462)(1/167)
وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ، قَالَ الْمُوَفَّقُ فِي الرَّوْضَةِ " : نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخْرَجُ عَنْ قَوْلِهِمْ إلَى قَوْلِ غَيْرِهِمْ ،وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ حُجَّةٌ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا .
قُلْت : وَيَجْرِي ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي حَازِمٍ أَيْضًا ، وَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِمْ ، وَعَلَى هَذَا فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ أَصْحَابِنَا حِكَايَتَهُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ ، فَإِنَّهُ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ .
قَالَ ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ هُنَا : إذَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَكَانَتِ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ مَعَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ : يُصَارُ إلَى قَوْلِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : إنَّهُمَا سَوَاءٌ ، وَيُطْلَبُ دَلَالَةُ سِوَاهُمَا انْتَهَى .(1)
وقال الغزالي : " الْإِجْمَاعُ مِن الْأَكْثَرِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَقَلِّ ، وَقَالَ قَوْمٌ هُوَ حُجَّةٌ ،وَقَالَ قَوْمٌ : إنْ بَلَغَ عَدَدُ الْأَقَلِّ عَدَدَ التَّوَاتُرِ انْدَفَعَ الْإِجْمَاعُ وَإِنْ نَقَصَ فَلَا يَنْدَفِعُ .
__________
(1) - البحر المحيط - (ج 6 / ص 129) فما بعدها , وانظر إجمال الإصابة في أقوال الصحابة للعلائي(1/168)
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَنَا أَنَّ الْعِصْمَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ لِلْأُمَّةِ بِكُلِّيَّتِهَا ، وَلَيْسَ هَذَا إجْمَاعَ الْجَمِيعِ بَلْ هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (10) سورة الشورى " .(1)
المبحث الثامن عشر
هل يجوز خلو العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه ؟(2)
الاجتهاد قسمان: عام وخاص.
فالعام: بذل الجهد في تطبيق أحكام الشريعة في حياتنا العملية، وهذا يكون من المجتهد ويكون من المقلد، وقد اتفقوا على أنه لا يخلو منه زمان.
والخاص: بذل الجهد في استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة، وهذا وظيفة المجتهد المطلق، وهو محل النِّزاع، فاختلف فيه العلماء: هل يخلو العصر منه أم لا ؟ على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يجوز خلوُّ العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه، وإليه ذهب الغزالي والرازي والزركشي والرافعي وغيرهم.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز خلو الزمان عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه، وإليه ذهب الحنابلة وغيرهم.
الأدلة والمناقشة:
استدل أهل المذهب الأول القائلون بجواز خلو العصر عن المجتهد بأدلة شرعية ودليل عقلي:
أما الأدلة الشرعية فهي:
الأول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: « بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ».(3).
ووجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الإسلام سيعود غريبًا، وهذا يدلُّ على أنه يأتي زمان يخلو فيه عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه.
__________
(1) - المستصفى - (ج 1 / ص 369)
(2) - انظر التقليد والإفتاء والاستفتاء - (ج 1 / ص 30)
(3) - صحيح مسلم(389 )(1/169)
وناقش أهلُ المذهب الثاني الدليلَ: بأن الغربة لا تدلُّ على عدم وجود من يدافع عن الحق ممن تقوم بهم الحجة، من المجتهد الذي يرجع إليه الناس في فتاويهم، بل ربما أشعرت بوجوده، بدليل قوله آخر الحديث: " قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنِ الْغُرَبَاءُ قَالَ :« الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ "(1).
الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا ، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا ، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا ، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا »(2).
ووجه الدلالة: أن الحديث دلَّ على أنه يكون زمان لا عالم فيه يفتِي بعلم، ولازمُ هذا أن يكون زمان لا مجتهد فيه؛ لأن العلم أعمَّ من الاجتهاد، والاجتهاد أخصّ من العلم، فإذا انتفى الأعم انتفى الأخص ضرورة.
ونوقش هذا الدليل: بأن الحديث محمول على أن ذلك يحصل بعد إرسال الريح اللينة التي يقبض عندها روح كل مؤمن ومؤمنة، جمعًا بين الأدلة.
قلت : لكن هذا الحمل لا دليل عليه ، فكيف عرفوا أنه بعد إرسال الريح ؟
والريح عندما تأتي تقبض روح كل مؤمن ، والمعني بالحديث الأمة المسلمة ليس غيرها من الأمم الأخرى ، فيبقى هذا الدليل صحيحاً، والاعتراض عليه ضعيف لا يلتفت إليه .
__________
(1) - مسند أحمد(17145) حسن لغيره
(2) - صحيح البخارى(100 ) ومسلم (6971)(1/170)
الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم - – « إِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ فَتَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ وَتَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ وَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ فَإِنِّي مَقْبُوضٌ وَإِنَّهُ سَيُنْقَصُ الْعِلْمُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ حَتَّى يَخْتَلِفَ الاِثْنَانِ فِي الْفَرِيضَةِ فَلاَ يَجِدَانِ مَن يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا. "(1).
ووجه الاستدلال: أن الحديث دلَّ على أنه يكون زمان لا يجد الاثنان من يفصل بينهما في الفريضة، ولازم هذا خلوُّ الزمان عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه.
ونوقش هذا الدليل: بأن الحديث غير صحيح.
قلت : لكن له شواهد وطرق تقويه ، فيصلح للحجية .
الرابع: قوله – - صلى الله عليه وسلم - : " « لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَن كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ »(2).
ووجه الدلالة: أن الحديث يدلُّ على أن هذه الأمة تتبع سَنن من كان قبلها، ويلزم من هذا خلوُّ العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه.
ونوقش هذا الدليل: بأن الحديث لا يفيد أن الأمة كلها تتبع سنن من كان قبلها، وإنما المراد: الأغلب، " ويعارضه حديث الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« لاَ يَزَالُ طَائِفَةٌ مِن أُمَّتِى ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ »(3)
__________
(1) - مسند الطيالسي(403) و سنن الدارقطنى (4148 ) وفتح الباري 5/12 وخلاصة البدر المنير - (ج 2 / ص 128)(1726) حسن لغيره
(2) - صحيح البخارى(7320 )
(3) - صحيح البخارى (7311 )(1/171)
وحديث ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِن أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ ». وَلَيْسَ فِى حَدِيثِ قُتَيْبَةَ « وَهُمْ كَذَلِكَ »(1).
على أن من كان قبلنا قد بقيت منهم بقية على الدين الصحيح، حتى آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - كعبد الله بن سلام وغيره.
الخامس: عَن قَيْسٍ أَنَّهُ سَمِعَ مِرْدَاسًا الأَسْلَمِىَّ يَقُولُ - وَكَانَ مِن أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ - يُقْبَضُ الصَّالِحُونَ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ ، وَتَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ ، لاَ يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِمْ شَيْئًا(2).
وعَن أَبِي حُمَيْدٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ ، يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَتُنْتَقَيَنَّ كَمَا يُنْتَقَى التَّمْرُ مِنَ الْجَفْنَةِ ، فَلْيَذْهَبَنَّ خِيَارُكُمْ ، وَلَيَبْقَيَنَّ شِرَارُكُمْ ، حَتَّى لاَ يَبْقَى إِلاَّ مَن لاَ يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِمْ ، فَمُوتُوا إِنِ اسْتَطَعْتُمْ"(3).
وعَن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللهُ عَنهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : خَيْرُ قَرْنٍ الْقَرْنُ الَّذِي أَنَا فِيهِ ، ثُمَّ الثَّانِي ، ثُمَّ الثَّالِثُ ، ثُمَّ الرَّابِعُ ، لا يَعْبَأُ اللهُ بِهِمْ شَيْئًا"(4)
ووجه الاستدلال: أن النبي -عليه السلام- أخبر أنه يكون بعد القرون المفضلة، حثالة كحثالة التمر، ولازم هذا خلو العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه.
وأجيب عن هذا الدليل بجوابين:
__________
(1) - صحيح مسلم (5059 )
(2) - صحيح البخارى(4156 ) -الحفالة : الردىء
(3) - المستدرك للحاكم (8339) صحيح
(4) - المعجم الصغير للطبراني(352) حسن لغيره(1/172)
أحدهما: أن قوله: ثم تبقى حثالة كحثالة التمر. لم تصحّ.
الثاني: على تقدير صحة هذه الجملة، فإنه يُحْمل على ما بعد الريح اللينة، وقبض أرواح المؤمنين، جمعًا بين الأدلة.
قلت : هذه الزيادة وردت بأحاديث صحيحة ، فلا يجوز ردُّها ،وأمَّا حملُ الحديث على ما بعد الريح اللينة فلا دليل عليه بتاتاً ، وظاهرُ هذه الأحاديث يردُّ هذا الاحتمال البعيد جدًّا .
وأما الدليل العقلي: فهو: أنه لو امتنع خلو الزمان عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه لامتنع إمَّا لذاته، وإمَّا لأمر خارج عنه، وامتناعه لذاته محال، فإنه لو فرض وقوعه لم يلزم عنه لذاته محال عقلا، وأما امتناعه لأمر خارج فالأصل عدمه، وعلى مدعيه البيان.
ونوقش هذا الدليل: بأن هذا الاستدلال غير صحيح؛ لأنه استدلال على إثبات الإمكان الخارجي بمجرد الإمكان الذهني، وهو غير كافٍ في ذلك؛ لأن الإمكان الخارجي إنما يثبت بالعلم بعدم الامتناع، والإمكان الذهني عبارة عن عدم العلم بالامتناع، وعدم العلم بالامتناع لا يستلزم العلم بعدم الامتناع(1).
استدلَّ أهل المذهب الثاني، القائلون بأنه لا يجوز خلوُّ الزمان عن مجتهد، يمكن تفويض الفتاوى إليه بثلاثة أدلة شرعية ودليلين عقليين:
أما الأدلة الشرعية فهي:
الأول: عَن ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِن أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ ،لاَ يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ ، وَهُمْ كَذَلِكَ »(2).
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 3 / ص 298) والتقليد والإفتاء والاستفتاء - (ج 1 / ص 31)
(2) - . صحيح مسلم(5059 )(1/173)
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَا يَزَالُ مِن هَذِهِ الْأُمَّةِ عِصَابَةٌ عَلَى الْحَقِّ , لَا يَضُرُّهُمُ خِلَافُ مَن خَالَفَهُمْ , حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ "(1)
ووجه الاستدلال: أن ظهور طائفة على الحق في زمان ما، يلزم منه وجود الاجتهاد فيه؛ لأن القيام بالحق لا يمكن إلا به، وقد أخبر -عليه الصلاة والسلام- أنه لا يخلو عصر من قائم على الحق، فيكون هذا إخبارًا بعدم خلو عصر عن مجتهد.
الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام-: " واشوقاه إلى إخواني، قالوا يا رسول الله، ألسنا إخوانك؟ فقال: أنتم أصحابي، وإخواني قوم يأتون بعدي، يهربون بدينهم من شاهق إلى شاهق، ويصلحون إذا فسد الناس ".
ووجه الدلالة: أن النبي -عليه السلام- أخبر بأنه يوجد إخوان له يصلحون عند فساد الناس، والصلاح إنما يكون بالعلم والاجتهاد، وهذا يلزم منه عدم خلو عصر من مجتهد، وإلا لصار الناس كلهم جهَّالا وفسدوا.
قلت : هذا الحديث بهذا اللفظ لا أصل له ، والذي ورد عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « وَدِدْتُ أَنِّى لَقِيتُ إِخْوَانِى ». قَالَ فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوَلَيْسَ نَحْنُ إِخْوَانَكَ قَالَ « أَنْتُمْ أَصْحَابِى وَلَكِنْ إِخْوَانِى الَّذِينَ آمَنُوا بِى وَلَمْ يَرَوْنِى »(2). وليس فيه شيء مما زعموا .
__________
(1) - مسند أحمد(8497) صحيح
(2) - مسند أحمد (12915) حسن لغيره(1/174)
الثالث: عَن كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِى الدَّرْدَاءِ فِى مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ إِنِّى جِئْتُكَ مِن مَدِينَةِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - لِحَدِيثٍ بَلَغَنِى أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا جِئْتُ لِحَاجَةٍ. قَالَ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَن سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِن طُرُقِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَمَن فِى الأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِى جَوْفِ الْمَاءِ وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَن أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ »(1)..
ووجه الدلالة: أن أحقَّ الأمم بإرث العلم: هذه الأمة، وأحق الأنبياء بإرث العلم عنه: نبيُّ هذه الأمة، وهذا دليل على أنه لا يخلو عصر عن مجتهد.
وعندي: أن هذا الدليل لا يدلُّ على المطلوب؛ إذ قد يورث العلم ولا يوجد الاجتهاد؛ لأن العلم أعمُّ من الاجتهاد، ووراثة الأعمِّ، وهو العلم، لا تستلزم وراثة الأخصّ وهو الاجتهاد، وكذلك حديث انقطاع العلماء أخصُّ فيخصّه.
قال الخطيب البغدادي في الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِي-ذِكْرُ الرِّوَايَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُخَلِّي الْوَقْتَ مِن فَقِيهٍ أَوْ مُتَفَقِّهٍ.
__________
(1) - سنن أبى داود(3643 ) صحيح(1/175)
فعَن أَبِي عِنَبَةَ الْخَوْلَانِيِّ , - وَكَانَ مِمَن أَكَلَ الدَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ , وَصَلَّى الْقِبْلَتَيْنِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا يَزَالُ اللَّهُ تَعَالَى يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا , يَسْتَعْمِلُهُمْ فِيهِ بِطَاعَتِهِ - أَوْ - يَسْتَعْمِلُهُمْ بِطَاعَتِهِ "(1)
قلت : وهذا الدليل ليس نصًّا في الموضوع .
وأما الدليلان العقليان:
فالأول: أن الاجتهاد والتفقه في الدين فرض كفاية، إذا تركه الكل أثموا، فلو جاز خلو العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه، لزم منه اجتماع الأمة على الخطأ والضلالة، وهذا باطل ممتنع؛ للأدلة التي تدل على عصمة الأمة فيما أجمعت عليه.
الثاني: أن الاجتهاد طريق لمعرفة الأحكام الشرعية، فلو جاز خلو العصر عن مجتهد يُرجع إليه في معرفة الأحكام، لزم منه تعطيل الشريعة وذهابها واندراس الأحكام، وهذا باطل ممتنع؛ للأدلة الدالة على حفظ الشريعة وبقائها إلى قيام الساعة.
وناقش أهل المذهب الأول - القائلون بأنه يجوز خلو العصر عن المجتهد- الدليلان العقليان، فقالوا:
متى يكون الاجتهاد والتفقه في الدين فرض كفاية، ويلزم من فقده تعطيل الشريعة واندراس الأحكام، هل ذلك إذا أمكن أن يعتمد العوام في عصرهم على الأحكام المنقولة إليهم في العصر الأول عمن سبقهم من المجتهدين ؟ وهذا ممنوع.
أو إذا لم يمكنهم الاعتماد على أحكام المجتهدين السابقين لعصرهم ؟ وهذا مسلَّم، ولكننا لا نسلّم امتناع هذا وعدم إمكانه، بل هو ممكن وغير ممتنع.
__________
(1) - سنن ابن ماجه(8 ) صحيح(1/176)
وأجاب أهل المذهب الثاني على المناقشة: بأن الوقائع في الوجود لا تنحصر، فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة، فلا بد من فتح باب الاجتهاد؛ للنظر فيما يحدث من الوقائع التي لا تكون منصوصًا عليها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، فلو جاز خلو العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه للزم الوقوع - عند حدوث الوقائع المتجددة - في أحد محذورين:
أحدهما: أن يُترك الناس فيها مع أهوائهم، وهذا باطل ممتنع.
الثاني: أن ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي، وهذا اتباع للهوى أيضًا، وهو باطل ممتنع، وحينئذ لا بد من أحد أمرين:
1- التوقف لا إلى غاية، وهذا يلزم منه تعطيل التكليف.
2- أو تكليف ما لا يطاق، وهذا باطل.
فظهر أنه لا بد من الاجتهاد في كل زمن، ولا يمكن خلوُّ العصر عن مجتهد تفوَّض إليه الفتاوى؛ لأن الوقائع تتجدد، ولا تختص بزمن دون زمن.
الترجيح: بعد أن سقنا أدلة المذهبين، ومناقشة كلٌّ منهما للآخر، يبدو لي أن الراجح من المذهبين هو: المذهب الثاني، وهو القول بأنه لا يجوز خلو العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه.
وجه ترجيحه:
1- ما سبق من مناقشة أدلة أهل المذهب الأول، وهو القول بجواز خلو العصر عن مجتهد، والإجابة عن مناقشتهم لأدلة أهل المذهب الثاني.
2- أن الله تعالى لو أخلى زمانًا من مجتهد قائم لله بالحجة لزال التكليف؛ إذ التكليف لا يثبت إلا بالحجة الظاهرة، وإذا زال التكليف بطلت الشريعة.
3- أنه لو عدم الفقهاء المجتهدون لم تقم الفرائض كلها، ولو عطّلت الفرائض كلها لحلت النقمة كما في الحديث: « لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ عَلَى شِرَارِ النَّاسِ »(1)..
__________
(1) - صحيح مسلم (7590 )(1/177)
4- ادعاء خلو العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه في الأزمنة المتأخرة، حصر لفضل الله على بعض خلقه، وقصر فهم هذه الشريعة على من تقدم عصره، وهذا -مع أنه لا دليل عليه، بل هو دعوى- فيه جرأة على الله، ثم على شريعته الموضوعة لكل عبادة، ثم على عباده الذين تعبَّدَهم الله بالكتاب والسُّنَّة".
قلت : بل الصواب من القول أنه لا يوجد في العصور المتأخرة مجتهد مطلق (مستقِلٌّ) ، وإنما الموجود هو المجتهد المقيد بمذهب إمام من الأئمة ، فمن قال بالمنع يقصد المجتهد المطلق المستقل ، ومن أجاز يعني به مجتهد غير مستقل ، فهذا الثاني لم يخلُ منه عصر من العصور , وبالتالي يؤول الرأيان إلى رأي واحد على الراجح .
وهنا أمور لا بد من ملاحظتها:
1-من المتفق عليه أن هذه الأمة معصومة عن إضاعة الحق أو جهل نصٍّ محتاج إليه، بالنسبة لجميع العلماء، أمَّا بالنسبة لبعضهم فقد يخطئ العالم، أو يجهل النص.
فإذا ثبت أن الحقَّ لا يمكن أن يضيع عن عامة الأمة، لزم أن يقوم بهذا الحق قائم واحد على الأقل.
2- أن الخلاف في المسائل الاجتهادية فيه رحمة بالأمة، إذا التزم في هذا الخلاف بالشرع، قال ابن تيمية: « وَالنِّزَاعُ فِي الْأَحْكَامِ قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً إذَا لَمْ يُفْضِ إلَى شَرٍّ عَظِيمٍ مِنْ خَفَاءِ الْحُكْمِ ؛ وَلِهَذَا صَنَّفَ رَجُلٌ كِتَابًا سَمَّاهُ " كِتَابُ الِاخْتِلَافِ " فَقَالَ أَحْمَد : سَمِّهِ " كِتَابَ السِّعَةِ " وَإِنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاحِدٌ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِبَعْضِ النَّاسِ خَفَاؤُهُ لِمَا فِي ظُهُورِهِ مِن الشِّدَّةِ عَلَيْهِ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْله تَعَالَى : { لا تَسْأَلُوا عَن أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } [المائدة: 101]»(1).
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 14 / ص 159)(1/178)
3- من الأحكام المترتبة على المسائل الاجتهادية(1):
أ- أنه لا يجوز الإنكار على المخالف، فضلاً عن تفسيقه أو تأثيمه أو تكفيره.
ب- أن سبيل الإنكار إنما يكون ببيان الحجة وإيضاح المحجَّة.
جـ- أن المجتهد ليس له إلزام الناس باتباع قوله.
د- أن غير المجتهد يجوز له اتباعُ أحد القولين إذا تبينت له صحته، ثم يجوز له تركه إلى القول الآخر اتباعًا للدليل.
ه- لا يصح للمجتهد أن يقطع بصواب قوله وخطأ من خالفه فيما إذا كانت المسألة محتملة.
و- أن الخلاف في المسائل الاجتهادية لا يخرج المختلفين من دائرة الإيمان إذا ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
ز- أن المجتهد يجب عليه اتباع ما أداه إليه اجتهاده، ولا يجوز له ترك ذلك إلا إذا تبين له خطأ ما ذهب إليه أولاً، فيصحُّ أن يرد عن المجتهد قولان متناقضان في وقتين مختلفين لا في وقت واحد.
حـ- أن المجتهد في مسائل الاجتهاد بين الأجر والأجرين، وذلك إذا اتقى الله في اجتهاده.
ط- أن المسائل الاجتهادية ظنية في الغالب، بمعنى أنه لا يقطع فيها بصحة هذا القول أو خطئه، لكن قد توجد مسائل يسوغ فيها الاجتهاد وهي قطعية يقينية، يجزم فيها بالصواب، وذلك أن المجتهد قد يخالف الصواب دون تعمد، إما لتعارض الأدلة أو خفائها، فلا طعن على من خالف في مثل ذلك.
4- إذا علم أن للمسائل الاجتهادية أحكامًا تخصها، لزم التفريق بين المسائل الاجتهادية والمسائل الخلافية.
إذ يجب الإنكار على المخالف في المسائل الخلافية غير الاجتهادية، كمن خالف في قولٍ يخالف سنة ثابتة، أو إجماعًا شائعًا.
وكذلك يجب الإنكار على العمل المخالف للسنَّة أو الإجماع بحسب درجات إنكار المنكر(2).
__________
(1) - انظر: "مجموع الفتاوى" (20/207، و30/79، 80، و35/232، 233، 212، 213، و29/43، 44)، و"إعلام الموقعين" (1/49،و3/288، 289)، و"شرح الكوكب المنير" (4/492).
(2) - انظر: "إعلام الموقعين" (3/288، 289).(1/179)
5- ما مضى بيانه من الشروط اللازم توفرها في المجتهد، لا تشترط في العمل بالوحي، إذ العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واجب على جميع المكلفين(1)، ولا يشترط في ذلك سوى شرط واحد، وهو العلم بحكم ما يُعمل به منهما(2).
6- من أسباب الخلاف بين العلماء(3):
أ- ألا يكون الحديث قد بلغ الواحد منهم.
ب- أن يكون الحديث قد بلغه، لكنه لم يثبت عنده.
جـ- أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده، لكن نسيه.
د- اعتقاده ألا دلالة في الآية أو الحديث.
ه- اعتقاده أن دلالة النص صحيحة، لكنه يعتقد أن تلك الدلالة قد عارضها ما يدل على ضعف النص أو نسخه أو تأويله.
7- من الأعذار التي تُلتمس للعلماء في اختلافاتهم:
أ- أنهم ليسوا معصومين، بل إن تطرق الخطأ لرأي العالم أكثر من تطرقه إلى الأدلة الشرعية؛ إذ كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4).
ب- تفاوت المدارك والأفهام، فإن إدراك الكلام وفهم وجوهه بحسب منح الله سبحانه ومواهبه(5).
جـ- أن الإحاطة بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تكن لأحد من هذه الأمة(6).
د- أن ترك السنة ومخالفها لا يثبت عن أحد من العلماء إلا بسبب ولعذر، لما علم من عدالتهم وإمامتهم، وأنهم متفقون على وجوب اتباع السنَّة(7).
__________
(1) - وهذا ما يسمى بالاتباع
(2) - انظر: "أضواء البيان" (7/477 - 479).
(3) - انظر: "الرسالة" (330)، و"مجموع الفتاوى" (20/233 - 250)، و"الصواعق المرسلة" (2/520 - 603).
(4) - انظر: "جامع بيان العلم وفضله" (2/91)، و"مجموع الفتاوى" (20/211، 250، 256، 293، 211).
(5) - انظر: "مجموع الفتاوى" (20/245).
(6) - انظر المصدر السابق (20/233، 238).
(7) - انظر المصدر السابق (20/232، 256).(1/180)
ه- حصول بعض الانحرافات في نسبة المذاهب إلى أهلها. فمن ذلك: أن يكون هذا القول لم يقله الإمام وإنما هو قول لبعض المتأخرين من أتباعه، أو قاله الإمام وغلط بعض أصحابه فيه، أو قاله الإمام فزيد عليه أو أن يفهم من كلامه ما لم يرده، أو يجعل كلامه عامًا أو مطلقًا وليس كذلك، أو أن يكون عنه في المسألة اختلاف فيتمسكون بالقول المرجوح، أو أنه لم يقل مع كون لفظه محتملاً لما نُقل عنه، أو أنه قد قال وأخطأ(1).
وفي مجمع الفقه الإسلامي(2)،اتفقوا على أن باب الاجتهاد(3)مفتوح أمام من تتوافر فيه شروطه، وإنما تقاصرت الهمم عن تحصيل درجة الاجتهاد، وهي التضلع في علوم القرآن، والسُّنَّة المطهرة، وأصول الفقه، وأحوال الزمن، ومقاصد الشريعة، وقواعد الترجيح، عند تعارض الأدلة، مع عدالة المجتهد، وتقواه، والثقة بدينه.
وينقسم الاجتهاد أربعة أقسام: القسم الأول: المجتهد المطلق. كالأئمة المقتدى بهم. القسم الثاني: المجتهد في المذهب، وله أربع أحوال ذكرها الأصوليون. القسم الثالث: مجتهد الترجيح. القسم الرابع: المجتهد في فن، أو في مسألة، أو مسائل، وهو جائز- بناء على أن الاجتهاد يتجزأ - وهو المختار.
لذلك كله قرر المجلس بالإجماع:
__________
(1) - انظر: "مجموع الفتاوى" (20/184 - 187)، و"أضواء البيان" (7/576، 580).
(2) - فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 17 / ص 158) رقم القرار: 3 ومجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي 15/10/1425
(3) - يعني غير المطلق ، والمقصود به المقيَّد(1/181)
1- أن حاجة العصر إلى الاجتهاد حاجة أكيدة، لما يعرض من قضايا، لم تعرض لمن تقدم عصرنا. وكذلك ما سيحدث من قضايا جديدة في المستقبل فقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل، على الاجتهاد، حين لا يجد نصًّا من كتاب الله تعالى، ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذلك حين قال معاذ (أجتهد رأيي، ولا آلو)(1)- وحينئذ تحفظ للإسلام جدته وصلاحيته للعصور كلها، إذ تحل المشكلات في المعاملات، ونظم الاستثمارات الحديثة، وسواها من المشكلات الاجتماعية. وحبذا لو أقيم مركز يجمع ما يصدر عن المجامع، والمؤتمرات، والندوات، لينتفع بذلك، وتزود به كليات الشريعة، والدراسات العليا الإسلامية، وبذلك يشع الإسلام، وفي ذلك ضمان لحياة مستقيمة صالحة.
2- أن يكون الاجتهاد جماعيًّا، بصدوره عن مجمع فقهي، يمثَّل فيه علماء العالم الإسلامي، وأن الاجتهاد الجماعي هو ما كان عليه الأمر في عصور الخلفاء الراشدين كما أفاده الشاطبي في الموافقات، من أن عمر بن الخطاب، وعامة خيار الصحابة، قد كانت ترد عليهم المسائل، وهم خير قرن، وكانوا يجمعون أهل الحل والعقد من الصحابة، ويتباحثون ثم يفتون. وسار التابعون على غرار ذلك، وكان المرجع في الفتاوى إلى الفقهاء السبعة، كما أفاده الحافظ ابن حجر في التهذيب، ذكر أنهم إذا جاءتهم المسألة، دخلوا فيها جميعًا، ولا يقضي القاضي، حتى يرفع إليهم، وينظروا فيها.
3- توافر شروط الاجتهاد المطلوبة في المجتهدين، لأنه لا يتأتى اجتهاد بدون وسائله، حتى لا تتعثر الأفكار، وتحيد عن أمر الله تعالى، إذ لا يمكن فهم مقاصد الشرع، في الكتاب الكريم وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام إلا بها.
__________
(1) - سنن أبى داود (3594) حسن ، وقد تلقته الأمة بالقبول(1/182)
4- الاسترشاد بما للسلف، حتى يقع الاجتهاد على الوجه الصحيح، فلا يسلك إليه حديثًا إلا بعد معرفة ما سبق للسلف، في كل شأن، والاستعانة بما قدمه الأئمة المقتدى بهم، وإلا اختلطت السبل، فإن كتب الفقه الإسلامي المستنبط من الكتاب والسُّنَّة، أكبر عون على ما يعرض من المشكلات، إلحاقًا لها بنظائرها.
5- أن تراعى قاعدة أنه (لا اجتهاد في مورد النص)، وذلك حيث يكون النص
المبحث التاسع عشر
جَوَازُ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ(1)
ينقسم الاجتهاد بالنظر إلى المجتهد من حيث استيعابُه للمسائل أو اقتصاره على بعضها إلى مجتهد مطلق ومجتهد جزئي.
فالمجتهد المطلق: هو الذي بلغ رتبة الاجتهاد بحيث يمكنه النظر في جميع المسائل.
والمجتهد الجزئي هو الذي لم يبلغ رتبة الاجتهاد في جميع المسائل، وإنما بلغ هذه الرتبة في مسألة معينة، أو باب معين، أو فن معين، وهو جاهل لما عدا ذلك(2).
المسألة الأولى: هل للمجتهد في نوع من العلم أن يفتي به ؟
هذه المسألة مبنيَّة على مسألة أخرى، وهي: هل الاجتهاد يتجزأ ؟
وبعبارة أخرى: هل الاجتهاد حالة تقبل التجزؤ والانقسام، فيكون الرجل مجتهدًا في نوع من العلم أو في باب من أبوابه مقلدًا في غيره، وهل له أن يفتي في النوع أو في الباب الذي اجتهد فيه.
__________
(1) - انظر : البحر المحيط - (ج 8 / ص 96) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 4 / ص 44) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 5 / ص 479) وشرح الورقات في أصول الفقه - (ج 5 / ص 19) ومذكرة أصول الفقه - (ج 1 / ص 60) والموافقات - (ج 5 / ص 43) وإرشاد الفحول - (ج 2 / ص 216) وروضة الناظر وجنة المناظر - (ج 3 / ص 370) وشرح الكوكب المنير - (ج 4 / ص 473)
(2) - معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة - (ج 1 / ص 423)(1/183)
ومثال ذلك: من استفرغ وِسْعه في علم الفرائض وأدلتها، واستنباطها من الكتاب والسُّنَّة دون غيره من العلوم، أو استفرغ وِسْعه في باب الجهاد، أو في باب الحج مثلا.
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: الجواز مطلقًا.
مستَّنَد هذا المذهب: أنه قد عرف الحق بدليله في هذا النوع أو الباب من العلم، وقد بذل جهده في معرفة الصواب، فحكمه في ذلك حكم المجتهد المطلق في سائر الأنواع، فيكفيه أن يكون عارفًا بما يتعلق بتلك المسألة مما لا بد فيه منها، ولا يضره بعد ذلك جهله بما لا تَعَلُّق له بها مما يتعلق بباقي المسائل الفقهية، كما أن المجتهد المطلق قد يكون مجتهدًا في المسائل الخارجية عنها، فليس من شرط المفتي أن يكون عالمًا بجميع أحكام المسائل ومداركها؛ لأنه مما لا يدخل تحت طاقة البشر.
المذهب الثاني: المنع مطلقًا:
مستند هذا المذهب: أن أبواب الشرع وأحكامه وأدلة الأحكام الشرعية يتعلق بعضها ببعض، ويأخذ بعضها بحُجُز بعض، ويفسر بعضها بعضًا، ويقيد بعضها بعضًا، فالجهل ببعضها مظنَّة للتقصير في الباب أو النوع الذي عرفه، ولا يخفى على الناظر الارتباط بين كتاب الجهاد وما يتعلق به وكتاب الحدود والأقضية والأحكام، وكذلك سائر أبواب الفقه.
المذهب الثالث: الفرق بين الفرائض وغيرها، فيتجزأ الاجتهاد في علم الفرائض، وله أن يفتي فيه دون غيره من العلوم.
مستند هذا المذهب:
1- أن أحكام قسمة المواريث ومعرفة مستحقيها مستقلة عن غيرها من أبواب الفقه، وليست متعلقة به، فلا صلة لها بكتاب البيوع والإجارات والرهن والنضال وسائر أبواب الفقه.
2- أن عامة أحكام المواريث قطعية، منصوص عليها في الكتاب والسُّنَّة، بخلاف غيرها.
الترجيح: بعد ذكر المذاهب في المسألة، ومستند كل مذهب يتبيَّن لي أن الراجح من ذلك هو المذهب الأول، وهو أن الاجتهاد يتجزأ مطلقًا، وأن للمجتهد أن يفتي في النوع من العلم الذي اجتهد فيه.
وجه ترجيحه:(1/184)
1- أن الصحابة، والأئمة بعدهم، قد كانوا يتوقَّفون في مسائل كثيرة، ولم يخرجهم ذلك عن الاجتهاد، ولم يمنعهم ذلك عن الإفتاء بما علموه.
وكم توقف الشافعي في مسألة، وسُئل مالك عن أربعين مسألة فقال في ستة وثلاثين لا أدري، فلو كان العالم لا يكون مجتهدًا إلا بمعرفة حكم الله في كل جزئية لما كان مالك مجتهدًا؛ لتوقفه عن ستة وثلاثين مسألة وإجابته عن أربعة من أربعين، ولكنه مجتهد متفق عليه، فدلَّ على أنه لا يشترط التعميم.
2- أن المجتهد في نوع من العلم قد غلب على ظنه أنه قد أحاط بجميع ما يتعلق بالنوع أو الباب الذي اجتهد فيه من الأدلة، وعرف كل ما يتصل بهذه الأدلة مما له صلة في الدلالة، وقد بذل جهده في البحث، فتكليفه بأن يعلم ما وراء ذلك تكليف بغير مقدور، وهو ممتنع(1).
__________
(1) - معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة - (ج 1 / ص 423) وروضة الناظر" (2/406، 407)، و"مجموع الفتاوى" (20/204، 212)، و"مذكرة الشنقيطي" (312).التقليد والإفتاء والاستفتاء - (ج 1 / ص 29)(1/185)
وقال الزركشي : ”الصَّحِيحُ جَوَازُ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَكُونُ مُجْتَهِدًا فِي بَابٍ دُونَ غَيْرِهِ وَعَزَاهُ الْهِنْدِيُّ لِلْأَكْثَرِينَ ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ النُّكَتِ " عَن أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَهُوَ الْمُخْتَارُ ، لِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ الْعِنَايَةُ بِبَابٍ مِن الْأَبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ حَتَّى يَحْصُلَ الْمَعْرِفَةُ بِمَأْخَذِ أَحْكَامِهِ وَإِذَا حَصَلَتْ الْمَعْرِفَةُ بِالْمَأْخَذِ أَمْكَنَ الِاجْتِهَادُ وَقَالَ الرَّافِعِيُّ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ بِمَنصِبِ الِاجْتِهَادِ فِي بَابٍ دُونَ بَابٍ وَالنَّاظِرُ فِي مَسْأَلَةِ الْمُشَارَكَةِ تَكْفِيهِ مَعْرِفَةُ أُصُولِ الْفَرَائِضِ ، وَلَا يَضُرُّهُ أَنْ لَا يَعْرِفَ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ مَثَلًا"(1)
المسألة الثانية: من بذل جهده في مسألة أو مسألتين هل له أن يفتي فيهما ؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
أحدهما: المنع. حجته: حجة المذهب الأول من المسألة الأولى.
والثاني: الجواز. حجته: حجة المذهب الثاني من المسألة الأولى.
والراجح: الجواز.
وجه ترجيحه: أن إفتاءه فيما بذل جهده فيه من التبليغ عن الله ورسوله، فيكون قد أعان على الإسلام بما يقدر عليه، فمنعه من الإفتاء لا دليل عليه، بل هو يعارض الأدلة الدالة على الأمر بالتبليغ عن الله ورسوله(2).
__________
(1) - انظر : البحر المحيط - (ج 8 / ص 96)
(2) - معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة - (ج 1 / ص 423) وروضة الناظر" (2/406، 407)، و"مجموع الفتاوى" (20/204، 212)، و"مذكرة الشنقيطي" (312).التقليد والإفتاء والاستفتاء - (ج 1 / ص 29)(1/186)
وقال ابن القيم : " فَإِنْ قِيلَ : فَمَا تَقُولُونَ فِيمَن بَذَلَ جَهْدَهُ فِي مَعْرِفَةِ مَسْأَلَةٍ أَوْ مَسْأَلَتَيْنِ ، هَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِمَا ؟ قِيلَ : نَعَمْ يَجُوزُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ ، وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَهَلْ هَذَا إلَّا مِن التَّبْلِيغِ عَن اللَّهِ وَعَن رَسُولِهِ ، وَجَزَى اللَّهُ مِن أَعَانَ الْإِسْلَامَ وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ خَيْرًا ، وَمَنعُ هَذَا مِن الْإِفْتَاءِ بِمَا عَلِمَ خَطَأٌ مَحْضٌ ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ . "(1)
المبحث العشرون
الْمُجْتَهِدُ مِن الْقُدَمَاءِ وَمَن الَّذِي حَازَ الرُّتْبَةَ مِنهُمْ(2)
__________
(1) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 5 / ص 77)
(2) - البحر المحيط - (ج 8 / ص 98)(1/187)
قال الزركشي : "وَهُوَ فَصْلٌ عَظِيمُ النَّفْعِ ، فَإِنَّ مَذَاهِبَهُمْ نُقِلَتْ إلَيْنَا ، وَلَا بُدَّ مِن مَعْرِفَةِ الْمُجْتَهِدِ مِنهُمْ ، لِيُعْلَمَ مَن الَّذِي تُعْتَبَرُ فَتْوَاهُ ، وَمَن يَقْدَحُ الْإِجْمَاعُ مُخَالَفَتَهُ وَمَن لَا يَقْدَحُ - قَالَ : اعْلَمْ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ الْأَرْبَعَةَ لَا شَكَّ فِي حِيَازَتِهِمْ هَذِهِ الرُّتْبَةَ - وَأُلْحِقَ بِهِمْ أَهْلُ الشُّورَى الَّذِينَ جَعَلَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ - قَالَ : وَأَمَّا أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَدْ مَالَ الْأَكْثَرُونَ إلَى إخْرَاجِهِ عَن أَحْزَابِ الْمُجْتَهِدِينَ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنهُ التَّصَدِّي لِلْفَتْوَى ، وَإِنَّمَا كَانَ يَتَصَدَّى لِلرِّوَايَةِ(1)
__________
(1) -وفي سير أعلام النبلاء (2/579) (126 ) أَبُو هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيُّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ صَخْرٍ (ع) الإِمَامُ، الفَقِيْهُ، المُجْتَهِدُ، الحَافِظُ، صَاحِبُ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبُو هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيُّ، اليَمَانِيُّ، سَيِّدُ الحُفَّاظِ الأَثْبَاتِ..(1/188)
- وَتُوُقِّفَ فِي ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا ، إذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنهُ التَّصَدِّي لِلْفَتْوَى - وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَكَانَ فَقِيهَ الصَّحَابَةِ وَمُنْتَدَبًا لِلْفَتْوَى - وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ - وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِمَن شَهِدَ الرَّسُولُ بِأَنَّهُ أَفْرَضُ الْأَئِمَّةِ ، وَالْمُعْتَبَرُ تَصَدِّيهِ لِهَذَا الْمَعْنَى مِن غَيْرِ نَكِيرٍ ، أَوْ شَهَادَةُ الرَّسُولِ ، وَمُرَاجَعَةُ الْأَوَّلِينَ لَهُ وَبَعْدَ النُّزُولِ عَن هَذِهِ الطَّبَقَةِ الْعَالِيَةِ ، لِلشَّافِعِيِّ وَقْفَةٌ فِي الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ ، وَيَقُولُ فِيهِمَا : وَاعِظٌ وَمُعَبِّرٌ وَلَمْ يَرَهُمَا مُتَصَدِّيَيْنِ لِهَذَا الشَّأْنِ ،وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مِن الْمُجْتَهِدِينَ ، فَإِنَّهُمَا كَانَا يُفْتِيَانِ عَلَى مَا قَالَهُ السَّلَفُ ،وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ : أَمَّا الصَّحَابَةُ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ الْمَشْهُورِينَ مِنهُمْ مِن أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، وَأَسَامِيهِمْ مَعْلُومَةٌ فِي التَّوَارِيخِ وَلَا شَكَّ فِي كَوْنِ الْعَشَرَةِ مِن أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، وَكَذَلِكَ مَن انْتَشَرَتْ فَتَاوِيهِ ، كَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ ، فَإِنَّهُمْ كَثُرَتْ فَتَاوِيهِمْ وَنُقِلَ عَن الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمْ قَالُوا : أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ وَجَابِرٌ لَيْسُوا فُقَهَاءَ ، وَإِنَّمَا هُمْ رُوَاةُ أَحَادِيثَ وَهُوَ بَاطِلٌ ، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ أَفْتَى فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَتَأَهَّلَ لِلْإِمَامَةِ فَزَهِدَ فِيهَا وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَلِيَ الْقَضَاءَ(1)،
__________
(1) - وفي سير أعلام النبلاء (4/528) عَنْ إِبْرَاهِيْمَ، قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ كَثِيْراً مِنْ حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْسُوْخٌ.
قُلْتُ: وَكَانَ كَثِيْرٌ مِنْ حَدِيْثِهِ نَاسِخاً، لأَنَّ إِسْلاَمَهُ لَيَالِيَ فَتْحِ خَيْبَرَ، وَالنَّاسِخُ وَالمَنْسُوْخُ فِي جَنْبِ مَا حَمَلَ مِنَ العِلْمِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَزْرٌ قَلِيْلٌ، وَكَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الاجْتِهَادِ، وَمِنْ أَهْلِ الفَتْوَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَالسُّنَنُ الثَّابِتَةُ لاَ تُرَدُّ بِالدَّعَاوَى.(1/189)
وَأَنَسٌ وَجَابِرٌ أَفْتَيَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ ،وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَقَدْ اشْتَهَرَ الْمُجْتَهِدُونَ فِيهِمْ ، كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ ، وَقَدْ نُقِلَ عَن الشَّافِعِيِّ ، وَقَدْ نُقِلَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ : وَاعِظٌ وَمُعَبِّرٌ ، ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِن أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ الْحَسَنَ أَفْتَى فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ ، وَابْنُ سِيرِينَ كَذَلِكَ وَقَدْ شَهِدَ لَهُمَا أَهْلُ عَصْرِهِمَا بِالْجَلَالَةِ وَالْإِمَامَةِ، وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ فَأَهْلٌ لِلِاجْتِهَادِ وَلَا مَحَالَةَ وَكَذَلِكَ الْفُقَهَاءُ الْخَمْسَةُ أَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُزَنِيّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَابْنِ سُرَيْجٍ ، فَمِنهُمْ مَن أَلْحَقَ هَؤُلَاءِ بِرُتْبَةِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الدِّينِ ، وَمِنهُمْ مَن جَعَلَهُمْ مِن الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْمَذَاهِبِ، قُلْت : وَمَا ذَكَرَهُ إلْكِيَا فِي أَبِي هُرَيْرَةَ تَابَعَ فِيهِ الْقَاضِي ، فَإِنَّهُ قَالَ : إنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُفْتِيًا وَإِنَّمَا كَانَ مِن الرُّوَاةِ، وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْفُقَهَاءِ مِن الصَّحَابَةِ، وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْحَنَفِيُّ فِي التَّحْقِيقِ " : كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقِيهًا ، وَلَمْ يَعْدَمْ شَيْئًا مِن أَسْبَابِ الِاجْتِهَادِ ، وَقَدْ كَانَ يُفْتِي فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ ، وَمَا كَانَ يُفْتِي فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إلَّا فَقِيهٌ مُجْتَهِدٌ ،وَقَدْ جَمَعَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ السُّبْكِيُّ جُزْءًا فِي فَتَاوَى أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ فِي(1/190)
الْمَنخُولِ " : وَالضَّابِطُ عِنْدَنَا فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَن عَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّهُ تَصَدَّى لِلْفَتْوَى فِي أَعْصَارِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُمْنَعْ عَنهُ فَهُوَ مِن الْمُجْتَهِدِينَ وَمَن لَمْ يَتَصَدَّ لَهُ قَطْعًا فَلَا ،وَمَن تَرَدَّدْنَا فِي ذَلِكَ فِيهِ تَرَدَّدْنَا فِي صِفَتِهِ وَقَدْ انْقَسَمَتْ الصَّحَابَةُ إلَى مُتَنَسِّكِينَ لَا يَعْتَنُونَ بِالْعِلْمِ ، وَإِلَى مُعْتَنِينَ بِهِ فَهُمْ الْمُجْتَهِدُونَ ، وَلَا مَطْمَعَ فِي عَدِّ آحَادِهِمْ بَعْدَ ذِكْرِ الضَّابِطِ وَهُوَ الضَّابِطُ أَيْضًا فِي التَّابِعِينَ ، وَعَدَّ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْأَحْكَامِ فُقَهَاءَ الصَّحَابَةِ فَبَلَغَ بِهِمْ مِائَةً وَنَيِّفًا وَهَذَا حَيْفٌ وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي طَبَقَاتِهِ " أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ الْمُلَازِمِينَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانُوا فُقَهَاءَ ، لِأَنَّ طَرِيقَ الْفِقْهِ فِيهِمْ خِطَابُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَفْعَالُهُ ، وَكَانُوا عَارِفِينَ بِذَلِكَ ، لِنُزُولِ الْقُرْآنِ بِلُغَتِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْمَجَازِ " : لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِن الصَّحَابَةِ رَجَعَ فِي تَفْسِيرِ شَيْءٍ مِن الْقُرْآنِ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَلِهَذَا قَالَ : { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ }(1)غَيْرَ أَنَّ الَّذِي اشْتَهَرَ مِنهُمْ بِالْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ جَمَاعَةٌ مَخْصُوصَةٌ .
__________
(1) - هذا الحديث لا يصحُّ من وجه يعتمد عليه، انظر التلخيص الحبير - (ج 4 / ص 463)(1/191)
وفي صحيح مسلم عَن سَعِيدِ بْنِ أَبِى بُرْدَةَ عَن أَبِى بُرْدَةَ عَن أَبِيهِ قَالَ صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قُلْنَا لَوْ جَلَسْنَا حَتَّى نُصَلِّىَ مَعَهُ الْعِشَاءَ - قَالَ - فَجَلَسْنَا فَخَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ « مَا زِلْتُمْ هَا هُنَا ». قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّيْنَا مَعَكَ الْمَغْرِبَ ثُمَّ قُلْنَا نَجْلِسُ حَتَّى نُصَلِّىَ مَعَكَ الْعِشَاءَ قَالَ « أَحْسَنْتُمْ أَوْ أَصَبْتُمْ ». قَالَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَكَانَ كَثِيرًا مِمَّا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ « النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِى فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِى مَا يُوعَدُونَ وَأَصْحَابِى أَمَنَةٌ لأُمَّتِى فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِى أَتَى أُمَّتِى مَا يُوعَدُونَ »(1).
قلت : وللإمام الذهبي رحمه الله رأي آخر في ذكر المجتهدين ، وسنذكره مع ذكر من سماهم مجتهدين :
عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُوْدِ بنِ غَافِلِ بنِ حَبِيْبٍ الهُذَلِيُّ (ع) ابْنِ شَمْخِ بنِ فَارِ بنِ مَخْزُوْمِ بنِ صَاهِلَةَ بنِ كَاهِلِ بنِ الحَارِثِ بنِ تَمِيْمِ بنِ سَعْدِ بنِ هُذَيْلِ بنِ مُدْرَكَةَ بنِ إِلْيَاسِ بنِ مُضَرَ بنِ نِزَارٍ،الإِمَامُ الحَبْرُ، فَقِيْهُ الأُمَّةِ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الهُذَلِيُّ، المَكِّيُّ، المُهَاجِرِيُّ، البَدْرِيُّ، حَلِيْفُ بَنِي زُهْرَةَ.(2)
__________
(1) - صحيح مسلم (6629 )
(2) - سير أعلام النبلاء [ (ج 1 / ص 410)(87 )(1/192)
أَبُو هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيُّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ صَخْرٍ (ع) الإِمَامُ، الفَقِيْهُ، المُجْتَهِدُ، الحَافِظُ، صَاحِبُ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبُو هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيُّ، اليَمَانِيُّ، سَيِّدُ الحُفَّاظِ الأَثْبَاتِ.(1)
وَكَثِيْرٌ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ يَرُدُّوْنَ أَحَادِيْثَ شَافَهَ بِهَا الحَافِظُ المُفْتِي المُجْتَهِدُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَزْعُمُوْنَ أَنَّهُ مَا كَانَ فَقِيْهاً، وَيَأْتُونَنَا بِأَحَادِيْثَ سَاقِطَةٍ، أَو لاَ يُعْرَفُ لَهَا إِسْنَادٌ أَصْلاً مُحْتَجِّينَ بِهَا، قُلْنَا: وَلِلْكُلِّ مَوْقِفٌ بَيْنَ يَدِيِ اللهِ -تَعَالَى-(2)
أَبُو سَعِيْدٍ الخُدْرِيُّ سَعْدُ بنُ مَالِكِ بنِ سِنَانٍ (ع) الإِمَامُ، المُجَاهِدُ، مُفْتِي المَدِيْنَةِ، سَعْدُ بنُ مَالِكِ بنِ سِنَانِ بنِ ثَعْلَبَةَ بنِ عُبَيْدِ بنِ الأَبْجَرِ بنِ عَوْفِ بنِ الحَارِثِ بنِ الخَزْرَجِ.وَكَانَ أَحَدَ الفُقَهَاءِ المُجْتَهِدِيْنَ.(3)
جَابِرُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ حَرَامٍ السَّلِمِيُّ (ع) ابْنِ ثَعْلَبَةَ بنِ حَرَامِ بنِ كَعْبِ بنِ غَنْمِ بنِ كَعْبِ بنِ سَلِمَةَ، الإِمَامُ الكَبِيْرُ، المُجْتَهِدُ، الحَافِظُ، صَاحِبُ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو عَبْدِ اللهِ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَنْصَارِيُّ، الخَزْرَجِيُّ، السَّلِمِيُّ، المَدَنِيُّ، الفَقِيْهُ.(4)
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (ج 4 / ص 2)(126 )
(2) - سير أعلام النبلاء (ج 19 / ص 450)
(3) - سير أعلام النبلاء (ج 5 / ص 163)(28 )
(4) - سير أعلام النبلاء(ج 5 / ص 185)(38 )(1/193)
عَلْقَمَةُ بنُ قَيْسِ بنِ عَبْدِ اللهِ أَبُو شِبْلٍ النَّخَعِيُّ (ع) فَقِيْهُ الكُوْفَةِ، وَعَالِمُهَا، وَمُقْرِئُهَا، الإِمَامُ، الحَافِظُ، المُجَوِّدُ، المُجْتَهِدُ الكَبِيْرُ، أَبُو شِبْلٍ عَلْقَمَةُ بنُ قَيْسِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ مَالِكِ بنِ عَلْقَمَةَ بنِ سَلاَمَانَ بنِ كَهْلٍ.(1)
أَبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ (ع) ابْنِ عَبْدِ عَوْفٍ بنِ عَبْدِ بنِ الحَارِثِ بنِ زُهْرَةَ بنِ كِلاَبِ بنِ مُرَّةَ بنِ كَعْبٍ القُرَشِيُّ، الزُّهْرِيُّ، الحَافِظُ، أَحَدُ الأَعْلاَمِ بِالمَدِيْنَةِ.كَانَ طَلاَّبَةً لِلْعِلْمِ، فَقِيْهاً، مُجْتَهِداً، كَبِيْرَ القَدْرِ، حُجَّةً.(2)
الحسن البصري ع كان رأساً في العلم والحديث، إماماً مجتهداً كثير الإطلاع، رأساً في القرآن وتفسيره، رأساً في الوعظ والتذكير، رأساً في الحلم والعبادة، رأساً في الزهد والصدق، رأساً في الفصاحة والبلاغة، رأساً في الأيد والشجاعة(3)
سليمان بن يسار المدنيّ ع أخو عطاء بن يسار، وعبد الله، وعبد الملك وكان فقيهاً إماماً مجتهداً(4)
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (ج 7 / ص 55)(14)
(2) - سير أعلام النبلاء (ج 7 / ص 320)(108)
(3) - تاريخ الإسلام للإمام الذهبي - (ج 7 / ص 48)
(4) - تاريخ الإسلام للإمام الذهبي - (ج 7 / ص 100)(1/194)
أَبُو جَعْفَرٍ البَاقِرُ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ (ع) هُوَ السَّيِّدُ، الإِمَامُ، أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ بنِ عَلِيٍّ العَلَوِيُّ، الفَاطِمِيُّ، المَدَنِيُّ، وَلَدُ زَيْنِ العَابِدِيْنَ، وَلَقَدْ كَانَ أَبُو جَعْفَرٍ إِمَاماً مُجْتَهِداً، تَالِياً لِكِتَابِ اللهِ، كَبِيْرَ الشَّأْنِ، وَلَكِنْ لاَ يَبْلُغُ فِي القُرْآنِ دَرَجَةَ ابْنِ كَثِيْرٍ وَنَحْوِهُ، وَلاَ فِي الفِقْهِ دَرَجَةَ أَبِي الزِّنَادِ وَرَبِيْعَةَ، وَلاَ فِي الحِفْظِ وَمَعْرِفَةِ السُّنَنِ دَرَجَةَ قَتَادَةَ وَابْنِ شِهَابٍ، فَلاَ نُحَابِيْهِ وَلاَ نَحِيْفُ عَلَيْهِ، وَنُحِبُّهُ فِي اللهِ؛ لِمَا تَجَمَّعَ فِيْهِ مِنْ صِفَاتِ الكَمَالِ.(1)
عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ بنِ مَرْوَانَ الأُمَوِيُّ (ع) ابْنِ الحَكَمِ بنِ أَبِي العَاصِ بنِ أُمَيَّةَ بنِ عَبْدِ شَمْسٍ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ بنِ قُصَيِّ بنِ كِلاَبٍ، الإِمَامُ، الحَافِظُ، العَلاَّمَةُ، المُجْتَهِدُ، الزَّاهِدُ، العَابِدُ، السَّيِّدُ، أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ حَقّاً، أَبُو حَفْصٍ القُرَشِيُّ، الأُمَوِيُّ، المَدَنِيُّ، ثُمَّ المِصْرِيُّ، الخَلِيْفَةُ، الزَّاهِدُ، الرَّاشِدُ، أَشَجُّ بَنِي أُمَيَّةَ.(2)
القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ع وكان فقيهاً إماماً مجتهداً ورعاً عابداً ثقةً حجة،(3)
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (ج 7 / ص 452)(158 )
(2) - سير أعلام النبلاء (ج 9 / ص 130)(48 )
(3) - تاريخ الإسلام للإمام الذهبي - (ج 7 / ص 217)(1/195)
القَاسِمُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ صَاحِبِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُوْدٍ الهُذَلِيُّ (ح، 4) الإِمَامُ، المُجْتَهِدُ، قَاضِي الكُوْفَةِ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الكُوْفِيُّ، عَمُّ القَاسِمِ بنِ مَعْنٍ الفَقِيْهِ.(1)
سُفْيَانُ بنُ سَعِيْدِ بنِ مَسْرُوْقٍ الثَّوْرِيُّ (ع) هُوَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ، إِمَامُ الحُفَّاظِ، سَيِّدُ العُلَمَاءِ العَامِلِيْنَ فِي زَمَانِهِ، أَبُو عَبْدِ اللهِ الثَّوْرِيُّ، الكُوْفِيُّ، المُجْتَهِدُ، مُصنِّفُ كِتَابِ (الجَامِعِ).(2)
أَبُو حَنِيْفَةَ النُّعْمَانُ بنُ ثَابِتِ التَّيْمِيُّ (ت، س) الإِمَامُ، فَقِيْهُ المِلَّةِ، عَالِمُ العِرَاقِ، أَبُو حَنِيْفَةَ النُّعْمَانُ بنُ ثَابِتِ بنِ زُوْطَى التَّيْمِيُّ، الكُوْفِيُّ، مَوْلَى بَنِي تَيْمِ اللهِ بنِ ثَعْلَبَةَ.(3)
زُفَرُ بنُ الهُذَيْلِ بنِ قَيْسِ بنِ سَلْمٍ العَنْبَرِيُّ أَبُو الهُذَيْلِ الفَقِيْهُ، المُجْتَهِدُ، الرَّبَّانِيُّ، العَلاَّمَةُ، أَبُو الهُذَيْلِ بنُ الهُذَيْلِ بنِ قَيْسِ بنِ سَلْمٍ.
قُلْتُ: هُوَ مِنْ بُحُوْرِ الفِقْهِ، وَأَذْكِيَاءِ الوَقْتِ،تَفَقَّهَ بِأَبِي حَنِيْفَةَ، وَهُوَ أَكْبَرُ تَلاَمِذَتِه، وَكَانَ مِمَّنْ جَمَعَ بَيْنَ العِلْمِ وَالعَمَلِ، وَكَانَ يَدْرِي الحَدِيْثَ وَيُتْقِنُهُ.(4)
مَالِكٌ الإِمَامُ مَالِكُ بنُ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ المَدَنِيُّ (ع) هُوَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ، حُجَّةُ الأُمَّةِ، إِمَامُ دَارِ الهِجْرَةِ،(5)
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (ج 9 / ص 224)(73 )
(2) - سير أعلام النبلاء(ج 13 / ص 263)(82 )
(3) - سير أعلام النبلاء(ج 11 / ص 474)(163 )
(4) - سير أعلام النبلاء(ج 15 / ص 36)(6 )
(5) - سير أعلام النبلاء (ج 15 / ص 43)(10 )(1/196)
القَاسِمُ بنُ مَعْنِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الهُذَلِيُّ (د، س) ابْنِ صَاحِبِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُوْدٍ، الإِمَامُ الفَقِيْهُ، المُجْتَهِدُ، قَاضِي الكُوْفَةِ، وَمُفْتِيْهَا فِي زَمَانِهِ،(1)
القَاضِي أَبُو يُوْسُفَ يَعْقُوْبُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ الأَنْصَارِيُّ هُوَ الإِمَامُ، المُجْتَهِدُ، العَلاَّمَةُ، المُحَدِّثُ، قَاضِي القُضَاةِ،(2)
مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ بنِ فَرْقَدٍ أَبُو عَبْدِ اللهِ الشَّيْبَانِيُّ العَلاَّمَةُ، فَقِيْهُ العِرَاقِ، أَبُو عَبْدِ اللهِ الشَّيْبَانِيُّ، الكُوْفِيُّ، صَاحِبُ أَبِي حَنِيْفَةَ.
كَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُوْلُ: كَتَبْتُ عَنْهُ وَقْرَ بُخْتِيٍّ، وَمَا نَاظَرتُ سَمِيْناً أَذكَى مِنْهُ، وَلَوْ أَشَاءُ أَنْ أَقُوْلَ: نَزَلَ القُرْآنُ بِلُغَةِ مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ، لقُلْتُ؛ لِفِصَاحَتِهِ.(3)
الفقيه العلامة، مفتي العراقين، أبو عبد الله، أحد الأعلام.وكان إماماً مجتهداً من الأذكياء الفصحاء. قال أبو عبيد: ما رأيت أعلم بكتاب الله منه(4)
أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمِ بنِ عَبْدِ اللهِ (د) الإِمَامُ، الحَافِظُ، المُجْتَهِدُ، ذُو الفُنُوْنِ، أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمِ بنِ عَبْدِ اللهِ.(5)
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (ج 15 / ص 188)(28 )
(2) - سير أعلام النبلاء (ج 16 / ص 64)(141 )
(3) - سير أعلام النبلاء (ج 17 / ص 140)(45)
(4) - تاريخ الإسلام للإمام الذهبي - (ج 12 / ص 358)
(5) - سير أعلام النبلاء (ج 19 / ص 485)(164)(1/197)
الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ مُحَمَّدُ بنُ إِدْرِيْسَ بنِ العَبَّاسِ (خت، 4)..الإِمَامُ، عَالِمُ العَصْرِ، نَاصِرُ الحَدِيْثِ، فَقِيْهُ المِلَّةِ، أَبُو عَبْدِ اللهِ القُرَشِيُّ، ثُمَّ المُطَّلِبِيُّ، الشَّافِعِيُّ، المَكِّيُّ، الغَزِّيُّ المَوْلِدِ، نَسِيْبُ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَابْنُ عَمِّهِ، فَالمُطَّلِبُ هُوَ أَخُو هَاشِمٍ وَالِدِ عَبْدِ المُطَّلِبِ.(1)
المُزَنِيُّ أَبُو إِبْرَاهِيْمَ إِسْمَاعِيْلُ بنُ يَحْيَى بنِ إِسْمَاعِيْلَ الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، فَقِيْهُ المِلَّةِ، عَلَمُ الزُّهَّادِ، أَبُو إِبْرَاهِيْمَ، إِسْمَاعِيْلُ بنُ يَحْيَى بنِ إِسْمَاعِيْلَ بنِ عَمْرِو بنِ مُسْلِمٍ، المُزَنِيُّ، المِصْرِيُّ، تِلْمِيْذُ الشَّافِعِيِّ.(2)
أَبُو ثَوْرٍ إِبْرَاهِيْمُ بنُ خَالِدٍ الكَلْبِيُّ (د، ق) الإِمَامُ، الحَافِظُ، الحُجَّةُ، المُجْتَهِدُ، مُفْتِي العِرَاقِ، أَبُو ثَوْرٍ الكَلْبِيُّ، البَغْدَادِيُّ، الفَقِيْهُ.(3)
بَقِيُّ بنُ مَخْلَدِ بنِ يَزِيْدَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَنْدَلُسِيُّ الإِمَامُ، القُدْوَةُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَنْدَلُسِيُّ، القُرْطُبِيُّ، الحَافِظُ، صَاحِبُ (التَّفْسِيْرِ) وَ(المُسْنَدِ) اللَّذَيْنِ لاَ نَظِيْرَ لَهُمَا.
وَكَانَ إِمَاماً مُجْتَهِداً صَالِحاً، رَبَّانِيّاً صَادِقاً مُخْلِصاً، رَأْساً فِي العِلْمِ وَالعَمَلِ، عَدِيْمَ المَثَلِ، مُنْقَطِعَ القَرِيْنِ، يُفْتِي بِالأَثَرِ، وَلاَ يُقَلِّدُ أَحَداً.(4)
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (ج 19 / ص 2)(1)
(2) - سير أعلام النبلاء (ج 23 / ص 491)(180)
(3) - سير أعلام النبلاء(ج 23 / ص 68)(19 )
(4) - سير أعلام النبلاء (ج 25 / ص 285)(137 )(1/198)
أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ أَبُو عَبْدِ اللهِ (ع) هُوَ: الإِمَامُ حَقّاً، وَشَيْخُ الإِسْلاَمِ صِدْقاً، أَبُو عَبْدِ اللهِ ..، أَحَدُ الأَئِمَّةِ الأَعْلاَمِ.(1)
البَيَّانِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ القَاسِمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ القَاسِمِ الإِمَامُ، المُجْتَهِدُ، الحَافِظُ، عَالِمُ الأَنْدَلُسِ، أَبُو مُحَمَّدٍ، القَاسِمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ سَيَّارٍ، مَوْلَى الخَلِيْفَةِ؛ الوَلِيْدِ بنِ عَبْدِ المَلِكِ، الأُمَوِيُّ، الأَنْدَلُسِيُّ، القُرْطُبِيُّ، البيَّانِيُّ، أَحَدُ الأَعْلاَمِ غَطَّى مَعْرِفَتَهُ بِالحَدِيْثِ بَرَاعَتُهُ فِي الفِقْهِ وَالمَسَائِلِ، وَفَاقَ أَهْلَ العَصْرِ، وَضُرِبَ بِإِمَامَتِهِ المَثَلُ، وَصَارَ إِمَاماً مُجْتَهِداً، لاَ يُقَلِّدُ أَحَداً، مَعَ قُوَّةِ مَيْلِهِ إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَبَصَرِهِ بِهِ، فَإِنَّهُ لاَزَمَ التَّفَقُّهَ عَلَى الإِمَامِيْنِ: أَبِي إِبْرَاهِيْمَ المُزَنِيِّ، وَمُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ الحَكَمِ..(2)
إِبْرَاهِيْمُ بنُ مَعْقِلِ بنِ الحَجَّاجِ النَّسفِيُّ الإِمَامُ، الحَافِظُ، الفَقِيْهُ، القَاضِي، أَبُو إِسْحَاقَ النَّسفِي، قَاضِي مَدِيْنَة نَسَف الَّتِي يُقَال لَهَا أَيْضاً: نَخْشَب.وَكَانَ فَقِيْهاً مُجْتَهِداً.(3)
مُحَمَّدُ بنُ نَصْرِ بنِ الحَجَّاجِ المَرْوَزِيُّ أَبُو عَبْدِ اللهِ الإِمَامُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، أَبُو عَبْدِ اللهِ الحَافِظُ،َبَرَعَ فِي عُلُومِ الإِسْلاَمِ، وَكَانَ إِمَاماً مُجْتَهِداً عَلاَّمَةً، مِنْ أَعْلَمِ أَهْلِ زَمَانِهِ بِاخْتِلاَفِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ، قلَّ أَنْ تَرَى العُيُونَ مِثْلَهُ.
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (ج 21 / ص 212)(78 )
(2) - سير أعلام النبلاء (ج 25 / ص 330)(150)
(3) - سير أعلام النبلاء (ج 26 / ص 1)(241)(1/199)
كَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِاخْتِلاَفِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُم فِي الأَحْكَامِ.
قُلْتُ:يُقَالُ:إِنَّهُ كَانَ أَعْلَم الأَئِمَّةِ بِاخْتِلاَفِ العُلَمَاءِ عَلَى الإِطلاَقِ.(1)
ابْنُ الحَدَّادِ سَعِيْدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ صَبِيْحٍ المَغْرِبِيُّ الإِمَامُ، شَيْخُ المَالِكِيَّة، أَبُو عُثْمَانَ، سَعِيْدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ صَبِيْح بن الحَدَّاد المَغْرِبِيّ، صَاحِب سَحْنُوْن، وَهُوَ أَحَد المجتهدين، وَكَانَ بَحْراً فِي الفُرُوْع، وَرَأْساً فِي لِسَان العَرَب، بَصِيْراً بِالسُّنَنِ،وَكَانَ يذُمُّ التَّقليد وَيَقُوْلُ:هُوَ مِنْ نقص العُقول، أَوْ دنَاءة الهِمَم.(2)
مُحَمَّدُ بنُ جَرِيْرِ بنِ يَزِيْدَ بنِ كَثِيْرٍ الطَّبَرِيُّ الإِمَامُ، العَلَمُ، المجتهدُ، عَالِمُ العَصر، أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ البَدِيْعَة، مِنْ أَهْلِ آمُل طَبَرِسْتَان.(3)
ابْنُ جَابِرٍ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيْمُ بنُ جَابِرٍ البَغْدَادِيُّ الإِمَامُ المجتهدُ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ، أَبُو إِسْحَاقَ، إِبْرَاهِيْمُ بنُ جَابِرٍ البَغْدَادِيُّ الفَقِيْهُ، الثَّبْتُ.(4)
أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ أَحْمَدُ بنُ عَلِيٍّ الحَنَفِيُّ الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، المُفْتِي، المُجْتَهِدُ، عَلَمُ العِرَاقِ، أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ عَلِيٍّ الرَّازِيُّ، الحَنَفِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ.(5)
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (ج 27 / ص 30)(13 )
(2) - سير أعلام النبلاء (ج 27 / ص 225)(116)
(3) - سير أعلام النبلاء (ج 27 / ص 298)(175 )
(4) - سير أعلام النبلاء (ج 27 / ص 319)(179 )
(5) - سير أعلام النبلاء (ج 31 / ص 399)(247 )(1/200)
أَبُو إِسْحَاقَ الإِسْفَرَايِيْنِيُّ إِبْرَاهِيْمُ بنُ مُحَمَّدٍ الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ الأَوْحَدُ، الأُسْتَاذُ، أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيْمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِبْرَاهِيْمَ بنِ مِهْرَانَ الإِسْفَرَايِيْنِيُّ، الأُصُوْلِيُّ، الشَّافِعِيُّ، المُلَقَّبُ رُكْن الدِّيْن.أَحَدُ المُجْتَهِدِيْن فِي عَصْرِهِ وَصَاحِبُ المُصَنَّفَات البَاهرَة.(1)
القَفَّالُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بنِ عَبْدِ اللهِ الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ الكَبِيْرُ، شَيْخُ الشَّافِعِيَّة، أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بنِ عَبْدِ اللهِ المَرْوَزِيُّ، الخُرَاسَانِيُّ.
آنَس مِنْ نَفْسه ذكَاءً مُفرطاً، وَأَحَبَّ الفِقْهَ، فَأَقبل عَلَى قرَاءته حَتَّى بَرَع فِيْهِ، وَصَارَ يُضْرَبُ بِهِ المَثَلُ، وَهُوَ صَاحِبُ طريقَة الخُرَاسَانيين فِي الفِقْه.(2)
الجُوَيْنِيُّ عَبْدُ اللهِ بنُ يُوْسُفَ بنِ عَبْدِ اللهِ الطَّائِيُّ شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ، أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بنُ يُوْسُفَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ يُوْسُفَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ حَيُّوَيْه الطَّائِيُّ، السِّنْبِسِيُّ - كَذَا نَسَبَه:المَلِكُ المُؤَيَّدُ - الجُوَيْنِيُّ، وَالِدُ إِمَامِ الحَرَمَيْنِ.كَانَ فَقِيْهاً، مُدَقِّقاً، مُحَقِّقاً، نَحْوِيّاً، مُفَسِّراً.(3)
ابْنُ عَبْدِ البَرِّ أَبُو عُمَرَ يُوْسُفُ بنُ عَبْدِ اللهِ النَّمَرِيُّ الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، حَافظُ المَغْرِبِ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، أَبُو عُمَرَ يُوْسُفُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ البَرِّ بنِ عَاصِمٍ النَّمَرِيُّ، الأَنْدَلُسِيُّ، القُرْطُبِيُّ، المَالِكِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ الفَائِقَة.
__________
(1) - سير أعلام النبلاء(ج 33 / ص 343)(220 )
(2) - سير أعلام النبلاء(ج 33 / ص 400)(267 )
(3) - سير أعلام النبلاء(ج 34 / ص 123)(413 )(1/201)
قُلْتُ:كَانَ إِمَاماً ديِّناً، ثِقَة، مُتْقِناً، علاَمَة، مُتَبَحِّراً، صَاحِبَ سُنَّةٍ وَاتِّبَاع، وَكَانَ أَوَّلاً أَثرِياً ظَاهِرِياً فِيْمَا قِيْلَ، ثُمَّ تَحَوَّلَ مَالِكيّاً مَعَ مَيْلٍ بَيِّنٍ إِلَى فَقه الشَّافِعِيّ فِي مَسَائِل، وَلاَ يُنكر لَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِمَّنْ بلغَ رُتْبَة الأَئِمَّة المُجْتَهِدين، وَمَنْ نَظَرَ فِي مُصَنَّفَاتِهِ، بانَ لَهُ مَنْزِلَتُهُ مِنْ سعَة العِلْم، وَقُوَّة الفَهم، وَسَيَلاَن الذّهن، وَكُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذ مِنْ قَوْله وَيُتْركُ إِلاَّ رَسُوْل اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِن إِذَا أَخْطَأَ إِمَامٌ فِي اجْتِهَادِهِ، لاَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ ننسَى مَحَاسِنهُ، وَنُغطِي معَارِفه، بَلْ نستغفرُ لَهُ، وَنَعْتَذِرُ عَنْهُ.(1)
ابْنُ حَزْمٍ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ بنِ سَعِيْدٍ القُرْطُبِيُّ الإِمَامُ الأَوْحَدُ، البَحْرُ، ذُو الفُنُوْنِ وَالمعَارِفِ، ، الفَقِيْهُ الحَافِظُ، المُتَكَلِّمُ، الأَدِيْبُ، الوَزِيْرُ، الظَّاهِرِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ،قَالَ الشَّيْخُ عزّ الدِّيْنِ بنُ عَبْدِ السَّلاَم - وَكَانَ أَحَدَ المُجْتَهِدين - :مَا رَأَيْتُ فِي كُتُبِ الإِسْلاَم فِي العِلْمِ مِثْل(المحلَّى)لابْنِ حَزْم، وَكِتَاب(المُغنِي)لِلشَّيْخِ مُوَفَّق الدِّيْنِ.
قُلْتُ:لَقَدْ صَدَقَ الشَّيْخُ عزّ الدِّيْنِ. وَثَالِثهُمَا:(السُّنَن الكَبِيْر)لِلبيهقِي. وَرَابعهَا:(التّمهيد)لابْنِ عبدِ البر. فَمَنْ حصَّل هَذِهِ الدَّوَاوِيْن، وَكَانَ مِنْ أَذكيَاء المفتين، وَأَدمنَ المُطَالعَة فِيْهَا، فَهُوَ العَالِم حَقّاً(2)
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (ج 35 / ص 135)(85 )
(2) - سير أعلام النبلاء (ج 35 / ص 166)(99)(1/202)
أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيْرَازِيُّ إِبْرَاهِيْمُ بنُ عَلِيِّ بنِ يُوْسُفَ الشَّيْخُ، الإِمَامُ، القُدْوَةُ، المُجْتَهِدُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيْمُ بنُ عَلِيِّ بنِ يُوْسُفَ الفَيْروزآبَادِيُّ، الشيرَازِيُّ، الشَّافِعِيُّ، نَزِيْلُ بَغْدَادَ، قِيْلَ:لَقَبُه جَمَالُ الدِّيْنِ.(1)
الغَزَّالِيُّ أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدٍ الشَّيْخُ، الإِمَامُ، البَحْر، حجَّةُ الإِسْلاَم، أُعجوبَة الزَّمَان، زَيْنُ الدّين، أَبُو حَامِد مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ الطُّوْسِيّ، الشَّافِعِيّ، الغَزَّالِي، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ، وَالذَّكَاءِ المُفرِط.
قَالَ ابْنُ النَّجَّار:أَبُو حَامِدٍ إِمَامُ الفُقَهَاءِ عَلَى الإِطلاَق، وَربَّانِيُّ الأُمَّةِ بِالاتِّفَاق، وَمُجْتَهِدُ زَمَانه، وَعينُ أَوَانه، برع فِي المَذْهَب وَالأُصُوْل وَالخلاَف وَالجَدَلِ وَالمنطق، وَقرَأَ الحِكْمَة وَالفَلْسَفَة، وَفَهِمَ كلاَمهُم، وَتَصَدَّى لِلرَّدِّ عَلَيْهِم، وَكَانَ شَدِيدَ الذّكَاء، قوِيَّ الإِدرَاك، ذَا فِطْنَة ثَاقبَة، وَغوص عَلَى المَعَانِي، حَتَّى قِيْلَ:إِنَّهُ أَلَّف(المَنْخُوْل)، فَرَآهُ أَبُو المَعَالِي، فَقَالَ:دفنتَنِي وَأَنَا حَيٌّ، فَهَلاَّ صَبرتَ الآنَ، كِتَابُك غطَّى عَلَى كِتَابِي.(2)
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (ج 35 / ص 428)(237 )
(2) - سير أعلام النبلاء(ج 37 / ص 302)(204)(1/203)
القاسم بن محمد بن قاسم بن محمد بن سيّار الفقيه. أحد الأعلام.وفاق أهل عصره، وصار إماماً مجتهداً لا يقلَّد أحداً. وقد ألّف كتاب الإيضاح في الرَّدّ على المقلِّدين، وكان يميل إلى مذهب الشّافعيّ وأهل الأثر. تفقَّه به خلق بالأندلس، قال ابن الفرضيّ: لزم ابن عبد الحكم التّفقَّه والمناظرة، وتحقّق به وبالمزنيّ. وكان يذهب) مذهب الحجَّة والنَّظر، وترك التقّليد. ويميل إلى مذهب الشّافعيّ. ولم يكن بالأندلس مثل قاسم في حسن النَّظر والبصر بالحجّة.(1)
ابْنُ رُشْدٍ الحَفِيْدُ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدٍ القُرْطُبِيُّ العَلاَّمَةُ، فَيْلَسُوْفُ الوَقْتِ، أَبُو الوَلِيْدِ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي القَاسِمِ أَحْمَدَ ابْنِ شَيْخِ المَالِكِيَّةِ أَبِي الوَلِيْدِ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ بنِ أَحْمَدَ بنِ رُشْدٍ القُرْطُبِيُّ.وَلَهُ مِنَ التَّصَانِيْف: (بدَايَة المُجْتَهِد) فِي الفِقْه(2)
ابْنُ قُدَامَةَ، عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدٍ المَقْدِسِيُّ الشَّيْخُ، الإِمَامُ، القُدْوَةُ، العَلاَّمَةُ، المُجْتَهِدُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، مُوَفَّقُ الدِّيْنِ، أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ قُدَامَةَ بنِ مِقْدَامِ بنِ نَصْرٍ المَقْدِسِيُّ، الجَمَّاعِيْليُّ، ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ، الصَّالِحيُّ، الحَنْبَلِيُّ، صَاحِبُ (المُغْنِي).(3)
__________
(1) - تاريخ الإسلام للإمام الذهبي - (ج 20 / ص 418)
(2) - سير أعلام النبلاء (ج 41 / ص 291)(164 )
(3) - سير أعلام النبلاء(ج 42 / ص 174)(112)(1/204)
الرَّافِعِيُّ، عَبْدُ الكَرِيْمِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الكَرِيْمِ شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ، عَالِمُ العَجمِ وَالعَربِ، إِمَامُ الدِّينِ، أَبُو القَاسِمِ عَبْدُ الكَرِيْمِ ابنُ العَلاَّمَةِ أَبِي الفَضْلِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الكَرِيْمِ بنِ الفَضْلِ بنِ الحُسَيْنِ الرَّافِعِيُّ، القَزْوِيْنِيُّ،وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ الإِسْفَرَايِيْنِيُّ الصَّفَّارُ: هُوَ شَيْخُنَا، إِمَامُ الدِّينِ، نَاصِرُ السُّنَّةِ صِدْقاً، أَبُو القَاسِمِ، كَانَ أَوحدَ عصرِهِ فِي الأُصُوْلِ وَالفُرُوْعِ، وَمُجْتَهِدَ زَمَانِهِ، وَفرِيْدَ وَقتِهِ فِي تَفْسِيْرِ القُرْآنِ وَالمَذْهَبِ، كَانَ لَهُ مَجْلِسٌ لِلتَّفْسِيرِ وَتَسمِيْعِ الحَدِيْثِ بِجَامِعِ قَزْوِيْنَ، صَنَّفَ كَثِيْراً، وَكَانَ زَاهِداً، وَرِعاً، سَمِعَ الكَثِيْرَ.(1)
المبحث الواحد والعشرون
هل من شرط المجتهد علمه بكل المسائل ؟(2)
قال الزركشي :"وَلَيْسَ مِن شَرْطِ الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِكُلِّ مَسْأَلَةٍ تَرِدُ عَلَيْهِ ، فَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَن أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً فَقَالَ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ : لَا أَدْرِي وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ : لَا أَدْرِي وَتَوَقَّفَ كَثِيرٌ مِن الصَّحَابَةِ فِي مَسَائِلَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَن أَفْتَى فِي كُلِّ مَا سُئِلَ عَنهُ فَهُوَ مَجْنُونٌ وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ .
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (ج 42 / ص 273)(139 )
(2) - البحر المحيط - (ج 8 / ص 88)(1/205)
أَمَّا الْمُجْتَهِدُ فِي حُكْمٍ خَاصٍّ فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى قُوَّةِ قَامَةٍ فِي النَّوْعِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مُجْتَهِدٌ ، فَمَن عَرَفَ طُرُقَ النَّظَرِ الْقِيَاسِيِّ ، لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَسْأَلَةٍ قِيَاسِيَّةٍ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ غَيْرَهُ وَكَذَا الْعَالِمُ بِالْحِسَابِ وَالْفَرَائِضِ هَذَا بِنَاءً عَلَى جَوَازِ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ".
المبحث الثاني والعشرون
ما يجب على المجتهد المقيَّد؟(1)
قال الزركشي : "وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ الْمُقَيَّدُ الَّذِي لَا يَعْدُو مَذْهَبَ إمَامٍ خَاصٍّ فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ مَعْرِفَةِ قَوَاعِدِ إمَامِهِ وَلْيُرَاعِ فِيهَا مَا يُرَاعِيهِ الْمُطْلَقُ فِي قَوَانِينِ الشَّرْعِ.
__________
(1) - البحر المحيط - (ج 8 / ص 90)(1/206)
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : مَن عَرَفَ مَأْخَذَ إمَامٍ وَاسْتَقَلَّ بِإِجْرَاءِ الْمَسَائِلِ عَلَى قَوَاعِدِهِ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ : - أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْقَوَاعِدُ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهَا ذَلِكَ الْإِمَامُ وَبَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ مَعَهُ فَهَذَا يُمْكِنُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ الْمُقَيَّدُ - وَأَمَّا الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ ، كَكَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً ، وَالْقِيَاسِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْقَوَاعِدِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ فَتَنَبَّهْ لِهَذَا ،وَقَدْ اسْتَقَلَّ قَوْمٌ مِن الْمُقَلِّدِينَ بِبِنَاءِ أَحْكَامٍ عَلَى أَحَادِيثَ غَيْرِ صَحِيحَةٍ ، مَعَ أَنَّ تِلْكَ الْأَحْكَامَ غَيْرُ مَنصُوصَةٍ لِإِمَامِهِمْ ، وَهُمْ يَحْتَاجُونَ فِي هَذَا إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ ، فَإِذَا قَصَّرُوا عَنهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُنْسَبَ تِلْكَ الْأَحْكَامُ إلَى ذَلِكَ الْإِمَامِ " وَهَذَا مَوْضِعٌ نَفِيسٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ ، وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِي التَّعَرُّضِ لِمَسْأَلَةٍ غَيْرِ مَنصُوصَةٍ لِلْإِمَامِ ذَكَرَهَا بَعْضُ أَتْبَاعِهِ مُحْتَجًّا فِيهَا بِقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ ، فَيَظُنُّ الْوَاقِفُ أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ ذَلِكَ الْإِمَامِ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْمُسْتَنْبَطِ مِن جُمْلَةِ مُقَلِّدِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ".
التنبيه على ما حصل من خلل في فقه المتأخرين(1/207)
قلت : وهذا ما نلحظه في كتب المتأخرين خاصة ، الذين ليس عندهم اهتمام بمعرفة الحديث صحيحه من منخوله ، قويه من ضعيفه ، فقد اجتهدوا اجتهادات لا أصل لها في مذاهب أئمتهم ، ولا عرفها السلف الصالح ، وقد استغلَّ هذه الاجتهادات الغريبة بعض الذين يريدون التفلت من المدارس الفقهية ، ويدَّعون الاجتهاد المطلق لينفِّروا الناس من المذاهب الأربعة ، بحجة اتباع السنَّة ، وما درى أصحاب هذه الدعاوى الخرقاء أنهم هم المخالفون للكتاب والسُّنَّة بيقين!!.
وأنَّ اخطأ لا يمكن إصلاحه بخطأ أشدَّ منه بالاتفاق!!(1)
المبحث الثالث والعشرون
الفرق بين المجتهد المطلق ومجتهد المذهب ومجتهد الفتوى والمقلد المحض(2)
قال ابن عابدين نقلا عن ابن كمال باشا : الفقهاء على سبع طبقات(3):
الأولى : طبقة المجتهدين في الشرع؛ كالأئمة الأربعة ومن سلك مسلكهم في تأسيس قواعد الأصول واستنباط أحكام الفروع عن الأدلة الأربعة ، من غير تقليد لأحد ، لا في الفروع ولا في الأصول .
الثانية : طبقات المجتهدين في المذهب؛ كأبي يوسف ، ومحمد ، وسائر أصحاب أبي حنيفة القادرين على استخراج الأحكام عن الأدلة المذكورة على حسب القواعد التي قررها أستاذهم ، فإنهم وإن خالفوه في بعض أحكام الفروع لكنهم يقلدونه في قواعد الأصول .
__________
(1) - وقد تكلمت عليها في كتابي ( الخلاصة في بيان أسباب اختلاف الفقهاء ) الفصل السابع -المبحث الثاني -أهم شروط تغيير المنكر، فانظرها إن شئت ، وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 17 / ص 251)
(2) - انظر أبحاث هيئة كبار العلماء - (ج 3 / ص 119) فما بعدها
(3) - [مجموعة رسائل ابن عابدين] ، رسالة رسم المغني (11 \ 12) .(1/208)
الثالثة : طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب؛ كالخصاف ، وأبي جعفر الطحاوي -إلى أن قال- : فإنهم لا يقدرون على مخالفة الإمام ، لا في الأصول ولا في الفرع ، لكنهم يستنبطون الأحكام من المسائل التي لا نص فيها عنه على حسب أصول قررها ومقتضى قواعد بسطها .
الرابعة : طبقة أصحاب التخريج من المقلدين؛ كالرازي وأضرابه ، فإنهم لا يقدرون على الاجتهاد أصلا ، لكنهم لإحاطتهم بالأصول وضبطهم المأخذ يقدرون على تفصيل قول مجمل ذي وجهين ، وحكم محتمل لأمرين منقول عن صاحب المذهب ، وعن أحد من أصحابه المجتهدين برأيهم ونظرهم في الأصول والمقاييس على أمثاله ونظائره من الفروع وما وقع في بعض المواضع من الهداية من قوله كذا في تخريج الكرخي وتخريج الرازي من هذا القبيل .
الخامسة : طبقة أصحاب التخريج من المقلدين؛ كأبي الحسن القدوري ، وصاحب الهداية وأمثالهما ، وشأنهم تفضيل بعض الروايات على بعض آخر بقولهم : هذا أولى ، وهذا أصح رواية ، وهذا أوضح ، وهذا أوفق للقياس ، وهذا أرفق للناس .
السادسة : طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين الأقوال والقوي والضعيف وظاهر الرواية وظاهر المذهب والرواية النادرة ، كأصحاب المتون المعتبرة؛ كصاحب [الكنز] ، وصاحب [المختار] ، وصاحب [الوقاية] ، وصاحب [المجمع] ، وشأنهم ألا ينقلوا في كتبهم الأقوال المردودة والروايات الضعيفة .
السابعة : طبقة المقلدين الذين لا يقدرون على ما ذكر ، ولا يفرقون بين الغث والسمين ، ولا يميزون الشمال من اليمين ، بل يجمعون ما يجدون ، كحاطب ليل ، فالويل لمن قلدهم كل الويل .(1/209)
وقال الآمدي(1): أما الاجتهاد فهو في اللغة : عبارة عن استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة . . ثم قال : وأما في اصطلاح الأصوليين : فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحسن من النفس العجز عن المزيد عليه -وبعد أن شرح التعريف قال- : وأما المجتهد : فهو من اتصف بصفة الاجتهاد -وبعد أن ذكر الشرط الأول من شرطي المجتهد المطلق قال- الشرط الثاني : أن يكون عالما عارفا بمدارك الأحكام الشرعية وأقسامها وطرق إثباتها ، ووجوه دلالاتها على مدلولاتها ، واختلاف مراتبها المعتبرة فيها على ما بيناه ، وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها وكيفية استثمار الأحكام منها قادرا على تحريرها وتقريرها ، والانفصال من الاعتراضات الواردة عليها . . . إلى أن قال : هذا كله يشترط في حق المجتهد المطلق المتصدي للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه ، وأما الاجتهاد في حكم بعض المسائل فيكفي فيه أن يكون عارفا بما يتعلق بتلك المسألة وما لا بد منه فيها ، ولا يضره جهله في ذلك بما لا تعلق له به مما يتعلق بباقي المسائل الفقهية . كما أن المجتهد المطلق قد يكون مجتهدا في المسائل المستكثرة بالغا رتبة الاجتهاد فيها ، وإن كان جاهلا ببعض المسائل الخارجة عنها فإنه ليس من شرط المفتي أن يكون عالما بجميع أحكام المسائل ومداركها ، فإن ذلك مما لا يدخل تحت وسع البشر .
__________
(1) - [الأحكام] للآمدي (4 \ 162) .(1/210)
وقال محمد الأمين الجنكي الشنقيطي ما حاصله(1): المجتهد المطلق الناظر في الأدلة الشرعية من غير التزام مذهب إمام معين؛ كالأئمة الأربعة ، وأما مجتهد المذهب فهو مجتهد أصوله أصول إمام مذهبه ، سواء كانت منصوصة للإمام المقلد أم مستنبطة من كلامه ، فكثيرا ما يستخرج أهل المذهب الأصول- أي : القواعد وفاقية أو خلافية -من كلام إمامهم وشرطه المحقق له : أن يكون له قدرة على استنباط الأحكام من نصوص ذلك الإمام الملتزم هو له ، كأن يقيس ما سكت عنه على ما نص عليه؛ لوجود معنى ما نص عليه فيه ، سواء نص إمامه على ذلك المعنى أو استنبطه هو من كلامه ، أو كأن يستخرج حكم المسكوت عنه من عموم ذلك أو قاعدة ذكرها ، وأما مجتهد الفتيا فهو المتبحر في مذهب إمامه المتمكن من أن يرجح قولا على قول آخر لم ينص ذلك الإمام على ترجيح واحد منهما ، والمجتهد في المذهب أعلى رتبة من مجتهد الفتوى ، والمقلد هو القائم بحفظ المذهب وفهمه في الواضح والمشكل العارف بعامه وخاصه ، ومطلقه ومقيده ، المستوفي لحفظ ما فيه من الروايات والأقوال ، وعلم خاصها وعامها ، ومطلقها ومقيدها . قال : نحو هذا نقله الخطاب ، وقال : العلم بذلك متعذر ، والظاهر أنه يكفي في ذلك غلبة الظن بأن وجد المسألة في التوضيح ، وفي ابن عبد السلام . انتهى كلامه ، وهذا له أن يفتي في حدود ما نقل مستوفى ، وفيما لا يجده منقولا إن وجد في المنقول معناه ، بحيث يدرك بغير كبير فكر أنه لا فرق وكذا ما يعلم اندراجه تحت قاعدة من مذهبه ، وما ليس كذلك يجب إمساكه عن الفتوى به ، ولا بد أيضا من شدة الفهم وكونه ذا حظ كبير من الفقه .
وقال شيخ الإسلام – ابن تيمية- نقلا عن ابن الصلاح ، وذلك بعد أن ذكر كلاما في المجتهد المطلق يتفق مع ما ذكره الآمدي قال(2):
__________
(1) - [مراقي السعود وشرحها] ، طبعة المدني .
(2) - [المسودة] ص (546) ، ويرجع أيضا إلى [المجموع شرح المهذب] (1 \ 70) وما بعدها .(1/211)
وللمفتي المنتسب أحوال أربع :
أحدهما : ألا يكون مقلدا لإمامه ، لا في المذهب ولا في دليله ، وإنما انتسب إليه؛ لسلوك طريقه في الاجتهاد . . إلخ ، وفتوى المنتسبين في هذه الحال في حكم فتوى المجتهد المستقل المطلق يعمل ويعتبر بها في الإجماع والخلاف .
الحال الثانية : أن يكون مجتهدا مقيدا في مذهب إمامه ، يستقل بتقرير مذهبه بالدليل ، غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده ، ولا بد أن يكون عالما بأصول الفقه ، لكنه قد أخل ببعض الأدوات؛ كالحديث واللغة ، فإذا استدل بدليل إمامه لا يبحث عن معارض له ، ولا يستوفي النظر في شروطه ، وقد اتخذ نصوص إمامه أصولا يستنبط منها ، كما يفعل المجتهد المستقل بنصوص الشارع والعامل بفتيا هذا مقلد لإمامه . قال : والذي رأيت من كلام الأئمة يشعر بأن فرض الكفاية لا يتأدى بمثل هذا ، قال : وأقول : يتأدى به فرض الكفاية في الفتوى ، ولا يتأدى به إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى؛ لأنه قائم مقام المطلق والتفريغ على جواز تقليد الميت وهو الصحيح ، وقد يوجد منه الاستقلال في مسألة خاصة ، أو باب خاص ، ويجوز له أن يفتي فيما لم يجده من أحكام الوقائع منصوصا لإمامه بما يخرجه على مذهبه ، هذا هو الصحيح الذي عليه العمل ، وإليه مفزع المفتين من مدد مديدة ، وهو في مذهب إمامه بمنزلة المجتهد في الشريعة ، وهو أقدر والمستفتي فيما يفتيه من تخريجه مقلد لإمامه لا له ، قطع به أبو المعالي ، قال : وأنا أقول : ينبغي أن يخرج هذا على خلاف حكاه أبو إسحاق الشيرازي (في أن ما يخرجه أصحاب الشافعي على مذهبيه هل يجوز أن ينسب إليه أم لا ؟) .(1/212)
والذي اختاره أبو إسحاق : أنه لا ينسب إليه؛ قال : وتخريجه تارة من نص معين ، وتارة تخريجه على وفق أصوله بأن يجد دليلا من جنس ما يحتج به إمامه ، والأولى إذا وجد نصٌّ بخلافه يسمى ما خرجه : قولا مخرَّجا ، وإن وقع الثاني في مسألة قد قال فيها بعض الأصحاب غير ذلك يسمَّى وجها ، وشرط التخريج أن لا يجد بين المسألتين فارقا ، وإن لم يعلم العلة الجامعة ، كالأمة مع العبد في السراية ، ومهما أمكن الفرق بين المسألتين لم يجز له على الأصح التخريج ، ولزمه تقرير النصين على ظاهرهما ، وكثيرا ما يختلفون في القول بالتخريج في مثل ذلك لاختلافهم في إمكان الفرق .
الحال الثالثة : أن يكون حافظا للمذهب ، عارفا بأدلته ، لكنه قصر عن درجة المجتهدين في المذهب؛ لقصور في حفظه أو تصرفه أو معرفته بأصول الفقه ، وهي مرتبة المصنفين إلى أواخر المائة الخامسة ، قصروا عن الأولين في تمهيد المذهب ، وأما في الفتوى فبسطوا بسط أولئك ، وقاسوا على المنقول والمسطور غير مقتصرين على القياس الجلي وإلغاء الفارق .(1/213)
الحال الرابعة : أن يحفظ المذهب ويفهمه في واضحات المسائل ومشكلاتها غير أنه مقتصر في تقرير أدلته ، فهذا يعتمد نقله وفتواه في نصوص الإمام وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه ، وما لم يجده منقولا؛ فإن وجد في المنقول ما يعلم أنه مثله من غير فصل يمكن ، كالأمة بالنسبة للعبد في سراية العتق ، أو علم اندراجه تحت ضابط منقول ممهد في المذهب- جاز له إلحاقه والفتوى به ، وإلا فلا ، قال : ويندر عدم ذلك ، كما قال أبو المعالي ، بعد أن تقع واقعة لم ينص على حكمها في المذهب ، ولا هو في معنى شيء من المنصوص عليه فيه من غير فرق ، ولا هي مندرجة تحت شيء من ضوابطه ، ولا بد في هذا أن يكون فقيه النفس يصور المسائل على وجهها ، وينقل أحكامها بعد استتمام تصويرها ، جليها وخفيها ، قال : ولا تجوز الفتوى لغير هؤلاء الأصناف في الفقه : أنه يجب عليه الاستفتاء . انتهى .
وقال علي بن سليمان المرداوي ما ملخصه(1): المجتهد ينقسم إلى أربعة أقسام :
مجتهد مطلق ، ومجتهد في مذهب إمامه أو في مذهب إمام غيره ، ومجتهد في نوع من العلم ، ومجتهد في مسألة أو مسائل .
القسم الأول : المجتهد المطلق ، وهو الذي اجتمعت فيه شروط الاجتهاد التي ذكرها المصنف في آخر كتاب القضاء على ما تقدم هناك ، إذا استقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية العامة والخاصة وأحكام الحوادث منها ، ولا يتقيد بمذهب أحد ، وقيل يشترط أن يعرف أكثر الفقه ،وكذا ما يتعلق بالاجتهاد من الآيات والآثار وأصول الفقه والعربية وغير ذلك . وقيل : المفتي : من تمكن من معرفة أحكام الوقائع على يسر من غير تعلم آخر .
القسم الثاني : مجتهد في مذهب إمامه أو إمام غيره :
وأحواله أربعة :
__________
(1) - [الإنصاف] (12 \ 258) وما بعدها .(1/214)
الحالة الأولى : أن يكون غير مقلد لإمامه في الحكم والدليل ، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتوى ، ودعا إلى مذهبه ، وقرأ كثيرا منه على أهله فوجده صوابا وأولى من غيره ، وأشد موافقة فيه وفي طريقه . . . وفتوى المجتهد المذكور كفتوى المجتهد المطلق في العمل بها ، والاعتداد بها في الإجماع والخلاف .
الحالة الثاني : أن يكون مجتهدا في مذهب إمامه ، مستقلا بتقريره بالدليل ، ومضى في الكلام . . . إلى أن قال : والحاصل : أن المجتهد في مذهب إمامه هو الذي يتمكن من التفريع على أقواله ، كما يتمكن المجتهد المطلق من التفريع على كل ما انعقد عليه الإجماع ودلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة والاستنباط . فهذه صفة المجتهدين أرباب الأوجه والتخاريج والطرق .
الحالة الثالثة : ألا يبلغ به رتبة أئمة المذهب أصحاب الوجوه والطرق ، غير أنه فقيه النفس ، حافظ لمذهب إمامه ، عارف بأدلته ، قائم بتقريره ونصرته ، يصور ويحرر ، ويمهد ويقوي ، ويزيف ويرجح ، لكنه قصر عن درجة أولئك؛ إما لكونه لم يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم ، وإما لكونه غير متبحر في أصول الفقه ونحوه ، على أنه لا يخلو مثله في ضمن ما يحفظه من الفقه ويعرفه من أدلته عن طرف من قواعد أصول الفقه ونحوه ، وإما لكونه مقصرا في غير ذلك من العلوم التي هي أدوات الاجتهاد الحاصل لأصحاب الوجوه والطرق .
وهذه صفة كثير من المتأخرين الذين رتبوا المذاهب وحرروها ، وصنفوا فيها تصانيف ، بها يشتغل الناس اليوم غالبا ، ولم يلحقوا من يخرج الوجوه ويمهد الطرق في المذاهب .
وأما فتاويهم فقد كانوا يستنبطون فيها استنباط أولئك أو نحوه ويقيسون غير المنقول على المنقول والمسطور . . ولا تبلغ فتاويهم فتاوى أصحاب الوجوه . وربما تطرق بعضهم إلى تخريج قول ، واستنباط وجه ، أو احتمال ، وفتاويهم مقبولة .(1/215)
الحالة الرابعة : أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه ، فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه ، من منصوصات إمامه ، وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه وتخريجاتهم . . . ثم إن هذا الفقيه لا يكون إلا فقيه النفس . ويكفي استحضاره أكثر المذهب ، مع قدرته على مطالعة بقيته .
القسم الثالث : المجتهد في نوع من العلم ، فمن عرف القياس وشروطه فله أن يفتي في مسائل منه قياسية لا تتعلق بالحديث ، ومن عرف الفرائض فله أن يفتي فيها وإن جهل أحاديث النكاح وغيره ، وعليه الأصحاب .
القسم الرابع : المجتهد في مسائل أو مسألة وليس له الفتوى في غيرها .
وقال ابن القيم(1): الْمَفْتُونَ الَّذِينَ نَصَّبُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْفَتْوَى أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ :
__________
(1) - [إعلام الموقعين] (4 \ 184) .و إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 5 / ص 71) الشاملة 2(1/216)
أَحَدُهُمْ الْعَالِمُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ ؛ فَهُوَ الْمُجْتَهِدُ فِي أَحْكَامِ النَّوَازِلِ ، يَقْصِدُ فِيهَا مُوَافَقَةَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ حَيْثُ كَانَتْ ، وَلَا يُنَافِي اجْتِهَادُهُ تَقْلِيدَهُ لِغَيْرِهِ أَحْيَانًا ، فَلَا تَجِدُ أَحَدًا مِن الْأَئِمَّةِ إلَّا وَهُوَ مُقَلِّدٌ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنهُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنهُ - فِي مَوْضِعٍ مِن الْحَجِّ : قُلْتُهُ تَقْلِيدًا لِعَطَاءٍ ؛ فَهَذَا النَّوْعُ الَّذِي يَسُوغُ لَهُمْ الْإِفْتَاءُ ، وَيَسُوغُ اسْتِفْتَاؤُهُمْ وَيَتَأَدَّى بِهِمْ فَرْضُ الِاجْتِهَادِ ، وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا ».(1)وَهُمْ غَرْسُ اللَّهِ الَّذِينَ لَا يَزَالُ يَغْرِسُهُمْ فِي دِينِهِ ، وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : لَنْ تَخْلُوَ الْأَرْضُ مِن قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ(2).
__________
(1) - سنن أبى داود(4293 ) صحيح
(2) - الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي(177) و حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (241 ) وفيه جهالة(1/217)
النَّوْعُ الثَّانِي : مُجْتَهِدٌ مُقَيَّدٌ فِي مَذْهَبٍ مِن ائْتَمَّ بِهِ ؛ فَهُوَ مُجْتَهِدٌ فِي مَعْرِفَةِ فَتَاوِيهِ وَأَقْوَالِهِ وَمَأْخَذِهِ وَأُصُولِهِ ، عَارِفٌ بِهَا ، مُتَمَكِّنٌ مِن التَّخْرِيجِ عَلَيْهَا وَقِيَاسُ مَا لَمْ يَنُصَّ مَنْ ائْتَمَّ بِهِ عَلَيْهِ عَلَى مَنْصُوصِهِ مِن غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا لِإِمَامِهِ لَا فِي الْحُكْمِ وَلَا فِي الدَّلِيلِ ، لَكِنْ سَلَكَ طَرِيقَهُ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْفُتْيَا وَدَعَا إلَى مَذْهَبِهِ وَرُتَبِهِ وَقَرَّرَهُ ، فَهُوَ مُوَافِقٌ لَهُ فِي مَقْصِدِهِ وَطَرِيقِهِ مَعًا .
وَقَدْ ادَّعَي هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ مِن الْحَنَابِلَةِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَالْقَاضِي أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ الَّذِي لَهُ ، وَمِن الشَّافِعِيَّةِ خَلْقٌ كَثِيرَةٌ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُزَنِيّ وَابْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي أَشْهَبَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَبِي حَامِدٍ وَالْقَاضِي : هَلْ كَانَ هَؤُلَاءِ مُسْتَقِلِّينَ بِالِاجْتِهَادِ أَوْ مُتَقَيِّدِينَ بِمَذَاهِبِ أَئِمَّتِهِمْ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ هَؤُلَاءِ وَفَتَاوِيهِمْ وَاخْتِيَارَاتهمْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُقَلِّدِينَ لِأَئِمَّتِهِمْ فِي كُلِّ مَا قَالُوهُ ، وَخِلَافُهُمْ لَهُمْ أَظْهَرُ مِن أَنْ يُنْكَرَ ، وَإِنْ كَانَ مِنهُمْ الْمُسْتَقِلُّ وَالْمُسْتَكْثِرُ ، وَرُتْبَةُ هَؤُلَاءِ دُونَ رُتْبَةِ الْأَئِمَّةِ فِي الِاسْتِقْلَالِ بِالِاجْتِهَادِ.(1/218)
النَّوْعُ الثَّالِثُ : مَنْ هُوَ مُجْتَهِدٌ فِي مَذْهَبٍ مَنْ انْتَسَبَ إلَيْهِ ، مُقَرِّرٌ لَهُ بِالدَّلِيلِ ، مُتْقِنٌ لِفَتَاوِيهِ ، عَالِمٌ بِهَا ، لَكِنْ لَا يَتَعَدَّى أَقْوَالَهُ وَفَتَاوِيَهُ وَلَا يُخَالِفُهَا ، وَإِذَا وُجِدَ نَصُّ إمَامِهِ لَمْ يَعْدِلْ عَنهُ إلَى غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ ، وَهَذَا شَأْنُ أَكْثَرِ الْمُصَنِّفِينَ فِي مَذَاهِبِ أَئِمَّتِهِمْ ، وَهُوَ حَالُ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الطَّوَائِفِ ، وَكَثِيرٌ مِنهُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ الْكِتَابِ والسُّنَّة وَالْعَرَبِيَّةِ لِكَوْنِهِ مُجْتَزِيًا بِنُصُوصِ إمَامِهِ ، فَهِيَ عِنْدَهُ كَنُصُوصِ الشَّارِعِ ، قَدْ اكْتَفَى بِهَا مِن كُلْفَةِ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ ، وَقَدْ كَفَاهُ الْإِمَامُ اسْتِنْبَاطَ الْأَحْكَامِ وَمُؤْنَةَ اسْتِخْرَاجِهَا مِن النُّصُوصِ ، وَقَدْ يَرَى إمَامَهُ ذَكَرَ حُكْمًا بِدَلِيلِهِ ؛ فَيَكْتَفِي هُوَ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ مِن غَيْرِ بَحْثٍ عَن مُعَارِضٍ لَهُ ،وَهَذَا شَأْنُ كَثِيرٍ مِن أَصْحَابِ الْوُجُوهِ وَالطُّرُقِ وَالْكُتُبِ الْمُطَوَّلَةِ وَالْمُخْتَصَرَةِ ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَدَّعُونَ الِاجْتِهَادَ ، وَلَا يُقِرُّونَ بِالتَّقْلِيدِ ، وَكَثِيرٌ مِنهُمْ يَقُولُ : اجْتَهَدْنَا فِي الْمَذَاهِبِ فَرَأَيْنَا أَقْرَبَهَا إلَى الْحَقِّ مَذْهَبَ إمَامِنَا ، وَكُلٌّ مِنهُمْ يَقُولُ ذَلِكَ عَن إمَامِهِ ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ مِن غَيْرِهِ ، وَمِنهُمْ مَنْ يَغْلُو فَيُوجِبُ اتِّبَاعَهُ ، وَيَمْنَعُ مِن اتِّبَاعِ غَيْرِهِ .(1/219)
فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ مِن اجْتِهَادٍ نَهَضَ بِهِمْ إلَى كَوْنِ مَتْبُوعِهِمْ وَمُقَلَّدِهِمْ أَعْلَمَ مِن غَيْرِهِ ، أَحَقَّ بِالِاتِّبَاعِ مِن سِوَاهُ ، وَأَنَّ مَذْهَبَهُ هُوَ الرَّاجِحُ ، وَالصَّوَابُ دَائِمًا مَعَهُ ، وَقَعَدَ بِهِمْ عَن الِاجْتِهَادِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنهُ ، وَتَرْجِيحِ مَا يَشْهَدُ لَهُ النَّصُّ ، مَعَ اسْتِيلَاءِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى غَايَةِ الْبَيَانِ ، وَتَضَمُّنِهِ لِجَوَامِع الْكَلِمِ ، وَفَصْلِهِ لِلْخِطَابِ ، وَبَرَاءَتِهِ مِن التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ وَالِاضْطِرَابِ ، فَقَعَدَتْ بِهِمْ هِمَمُهُمْ وَاجْتِهَادُهُمْ عَن الِاجْتِهَادِ فِيهِ ، وَنَهَضَتْ بِهِمْ إلَى الِاجْتِهَادِ فِي كَوْنِ إمَامِهِمْ أَعْلَمَ الْأُمَّةِ وَأَوْلَاهَا بِالصَّوَابِ ، وَأَقْوَالُهُ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .(1/220)
النَّوْعُ الرَّابِعُ : طَائِفَةٌ تَفَقَّهَتْ فِي مَذَاهِبِ مَنْ انْتَسَبَتْ إلَيْهِ ، وَحَفِظَتْ فَتَاوِيهِ وَفُرُوعَهُ ، وَأَقَرَّتْ عَلَى أَنْفُسِهَا بِالتَّقْلِيدِ الْمَحْضِ مِن جَمِيعِ الْوُجُوهِ ، فَإِنَّ ذَكَرُوا الْكِتَابَ والسُّنَّة يَوْمًا مَا فِي مَسْأَلَةٍ فَعَلَى وَجْهِ التَّبَرُّكِ وَالْفَضِيلَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الِاحْتِجَاجِ وَالْعَمَلِ ، وَإِذَا رَأَوْا حَدِيثًا صَحِيحًا مُخَالِفًا لِقَوْلِ مَنْ انْتَسَبُوا إلَيْهِ أَخَذُوا بِقَوْلِهِ وَتَرَكُوا الْحَدِيثَ ، وَإِذَا رَأَوْا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَغَيْرَهُمْ مِن الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ قَدْ أَفْتَوْا بِفُتْيَا ، وَوَجَدُوا لِإِمَامِهِمْ فُتْيَا تُخَالِفُهَا أَخَذُوا بِفُتْيَا إمَامِهِمْ وَتَرَكُوا فَتَاوَى الصَّحَابَةِ ، قَائِلِينَ : الْإِمَامُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنَّا ، وَنَحْنُ قَدْ قَلَّدْنَاهُ فَلَا نَتَعَدَّاهُ وَلَا نَتَخَطَّاهُ ، بَلْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنَّا ، وَمِن عَدَا هَؤُلَاءِ فَمُتَكَلِّفٌ مُتَخَلِّفٌ قَدْ دَنَا بِنَفْسِهِ عَن رُتْبَةِ الْمُشْتَغِلِينَ وَقَصُرَ عَن دَرَجَةِ الْمُحَصِّلِينَ ، فَهُوَ مُكَذْلِكٌ مَعَ الْمُكَذْلِكِينَ ، وَإِنْ سَاعَدَ الْقَدَرُ ، وَاسْتَقَلَّ بِالْجَوَابِ قَالَ : يَجُوزُ بِشَرْطِهِ ، وَيَصِحُّ بِشَرْطِهِ ، وَيَجُوزُ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنهُ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ ، وَيَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن الْأَجْوِبَةِ الَّتِي يَسْتَحْسِنُهَا كُلُّ جَاهِلٍ ، وَيَسْتَحْيِي مِنهَا كُلُّ فَاضِلٍ .(1/221)
فَفَتَاوَى الْقَسَمِ الْأَوَّلِ مِن جِنْسِ تَوْقِيعَاتِ الْمُلُوكِ وَعُلَمَائِهِمْ ، وَفَتَاوَى النَّوْعِ الثَّانِي مِن جِنْسِ تَوْقِيعَاتِ نُوَّابِهِمْ وَخُلَفَائِهِمْ ، وَفَتَاوَى النَّوْعِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِن جِنْسِ تَوْقِيعَاتِ خُلَفَاءِ نُوَّابِهِمْ ، وَمَنْ عَدَاهُمْ فَمُتَشَبِّعٌ بِمَا لَمْ يُعْطِ ، مُتَشَبِّهٌ بِالْعُلَمَاءِ ، مُحَاكٍ لِلْفُضَلَاءِ ، وَفِي كُلِّ طَائِفَةٍ مِن الطَّوَائِفِ مُتَحَقِّقٌ بِغَيِّهِ وَمُحَاكٍ لَهُ مُتَشَبِّهٌ بِهِ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
يتلخص من النقول المتقدمة ما يأتي(1):
أولا : إن المجتهد المطلق : هو من لديه قدرة على استنباط الأحكام من أدلتها ، بناء على أصول ارتضاها لنفسه ، وليس تابعا فيها لغيره ، فكان بذلك أهلا للإفتاء والقضاء ، وكان رأيه معتدا به في الوفاق والخلاف ، وإذا ولاه إمام المسلمين أو نائبه القضاء وجب عليه أن يحكم بما وصل إليه باجتهاده فيما رفع إليه من القضايا ، ونفذ فيه حكمه ، وارتفع به الخلاف في القضايا الاجتهادية التي حكم فيها .
ثانيا : المجتهد المنتسب : هو من انتمى إلى مجتهد مستقل لسلوكه طريقه في الاجتهاد ، من غير أن يكون مقلدا له في قوله أو في دليله ، وحكمه حكم المجتهد المطلق في أهليته للقضاء والحكم في القضايا باجتهاده . . . إلى آخر ما تقدم في المجتهد المطلق .
__________
(1) - أبحاث هيئة كبار العلماء - (ج 3 / ص 150)(1/222)
ثالثا : المقلد المتعلم : هو المتبحر في مذهب إمامه ، المتمكن من تقرير أدلته على ما عرف عن إمامه أو عن أصحابه ، العارف بمطلق الآراء في المذهب ومقيدها ، عامها وخاصها ، وغامضها وواضحها ، لكنه لم يبلغ درجة التخريج أو الترجيح, وهذا يجوز أن يولى القضاء للضرورة, وعليه أن يحكم بالراجح في مذهب إمامه الذي انتسب إليه وعرف تفاصيل مذهبه, فإن فعل ذلك نفذ حكمه, وإن حكم بالضعيف في مذهب إمامه أو حكم بغير مذهب إمامه لم ينفذ حكمه؛ لبطلانه, فإنه يعتقد صحة مذهب إمامه, وتقديم الراجح في مذهبه, فإذا حكم بخلاف ذلك كان حاكما بغير ما يعتقد, فكان حكمه باطلا, وعليه أن يبين مستنده في جميع أحكامه, وقيل : لا يجوز توليته القضاء, فإن قلده الإمام القضاء كانت توليته القضاء باطلة, وكان حكمه باطلا, وإن وافق الراجح في مذهب إمامه, وكانت التبعة في ذلك عليه؛ لقبوله ما ليس أهلا له وعلى من ولاه لتوليته إياه, وذهب الماوردي وجماعته إلى جواز حكم المقلد بغير مذهب إمامه, وجمع بينهما الأذرعي بحمل كل من القولين على حال من أحوال المقلد .
رابعا : مجتهد المذهب : وهو من له قدرة على استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية بناء على أصول الإمام الذي انتسب إليه, أو استنباطها من قواعد إمامه منصوصة أو مستنبطة من كلامه, أو استنباطها بالقياس على منصوصه لشبه معتبر بينهما, أو لعدم وجود فارق مؤثر, وله قدرة أيضا على الترجيح بين الروايات والأقوال والوجوه .(1/223)
وهذا بأنواعه له شبه بالمجتهد المطلق من ناحية قدرته على استنباط الأحكام في الجملة, وله شبه بالمقلد من ناحية وقوفه عند أصول إمامه, والتزامه لطريقته في التخريج والترجيح؛ ولذا اختلف في حكم توليته القضاء : فمن غلب جهة شبهه بالمجتهد المطلق أجاز توليته القضاء, ولو مع وجود المجتهد المطلق, فتصح ولايته, ويقضي ما ترجح لديه من الآراء, وحكمه نافذ ورافع للخلاف فيما حكم فيه من القضايا, ومن غلب فيه جهة شبهه بالمقلد, وسماه : مقلدا, وإن كان تقليده غير محض, لم يصحح ولايته إلا عند عدم وجود مجتهد مطلق, والمعتمد الأول عند كثير من الفقهاء,ولكن ينبغي تولية الأمثل فالأمثل .
خامسا : مجتهد الفتوى : وهو من لديه قدرة على الترجيح بين الأقوال أو الروايات والوجوه المروية عن الإمام أو أصحابه, ولا قوة له على التخريج على أقوالهم أو من القواعد والأصول المعتبرة في المذهب إلا ما كان قياسا مع عدم الفارق المؤثر, وما وضح اندراجه في قواعد المذهب وأصوله, وما كان تفصيلا لقول مجمل ذي وجهين وحكم محتمل لأمرين منقول عن إمام المذهب أو أحد أصحابه المجتهدين فإنه يقوى على مثل ذلك .
وهذا القسم وإن كان في المرتبة دون من قبله من مجتهدي المذهب, إلا أنه ملحق به في حكم توليته القضاء, وما يحكم به ونفاذ حكمه ورفعه للخلاف في القضية التي حكم فيها .
المبحث الرابع والعشرون
رأي الإمام الذهبي بمراتب الاجتهاد(1/224)
قال في ترجمة ابن حزم رحمه الله : "وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُمَرُ بنُ وَاجِب قَالَ:بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْد أَبِي بِبَلَنْسِيةَ وَهُوَ يُدَرِّسُ المَذْهَب، إِذَا بِأَبِي مُحَمَّدٍ بن حَزْم يَسْمَعُنَا، وَيَتَعَجَّب، ثُمَّ سَأَلَ الحَاضِرِيْنَ مَسْأَلَةً مِنَ الفِقْهِ، جُووب فِيْهَا، فَاعْترَض فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الحُضَّار:هَذَا العِلْمُ لَيْسَ مِنْ مُنْتَحَلاَتِكَ، فَقَامَ وَقَعَدَ، وَدَخَلَ مَنْزِله فَعكَف، وَوَكَفَ مِنْهُ وَابِلٌ فَمَا كَفَّ، وَمَا كَانَ بَعْدَ أَشْهُرٍ قَرِيْبَة حَتَّى قَصَدْنَا إِلَى ذَلِكَ المَوْضِع، فَنَاظر أَحْسَن منَاظرَة، وَقَالَ فِيْهَا:أَنَا أَتبع الحَقَّ، وَأَجتهد، وَلاَ أَتَقَيَّدُ بِمَذْهَب.
قُلْتُ:نَعم، مَنْ بَلَغَ رُتْبَة الاجْتِهَاد، وَشَهِد لَهُ بِذَلِكَ عِدَّة مِنَ الأَئِمَّةِ، لَمْ يَسُغْ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ، كَمَا أَنَّ الفَقِيْه المُبتدئ وَالعَامِي الَّذِي يَحفظ القُرْآن أَوْ كَثِيْراً مِنْهُ لاَ يَسوَغُ لَهُ الاجْتِهَاد أَبَداً، فَكَيْفَ يَجْتَهِدُ، وَمَا الَّذِي يَقُوْلُ؟وَعلاَم يَبنِي؟وَكَيْفَ يَطيرُ وَلَمَّا يُرَيِّش؟(1/225)
وَالقِسم الثَّالِث:الفَقِيْهُ المنتهِي اليَقظ الفَهِم المُحَدِّث، الَّذِي قَدْ حَفِظ مُخْتَصَراً فِي الفروع، وَكِتَاباً فِي قوَاعد الأُصُوْل، وَقرَأَ النَّحْو، وَشَاركَ فِي الفضَائِل مَعَ حِفْظِهِ لِكِتَابِ اللهِ وَتشَاغله بتَفْسِيْره وَقوَةِ مُنَاظرتِهِ، فَهَذِهِ رُتْبَة مِنْ بلغَ الاجْتِهَاد المُقيَّد، وَتَأَهَّل لِلنظر فِي دلاَئِل الأَئِمَّة، فَمتَى وَضحَ لَهُ الحَقُّ فِي مَسْأَلَة، وَثبت فِيْهَا النَّصّ، وَعَمِلَ بِهَا أَحَدُ الأَئِمَّةِ الأَعْلاَمِ كَأَبِي حَنِيْفَةَ مِثْلاً، أَوْ كَمَالِك، أَوِ الثَّوْرِيِّ، أَوِ الأَوْزَاعِيِّ، أَوِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاق، فَلْيَتَّبع فِيْهَا الحَقّ وَلاَ يَسْلُكِ الرّخصَ، وَلِيَتَوَرَّع، وَلاَ يَسَعُه فِيْهَا بَعْدَ قيَام الحُجَّة عَلَيْهِ تَقليدٌ.(1/226)
فَإِن خَاف مِمَّنْ يُشَغِّب عَلَيْهِ مِنَ الفُقَهَاء فَلْيَتَكَتَّم بِهَا وَلاَ يَترَاءى بِفعلهَا، فَرُبَّمَا أَعْجَبته نَفْسُهُ، وَأَحَبّ الظُهُوْر، فَيُعَاقب، وَيَدخل عَلَيْهِ الدَّاخلُ مِنْ نَفْسِهِ، فَكم مِنْ رَجُلٍ نَطَقَ بِالْحَقِّ، وَأَمر بِالمَعْرُوف، فَيُسَلِّطُ اللهُ عَلَيْهِ مَنْ يُؤذِيْه لِسوء قَصدهِ، وَحُبِّهِ لِلرِّئَاسَة الدِّينِيَّة، فَهَذَا دَاءٌ خَفِيٌّ سَارٍ فِي نُفُوْسِ الفُقَهَاء، كَمَا أَنَّهُ دَاءٌ سَارٍ فِي نُفُوْسِ المُنْفِقِين مِنَ الأَغنِيَاء وَأَربَاب الوُقُوْف وَالتُّرب المُزَخْرَفَة، وَهُوَ دَاءٌ خفِيٌّ يَسرِي فِي نُفُوْس الجُنْد وَالأُمَرَاء وَالمُجَاهِدِيْنَ، فَترَاهم يَلتقُوْنَ العَدُوَّ، وَيَصْطَدِمُ الجمعَان وَفِي نُفُوْس المُجَاهِدِيْنَ مُخَبّآتُ وَكمَائِنُ مِنَ الاختيَالِ وَإِظهَار الشَّجَاعَةِ ليُقَالَ، وَالعجبِ، وَلُبْسِ القرَاقل المُذَهَّبَة، وَالخُوذ المزخرفَة، وَالعُدد المُحلاَّة عَلَى نُفُوْس مُتكبّرَةٍ، وَفُرْسَان مُتجبِّرَة، وَيَنضَاف إِلَى ذَلِكَ إِخلاَلٌ بِالصَّلاَة، وَظُلم لِلرَّعيَّة، وَشُرب لِلمسكر، فَأَنَّى يُنْصرُوْن؟وَكَيْفَ لاَ يُخذلُوْن؟اللَّهُمَّ:فَانصر دينَك، وَوَفِّق عِبَادك.
فَمَنْ طَلَبَ العِلْمَ لِلعمل كسره العِلْمُ، وَبَكَى عَلَى نَفْسِهِ، وَمِنْ طلب العِلْم لِلمدَارس وَالإِفتَاء وَالفخر وَالرِّيَاء، تحَامقَ، وَاختَال، وَازدرَى بِالنَّاسِ، وَأَهْلكه العُجْبُ، وَمَقَتَتْهُ الأَنْفُس{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشَّمْس:9 و 10]أَي دسَّسَهَا بِالفجُور وَالمَعْصِيَة.
قُلِبَتْ فِيْهِ السِّينُ أَلِفاً.(1/227)
قَالَ الشَّيْخُ عزّ الدِّيْنِ بنُ عَبْدِ السَّلاَم - وَكَانَ أَحَدَ المُجْتَهِدين - :مَا رَأَيْتُ فِي كُتُبِ الإِسْلاَم فِي العِلْمِ مِثْل(المحلَّى)لابْنِ حَزْم، وَكِتَاب(المُغنِي) لِلشَّيْخِ مُوَفَّق الدِّيْنِ.
قُلْتُ:لَقَدْ صَدَقَ الشَّيْخُ عزّ الدِّيْنِ،وَثَالِثهُمَا:(السُّنَن الكَبِيْر) لِلبيهقِي،وَرَابعهَا:(التّمهيد)لابْنِ عبدِ البر،فَمَنْ حصَّل هَذِهِ الدَّوَاوِيْن، وَكَانَ مِنْ أَذكيَاء المفتين، وَأَدمنَ المُطَالعَة فِيْهَا، فَهُوَ العَالِم حَقّاً. "(1).
- - - - - - - - - - - - - -
الفصل الثاني
حول الإصابة والخطأ في أقوال المجتهدين
وفيه المباحث التالية :
1-حجَّةُ من يقولُ: كلُّ مجتهدٍ مصيبٌ ...
2-هل المصيبُ واحد في المسائل الخلافية؟ ...
3- هل كل مجتهد مصيب؟ ...
الجانب الأول: هل الحقُّ عند الله واحد أو متعدد؟ ...
الجانب الثاني: لا خلاف بين أهل العلم في أن المجتهد - الذي توفرت الشروط في اجتهاده - إذا أصاب الحق له أجران، للحديث المتقدم، ...
4-تعقيبٌ على قول المخطِّئة: ...
5-أقوال المجتهدين وهل الحق في واحد أو كل مجتهد مصيب ...
المبحث الأول
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (18/191-194)(1/228)
حجَّةُ من يقولُ: كلُّ مجتهدٍ مصيبٌ(1)
__________
(1) - انظر فتح الباري لابن حجر - (ج 11 / ص 452) و (ج 20 / ص 216) و (ج 20 / ص 414) ومجموع الفتاوى - (ج 4 / ص 438) و (ج 13 / ص 113) و (ج 13 / ص 123) و (ج 14 / ص 432) و (ج 20 / ص 19) و (ج 20 / ص 240) و (ج 29 / ص 41) وفتاوى الأزهر - (ج 1 / ص 2) والفتاوى الفقهية الكبرى - (ج 10 / ص 150) و الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 8 / ص 109) و(ج 32 / ص 41) و(ج 34 / ص 223) وفتاوى السبكي - (ج 4 / ص 168) و (ج 4 / ص 420) وموسوعة الفقه الإسلامي - (ج 1 / ص 49) والسيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار - الرقمية - (ج 1 / ص 17) والمحلى بالآثار - (ج 1 / ص 114) والفقيه والمتفقه - (ج 1 / ص 402) وأصول السرخسي - (ج 1 / ص 127) والأحكام للآمدي - (ج 1 / ص 252) والأحكام لابن حزم - (ج 5 / ص 647) والمحصول - (ج 6 / ص 34) والمستصفى - (ج 2 / ص 381) وقواعد الأحكام في مصالح الأنام - (ج 2 / ص 279) وكشف الأسرار - (ج 1 / ص 110) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 357) والبحر المحيط - (ج 6 / ص 59) و(ج 6 / ص 203) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 2 / ص 3) والموافقات في أصول الشريعة - (ج 3 / ص 78) و إرشاد الفحول - (ج 2 / ص 231)(1/229)
قال الإمام أبو بكر الجصاص رحمه الله :(1)فِي سُؤَالَاتِ مَن قَالَ : إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ وَاحْتِجَاجُهُمْ لِذَلِكَ ،قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ اسْتَدَلَّ مَن قَالَ ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ مِن جِهَةِ الظَّاهِرِ ، وَقَوْلُ السَّلَفِ ، وَالنَّظَرُ . فَمِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِن جِهَةِ الظَّاهِرِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَحْكَامِ حَوَادِثِ الْفِقْهِ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَابَ الِاخْتِلَافَ وَالتَّفَرُّقَ ، وَذَمَّ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ ، وَعَنَّفَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (105) سورة آل عمران ،وَقَالَ تَعَالَى : {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ...} (103) سورة آل عمران، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى/13] } ، وقَوْله تَعَالَى :{ وَلَوْ كَانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) [النساء/82] }، وقَوْله تَعَالَى : { إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [يونس/36] }، وقَوْله تَعَالَى : { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِن رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) [النجم/23، 24] } .وقَوْله تَعَالَى : { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } [المؤمنون/71] فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ النَّهْيَ عَن الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ نَهْيًا عَامًّا فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ .
__________
(1) - الفصول في الأصول - (ج 3 / ص 152) فما بعدها(1/230)
فَدَلَّ أَنَّ مَا أَدَّى إلَى ذَلِكَ فَلَيْسَ هُوَ حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى ، لِأَنَّهُ انْتَفَى مِن الِاخْتِلَافِ ، وَنَفَاهُ عَن أَحْكَامِهِ ، وَأَنْ يَكُونَ مِن عِنْدِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَوْ كَانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) [النساء/82] } .
وَقَوْلُ الْقَائِلِينَ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ يُوجِبُ جَوَازَ الِاخْتِلَافِ ، وَحَكَمَ مَعَ ذَلِكَ الْقَوْلِ بِبُطْلَانِ الظَّنِّ وَالْحُكْمِ بِالْهَوَى .
وَلَيْسَ الْحُكْمُ بِالظَّنِّ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى إلَّا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِمَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ وَيَسْتَوْلِي عَلَى رَأْيِهِ مِن غَيْرِ اتِّبَاعِ دَلِيلٍ يُوجِبُ لَهُ الْقَوْلَ بِهِ .
الْجَوَابُ :
يُقَالُ لَهُمْ : أَخْبِرُونَا عَنِ الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعَابَ أَهْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ ، وَنَهَى عَنهُ ، هُوَ الِاخْتِلَافُ فِي أَحْكَامِ حَوَادِثِ الْفُتْيَا ؟ فَإِنْ قَالُوا : نَعَمْ .
قِيلَ لَهُمْ : فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ الْهَادِيَةِ مِن الصَّدْرِ الْأَوَّلِ الْحَظُّ الْأَوْفَرَُمِن هَذَا الذَّمِّ ، وَمِن مُوَاقَعَةِ هَذَا النَّهْيِ ، لِكَثْرَتِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِن مَسَائِلِ الْفُتْيَا .
فَإِنْ كَانُوا كَذَلِكَ عِنْدَكُمْ ،فَقَدْ صِرْتُمْ إلَى مَذْهَبِ الطَّاعِنِينَ فِي السَّلَفِ مِن سَائِرِ فِرَقِ الضَّلَالَةِ ،وَلَيْسَ هَذَا قَوْلُ أَحَدٍ مِن الْفُقَهَاءِ .
وَالْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ مِن غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ فِي الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ هَهُنَا فِي تَعَذُّرِ الْمُجْتَهِدِينَ مِن الْقَائِلِينَ بِالِاجْتِهَادِ .(1/231)
فَإِذَا كَانَ الْمُخْتَلِفُونَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ مَعْذُورِينَ وَمَأْجُورِينَ ، فَكَيْفَ ( يَجُوزُ ) أَنْ يَكُونُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ مِن أَهْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ ، فَقَدْ وَجَبَ بِاتِّفَاقِنَا جَمِيعًا أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا غَيْرُ مُرَادٍ بِهَا ، وَلَا دَاخِلٍ فِيهَا، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مُوجِبَةً لِذَمِّ الِاخْتِلَافِ عَامًّا ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَلِفُونَ عِنْدَ الْفَتَاوَى فِي تَدْبِيرِ الْحُرُوبِ مُسْتَحِقِّينَ لِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَذْمُومِينَ بِاخْتِلَافِهِمْ .(1/232)
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي شَأْنِ أُسَارَى بَدْرٍ ، فَلَمْ يَجْعَلْهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا نَبِيُّهُ - صلى الله عليه وسلم - مِن الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ شَمِلَهُمْ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَاتِ ، فعَن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا تَقُولُونَ فِى هَؤُلاَءِ الأَسْرَى ». قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ اسْتَبْقِهِمْ وَاسْتَأْنِ بِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. قَالَ وَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْرَجُوكَ وَكَذَّبُوكَ قَرِّبْهُمْ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ. قَالَ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ انْظُرْ وَادِياً كَثِيرَ الْحَطَبِ فَأَدْخِلْهُمْ فِيهِ ثُمَّ أَضْرِمْ عَلَيْهِمْ نَاراً. قَالَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ قَطَعْتَ رَحِمَكَ، قَالَ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئاً. قَالَ فَقَالَ نَاسٌ يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِى بَكْرٍ. وَقَالَ نَاسٌ يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ. وَقَالَ نَاسٌ يَأْخُذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ.(1/233)
قَالَ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ لَيُلِينُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ وَإِنَّ اللَّهَ لَيَشُدُّ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ (مَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَن عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وَمَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ عِيسَى قَالَ ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ نُوحٍ قَالَ (رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً) وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ مُوسَى قَالَ رَبِّ (اشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِم فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ) أَنْتُمْ عَالَةٌ فَلاَ يَنْفَلِتَنَّ مِنهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ ». قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ سُهَيْلُ ابْنُ بَيْضَاءَ فَإِنِّى قَدْ سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الإِسْلاَمَ. قَالَ فَسَكَتَ - قَالَ - فَمَا رَأَيْتُنِى فِى يَوْمٍ أَخْوَفَ أَنْ تَقَعَ عَلَىَّ حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فِى ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى قَالَ « إِلاَّ سُهَيْلُ ابْنُ بَيْضَاءَ ». قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (67) سورة الأنفال(1).
__________
(1) - مسند أحمد برقم(3704) وهو حديث حسن.(1/234)
فَثَبَتَ لِمَا وَصَفْنَا أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُجْتَهِدِينَ لَيْسَ مَا ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَاتِ ،وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا مَذْمُومًا ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الْعِبَادَاتِ الْوَارِدَةِ مِن طَرِيقِ النَّصِّ مَذْمُومًا ، نَحْوُ اخْتِلَافِ فَرْضِ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ، وَاخْتِلَافِ حُكْمِ الطَّاهِرِ وَالْحَائِضِ فِيهِمَا ،فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا فِي أَحْكَامِ الْمُتَعَبِّدِينَ ، وَلَمْ يَكُنْ مَعِيبًا وَلَا مَذْمُومًا ، بَلْ كَانَ حِكْمَةً وَصَوَابًا مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَمْ يَنْفِهِ قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْ كَانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [النساء/82] ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ الَّذِي نَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَن كِتَابِهِ ، وَأَحْكَامِهِ ، هُوَ اخْتِلَافُ التَّضَادِّ وَالتَّنَافِي ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَسَبِيلُ الْمُجْتَهِدِينَ إذَا اخْتَلَفُوا سَبِيلُ الْمُتَعَبِّدِينَ بِالْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ مِن جِهَةِ النُّصُوصِ ، وَالِاتِّفَاقِ ، لِأَنَّ كُلًّا مِنهُمْ مُتَعَبِّدٌ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ تَخْطِئَةُ غَيْرِهِ فِي مُخَالَفَتِهِ إيَّاهُ ،وَإِنْ كَانَ مَا تَعَبَّدَ بِهِ خِلَافُ مَا تَعَبَّدَ بِهِ غَيْرُهُ .
كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ تَخْطِئَةُ الْمُقِيمِ فِي مُخَالَفَةِ حُكْمِهِ لِحُكْمِهِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْحَائِضِ تَخْطِئَةُ الطَّاهِرَةِ فِيمَا تَعَبَّدَ بِهِ كُلٌّ مِنهُمَا مِن الْحُكْمِ ، كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْمُجْتَهِدِينَ إذَا اخْتَلَفُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَهُمْ جَمِيعًا مُصِيبُونَ .(1/235)
وَأَمَّا الْحُكْمُ بِالظَّنِّ وَالْهَوَى ، فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِالظَّنِّ وَالْهَوَى ، لقول تعالى : { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (26) سورة ص، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْأَمَارَاتِ وَالشَّوَاهِدِ ، وَالْأَشْبَاهِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمْوَالِ ، وَجَعَلَهَا أَمَارَاتٍ لِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُجْتَهِدُ حَاكِمًا بِالظَّنِّ وَالْهَوَى لَكَانَ الْمُتَحَرِّي لِلْكَعْبَةِ حَاكِمًا بِالْهَوَى ، وَلَكَانَتْ الصَّحَابَةُ حِينَ تَكَلَّمُوا فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا مُتَّبِعِينَ لِلْهَوَى حَاكِمِينَ بِالظَّنِّ ، وَلَكَانَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي تَدْبِيرِ الْحَرْبِ وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ مُتَّبِعِينَ لِلْهَوَى حَاكِمِينَ بِالظَّنِّ ، فَلَمَّا انْتَفَى ذَلِكَ عَمَن وَصَفْنَا وَلَمْ يَجُزْ إطْلَاقُهُ فِيهِمْ ، كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا : بِمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي الْحَرْثِ ، فِي قَوْله تَعَالَى : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)} سورة الأنبياء.(1/236)
قَالُوا : فَهَذَا دَلِيلٌ ( عَلَى ) أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ هُوَ الْمُصِيبُ لِحَقِيقَةِ الْحُكْمِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ،و لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا خُصَّ بِالتَّفْهِيمِ دُونَ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ(الجصاص) : قَدْ أُجِيبُوا عَن هَذَا بِأَجْوِبَةٍ :
أَنْ لَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } دَلِيلٌ ( عَلَى ) أَنَّ دَاوُد لَمْ يُفَهَّمْهَا ، كَمَا أَنْ لَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا } دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ عَن غَيْرِهِمَا مِن الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ .
وَكَمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) [الفتح/18] }، لَا دَلَالَةَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ عَن غَيْرِهِمْ مِمَن لَمْ يُبَايِعْ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، إذْ لَيْسَ فِي تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ ،وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ مِن هَذَا الْكِتَابِ ، فَسَقَطَ سُؤَالُهُمْ مِن هَذَا الْوَجْهِ .
ثُمَّ قَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ : فَمِنهُمْ مَن قَالَ : إنَّ حُكْمَهَا كَانَ مِن طَرِيقِ النَّصِّ لَا مِن جِهَةِ الِاجْتِهَادِ ، وَإِنَّمَا حُكْمُ دَاوُد فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ ( بِحُكْمٍ ) اسْتَمَدَّهُ مِن طَرِيقِ النَّصِّ ، ثُمَّ نُسِخَ حُكْمُهُ فِي مِثْلِهَا عَلَى لِسَانِ سُلَيْمَانَ - صلى الله عليه وسلم - بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } مَعْنَاهُ : أَنَّا عَلَّمْنَاهُ حُكْمَهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ .(1/237)
وَمِنهُمْ مَن يَقُولُ : إنَّ حُكْمَهُمَا كَانَ مِن طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، إلَّا أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصَابَ حَقِيقَةَ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ ، وَلَمْ يُصِبْهَا دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ ( فَخَصَّ سُلَيْمَانَ ) بِالْفَهْمِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ ، وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا مُصِيبِينَ لِمَا كُلِّفَاهُ مِن الْحُكْمِ .قَالَ : وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمَا مُصِيبَانِ جَمِيعًا : قَوْله تَعَالَى : { وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } .
فَأَثْنَى عَلَيْهِمَا جَمِيعًا ، وَوَصَفَهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ .
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا كَانَا مُصِيبِينَ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي تَعَبَّدَا بِهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَوْ كَانَ دَاوُد مُصِيبًا لِلْحُكْمِ لِمَ نَقَضَهُ سُلَيْمَانُ حِينَ خُوصِمَ إلَيْهِ فِيهِ ؟ وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ : أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَكَمَ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا بِخِلَافِ حُكْمِ دَاوُد فِيهَا ؟ .(1/238)
فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنهُ فِى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) قَالَ كَرْمٌ وَقَدْ أَنْبَتَتْ عَنَاقِيدُهُ فَأَفْسَدَتْهُ قَالَ فَقَضَى دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ فَقَالَ سُلَيْمَانُ غَيْرَ هَذَا يَا نَبِىَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ وَمَا ذَاكَ قَالَ تَدْفَعُ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ فَيَقُومُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ وَتَدْفَعُ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِ الْكَرْمِ فَيُصِيبُ مِنهَا حَتَّى إِذَا كَانَ الْكَرْمُ كَمَا كَانَ دَفَعْتَ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِهِ وَدَفَعْتَ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِهَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حَكَمًا وَعِلْمًا)(1)
قِيلَ لَهُ : الِاحْتِمَالُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَائِمٌ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ دَاوُد لَمْ يَلْزَمْ الْحُكْمَ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ، وَإِنَّمَا أَظْهَرَ لِلْقَوْمِ الْحُكْمَ عِنْدَهُ فِيهِ وَلَمْ يُمْضِهِ ، حَتَّى لَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ قَالَ : الْحُكْمُ عِنْدِي كَيْتَ وَكَيْتَ .
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 10 / ص 118) برقم(20862) وهو صحيح موقوف ، ومثله لا يقال بالرأي(1/239)
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تِلْكَ الْحُكُومَةِ ، وَنَصَّ لَهُ عَلَيْهَا ، فَكَانَ قَوْلُ دَاوُد فِيهَا مِن طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، وَمَا نَصَّ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ خِلَافُ حُكْمِ دَاوُد قَبْلَ أَنْ يُمْضِيَ دَاوُد مَا رَآهُ فِيهَا ،فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَّهُ فَهَّمَهَا سُلَيْمَانَ ، يَعْنِي بِنَصٍّ مِن عِنْدِهِ ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى تَخْطِئَتِهِ لِدَاوُدَ فِي الْحُكُومَةِ .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا : بِمَا عَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ نَبِيَّهُ فِي مَوَاضِعَ كَانَ حُكْمُهُ فِيهَا مِن طَرِيقِ الِاجْتِهَاد .
مِنهَا : إذْنُهُ لِمَن تَخَلَّفَ عَن جَيْشِ الْعُسْرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (43) سورة التوبة ،وَالْعَفْوُ لَا يَكُونُ إلَّا عَن ذَنْبٍ ، وَقَالَ تَعَالَى : { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) [النساء/15-106] }.
وَمِنهَا : مَا كَانَ مِنهُ فِي شَأْنِ الْأَسْرَى وهو قوله تعالى : {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (67) سورة الأنفال ، وَقَدْ كَانَ فَعَلَ جَمِيعَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِ رَأْيِهِ ، فَلَمْ يُعَرَّ مِن الْخَطَأِ فِيهِ .(1/240)
قِيلَ لَهُ : جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَوْقَفَهُ عَلَى حَقِيقَةِ النَّظِيرِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْخَطَأُ خَطَأً فِي الدِّينِ ، وَلَكِنَّهُ خَطَأٌ لِلْأَشْبَهِ ، وَعُدُولٌ عَن حَقِيقَةِ النَّظِيرِ عَلَى مَا قُلْنَا .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { عَفَا اللَّهُ عَنك } فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَنْبًا ،وَلَيْسَ يَقُولُ أَحَدٌ مِن الْفُقَهَاءِ : إنَّ خَطَأَ الْمُجْتَهِدِ ذَنْبٌ ،وَالْعَفْوُ فِي اللُّغَةِ : هُوَ التَّسْهِيلُ وَالتَّوْسِعَةُ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : {..فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ .. } (187) سورة البقرة، يَعْنِي سَهَّلَ عَلَيْكُمْ .(1/241)
وَاحْتَجُّوا مِن جِهَةِ السُّنَّةِ بِحَدِيثِ عَن سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ ، عَن أَبِيهِ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ ، أَوْ سَرِيَّةٍ ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ ، وَمَن مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ، ثُمَّ قَالَ : " اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قَاتِلُوا مَن كَفَرَ بِاللَّهِ ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا ، وَلَا تَغْدِرُوا ، وَلَا تَمْثُلُوا ، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا ، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلَالٍ - فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنهُمْ ، وَكُفَّ عَنهُمْ ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ أَجَابُوكَ ، فَاقْبَلْ مِنهُمْ ، وَكُفَّ عَنهُمْ ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِن دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنهَا ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنهُمْ ، وَكُفَّ عَنهُمْ ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ ، وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ ، فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ ، وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ(1/242)
أَصْحَابِكَ ، فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِن أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ ، فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا "(1).
قَالُوا : فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ ، وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِكُمْ : إنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ رَأْيُ الْمُجْتَهِدِ .
وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ اخْتَصَمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ :« اقْضِ بَيْنَهُمَا ». قَالَ وَأَنْتَ هَا هُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « نَعَمْ ». قَالَ عَلَى مَا أَقْضِى قَالَ: « إِنِ اجْتَهَدْتَ فَأَصَبْتَ فَلَكَ عَشْرَةُ أُجُورٍ وَإِنِ اجْتَهَدْتَ فَأَخْطَأْتَ فَلَكَ أَجْرٌ وَاحِدٌ »(2).
وعَن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ إِلاَّ أَنَّهُ جَعَلَ مَكَانَ الأُجُورِ حَسَنَاتٍ."(3)
__________
(1) - صحيح مسلم برقم(4619 ) والحديث عنده مختصر فذكرته بطوله لفائدته
(2) - سنن الدارقطنى برقم( 4510 ) وهو حديث حسن
(3) - سنن الدارقطنى برقم(4511 )عَن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- بِمِثْلِهِ إِلاَّ أَنَّهُ جَعَلَ مَكَانَ الأُجُورِ حَسَنَاتٍ. وهو حسن
وفي سنن الدارقطنى برقم(4512 )عَن عُقْبَةَ - يَعْنِى ابْنَ عَامِرٍ - قَالَ جَاءَ خَصْمَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَخْتَصِمَانِ فَقَالَ لِى « قُمْ يَا عُقْبَةُ اقْضِ بَيْنَهُمَا ». قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنِّى. قَالَ « وَإِنْ كَانَ اقْضِ بَيْنَهُمَا فَإِنِ اجْتَهَدْتَ فَأَصَبْتَ فَلَكَ عَشْرَةُ أُجُورٍ وَإِنِ اجْتَهَدْتَ فَأَخْطَأْتَ فَلَكَ أَجْرٌ وَاحِدٌ » وهو حسن.(1/243)
وعَن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ »(1)
( قَالُوا ) : فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تُنَبِّئُ عَن خَطَأِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُتْيَا ، وَهِيَ نَافِيَةٌ لِقَوْلِ مَن قَالَ : كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ .
الْجَوَابُ : أَمَّا حَدِيثُ ، بُرَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : { فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ} يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ كَانَ جَائِزًا وُرُودُ النَّسْخِ عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي كَانُوا عَرَفُوهُ حِينَ فَارَقُوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : لَا تُنْزِلُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ ، لِأَنَّكُمْ لَا تَأْمَنُونَ أَنْ يَكُونَ قَدْ نُسِخَ بَعْدَ غَيْبَتِكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَدْرُونَ بِهِ .
وَالْمَعْنَى الْآخَرُ : حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ إذَا نَزَلُوا عَلَيْهِ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِنَا عِنْدَ نُزُولِهِمْ ، فَيَلْزَمُنَا إمْضَاؤُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَكُونُ أَرَدَّ عَن الْإِسْلَامِ وَأَصْلَحَ : مِن قَتْلٍ ، أَوْ سَبْيٍ ، أَوْ مَنٍّ ، وَاسْتِبْقَاءٍ ، وَوَضْعِ الْجِزْيَةِ ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ ، وَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ مَوَاضِعُ الِاجْتِهَادِ فِيهِ بِحَسَبِ أَحْوَالِ الْقَوْمِ.
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (7352 ) ومثله عن أبي هريرة المنتقى من السنن المسندة لابن برقم(996) و سنن الترمذى برقم(1376 )(1/244)
فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ : فَلَا تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَنْتُمْ الْآنَ قَبْلَ نُزُولِهِمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ ، وَإِنَّمَا تَعْلَمُونَهُ إذَا اجْتَهَدْتُمْ فِي أُمُورِهِمْ بَعْدَ نُزُولِهِمْ ، وَلَا تُنْزِلُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْقَوْمِ أَنَّكُمْ تَحْكُمُونَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِن طَرِيقِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ ، لَا مِن طَرِيقِ النَّصِّ وَالتَّوْقِيفِ .
فَيَكُونُ فِيهِ ضَرْبٌ مِن التَّعْزِيرِ لَهُمْ مِمَّا ( لَمْ ) يَكُونُوا يَعْلَمُونَهُ ، وَعَسَى أَنْ يَكُونُوا إنَّمَا يَدْخُلُونَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا فِيهِمْ يَكُونُ مِن طَرِيقِ النَّصِّ ، دُونَ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ » فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ إذَا أَصَابَ الْأَشْبَهَ الْمَطْلُوبَ الَّذِي يَتَحَرَّى الْمُجْتَهِدُ مُوَافَقَتَهُ - وَإِصَابَتَهُ بِاجْتِهَادِهِ - ( فَلَهُ أَجْرَانِ ) وَإِنْ أَخْطَأَهُ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ ، فَيَكُونُ مُصِيبًا لِلْحُكْمِ فِي الْحَالَيْنِ ، مُخْطِئًا فِي أَحَدِهِمَا لِلْأَشْبَهِ ، لَا لِلْحُكْمِ ، إذْ لَمْ يَكُنْ الْأَشْبَهُ هُوَ الْحُكْمَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَلَيْسَ هَذَا الْخَطَأُ خَطَأً فِي الْحُكْمِ ، وَإِنَّمَا هُوَ خَطَأٌ لِلْأَشْبَهِ الَّذِي لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَتَهُ ، كَخَطَأِ الرَّامِي لِلْكَافِرِ .(1/245)
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِذَا كَانَ مُصِيبًا لِلْحُكْمِ فِي الْحَالَيْنِ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِي أَحَدِهِمَا أَجْرَيْنِ ، وَفِي الْآخَرِ أَجْرًا وَاحِدًا ؟ قِيلَ لَهُ : إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يُخْبِرْ عَن الْمُسْتَحَقِّ مِن الْأَجْرِ عَن الِاجْتِهَادِ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَمَّا يُعْطِيهِ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجْعَلُهُ عَلَى جِهَةِ الْوَعْدِ لَهُ بِالتَّفْضِيلِ ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عِنْدَنَا ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا وَعَدَ أَحَدَهُمَا زِيَادَةَ أَجْرٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقَّهُ أَنْ لَا يَقَعَ مِنهُمَا تَقْصِيرٌ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي الِاجْتِهَادِ ، وَطَلَبُ الْأَشْبَهِ .
وَأَنَّهُ إنْ لَمْ يُعِدَّ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا وَقَعَ مِنهُمَا فُتُورٌ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي الِاجْتِهَادِ ، كَمَا هُوَ جَائِزٌ ( مُتَعَالَمٌ بَيْنَنَا أَنْ يَقُولَ حَكِيمٌ ) مِن الْحُكَمَاءِ لِرَجُلَيْنِ : ارْمِيَا هَذَا الْكَافِرَ .
فَمَن أَصَابَهُ مِنكُمَا فَلَهُ دِينَارَانِ ، وَمَن أَخْطَأَهُ فَلَهُ دِينَارٌ وَاحِدٌ، فَلَا يَكُونُ ( مُمْتَنِعًا وَيَكُونُ ) الْفَضْلُ الْمَشْرُوطُ لِلْمُصِيبِ مِنهُمَا ، تَحْرِيضًا لَهُمَا ، وَتَطْيِيبًا فِي وُقُوعِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّسْدِيدِ ، وَتَحَرِّي إصَابَةِ الْمَرْمَى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا ،وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لَوَقَعَ مِنهُمَا فُتُورٌ فِي الْمُبَالَغَةِ ، وَالِاسْتِقْصَاءِ فِي ذَلِكَ .(1/246)
كَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَا جَعَلَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِن زِيَادَةِ الْأَجْرِ لِلْمُصِيبِ الْأَشْبَهَ ، غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِنَفْسِ الِاجْتِهَادِ ، وَإِنَّمَا وَعَدَ بِهَا تَحْرِيضًا وَحَثًّا عَلَى التَّقَصِّي فِي الِاجْتِهَادِ ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي تَحَرِّي الْمَطْلُوبِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا سَمَّاهُ أَجْرًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ .
قِيلَ لَهُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمَّاهُ أَجْرًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ ، حِينَ كَانَ الْوَعْدُ بِهِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلٍ يَكُونُ مِنهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَن عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (40) سورة الشورى.
فَسَمَّى الْجَزَاءَ سَيِّئَةً عَلَى وَجْهِ الْمُقَابَلَةِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ فِي إيجَابِهِ الْأَجْرَيْنِ لِمَن أَصَابَ الْأَشْبَهَ مِنهُمَا : وَهُوَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ إصَابَةُ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْأَشْبَهُ مُتَعَلِّقَةً بِضَرْبٍ مِن الْمُبَالَغَةِ فِي الِاجْتِهَادِ ، يُصَادِفُ بِهَا مُوَافَقَةَ الْأَشْبَهِ ، وَإِنْ كَانَ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى مَا دُونَهَا مِن التَّقَصِّي وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا ، وَلَمْ يَكُنْ مُطْلَقًا لِأَكْثَرَ مِنهُ ، وَلَا يُصِيبُ الْأَشْبَهَ مَعَ ذَلِكَ ، فَيَكُونُ الضَّرْبَانِ جَمِيعًا مِن الِاجْتِهَادِ جَائِزَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ مِن الْآخَرِ ، لِمَا فِيهِ مِن زِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ فِي النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ .(1/247)
إذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا : جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُصِيبُ لِلْأَشْبَهِ الْمَطْلُوبِ مُسْتَحَقًّا لِزِيَادَةِ الثَّوَابِ عَلَى حَسَبِ وُقُوعِ زِيَادَةِ اجْتِهَادِهِ عَلَى اجْتِهَادِ الَّذِي قَصَّرَ عَن مُوَافَقَةِ الْأَشْبَهِ،وَهَذَا جَائِزٌ سَائِغٌ ، نَحْوُ وُرُودِ الْعِبَادَةِ مِن اللَّهِ تَعَالَى ، كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ : { وَالْقَوَاعِدُ مِن النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ }(1)فَبَيَّنَ حُكْمَ الْمُبَاحِ الَّذِي يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ ، وَأَبَانَ عَن مَوْضِعِ الْفَضْلِ ، وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ } ،ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ }(2)، فَأَبَاحَ لَنَا الْإِفْطَارَ ، وَأَخْبَرَ بِالْفَصْلِ .
__________
(1) - قال تعالى : {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (60) سورة النور
(2) - قال تعالى : {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (184) سورة البقرة(1/248)
وعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : دَعَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ وَاحِدَةً وَاحِدَةً فَقَالَ :« هَذَا وُضُوءُ لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلاَةَ إِلاَّ بِهِ ». ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ :« هَذَا وُضُوءُ مَن يُؤْتَى أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ ». ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثَلاَثًا ثَلاَثًا فَقَالَ :« هَذَا وُضُوئِى وَوُضُوءُ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِى »(1)
وَأُبِيحَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ فِي مَنزِلِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ(2)، وَإِنْ أَتَى الْجُمُعَةَ فَصَلَّاهَا كَانَ أَفْضَلَ.
وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ لَيْسَ عَلَيْهِ إتْيَانُ الْجُمُعَةِ ، فَإِنْ تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ وَحَضَرَهَا كَانَ أَفْضَلَ وَكَانَ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ فِي إتْيَانِهَا .
فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : التَّقَصِّي ( فِيهِ ) ، وَالْمُبَالَغَةُ فِي تَحَرِّي مُوَافَقَةِ الْأَشْبَهِ ، فَيَتَّفِقُ بِمِثْلِهِ مُصَادَفَةُ الْمَطْلُوبِ ، الَّذِي لَوْ انْكَشَفَ أَمْرُهُ لِلْمُجْتَهِدِ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ كَانَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى لَا غَيْرُ .
وَاجْتِهَادُ دُونِهِ : قَدْ أُبِيحَ لِلْمُجْتَهِدِ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَتَّفِقُ بِمِثْلِهِ مُوَافَقَةَ الْأَشْبَهِ ، وَإِنْ ظَنَّ الْمُجْتَهِدُ أَنَّهُ ( قَدْ ) وَافَقَهُ، فَلَا يَسْتَحِقُّ هَذَا مِن الْأَجْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْأَوَّلُ ، وَإِنْ كَانَ مُصِيبًا ، كَمَا قُلْنَا فِي نَظَائِرِهِ - الَّتِي وَصَفْنَا - فِي النُّصُوصِ وَالِاتِّفَاقِ .
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 1 / ص 80) (384) وفيه ضعف.
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 34 / ص 222) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 2 / ص 468)(1/249)
ثُمَّ يُقَالُ لِلْمُعْتَرِضِ بِهَذَا الْخَبَرِ : خَبِّرْنَا عَن الِاجْتِهَادِ الْمُؤَدِّي إلَى الْخَطَأِ ، هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ ؟
فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ ،قِيلَ لَهُ : فَكَيْفَ يَكُونُ مَا أُمِرَ بِهِ الْمُجْتَهِدُ إذَا فَعَلَهُ يَكُونُ مُخْطِئًا بِهِ ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَأْمُورَ بِهِ إلَى الْخَطَأِ ؟
وَإِنْ قَالَ : هُوَ خَطَأٌ وَلَيْسَ بِمَأْمُورٍ بِهِ ، قِيلَ لَهُ : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ عَلَى خَطَأٍ لَيْسَ هُوَ مَأْمُورًا بِهِ ؟ هَذَا خَلْفٌ فِي الْقَوْلِ .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا : بِمَا رُوِيَ عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَرْحَمُ أُمَّتِى بِأُمَّتِى أَبُو بَكْرٍ وَأَشَدُّهُمْ فِى أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَقْرَؤُهُمْ أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ »(1).
قَالُوا : وَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا ، مَا هُنَاكَ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِن أَحَدٍ .
فَيُقَالُ لَهُ : إنَّ وُجُوهَ الدَّلَائِلِ فِي الْمَقَايِيسِ مُخْتَلِفَةٌ :
فَمِنهَا : مَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ ، وَالْحَقُّ فِيهِ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ .
__________
(1) - سنن الترمذى برقم(4159 ) وهو صحيح لغيره.(1/250)
وَمِنهَا : مَا يَكُونُ الْحَقُّ فِيهِ وَاحِدًا ، لِوُجُودِ الدَّلَائِلِ ( الْمَنصُوصَةِ عَلَيْهِ ) وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ النَّاسِ أَعْلَمَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ مِن بَعْضٍ ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ أَعْلَمَ بِدَلَالَاتِ الْقَوْلِ ، وَمَا يَجُوزُ مِنهُ مِمَّا لَا يَجُوزُ ، وَأَعْلَمُ بِمَوَاضِعِ النُّصُوصِ مِن بَعْضٍ ، فَلَيْسَ إذًا فِي كَوْنِ بَعْضِ النَّاسِ أَعْلَمَ مِن بَعْضِ مَا يَنْفِي صِحَّةَ قَوْلِنَا .
وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ مِن قَوْلِ السَّلَفِ فِي أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ : مَا رُوِيَ عَنِ الشَّعْبِىِّ قَالَ : سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنهُ عَنِ الْكَلاَلَةِ فَقَالَ : إِنِّى سَأَقُولُ فِيهَا بِرَأَيِى فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّى وَمِنَ الشَّيْطَانِ أُرَاهُ مَا خَلاَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ : إِنِّى لأَسْتَحْيِى اللَّهَ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ(1).
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 6 / ص 223) برقم( 12629) وهو صحيح مرسل(1/251)
وبما رويً عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ أُتِىَ فِى رَجُلٍ بِهَذَا الْخَبَرِ قَالَ فَاخْتَلَفُوا إِلَيْهِ شَهْرًا أَوْ قَالَ مَرَّاتٍ قَالَ فَإِنِّى أَقُولُ فِيهَا إِنَّ لَهَا صَدَاقًا كَصَدَاقِ نِسَائِهَا لاَ وَكْسَ وَلاَ شَطَطَ وَإِنَّ لَهَا الْمِيرَاثَ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّى وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ،فَقَامَ نَاسٌ مِن أَشْجَعَ فِيهِمُ الْجَرَّاحُ وَأَبُو سِنَانٍ فَقَالُوا يَا ابْنَ مَسْعُودٍ نَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَاهَا فِينَا فِى بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ وَإِنَّ زَوْجَهَا هِلاَلُ بْنُ مُرَّةَ الأَشْجَعِىُّ كَمَا قَضَيْتَ،قَالَ فَفَرِحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَرَحًا شَدِيدًا حِينَ وَافَقَ قَضَاؤُهُ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .(1)
__________
(1) - سنن أبى داود برقم(2118 ) وهو حديث صحيح(1/252)
وَبِمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ : أَرْسَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى امْرَأَةٍ مُغَيَّبَةٍ كَانَ يُدْخَلُ عَلَيْهِا ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا ، فَقِيلَ لَهَا : أَجِيبِي عُمَرَ ، فَقَالَتْ : يَا وَيْلَهَا مَا لَهَا ، وَلِعُمَرَ قَالَ : فَبَيْنَا هِيَ فِي الطَّرِيقِ فَزِعَتْ فَضَرَبَهَا الطَّلْقُ فَدَخَلَتْ دَارًا ، فَأَلْقَتْ وَلَدَهَا ، فَصَاحَ الصَّبِيُّ صَيْحَتَيْنِ ، ثُمَّ مَاتَ ، فَاسْتَشَارَ عُمَرُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ ، أَنْ لَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ ، إِنَّمَا أَنْتَ وَالٍ وَمُؤَدِّبٌ قَالَ : وَصَمَتَ عَلِيٌّ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : مَا تَقُولُ ؟ قَالَ : إِنْ كَانُوا قَالُوا : بِرَأْيِهِمْ فَقَدْ أَخْطَأَ رَأْيُهُمْ ، وَإِنْ كَانُوا قَالُوا : فِي هَوَاكَ فَلَمْ يَنْصَحُوا لَكَ ، أَرَى أَنَّ دِيَتَهُ عَلَيْكَ فَإِنَّكَ أَنْتَ أَفْزَعْتَهَا ، وَأَلْقَتْ وَلَدَهَا فِي سَبَبِكَ قَالَ : فَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَقْسِمَ عَقْلَهُ عَلَى قُرَيْشٍ ، يَعْنِي يَأْخُذُ عَقْلَهُ مِن قُرَيْشٍ لِأَنَّهُ خَطَأٌ.(1).
فَقَدْ أَطْلَقَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ اسْمَ الْخَطَأِ عَلَيْهِمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ .
وَبِمَا رُوِيَ وعَن عَبِيدَةَ السُّلْمَانِيِّ , قَالَ : سَأَلْتُهُ عَن فَرِيضَةٍ فِيهَا جَدٌّ , فَقَالَ : " لَقَدْ حَفِظْتُ مِن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِيهَا مِائَةُ قَضِيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ " قَالَ : قُلْتُ : عَن عُمَرَ ؟ قَالَ : عَن عُمَرَ .(2).
__________
(1) - مصنف عبد الرزاق برقم(18011) والمحلى (ج 10 / ص 623) برقم(2124 ) وهو صحيح مرسل
(2) - مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الصَّنْعَانِيِّ(19044) صحيح(1/253)
وعَن عَبِيدَةَ قَالَ : " حَفِظْتُ عَن عُمَرَ مِائَةَ قَضِيَّةٍ فِي الْجَدِّ " ، قَالَ : وَقَالَ : " إِنِّي قَدْ قَضَيْتُ فِي الْجَدِّ قَضَايَا مُخْتَلِفَةً ، كُلُّهَا لَا آلُو فِيهِ عَنِ الْحَقِّ ، وَلَئِنْ عِشْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِلَى الصَّيْفِ لَأَقْضِيَنَّ فِيهَا بِقَضِيَّةٍ تَقْضِي بِهِ الْمَرْأَةُ وَهِيَ عَلَى ذَيْلِهَا "(1).
وَبِمَا رُوِيَ عَن مَسْرُوقٍ قَالَ : كَتَبَ كَاتِبٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنهُ هَذَا مَا أَرَى اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ فَانْتَهَرَهُ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنهُ وَقَالَ لاَ بَلْ اكْتُبْ هَذَا مَا رَأَى عُمَرُ فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِن عُمَرَ.(2).
وَلَوْ كَانَ رَأْيُهُ وَمَا يُؤَدِّيه إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى ، لَمَا امْتَنَعَ كَأَنَّ يَكْتُبَ هَذَا مَا أَرَى اللَّهُ عُمَرَ.
__________
(1) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلْبَيْهقِيِّ (11636 ) صحيح
(2) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 10 / ص 116) برقم( 20845) وهو صحيح(1/254)
وعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ ، أُتِيَ فِي رَجُلٍ بِهَذَا الْخَبَرِ ، قَالَ : فَاخْتَلَفُوا إِلَيْهِ ، شَهْرًا - أَوْ قَالَ : - مَرَّاتٍ ، قَالَ : فَإِنِّي أَقُولُ فِيهَا إِنَّ لَهَا صَدَاقًا كَصَدَاقِ نِسَائِهَا ، لَا وَكْسَ ، وَلَا شَطَطَ ، وَإِنَّ لَهَا الْمِيرَاثَ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، فَإِنْ يَكُ صَوَابًا ، فَمِنَ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ ، فَقَامَ نَاسٌ مِن أَشْجَعَ فِيهِمُ الْجَرَّاحُ ، وَأَبُو سِنَانٍ ، فَقَالُوا : يَا ابْنَ مَسْعُودٍ نَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَاهَا فِينَا فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ وَإِنَّ زَوْجَهَا هِلَالُ بْنُ مُرَّةَ الْأَشْجَعِيُّ كَمَا قَضَيْتَ قَالَ : فَفَرِحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَرَحًا شَدِيدًا حِينَ وَافَقَ قَضَاؤُهُ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (1).
وعَن عَلْقَمَةَ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : " مَن شَاءَ حَالَفْتُهُ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى نَزَلَتْ بَعْدَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا "(2).
__________
(1) - سنن أبى داود برقم(2118) وهو صحيح
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 8 / ص 275) برقم(9527 ) وهو صحيح
والآية هي : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } (234) سورة البقرة(1/255)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " مَن شَاءَ حَالَفْتُهُ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى أُنْزِلَتْ بَعْدَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا "(1).
وعَن عَلْقَمَةَ، أَوِ الأَسْوَدِ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ جَاءَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ امْرَأَتِي مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ: لَوْ أَنَّ الَّذِي بِيَدِكَ مِن أَمْرِي بِيَدِي لَعَلِمْتَ كَيْفَ أَصْنَعُ، فَقَالَ: فَإِنَّ الَّذِي بِيَدِي مِن أَمْرِكِ بِيَدِكِ، قَالَتْ: فَأَنْتَ طَالِقٌ ثَلاثًا، قَالَ:"أُرَاهَا وَاحِدَةً وَأَنْتَ أَحَقُّ بِالرَّجْعَةِ"، وَسَأَلْقَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ، فَلَقِيَهُ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ:"فَعَلَ اللَّهُ بِالرِّجَالِ وَفَعَلَ اللَّهُ بِالرِّجَالِ يَعْمِدُونَ إِلَى مَا جَعَلَهُ اللَّهُ بِأَيْدِيهِمْ فَيَجْعَلُونَهُ بِأَيْدِي النِّسَاءِ، بِفِيهَا التُّرَابُ، مَاذَا قُلْتَ؟"قَالَ: قُلْتُ:"أُرَاهَا وَاحِدَةً وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا"، قَالَ:"وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ وَلَوْ رَأَيْتَ غَيْرَ ذَلِكَ رَأَيْتُ أَنَّكَ لَمْ تُصِبْ"
وَبِمَا رُوِيَ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ : " أَنَّ رَجُلًا مِن أَهْلِ الشَّامِ اسْتَفْتَاهُ فِي لَحْمِ صَيْدٍ أَصَابَهُ ، وَهُوَ مُحْرِمٌ ؟ فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهِ " قَالَ : فَلَقِيتُ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَسْأَلَةِ الرَّجُلِ ، فَقَالَ لَهُ : " مَا أَفْتَيْتَهُ ؟ " ، قُلْتُ : بِأَكْلِهِ قَالَ : " وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ لَوْ أَفْتَيْتَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَضَرَبْتُكَ بِالدَّرَّةِ "(2).
__________
(1) - سُنَنُ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ(1442) صحيح
(2) - مصنف عبد الرزاق (ج 4 / ص 136) برقم(8343) و المحلى (ج 5 / ص 16) وهو صحيح(1/256)
وَقِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : إِنَّ شُرَيْحًا كَانَ يَقُولُ يُبْدَأُ بِالْمُكَاتَبَةِ قَبْلَ الدَّيْنِ أَوْ يُشْرَكُ بَيْنَهُمَا شَكَّ شُعْبَةُ. فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ : أَخْطَأَ شُرَيْحٌ وَإِنْ كَانَ قَاضِيًا(1).
قَالُوا : فَقَدْ أَجَازَ هَؤُلَاءِ الْخَطَأَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ ، وَأَنْتُمْ لَا تُجِيزُونَهُ عَلَيْهِمْ
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 10 / ص 332) برقم(22214) وهو صحيح(1/257)
الْجَوَابُ : إنَّ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ : وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي وَمِن الشَّيْطَانِ : إنَّمَا هُوَ إشْفَاقٌ ( مِنهُمَا ) أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ سُنَّةٌ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِخِلَافِ آرَائِهِمَا ، وَقَدْ كَانُوا يَعْرِضُونَ آرَاءَهُمْ عَلَى الصَّحَابَةِ لِيَنْظُرُوا ، هَلْ فِيمَا اجْتَهَدُوا فِيهِ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ الْحَاضِرِينَ ؟ (فَأَخْبَرَا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ ) هُنَاكَ قَوْلٌ مِن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِخِلَافِ رَأْيِهِمَا ، فَاسْتِعْمَالهمَا لِلرَّأْيِ فِي هَذِهِ الْحَالِ خَطَأٌ ، مِنهُمَا وَمِن الشَّيْطَانِ ، لِأَنَّهُ لَا حَظَّ لِلرَّأْيِ مَعَ السُّنَّةِ ، فعَن قَبِيصَةَ ، قَالَ : جَاءَتِ الْجَدَّةُ بِالأُمِّ وَابْنِ الاِبْنِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى أَبِي بَكْرٍ ، فَقَالَتْ : إنَّ ابْنَ ابْنِي وَابْنَ ابْنَتِي مَاتَ ، وَقَدْ أُخْبِرْتُ أَنَّ لِي حَقًّا ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : مَا أَجِدُ لَكِ فِي كِتَابِ اللهِ مِن حَقٍّ ، وَمَا سَمِعْت فِيكِ شَيْئًا مِن رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَسَأَسْأَلُ النَّاسَ ، قَالَ : فَشَهِدَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْطَاهَا السُّدُسَ ، فَقَالَ : مَن يَشْهَدُ مَعَك ؟ قَالَ : مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ ، فَشَهِدَ فَأَعْطَاهَا السُّدُسَ ، وَجَاءَتِ الْجَدَّةُ الَّتِي تُخَالِفُهَا إلَى عُمَرَ ، فَأَعْطَاهَا السُّدُسَ ، فَقَالَ : إذَا اجْتَمَعْتُمَا فَهُوَ بَيْنَكُمَا"(1). فَأَشْفَقَ حِينَ رَأَى فِي الْكَلَالَةِ مَا رَأَى ، أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ سُنَّةٌ بِخِلَافِ رَأْيِهِ.
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة(ج 11 / ص 320)(31922) صحيح مرسل(1/258)
وَيُبَيِّنُ لَك هَذَا : قَوْلُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللهِ مَا لاَ أَعْلَمُ"(1). فَاسْتَعْظَمَ أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَعْلَمُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْكَلَالَةِ : أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي ، لَمْ يَكُنْ قَوْلًا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَعْلَمُ ، وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ عِنْدَهُ : أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ هُوَ مَا حَصَلَ عَلَيْهِ رَأْيُهُ وَاجْتِهَادُهُ ، مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَصٌّ مِن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ( بِخِلَافِهِ ) .
وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ : إنَّهُمْ أَخْطَئُوا حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى ،وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ : أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا حَقِيقَةَ النَّظِيرِ عِنْدِي ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الَّذِي لَمْ يُكَلَّفُوا إصَابَتَهُ ، وَعَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إنَّمَا يَرْوِيه الْحَسَنُ ، وَالْحَسَنُ لَمْ يُشَاهِدْ ( هَذِهِ ) الْقِصَّةَ .وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : مَا أَدْرِي أَصَبْت أَمْ أَخْطَأْت ؟ هُوَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ : لَا أَدْرَى أَصَبْتُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا ؟ وَمَعْنَاهُ عِنْدَنَا : أَنَّهُ لَا يَدْرِي أَصَابَ الْأَشْبَهَ الَّذِي هُوَ الْمَطْلُوبُ ، أَمْ لَا .
وَأَمَّا امْتِنَاعُ عُمَرَ مِن أَنْ يَكْتُبَ : هَذَا مَا أَرَى اللَّهُ عُمَرَ ، فَإِنَّمَا كَانَ مِن جِهَةِ أَنَّهُ لَفْظٌ ظَاهِرٌ ، يُوهِمُ أَنَّهُ ( قَالَ ) مِن طَرِيقِ النَّصِّ ، إذْ كَانَ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِيه .
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 10 / ص 512)(30727 و30731) ومجمع الزوائد (15302 ) صحيح لغيره(1/259)
كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) [النساء/105-106] } وَمُرَادُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - : مَا نَصَّ عَلَيْهِ ، وَأُوحِيَ بِهِ إلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ : مَا رُوِيَ عَن ابْنِ مَسْعُودٍ : مَن شَاءَ بَاهَلْته ، أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } نَزَلَ بَعْدَ قَوْله تَعَالَى : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } ، إنَّمَا ( هُوَ ) إخْبَارٌ عَن عِلْمِهِ بِتَارِيخِ نُزُولِ السُّورَتَيْنِ ، وَمَعْنَى الْمُبَاهَلَةِ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ ، وَرَاجِعٌ إلَى عِلْمِهِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ فِي فُتْيَاهُ : لَوْ قُلْتُ غَيْرَ هَذَا لَأَوْجَعْتُكَ ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ نَهْيَهُ عَن الْإِقْدَامِ عَلَى الْفُتْيَا وَالتَّسَرُّعِ فِي الْجَوَابِ ، إذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِن الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمْ الْإِقْدَامُ عَلَى مَا يَسْأَلُ عَنهُ ، مِن غَيْرِ رُجُوعٍ مِنهُ إلَى إمَامِهِ ، أَوْ إلَى مُشَاوَرَةِ قَوْمٍ مِن ذَوِي الْفِقْهِ(1).
ومن الدليل على ما قلناه : قصة اختلاف الصحابة في أسرى بدر ، فإن أبا بكر ومن تابعه أشاروا بأخذ الفداء منهم ، وعمر ومن تابعه أشاروا بقتلهم ، فحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأول ، ونزل القرآن بتفضيل الرأي الثاني مع تقرير الأول
__________
(1) - انظر الفصول في الأصول - (ج 3 / ص 152) فما بعدها(1/260)
وهذا دليل على تصويب الرأيين ، وأن كلاً من المجتهدين مصيب ، ولو كان الرأي الأول خطأ لما حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكيف وقد أخبر الله أنه عين حكمه بقوله : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (68) سورة الأنفال ، وطيب الفادي بقوله تعالى : {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (69) سورة الأنفال .
وإنما وقع العتب على اختيار غير الأفضل ، فأكثر ما يقع الترجيح في المذاهب بالنظر إلى الأفضل من حيث قوة الأدلة ، والقرب من الاحتياط والورع ، ونحو ذلك في مفردات المسائل ، لا من حيث مجموع المذاهب .
وأما بالنظر إلى التصويب ، فكلُّ صوابٌ وحقُّ ، لا شبهة فيه ولا مرية . ومن هذا كانت طريقة الصوفية أن لا يلتزم مذهب معين ، بل يؤخذ من كل مذهب بالأشد والأحوط والأورع ، فإذا كان في مذهب الشافعي - مثلاً - الجواز في مسألة ، والتحريم في أخرى ، ومذهب غيره بالعكس ، يأخذون بالتحريم احتياطاً ، وإذا كان مذهبه الوجوب في مسألة ، والاستحباب في أخرى ، ومذهب غيره بالعكس ، يأخذون بالوجوب في المسألتين احتياطاً ، فيقولون بنقض الوضوء بلمس النساء ، ومس الفرج ، وبالقيء ، والدم السائل ، ويقولون بوجوب النية في الوضوء ، ومسح كل الرأس ، ووجوب الوتر ، إلى غير ذلك .
وهذا مثل ما حكي في " الروضة " عن ابن سريج أنه كان يغسل الأذنين مع الوجه ، ويمسحهما مع الرأس ، ويمسحهما منفردين ؛ احتياطاً لكل مذهب(1).
__________
(1) - روضة الطالبين وعمدة المفتين - (ج 1 / ص 19)(1/261)
إذا عرف ما قررناه ، عرف ترجيح القول بأن كل مجتهد مصيب ، وأن حكم الله في كل واقعة تابع لظن المجتهد ، وهو أحد القولين للأئمة الأربعة ، ورجحه القاضي أبو بكر ، وقال في " التقريب " : الأظهر من كلام الشافعي ، والأشبه بمذهبه ومذهب أمثاله من العلماء القول بأن كل مجتهد مصيب ، وقال به من أصحابنا : ابن سريج ، والقاضي أبو حامد ، والداركي ، وأكثر العراقيين ، ومن الحنفية : أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وأبو زيد الدبوسي ، ونقله عن علمائهم جميعاً .(1)
فإن قلت : قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ اثْنَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ.(2)" يدلُّ على أن في المجتهدين من يصيب ومن يخطئ وأن الحكم يختلف ، ولو كانوا مصيبين ، لم يكن للتقسيم معنى .
قلت : احمل قوله : " فأخطأ " على عدم إدراكه للأفضل والأولى ، كما عتب على الصحابة في اختيار الفداء ؛ لأنه غير الأفضل ، مع أنه حكم صواب .
وقد قال الفقهاء فيمن صلَّى صلاة رباعية إلى أربع جهات ، كل ركعة إلى جهة بالاجتهاد ، أنه لا قضاء عليه ، مع القطع بأن ثلاث ركعات منها إلى غير القبلة .
__________
(1) - انظر الأحكام للآمدي - (ج 3 / ص 163) والمحصول - (ج 4 / ص 130) وكشف الأسرار - (ج 5 / ص 458) والبحر المحيط - (ج 8 / ص 155) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 2 / ص 3) والفصول في الأصول - (ج 3 / ص 167) وجزيل المواهب في اختلاف المذاهب - (ج 1 / ص 6)
(2) - المنتقى من السنن المسندة لابن الجارود(996) صحيح(1/262)
واختلف اجتهاد عمر رضي الله عنه في الجد ، فعَنِ الْحَكَمِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : شَهِدْت عُمَرَ أَشْرَكَ الإِخْوَةَ مِنَ الأَبِ وَالأُمِّ مَعَ الإِخْوَةِ مِنَ الأُمِّ فِي الثُّلُثِ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : قَدْ قَضَيْت فِي هَذَه عَامَ الأَوَّلِ بِغَيْرِ هَذَا ، قَالَ : وَكَيْفَ قَضَيْت ؟ قَالَ : جَعَلْته لِلإِخْوَةِ لِلأُمِّ وَلَمْ تَجْعَلْ لِلإِخْوَةِ مِنَ الأَبِ وَالأُمِّ شَيْئًا ، فَقَالَ : ذَلِكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا ، وَهَذَا عَلَى مَا نَقْضِي.(1).
وأخرج أبو داود في المراسيل عَنِ الشَّعْبِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " كَانَ يَقْضِي بِالْقَضَاءِ ، ثُمَّ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِهِ ، فَيُمْضِي مَا قَضَى بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَيَسْتَقْبِلُ الْقَضَاءَ بِمَا نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ".(2)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ ، قَالَ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْضِي الْقَضَاءَ ، ثُمَّ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ بِغَيْرِ الَّذِي قَضَى بِهِ ، فَلَا يَرُدُّهُ ، وَيَسْتَأْنِفُ "(3)
- - - - - - - - - - - - - - -
المبحث الثاني
هل المصيبُ واحد في المسائل الخلافية؟
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 11 / ص 255)(31744) صحيح ، وانظر جزيل المواهب في اختلاف المذاهب - (ج 1 / ص 4) فما بعدها
(2) - مراسيل أبي داود(368 ) صحيح مرسل
(3) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 10 / ص 180)(29716) صحيح مرسل(1/263)
"أَمَّا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَالْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ : بَلِ الْأَمَارَاتُ بَعْضُهَا أَقْوَى مِن بَعْضٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَطْلُبَ الْأَقْوَى فَإِذَا رَأَى دَلِيلًا أَقْوَى مِن غَيْرِهِ وَلَمْ يَرَ مَا يُعَارِضُهُ عَمِلَ بِهِ ،وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا كَانَ فِي الْبَاطِنِ مَا هُوَ أَرْجَحُ مِنهُ كَانَ مُخْطِئًا مَعْذُورًا وَلَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَعَمَلِهِ بِمَا بُيِّنَ لَهُ رُجْحَانُهُ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ وَذَلِكَ الْبَاطِنُ هُوَ الْحُكْمُ ؛ لَكِنْ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ عَلَى مَعْرِفَتِهِ ، فَمَن عَجَزَ عَن مَعْرِفَتِهِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِتَرْكِهِ .(1/264)
فَإِذَا أُرِيدَ بِالْخَطَأِ الْإِثْمُ فَلَيْسَ الْمُجْتَهِدُ بِمُخْطِئِ ؛ بَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ مُطِيعٌ لِلَّهِ فَاعِلٌ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَالْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَلَهُ أَجْرَانِ كَمَا فِي الْمُجْتَهِدِينَ فِي جِهَةِ الْكَعْبَةِ إذَا صَلَّوْا إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ فَاَلَّذِي أَصَابَ الْكَعْبَةَ - وَاحِدٌ وَلَهُ أَجْرَانِ لِاجْتِهَادِهِ وَعَمَلِهِ - كَانَ أَكْمَلَ مِن غَيْرِهِ "والْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ "(1)وَمَن زَادَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَعَمَلًا زَادَهُ أَجْرًا بِمَا زَادَهُ مِن الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالَ تَعَالَى : {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (83) سورة الأنعام ، قَالَ مَالِكٌ عَن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِالْعِلْمِ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ : {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (76) سورة يوسف .
__________
(1) - أخرجه مسلم برقم(6945)(1/265)
وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ الْمُجْتَهِدِينَ إنَّمَا قَالُوا بِعِلْمِ وَاتَّبَعُوا الْعِلْمَ وَأَنَّ " الْفِقْهَ " مِن أَجَلِّ الْعُلُومِ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِن الَّذِينَ لَا يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ لَكِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ عِلْمٌ لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ ؛ إمَّا بِأَنْ سَمِعَ مَا لَمْ يَسْمَعْ الْآخَرُ وَإِمَّا بِأَنْ فَهِمَ مَا لَمْ يَفْهَمْ الْآخَرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) [الأنبياء/78-80] }(1). .
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 13 / ص 123) و المحلى (ج 1 / ص 136) فما بعدها(1/266)
ولَفْظِ الْخَطَأِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْإِثْمُ ؛ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ عَدَمُ الْعِلْمِ . فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ فَهُوَ مُصِيبٌ ؛ فَإِنَّهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ لَيْسَ بِآثِمِ وَلَا مَذْمُومٍ . وَإِنْ أُرِيدَ الثَّانِي فَقَدْ يُخَصُّ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ بِعِلْمِ خَفِيَ عَلَى غَيْرِهِ ؛ وَيَكُونُ ذَلِكَ عِلْمًا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ الْآخَرُ لَوَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ ؛ لَكِنْ سَقَطَ عَنهُ وُجُوبُ اتِّبَاعِهِ لِعَجْزِهِ عَنهُ وَلَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ إلَى الصَّوَابِ لَهُ أَجْرَانِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ : « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ »(1).
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(7352 ) ومسلم برقم(4584 )(1/267)
وَلَفْظُ " الْخَطَأِ " يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَمْدِ وَفِي غَيْرِ الْعَمْدِ قَالَ تَعَالَى : {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا} (31) سورة الإسراء ،وَالْأَكْثَرُونَ يَقْرَءُونَ خِطْئًا عَلَى وَزْنِ رِدْءًا وَعِلْمًا . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ ( خَطَأً )عَلَى وَزْنِ عَمَلًا كَلَفْظِ الْخَطَأِ فِي قَوْلِهِ : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا ..} (92) سورة النساء. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ( خِطَاءً عَلَى وَزْنِ هِجَاءً . وَقَرَأَ ابْنُ رَزِينٍ ( خَطَاءً ) عَلَى وَزْنِ شَرَابًا . وَقَرَأَ الْحَسَنُ وقتادة ( خطأ ) عَلَى وَزْنِ قَتْلًا . وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ ( خِطَا ) بِلَا هَمْزٍ عَلَى وَزْنِ عِدًى . قَالَ الْأَخْفَشُ : خَطَا يَخْطَأُ بِمَعْنَى : أَذْنَبَ وَلَيْسَ مَعْنَى أَخْطَأَ ؛ لِأَنَّ أَخْطَأَ فِي مَا لَمْ يَصْنَعْهُ عَمْدًا يَقُولُ فِيمَا أَتَيْته عَمْدًا خَطَّيْت ؛ وَفِيمَا لَمْ يَتَعَمَّدْهُ : أَخْطَأْت . وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الْخَطَأُ : الْإِثْمُ يُقَالُ : قَدْ خَطَا يَخْطَأُ إذَا أَثِمَ وَأَخْطَأَ يُخْطِئُ إذَا فَارَقَ الصَّوَابَ .(1/268)
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي قَوْلِهِ : {قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} (91) سورة يوسف ،فَإِنَّ الْمُفَسِّرِينَ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ : قَالُوا لَمُذْنِبِينَ آثِمِينَ فِي أَمْرِك وَهُوَ كَمَا قَالُوا فَإِنَّهُمْ قَالُوا : {قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} (97) سورة يوسف ،وَكَذَلِكَ قَالَ الْعَزِيزُ لِامْرَأَتِهِ : {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَن هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } (29) سورة يوسف، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَلِهَذَا اُخْتِيرَ خَاطِئِينَ عَلَى مُخْطِئِينَ وَإِنْ كَانَ أَخْطَأَ عَلَى أَلْسُنِ النَّاسِ أَكْثَرَ مِن خَطَا يُخْطِي ؛ لِأَنَّ مَعْنَى خَطَا يُخْطِي فَهُوَ خَاطِئٌ : آثِمٌ وَمَعْنَى أَخْطَأَ يُخْطِئُ : تَرَكَ الصَّوَابَ وَلَمْ يَأْثَمْ(1). قَالَ عِبَادُك يُخْطِئُونَ وَأَنْتَ رَبٌّ تَكْفُلُ الْمَنَايَا وَالْحُتُومَ وَقَالَ الْفَرَّاءُ : الْخَطَأُ : الْإِثْمُ الخطا والخطا وَالْخَطَاءُ مَمْدُودٌ . ثَلَاثُ اللُّغَاتٍ . قُلْت : يُقَالُ فِي الْعَمْدِ : خَطَأٌ كَمَا يُقَالُ فِي غَيْرِ الْعَمْدِ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ فَيُقَالُ لِغَيْرِ الْمُتَعَمِّدِ : أَخْطَأْت كَمَا يُقَالُ لَهُ : خَطَّيْت وَلَفْظُ الْخَطِيئَةِ مِن هَذَا . وَمِنهُ قَوْله تَعَالَى :{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا} (25) سورة نوح ، وَقَوْلُ السَّحَرَةِ : {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} (51) سورة الشعراء.
__________
(1) - كتاب الكليات ـ لأبى البقاء الكفومى - (ج 1 / ص 665)(1/269)
وَمِنهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ : " يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ "(1)،وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أَبِي مُوسَى ؛ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى خَطِيئَتِى وَجَهْلِى وَإِسْرَافِى فِى أَمْرِى ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى هَزْلِى وَجِدِّى وَخَطَاىَ وَعَمْدِى ، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِى »(2).
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا كَبَّرَ فِى الصَّلاَةِ سَكَتَ هُنَيَّةً قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ قَالَ :« أَقُولُ اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِى وَبَيْنَ خَطَايَاىَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِى مِن خَطَايَاىَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْنِى مِن خَطَايَاىَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ »(3).
__________
(1) - صحيح مسلم برقم(6737 )
(2) - صحيح البخارى برقم(6399 ) وصحيح مسلم برقم(7076 )
(3) - صحيح البخارى برقم(744 ) وصحيح مسلم برقم(1382 )(1/270)
وَاَلَّذِينَ قَالُوا : كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْمُجْتَهِدُ لَا يَكُونُ عَلَى خَطَأٍ وَكَرِهُوا أَنْ يُقَالَ لِلْمُجْتَهِدِ : إنَّهُ أَخْطَأَ هُمْ وَكَثِيرٌ مِن الْعَامَّةِ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ عَن إمَامٍ كَبِيرٍ : إنَّهُ أَخْطَأَ وَقَوْلُهُ أَخْطَأَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ فِي الذَّنْبِ كَقِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ : إنَّهُ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا وَلِأَنَّهُ يُقَالُ فِي الْعَامِدِ : أَخْطَأَ يُخْطِئُ كَمَا قَالَ الله في الحديث القدسي: " يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرُ لَكُمْ "(1)فَصَارَ لَفْظُ الْخَطَأِ وَأَخْطَأَ قَدْ يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ كَمَا يَخُصُّ غَيْرَ الْعَامِلِ، وَأَمَّا لَفْظُ الْخَطِيئَةِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْإِثْمِ . وَالْمَشْهُورُ أَنَّ لَفْظَ الْخَطَأِ يُفَارِقُ الْعَمْدَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء/92] } الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) } [النساء/93، 94] .
__________
(1) - أخرجه مسلم برقم(6737 ) وقد مر(1/271)
وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْخَطَأَ يَنْقَسِمُ إلَى خَطَأٍ فِي الْفِعْلِ ؛ وَإِلَى خَطَأٍ فِي الْقَصْدِ . فَالْأَوَّلُ : أَنْ يَقْصِدَ الرَّمْيَ إلَى مَا يَجُوزُ رَمْيُهُ مِن صَيْدٍ وَهَدَفٍ فَيُخْطِئَ بِهَا وَهَذَا فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ . وَالثَّانِي : أَنْ يُخْطِئَ فِي قَصْدِهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ ؛ كَمَا أَخْطَأَ هُنَاكَ لِضَعْفِ الْقُوَّةِ وَهُوَ أَنْ يَرْمِيَ مَن يَعْتَقِدُهُ مُبَاحَ الدَّمِ وَيَكُونُ مَعْصُومَ الدَّمِ كَمَنَ قَتَلَ رَجُلًا فِي صُفُوفِ الْكُفَّارِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا وَالْخَطَأُ فِي الْعِلْمِ هُوَ مِن هَذَا النَّوْعِ ؛ وَلِهَذَا قِيلَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : إنَّهُ لَا دِيَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب/5] }، فَفَرَّقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ وَقَالَ تَعَالَى : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة/286] } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : " قَدْ فَعَلْت "(1). فَلَفْظُ الْخَطَأِ وَأَخْطَأَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْعَامِدِ وَإِذَا ذَكَرَ مَعَ النِّسْيَانِ أَوْ ذَكَرَ فِي مُقَابَلَةِ الْعَامِدِ كَانَ نَصًّا فِيهِ ،وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَعَ الْقَرِينَةِ الْعَمْدُ أَوْ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ جَمِيعًا كَمَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ ؛ وَفِي الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ - إنْ كَانَ لَفْظُهُ كَمَا يَرْوِيهِ عَامَّةُ الْمُحَدِّثِينَ - " تُخْطِئُونَ " بِالضَّمِّ .
__________
(1) - صحيح مسلم برقم(345 )(1/272)
وَأَمَّا اسْمُ الْخَاطِئِ فَلَمْ يَجِئْ فِي الْقُرْآنِ إلَّا لِلْإِثْمِ بِمَعْنَى الْخَطِيئَةِ كَقَوْلِهِ : {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَن هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } (29) سورة يوسف، وَقَوْلِهِ : {قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} (91) سورة يوسف، وَقَوْلِهِ : {قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} (97) سورة يوسف ، وَقَوْلِهِ : {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ} (37) سورة الحاقة .(1/273)
وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ غَيْرُ خَاطِئٍ وَغَيْرُ مُخْطِئٍ أَيْضًا إذَا أُرِيدَ بِالْخَطَأِ الْإِثْمُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ ،وَلَا يَكُونُ مِن مُجْتَهِدٍ خَطَأٌ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ مَن قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَقَالُوا : الْخَطَأُ وَالْإِثْمُ مُتَلَازِمَانِ فَعِنْدَهُمْ لَفْظُ الْخَطَأِ كَلَفْظِ الْخَطِيئَةِ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ، وَهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّهُ يَخْفَى عَلَيْهِ بَعْضُ الْعِلْمِ الَّذِي عَجَزَ عَنهُ، لَكِنْ لَا يُسَمُّونَهُ خَطَأً ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ ،وَقَدْ يُسَمُّونَهُ خَطَأً إضَافِيًّا بِمَعْنَى : أَنَّهُ أَخْطَأَ شَيْئًا لَوْ عَلِمَهُ لَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَهُ وَكَانَ هُوَ حُكْمَ اللَّهِ فِي حَقِّهِ ؛ وَلَكِنَّ الصَّحَابَةَ وَالْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ - وَجُمْهُورَ السَّلَفِ يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْخَطَأِ عَلَى غَيْرِ الْعَمْدِ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إثْمًا كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ والسُّنَّة فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فعَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ " ، هَذَا لَفْظَةُ أَحَدِهِمَا ، وَقَالَ الْآخَرُ : " إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ اثْنَانِ ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ" "(1).
__________
(1) - أخرجه أبو عوانة في مسند ه برقم(5148 ) صحيح(1/274)
وعَن عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّهُ أَتَاهُ قَوْمٌ فَقَالُوا : إِنَّ رَجُلًا مِنَّا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا ، وَلَمْ يَجْمَعْهَا إِلَيْهِ حَتَّى مَاتَ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : مَا سُئِلْتُ مُنْذُ فَارَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَشَدَّ عَلَيَّ مِن هَذِهِ ، فَأْتُوا غَيْرِي ، فَاخْتَلَفُوا إِلَيْهِ فِيهَا شَهْرًا ، ثُمَّ قَالُوا لَهُ فِي آخِرِ ذَلِكَ : مَن نَسْأَلُ إِنْ لَمْ نَسْأَلْكَ ، وَأَنْتَ مِن جِلَّةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - بِهَذَا الْبَلَدِ وَلَا نَجِدُ غَيْرَكَ ؟ قَالَ : سَأَقُولُ فِيهَا بِجَهْدِ رَأْيِي ، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنهُ بُرَآءُ ، أُرَى أَنْ أَجْعَلَ " لَهَا صَدَاقَ نِسَائِهَا ، لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا " ، قَالَ : وَذَلِكَ بِسَمْعِ أُنَاسٍ مَن أَشْجَعَ ، فَقَامُوا فَقَالُوا : " نَشْهَدُ أَنَّكَ قَضَيْتَ بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي امْرَأَةٍ مِنَّا يُقَالُ لَهَا : بَرْوَعُ بِنْتُ وَاشِقٍ " قَالَ : " فَمَا رُئِيَ عَبْدُ اللَّهِ فَرِحَ ، فَرْحَةً يَوْمَئِذٍ إِلَّا بِإِسْلَامِهِ "(1).
__________
(1) - سنن النسائى(3371 ) صحيح - الشطط : الجور والظلم والبعد عن الحق -الوكس : الغش والبخس(1/275)
وعَنْ أَبِي سَلَامَةَ الْحَبِيبِيِّ قَالَ : رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى حِيَاضًا عَلَيْهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَتَوَضَّئُونَ جَمِيعًا فَضَرَبَهُمْ بِالدِّرَّةِ ، ثُمَّ قَالَ لِصَاحِبِ الْحَوْضِ : " اجْعَلْ لِلرِّجَالِ حِيَاضًا ، وَلِلنِّسَاءِ حِيَاضًا " ثُمَّ لَقِيَ عَلِيًّا فَقَالَ : " مَا تَرَى ؟ " فَقَالَ : أَرَى إِنَّمَا أَنْتَ رَاعٍ ، فَإِنْ كُنْتَ تَضْرِبُهُمْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ "(1).
وعن الْحَسَنِ قالَ : إِنَّ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنهُ بَلَغَهُ أَنَّ امْرَأَةً بَغِيَّةً يَدْخُلُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ فَبَعَثَ إِلَيْهَا رَسُولاً فَأَتَاهَا الرَّسُولُ فَقَالَ : أَجِيبِى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَفَزِعَتْ فَزْعَةً فَوَقَعَتِ الْفَزْعَةُ فِى رَحِمِهَا فَتَحَرَّكَ وَلَدُهَا فَخَرَجَتْ فَأَخَذَهَا الْمَخَاضُ فَأَلْقَتْ غُلاَمًا جَنِينًا فَأُتِى عُمَرُ بِذَلِكَ فَأَرْسَلَ إِلَى الْمُهَاجِرِينَ فَقَصَّ عَلَيْهِمْ أَمْرَهَا فَقَالَ : مَا تَرَوْنَ؟ فَقَالُوا : مَا نَرَى عَلَيْكَ شَيْئًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا أَنْتَ مُعَلِّمٌ وَمُؤَدِّبٌ وَفِى الْقَوْمِ عَلِىٌّ وَعَلِىٌّ سَاكِتٌ قَالَ : فَما تَقُولُ أَنْتَ يَا أَبَا الْحَسَنِ قَالَ : أَقُولُ إِنْ كَانُوا قَارَبُوكَ فِى الْهَوَى فَقَدْ أَثِمُوا وَإِنْ كَانَ هَذَا جُهْدُ رَأْيِهِمْ فَقَدْ أَخْطَئُوا وَأَرَى عَلَيْكَ الدِّيَةَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ : صَدَقْتَ اذْهَبْ فَاقْسِمْهَا عَلَى قَوْمِكَ".(2).
__________
(1) - الخراج لأبي يوسف [229] وعبد الرزاق ( 241 ) وهو حديث حسن
(2) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 6 / ص 123)(12008) وفيه انقطاع(1/276)
وَأَحْمَد يُفَرِّقُ فِي هَذَا الْبَابِ فَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا مُعَارِضَ لَهُ كَانَ مَن أَخَذَ بِحَدِيثِ ضَعِيفٍ أَوْ قَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مُخْطِئًا ،وَإِذَا كَانَ فِيهَا حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ نَظَرَ فِي الرَّاجِحِ فَأَخَذَ بِهِ ؛ وَلَا يَقُولُ لِمَن أَخَذَ بِالْآخَرِ إنَّهُ مُخْطِئٌ،وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ اجْتَهَدَ فِيهَا بِرَأْيِهِ قَالَ : وَلَا أَدْرِي أَصَبْت الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأْته ؟ فَفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا نَصٌّ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ ،وَإِذَا عَمِلَ الرَّجُلُ بِنَصِّ وَفِيهَا نَصٌّ آخَرُ خَفِيَ عَلَيْهِ لَمْ يُسَمِّهِ مُخْطِئًا ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ؛ لَكِنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ فِي تَعْيِينِ الْخَطَأِ ،فَإِنَّ مِن النَّاسِ مَن يَقُولُ : لَا أَقْطَعُ بِخَطَأِ مُنَازِعِي فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ . وَمِنهُمْ مَن يَقُولُ : أَقْطَعُ بِخَطَئِهِ . وَأَحْمَد فَصَّلَ وَهُوَ الصَّوَابُ . وَهُوَ إذَا قَطَعَ بِخَطَئِهِ بِمَعْنَى عَدَمِ الْعِلْمِ لَمْ يَقْطَعْ بِإِثْمِهِ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَن عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَهِدْ .(1/277)
وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِيهَا نَصٌّ خَفِيَ عَلَى بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ عِلْمُهُ وَلَوْ عَلِمَ بِهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ ؛ لَكِنَّهُ لَمَّا خَفِيَ عَلَيْهِ اتَّبَعَ النَّصَّ الْآخَرَ وَهُوَ مَنسُوخٌ أَوْ مَخْصُوصٌ : فَقَدْ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ كَاَلَّذِينَ صَلَّوْا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ أَنْ نُسِخَتْ وَقَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِالنَّسْخِ وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ إلَّا بَعْدَ تَمَكُّنِهِمْ مِن مَعْرِفَتِهِ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ ، وَقِيلَ : يَثْبُتُ مَعْنَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ لَا بِمَعْنَى الْإِثْمِ، وَقِيلَ يَثْبُتُ فِي الْخِطَابِ الْمُبْتَدَأِ دُونَ النَّاسِخِ ،وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا لَمْ يَسْمَعْهُ الْمُجْتَهِدُ مِن النُّصُوصِ النَّاسِخَةِ أَوْ الْمَخْصُوصَةِ فَلَمْ تُمْكِنْهُ مَعْرِفَتُهُ فَحُكْمُهُ سَاقِطٌ عَنهُ وَهُوَ مُطِيعٌ لِلَّهِ فِي عَمَلِهِ بِالنَّصِّ الْمَنسُوخِ وَالْعَامِّ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ .(1/278)
وَهُنَا تَنَازَعَ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : قِيلَ : عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْحُكْمِ الْبَاطِنِ ؛ وَأَنَّهُ إذَا أَخْطَأَ كَانَ مُخْطِئًا عِنْدَ اللَّهِ وَفِي الْحُكْمِ تَارِكٌ لِمَا أُمِرَ بِهِ مَعَ قَوْلِهِمْ : إنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ ،وَهَذَا تَنَاقُضٌ فَإِنَّ مَن تَرَكَ مَا أُمِرَ بِهِ فَهُوَ آثِمٌ ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ تَارِكًا لِمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ غَيْرُ آثِمٍ، وَقِيلَ : بَلْ لَمْ يُؤْمَرْ قَطُّ بِالْحُكْمِ الْبَاطِنِ وَلَا هُوَ حُكْمٌ فِي حَقِّهِ وَلَا أَخْطَأَ حُكْمَ اللَّهِ وَلَا لِلَّهِ فِي الْبَاطِنِ حُكْمٌ فِي حَقِّهِ غَيْرَ مَا حَكَمَ بِهِ ؛ وَلَا يُقَالُ لَهُ : أَخْطَأَ ؛ فَإِنَّ الْخَطَأَ عِنْدَهُمْ مُلَازِمٌ لِلْإِثْمِ وَهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَهُ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ، وَلَكَانَ حُكْمًا فِي حَقِّهِ فَكَانَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا وَقَدْ خَالَفُوا فِي مَنعِ اللَّفْظِ فِي الْكِتَابِ والسُّنَّة وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُمْ : لَيْسَ فِي الْبَاطِنِ حُكْمٌ خَطَأٌ ؛ بَلْ حُكْمُ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ هُوَ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ النَّاسِخُ وَالْخَاصُّ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِن مَعْرِفَتِهِ فَسَقَطَ عَنهُ لِعَجْزِهِ . وَقِيلَ : كَانَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ هُوَ الْأَمْرُ الْبَاطِنُ وَلَكِنْ لَمَّا اجْتَهَدَ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ هَذَا هُوَ حُكْمُ اللَّهِ انْتَقَلَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ ؛ فَصَارَ مَأْمُورًا بِهَذَا .(1/279)
وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ : أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ ؛ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إصَابَتُهُ فِي الْبَاطِنِ إذَا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ ؛ فَإِنْ تَرَكَ الِاجْتِهَادَ أَثِمَ ، وَإِذَا اجْتَهَدَ وَلَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَتِهِ أَنْ يَعْلَمَ الْبَاطِنَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ مَعَ الْعَجْزِ وَلَكِنْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ وَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ بِشَرْطِ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنهُ . وَمَن قَالَ : إنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَقَدْ صَدَقَ ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُ الْحَقَّ فِي الْبَاطِنِ فَلَهُ أَجْرَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} (79) سورة الأنبياء، وَلَا نَقُولُ : إنَّ حُكْمَ اللَّهِ انْتَقَلَ فِي حَقِّهِ فَكَانَ مَأْمُورًا قَبْلَ الِاجْتِهَادِ بِالْحَقِّ لِلْبَاطِنِ ثُمَّ صَارَ مَأْمُورًا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ لِمَا ظَنَّهُ ،بَلْ مَا زَالَ مَأْمُورًا بِأَنْ يَجْتَهِدَ وَيَتَّقِيَ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ وَهُوَ إنَّمَا أُمِرَ بِالْحَقِّ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ .(1/280)
فَإِذَا عَجَزَ عَنهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالِاجْتِهَادِ، فَإِذَا كَانَ اجْتِهَادُهُ اقْتَضَى قَوْلًا آخَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ ؛ لَا لِأَنَّهُ أُمِرَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا يَقْتَضِيهِ اجْتِهَادُهُ وَبِمَا يُمْكِنُهُ مَعْرِفَتُهُ، وَهُوَ لَمْ يَقْدِرْ إلَّا عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مِن جِهَةِ أَنَّهُ مَقْدُورُهُ لَا مِن جِهَةِ عَيْنِهِ كَالْمُجْتَهِدِينَ فِي الْقِبْلَةِ إذَا صَلَّوْا إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ فَالْمُصِيبُ لِلْقِبْلَةِ وَاحِدٌ وَالْجَمِيعُ فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ لَا إثْمَ عَلَيْهِمْ ،وَتَعْيِينُ الْقِبْلَةِ سَقَطَ عَن الْعَاجِزِينَ عَن مَعْرِفَتِهَا وَصَارَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَقْدِرَ عَلَيْهِ مِن الِاجْتِهَادِ وَهُوَ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ الْكَعْبَةُ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِعَيْنِ الصَّوَابِ لَكِنْ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَمَأْمُورٌ بِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ الصَّوَابُ وَأَنَّهُ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَإِذَا رَآهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ مِن جِهَةِ الشَّارِعِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - بَلْ مِن جِهَةِ قُدْرَتِهِ ، لَكِنْ إذَا كَانَ مُتَّبِعًا لِنَصِّ وَلَمْ يَبْلُغْهُ نَاسِخُهُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِهِ إلَى أَنْ يَعْلَمَ النَّاسِخَ ، فَإِنَّ الْمَنسُوخَ كَانَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَذَلِكَ لَا يُقْبَلُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ النَّاسِخِ لَهُ . وَأَمَّا اللَّفْظُ الْعَامُّ إذَا كَانَ مَخْصُوصًا فَقَدْ يُقَالُ : صُورَةُ التَّخْصِيصِ لَمْ يُرِدْهَا الشَّارِعُ لَكِنْ هُوَ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أَرَادَهَا لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْلَمْ التَّخْصِيصَ .(1/281)
وَهَكَذَا يُقَالُ فِيمَا نُسِخَ مِن النُّصُوصِ قَبْلَ أَنْ يَجِبَ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ كَالنُّصُوصِ الَّتِي نُسِخَتْ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَعْلَمْ بَعْضُ النَّاسِ بِنَسْخِهَا ؛ وَقَدْ بَلَغَهُ الْمَنسُوخُ بِهَا لَا يُقَالُ : إنَّ الْمَنسُوخَ ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَمَا قِيلَ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ الَّذِينَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ اسْتِقْبَالُهَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا قَبْلَ النَّسْخِ وَلَكِنْ يُقَالُ : مَن لَمْ يَبْلُغْهُ النَّصُّ النَّاسِخُ وَبَلَغَهُ النَّصُّ الْآخَرُ فَعَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَعَلَى هَذَا فَتَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِينَ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ عَلَى مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ ؛ فَمَن كَانَ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ مِن مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ الرَّاجِحِ كَالنَّاسِخِ وَالْمُخَصِّصِ ؛ فَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ مِن جِهَةِ الْعَمَلِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِن الْأَدِلَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ دَلِيلٌ مُعَارِضٌ رَاجِحٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِن مَعْرِفَتِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ إلَّا إذَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ .(1/282)
وَعَلَى هَذَا فَالْآيَةُ إذَا احْتَمَلَتْ مَعْنَيَيْنِ وَكَانَ ظُهُورُ أَحَدِهِمَا غَيْرَ مَعْلُومٍ لِبَعْضِ النَّاسِ بَلْ لَمْ يَعْلَمْ إلَّا مَا لَا يَظْهَرُ لِلْآخَرِ ؛ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِمَا دَلَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى ؛ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمَا دَلَّهُ عَلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ ؛ وَكُلٌّ مِنهُمَا فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لَكِنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاحِدٌ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ . وَإِذَا قِيلَ فَمَا فَعَلَهُ ذَاكَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ أَيْضًا قِيلَ : لَمْ يَأْمُرْ بِهِ عَيْنِيًّا بَلْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ ؛ وَيَعْمَلَ بِمَا ظَهَرَ لَهُ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ إلَّا هَذَا ؛ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مِن جِهَةِ جِنْسِ الْمَقْدُورِ وَالْمَعْلُومُ وَالظَّاهِرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ ؛ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ مِن جِهَةِ عَيْنِهِ نَفْسِهِ فَمَن قَالَ : لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ فَقَدْ أَصَابَ . وَمَن قَالَ : هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مِن جِهَةِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَدَرَ عَلَيْهِ وَعَلِمَهُ وَظَهَرَ لَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ فَقَدْ أَصَابَ ،كَمَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَقَدْ غَلِطَا فِي الشَّهَادَةِ فَهُوَ مَأْمُورٌ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ مَا شَهِدَا بِهِ مُطْلَقًا لَمْ يُؤْمَرْ بِغَيْرِ مَا شَهِدَا بِهِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ . وَلِهَذَا قَالَ - صلى الله عليه وسلم - :« إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ ، فَمَن قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلاَ يَأْخُذْهَا »(1).
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(2680 ) وصحيح مسلم برقم(4570)(1/283)
فَهُوَ إذَا ظَهَرَتْ لَهُ حُجَّةُ أَحَدِهِمَا فَلَمْ يَذْكُرْ الْآخَرُ حُجَّتَهُ فَقَدْ عَمِلَ بِمَا ظَهَرَ لَهُ وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا ،وَهُوَ مُطِيعٌ لِلَّهِ فِي حَقِّهِ مِن جِهَةِ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ لَا مِن جِهَةِ كَوْنِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْبَاطِلِ وَالظُّلْمِ وَالْخَطَأِ وَلَكِنْ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْأَحْكَامَ النَّبَوِيَّةَ وَالْخَبَرِيَّةَ .
وَالْمُجْتَهِدُ الْمُخْطِئُ لَهُ أَجْرٌ ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ الْحَقُّ وَطَلَبَهُ بِحَسَبِ وُسْعِهِ وَهُوَ لَا يَحْكُمُ إلَّا بِدَلِيلِ كَحُكْمِ الْحَاكِمِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ بِمَا عَلَيْهِ وَيَكُونُ قَدْ سَقَطَ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِبْرَاءِ أَوْ قَضَاءٍ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ حُجَّةٌ وَحُكْمُهُ بِالْبَرَاءَةِ مَعَ الْيَمِينِ وَيَكُونُ قَدْ اشْتَغَلَتْ الذِّمَّةُ بِاقْتِرَاضِ أَوْ ابْتِيَاعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ حُجَّةٌ وَحُكِمَ لِرَبِّ الْيَدِ مَعَ الْيَمِينِ وَيَكُونُ قَدْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ عَنهُ أَوْ يَدُهُ يَدُ غَاصِبٍ ؛ لَكِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ حُجَّةٌ .(1/284)
وَكَذَلِكَ الْأَدِلَّةُ الْعَامَّةُ ؛ يَحْكُمُ الْمُجْتَهِدُ بِعُمُومِهِ وَمَا يَخُصُّهُ وَلَمْ يَبْلُغْهُ ؛ أَوْ بِنَصِّ وَقَدْ نُسِخَ وَلَمْ يَبْلُغْهُ ؛ أَوْ يَقُولُ بِقِيَاسِ ظَهَرَ وَفِيهِ التَّسْوِيَةُ ؛ وَتَكُونُ تِلْكَ الصُّورَةُ امْتَازَتْ بِفَرْقِ مُؤَثِّرٍ ؛ وَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ مَعْرِفَتُهُ ؛ فَإِنَّ تَأْثِيرَ الْفَرْقِ قَدْ يَكُونُ بِنَصِّ لَمْ يَبْلُغْهُ وَقَدْ يَكُونُ وَصْفًا خَفِيًّا .(1/285)
فَفِي الْجُمْلَةِ الْأَجْرُ هُوَ عَلَى اتِّبَاعِهِ الْحَقَّ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ ؛ وَ لَوْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ حَقٌّ يُنَاقِضُهُ هُوَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ لَوْ قَدَرَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ ؛ لَكِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَهَذَا كَالْمُجْتَهِدِينَ فِي جِهَاتِ الْكَعْبَةِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَن عَبَدَ عِبَادَةً نُهِيَ عَنهَا وَلَمْ يَعْلَمْ بِالنَّهْيِ - لَكِنْ هِيَ مِن جِنْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ - مِثْلَ مَن صَلَّى فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَبَلَغَهُ الْأَمْرُ الْعَامُّ بِالصَّلَاةِ وَلَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ أَوْ تَمَسَّكَ بِدَلِيلِ خَاصٍّ مَرْجُوحٍ مِثْلَ صَلَاةِ جَمَاعَةٍ مِن السَّلَفِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّاهُمَا، وَمِثْلَ صَلَاةٍ رُوِيَتْ فِيهَا أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ أَوْ مَوْضُوعَةٌ كَأَلْفِيَّةِ نِصْفِ شَعْبَانَ وَأَوَّلِ رَجَبَ وَصَلَاةِ التَّسْبِيحِ كَمَا جَوَّزَهَا ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ « يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّاهُ أَلاَ أُعْطِيكَ أَلاَ أَمْنَحُكَ أَلاَ أَحْبُوكَ أَلاَ أَفْعَلُ بِكَ عَشْرَ خِصَالٍ إِذَا أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ذَنْبَكَ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ قَدِيمَهُ وَحَدِيثَهُ خَطَأَهُ وَعَمْدَهُ صَغِيرَهُ وَكَبِيرَهُ سِرَّهُ وَعَلاَنِيَتَهُ عَشْرَ خِصَالٍ أَنْ تُصَلِّىَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ تَقْرَأُ فِى كُلِّ رَكْعَةٍ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَسُورَةً فَإِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِى أَوَّلِ رَكْعَةٍ وَأَنْتَ قَائِمٌ قُلْتَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً ثُمَّ تَرْكَعُ فَتَقُولُهَا وَأَنْتَ رَاكِعٌ(1/286)
عَشْرًا ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ فَتَقُولُهَا عَشْرًا ثُمَّ تَهْوِى سَاجِدًا فَتَقُولُهَا وَأَنْتَ سَاجِدٌ عَشْرًا ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنَ السُّجُودِ فَتَقُولُهَا عَشْرًا ثُمَّ تَسْجُدُ فَتَقُولُهَا عَشْرًا ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ فَتَقُولُهَا عَشْرًا فَذَلِكَ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ فِى كُلِّ رَكْعَةٍ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُصَلِّيَهَا فِى كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً فَافْعَلْ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِى كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّةً فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِى كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِى كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِى عُمُرِكَ مَرَّةً »(1)
__________
(1) - ففي سنن أبى داود برقم(1299 ) وحم 1/209 و 6/339 و هق 3/52 و خزيمة (1216) و ش 12/216 و سنة 4/156 و د (1297) و ك 1/318 وصحيح الجامع (7937) فالحديث صحيح .(1/287)
فَإِنَّهَا إذَا دَخَلَتْ فِي عُمُومِ اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَبْلُغْهُ مَا يُوجِبُ النَّهْيَ أُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ ،وَإِنْ كَانَ فِيهَا نَهْيٌ مِن وَجْهٍ لَمْ يَعْلَمْ بِكَوْنِهَا بِدْعَةً تُتَّخَذُ شِعَارًا وَيَجْتَمِعُ عَلَيْهَا كُلَّ عَامٍ، فَهُوَ مِثْلَ أَنْ يُحْدِثَ صَلَاةً سَادِسَةً ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ مِثْلَ هَذِهِ الصَّلَاةِ بِلَا حَدِيثٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لَكِنْ لَمَّا رُوِيَ الْحَدِيثُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ صَحِيحٌ فَغَلِطَ فِي ذَلِكَ فَهَذَا يُغْفَرُ لَهُ خَطَؤُهُ وَيُثَابُ عَلَى جِنْسِ الْمَشْرُوعِ . وَكَذَلِكَ مَن صَامَ يَوْمَ الْعِيدِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالنَّهْيِ، فعَن أَبِى عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ قَالَ شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - فَقَالَ هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَن صِيَامِهِمَا يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِن صِيَامِكُمْ ، وَالْيَوْمُ الآخَرُ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِن نُسُكِكُمْ .(1)بِخِلَافِ مَا لَمْ يُشْرَعْ جِنْسُهُ مِثْلَ الشِّرْكِ فَإِنَّ هَذَا لَا ثَوَابَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ لَا يُعَاقِبُ صَاحِبَهُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الرِّسَالَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {..وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (15) سورة الإسراء، لَكِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُعَذِّبُ فَإِنَّ هَذَا لَا يُثَابُ بَلْ هَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِن عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} (23) سورة الفرقان.
قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : هِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي عُمِلَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي لَمْ تُقْبَلْ .
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(1990 )(1/288)
وَقَالَ تَعَالَى : {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} (18) سورة إبراهيم ،فَهَؤُلَاءِ أَعْمَالُهُمْ بَاطِلَةٌ لَا ثَوَابَ فِيهَا . وَإِذَا نَهَاهُمْ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - عَنهَا فَلَمْ يَنْتَهُوا عُوقِبُوا، فَالْعِقَابُ عَلَيْهَا مَشْرُوطٌ بِتَبْلِيغِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَأَمَّا بُطْلَانُهَا فِي نَفْسِهَا فَلِأَنَّهَا غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهَا، فَكُلُّ عِبَادَةٍ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يُنْهَى عَنهَا .
ثُمَّ إنْ عَلِمَ أَنَّهَا مَنهِيٌّ عَنهَا وَفَعَلَهَا اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعِقَابَ وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا مَأْمُورٌ بِهَا وَكَانَتْ مِن جِنْسِ الْمَشْرُوعِ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ مِن جِنْسِ الشِّرْكِ فَهَذَا الْجِنْسُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مَأْمُورٌ بِهِ لَكِنْ قَدْ يَحْسَبُ بَعْضُ النَّاسِ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ .(1/289)
وَهَذَا لَا يَكُونُ مُجْتَهِدًا ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَّبِعَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا، وَهَذِهِ لَا يَكُونُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَكِنْ قَدْ يَفْعَلُهَا بِاجْتِهَادِ مِثْلِهِ : وَهُوَ تَقْلِيدُهُ لِمَن فَعَلَ ذَلِكَ مِن الشُّيُوخِ وَالْعُلَمَاءِ وَاَلَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ قَدْ فَعَلُوهُ لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ يَنْفَعُ ؛ أَوْ لِحَدِيثِ كَذِبٍ سَمِعُوهُ . فَهَؤُلَاءِ إذَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ بِالنَّهْيِ لَا يُعَذَّبُونَ ،وَأَمَّا الثَّوَابُ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ ثَوَابُهُمْ أَنَّهُمْ أَرْجَحُ مِن أَهْلِ جِنْسِهِمْ ،وَأَمَّا الثَّوَابُ بِالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ فَلَا يَكُونُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ(1).
- - - - - - - - - - - - - -
المبحث الثالث
هل كل مجتهد مصيب؟(2)
الجواب على هذا السؤال يحتاج إلى تفصيل، إذ إن الإصابة لفظ مجمل.ذلك أن الإصابة قد يراد بها إصابة الحق، بمعنى: مجانبة الخطأ،وقد يراد بها إصابة الأجر والثواب، بمعنى: انتفاء الإثم(3).
فإذا أريد بالإصابة إصابة الحق فهذا لا يتضح إلا بعد معرفة: هل الحقُّ عند الله واحد أو متعدد؟
فإن كان الحقُّ عند الله واحدًا فلا شكَّ أن بعض المجتهدين مصيب وبعضهم مخطئ، وإن كان الحقُّ عند الله متعددًا فكلُّ مجتهد مصيب غير مخطئ. وبيان هذا موضعه في الجانب الأول.
وإذا أريد بالإصابة إصابة الأجر وانتفاء الإثم عن المجتهدين فهذا يحتاج إلى تفصيل، وهذا بيانه في الجانب الثاني.
الجانب الأول: هل الحقُّ عند الله واحد أو متعدد؟
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 20 / ص 19) فما بعدها
(2) - انظر معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة - (ج 1 / ص 437) والبحر المحيط - (ج 8 / ص 141) والموافقات - (ج 5 / ص 66) وإرشاد الفحول - (ج 2 / ص 231)
(3) - انظر: "منهاج السنة" (6/27، 28).(1/290)
طرح الإمام الشافعي هذا السؤال ثم أجاب عليه، قال رحمه الله: «فإن قال قائل: أرأيت ما اجتهد فيه المجتهدون كيف الحق فيه عند الله؟ قيل: لا يجوز فيه عندنا - والله تعالى أعلم - أن يكون الحق فيه عند الله كله إلا واحدًا؛ لأن علم الله عز وجل وأحكامه واحدٌ لاستواء السرائر والعلانية عنده، وأن علمه بكل واحدٍ جل ثناؤه سواء»(1).
وقد بوب ابن عبد البر لذلك، فقال: بَابُ ذِكْرِ الدَّلِيلِ مِن أَقَاوِيلِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ خَطَأٌ وَصَوَابٌ " يَلْزَمُ طَالِبُ الْحُجَّةِ عِنْدَهُ ، وَذِكْرُ بَعْضِ مَا خَطَّأَ فِيهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمْ ، وَذِكْرُ مَعْنَى قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ "(2)
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ ، إِنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ : كَذَبَ ، حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ "(3).
__________
(1) - "إبطال الاستحسان" (41).
(2) - "جامع بيان العلم وفضله" (2/85).
(3) - انظره في صحيح البخارى(122)(1/291)
قَالَ أَبُو عُمَرَ : قَدْ رَدَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَوْلَ الصَّحَابَةِ فِي الرِّدَّةِ وَقَالَ : " وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا ، أَوْ قَالَ : عَنَاقًا ، مِمَّا أَعْطَوْهُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَجَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ "(1)وَقَطَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ اخْتِلَافَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي التَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَقَصَرَهُمْ عَلَى أَرْبَعٍ(2)،وَسَمِعَ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ الصُّبَيَّ بْنَ مَعْبَدٍ مُهِلًّا بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : لَهَذَا أَضَلُّ مِن بَعِيرِ أَهْلِهِ ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ عُمَرُ فَقَالَ : لَوْ لَمْ تَقُولَا شَيْئًا هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ - صلى الله عليه وسلم - (3)، وَرَدَّتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهَا قَوْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ : تَقْطَعُ الْمَرْأَةُ الصَّلَاةَ وَقَالَتْ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ "(4)، وَرَدَّتْ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ ، وَقَالَتْ : وَهَمَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَوْ أَخْطَأَ أَوْ نَسِيَ(5)، وَكَذَلِكَ قَالَتْ لَهُ فِي عُمَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ زَعَمَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : هَذَا وَهْمٌ مِنهُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) - صحيح البخارى ( 7284و7285 )
(2) - شرح معاني الآثار - (ج 2 / ص 373)
(3) - سنن أبى داود (1800و18021) صحيح
(4) - سنن أبى داود(712 ) ومسند أحمد( 24898) صحيح
(5) - صحيح مسلم (2196 )(1/292)
عُمَرَهُ كُلَّهَا مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا ثَلَاثًا(1)، وَأَنْكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلَهُ : " مَن غَسَلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ وَمَن حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ "(2)وَقَالَ فِيهِ قَوْلًا شَدِيدًا وَقَالَ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَنْجَسُوا مِن مَوْتَاكُمْ، وَقِيلَ لِابْنِ مَسْعُودِ : إِنَّ سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ قَالَا فِي بِنْتٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَأُخْتٍ : إِنَّ الْمَالَ بَيْنَ الْبِنْتِ وَالْأُخْتِ نِصْفَانِ ، وَلَا شَيْءَ لِبِنْتِ الِابْنِ وَقَالَا لِلسَّائِلِ : وَائْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ سَيُتَابِعُنَا فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ بَلْ أَقْضِي فِيهَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةً لِلثُّلُثَيْنِ ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ(3)، وَأَنْكَرَ جَمَاعَةُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى عَائِشَةَ رَضَاعَ الْكَبِيرِ وَلَمْ تَأْخُذْ وَاحِدَةٌ مِنهُنَّ بِقَوْلِهَا فِي ذَلِكَ(4)، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَالدَّمَ فَرَجَعَ أَبُو مُوسَى إِلَى قَوْلِهِ(5)، وَأَنْكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى عَلِيٍّ أَنَّهُ أَحْرَقَ
__________
(1) - صحيح البخارى(4253 و4254)
(2) - سنن ابن ماجه (1530) والسنن الكبرى للبيهقي (ج 1 / ص 302)(1498) صحيح موقوف ، ولم أجد قول ابن مسعود
(3) - سنن أبى داود(2892) صحيح
(4) - السنن الكبرى للبيهقي(ج 7 / ص 460)(16065) صحيح
(5) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 7 / ص 461)(16071) والمعجم الكبير للطبراني (8420 ) صحيح(1/293)
الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ قَتْلِهِمْ ، وَقِيلَ : قَبْلَ قَتْلِهِمْ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَن بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ(1)" فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَأَعْجَبَهُ قَوْلُهُ ، قَالَ أَبُو عُمَرَ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَقُلْ فَاضْرِبُوا عُنَقَهُ ثُمَّ أَحْرِقُوهُ ، وَرُفِعَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أَنَّ شُرَيْحًا قَضَى فِي رَجُلٍ وَجَدَ آبِقًا فَأَخَذَهُ ثُمَّ أَبَقَ مِنهُ أَنَّهُ يَضْمَنُ الْعَبْدَ فَقَالَ عَلِيٌّ : " " كَذَبَ شُرَيْحٌ وَأَسَاءَ الْقَضَاءَ ، يَحْلِفُ الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ ، لِلْعَبْدِ الْأَحْمَرِ ، لَأَبِقَ أَبْقًا ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ "(2)،وعَن عُمَرَ فِي الْجَارِيَةِ النُّوبِيَّةِ الَّتِي جَاءَتْ حَامِلًا إِلَى عُمَرَ فَقَالَ لِعَلِيٍّ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ : مَا تَقُولَانِ ؟ فَقَالَا : أَقَضَاءٌ غَيْرُ قَضَاءِ اللَّهِ تَلْتَمِسُ ؟ قَدْ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا فَحُدَّهَا وَعُثْمَانُ سَاكِتٌ فَقَالَ عُمَرُ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : مَا تَقُولُ ؟ فَقَالَ : أُرَاهَا تَسْتَهِلُّ بِهِ وَإِنَّمَا الْحَدُّ عَلَى مَن عَلِمَهُ فَقَالَ عُمَرُ : الْقَوْلُ مَا قُلْتَ مَا الْحَدُّ إِلَّا عَلَى مَن عَلِمَهُ(3)، وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُما : إِنَّ عَلِيًّا يَقُولُ : لَا تُؤْكُلُ ذَبَائِحُ نَصَارَى الْعَرَبِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ إِلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ(4)، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ :
__________
(1) - صحيح البخارى(3017)
(2) - مصنف عبد الرزاق(14916) وفي جهالة
(3) - السنن الكبرى للبيهقي(ج 8 / ص 238)(17521 ) صحيح
(4) - تهذيب الآثار مسند علي ( 357-359) صحيح ، ولم أر قول ابن عباس(1/294)
تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِنكُمْ فَإِنَّهُ مِنهُمْ ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُما فِي الَّذِي تَوَالَى عَلَيْهِ رَمَضَانَانِ بَدَنَتَانِ مُقَلَّدَتَانِ ، فَأُخْبِرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ فَقَالَ : " وَمَا لِلْبُدْنِ وَهَذَا ؟ يُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا " فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : صَدَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ امْضِ لِمَا أَمَرَكَ بِهِ(1)، وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : " الْمُكَاتَبُ يُعْتَقُ مِنهُ إِذَا عَجَزَ بِقَدْرِ مَا أَدَّى " ، فَقَالَ زَيْدٌ : " هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ "، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : " إِذَا أَدَّى الثُّلُثَ فَهُوَ غَرِيمٌ "(2)وَعَن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِذَا أَدَّى الشَّطْرَ فَلَا رِقَّ عَلَيْهِ(3)" وَقَالَ شُرَيْحٌ : " إِذَا أَدَّى قِيمَتَهُ فَهُوَ غَرِيمٌ " وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودِ أَيْضًا مِثْلُهُ وَقَالَ زَيْدٌ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَعُثْمَانُ ، وَعَائِشَةُ ، وَأُمُّ سَلَمَةَ : " هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ "(4).
__________
(1) - لم أجده بهذا اللفظ
(2) - مصنف عبد الرزاق(15722) صحيح
(3) - مصنف عبد الرزاق(15483) صحيح
(4) - مصنف عبد الرزاق(15738) صحيح(1/295)
وعَن إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ : قَالَ : سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَن أبْنَةٍ وَابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لأُمٍّ ؟ فَقَالَ : لِلاِبْنَةِ النِّصْفُ ، وَمَا بَقِيَ فَلاِبْنِ الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِأَخٍ لأُمٍّ ، وَلاَ يَرِث أَخٌ لأُمٍّ مَعَ وَلَدٍ ، قَالَ : فَسَأَلْت عَطَاءً ، فَقَالَ : أَخْطَأَ سَعِيدٌ ، لِلاِبْنَةِ النِّصْفُ ، وَمَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.(1)" قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ : وَالْقَوْلُ عِنْدَنَا قَوْلُ عَطَاءٍ ؛ لِأَنَّ الِابْنَةَ وَالْأُخْتَ لَا تَحْجِبُ الْعَصَبَةَ وَلَمْ تَزِدْهُ الْأُمُّ إِلَّا قُرْبًا "
وعَن إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ : قُلْتُ لِلشَّعْبِيِّ ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ الدَّيْنُ عَلَى رَجُلٍ إِلَى أَجَلٍ فَيَضَعُ لَهُ بَعْضًا وَيُعَجِّلُ لَهُ بَعْضًا : إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَكَرِهَهُ الْحَكَمُ فَقَالَ الشَّعْبِيُّ : أَصَابَ الْحَكَمُ وَأَخْطَأَ إِبْرَاهِيمُ "(2)، عَن عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ ، قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ ، عَنِ الْعُمْرَةِ ، فَرِيضَةٌ هِيَ أَمْ تَطَوُّعٌ ؟ قَالَ " فَرِيضَةٌ . قَالَ : فَإِنَّ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ : هِيَ تَطَوُّعٌ . قَالَ : كَذَبَ الشَّعْبِيُّ وَقَرَأَ : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ "(3)
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة ( (ج 11 / ص 253)(31740) حسن
(2) - مصنف عبد الرزاق(14370) صحيح
(3) - تفسير الطبري - (ج 3 / ص 11) (3209) صحيح
قوله : "كذب الشعبي" ، أي أخطأ . وهو كثير جدا في الأخبار والأحاديث وأشعار العرب ، بمعنى الخطأ ، لا بمعنى الكذب الذي هو فقيض الصدق . ويعني : أخطأ الشعبي في اجتهاده .(1/296)
وقَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، إِنَّ شُرَيْحًا قَالَ : يُبْدَأُ بِالْمُكَاتَبَةِ قَبْلِ الدَّيْنِ أَوْ يُشْرَكُ بَيْنَهُمَا ،قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ ، " أَخْطَأَ شُرَيْحٌ وَإِنْ كَانَ قَاضِيًا ؛ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : يُبْدَأُ بِالدَّيْنِ "(1)
وعَن مُغِيرَةَ قَالَ : مَا رَأَيْتُ الشَّعْبِيَّ ، وَحَمَّادًا تَمَارَيَا فِي شَيْءٍ إِلَّا غَلَبَهُ حَمَّادٌ إِلَّا هَذَا ، سُئِلَ عَن الْقَوْمِ يَشْتَرِكُونَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ وَهُمْ حُرُمٌ فَقَالَ حَمَّادٌ : عَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : " عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنهُمْ جَزَاءٌ " ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِيُّ : " أَرَأَيْتَ لَوْ قَتَلُوا رَجُلًا أَلَمْ يَكُنْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنهُمْ كَفَّارَةٌ ؟ " فَظَهَرَ عَلَيْهِ الشَّعْبِيُّ "( صحيح)
وعَنِ الثَّوْرِيِّ : " فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ : بِعْنِي نِصْفَ دَارِكَ مِمَّا يَلِي دَارِي ، قَالَ : هَذَا بَيْعٌ مَرْدُودٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى أَيْنَ يُنْتَهَى بَيْعُهُ ؟ وَلَوْ قَالَ : أَبِيعُكَ نِصْفَ الدَّارِ أَوْ رُبْعَ الدَّارِ جَازَ " قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمَعْمَرٍ فَقَالَ : هَذَا قَوْلٌ سَوَاءٌ كُلُّهُ لَا بَأْسَ بِهِ "(صحيح)
وعَن قَتَادَةَ ، أَنَّ إِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ ، " أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي الطَّلَاقِ ، قَالَ قَتَادَةُ : فَسُئِلَ الْحَسَنُ ، عَن ذَلِكَ فَقَالَ : " لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الطَّلَاقِ " قَالَ : فَكُتِبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِقَوْلِ الْحَسَنِ وَقَضَاءِ إِيَاسٍ فَكَتَبَ عُمَرُ أَصَابَ الْحَسَنُ وَأَخْطَأَ إِيَاسٌ "(صحيح)
__________
(1) - مصنف عبد الرزاق (15745) ومصنف ابن أبي شيبة (ج 6 / ص 395)(21845) والسنن الكبرى للبيهقي (ج 10 / ص 332)(22214) صحيح(1/297)
قَالَ أَبُو عُمَرَ : " هَذَا كَثِيرٌ فِي كُتُبِ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعِينَ وَمَن بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُخَالِفِينَ وَمَا رَدَّ فِيهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ لَا يَكَادُ أَنْ يُحِيطُ بِهِ كِتَابٌ فَضْلًا أَنْ يُجْمَعَ فِي بَابٍ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنهُ دَلِيلٌ عَلَى مَا عَنهُ سَكَتْنَا وَفِي رُجُوعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَرَدِّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ عِنْدَهُمْ خَطَأٌ وَصَوَابٌ وَلَوْلَا ذَلِكَ كَانَ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُمْ : جَائِزٌ مَا قُلْتَ أَنْتَ ، وَجَائِزٌ مَا قُلْتُ أَنَا وَكِلَانَا نَجْمٌ يُهْتَدَى بِهِ فَلَا عَلَيْنَا شَيْءٌ مِنَ اخْتِلَافِنَا ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَالصَّوَابُ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ وَتَدَافَعَ وَجْهٌ وَاحِدٌ وَلَوْ كَانَ الصَّوَابُ فِي وَجْهَيْنِ مُتَدَافِعَيْنِ مَا خَطَّأَ السَّلَفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي اجْتِهَادِهِمْ وَقَضَايَاهُمْ وَفَتْوَاهُمْ ، وَالنَّظَرُ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ ضِدُّهُ صَوَابًا كُلَّهُ وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ:
إِثْبَاتُ ضِدَّيْنِ مَعًا فِي حَالِ أَقْبَحُ مَا يَأْتِي مِنَ الْمُحَالِ
،(1/298)
وَمَن تَدَبَّرَ رُجُوعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ إِلَى قَوْلِ مُعَاذٍ فِي الْمَرْأَةِ الْحَامِلِ وَقَوْلِهِ : لَوْلَا مُعَاذٌ هَلَكَ عُمَرُ(1)،عَلِمَ صِحَّةَ مَا قُلْنَا ،وَكَذَلِكَ رَجَعَ عُثْمَانُ فِي مِثْلِهَا إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ فِي مِثْلَهَا إِلَى قَوْلِ عَلِيٍّ ،وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا رَجَعَ فِيهَا إِلَى قَوْلِ عَلِيٍّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا رَجَعَ إِلَى قَوْلِ مُعَاذٍ فِي الَّتِي أَرَادَ رَجْمَهَا حَامِلًا فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ : لَيْسَ لَكَ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا سَبِيلٌ وَرَجَعَ إِلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ فِي الَّتِي وَضَعَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ "
__________
(1) - سنن الدارقطنى(3921) فيه جهالة محتملة(1/299)
وعَنِ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ ، عَن أَبِيهِ ، أَنَّهُ رُفِعَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ امْرَأَةٌ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهَمَّ عُمَرُ بِرَجْمِهَا فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : " لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ وَقَالَ : وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا لَا رَجْمَ عَلَيْهَا " فَخَلَّى عُمَرُ عَنهَا فَوَلَدَتْ مَرَّةً أُخْرَى لِذَلِكَ الْحَدِّ " ذَكَرَهُ عَفَّانُ ، عَن يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ ، عَن سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَن قَتَادَةَ، وَرَجَعَ عُثْمَانُ عَن حَجْبِهِ الْأَخِ بِالْجَدِّ إِلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا ، وَرَجَعَ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ عَن مُقَاسَمَةِ الْجَدِّ إِلَى السُّدُسِ إِلَى قَوْلِ زَيْدٍ فِي مُقَاسَمَتِهِ إِلَى الثُّلُثِ ، وَرَجَعَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ عَن مَوَافَقَتِهِ عُمَرَ فِي عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَقَالَ لَهُ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ : رَأَيُكَ مَعَ عُمَرَ أَحَبُّ إِلِيَّ مِن رَأْيِكَ وَحْدَكَ وَتَمَادَى عَلِيٌّ عَلَى ذَلِكَ فَأَرَقَّهُنَّ(1)، وَرَجَعَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا فِيمَن تَوَالَى عَلَيْهِ رَمَضَانَانِ ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إِلَى السُّنَّةِ(2)، وَفِي كِتَابِ عُمَرَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ : " لَا يَمْنَعْكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ بِالْأَمْسِ رَاجَعْتَ فِيهِ نَفْسَكَ وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تَرْجِعَ فِيهِ إِلَى الْحَقِّ ؛
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 10 / ص 343)(22290) صحيح
(2) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 7 / ص 442)(15953) وسنن سعيد بن منصور (1266 ) صحيح(1/300)
فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ أَوْلَى مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ "(1)، وَرُوِيَ عَن مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ أَنَّهُ قَالَ : " لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَهْوَاءُ كُلُّهَا هَوًى وَاحِدًا لَقَالَ الْقَائِلُ : " الْحَقُّ فِيهِ " , فَلَمَّا تَشَعَّبَتْ وَاخْتَلَفَتْ عَرَفَ كُلُّ ذِي عَقْلٍ أَنَّ الْحَقَّ لَا يَتَفَرَّقُ "(2)، وَعَن مُجَاهِدٍ " وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفَيْنِ قَالَ : أَهْلُ الْبَاطِلِ إِلَّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ قَالَ : أَهْلُ الْحَقِّ لَيْسَ فِيهِمُ اخْتِلَافٌ "(3)
وَقَالَ أَشْهَبُ ، سَمِعْتُ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : " مَا الْحَقُّ إِلَّا وَاحِدٌ ، قَوْلَانِ مُخْتَلِفَانِ لَا يَكُونَانِ صَوَابًا جَمِيعًا ، مَا الْحَقُّ وَالصَّوَابُ إِلَّا وَاحِدٌ " قَالَ أَشْهَبُ : وَبِهِ يَقُولُ اللَّيْثُ".
__________
(1) - سنن الدارقطنى(4525) حسن
(2) - شَرْحُ أُصُولِ الاعْتِقَادِ (276 ) وفيه لين
(3) - تفسير الطبري - (ج 15 / ص 532)(18702- 18704) صحيح(1/301)
قَالَ أَبُو عُمَرَ : " الِاخْتِلَافُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ أَحَدٍ عَلِمْتُهُ مِن فُقَهَاءِ الْأُمَّةِ إِلَّا مَن لَا بَصَرَ لَهُ وَلَا مَعْرِفَةَ عِنْدَهُ ، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِهِ ، قَالَ الْمُزَنِيُّ : " يُقَالُ لِمَن جَوَّزَ الِاخْتِلَافَ وَزَعَمَ أَنَّ الْعَالِمَيْنِ إِذَا اجْتَهَدَا فِي الْحَادِثَةِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : حَلَالٌ وَقَالَ الْآخَرُ حَرَامٌ فَقَدْ أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُمَا جَهْدَهُ وَمَا كُلِّفَ ، وَهُوَ فِي اجْتِهَادُهُ مُصِيبٌ الْحَقَّ ، أَبِأَصْلٍ قُلْتَ هَذَا أَمْ بِقِيَاسٍ ؟ فَإِنْ قَالَ : بِأَصْلٍ ، قِيلَ لَهُ : كَيْفَ يَكُونُ أَصْلًا وَالْكِتَابُ أَصْلٌ يَنْفِي الْخِلَافَ ، وَإِنْ قَالَ بِقِيَاسٍ قِيلَ : كَيْفَ تَكُونُ الْأُصُولُ تَنْفِي الْخِلَافَ ، وَيَجُوزُ لَكَ أَنْ تَقِيسَ عَلَيْهَا جَوَازَ الْخِلَافِ ؟ هَذَا مَا لَا يُجَوِّزُهُ عَاقِلٌ فَضْلًا عَن عَالِمٍ وَيُقَالُ لَهُ : أَلَيْسَ إِذَا ثَبَتَ حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَعْنًى وَاحِدٍ فَأَحَلَّهُ أَحَدُهُمَا وَحَرَّمَهُ الْآخَرُ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ أَحَدِهِمَا وَنَفْيِ الْآخَرِ أَلَيْسَ يَثْبُتُ الَّذِي يُثْبِتُهُ الدَّلِيلُ وَيُبْطِلُ الْآخَرَ وَيُبْطِلُ الْحُكْمَ بِهِ ، فَإِنْ خَفِيَ الدَّلِيلُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَأُشْكِلَ الْأَمْرُ فِيهِمَا وَجَبَ الْوُقُوفُ فَإِذَا قَالَ : نَعَمْ وَلَا بُدَّ مِن نَعَمْ ، وَإِلَّا خَالَفَ جَمَاعَةَ الْعُلَمَاءِ ، قِيلَ لَهُ : فَلِمَ لَا تَصْنَعْ هَذَا بِرَأْيِ الْعَالِمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ ؟ فَتُثْبِتُ مِنهُمَا مَا أَثْبَتَهُ الدَّلِيلُ وَتُبْطِلُ مَا أَبْطَلَهُ الدَّلِيلُ ؟ ".(1/302)
قَالَ أَبُو عُمَرَ : مَا أَلْزَمَهُ الْمُزَنِيُّ عِنْدِي لَازِمٌ ؛ فَلِذَلِكَ ذَكَرْتُهُ وَأَضَفْتُهُ إِلَى قَائِلِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ : إِنَّ مِن بَرَكَةِ الْعِلْمِ أَنْ تُضِيَفَ الشَّيْءَ إِلَى قَائِلِهِ ، وَهَذَا بَابٌ يَتَّسِعُ فِيهِ الْقَوْلُ وَقَدْ جَمَعَ الْفُقَهَاءُ مِن أَهْلِ النَّظَرِ فِي هَذَا وَطَوَّلُوا وَفِيمَا لَوَّحْنَا مَقْنَعٌ وَنِصَابٌ كَافٍّ لِمَن فَهِمَهُ وَأَنْصَفَ نَفْسَهُ وَلَمْ يُخَادِعْهَا بِتَقْلِيدِ الرِّجَالِ ".
وقَالَ سُحْنُونَ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ، مَن صَلَّى خَلْفَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ قُلْتُ لِسُحْنُونَ : مَا تَقُولُ أَنْتَ ؟ قَالَ : أَقُولُ : إِنَّ الْإِعَادَةَ ضَعِيفَةٌ ، قُلْتِ لَهُ : إِنَّ أَصْبَغَ بْنَ الْفَرَجِ يَقُولُ : يُعِيدُ أَبَدًا فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ إِذَا صَلَّى خَلْفَ أَحَدٍ مِن أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ ، فَقَالَ سُحْنُونُ : لَقَدْ جَاءَ مَن رَأَى الْإِعَادَةَ عَلَيْهِمْ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ بِبِدْعَةٍ أَشَدَّ مِن بِدْعَةِ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ ".(1/303)
قَالَ أَبُو عُمَرَ : " مِن أَصْحَابِنَا : مِن رَدِّ بَعْضِهِمْ لِقَوْلِ بَعْضٍ بِدَلِيلٍ وَبِغَيْرِ دَلِيلٍ شَيْءٌ لَا يَكَادُ يُحْصَى كَثْرَةً ، وَلَوْ تَقَصَيْتُهُ لَقَامَ مِنهُ كِتَابٌ كَبِيرٌ أَكْبَرُ مِن كِتَابِنَا هَذَا وَلَكِنِّي رَأَيْتُ الْقَصْدَ إِلَى مَا يَلْزَمُ أَوْلَى وَأَوْجَبَ فَاقْتَصَرْنَا عَلَى الْحُجَّةِ عِنْدَنَا ، وَبِاللَّهِ عِصْمَتُنَا وَتَوْفِيقُنَا وَهُوَ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ الْمُسْتَعَانُ ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ " قَالَ : إِنْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ فَمَعْنَاهُ فِيمَا نَقَلُوا عَنهُ وَشَهِدُوا بِهِ عَلَيْهِ فَكُلُّهُمْ ثِقَةٌ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ لَا يَجُوزُ عِنْدِي غَيْرُ هَذَا ،وَأَمَّا مَا قَالُوا فِيهِ بِرَأْيِهِمْ فَلَوْ كَانُوا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ كَذَلِكَ مَا خَطَّأَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَا أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَا رَجَعَ مِنهُمْ أَحَدٌ إِلَى قَوْلِ صَاحِبِهِ فَتَدَبَّرْ "
وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ الرَّقِّيُّ: قَالَ لَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ ، سَأَلْتُمْ عَمَّا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا فِي أَيْدِي الْعَامَّةِ يَرْوُونَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّمَا مَثَلُ أَصْحَابِي كَمَثَلِ النُّجُومِ " أَوْ " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ فَأَيُّهَا اقْتَدَوَا اهْتَدَوْا " .(1/304)
هَذَا الْكَلَامُ لَا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ زَيْدٍ الْعَمِّيُّ ، عَن أَبِيهِ ، عَن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَرُبَّمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحِيمِ عَن أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، وَأَسْقَطَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا أَتَى ضَعْفُ هَذَا الْحَدِيثِ مِن قِبَلِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ زَيْدٍ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَدْ سَكَتُوا عَنِ الرِّوَايَةِ لِحَدِيثِهِ ، وَالْكَلَامُ أَيْضًا مُنْكَرٌ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ "(1)وَهَذَا الْكَلَامُ يُعَارِضُ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحِيمِ لَوْ ثَبَتَ فَكَيْفَ وَلَمْ يَثْبُتْ ؟ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَا يُبِيحُ الِاخْتِلَافَ بَعْدَهُ مِن أَصْحَابِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْبَزَّارِ "
__________
(1) - هذا لفظ البزار (4201) صحيح(1/305)
قَالَ أَبُو عُمَرَ : قَدْ رَوَى أَبُو شِهَابٍ الْحَنَّاطُ ، عَن حَمْزَةَ الْجَزَرِيِّ ، عَن نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّمَا أَصْحَابِي مِثْلُ النُّجُومِ فَبِأَيِّهِمْ أَخَذْتُمْ بِقَوْلِهِ اهْتَدَيْتُمْ " " وَهَذَا إِسْنَادٌ لَا يَصِحُّ ، وَلَا يَرْوِيهِ عَن نَافِعٍ مَن يُحْتَجُّ بِهِ وَلَيْسَ كَلَامُ الْبَزَّارِ بِصَحِيحٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِأَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُنْفَرِدِينَ إِنَّمَا هُوَ لَمِن جَهِلَ مَا يَسْأَلُ عَنهُ ، وَمَن كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ فَالتَّقْلِيدُ لَازِمٌ لَهُ وَلَمْ يَأْمُرْ أَصْحَابَهُ أَنْ يَقْتَدِيَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ إِذَا تَأَوَّلُوا تَأْوِيلًا سَائِغًا جَائِزًا مُمْكِنًا فِي الْأُصُولِ ، وَإِنَّمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُمْ نَجْمٌ جَائِزٌ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ الْعَامِّيُّ الْجَاهِلُ بِمَعْنَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِن دِينِهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ مَعَ الْعَامَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وعَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ : " لَيْسَ أَحَدٌ مِن خَلْقِ اللَّهِ إِلَّا يُؤْخَذُ مِن قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إِلَّا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - " ( صحيح)
وعَن مُجَاهِدٍ قَالَ : " لَيْسَ أَحَدٌ مِن خَلْقِ اللَّهِ إِلَّا وَهُوَ يُؤْخَذُ مِن قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إِلَّا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - " ( صحيح)
وقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ : لَوْ أَخَذْتَ بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ "(1/306)
وعَن غَسَّانَ بْنِ الْمُفَضَّلِ قَالَ : أَخْبَرَنِي خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ : قَالَ لِي سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ : " إِنْ أَخَذْتَ بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ قَالَ أَبُو عُمَرَ : " هَذَا إِجْمَاعٌ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ".
ولذلك كان يقول كل واحد منهم: جائز ما قلت أنت، وجائز ما قلت أنا، وكلانا نجم يُهتدي به، فلا علينا شيء من اختلافنا.
والصواب مما اختلف فيه وتدافع وجه واحد، ولو كان الصواب في وجهين متدافعين ما خطأ السلف بعضهم بعضًا في اجتهادهم وقضائهم وفتواهم.
والنظر يأبى أن يكون الشيء وضده صوابًا كله»(1).
ومن الأدلة على أن بعض المجتهدين مصيب وبعضهم مخطئ:
قوله - صلى الله عليه وسلم - : « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ »(2).
فقسم - صلى الله عليه وسلم - المجتهدين إلى مصيب له أجران، ومخطئ له أجر، فعُلم بذلك أن الحقَّ عند الله واحد، غير متعدد، وأن المصيب من المجتهدين واحد، وليس كل مجتهد مصيبًا(3).
__________
(1) - "جامع بيان العلم وفضله" (2/87، 88).
(2) - صحيح البخارى (7352) ومسلم (4584)
(3) - انظر: "روضة الناظر" (2/414، 420)، و"مجموع الفتاوى" (20/27، 19/123)، و"شرح الكوكب المنير" (4/488).(1/307)
هذا الحديث يدل على أنه ليس كل مجتهد مصيب وأن الحق واحد لا يتعدد، قال الشوكاني في إرشاد الفحول: فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد وأن بعض المجتهدين يوافقه فيقال له مصيب ويستحق أجرين، وبعض المجتهدين يخالفه ويقال له مخطيء واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه مصيبا، واسم الخطأ لا يستلزم كونه مصيبا واسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر، فمن قال كل مجتهد مصيب وجعل الحق متعدداً بتعدد المجتهدين فقد أخطأ وخالف الصواب مخالفة ظاهرة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل المجتهدين قسمين قسماً مصيباً وقسماً مخطئاً، ولو كان كل واحد مصباً ولم يكن لهذا التقسيم معنى. انتهى(1).
وقد استدل من ذهب أن كل مجتهد مصيب بحديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ « لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ » . فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِى الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نُصَلِّى حَتَّى نَأْتِيَهَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّى لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ . فَذُكِرَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنهُمْ"(2).
قال الحافظ في الفتح(3):" الاستدلال بهذه القصة على أن كل مجتهد مصيب على الإطلاق ليس بواضح، وإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد فيستفاد منه عدم تأثيمه.. وقد استدل به الجمهور على عدم تأثيم من اجتهد لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعنف أحداً من الطائفتين، فلو كان هناك إثم لعنف من أتم. انتهى.(4)
__________
(1) - إرشاد الفحول - (ج 2 / ص 232)
(2) - صحيح البخارى(946 )
(3) - فتح الباري "7/409"
(4) - من أصول الفقه على منهج أهل الحديث - الرقمية - (ج 1 / ص 179)(1/308)
الجانب الثاني: لا خلاف بين أهل العلم في أن المجتهد - الذي توفرت الشروط في اجتهاده - إذا أصاب الحق له أجران(1)، للحديث المتقدم،
لكن المسألة التي وقع فيها نزاع بين العلماء هي:
هل المجتهد - الذي توفرت الشروط في اجتهاده - المخطئ للحق، المخالف للصواب، معذور أو لا؟ وهل يأثم أو لا يأثم؟
مذهب السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان(2):
أنهم لا يكفرون، ولا يفسقون، ولا يؤثمون أحدًا من المجتهدين المخطئين لا في مسألة علمية ولا عملية، ولا في الأصول ولا في الفروع، ولا في القطعيات ولا في الظنيات(3).
وذلك وفق الضوابط الآتية(4):
1- أن يكون مع هذا المجتهد المخطئ مقدارٌ ما من الإيمان بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - . أما من لم يؤمن أصلاً فهو كافر، لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد، لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة،ولأن العذر بالخطأ حكم شرعي خاص بهذه الأمة كما جاءت النصوص بذلك.
فمن كان مؤمنًا بالله جُملة وثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة.
2- أن يكون ذا نية صادقة في إرادة الحق والوصول إلى الصواب. أما أهل الجدال والمراء، وأصحاب الأغراض السيئة والمقاصد الخبيثة، فلكل منهم ما نوى، والحكم في ذلك للظاهر، والله يتولى السرائر.
__________
(1) - انظر: "مجموع الفتاوى" (13/124، 19/213، 20/19).
(2) - انظر: "الفقيه والمتفقه" (2/64، 65)، و"مجموع الفتاوى" (19/207، 123، 142، 216، 213، و13/124، 125، و29/43، 44، و20/31 - 36، 252 - 254، 280)، و"شرح الكوكب المنير" (4/491).
(3) - خلافًا لمن قال: ليس للحادثة عند الله حكم في نفس الأمر، وإنما حكمه في حق كل مكلف يتبع اجتهاد المكلف واعتقاده. انظر تفصيل ذلك في: "مجموع الفتاوى" (19/143 - 152، 302) وما بعدها.
(4) - انظر: "مجموع الفتاوى" (12/493، 20/256)، و"طريق الهجرتين" (411 - 414).(1/309)
3- أن يبذل المجتهد وسعه، ويستفرغ طاقته، ويتقي الله ما استطاع، ثم إن أخطأ لعدم بلوغ الحجة، أو لوجود شبهة، أو لأجل تأويل سائغ، فهو معذور ما لم يفرط. أما إن فرط في شيء من ذلك، فلم تبلغه الحجة بسبب تقصيره، أو بلغته لكنه أعرض عنها لشبهة يعلم فسادها، أو تأول الدليل تأويلاً لا يسوغ، فإنه والحالة كذلك لا يُعذر، وعليه من الإثم بقدر تفريطه.
ومن الأدلة على ما ذهب إليه سلف هذه الأمة ما يأتي(1):
1- عَن حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « كَانَ رَجُلٌ مِمَن كَانَ قَبْلَكُمْ يُسِىءُ الظَّنَّ بِعَمَلِهِ ، فَقَالَ لأَهْلِهِ إِذَا أَنَا مُتُّ فَخُذُونِى فَذَرُّونِى ، فِى الْبَحْرِ فِى يَوْمٍ صَائِفٍ ، فَفَعَلُوا بِهِ ، فَجَمَعَهُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِى صَنَعْتَ قَالَ مَا حَمَلَنِى إِلاَّ مَخَافَتُكَ . فَغَفَرَ لَهُ »(2)..
قال ابن تيمية: «فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك.
وكل واحدٍ من إنكار قدرة الله تعالى، وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت، كفر، لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلاً بذلك، ضالاً في هذا الظن مخطئًا، فغفر الله له ذلك»(3).
2- ما تقدم من الأدلة على اعتبار المقاصد والنيات في الأحكام الشرعية والثواب والعقاب .
3- ما تقدم من الأدلة على أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها وأن التكاليف الشرعية مشروطة بالممكن من العلم والقدرة.
4- ما تقدم من الأدلة على أن الجهل عذر شرعي، وأن الحكم لا يثبت في حق المكلف والحجة لا تقوم عليه إلا بعد علمه بالأمر والنهي.
__________
(1) - معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة - (ج 1 / ص 440)
(2) - صحيح البخارى(6480)
(3) - "مجموع الفتاوى" (11/409).(1/310)
5- أن جعل الدين قسمين: أصولاً وفروعًا، لم يكن معروفًا لدى السلف(1)، وكذلك تقسيم المسائل إلى قطعية وظنية لا يستقيم، لأن كون المسألة قطعية أو ظنية أمر إضافي بحسب حال المعتقد، ثم إن الله رفع الخطأ دون تفريق بين كونه في مسألة قطعية أو ظنية(2).
__________
(1) - انظر: "مجموع الفتاوى" (19/207 - 212، و6/56 - 61)، ففي هذا الموضع ذكر ابن تيمية تفصيلاً لهذا التقسيم. وللاستزادة في قضية تقسيم الدين إلى أصول وفروع ينظر بالإضافة إلى ما سبق: "مختصر الصواعق المرسلة" (489 - 495)، و"حقيقة البدعة وأحكامها" (2/60) وما بعدها، و(2/309 - 314)، و"منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد" (1/246 - 249).
(2) - انظر: "مجموع الفتاوى" (19/210، 211).(1/311)
وقال أستاذنا الزحيلي – حفظه الله- :" اتفق الأصوليون على أن الناظر في القضايا العقلية المحضة(1)والمسائل الأصولية(2): يجب أن يهتدي إلى الحق والصواب فيها، لأن الحق فيها واحد، لا يتعدد، والمصيب فيها واحد بعينه، وإلا اجتمع النقيضان. فمن أصاب الحق فقد أصاب، ومن أخطأ فهو آثم، ونوع الإثم يختلف: فإن كان الخطأ فيما يرجع إلى الإيمان بالله ورسوله فالمخطئ كافر، وإلا فهو مبتدع فاسق، لأنه عدل عن الحق، وضل، كالقول بعدم رؤية الله تعالى، وخلق القرآن(3)،فقال الأشعري والغزالي والقاضي الباقلاني: لا حكم لله قبل اجتهاد المجتهد، وحكم الله ما أدى إليه اجتهاد المجتهد، فالحكم يتبع الظن، وما غلب على ظن المجتهد هو حكم الله، أي أن كل مجتهد مصيب، لأنه أدى ما كلف به.
__________
(1) - القضايا العقلية: هي التي يصح للناظر درك حقيقتها بنظر العقل قبل ورود الشرع كإثبات الإله الصانع وصفاته وبعثة الرسل وتصديقهم بالمعجزات، وحدوث العالم، وجواز رؤية الله تعالى، وخلق القرآن والأعمال، وخروج الموحدين من النار.
(2) - المسائل الأصولية: مثل كون الإجماع والقياس وخبر الواحد حجة، لأن أدلتها قطعية، فيعتبر المخالف فيها آثماً مخطئاً.
(3) - المستصفى: 105/2، الإحكام للآمدي: 146/3، شرح المحلي على جمع الجوامع: 318/2، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب: 293/2، مسلم الثبوت: 328/2، كشف الأسرار: 1137/4، شرح التلويح على التوضيح - (ج 2 / ص 246) ، الملل والنحل: 201/1، إرشاد الفحول: ص228.(1/312)
وقال جمهور العلماء والشيعة: إن لله في كل واقعة حكماً معيناً قبل الاجتهاد، فمن صادفه فهو المصيب، ومن لم يصادفه كان مخطئاً. فالمصيب واحد، له أجران، والمخطئ غيره وله أجر واحد(1)
ثم اختلف هؤلاء، فقالت طائفة من الفقهاء والمتكلمين: هذا الحكم لا دليل ولا أمارة عليه، بل هو كدفين يعثر عليه الطالب مصادفة. وهو رأي غير معقول لا معنى له، إذ كيف يكلف الله العباد بحكم لا دليل عليه؟.
وقال الأكثرون: قد نصب الله على هذا الحكم أمارة ظنية، والمجتهد ليس مكلفاً بإصابة الدليل لخفائه وغموضه، فمن لم يصبه كان معذوراً مأجوراً، وهذا هو القول الصحيح، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ »(2).
- - - - - - - - - - - - - - -
المبحث الرابع
تعقيبٌ على قول المخطِّئة
قلت : ومما يرد على قول من قال بأن المصيب واحد وما سواه مخطئ ، أنه لا يستقيم القول به إلا عندما يكون في المسألة اختلاف تضاد ، فلا يمكن في هذه الحال أن يكون لله تعالى فيها حكمان متناقضان ، ولاسيما إذا استند أحد القولين لدليل ضعيف مرجوح ، أو لدليل ظنه صحيحا ، فتبين لمن بعده أنه غير صحيح ، أو عمل بالقياس ولم يصله النص المرفوع الصحيح ، ولكنه وصل إلى غيره ، و نحو ذلك .
__________
(1) - اللمع للشيرازي: ص 71، المستصفى: 106/2 ومابعدها، الإحكام للآمدي: 148/3 ومابعدها، شرح الإسنوي: 251/3، شرح المحلي على جمع الجوامع: 318/2، شرح العضد على مختصر المنتهى: 293/2، التقرير والتحبير: 306/3، فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت: 376/2 ومابعدها، كشف الأسرار: 1138/4، التلويح على التوضيح:118/2، إرشاد الفحول: ص 230، الملل والنحل للشهرستاني:203/2.
(2) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 111) فما بعد ، والحديث في صحيح البخارى (7352 )(1/313)
وأمَّا المسائل الخلافية التي يعود الخلاف فيها إلى اختلاف التنوع وليس التضاد ، فالصواب أن الجميع مصيب .
أمثلة على اختلاف التنوع :
أولا- كلُّ نصِّ في القرآن أو السنَّة احتمل معنيين فهو من اختلاف التنوع ، لأن المراد به رفع الحرج عن المكلفين:
أمثلة من القرآن الكريم ، كقوله تعالى في القرآن الكريم : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ..} (228) سورة البقرة
فالقروء وردت في اللغة وعن الصحابة أنها تعني ثلاثة أطهار أو ثلاث حيض ، فأي القولين أخذنا به فهو صواب ، وليس فيه خطأ ، وذلك لأن الآية محتملة لهما ، ولم يرد نصٌّ صحيح صريح عن الشارع الحكيم يحدد أي المعنيين مراد(1).
وكقوله تعالى حول اللمس : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (43) سورة النساء
فما هو المقصود باللمس هنا ، أهو الجماع أم هو الملاصقة ؟ يعني هل يعني الحقيقة أم المجاز ؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ لَمْسِ الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ لِنَقْضِ الْوُضُوءِ . فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ لَمْسَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ وَالْمَرْأَةِ الرَّجُل لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَمَسْرُوقٍ(2).
__________
(1) - انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 677)
(2) - الفتاوى الهندية 1 / 13 ، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 187 .(1/314)
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُبَاشَرَةِ الْفَاحِشَةِ وَهُوَ أَنْ يُبَاشِرَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ بِشَهْوَةٍ وَيَنْتَشِرُ لَهَا وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ وَلَمْ يَرَ بَلَلاً ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ حَدَثًا اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لاَ يَكُونَ حَدَثًا وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ ، وَهَل تُشْتَرَطُ مُلاَقَاةُ الْفَرْجَيْنِ وَهِيَ مُمَاسَّتُهُمَا ؟ عَلَى قَوْلِهِمَا لاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَشَرَطَهُ فِي النَّوَادِرِ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ مُلاَقَاةَ الْفَرْجَيْنِ أَيْضًا(1).
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِ الْمُتَوَضِّئِ الْبَالِغِ لِشَخْصٍ يَلْتَذُّ بِهِ عَادَةً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَلَوْ كَانَ الْمَلْمُوسُ غَيْرَ بَالِغٍ سَوَاءٌ أَكَانَ اللَّمْسُ لِزَوْجَتِهِ أَوْ أَجْنَبِيَّةٍ أَوْ مَحْرَمًا أَمْ كَانَ اللَّمْسُ لِظُفُرٍ أَوْ شَعَرٍ أَمْ مِنْ فَوْقِ حَائِلٍ كَثَوْبٍ ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْحَائِل خَفِيفًا يُحِسُّ اللاَّمِسُ مَعَهُ بِطَرَاوَةِ الْبَدَنِ أَمْ كَانَ كَثِيفًا ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ اللَّمْسُ بَيْنَ الرِّجَال أَمْ بَيْنَ النِّسَاءِ ، فَاللَّمْسُ بِلَذَّةٍ نَاقِضٌ .
وَالنَّقْضُ بِاللَّمْسِ مَشْرُوطٌ بِشُرُوطٍ ثَلاَثَةٍ : أَنْ يَكُونَ اللاَّمِسُ بَالِغًا ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَلْمُوسُ مِمَّنْ يُشْتَهَى عَادَةً ، وَأَنْ يَقْصِدَ اللاَّمِسُ اللَّذَّةَ أَوْ يَجِدَهَا .
__________
(1) - بدائع الصنائع 1 / 147 ط . الإمام ، والفتاوى الهندية 1 / 13 ، والمبسوط 1 / 68 .(1/315)
وَلاَ يُنْقَضُ الْوُضُوءُ بِلَذَّةٍ مِنْ نَظَرٍ أَوْ فِكْرٍ ، وَلَوْ حَدَثَ إِنْعَاظٌ مَا لَمْ يُمْذِ بِالْفِعْل ، وَلاَ بِلَمْسِ صَغِيرَةٍ لاَ تُشْتَهَى أَوْ بَهِيمَةٍ أَوْ رَجُلٍ مُلْتَحٍ ، إِذِ الشَّأْنُ عَدَمُ التَّلَذُّذِ بِهِ عَادَةً إِذَا كَمَلَتْ لِحْيَتُهُ(1).
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا الْتَقَتْ بَشَرَتَا رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ تُشْتَهَى ، انْتَقَضَ وُضُوءُ اللاَّمِسِ مِنْهُمَا ، سَوَاءٌ كَانَ اللاَّمِسُ الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةَ ، وَسَوَاءٌ كَانَ اللَّمْسُ بِشَهْوَةٍ أَمْ لاَ ، تَعْقُبُهُ لَذَّةٌ أَمْ لاَ ، وَسَوَاءٌ قَصَدَ ذَلِكَ أَمْ حَصَل سَهْوًا أَوِ اتِّفَاقًا ، وَسَوَاءٌ اسْتَدَامَ اللَّمْسَ أَمْ فَارَقَ بِمُجَرَّدِ الْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ ، وَسَوَاءٌ لَمَسَ بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ أَوْ بِغَيْرِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَلْمُوسُ أَوِ الْمَلْمُوسُ بِهِ صَحِيحًا أَوْ أَشَل ، زَائِدًا أَوْ أَصْلِيًّا ، فَكُل ذَلِكَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ، وَهَل يَنْقُضُ وُضُوءَ الْمَلْمُوسِ ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ مَشْهُورَانِ ، وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمْ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ مَبْنِيَّانِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ ، فَمَنْ قَرَأَ ( لَمَسْتُمْ ) لَمْ يُنْقَضِ الْمَلْمُوسُ لأَِنَّهُ لَمْ يَلْمِسْ ، وَمَنْ قَرَأَ ( لاَمَسْتُمْ ) نَقَضَهُ لأَِنَّهَا مُفَاعَلَةٌ ، وَاخْتُلِفَ فِي الأَْصَحِّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فَصَحَّحَ الرُّويَانِيُّ - وَالشَّاشِيُّ عَدَمَ الاِنْتِقَاضِ ، وَصَحَّحَ الأَْكْثَرُونَ الاِنْتِقَاضَ(2).
__________
(1) - حاشية الدسوقي 1 / 119 .
(2) - المجموع 2 / 26 نشر المكتبة العلمية .(1/316)
وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ لَمْسَ النِّسَاءِ لِشَهْوَةٍ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَلاَ يَنْقُضُهُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ ، وَهَذَا قَوْل عَلْقَمَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَالشَّعْبِيِّ(1).
وَلاَ يَنْقُضُ مَسُّ الرَّجُل الطِّفْلَةَ وَلاَ الْمَرْأَةِ الطِّفْل ، أَيْ مَنْ دُونَ سَبْعٍ(2).
وَلاَ يَخْتَصُّ اللَّمْسُ النَّاقِضُ بِالْيَدِ بَل أَيُّ شَيْءٍ مِنْهُ لاَقَى شَيْئًا مِنْ بَشَرَتِهَا مَعَ الشَّهْوَةِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ عُضْوًا أَصْلِيًّا أَوْ زَائِدًا .
وَلاَ يَنْقُضُ مَسُّ شَعَرِ الْمَرْأَةِ وَلاَ ظُفُرُهَا وَلاَ سِنُّهَا وَلاَ يَنْقُضُ لَمْسُهَا لِشَعَرِهِ وَلاَ سِنِّهِ وَلاَ ظُفُرِهِ(3).
قلت : وربما استدل البعض بحديث عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَقَدْ كَانَ نَبِىُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُنِى إِذَا خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ وَمَا يَتَوَضَّأُ.
وظن أنه نصٌّ في محل النزاع ، فيقال له ما يلي :
أولا- لم يثبت من وجه صحيح سليم من العلل ، وقد ذكره الدارقطني في سننه (495- 521) وذكر جميع طرقه المرفوعة وردها ، وبين عللها جميعاً .
ثانيا- لو صح لما كان فيه حجة ،لأنه يحتمل هل قبَّلها بشهوة أم لا ، وهل النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلنا في هذا الأمر أم لا ؟
__________
(1) - المغني مع الشرح الكبير 1 / 186 - 187 .
(2) - كشاف القناع 1 / 129 .
(3) - المغني مع الشرح الكبير 1 / 190 وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 35 / ص 331)(1/317)
ثالثا- المشهور أنه قد ورد في الصوم ، كما في مسند أحمد (26347) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ حَدَّثَنِى أَبِى قَالَ أَخْبَرْتِنِى عَائِشَةُ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ بَعْضَ نِسَائِهِ وَهُوَ صَائِمٌ.( وهو صحيح على شرطهما)
وفي صحيح البخاري( 1927 ) ومسلم (2635) عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ ، وَهُوَ صَائِمٌ ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لإِرْبِهِ
وفي صحيح مسلم (2635 )عَنِ الأَسْوَدِ قَالَ انْطَلَقْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ إِلَى عَائِشَةَ - رضى الله عنها - فَقُلْنَا لَهَا أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ قَالَتْ نَعَمْ وَلَكِنَّهُ كَانَ أَمْلَكَكُمْ لإِرْبِهِ أَوْ مِنْ أَمْلَكِكُمْ لإِرْبِهِ.
ومن ثم نقول : إن المسالة محتملة لكل ما قاله الفقهاء ، وأي قول منها صواب ، ولا نستطيع تخطئة واحد منهم .
أمثلة من السنَّة، كما في صحيحي البخارى(946) ومسلم (4701 ) عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ :« لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ » . فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِى الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نُصَلِّى حَتَّى نَأْتِيَهَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّى لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ . فَذُكِرَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ .(1/318)
فقد انقسم الصحابة إلى قسمين في فهم هذا الحديث – وهم الذين عاصروا التنزيل- وكلاهما عمل باجتهاده ، فقسم صلاها قبل مغيب الشمس استنادا لفحوى النص ، والقسم الآخر صلاهما بعد وصوله لبني قريظة ، بعد مغيب الشمس استنادا لظاهر النص، ولما ذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - َلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ ، أي أنَ كلا منهما كان اجتهاده صحيحاً ، وصواباً ،بدليل أنه لم ينكر على أي الفريقين .
وقد أثنى - صلى الله عليه وسلم - في مواقف أخرى على أحد الفريقين ، ففي مصنف ابن أبي شيبة (ج 12 / ص 357)(33708) حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عُيُونًا لِمُسَيْلِمَةَ أَخَذُوا رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَتَوْهُ بِهِمَا ، فَقَالَ لأَحَدِهِمَا : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ ؟ قَالَ : فَأَهْوَى إلَى أُذُنَيْهِ ، فَقَالَ : إنِّي أَصَمُّ ، قَالَ : مَا لَكَ إذَا قُلْتُ لَكَ : تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ , قُلْتُ إنِّي أَصَمُ , فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ ، وَقَالَ لِلآخَرِ : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، قَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ : أَتَشَهَّدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ ، قَالَ : نَعَمْ , فَأَرْسَلَهُ , فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ : هَلَكْت ، قَالَ : وَمَا شَأْنُك فَأَخْبَرُوهُ بِقِصَّتِهِ وَقِصَّةِ صَاحِبِهِ ، فَقَالَ : أَمَّا صَاحِبُك فَمَضَى عَلَى إيمَانِهِ , وَأَمَّا أَنْتَ فَأَخَذْتَ بِالرُّخْصَةِ.( وهو صحيح مرسل)
فبين أن الأول أخذ بالعزيمة ، والثاني بالرخصة ، وفرقُ كبير بين المرتبتين.(1/319)
وفي سنن ابن ماجه(234 ) والطيالسي(2365) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : دَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَسْجِدَ وَقَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَقَوْمٌ يَتَذَاكَرُونَ الْفِقْهَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : كِلاَ الْمَجْلِسَيْنِ إِلَى خَيْرٍ ، أَمَّا الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيَسْأَلُونَ رَبَّهُمْ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ ، وَهَؤُلاَءِ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ وَيَتَعَلَّمُونَ ، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا ، وَهَذَا أَفْضَلُ فَقَعَدَ مَعَهُمْ."
وفي مسند البزار(2458)عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِمَجْلِسَيْنِ فِي مَسْجِدِهِ ، وَأَحَدُ الْمَجْلِسَيْنِ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَرْغَبُونَ إِلَيْهِ وَالآخَرُ يَتَعَلَّمُونَ الْفِقْهَ وَيُعَلِّمُونَهُ ، فَقَالَ : كِلا الْمَجْلِسَيْنِ عَلَى خَيْرٍ وَأَحَدُهُمَا أَفْضَلُ مِنْ صَاحِبِهِ ، أَمَّا هَؤُلاءِ فَيَدْعُونَ اللَّهَ وَيَرْغَبُونَ ، إِلَيْهِ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ ، وَأَمَّا هَؤُلاءِ فَيَعْلَمُونَ الْعِلْمَ وَيُعَلِّمُونَ الْجَاهِلَ ، فَهُمْ أَفْضَلُ وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا ثُمَّ جَلَسَ مَعَهُمْ.( وهو حسن لغيره)
فهنا تكلَّم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بحق المجلسين ، وبين الأفضل منهما .
وهكذا كثير من الأوامر والنواهي ، فمن حمل الأمر على الوجوب ، لا ينافي من حمله على الاستحباب، ومن حمل النهي على التحريم لا ينافي من حمله على الكراهة ، ولاسيما إذا لم يكن ثمة دليل قويٌّ يرجِّح أحد الاحتمالين.
مثال على الأمر :(1/320)
ففي صحيح مسلم (4063 ) عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ.(1)وهناك أحاديث كثيرة متعارضة في هذا الموضوع
فقد اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الثَّمَرَة إِذَا بِيعَتْ بَعْد بُدُوّ الصَّلَاح ، وَسَلَّمَهَا الْبَائِع إِلَى الْمُشْتَرِي بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنه وَبَيْنهَا ، ثُمَّ تَلِفَتْ قَبْل أَوَان الْجُذَاذ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّة ، هَلْ تَكُون مِنْ ضَمَان الْبَائِع أَوْ الْمُشْتَرِي ؟
فَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي أَصَحّ قَوْلَيْهِ ، وَأَبُو حَنِيفَة وَاللَّيْث بْن سَعْد وَآخَرُونَ : هِيَ فِي ضَمَان الْمُشْتَرِي ، وَلَا يَجِب وَضْع الْجَائِحَة ، لَكِنْ يُسْتَحَبّ .أي أنهم حملوا الأمر على الاستحباب .
وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم وَطَائِفَة : هِيَ فِي ضَمَان الْبَائِع ، وَيَجِب وَضْع الْجَائِحَة ، واحتجوا بما في صحيح مسلم (4062 )عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إِنْ لَمْ يُثْمِرْهَا اللَّهُ فَبِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ ؟».
وَقَالَ مَالِك : إِنْ كَانَتْ دُون الثُّلُث لَمْ يَجِب وَضْعهَا ، وَإِنْ كَانَت الثُّلُث فَأَكْثَر وَجَبَ وَضْعهَا وَكَانَتْ مِنْ ضَمَان الْبَائِع ، واحتج بالجمع بين الروايات ، وبالقياس.
__________
(1) - الجوائح : جمع الجائحة وهى الآفة التى تهلك الثمار والأموال(1/321)
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِوَضْعِهَا بِقَوْلِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ ، وبما في صحيح مسلم(4058 )عَنْ أَبِى الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلاَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ ». وَلِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبَاقِيَة فِي يَد الْبَائِع مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَلْزَمهُ سَقْيهَا ، فَكَأَنَّهَا تَلِفَتْ قَبْل الْقَبْض فَكَانَتْ مِنْ ضَمَان الْبَائِع .
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَجِب وَضْعهَا بما في صحيح مسلم(4064) عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ ». فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِغُرَمَائِهِ: « خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ ». فَأَمَرَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بِالصَّدَقَةِ عَلَيْهِ ، وَدَفَعَهُ إِلَى غُرَمَائِهِ ؛ فَلَوْ كَانَتْ تُوضَع لَمْ يُفْتَقَر إِلَى ذَلِكَ . وَحَمَلُوا الْأَمْر بِوَضْعِ الْجَوَائِح عَلَى الِاسْتِحْبَاب "(1)
والصواب أن الكلَ مصيبٌ ، لأنه لا يوجد دليل قاطع يفصِّل في هذه المسألة.
مثال على النهي :
__________
(1) - انظر شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 399)(1/322)
ففي صحيح البخارى(1962)عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْوِصَالِ . قَالُوا إِنَّكَ تُوَاصِلُ . قَالَ « إِنِّى لَسْتُ مِثْلَكُمْ ، إِنِّى أُطْعَمُ وَأُسْقَى » .
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْوِصَال فِي الصَّوْمِ :
فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ) إِلَى أَنَّ الْوِصَال فِي الصَّوْمِ مَكْرُوهٌ فِي حَقِّ الأُْمَّةِ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَاصَل فِي رَمَضَانَ ، فَوَاصَل النَّاسُ ، فَنَهَاهُمْ . قِيل لَهُ : أَنْتَ تُوَاصِل ، قَال : إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى ، وَلأَِنَّ النَّهْيَ وَقَعَ رِفْقًا وَرَحْمَةً ؛ وَلِهَذَا وَاصَل رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَوَاصَلُوا بَعْدَهُ(1).
__________
(1) - الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 201 ، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 274 ، وَشَرْح الْخَرَشِيّ وَحَاشِيَة الْعَدَوِيّ 3 / 163 ، وَالشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 213 ، وَالْمَجْمُوعِ شَرْح الْمُهَذَّب 6 / 356 - 359 ، وَدَلِيل الْفَالِحِينَ لِطُرُقِ رِيَاض الصَّالِحِينَ 4 / 586 - 587 ، والقليوبي عَلَى الْمَحَلِّيِّ 2 / 61 ، وَأَسْنَى الْمَطَالِب ، وَحَاشِيَة الرَّمْلِيّ 1 / 419 ، 3 / 101 ، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 434 ، وَكَشَّاف الْقِنَاع ( 2 / 332 ، 2 / 342 ) ، وَمُطَالَب أُولِي النُّهَى 2 / 221 .(1/323)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ الْوِصَال حَرَامٌ عَلَى الأُْمَّةِ - نَفْلاً كَانَ الصَّوْمُ أَوْ فَرْضًا - مُبَاحٌ لَهُ - صلى الله عليه وسلم - ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - " نَهَى عَنِ الْوِصَال(1)أَيْ نَهْيَ تَحْرِيمٍ فِي الأَْصَحِّ".
فحديث النهى عن الوصال ، يحتمل التحريم ، ويحتمل الكراهة ، ولا نستطيع القطع بواحد منهما ، فالصواب أن كلا الاحتمالين صحيح .
مثال آخر : كما في صحيح البخارى(2159 ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ . وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ .
حُكْمُ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي(2):
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ مَعَ صِحَّتِهِ ، وَصَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ(3)وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِالْكَرَاهَةِ ، وَهِيَ لِلتَّحْرِيمِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ . كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ، لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ صَحِيحٌ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ ، كَمَا هُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ .
__________
(1) - انظر الفتح ،الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 43 / ص 161)
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 9 / ص 84)
(3) - حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 4 / 68 ، والدر المختار 4 / 132 ، والهداية بشروحها 6 / 108(1/324)
وَالنَّهْيُ عَنْهُ لاَ يَسْتَلْزِمُ الْفَسَادَ وَالْبُطْلاَنَ ، لأَِنَّهُ لاَ يَرْجِعُ إِلَى ذَاتِ الْبَيْعِ ، لأَِنَّهُ لَمْ يَفْقِدْ رُكْنًا ، وَلاَ إِلَى لاَزِمِهِ ، لأَِنَّهُ لَمْ يَفْقِدْ شَرْطًا ، بَل هُوَ رَاجِعٌ لأَِمْرٍ خَارِجٍ غَيْرِ لاَزِمٍ ، كَالتَّضْيِيقِ وَالإِْيذَاءِ(1).
قَال الْمَحَلِّيُّ : وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ : فَيَأْثَمُ بِارْتِكَابِهِ الْعَالِمُ بِهِ ، وَيَصِحُّ الْبَيْعُ(2).
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَلاَ كَرَاهَةَ فِيهِ ، وَأَنَّ النَّهْيَ اخْتُصَّ بِأَوَّل الإِْسْلاَمِ لِمَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنَ الضِّيقِ ، قَال أَحْمَدُ : كَانَ ذَلِكَ مَرَّةً(3).
مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَهُمْ ، أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ حَرَامٌ ، وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا وَفَاسِدٌ ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْخِرَقِيُّ ، لأَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ(4)
وَكَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْبُهُوتِيُّ بِقَوْلِهِ : فَيَحْرُمُ ، وَلاَ يَصِحُّ لِبَقَاءِ النَّهْيِ عَنْهُ(5).
وَقَال أَحْمَدُ لَمَّا سُئِل عَنْ هَذَا الْبَيْعِ : أَكْرَهُ ذَلِكَ ، وَأَرُدُّ الْبَيْعَ فِي ذَلِكَ(6)" .
فهنا نلاحظ اختلافهم حول هذه القاعدة : هل النهي يقتضي الفساد والبطلان أم لا ؟ فلا نستطيع الجزم بواحد منهما ؛لأن الأدلة محتملة ، فالكلُّ – فيما أرى- صوابٌ .
__________
(1) - شرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي عليه 2 / 182 وقارن بالمغني 4 / 280
(2) - المرجع السابق
(3) - المغني 4 / 280 ، والإنصاف 4 / 333
(4) - المغني 4 / 280
(5) - كشاف القناع 3 / 18 ، والشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي عليه 3 / 69
(6) - المغني 4 / 280(1/325)
ثانيا- ما وردت فيه روايات صحيحة متعددة مرادة من الشارع، مراعاة لأحوال المكلفين ، لرفع الحرج عنهم ، فيما لو أخذوا بهذا أو ذاك.
أمثلة على ذلك :
الأول- في قراءة القرآن ، ففي صحيح البخارى(2410 )عن عَبْد اللَّهِ قالَ :سَمِعْتُ رَجُلاً قَرَأَ آيَةً سَمِعْتُ مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - خِلاَفَهَا ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ ، فَأَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ » . قَالَ شُعْبَةُ أَظُنُّهُ قَالَ « لاَ تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا » .(1/326)
وفي صحيح البخارى(4992 )عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ الْقَارِىَّ حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِى الصَّلاَةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِى سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ . قَالَ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَقُلْتُ كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ إِنِّى سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَرْسِلْهُ اقْرَأْ يَا هِشَامُ » . فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِى سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ » . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ » . ثُمَّ قَالَ « اقْرَأْ يَا عُمَرُ » . فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِى أَقْرَأَنِى ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ »(1).
__________
(1) - أساور : أواثب وأقاتل - لبب : جمع ثيابه عند صدره ثم جره(1/327)
وفي مسند أحمد (21747) عَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ قَرَأْتُ آيَةً وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ خِلاَفَهَا فَأُتِيتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ أَلَمْ تُقْرِئْنِى آيَةَ كَذَا وَكَذَا قَالَ « بَلَى ». فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَلَمْ تُقْرِئْنِيهَا كَذَا وَكَذَا فَقَالَ « بَلَى كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ مُجْمِلٌ ». قَالَ فَقُلْتُ لَهُ فَضَرَبَ صَدْرِى فَقَالَ « يَا أُبَىُّ بْنَ كَعْبٍ إِنِّى أُقْرِئْتُ الْقُرْآنَ فَقِيلَ لِى عَلَى حَرْفٍ أَوْ عَلَى حَرْفَيْنِ قَالَ فَقَالَ الْمَلَكُ الَّذِى مَعِى عَلَى حَرْفَيْنِ. فَقُلْتُ عَلَى حَرْفَيْنِ،فَقَالَ عَلَى حَرْفَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ. فَقَالَ الْمَلَكُ الَّذِى مَعِى عَلَى ثَلاَثَةٍ. فَقُلْتُ عَلَى ثَلاَثَةٍ حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ لَيْسَ مِنْهَا إِلاَّ شَافٍ كَافٍ إِنْ قُلْتَ غَفُوراً رَحِيماً أَوْ قُلْتَ سَمِيعاً عَلِيماً أَوْ عَلِيماً سَمِيعاً فَاللَّهُ كَذَلِكَ مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ ». ( صحيح)
فهذه القراءات المنوعة كلها صحيحة ، وأي قراءة متواترة قرأنا بها فنحن مصيبون جميعاً بلا ريب.(1/328)
الثاني – أدعية الاستفتاح للصلاة ، فقد وردت روايات صحيحة عديدة ، ففي صحيح مسلم(1848 )عَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ قَالَ « وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ. أَنْتَ رَبِّى وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِى وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِى فَاغْفِرْ لِى ذُنُوبِى جَمِيعًا إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ وَاهْدِنِى لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ لاَ يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّى سَيِّئَهَا لاَ يَصْرِفُ عَنِّى سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِى يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ ». وَإِذَا رَكَعَ قَالَ « اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ خَشَعَ لَكَ سَمْعِى وَبَصَرِى وَمُخِّى وَعَظْمِى وَعَصَبِى ». وَإِذَا رَفَعَ قَالَ « اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَىْءٍ بَعْدُ ». وَإِذَا سَجَدَ قَالَ « اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ سَجَدَ وَجْهِى لِلَّذِى خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ».(1/329)
ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ».
وفي سنن أبى داود(775 )عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ كَبَّرَ ثُمَّ يَقُولُ « سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ ». ثُمَّ يَقُولُ « لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ». ثَلاَثًا ثُمَّ يَقُولُ « اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا ». ثَلاَثًا « أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ ». ثُمَّ يَقْرَأُ. (صحيح)
وفي السنن الكبرى للبيهقي (ج 2 / ص 34)(2445) عَنِ الأَسْوَدِ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ افْتَتَحَ الصَّلاَةَ كَبَّرَ ثُمَّ قَالَ :« سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ ، وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ » ( صحيح) وروي من طرق عنه وعن بعض الصحابة.
وفي مصنف ابن أبي شيبة(ج 1 / ص 231)(2411) عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ افْتَتَحَ الصَّلاَةَ ، قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، ثَلاَثًا ، الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا ، ثَلاَثًا ، سُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ، ثَلاَثًا ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرجيم ، مِنْ هَمْزِهِ ، وَنَفْخِهِ ، وَنَفْثِهِ.(حسن)(1/330)
وفي مصنف ابن أبي شيبة (ج 1 / ص 232)(2420)عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي الْخَلِيلِ ، عَنْ عَلِيٍّ ، قَالَ : سَمِعْتُهُ حِينَ كَبَّرَ فِي الصَّلاَةِ ، قَالَ : لاَ إلَهَ أَنْتَ سُبْحَانَك ، إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي ، إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ.(حسن)
وفي السنن الكبرى للبيهقي (ج 2 / ص 35)(2446) عن بِشْرَ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِى حَمْزَةَ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلاَةَ قَالَ :« سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ تَبَارَكَ اسْمُكَ ، وَتَعَالَى جَدُّكَ ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ ، وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، إِنَّ صَلاَتِىَ وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لاَ شَرِيكَ لَهُ ».(حسن)
فأي رواية أخذنا بها فهو صحيح وصواب ، ولا حرج في ذلك .
الثالث- صلاة المسبوق، ففي مصنف ابن أبي شيبة(ج 2 / ص 490)(8569) عَنْ إبْرَاهِيمَ ، قَالَ : أَدْرَكَ مَسْرُوقٌ وَجُنْدُبٌ رَكْعَةً مِنَ الْمَغْرِبِ ، فَلَمَّا سَلَّمَ الإِمَام قَامَ مَسْرُوقٌ فَأَضَافَ إلَيْهَا رَكْعَةً ، ثُمَّ جَلَسَ وَقَامَ جُنْدُبٌ فِيهَما جَمِيعًا ، ثُمَّ جَلَسَ فِي آخِرِهَا فَذَكَرَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللهِ ، فَقَالَ : كِلاَهُمَا قَدْ أَحْسَنَ وَأَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ مَسْرُوقٌ أَحَبُّ إلَيَّ.( صحيح)(1/331)
وفيه (8570) عَنْ إبْرَاهِيمَ : أَنَّ جُنْدُبًا وَمَسْرُوقًا خَرَجَا يُرِيدَانِ صَلاَةَ الْمَغْرِبِ فَأَدْرَكَا مَعَ الإِمَامِ رَكْعَةً ، فَلَمَّا سَلَّمَ الإِمَام جَلَسَ مَسْرُوقٌ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ ، وَلَمْ يَجْلِسْ جُنْدُبٌ ، قَالَ وَقَرَأَ جُنْدُبٌ فِي الرَّكْعَةِ الَّتِي أَدْرَكَ وَلَمْ يَقْرَأْ مَسْرُوقٌ ، فَأَتَيَا ابْنَ مَسْعُودٍ فَذَكَرَا لَهُ مَا صَنَعَا ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ : كِلاَكُمَا قَدْ أَحْسَنَ وَأَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ مَسْرُوقٌ.(صحيح)
الرابع- في التشهد، فقد وردت صيغ عديدة له أشهرها عن ابن مسعود وابن عباس وعائشة وعمر ، وجابر وغيرهم والكلُّ صحيحٌ ، فيمكن الأخذ بأيِّ تشهدٍ منها ، وكلُّها صواب ، فهذا وأمثاله من اختلاف التنوع ، فكلُّ ما دخل تحت هذا الباب فلا يقال فيه صواب وخطأ ، بل الكلُّ المصيبٌ ، والتنوعُ مرادٌ .والله أعلم.
- - - - - - - - - - - - - -
المبحث الخامس
أقوال المجتهدين وهل الحق في واحد أو كل مجتهد مصيب(1)
__________
(1) - الفقيه والمتفقه - (ج 2 / ص 114) - باب الكلام في أقوال المجتهدين وهل الحق في واحد أو كل مجتهد مصيب (733- 739)(1/332)
قال الخطيب البغدادي : " إِذَا اخْتَلَفَ الْمُجْتَهِدُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ , فَقَدْ ذُكِرَ عَن أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْحَقُّ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ , وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ , وَذُكِرَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ لَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ , أَحَدُهُمَا : مِثْلُ هَذَا , وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْأَقْوَالِ , وَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ(1), وَقِيلَ : لَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ إِلَّا قَوْلٌ وَاحِدٌ , وَهُوَ أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفِينَ , وَمَا عَدَاهُ خَطَأٌ , إِلَّا أَنَّ الْإِثْمَ مَوْضُوعٌ عَنِ الْمُخْطِئِ فِيهِ.
و قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَعْنِي : ابْنَ الْمُبَارَكِ عَنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - , كُلُّهُ صَوَابٌ ؟ فَقَالَ : " الصَّوَابُ وَاحِدٌ , وَالْخَطَأُ مَوْضُوعٌ عَنِ الْقَوْمِ , أَرْجُو " قُلْتُ : فَمَن أَخَذَ بِقَوْلٍ مِنَ الْأَقَاوِيلِ فَهُوَ أَيْضًا مَوْضُوعٌ عَنهُ , قَالَ : " نَعَمْ , أَرْجُو إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ اخْتَارَ قَوْلًا حَتْمًا , ثُمَّ نَزَلَ بِهِ شَيْءٌ , فَتَحَوَّلَ إِلَى غَيْرِهِ , تَرَخُّصًا لِلشَّيْءِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ " وَحَكَى أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ : أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ , وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ "
__________
(1) - قلت : يعنون به أنه خطأ ، وليس باطلا بالمعنى الشرعي(1/333)
وعَن مَالِكٍ , أَنَّهُ سُئِلَ , فَقِيلَ لَهُ : أَتَرَى لِمَن أَخَذَ بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ ثِقَةٌ , عَن بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَعَةً ؟ قَالَ : " لَا وَاللَّهِ حَتَّى يُصِيبَ الْحَقَّ , وَمَا الْحَقُّ إِلَّا وَاحِدٌ , لَا يَكُونُ الْحَقُّ فِي قَوْلَيْنِ يَخْتَلِفَانِ " (صحيح)
وقَالَ اللَّيْثَ , : " لَا يَكُونُ الْحَقُّ إِلَّا وَاحِدًا , وَلَا يَكُونُ فِي أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ " وَاحْتَجَّ مَن نَصَرَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ , وَأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ : بِأَنَّ الصَّحَابَةَ اجْتَهَدُوا وَاخْتَلَفُوا , وَأَقَرَّ بَعْضُهُمُ بَعْضًا عَلَى قَوْلِهِ , وَسَوَّغَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ , وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ وَمُؤَدَّى اجْتِهَادِهِ , وَسَوَّغُوا لِلْعَامَّةِ أَنْ يُقَلِّدُوا مَن شَاءُوا مِنهُمْ , حَتَّى قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقُ " كَانَ اخْتِلَافُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا نَفَعَ اللَّهُ بِهِ , فَمَا عَمِلْتَ مِنهُ مِن عَمَلٍ لَمْ يَدْخُلْ نَفْسَكَ مِنهُ شَيْءٌ "(حسن)
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : " مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَخْتَلِفُوا ".
وعَن قَتَادَةَ , أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ , كَانَ يَقُولُ : " مَا سَرَّنِي لَوْ أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَخْتَلِفُوا , لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَخْتَلِفُوا لَمْ تَكُنْ رُخْصَةٌ "(1/334)
وعَن عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ , قَالَ : قَالَ لِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : " مَا يَسُرُّنِي بِاخْتِلَافِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - حُمْرُ النَّعَمِ , لَأَنَّا إِنْ أَخَذْنَا بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ أَصَبْنَا , وَإِنْ أَخَذْنَا بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ أَصَبْنَا " (صحيح).(1/335)
قَالُوا : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى إِقْرَارِ الْخَاطِئِ عَلَى خَطَئِهِ , وَالرِّضَا بِالْعَمَلِ بِهِ , وَالْإِذْنِ فِي تَقْلِيدِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَيَّنَ حُكْمًا مِن بَعْضِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ , وَنَصَبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا , وَجَعَلَ إِلَيْهِ طَرِيقًا , وَكَلَّفَ أَهْلَ الْعِلْمِ إِصَابَتَهُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُصِيبُ عَالِمًا بِهِ , قَاطِعًا بِخَطَأِ مَن خَالَفَهُ , وَيَكُونُ الْمُخَالِفُ آثِمًا فَاسِقًا , وَوَجَبَ نَقْضُ حُكْمِهِ إِذَا حَكَمَ بِهِ , وَيَكُونُ بِمَنزِلَةِ مَن خَالَفَ دَلِيلَ مَسَائِلِ الْأُصُولِ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَالصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ , وَبِمَنزِلَةِ مَن خَالَفَ النَّصَّ , وَلَمَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْمُخَالِفَ لَا يُقْطَعُ عَلَى خَطَئِهِ , وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ , وَلَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ إِذَا حُكِمَ بِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ , وَلِأَنَّ الْعَامِيَّ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ نَازِلَةٌ , كَانَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنهَا مَن شَاءَ مِنَ الْعُلَمَاءِ , وَإِنْ كَانُوا مُخْتَلِفَيْنِ فَدَلَّ عَلَى أَنًّ جَمِيعَهُمْ عَلَى الصَّوَابِ، وَاحْتَجَّ مَن قَالَ : إِنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ , وَإِلَيْهِ يُذْهَبُ : بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} (78) سورة الأنبياء ، فَأَخْبَرَ : أَنَّ سُلَيْمَانَ هُوَ الْمُصِيبُ وَحَمِدَهُ عَلَى إِصَابَتِهِ , وَأَثْنَى عَلَى دَاوُدَ فِي اجْتِهَادِهِ , وَلَمْ يَذُمَّهُ عَلَى خَطَئِهِ , وَهَذَا نَصٌّ فِي إِبْطَالِ قَوْلِ مَن قَالَ : إِذَا أَخْطَأَ الْمُجْتَهِدُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَذْمُومًا , وَيَدُلُّ(1/336)
عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَشْهُورُ : إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ , وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ(1), وَقَدْ سُقْنَا هَذَا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ , وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ بَيْنَ الْإِصَابَةِ وَالْخَطَأِ".
- - - - - - - - - - - - - - -
الفصل الثالث
الخلاصة في أحكام الفتوى(2)
المبحث الأول
تّعْرِيفُ الفَتْوَى:
الْفَتْوَى لُغَةً : اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الإِْفْتَاءِ ، وَالْجَمْعُ : الْفَتَاوَى وَالْفَتَاوِي ، يُقَال : أَفْتَيْتُهُ فَتْوَى وَفُتْيَا إِذَا أَجَبْتَهُ عَنْ مَسْأَلَتِهِ ، وَالْفُتْيَا تَبْيِينُ الْمُشْكِل مِنَ الأَْحْكَامِ ، وَتَفَاتَوْا إِلَى فُلاَنٍ : تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ وَارْتَفَعُوا إِلَيْهِ فِي الْفُتْيَا ، وَالتَّفَاتِي : التَّخَاصُمُ ، وَيُقَال : أَفْتَيْتُ فُلاَنًا رُؤْيَا رَآهَا : إِذَا عَبَّرْتَهَا لَهُ(3)وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى حَاكِيًا : { يَا أَيُّهَا الْمَلأَُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ } . (سورة يوسف آية / 43)
وَالاِسْتِفْتَاءُ لُغَةً : طَلَبُ الْجَوَابِ عَنِ الأَْمْرِ الْمُشْكِل ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا } (سورة الكهف آية / 22) وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى مُجَرَّدِ سُؤَالٍ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا } (سورة الصافات آية / 11) ، قَال الْمُفَسِّرُونَ : أَيِ اسْأَلْهُمْ .(4)
__________
(1) - المنتقى من السنن المسندة لابن الجارود (996) صحيح
(2) - انظر الموسوعة الفقهية 32/30-50
(3) - لسان العرب، والقاموس المحيط .
(4) - تفسير القرطبي 15 / 68 وتفسير ابن كثير 4 / 3 ط عيسى الحلبي .(1/337)
وَالْفَتْوَى فِي الاِصْطِلاَحِ : تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَنْ دَلِيلٍ لِمَنْ سَأَل عَنْهُ(1)وَهَذَا يَشْمَل السُّؤَال فِي الْوَقَائِعِ وَغَيْرِهَا .
وَالْمُفْتِي لُغَةً : اسْمُ فَاعِل أَفْتَى ، فَمَنْ أَفْتَى مَرَّةً فَهُوَ مُفْتٍ ، وَلَكِنَّهُ يُحْمَل فِي الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ بِمَعْنًى أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ ، قَال الصَّيْرَفِيُّ : هَذَا الاِسْمُ مَوْضُوعٌ لِمَنْ قَامَ لِلنَّاسِ بِأَمْرِ دِينِهِمْ ، وَعَلِمَ جُمَل عُمُومِ الْقُرْآنِ وَخُصُوصِهِ ، وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ ، وَكَذَلِكَ السُّنَنُ وَالاِسْتِنْبَاطُ ، وَلَمْ يُوضَعْ لِمَنْ عَلِمَ مَسْأَلَةً وَأَدْرَكَ حَقِيقَتَهَا ، فَمَنْ بَلَغَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ سَمَّوْهُ بِهَذَا الاِسْمِ ، وَمَنِ اسْتَحَقَّهُ أَفْتَى فِيمَا اسْتُفْتِيَ فِيهِ .(2)
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ : الْمُفْتِي مَنْ كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْفِعْل ، وَهَذَا إِنْ قُلْنَا بِعَدَمِ تَجَزُّؤِ الاِجْتِهَادِ(3).
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
المبحث الثاني
الْقَضَاءُ :
الْقَضَاءُ : هُوَ فَصْل الْقَاضِي بَيْنَ الْخُصُومِ ، وَيُقَال لَهُ أَيْضًا : الْحُكْمُ ، وَالْحَاكِمُ : الْقَاضِي .
وَالْقَضَاءُ شَبِيهٌ بِالْفَتْوَى إِلاَّ أَنَّ بَيْنَهُمَا فُرُوقًا : مِنْهَا : أَنَّ الْفَتْوَى إِخْبَارٌ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ، وَالْقَضَاءَ إِنْشَاءٌ لِلْحُكْمِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ .
__________
(1) - شرح المنتهى 33 / 456، مطبعة أنصار السنة بالقاهرة، وصفة الفتوى والمستفتى لابن حمدان ص4 .
(2) - البحر المحيط 6 / 305 .
(3) - البحر المحيط 6 / 306 .(1/338)
وَمِنْهَا : أَنَّ الْفَتْوَى لاَ إِلْزَامَ فِيهَا لِلْمُسْتَفْتِي أَوْ غَيْرِهِ ، بَل لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهَا إِنْ رَآهَا صَوَابًا وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهَا وَيَأْخُذَ بِفَتْوَى مُفْتٍ آخَرَ ، أَمَّا الْحُكْمُ الْقَضَائِيُّ فَهُوَ مُلْزِمٌ ،(1)وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إِذَا دَعَا الآْخَرَ إِلَى فَتَاوَى الْفُقَهَاءِ لَمْ نُجْبِرْهُ ، وَإِنْ دَعَاهُ إِلَى قَاضٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الإِْجَابَةُ ، وَأُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ ، لأَِنَّ الْقَاضِيَ مَنْصُوبٌ لِقَطْعِ الْخُصُومَاتِ وَإِنْهَائِهَا(2).
وَمِنْهَا : مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ عَنْ أَيْمَانِ الْبَزَّازِيَّةِ : أَنَّ الْمُفْتِيَ يُفْتِي بِالدِّيَانَةِ - أَيْ عَلَى بَاطِنِ الأَْمْرِ ، وَيُدَيِّنُ الْمُسْتَفْتِيَ ، وَالْقَاضِيَ يَقْضِي عَلَى الظَّاهِرِ ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ : مِثَالُهُ إِذَا قَال رَجُلٌ لِلْمُفْتِي : قُلْتُ لِزَوْجَتِي : أَنْتِ طَالِقٌ قَاصِدًا الإِْخْبَارَ كَاذِبًا فَإِنَّ الْمُفْتِيَ يُفْتِيهِ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ ، أَمَّا الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالْوُقُوعِ(3)
__________
(1) - إعلام الموقعين 11 / 36، 38، 4 / 264، والإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام للقرافي ص20، حلب مكتبة المطبوعات الإسلامية 1387هـ .
(2) - البحر المحيط للزركشي 6 / 315 الكويت، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية 1990م .
(3) - رد المحتار على الدر المختار 4 / 306 .(1/339)
وَمِنْهَا : مَا قَال ابْنُ الْقَيِّمِ : إِنَّ حُكْمَ الْقَاضِي جُزْئِيٌّ خَاصٌّ لاَ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَلَهُ ، وَفَتْوَى الْمُفْتِي شَرِيعَةٌ عَامَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَفْتِي وَغَيْرِهِ ، فَالْقَاضِي يَقْضِي قَضَاءً مُعَيَّنًا عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ ، وَالْمُفْتِي يُفْتِي حُكْمًا عَامًّا كُلِّيًّا : أَنَّ مَنْ فَعَل كَذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ كَذَا ، وَمَنْ قَال كَذَا لَزِمَهُ كَذَا .(1)
وَمِنْهَا : أَنَّ الْقَضَاءَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِلَفْظٍ مَنْطُوقٍ ، وَتَكُونُ الْفُتْيَا بِالْكِتَابَةِ وَالْفِعْل وَالإِْشَارَةِ .(2)
المبحث الثالث
الاِجْتِهَادُ :
الاِجْتِهَادُ : بَذْل الْفَقِيهِ وُسْعَهُ فِي تَحْصِيل الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الظَّنِّيِّ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإِْفْتَاءِ : أَنَّ الإِْفْتَاءَ : يَكُونُ فِيمَا عُلِمَ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا . أَمَّا الاِجْتِهَادُ فَلاَ يَكُونُ فِي الْقَطْعِيِّ(3)وَأَنَّ الاِجْتِهَادَ يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ تَحْصِيل الْفَقِيهِ الْحُكْمَ فِي نَفْسِهِ ، وَلاَ يَتِمُّ الإِْفْتَاءُ إِلاَّ بِتَبْلِيغِ الْحُكْمِ لِلسَّائِل .
وَالَّذِينَ قَالُوا : إِنَّ الْمُفْتِيَ هُوَ الْمُجْتَهِدُ ، أَرَادُوا بَيَانَ أَنَّ غَيْرَ الْمُجْتَهِدِ لاَ يَكُونُ مُفْتِيًا حَقِيقَةً ، وَأَنَّ الْمُفْتِيَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مُجْتَهِدًا ، وَلَمْ يُرِيدُوا التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الاِجْتِهَادِ وَالإِْفْتَاءِ فِي الْمَفْهُومِ .(4)
المبحث الرابع
__________
(1) - إعلام الموقعين 1 / 38 .
(2) - الفروق للشيخ أحمد بن إدريس القرافي الصنهاجي المالكي 4 / 48، 54 .
(3) - مسلم الثبوت في أصول الفقه 2 / 362 بولاق، والإحكام للقرافي ص195 .
(4) - الورقات للجويني وشرحها لابن قاسم العبادي بهامش إرشاد الفحول ص247 والشوكاني في إرشاد الفحول ص265، وصفة الفتوى لابن حمدان ص13 .(1/340)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ :
الْفَتْوَى فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ، إِذْ لاَ بُدَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يُبَيِّنُ لَهُمْ أَحْكَامَ دِينِهِمْ فِيمَا يَقَعُ لَهُمْ ، وَلاَ يُحْسِنُ ذَلِكَ كُل أَحَدٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَقُومَ بِهِ مَنْ لَدَيْهِ الْقُدْرَةُ .
وَلَمْ تَكُنْ فَرْضَ عَيْنٍ لأَِنَّهَا تَقْتَضِي تَحْصِيل عُلُومٍ جَمَّةٍ ، فَلَوْ كُلِّفَهَا كُل وَاحِدٍ لأََفْضَى إِلَى تَعْطِيل أَعْمَال النَّاسِ وَمَصَالِحِهِمْ ، لاِنْصِرَافِهِمْ إِلَى تَحْصِيل عُلُومٍ بِخُصُوصِهَا ، وَانْصِرَافِهِمْ عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ ، وَمِمَّا يَدُل عَلَى فَرْضِيَّتِهَا قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } (سورة آل عمران / 187) وَقَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ عَلِمَهُ ثُمَّ كَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ ».(1)
قَال الْمَحَلِّيُّ : وَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الْقِيَامُ بِإِقَامَةِ الْحُجَجِ الْعِلْمِيَّةِ ، وَحَل الْمُشْكِلاَتِ فِي الدِّينِ ، وَدَفْعُ الشُّبَهِ ، وَالْقِيَامُ بِعُلُومِ الشَّرْعِ كَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ بِحَيْثُ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ وَالإِْفْتَاءِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِمَا .(2)
وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْبِلاَدِ مُفْتُونَ لِيَعْرِفَهُمُ النَّاسُ ، فَيَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِمْ بِسُؤَالِهِمْ يَسْتَفْتِيهِمُ النَّاسُ ، وَقَدَّرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ فِي كُل مَسَافَةِ قَصْرٍ وَاحِدٌ .(3)
المبحث الخامس
تَعَيُّنُ الْفَتْوَى :
__________
(1) - سنن الترمذى(2861 ) صحيح
(2) - شرح المنهاج للمحلي 4 / 214 .
(3) - شرح المنهاج 4 / 214 .(1/341)
مَنْ سُئِل عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِنَ الْمُتَأَهِّلِينَ لِلْفَتْوَى يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْجَوَابُ ، بِشُرُوطٍ :
الأَْوَّل : أَنْ لاَ يُوجَدَ فِي النَّاحِيَةِ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَتَمَكَّنُ مِنَ الإِْجَابَةِ ، فَإِنْ وُجِدَ عَالِمٌ آخَرُ يُمْكِنُهُ الإِْفْتَاءُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَى الأَْوَّل ،(1)بَل لَهُ أَنْ يُحِيل عَلَى الثَّانِي ، قَال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى : أَدْرَكْتُ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنَ الأَْنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسْأَل أَحَدُهُمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ ، فَيَرُدُّهَا هَذَا إِلَى هَذَا ، وَهَذَا إِلَى هَذَا ، حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى الأَْوَّل : وَقِيل : إِذَا لَمْ يَحْضُرْ الاِسْتِفْتَاءَ غَيْرُهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ .(2)
الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُول عَالِمًا بِالْحُكْمِ بِالْفِعْل ، أَوْ بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْفِعْل ، وَإِلاَّ لَمْ يَلْزَمْ تَكْلِيفُهُ بِالْجَوَابِ ، لِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي تَحْصِيلِهِ .
الثَّالِثُ : أَنْ لاَ يَمْنَعَ مِنْ وُجُوبِ الْجَوَابِ مَانِعٌ ، كَأَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ عَنْ أَمْرٍ غَيْرِ وَاقِعٍ ، أَوْ عَنْ أَمْرٍ لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلسَّائِل ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ(3).
المبحث السادس
مَنْزِلَةُ الْفَتْوَى :
تَتَبَيَّنُ مَنْزِلَةُ الْفَتْوَى فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ ، مِنْهَا :
__________
(1) - شرح المنتهى 3 / 458، مكتبة المنيرة .
(2) - المجموع للنووي شرح المهذب للشيرازي 1 / 45 القاهرة، المكتبة المنيرية .
(3) - الموافقات 4 / 313 .(1/342)
أ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْتَى عِبَادَهُ ، وَقَال تعالى : {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} (127) سورة النساء ، وَقَال : {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (176) سورة النساء ,
ب - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَوَلَّى هَذَا الْمَنْصِبَ فِي حَيَاتِهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَى رِسَالَتِهِ ، وَقَدْ كَلَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ حَيْثُ قَال : {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (44) سورة النحل. فَالْمُفْتِي خَلِيفَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَدَاءِ وَظِيفَةِ الْبَيَانِ ، وَقَدْ تَوَلَّى هَذِهِ الْخِلاَفَةَ بَعْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَصْحَابُهُ الْكِرَامُ ، ثُمَّ أَهْل الْعِلْمِ بَعْدَهُمْ .(1/343)
ج - أَنَّ مَوْضُوعَ الْفَتْوَى هُوَ بَيَانُ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَتَطْبِيقُهَا عَلَى أَفْعَال النَّاسِ ، فَهِيَ قَوْلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، أَنَّهُ يَقُول لِلْمُسْتَفْتِي : حُقَّ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَل ، أَوْ حَرَامٌ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَل ، وَلِذَا شَبَّهَ الْقَرَافِيُّ الْمُفْتِيَ بِالتُّرْجُمَانِ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَجَعَلَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ بِمَنْزِلَةِ الْوَزِيرِ الْمُوَقِّعِ عَنِ الْمَلِكِ قَال : إِذَا كَانَ مَنْصِبُ التَّوْقِيعِ عَنِ الْمُلُوكِ بِالْمَحَل الَّذِي لاَ يُنْكَرُ فَضْلُهُ ، وَلاَ يُجْهَل قَدْرُهُ ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ السَّنِيَّاتِ ، فَكَيْفَ بِمَنْصِبِ التَّوْقِيعِ عَنْ رَبِّ الأَْرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ(1)، نَقَل النَّوَوِيُّ : الْمُفْتِي مُوَقِّعٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَنُقِل عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ , قَالَ(2): " إِنَّ الْعَالِمَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ , فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ ؟(3).
المبحث السابع
تَهَيُّبُ الإِْفْتَاءِ وَالْجُرْأَةُ عَلَيْهِ :
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى جَعْفَرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ »(4).
__________
(1) - إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم 1 / 10 .
(2) - الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ (1083 )
(3) - مقدمة المجموع 1 / 73 تكملة المطيعي وتحقيقه .
(4) - سنن الدارمى (159) حسن مرسل(1/344)
وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْل عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى تَرَادُّ الصَّحَابَةِ لِلْجَوَابِ عَنِ الْمَسَائِل . وَقَدْ نَقَل النَّوَوِيُّ فِي حَدِيثِهِ عَنْهُمْ رِوَايَةً فِيهَا زِيَادَةُ : مَا مِنْهُمْ مَنْ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ إِلاَّ وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ إِيَّاهُ ، وَلاَ يُسْتَفْتَى عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفُتْيَا وَنُقِل عَنْ سُفْيَانَ وَسَحْنُونٍ : أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا ، فَالَّذِي يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَكُونَ مُتَهَيِّبًا لِلإِْفْتَاءِ ، لاَ يَتَجَرَّأُ عَلَيْهِ إِلاَّ حَيْثُ يَكُونُ الْحُكْمُ جَلِيًّا فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ ، أَوْ يَكُونُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ ، أَمَّا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا تَعَارَضَتْ فِيهِ الأَْقْوَال وَالْوُجُوهُ وَخَفِيَ حُكْمُهُ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَثَبَّتَ وَيَتَرَيَّثَ حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ وَجْهُ الْجَوَابِ ، فَإِنْ لَمْ يَتَّضِحْ لَهُ تَوَقَّفَ .
وَفِيمَا نُقِل عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ يُسْأَل عَنْ خَمْسِينَ مَسْأَلَةً فَلاَ يُجِيبُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا ، وَكَانَ يَقُول : مَنْ أَجَابَ فَيَنْبَغِي قَبْل الْجَوَابِ أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَكَيْفَ خَلاَصُهُ ، ثُمَّ يُجِيبُ ، وَعَنِ الأَْثْرَمِ قَال : سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يُكْثِرُ أَنْ يَقُول : لاَ أَدْرِي(1).
المبحث الثامن
الْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ(2):
__________
(1) - المجموع شرح المهذب 1 / 40، 41 .
(2) - فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 197)(الفتوى بغير علم)(1/345)
الإِْفْتَاءُ بِغَيْرِ عِلْمٍ حَرَامٌ ، لأَِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ ، وَيَتَضَمَّنُ إِضْلاَل النَّاسِ ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (33) سورة الأعراف ، فَقَرَنَهُ بِالْفَوَاحِشِ وَالْبَغْيِ وَالشِّرْكِ ، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا ، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا ، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا ، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا »(1).
__________
(1) - صحيح البخارى(100 )(1/346)
مِنْ أَجْل ذَلِكَ كَثُرَ النَّقْل عَنِ السَّلَفِ إِذَا سُئِل أَحَدُهُمْ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ أَنْ يَقُول لِلسَّائِل : لاَ أَدْرِي . نُقِل ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ ، وَيَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يَسْتَعْمِل ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ وَيُعَوِّدَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ إِنْ فَعَل الْمُسْتَفْتِي بِنَاءً عَلَى الْفَتْوَى أَمْرًا مُحَرَّمًا أَوْ أَدَّى الْعِبَادَةَ الْمَفْرُوضَةَ عَلَى وَجْهٍ فَاسِدٍ ، حَمَل الْمُفْتِي بِغَيْرِ عِلْمٍ إِثْمَهُ ، إنْ لَمْ يَكُنِ الْمُسْتَفْتِي قَصَّرَ فِي الْبَحْثِ عَمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْفُتْيَا ، وَإِلاَّ فَالإِْثْمُ عَلَيْهِمَا(1)، لِقَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ أُفْتِىَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ وَمَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِى غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ ».(2)
ومما يدل لخطورة الإفتاء بغير علم كونه افتراء على الله، وهو مانع للفلاح مسبب للعذاب، قال الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }[النحل:116-117].
__________
(1) - إعلام الموقعين 4 / 173، 174، 217، 218 .
(2) - سنن أبى داود(3659 ) حسن(1/347)
وَلاَ تَقُولُوا عَنْ شَيءٍ هَذَا حَرَامٌ ، وَهَذا حَلاَلٌ ، إِذَا لَمْ يَأْتِكُمْ حِلُّهُ وَتَحْرِيمُهُ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ ، فَالَّذِي يُحَلِّلُ وَيُحَرِّمُ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ ، وَيَدْخُلُ فِي هَذا ابْتِدَاعِ بِدْعَةٍ لَيْسَ لَهَا مُسْتَنَدٌ شَرْعِيٌّ ، أَوْ تَحْلِيلُ شَيءٍ مِمَّا حَرَّمَ اللهُ ، أَوْ تَحْرِيمُ شَيءٍ مِمَّا أَحَلَّهُ اللهُ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِّ وَالهَوَى .
ثُمَّ يَتَوَعَّدُ اللهُ تَعَالَى الذِينَ يَفْتَرُونَ الكَذِبَ عَلَى اللهِ ، وَيَقُولُ عَنْهُمْ : إِنَّهُمْ لاَ يُفْلِحُونَ فِي الدُّنْيَا ، وَلاَ فِي الآخِرَةِ(1).
وقد رغب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حفظ اللسان فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ يَضْمَنْ لِى مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ »(2).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ »(3).
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 4 / ص 609) و أيسر التفاسير لأسعد حومد - (ج 1 / ص 2017)
(2) - صحيح البخارى(6474 ) -:اللحى : عظم الحنك الذى عليه الأسنان
(3) - صحيح البخارى(6018 )(1/348)
وعَنْ بِلاَلَ بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِىَّ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ »(1).
وقال ابن عليش عندما سئل: ( وَمَا قَوْلُكُمْ ) فِي رَجُلَيْنِ فِي قُرَى الرِّيفِ يَدَّعِيَانِ الْعِلْمَ وَيُفْتِيَانِ بِغَيْرِ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ لِكَوْنِهِمَا لَمْ يَطْلُبَا عِلْمًا قَطُّ وَإِنَّمَا يُفْتِيَانِ لِكَوْنِ قَرِيبِهِمَا كَانَ يَعْرِفُ مَسَائِلَ وَمَاتَ فَهَلْ إفْتَاؤُهُمَا بَاطِلٌ وَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ الشَّرْعِيِّ مَنعُهُمَا مِنهُ وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي النَّظَرِ فِي أَحْوَالِهِمَا فَإِنْ رَآهَا كَذَلِكَ أَدَّبَهُمَا وَمَنَعَهُمَا بِالْمُنَادَاةِ عَلَيْهِمَا فِي الْأَسْوَاقِ ؟
__________
(1) - سنن الترمذى(2489 ) وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وانظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 2957) -رقم الفتوى 32711 تفسير القرآن والفتوى بدون علم خطورة وأي خطورة(1/349)
فَأَجَابَ الشَّيْخُ حَسَنٌ الْجِدَّاوِيُّ الْمَالِكِيُّ بِقَوْلِهِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعِلْمُ لَيْسَ بِالْوِرَاثَةِ فَيَحْرُمُ الْإِفْتَاءُ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَعَلَى الْحَاكِمِ الشَّرْعِيِّ مَنعُهُ مِن هَذَا الْمَنصِبِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَجَابَ الشَّيْخُ عُمَرُ الْإِسْقَاطِيُّ الْحَنَفِيُّ بِقَوْلِهِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ الشَّرْعِيِّ مَنعُ الرَّجُلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مِن الْإِفْتَاءِ حَيْثُ لَمْ يَكُونَا أَهْلًا لِذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعَا فَعَلَيْهِ زَجْرُهُمَا بِمَا يَلِيقُ بِحَالِهِمَا، وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إعَانَةُ الْحَاكِمِ الْمَذْكُورِ فِي دَفْعِ هَذِهِ الذَّرِيعَةِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِن فَسَادِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَيُثَابُ عَلَى ذَلِكَ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ يَوْمَ الْعَرْضِ { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (251) سورة البقرة, وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ،وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ عَن هَذَا وَلَكِنْ أَرَدْت زِيَادَةَ الْفَائِدَةِ وَالتَّبَرُّكَ بِآثَارِ الْمُتَأَخِّرِينَ .
لقد كثر المجترئون من طلبة العلم الشرعي وغيرهم على الإفتاء في دين الله سبحانه وتعالى ، ويظنون أن الأمر هين ، وهو عند الله عظيم ، وكثر الخائضون في دين الله بغير علم ، حتى إنك إذا جلست في مجلس وطرحت مسألة شرعية ، ترى كثيراً من الجالسين يدلون برأيهم من غير أن يُطلب منهم ، ويعضهم قد لا يحسن الوضوء .(1/350)
وصار دين الله وشرعه مع الأسف الشديد حمىً مستباحاً لأشباه المتعلمين ، وظن كثيرٌ من طلبة العلم الشرعي ، أنهم بمجرد حصولهم على الشهادة الجامعية الأولى يحقُّ لهم الإفتاء في دين الله ، وما دروا أن شهادة (الجامعية) في الشريعة الإسلامية في زماننا هذا ، تعني محو أمية في العلوم الشرعية فقط ، هذا إذا وزناها بالميزان الصحيح ولا يشذ عن هذا إلا القليل جداً .
وإلى المجترئين على الفتوى في أيامنا هذه ، أسُوق بعض كلام أهل العلم في الفتيا لعل أحدهم يعرف قدره وحده فيقف عنده فلا يتجاوزه .(1/351)
قال العلاّمة ابن القيم في بيان الشروط التي تجب فيمن يبلغ عن الله ورسوله : " ولما كان التبليغ عن الله سبحانه وتعالى يعتمد العلم بما يبلغ والصدق فيه ، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق ، فيكون عالماً بما يبلغ صادقاً فيه ويكون مع ذلك حسن الطريقة ، مرضي السيرة ، عدلاً في أقواله وأفعاله ، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله ، وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ، ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات ، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات ؟ ، فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته ، ويتأهب له أهبته ، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه ، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به ، فإن الله ناصره وهاديه ، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب ، فقال تعالى: ( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ ) سورة النساء /127 ، وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفاً وجلالة إذ يقول في كتابه : ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) سورة النساء /176 ، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه ، وليوقن أنه مسؤول غداً وموقوف بين يدي الله "(1).
ولكن كثيراً من المجترئين على الفتوى لا يفهم هذا الكلام لا من قريب ولا من بعيد ، والمهم عندهم أن يظهروا أمام العامة بمختلف الوسائل ليشار إليهم بالبنان ، فيجيبوا عن كل مسألة توجه لهم ولا يعرفون قول ( لا أدري ) ، لأنهم يعتبرون ذلك عاراً وشناراً
أَوْرَدَها سَعْدٌ وَسَعْدٌ مُشْتَمِلْ ... يا سَعْدُ لا تُروَى بهذاكَ الإبلْ
__________
(1) - إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/11(1/352)
لأن الناس يصفونهم بالجهل إن فعلوا ذلك ، وما دروا أن سلفنا الصالح كانوا يحرصون على قول لا أدري ، كحرص هؤلاء المتعالمين على الإجابة ، وقديماً قال العلماء : " لا أدري نصف العلم " ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، قَالَ : " أَدْرَكْتُ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يُسْأَلُ أَحَدُهُمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَيَرُدُّهَا إِلَى هَذَا ، وَهَذَا إِلَى هَذَا حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى الْأَوَّلِ "(1).
وقال ابن عباس : " إذا أخطأ العالم ( لا أدري ) أصيبت مقاتله "(2).
فلا ينبغي لأحد أن يقتحم حمى الفتوى ولما يتأهل لذلك ، وقد قرر أهل العلم أن من أفتى وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص .
قال ابن القيم : وَكَانَ شَيْخُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – ابن تيمية-شَدِيدَ الْإِنْكَارِ عَلَى هَؤُلَاءِ ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : قَالَ لِي بَعْضُ هَؤُلَاءِ : أَجَعَلْتَ مُحْتَسِبًا عَلَى الْفَتْوَى ؟ فَقُلْتُ لَهُ : يَكُونُ عَلَى الْخَبَّازِينَ وَالطَّبَّاخِينَ مُحْتَسِبٌ وَلَا يَكُونُ عَلَى الْفَتْوَى مُحْتَسِبٌ "؟(3).
وأدعياء العلم هؤلاء اقتحموا هذه العقبة الكؤود ، ولم يستعدوا لها ، فلو سألت أحدهم عن مبادئ وقواعد أصول الفقه ، لما عرفها ، فلو سألته ما العام ؟ وما الخاص ؟ وما المطلق وما المقيد ؟ وما القياس ؟ وما الحديث المرسل ؟ لما أحرى جواباً .
ولو سألته عن أمهات كتب الفقه المعتبرة لما عرفها ، ولو سألته عن آيات الأحكام من كتاب الله وعن أحاديث الأحكام من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لما عرف شيئاً .
__________
(1) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (655 )
(2) - الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي(1107 )
(3) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 5 / ص 79) و انظر الفتوى - د. يوسف القرضاوي ص24(1/353)
?ويزداد الأمر سوءاً عندما نرى هؤلاء الناس المتعالمين يجعلون واقع الناس حاكماً على النصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فترى وتسمع من الفتاوى الغريبة والعجيبة ، فترى من يحلل الربا المحرم في كتاب الله وسنة رسوله ، لأنه ضرورة اقتصادية كما يدعي ، أو لأن ربا الجاهلية لا ينطبق على ربا البنوك الربوية كما يزعم .
وهكذا ترى من هؤلاء العجب العجاب في اتباع الأهواء وإرضاء الأسياد ، ونسوا أو تناسوا قول الله تعالى : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) سورة الجاثية /18 .
وقوله تعالى: ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) سورة المائدة /49 .
فعلى كل من يتصدى للفتوى أن يتق الله سبحانه وتعالى ، وأن يأخذ للأمر عدته ، وليعلم أنه يوقع عن رب العالمين ، ويبلغ عن الرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم - (1).
المبحث التاسع
أَنْوَاعُ مَا يُفْتَى فِيهِ :
يَدْخُل الإِْفْتَاءُ الأَْحْكَامَ الاِعْتِقَادِيَّةَ : مِنَ الإِْيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَسَائِرِ أَرْكَانِ الإِْيمَانِ .
__________
(1) - فتاوى يسألونك - (ج 3 / ص 148) -أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار(1/354)
وَيَدْخُل الأَْحْكَامَ الْعَمَلِيَّةَ جَمِيعَهَا : مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالأَْنْكِحَةِ ، وَيَدْخُل الإِْفْتَاءُ الأَْحْكَامَ التَّكْلِيفِيَّةَ كُلَّهَا ، وَهِيَ الْوَاجِبَاتُ وَالْمُحَرَّمَاتُ وَالْمَنْدُوبَاتُ وَالْمَكْرُوهَاتُ وَالْمُبَاحَاتُ ، وَيَدْخُل الإِْفْتَاءُ فِي الأَْحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ كَالإِْفْتَاءِ بِصِحَّةِ الْعِبَادَةِ أَوِ التَّصَرُّفِ أَوْ بُطْلاَنِهِمَا .(1)
المبحث العاشر
حَقِيقَةُ عَمَل الْمُفْتِي :
لَمَّا كَانَ الإِْفْتَاءُ هُوَ الإِْخْبَارَ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَنْ دَلِيلِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أُمُورًا :
الأَْوَّل : تَحْصِيل الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْمُجَرَّدِ فِي ذِهْنِ الْمُفْتِي ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ مَشَقَّةَ فِي تَحْصِيلِهِ لَمْ يَكُنْ تَحْصِيلُهُ اجْتِهَادًا ، كَمَا لَوْ سَأَلَهُ سَائِلٌ عَنْ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ مَا هِيَ ؟ أَوْ عَنْ حُكْمِ الإِْيمَانِ بِالْقُرْآنِ ؟ وَإِنْ كَانَ الدَّلِيل خَفِيًّا ، كَمَا لَوْ كَانَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرَ وَاضِحَةِ الدَّلاَلَةِ عَلَى الْمُرَادِ ، أَوْ حَدِيثًا نَبَوِيًّا وَارِدًا بِطَرِيقِ الآْحَادِ ، أَوْ غَيْرَ وَاضِحِ الدَّلاَلَةِ عَلَى الْمُرَادِ ، أَوْ كَانَ الْحُكْمُ مِمَّا تَعَارَضَتْ فِيهِ الأَْدِلَّةُ أَوْ لَمْ يَدْخُل تَحْتَ شَيْءٍ مِنَ النُّصُوصِ أَصْلاً ، احْتَاجَ أَخْذُ الْحُكْمِ إِلَى اجْتِهَادٍ فِي صِحَّةِ الدَّلِيل أَوْ ثُبُوتِهِ أَوِ اسْتِنْبَاطِ الْحُكْمِ مِنْهُ أَوِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ .
__________
(1) - الفروق للقرافي 4 / 48، 54 .(1/355)
الثَّانِي : مَعْرِفَةُ الْوَاقِعَةِ الْمَسْئُول عَنْهَا ، بِأَنْ يَذْكُرَهَا الْمُسْتَفْتِي فِي سُؤَالِهِ ، وَعَلَى الْمُفْتِي أَنْ يُحِيطَ بِهَا إِحَاطَةً تَامَّةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَوَابُ ، بِأَنْ يَسْتَفْصِل السَّائِل عَنْهَا ، وَيَسْأَل غَيْرَهُ إِنْ لَزِمَ ، وَيَنْظُرَ فِي الْقَرَائِنِ .(1/356)
الثَّالِثُ : أَنْ يَعْلَمَ انْطِبَاقَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَاقِعَةِ الْمَسْئُول عَنْهَا ، بِأَنْ يَتَحَقَّقَ مِنْ وُجُودِ مَنَاطِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي تَحَصَّل فِي الذِّهْنِ فِي الْوَاقِعَةِ الْمَسْئُول عَنْهَا لِيَنْطَبِقَ عَلَيْهَا الْحُكْمُ ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَنُصَّ عَلَى حُكْمِ كُل جُزْئِيَّةٍ بِخُصُوصِهَا ، وَإِنَّمَا أَتَتْ بِأُمُورٍ كُلِّيَّةٍ وَعِبَارَاتٍ مُطْلَقَةٍ ، تَتَنَاوَل أَعْدَادًا لاَ تَنْحَصِرُ مِنَ الْوَقَائِعِ ، وَلِكُل وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ خُصُوصِيَّةٌ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهَا .(1/357)
وَلَيْسَتِ الأَْوْصَافُ الَّتِي فِي الْوَقَائِعِ مُعْتَبَرَةً فِي الْحُكْمِ كُلُّهَا ، وَلاَ هِيَ طَرْدِيَّةٌ كُلُّهَا ، بَل مِنْهَا مَا يُعْلَمُ اعْتِبَارُهُ ، وَمِنْهَا مَا يُعْلَمُ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ ، وَبَيْنَهُمَا قِسْمٌ ثَالِثٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ ، فَلاَ تَبْقَى صُورَةٌ مِنَ الصُّوَرِ الْوُجُودِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ إِلاَّ وَلِلْمُفْتِي فِيهَا نَظَرٌ سَهْلٌ أَوْ صَعْبٌ ، حَتَّى يُحَقِّقَ تَحْتَ أَيِّ دَلِيلٍ تَدْخُل ؟ وَهَل يُوجَدُ مَنَاطُ الْحُكْمِ فِي الْوَاقِعَةِ أَمْ لاَ ؟ فَإِذَا حَقَّقَ وُجُودَهُ فِيهَا أَجْرَاهُ عَلَيْهَا ، وَهَذَا اجْتِهَادٌ لاَ بُدَّ مِنْهُ لِكُل قَاضٍ وَمُفْتٍ ، وَلَوْ فُرِضَ ارْتِفَاعُ هَذَا الاِجْتِهَادِ لَمْ تَتَنَزَّل الأَْحْكَامُ عَلَى أَفْعَال الْمُكَلَّفِينَ إِلاَّ فِي الذِّهْنِ ، لأَِنَّهَا عُمُومَاتٌ وَمُطْلَقَاتٌ ، مُنَزَّلَةٌ عَلَى أَفْعَالٍ مُطْلَقَةٍ كَذَلِكَ ، وَالأَْفْعَال الَّتِي تَقَعُ فِي الْوُجُودِ لاَ تَقَعُ مُطْلَقَةً ، وَإِنَّمَا تَقَعُ مُعَيَّنَةً مُشَخَّصَةً ، فَلاَ يَكُونُ الْحُكْمُ وَاقِعًا عَلَيْهَا إِلاَّ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِأَنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ يَشْمَلُهُ ذَلِكَ الْمُطْلَقُ أَوْ ذَلِكَ الْعَامُّ ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَهْلاً وَقَدْ لاَ يَكُونُ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ اجْتِهَادٌ .
وَمِثَال هَذَا : أَنْ يَسْأَلَهُ رَجُلٌ هَل يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَبِيهِ ؟(1/358)
فَيَنْظُرَ أَوَّلاً فِي الأَْدِلَّةِ الْوَارِدَةِ ، فَيَعْلَمَ أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الاِبْنِ الْغَنِيِّ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَبِيهِ الْفَقِيرِ ، وَيَتَعَرَّفَ ثَانِيًا حَال كُلٍّ مِنَ الأَْبِ وَالاِبْنِ ، وَمِقْدَارَ مَا يَمْلِكُهُ كُلٌّ مِنْهُمَا ، وَمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ ، وَمَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِيَال ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَظُنُّ أَنَّ لَهُ فِي الْحُكْمِ أَثَرًا ، ثُمَّ يَنْظُرَ فِي حَال كُلٍّ مِنْهُمَا لِيُحَقِّقَ وُجُودَ مَنَاطِ الْحُكْمِ - وَهُوَ الْغِنَى وَالْفَقْرُ - فَإِنَّ الْغِنَى وَالْفَقْرَ اللَّذَيْنِ عَلَّقَ بِهِمَا الشَّارِعُ الْحُكْمَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ ، فَالْغِنَى مَثَلاً لَهُ طَرَفٌ أَعْلَى لاَ إِشْكَال فِي دُخُولِهِ فِي حَدِّ الْغِنَى ، وَلَهُ طَرَفٌ أَدْنَى لاَ إِشْكَال فِي خُرُوجِهِ عَنْهُ ، وَهُنَاكَ وَاسِطَةٌ يَتَرَدَّدُ النَّاظِرُ فِي دُخُولِهَا أَوْ خُرُوجِهَا ، وَكَذَلِكَ الْفَقْرُ لَهُ أَطْرَافٌ ثَلاَثَةٌ - فَيَجْتَهِدُ الْمُفْتِي فِي إِدْخَال الصُّورَةِ الْمَسْئُول عَنْهَا فِي الْحُكْمِ أَوْ إِخْرَاجِهَا بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ .
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الاِجْتِهَادِ لاَ بُدَّ مِنْهُ فِي كُل وَاقِعَةٍ - وَهُوَ الْمُسَمَّى تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ - لأَِنَّ كُل صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ النَّازِلَةِ نَازِلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فِي نَفْسِهَا ، لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا نَظِيرٌ ، وَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّهُ تَقَدَّمَ مِثْلُهَا فَلاَ بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي تَحْقِيقِ كَوْنِهَا مِثْلَهَا أَوْ لاَ ، وَهُوَ نَظَرُ اجْتِهَادٍ .(1)
11 - شُرُوطُ الْمُفْتِي :
__________
(1) - الموافقات للشاطبي 4 / 89، 95 .(1/359)
لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي الْحُرِّيَّةُ وَالذُّكُورِيَّةُ وَالنُّطْقُ اتِّفَاقًا ، فَتَصِحُّ فُتْيَا الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالأَْخْرَسِ وَيُفْتِي بِالْكِتَابَةِ أَوْ بِالإِْشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ ،(1)وَأَمَّا السَّمْعُ ، فَقَدْ قَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ : إِنَّهُ شَرْطٌ فَلاَ تَصِحُّ فُتْيَا الأَْصَمِّ وَهُوَ مَنْ لاَ يَسْمَعُ أَصْلاً ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ : لاَ شَكَّ أَنَّهُ إِذَا كُتِبَ لَهُ السُّؤَال وَأَجَابَ عَنْهُ جَازَ الْعَمَل بِفَتْوَاهُ ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُنَصَّبَ لِلْفَتْوَى ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ كُل أَحَدٍ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ(2)، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الشَّرْطَ غَيْرُهُمْ ، وَكَذَا لَمْ يَذْكُرُوا فِي الشُّرُوطِ الْبَصَرَ ، فَتَصِحُّ فُتْيَا الأَْعْمَى ، وَصَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ .(3)
المبحث الثاني عشر
أَمَّا مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي فَهُوَ أُمُورٌ :
أ - الإِْسْلاَمُ : فَلاَ تَصِحُّ فُتْيَا الْكَافِرِ .
ب - الْعَقْل : فَلاَ تَصِحُّ فُتْيَا الْمَجْنُونِ .
ج - الْبُلُوغُ : فَلاَ تَصِحُّ فُتْيَا الصَّغِيرِ .
المبحث الثالث عشر
د : الْعَدَالَةُ :
فَلاَ تَصِحُّ فُتْيَا الْفَاسِقِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، لأَِنَّ الإِْفْتَاءَ يَتَضَمَّنُ الإِْخْبَارَ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ، وَخَبَرُ الْفَاسِقِ لاَ يُقْبَل ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ إِفْتَاءَ الْفَاسِقِ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ صِدْقَ نَفْسِهِ .(4)
__________
(1) - شرح المنتهى 3 / 457، وإعلام الموقعين 4 / 220، وحاشية ابن عابدين 4 / 302، وصفه الفتوى لابن حمدان ص13، والمجموع 1 / 75 تحقيق المطيعي .
(2) - الدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 302 .
(3) - حديث الدسوقي 4 / 130 .
(4) - صفة الفتوى لابن حمدان ص29، والمجموع 1 / 41 .(1/360)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْفَاسِقَ يَصْلُحُ مُفْتِيًا ، لأَِنَّهُ يَجْتَهِدُ لِئَلاَّ يُنْسَبَ إِلَى الْخَطَأِ(1).
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ : تَصِحُّ فُتْيَا الْفَاسِقِ ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ وَدَاعِيًا إِلَى بِدْعَتِهِ ، وَذَلِكَ إِذَا عَمَّ الْفُسُوقُ وَغَلَبَ ، لِئَلاَّ تَتَعَطَّل الأَْحْكَامُ ، وَالْوَاجِبُ اعْتِبَارُ الأَْصْلَحِ فَالأَْصْلَحِ .(2)
وَأَمَّا الْمُبْتَدِعَةُ ، فَإِنْ كَانَتْ بِدْعَتُهُمْ مُكَفِّرَةً أَوْ مُفَسِّقَةً لَمْ تَصِحَّ فَتَاوَاهُمْ ، وَإِلاَّ صَحَّتْ فِيمَا لاَ يَدْعُونَ فِيهِ إِلَى بِدَعِهِمْ ، قَال الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ : تَجُوزُ فَتَاوَى أَهْل الأَْهْوَاءِ وَمَنْ لاَ نُكَفِّرُهُ بِبِدْعَتِهِ وَلاَ نُفَسِّقُهُ ، وَأَمَّا الشُّرَاةُ وَالرَّافِضَةُ الَّذِينَ يَشْتُمُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَ السَّلَفَ فَإِنَّ فَتَاوِيَهُمْ مَرْذُولَةٌ وَأَقَاوِيلَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ(3).
المبحث الرابع عشر
هـ - الاِجْتِهَادُ:
__________
(1) - مجمع الأنهر 2 / 145 .
(2) - إعلام الموقعين 4 / 220 وشرح المنتهى 3 / 457، وابن عابدين 4 / 301 .
(3) - الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي ص202 القاهرةهرة، نشر زكريا علي يوسف، والمجموع 1 / 42 .(1/361)
وَهُوَ بَذْل الْجَهْدِ فِي اسْتِنْبَاطِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِنَ الأَْدِلَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (33) سورة الأعراف ، وقَالَ الشَّافِعِيُّ : " لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُفْتِي فِي دِينِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلًا عَارِفًا بِكِتَابِ اللَّهِ : بِنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ , وَبِمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ , وَتَأْوِيلِهِ وَتَنْزِيلِهِ , وَمَكِّيِّهِ وَمَدَنِيِّهِ , وَمَا أُرِيدَ بِهِ , وَفِيمَا أُنْزِلَ , ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ بَصِيرًا بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَبِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ , وَيَعْرِفُ مِنَ الْحَدِيثِ مِثْلَ مَا عَرَفَ مِنَ الْقُرْآنِ , وَيَكُونُ بَصِيرًا بِاللُّغَةِ , بَصِيرًا بِالشِّعْرِ , وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ , وَيَسْتَعْمِلُ مَعَ هَذَا الْإِنْصَافَ , وَقِلَّةَ الْكَلَامِ , وَيَكُونُ بَعْدَ هَذَا مُشْرِفًا عَلَى اخْتِلَافِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ , وَيَكُونُ لَهُ قَرِيحَةٌ بَعْدَ هَذَا , فَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا فَلَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَيُفْتِيَ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَكَذَا فَلَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الْعِلْمِ وَلَا يُفْتِي "(1). وَهَذَا مَعْنَى الاِجْتِهَادِ .
وَنَقَل ابْنُ الْقَيِّمِ قَرِيبًا مِنْ هَذَا عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ(2).
__________
(1) - الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ (1044 )
(2) - إعلام الموقعين 1 / 46 .(1/362)
وَمَفْهُومُ هَذَا الشَّرْطِ : أَنَّ فُتْيَا الْعَامِّيِّ وَالْمُقَلِّدِ الَّذِي يُفْتِي بِقَوْل غَيْرِهِ لاَ تَصِحُّ ،
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ : وَفِي فُتْيَا الْمُقَلِّدِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ :
الأَْوَّل : مَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْفُتْيَا بِالتَّقْلِيدِ ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِعِلْمٍ ، وَلأَِنَّ الْمُقَلِّدَ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَالْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ حَرَامٌ ، قَال : وَهَذَا قَوْل جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ وَأَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ .
الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ ، فَأَمَّا أَنْ يَتَقَلَّدَ لِغَيْرِهِ وَيُفْتِيَ بِهِ فَلاَ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ ، قَال : وَهُوَ أَصَحُّ الأَْقْوَال ، وَعَلَيْهِ الْعَمَل(1).
__________
(1) - إعلام الموقعين 1 / 46 .(1/363)
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ ابْنِ الْهُمَامِ : وَقَدِ اسْتَقَرَّ رَأْيُ الأُْصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ هُوَ الْمُجْتَهِدُ ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ مِمَّنْ يَحْفَظُ أَقْوَال الْمُجْتَهِدِ فَلَيْسَ بِمُفْتٍ ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إِذَا سُئِل أَنْ يَذْكُرَ قَوْل الْمُجْتَهِدِ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ ، فَعُرِفَ أَنَّ مَا يَكُونُ فِي زَمَانِنَا مِنْ فَتْوَى الْمَوْجُودِينَ لَيْسَ بِفَتْوَى ، بَل هُوَ نَقْل كَلاَمِ الْمُفْتِي لِيَأْخُذَ بِهِ الْمُسْتَفْتِي . اهـ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَهُ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ وَلاَ يَجْعَلُهُ كَأَنَّهُ مِنْ كَلاَمِهِ هُوَ ،(1)وَمَقْصُودُهُمْ أَنَّ فُتْيَا الْمُقَلِّدِ لَيْسَتْ بِفُتْيَا عَلَى الْحَقِيقَةِ ،(2)وَتُسَمَّى فُتْيَا مَجَازًا لِلشَّبَهِ ، وَيَجُوزُ الأَْخْذُ بِهَا فِي هَذِهِ الأَْزْمَانِ لِقِلَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ أَوِ انْعِدَامِهِمْ ، وَلِذَا قَال صَاحِبُ تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ : الاِجْتِهَادُ شَرْطُ الأَْوْلَوِيَّةِ .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ : مَعْنَاهُ : أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ الْمُجْتَهِدُ فَهُوَ الأَْوْلَى بِالتَّوْلِيَةِ .(3)
__________
(1) - حاشية ابن عابدين 1 / 47، والمجموع 1 / 45 .
(2) - فتاوى ابن الصلاح - (ج 1 / ص 16) ، والمجموع للنووي 1 / 42 .
(3) - ابن عابدين 44 / 305 ، وأيضًا 4 / 306 وانظر إعلام الموقعين 1 / 46، وصفة الفتوى لابن حمدان ص24، وإرشاد الفحول ص296 .(1/364)
وَقَال ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : تَوْقِيفُ الْفُتْيَا عَلَى حُصُول الْمُجْتَهِدِ يُفْضِي إِلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ ، أَوِ اسْتِرْسَال الْخَلْقِ فِي أَهْوَائِهِمْ ، فَالْمُخْتَارُ أَنَّ الرَّاوِيَ عَنِ الأَْئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ إِذَا كَانَ عَدْلاً مُتَمَكِّنًا مِنْ فَهْمِ كَلاَمِ الإِْمَامِ ، ثُمَّ حَكَى لِلْمُقَلِّدِ قَوْلَهُ فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ ، لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْعَامِّيِّ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ عِنْدَهُ ، قَال : وَقَدِ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ فِي زَمَانِنَا عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفُتْيَا .
قَال الزَّرْكَشِيُّ : أَمَّا مَنْ شَدَا ( جَمَعَ ) شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ فَقَدْ نُقِل الإِْجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يُفْتِيَ(1).
المبحث الخامس عشر
وَلَيْسَ لِمَنْ يُفْتِي بِمَذْهَبِ إِمَامٍ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ إِلاَّ وَقَدْ عَرَفَ دَلِيلَهُ وَوَجْهَ الاِسْتِنْبَاطِ .
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ : لاَ يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُفْتِيَ فِي دِينِ اللَّهِ بِمَا هُوَ مُقَلِّدٌ فِيهِ وَلَيْسَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِيهِ سِوَى أَنَّهُ قَوْل مَنْ قَلَّدَهُ ، هَذَا إِجْمَاعُ السَّلَفِ وَبِهِ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا .(2)
__________
(1) - البحر المحيط للزركشي 6 / 306 .
(2) - إعلام الموقعين 44 / 195، 198 و1 / 45، ومثله في رسم المفتي لابن عابدين ص11 .(1/365)
وَقَال الْجُوَيْنِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ : مَنْ حَفِظَ نُصُوصَ الشَّافِعِيِّ وَأَقْوَال النَّاسِ بِأَسْرِهَا غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْرِفُ حَقَائِقَهَا وَمَعَانِيَهَا لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَقِيسَ ، وَلاَ يَكُونُ مِنْ أَهْل الْفَتْوَى ، وَلَوْ أَفْتَى بِهِ لاَ يَجُوزُ ،(1)وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي الْمَذْهَبِ مِنَ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُ التَّرْجِيحِ لاَ يَلْزَمُهُ الأَْخْذُ بِقَوْل الإِْمَامِ عَلَى الإِْطْلاَقِ ، بَل عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي الدَّلِيل وَتَرْجِيحُ مَا رَجَحَ عِنْدَهُ دَلِيلُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَعَلَيْهِ الأَْخْذُ بِأَقْوَال أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ بِتَرْتِيبٍ الْتَزَمُوهُ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مَا شَاءَ(2)وَكَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَخَيَّرَ فِي مَسْأَلَةٍ ذَاتِ قَوْلَيْنِ ، بَل عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ أَيَّهُمَا أَقْرَبَ إِلَى الأَْدِلَّةِ أَوْ قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ فَيَعْمَل بِهِ ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ : صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَنَقَل الإِْجْمَاعَ عَلَيْهِ وَسَبَقَهُ إِلَى حِكَايَةِ الإِْجْمَاعِ فِيهِ ابْنُ الصَّلاَحِ وَالْبَاجِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الصَّوَابَ فِي قَوْل غَيْرِ إِمَامِهِ وَكَانَ لَهُ اجْتِهَادٌ فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ .(3)
__________
(1) - البحر المحيط للزركشي 6 / 307 .
(2) - حاشية ابن عابدين 4 / 302 و1 / 48 .
(3) - شرح المنتهى 22 / 458، وإعلام الموقعين 4 / 237، وعقود رسم المفتي لابن عابدين ص11 والمجموع 1 / 68 .(1/366)
وَلَيْسَ لِلْمُفْتِي الْمُقَلِّدِ أَنْ يُفْتِيَ بِالضَّعِيفِ وَالْمَرْجُوحِ مِنَ الأَْقْوَال عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ، بَل نَقَل الْحَصْكَفِيُّ أَنَّ الْعَمَل بِالْقَوْل الْمَرْجُوحِ جَهْلٌ وَخَرْقٌ لِلإِْجْمَاعِ(1)وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنْ لَيْسَ لِلْمُفْتِي الْمُقَلِّدِ الإِْفْتَاءُ بِالضَّعِيفِ وَالْمَرْجُوحِ حَتَّى فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ أَجَازُوا لَهُ الْعَمَل بِالضَّعِيفِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ .(2)
المبحث السادس عشر
جواز الفتوى بقول الأموات :
وَحَيْثُ قُلْنَا : إِنَّ لِلْمُقَلِّدِ الإِْفْتَاءَ بِقَوْل الْمُجْتَهِدِ ، فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ الْمُقَلِّدُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا ، قَال الشَّافِعِيُّ : الْمَذَاهِبُ لاَ تَمُوتُ بِمَوْتِ أَرْبَابِهَا . وَصَرَّحَ بِذَلِكَ صَاحِبُ الْمَحْصُول ، وَادَّعَى الإِْجْمَاعَ عَلَيْهِ ، لأَِنَّ الْمُجْتَهِدَ الَّذِي يَسْتَنْبِطُ حُكْمًا فَهُوَ عِنْدَهُ حُكْمٌ دَائِمٌ .
وَفِي وَجْهٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ لأَِنَّهُ لَوْ عَاشَ فَإِنَّهُ كَانَ يُجَدِّدُ النَّظَرَ عِنْدَ النَّازِلَةِ إِمَّا وُجُوبًا أَوِ اسْتِحْبَابًا ، وَلَعَلَّهُ لَوْ جَدَّدَ النَّظَرَ لَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ الأَْوَّل .(3)
المبحث السابع عشر
لا تجوز الفتوى بالأقوال المرجوع عنها أو المنسوخة:
__________
(1) - الدر المختار بهامش حاشية ابن عابدين 11 / 51، و2 / 602، والدسوقي على الشرح الكبير 4 / 130، و1 / 20، وإعلام الموقعين 4 / 211، 177 .
(2) - ابن عابدين 1 / 51 وحاشية الدسوقي 4 / 130 .
(3) - إعلام الموقعين لابن القيم 2 / 215، 260، والمجموع للنووي 1 / 55 .(1/367)
وَمَا رَجَعَ عَنْهُ الْمُجْتَهِدُ مِنْ أَقْوَالِهِ فَلاَ يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ الإِْفْتَاءُ بِهِ ، لأَِنَّهُ بِرُجُوعِهِ عَنْهُ لَمْ يُعَدَّ قَوْلاً لَهُ ، وَهَذَا مَا لَمْ يُرَجِّحْهُ أَهْل التَّرْجِيحِ ، وَمِنْ هُنَا تُرِكَ الْقَدِيمُ مِنْ أَقْوَال الشَّافِعِيِّ الَّتِي خَالَفَهَا فِي الْجَدِيدِ ، إِلاَّ مَسَائِل مَعْدُودَةً يُعْمَل فِيهَا بِالْقَدِيمِ رَجَّحَهَا أَهْل التَّرْجِيحِ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ ، قَال الشَّافِعِيُّ : لَيْسَ فِي حِلٍّ مَنْ رَوَى عَنِّي الْقَدِيمَ(1).
المبحث الثامن عشر
و- جَوْدَةُ الْقَرِيحَةِ :
وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَثِيرَ الإِْصَابَةِ ، صَحِيحَ الاِسْتِنْبَاطِ ، فَلاَ تَصْلُحُ فُتْيَا الْغَبِيِّ ، وَلاَ مَنْ كَثُرَ غَلَطُهُ ، بَل يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِطَبْعِهِ شَدِيدَ الْفَهْمِ لِمَقَاصِدِ الْكَلاَمِ وَدَلاَلَةِ الْقَرَائِنِ ، صَادِقَ الْحُكْمِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كَلاَمِ الشَّافِعِيِّ : أَنْ تَكُونَ لَهُ قَرِيحَةٌ ، قَال النَّوَوِيُّ : شَرْطُ الْمُفْتِي كَوْنُهُ فَقِيهَ النَّفْسِ ، سَلِيمَ الذِّهْنِ ، رَصِينَ الْفِكْرِ ، صَحِيحَ النَّظَرِ وَالاِسْتِنْبَاطِ . ا هـ(2).
وَهَذَا يُصَحِّحُ فُتْيَاهُ مِنْ جِهَتَيْنِ :
الأُْولَى : صِحَّةُ أَخْذِهِ لِلْحُكْمِ مِنْ أَدِلَّتِهِ .
وَالثَّانِيَةُ : صِحَّةُ تَطْبِيقِهِ لِلْحُكْمِ عَلَى الْوَاقِعَةِ الْمَسْئُول عَنْهَا ، فَلاَ يَغْفُل عَنْ أَيٍّ مِنَ الأَْوْصَافِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْحُكْمِ ، وَلاَ يَعْتَقِدُ تَأْثِيرَ مَا لاَ أَثَرَ لَهُ .
المبحث التاسع عشر
ز - الْفَطَانَةُ وَالتَّيَقُّظُ :
__________
(1) - البحر المحيط 6 / 304، والمجموع 1 / 66، 68 .
(2) - المجموع شرح المهذب 1 / 41 .(1/368)
يُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي أَنْ يَكُونَ مُتَيَقِّظًا(1)، قَال ابْنُ عَابِدِينَ : شَرَطَ بَعْضُهُمْ تَيَقُّظَ الْمُفْتِي ، قَال : وَهَذَا شَرْطٌ فِي زَمَانِنَا ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي مُتَيَقِّظًا يَعْلَمُ حِيَل النَّاسِ وَدَسَائِسَهُمْ ، فَإِنَّ لِبَعْضِهِمْ مَهَارَةً فِي الْحِيَل وَالتَّزْوِيرِ وَقَلْبِ الْكَلاَمِ وَتَصْوِيرِ الْبَاطِل فِي صُورَةِ الْحَقِّ ، فَغَفْلَةُ الْمُفْتِي يَلْزَمُ مِنْهَا ضَرَرٌ كَبِيرٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ(2)، وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ : يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِمَكْرِ النَّاسِ وَخِدَاعِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ زَاغَ وَأَزَاغَ ، فَالْغِرُّ يَرُوجُ عَلَيْهِ زَغَل الْمَسَائِل كَمَا يَرُوجُ عَلَى الْجَاهِل بِالنَّقْدِ زَغَل الدَّرَاهِمِ ، وَذُو الْبَصِيرَةِ يُخْرِجُ زَيْفَهَا كَمَا يُخْرِجُ النَّاقِدُ زَغَل النُّقُودِ ، وَكَمْ مِنْ بَاطِلٍ يُخْرِجُهُ الرَّجُل بِحُسْنِ لَفْظِهِ وَتَنْمِيقِهِ فِي صُورَةِ حَقٍّ ، بَل هَذَا أَغْلَبُ أَحْوَال النَّاسِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُفْتِي فَقِيهًا فِي مَعْرِفَةِ أَحْوَال النَّاسِ تَصَوَّرَ لَهُ الْمَظْلُومُ فِي صُورَةِ الظَّالِمِ وَعَكْسُهُ(3)، وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا مَا نَبَّهَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي أَنْ يَكُونَ عَلَى عِلْمٍ بِالأَْعْرَافِ اللَّفْظِيَّةِ لِلْمُسْتَفْتِي ، لِئَلاَّ يُفْهَمَ كَلاَمُهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ ، وَهَذَا إِنْ كَانَ إِفْتَاؤُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالأَْلْفَاظِ كَالأَْيْمَانِ وَالإِْقْرَارِ وَنَحْوِهَا .(4)
المبحث العشرون
__________
(1) - المجموع 1 / 41 .
(2) - حاشية ابن عابدين 4 / 301 .
(3) - إعلام الموقعين 4 / 229، 205 .
(4) - المجموع 1 / 46 .(1/369)
الْقَرَابَةُ وَالصَّدَاقَةُ وَالْعَدَاوَةُ لاَ تُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْفَتْوَى كَمَا تُؤَثِّرُ فِي الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ .
فَيَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ أَبَاهُ أَوِ ابْنَهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَوْ شَرِيكَهُ أَوْ يُفْتِيَ عَلَى عَدُوِّهِ ، فَالْفَتْوَى فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الرِّوَايَةِ ، لأَِنَّ الْمُفْتِيَ فِي حُكْمِ الْمُخْبِرِ عَنِ الشَّرْعِ بِأَمْرٍ عَامٍّ لاَ اخْتِصَاصَ لَهُ بِشَخْصٍ ، وَلأَِنَّ الْفَتْوَى لاَ يَرْتَبِطُ بِهَا إِلْزَامٌ ، بِخِلاَفِ حُكْمِ الْقَاضِي .
وَيَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ نَفْسَهُ ، قَال ابْنُ الْقَيِّمِ : لَكِنْ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُحَابِيَ نَفْسَهُ أَوْ قَرِيبَهُ فِي الْفُتْيَا ، بِأَنْ يُرَخِّصَ لِنَفْسِهِ أَوْ قَرِيبِهِ ، وَيُشَدِّدَ عَلَى غَيْرِهِ ، فَإِنْ فَعَل قَدَحَ ذَلِكَ فِي عَدَالَتِهِ ، وَنَقَل أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلاَحِ عَنْ صَاحِبِ الْحَاوِي أَنَّ الْمُفْتِيَ إِذَا نَابَذَ فِي فُتْيَاهُ شَخْصًا مُعَيَّنًا صَارَ خَصْمًا ، فَتُرَدُّ فَتْوَاهُ عَلَى مَنْ عَادَاهُ ، كَمَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ إِذَا وَقَعَتْ .(1)
__________
(1) - حاشية ابن عابدين 4 / 302، والمجموع للنووي 1 / 41، وشرح المنتهى 3 / 472، 473، وإعلام الموقعين 4 / 210 .(1/370)
وَقَدْ نَبَّهَ أَحْمَدُ إِلَى خِصَالٍ مُكَمِّلَةٍ لِلْمُفْتِي حَيْثُ قَال : لاَ يَنْبَغِي لِلرَّجُل أَنْ يَنْصِبَ نَفْسَهُ لِلْفُتْيَا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ : أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نُورٌ ، وَلاَ عَلَى كَلاَمِهِ نُورٌ ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ عِلْمٌ وَحِلْمٌ وَوَقَارٌ وَسَكِينَةٌ ، وَأَنْ يَكُونَ قَوِيًّا عَلَى مَا هُوَ فِيهِ وَعَلَى مَعْرِفَتِهِ ، وَالْكِفَايَةُ وَإِلاَّ مَضَغَهُ النَّاسُ ، وَمَعْرِفَةُ النَّاسِ .(1)
المبحث الواحد والعشرون
إِفْتَاءُ الْقَاضِي :
لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ فِي الْعِبَادَاتِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لاَ مَدْخَل فِيهِ لِلْقَضَاءِ كَالذَّبَائِحِ وَالأَْضَاحِيِّ .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِفْتَائِهِ فِي الأُْمُورِ الَّتِي يَدْخُلُهَا الْقَضَاءُ .
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ إِلَى أَنَّهُ يُفْتِي فِيهَا أَيْضًا بِلاَ كَرَاهَةٍ .
__________
(1) - إعلام الموقعين 4 / 199، 205 .(1/371)
وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ ، لأَِنَّهُ مَوْضِعُ تُهْمَةٍ ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ إِنْ أَفْتَى فِيهَا تَكُونُ فُتْيَاهُ كَالْحُكْمِ عَلَى الْخَصْمِ ، وَلاَ يُمْكِنُ نَقْضُهُ وَقْتَ الْمُحَاكَمَةِ ، وَلأَِنَّهُ قَدْ يَتَغَيَّرُ اجْتِهَادُهُ وَقْتَ الْحُكْمِ ، أَوْ تَظْهَرُ لَهُ قَرَائِنُ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ عِنْدَ الإِْفْتَاءِ ، فَإِنْ حَكَمَ بِخِلاَفِ مَا أَفْتَى بِهِ جَعَل لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ سَبِيلاً لِلتَّشْنِيعِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ قَال شُرَيْحٌ : أَنَا أَقْضِي لَكُمْ وَلاَ أُفْتِي ، وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ : يُكْرَهُ لِلْقَاضِي الإِْفْتَاءُ فِي مَسَائِل الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ .(1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالأَْحْكَامِ وَغَيْرِهَا ، مَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَفْتِي خُصُومَةٌ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ خُصُومَةٌ فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَهُ فِيهَا(2).
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ فِيمَا شَأْنُهُ أَنْ يُخَاصَمَ فِيهِ ، كَالْبَيْعِ وَالشُّفْعَةِ وَالْجِنَايَاتِ .
قَال الْبُرْزُلِيُّ : وَهَذَا إِذَا كَانَ فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَضَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَلَوْ جَاءَهُ السُّؤَال مِنْ خَارِجِ الْبَلَدِ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ فَلاَ كَرَاهَةَ .(3)
__________
(1) - المجموع للنووي 1 / 42، وإعلام الموقعين 4 / 220، وصفة الفتوى لابن حمدان ص29 .
(2) - حاشية ابن عابدين والدر المختار 4 / 302 .
(3) - الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 139 .(1/372)
ثُمَّ إِنْ أَفْتَى الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمًا ، وَيَجُوزُ التَّرَافُعُ إِلَى غَيْرِهِ ، فَلَوْ حَكَمَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ فِي النَّازِلَةِ بِعَيْنِهَا بِخِلاَفِهِ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا لِحُكْمِهِ(1)، وَإِنْ رَدَّ شَهَادَةَ وَاحِدٍ بِرُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ بِعَدَالَتِهِ ، وَلاَ يُقَال : إِنَّهُ حَكَمَ بِكَذِبِهِ أَوْ بِأَنَّهُ لَمْ يَرَ الْهِلاَل ، لأَِنَّ الْقَضَاءَ لاَ يَدْخُل الْعِبَادَاتِ .(2)كَمَا تَقَدَّمَ ( ف 2 ، 9 ) .
المبحث الثاني والعشرون
مَا تَسْتَنِدُ إِلَيْهِ الْفَتْوَى :
الْمُجْتَهِدُ يُفْتِي بِمُقْتَضَى الأَْدِلَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ بِالتَّرْتِيبِ الْمُعْتَبَرِ ، فَيُفْتِي أَوَّلاً بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ بِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ بِالإِْجْمَاعِ ، وَأَمَّا الأَْدِلَّةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا كَالاِسْتِحْسَانِ وَشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا ، فَإِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا أَفْتَى بِهِ ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ الأَْدِلَّةُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَ بِالرَّاجِحِ مِنْهَا .
__________
(1) - إعلام الموقعين 4 / 221، وحاشية الدسوقي 4 / 157، وابن عابدين 4 / 326 .
(2) - شرح المنتهى 3 / 501 .(1/373)
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي السَّعَةِ بِمَذْهَبِ أَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ ، مَا لَمْ يُؤَدِّهِ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا هُوَ الْمَرْجُوحُ فِي نَظَرِهِ ، نَقَل الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ قُدَامَةَ وَالْبَاجِيُّ(1)، وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ - حَيْثُ قُلْنَا : يَجُوزُ إِفْتَاؤُهُ - فَإِنَّهُ يُفْتِي بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنْ أَقْوَال الْمُجْتَهِدِينَ ، وَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْأَل عَنْ أَعْلَمِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ لِيَأْخُذَ بِقَوْلِهِ ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ ، وَلأَِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانَ السَّائِل مِنْهُمْ يَسْأَل مَنْ تَيَسَّرَ لَهُ سُؤَالُهُ مِنَ الْمُفْتِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَقِيل : عَلَيْهِ أَنْ يَبْحَثَ عَنِ الأَْفْضَل لِيَأْخُذَ بِقَوْلِهِ .
أَمَّا مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ اجْتِهَادُ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ ، وَلَيْسَ هُوَ بِالْخِيَارِ يَأْخُذُ مَا شَاءَ وَيَتْرُكُ مَا شَاءَ ، قَال النَّوَوِيُّ : لَيْسَ لِلْمُفْتِي وَالْعَامِل فِي مَسْأَلَةِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَعْمَل بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا بِغَيْرِ نَظَرٍ ، بَل عَلَيْهِ الْعَمَل بِأَرْجَحِهِمَا(2)، وَإِنْ بَنَى الْمُفْتِي فُتْيَاهُ عَلَى حَدِيثٍ نَبَوِيٍّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِصِحَّتِهِ : إِمَّا بِتَصْحِيحِهِ هُوَ إِنْ كَانَ أَهْلاً لِذَلِكَ ، أَوْ يَعْرِفَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْل الشَّأْنِ الْحُكْمَ بِصِحَّتِهِ .
__________
(1) - روضة الناظر 2 / 438، والموافقات 4 / 140، وإرشاد الفحول ص267 .
(2) - المجموع شرح المهذب 1 / 68 .(1/374)
وَإِنْ كَانَ بَنَى فُتْيَاهُ عَلَى قَوْل مُجْتَهِدٍ - حَيْثُ يَجُوزُ ذَلِكَ - فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ مِنْهُ مُشَافَهَةً وَجَبَ أَنْ يَتَوَثَّقَ ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ : طَرِيقَةُ نَقْلِهِ لِذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ سَنَدٌ إِلَى الْمُجْتَهِدِ ، أَوْ يَأْخُذَهُ عَنْ كِتَابٍ مَعْرُوفٍ تَنَاقَلَتْهُ الأَْيْدِي ، نَحْوِ كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَنَحْوِهَا مِنَ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ ، لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ الْمَشْهُورِ ، وَكَذَا لَوْ وَجَدَ الْعُلَمَاءَ يَنْقُلُونَ عَنِ الْكِتَابِ ، وَرَأَى مَا نَقَلُوهُ عَنْهُ مَوْجُودًا فِيهِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ ، كَمَا لَوْ رَأَى عَلَى الْكِتَابِ خَطَّ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ .(1)
وَلْيَحْذَرْ مِنَ الاِعْتِمَادِ عَلَى كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ غَيْرِ الْمُحَرَّرَةِ .(2)
المبحث المبحث الثالث والعشرون
الإِْفْتَاءُ بِالرَّأْيِ
الرَّأْيُ هُوَ : مَا يَرَاهُ الْقَلْبُ بَعْدَ فِكْرٍ وَتَأَمُّلٍ وَطَلَبٍ لِمَعْرِفَةِ وَجْهِ الصَّوَابِ ، مِمَّا تَتَعَارَضُ فِيهِ الأَْمَارَاتُ ، وَلاَ يُقَال لِمَا لاَ تَخْتَلِفُ فِيهِ الأَْمَارَاتُ : إِنَّهُ رَأْيٌ(3)وَالرَّأْيُ يَشْمَل الْقِيَاسَ وَالاِسْتِحْسَانَ وَغَيْرَهُمَا(4)
__________
(1) - حاشية ابن عابدين 4 / 306، وانظر أيضًا المجموع . للنووي 1 / 47 .
(2) - عقود رسم المفتي لابن عابدين ص13 ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين .
(3) - إعلام الموقعين 1 / 66 .
(4) - الإحكام للآمدي 4 / 46 .(1/375)
وَلاَ يَجُوزُ الإِْفْتَاءُ بِالرَّأْيِ الْمُخَالِفِ لِلنَّصِّ أَوِ الإِْجْمَاعِ ، وَلاَ يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَى الرَّأْيِ قَبْل الْعَمَل عَلَى تَحْصِيل النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ ، أَوِ الْقَوْل بِالرَّأْيِ غَيْرِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الْكِتَابِ والسُّنَّة ، بَل بِمُجَرَّدِ الْخَرْصِ وَالتَّخْمِينِ .
وَقَدْ قَال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ « كَيْفَ تَقْضِى ». فَقَالَ أَقْضِى بِمَا فِى كِتَابِ اللَّهِ. قَالَ « فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِى كِتَابِ اللَّهِ ». قَالَ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ « فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ». قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِى،قَالَ « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - »(1).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ لَسْنَا نَقْضِي وَلَسْنَا هُنَالِكَ ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ قَدَّرَ مِنَ الْأَمْرِ أَنْ قَدْ بَلَغْنَا مَا تَرَوْنَ ، " فَمَنْ عَرَضَ لَهُ قَضَاءٌ بَعْدَ الْيَوْمِ ، فَلْيَقْضِ فِيهِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ جَاءَهُ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِنْ جَاءَهُ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَلَمْ يَقْضِ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ ، وَلَا يَقُلْ إِنِّي أَخَافُ ، وَإِنِّي أُرَى ، فَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ ، وَالْحَلَالَ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ ، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ "
__________
(1) - سنن الترمذى(1377 ) حسن ، وقد تلقته الأمة بالقبول(1/376)
وعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ ، قَالَ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، " إِذَا سُئِلَ عَنِ الْأَمْرِ فَكَانَ فِي الْقُرْآنِ ، أَخْبَرَ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقُرْآنِ وَكَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، أَخْبَرَ بِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ، فَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ، قَالَ فِيهِ بِرَأْيِهِ "
وعَنْ شُرَيْحٍ ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَيْهِ : " إِنْ جَاءَكَ شَيْءٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، فَاقْضِ بِهِ وَلَا تَلْفِتْكَ عَنْهُ الرِّجَالُ ، فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَانْظُرْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَاقْضِ بِهَا ، فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَانْظُرْ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَخُذْ بِهِ ، فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ . فَاخْتَرْ أَيَّ الْأَمْرَيْنِ شِئْتَ : إِنْ شِئْتَ أَنْ تَجْتَهِدَ برأْيكَ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَتَقَدَّمْ ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تتأخَّرَ ، فَتَأَخَّرْ ، وَلَا أَرَى التَّأَخُّرَ إِلَّا خَيْرًا لَكَ "(1/377)
وعَنْ حُرَيْثِ بْنِ ظُهَيْرٍ ، قَالَ : أَحْسَبُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : " قَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ وَمَا نُسْأَلُ ، وَمَا نَحْنُ هُنَاكَ ، وَإِنَّ اللَّهِ قَدَّرَ أَنْ بَلَغْتُ مَا تَرَوْنَ . فَإِذَا سُئِلْتُمْ عَنْ شَيْءٍ ، فَانْظُرُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَفِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ، فَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ ، فَاجْتَهِدْ رَأْيَكَ ، وَلَا تَقُلْ : إِنِّي أَخَافُ وَأَخْشَى ، فَإِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ ، وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ ، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ "(1)
__________
(1) - سُنَنُ الدَّارِمِيِّ ( 170- 173)(1/378)
وعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ ، قَالَ : " كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ خَصْمٌ نَظَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ , فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مَا يَقْضِي بِهِ قَضَى بِهِ بَيْنَهُمْ , فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي الْكِتَابِ , نَظَرَ : هَلْ كَانَتْ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ سُنَّةٌ ؟ فَإِنْ عَلَمِهَا قَضَى بِهَا , وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ خَرَجَ فَسَأَلَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ : " أَتَانِي كَذَا وَكَذَا , فَنَظَرْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ , وَفِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَلَمْ أَجِدْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا , فَهَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِي ذَلِكَ بِقَضَاءٍ ؟ " , فَرُبَّمَا قَامَ إِلَيْهِ الرَّهْطُ فَقَالُوا : " نَعَمْ , قَضَى فِيهِ بِكَذَا وَكَذَا " , فَيَأْخُذُ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " .(1/379)
قَالَ جَعْفَرٌ وَحَدَّثَنِي غَيْرُ مَيْمُونٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِينَا مَنْ يَحْفَظُ عَنْ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - " ، وَإِنْ أَعْيَاهُ ذَلِكَ دَعَا رُءُوسَ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَمَاءَهُمْ , فَاسْتَشَارَهُمْ , فَإِذَا اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى الْأَمْرِ قَضَى بِهِ " ، قَالَ جَعْفَرٌ : وَحَدَّثَنِي مَيْمُونٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ , فَإِنْ أَعْيَا أَنْ يَجِدَ فِي الْقُرْآنِ والسُّنَّة , نَظَرَ : هَلْ كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ قَضَاءٌ ؟ فَإِنْ وَجَدَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ قَضَى فِيهِ بِقَضَاءٍ قَضَى بِهِ , وَإِلَّا دَعَا رُءُوسَ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءَهُمْ , فَاسْتَشَارَهُمْ , فَإِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى الْأَمْرِ قَضَى بَيْنَهُمْ "(1/380)
وعَنْ شُرَيْحٍ ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَيْهِ : " إِذَا جَاءَكُمْ أَمْرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاقْضِ بِهِ , وَلَا يَلْفِتَنَّكَ عَنْهُ الرِّجَالُ , فَإِنْ أَتَاكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، فَانْظُرْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَاقْضِ بِهَا ، فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ , وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَانْظُرْ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَخُذْ بِهِ , فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ , وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ , فَاخْتَرْ أِيَّ الْأَمْرَيْنِ شِئْتَ , إِنْ شِئْتَ أَنْ تَجْتَهِدَ بِرَأْيِكَ , ثُمَّ تُقَدِّمَ فَتُقَدِّمَ , وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُأَخِّرَ فَتُأَخِّرَ , وَلَا أَرَى التَّأَخُّرَ إِلَّا خَيْرًا لَكَ " . رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ بِمَعْنَاهُ(1/381)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ , وَرُبَّمَا قَالَ : عَنْ حُرَيْثِ بْنِ ظُهَيْرٍ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَيُّهَا النَّاسُ , قَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ لَسْنَا نَقْضِي , وَلَسْنَا هُنَالِكَ , فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ بَلَّغَنَا مَا تَرَوْنَ , فَمَنْ عَرَضَ لَهُ مِنْكُمْ قَضَاءٌ بَعْدَ الْيَوْمِ , فَلْيَقْضِ فِيهِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَإِنْ أَتَاهُ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , فَلْيَقْضِ فِيهِ بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِنْ أَتَاهُ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَلَمْ يَقْضِ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ ، فَإِنْ أَتَاهُ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَقْضِ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَلَمْ يَقْضِ بِهِ الصَّالِحُونَ , فَلْيَجْتَهِدْ رَأْيَهُ , وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ : إِنِّي أَخَافُ , وَإِنِّي أَرَى " , فَإِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ , وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ , وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ , فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ " .
وعَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ مُخَلَّدٍ ، أَنَّهُ قَامَ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَقَالَ : " يَا ابْنَ عَمِّي ، أُكْرِهْنَا عَلَى الْقَضَاءِ " , فَقَالَ زَيْدٌ : " اقْضِ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ , فَفِي سُنَّةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , فَادْعُ أَهْلَ الرَّأْيِ , ثُمَّ اجْتَهِدْ وَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ , وَلَا حَرَجَ "(1/382)
وعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ بِهِ , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَقَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ بِهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ , وَلَمْ يَقُلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَقَالَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ بِهِ , وَإِلَّا اجْتَهَدَ رَأْيَهُ "(1)
__________
(1) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلْبَيْهقِيِّ ( 18679- 18682)(1/383)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الْجُمَحِيِّ قَالَ : كَانَ رَبِيعَةُ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ جَالِسًا فَجَازَ ابْنُ شِهَابٍ دَاخِلًا مِنْ بَابِ دَارِ مَرْوَانَ بِحِذَاءِ الْمَقْصُورَةِ يُرِيدُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَرَضَ لَهُ رَبِيعَةُ فَلَقِيَهُ فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا بَكْرٍ ، أَلَا تُسَخِّرُ لِهَذِهِ الْمَسَائِلِ قَالَ : " وَمَا أَصْنَعُ بِالْمَسَائِلِ ؟ " فَقَالَ : إِذَا سُئِلْتَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَكَيْفَ تَصْنَعُ ؟ فَقَالَ : " أُحَدِّثُ فِيهَا بِمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَنْ أَصْحَابِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ أَصْحَابِهِ اجْتَهَدْتُ رَأْيِي ، قَالَ : فَمَا تَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ كَذَا وَكَذَا ؟ فَقَالَ : حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَذَا وَكَذَا . قَالَ : فَمَا تَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ كَذَا وَكَذَا ؟ فَقَالَ : حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا .(1/384)
قَالَ : فَمَا تَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ كَذَا ؟ فَقَالَ رَبِيعَةُ : طَلَبْتَ الْعِلْمَ غُلَامًا ثُمَّ سَكَنْتَ بِهِ إِدَامًا " " قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى : " وَإِدَامًا " ضَيْعَةٌ لِابْنِ شِهَابٍ عَلَى نَحْوِ ثَمَانِ لَيَالٍ " مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى طَرِيقِ الشَّامِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : " مَنْ كَانَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ والسُّنَّة وَبِقَوْلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبِمَا اسْتَحْسَنَ فُقَهَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَسِعَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِيمَا ابْتُلِيَ بِهِ وَيَقْضِيَ بِهِ وَيُمْضِيَهُ فِي صَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَحَجِّهِ وَجَمِيعِ مَا أُمِرَ بِهِ وَنُهِيَ عَنْهُ ، فَإِذَا اجْتَهَدَ وَنَظَرَ وَقَاسَ عَلَى مَا أَشْبَهَ وَلَمْ يَأْلُ وَسِعَهُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ وَإِنْ أَخْطَأَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بِهِ " وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " لَا يَقِيسُ إِلَّا مَنْ جَمَعَ آلَاتِ الْقِيَاسِ وَهَى الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَرْضِهِ وَأَدَبِهِ وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَعَامِّهِ وَخَاصِّهِ وإِرْشَادِهِ وَنَدْبِهِ ، وَيَسْتَدِلَّ عَلَى مَا احْتَمَلَ التَّأْوِيلُ مِنْهُ بِسُنَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَبِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ سُنَّةٌ وَلَا إِجْمَاعٌ فَالْقِيَاسُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْقِيَاسُ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْقِيَاسُ عَلَى قَوْلِ عَامَّةِ السَّلَفِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا وَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ أَوْ مِنَ الْقِيَاسِ عَلَيْهَا وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقِيسَ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِمَا مَضَى قَبْلَهُ(1/385)
مِنَ السُّنَنِ ، وَأَقَاوِيلِ السَّلَفِ وَإِجْمَاعِ النَّاسِ وَاخْتِلَافِهِمْ وَلِسَانِ الْعَرَبِ وَيَكُونُ صَحِيحَ الْعَقْلِ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُشْتَبِهِ ، وَلَا يُعَجِّلَ بِالْقَوْلِ وَلَا يَمْتَنِعَ مِنَ الِاسْتِمَاعِ مِمَّنْ خَالَفَهُ لَأَنَّ لَهُ فِي ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى غَفْلَةٍ رُبَّمَا كَانَتْ مِنْهُ أَوْ تَنْبِيهًا عَلَى فَضْلِ مَا اعْتَقَدَ مِنَ الصَّوَابِ وَعَلَيْهِ بُلُوغُ عَامَّةِ جَهْدِهِ ، وَالْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى يَعْرِفَ مِنْ أَيْنَ قَالَ مَا يَقُولُهُ ، قَالَ : فَإِذَا قَاسَ مَنْ لَهُ الْقِيَاسُ وَاخْتَلَفُوا وَسِعَ كُلَّا أَنْ يَقُولَ بِمَبْلَغِ اجْتِهَادِهِ وَلَمْ يَسَعْهُ اتِّبَاعُ غَيْرِهِ فِيمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ، وَالِاخْتِلَافُ عَلَى وَجْهَيْنِ فَمَا كَانَ مَنْصُوصًا لَمْ يَحِلَّ فِيهِ الِاخْتِلَافُ ، وَمَا كَانَ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ أَوْ يُدْرَكُ قِيَاسًا فَذَهَبَ الْمُتَأَوِّلُ أَوِ الْقَايِسُ إِلَى مَعْنًى يُحْتَمَلُ وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ لَمْ أَقُلْ : إِنَّهُ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ ضِيقَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَنْصُوصِ " وَقَالَ أَبُو عُمَرَ : " قَدْ أَتَى الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْبَابِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَشِفَاءٌ وَهَذَا بَابٌ يَتَّسِعُ فِيهِ الْقَوْلُ جِدًّا وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهُ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ وَالْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأُصُولِ عِنْدَ عَدَمِهَا مَا يَطُولُ ذِكْرُهُ وَسَتَرَى مِنْهُ مَا يَكْفِي فِي كِتَابِنَا هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَمِمَّنْ حُفِظَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ وَأَفْتَى مُجْتَهِدًا رَأْيَهُ وَقَايِسًا عَلَى الْأُصُولِ فِيمَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا مِنَ التَّابِعِينَ(1/386)
فَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ ، وَابْنُ شِهَابٍ ، وَأَبُو الزِّنَادِ ، وَرَبِيعَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَأَصْحَابُهُ ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ ، وَمِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ ، وَمُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ ، وَالشَّافِعِيُّ وَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ عَلْقَمَةُ ، وَالْأَسْوَدُ ، وَعُبَيْدَةُ وَشُرَيْحٌ الْقَاضِي ، وَمَسْرُوقٌ ثُمَّ الشَّعْبِيُّ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَسَائِرُ فُقَهَاءِ الْكُوفِيِّينَ ، وَمِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ الْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ وَقَدْ جَاءَ عَنْهُمَا ، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ ذَمُّ الْقِيَاسِ وَمَعْنَاهُ عِنْدَنَا قِيَاسٌ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ لِئَلَّا يَتَنَاقَضَ مَا جَاءَ عَنْهُمْ ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ أَبُو الشَّعْثَاءِ ، وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ ، وَسَوَّارٌ الْقَاضِي ، وَمِنْ أَهْلِ الشَّامِ(1/387)
مَكْحُولٌ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَيَزِيدُ بْنُ جَابِرٍ ، وَمِنْ أَهْلِ مِصْرَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ ثُمَّ سَائِرُ أَصْحَابِ مَالِكٍ : ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَأَشْهَبُ ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : الْمُزَنِيُّ وَالْبُوَيْطِيُّ ، وَحَرْمَلَةُ وَالرَّبِيعُ ، وَمِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو ثَوْرٍ ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ جَاءَ عَنْهُ مَنْصُوصًا إِبَاحَةُ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ عَلَى الْأُصُولِ فِي النَّازِلَةِ تَنْزِلُ ، وَعَلَى ذَلِكَ كَانَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا عِنْدَمَا يَنْزِلُ بِهِمْ وَلَمْ يَزَالُوا عَلَى إِجَازَةِ الْقِيَاسِ حَتَّى حَدَّثَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَيَّارٍ النَّظَّامُ وَقَوْمٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ سَلَكُوا طَرِيقَهُ فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ وَخَالَفُوا مَا مَضَى عَلَيْهِ السَّلَفُ ، وَمِمَّنْ تَابَعَ النَّظَّامَ عَلَى ذَلِكَ جَعْفَرُ بْنُ حَرْبٍ ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُبَشِّرٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْإِسْكَافِيُّ ، وَهَؤُلَاءِ مُعْتَزِلَةٌ أَئِمَّةٌ فِي الِاعْتِزَالِ عِنْدَ مُنْتَحِلِيهِ وَتَابَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى نَفْيِ الْقِيَاسِ فِي الْأَحْكَامِ دَاوُدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ الْأَصْبَهَانِيُّ وَلَكِنَّهُ أَثْبَتَ بِزَعْمِهِ الدَّلِيلَ وَهُوَ نَوْعٌ وَاحِدٌ مِنَ الْقِيَاسِ سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ،(1/388)
وَدَاوُدُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْجَمَاعَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْحُكْمِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ ، وَذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي كِتَابِ الْقِيَاسِ مِنْ كُتُبِهِ فِي الْأُصُولِ ، فَقَالَ : مَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْبَصْرِيِّينَ وَلَا غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَهُ نَبَاهَةٌ سَبَقَ إِبْرَاهِيمَ النَّظَّامَ إِلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَقَدْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ أَبُو الْهُذَيْلِ وَقَمَعَهُ فِيهِ وَرَدَّهُ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ ، قَالَ : وَكَانَ بِشْرُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ شَيْخُ الْبَغْدَادِيِّينَ وَرَئِيسُهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ نُصْرَةً لِلْقِيَاسِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي الْأَحْكَامِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَكَانَ هُوَ وَأَبُو الْهُذَيْلِ كَأَ نَّهُمَا يَنْطِقَانِ فِي ذَلِكَ بِلِسَانٍ وَاحِدٍ "
قَالَ أَبُو عُمَرَ : " بِشْرُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ وَأَبُو الْهُذَيْلِ مِنْ رُؤَسَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ وَأَمَّا بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِّيسِيُّ فَمِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُغْرِقِينَ فِي الْقِيَاسِ النَّاصِرِينَ لَهُ الدَّائِنِينَ بِهِ ، وَلَكِنَّهُ مُبْتَدِعٌ أَيْضًا قَائِلٌ بِالْمَخْلُوقِ ، وَسَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا ذَكَرْتُ لَكَ إِلَّا أَنَّ مِنْهُمَ مَنْ لَا يَرَى الْقَوْلَ بِذَلِكَ إِلَّا عِنْدَ نُزُولِ النَّازِلَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ الْجَوَابَ فِيهَا لِمَنْ يَأْتِي بَعْدُ ، وَهُمْ أَكْثَرُ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ "(1)
__________
(1) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ- بَابُ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ عَلَى الْأُصُولِ عِنْدَ عَدَمِ النُّصُوصِ فِي حِينِ نُزُولِ (1011-1025)(1/389)
المبحث المبحث الرابع والعشرون
الإِْفْتَاءُ بِمَا سَبَقَ لِلْمُفْتِي أَنْ أَفْتَى بِهِ :
إِذَا اسْتُفْتِيَ فِي مِثْل مَا سَبَقَ لَهُ أَنْ أَفْتَى فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَحْضِرًا لِفُتْيَاهُ وَلِدَلِيلِهَا فَلاَ حَاجَةَ إِلَى إِعَادَةِ النَّظَرِ ، لأَِنَّهُ تَحْصِيل حَاصِلٍ ، وَلأَِنَّ الْغَرَضَ مِنَ النَّظَرِ أَنْ تَكُونَ فُتْيَاهُ عَنْ عِلْمٍ بِمَا يُفْتِي بِهِ ، مَا لَمْ يَظُنَّ أَنَّهُ لَوْ أَعَادَ النَّظَرَ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ .
وَإِنْ ذَكَرَ الْفَتْوَى الأُْولَى وَلَمْ يَذْكُرْ دَلِيلَهَا ، وَلاَ طَرَأَ مَا يَجِبُ رُجُوعُهُ ، فَقِيل : لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِذَلِكَ ، وَالأَْصَحُّ : وُجُوبُ تَجْدِيدِ النَّظَرِ .(1)
المبحث الخامس والعشرون
التَّخَيُّرُ فِي الْفَتْوَى عِنْدَ التَّعَارُضِ :
إِذَا تَعَارَضَتِ الأَْدِلَّةُ فِي نَظَرِ الْمُفْتِي الْمُجْتَهِدِ ، أَوْ تَعَارَضَتِ الأَْقْوَال الْمُعْتَبَرَةُ فِي نَظَرِ الْمُقَلِّدِ ، فَقَدْ ذَهَبَ الأَْكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ لَيْسَ مُخَيَّرًا يَأْخُذُ بِمَا شَاءَ وَيَتْرُكُ مَا شَاءَ ، بَل عَلَيْهِ أَنْ يُرَجِّحَ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الأَْدِلَّةِ عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ أُصُول الْفِقْهِ .
المبحث السادس والعشرون
تَتَبُّعُ الْمُفْتِي لِلرُّخَصِ :
__________
(1) - المجموع للنووي 1 / 47 ، وصفة الفتوى لابن حمدان ص39، ومنتهى السول 3 / 71، جمع الجوامع وشرحه 2 / 394، إعلام الموقعين 4 / 232، والبحر المحيط 6 / 302(1/390)
ذَهَبَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ وَصَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُفْتِي تَتَبُّعُ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ ، بِأَنْ يَبْحَثَ عَنِ الأَْسْهَل مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَوِ الْوَجْهَيْنِ وَيُفْتِيَ بِهِ ، وَخَاصَّةً إِنْ كَانَ يُفْتِي بِذَلِكَ مَنْ يُحِبُّهُ مِنْ صَدِيقٍ أَوْ قَرِيبٍ ، وَيُفْتِي بِغَيْرِ ذَلِكَ مَنْ عَدَاهُمْ ، وَقَدْ خَطَّأَ الْعُلَمَاءُ مَنْ يَفْعَل ذَلِكَ ، نَقَلَهُ الشَّاطِبِيُّ عَنِ الْبَاجِيِّ وَالْخَطَّابِيِّ ، وَنَصَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، وَابْنُ الْقَيِّمِ عَلَى فِسْقِ مَنْ يَفْعَل ذَلِكَ ، لأَِنَّ الرَّاجِحَ فِي نَظَرِ الْمُفْتِي هُوَ فِي ظَنِّهِ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى ، فَتَرْكُهُ وَالأَْخْذُ بِغَيْرِهِ لِمُجَرَّدِ الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ اسْتِهَانَةٌ بِالدِّينِ ، شَبِيهٌ بِالاِنْسِلاَخِ مِنْهُ ، وَلأَِنَّهُ شَبِيهٌ بِرَفْعِ التَّكْلِيفِ بِالْكُلِّيَّةِ ، إِذِ الأَْصْل أَنَّ فِي التَّكْلِيفِ نَوْعًا مِنَ الْمَشَقَّةِ ، فَإِنْ أَخَذَ فِي كُل مَسْأَلَةٍ بِالأَْخَفِّ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ أَخَفَّ ، فَإِنَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يُسْقِطَ تَكْلِيفًا - مِنْ غَيْرِ مَا فِيهِ إِجْمَاعٌ – إِلاَّ أَسْقَطَهُ ، فَيُسْقِطُ فِي الزَّكَاةِ مَثَلاً زَكَاةَ مَال الصَّغِيرِ ، وَزَكَاةَ مَال التِّجَارَةِ ، وَزَكَاةَ الْفُلُوسِ وَمَا شَابَهَهَا ، وَزَكَاةَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُعَشَّرَاتِ ، وَيُسْقِطُ تَحْرِيمَ الْمُتْعَةِ ، وَيُجِيزُ النَّبِيذَ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، قَال أَحْمَدُ : لَوْ أَنَّ رَجُلاً عَمِل بِكُل رُخْصَةٍ : بِقَوْل أَهْل الْكُوفَةِ فِي النَّبِيذِ ، وَأَهْل الْمَدِينَةِ فِي السَّمَاعِ ، وَأَهْل مَكَّةَ فِي الْمُتْعَةِ ، كَانَ فَاسِقًا اهـ وَقَال الأَْوْزَاعِيُّ : مَنْ أَخَذَ بِنَوَادِرِ الْعُلَمَاءِ(1/391)
خَرَجَ مِنَ الإِْسْلاَمِ .
وَإِنْ أَفْتَى كُل أَحَدٍ بِمَا يَشْتَهِي انْخَرَمَ قَانُونُ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ ، الَّذِي يَقُومُ عَلَى الْعَدَالَةِ وَالتَّسْوِيَةِ ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى الْفَوْضَى وَالْمَظَالِمِ وَتَضْيِيعِ الْحُقُوقِ بَيْنَ النَّاسِ .
قَال ابْنُ سُرَيْجٍ : سَمِعْتُ إِسْمَاعِيل الْقَاضِيَ قَال : دَخَلْتُ عَلَى الْمُعْتَضِدِ ، فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا نَظَرْتُ فِيهِ وَقَدْ جَمَعَ فِيهِ الرُّخَصَ مِنْ زَلَل الْعُلَمَاءِ ، وَمَا احْتَجَّ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمْ ، فَقُلْتُ : مُؤَلِّفُ هَذَا الْكِتَابِ زِنْدِيقٌ ، فَقَال : لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الأَْحَادِيثُ ؟ قُلْتُ : الأَْحَادِيثُ عَلَى مَا رُوِيَتْ ، وَلَكِنْ مَنْ أَبَاحَ الْمُسْكِرَ لَمْ يُبِحِ الْمُتْعَةَ ، وَمَنْ أَبَاحَ الْمُتْعَةَ لَمْ يُبِحِ الْمُسْكِرَ ، وَمَا مِنْ عَالِمٍ إِلاَّ وَلَهُ زَلَّةٌ ، وَمَنْ جَمَعَ زَلَل الْعُلَمَاءِ ثُمَّ أَخَذَ بِهَا ذَهَبَ دِينُهُ ، فَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِإِحْرَاقِ هَذَا الْكِتَابِ .
عَلَى أَنَّ الذَّاهِبِينَ إِلَى هَذَا الْقَوْل لَمْ يَمْنَعُوا الإِْفْتَاءَ بِمَا فِيهِ تَرْخِيصٌ إِنْ كَانَ لَهُ مُسْتَنَدٌ صَحِيحٌ .(1/392)
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَتَبُّعَ الْمُفْتِي الرُّخَصَ لِمَنْ أَرَادَ نَفْعَهُ : فَإِنْ حَسُنَ قَصْدُ الْمُفْتِي فِي حِيلَةٍ جَائِزَةٍ لاَ شُبْهَةَ فِيهَا ، وَلاَ مَفْسَدَةَ لِتَخْلِيصِ الْمُسْتَفْتِي بِهَا مِنْ حَرَجٍ جَازَ ذَلِكَ ، بَل اسْتُحِبَّ ، وَقَدْ أَرْشَدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنَ الْحِنْثِ : بِأَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ ضِغْثًا فَيَضْرِبَ بِهِ الْمَرْأَةَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً ، قَال : فَأَحْسَنُ الْمَخَارِجِ مَا خَلَّصَ مِنَ الْمَآثِمِ ، وَأَقْبَحُهَا مَا أَوْقَعَ فِي الْمَحَارِمِ .(1)
المبحث السابع والعشرون
إِحَالَةُ الْمُفْتِي عَلَى غَيْرِهِ :
لِلْمُفْتِي أَنْ يُحِيل الْمُسْتَفْتِيَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُفْتِينَ ، إِمَّا بِقَصْدِ أَنْ يَبْرَأَ مِنْ عُهْدَةِ الْفَتْوَى ، وَإِمَّا لِكَوْنِ الآْخَرِ أَعْلَمَ ، وَإِمَّا لِظَرْفٍ يَسْتَدْعِي ذَلِكَ ، وَلاَ تَجُوزُ لَهُ الإِْحَالَةُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُحَال عَلَيْهِ أَهْلاً لِلْفُتْيَا ، سَوَاءٌ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُوَافِقُهُ فِي الرَّأْيِ أَوْ يُخَالِفُهُ ، فَإِنْ أَحَال عَلَى مَنْ لَيْسَ أَهْلاً فَإِنَّهُ يَكُونُ مُعِينًا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ ، قَال أَبُو دَاوُدَ : قُلْتُ لأَِحْمَدَ : الرَّجُل يَسْأَل عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَدُلُّهُ عَلَى إِنْسَانٍ ؟ قَال : إِذَا كَانَ مُتَّبِعًا وَيُفْتِي بِالسُّنَّةِ ، قُلْتُ : إِنَّهُ يُرِيدُ الاِتِّبَاعَ وَلَيْسَ كُل قَوْلِهِ يُصِيبُ ، قَال : وَمَنْ يُصِيبُ فِي كُل شَيْءٍ ؟ .
__________
(1) - الموافقات 4 / 118، وما بعدها 134،140، 155، 259 والبحر المحيط 6 / 324 ، 327، وإرشاد الفحول ص272، وإعلام الموقعين 4 / 222، والمجموع للنووي 1 / 55(1/393)
لَكِنْ لاَ يَحِل أَنْ يَدُل عَلَى مَنْ يُخَالِفُهُ فِي الْقَوْل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةً ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ ، لأَِنَّ اجْتِهَادَهُ لَيْسَ أَوْلَى مِنَ اجْتِهَادِ غَيْرِهِ .
أَمَّا إِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ صَحِيحٌ أَوْ إِجْمَاعٌ ، أَوْ كَانَ الْمُحَال عَلَيْهِ مِمَّنْ يَتَسَاهَل فِي الْفَتْوَى فَلاَ تَجُوزُ الإِْحَالَةُ .(1)
المبحث الثامن والعشرون
تَشْدِيدُ الْمُفْتِي وَتَسَاهُلُهُ :
الشَّرِيعَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ شَرِيعَةٌ تَتَمَيَّزُ بِالْوَسَطِيَّةِ وَالْيُسْرِ ، وَلِذَا فَالَّذِي يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي - وَهُوَ الْمُخْبِرُ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى - أَنْ يَكُونَ كَمَا قَال الشَّاطِبِيُّ : الْمُفْتِي الْبَالِغُ ذُرْوَةَ الدَّرَجَةِ هُوَ الَّذِي يَحْمِل النَّاسَ عَلَى الْوَسَطِ الْمَعْهُودِ فِيمَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ ، فَلاَ يَذْهَبُ بِهِمْ مَذْهَبَ الشِّدَّةِ ، وَلاَ يَمِيل بِهِمْ إِلَى طَرَفِ الاِنْحِلاَل ، وَهَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ ، فَلاَ إِفْرَاطَ وَلاَ تَفْرِيطَ ، وَمَا خَرَجَ عَنِ الْوَسَطِ مَذْمُومٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ ، وقال سَعْدَ بْنَ أَبِى وَقَّاصٍ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاَخْتَصَيْنَا(2).
__________
(1) - إعلام الموقعين 4 / 207 وصفة المفتي لابن حمدان ص82 .
(2) - صحيح البخارى(5073 ) ومسلم (3470 )-التبتل : ترك نكاح النساء للانقطاع لعبادة الله(1/394)
وقَالَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِىَّ:أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ ، فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّى ، فَتَرَكَ نَاضِحَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى مُعَاذٍ ، فَقَرَأَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوِ النِّسَاءِ ، فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ ، وَبَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذًا نَالَ مِنْهُ ، فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَشَكَا إِلَيْهِ مُعَاذًا ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ - أَوْ فَاتِنٌ ثَلاَثَ مِرَارٍ - فَلَوْلاَ صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ، فَإِنَّهُ يُصَلِّى وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ »(1).
وَنَهَاهُمْ عَنِ الْوِصَال ، وَلأَِنَّهُ إِذَا ذَهَبَ بِالْمُسْتَفْتِي مَذْهَبَ الْعَنَتِ وَالْحَرَجِ بَغَّضَ إِلَيْهِ الدِّينَ ، وَإِذَا ذَهَبَ بِهِ مَذْهَبَ الاِنْحِلاَل كَانَ مَظِنَّةً لِلْمَشْيِ مَعَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ .(2)
وَجَاءَ فِي الْمُنْتَهَى وَشَرْحِهِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ : يَحْرُمُ تَسَاهُل مُفْتٍ فِي الإِْفْتَاءِ ، لِئَلاَّ يَقُول عَلَى اللَّهِ مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ ، وَيَحْرُمُ تَقْلِيدُ مُتَسَاهِلٍ فِي الإِْفْتَاءِ لِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِهِ ، وَقَال مِثْل ذَلِكَ النَّوَوِيُّ .
وَبَيَّنَ السَّمْعَانِيُّ وَالنَّوَوِيُّ أَنَّ التَّسَاهُل نَوْعَانِ :
الأَْوَّل : تَتَبُّعُ الرُّخَصِ وَالشُّبَهِ وَالْحِيَل الْمَكْرُوهَةِ وَالْمُحَرَّمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ .
__________
(1) - صحيح البخارى(705 ) ومسلم (1068 )
(2) - الموافقات 4 / 258 .(1/395)
وَالثَّانِي : أَنْ يَتَسَاهَل فِي طَلَبِ الأَْدِلَّةِ وَطُرُقِ الأَْحْكَامِ وَيَأْخُذَ بِمَبَادِئِ النَّظَرِ وَأَوَائِل الْفِكْرِ ، فَهَذَا مُقَصِّرٌ فِي حَقِّ الاِجْتِهَادِ ، فَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يُفْتِيَ كَذَلِكَ مَا لَمْ تَتَقَدَّمْ مَعْرِفَتُهُ بِالْمَسْئُول عَنْهُ .(1)
لَكِنْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ لِلْمُفْتِي أَنْ يَتَشَدَّدَ فِي الْفَتْوَى عَلَى سَبِيل السِّيَاسَةِ لِمَنْ هُوَ مُقْدِمٌ عَلَى الْمَعَاصِي مُتَسَاهِلٌ فِيهَا ، وَأَنْ يَبْحَثَ عَنِ التَّيْسِيرِ وَالتَّسْهِيل عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الأَْدِلَّةُ لِمَنْ هُوَ مُشَدِّدٌ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ ، لِيَكُونَ مَآل الْفَتْوَى أَنْ يَعُودَ الْمُسْتَفْتِي إِلَى الطَّرِيقِ الْوَسَطِ .(2)
المبحث التاسع والعشرون
آدَابُ الْمُفْتِي :
أ - يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يُحْسِنَ زِيَّهُ ، مَعَ التَّقَيُّدِ بِالأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي ذَلِكَ ، فَيُرَاعِيَ الطَّهَارَةَ وَالنَّظَافَةَ ، وَاجْتِنَابَ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَالثِّيَابِ الَّتِي فِيهَا شَيْءٌ مِنْ شِعَارَاتِ الْكُفَّارِ ، وَلَوْ لَبِسَ مِنَ الثِّيَابِ الْعَالِيَةِ لَكَانَ أَدْعَى لِقَبُول قَوْلِهِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (32) سورة الأعراف، وَلأَِنَّ تَأْثِيرَ الْمَظْهَرِ فِي عَامَّةِ النَّاسِ لاَ يُنْكَرُ ، وَهُوَ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَالْقَاضِي(3).
__________
(1) - شرح المنتهى 33 / 457 ، والمجموع 1 / 46 وصفة المفتي لابن حمدان ص31 .
(2) - المجموع 1 / 50، 46 .
(3) - الإحكام للقرافي ص271 ، وشرح المنتهى 3 / 468(1/396)
ب - وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْسِنَ سِيرَتَهُ ، بِتَحَرِّي مُوَافَقَةِ الشَّرِيعَةِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ ، لأَِنَّهُ قُدْوَةٌ لِلنَّاسِ فِيمَا يَقُول وَيَفْعَل ، فَيَحْصُل بِفِعْلِهِ قَدْرٌ عَظِيمٌ مِنَ الْبَيَانِ ، لأَِنَّ الأَْنْظَارَ إِلَيْهِ مَصْرُوفَةٌ ، وَالنُّفُوسَ عَلَى الاِقْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ مَوْقُوفَةٌ(1).
ج - وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُصْلِحَ سَرِيرَتَهُ وَيَسْتَحْضِرَ عِنْدَ الإِْفْتَاءِ النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ مِنْ قَصْدِ الْخِلاَفَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيَانِ الشَّرْعِ ، وَإِحْيَاءِ الْعَمَل بِالْكِتَابِ والسُّنَّة ، وَإِصْلاَحِ أَحْوَال النَّاسِ بِذَلِكَ ، وَيَسْتَعِينَ بِاللَّهِ عَلَى ذَلِكَ ، وَيَسْأَلَهُ التَّوْفِيقَ وَالتَّسْدِيدَ ، وَعَلَيْهِ مُدَافَعَةُ النِّيَّاتِ الْخَبِيثَةِ مِنْ قَصْدِ الْعُلُوِّ فِي الأَْرْضِ وَالإِْعْجَابِ بِمَا يَقُول ، وَخَاصَّةً حَيْثُ يُخْطِئُ غَيْرُهُ وَيُصِيبُ هُوَ ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ سَحْنُونٍ : فِتْنَةُ الْجَوَابِ بِالصَّوَابِ أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَةِ الْمَال .(2)
__________
(1) - تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام - (ج 1 / ص 59)
(2) - صفة الفتوى لابن حمدان ص11 ، وإعلام الموقعين 4 / 172 .(1/397)
د - وَعَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ عَامِلاً بِمَا يُفْتِي بِهِ مِنَ الْخَيْرِ ، مُنْتَهِيًا عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ ، لِيَتَطَابَقَ قَوْلُهُ وَفِعْلُهُ ، فَيَكُونُ فِعْلُهُ مُصَدِّقًا لِقَوْلِهِ مُؤَيِّدًا لَهُ ، فَإِنْ كَانَ بِضِدِّ ذَلِكَ كَانَ فِعْلُهُ مُكَذِّبًا لِقَوْلِهِ ، وَصَادًّا لِلْمُسْتَفْتِي عَنْ قَبُولِهِ وَالاِمْتِثَال لَهُ ، لِمَا فِي الطَّبَائِعِ الْبَشَرِيَّةِ مِنَ التَّأَثُّرِ بِالأَْفْعَال ، وَلاَ يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الإِْفْتَاءُ فِي تِلْكَ الْحَال ، إِذْ مَا مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَلَهُ زَلَّةٌ ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ فِي الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مُؤْتَمِرًا مُنْتَهِيًا ، وَهَذَا مَا لَمْ تَكُنْ مُخَالَفَتُهُ مُسْقِطَةً لِعَدَالَتِهِ ، فَلاَ تَصِحُّ فُتْيَاهُ حِينَئِذٍ .(1)
هـ - أَنْ لاَ يُفْتِيَ حَال انْشِغَال قَلْبِهِ بِشِدَّةِ غَضَبٍ أَوْ فَرَحٍ أَوْ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ أَوْ إِرْهَاقٍ أَوْ تَغَيُّرِ خُلُقٍ ، أَوْ كَانَ فِي حَال نُعَاسٍ ، أَوْ مَرَضٍ شَدِيدٍ ، أَوْ حَرٍّ مُزْعِجٍ ، أَوْ بَرْدٍ مُؤْلِمٍ ، أَوْ مُدَافَعَةِ الأَْخْبَثَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْحَاجَاتِ الَّتِي تَمْنَعُ صِحَّةَ الْفِكْرِ وَاسْتِقَامَةَ الْحُكْمِ(2).
لِقَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : « لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهْوَ غَضْبَانُ »(3).
__________
(1) - الموافقات للشاطبي 4 / 252 - 258 .
(2) - إعلام الموقعين 4 / 227، وصفة الفتوى لابن حمدان ص34 .
(3) - صحيح البخارى(7158 )(1/398)
فَإِنْ حَصَل لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَنِ الإِْفْتَاءِ حَتَّى يَزُول مَا بِهِ وَيَرْجِعَ إِلَى حَال الاِعْتِدَال . فَإِنْ أَفْتَى فِي حَال انْشِغَال الْقَلْبِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الصَّوَابِ صَحَّتْ فُتْيَاهُ وَإِنْ كَانَ مُخَاطِرًا(1)لَكِنْ قَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِكَوْنِ ذَلِكَ لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ أَصْل الْفِكْرِ .
فَإِنْ أَخْرَجَهُ الدَّهَشُ عَنْ أَصْل الْفِكْرِ لَمْ تَصِحَّ فُتْيَاهُ قَطْعًا وَإِنْ وَافَقَتِ الصَّوَابَ(2).
و- إِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَنْ يَثِقُ بِعِلْمِهِ وَدِينِهِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُشَاوِرَهُ ، وَلاَ يَسْتَقِل بِالْجَوَابِ تَسَامِيًا بِنَفْسِهِ عَنِ الْمُشَاوَرَةِ ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران ،وَعَلَى هَذَا كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ ، وَخَاصَّةً عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَالْمَنْقُول مِنْ مُشَاوَرَتِهِ لِسَائِرِ الصَّحَابَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ ، وَيُرْجَى بِالْمُشَاوَرَةِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ مَا قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ ، وَهَذَا مَا لَمْ تَكُنِ الْمُشَاوَرَةُ مِنْ قَبِيل إِفْشَاءِ السِّرِّ .(3)
__________
(1) - إعلام الموقعين 4 / 227، وصفة الفتوى لابن حمدان ص34 .
(2) - الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 140 .
(3) - إعلام الموقعين 4 / 256، والمجموع للنووي 1 / 48 .(1/399)
ز - الْمُفْتِي كَالطَّبِيبِ يَطَّلِعُ مِنْ أَسْرَارِ النَّاسِ وَعَوْرَاتِهِمْ عَلَى مَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَقَدْ يَضُرُّ بِهِمْ إِفْشَاؤُهَا أَوْ يُعَرِّضُهُمْ لِلأَْذَى ، فَعَلَيْهِ كِتْمَانُ أَسْرَارِ الْمُسْتَفْتِينَ ، وَلِئَلاَّ يَحُول إِفْشَاؤُهُ لَهَا بَيْنَ الْمُسْتَفْتِي وَبَيْنَ الْبَوْحِ بِصُوَرِهِ الْوَاقِعَةِ إِذَا عَرَفَ أَنَّ سِرَّهُ لَيْسَ فِي مَأْمَنٍ .(1)
المبحث الثلاثون
مُرَاعَاةُ حَال الْمُسْتَفْتِي :
يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي مُرَاعَاةُ أَحْوَال الْمُسْتَفْتِي ، وَلِذَلِكَ وُجُوهٌ ، مِنْهَا :
أ- إِذَا كَانَ الْمُسْتَفْتِي بَطِيءَ الْفَهْمِ ، فَعَلَى الْمُفْتِي التَّرَفُّقُ بِهِ وَالصَّبْرُ عَلَى تَفَهُّمِ سُؤَالِهِ وَتَفْهِيمِ جَوَابِهِ .(2)
ب - إِذَا كَانَ بِحَاجَةٍ إِلَى تَفْهِيمِهِ أُمُورًا شَرْعِيَّةً لَمْ يَتَطَرَّقْ إِلَيْهَا فِي سُؤَالِهِ ، فَيَنْبَغِي لِلْمُفْتِي بَيَانُهَا لَهُ زِيَادَةً عَلَى جَوَابِ سُؤَالِهِ ، نُصْحًا وَإِرْشَادًا ، وَقَدْ أَخَذَ الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا أَفَنَتَوَضَّأُ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ »(3)
.
__________
(1) - بصرة الحكام لابن فرحون 11 / 220 بهامش فتح العلي المالك وإعلام الموقعين 4 / 257 .
(2) - المجموع للنووي 1 / 48 .
(3) - موطأ مالك(42 ) صحيح(1/400)
وَلِلْمُفْتِي أَنْ يَعْدِل عَنْ جَوَابِ السُّؤَال إِلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (215) سورة البقرة.
فَقَدْ سَأَل النَّاسُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْمُنْفَقِ فَأَجَابَهُمْ بِذِكْرِ الْمَصْرِفِ إِذْ هُوَ أَهَمُّ مِمَّا سَأَلُوا عَنْهُ .(1)
ج - أَنْ يَسْأَلَهُ الْمُسْتَفْتِي عَمَّا هُوَ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ فَيُفْتِيَهِ بِالْمَنْعِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَا هُوَ عِوَضٌ مِنْهُ ، كَالطَّبِيبِ الْحَاذِقِ إِذَا مَنَعَ الْمَرِيضَ مِنْ أَغْذِيَةٍ تَضُرُّهُ يَدُلُّهُ عَلَى أَغْذِيَةٍ تَنْفَعُهُ .(2)
د - أَنْ يُسْأَل عَمَّا لَمْ يَقَعْ ، وَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةً ، فَيَتْرُكُ الْجَوَابَ إِشْعَارًا لِلْمُسْتَفْتِي بِأَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ السُّؤَال عَمَّا يَعْنِيهِ مِمَّا لَهُ فِيهِ نَفْعٌ وَوَرَاءَهُ عَمَلٌ ، لِحَدِيثِ : « إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا قِيلَ وَقَالَ ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ »(3).
وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ إِلاَّ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ لِعِكْرِمَةَ : مَنْ سَأَلَكَ عَمَّا لاَ يَعْنِيهِ فَلاَ تُفْتِهِ(4).
__________
(1) - إعلام الموقعين 4 / 158 .
(2) - إعلام الموقعين 4 / 159 .
(3) - صحيح البخارى(1477) ومسلم (4582)
(4) - شرح المنتهى 3 / 457، وإعلام الموقعين 4 / 221، والموافقات 4 / 286 - 290 .(1/401)
هـ - أَنْ يَكُونَ عَقْل السَّائِل لاَ يَحْتَمِل الْجَوَابَ ، فَيَتْرُكُ إِجَابَتَهُ وُجُوبًا ، لِقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ ، أَتُرِيدُونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؟ وَقَال ابْنُ مَسْعُودٍ : " مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً(1).
و- تَرْكُ الْجَوَابِ إِذَا خَافَ الْمُفْتِي غَائِلَةَ الْفُتْيَا(2)أَيْ هَلاَكًا أَوْ فَسَادًا أَوْ فِتْنَةً يُدَبِّرُهَا الْمُسْتَفْتِي أَوْ غَيْرُهُ .
وَالأَْصْل وُجُوبُ الْبَيَانِ وَتَحْرِيمُ الْكِتْمَانِ إِنْ كَانَ الْحُكْمُ جَلِيًّا(3)فَلاَ يَتْرُكُ الْمُفْتِي بَيَانَهُ لِرَغْبَةٍ وَلاَ رَهْبَةٍ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى : {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (187) سورة آل عمران .
لَكِنْ إِنْ خَافَ الْغَائِلَةَ فَلَهُ تَرْكُ الْجَوَابِ وَكَذَا لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْفُتْيَا إِنْ خَافَ أَنْ يَسْتَغِلَّهَا الظَّلَمَةُ أَوْ أَهْل الْفُجُورِ لِمَآرِبِهِمْ(4).
المبحث الواحد والثلاثون
صِيغَةُ الْفَتْوَى
يَنْبَغِي لِسَلاَمَةِ الْفُتْيَا وَصِدْقِهَا وَصِحَّةِ الاِنْتِفَاعِ بِهَا أَنْ يُرَاعِيَ الْمُفْتِي أُمُورًا مِنْهَا :
__________
(1) - شرح المنتهى 3 / 457، والموافقات 4 / 313 .
(2) - شرح المنتهى 3 / 458 .
(3) - إعلام الموقعين 4 / 175 .
(4) - حاشية ابن عابدين 3 / 264 .(1/402)
أ - تَحْرِيرُ أَلْفَاظِ الْفُتْيَا ، لِئَلاَّ تُفْهَمَ عَلَى وَجْهٍ بَاطِلٍ ، قَال ابْنُ عَقِيلٍ : يَحْرُمُ إِطْلاَقُ الْفُتْيَا فِي اسْمٍ مُشْتَرَكٍ إِجْمَاعًا ، فَمَنْ سُئِل : أَيُؤْكَل أَوْ يُشْرَبُ فِي رَمَضَانَ بَعْدَ الْفَجْرِ ؟ لاَ بُدَّ أَنْ يَقُول : الْفَجْرُ الأَْوَّل أَوِ الثَّانِي ؟ وَمِثْلُهُ مَنْ سُئِل عَنْ بَيْعِ رِطْل تَمْرٍ بِرِطْل تَمْرٍ هَل يَصِحُّ ؟ فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يُطْلِقَ الْجَوَابَ بِالإِْجَازَةِ أَوِ الْمَنْعِ ، بَل يَقُول : إِنْ تَسَاوَيَا كَيْلاً جَازَ وَإِلاَّ فَلاَ ، لَكِنْ لاَ يَلْزَمُ التَّنْبِيهُ عَلَى احْتِمَالٍ بَعِيدٍ ، كَمَنْ سُئِل عَنْ مِيرَاثِ بِنْتٍ وَعَمٍّ ؟ فَلَهُ أَنْ يَقُول : لَهَا النِّصْفُ ، وَلَهُ الْبَاقِي ، وَلاَ يَلْزَمُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ قَاتِلَةً لأَِبِيهَا فَلاَ شَيْءَ لَهَا ، وَكَذَا سَائِرُ مَوَانِعِ الإِْرْثِ(1).
عَلَى أَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي إِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ : أَنْ يَسْتَفْصِل السَّائِل لِيَصِل
__________
(1) - شرح المنتهى 3 / 458 .(1/403)
إِلَى تَحْدِيدِ الْوَاقِعَةِ تَحْدِيدًا تَامًّا ، فَيَكُونُ جَوَابُهُ عَنْ أَمْرٍ مُحَدَّدٍ ، وَهَذَا أَوْلَى وَأَسْلَمُ ، وَإِنْ عَلِمَ أَيَّ الأَْقْسَامِ هُوَ الْوَاقِعُ فَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى جَوَابِ ذَلِكَ الْقِسْمِ ، ثُمَّ يَقُول : هَذَا إِنْ كَانَ الأَْمْرُ كَذَا ، وَلَهُ أَنْ يُفَصِّل الأَْقْسَامَ فِي جَوَابِهِ وَيَذْكُرَ حُكْمَ كُل قِسْمٍ ، وَلَكِنْ لاَ يَحْسُنُ هَذَا إِلاَّ إنْ كَانَ الْمُسْتَفْتِي غَائِبًا وَلَمْ يُمْكِنْ مَعْرِفَةُ صِفَةِ الْوَاقِعِ ، فَيَجْتَهِدُ فِي بَيَانِ الأَْقْسَامِ وَحُكْمِ كُل قِسْمٍ ؛ لِئَلاَّ يُفْهَمَ جَوَابُهُ عَلَى غَيْرِ مَا يُرِيدُ(1).
ب - أَنْ لاَ تَكُونَ الْفَتْوَى بِأَلْفَاظٍ مُجْمَلَةٍ ، لِئَلاَّ يَقَعَ السَّائِل فِي حَيْرَةٍ ، كَمَنْ سُئِل عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الْمَوَارِيثِ فَقَال : تُقْسَمُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل ، أَوْ سُئِل عَنْ شِرَاءِ الْعَرَايَا بِالتَّمْرِ فَقَال : يَجُوزُ بِشُرُوطِهِ ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ لاَ يَدْرِي مَا شُرُوطُهُ ، لَكِنْ إِنْ كَانَ السَّائِل مِنْ أَهْل الْعِلْمِ الَّذِينَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِثْل هَذَا ، بَل يُرِيدُ أَنْ يَعْرِفَ قَوْل الْمُفْتِي جَازَ ذَلِكَ .(2)
__________
(1) - المجموع للنووي 1 / 48، وإعلام الموقعين 4 / 255، 256 و187 - 194 .
(2) - إعلام الموقعين 4 / 177، 179 .(1/404)
ج - يَحْسُنُ ذِكْرُ دَلِيل الْحُكْمِ فِي الْفُتْيَا سَوَاءٌ كَانَ آيَةً أَوْ حَدِيثًا حَيْثُ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ ، وَيَذْكُرُ عِلَّتَهُ أَوْ حِكْمَتَهُ ، وَلاَ يُلْقِيهِ إِلَى الْمُسْتَفْتِي مُجَرَّدًا ، فَإِنَّ الأَْوَّل أَدْعَى لِلْقَبُول بِانْشِرَاحِ صَدْرٍ وَفَهْمٍ لِمَبْنَى الْحُكْمِ ، وَذَلِكَ أَدْعَى إِلَى الطَّاعَةِ وَالاِمْتِثَال ، وَفِي كَثِيرٍ مِنْ فَتَاوَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ الْحِكَمَ(1)، كَحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تُزَوَّجَ الْمَرْأَةُ عَلَى الْعَمَّةِ ، وَالْخَالَةِ ، قَالَ : إِنَّكُنَّ إِذَا فَعَلْتُنَّ ذَلِكَ قَطَعْتُنَّ أَرْحَامَكُنَّ(2).
َوفِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ فعنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِىَ . فَقِيلَ لَهُ وَمَا تُزْهِى قَالَ حَتَّى تَحْمَرَّ . فَقَالَ « أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ ، بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ »(3).
وَقَال الصَّيْمَرِيُّ : لاَ يَذْكُرُ الْحُجَّةَ إِنْ أَفْتَى عَامِّيًّا ، وَيَذْكُرُهَا إِنْ أَفْتَى فَقِيهًا ، وَإِنْ تَعَلَّقَتِ الْفَتْوَى بِقَضَاءِ قَاضٍ فَيُومِئُ فِيهَا إِلَى طَرِيقِ الاِجْتِهَادِ وَيُلَوِّحُ بِالنُّكْتَةِ ، وَكَذَا إِنْ أَفْتَى فِيمَا غَلِطَ فِيهِ غَيْرُهُ فَيُبَيِّنُ وَجْهَ الاِسْتِدْلاَل .
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ : لاَ يَذْكُرُ الْحُجَّةَ لِئَلاَّ يَخْرُجَ مِنَ الْفَتْوَى إِلَى التَّصْنِيفِ .(4)
__________
(1) - إعلام الموقعين 4 / 160، 259 .
(2) - صحيح ابن حبان - (ج 9 / ص 425)(4116) صحيح
(3) - صحيح البخارى(2198 )
(4) - المجموع للنووي 1 / 52 .(1/405)
د - لاَ يَقُول فِي الْفُتْيَا : هَذَا حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلاَّ بِنَصٍّ قَاطِعٍ ، أَمَّا الأُْمُورُ الاِجْتِهَادِيَّةُ فَيَتَجَنَّبُ فِيهَا ذَلِكَ لِحَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِى خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ « اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَ لاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلاَلٍ - فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِى عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِى يَجْرِى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ فِى الْغَنِيمَةِ وَالْفَىْءِ شَىْءٌ إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ.(1/406)
وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلاَ ذِمَّةَ نَبِيِّهِ وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ »(1).
وَهَذَا عَلَى قَوْل مَنْ يَجْعَل الصَّوَابَ فِي قَوْل أَحَدِ الْمُخْتَلِفِينَ ، أَمَّا مَنْ يَقُول : كُل مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَقُول : هَذَا حُكْمُ اللَّهِ ، وَهُوَ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ .(2)
هـ - يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْفُتْيَا بِكَلاَمٍ مُوجَزٍ وَاضِحٍ مُسْتَوْفٍ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسْتَفْتِي مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِسُؤَالِهِ ، وَيَتَجَنَّبُ الإِْطْنَابَ فِيمَا لاَ أَثَرَ لَهُ ، لأَِنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَحْدِيدٍ ، لاَ مَقَامُ وَعْظٍ أَوْ تَعْلِيمٍ أَوْ تَصْنِيفٍ .(3)
قَال الْقَرَافِيُّ : إِلاَّ فِي نَازِلَةٍ عَظِيمَةٍ تَتَعَلَّقُ بِوُلاَةِ الأُْمُورِ ، وَلَهَا صِلَةٌ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ ، فَيَحْسُنُ الإِْطْنَابُ بِالْحَثِّ وَالإِْيضَاحِ وَالاِسْتِدْلاَل ، وَبَيَانِ الْحِكَمِ وَالْعَوَاقِبِ ، لِيَحْصُل الاِمْتِثَال التَّامُّ .(4)
__________
(1) - صحيح مسلم(4619) -تخفر : تنقض العهد =تغل : تسرق من الغنيمة قبل أن تقسم
(2) - إعلام الموقعين 4 / 175، 1 / 39، 44 .
(3) - صفة الفتوى لابن حمدان ص60 .
(4) - الإحكام للقرافي ص364، وانظر مجموع النووي 1 / 49 .(1/407)
وَإِنْ كَانَ لِكَلاَمِهِ قَبُولٌ وَيَحْرِصُ النَّاسُ عَلَى الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ ، فَلاَ بَأْسَ بِالإِْطَالَةِ وَاسْتِيفَاءِ جَوَانِبِ الْمَسْأَلَةِ .
المبحث الثاني والثلاثون
الإِْفْتَاءُ بِالإِْشَارَةِ :
تَجُوزُ الْفُتْيَا بِالإِْشَارَةِ إِنْ كَانَتْ مُفْهِمَةً لِلْمُرَادِ(1)وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ أَفْتَى بِالإِْشَارَةِ فِي مَوَاضِعَ ، مِنْهَا : حَدِيثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ فِى حَجَّتِهِ فَقَالَ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِىَ ، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ قَالَ وَلاَ حَرَجَ . قَالَ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ . فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ وَلاَ حَرَجَ(2).
__________
(1) - حاشية ابن عابدين 4 / 302، وشرح المحلي على منهاج الطالبين 3 / 327، والموافقات 4 / 247 .
(2) - صحيح البخارى (84 )(1/408)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فَأَتَاهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضى الله عنهم - فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِى غَاشِيَةِ أَهْلِهِ فَقَالَ « قَدْ قَضَى » . قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَبَكَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بَكَوْا فَقَالَ « أَلاَ تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ ، وَلاَ بِحُزْنِ الْقَلْبِ ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ » . وَكَانَ عُمَرُ - رضى الله عنه - يَضْرِبُ فِيهِ بِالْعَصَا ، وَيَرْمِى بِالْحِجَارَةِ وَيَحْثِى بِالتُّرَابِ(1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَى مِنًى فَأَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى وَنَحَرَ ثُمَّ قَالَ لِلْحَلاَّقِ « خُذْ ». وَأَشَارَ إِلَى جَانِبِهِ الأَيْمَنِ ثُمَّ الأَيْسَرِ ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيهِ النَّاسَ.(2)
المبحث الثالث والثلاثون
الإِْفْتَاءُ بِالْكِتَابَةِ :
__________
(1) - صحيح البخارى(1304) =الغاشية : جماعة من أهله يغشونه للخدمة وغيرها =قضى : مات
(2) - صحيح مسلم (3212 )(1/409)
تَجُوزُ الْفُتْيَا كِتَابَةً ، وَلَكِنْ فِيهَا خُطُورَةٌ مِنْ حَيْثُ إِمْكَانُ التَّبْدِيل وَالتَّغْيِيرِ فِيهَا وَنِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى الْمُفْتِي ، وَلِذَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَحَرَّزَ فِي كِتَابَتِهَا بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ فِيهَا الإِْضَافَةُ وَالتَّزْوِيرُ .(1)
المبحث الرابع والثلاثون
أَخْذُ الرِّزْقِ عَلَى الْفُتْيَا :
الأَْوْلَى لِلْمُفْتِي أَنْ يَكُونَ مُتَبَرِّعًا بِعَمَلِهِ وَلاَ يَأْخُذَ عَلَيْهِ شَيْئًا ،وَإِنْ تَفَرَّغَ لِلإِْفْتَاءِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ رِزْقًا مِنْ بَيْتِ الْمَال عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ ، وَاشْتَرَطَ الْفَرِيقَانِ لِجَوَازِ ذَلِكَ شَرْطَيْنِ :
الأَْوَّل : أَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ كِفَايَةٌ .
وَالثَّانِي : أَنْ لاَ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ ، بِأَنْ لَمْ يَكُنْ بِالْبَلَدِ عَالِمٌ يَقُومُ مَقَامَهُ ، أَوْ كَانَ لَهُ كِفَايَةٌ لَمْ يَجُزْ(2)وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ : إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا فَفِيهِ وَجْهَانِ ، لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْقِيَاسِ عَلَى عَامِل الزَّكَاةِ أَوْ عَلَى الْعَامِل فِي مَال الْيَتِيمِ .(3)
__________
(1) - المجموع للنووي 1 / 47، 49، 50، وصفة الفتوى لابن حمدان ص63وصحيح البخارى - (ج 6 / ص 403)
(2) - المجموع للنووي 1 / 46، وشرح المنتهى 3 / 462 .
(3) - إعلام الموقعين 4 / 432 .(1/410)
وَأَلْحَقَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَالصَّيْمَرِيُّ بِذَلِكَ : أَنْ يَحْتَاجَ أَهْل بَلَدٍ إِلَى مَنْ يَتَفَرَّغُ لِفَتَاوِيهِمْ ، وَيَجْعَلُوا لَهُ رِزْقًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، فَيَحُوزُ ، وَلاَ يَصْلُحُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ لَهُ رِزْقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَال ، قَال الْخَطِيبُ : لَا يَسُوغُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَأْخُذَ الْأُجْرَةَ مِنْ أَعْيَانِ مَنْ يُفْتِيهِ , كَالْحَاكِمِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الرِّزْقَ مِنْ أَعْيَانِ مَنْ يَحْكُمُ لَهُ وَعَلَيْهِ وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَفْرِضَ لِمَنْ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِتَدْرِيسِ الْفِقْهِ وَالْفَتْوَى فِي الْأَحْكَامِ , مَا يُغْنِيهِ عَنِ الِاحْتِرَافِ وَالتَّكَسُّبِ , وَيَجْعَلُ ذَلِكَ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ بَيْتُ مَالٍ , أَوْ لَمْ يَفْرِضِ الْإِمَامُ لِلْمُفْتِي شَيْئًا , وَاجْتَمَعَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا لَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ رِزْقًا , لِيَتَفَرَّغَ لِفَتَاوِيهِمْ , وَجَوَابَاتِ نَوَازِلِهِمْ , سَاغَ ذَلِكَ ، فعَنِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ , قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى وَالِي حِمْصَ : " انْظُرْ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ نَصَّبُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْفِقْهِ وَحَبَسُوهَا فِي الْمَسْجِدِ عَنْ طَلَبِ الدُّنْيَا , فَأَعْطِ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مِائَةَ دِينَارٍ يَسْتَعِينُونَ بِهَا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ , حِينَ يَأْتِيَكَ كِتَابِي هَذَا , فَإِنَّ خَيْرَ الْخَيْرِ أَعْجَلُهُ , وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ " قَالَ : فَكَانَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ , وَأَسَدُ بْنُ وَدَاعَةَ فِيمَنْ أَخَذَهَا ؟ فَقَالَ : يَزِيدُ : نَعَمْ" ط وعَنِ ابْنِ أَبِي غَيْلَانَ , قَالَ : " بَعَثَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَزِيدَ بْنَ أَبِي مَالِكٍ(1/411)
الدِّمَشْقِيَّ , وَالْحَارِثَ بْنَ يَمْجُدَ الْأَشْعَرِيَّ , يُفَقِّهَانِ النَّاسَ فِي الْبَدْوِ وَأَجْرَى عَلَيْهِمَا رِزْقًا , فَأَمَّا يَزِيدُ فَقَبِلَ , وَأَمَّا الْحَارِثُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ , فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِذَلِكَ , فَكَتَبَ عُمَرُ : إِنَّا لَا نَعْلَمُ بِمَا صَنَعَ يَزِيدُ بَأْسًا , وَأَكْثَرَ اللَّهُ فِينَا مِثْلَ الْحَارِثِ بْنِ يَمْجُدَ "(1)
وَأَمَّا الأُْجْرَةُ ، فَلاَ يَجُوزُ أَخْذُهَا مِنْ أَعْيَانِ الْمُسْتَفْتِينَ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ، قَال الْحَنَابِلَةُ : لأَِنَّ الْفُتْيَا عَمَلٌ يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْل الْقُرْبَةِ ، وَلأَِنَّهُ مَنْصِبُ تَبْلِيغٍ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَلاَ تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ قَال لَهُ: لاَ أُعَلِّمُكَ الإِْسْلاَمَ أَوِ الْوُضُوءَ أَوِ الصَّلاَةَ إِلاَّ بِأُجْرَةٍ ، قَالُوا : فَهَذَا حَرَامٌ قَطْعًا ، وَعَلَيْهِ رَدُّ الْعِوَضِ ، وَلاَ يَمْلِكُهُ ، قَالُوا : وَيَلْزَمُهُ الإِْجَابَةُ مَجَّانًا لِلَّهِ بِلَفْظِهِ أَوْ خَطِّهِ إِنْ طَلَبَ الْمُسْتَفْتِي الْجَوَابَ كِتَابَةً ، لَكِنْ لاَ يَلْزَمُهُ الْوَرَقُ وَالْحِبْرُ.
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَخْذَ الْمُفْتِي الأُْجْرَةَ عَلَى الْكِتَابَةِ ، لأَِنَّهُ كَالنَّسْخِ(2).
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى الْفَتْوَى إِنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ .(3)
__________
(1) - الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ (1069 -1070) و المجموع 1 / 46 .
(2) - حاشية ابن عابدين 4 / 311، وإعلام الموقعين 4 / 232، وشرح المنتهى 3 / 462 .
(3) - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 20 .(1/412)
المبحث الخامس والثلاثون
أَخْذُ الْمُفْتِي الْهَدِيَّةَ
الأَْصْل أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَخْذُ الْهَدِيَّةِ مِنَ النَّاسِ بِخِلاَفِ الْقَاضِي ، وَالأَْوْلَى لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا وَيُكَافِئَ عَلَيْهَا ، اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا(1). وَهَذَا إِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ سَبَبِ الْفُتْيَا ، لأَِنَّهُ إِنَّمَا يُهْدَى إِلَيْهِ لِعِلْمِهِ ، بِخِلاَفِ الْقَاضِي .
وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ الْفُتْيَا فَالأَْوْلَى عَدَمُ الْقَبُول ، لِيَكُونَ إِفْتَاؤُهُ خَالِصًا لِلَّهِ ، وَهَذَا إِنْ كَانَ إِفْتَاؤُهُ لاَ يَخْتَلِفُ بَيْنَ مَنْ يُهْدِيهِ وَمَنْ لاَ يُهْدِيهِ ، وَإِنْ كَانَ يُهْدِيهِ لِتَكُونَ سَبَبًا إِلَى أَنْ يُفْتِيَهُ بِمَا لاَ يُفْتِي بِهِ غَيْرَهُ مِنَ الرُّخَصِ قَال ابْنُ الْقَيِّمِ : لاَ يَجُوزُ لَهُ قَبُولُهَا ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ : إِنْ كَانَتْ سَبَبًا لِيُرَخِّصَ لَهُ بِوَجْهٍ صَحِيحٍ فَأَخْذُهَا مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً ، وَإِنْ كَانَ بِوَجْهٍ بَاطِلٍ فَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ ، يُبَدِّل أَحْكَامَ اللَّهِ ، وَيَشْتَرِي بِهَا ثَمَنًا قَلِيلاً(2).
وَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِلْمَالِكِيَّةِ : يَجُوزُ لِلْمُفْتِي قَبُول الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ لاَ يَرْجُو مِنْهُ جَاهًا وَلاَ عَوْنًا عَلَى خَصْمٍ(3).
المبحث السادس والثلاثون
الْخَطَأُ فِي الْفُتْيَا :
__________
(1) - صحيح البخارى(2585 )
(2) - حاشية ابن عابدين 4 / 311، وشرح المنتهى 3 / 471، وإعلام الموقعين 4 / 232 .
(3) - الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 140 .(1/413)
إِذَا أَخْطَأَ الْمُفْتِي ، فَإِنْ كَانَ خَطَؤُهُ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ ، أَوْ كَانَ أَهْلاً لَكِنَّهُ لَمْ يَبْذُل جَهْدَهُ بَل تَعَجَّل ، يَكُونُ آثِمًا ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا ، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا ، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا ، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا »(1).
أَمَّا إِنْ كَانَ أَهْلاً وَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ، بَل لَهُ أَجْرُ اجْتِهَادِهِ ، قِيَاسًا عَلَى مَا وَرَدَ فِي خَطَأِ الْقَاضِي ، فعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - – يَقُولُ: « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ »(2)..
المبحث السابع والثلاثون
رُجُوعُ الْمُفْتِي عَنْ فُتْيَاهُ :
__________
(1) - صحيح البخارى(100 ) وصحيح مسلم(6971 )
(2) - صحيح البخارى(7352 ) وصحيح مسلم(4584 )(1/414)
إِذَا تَبَيَّنَ لِلْمُفْتِي أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي الْفُتْيَا وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ عَنِ الْخَطَأِ إِذَا أَفْتَى فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى مُمَاثِلَةٍ ، لِكِتَابِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلاَ يَمْنَعَنَّكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَ فِيهِ الْيَوْمَ ، فَرَاجَعْتَ فِيهِ رَأْيَكَ ، فَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تُرَاجِعَ فِيهِ الْحَقَّ فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ لاَ يُبْطِلُهُ شَيْءٌ ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِل(1).
ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُسْتَفْتِي لَمْ يَعْمَل بِالْفُتْيَا الأُْولَى لَزِمَ الْمُفْتِيَ إِعْلاَمُهُ بِرُجُوعِهِ ، لأَِنَّ الْعَامِّيَّ يَعْمَل بِهَا لأَِنَّهَا قَوْل الْمُفْتِي ، وَإِذَا رَجَعَ عَنْهَا فَلَيْسَتْ قَوْلاً لَهُ فِي تِلْكَ الْحَال.
وَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِل بِهَا قَال النَّوَوِيُّ : يَلْزَمُهُ إِعْلاَمُهُ حَيْثُ يَجِبُ النَّقْضُ .(2)أَيْ إِذَا خَالَفَ قَاطِعًا مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ ، لأَِنَّ مَا رَجَعَ عَنْهُ قَدِ اعْتَقَدَ بُطْلاَنَهُ .
المبحث الثامن والثلاثون
إذا رَجَعَ الْمُفْتِي عَنْ فُتْيَاهُ ، أَوْ تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ ، فَلَيْسَ لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يَسْتَنِدَ فِي الْمُسْتَقْبَل إِلَيْهَا فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى مُمَاثِلَةٍ .
وَأَمَّا مَا فَعَلَهُ وَمَضَى فَلَهُ أَحْوَالٌ :
__________
(1) - إعلام الموقعين 1 / 86 .
(2) - المجموع للنووي 1 / 45، والبحر المحيط 6 / 304 .(1/415)
أ - إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُفْتِيَ خَالَفَ نَصَّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ لاَ مُعَارِضَ لَهَا أَوْ خَالَفَ الإِْجْمَاعَ ، أَوِ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ ، يُنْقَضُ مَا عَمِل ، فَإِنْ كَانَ بَيْعًا فَسَخَاهُ ، وَإِنْ كَانَ نِكَاحًا وَجَبَ عَلَيْهِ فِرَاقُهَا ، وَإِنْ كَانَ اسْتَحَل بِهَا مَالاً وَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَتُهُ إِلَى أَرْبَابِهِ.
ب - إنْ كَانَتْ فُتْيَاهُ الأُْولَى عَنِ اجْتِهَادٍ ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ ، فَلاَ يَلْزَمُ الْمُسْتَفْتِيَ نَقْضُ مَا عَمِل ، لأَِنَّ الاِجْتِهَادَ لاَ يُنْقَضُ بِالاِجْتِهَادِ ، وَالْفُتْيَا فِي هَذَا نَظِيرُ الْقَضَاءِ ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْطَى الإِْخْوَةَ لأُِمٍّ الثُّلُثَ ، وَحَرَمَ الإِْخْوَةَ الأَْشِقَّاءَ ، ثُمَّ وَقَعَتْ وَاقِعَةٌ أُخْرَى فَأَرَادَ أَنْ يَحْكُمَ بِمِثْل ذَلِكَ ، فَقَال لَهُ بَعْضُ الأَْشِقَّاءِ : هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا ، أَلَيْسَتْ أُمُّنَا وَاحِدَةً ؟ فَشَرَكَ بَيْنَهُمْ فِي الثُّلُثِ ، فَقِيل لَهُ فِي نَقْضِ الأُْولَى فَقَال : تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ عَلَى مَا نَقْضِي ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ النِّكَاحَ ، فَرَأَوْا أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يُفَارِقَهَا .(1)
المبحث التاسع والثلاثون
ضَمَانُ مَا يَتْلَفُ بِنَاءً عَلَى الْخَطَأِ فِي الْفَتْوَى :
__________
(1) - المجموع للنووي 1 / 45، والبحر المحيط 6 / 304، وشرح المنتهى 3 / 502، والأشباه والنظائر للسيوطي ص101، 102، قاعدة : ( الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد ) .(1/416)
إِنْ أَتْلَفَ الْمُسْتَفْتِي بِنَاءً عَلَى الْفُتْيَا شَيْئًا ، كَأَنْ قَتَل فِي شَيْءٍ ظَنَّهُ الْمُفْتِي رِدَّةً ، أَوْ قَطَعَ فِي سَرِقَةٍ لاَ قَطْعَ فِيهَا ، أَوْ جَلَدَ بِشُرْبٍ لاَ يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ - كَمَنْ شَرِبَ مُكْرَهًا - فَمَاتَ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُفْتِي عَلَى أَقْوَالٍ :
الأَْوَّل : قَوْل الْمَالِكِيَّةِ ، عَلَى مَا نَقَلَهُ الدُّسُوقِيُّ عَنِ الْحَطَّابِ : أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ بِفَتْوَاهُ شَيْئًا وَتَبَيَّنَ خَطَؤُهُ فِيهَا ، فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا ضَمِنَ إِنِ انْتَصَبَ وَتَوَلَّى بِنَفْسِهِ فِعْل مَا أَفْتَى فِيهِ ، وَإِلاَّ كَانَتْ فَتْوَاهُ غُرُورًا قَوْلِيًّا لاَ ضَمَانَ فِيهِ ، وَيُزْجَرُ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ جَاهِلاً لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ اشْتِغَالٌ بِالْعِلْمِ أُدِّبَ .(1)
الثَّانِي : وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَكْسُ هَذَا ، قَال النَّوَوِيُّ : عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الإِْسْفِرَايِينِيِّ : إِنَّ الْمُفْتِيَ يَضْمَنُ إِنْ كَانَ أَهْلاً لِلْفَتْوَى فَبَانَ خَطَؤُهُ وَأَنَّهُ خَالَفَ الْقَاطِعَ ، وَلاَ يَضْمَنُ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلاً لأَِنَّ الْمُسْتَفْتِيَ قَصَّرَ - أَيْ بِسُؤَالِهِ مَنْ لَيْسَ أَهْلاً - كَذَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلاَحِ وَسَكَتَ عَلَيْهِ ، وَاسْتَشْكَلَهُ النَّوَوِيُّ ، وَمَال إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي تَخْرِيجُهُ عَلَى قَوْلَيِ الْغُرُورِ فِي بَابَيِ الْغَصْبِ وَالنِّكَاحِ ، أَوْ يُقْطَعُ بِعَدَمِ الضَّمَانِ إِذْ لاَ إِلْجَاءَ فِي الْفَتْوَى وَلاَ إِلْزَامَ .
__________
(1) - الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 20 .(1/417)
وَذَهَبَ ابْنُ حَمْدَانَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى مِثْل قَوْل أَبِي إِسْحَاقَ(1).
الثَّالِثُ : ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَهْلاً لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَإِلاَّ ضَمِنَ ، وَقَاسَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْمُتَطَبِّبِ الْجَاهِل ،فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ »(2).
وَلِكَوْنِهِ غَرَّ الْمُسْتَفْتِيَ بِتَصَدُّرِهِ لِلْفَتْوَى وَهُوَ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ .(3)
المبحث الأربعون
الإِْمَامُ وَشُئُونُ الْفَتْوَى :
عَلَى الإِْمَامِ نَصْبُ الْمُفْتِينَ فِي الْمَنَاطِقِ الْمُتَبَاعِدَةِ إِنْ ظَهَرَتِ الْحَاجَةُ وَلَمْ يُوجَدْ مُتَبَرِّعُونَ بِالْفُتْيَا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلاَ يَنْصِبُ إِلاَّ مَنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلاً وَعَلَيْهِ الْكِفَايَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَال لِمَنْ يَتَفَرَّغُ لِذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ فِي أَحْوَال الْمُفْتِينَ : فَيَمْنَعُ مَنْ يَتَصَدَّرُ لِذَلِكَ وَلَيْسَ بِأَهْلٍ ، أَوْ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُسِيءُ ، قَال الْحَنَفِيَّةُ : يُحْجَرُ عَلَى الْمُفْتِي الْمَاجِنِ وَالطَّبِيبِ الْجَاهِل وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ ، وَمُرَادُهُمْ بِالْمَاجِنِ : مَنْ يُعَلِّمُ الْحِيَل الْبَاطِلَةَ ، كَمَنْ يُعَلِّمُ الزَّوْجَةَ أَنْ تَرْتَدَّ لِتَبِينَ مِنْ زَوْجِهَا ، أَوْ يُعَلِّمُ مَا تَسْقُطُ بِهِ الزَّكَاةُ ، وَكَذَا مَنْ يُفْتِي عَنْ جَهْلٍ(4).
__________
(1) - المجموع 1 / 45، وروضة الطالبين 11 / 107، وإعلام الموقعين 4 / 225 .
(2) - سنن النسائى(4847 ) صحيح
(3) - شرح المنتهى 3 / 502، وإعلام الموقعين 4 / 226 .
(4) - ابن عابدين على الدر المختار 5 / 93 .(1/418)
وَقَال الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ : يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يَتَصَفَّحَ أَحْوَال الْمُفْتِينَ ، فَمَنْ صَلَحَ لِلْفُتْيَا أَقَرَّهُ ، وَمَنْ لاَ يَصْلُحُ مَنَعَهُ وَنَهَاهُ وَتَوَاعَدَهُ بِالْعُقُوبَةِ إِنْ عَادَ ، قَال : وَطَرِيقُ الإِْمَامِ إِلَى مَعْرِفَةِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْفُتْيَا أَنْ يَسْأَل عَنْهُ عُلَمَاءَ وَقْتِهِ ، وَيَعْتَمِدَ إِخْبَارَ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ(1)
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ : مَنْ أَفْتَى وَلَيْسَ بِأَهْلٍ فَهُوَ آثِمٌ عَاصٍ ، وَمَنْ أَقَرَّهُمْ مِنْ وُلاَةِ الأُْمُورِ فَهُوَ آثِمٌ أَيْضًا ، وَنُقِل عَنِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ قَوْلُهُ : يَلْزَمُ وَلِيَّ الأَْمْرِ مَنْعُهُمْ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَدُل الرَّكْبَ وَلاَ يَعْلَمُ الطَّرِيقَ ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يُرْشِدُ النَّاسَ إِلَى الْقِبْلَةِ وَهُوَ أَعْمَى ، بَل أَسْوَأُ حَالاً ، وَإِذَا تَعَيَّنَ عَلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ مَنْعُ مَنْ لَمْ يُحْسِنِ الطِّبَّ مِنْ مُدَاوَاةِ الْمَرْضَى فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْكِتَابَ والسُّنَّة وَلَمْ يَتَفَقَّهْ فِي الدِّينِ .(2)
المبحث الواحد والأربعون
حُكْمُ الاِسْتِفْتَاءِ
__________
(1) - المجموع للنووي 1 / 41 .
(2) - إعلام الموقعين 4 / 217 .(1/419)
اسْتِفْتَاءُ الْعَامِّيِّ الَّذِي لاَ يَعْلَمُ حُكْمَ الْحَادِثَةِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، لِوُجُوبِ الْعَمَل حَسَبَ حُكْمِ الشَّرْعِ ، وَلأَِنَّهُ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الْعَمَل مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَقَدْ يَرْتَكِبُ الْحَرَامَ ، أَوْ يَتْرُكُ فِي الْعِبَادَةِ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ ، قَال الْغَزَالِيُّ : الْعَامِّيُّ يَجِبُ عَلَيْهِ سُؤَال الْعُلَمَاءِ ، لأَِنَّ الإِْجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْعَامِّيَّ مُكَلَّفٌ بِالأَْحْكَامِ ، وَتَكْلِيفُهُ طَلَبَ رُتْبَةِ الاِجْتِهَادِ مُحَالٌ ، لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى انْقِطَاعِ الْحَرْثِ وَالنَّسْل ، وَتَعَطُّل الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ ، وَإِذَا اسْتَحَال هَذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ سُؤَال الْعُلَمَاءِ وَوُجُوبُ اتِّبَاعِهِمْ .(1)
وَقَال النَّوَوِيُّ : مَنْ نَزَلَتْ بِهِ حَادِثَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ عِلْمُ حُكْمِهَا ، أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الاِسْتِفْتَاءُ عَنْهَا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِبَلَدِهِ مَنْ يَسْتَفْتِيهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّحِيل إِلَى مَنْ يُفْتِيهِ وَإِنْ بَعُدَتْ دَارُهُ ، وَقَدْ رَحَل خَلاَئِقُ مِنَ السَّلَفِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ اللَّيَالِيَ وَالأَْيَّامَ .(2)
المبحث الثاني والأربعون
مَنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُفْتِيهِ فِي وَاقِعَتِهِ :
__________
(1) - المستصفى للغزالي 2 / 124 القاهرة، المكتبة التجارية 1356هـ .
(2) - المجموع للنووي 1 / 54 وانظر الموافقات للشاطبي 4 / 261 .(1/420)
إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُكَلَّفُ مَنْ يُفْتِيهِ فِي وَاقِعَتِهِ يَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ بِالْعَمَل إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ عِلْمٌ ، لاَ مِنَ اجْتِهَادٍ مُعْتَبَرٍ وَلاَ مِنْ تَقْلِيدٍ ، لأَِنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ بِمَا لاَ يُطَاقُ ، وَلأَِنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ الْعِلْمُ بِهِ ، وَقِيَاسًا عَلَى الْمُجْتَهِدِ إِذَا تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ الأَْدِلَّةُ وَتَكَافَأَتْ فَلَمْ يُمْكِنْهُ التَّرْجِيحُ ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا قَبْل وُرُودِ الشَّرْعِ ، وَكَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ .(1)
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ : فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ آخَرُ ، أَنَّهُ يُخَرَّجُ حُكْمُهَا عَلَى الْخِلاَفِ فِي مَسْأَلَةِ تَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ ، وَفِيهَا الأَْقْوَال : أَنَّهُ يَأْخُذُ بِالأَْشَدِّ ، أَوْ بِالأَْخَفِّ ، أَوْ يَتَخَيَّرُ . ثُمَّ قَال : وَالصَّوَابُ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى الْحَقَّ بِجَهْدِهِ وَمَعْرِفَةِ مِثْلِهِ وَيَتَّقِيَ اللَّهَ ، قَال : وَقَدْ نَصَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْحَقِّ أَمَارَاتٍ كَثِيرَةً ، وَلَمْ يُسَوِّ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ وَمَا يَسْخَطُهُ مِنْ كُل وَجْهٍ ، بِحَيْثُ لاَ يَتَمَيَّزُ هَذَا مِنْ هَذَا ، وَالْفِطَرُ السَّلِيمَةُ تَمِيل إِلَى الْحَقِّ وَتُؤْثِرُهُ ، فَإِنْ قُدِّرَ ارْتِفَاعُ ذَلِكَ كُلِّهِ يَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ وَإِنْ كَانَ مُكَلَّفًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهَا .(2)
المبحث الثالث والأربعون
مَعْرِفَةُ الْمُسْتَفْتِي حَال مَنْ يَسْتَفْتِيهِ :
يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي إِنْ وَقَعَتْ لَهُ حَادِثَةٌ أَنْ يَسْأَل مُتَّصِفًا بِالْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ .
__________
(1) - الموافقات 4 / 291، والمجموع للنووي 1 / 58 .
(2) - إعلام الموقعين 4 / 219 .(1/421)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْكَمَال بْنِ الْهُمَامِ : الاِتِّفَاقُ عَلَى حِل اسْتِفْتَاءِ مَنْ عُرِفَ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ بِالاِجْتِهَادِ وَالْعَدَالَةِ ، أَوْ رَآهُ مُنْتَصِبًا وَالنَّاسُ يَسْتَفْتُونَهُ مُعَظِّمِينَ لَهُ ، وَعَلَى امْتِنَاعِهِ مِنَ الاِسْتِفْتَاءِ إِنْ ظَنَّ عَدَمَ أَحَدِهِمَا أَيْ عَدَمَ الاِجْتِهَادِ أَوِ الْعَدَالَةِ .(1)
وَقَال النَّوَوِيُّ : يَسْأَل الْمُسْتَفْتِي مَنْ عَرَفَ عِلْمَهُ وَعَدَالَتَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الْعِلْمَ بَحَثَ عَنْهُ بِسُؤَال النَّاسِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الْعَدَالَةَ فَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ ، أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ ، وَأَشْبَهُهُمَا : الاِكْتِفَاءُ ، لأَِنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَال الْعُلَمَاءِ الْعَدَالَةُ ، بِخِلاَفِ الْبَحْثِ عَنِ الْعِلْمِ فَلَيْسَ الْغَالِبُ مِنَ النَّاسِ الْعِلْمَ .(2)
وَقَال النَّوَوِيُّ : يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي قَطْعًا الْبَحْثُ الَّذِي يَعْرِفُ بِهِ أَهْلِيَّةَ مَنْ يَسْتَفْتِيهِ لِلإِْفْتَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِأَهْلِيَّتِهِ ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ اسْتِفْتَاءُ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى الْعِلْمِ ، وَانْتَصَبَ لِلتَّدْرِيسِ وَالإِْقْرَاءِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَنَاصِبِ الْعُلَمَاءِ بِمُجَرَّدِ انْتِسَابِهِ وَانْتِصَابِهِ لِذَلِكَ ، وَيَجُوزُ اسْتِفْتَاءُ مَنِ اسْتَفَاضَ كَوْنُهُ أَهْلاً لِلْفَتْوَى ، وَقَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ : إِنَّمَا يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ : أَنَا أَهْلٌ لِلْفَتْوَى ، لاَ شُهْرَتُهُ بِذَلِكَ ، وَلاَ يُكْتَفَى بِالاِسْتِفَاضَةِ وَلاَ بِالتَّوَاتُرِ ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الأَْوَّل .(3)
المبحث الرابع والأربعون
__________
(1) - رد المحتار 4 / 301 .
(2) - روضة الطالبين 11 / 103 .
(3) - المجموع 1 / 54 .(1/422)
تَخَيُّرُ الْمُسْتَفْتِي مَنْ يُفْتِيهِ :
إِنْ وَجَدَ الْمُسْتَفْتِي أَكْثَرَ مِنْ عَالِمٍ ، وَكُلُّهُمْ عَدْلٌ وَأَهْلٌ لِلْفُتْيَا ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَهُمْ يَسْأَل مِنْهُمْ مَنْ يَشَاءُ وَيَعْمَل بِقَوْلِهِ ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَعْيَانِهِمْ لِيَعْلَمَ أَفْضَلَهُمْ عِلْمًا فَيَسْأَلَهُ ، بَل لَهُ أَنْ يَسْأَل الأَْفْضَل إِنْ شَاءَ ، وَإِنْ شَاءَ سَأَل الْمَفْضُول مَعَ وُجُودِ الْفَاضِل ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (43) سورة النحل ، وَبِأَنَّ الأَْوَّلِينَ كَانُوا يَسْأَلُونَ الصَّحَابَةَ مَعَ وُجُودِ أَفَاضِلِهِمْ وَأَكَابِرِهِمْ وَتَمَكُّنِهِمْ مِنْ سُؤَالِهِمْ .
وَقَال الْقَفَّال وَابْنُ سُرَيْجٍ وَالإْسْفَرايِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ : لَيْسَ لَهُ إِلاَّ سُؤَال الأَْعْلَمِ وَالأَْخْذُ بِقَوْلِهِ .(1)
المبحث الخامس والأربعون
مَا يَلْزَمُ الْمُسْتَفْتِيَ إِنِ اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ أَجْوِبَةُ الْمُفْتِينَ :
إِنْ سَأَل الْمُسْتَفْتِي أَكْثَرَ مِنْ مُفْتٍ ، فَاتَّفَقَتْ أَجْوِبَتُهُمْ ، فَعَلَيْهِ الْعَمَل بِذَلِكَ إِنِ اطْمَأَنَّ إِلَى فَتْوَاهُمْ .
وَإِنِ اخْتَلَفُوا ، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ طَرِيقَانِ :
__________
(1) - روضة الطالبين للنووي 11 / 104، والمجموع 1 / 54، والبحر المحيط 6 / 311، وإعلام الموقعين 4 / 261 .(1/423)
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : الْحَنَفِيَّةُ ، وَالْمَالِكِيَّةُ ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ ، وَابْنُ سُرَيْجٍ وَالسَّمْعَانِيُّ وَالْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْعَامِّيَّ لَيْسَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ يَأْخُذُ بِمَا شَاءَ وَيَتْرُكُ مَا شَاءَ ، بَل عَلَيْهِ الْعَمَل بِنَوْعٍ مِنَ التَّرْجِيحِ ، ثُمَّ ذَهَبَ الأَْكْثَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ التَّرْجِيحَ يَكُونُ بِاعْتِقَادِ الْمُسْتَفْتِي فِي الَّذِينَ أَفْتَوْهُ أَيُّهُمْ أَعْلَمُ ، فَيَأْخُذُ بِقَوْلِهِ ، وَيَتْرُكُ قَوْل مَنْ عَدَاهُ .
قَال الْغَزَالِيُّ : التَّرْجِيحُ بِالأَْعْلَمِيَّةِ وَاجِبٌ ، لأَِنَّ الْخَطَأَ مُمْكِنٌ بِالْغَفْلَةِ عَنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ ، وَبِالْحُكْمِ قَبْل تَمَامِ الاِجْتِهَادِ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ ، وَالْغَلَطُ أَبْعَدُ عَنِ الأَْعْلَمِ لاَ مَحَالَةَ ، كَالْمَرِيضِ إِذَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ طَبِيبَانِ ، فَإِنْ خَالَفَ أَفْضَلَهُمَا عُدَّ مُقَصِّرًا ، وَيُعْلَمُ أَفْضَل الطَّبِيبَيْنِ أَوِ الْعَالِمَيْنِ بِتَوَاتُرِ الأَْخْبَارِ ، وَبِإِذْعَانِ الْمَفْضُول لَهُ ، وَبِالتَّسَامُعِ وَالْقَرَائِنِ دُونَ الْبَحْثِ عَنْ نَفْسِ الْعِلْمِ ، وَالْعَامِّيُّ أَهْلٌ لِذَلِكَ ، فَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُخَالِفَ الأَْفْضَل بِالتَّشَهِّي . اهـ .(1/424)
وَقَال الشَّاطِبِيُّ : لاَ يَتَخَيَّرُ ، لأَِنَّ فِي التَّخْيِيرِ إِسْقَاطَ التَّكْلِيفِ ، وَمَتَى خَيَّرْنَا الْمُقَلِّدِينَ فِي اتِّبَاعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَرْجِعٌ إِلاَّ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ وَالْهَوَى فِي الاِخْتِيَارِ ، وَلأَِنَّ مَبْنَى الشَّرِيعَةِ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ ، هُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الأَْمْرِ ا هـ ، وَقِيَاسًا عَلَى الْمُفْتِي : فَإِنَّهُ لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّ الرَّأْيَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ دُونَ نَظَرٍ فِي التَّرْجِيحِ إِجْمَاعًا كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَال الْغَزَالِيُّ : إِنْ تَسَاوَى الْمُفْتِيَانِ فِي اعْتِقَادِ الْمُسْتَفْتِي ، وَعَجَزَ عَنِ التَّرْجِيحِ تَخَيَّرَ ، لأَِنَّ هَذَا مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ ، وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ وَصَاحِبُ الْمَحْصُول : عَلَيْهِ التَّرْجِيحُ
بِالأَْمَارَاتِ ، فَإِنَّ الْحَقَّ وَالْبَاطِل لاَ يَسْتَوِيَانِ فِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ .
وَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّ التَّرْجِيحَ يَكُونُ بِالأَْخْذِ بِالأَْشَدِّ احْتِيَاطًا ، وَقَال الْكَعْبِيُّ : يَأْخُذُ بِالأَْشَدِّ فِيمَا كَانَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ ، أَمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَأْخُذُ بِالأَْيْسَرِ .
وَالأَْصَحُّ وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ : أَنَّ تَخَيُّرَ الْعَامِّيِّ بَيْنَ الأَْقْوَال الْمُخْتَلِفَةِ لِلْمُفْتِينَ جَائِزٌ ، لأَِنَّ فَرْضَ الْعَامِّيِّ التَّقْلِيدُ ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِتَقْلِيدِهِ لأَِيِّ الْمُفْتِيَيْنِ شَاءَ .(1)
المبحث السادس والأربعون
__________
(1) - شرح المنتهى للبهوتي الحنبلي 3 / 458، وابن عابدين 4 / 303، وإعلام الموقعين 4 / 254، 264، والمجموع للنووي 1 / 56، والبحر المحيط للزركشي 6 / 318، 113، والمستصفى للغزالي 2 / 125، والموافقات 4 / 130، 133، 262 .(1/425)
أَدَبُ الْمُسْتَفْتِي مَعَ الْمُفْتِي :
يَنْبَغِي لِلْمُسْتَفْتِي حِفْظُ الأَْدَبِ مَعَ الْمُفْتِي ، وَأَنْ يُجِلَّهُ وَيُعَظِّمَهُ لِعِلْمِهِ وَلأَِنَّهُ مُرْشِدٌ لَهُ(1). وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُ عِنْدَ هَمٍّ أَوْ ضَجَرٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَل الْقَلْبَ .(2)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَل لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يُطَالِبَ الْمُفْتِيَ بِالْحُجَّةِ وَالدَّلِيل ؟ فَقَال ابْنُ السَّمْعَانِيِّ : لَهُ ذَلِكَ لأَِجْل احْتِيَاطِهِ لِنَفْسِهِ ، وَيَلْزَمُ الْعَالِمَ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ الدَّلِيل إِنْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ ، لإِِشْرَافِهِ عَلَى الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ ، وَلاَ يَلْزَمُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهِ ، لاِفْتِقَارِهِ إِلَى اجْتِهَادٍ يَقْصُرُ عَنْهُ فَهْمُ الْعَامِّيِّ .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَشَارِحُ الْمُنْتَهَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ : يَنْبَغِي لِلْعَامِّيِّ أَنْ لاَ يُطَالِبَ الْمُفْتِيَ بِالدَّلِيل ، قَال الْخَطِيبُ : فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ تَسْكُنَ نَفْسُهُ لِسَمَاعِ الْحُجَّةِ طَلَبَهَا فِي مَجْلِسٍ آخَرَ ، أَوْ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ بَعْدَ قَبُول الْفُتْيَا مُجَرَّدَةً .(3)
__________
(1) - شرح المنتهى 3 / 457، والمجموع 1 / 57 .
(2) - شرح المنتهى 3 / 457 .
(3) - المجموع 1 / 57، وشرح المنتهى 3 / 457 .(1/426)
وَيُكْرَهُ كَثْرَةُ السُّؤَال ، وَالسُّؤَال عَمَّا لاَ يَنْفَعُ فِي الدِّينِ ، وَالسُّؤَال عَمَّا لَمْ يَقَعْ ، وَأَنْ يَسْأَل عَنْ صِعَابِ الْمَسَائِل ، وَعَنِ الْحِكْمَةِ فِي الْمَسَائِل التَّعَبُّدِيَّةِ ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَبْلُغَ بِالسُّؤَال حَدَّ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ ، وَأَنْ يَسْأَل عَلَى سَبِيل التَّعَنُّتِ وَالإِْفْحَامِ وَطَلَبِ الْغَلَبَةِ فِي الْخِصَامِ(1)، لِمَا فِي حديث عَائِشَةَ - رضى الله عنها - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ »(2).
المبحث السابع والأربعون
هَل يَلْزَمُ الْمُسْتَفْتِيَ الْعَمَل بِقَوْل الْمُفْتِي ؟
لاَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي الْعَمَل بِقَوْل الْمُفْتِي لِمُجَرَّدِ إِفْتَائِهِ ، وَهَذَا هُوَ الأَْصْل ، وَلَكِنْ قَدْ يَجِبُ فِي أَحْوَالٍ ، مِنْهَا :
أ - أَنْ لاَ يَجِدَ إِلاَّ مُفْتِيًا وَاحِدًا ، فَيَلْزَمُهُ الْعَمَل بِقَوْلِهِ ،وَكَذَا إِنِ اتَّفَقَ قَوْل مَنْ وَجَدَهُ مِنْهُمْ ، أَوْ حَكَمَ بِقَوْل الْمُفْتِي حَاكِمٌ .(3)
ب - أَنْ يُفْتِيَهُ بِقَوْلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ ، لِعَدَمِ جَوَازِ مُخَالَفَةِ الإِْجْمَاعِ(4).
ج - أَنْ يَكُونَ الَّذِي أَفْتَاهُ هُوَ الأَْعْلَمَ الأَْوْثَقَ .(5)
د - إِذَا اسْتَفْتَى الْمُتَنَازِعَانِ فِي حَقٍّ فَقِيهًا ، وَالْتَزَمَا الْعَمَل بِفُتْيَاهُ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا الْعَمَل بِمَا أَفْتَاهُمَا .
__________
(1) - الموافقات للشاطبي 4 / 319 - 321 .
(2) - صحيح البخارى(2457) ومسلم (6951 ) =الخصم : شديد الخصاملا =الألد : شديد الخصومة
(3) - المجموع 1 / 56، وشرح المنتهى 3 / 458، والبحر المحيط 6 / 316 .
(4) - البحر المحيط 6 / 316 .
(5) - المجموع 1 / 56 .(1/427)
فَلَوِ ارْتَفَعَا إِلَى قَاضٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ مَا أَفْتَاهُمَا بِهِ الْفَقِيهُ لَزِمَهُمَا فُتْيَا الْفَقِيهِ فِي الْبَاطِنِ ، وَحُكْمُ الْحَاكِمِ فِي الظَّاهِرِ ، قَالَهُ السَّمْعَانِيُّ ، وَقِيل : يَلْزَمُهُمَا حُكْمُ الْحَاكِمِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ .(1)
هـ - إِذَا اسْتَفْتَى فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ فَعَمِل بِفَتْوَاهُ لَزِمَهُ ذَلِكَ ، فَلَوِ اسْتَفْتَى آخَرَ فَأَفْتَاهُ بِغَيْرِ فَتْوَى الأَْوَّل لَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ ، نَقَل الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ الْهِنْدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ(2).
المبحث الثامن والأربعون
حُكْمُ الْمُسْتَفْتِي إِنْ لَمْ يَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ إِلَى الْفُتْيَا :
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ : الْمُسْتَفْتِي لاَ تُخَلِّصُهُ فَتْوَى الْمُفْتِي مِنَ اللَّهِ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الأَْمْرَ فِي الْبَاطِنِ بِخِلاَفِ مَا أَفْتَاهُ ، كَمَا لاَ يَنْفَعُهُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِذَلِكَ ، لِحَدِيثِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلاَ يَأْخُذْهَا »(3).
__________
(1) - البحر المحيط 6 / 315 - 316 .
(2) - شرح المنتهى 3 / 458 .
(3) - صحيح البخارى(2680 )(1/428)
وَالْمُفْتِي وَالْقَاضِي فِي هَذَا سَوَاءٌ ، وَلاَ يَظُنُّ الْمُسْتَفْتِي أَنَّ مُجَرَّدَ فَتْوَى الْفَقِيهِ تُبِيحُ لَهُ مَا سَأَل عَنْهُ ، سَوَاءٌ تَرَدَّدَ أَوْ حَاكَ فِي صَدْرِهِ ، لِعِلْمِهِ بِالْحَال فِي الْبَاطِنِ ، أَوْ لِشَكِّهِ فِيهِ ، أَوْ لِجَهْلِهِ بِهِ ، أَوْ لِعِلْمِهِ بِجَهْل الْمُفْتِي ، أَوْ بِمُحَابَاتِهِ لَهُ فِي فَتْوَاهُ ، أَوْ لأَِنَّهُ مَعْرُوفٌ بِالْفَتْوَى بِالْحِيَل وَالرُّخَصِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنَ الثِّقَةِ بِفَتْوَاهُ وَسُكُونِ النَّفْسِ إِلَيْهَا ، فَإِنْ كَانَ عَدَمُ الثِّقَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ ، لأَِجْل الْمُفْتِي يَسْأَل ثَانِيًا وَثَالِثًا حَتَّى تَحْصُل لَهُ الطُّمَأْنِينَةُ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ، وَالْوَاجِبُ تَقْوَى اللَّهِ بِحَسَبِ الاِسْتِطَاعَةِ(1).
المبحث التاسع والأربعون
من يجوز له الإفتاء ؟(2)
قال في أنوار البروق في أنواع الفروق: " ( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَن يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَن لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ )
__________
(1) - إعلام الموقعين 4 / 254 .
(2) - أنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 3 / ص 351) فما بعدها(1/429)
اعْلَمْ أَنَّ الْمُفْتِيَ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ كَمَا فِي تَحْرِيرِ الْكَمَالِ هُوَ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ الْفَقِيهُ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ مَوْضُوعٌ لِمَن قَامَ لِلنَّاسِ بِأَمْرِ دِينِهِمْ وَعَلِمَ جُمَلَ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَخُصُوصِهِ وَنَاسِخِهِ وَمَنسُوخِهِ وَكَذَلِكَ فِي السُّنَنِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَلَمْ يُوضَعْ لِمَن عَلِمَ مَسْأَلَةً وَأَدْرَكَ حَقِيقَتَهَا وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ هُوَ مَن اُسْتُكْمِلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ شَرَائِطَ الِاجْتِهَادُ وَالْعَدَالَةُ وَالْكَفُّ عَن التَّرْخِيصِ وَالتَّسَاهُلِ وَلِلْمُتَسَاهِلِ حَالَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنْ يَتَسَاهَلَ فِي طَلَبِ الْأَدِلَّةِ وَطُرُقِ الْأَحْكَامِ وَيَأْخُذَ بِبَادِئِ النَّظَرِ وَأَوَائِلِ الْفِكْرِ وَهَذَا مُقَصِّرٌ فِي حَقِّ الِاجْتِهَادِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَلَا يَجُوزُ وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَتَسَاهَلَ فِي طَلَبِ الرُّخَصِ وَتَأَوُّلِ السُّنَّةِ فَهَذَا مُتَجَوِّزٌ فِي دِينِهِ وَهُوَ آثِمٌ مِن الْأَوَّلِ اهـ .(1/430)
لَكِنْ قَالَ مَن وَصَفَهُ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ فِي تَوْشِيحِ التَّرْشِيحِ بِالْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الْإِمَامِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ تَوْقِيفُ الْفُتْيَا عَلَى حُصُولِ الْمُجْتَهِدِ يُفْضِي إلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ وَاسْتِرْسَالِ الْخَلْقِ فِي أَهْوَائِهِمْ فَالْمُخْتَارُ أَنَّ الرَّاوِيَ عَن الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ إذَا كَانَ عَدْلًا مُتَمَكِّنًا مِن فَهْمِ كَلَامِ الْإِمَامِ ثُمَّ حَكَى لِلْمُقَلَّدِ قَوْلَهُ فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْعَامِّيِّ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ عِنْدَهُ وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِي زَمَانِنَا عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِن الْفُتْيَا هَذَا مَعَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِأَنَّ نِسَاءَ الصَّحَابَةِ كُنَّ يَرْجِعْنَ فِي أَحْكَامِ الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ إلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ أَزْوَاجُهُنَّ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ حِينَ أَرْسَلَ الْمِقْدَادَ فِي قِصَّةِ الْمَذْيِ ،وَفِي مَسْأَلَتِنَا أَظْهَرُ فَإِنَّ مُرَاجَعَةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ ذَاكَ مُمْكِنَةٌ وَمُرَاجَعَةُ الْمُقَلِّدِ الْآنَ لِلْأَئِمَّةِ السَّابِقِينَ مُتَعَذِّرَةٌ وَقَدْ أَطْبَقَ النَّاسُ عَلَى تَنْفِيذِ أَحْكَامِ الْقُضَاةِ مَعَ عَدَمِ شَرَائِطِ الِاجْتِهَادِ الْيَوْمَ أَيْ لِطُولِ الْمُدَّةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ زَمَنِ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ مَعَ ضَعْفِ الْعِلْمِ وَغَلَبَةِ الْجَهْلِ سِيَّمَا ،وَقَدْ ادَّعَى الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَكَانَ إمَامًا جَلِيلًا مُتَضَلِّعًا مِن الْعُلُومِ الْمَنطُوقِ وَالْمَفْهُومِ وَمِن أَهْلِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ بُلُوغَهُ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ فَلَمْ يُسَلِّمُوا(1/431)
لَهُ، فَمَا بَالُك بِغَيْرِهِ مِمَن هُوَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ الْبَعِيدَةِ كَمَا فِي رِسَالَةِ كَيْفِيَّةِ الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الزَّيْغِ لِشَيْخِ شُيُوخِنَا السَّيِّدِ أَحْمَدَ دَحلَانَ، وَفِي الْحَطَّابِ عَن ابْنِ عَرَفَةَ أَنَّ اسْتِعَاذَةَ الْفَخْرِ فِي الْمَحْصُولِ وَتَبِعَهُ السَّرَّاجُ فِي تَحْصِيلِهِ وَالتَّاجُ فِي حَاصِلِهِ فِي قَوْلِهِمْ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ مَا نَصُّهُ وَلَوْ بَقِيَ مِن الْمُجْتَهِدِينَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَاحِدٌ كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً " .
وَإِنْ بَنَى عَلَى بَقَاءِ الِاجْتِهَادِ فِي عَصْرِهِمْ وَالْفَخْرُ تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّمِائَةٍ لَكِنَّهُمْ قَالُوا فِي كِتَابِ الِاسْتِفْتَاءِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِي زَمَانِنَا عَلَى تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ إذْ لَا مُجْتَهِدَ فِيهِ " وَإِذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا مُجْتَهِدَ فِي الْقَرْنِ السَّابِعِ فَكَيْفَ لَا يَنْعَقِدُ بِالْأَوْلَى فِي الْقَرْنِ الرَّابِعَ عَشَرَ وَقَدْ قَالَ الْعَطَّارُ وَفِي عَصْرِنَا وَهُوَ الْقَرْنُ الثَّالِثَ عَشَرَ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ بِتَرَاكُمِ عَظَائِمِ الْخُطُوبِ نَسْأَلُ السَّلَامَةَ ".
ثُمَّ قَالَ السُّبْكِيُّ لِمَن لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ مَرَاتِبُ :(1/432)
إحْدَاهَا أَنْ يَصِلَ إلَى رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ الْمُقَيَّدِ فَيَسْتَقِلُّ بِتَقْرِيرِ مَذْهَبِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ وَنُصُوصِهِ أُصُولًا يَسْتَنْبِطُ مِنهَا نَحْوُ مَا يَفْعَلُهُ بِنُصُوصِ الشَّارِعِ وَهَذِهِ صِفَةُ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ وَاَلَّذِي أَظُنُّهُ قِيَامَ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ فُتْيَا هَؤُلَاءِ وَأَنْتَ تَرَى عُلَمَاءَ الْمَذْهَبِ مِمَن وَصَلَ إلَى هَذِهِ الرُّتْبَةِ هَلْ مَنَعَهُمْ أَحَدٌ الْفَتْوَى أَوْ مَنَعُوا هُمْ أَنْفُسَهُمْ عَنهَا ؛ الثَّانِيَةُ مَن لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ لَكِنَّهُ فَقِيهُ النَّفْسِ حَافِظٌ لِلْمَذْهَبِ قَائِمٌ بِتَقْرِيرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَرْتَضْ فِي التَّخْرِيجِ وَالِاسْتِنْبَاطِ كَارْتِيَاضِ أُولَئِكَ وَقَدْ كَانُوا يُفْتُونَ وَيُخَرِّجُونَ كَأُولَئِكَ اهـ
وَفِي جَوَازِ إفْتَاءِ مَن فِي هَذِهِ الرُّتْبَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَثَالِثُهَا عِنْدَ عَدَمِ الْمُجْتَهِدِ كَمَا حَكَاهُ شَافِعِيٌّ مُتَأَخِّرٌ عَنهُ الثَّالِثَةُ مَن لَمْ يَبْلُغْ هَذَا الْمِقْدَارَ وَلَكِنَّهُ حَافِظٌ لِوَاضِحَاتِ الْمَسَائِلِ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَهُ ضَعْفًا فِي تَقْرِيرِ أَدِلَّتِهَا فَعَلَى هَذَا الْإِمْسَاكُ فِيمَا يَغْمُضُ فَهْمُهُ فِيمَا لَا نَقْلَ عِنْدَهُ فِيهِ وَلَيْسَ هَذَا الَّذِي حَكَيْنَا فِيهِ الْخِلَافَ فَإِنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَى الْمَأْخَذِ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ غَيْرُ عَوَامَّ "
وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ لَهُ الْإِفْتَاءَ فِيمَا لَا يَغْمُضُ فَهْمُهُ قَالَ مُتَأَخِّرٌ شَافِعِيٌّ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا رَاجِعًا لِمَحَلِّ الضَّرُورَةِ لَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ اهـ .(1/433)
وَثَانِي الْأَقْوَالِ فِيهِ الْمَنعُ مُطْلَقًا وَثَالِثُهَا الْجَوَازُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُجْتَهِدِ وَعَدَمِ الْجَوَازِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِ، وَقِيلَ الصَّوَابُ إنْ كَانَ السَّائِلُ يُمْكِنُهُ التَّوَصُّلُ إلَى عَالِمٍ يَهْدِيهِ السَّبِيلَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ اسْتِفْتَاءُ مِثْلِ هَذَا وَلَا يَحِلُّ لِهَذَا أَنْ يُنَصِّبَ نَفْسَهُ لِلْفَتْوَى مَعَ وُجُودِ هَذَا الْعَالِمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِهِ أَوْ نَاحِيَتِهِ غَيْرُهُ فَلَا رَيْبَ أَنَّ رُجُوعَهُ إلَيْهِ أَوْلَى مِن أَنْ يَقْدُمَ عَلَى الْعَمَلِ بِلَا عِلْمٍ أَوْ يَبْقَى مُرْتَبِكًا فِي حَيْرَتِهِ مُتَرَدِّدًا فِي عَمَاهُ وَجَهَالَتِهِ بَلْ هَذَا هُوَ الْمُسْتَطَاعُ مِن تَقْوَاهُ الْمَأْمُورُ بِهَا وَهُوَ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
((1/434)
أَمَّا الْعَامِّيُّ ) إذَا عَرَفَ حُكْمَ حَادِثَةٍ بِدَلِيلِهَا فَهَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ وَيَسُوغَ لِغَيْرِهِ تَقْلِيدُهُ فَفِيهِ أَوْجُهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَحَدُهَا لَا مُطْلَقًا لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِلِاسْتِدْلَالِ وَعَدَمِ عِلْمِهِ بِشُرُوطِهِ وَمَا يُعَارِضُهُ وَلَعَلَّهُ يَظُنُّ مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ دَلِيلًا وَهَذَا فِي بَحْرِ الزَّرْكَشِيّ الْأَصَحُّ ثَانِيهَا نَعَمْ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِهِ كَمَا لِلْعَالِمِ وَتَمَيُّزِ الْعَالِمِ عَنهُ لِقُوَّةٍ يَتَمَكَّنُ بِهَا مِن تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ وَدَفْعِ الْمُعَارِضِ لَهُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ ثَالِثُهَا إنْ كَانَ الدَّلِيلُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً جَازَ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُمَا خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فَيَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْعَمَلُ بِمَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنهُمَا وَإِرْشَادُ غَيْرِهِ إلَيْهِ رَابِعُهَا إنْ كَانَ نَقْلِيًّا جَازَ وَإِلَّا فَلَا، قَالَ السُّبْكِيُّ: ( وَأَمَّا الْعَامِّيُّ ) الَّذِي عَرَفَ مِن الْمُجْتَهِدِ حُكْمَ مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَدْرِ دَلِيلَهَا كَمَن حَفِظَ مُخْتَصَرًا مِن مُخْتَصَرَاتِ الْفِقْهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَرُجُوعُ الْعَامِّيِّ إلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ سِوَاهُ أَوْلَى مِن الِارْتِبَاكِ فِي الْحَيْرَةِ .
وَكُلُّ هَذَا فِي مَن لَمْ يَنْقُلْ عَن غَيْرِهِ أَمَّا النَّاقِلُ فَلَا يُمْنَعُ فَإِذَا ذَكَرَ الْعَامِّيُّ أَنَّ فُلَانًا الْمُفْتِيَ أَفْتَانِي بِكَذَا لَمْ يُمْنَعْ مِن نَقْلِ هَذَا الْقَدْرِ اهـ .(1/435)
لَكِنْ لَيْسَ لِلْمَذْكُورِ لَهُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى مَا فِي الزَّرْكَشِيّ لَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَعْمَلَ بِفَتْوَى مُفْتٍ لِعَامِّيٍّ مِثْلِهِ، أَفَادَ جَمِيعَ هَذَا أَمِيرُ الْحَاجِّ فِي مَوْضِعَيْنِ مِن شَرْحِهِ عَلَى التَّحْرِيرِ الْأُصُولِيِّ مَعَ زِيَادَةٍ وَتَوْضِيحِ الْمَقَامِ عَلَى مَا يُرَامُ أَنَّ الْإِفْتَاءَ كَانَ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي شَهِدَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقَوْلِهِ { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ }(1)مِن خَوَاصِّ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ ضَرُورَةَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ اسْتِفْرَاغُ الْفَقِيهِ الْوُسْعَ لِتَحْصِيلِ ظَنٍّ بِحُكْمٍ وَالْفَقِيهُ هُوَ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ وَتَحَقُّقُ مَاهِيَةِ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ لَا يُوجَدُ إلَّا بِشُرُوطٍ مِنهَا مَا هِيَ صِفَةٌ فِيهِ وَهِيَ مَا ذَكَرَهُ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ بِقَوْلِهِ مَعَ تَوْضِيحٍ مِن شَرْحِ الْمَحَلِّيّ وَغَيْرِهِ ( هُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ ) أَيْ ذُو الْمَلَكَةِ الَّتِي يُدْرِكُ بِهَا الْمَعْلُومَ أَيْ مَا مِن شَأْنِهِ أَنْ يُعْلَمَ ( فَقِيهُ النَّفْسِ ) أَيْ شَدِيدُ الْفَهْمِ بِالطَّبْعِ لِمَقَاصِدِ الْكَلَامِ وَإِنْ أَنْكَرَ الْقِيَاسَ ( الْعَارِفُ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ ) أَيْ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالتَّكْلِيفِ بِهِ فِي الْحُجِّيَّةِ بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّا مُكَلَّفُونَ بِالتَّمَسُّكِ بِاسْتِصْحَابِ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ إلَى أَنْ يُصْرَفُ عَنهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ مِن نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ ( ذُو الدَّرَجَةِ الْوُسْطَى ) أَوْ الْكَامِلَةِ لُغَةً وَعَرَبِيَّةً مِن نَحْوٍ وَتَصْرِيفٍ وَأُصُولًا بِأَنْ يَكُونَ عَارِفًا
__________
(1) - مسند البزار (4508) صحيح مشهور(1/436)
بِالْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ وَبَلَاغَةٍ مِن مَعَانٍ وَبَيَانٍ وَمَا تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ بِهِ بِدَلَالَتِهِ عَلَيْهَا مِن كِتَابٍ وَسُنَّةٍ وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْ الْمُتُونَ لِيَتَأَتَّى لَهُ الِاسْتِنْبَاطُ الْمَقْصُودُ بِالِاجْتِهَادِ أَمَّا عِلْمُهُ بِآيَاتِ الْأَحْكَامِ وَأَحَادِيثِهَا أَيْ مَوَاقِعِهَا .
وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهَا فَلِأَنَّهَا الْمُسْتَنْبَطُ مِنهُ وَأَمَّا عِلْمُهُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ فَلِأَنَّهُ يَعْرِفُ بِهِ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِنْبَاطِ وَغَيْرَهَا لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَأَمَّا عِلْمُهُ بِالْبَاقِي فَلِأَنَّهُ لَا يَفْهَمُ الْمُرَادَ مِن الْمُسْتَنْبَطِ مِنهُ إلَّا بِهِ لِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ بَلِيغٌ وَمِنهَا مَا هُوَ شَرْطٌ فِي الِاجْتِهَادِ لَا صِفَةٌ فِي الْمُجْتَهِدِ وَهِيَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ السُّبْكِيّ عَن وَالِدِهِ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ مِن كَوْنِهِ خَبِيرًا بِمَوَاقِع الْإِجْمَاعِ كَيْ لَا يَخْرِقَهُ ،وَبِالنَّاسِخِ وَالْمَنسُوخِ لِيُقَدِّمَ الْأَوَّلَ عَلَى الثَّانِي وَبِأَسْبَابِ النُّزُولِ لِتُرْشِدَهُ إلَى فَهْمِ الْمُرَادِ وَبِشَرْطِ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ الْمُحَقِّقِ لَهُمَا لِيُقَدِّمَ الْأَوَّلَ عَلَى الثَّانِي وَبِالصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ مِن الْحَدِيثِ أَيْ مَاصَدَقَاتِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْحَسَنَةِ وَالضَّعِيفَةِ لَا مَفَاهِيمُهَا ،فَإِنَّ ذَلِكَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ لِيُقَدِّمَ مَاصَدَق الصَّحِيحَةِ وَالْحَسَنَةِ عَلَى مَاصَدَق الضَّعِيفَةِ ،وَبِحَالِ الرُّوَاةِ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ لِيُقَدِّمَ الْمَقْبُولَ عَلَى الْمَرْدُودِ وَيُشْتَرَطُ لِاعْتِمَادِ قَوْلِهِ لَا لِاجْتِهَادِهِ الْعَدَالَةُ وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ الْبَحْثِ عَن الْمُعَارِضِ كَالْمُخَصَّصِ وَالْمُقَيَّدِ وَالنَّاسِخِ .(1/437)
وَعَن اللَّفْظِ هَلْ مَعَهُ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ عَن ظَاهِرِهِ لِيَسْلَمَ مَا يَسْتَنْبِطُهُ عَن تَطَرُّقِ الْخَدْشِ إلَيْهِ لَوْ لَمْ يَبْحَثْ وَاجِبًا أَوْ أَوْلَى فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْعَامِّ قَبْلَ الْبَحْثِ عَن الْمُخَصِّصِ عَلَى الْأَصَحِّ اهـ
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى تَسْلِيمِ تَحَقُّقِهَا فِي عُلَمَاءِ تِلْكَ الْقُرُونِ وَلَمْ يُعَارِضُوا مَن ادَّعَى الِاجْتِهَادَ الْمُطْلَقَ مِنهُمْ .
وَأَمَّا عُلَمَاءُ الْقَرْنِ الرَّابِعِ وَعُلَمَاءُ مَن بَعْدَهُ مِن الْقُرُونِ إلَى هَذَا الْقَرْنِ فَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي تَسْلِيمِ تَحَقُّقِ تِلْكَ الشُّرُوطِ فِي بَعْضِهِمْ وَعَدَمِ تَسْلِيمِ ذَلِكَ فَادَّعَى جَمَاعَةٌ مِن عُلَمَاءِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ فَمَا بَعْدَهُ تَحَقُّقَ تِلْكَ الشُّرُوطِ فِيهِ وَأَنَّهُ بَلَغَ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ بِنَاءً عَلَى أُمُورٍ أَحَدُهَا قَوْلُ ابْنِ السُّبْكِيّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ مَعَ تَوْضِيحٍ مِن الْمَحَلِّيّ وَيَكْفِي الْخِبْرَةُ بِحَالِ الرُّوَاةِ فِي زَمَانِنَا الرُّجُوعُ إلَى أَئِمَّةِ ذَلِكَ مِن الْمُحَدِّثِينَ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمْ فَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِمْ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ لِتَعَذُّرِهِمَا فِي زَمَانِنَا إلَّا بِوَاسِطَةٍ وَهُمْ أَوْلَى مِن غَيْرِهِمْ .(1/438)
وَثَانِيهَا قَوْلُ الْعَلَّامَةِ الْمُحَقِّقِ الشَّيْخِ جَلَالِ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّيُوطِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي رِسَالَتِهِ الرَّدُّ عَلَى مَن أَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ أَنَّ الِاجْتِهَادَ الْمُطْلَقَ قِسْمَانِ مُسْتَقِلٌّ وَغَيْرُ مُسْتَقِلٍّ وَالْمُسْتَقِلُّ هُوَ الَّذِي اسْتَقَلَّ بِقَوَاعِدِهِ لِنَفْسِهِ يَبْنِي عَلَيْهَا الْفِقْهَ خَارِجًا عَن قَوَاعِدِ الْمَذَاهِبِ الْمُقَرَّرَةِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَدَاوُد وَغَيْرِهِمْ مِن مُجْتَهِدِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِيَّةِ قَالَ السُّيُوطِيّ :وَهَذَا الْقِسْمُ قَدْ فُقِدَ مِن دَهْرٍ بَلْ لَوْ أَرَادَهُ الْإِنْسَانُ الْيَوْمَ لَامْتَنَعَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، قَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ: أُصُولُ الْمَذَاهِبِ وَقَوَاعِدُ الْأَدِلَّةِ مَنقُولَةٌ عَن السَّلَفِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ فِي الْأَعْصَارِ خِلَافُهَا اهـ كَلَامُ ابْنِ بُرْهَانٍ وَهُوَ مِن أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ وَهُوَ مِن أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ اتِّبَاعُ الْأَئِمَّةِ الْآنَ الَّذِينَ حَازُوا شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ مُجْتَهِدُونَ مُلْتَزِمُونَ أَنْ لَا يُحْدِثُوا مَذْهَبًا أَمَّا كَوْنُهُمْ مُجْتَهِدِينَ فَلِأَنَّ الْأَوْصَافَ قَائِمَةٌ بِهِمْ .
وَأَمَّا كَوْنُهُمْ مُلْتَزِمِينَ أَنْ لَا يُحْدِثُوا مَذْهَبًا فَلِأَنَّ إحْدَاثَ مَذْهَبٍ زَائِدٍ بِحَيْثُ يَكُونُ لِفُرُوعِهِ أُصُولٌ وَقَوَاعِدُ مُبَايِنَةٌ لِسَائِرِ قَوَاعِدِ الْمُتَقَدِّمِينَ مُتَعَذِّرُ الْوُجُودِ لِاسْتِيعَابِ الْمُتَقَدِّمِينَ سَائِرَ الْأَسَالِيبِ اهـ كَلَامُهُ(1/439)
وَذَكَرَ نَحْوَهُ ابْنُ الْحَاجِّ فِي الْمَدْخَلِ وَهُوَ مَالِكِيٌّ أَيْضًا ،وَالْمُجْتَهِدُ غَيْرُ الْمُسْتَقِلِّ هُوَ الَّذِي وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ الِاجْتِهَادِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي اتَّصَفَ بِهَا الْمُجْتَهِدُ الْمُسْتَقِلُّ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَبْتَكِرْ لِنَفْسِهِ قَوَاعِدَ بَلْ سَلَكَ طَرِيقَةَ إمَامٍ مِن أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ فِي الِاجْتِهَادِ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ تَبَعًا لِابْنِ الصَّلَاحِ فِي كِتَابِهِ آدَابِ الْفُتْيَا وَهَذَا لَا يَكُونُ مُقَلِّدَ الْإِمَامَةِ لَا فِي الْمَذْهَبِ وَلَا فِي دَلِيلِهِ لِاتِّصَافِهِ بِصِفَةِ الْمُسْتَقِلِّ وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَيْهِ لِسُلُوكِهِ طَرِيقَهُ فِي الِاجْتِهَادِ وَادَّعَى الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ هَذِهِ الصِّفَةَ لِأَصْحَابِنَا فَحَكَى عَن أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَدَاوُد وَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمْ صَارُوا إلَى مَذْهَبِ أَئِمَّتِهِمْ تَقْلِيدًا لَهُمْ ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُنَا وَهُوَ أَنَّهُمْ صَارُوا إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا تَقْلِيدًا لَهُ ؛بَلْ لَمَّا وَجَدُوا طَرِيقَهُ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ أَسَدَّ الطُّرُقِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِن الِاجْتِهَادِ سَلَكُوا طَرِيقَهُ فَطَلَبُوا مَعْرِفَةَ الْأَحْكَامِ بِطَرِيقِ الشَّافِعِيِّ ،وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ نَحْوَ هَذَا فَقَالَ: اتَّبَعْنَا الشَّافِعِيَّ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّا وَجَدْنَا قَوْلَهُ أَرْجَحَ الْأَقْوَالِ وَأَعْدَلَهَا لَا أَنَّا قَلَّدْنَاهُ ،قَالَ النَّوَوِيُّ :هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُوَافِقٌ لِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ الْمُزَنِيّ فِي أَوَّلِ مُخْتَصَرِهِ وَغَيْرُهُ بِقَوْلِهِ مَعَ إعْلَامِهِ بِنَهْيِهِ(1/440)
عَن تَقْلِيدِ غَيْرِهِ، قَالَ ثُمَّ فَتْوَى الْمُفْتِي فِي هَذَا النَّوْعِ كَفَتْوَى الْمُسْتَقِلِّ فِي الْعَمَلِ بِهَا وَالِاعْتِدَادِ بِهَا فِي الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ اهـ كَلَامُ النَّوَوِيِّ
قَالَ السُّيُوطِيّ : فَالْمُطْلَقُ أَعَمُّ مُطْلَقًا مِن الْمُسْتَقِلِّ فَكُلُّ مُسْتَقِلٍّ مُطْلَقٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُطْلَقٍ مُسْتَقِلًّا وَاَلَّذِي ادَّعَيْنَاهُ هُوَ الِاجْتِهَادُ الْمُطْلَقُ لَا الِاسْتِقْلَالُ بَلْ نَحْنُ تَابِعُونَ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ وَسَالِكُونَ طَرِيقَهُ فِي الِاجْتِهَادِ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَمَعْدُودُونَ مِن أَصْحَابِهِ ،وَكَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ اجْتِهَادَنَا مُقَيَّدٌ وَالْمُجْتَهِدُ الْمُقَيَّدُ إنَّمَا يَنْقُصُ عَن الْمُطْلَقِ بِإِخْلَالِهِ بِالْحَدِيثِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِن مَشْرِقِهَا إلَى مَغْرِبِهَا أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ وَالْعَرَبِيَّةِ مِنِّي إلَّا أَنْ يَكُونَ الْخَضِرُ أَوْ الْقُطْبُ أَوْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ أَقْصِدْ دُخُولَهُمْ فِي عِبَارَتِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اهـ كَلَامُ السُّيُوطِيّ.(1)
__________
(1) - قلت :هذا ادعاء عريض من الإمام السيوطي ، فلم يسلم له علماء عصره بهذه الدعوى العريضة !!!(1/441)
الْأَمْرُ الثَّالِثُ أَنَّ الِاجْتِهَادَ الْمُطْلَقَ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَكَيْفَ يَدَّعِي خُلُوَّ الْأَرْضِ عَمَن يَقُومُ بِهِ فَيَأْثَمُ جَمِيعُ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ كَمَا فِي رِسَالَةِ السُّيُوطِيّ الْمَذْكُورَةِ، وَفِي حَاشِيَةِ الْبَاجُورِيِّ عَلَى ابْنِ قَاسِمٍ وَادَّعَى الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ بَقَاءَهُ إلَى آخِرِ الزَّمَانِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَن يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا »(1)وَمَنَعَ الِاسْتِدْلَالَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَن يُجَدِّدُ أَمْرَ الدِّينِ مَن يُقَرِّرُ الشَّرَائِعَ وَالْأَحْكَامَ لَا الْمُجْتَهِدَ الْمُطْلَقَ اهـ .
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ الْمَذْكُورَةِ لَمْ تَتَحَقَّقْ فِي شَخْصٍ مِن عُلَمَاءِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ فَمَا بَعْدَهُ ،وَأَنَّ مَن ادَّعَى بُلُوغَهَا مِنهُمْ لَا تَسْلَمُ لَهُ دَعْوَاهُ ضَرُورَةَ أَنَّ بُلُوغَهَا لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى ،وَأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِهِ تَحْصِيلُهُ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الِاجْتِهَادُ فِي تَحْصِيلِ شُرُوطِهِ بِقَدْرِ مَا فِي طَاقَاتِهِمْ الْبَشَرِيَّةِ فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ تَحْصِيلُهَا كَيْفَ يَدَّعِي تَأْثِيمَ جَمِيعِهِمْ، قَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ عَالِمُ الْأَقْطَارِ الشَّامِيَّةِ بَعْدَ سَرْدِهِ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ : هَذِهِ الشُّرُوطُ يَعُزُّ وُجُودُهَا فِي زَمَانِنَا فِي شَخْصٍ مِن الْعُلَمَاءِ بَلْ لَا يُوجَدُ فِي الْبَسِيطَةِ الْيَوْمَ مُجْتَهِدٌ مُطْلَقٌ اهـ
__________
(1) - سنن أبى داود(4293 ) صحيح(1/442)
وَقَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ الْوَسِيطِ :وَأَمَّا شُرُوطُ الِاجْتِهَادِ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْقَاضِي فَقَدْ تَعَذَّرَتْ فِي وَقْتِنَا ،وَفِي الْإِنْصَافِ مِن كُتُبِ السَّادَةِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ مِن زَمَنٍ طَوِيلٍ عُدِمَ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ، وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيّ وَالرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ: إنَّ النَّاسَ كَالْمُجْمِعِينَ الْيَوْمَ عَلَى أَنَّهُ لَا مُجْتَهِدَ ،وَقَدْ تَقَدَّمَ عَن شَيْخِ شُيُوخِنَا فِي رِسَالَتِهِ كَيْفِيَّةُ الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الزَّيْغِ أَنَّ الْإِمَامَ مُحَمَّدَ بْنَ جَرِيرٍ الطَّبَرِيَّ قَدْ ادَّعَى بُلُوغَهُ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ فَلَمْ يُسَلِّمُوا لَهُ وَهُوَ إمَامٌ جَلِيلٌ مُتَضَلِّعٌ مِن الْعُلُومِ الْمَنطُوقِ وَالْمَفْهُومِ وَمِن أَهْلِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ فَمَا بَالُك بِغَيْرِهِ مِمَن هُوَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ الْبَعِيدَةِ ،وَعَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُطْلَقَ لَا يَكُونُ إلَّا مُسْتَقِلًّا وَأَنَّ مَن لَهُ أَنْ يُفْتِيَ عِبَارَةً عَن غَيْرِ الْعَامِّيِّ وَمَن لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ عِبَارَةً عَن الْعَامِّيِّ، وَأَنَّ غَيْرَ الْعَامِّيِّ إمَّا مُجْتَهِدٌ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ وَلَهُ مَرْتَبَتَانِ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى أَشَارَ لَهَا فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ بِقَوْلِهِ مَعَ الشَّرْحِ وَدُونَهُ أَيْ دُونَ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الْمُتَقَدِّمِ مُجْتَهِدُ الْمَذْهَبِ وَهُوَ الْمُتَمَكِّنُ مِن تَخْرِيجِ الْوُجُوهِ الَّتِي يُبْدِيهَا عَلَى نُصُوصِ إمَامِهِ فِي الْمَسَائِلِ اهـ .(1/443)
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ تَبَعًا لِابْنِ الصَّلَاحِ أَيْضًا:وَهُوَ مَا يَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِتَقْرِيرِ أُصُولِهِ بِالدَّلِيلِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ فِي أَدِلَّتِهِ أُصُولَ إمَامِهِ وَقَوَاعِدَهُ وَشَرْطُهُ كَوْنُهُ عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَأَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ تَفْصِيلًا بَصِيرًا بِمَسَالِكِ الْأَقْيِسَةِ وَالْمَعَانِي تَامِّ الِارْتِيَاضِ فِي التَّخْرِيجِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، قَيِّمًا بِإِلْحَاقِ مَا لَيْسَ مَنصُوصًا عَلَيْهِ لِإِمَامِهِ بِأُصُولِهِ وَلَا يُعَرَّى عَن شَوْبِ تَقْلِيدٍ لَهُ لِإِخْلَالِهِ بِبَعْضِ أَدَوَاتِ الْمُسْتَقِلِّ، بِأَنْ يُخِلَّ بِالْحَدِيثِ أَوْ الْعَرَبِيَّةِ، وَكَثِيرًا مَا أَخَلَّ بِهِمَا الْمُقَيَّدُ، ثُمَّ يَتَّخِذُ نُصُوصَ إمَامِهِ أُصُولًا يَسْتَنْبِطُ مِنهَا كَفِعْلِ الْمُسْتَقِلِّ بِنُصُوصِ الشَّرْعِ ،وَرُبَّمَا اكْتَفَى فِي الْحُكْمِ بِدَلِيلِ إمَامِهِ وَلَا يَبْحَثُ عَن مُعَارِضٍ كَفِعْلِ الْمُسْتَقِلِّ فِي النُّصُوصِ ،وَهَذِهِ صِفَةُ أَصْحَابِنَا أَصْحَابِ الْوُجُوهِ وَالْعَامِلُ بِفَتْوَى هَذَا مُقَلِّدٌ لِإِمَامِهِ لَا لَهُ ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّ مَن هَذَا حَالُهُ لَا يَتَأَدَّى بِهِ فَرْضُ الْكِفَايَةِ ،قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَيَظْهَرُ تَأَدِّي الْفَرْضِ بِهِ فِي الْفَتْوَى وَإِنْ لَمْ يَتَأَدَّ فِي إحْيَاءِ الْعُلُومِ الَّتِي مِنهَا اسْتِمْدَادٌ لِلْفَتْوَى"(1/444)
وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ وَهَذِهِ صِفَةُ أَصْحَابِنَا إلَخْ مِثْلُ الْمُزَنِيّ وَالْبُوَيْطِيِّ صَاحِبَيْ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ صَاحِبَيْ مَالِكٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ الْخَلَّالِ وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيِّ وَالشَّيْخِ حَنْبَلٍ وَصَالِحِ بْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِن أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ إفْتَاءِ مَن فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَالْأَصْلُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَن فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَلَعَلَّهُ لِعَدَمِ وُجُودِهِ سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ قَالَ شَيْخُ شُيُوخِنَا فِي رِسَالَتِهِ الْمَذْكُورَةِ: لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ هَذِهِ الْأَعْصَارِ الِاسْتِنْبَاطُ فِي شَيْءٍ مِن الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْأَخْذُ بِأَقْوَالِ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَاتِّبَاعِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَقُولُونَ مِن الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ وَتَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ ،وَلَوْ لَمْ نَقُلْ ذَلِكَ لَزِمَ الزَّيْغُ وَالضَّلَالُ وَالْإِلْحَادُ فِي الدِّينِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِن الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ يُعَارِضُهَا مِثْلُهَا مِن الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَلَا إطْلَاعَ لِغَيْرِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِالنَّقْلِ عَنهُمْ وَبَعْضُهَا مَنسُوخٌ وَبَعْضُهَا مَخْصُوصٌ وَبَعْضُهَا مُجْمَلٌ وَبَعْضُهَا مُتَشَابِهٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن الْأَقْسَامِ اهـ الْمُرَادُ .(1/445)
وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ مِن جَوَازِ خُلُوِّ الزَّمَانِ حَتَّى عَن مُجْتَهِدِ الْمَذْهَبِ فَفِي الْعَطَّارِ عَلَى مَحَلِّي جَمْعِ الْجَوَامِعِ قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ :الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ يَجُوزُ خُلُوُّ عَصْرٍ مِن الْأَعْصَارِ عَن الَّذِي يُمْكِنُ تَفْوِيضُ الْفَتْوَى إلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ مُجْتَهِدًا مُطْلَقًا أَوْ كَانَ مُجْتَهِدًا فِي مَذْهَبِ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُطْلَقِ وَمَنَعَ مِنهُ الْأَقَلُّونَ كَالْحَنَابِلَةِ اهـ ولا سِيَّمَا وَنَحْنُ الْآنَ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعَ عَشَرَ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْأَخْضَرِيُّ فِي سُلَّمِهِ الْمُنْوَرِقِ لَا سِيَّمَا فِي عَاشِرِ الْقُرُونِ ذِي الْجَهْلِ وَالْفَسَادِ وَالْفُتُونِ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ أَشَارَ لَهَا فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ بِقَوْلِهِ مَعَ الشَّرْحِ وَدُونَهُ إلَخْ أَيْ دُونَ مُجْتَهِدِ الْمَذْهَبِ مُجْتَهِدُ الْفُتْيَا، وَهُوَ الْمُتَبَحِّرُ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ الْمُتَمَكِّنُ مِن تَرْجِيحِ قَوْلٍ لَهُ عَلَى آخَرَ أَطْلَقَهُمَا اهـ .
وَسَمَّاهُ الْعَلَّامَةُ السُّيُوطِيّ فِي رِسَالَتِهِ الْمَذْكُورَةِ مُجْتَهِدَ التَّرْجِيحِ ،وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ تَبَعًا لِابْنِ الصَّلَاحِ أَيْضًا: وَهُوَ مَن لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ لَكِنَّهُ فَقِيهُ النَّفْسِ حَافِظٌ لِمَذْهَبِ إمَامِهِ عَارِفٌ بِأَدِلَّتِهِ قَائِمٌ بِتَقْرِيرِهَا يُصَوِّرُ وَيُحَرِّرُ وَيُقَرِّرُ وَيُمَهِّدُ وَيُزَيِّفُ وَيُرَجِّحُ لَكِنَّهُ قَصَرَ عَن أُولَئِكَ لِقُصُورِهِ عَنهُمْ فِي حِفْظِ الْمَذْهَبِ أَوْ الِارْتِيَاضِ فِي الِاسْتِنْبَاطِ وَمَعْرِفَةِ الْأُصُولِ وَنَحْوِهَا مِن أَدِلَّتِهَا اهـ.(1/446)
وَقَالَ شَيْخُ شُيُوخِنَا فِي رِسَالَتِهِ :وَمُجْتَهِدُو الْفَتْوَى مَن كَمُلُوا فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ مِن أَرْبَابِ الْمَذْهَبِ حَتَّى وَصَلُوا لِرُتْبَةِ التَّرْجِيحِ لِلْأَقْوَالِ وَهُمْ كَثِيرُونَ كَالرَّافِعِيِّ وَالنَّوَوِيِّ وَابْنِ حَجَرٍ وَالرَّمْلِيِّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ اهـ بِتَوْضِيحٍ .
وَقَالَ شَيْخُ وَالِدِي الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ الْبَاجُورِيُّ عَلَى ابْنِ قَاسِمٍ: إنَّ الرَّمْلِيَّ وَابْنَ حَجَرٍ لَمْ يَبْلُغَا مَرْتَبَةَ التَّرْجِيحِ بَلْ هُمَا مُقَلِّدَانِ فَقَطْ نَعَمْ قَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ لَهُمَا تَرْجِيحٌ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ بَلْ والشبراملسي أَيْضًا اهـ
وَكَالْمَازِرِيِّ وَابْنِ رُشْدٍ وَاللَّخْمِيِّ وَابْنِ الْعَرَبِيِّ وَالْقَرَافِيِّ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَكَابْنِ نَجِيمٍ وَالسَّرَخْسِيِّ وَالْكَمَالِ بْنِ الْهُمَامِ وَالطَّحَاوِيِّ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَأَبِي يَعْلَى وَابْنِ قُدَامَةَ وَأَبِي الْخَطَّابِ وَالْقَاضِي عَلَاءِ الدِّينِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ،وَقَالَ الْأَصْلُ :وَحَالُ مَن فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَنْ يُحِيطَ بِتَقْيِيدِ جَمِيعِ مُطْلَقَاتِ الْمَذْهَبِ وَتَخْصِيصِ جَمِيعِ عُمُومَاتِهِ وَبِمَدَارِكِ إمَامِهِ وَمُسْتَنَدَاتِهِ وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يُفْتِي بِمَا يَحْفَظُهُ وَيُخَرِّجُ وَيَقِيسُ بِشُرُوطِ الْقِيَاسِ مَا لَا يَحْفَظُهُ عَلَى مَا يَحْفَظُهُ ".(1/447)
وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ،وَأَمَّا عَالِمٌ غَيْرُ مُجْتَهِدٍ بِأَنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ مُجْتَهِدِ الْفَتْوَى وَلَا يَنْزِلَ إلَى دَرَجَةِ الْعَامِّيِّ وَسَمَّاهُ الْعَلَّامَةُ السُّيُوطِيّ فِي رِسَالَتِهِ الْمَذْكُورَةِ مُجْتَهِدَ الْفُتْيَا نَظَرًا لِمَا تَقَدَّمَ عَن ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ وَعَن شَارِحِ التَّحْرِيرِ الْأُصُولِيِّ مِن أَنَّهُ رُتْبَةٌ ثَالِثَةٌ لِغَيْرِ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ مِن الْعُلَمَاءِ الْمُقَلِّدِينَ، إلَّا أَنَّ كَلَامَ شَارِحِ التَّحْرِيرِ الْمَارِّ وَكَلَامَ ابْنِ رُشْدٍ الْآتِي عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُجْتَهِدِ فُتْيَا، بَلْ مُجْتَهِدُ الْفُتْيَا هُوَ مُجْتَهِدُ التَّرْجِيحِ فَتَأَمَّلْ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ تَبَعًا لِابْنِ الصَّلَاحِ أَيْضًا: وَهُوَ مَن يَقُومُ بِحِفْظِ الْمَذْهَبِ وَنَقْلِهِ وَفَهْمِهِ فِي الْوَاضِحَاتِ وَالْمُشْكِلَاتِ وَلَكِنْ عِنْدَهُ ضَعْفٌ فِي تَقْرِيرِ أَدِلَّتِهِ وَتَحْرِيرِ أَقْيِسَتِهِ فَهَذَا يُعْتَمَدُ نَقْلُهُ وَفَتْوَاهُ فِيمَا يَحْكِيهِ مِن مَسْطُورَاتِ مَذْهَبِهِ وَمَا لَا يَجِدُهُ مَنقُولًا إنْ وُجِدَ فِي الْمَنقُولَاتِ مَعْنَاهُ بِحَيْثُ يُدْرِكُ بِغَيْرِ كَبِيرِ فِكْرٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا جَازَ إلْحَاقُهُ بِهِ وَالْفَتْوَى بِهِ ،وَكَذَا مَا يُعْلَمُ انْدِرَاجُهُ تَحْتَ ضَابِطِ مُجْتَهِدٍ فِي الْمَذْهَبِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ يَجِبُ إمْسَاكُهُ عَن الْفَتْوَى فِيهِ اهـ.(1/448)
وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ مِن الْأَقْوَالِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ الْأَصْلِ، وَحَالُ هَذَا أَنْ يَتَّسِعَ إطْلَاعُهُ بِحَيْثُ يَعْلَمُ بِتَقْيِيدِ الْمُطْلَقَاتِ وَتَخْصِيصِ الْعُمُومَاتِ لَكِنَّهُ لَمْ يَضْبِطْ مَدَارِكَ إمَامِهِ وَمُسْتَنَدَاتِهِ وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يُفْتِي بِمَا يَحْفَظُهُ وَيَنْقُلُهُ مِن مَذْهَبِهِ اتِّبَاعًا لِمَشْهُورِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ بِشُرُوطِ الْفُتْيَا لَا بِكُلِّ قَوْلٍ فِيهِ، إذْ لَا يُعَرَّى مَذْهَبٌ مِن الْمَذَاهِبِ عَن قَوْلٍ خَالَفَ فِيهِ الْمُجْتَهِدُ الْإِجْمَاعَ أَوْ الْقَوَاعِدَ أَوْ النَّصَّ أَوْ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ السَّالِمَ عَن الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ لَكِنَّهُ قَدْ يَقِلُّ وَقَدْ يَكْثُرُ ،وَهَذَا النَّوْعُ لَا يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَنْقُلَهُ لِلنَّاسِ وَلَا يُفْتِي بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى ؛وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَنَقَضْنَاهُ وَلَا نُقِرُّهُ شَرْعًا وَإِنْ تَأَكَّدَ بِحُكْمِهِ فَأَوْلَى أَنْ نُقِرَّهُ شَرْعًا إذَا لَمْ يَتَأَكَّدْ وَلَا يُعْلَمُ فِي مَذْهَبِهِ إلَّا مَن عَرَفَ الْقَوَاعِدَ الشَّرْعِيَّةَ وَالْقِيَاسَ الْجَلِيَّ وَالنَّصَّ الصَّرِيحَ وَعَدَمَ الْمُعَارِضِ لِذَلِكَ، بِالْمُبَالَغَةِ فِي تَحْصِيلِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ بِأُصُولِهَا مَعَ مَعْرِفَةِ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ مَعْرِفَةً حَسَنَةً لَا بِمُجَرَّدِ مَعْرِفَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَإِنَّ الْقَوَاعِدَ لَيْسَتْ مُسْتَوْعَبَةً فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بَلْ لِلشَّرِيعَةِ قَوَاعِدُ كَثِيرَةٌ جِدًّا عِنْدَ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى وَالْفُقَهَاءِ لَا تُوجَدُ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَصْلًا ،وَذَلِكَ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى وَضْعِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُسَمَّى كِتَابُ الْأَنْوَارِ وَالْقَوَاعِدِ السَّنِيَّةِ(1/449)
لِأَضْبِطَ تِلْكَ الْقَوَاعِدَ حَسْبَ طَاقَتِي وَلِاعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ يَحْرُمُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ الْفَتْوَى فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهُوَ أَمْرٌ لَازِمٌ وَكَذَلِكَ كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ مُتَوَقِّفِينَ فِي الْفُتْيَا تَوَقُّفًا شَدِيدًا .
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُفْتِيَ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ أَهْلًا لِذَلِكَ وَيَرَى هُوَ نَفْسُهُ أَهْلًا لِذَلِكَ يُرِيدُ تَثَبُّتَ أَهْلِيَّتِهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَيَكُونُ هُوَ بِيَقِينٍ مُطَّلِعًا عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي حَقِّهِ مِن الْأَهْلِيَّةِ لِأَنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ مِن الْإِنْسَانِ أَمْرٌ عَلَى ضِدِّ مَا هُوَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى مَا وَصَفَهُ بِهِ النَّاسُ حَصَلَ الْيَقِينُ فِي ذَلِكَ ،وَمَا أَفْتَى مَالِكٌ حَتَّى أَجَازَهُ أَرْبَعُونَ مُحَنَّكًا لِأَنَّ التَّحْنِيكَ وَهُوَ اللِّثَامُ بِالْعَمَائِمِ تَحْتَ الْحَنَكِ شِعَارُ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إنَّ مَالِكًا سُئِلَ عَن الصَّلَاةِ بِغَيْرِ تَحْنِيكٍ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى تَأَكُّدِ التَّحْنِيكِ، وَهَذَا هُوَ شَأْنِ الْفُتْيَا فِي الزَّمَنِ الْقَدِيمِ .
وَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ انْخَرَقَ هَذَا السِّيَاجُ وَسَهُلَ عَلَى النَّاسِ أَمْرُ دِينِهِمْ فَتَحَدَّثُوا فِيهِ بِمَا يَصْلُحُ وَمَا لَا يَصْلُحُ ،وَعَسُرَ عَلَيْهِمْ اعْتِرَافُهُمْ بِجَهْلِهِمْ وَأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ لَا يَدْرِي فَلَا جَرَمَ آلَ الْحَالُ لِلنَّاسِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْجُهَّالِ وَالْمُتَجَرِّئِينَ عَلَى دِينِ اللَّهِ تَعَالَى اهـ .(1/450)
قَالَ الْحَطَّابُ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمُخْتَصَرِ :وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ بِحَيْثُ يَعْلَمُ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقَاتِ وَتَخْصِيصَ الْعُمُومَاتِ يَعْنِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ وَأَمَّا الْقَطْعُ بِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ لَيْسَتْ مُقَيَّدَةً فَبَعِيدٌ وَيَكْفِي الْآنَ فِي ذَلِكَ وُجُودُ الْمَسْأَلَةِ فِي التَّوْضِيحِ أَوْ فِي ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ: الَّذِي يُفْتِي فِي هَذَا الزَّمَانِ أَقَلُّ مَرَاتِبِهِ فِي نَقْلِ الْمَذْهَبِ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَبْحَرَ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى رِوَايَاتِ الْمَذْهَبِ وَتَأْوِيلِ الشُّيُوخِ لَهَا وَتَوْجِيهِهِمْ لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِن اخْتِلَافِ ظَوَاهِرَ وَاخْتِلَافِ مَذَاهِبَ وَتَشْبِيهِهِمْ مَسَائِلَ بِمَسَائِلَ قَدْ يَسْبِقُ إلَى النَّفْسِ تَبَاعُدُهَا وَتَفْرِيقُهُمْ بَيْنَ مَسَائِلَ وَمَسَائِلَ قَدْ يَقَعُ فِي النَّفْسِ تَقَارُبُهَا وَتَشَابُهُهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا بَسَطَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي كُتُبِهِمْ وَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُونَ مِن أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي كَثِيرٍ مِن رِوَايَاتِهِمْ فَهَذَا لِعَدَمِ النُّظَّارِ يُقْتَصَرُ عَلَى نَقْلِهِ عَن الْمَذْهَبِ "(1/451)
وَفِي آخِرِ خُطْبَةِ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ لِابْنِ رُشْدٍ قَالَ : إذَا جَمَعَ الطَّالِبُ الْمُقَدَّمَاتِ إلَى هَذَا الْكِتَابِ يَعْنِي الْبَيَانَ وَالتَّحْصِيلَ حَصَلَ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا لَا يَسَعُ جَهْلُهُ مِن أُصُولِ الدِّيَانَاتِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَعَرَفَ الْعِلْمَ مِن طَرِيقِهِ وَأَخَذَهُ مِن بَابِهِ وَسَبِيلِهِ وَأَحْكَمَ رَدَّ الْفَرْعِ إلَى الْأَصْلِ وَاسْتَغْنَى بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ كُلِّهِ عَن الشُّيُوخِ فِي الْمُشْكِلَاتِ وَحَصَّلَ مَرْتَبَةَ مَن يَجِبُ تَقْلِيدُهُ فِي النَّوَازِلِ الْمُعْضِلَاتِ وَدَخَلَ فِي زُمْرَةِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِن كِتَابِهِ وَوَعَدَهُمْ فِيهِ بِتَرْفِيعِ الدَّرَجَاتِ اهـ كَلَامُ الْحَطَّابِ بِتَغْيِيرِ مَا .
قَالَ وَجَعَلَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ مَا خَالَفَ فِيهِ الْإِمَامُ النَّصَّ نَظِيرُ مَا خَالَفَ فِيهِ الْإِجْمَاعَ فِي عَدَمِ جَوَازِ نَقْلِهِ لِلنَّاسِ وَإِفْتَائِهِمْ بِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِنَصِّ مَالِكٍ فِي كِتَابِ الْجَامِعِ مِن الْعُتْبِيَّةِ وَغَيْرِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ نَصِّ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إذَا كَانَ الْعَمَلُ بِخِلَافِهِ اهـ
وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَعْلِ قَوْلِهِ السَّالِمِ عَن الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ وَصْفًا لِخُصُوصِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ لَا لَهُ وَلِلنَّصِّ وَإِلَّا لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ هَذَا .(1/452)
وَقَالَ: الْأَصْلُ وَمَا لَيْسَ مَحْفُوظًا مِن رِوَايَاتِ الْمَذْهَبِ لِمَن فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ تَخْرِيجُهُ عَلَى مَا هُوَ مَحْفُوظٌ لَهُ مِنهَا وَإِنْ كَثُرَتْ مَنقُولَاتُهُ جِدًّا إلَّا إذَا حَصَلَتْ لَهُ شُرُوطُ التَّخْرِيجِ مِن حِفْظِهِ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي تَحْصِيلِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ بِأُصُولِهَا وَمَعْرِفَتِهِ عِلْمَ أُصُولِ الْفِقْهِ وَكِتَابَ الْقِيَاسِ وَأَحْكَامِهِ وَتَرْجِيحَاتِهِ وَشَرَائِطِهِ وَمَوَانِعِهِ مَعْرِفَةً حَسَنَةً وَعِلْمُهُ بِأَنَّ قَوْلَ إمَامِهِ الْمُخَرَّجَ عَلَيْهِ لَيْسَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ وَلَا لِلْقَوَاعِدِ وَلَا لِنَصٍّ وَلَا لِقِيَاسٍ جَلِيٍّ سَالِمٍ عَن مُعَارِضٍ رَاجِحٍ، وَكَثِيرٌ مِن النَّاسِ يَقْدُمُونَ عَلَى التَّخْرِيجِ دُونَ هَذِهِ الشُّرُوطِ ،بَلْ صَارَ يُفْتِي مَن لَمْ يُحِطْ بِالتَّقْيِيدَاتِ وَلَا بِالتَّخْصِيصَاتِ مِن مَنقُولِ إمَامِهِ، وَذَلِكَ فِسْقٌ وَلَعِبٌ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى مِمَن يَتَعَمَّدُهُ " وَيَتَعَيَّنُ جَعْلُ قَوْلِهِ سَالِمٌ عَن مُعَارِضٍ رَاجِحٍ وَصْفًا لِكُلٍّ مِن الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَالنَّصِّ لَا لِخُصُوصِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ حَتَّى يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ إيرَادُ الْحَطَّابِ فَافْهَمْ .(1/453)
وَأَمَّا الْعَامِّيُّ فَلَهُ مَرْتَبَتَانِ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى أَنْ يَعْرِفَ مِن الْمُجْتَهِدِ حُكْمَ حَادِثَةٍ بِدَلِيلِهَا وَفِي جَوَازِ إفْتَائِهِ بِمَا عَرَفَهُ مُطْلَقًا وَأَنْ يُقَلِّدَهُ غَيْرُهُ فِيهِ، ثَالِثُهَا إنْ كَانَ الدَّلِيلُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً رَابِعُهَا إنْ كَانَ نَقْلِيًّا وَالْأَصَحُّ مِنهَا كَمَا فِي بَحْرِ الزَّرْكَشِيّ الثَّانِي أَيْ الْمَنعُ مُطْلَقًا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَعْرِفَ مِن الْمُجْتَهِدِ حُكْمَ مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَدْرِ دَلِيلَهَا أَوْ يَحْفَظْ مُخْتَصَرًا مِن مُخْتَصَرَاتِ الْفِقْهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا عَرَفَهُ، نَعَمْ رُجُوعُ الْعَامِّيِّ إلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ سِوَاهُ أَوْلَى مِن الِارْتِبَاكِ فِي الْحِيرَةِ ،وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْقُلَ مَا أَفْتَاهُ بِهِ الْمُجْتَهِدُ لِغَيْرِهِ نَعَمْ فِي بَحْرِ الزَّرْكَشِيّ لَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَعْمَلَ بِفَتْوَى مُفْتٍ لِعَامِّيٍّ مِثْلِهِ وَإِلَى حَالِ مَن فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ وَحُكْمُ فَتْوَاهُ أَشَارَ الْأَصْلُ بِقَوْلِهِ أَنْ يَحْفَظَ كِتَابًا فِيهِ عُمُومَاتٌ مُخَصَّصَةٌ فِي غَيْرِهِ وَمُطْلَقَاتٌ مُقَيَّدَةٌ فِي غَيْرِهِ، فَهَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا فِيهِ إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ يَقْطَعُ أَنَّهَا مُسْتَوْفِيَةٌ لِلْقُيُودِ وَتَكُونُ هِيَ الْوَاقِعَةَ بِعَيْنِهَا "(1/454)
وَإِلَى حُكْمِ فَتْوَى مَن فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى يُشِيرُ قَوْلُهُ إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ يَقْطَعُ أَنَّهَا مُسْتَوْفِيَةٌ إلَخْ فَتَأَمَّلْ بِدِقَّةٍ إذَا عَلِمْت هَذَا عَلِمْت أَنَّ كَلَامَ الْأَصْلِ فِي هَذَا الْفَرْقِ ،وَجَوَابَ ابْنِ رُشْدٍ لَمَّا سُئِلَ عَن الْفَتْوَى وَصِفَةِ الْمُفْتِي قَدْ حَصَرَاهُ فِي مُجْتَهِدِ الْفَتْوَى وَالتَّرْجِيحِ وَالْعَالِمِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَتَهُ وَصَاحِبِ الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ مِن مَرْتَبَتِي الْعَامِّيِّ الْمَارَّتَيْنِ مَعَ إدْمَاجِ صَاحِبِ الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى مِنهُمَا مَعَ صَاحِبِ الثَّانِيَةِ، وَحَاصِلُ كَلَامِ الْأَصْلِ كَمَا فِي الْحَطَّابِ عَلَى مَتْنِ سَيِّدِي خَلِيلٍ أَنَّ لِطَالِبِ الْعِلْمِ ثَلَاثَ حَالَاتٍ :
الْأُولَى أَنْ يَحْفَظَ كِتَابًا فِيهِ عُمُومَاتٌ مُخَصَّصَةٌ فِي غَيْرِهِ وَمُطْلَقَاتٌ مُقَيَّدَةٌ فِي غَيْرِهِ فَهَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا فِيهِ إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ يَقْطَعُ أَنَّهَا مُسْتَوْفِيَةُ الْقُيُودِ وَتَكُونُ هِيَ الْوَاقِعَةَ بِعَيْنِهَا .
الثَّانِيَةُ أَنْ يَتَّسِعَ اطِّلَاعُهُ بِحَيْثُ يَعْلَمُ بِتَقْيِيدِ الْمُطْلَقَاتِ وَتَخْصِيصِ الْعُمُومَاتِ لَكِنَّهُ لَمْ يَضْبِطْ مَدَارِكَ إمَامِهِ وَمُسْتَنِدَاتِهِ فَهَذَا يُفْتِي بِمَا يَحْفَظُهُ وَيَنْقُلُهُ مِن الْمَشْهُورِ فِي ذَلِكَ الْمَذْهَبِ وَلَا يُخَرِّجُ مَسْأَلَةً لَيْسَتْ مَنصُوصَةً عَلَى مَا يُشْبِهُهَا.
الثَّالِثَةُ أَنْ يُحِيطَ بِذَلِكَ وَبِمَدَارِكِ إمَامِهِ وَمُسْتَنِدَاتِهِ وَهَذَا يُفْتِي بِمَا يَحْفَظُهُ وَيُخَرِّجُ وَيَقِيسُ بِشُرُوطِ الْقِيَاسِ مَا لَا يَحْفَظُهُ عَلَى مَا يَحْفَظُهُ اهـ .(1/455)
وَجَوَابُ ابْنِ رُشْدٍ كَمَا فِي شَرْحِ الْحَطَّابِ عَلَى خَلِيلٍ نَقْلًا عَن وَثَائِقِ ابْنِ سَلْمُونٍ أَنَّ الْجَمَاعَةَ الَّتِي تُنْسَبُ إلَى الْعُلُومِ وَتَتَمَيَّزُ عَن جُمْلَةِ الْعَوَامّ فِي الْمَحْفُوظِ وَالْمَفْهُومِ تَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ طَوَائِفَ طَائِفَةٍ مِنهُمْ اعْتَقَدَتْ صِحَّةَ مَذْهَبِ مَالِكٍ تَقْلِيدًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَأَخَذَتْ أَنْفُسَهَا بِحِفْظِ مُجَرَّدِ أَقْوَالِهِ وَأَقْوَالِ أَصْحَابِهِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ دُونَ التَّفَقُّهِ فِي مَعَانِيهَا بِتَمْيِيزِ الصَّحِيحِ مِنهَا وَالسَّقِيمِ، فَهَذِهِ لَا يَصِحُّ لَهَا الْفَتْوَى بِمَا عَلِمَتْهُ وَحَفِظَتْهُ مِن قَوْلِ مَالِكٍ وَقَوْلِ أَحَدٍ مِن أَصْحَابِهِ إذْ لَا عِلْمَ عِنْدَهَا بِصِحَّةِ شَيْءٍ مِن ذَلِكَ إذْ لَا يَصِحُّ الْفَتْوَى بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ مِن غَيْرِ عِلْمٍ، وَيَصِحُّ لَهَا فِي خَاصَّتِهَا إنْ لَمْ تَجِدْ مَن يَصِحُّ لَهَا أَنْ تَسْتَفْتِيَهُ أَنْ تُقَلِّدَ مَالِكًا أَوْ غَيْرَهُ مِن أَصْحَابِهِ فِيمَا حَفِظَتْهُ مِن أَقْوَالِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَن نَزَلَتْ بِهِ نَازِلَةٌ مَن يُقَلِّدُهُ فِيهَا مِن قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فَيَجُوزُ لِلَّذِي نَزَلَتْ بِهِ النَّازِلَةُ أَنْ يُقَلِّدَهُ فِيمَا حَكَاهُ لَهُ مِن قَوْلِ مَالِكٍ فِي نَازِلَتِهِ وَيُقَلِّدَ مَالِكًا فِي الْأَخْذِ بِقَوْلِهِ فِيهَا، وَذَلِكَ أَيْضًا إذَا لَمْ يَجِدْ فِي عَصْرِهِ مَن يَسْتَفْتِيهِ فِي نَازِلَتِهِ فَيُقَلِّدُهُ فِيهَا ،وَإِنْ كَانَتْ النَّازِلَةُ قَدْ عُلِمَ فِيهَا اخْتِلَافًا مِن قَوْلِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ كَانَ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمَ الْعَامِّيِّ إذَا اسْتَفْتَى الْعُلَمَاءَ فِي نَازِلَتِهِ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِيهَا وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَلَى(1/456)
ثَلَاثَةِ أَقْوَالِ: أَحَدُهَا أَنْ يَأْخُذَ بِمَا شَاءَ مِن ذَلِكَ ،الثَّانِي أَنْ يَجْتَهِدَ مِن ذَلِكَ فَيَأْخُذَ مِن ذَلِكَ بِقَوْلِ أَعْلَمِهِمْ، الثَّالِثُ أَنْ يَأْخُذَ بِأَغْلَظِ الْأَقْوَالِ وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ مِنهُمْ اعْتَقَدَتْ صِحَّةَ مَذْهَبِ مَالِكٍ بِمَا بَانَ لَهَا مِن صِحَّةِ أُصُولِهِ الَّتِي بَنَاهُ عَلَيْهَا فَأَخَذَتْ أَنْفُسَهَا بِحِفْظِ مُجَرَّدِ أَقْوَالِهِ وَأَقْوَالِ أَصْحَابِهِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَتَفَقَّهَتْ فِي مَعَانِيهَا فَعَلِمَتْ الصَّحِيحَ مِنهَا الْجَارِيَ عَلَى أُصُولِهِ مِن السَّقِيمِ الْخَارِجِ إلَّا أَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ دَرَجَةَ التَّحْقِيقِ بِمَعْرِفَةِ قِيَاسِ الْفُرُوعِ عَلَى الْأُصُولِ ، وَهَذِهِ يَصْلُحُ لَهَا إذَا اُسْتُفْتِيَتْ أَنْ تُفْتِيَ بِمَا عَلِمَتْهُ مِن قَوْلِ مَالِكٍ وَقَوْلِ غَيْرِهِ مِن أَصْحَابِهِ إذَا كَانَتْ قَدْ بَانَتْ لَهَا صِحَّتُهُ كَمَا يَجُوزُ لَهَا فِي خَاصَّتِهَا الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ إذَا بَانَتْ لَهَا صِحَّتُهُ وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُفْتِيَ بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا تَعْلَمُ فِيهِ نَصًّا مِن قَوْلِ مَالِكٍ أَوْ قَوْلِ غَيْرِهِ مِن أَصْحَابِهِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَانَتْ لَهَا صِحَّتُهُ إذْ لَيْسَتْ مِمَن كَمُلَ لَهَا آلَاتُ الِاجْتِهَادِ الَّذِي يَصِحُّ لَهَا بِهَا قِيَاسٌ مِن الْفُرُوعِ عَلَى الْأُصُولِ ، وَالطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ مِنهُمْ اعْتَقَدَتْ صِحَّةَ مَذْهَبِهِ بِمَا بَانَ لَهَا أَيْضًا مِن صِحَّةِ أُصُولِهِ لِكَوْنِهَا عَالِمَةً أَحْكَامَ الْقُرْآنِ عَارِفَةً لِلنَّاسِخِ وَالْمَنسُوخِ وَالْمُفَصَّلِ وَالْمُجْمَلِ وَالْخَاصِّ مِن الْعَامِّ عَالِمَةً بِالسُّنَنِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَحْكَامِ مُمَيِّزَةً بَيْنَ صَحِيحِهَا مِن مَعْلُولِهَا عَالِمَةً بِأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ(1/457)
مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَن بَعْدَهُمْ مِن فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَبِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَالِمَةً مِن عِلْمِ اللِّسَانِ بِمَا يُفْهَمُ بِهِ مَعَانِي الْكَلَامِ عَالِمَةً بِوَضْعِ الْأَدِلَّةِ فِي مَوَاضِعِيهَا ،وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي يَصِحُّ لَهَا الْفَتْوَى عُمُومًا بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ عَلَى الْأُصُولِ الَّتِي هِيَ الْكِتَابُ والسُّنَّة وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ بِالْمَعْنَى الْجَامِعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّازِلَةِ وَعَلَى مَا قِيسَ عَلَيْهَا إنْ قُدِّمَ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا وَمِن الْقِيَاسِ جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ ، لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ قَدْ يُعْلَمُ قَطْعًا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وَقَدْ يُعْلَمُ بِالِاسْتِدْلَالِ فَلَا يُوجِبُ إلَّا غَلَبَةَ الظَّنِّ وَلَا يَرْجِعُ إلَى الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ إلَّا بَعْدَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَهَذَا كُلُّهُ يَتَفَاوَتُ الْعُلَمَاءُ فِي التَّحْقِيقِ بِالْمَعْرِفَةِ بِهِ تَفَاوُتًا بَعِيدًا وَتَفْتَرِقُ أَحْوَالُهُمْ أَيْضًا فِي جَوْدَةِ الْفَهْمِ لِذَلِكَ وَجَوْدَةِ الذِّهْنِ فِيهِ افْتِرَاقًا بَعِيدًا ،إذْ لَيْسَ الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ الْفِقْهُ فِي الدِّينِ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَالْحِفْظِ وَإِنَّمَا هُوَ نُورٌ يَضَعُهُ اللَّهُ حَيْثُ يَشَاءُ فَمَن اعْتَقَدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ مِمَن تَصِحُّ لَهُ الْفَتْوَى بِمَا آتَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِن ذَلِكَ النُّورِ الْمُرَكَّبِ عَلَى الْمَحْفُوظِ الْمَعْلُومِ جَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ ،وَإِذَا اعْتَقَدَ النَّاسُ فِيهِ ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فَمِن الْحَقِّ لِلرَّجُلِ أَنْ لَا يُفْتِيَ حَتَّى يَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ عَلَى مَا حَكَى مَالِكٌ عَن ابْنِ هُرْمُزَ أَشَارَ(1/458)
بِذَلِكَ عَلَى مَن اسْتَشَارَهُ السُّلْطَانُ فَاسْتَشَارَهُ فِي ذَلِكَ اهـ .
المبحث الخمسون
بطلان الفتوى المخالفة للنصِّ وعدم الإفتاء بها:
كُلُّ شَيْءٍ أَفْتَى فِيهِ الْمُجْتَهِدُ فَخَرَجَتْ فُتْيَاهُ فِيهِ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ أَوْ الْقَوَاعِدِ أَوْ النَّصِّ أَوْ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ السَّالِمِ عَن الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ لَا يَجُوزُ لِمُقَلِّدِهِ أَنْ يَنْقُلَهُ لِلنَّاسِ وَلَا يُفْتِي بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَنَقَضْنَاهُ وَمَا لَا نُقِرُّهُ شَرْعًا بَعْدَ تَقَرُّرِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْلَى أَنْ لَا نُقِرَّهُ شَرْعًا إذَا لَمْ يَتَأَكَّدْ ،وَهَذَا لَمْ يَتَأَكَّدْ فَلَا نُقِرُّهُ شَرْعًا، وَالْفُتْيَا بِغَيْرِ شَرْعٍ حَرَامٌ فَالْفُتْيَا بِهَذَا الْحُكْمِ حَرَامٌ ،وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ غَيْرَ عَاصٍ بِهِ بَلْ مُثَابًا عَلَيْهِ ،لِأَنَّهُ بَذَلَ جَهْدَهُ عَلَى حَسَبِ مَا أُمِرَ بِهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ »(1)
__________
(1) - صحيح البخارى(7352 )(1/459)
فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ تَفَقُّدُ مَذَاهِبِهِمْ فَكُلُّ مَا وَجَدُوهُ مِن هَذَا النَّوْعِ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الْفُتْيَا بِهِ وَلَا يَعْرَى مَذْهَبٌ مِن الْمَذَاهِبِ عَنهُ لَكِنَّهُ قَدْ يَقِلُّ وَقَدْ يَكْثُرُ ،غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَعْلَمَ هَذَا فِي مَذْهَبِهِ إلَّا مَن عَرَفَ الْقَوَاعِدَ وَالْقِيَاسَ الْجَلِيَّ وَالنَّصَّ الصَّرِيحَ وَعَدَمَ الْمُعَارِضِ لِذَلِكَ وَذَلِكَ يَعْتَمِدُ تَحْصِيلَ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالتَّبَحُّرَ فِي الْفِقْهِ فَإِنَّ الْقَوَاعِدَ لَيْسَتْ مُسْتَوْعَبَةً فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، بَلْ لِلشَّرِيعَةِ قَوَاعِدُ كَثِيرَةٌ جِدًّا عِنْدَ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى وَالْفُقَهَاءِ لَا تُوجَدُ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَصْلًا وَذَلِكَ هُوَ الْبَاعِثُ لِي عَلَى وَضْعِ هَذَا الْكِتَابِ لِأَضْبِطَ تِلْكَ الْقَوَاعِدَ بِحَسَبِ طَاقَتِي وَلِاعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ يَحْرُمُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ الْفَتْوَى فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهُوَ أَمْرٌ لَازِمٌ ،وَكَذَلِكَ كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ مُتَوَقِّفِينَ فِي الْفُتْيَا تَوَقُّفًا شَدِيدًا وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُفْتِيَ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ أَهْلًا لِذَلِكَ وَيَرَى هُوَ نَفْسَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ يُرِيدُ تَثْبُتُ أَهْلِيَّتُهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ .(1/460)
وَيَكُونُ هُوَ بِيَقِينٍ مُطَّلِعًا عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي حَقِّهِ مِن الْأَهْلِيَّةِ لِأَنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ مِن الْإِنْسَانِ أَمْرٌ عَلَى ضِدِّ مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى مَا وَصَفَهُ بِهِ النَّاسُ حَصَلَ الْيَقِينُ فِي ذَلِكَ وَمَا أَفْتَى مَالِكٌ حَتَّى أَجَازَهُ أَرْبَعُونَ مُحَنَّكًا لِأَنَّ التَّحَنُّكَ وَهُوَ اللِّثَامُ بِالْعَمَائِمِ تَحْتَ الْحَنَكِ شِعَارُ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إنَّ مَالِكًا سُئِلَ عَن الصَّلَاةِ بِغَيْرِ تَحَنُّكٍ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ ،وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى تَأَكُّدِ التَّحْنِيكِ وَهَذَا هُوَ شَأْنُ الْفُتْيَا فِي الزَّمَنِ الْقَدِيمِ وَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ انْخَرَقَ هَذَا السِّيَاجُ وَسَهُلَ عَلَى النَّاسِ أَمْرُ دِينِهِمْ فَتَحَدَّثُوا فِيهِ بِمَا يَصْلُحُ وَبِمَا لَا يَصْلُحُ وَعَسُرَ عَلَيْهِمْ اعْتِرَافُهُمْ بِجَهْلِهِمْ وَأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ لَا يَدْرِي فَلَا جَرَمَ آلَ الْحَالُ لِلنَّاسِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْجُهَّالِ .
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَصِيرَ طَالِبُ الْعِلْمِ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِن الشُّرُوطِ مَعَ الدِّيَانَةِ الْوَازِعَةِ وَالْعَدَالَةِ الْمُتَمَكِّنَةِ فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي مَذْهَبِهِ نَقْلًا وَتَخْرِيجًا وَيَعْتَمِدُ عَلَى مَا يَقُولُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ" .
المبحث الواحد والخمسون
حكم الفتاوى الشاذة(1)
إذا خالف المجتهد، أو العالم، من هو أعلم منه، أو انفرد بفتوى خالف فيها أكثر العلماء فلا يخلو حال تلك الفتوى من أحد أمرين:
__________
(1) - انظر فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 16 / ص 251)-إفتاء العالم بما يخالف الفتوى السائدة(1/461)
الأول: أن يكون ذلك القول أو تلك الفتوى مخالفة لما هو مقطوع به في الشريعة، أو يكون المفتي ماجناً أو مشهوراً بالتساهل والتوسع في الرخص، أو يقول بالقول لهوى في النفس ليرضي غيره، أو ليحمد من الناس وينال الغلبة على أقرانه عند الحكام ونحو ذلك؛ فهذا ينبغي الإنكار عليه ومنعه، وقد نص فقهاء الأحناف على الحجر على المفتي الماجن لأنه يفسد دين الناس(1)، ومن عرف بذلك لم يجز أن يستفتى، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يكون إلا بعد أن يبين له الخطأ ووجهه بالأدلة الشرعية التي يجب قبولها؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى عَالِمٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ يُبَيِّنُ لَهُ أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ فَإِنْ بَيَّنَ لَهُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَجِبُ قَبُولُهَا أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ وَظَهَرَ خَطَؤُهُ لِلنَّاسِ وَلَمْ يَرْجِعْ بَلْ أَصَرَّ عَلَى إظْهَارِ مَا يُخَالِفُ الْكِتَابَ والسُّنَّة وَالدُّعَاءَ إلَى ذَلِكَ ،وَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِن ذَلِكَ وَيُعَاقَبَ إنْ لَمْ يَمْتَنِعْ ،وَأَمَّا إذَا لَمْ يُبَيَّنْ لَهُ ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ شَّرْعِيَّةِ لَمْ تَجُزْ عُقُوبَتُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مَنعُهُ مِن ذَلِكَ الْقَوْلِ ،وَلَا الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يَقُولُهُ إذَا كَانَ يَقُولُ إنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ والسُّنَّة كَمَا قَالَهُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ مِن عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَهَذَا إذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ إلَّا بِالْكِتَابِ والسُّنَّة ؛ وَالْمُنَازِعُ لَهُ يَتَكَلَّمُ بِلَا عِلْمٍ
__________
(1) - انظر غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر - (ج 2 / ص 97) والأشباه والنظائر لابن نجيم - (ج 1 / ص 87) وشرح التلويح على التوضيح - (ج 2 / ص 405) والموافقات - (ج 6 / ص 77) وقواعد الفقه - (ج 1 / ص 498)(1/462)
وَالْحُكْمُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِن عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَعُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْكِبَارُ لَوْ قَالُوا بِمِثْلِ قَوْلِ الْحُكَّامِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إلْزَامُ النَّاسِ بِذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةِ شَرْعِيَّةٍ لَا بِمُجَرَّدِ حُكْمِهِمْ ".(1)
الثاني: أن يكون ما قاله ذلك العالم أو قضى به القاضي وفق النصوص الشرعية، فلا يجوز منعه، وإن خرج عن أقوال الأئمة الأربعة؛ فإن أقوال الأئمة كالفقهاء الأربعة وغيرهم ليست حجة لازمة، ولا إجماعاً باتفاق المسلمين؛ بل قد ثبت عنهم أنهم نهوا الناس عن تقليدهم وأمروهم إذا رأوا قولاً في الكتاب والسُّنَّة أقوى من قولهم أن يأخذوا بما يدلُّ عليه الكتاب والسُّنَّة ويدعوا أقوالهم؛ وغيرهم أولى بترك قوله إذا جانبه الدليل، لأن الأئمة الأربعة قد حازوا مرتبة الاجتهاد المطلق، ومع ذلك ساغت مخالفتهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن المفتي يخرج عن أقوال الأئمة الأربعة: " وَلَوْ قَضَى أَوْ أَفْتَى بِقَوْلِ سَائِغٍ يَخْرُجُ عَن أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا ثَبَتَ فِيهِ النِّزَاعُ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُخَالِفْ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا مَعْنَى ذَلِكَ ؛ بَلْ كَانَ الْقَاضِي بِهِ وَالْمُفْتِي بِهِ يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ - كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ والسُّنَّة - فَإِنَّ هَذَا يَسُوغُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ وَيُفْتِيَ بِهِ .
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 35 / ص 382)(1/463)
وَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ نَقْضُ حُكْمِهِ إذَا حَكَمَ وَلَا مَنعُهُ مِن الْحُكْمِ بِهِ،وَلَا مِن الْفُتْيَا بِهِ وَلَا مَنعِ أَحَدٍ مِن تَقْلِيدِهِ . وَمَن قَالَ : إنَّهُ يُسَوِّغُ الْمَنعَ مِن ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ بَلْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالرَّدِّ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَهُوَ الرَّدُّ إلَى الْكِتَابِ والسُّنَّة . فَمَن قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُرَدَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى الْكِتَابِ والسُّنَّة ؛ بَلْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ اتِّبَاعُ قَوْلِنَا دُونَ الْقَوْلِ الْآخَرِ مِن غَيْرِ أَنْ يُقِيمَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا - كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ والسُّنَّة - عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ والسُّنَّة وَإِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ وَتَجِبُ اسْتِتَابَةُ مِثْلِ هَذَا وَعُقُوبَتُهُ كَمَا يُعَاقَبُ أَمْثَالُهُ "(1).
- - - - - - - - - - - - - - -
الفصل الرابع
مسائل منوعة حول الاجتهاد
1-لا إنكار على من كان اجتهاده محتملاً ...
2-خَطَأِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْحُكَّامِ وَالْمُفْتِينَ ...
3-يَجِبُ اتِّبَاعُ مَا سَنَّهُ أَئِمَّةُ السَّلَفِ مِنَ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ ...
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 33 / ص 133)(1/464)
4-أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ إِذَا تَفَرَّقُوا فِيهَا وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَن بَعْدَهُمْ مِن أَكَابِرِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ ...
5-صفاتُ طَالِبِ الْعِلْمِ وآدَابُه ...
6-اسْتِحْقَاقُ طَالِبِ الْعِلْمِ لِلزَّكَاةِ: ...
7-فيمنْ تفقَّه على مذهبٍ ثم اشتغلَ بالحديث فرأى في مذهبه ما يخالفُ الحديثَ كيفَ يعملُ ؟
8-بيانُ معرفة الحقِّ بالدليل ...
9-بيانُ أنَّ معرفة الشيءِ ببرهانهِ طريقةُ القرآنِ الكريمِ
10-الفرق بين العالم والداعية والواعظ ...
المبحث الأول
لا إنكار على من كان اجتهاده محتملاً
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي " الْمُجْتَهِدِينَ إِذَا اخْتَلَفُوا وَكَانُوا مِمَن لَهُ الِاجْتِهَادُ ، وَذَهَبُوا مَذْهَبًا مُحْتَمَلًا : لَا يَجُوزُ عَلَى وَاحِدٍ مِنهُمْ أَنْ يُ قَالَ : أَخْطَأَ مُطْلَقًا ، وَلَكِنْ يُقَالُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنهُمْ : قَدْ أَطَاعَ فِيمَا كُلِّفَ وَأَصَابَ فِيهِ ، وَلَمْ يُكَلَّفْ عِلْمَ الْغَيْبِ الَّذِي لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ ، وَجَعَلَ مِثَالَ ذَلِكَ الْقِبْلَةَ إِذَا اجْتَهَدُوا فِيهَا ، فَاخْتَلَفُوا " ، وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِيهِ ، ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : فَيَلْزَمُ أَحَدَهُمَا اسْمُ الْخَطَأِ، قِيلَ أَمَّا فِيمَا كُلِّفَ فَلَا ، وَأَمَّا خَطَأُ عَيْنِ الْبَيْتِ فَنَعَمْ ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ لَا يَكُونُ فِي جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَيَكُونُ مُطِيعًا بِالْخَطَأِ ، قِيلَ هَذِهِ مَسْأَلَةُ جَاهِلٍ يَكُونُ مُطِيعًا بِالصَّوَابِ لِمَا كُلِّفَ مِنَ الِاجْتِهَادِ ، وَغَيْرُ آثِمٍ بِالْخَطَأِ إِذَا لَمْ يُكَلَّفْ صَوَابَهُ لِمَغِيبِ الْعَيْنِ عَنهُ .(1/465)
وَقَالَ فِي حَدِيثِ الِاجْتِهَادِ : " إِذَا اجْتَهَدَ " ، فَجَمَعَ الصَّوَابَ بِالِاجْتِهَادِ ، وَصَوَابُ الْعَيْنِ الَّتِي اجْتَهَدَ كَانَتْ لَهُ حَسَنَتَانِ ، وَإِنْ أَصَابَ بِالِاجْتِهَادِ وَأَخْطَأَ الْعَيْنَ الَّتِي أُمِرَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي طَلَبِهَا كَانَتْ لَهُ حَسَنَةٌ ، وَلَا يُثَابُ مَن يُؤَدِّي فِي أَنْ يُخْطِئَ الْعَيْنَ ، وَمَن يُؤَدِّي فَيُخْطِئُ أَنْ يُكَفِّرَ عَنهُ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا وَصَفْتُ مِن أَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ صَوَابَ الْعَيْنِ فِي حَالٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : مَن حَكَمَ أَوْ أَفْتَى بِخَبَرٍ لَازِمٍ أَوْ قَاسَ عَلَيْهِ فَقَدْ أَتَى مَا كُلِّفَ ، وَحَكَمَ وَأَفْتَى مِن حَيْثُ أُمِرَ ، فَكَانَ فِي النَّصِّ مُؤَدِّيًا مَا أُمِرَ بِهِ نَصًّا ، وَفِي الْقِيَاسِ مُؤَدِّيًا مَا أُمِرَ بِهِ اجْتِهَادًا ، وَكَانَ مُطِيعًا لِلَّهِ فِي الْأَمْرَيْنِ ، ثُمَّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ ، ثُمَّ رَسُولِهِ ، ثُمَّ الِاجْتِهَادِ ، فَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ ؟ قَالَ :أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ ،قَالَ :فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ :فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو، فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَدْرَهُ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ".(1)
__________
(1) - سنن أبى داود(3119 ) حسن ، وقد تلقته الأمة بالقبول(1/466)
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَمَنِ اسْتَجَازَ أَنْ يَحْكُمَ أَوْ يُفْتِيَ بِلَا خَبَرٍ لَازِمٍ وَلَا قِيَاسٍ عَلَيْهِ كَانَ مَحْجُوجًا ، فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : أَفْعَلُ مَا هَوَيْتُ ، وَإِنْ لَمْ أُومَرْ بِهِ . وَقَدْ قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِخِلَافِ مَا قَالَ ، وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا إِلَّا مُتَعَبِّدًا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} (36) سورة القيامة ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ فِيمَا عَلِمْتُ أَنَّ السُّدَى قال : الَّذِي لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى"(1).
- - - - - - - - - - - - - -
المبحث الثاني
خَطَأِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْحُكَّامِ وَالْمُفْتِينَ(2)
عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ ، عَن أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ ، قَاضٍ قَضَى بِغَيْرِ حَقٍّ وَهُوَ يَعْلَمُ فَذَلِكَ فِي النَّارِ ، وَقَاضٍ قَضَى وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَذَلِكَ فِي النَّارِ ، وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ "(3)
__________
(1) - مَعْرِفَةُ السُّنَنِ وَالْآثَارِ لِلْبَيْهَقِيِّ (6042 )
(2) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ -بَابٌ فِي خَطَأِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْحُكَّامِ وَالْمُفْتِينَ ...
(3) - سنن الترمذى(1372 ) صحيح(1/467)
وقَالَ أَبُو هَاشِمٍ الرُّمَّانِيُّ : لَوْلَا حَدِيثُ ابْنِ بُرَيْدَةَ لَقُلْتُ : إِنَّ الْقَاضِيَ إِذَا اجْتَهَدَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ سَبِيلٌ وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ بُرَيْدَةَ ، عَن أَبِيهِ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - " الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضٍ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ ، قَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ ، وَقَاضٍ قَضَى بِالْجَهْلِ فَذَلِكَ فِي النَّارِ ، وَقَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ وَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ " ( صحيح)
وعَن ابْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ : أَرَادَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ عَلَى قَضَاءِ خُرَاسَانَ فَقَالَ ابْنُ بُرَيْدَةَ : لَقَدْ حَدَّثَنِي أَبِي عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْقَضَاءِ حَدِيثًا لَا أَقْضِي بَعْدَهُ قَالَ : " الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ ، اثْنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ ، قَاضٍ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَقَاضٍ عَلِمَ الْحَقَّ فَجَارَ مُتَعَمِّدًا فَهُوَ مِن أَهْلِ النَّارِ ، وَقَاضٍ قَضَى بِغَيْرِ عِلْمٍ وَاسْتَحْيَا أَنْ يَقُولَ : لَا أَعْلَمُ فَهُوَ مِن أَهْلِ النَّارِ " (صحيح)(1/468)
وعَن قَتَادَةَ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ قَالَ : قَالَ عَلِيٌّ ، " الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ ، قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ فَأَمَّا اللَّذَانِ فِي النَّارِ ، فَرَجُلٌ جَارَ مُتَعَمِّدًا فَهُوَ فِي النَّارِ ، وَرَجُلٌ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَهُوَ فِي النَّارِ ، وَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ اجْتَهَدَ فَأَصَابَ الْحَقَّ فَهُوَ إِلَى الْجَنَّةِ " قَالَ قَتَادَةُ : فَقُلْتُ لِأَبِي الْعَالِيَةِ : مَا ذَنْبُ هَذَا الَّذِي اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ ؟ قَالَ : ذَنْبُهُ أَلَّا يَكُونَ قَاضِيًا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ "(صحيح)
وعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ ، قَالَ لِابْنِ عُمَرَ ، اذْهَبْ فَأَفْتِ بَيْنَ النَّاسِ قَالَ : أَوَ تُعَافِينِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ : فَمَا تَكْرَهُ مِن ذَلِكَ وَكَانَ أَبُوكَ يَقْضِي ؟ قَالَ : إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " مَن كَانَ قَاضِيًا فَقَضَى بِالْعَدْلِ فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَنْقَلِبَ مِنهُ كَفَافًا فَمَا أَرْجُو بَعْدَ ذَلِكَ " (فيه انقطاع)
وعَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ : " وَاللَّهِ لَوْلَا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ مِن أَمْرِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ يَعْنِي دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ لَرَأَيْتُ أَنَّ الْقُضَاةَ قَدْ هَلَكُوا ؛ وَأَنَّهُ أَثْنَى عَلَى هَذَا بِعِلْمِهِ وَعَذَرَ هَذَا بِاجْتِهَادِهِ " (حسن)
وعَن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " إِذَا حَكَمَ الْحَكَمُ وَاجْتَهَدَ وَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِنْ حَكَمَ وَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ " ( صحيح)(1/469)
قَالَ أَبُو عُمَرَ : " اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ ، فَقَالَ قَوْمٌ : لَا يُؤْجَرُ مَن أَخْطَأَ لِأَنَّ الْخَطَأَ لَا يُؤْجَرُ أَحَدٌ عَلَيْهِ وَحَسْبُهُ أَنْ يُرْفَعَ عَنهُ الْمَأْثَمُ ، وَرَدُّوا هَذَا الْحَدِيثَ بِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ وَبِقَوْلِهِ : " تَجَاوَزَ اللَّهُ لِأُمَّتِي عَن خَطَئِهَا وَنِسْيَانِهَا " وَبِقَوْلِ اللَّهِ : وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَنَحْوِ هَذَا ، وَقَالَ آخَرُونَ : يُؤْجَرُ فِي الْخَطَأِ أَجْرًا وَاحِدًا عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ أَجْرِ الْمُخْطِئِ وَالْمُصِيبِ فَدَلَّ أَنَّ الْمُخْطِئَ يُؤْجَرُ ، وَهَذَا نَصٌّ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَرُدَّهُ وَقَالَ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَن قَالَ بِقَوْلِهِ : يُؤْجَرُ وَلَكِنَّهُ لَا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَطَأِ ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي الدِّينِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ أَحَدٌ وَإِنَّمَا يُؤْجَرُ لِإِرَادَتِهِ الْحَقَّ الَّذِي أَخْطَأَهُ ، قَالَ الْمُزَنِيُّ : فَقَدْ أَثْبَتَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ هَذَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُخْطِئَ أَحْدَثَ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَلَمْ يُكَلَّفْهُ ، وَإِنَّمَا أُجِرَ فِي نِيَّتِهِ لَا فِي خَطَئِهِ " .(1/470)
قَالَ أَبُو عُمَرَ : " لَمْ نَجِدْ لِمَالِكٍ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْئًا إِلَّا أَنَّ ابْنَ وَهْبٍ ، ذَكَرَ عَنهُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِن جَامِعِهِ قَالَ : سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ : " مِن سَعَادَةِ الْمَرْءِ أَنْ يُوَفَّقَ لِلصَّوَابِ وَالْخَيْرِ وَمِن شِقْوَةِ الْمَرْءِ أَنْ لَا يَزَالَ يُخْطِئُ " وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ الْمُخْطِئَ عِنْدَهُ وَإِنِ اجْتَهَدَ فَلَيْسَ بِمَرْضِيِّ الْحَالِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ " وَذَكَرَ إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي فِي الْمَبْسُوطِ قَالَ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ : " إِنَّمَا عَلَى الْحَاكِمِ الِاجْتِهَادُ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ الرَّأْيُ ، فَإِذَا اجْتَهَدَ وَأَرَادَ الصَّوَابَ يُجْهِدُ نَفْسَهُ فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ أَخْطَأَ أَوْ أَصَابَ " قَالَ : " وَلَيْسَ أَجِدُ فِي رَأْيٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَنَّهُ الْحَقُّ وَإِنَّمَا حَقِيقَتُهُ الِاجْتِهَادُ فَإِنِ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فِي عُقُوبَةِ إِنْسَانٍ فَمَاتَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَلَا دِيَةٌ لِأَنَّهُ قَدْ عَمِلَ بِالَّذِي أُمِرَ بِهِ " قَالَ : " وَلَيْسَ يَجُوزُ لِمَن لَا يَعْلَمُ الْكِتَابَ والسُّنَّة وَلَا مَضَى عَلَيْهِ أُولُو الْأَمْرِ أَنْ يَجْتَهِدَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فَيَكُونُ اجْتِهَادُهُ مُخَالِفًا لِلْقُرْآنِ والسُّنَّة أَوِ الْأَمْرِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ " هَذَا كُلُّهُ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ عَنهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي وَذَكَرَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ الشَّافِعِيُّ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِهِ فِي الْقِيَاسِ جُمَلًا مِمَّا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِي الرِّسَالَةِ الَبْغَدَادِيَّةِ وَفِي الرِّسَالَةِ الْمِصْرِيَّةِ وَفِي كِتَابِ(1/471)
جِمَاعِ ا لْعِلْمِ وَفِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ فِي الْقِيَاسِ وَفِي الِاجْتِهَادِ قَالَ : " وَفِي هَذَا مِن قَوْلِ الشَّافِعِيِّ دَلِيلٌ عَلَى تَرْكِ تَخْطِئَةِ الْمُجْتَهِدِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُمْ قَدْ أَدَّى مَا كُلِّفَ بِاجْتِهَادِهِ إِذَا كَانَ مِمَّنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ آلَةُ الْقِيَاسِ وَكَانَ مِمَن لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَقِيسَ قَالَ : وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ فَذَكَرَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ قَالَ : وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِن أَصْحَابِنَا قَالَ : وَلَا أَعْلَمُ اخْتِلَافًا بَيْنَ الْحُذَّاقِ مِن شُيُوخِ الْمَالِكِيِّينَ وَنُظَرَائِهِمْ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ مِثْلِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي وَابْنِ بُكَيْرٍ وَأَبِي الْعَبَّاسِ الطَّيَالِسِيِّ وَمَن دُونَهُمْ مِثْلُ شَيْخِنَا عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَرَجِ الْمَالِكِيِّ ، وَأَبِي الطِّيبِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ ، وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْمُنْتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الشَّيُوخِ الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ الْمَالِكِيِّينَ ، كُلٌّ يَحْكِي أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْقِيَاِسِيِّينَ إِذَا اخْتَلَفُوا فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ التَّأْوِيلُ مِن نَوَازِلِ الْأَحْكَامِ أَنَّ الْحَقَّ مِن ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ مِن أَقْوَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ إِلَّا أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ إِذَا اجْتَهَدَ كَمَا أُمِرَ وَبَالَغَ وَلَمْ يَأْلُ وَكَانَ مِن أَهْلِ الصِّنَاعَةِ وَمَعَهُ آلَةُ الِاجْتِهَادِ فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ ، وَهُوَ مَأْجُورٌ عَلَى قَصْدِهِ الصَّوَابَ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ مِن ذَلِكَ وَاحِدًا ، قَالَ :(1/472)
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِن قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَأَبُو يُوسُفَ وَفِيمَا حَكَاهُ الْحُذَّاقِ مِن أَصْحَابِهِمْ مِثْلُ عِيسَى بْنِ أَبَانَ ، وَمُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الْبَلْخِيِّ ، وَمَن تَأَخَّرَ عَنهُمْ مِثْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْبَرْذَعِيِّ ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدَ الْجُرْجَانِيِّ وَشَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ ، وَأَبِي بَكْرٍ الْبُخَارِيِّ الْمَعْرُوفِ بِحَدِّ الْجِسْمِ وَغَيْرِهِمْ مِمَن رَأَيْنَا وَشَاهَدْنَا " وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ قَالَ أَبُو عُمَرَ : قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِيمَا وَصَفْنَا وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُهُ ، وَالَّذِي أَقُولُ بِهِ : إِنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُخْطِئَ لَا يَأْثَمُ إِذَا قَصَدَ الْحَقَّ وَكَانَ مِمَن لَهُ الِاجْتِهَادُ ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي قَصْدِهِ الصَّوَابُ وَأَرَادَ بِهِ ، لَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ إِذَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ فِي ذَلِكَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(1/473)
وعَن مَسْعُودِ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ : أُتِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ فِي زَوْجٍ وَأُمٍّ وَإِخْوَةٍ لِأُمٍّ وَإِخْوَةٍ لِأَبٍّ وَأُمٍّ " فَأَعْطَى الزَّوْجَ النِّصْفَ وَأَعْطَى الْأُمَّ السُّدُسَ وَأَعْطَى الثُّلُثَ الْبَاقِيَ لِلْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ دُونَ بَنِي الْأَبِّ وَالْأُمِّ ، فَلَمَّا كَانَ مِن قَابِلٍ أُتِيَ فِيهَا فَأَعْطَى النِّصْفَ الزَّوْجَ وَالْأُمَّ السُّدُسَ ، وَشَرَكَ بَيْنَ بَنِي الْأُمِّ وَبَنِي الْأَبِّ وَالْأُمِّ فِي الثُّلُثِ وَقَالَ : إِنْ لَمْ يَزِدْهُمُ الْأَبُ قُرْبًا لَمْ يَزِدْهُمْ بُعْدًا ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ شَهِدْتُكَ عَامَ أَوَّلٍ قَضَيْتَ فِيهَا بِكَذَا وَكَذَا فَقَالَ عُمْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : " تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ عَلَى مَا قَضَيْنَا "( صحيح)
- - - - - - - - - - - - - -
المبحث الثالث
يَجِبُ اتِّبَاعُ مَا سَنَّهُ أَئِمَّةُ السَّلَفِ مِنَ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ(1)
__________
(1) - الفقيه والمتفقه - (ج 1 / ص 435)-باب القول في انه يجب اتباع ما سنّه أئمة السلف(1/474)
قال الخطيب البغدادي : "بَابُ الْقَوْلِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ اتِّبَاعُ مَا سَنَّهُ أَئِمَّةُ السَّلَفِ مِنَ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ , وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنهُ إِذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ , وَانْقَرَضَ الْعَصْرُ عَلَيْهِ , لَمْ يَجُزْ لِلتَّابِعِينَ أَنَّ يَتَّفِقُوا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ , فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَمْ يَزُلْ خِلَافُ الصَّحَابَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعَتْ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ , وَعَلَى بُطْلَانِ مَا عَدَا ذَلِكَ , فَإِذَا صَارَ التَّابِعُونَ إِلَى الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ أَحَدِهِمَا , لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ , وَكَانَ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ , وَهَذَا بِمَثَابَةِ مَا لَوِ اخْتَلَفَتِ الصَّحَابَةُ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ , وَانْقَرَضَ الْعَصْرُ عَلَيْهِ , فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلتَّابِعِينَ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ , لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ إِجْمَاعٌ عَلَى إِبْطَالِ كُلِّ قَوْلٍ سِوَاهُمَا , كَمَا أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى قَوْلٍ إِجْمَاعٌ عَلَى إِبْطَالِ كُلِّ قَوْلٍ سِوَاهُ , فَكَمَا لَمْ يَجُزْ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَانٍ فِيمَا أَجْمَعُوا فِيهِ عَلَى قَوْلٍ لَمْ يَجُزْ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ فِيمَا أَجْمَعُوا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ(1/475)
وعَن عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ , قَالَ : " سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَولَاةُ الْأَمْرِ بَعْدَهُ سُنَنًا , الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ , وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَتِهِ , وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ , لَيْسَ لِأَحَدٍ تَغْيِيرُهَا وَلَا تَبْدِيلُهَا , وَلَا النَّظَرُ فِي رَأْيِ مَن خَالَفَهَا , فَمَنِ اقْتَدَى بِمَا سُنُّوا اهْتَدَى , وَمَنِ اسْتَبْصَرَ بِهَا تَبَصَّرَ , وَمَن خَالَفَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى , وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا " ( فين انقطاع)
وعَن عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ الْأَزْدِيِّ , قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ : أَوْصِنِي , فَقَالَ : " عَلَيْكَ بِالِاسْتِقَامَةِ , اتَّبِعْ وَلَا تَبْتَدِعْ "(1)
وقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ , يَقُولُ : " إِذَا كَانَ يَأْتَمُّ بِمَن قَبْلَهُ فَهُوَ إِمَامٌ لِمَن بَعْدَهُ" .
- - - - - - - - - - - - -
المبحث الرابع
أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ إِذَا تَفَرَّقُوا فِيهَا وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَن بَعْدَهُمْ مِن أَكَابِرِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ(2)
__________
(1) - فيه ضعف ، تبدَّع الشيء : أَنشأَه وبدأَه أو أحدثه واخترعه والمراد هنا : الحدث في الدين بعد الإكمال
(2) - المدخل إلى السنن الكبرى - (ج 1 / ص 21)-باب أقاويل الصحابة رضي الله عنهم إذا تفرقوا فيها ويستدل به على معرفة الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أكابر فقهاء الأمصار(1/476)
قال البيهقي : " قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : " مَا كَانَ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ مَوْجُودَيْنِ فَالْعُذْرُ عَلَى مَن سَمِعَهُمَا مَقْطُوعٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهِمَا , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صِرْنَا إِلَى أَقَاوِيلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ وَاحِدِهِمْ , ثُمَّ كَانَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ : أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ ، " إِذَا صِرْنَا إِلَى التَّقْلِيدِ أَحَبَّ إِلَيْنَا وَذَلِكَ إِذَا لَمْ نَجِدْ دَلَالَةً فِي الِاخْتِلَافِ تَدُلُّ عَلَى أَقْرَبِ الِاخْتِلَافِ مِنَ الْكِتَابِ والسُّنَّة ، فَنَتَّبِعُ الْقَوْلَ الَّذِي مَعَهُ الدَّلَالَةُ لِأَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ مَشْهُورٌ مَا يَلْزَمُ النَّاسَ , وَمَن لَزِمَ قَوْلُهُ النَّاسَ كَانَ أَشْهَرَ مِمَن يُفْتِي الرَّجُلَ أَوِ النَّفْرَ ، وَقَدْ يَأْخُذُ بُفُتْيَاهُ وَيدَعُهَا وَأَكْثَرُ الْمُفْتِينَ يُفْتُونَ الْخَاصَّةَ فِي بُيوتِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ , وَلَا يُعْنَى الْعَامَّةُ بِمَا قَالُوا عِنَايَتَهُمْ بِمَا قَالَ الْإِمَامُ , وَقَدْ وَجَدْنَا الْأَئِمَّةَ يُنْتَدَبُونَ فَيُسْأَلُونَ عَنِ الْعِلْمِ مِنَ الْكِتَابِ والسُّنَّة فِيمَا أَرَادُوا , وَأَنْ يَقُولُوا فِيهِ وَيَقُولُونَ ، فَيُخْبَرُونَ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ فَيَقْبَلُونَ مِنَ الْمُخْبِرِ وَلَا يَسْتَنْكِفُونَ عَن أَنْ يَرْجِعُوا لِتَقْوَاهُمُ اللَّهَ وَفَضْلِهِمْ فِي حَالَاتِهِمْ , فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ عَنِ الْأَئِمَّةِ فَأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الدِّينِ فِي مَوْضِعِ الْأَمَانَةِ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِمْ وَكَانَ اتِّبَاعُهُمْ أَوْلَى بِنَا مِنَ اتِّبَاعِ مَن بَعْدَهُمْ " قَالَ : وَالْعِلْمُ طَبَقَاتٌ : الْأُولَى : الْكِتَابُ والسُّنَّة إِذَا ثَبَتَتِ السُّنَّةُ , ثُمَّ(1/477)
الثَّانِيةُ : الْإِجْمَاعُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ كِتَابٌ وَلَا سَنَةٌ , وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنهُمْ , وَالرَّابِعَةُ : اخْتِلَافُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَضِيَ عَنهُمْ , وَالْخَامِسَةُ : الْقِيَاسُ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الطَّبَقَاتِ وَلَا يُصَارُ إِلَى شَيْءٍ غَيْرِ الْكِتَابِ والسُّنَّة وَهُمَا مَوْجُودَانِ , وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ مِن أَعْلَى وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ الْقَدِيمَةِ , بَعْدَ ذِكْرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِمَا هُمْ أَهْلُهُ ، فَقَالَ : " وَهُمْ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَوَرِعٍ وَعَقْلٍ وَأَمْرٍ اسْتُدْرِكَ بِهِ عِلْمٌ وَاسْتُنْبِطَ بِهِ , وَآرَاؤُهُمْ لَنَا أَحْمَدُ وَأَوْلَى بِنَا مِن آرَائِنَا عِنْدَنَا لِأَنْفُسِنَا , وَ اللَّهُ أَعْلَمُ , وَمَن أَدْرَكْنَا مِمَن أَرْضِي أَوْ حُكِيَ لَنَا عَنهُ بِبَلَدِنَا صَارُوا فِيمَا لَمْ يَعْلَمُوا لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ سَنَةً إِلَى قَوْلِهِمْ إِنِ اجْتَمِعُوا ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ إِنْ تَفَرَّقُوا ، فَهَكَذَا نَقُولُ إِذَا اجْتَمَعُوا أَخَذْنَا بِاجْتِمَاعِهِمْ ، وَإِنْ قَالَ وَاحِدُهُمْ وَلَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِ , فَإِنِ اخْتَلَفُوا أَخَذْنَا بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ وَلَمْ نُخَرِّجْ مِن أَقَاوِيلِهِمْ كُلِّهِمْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : وَإِذَا قَالَ الرَّجُلَانِ مِنهُمْ فِي شَيْءٍ قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ نَظَرْتُ ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُ أَحَدِهِمَا أَشْبَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ أَشْبَهُ بِسُنَّةٍ مِن سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه(1/478)
وسلم - أَخَذْتُ بِهِ , لِأَنَّ مَعَهُ شَيْئًا يَقْوَى بِمِثْلِهِ لَيْسَ مَعَ الَّذِي يُخَالِفُهُ مِثْلُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ دَلَالَةٌ بِمَا وَصَفْتُ كَانَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ أَبِي بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ أَرْجَحُ عِنْدَنَا مِن أَحَدٍ ، لَوْ خَالَفَهُمْ غَيْرُ إِمَامٍ وَذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِن هَذَا الْكِتَابِ وَقَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْقَوْلِ دَلَالَةٌ مِن كِتَابٍ وَلَا سَنَةٍ كَانَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ ، أَوْ عُمَرَ ، أَوْ عُثْمَانَ ، أَوْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَقُولَ بِهِ مِن قَوْلِ غَيْرِهِمْ إِنْ خَالَفَهُمْ ، مِن قِبَلِ أَنَّهُمْ أَهْلُ عِلْمٍ وَحُكَّامٌ ، ثُمَّ سَاقَ الْكَلَامَ إِلَى أَنْ قَالَ : فَإِنِ اخْتَلَفَ الْحُكَّامُ اسْتَدْلَلْنَا الْكِتَابَ والسُّنَّة فِي اخْتِلَافِهِمْ فَصِرْنَا إِلَى الْقَوْلِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ مِنَ الْكِتَابِ والسُّنَّة ، وَقَلَّ مَا يَخْلُو اخْتِلَافُهُمْ مِن دَلَائِلِ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ , وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَفْتُونَ يَعْنِي مِنَ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ بِلَا دَلَالَةٍ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ نَظَرْنَا إِلَى الْأَكْثَرِ , فَإِنْ تَكَافَؤُوا نَظَرْنَا إِلَى أَحْسَنِ أَقَاوِيلِهِمْ مَخْرَجًا عِنْدَنَا ، وَإِنْ وَجَدْنَا لِلْمُفْتِينَ فِي زَمَانِنَا وَقَبْلَهُ اجْتِمَاعًا فِي شَيْءٍ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ تَبِعْنَاهُ ، وَكَانَ أَحَدَ طُرُقِ الْأَخْبَارِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ : كِتَابُ اللَّهِ , ثُمَّ سَنَةُ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - , ثُمَّ الْقَوْلُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ , ثُمَّ اجْتِمَاعُ الْفُقَهَاءِ , فَإِذَا نَزَلَتْ نَازِلَةٌ لَمْ نَجِدْ فِيهَا وَاحِدَةً مِن هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ(1/479)
الْأَخْبَارِ فَلَيْسَ السَّبِيلُ فِي الْكَلَامِ فِي النَّازِلَةِ إِلَّا اجْتِهَادُ الرَّأْيِ " .
وقال ابْنُ الْمُبَارَكِ: سَمِعْتُ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ : إِذَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَإِذَا جَاءَ عَن أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَخْتَارُ مِن قَوْلِهِمْ وَإِذَا جَاءَ عَنِ التَّابِعِينَ زَاحَمْنَاهُمْ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَضِيَ عَنهُمْ فِي الْقُرْآنِ ، وَالتَّوْرَاةِ ، وَالْإِنْجِيلِ كَأَنَّهُ عَنَى قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِن أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (29) سورة الفتح، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : وَسَبَقَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْفَضْلِ مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُمْ فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ وَهَنَّأَهُمْ مَا آتَاهُمْ مِن ذَلِكَ بِبُلُوغِ أَعْلَى مَنَازِلِ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ"(1/480)
وعَن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي , ثُمَّ الَّذِينَ يلُونَهُمْ , ثُمَّ الَّذِينَ يلُونَهُمْ , ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيمِينُهُ شَهَادَتَهُ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَن مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِن وَجْهٍ آخَرَ عَن سُفْيَانَ(1).
وعَن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي , فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نُصَيْفَهُ " وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ " فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ " زَادَ شُعْبَةُ فِي رِوَايتِهِ : " وَلَا يُبْغِضُ الْأَنْصَارَ رَجُلٌ يؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ "(2).
وعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ ، عَن أَبِيهِ ، عَن جَدِّهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اخْتَارَنِي ، وَاخْتَارَ لِي أَصْحَابًا ، فَجَعَلَ مِنهُمْ وُزَرَاءَ ، وَأَنْصَارًا ، وَأَصْهَارًا ، فَمَن سَبَّهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا " تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ ، وَفِيهِ إِرْسَالٌ ، لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُوَيْمٍ لَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ ، وَيُؤَكِدُهُ مَا مَضَى مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَمَا رُوِي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِن قَوْلِهِ.
__________
(1) - صحيح البخارى (2651) ومسلم (489 ) من طرق كثيرة
(2) - صحيح البخارى(3673 ) وصحيح مسلم (247 -248) -النَّصيف : النصف(1/481)
فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ " وَفِي رِوَايَةِ شَبَابَةَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - خَيْرَ قُلُوبِ النَّاسِ فَبَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ , وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ فَاخْتَارَ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - بِرِسَالَتِهِ وَانْتَخَبَهُ بِعِلْمِهِ ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ بَعْدَهُ فَاخْتَارَ لَهُ أَصْحَابَهُ فَجَعَلَهُمْ أَنْصَارَ دِينِهِ وَوُزَرَاءِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَمَا رَأَوْهُ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ "(حديث حسن موقوف)(1/482)
وقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو السُّلَمِيُّ ، وَحُجْرُ بْنُ حُجْرٍ الْكُلَاعِيُّ قَالَا : أَتَيْنَا الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ وَهُوَ مِمَن نَزَلَ فِيهِ : وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تُفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حُزْنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ فَسَلَّمْنَا ، وَقُلْنَا أَتَيْنَاكَ زَائِرِينَ وَمُقْتَبِسِينَ فَقَالَ الْعِرْبَاضُ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصُّبْحَ ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنهَا الْعُيونُ وَوَجِلَتْ مِنهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدَّعٍ فَمَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ؟ قَالَ : " أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا , فَإِنَّهُ مَن يَعِشْ مِنكُمْ فَسَيرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا ، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ، فَتَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ، , فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ "(1)
__________
(1) - سنن أبى داود(4609 ) صحيح(1/483)
وعَن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو السُّلَمِيِّ ، أَنَّهُ سَمِعَ الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ قَالَ : وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنهَا الْعُيونُ وَوَجِلَتْ مِنهَا الْقُلُوبُ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ؟ قَالَ : " قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا ، لَا يَزِيغُ عَنهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ , مَن يَعِشْ مِنكُمْ فَسَيرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا ، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِن سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِن بَعْدِي ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ " فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ حَيْثُ مَا قِيدَ انْقَادَ "(1)
__________
(1) - المستدرك للحاكم (331) صحيح(1/484)
وعَن أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَأُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءٌ فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ , فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءٌ فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً , فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءٌ فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا وَلَا يُؤَمُّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يُجْلَسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِن حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَغَيْرِهِ وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَرَضِهِ أَنْ يَؤُمَّهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ , فَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَهُمْ بِالسُّنَّةِ مَعَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آثَارُ عِلْمِهِ وَزِيَادَةِ فَضْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ(1).
وعَن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتِ الْأَنْصَارُ : مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنكُمْ أَمِيرٌ فَأَتَاهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَؤُمَّ النَّاسَ ؟ وَفِي رِوَايَةِ الْجُعْفِيِّ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ، قَالُوا : بَلَى قَالَ : فَأَيُّكُمْ تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ فَقَالُوا : نَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ نَتَقَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ "(صحيح)
__________
(1) - صحيح مسلم (1564) وسنن أبى داود(582)(1/485)
وعَن مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، عَن أَبِيهِ قَالَ : أَتَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - امْرَأَةٌ فَكَلَّمَتْهُ فِي شَيْءٍ فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ ، قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ رَجَعْتُ فَلَمْ أَجِدْكَ ؟ كَأَنَّهَا تَعْنِي الْمَوْتَ ، قَالَ : " فَإِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ وَغَيْرِهِ ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَن عَبَّادِ بْنِ مُوسَى ، كُلُّهُمْ عَن إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ(1)
وعَن مَسْرُوقٍ قَالَ : وَجَدْتُ عِلْمَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - انْتَهَى إِلَى سِتَّةٍ : عُمَرَ , وَعَلِيٍّ , وَأُبَيٍّ , وَزَيْدٍ , وَأَبِي الدَّرْدَاءِ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ , رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ , ثُمَّ انْتَهَى عِلْمُ هَؤُلَاءِ السِّتَّةِ إِلَى اثْنَيْنِ : عَلِيٍّ , وَعَبْدِ اللَّهِ , رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا "
وعَن مَسْرُوقٍ قَالَ : شَامَمْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَوَجَدْتُ عِلْمَهُمُ انْتَهَى إِلَى هَؤُلَاءِ السِّتَّةِ , ثُمَّ شَامَمْتُ هَؤُلَاءِ السِّتَّةِ فَوَجَدْتُ عِلْمَهُمُ انْتَهَى إِلَى عُمَرَ , وَعَلِيٍّ , وَعَبْدِ اللَّهِ رَوَاهُ مُطَرِّفٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَن مَسْرُوقٍ ، فَذَكَرَ أَبَا مُوسَى بَدَلَ أَبِي الدَّرْدَاءِ "
وعَن مَسْرُوقٍ قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ الْقَضَاءِ مِن أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سِتَّةٌ : عُمَرُ , وَعَلِيٌّ , وَعَبْدُ اللَّهِ , وَأُبَيٌّ , وَزَيْدٌ , وَأَبُو مُوسَى , رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ "
__________
(1) - صحيح البخارى(7360 ) وصحيح مسلم(6330)(1/486)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ : كَانَ الْعِلْمُ يُؤْخَذُ عَن سِتَّةٍ مِن أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَكَانَ عُمَرُ , وَعَبْدُ اللَّهِ , وَزَيْدٌ , يُشْبِهُ عِلْمُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا , وَكَانَ يَقْتَبِسُ بَعْضُهُمْ مِن بَعْضٍ , وَكَانَ عَلِيٌّ , وَالْأَشْعَرِيُّ , وَأُبَيٌّ , رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ , يُشْبِهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا , وَكَانَ يَقْتَبِسُ بَعْضُهُمْ مِن بَعْضِ , قُلْتُ : وَكَانَ الْأَشْعَرِيُّ إِلَى هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : كَانَ أَحَدَ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ "
وعَن مَسْرُوقٍ قَالَ : لَقَدْ جَالَسْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - , فَوَجَدْتُهُمْ كَالْإِخَاذِ , فَالْإِخَاذُ يَرْوِي الرَّجُلَ , وَالْإِخَاذُ يَرْوِي الرَّجُلَيْنِ , وَالْإِخَاذُ يَرْوِي الْعَشَرَةَ , وَالْإِخَاذُ يَرْوِي الْمِائَةَ , وَالْإِخَاذُ لَوْ نَزَلَ بِهِ أَهْلُ الْأَرْضِ لَأَصْدَرَهُمْ , فَوَجَدْتُ عَبْدَ اللَّهِ مِن ذَلِكَ الْإِخَاذِ"
وعَن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَصْحَابِي مِن بَعْدِي , فَأَوْحَى إِلَيَّ : يَا مُحَمَّدُ , إِنَّ أَصْحَابَكَ عِنْدِي بِمَنزِلَةِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ , بَعْضُهَا أَضْوَءُ مِن بَعْضٍ , فَمَن أَخَذَ بِشَيْءٍ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ , فَهُوَ عِنْدِي عَلَى هُدًى " قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا حَدِيثٌ مَتْنُهُ مَشْهُورٌ , وَأَسَانِيدُهُ ضَعِيفَةٌ , لَمْ يَثْبُتْ فِي هَذَا إِسْنَادٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(1/487)
قال عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَدِينِيَّ : لَمْ يَكُنْ مِن أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَحَدٌ لَهُ أَصْحَابٌ يَقُومُونَ بِقَوْلِهِ فِي الْفِقْهِ , إِلَّا ثَلَاثَةٌ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ , وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ , وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ , رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ , فَإِنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنهُمْ أَصْحَابًا يَقُومُونَ بِقَوْلِهِ , وَيُفْتُونَ النَّاسَ , فَكَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ , الَّذِينَ يُقْرِئُونَ النَّاسَ بِقِرَاءَتِهِ , وَيُفْتُونَهُمْ بِقَوْلِهِ , وَيَذْهَبُونَ مَذْهَبَهُ : عَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ , وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ , وَمَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ , وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ , وَعَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ , وَالْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ , سِتَّةٌ هَؤُلَاءِ عَدَّهُمْ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ , قَالَ : وَكَانَ أَعْلَمُ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِأَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ وَمَذْهَبِهِمْ إِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيَّ , إِلَّا أَنَّ الشَّعْبِيَّ كَانَ يَذْهَبُ مَذْهَبَ مَسْرُوقٍ , يَأْخُذُ عَن عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ , وَعَن أَهْلِ الْمَدِينَةِ , وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ , وَسُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ , أَعْلَمَ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِمَذْهَبِ عَبْدِ اللَّهِ بَعْدَ هَذَيْنِ , وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِحَدِيثِهِمْ , وَطَرِيقَتِهِمْ بَعْدَ هَذَيْنِ .(1/488)
قَالَ عَلِيٌّ : وَكَانَ أَصْحَابُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ , الَّذِينَ يَذْهَبُونَ مَذْهَبَهُ فِي الْفِقْهِ , وَيَقُومُونَ بِقَوْلِهِ هَؤُلَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ : كَانَ مِنهُمْ مَن لَقِيَهُ , وَمِنهُمْ مَن لَمْ يَلْقَهُ , كَانَ مِمَن لَقِيَهُ مِن هَؤُلَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ : قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ , وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ , وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ , وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ , وَكَانَ مِمَن يَقُولُ بِقَوْلِهِ مِمَن لَا يَثْبُتُ لَهُ لِقَاؤُهُ مِثْلُ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ : سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ , وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ , وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ , وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ , وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ , وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ , وَسَالِمٌ , وَالْقَاسِمُ . قَالَ : وَكَانَ أَعْلَمُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِهَؤُلَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَمَذْهَبِهِمُ : ابْنُ شِهَابٍ , وَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ , وَأَبُو الزِّنَادِ , وَأَبُو بَكْرِ بْنُ حَزْمٍ , ثُمَّ كَانَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ , مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ . قَالَ عَلِيٌّ : وَكَمَا أَنَّ أَصْحَابَ ابْنِ عَبَّاسٍ سِتَّةٌ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِقَوْلِهِ , وَيُفْتُونَ بِهِ وَيَذْهَبُونَ مَذْهَبَهُ : سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ , وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ , وَطَاوُسٌ , وَمُجَاهِدٌ , وَعَطَاءٌ , وَعِكْرِمَةُ وَرَوَاهُ عَلِيٌّ عَن يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ قَالَ عَلِيٌّ : وَكَانَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَؤُلَاءِ وَطَرِيقَتِهِمْ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ , وَكَانَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهِمْ بَعْدَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ , وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ" .(1/489)
وقَالَ أَبُو الزِّنَادِ : أَدْرَكْتُ مِن فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعُلَمَائِهِمْ , مِمَن يُرْضَى وَيُنْتَهَى إِلَى قَوْلِهِمْ , وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ , وَصَاحِبِهِ : أَنَّ أَبَاهُ قَالَ : كَانَ مِمَن أَدْرَكْتُ مِن فُقَهَائِنَا الَّذِينَ يُنْتَهَى إِلَى قَوْلِهِمْ مِنهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ , وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ , وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ , وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ , وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ , وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ , فِي مَشْيخَةٍ جُلَّةِ سِوَاهُمْ مِن نُظَرَائِهِمْ أَهْلُ فِقْهٍ وَفَضَلٍ "
وقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: كَانَ فُقَهَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ يُصْدِرُونَ عَن رَأْيِهِمْ سَبْعَةٌ , فَذَكَرَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ أَبُو الزِّنَادِ , إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ , وَذَكَرَ فِيهِمْ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ"
وقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: فُقَهَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَشَرَةٌ , قُلْتُ لِيَحْيَى : عُدَّهُمْ . قَالَ : سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ , وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ , وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ , وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ , وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ , وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ , وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ , وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ , وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ , وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ , رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ , وَسَقَطَ مِن رِوَايَةِ حَنْبَلٍ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ , وَهُوَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْبَرَاءِ "(1/490)
وعَن إِبْرَاهِيمَ قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الَّذِينَ يُقْرِئُونَ النَّاسَ وَيُعَلِّمُونَهُمُ السُّنَّةَ : عَلْقَمَةَ , وَالْأَسْوَدَ , وَعُبَيْدَةَ , وَمَسْرُوقً , وَالْحَارِثَ بْنَ قَيْسٍ , وَعَمْرَو بْنَ شُرَحْبِيلَ , قَالَ : وَحَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ , ثَنَا نُوحٌ , ثَنَا هِشَامٌ , عَن مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ , مَن حَفِظَ حَدِيثَهُ خَمْسَةٌ : كَانُوا كُلُّهُمْ يَجْعَلُونَ شُرَيْحًا آخِرَهُمْ , وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَبْدَأُ بِعُبَيْدَةَ , ثُمَّ الْحَارِثِ , وَبَعْضُهُمْ بَدَأَ بِالْحَارِثِ , ثُمَّ عُبَيْدَةَ , ثُمَّ عَلْقَمَةَ , ثُمَّ مَسْرُوقٍ , ثُمَّ شُرَيْحٍ , وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَقُولُ : إِنَّ قَوْمًا أَحْسَنُهُمْ شُرَيْحٌ يَعْنِي لَخِيَارٌ"
و قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْبَرَاءِ : سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ يَقُولُ فِي حِكَايةِ ابْنِ سِيرِينَ : خَالَفَهُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ , وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عِنْدِي مِن أَعْلَمِ النَّاسِ بِأَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبْطَنِهِمْ بِهِ قَالَ : وَمِمَن يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ وَيُفْتِي بِفَتْوَاهُمْ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ , وَإِبْرَاهِيمُ لَقِي مِن هَؤُلَاءِ الْأَسْوَدَ , وَعَلْقَمَةَ , وَمَسْرُوقًا , وَعُبَيْدَةَ , وَلَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ , وَلَا مِن عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ . قَالَ عَلِيٌّ : وَقِيلَ الْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ مَعَ عَلِيٍّ , رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ , وَلَيْسَ بِالْأَعْوَرِ "
وعَن أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ : مَا رَأَيْتُ فِيهِمْ أَفْقَهَ مِنَ الشَّعْبِيِّ "(1/491)
وعَن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ : سَمِعْتُ مَكْحُولًا يَقُولُ : مَا لَقِيتُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِسُنَّةٍ مَاضِيَةٍ مِنَ الشَّعْبِيِّ " .
وقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَلَاءُ: سَمِعَ الزُّهْرِيُّ عَن فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ سَمَّيْنَاهُمْ فِيمَا مَضَى , وَمَن لَمْ نُسَمِّهِمْ مِن أَهْلِ الْحِجَازِ مَعَ مَن أَدْرَكُوا مِنَ الصَّحَابَةِ , وَأَخَذَ أَيْضًا عَن أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيِّ صَاحِبِ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَمَّا الْأَوْزَاعِيُّ , وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ , فَمَرْجِعُهُمَا أَيْضًا فِي فَتَاوِيهِمَا إِلَى الْآثَارِ , وَأَخَذَا الْعِلْمَ عَمَن أَخَذَهُ مِنهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ , ثُمَّ عَن غَيْرِهِمْ مِن فُقَهَاءِ بَلَدِهِمَا , مَعَ مَن أَدْرَكَا مِنَ التَّابِعِينَ وَأَمَّا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ , رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ , فَاعْتِمَادُهُ أَيْضًا فِي فَتَاوِيهِ عَلَى الْآثَارِ , وَأَخَذَ الْعِلْمَ عَن أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ , وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ , وَالْأَعْمَشِ , وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُوفِيِّينَ , ثُمَّ عَن مَنصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ , وَغَيْرِهِ مِن أَصْحَابِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ , وَإِبْرَاهِيمُ أَخَذَهُ عَنِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ سَمَّيْنَاهُمْ فِيمَا مَضَى مِن أَهْلِ الْعِرَاقِ , وَأَخَذَ الْعِلْمَ أَيْضًا عَن جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَكِّيِّينَ وَالْمَدَنِيِّينَ وَالْيَمَانِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ مَعَ مَن أَدْرَكَ مِنَ التَّابِعِينَ , إِلَّا أَنَّ مَيْلَهُ إِلَى قَوْلِ أَصْحَابِهِ أَكْثَرُ , وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ أَخَذَ الْفِقْهَ عَن حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ , وَغَيْرِهِ مِن أَصْحَابِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ مَن أَدْرَكَ مِنَ التَّابِعِينَ , وَيُقَالُ :(1/492)
إِنَّهُ لَقِي مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيَّ , وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ , وَكَانَ لَهُ رَأْيٌ وَلِسَانٌ فِي الْجَدَلَ"
وقال أَحْمَدَ بْنَ أَبِي سُرَيْجٍ : سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : قُلْتُ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ : رَأَيْتُ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : نَعَمْ رَأَيْتُهُ , وَلَوْ تَكَلَّمَ فِي السَّارِيةِ أَنْ يَجْعَلَهَا ذَهَبًا لَقَامَ بِحُجَّتِهِ وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ أَخَذَ الْعِلْمَ مِن أَهْلِ الْحِجَازِ ، عَن مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ , وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ , وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ , وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ , وَحَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَدَنِيِّ , وَأَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ اللَّيْثِيِّ , وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ , وَعَن أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ شَافِعٍ , وَغَيْرِهِمْ , وَهُمْ أَخَذُوهُ عَمَن أَدْرَكَ مِنهُمْ مَن أَدْرَكَ مِنَ التَّابِعِينَ , ثُمَّ عَمَن أَدْرَكُوا مَن أَدْرَكَ مِن فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ سَمَّيْنَاهُمْ فِيمَا مَضَى وَمَن لَمْ نُسَمِّ ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ مِن بَيْنِهِمْ أَخَذَ عِلْمَ فُقَهَاءِ الْمَكِّيِّينَ عَن عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ , وَابْنِ جُرَيْجٍ , وَغَيْرِهِمْ . وَعِلْمَ الْمَدَنِيِّينَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ , وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ , وَغَيْرِهِمَا .(1/493)
وَعِلْمُ الْعِرَاقِيِّينَ عَن أَبِي إِسْحَاقَ , وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ , وَمَنصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ , وَالْأَعْمَشِ , وَأَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ , وَغَيْرِهِمْ , وَأَخَذَهُ الشَّافِعِيُّ عَنهُ عَن جَمَاعَةٍ ، وَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ عَن مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزَّنْجِيِّ ، وَعَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيرِ بْنِ أَبِي رَوِادٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيِّ ، مِمَّا انْتَهَى إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ , مِن عِلْمِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ , وَطَاوُسٍ , وَمُجَاهِدٍ , وَغَيْرِهِمْ مِن فُقَهَاءِ الْمَكِّيِّينَ , ثُمَّ مِمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ مِن عِلْمِ الْمَدَنِيِّينَ , وَأَخَذَ مِن فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ , مِمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ مِن عِلْمِ مَنصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ , وَعَن سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ الْقِدَاحِ , مِمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ مِن عِلْمِ ابْنِ جُرَيْجٍ , وَغَيْرِهِْ مِنَ الْحِجَازِيِّينَ , ثُمَّ مِن عِلْمِ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ , وَغَيْرِهِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ , وَأَخَذَ مِن أَهْلِ الشَّامِ عَن عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ التِّنِّيسِيِّ , وَيَحْيَى بْنِ حَسَّانَ , وَغَيْرِهِمَا , مِمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ مِن عِلْمِ الْأَوْزَاعِيِّ , وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ , وَكَانَ يَتَأَسَّفُ عَلَى مَا فَاتَهُ مِن رِوَايَةِ اللَّيْثِ , وَأَخَذَ مِن أَهْلِ الْيَمَنِ عَن هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيِّ , وَغَيْرِهِ مِمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ مِن عِلْمِ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ صَاحِبِ الزُّهْرِيِّ , وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ الْيمَامِيِّ , وَغَيْرِهِ , وَأَخَذَ مِن أَهْلِ الْبَصْرَةِ , عَن عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيِّ ,(1/494)
وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ عُلَيَّةَ , وَغَيْرِهِمَا مِمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ مِن عِلْمِ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ , وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ , وَخَالِدِ بْنِ مِهْرَانَ الْحَذَّاءِ , وَغَيْرِهِمْ مِن أَصْحَابِ الْحَسَنِ , وَابْنِ سِيرِينَ , وَأَبِي قِلَابَةَ , وَغَيْرِهِمْ مِن فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ , مَعَ مِن أَدْرَكَا مِنَ التَّابِعِينَ , ثُمَّ عَن أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ , وَهِشَامِ بْنِ حَسَّانَ صَاحِبَيِ الْحَسَنِ , وَغَيْرِهِ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ , ثُمَّ عَن عَمْرِو بْنِ الْهَيْثَمِ أَبِي قَطَنٍ , وَغَيْرِهِ مِن أَصْحَابِ شُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ , ثُمَّ عَن أَصْحَابِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ , وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ , وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ , وَأَبِي عَوَانَةَ , وَهُشَيْمِ بْنِ بَشِيرٍ الْوَاسِطِيِّ , وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ . وَأَخَذَ مِن أَهْلِ الْكُوفَةِ , عَن مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيِّ , وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ , وَغَيْرِهِمَا مِن أَصْحَابِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ , وَالْأَعْمَشِ , وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ , وَغَيْرِهِمْ .(1/495)
وَأَخَذَ عَن جَمَاعَةٍ مِن أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ , عَن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ , وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ , وَأَخَذَ عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْخُرَاسَانِيِّ ، ثُمَّ عَن دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارِ عَنهُ , ثُمَّ أَخَذَ عَن أَصْحَابِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الرَّقِّيِّ مِن أَهْلِ الْجَزِيرَةِ , وَأَخَذَ عَن مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ ، مِن مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ صَاحِبِهِ مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ , حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا احْتَجَّا بِهِ , ثُمَّ نَاظَرَهُ فِيمَا كَانَ يَرَى خِلَافَهُ فِيهِ وَكَانَ يَقُولُ : مَا كَلَّمْتُ أَسْوَدَ الرَّأْسِ أَعْقِلَ مِن مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ . وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يُعَظِّمُهُ وَيُبَجِّلُهُ , وَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ فِي مَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ .(1/496)
وَكَانَ مَن مَضَى مِن عُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يَعْرِفُونَ مَذَاهِبَ أَهْلِ الْكُوفَةِ , وَأَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ يَعْرِفُونَ مَذَاهِبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ , فَكَانُوا إِذَا الْتَقَوْا , وَتَكَلَّمُوا , رُبَّمَا انْقَطَعَ الْمَدَنِيُّ , فَكَتَبَ الشَّافِعِيُّ مَذَاهِبَهُمْ , وَدَلَائِلَهُمْ , ثُمَّ لَمْ يُخَالِفْهُمْ إِلَّا فِيمَا قَوِيتْ حُجَّتُهُ عِنْدَهُ , وَضَعُفَتْ حُجَّةُ الْكُوفِيِّينَ فِيهِ , وَكَانَ يُكَلِّمُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ وَغَيْرَهُ عَلَى سَبِيلِ النَّصِيحَةِ , وَكَانَ يَقُولُ : مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا قَطُّ ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يُخْطِئَ , وَكَانَ يَقُولُ : مَا كَلَّمْتُ أَحَدًا قَطُّ , إِلَّا وَلَمْ أُبَالِ بَيْنَ اللَّهِ , الْحَقُّ عَلَى لِسَانِي أَوْ لِسَانِهِ . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَحْكِي عَن أَبِيهِ قَالَ : قَالَ لَنَا الشَّافِعِيُّ : أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ مِنِّي , فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فَأَعْلِمُونِي إِنْ شَاءَ يَكُونُ كُوفِيًّا أَوْ بَصْرِيًّا أَوْ شَامِيًّا , حَتَّى أَذْهَبَ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ صَحِيحًا.(1/497)
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : وَلِهَذَا كَثُرَ أَخَذُهُ بِالْحَدِيثِ , وَهُوَ أَنَّهُ جَمَعَ عِلْمَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ , وَأَخَذَ بِجَمِيعِ مَا صَحَّ عِنْدَهُ مِن غَيْرِ مُحَابَاةٍ مِنهُ وَلَا مِيلٍ , إِلَّا مَا اسْتَجْلَاهُ مِن مُذْهِبِ أَهْلِ بَلَدِهِ , مَهْمَا بَانَ لَهُ الْحَقُّ فِي غَيْرِهِ , وَمِمَن كَانَ قَبْلَهُ مِمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى مَا عَهِدَ مِن مَذْهِبِ أَهْلِ بَلَدِهِ , وَلَمْ يَجْتَهِدْ فِي مَعْرِفَةِ صِحَّةِ مَا خَالَفَهُ , وَ اللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُمْ , وَيَرْحَمُنَا وَإِيَّاهُمْ , فَكُلٌّ مِنهُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ وَمَنِّهِ رَجَعَ فِي أَكْثَرِ مَا قَالَ , وَمُعْظَمُ مَا رُسِمَ إِلَى وَثِيقَةٍ أَكِيدَةٍ ، مِمَن يُقْتَدَى بِهِ فِي الدِّينِ , وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَالِاهْتِدَاءِ بِهَدْيهِمْ , وَجَمَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ بِفَضْلِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ , إِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ "
وقال مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : مَا أَحَدٌ أَوْرَعَ لِخَالِقِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ "
وقال الشَّافِعِيَّ: إِنْ لَمْ يَكُنِ الْفُقَهَاءُ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ , فَمَا لِلَّهِ وَلِيٌ "
وعَنِ الشَّافِعِيِّ : " إِنْ لَمْ يَكُنِ الْفُقَهَاءُ الْعَامِلُونَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ , فَمَا لِلَّهِ وَلِيٌ "
- - - - - - - - - - - - - - - -
المبحث الخامس
صفاتُ طَالِبِ الْعِلْمِ وآدَابُه(1)
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 5663)-رقم الفتوى 19384 أهم الخصال المطلوبة لمن أراد تحصيل العلم الشرعي- تاريخ الفتوى : 08 جمادي الأولى 1423 و الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 28 / ص 335)(1/498)
إن الشروط التي يجب أن تتوافر في الشخص ليكون عالماً شرعياً تتمثل فيما يأتي:
1)- إخلاص النية لله تعالى، لقوله تعالى : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (5) سورة البينة
2)- العلم بنصوص الكتاب والسُّنَّة ولا يلزم الإحاطة بها، ولكن يلزم أن تكون له القدرة على معرفة مظان فقه نصوص الكتاب والسُّنَّة ليرجع إليها عند الحاجة.
3) -أن يكون عالماً بمسائل الإجماع.
4)- أن يكون عالماً بلسان العرب، ولا يشترط الحفظ عن ظهر قلب، بل المعتبر أن يكون متمكناً من استخراجها من مؤلفات الأئمة المعروفين.
5)- أن يكون عالماً بأصول الفقه، وهو من أهم العلوم.
6)- أن يكون عارفاً بالناسخ والمنسوخ.
7)- أن يكون قد تلقَّى العلم على يد أهل العلم المعتبرين، لأن هذا أضبط للعلم، وأبعد عن التخبط والتناقض.
8)- أن يبدأ بقراءة كتب العلم الهامة قراءة دقيقة ،ثم يقوم بتلخيص ما قرأ ، حتى يتمكن من الحفظ ، قال تعالى :{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِن عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق/1-6].
9)- أن لا يعتمد على السماع وحده ، فقد تخونه الذاكرة ، وقد يكون فهمه غير دقيق لما سمع ، فالتدوين لا بد منه ، فعَن عَمْرِو بْنِ أَبِى سُفْيَانَ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ : قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ"(1).
وأما آدابه : فلِطَالِبِ الْعِلْمِ آدَابٌ كَثِيرَةٌ نَذْكُرُ مِنهَا مَا يَلِي :
__________
(1) - سنن الدارمى(506) صحيح ، وورد مرفوعاً(1/499)
- 1 - يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يُطَهِّرَ قَلْبَهُ مِنَ الأَْدْنَاسِ ، لِيَصْلُحَ لِقَبُول الْعِلْمِ وَحِفْظِهِ وَاسْتِثْمَارِهِ . عَن عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِيِنِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِى الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى ، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ . أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِى أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ ، أَلاَ وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ . أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ »(1)
وَقَالُوا : تَطْبِيبُ الْقَلْبِ لِلْعِلْمِ كَتَطْبِيبِ الأَْرْضِ لِلزِّرَاعَةِ .
-2 - يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَقْطَعَ الْعَلاَئِقَ الشَّاغِلَةَ عَن كَمَال الاِجْتِهَادِ فِي التَّحْصِيل وَيَرْضَى بِالْيَسِيرِ مِنَ الْقُوتِ ، وَيَصْبِرَ عَلَى ضِيقِ الْعَيْشِ ، وَأَنْ يَتَوَاضَعَ لِلْعِلْمِ وَالْمُعَلِّمِ ، فَبِتَوَاضُعِهِ يَنَال الْعِلْمَ ، قَال الشَّافِعِيُّ(2): لاَ يَطْلُبُ أَحَدٌ هَذَا الْعِلْمَ بِالْمُلْكِ وَعِزِّ النَّفْسِ فَيُفْلِحُ ، وَلَكِنْ مَنْ طَلَبَهُ بِذُل النَّفْسِ وَضِيقِ الْعَيْشِ وَخِدْمَةِ الْعُلَمَاءِ أَفْلَحَ(3).
__________
(1) - صحيح البخارى(52 ) ومسلم (4178 )
(2) - الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي(823 )
(3) - المجموع للنووي 1 / 64 ، والمدخل لابن الحاج 2 / 124 ط الحلبي .(1/500)
-3 - أَنْ يَنْقَادَ لِمُعَلِّمِهِ وَيُشَاوِرَهُ فِي أُمُورِهِ وَيَأْتَمِرَ بِأَمْرِهِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ لِمُعَلِّمِهِ بِعَيْنِ الاِحْتِرَامِ ، وَيَعْتَقِدَ كَمَال أَهْلِيَّتِهِ وَرُجْحَانَهِ عَلَى أَكْثَرِ طَبَقَتِهِ فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى انْتِفَاعِهِ بِهِ وَرُسُوخِ مَا سَمِعَهُ مِنهُ فِي ذِهْنِهِ .
-4 - أَنْ يَتَحَرَّى رِضَا الْمُعَلِّمِ وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَ نَفْسِهِ ، وَلاَ يَغْتَابَ عِنْدَهُ ، وَلاَ يُفْشِيَ لَهُ سِرًّا ، وَأَنْ يَرُدَّ غَيْبَتَهُ إِذَا سَمِعَهَا ، فَإِنْ عَجَزَ فَارَقَ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ ، وَأَلاَّ يَدْخُل عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ ، وَأَنْ يَدْخُل كَامِل الأَْهْلِيَّةِ فَارِغَ الْقَلْبِ مِنَ الشَّوَاغِل مُتَطَهِّرًا مُتَنَظِّفًا ، وَيُسَلِّمَ عَلَى الْحَاضِرِينَ كُلِّهِمْ ، يَخُصُّ الْمُعَلِّمَ بِزِيَادَةِ إِكْرَامٍ .
-5 - أَنْ يَجْلِسَ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ إِذَا حَضَرَ إِلَى الدَّرْسِ ، وَلاَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلاَّ أَنْ يُصَرِّحَ لَهُ الشَّيْخُ أَوِ الْحَاضِرُونَ بِالتَّقَدُّمِ ، وَلاَ يَجْلِسَ وَسَطَ الْحَلْقَةِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ ، وَلاَ بَيْنَ صَاحِبَيْنِ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا ، وَأَنْ يَحْرِصَ عَلَى الْقُرْبِ مِنَ الشَّيْخِ لِيَفْهَمَ كَلاَمَهُ فَهْمًا كَامِلاً بِلاَ مَشَقَّةٍ .
-6 - أَنْ يَتَأَدَّبَ مَعَ رُفْقَتِهِ وَحَاضِرِي الدَّرْسِ ، وَلاَ يَرْفَعَ صَوْتَهُ رَفْعًا بَلِيغًا مِن غَيْرِ حَاجَةٍ ، وَلاَ يَضْحَكَ وَلاَ يُكْثِرَ الْكَلاَمَ بِلاَ حَاجَةٍ ، وَلاَ يَعْبَثَ بِيَدِهِ وَلاَ غَيْرِهَا ، وَلاَ يَلْتَفِتَ بِلاَ حَاجَةٍ ، وَلاَ يَسْبِقَ الشَّيْخَ إِلَى شَرْحِ مَسْأَلَةٍ أَوْ جَوَابِ سُؤَالٍ إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ مِن حَال الشَّيْخِ إِيثَارَ ذَلِكَ .(2/1)
-7 - يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَرِيصًا عَلَى التَّعَلُّمِ مُوَاظِبًا عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ ، لَيْلاً وَنَهَارًا حَضَرًا وَسَفَرًا ،،وَلاَ يُذْهِبُ مِن أَوْقَاتِهِ شَيْئًا فِي غَيْرِ الْعِلْمِ إِلاَّ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ لأَِكْلٍ وَنَوْمٍ قَدْرًا - لاَ بُدَّ مِنهُ - وَنَحْوِهِمَا مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ .، وَأَنْ تَكُونَ هِمَّتُهُ عَالِيَةً فَلاَ يَرْضَى بِالْيَسِيرِ مَعَ إِمْكَانِ الْكَثِيرِ ، وَأَنْ لاَ يُسَوِّفَ فِي اشْتِغَالِهِ ، وَلاَ يُؤَخِّرَ تَحْصِيل فَائِدَةٍ ، لَكِنْ لاَ يُحَمِّل نَفْسَهُ مَا لاَ تُطِيقُ مَخَافَةَ الْمَلَل ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ النَّاسِ .
-8- أَنْ يَعْتَنِيَ بِتَصْحِيحِ دَرْسِهِ الَّذِي يَتَعَلَّمُهُ تَصْحِيحًا مُتْقَنًا عَلَى الشَّيْخِ ، ثُمَّ يَحْفَظَ حِفْظًا مُحْكَمًا ، وَيَبْدَأَ دَرْسَهُ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ وَالصَّلاَةِ عَلَى رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالدُّعَاءِ لِلْعُلَمَاءِ وَمَشَايِخِهِ ، وَيُدَاوِمَ عَلَى تَكْرَارِ مَحْفُوظَاتِهِ(1).
-9- وَلْيَحْذَرِ الْمُتَعَلِّمُ الْبَسْطَ عَلَى مَنْ يُعَلِّمُهُ وَإِنْ آنَسَهُ ، وَالإِْدْلاَل عَلَيْهِ وَإِنْ تَقَدَّمَتْ صُحْبَتُهُ ، وَلاَ يُظْهِرُ لَهُ الاِسْتِكْفَاءَ مِنهُ وَالاِسْتِغْنَاءَ عَنهُ ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ كُفْرًا لِنِعْمَتِهِ وَاسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِ .
__________
(1) - المجموع للنووي 1 / 35 وما بعدها ( ط . المكتبة السلفية المدينة المنورة ) تذكرة السامع والمتكلم 67 وما بعدها ( ط . جمعية دائرة المعارف العثمانية 1353 هـ ) ، إحياء علوم الدين 1 / 55 ( ط . مصطفى الحلبي 1939 م ) .(2/2)
-10- وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ تَبْعَثَهُ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ لِلْمُعَلِّمِ عَلَى قَبُول الشُّبْهَةِ مِنهُ ، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَنِّتَ مُعَلِّمَهُ بِالسُّؤَال ، وَلاَ يَدْعُوهُ تَرْكُ الإِْعْنَاتِ لِلْمُعَلِّمِ إِلَى التَّقْلِيدِ فِيمَا أَخَذَ عَنهُ . وَلَيْسَتْ كَثْرَةُ السُّؤَال فِيمَا الْتَبَسَ إِعْنَاتًا ، وَلاَ قَبُول مَا صَحَّ فِي النَّفْسِ تَقْلِيدًا(1).
إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُلِحُّ فِي السُّؤَال إِلْحَاحًا مُضْجِرًا ، وَيَغْتَنِمُ سُؤَالَهُ عِنْدَ طِيبِ نَفْسِهِ وَفَرَاغِهِ ، وَيَتَلَطَّفُ فِي سُؤَالِهِ وَيُحْسِنُ خِطَابَهُ(2).
-11- وَلْيَأْخُذِ الْمُتَعَلِّمُ حَظَّهُ مِمَّنْ وَجَدَ طَلَبَتَهُ عِنْدَهُ مِن نَبِيهٍ وَخَامِلٍ ، وَلاَ يَطْلُبُ الصِّيتَ وَحُسْنَ الذِّكْرِ بِاتِّبَاعِ أَهْل الْمَنَازِل مِنَ الْعُلَمَاءِ ، إِذَا كَانَ النَّفْعُ بِغَيْرِهِمْ أَعَمَّ ، إِلاَّ أَنْ يَسْتَوِيَ النَّفْعَانِ فَيَكُونُ الأَْخْذُ عَمَّنِ اشْتَهَرَ ذِكْرُهُ وَارْتَفَعَ قَدْرُهُ أَوْلَى ، لأَِنَّ الاِنْتِسَابَ إِلَيْهِ أَجْمَل وَالأَْخْذَ عَنهُ أَشْهَرُ(3).
__________
(1) - المجموع 1 / 36 ط المنيرية ، وإحياء علوم الدين 1 / 50 ، وكتاب أدب الدنيا والدين للماوردي ص 32 ـ 34 ، وكتاب تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم لابن جامعة ص 86 ط حيد أباد 1353 هـ .
(2) - المجموع 1 / 37 .
(3) - كتاب أدب الدنيا والدين ص 34 .(2/3)
-12- وَمِن آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ : الْحِلْمُ وَالأَْنَاةُ ، وَأَنْ تَكُونَ هِمَّتُهُ عَالِيَةً ، فَلاَ يَرْضَى بِالْيَسِيرِ مَعَ إِمْكَانِ كَثِيرٍ ، وَأَنْ لاَ يُسَوِّفَ فِي اشْتِغَالِهِ وَلاَ يُؤَخِّرَ تَحْصِيل فَائِدَةٍ ، وَإِنْ قَلَّتْ : إِذَا تَمَكَّنَ مِنهَا ، وَإِنْ أَمَل حُصُولَهَا بَعْدَ سَاعَةٍ ، لأَِنَّ لِلتَّأْخِيرِ آفَاتٍ ، وَلأَِنَّ فِي الزَّمَنِ الثَّانِي يَحْصُل غَيْرُهَا"(1)
- - - - - - - - - - - - - - -
المبحث السادس
اسْتِحْقَاقُ طَالِبِ الْعِلْمِ لِلزَّكَاةِ(2)
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ لِطَالِبِ الْعِلْمِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ ، وَالْحَنَابِلَةُ ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِن مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ ، إِذْ أَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ إِعْطَاءَ الزَّكَاةِ لِلصَّحِيحِ الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ ، وَلَوْ كَانَ تَرْكُهُ التَّكَسُّبَ اخْتِيَارًا عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ أَخْذِ طَالِبِ الْعِلْمِ الزَّكَاةَ وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا إِذَا فَرَّغَ نَفْسَهُ لإِِفَادَةِ الْعِلْمِ وَاسْتِفَادَتِهِ ، لِعَجْزِهِ عَنِ الْكَسْبِ .
نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْمَبْسُوطِ قَوْلَهُ : لاَ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَى مَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا إِلاَّ إِلَى طَالِبِ الْعِلْمِ ، وَالْغَازِي ، وَمُنْقَطِعِ الْحَجِّ .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ : وَالأَْوْجَهُ تَقْيِيدُهُ بِالْفَقِيرِ وَيَكُونُ طَلَبُ الْعِلْمِ مُرَخِّصًا لِجَوَازِ سُؤَالِهِ مِنَ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ إِذْ بِدُونِهِ لاَ يَحِل لَهُ السُّؤَال .
__________
(1) - المجموع 1 / 37 ، 38 .
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 28 / ص 336)(2/4)
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ تَحِل لِطَالِبِ الْعِلْمِ الزَّكَاةُ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالتَّكَسُّبِ بِحَيْثُ لَوْ أَقْبَل عَلَى الْكَسْبِ لاَنْقَطَعَ عَنِ التَّحْصِيل .
قَال النَّوَوِيُّ : وَلَوْ قَدَرَ عَلَى كَسْبٍ يَلِيقُ بِحَالِهِ إِلاَّ أَنَّهُ مُشْتَغِلٌ بِتَحْصِيل بَعْضِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ بِحَيْثُ لَوْ أَقْبَل عَلَى الْكَسْبِ لاَنْقَطَعَ مِنَ التَّحْصِيل حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ ، لأَِنَّ تَحْصِيل الْعِلْمِ فَرْضُ كِفَايَةٍ ، وَأَمَّا مَنْ لاَ يَتَأَتَّى مِنهُ التَّحْصِيل لاَ تَحِل لَهُ الزَّكَاةُ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْكَسْبِ وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا بِالْمَدْرَسَةِ .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ : وَإِنْ تَفَرَّغَ قَادِرًا عَلَى التَّكَسُّبِ لِلْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لاَزِمًا لَهُ - وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالتَّكَسُّبِ أُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ لِحَاجَتِهِ .
وَسُئِل ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَمَّنْ لَيْسَ مَعَهُ مَا يَشْتَرِي بِهِ كُتُبًا يَشْتَغِل فِيهَا ، فَقَال : يَجُوزُ أَخْذُهُ مِنَ الزَّكَاةِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِن كُتُبِ الْعِلْمِ الَّتِي لاَ بُدَّ لِمَصْلَحَةِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ مِنهَا .
قَال الْبُهُوتِيُّ : وَلَعَل ذَلِكَ غَيْرُ خَارِجٍ عَنِ الأَْصْنَافِ ، لأَِنَّ ذَلِكَ مِن جُمْلَةِ مَا يَحْتَاجُهُ طَالِبُ الْعِلْمِ فَهُوَ كَنَفَقَتِهِ .
وَخَصَّ الْفُقَهَاءُ جَوَازَ إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ لِطَالِبِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ فَقَطْ .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِجَوَازِ نَقْل الزَّكَاةِ مِن بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ لِطَالِبِ الْعِلْمِ(1).
- - - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - حاشية ابن عابدين 2 / 58 ، 59 ، حاشية الدسوقي 1 / 494 ، المجموع 6 / 190 ، كشاف القناع 2 / 271 ، 273 .(2/5)
المبحث السابع
فيمنْ تفقَّه على مذهبٍ ثم اشتغلَ بالحديث فرأى في مذهبه ما يخالفُ الحديثَ كيفَ يعملُ ؟(1)
لقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ والسُّنَّة وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَرَضَ عَلَى الْخَلْقِ طَاعَتَهُ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ طَاعَةَ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنهُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، حَتَّى كَانَ صِدِّيقُ الْأُمَّةِ وَأَفْضَلُهَا بَعْدَ نَبِيِّهَا يَقُولُ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ ، فَإِنْ ضَعُفْتُ فَقَوِّمُونِي ، وَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي ، الصِّدْقُ أَمَانَةٌ ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ ، الضَّعِيفُ فِيكُمُ الْقَوِيُّ عِنْدِي حَتَّى أُزِيحَ عَلَيْهِ حَقَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَالْقَوِيُّ فِيكُمُ الضَّعِيفُ عِنْدِي حَتَّى آخُذَ مِنهُ الْحَقَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، لَا يَدَعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا ضَرَبَهُمُ اللَّهُ بِالْفَقْرِ ، وَلَا ظَهَرَتْ - أَوْ قَالَ : شَاعَتِ - الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ إِلَّا عَمَّمَهُمُ الْبَلَاءُ ، أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ ، قُومُوا إِلَى صَلَاتِكُمْ يَرْحَمْكُمُ اللَّهُ "(2).
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 20 / ص 210)
(2) - الجامع لمعمر (1311 ) ( صحيح لغيره ) وانظر البداية والنهاية لابن كثير (ج 7 / ص 394)(2/6)
وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مَعْصُومًا فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنهُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلِهَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الْأَئِمَّةِ : كُلُّ أَحَدٍ مِن النَّاسِ يُؤْخَذُ مِن قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .(2/7)
وَهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ قَدْ نَهَوْا النَّاسَ عَن تَقْلِيدِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَقُولُونَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ ؛ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هَذَا رَأْيِي وَهَذَا أَحْسَنُ مَا رَأَيْت ؛ فَمَنْ جَاءَ بِرَأْيٍ خَيْرٍ مِنهُ قَبِلْنَاهُ، وَلِهَذَا لَمَّا اجْتَمَعَ أَفْضَلُ أَصْحَابِهِ أَبُو يُوسُفَ بِمَالِكِ فَسَأَلَهُ عَن مَسْأَلَةِ الصَّاعِ ؛ وَصَدَقَةِ الْخَضْرَاوَاتِ ؛ وَمَسْأَلَةِ الْأَجْنَاسِ ؛ فَأَخْبَرَهُ مَالِكٌ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ السُّنَّةُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : رَجَعْت إلَى قَوْلِك يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَلَوْ رَأَى صَاحِبِي مَا رَأَيْت لَرَجَعَ إلَى قَوْلِك كَمَا رَجَعْت . وَمَالِكٌ كَانَ يَقُولُ : إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُصِيبُ وَأُخْطِئُ فَاعْرِضُوا قَوْلِي عَلَى الْكِتَابِ والسُّنَّة أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ . وَالشَّافِعِيُّ كَانَ يَقُولُ : إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي الْحَائِطَ ، وَإِذَا رَأَيْت الْحُجَّةَ مَوْضُوعَةً عَلَى الطَّرِيقِ فَهِيَ قَوْلِي . وَفِي مُخْتَصَرِ المزني لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ اخْتَصَرَهُ مِن مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ مَذْهَبِهِ قَالَ : مَعَ إعْلَامِهِ نَهْيَهُ عَن تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِن الْعُلَمَاءِ . وَالْإِمَامُ أَحْمَد كَانَ يَقُولُ : لَا تُقَلِّدُونِي وَلَا تُقَلِّدُوا مَالِكًا وَلَا الشَّافِعِيَّ وَلَا الثَّوْرِيَّ وَتَعَلَّمُوا كَمَا تَعَلَّمْنَا . وَكَانَ يَقُولُ : مِن قِلَّةِ عِلْمِ الرَّجُلِ أَنْ يُقَلِّدَ دِينَهُ الرِّجَالَ، وَقَالَ : لَا تُقَلِّدْ دِينَك الرِّجَالَ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَسْلَمُوا مِن أَنْ يَغْلَطُوا .(2/8)
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ"(1)، وَلَازِمُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُفَقِّهْهُ اللَّهُ فِي الدِّينِ لَمْ يُرِدْ بِهِ خَيْرًا فَيَكُونُ التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ فَرْضًا .
وَالتَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ : مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِأَدِلَّتِهَا السَّمْعِيَّةِ . فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَفَقِّهًا فِي الدِّينِ ، لَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَدْ يَعْجِزُ عَن مَعْرِفَةِ الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ فَيَسْقُطُ عَنهُ مَا يَعْجِزُ عَن مَعْرِفَتِهِ لَا كُلُّ مَا يَعْجِزُ عَنهُ مِن التَّفَقُّهِ وَيَلْزَمُهُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْقَادِرُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ ؛ فَقِيلَ : يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّقْلِيدُ مُطْلَقًا وَقِيلَ : يَجُوزُ مُطْلَقًا وَقِيلَ : يَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ ؛ كَمَا إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ .
وَالِاجْتِهَادُ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا وَاحِدًا لَا يَقْبَلُ التجزي وَالِانْقِسَامَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُجْتَهِدًا فِي فَنٍّ أَوْ بَابٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ دُونَ فَنٍّ وَبَابٍ وَمَسْأَلَةٍ ،وَكُلُّ أَحَدٍ فَاجْتِهَادُهُ بِحَسَبِ وُسْعِهِ، فَمَنْ نَظَرَ فِي مَسْأَلَةٍ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا وَرَأَى مَعَ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ نُصُوصًا لَمْ يَعْلَمْ لَهَا مُعَارِضًا بَعْدَ نَظَرِ مِثْلِهِ فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ :
__________
(1) - صحيح البخارى (71)(2/9)
إمَّا أَنْ يَتَّبِعَ قَوْلَ الْقَائِلِ الْآخَرِ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ الْإِمَامَ الَّذِي اشْتَغَلَ عَلَى مَذْهَبِهِ ؛ وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ بِحُجَّةِ شَرْعِيَّةٍ بَلْ مُجَرَّدُ عَادَةٍ يُعَارِضُهَا عَادَةُ غَيْرِهِ وَاشْتِغَالٌ عَلَى مَذْهَبِ إمَامٍ آخَرَ .
وَإِمَّا أَنْ يَتَّبِعَ الْقَوْلَ الَّذِي تَرَجَّحَ فِي نَظَرِهِ بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ مُوَافَقَتُهُ لِإِمَامِ يُقَاوِمُ ذَلِكَ الْإِمَامَ وَتَبْقَى النُّصُوصُ سَالِمَةً فِي حَقِّهِ عَن الْمُعَارِضِ بِالْعَمَلِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَصْلُحُ .
وَإِنَّمَا تَنَزَّلْنَا هَذَا التَّنَزُّلَ لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ : إنَّ نَظَرَ هَذَا قَاصِرٌ وَلَيْسَ اجْتِهَادُهُ قَائِمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؛ لِضَعْفِ آلَةِ الِاجْتِهَادِ فِي حَقِّهِ .(2/10)
أَمَّا إذَا قَدَرَ عَلَى الِاجْتِهَادِ التَّامِّ الَّذِي يَعْتَقِدُ مَعَهُ أَنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ لَيْسَ مَعَهُ مَا يَدْفَعُ بِهِ النَّصَّ فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ النُّصُوصِ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ مُتَّبِعًا لِلظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ، وَكَانَ مَنْ أَكْبَرِ الْعُصَاةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ، بِخِلَافِ مَنْ يَقُولُ : قَدْ يَكُونُ لِلْقَوْلِ الْآخَرِ حُجَّةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى هَذَا النَّصِّ وَأَنَا لَا أَعْلَمُهَا، فَهَذَا يُقَالُ لَهُ : قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا } (16) سورة التغابن، وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ "(1).
و قَالَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو : هَجَّرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا ، قَالَ : فَسَمِعَ أَصْوَاتَ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي آيَةٍ ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ ، فَقَالَ : " إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، بِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْكِتَابِ "(2)
__________
(1) - صحيح البخارى(7288 ) 117/9
(2) - صحيح مسلم (6947)(2/11)
وَاَلَّذِي تَسْتَطِيعُهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدْ دَلَّكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الرَّاجِحُ فَعَلَيْكَ أَنْ تَتَّبِعَ ذَلِكَ، ثُمَّ إنْ تَبَيَّنَ لَك فِيمَا بَعْدُ أَنَّ لِلنَّصِّ مُعَارِضًا رَاجِحًا كَانَ حُكْمُك فِي ذَلِكَ حُكْمَ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ ، وَانْتِقَالُ الْإِنْسَانِ مِن قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ لِأَجْلِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ هُوَ مَحْمُودٌ فِيهِ بِخِلَافِ إصْرَارِهِ عَلَى قَوْلٍ لَا حُجَّةَ مَعَهُ عَلَيْهِ، وَتَرْكُ الْقَوْلِ الَّذِي وَضَحَتْ حُجَّتُهُ أَوِ الِانْتِقَالُ عَن قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ لِمُجَرَّدِ عَادَةٍ وَاتِّبَاعِ هَوًى فَهَذَا مَذْمُومٌ .
وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ الْمُقَلَّدُ قَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَرَكَهُ - لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ قَدْ رَوَاهُ أَيْضًا - فَمِثْلُ هَذَا وَحْدَهُ لَا يَكُونُ عُذْرًا فِي تَرْكِ النَّصِّ، فَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي " رَفْعِ الْمَلَامِ عَن الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ " نَحْوَ عِشْرِينَ عُذْرًا لِلْأَئِمَّةِ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِبَعْضِ الْحَدِيثِ وَبَيَّنَّا أَنَّهُمْ يُعْذَرُونَ فِي التَّرْكِ لِتِلْكَ الْأَعْذَارِ.(2/12)
وَأَمَّا نَحْنُ فَمَعْذُورُونَ فِي تَرْكِهَا لِهَذَا الْقَوْلِ . فَمَنْ تَرَكَ الْحَدِيثَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ ؛ أَوْ أَنَّ رَاوِيَهُ مَجْهُولٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ وَيَكُونُ غَيْرُهُ قَدْ عَلِمَ صِحَّتَهُ وَثِقَةَ رَاوِيهِ : فَقَدْ زَالَ عُذْرُ ذَلِكَ فِي حَقِّ هَذَا ، وَمَنْ تَرَكَ الْحَدِيثَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يُخَالِفُهُ ؛ أَوِ الْقِيَاسِ ؛ أَوْ عَمَلٍ لِبَعْضِ الْأَمْصَارِ ؛ وَقَدْ تَبَيَّنَ لِلْآخَرِ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ لَا يُخَالِفُهُ ؛ وَأَنَّ نَصَّ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مُقَدَّمٌ عَلَى الظَّوَاهِرِ ؛ وَمُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَالْعَمَلِ : لَمْ يَكُنْ عُذْرُ ذَلِكَ الرَّجُلِ عُذْرًا فِي حَقِّهِ ؛ فَإِنَّ ظُهُورَ الْمَدَارِكِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْأَذْهَانِ وَخَفَاءَهَا عَنهَا أَمْرٌ لَا يَنْضَبِطُ طَرَفَاهُ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ التَّارِكُ لِلْحَدِيثِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَغَيْرِهَا، الَّذِينَ يُقَالُ : إنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الْحَدِيثَ إلَّا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ أَوْ مُعَارَضٌ بِرَاجِحِ ، وَقَدْ بَلَغَ مَنْ بَعْدَهُ أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ لَمْ يَتْرُكُوهُ بَلْ عَمِلَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنهُمْ ؛ أَوْ مَنْ سَمِعَهُ مِنهُمْ ؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْدَحُ فِي هَذَا الْمُعَارِضِ لِلنَّصِّ .(2/13)
وَإِذَا قِيلَ لِهَذَا الْمُسْتَهْدِي الْمُسْتَرْشِدِ : أَنْتَ أَعْلَمُ أَمِ الْإِمَامُ الْفُلَانِيُّ ؟ كَانَتْ هَذِهِ مُعَارَضَةً فَاسِدَةً ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ الْفُلَانِيَّ قَدْ خَالَفَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَنْ هُوَ نَظِيرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ ، وَلَسْتُ أَعْلَمُ مِن هَذَا وَلَا هَذَا ،وَلَكِنَّ نِسْبَةَ هَؤُلَاءِ إلَى الْأَئِمَّةِ كَنِسْبَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وأبي وَمُعَاذٍ وَنَحْوِهِمْ إلَى الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ ، فَكَمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ أَكْفَاءٌ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ ؛ وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ يَكُونُ أَعْلَمَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ : فَكَذَلِكَ مَوَارِدُ النِّزَاعِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، وَقَدْ تَرَكَ النَّاسُ قَوْلَ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ فِي مَسْأَلَةِ تَيَمُّمِ الْجُنُبِ وَأَخَذُوا بِقَوْلِ مَنْ هُوَ دُونَهُمَا كَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ لَمَّا احْتَجَّ بِالْكِتَابِ والسُّنَّة، فعَنْ شَقِيقٍ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِى مُوسَى فَقَالَ أَبُو مُوسَى أَوَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ عَمَّارٍ لِعُمَرَ بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى حَاجَةٍ فَأَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ فَتَمَرَّغْتُ بِالصَّعِيدِ ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: « إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ هَكَذَا ».(2/14)
وَضَرَبَ بِيَدَيْهِ عَلَى الأَرْضِ ضَرْبَةً فَمَسَحَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَضَهُمَا ثُمَّ ضَرَبَ بِشِمَالِهِ عَلَى يَمِينِهِ وَبِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ عَلَى كَفَّيْهِ وَوَجْهِهِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَوَلَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بِقَوْلِ عَمَّارٍ(1).
وَتَرَكُوا قَوْلَ عُمَرَ فِي دِيَةِ الْأَصَابِعِ وَأَخَذُوا بِقَوْلِ مُعَاوِيَةَ لِمَا كَانَ مَعَهُ مِن السُّنَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ "(2).
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يُنَاظِرُ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي الْمُتْعَةِ فَقَالَ لَهُ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِن السَّمَاءِ أَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَقُولُونَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ؟(3).
__________
(1) - سنن النسائى(322 ) صحيح
(2) -. صحيح البخارى (6895 )
(3) - زاد المعاد (2/195)(2/15)
وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ لَمَّا سَأَلُوهُ عَنهَا فَأَمَرَ بِهَا فَعَارَضُوا بِقَوْلِ عُمَرَ فَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَرُدَّ مَا يَقُولُونَهُ فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ : أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ أَمْرُ عُمَرَ ؟ فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ ، سَمِعَ رَجُلًا ، مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يَسْأَلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنِ التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : هِيَ حَلَالٌ ، فَقَالَ الشَّامِيُّ : إِنَّ أَبَاكَ قَدْ نَهَى عَنْهَا ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ أَبِي قَدْ نَهَى عَنْهَا ، وَصَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَمْرُ أَبِي يُتَّبَعُ أَمْ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ : بَلْ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : قَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "(1).
مَعَ عِلْمِ النَّاسِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَعْلَمُ مِمَّنْ هُوَ فَوْقَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ .
__________
(1) - حَجَّةُ الْوَدَاعِ لِابْنِ حَزْمٍ(425 ) وسنن الترمذى(832 ) صحيح(2/16)
وقال الترمذي: وَقَدِ اخْتَارَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَغَيْرِهِمُ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ . وَالتَّمَتُّعُ أَنْ يَدْخُلَ الرَّجُلُ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، ثُمَّ يُقِيمُ حَتَّى يَحُجَّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ وَعَلَيْهِ دَمٌ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُتَمَتِّعِ إِذَا صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ، أَنْ يَصُومَ الْعَشْرَ وَيَكُونَ آخِرُهَا يَوْمَ عَرَفَةَ ، فَإِنْ لَمْ يَصُمْ فِي الْعَشْرِ صَامَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ ، فِي قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مِنْهُمُ ابْنِ عُمَرَ ، وَعَائِشَةَ . وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَصُومُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ . وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْكُوفَةِ . وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَخْتَارُونَ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ . وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ.(2/17)
وَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ لَوَجَبَ أَنْ يُعْرِضَ عَن أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَبْقَى كُلُّ إمَامٍ فِي أَتْبَاعِهِ بِمَنْزِلَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي أُمَّتِهِ، وَهَذَا تَبْدِيلٌ لِلدِّينِ يُشْبِهُ مَا عَابَ اللَّهُ بِهِ النَّصَارَى فِي قَوْلِهِ : {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (31) سورة التوبة ،وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ .اهـ
قلت : وهذا كلُّه فيمن له القدرة على التمييز بين الأدلة ، وأما العامي المحض ، فليس هذا مطلوبا منه ، ولا يأثم بترك ذلك .
- - - - - - - - - - - - - - - - -
المبحث الثامن
بيانُ معرفة الحقِّ بالدليل(1)
قال الإمام الرباني أبو العباس أحمد الشهير بزروق المغربي في كتابه " قواعد التصوف ":
" العلماءُ مصدَّقون فيما ينقلون، لأنه موكولٌ لأمانتهم مبحوثٌ معهم فيما يقولون، لأنه نيتجةُ عقولهم، والعصمةُ غيرُ ثابتة لهم، فلزم التبصُّرُ طلباً للحقِّ والتحقيق، لا اعتراضاً على القائلِ والناقلِ، ثم إنْ أتى المتأخِّرُ بما لم يسبقْ إليه فهو على رتبيه، ولا يلزمه القدحُ في المتقدِّم ولا إساءةُ الأدب معه؛ لأنَّ ما ثبت من عدالة المتقدَّم قاضٍ برجوعِه للحقِّ عند بيانهِ لو سمعَهُ " .
__________
(1) - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 278)(2/18)
وقال الأصفهاني في " أطباق الذهب في المقالة السابعة والثلاثين ": الحقُّ يتضحُ بالأدلة ، والشهورُ تشتهرُ بالأهلَّة، وشفاءُ الصدور يحصل بالبلَّة ، وطالبُ الحقِّ ضيفُ الله ، والدليلُ القاطعُ سيفُ الله ، به يفكُّ العلمُ وينشرُ، وبه يبقَرُ الحقُّ ويقشَرُ،ومثلُ العلوم والبرهانِ كمثلِ المصباح والأدهانِ، الحجَّةُ للأحكام كالعمادِ للخِيام، إعصارُ الظنِّ كدرٌ كعصارةِ الدنِّ، الزمِ اليقينَ تكنْ منَ المتقين، فشواظُ الوهمِ يشوي حمامةَ القلبِ شيًّا ، { وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (28) سورة النجم " .
وفي كتاب قاموسُ الشريعة: " لا يصحُّ لامرئ إلا موافقة الحقِّ، ولا يلزمُ الناسُ طاعةَ أحدٍ لأجل أنه عالمٌ أو إمامُ مذهبٍ، وإنما يلزمُ الناسُ قبولَ الحقِّ ممن جاء به على الإطلاق، ونبذِ الباطلِ ممن جاء به بالاتفاق".
وفيه أيضاً " : كلُّ مسألةٍ لم يخلُ الصواب فيها من أحدِ القولينِ ففسدَ أحدُهما لقيامِ الدليل على فساده صحَّ أن الحقَّ في الآخرِ، قال الله تعالى: { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (32) سورة يونس "
وفيه أيضاً " : والذي يحرِّمُ على العالم تصنييعُ الاجتهاد والسكوتُ بعد التبصرة والإفرادُ بعد القطع، حديثُ عبادة بن الصامت : بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِى الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا وَعَلَى أَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا لاَ نَخَافُ فِى اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ.(1)"
__________
(1) - صحيح مسلم (4874 )(2/19)
وقال الإمام مفتي مكة الشيخُ محمد عبد العظيمُ بنُ ملا فروخ في رسالته " القول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد " في الفصل الأول(1): "اعلمْ أنه لم يكلف الله تعالى أحداً من عبادة أن يكون حنفياً أو مالكياً أو شافعياً أو حنبلياً ، بلْ أوجبَ عليهم الإيمانَ بما بُعثَ به محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والعملَ بشريعته ،غير أن العمل بها متوقفٌ على الوقوف عليها ، والوقوفُ عليها له طرقٌ فما كان منها مما يشتركُ فيه العامَّةُ وأهلُ النظر، كالعلم بفريضة الصلاة والزكاة والحج والصوم والوضوء إجمالاً، وكالعلم بحرمة الزنا والخمر واللواطة وقتل النفس ونحو ذلك مما علِمَ من الدِّين بالضرورة فذلكَ لا يتوقفُ فيه على اتباعِ مجتهدٍ، ومذهبٍ معيَّنٍ، بل كلُّ مسلمٍ عليه اعتقادُ ذلك يجبُ عليه، فمنْ كان في العصر الأول فلا يخفى وضوحُ ذلك في حقِّه، ومَن كان في الأعصارِ المتأخرةِ فلوصولِ ذلك إلى عمله ضرورةً من الإجماع والتواترِ، والآياتُ والسنَنُ -أي الأحاديثُ الشريفةُ المستفيضةُ- المصرحةُ بذلك في حقِّ مَن وصلتْ إليه .
وأمَّا مالا يتوصلُ إليه إلا بضربٍ من النظرِ والاستدلالِ، فمنْ كان قادراً عليه بتوفرِ آلاتهِ وجبَ عليه فعلَهَ؛ كالأئمةِ المجتهدينَ رضوانُ الله عليهم أجمعين، ومَنْ لم يكنْ له قدرةٌ عليه وجبَ عليه اتباعُ مَن أرشدَهُ إلى ما كلِّفَ به ممنْ هو من أهلِ النظر والاجتهادِ والعدالةِ، وسقطَ عن العاجزِ تكليفُه بالبحثِ والنظرِ لعجزهِ، بقوله تبارك وتعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } (286) سورة البقرة ، وقوله عز مِن قائلٍ: { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (43) سورة النحل، وهي الأصلُ في اعتماد التقليدِ كما أشارَ إليه المحققُ الكمالُ بنُ الهمام في التحرير.
__________
(1) - القول السديد - (ج 1 / ص 37)(2/20)
إذا علمتَ ذلك فاعلمْ أن أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد بن محمد بن حنبل رحمة الله عليهم أجمعين كلٌّ كانَ من أهل الذكرِ الذين وجبَ سؤالُهم لمنْ لم يصلْ إلى درجة النظرِ والاستدلالِ، فإذا عملَ أحدُ من المقلِّدين في طهارته وصلاته أو شيء مما جرَى به التكليفُ بقولِ واحدٍ منهم مقلِّداً له فيهِ، أو صادفَ قولَه- ولو لم يعلمْ بهِ حينَ العملِ- فقلَّده فيهِ بعد انقضائهِ على ما ظهرَ لي في المسألة، كما يدلُّ عليهِ ما استشهدَ به في المسالةِ بعد هذا، فقد أدَّى ما عليه، وليس لأحدٍ ممن هو في درجته التقليدُ له، قلتُ بلْ و لا للمجتهدِ الإنكارُ عليه كما صُرِّحَ به ( في غير كتابٍ) عندنا من تصانيفِ الصدر الشهيد حسامُ الدين وغيره من كتب المذهبِ المعتبرةِ كالتجنيس والمزيد لشيخ الإسلام برهانُ الدين صاحبُ الهداية كما نقلته بخطي عنها في مظانه، إذا ثبتَ ذلك فليسَ لحنفيٍّ أو مالكيٍّ أو شافعيٍّ من المقلِّدين أن يمتنعَ منَ الاقتداءِ بالإمامِ المخالفِ لمذهبهِ، و ليس له أن يحتجَّ بأني لما قلدتُ الشافعيَّ أو أبا حنيفةَ مثلاً فقدْ وجبَ عليَّ الحكمُ ببطلانِ ما خالفَ اجتهادَه ، لأننا نقولُ : إنما أبيحَ التقليدُ بقدْر الضرورةِ ، وذلك يندفعُ بتقليدِكَ لهُ في عملكَ وكيفيتِه فقط، وإنْ شئتَ قلْ في كيفيةِ إيقاعِ ما كلِّفتَ به فقط، وأمَّا الحكمُ ببطلانِ مخالفِه فليس ذلكَ إليكَ، بلْ للكلام مجالٌ في تسويغِ ذلكَ للمجتهدِ الذي قلَّدتَهُ.(2/21)
وأمَّا أنتَ ومَن هو في مرتبتِكَ منَ المقلِّدين فقولُ كلِّ مجتهدٍ عندهُ على حدٍّ سواءٍ، إذ ليس الترجيحُ بالدليلِ من وظائفِكَ، ولكنتَ في درجتِهم ، ووجبَ عليكَ الاجتهادُ وارتفعَ التقليدُ، ولكنْ لابدَّ للعملِ في تصحيحِه من مستنَدٍ، فأنتَ استندتَ إلى إمامِكَ، ونِعمَ الإمامُ ،وهذا الآخرُ استند إلى إمامٍ في فعلِه مثلَ إمامِك، أو أعلَى منهُ، فلا يمكنُكَ الحكمَ على عملِه بالبطلانِ البتَّةَ، فلستَ حينئذٍ في تخلفِكَ عن الاقتداءِ به إلا عاملاً بمحضِ التعصُّبِ، وقد نصَّ علماؤُنا وغيرُهم من أصحاب المذاهب على حُرمةِ التعصُّبِ وتصويبِ الصلابةِ في المذهبِ، ومعنى الصلابةِ- أي الثباتُ على ما ظهرَ للمجتهدِ من الدليلِ- وليس ذلكَ إلا للمجتهدِ نفسِه ،أو لمنْ هو منْ أهلِ النظرِ ممنْ أخذَ بقولِه ، والتعصُّبُ هو الميلُ مع الهوَى لأجلِ نصرةِ المذهبِ ومعاملةِ الإمامِ الآخرِ ومقلِّديه بما يحطُّ عنهم، وقد نصَّ في جواهر الفتاوَى وغيرِها من كتب أصحابِنا أنَّ الإمامَّ الشافعيَّ رحمه الله تعالى لم يكنْ له تعصُّبٌ على أئمتِنا رحمهم الله تعالى.
وقد كانَ الصحابةُ رضي الله عنهم يقتدي بعضُهم ببعضٍ ، وكذا التابعونَ لهم وفيهم المجتهدونَ، ولم ينقَلْ عن أحدٍ من السَّلَف رحمهم الله تعالى أنه كانَ لا يرَى الاقتداءَ بمنْ يخالفُ قولَه في بعضِ المسائل، ولو في خصوصِ الطهارةِ والصلاةِ؛ بل كانَ يقتدي بعضُهم ببعضٍ، وربما اعتقدَ بعضُهم ولايةَ بعضٍ ، حتى أنَّ الشافعيَّ رضي الله عنه بعثَ يطلبُ قميصَ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبل من بغدادَ يستشفي بهِ في مدةِ مرضِه بغسلهِ وشربِ مائهِ كما رأيتُه مثبتاً في مناقبِ أحمد رضي الله تعالى عنهم، يعامِلُ بعضُهم بعضاً كما يعلَمُ ذلك من سِيرهِم وأحوالِهم .(2/22)
ولا يلتفتُ إلى ما قد تمسكَ به من لا معرفةَ عنده بأنَّ الاختلافَ بينهم لم يكن بينهم بهذه الصِّفة التي عليها المذاهبُ الآن، لأنا قد قررنا أن ذلك لا يمنعُ ، لأنِّ الكلَّ كانوا في طلب الحقِّ على حدٍّ متساوٍ ،واجتهادُ كلِّ واحدٍ منهم يحتملُ الخطأَ كغيره، بعد تسليمِ بلوغِهم درجةَ الاجتهادِ وإنْ تفاوتوا فيه ".
وقال الإمام ابن الجوزي في تلبيس إبليس "(1): اعلمْ أن المقلدَ على غير ثقةٍ فيما قلَّد فيه ، وفي التقليدِ إبطالُ منفعةِ العقلِ؛ لأنه إنما خلِقَ للتأملِ والتدبرِ . وقبيحٌ بمَنْ أعطيَ شمعةً يستضيءُ بها أنْ يُطفئَها ويمشي في الظُّلْمَةِ .
واعلمْ أنَّ عمومَ أصحابِ المذاهبِ يعظُمُ في قلوبهِم الشخصُ فيتبعونَ قولهُ منْ غيرِ تدبُّرٍ بما قالَ : وهذا عينُ الضلالِ، لأنَّ النظرَ ينبغي أنْ يكونَ إلى القولِ لا إلى القائلِ كما قالَ عليٌّ رضي الله عنه للحارثِ بن عبد الله الأعور بن حوطٍ، وقد قالَ لهُ: أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير كانا على باطلٍ، فقال له: يا حارثُ إنه ملبوسٌ عليكَ، إنَّ الحقَّ لا يعرفُ بالرجالِ، " اعْرَفْ الْحَقَّ تَعْرِفْ أَهْلَهُ "(2)
وكان أحمدُ بنُ حنبلٍ يقول : مِن ضِيقِ عِلْمِ الرَّجُلِ أَنْ يُقَلِّدَ في اعتقادهِ رجلاً ، ولهذا أخذ أحمدُ بنُ حنبل بقول زيدٍ في الجدِّ وتركَ قولَ أبي بكرِ الصديقِ رضي الله عنه ، « فإنْ قالَ قائلٌ »: فالعوامُ لا يعرفونَ الدليلَ فكيفَ لا يقلِّدون؟
__________
(1) - إرشاد النقاد - (ج 1 / ص 146) والتقليد والإفتاء والاستفتاء - (ج 1 / ص 19) وإيقاظ همم أولي الأبصار - (ج 1 / ص 113) و تلبيس إبليس لابن الجوزي - (ج 1 / ص 32)
(2) - التحبير شرح التحرير - (ج 8 / ص 4112) وإيقاظ همم أولي الأبصار - (ج 1 / ص 113)(2/23)
فالجوابُ : - إنَّ دليلَ الاعتقادِ ظاهرٌ على ما أشرنا إليه في ذكر الدهرية، ومثلُ ذلك لا يخفَى على عاقلٍ، وأمَّا الفروعُ فإنها لمَّا كثرتْ حوادثُها واعتاصَ على العاميِّ عرفانُها وقربَ لها أمرُ الخطأِ فيها كانَ أصلحَ ما يفعلُه العاميُّ التقليدُ فيها لمَنْ قدْ سبرَ ونظرَ إلا أنَّ اجتهادَ العاميِّ في اختيارِ مَنْ يقلِّدُهُ ".
قلتُ : هذا يقالُ في حقِّ القادرِ على الاستنباطِ والفهمِ من النصوصِ، فإنه يجبُ عليه هجرُ التقليدِ، وفي تقليدهِ إبطالٌ لمنفعةِ عقلِه، أمَّا العاميُّ ومَنْ في حكمه فليسَ له طريقٌ إلا التقليدَ، وهو مأمورٌ بسؤالِ العلماءِ.(2/24)
وقال ابن القيم(1): " فإذا جاءت هذه- أي النفس المطمئنة - بتجريد المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - جاءتْ تلكَ -أي الإمارةُ- بتحكيم آراءِ الرجال وأقوالهِم،فأتت بالشبهةِ المضلَّة بما يمنعُ من كمالِ المتابعةِ، وتقسم بالله ما مرادها إلا الإحسانُ والتوفيقُ واللهُ يعلم أنها كاذبةٌ، وما مرادُها إلا التفلتَ من سجنِ المتابعةِ إلى فضاءِ إرادتِها وحظوظِها وتريهِ - أي وترَى النفسُ الأمارةُ صاحبَها تجريدَ المتابعةِ للنبي صلى اله عليه وسلم وتقديمَ قولِه على الآراءِ في صورةٍ تنقصُ العلماءَ وإساءةِ الأدبِ عليهم المفضي إلى إساءةِ الظنِّ بهم، وأنهم قدْ فاتهُم الصوابُ، فكيف لنا قوةَ الردِّ عليهِم أو نحظَى بالصوابِ دونهم ، وتقاسِمُهم باللهِ إنْ أرادتْ إلا إحساناً وتوفيقاً، {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} (63) سورة النساء .
__________
(1) - إيقاظ همم أولي الأبصار - (ج 1 / ص 113) والروح لابن القيم - (ج 1 / ص 108)(2/25)
والفرقُ بينَ تجريدِ متابعةِ المعصومِ وإهدارِ أقوالِه وإلغائِها أنْ تجريدَ المتابعةِ أنْ لا تقدِّمَ على ما جاءَ بهِ قولَ أحدٍ ولا رأيَه كائناً مَن كانَ، بل تنظرُ في صحَّةِ الحديثِ أولاَ، فإذا صحَّ لكَ نظرتَ في معناهُ ثانيا ، فإذا تبينَ لك لم تعدلْ عنه ولو خالفكَ مَن بينَ المشرقِ المغربِ، ومعاذَ اللهِ أن تتفقَ الأمةُ على مخالفةِ ما جاء بهِ نبيُّها - صلى الله عليه وسلم - ، بل لا بدَّ أن يكونَ في الأمةِ مَن قالَ به ولو لمْ تعلمْهُ، فلا تجعلْ جهلكَ بالقائلِ به حجَّةً على اللهِ ورسولهِ ، بلِ اذهبْ إلى النصِّ ولا تضعُفْ، واعلمْ أنهُ قد قالَ به قائلٌ قطعاً ، ولكنْ لم يصلْ إليكَ هذا مع حفظِ مراتبِ العلماءِ وموالاتِهم واعتقادِ حرمتِهم وأمانتِهم واجتهادِهم في حفظِ الدِّينِ وضبطهِ، فهم دائرونَ بينَ الأجرِ والأجرينِ والمغفرةِ، ولكنْ لا يوجبُ هذا إهدارُ النصوصِ وتقديمُ قولِ الواحدِ منهم عليها بشبهةِ أنهُ أعلمُ بها منكَ، فإنْ كان كذلكَ فمَنْ ذهبَ إلى النصِّ أعلمُ به منكَ، فهلَّا وافقتَه إنْ كنتَ صادقاً ؟.(2/26)
فمنْ عرضَ أقوالَ العلماءِ على النصوصِ ووزنَها بها وخالفَ منها ما خالفَ النصَّ لم يهدرْ أقوالَهم ، ولم يهضمْ جانبَهم، بلِ اقتدَى بهم ، فإنهم كلَّهم أمروا بذلكَ، فمتَّبِعُهم حقًّا مَنِ امتثلَ ما أوصوا به، لا مَن خالفَهم ، فخلافُهم في القول الذي جاء النصُّ بخلافِه أسهلُ من مخالفتِهم في القاعدةِ الكليةِ التي أَمروا ودعوا إليها من تقديمِ النصِّ على أقوالِهم، ومِن هنا يتبينُ الفرقُ بينَ تقليدِ العالِم في كلِّ ما قالَ وبينَ الاستعانةِ بفهمِِهِ والاستضاءَةِ بنورِ علمِه ، فالأولُ يأخذُ قولَه منْ غيرِ نظرٍ فيهِ، ولا طلبٍ لدليلِه منِ الكتابِ والسُّنَّة، بلْ يجعلُ ذلكَ كالحبلِ الذي يلقيهِ في عنقِه يقلِّدهُ بهِ، ولذلكَ سمِّيَ تقليداً بخلافِ ما استعانَ بفهمِه واستضاءِ بنورِ علمِه في الوصولِ إلى الرسولِ صلوات الله وسلامه عليه ، فإنه يجعلُهم بمنزلةِ الدليلِ إلى الدليلِ الأولِ، فإذا وصلَ إليه استغنَى بدلالتِه عنِ الاستدلالِ بغيرهِ، فمَنِ استدلَّ بالنَّجمِ على القبلَةِ فإنهُ إذا شاهدَها لم يبقَ لاستدلالهِ بالنجمِ معنًى ، قَالَ الشَّافِعِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ تَعَالَى رُوحَهُ : أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَبَانَتْ لَهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ مِن النَّاسِ(1).
__________
(1) - مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (ج 14 / ص 169) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 4 / ص 56) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 7 / ص 208)(2/27)
ومن هذا يتبينُ الفرقُ بين الحُكمِ المنزَّلِ الواجبِ الاتباعِ والحكمِ المؤوَّلِ الذي غايتُه أنْ يكونَ جائزَ الاتباعِ، بأنَّ الأولَ هو الذي أنزلَ الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - متلوًّا أو غيرَ متلوٍّ إذا صحَّ ، وسلِمَ منَ المعارضَةِ، وهو حكمُه الذي ارتضاهُ لعبادهِ ولا حكمَ له سواهُ، وإنَّ الثاني أقوالُ المجتهدينَ المختلفَةِ التي لا يجبُ اتباعُها ولا يكفُرُ ولا يفسُقُ مَنْ خالفَها ، فإنَّ أصحابَها لم يقولوا هذا حكمُ الله ورسولِه قطعاً، وحاشاهُم عن قولِ ذلكَ، وقد صحَّ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - النهيُ عنهُ ، فعَن سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَن أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِى خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ : « اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَ لاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلاَلٍ - فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنهُمْ وَكُفَّ عَنهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنهُمْ وَكُفَّ عَنهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِن دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِى عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِى يَجْرِى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ فِى الْغَنِيمَةِ(2/28)
وَالْفَىْءِ شَىْءٌ إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنهُمْ وَكُفَّ عَنهُمْ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلاَ ذِمَّةَ نَبِيِّهِ وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِن أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ ».(1)
بلْ قالوا: اجتهدنا رأيَنا فمنْ شاءَ قبِلَه ومنْ شاءَ لم يقبلْهُ، ولم يلزمْ أحدٌ منهم بقولِ الأئمةِ، قالَ الإمامُ أبو حنيفةَ : هذا رأيي فمن جاء بخير منه قبلته انتهى.
ولو كان هو عنْ حكم اللهِ لما ساغَ لأبي يوسفَ ومحمدَ وغيرهِما مخالفتُه فيه، وكذلك قال مالكٌ لمَّا استشارَهُ هارونُ الرشيدُ في أنْ يحملَ الناسَ على ما في الموطأِ فمنعَهُ من ذلك، وَقَالَ لَهُ : قَدْ تَفَرَّقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْبِلَادِ ، وَصَارَ عِنْدَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ .
__________
(1) - صحيح مسلم(4619 )
تخفر : تنقض العهد = تغل : تسرق من الغنيمة قبل أن تقسم(2/29)
وهذا الشافعيُّ نهى أصحابه عن تقليدِه ويوصيهِم بتركِ قولِه إذا جاءَ الحديثُ بخلافِه،وَقَالَ أَبُو دَاوُد : قُلْت لِأَحْمَدَ : الْأَوْزَاعِيُّ هُوَ أَتْبَعُ مِن مَالِكٍ ؟ قَالَ : لَا تُقَلِّدْ دِينَك أَحَدًا مِن هَؤُلَاءِ ، مَا جَاءَ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ فَخُذْ بِهِ ، ثُمَّ التَّابِعِيُّ بَعْدَ الرَّجُلِ فِيهِ مُخَيَّرٌ .
وَقَدْ فَرَّقَ أَحْمَدُ بَيْنَ التَّقْلِيدِ وَالِاتِّبَاعِ فَقَالَ أَبُو دَاوُد : سَمِعَتْهُ يَقُولُ : الِاتِّبَاعُ أَنْ يَتْبَعَ الرَّجُلُ مَا جَاءَ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَن أَصْحَابِهِ ، ثُمَّ هُوَ مِن بَعْدُ فِي التَّابِعِينَ مُخَيَّرٌ ، وَقَالَ أَيْضًا : لَا تُقَلِّدْنِي وَلَا تُقَلِّدْ مَالِكًا وَلَا الثَّوْرِيَّ وَلَا الْأَوْزَاعِيَّ ، وَخُذْ مِن حَيْثُ أَخَذُوا ،وَقَالَ: مِن قِلَّةِ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يُقَلِّدَ دِينَهُ الرِّجَالَ .
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ : قَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَقَالَتَنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِن أَيْنَ قُلْنَا .
وَقَدْ صَرَّحَ مَالِكٌ بِأَنَّ مَنْ تَرَكَ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ ، فَكَيْفَ بِمَنْ تَرَكَ قَوْلَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِقَوْلِ مَنْ هُوَ دُونَ إبْرَاهِيمَ أَوْ مِثْلِهِ ؟(1)
وقال الأمير عبد القادر الجزائري في مقدمة كتابه " ذكرى العاقل وتنبيه الغافل " في الباب الأول -تقديم في العلم والجهل :
__________
(1) - إيقاظ همم أولي الأبصار - (ج 1 / ص 114) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 305) وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 279)(2/30)
اعلموا: أنه يلزم العاقلُ، أن ينظر في القول، ولا ينظر إلى قائله. فإن كان القولُ حقاً، قبله، سواءٌ كان قائلُه معروفاً بالحقِّ، أو الباطلِ، فإنَّ الذهبَ يُستخرجُ من التراب. والنرجسَ، منَ البصل، والترياقَ، منَ الحيَّاتِ ويجتنَى الوردُ، منَ الشوك، فالعاقلُ: يعرفُ الرجالِ بالحقِّ، ولا يعرفُ الحقَّ بالرجالِ. والكلمةُ من الحكمةِ، ضالَّةُ العاقلِ يأخذُها من عندِ كلِّ مَن وجدها عندهُ، سواءٌ كانَ حقيراً، أو جليلاً. وأقلُّ درجاتِ العالِم، أن يتميزَ عن العاميِّ بأمورٍ، منها:
أنه لا يعافُ العسلَ إذا وجدَه في محجمةِ الحجَّامِ، و يعرفُ أن الدمَ قذِرٌ، لا لكونِه في المحجَمةِ ولكنهُ قذرٌ في ذاتِه، فإذا عدمتْ هذه الصفةُ في العسلِ، فكونُه في ظرفِ الدمِ المستقذَرِ، لا يكسبُه تلك الصفةَ، ولا يوجبُ نفرهُ عنه. وهذا وهمٌ باطلٌ، غالبٌ على أكثر الناس. فمهما نُسِبَ كلامٌ إلى قائلٍ، حسُنَ اعتقادُهم فيه، قبلوهُ. وإنْ كان القولُ باطلاً. وإن نسِبَ القولُ، إلى من ساءَ فيه اعتقادُهم ردُّوه، وإنْ كان حقًّا ، ودائماً يعرفونَ الحقَّ بالرجالِ، ولا يعرفونَ الرجالَ بالحقِّ، وهذا غايةُ الجهلِ والخسرانِ.
فالمحتاجُ إلى الترياقِ إذا هربتْ نفسُه منه، حيثُ علِم أنهُ مستخَرجٌ من حيَّةٍ، جاهلٌ. فيلزمُ تنبيهُه على أن نفرتَه جهلٌ محضٌ. وهو سببُ حرمانِه من الفائدةِ، التي هيَ مطلوبةٌ.
فإنَّ العالِمَ، هو الذي يسهلُ عليه إدراكَ الفرقِ بين الصدقِ والكذبِ في الأقوال، وبينَ الحقِّ والباطلِ في الاعتقاداتِ، وبينَ الجميلِ والقبيحِ في الأفعالِ.
لا بأنْ يكون ملتبساً عليه الحقُّ بالباطلِ والكذبُ بالصدْقٍ، والجميلُ بالقبيحِ، ويصيرُ يتبعُ غيرَه، ويقلدُه فيما يعتقدُ وفيما يقولُ، فإنَّ هذه ما هي إلا صفاتُ الجهَّالِ.(2/31)
والمتبوعون منَ الناس على قسمينِ: قسمٌ عالمٌ مسعِدٌ لنفسِه، ومسعِدٌ لغيره، وهو الذي عرفَ الحقَّ بالدليلِ، لا بالتقليدِ، ودعا الناسَ إلى معرفةِ الحقِّ بالدليلِ، لا بأنْ يقلدوهُ. وقسمٌ مهلكٌ لنفسِه، ومهلكٌ لغيرهِ، وهو الذي قلَّد آباءَه وأجدادَه، فيما يعتقدونَ ويستحسنونَ، وتركَ النظرَ بعقلِه، ودعا الناسَ لتقليدِه.
والأعمَى لا يصلُح أن يقودَ العميانِ، وإذا كان تقليدُ الرجالِ مذموماً، غيرَ مرضيٍّ في الاعتقاداتِ، فتقليدُ الكتبِ، أولى وأحرَى بالذمِّ، وأنَّ بهيمةً تقادُ، أفضلُ منْ مقلِّدٍ ينقادُ، وإنَّ أقوالَ العلماءِ والمتدينينَ، متضادةٌ، متخالفةٌ في الأكثرِ، واختيارُ واحدٍ منها، واتباعُهُ بلا دليلٍ، باطلٌ ؛ لأنه ترجيحٌ بلا مرجِّحٍ، فيكونَ معارضاً بمثلِهِ.
وكلُّ إنسانٍ، من حيثُ هو إنسانٌ، فهو مستعدٌّ لإدراكِ الحقائقَ، على ما هي عليه، لأنَّ القلبَ، الذي هو محلُّ العلمِ، بالإضافةِ إلى حقائقَ الأشياءِ، كالمرآةِ بالإضافةِ إلى صورِ المتلوناتِ، تظهرُ فيها كلُّها على التعاقب، لكنَّ المرآةَ، قد لا تنكشفُ فيها الصورُ، لأسبابٍ، أحدُها: نقصانُ صورتِها، كجوهر الحديدِ، قبل أنْ يدوَّرَ ويشكَّلَ ويصقلَ، والثاني لخبثِه وصدئِه، وإنْ كان تامَّ الشكلِ، والثالثُ لكونِه غيرَ مقابلٍ للجهةِ، التي فيها الصورةُ، كما إذا كانتِ الصورةُ وراءَ المرآةِ، والرابعُ لحجابٍ مرسَلٍ بينَ المرآةِ والصورةِ، والخامسُ للجهلِ بالجهةِ التي فيها الصورةُ المطلوبةُ حتى يتعذرَ بسببهِ أن يحاذيَ به الصورةَ وجهتَها.
فكذلك القلبُ، مرآةٌ مستعدةٌ، لأن ينجليَ فيها صورُ المعلوماتِ كلِّها، وإنما خلتِ القلوبُ عن العلومِ، التي خلتْ عنها لهذه الأسبابِ الخمسةِ:(2/32)
أولها: نقصانٌ في ذات القلب، كقلب الصبيِّ، فإنه لا تنجلي له المعلوماتُ لنقصانه، والثاني لكدراتِ الأشغالِ الدنيوية، والخبثِ الذي يتراكمُ على وجهِ القلبِ منها، فالإقبالُ على طلبِ كشفِ حقائقَ الأشياءِ والإعراضِ عن الأشياءِ الشاغلةِ القاطعةِ، هو الذي يجلو القلبَ، ويصفيَّه، والثالثُ: أن يكونَ معدولاً به عن جهةِ الحقيقةِ المطلوبةِ، والرابعُ الحجابُ، فإنَّ العقلَ المتجردَ للفكرِ، في حقيقةٍ من الحقائقِ، ربما لا تنكشفُ له، لكونهِ محجوباً باعتقادٍ سبقَ إلى القلب، وقتَ الصِّبا، طريقَ التقليد، والقبولُ بحسنِ الظنِّ، فإنَ ذلك يحولُ بين القلب والوصولِ إلى الحقِّ، ويمنعُ أن ينكشفَ في القلب، غيرَ ما تلقاهُ بالتقليدِ، وهذا حجابٌ عظيمٌ، حجبَ أكثرَ الخلقِ عن الوصولِ إلى الحقِّ ، لأنهم محجوبونَ باعتقاداتِ تقليديةٍ، رسختْ في نفوسهِم، وجمدتْ عليها قلوبُهم، والخامسُ الجهلُ بالجهةِ التي يقعُ فيها العثورُ على المطلوب.
فإنَّ الطالبَ لشيءٍ، ليسَ يمكنه أن يحصِّلَه، إلا بالتذكر للعلوم، التي تناسبُ مطلوبَه حتى إذا تذكَّرها، ورتَّبها في نفسهِ ترتيباً مخصوصاً، يعرفُه العلماءُ، فعند ذلك يكونُ قد صادفَ جهةَ المطلوبِ فتظهرُ حقيقةُ المطلوبِ لقلبِه، فإنَّ العلومَ المطلوبةَ، التي ليست فطريةً، لا تُصادُ إلا بشبكةِ العلوم الحاصلةِ.
بل كلُّ علمٍ لا يحصُلُ إلا عن علمينِ سابقينِ، يأتلفانِ، ويزدوجانِ، على وجه مخصوصٍ، فيحصل من ازدواجهِما علمٌ ثالثٌ على مثالِ حصول النتاجِ، من ازدواج الفحلِ والأنثَى، ثم كما أنَّ من أرادَ أن يستنتجَ فرساً، لم يمكنْه ذلكَ من حمارٍ وبعيرٍ، بلْ منْ أصلٍ مخصوصٍ، من الخيلِ، الذكرِ والأنثَى، وذلك إذا وقع بينهُما ازدواجٌ مخصوصٌ، فكذلكَ كلُّ علمٍ فله أصلانِ مخصوصانِ، وبينهما طريقٌ مخصوصٌ في الازدواجِ، يحصلُ من ازدواجهِما العلمُ المطلوبُ.(2/33)
فالجهلُ بتلك الأصولِ وبكيفية الازدواجِ، هو المانعُ من العلمِ، ومثاله ما ذكرناه من الجهلِ بالجهةِ، التي الصورةُ فيها، بل مثاله:أن يريدَ الإنسانُ أن يرَى قفاهُ مثلاً بالمرآةِ، فإنه إذا رفع المرآةَ قبالةَ وجهِه، لم يكنْ حاذَى بها جهة القفا، فلا يظهرُ فيها القفا، وإنْ رفعَها وراءَ القفا وحاذاهُ كان قد عدلَ بالمرآةِ عن عينيهِ، فلا يرى المرآةَ، ولا صورةَ القفا فيها فيحتاجُ إلى مرآة أخرى، ينصبُها وراء القفا، وهذه المرآةُ، في مقابلتِها، بحيثُ يراها، ويراعي مناسبةً بين وضعِ المرآتين، حتى تنطبعَ صورةُ القفا في المرآةِ المحاذيةِ للقفا، ثم تنطبعُ صورةُ هذه المرآة، مع ما فيها من صورةِ القفا، في المرآة الأخرى التي في مقابلة العينِ، ثم تدركُ العينُ صورة القفا.
فكذلكَ في اصطيادِ العلوم، وطلبِ إدراكِ الأشياءَ، طرقٌ عجيبةٌ، فيها انحرافاتٌ عن المطلوبِ أعجبُ مما ذكرناه في المرآة، فهذه هي الأسبابُ المانعةُ للقلوب من معرفة الحقائقَ، وإلا فكلُّ قلبٍ، فهو بالفطرةِ الإلهيةِ، صالحٌ لإدراكِ الحقائقَ اهـ
- - - - - - - - - - - - - - -
المبحث التاسع
بيانُ أنَّ معرفة الشيءِ ببرهانهِ طريقةُ القرآنِ الكريمِ(1)
__________
(1) - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 281)(2/34)
قال الشيخ محمد عبده في المقالة أثرت عنه ما صورته " سعادة الناس في دنياهم وأخراهم بالكسب والعمل ، فإنَّ الله خلق الإنسان وأناط جميع مصالحه ومنافعِه بعمله وكسبِه، والذين حصَّلوا سعادتهم بدون عمل ولا سعيٍ همُ الأنبياءُ عليهم الصلاة والسلام وحدهم ، لا يشاركُهم في هذا أحدٌ من البشر مطلقاً، والكسبُ مهما تعددت وجوهُه فإنها ترجعُ إلى كسبِ العلمِ، لأنَّ أعمالَ الإنسان إنما تصدرُ عن إرادته ، وإرادتُه تنبعثُ عن آرائه، وآراؤُه هي نتائجُ علمه، فالعلمُ مصدرُ الأعمالِ كلِّها دنيويةَ وأخرويةَ، فكما لا يسعدُ الناسُ في الدنيا إلا بأعمالِهم كذلك لا يسعدونَ في الآخرةِ إلا بأعمالِهم ، وحيث كان للعلم هذا الشأنُ فلا شكَّ أن الخطأ فيه خطأٌ في طريقِ الَّسير إلى السعادة عائقٍ أو مانعٍ من الوصول إليها، فلا جرمَ أن الناس في أشد الحاجةِ إلى ما يحفظُ من هذا الخطأِ ويسيرُ بالعلم في طريقهِ القويمِ حتى يصلَ السائرُ إلى الغاية "
ثم قال: " اعتنى العلماءُ في كلِّ أمةٍ بضبطِ اللسانِ وحفظِه من الخطأِ في الكلام، ووضعوا لذلك علوماً كثيرةً، وما كان للسان هذا الشأنُ إلا لأنه مجليٌّ للفكرِ وترجمانٌ له ، وآلةٌ لإيصالِ معارفِه من ذهنٍ إلى آخرَ، فأجدرُ بهم أن تكونَ عنايتُهم بضبطِ الفكر أعظمُ، كما أن اللفظ مجليُّ الفكر هو غطاؤُه أيضاً ، فإن الإنسان لا يقدرُ على إخفاءِ أفكارهِ إلا بحجابِ الكلامِ الكاذبِ، حتى قال بعضهُم: إن اللفظَ لا يوجدُ إلا ليخفيَ الفكرَ ".(2/35)
ثم كشف الأستاذُ النقابَ عن حقيقة الفكر الصحيحِ الذي ينتفعُ بالميزان ويكونُ مطلقاً يجري في مجراهُ الذي وضعه اللهُ تعالى عليه إلى أن يصلَ إلى غايتِه، أمَّا المقيَّدُ بالعادات فهو الذي لا شأنَ له، وكأنهُ لا وجود لهُ، وقد جاء الإسلامُ ليعتقَ الأفكارَ من رقِّها ويحلَّها من عقلِها، فترَى القرآنَ ناعياً على المقلِّدين ذاكراً لهم بأسوأ ما يذكرُ به المجرمُ، ولذلك بنيَ على اليقين ثم قال :" على طالب العلمِ أن يسترشدَ بم تقدمَّه سواءٌ كانوا أحياءً أم أمواتاً، ولكن عليه أن يستعملَ فكرهُ فيما يؤثرُ عنهم، فإن وجده صحيحاً أخذَ به ، وإن وجده فاسداً تركَهُ، وحينئذ يكون ممن قال اللهُ تعالى فيهم: (فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) [الزمر/17-19])، وإلا فهو كالحيوانِ، والكلامُ كاللحام له أو الزمامِ يمنعُ به عن كلِّ ما يريدُ صاحب الكلام منعُه عنه، وينقادُ إلى حيث يشاءُ المتكلِّمُ أن ينقادَ إليه من غير عقلٍ ولا فهمٍ " .
ثم ألمعَ إلى الأشياءَ التي تجعل الفكرَ صحيحاً مطلقاً فقال: " إنَّ الكلامَ عنه يحتاجُ إلى شرحٍ طويلٍ، ويمكن أن نقولَ فيه كلمةً جامعةً يرجع إليها كلُّ ما يقالُ وهي الشجاعةُ - الشجاعُ هو الذي لا يخافُ في الحقِّ لومةَ لائمٍ -فمتَى لاح له يصرِّحُ به ويجاهرُ بنصرتِه ، وإن خالفَ في ذلك الأولينَ والآخرينَ، ومنَ الناس من يلوحُ له نورُ الحقِّ فيبقَى متمسكاً بما عليه الناسُ، ويجتهدُ في إطفاءِ نورِ الفطرةِ، ولكنَّ ضميرَهُ لا يستريحُ فهو يوبِّخُه إذا خلا بنفسِه ولو في فراشِه لا يرجعُ عن الحقِّ أو يكتمُ الحقَّ لأجلِ الناس، إلا الذي لم يأخذ إلا بما قال الناسُ، ولا يمكنُ أن يأتي هذا من موقنٍ يعرفُ الحقَّ معرفةً صحيحةً ".(2/36)
وبعد أن أفاضَ في الكلامِ على الشجاعةِ وبينَ احتياجَ الفكرِ والبصيرةِ في الدِّينِ إليها قال : " وهنا شيءٌ يحسبُه بعضُهم شجاعةً وما هو بشجاعةٍ وإنما هو وقاحةٌ، وذلك كالاستهزاءِ بالحقِّ وعدم المبالاةِ بالحقِّ، فترى صاحبَ هذه الخلَّةَ يخوضُ في الأئمةِ ويعرضُ بتنقيص أكابرِ العلماءِ غروراً وحماقةً، والسببُ في ذلك أنه ليس عنده من الصبرِ والاحتمالِ وقوةِ الفكرِ ما يسبرُ به أغوارَ كلامِهم ويمحِّصُ به حججَهم وبراهينَهم، ليقبلَ ما يقبلُ عن بيِّنةٍ ويتركَ ما يتركُ عن بيِّنَةٍ ، وهذا ولا شكَّ أجبنُ ممن تحمَّلَ ثقِلَ التقليدِ على ما فيه، وربما تنبعَ في عقلُه خواطرَ ترشدُه إلى البصيرةِ أو تلمعُ في ذهنهِ بوارقُ من الاستدلالِ لو مشَى في نورِها لاهتدى وخرجَ من الحيرةِ، وأما المستهزئُ فهو أقلُّ احتمالاً من المقلِّد، فإنَّ الهوى الذي يعرضُ لفكرةٍ إنما يأتيهِ من عدمِ صبرِه وثباتِه على الأمورِ وعدم التأملِ فيها ، والحاصلُ أن الفكرَ الصحيحَ يوجَدُ بالشجاعةِ، وهي ها هنا التي يسمِّيها بعضُ الكتاب العصريين " الشجاعةُ الأدبيةُ " وهي قسمانِ شجاعةٌ في رفعِ القيدِ الذي هو التقليدُ الأعمَى ، وشجاعةٌ في وضعِ القيدِ الذي هو الميزانُ الذي لا ينبغي أن يقرَّ رأيٌّ ولا فكرٌ إلا بعد ما يوزنُ به ويظهرُ رحجانُه، وبهذا يكونُ الإنسانُ عبداً للحقِّ وحدَه ، وهذه الطريقةُ طريقةُ معرفةِ الشيء بدليلِه وبرهانِه ما جاءتنا من علمِ المنطقِ وإنما هي طريقةُ القرآنِ الكريمِ الذي ما قررَ شيئاً إلا واستدلَّ عليه وأرشدَ متبعيهِ إلى الاستدلال وإنما المنطقُ آلةٌ لضبط الاستدلال كما أن النحوَ آلةٌ لضبط الألفاظِ في الإعرابِ والبناءِ " انتهى .
- - - - - - - - - - - - - - -
المبحث العاشر(2/37)
الفرق بين العالم والداعية والواعظ(1)
إن العالم هو من فقه في دين الله، والعلم النافع هو ما أورث صاحبه الخشية، ولذلك قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِن عِبَادِهِ الْعُلَمَاء }{فاطر: 28}.
قال ابن مسعود : " كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ عِلْمًا , وَكَفَى بِالِاغْتِرَارِ بِهِ جَهْلًا "(2).
وقال أيضاً: لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الْحَدِيثِ وَلَكِنَّ الْعِلْمَ بِالْخَشْيَةِ(3).
وقال الحسن : " تَعَلَّمُوا مَا شِئْتُمْ أَنْ تَعَلَّمُوا ، فَلَنْ يُجَازِيَكُمُ اللَّهُ عَلَى الْعِلْمِ حَتَّى تَعْمَلُوا ، فَإِنَّ السُّفَهَاءَ هِمَّتُهُمُ الرِّوَايَةُ ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ هِمَّتُهُمُ الرِّعَايَةُ "(4)
وقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، " اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ تَعْلَمُوا ، فَلَنْ يَأْجُرَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعِلْمِ حَتَّى تَعْمَلُوا "(5).
وقال في تحفة الأحوذي عن العالم المفضّل على العابد: أَيْ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْعِلْمُ وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ بِنَشْرِ الْعِلْمِ بَعْدَ أَدَائِهِ مَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ(6)."
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 3698) -رقم الفتوى 54541 الفرق بين العالم والداعية والواعظ -تاريخ الفتوى : 29 شعبان 1425
(2) - مصنف ابن أبي شيبة(ج 13 / ص 291)(35674) وفيه انقطاع
(3) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيّ(379 ) وفيه انقطاع
(4) - الْجَامِعُ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي وَآدَابِ السَّامِعِ لِلْخَطِيِبِ الْبَغْدَادِيِّ(37)
(5) - سنن الدارمي (266)
(6) - تحفة الأحوذي - (ج 6 / ص 481)(2/38)
وإن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه، فعَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نَافِعًا وَتَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ(1).
وقال الشافعي لبعض أصحابه: لَيْسَ الْعِلْمَ مَا حُفِظَ ، الْعِلْمَ مَ مَا نَفَعَ "(2).
هذا، وإن للعالم صفات شخصية، منها: حسن السمت والهدي والذل، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « خَصْلَتَانِ لاَ تَجْتَمِعَانِ فِى مُنَافِقٍ حُسْنُ سَمْتٍ وَلاَ فِقْهٌ فِى الدِّينِ ».(3)
وقال بعض السلف: من لم ينفعك لحظه لم ينفعك لفظه.
وعلى ما سبق، فإن العالم ينبغي أن يكون داعية، والداعية يجب أن يكون عالماً بما يدعو إليه، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108) سورة يوسف.
وقد بوب البخاري في صحيحه بقوله: باب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ: والذين ذكروا شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدُّوا منها شرط العلم بما يأمر به أو ينهى عنه.
ولكن في الأزمنة المتأخرة غلب اسم العالم على من تصدَّر للتدريس وإفتاء الناس والتزم منهجاً في تعليمهم وسلَّماً يتدرج بهم عليه.
وغلب لقب الداعية على رجل العامة الذي يخالط الناس ويعطيهم من وقته ويقيم أنشطة غرضها جمع الناس على التمسك بالإسلام واعتزازهم به.
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 9 / ص 122)(27248) صحيح
(2) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (410 )
(3) - سنن الترمذى(2900 ) حسن لغيره(2/39)
وأمَّا الواعظ، فهو الذي يلهب القلوب بسياط تذكيره، ويغلب على أسلوبه الترغيب والترهيب،ولا شك أن الناس درجات، فمنهم العالم المجتهد المطلق ومنهم المقلد، وبين الدرجتين مراتب، ولقد بحثها الفقهاء في باب الاجتهاد والتقليد من كتب أصول الفقه.
وكذلك دوَّن العلم، وصنفت الكتب، وصار التأليف صنعة لها منهج واصطلاح وظهرت التخصصات العلمية تبعاً لتنوع العلوم، وهناك من أتقنها كلها أو جلها ما بين مستقل ومستكثر، ومنهم من أختصَّ بعلم واحد، والناس أجناس، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.والله أعلم.
- - - - - - - - - - - - - - - -
الباب الثاني
الخلاصة في أحكام التقليد(1)
الفصل الأول ... -أحكام التقليد
الفصل الثاني- أحكام تتبع الرخص
الفصل الثالث ... -الخلاصة في أحكام التلفيق
الفصل الرابع ... -قضايا تتعلق بالتقليد
الفصل الأول
أحكام التقليد
المبحث الأول
تعريف التقليد :
التَّقْلِيدُ لُغَةً : مَصْدَرُ قَلَّدَ ، أَيْ جَعَل الشَّيْءَ فِي عُنُقِ غَيْرِهِ مَعَ الإِْحَاطَةِ بِهِ(2).
وَتَقُول : قَلَّدْتُ الْجَارِيَةَ : إِذَا جَعَلْتَ فِي عُنُقِهَا الْقِلاَدَةَ ، فَتَقَلَّدَتْهَا هِيَ ، وَقَلَّدْتُ الرَّجُل السَّيْفَ فَتَقَلَّدَهُ : إِذَا جَعَل حَمَائِلَهُ فِي عُنُقِهِ . وَأَصْل الْقَلْدِ ، كَمَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ ، لَيُّ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ ، نَحْوُ لَيُّ الْحَدِيدَةِ الدَّقِيقَةِ عَلَى مِثْلِهَا ، وَمِنهُ : سِوَارٌ مَقْلُودٌ .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 13 / ص 154)) فما بعد وفتاوى الأزهر - (ج 7 / ص 173)
(2) - روضة الناظر لابن قدامة 2 / 449 ط ثانية ، الرياض مكتبة المعارف 1404 هـ .(2/40)
وَفِي التَّهْذِيبِ : تَقْلِيدُ الْبَدَنَةِ أَنْ يُجْعَل فِي عُنُقِهَا عُرْوَةُ مَزَادَةٍ ، أَوْ حِلَقُ نَعْلٍ ، فَيُعْلَمُ أَنَّهَا هَدْيٌ . وَقَلَّدَ فُلاَنًا الأَْمْرَ إِيَّاهُ . وَمِنهُ تَقْلِيدُ الْوُلاَةِ الأَْعْمَال(1).
وَيُسْتَعْمَل التَّقْلِيدُ فِي الْعُصُورِ الْمُتَأَخِّرَةِ بِمَعْنَى الْمُحَاكَاةِ فِي الْفِعْل ، وَبِمَعْنَى التَّزْيِيفِ ، أَيْ صِنَاعَةِ شَيْءٍ طِبْقًا لِلأَْصْل الْمُقَلَّدِ . وَكِلاَ الْمَعْنَيَيْنِ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّقْلِيدِ لِلْمُجْتَهِدِينَ ؛ لأَِنَّ الْمُقَلِّدَ يَفْعَل مِثْل فِعْل الْمُقَلَّدِ دُونَ أَنْ يَدْرِيَ وَجْهَهُ . وَالأَْمْرُ التَّقْلِيدِيُّ مَا يُفْعَل اتِّبَاعًا لِمَا كَانَ قَبْل ، لاَ بِنَاءً عَلَى فِكْرِ الْفَاعِل نَفْسِهِ ، وَخِلاَفُهُ الأَْمْرُ الْمُبْتَدَعُ(2).
وَيَرِدُ التَّقْلِيدُ فِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ بِأَرْبَعَةِ مَعَانٍ :
أَوَّلُهَا : تَقْلِيدُ الْوَالِي أَوِ الْقَاضِي وَنَحْوِهِمَا ، أَيْ تَوْلِيَتُهُمَا الْعَمَل ، وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( تَوْلِيَةٌ ) .
ثَانِيهَا : تَقْلِيدُ الْهَدْيِ بِجَعْل شَيْءٍ فِي رَقَبَتِهِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ هَدْيٌ .
ثَالِثُهَا : تَقْلِيدُ التَّمَائِمِ وَنَحْوِهَا .
رَابِعُهَا : التَّقْلِيدُ فِي الدِّينِ وَهُوَ الأَْخْذُ فِيهِ بِقَوْل الْغَيْرِ مَعَ عَدَمِ مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ . أَوْ هُوَ الْعَمَل بِقَوْل الْغَيْرِ مِن غَيْرِ حُجَّةٍ .(3)
المبحث الثاني
تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ :
__________
(1) - لسان العرب ومختار الصحاح مادة : " قلد " .
(2) - لسان العرب المحيط ـ قسم المصطلحات ، والمعجم الوسيط مادة : " قلد " .
(3) - روضة الناظر بتعليق الشيخ عبد القادر بن بدران 1404هـ 2 / 450 القاهرة . المطبعة السلفية ، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 265 . القاهرة . مطبعة مصطفى الحلبي 1356 هـ .(2/41)
التَّقْلِيدُ قَبُول قَوْل الْغَيْرِ مِن غَيْرِ حُجَّةٍ ، كَأَخْذِ الْعَامِّيِّ مِنَ الْمُجْتَهِدِ فَالرُّجُوعُ إِلَى قَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَيْسَ تَقْلِيدًا ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الإِْجْمَاعِ لَيْسَ تَقْلِيدًا كَذَلِكَ ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ رُجُوعٌ إِلَى مَا هُوَ الْحُجَّةُ فِي نَفْسِهِ(1).
المبحث الثالث
حُكْمُ التَّقْلِيدِ :
أَهْل التَّقْلِيدِ لَيْسُوا طَبَقَةً مِن طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ ، فَالْمُقَلِّدُ لَيْسَ فَقِيهًا ، فَإِنَّ الْفِقْهَ مَمْدُوحٌ فِي كَلاَمِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّقْلِيدُ مَذْمُومٌ ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ مِنَ التَّقْصِيرِ(2).
أ - حُكْمُ التَّقْلِيدِ فِي الْعَقَائِدِ(3):
__________
(1) - شرح مسلم الثبوت 2 / 400 . القاهرة ، مطبعة بولاق ، 1322هـ ، والمستصفى مطبوع مع مسلم الثبوت 2 / 387 . الطبعة المذكورة ، وروضة الناظر 2 / 450 .
(2) - شرح مسلم الثبوت 1 / 10 .
(3) - انظر لقاءات الباب المفتوح - (ج 94 / ص 20) وشرح النيل وشفاء العليل - إباضية - (ج 35 / ص 59) والأحكام للآمدي - (ج 4 / ص 227) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 6 / ص 12) والتقليد والإفتاء والاستفتاء - (ج 1 / ص 47) وغاية الوصول في شرح لب الأصول - (ج 1 / ص 169)(2/42)
التَّقْلِيدُ لاَ يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الأُْصُولِيِّينَ فِي الْعَقَائِدِ ، كَوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَوُجُوبِ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ ، وَمَعْرِفَةِ صِدْقِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلاَ بُدَّ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْعِلْمِ وَإِلَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ ، وَمَعْرِفَةِ أَدِلَّةِ ذَلِكَ . وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ التَّقْلِيدَ فِي الْعَقِيدَةِ بِمِثْل قَوْله تَعَالَى : {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (22) سورة الزخرف ، وَلَمَّا نَزَل قَوْله تَعَالَى : {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} (190) سورة آل عمران ، قال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - : « لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ ، وَيْلٌ لِمَن قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} الآيَةَ كُلَّهَا. »(1). .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (ج 2 / ص 386) برقم([620] ) وهو صحيح(2/43)
وَلأَِنَّ الْمُقَلِّدَ فِي ذَلِكَ يَجُوزُ الْخَطَأُ عَلَى مُقَلَّدِهِ ،وَيَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِي إِخْبَارِهِ ، وَلاَ يَكْفِي التَّعْوِيل فِي ذَلِكَ عَلَى سُكُونِ النَّفْسِ إِلَى صِدْقِ الْمُقَلَّدِ ، إِذْ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ سُكُونِ أَنْفُسِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَلَّدُوا أَسْلاَفَهُمْ وَسَكَنَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ مِن قَبْل ، فَعَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ(1)قال تعالى :{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (22) سورة الزخرف .وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الاِكْتِفَاءِ بِالتَّقْلِيدِ فِي الْعَقَائِدِ ، وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى الظَّاهِرِيَّةِ(2).
ثُمَّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ يُلْحَقُ بِالْعَقَائِدِ فِي هَذَا الأَْمْرِ كُل مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ ، فَلاَ تَقْلِيدَ فِيهِ ؛ لأَِنَّ الْعِلْمَ بِهِ يَحْصُل بِالتَّوَاتُرِ وَالإِْجْمَاعِ ، وَمِن ذَلِكَ الأَْخْذُ بِأَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ الْخَمْسَةِ .
__________
(1) - كشاف القناع 6 / 306 ، ومطالب أولي النهى 6 / 441 ، دمشق ، المكتب الإسلامي .
(2) - إرشاد الفحول ص266 .(2/44)
ب - حُكْمُ التَّقْلِيدِ فِي الْفُرُوعِ(1):
اخْتُلِفَ فِي التَّقْلِيدِ فِي الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى رَأْيَيْنِ :
__________
(1) - روضة الناظر 2 / 451 ، 452 ، وإعلام الموقعين 4 / 187 ـ 201 ، وإرشاد الفحول ص 266 . و فتاوى الأزهر - (ج 7 / ص 173) والفتاوى الكبرى - (ج 10 / ص 15) والسيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار - الرقمية - (ج 1 / ص 13) والأحكام للآمدي - (ج 4 / ص 225) وشرح الكوكب المنير - (ج 3 / ص 80) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 6 / ص 12) والتقليد والإفتاء والاستفتاء - (ج 1 / ص 7) وقواطع الأدلة فى الأصول / للسمعانى - (ج 3 / ص 425) والتلخيص فى أصول الفقه / لإمام الحرمين - (ج 3 / ص 187) والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد - الرقمية - (ج 1 / ص 205) والمسودة - الرقمية - (ج 1 / ص 459)(2/45)
الأَْوَّل : جَوَازُ التَّقْلِيدِ فِيهَا وَهُوَ رَأْيُ جُمْهُورِ الأُْصُولِيِّينَ ، قَالُوا : لأَِنَّ الْمُجْتَهِدَ فِيهَا إِمَّا مُصِيبٌ وَإِمَّا مُخْطِئٌ مُثَابٌ غَيْرُ آثِمٍ ، فَجَازَ التَّقْلِيدُ فِيهَا ، بَل وَجَبَ عَلَى الْعَامِّيِّ ذَلِكَ ؛ لأَِنَّهُ مُكَلَّفٌ بِالْعَمَل بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الأَْدِلَّةِ عَلَيْهَا خَفَاءٌ يُحْوِجُ إِلَى النَّظَرِ وَالاِجْتِهَادِ ، وَتَكْلِيفُ الْعَوَّامِ رُتْبَةَ الاِجْتِهَادِ يُؤَدِّي إِلَى انْقِطَاعِ الْحَرْثِ وَالنَّسْل ، وَتَعْطِيل الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ ، فَيُؤَدِّي إِلَى الْخَرَابِ ، وَلأَِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ كَانَ يُفْتِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَيُفْتُونَ غَيْرَهُمْ ، وَلاَ يَأْمُرُونَهُمْ بِنَيْل دَرَجَةِ الاِجْتِهَادِ . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِسُؤَال الْعُلَمَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (7) سورة الأنبياء .
الثَّانِي : إِنَّ التَّقْلِيدَ مُحَرَّمٌ لاَ يَجُوزُ . قَال بِذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَابْنُ الْقَيِّمِ ، وَالشَّوْكَانِيُّ ، وَغَيْرُهُمْ(1).
__________
(1) - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 4 / ص 60) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 319) والتقليد والإفتاء والاستفتاء - (ج 1 / ص 21) والأحكام لابن حزم - (ج 2 / ص 234) وحجة الله البالغة - (ج 1 / ص 301)(2/46)
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ التَّقْلِيدَ بِقَوْلِهِ : {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (31) سورة التوبة ،وَقَوْلِهِ تعالى : {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} (67) سورة الأحزاب وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الآْيَاتِ ، وَإِنَّ الأَْئِمَّةَ قَدْ نَهَوْا عَن تَقْلِيدِهِمْ ، قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ : لاَ يَحِل لأَِحَدٍ أَنْ يَقُول بِقَوْلِنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِن أَيْنَ قُلْنَاهُ . وَقَال الْمُزَنِيُّ فِي أَوَّل مُخْتَصَرِهِ : اخْتَصَرْتُ هَذَا مِن عِلْمِ الشَّافِعِيِّ ، وَمِن مَعْنَى قَوْلِهِ مَعَ إِعْلاَمِهِ نَهْيَهُ عَن تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ لِيُنْظَرَ فِيهِ لِدِينِهِ وَيَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ(1)، وَقَال أَحْمَدُ : لاَ تُقَلِّدْنِي ، وَلاَ تُقَلِّدْ مَالِكًا وَلاَ الثَّوْرِيَّ ، وَلاَ الأَْوْزَاعِيَّ ، وَخُذْ مِن حَيْثُ أَخَذُوا(2).
__________
(1) - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 5 / ص 297) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 305) وحجة الله البالغة - (ج 1 / ص 303)
(2) - إعلام الموقعين 4 / 187 - 201 ، 211 ، ومختصر المزني المطبوع مع الأم للشافعي ص1 ، وإرشاد الفحول ص 266 ، فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 3) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 5 / ص 297) والتقليد والإفتاء والاستفتاء - (ج 1 / ص 22)(2/47)
وَفِي بَعْضِ كَلاَمِ ابْنِ الْقَيِّمِ أَنَّ التَّقْلِيدَ الَّذِي يَرَى امْتِنَاعَهُ هُوَ "اتِّخَاذُ أَقْوَال رَجُلٍ بِعَيْنِهِ بِمَنزِلَةِ نُصُوصِ الشَّارِعِ لاَ يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلٍ سِوَاهُ ، بَل لاَ إِلَى نُصُوصِ الشَّارِعِ ، إِلاَّ إِذَا وَافَقَتْ نُصُوصَ قَوْلِهِ . قَال فَهَذَا هُوَ التَّقْلِيدُ الَّذِي أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ فِي دِينِ اللَّهِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الأُْمَّةِ إِلاَّ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ "(1).
وَأَثْبَتَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَالشَّوْكَانِيُّ فَوْقَ التَّقْلِيدِ مَرْتَبَةً أَقَل مِنَ الاِجْتِهَادِ ، هِيَ مَرْتَبَةُ الاِتِّبَاعِ ، وَحَقِيقَتُهَا الأَْخْذُ بِقَوْل الْغَيْرِ مَعَ مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ ، عَلَى حَدِّ مَا وَرَدَ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ( لاَ يَحِل لأَِحَدٍ أَنْ يَقُول مَقَالَتَنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِن أَيْنَ قُلْنَا )(2).
__________
(1) - إعلام الموقعين 4 / 236 ، 192 .
(2) - إعلام الموقعين 4 / 260 ، إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 353) الشاملة 2، والتقليد والإفتاء والاستفتاء - (ج 1 / ص 16)
قلت : ولعل الوجه في نهي الأئمة عن تقليدهم أنهم قالوه لتلامذتهم المؤهلين الذين لديهم القدرة على معرفة حجية الأدلة ، ومدى صحتها ، وعلى تفهم دلالاتها ، فهؤلاء لا يصح منهم التقليد الصرف فيما يمكنهم فيه الرجوع إلى الأدلة ، أما العامي الذي لا يستطيع معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ، فيجب عليه أن يسأل أهل العلم ، ويسوغ له التقليد بلا خلاف .(2/48)
غَيْرَ أَنَّ التَّقْلِيدَ يَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ . وَمِن ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَظْفَرِ الْعَالِمُ بِنَصٍّ مِنَ الْكِتَابِ أَوالسُّنَّة ، وَلَمْ يَجِدْ إِلاَّ قَوْل مَن هُوَ أَعْلَمُ مِنهُ ، فَيُقَلِّدُهُ . أَمَّا التَّقْلِيدُ الْمُحَرَّمُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ مُتَمَكِّنًا مِن مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَعْدِلُ إِلَى التَّقْلِيدِ ، فَهُوَ كَمَن يَعْدِل إِلَى الْمَيْتَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمُذَكَّى .
وَالتَّقْلِيدُ إِنَّمَا هُوَ لِمَن لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الاِجْتِهَادِ ، أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ لَكِنْ لَمْ يَجِدِ الْوَقْتَ لِذَلِكَ ، فَهِيَ حَال ضَرُورَةٍ كَمَا قَال ابْنُ الْقَيِّمِ . وَقَدْ أَفْتَى الإِْمَامُ أَحْمَدُ بِقَوْل الشَّافِعِيِّ ، وَقَال : إِذَا سُئِلْتُ عَن مَسْأَلَةٍ لَمْ أَعْرِفْ فِيهَا خَبَرًا أَفْتَيْتُ فِيهَا بِقَوْل الشَّافِعِيِّ ، لأَِنَّهُ إِمَامٌ عَالِمٌ مِن قُرَيْشٍ(1)، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : "لاَ تَسُبُّوا قُرَيْشًا فَإِنَّ عَالِمَهَا يَمْلأُ الأَرْضَ عِلْمًا .."(2)
ج- الردُّ على أدلة المانعين للتقليد :
__________
(1) - مطالب أولي النهى 6 / 448 .و طرح التثريب - (ج 1 / ص 209)
(2) - مسند الطيالسي(307) وأصفهان 2/361 ومطالب ( 4167) وعاصم 2/637 وحلية 6/295 و 9/65 وخط 2/60-61 وهو حسن لغيره ، وانظر : فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 8564) ومغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج - (ج 1 / ص 46) وحاشية البجيرمي على الخطيب - (ج 1 / ص 170)(2/49)
قلت : أمَّا الاحتجاجُ بقوله تعالى : {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ } فلا يصح الاستدلال بهذه الآية لأنها واردة بحق اليهود والنصارى ، قال تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) } [التوبة/30، 31]
فالاحتجاج بها غير صحيح ، وفي غير محله ، ومعنى الآية : اتَّخَذَ أَهْلُ الكِتَابِ ، مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى ، كِبَارَ رِجَالِ دِينِهِمْ أَرْبَاباً وَمُشَرِّعِينَ ، فَأحَلُّوا لَهُمُ الحَرَامَ ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلاَلَ ، فَاتَّبَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَهَذِهِ المُتَابَعَةُ هِيَ المَقْصُودَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً } ؛ وَمِنهُمْ مَن جَعَلَ للهِ وَلَداً عَبَدُوهُ مَعَ اللهِ ، كَعُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ ، لاَ إِلهَ غَيْرُ اللهِ ، تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ عَنِ الشِّرْكِ وَالوَلَدْ وَالصَّاحِبَةِ ، وَعَنِ النُّظَرَاءَ وَالأَعْوَانِ ، وَلاَ رَبَّ سِوَاهُ ،وَهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِأَنْ يَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ(1).
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (ج 1 / ص 1267)(2/50)
فعَن عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَفِى عُنُقِى صَلِيبٌ مِن ذَهَبٍ. فَقَالَ « يَا عَدِىُّ اطْرَحْ عَنكَ هَذَا الْوَثَنَ ». وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِى سُورَةِ بَرَاءَةَ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِن دُونِ اللَّهِ) قَالَ: « أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ »(1).
قال ابن كثير : " وَهَكَذَا قَالَ حُذَيْفَة بْن الْيَمَان وَعَبْد اللَّه بْن عَبَّاس وَغَيْرهمَا فِي تَفْسِير " اِتَّخَذُوا أَحْبَارهمْ وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا مِن دُون اللَّه " إنَّهُمْ اِتَّبَعُوهُمْ فِيمَا حَلَّلُوا وَحَرَّمُوا وَقَالَ السُّدِّيّ : اِسْتَنْصَحُوا الرِّجَال وَنَبَذُوا كِتَاب اللَّه وَرَاء ظُهُورهمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا " أَيْ الَّذِي إِذَا حَرَّمَ الشَّيْء فَهُوَ الْحَرَام، وَمَا حَلَّلَهُ فَهُوَ الْحَلَال ،وَمَا شَرَعَهُ اُتُّبِعَ، وَمَا حَكَمَ بِهِ نَفَذَ " لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَلَا رَبّ سِوَاهُ "(2).
__________
(1) - سنن الترمذى(3378) حسن لغيره
(2) - تفسير ابن كثير - (ج 6 / ص 350)(2/51)
وعَن أَبِي الْعَالِيَة : { اِتَّخَذُوا أَحْبَارهمْ وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا } قَالَ : قُلْت لِأَبِي الْعَالِيَة : كَيْف كَانَتْ الرُّبُوبِيَّة الَّتِي كَانَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيل ؟ قَالَ قَالُوا : مَا أَمَرُونَا بِهِ اِئْتَمَرْنَا , وَمَا نَهَوْنَا عَنَّا اِنْتَهَيْنَا ! لِقَوْلِهِمْ : وَهُمْ يَجِدُونَ فِي كِتَاب اللَّه مَا أُمِرُوا بِهِ وَمَا نُهُوا عَنهُ , فَاسْتَنْصَحُوا الرِّجَال , وَنَبَذُوا كِتَاب اللَّه وَرَاء ظُهُورهمْ(1).
فهل بعد ذلك يجوز تشبيه من قلَّد الأئمة المهديين في اجتهاداتهم بهؤلاء الضالين المضِلِّين ، الذين اتخذوا كتاب الله تعالى وراءهم ظهريًّا ؟؟!!.
معاذ الله أن يخطر هذا ببال مسلم عادي فكيف بطالب علم ؟!!!
وأمَّا الاستدلالُ بالآية الثانية(وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا) فباطل كذلك ، لأنها واردة في حق الكفار والمشركين ، وليس بحق المسلمين الموحدين.
انظروا إلى الآيات التي وردت ضمنها هذه الآية :{ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)} [الأحزاب/64-68]
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 7 / ص 67) وتفسير الطبري - (ج 14 / ص 212) حسن(2/52)
والآية لا تحتاج إلى تفسير ، وأما إذا زعم من حرَّم التقليد أنها تشمل المقلدين ، لأنهم تركوا طاعة الله ورسوله واتبعوا الفقهاء ، فهذا الزعم يدلُّ على جهل قائله بالشريعة الإسلامية قرآناً وسنَّةً ، ومفهوم كلامهم أن الفقهاء تركوا الكتاب والسُّنَّة ، وأتوا بآراء واجتهادات لا أصل لها من الشرع ، ثم قلدهم عامة المسلمين في ذلك ، وهذا القول من أبطل الباطل ، فالفقهاء الذين بلغوا درجة الاجتهاد المطلق كانوا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من كل الذين جاءوا بعدهم ، بل وكانوا أتقى لله تعالى من هؤلاء الذين يقولون هذا الكلام الذي لا قيمة له .
وكل الآيات التي استدلَّ بها هؤلاء في غير محلِّها ، ولا علاقة لها بالموضوع المستدل به بتاتاً ، وما أشبههم ببعض الفرق التي شذت عن منهج أهل السنة والجماعة ، فراحوا يستدلون بالآيات الواردة في حق الكفار ، وينزلونها على المسلمين الموحدين .
كالذين أنكروا الشفاعة يوم القيامة ، حيث احْتَجَّ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرُونَ لِلشَّفَاعَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ» (48) سورة البقرة،وَبِقَوْلِهِ:« وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ» (123) سورة البقرة،وَبِقَوْلِهِ:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (254) سورة البقرة،وَبِقَوْلِهِ:«وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِن حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ» (18) سورة غافر.(2/53)
أجاب ابن تيمية على أن هذه الآيات يراد بها شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا:أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ الْمُشْرِكِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي نَعْتِهِمْ:« مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) [المدثر/42-48] » فَهَؤُلَاءِ نُفِيَ عَنهُمْ نَفْعُ شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا .(1)
وَالثَّانِي:أَنَّهُ يُرَادُ بِذَلِكَ نَفْيُ الشَّفَاعَةِ الَّتِي يُثْبِتُهَا أَهْلُ الشِّرْكِ وَمَن شَابَهَهُمْ مِن أَهْلِ الْبِدَعِ:مِن أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ لِلْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقَدْرِ أَنْ يَشْفَعُوا عِنْدَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَمَا يَشْفَعُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عِنْدَ بَعْضٍ فَيَقْبَلُ الْمَشْفُوعُ إلَيْهِ شَفَاعَةَ شَافِعٍ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ رَغْبَةً وَرَهْبَةً،وَكَمَا يُعَامِلُ الْمَخْلُوقُ الْمَخْلُوقَ بِالْمُعَاوَضَةِ .
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 1 / ص 34)(2/54)
فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يَتَّخِذُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَيُصَوِّرُونَ تَمَاثِيلَهُمْ فَيَسْتَشْفِعُونَ بِهَا وَيَقُولُونَ:هَؤُلَاءِ خَوَاصُّ اللَّهِ فَنَحْنُ نَتَوَسَّلُ إلَى اللَّهِ بِدُعَائِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ لِيَشْفَعُوا لَنَا كَمَا يُتَوَسَّلُ إلَى الْمُلُوكِ بِخَوَّاصِهِمْ لِكَوْنِهِمْ أَقْرَبَ إلَى الْمُلُوكِ مِن غَيْرِهِمْ،فَيَشْفَعُونَ عِنْدَ الْمُلُوكِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُلُوكِ،وَقَدْ يَشْفَعُ أَحَدُهُمْ عِنْدَ الْمَلِكِ فِيمَا لَا يَخْتَارُهُ فَيَحْتَاجُ إلَى إجَابَةِ شَفَاعَتِهِ رَغْبَةً وَرَهْبَةً . فَأَنْكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ فَقَالَ تَعَالَى:«.. مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ..» (البقرة:255) .(1)
ثم قال ابن تيمية:" فَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ الَّتِي أَثْبَتَهَا الْمُشْرِكُونَ لِلْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ حَتَّى صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ وَقَالُوا:اسْتِشْفَاعُنَا بِتَمَاثِيلِهِمْ اسْتِشْفَاعٌ بِهِمْ وَكَذَلِكَ قَصَدُوا قُبُورَهُمْ وَقَالُوا:نَحْنُ نَسْتَشْفِعُ بِهِمْ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ لِيَشْفَعُوا لَنَا إلَى اللَّهِ وَصَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ فَعَبَدُوهُمْ كَذَلِكَ،وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ أَبْطَلَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَذَمَّ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهَا وَكَفَّرَهُمْ بِهَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَن قَوْمِ نُوحٍ:" وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا " (نوح:23-25) .(2)
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 1 / ص 34)
(2) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 1 / ص 34)(2/55)
ومن الأمثلة التي تدلُّ على تخبط المانعين من التقليد ، ما استدل به ابن حزم رحمه الله في الإحكام على منع التقليد وتابعه من وافقه، قوله -تعالى-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (170) سورة البقرة(1)
قلتُ : فهل هذه الآية بحق المسلمين أم بحق الكفار المشركين ؟
انظروا إلى موضعها في القرآن الكريم :{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) } [البقرة/165، 170]
قال أبو جعفر الطبري: وفي هذه الآية وجهان من التأويل:
__________
(1) - الأحكام لابن حزم - (ج 6 / ص 844)(2/56)
أحدهما: أن تكون"الهاء والميم" من قوله:"وإذا قيلَ لهم" عائدة على"من" في قوله:"ومنَ الناس مَن يَتخذُ من دون الله أندادًا"، فيكون معنى الكلام: ومن الناس مَن يَتخذُ من دُون الله أندادًا، وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله. قالوا: بل نتبع ما ألفينا عَليه آباءنا.
والآخر: أن تكون"الهاء والميم" اللتان في قوله:"وإذا قيل لهم"، من ذكر"الناس" الذين في قوله:"يا أيها الناسُ كلوا مما في الأرض حَلالا طيبًا"، فيكون ذلك انصرافًا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب، كما في قوله تعالى ذكره:( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) [سورة يونس: 22]
قال أبو جعفر: وأشبه عندي بالصواب وأولى بتأويل الآية أن تكون"الهاء والميم" في قوله:"لهم"، من ذكر"الناس"، وأن يكون ذلك رجوعًا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب. لأن ذلك عَقيب قوله:"يا أيها الناس كلوا مما في الأرض". فلأنْ يكون خبرًا عنهم، أولى من أن يكون خبرًا عن الذين أخبرَ أنّ منهم"مَن يَتخذ من دُون الله أندادًا"، مع ما بينهما من الآيات، وانقطاع قَصَصهم بقصة مُستأنفة غيرها = وأنها نزلت في قوم من اليهود قالوا ذلك،(1)إذ دعوا إلى الإسلام.
__________
(1) -قال الشيخ أحمد شاكر : يقول أبو جعفر إن أولى الأقوال بالصواب أن تكون الآية نزلت في ذكر عرب الجاهلية الذين حرموا ما حرموا على أنفسهم ، كما ذكر في تفسير الآيتين السالفتين (168 ، 169) ، ويستبعد أن يكون المعنى بها من ورد ذكرهم في الآية (165) ، كما يستبعد قول من قال إنها نزلت في اليهود ، في الخبر الذي سيرويه بعد . فقوله : "وأنها نزلت" عطف على قوله"خبرًا" في قوله : "أولى من أن يكون خبرًا عن الذين أخبر أن منهم من يتخذ . . . " .(2/57)
عن ابن عباس قال: دَعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليهودَ من أهل الكتاب إلى الإسلام ورَغَّبهم فيه، وحذرهم عقاب الله ونقمته، فقال له رَافع بن خارجة، ومَالك بن عوف: بل نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فإنهم كانوا أعلم وخيرًا منا! فأنزل الله في ذلك من قولهما "وإذا قيلَ لهُم اتبعوا ما أنزل اللهُ قالوا بَل نتِّبع ما ألفينا عَليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يَهتدون".(1)
ثم قال أخيرا في تفسيرها : " قال أبو جعفر: فمعنى الآية: وإذا قيل لهؤلاء الكفار: كلوا مما أحلّ الله لكم، ودَعوا خُطوات الشيطان وطريقه، واعملوا بما أنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - في كتابه - استكبروا عن الإذعان للحقّ وقالوا: بل نأتم بآبائنا فنتَّبع ما وجدناهم عليه، من تحليل ما كانوا يُحلُّون، وتحريم ما كانوا يحرّمون.
قال الله تعالى ذكره:"أوَ لو كانَ آباؤهم" -يعني: آباء هؤلاء الكفار الذين مضوا على كفرهم بالله العظيم-"لا يعقلون شيئًا" من دين الله وفرائضه، وأمره ونهيه، فيُتَّبعون على ما سَلكوا من الطريق، ويؤتمُّ بهم في أفعالهم -"ولا يَهتدون" لرشد، فيهتدي بهم غيرهم، ويَقتدي بهم من طَلب الدين، وأراد الحق والصواب؟
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الكفار: فكيف أيها الناس تَتَّبعون ما وجدتم عليه آباءكم فتتركون ما يأمرُكم به ربكم، وآباؤكم لا يعقلون من أمر الله شيئًا، ولا هم مصيبون حقًّا، ولا مدركون رشدًا؟ وإنما يَتّبع المتبعُ ذا المعرفة بالشيء المستعملَ له في نفسه، فأما الجاهل فلا يتبعه -فيما هو به جاهل- إلا من لا عقل له ولا تمييز."(2)
__________
(1) - تفسير الطبري - (ج 3 / ص 304)
(2) - تفسير الطبري - (ج 3 / ص 307)(2/58)
وقال ابن كثبر : " يَقُول تَعَالَى : وَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ الْكَفَرَة مِن الْمُشْرِكِينَ اِتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى رَسُوله وَاتْرُكُوا مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِن الضَّلَال وَالْجَهْل قَالُوا فِي جَوَاب ذَلِكَ بَلْ نَتَّبِع مَا أَلْفَيْنَا أَيْ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَيْ مِن عِبَادَة الْأَصْنَام وَالْأَنْدَاد .
قَالَ اللَّه تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ " أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ " أَيْ الَّذِينَ يَقْتَدُونَ بِهِمْ وَيَقْتَفُونَ أَثَرهمْ " لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ " أَيْ لَيْسَ لَهُمْ فَهْمٌ وَلَا هِدَايَة . "(1)
وقال القرطبي : " مَسْأَلَة : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَقُوَّة أَلْفَاظ هَذِهِ الْآيَة تُعْطِي إِبْطَال التَّقْلِيد , وَنَظِيرهَا : " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّه وَإِلَى الرَّسُول قَالُوا حَسْبنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا " [ الْمَائِدَة : 104 ] الْآيَة .
وَهَذِهِ الْآيَة وَاَلَّتِي قَبْلهَا مُرْتَبِطَة بِمَا قَبْلهمَا , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه سُبْحَانه أَخْبَرَ عَن جَهَالَة الْعَرَب فِيمَا تَحَكَّمَتْ فِيهِ بِآرَائِهَا السَّفِيهَة فِي الْبَحِيرَة وَالسَّائِبَة وَالْوَصِيلَة , فَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ أَمْر وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ فَاتَّبَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ , وَتَرَكُوا مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى رَسُوله وَأَمَرَ بِهِ فِي دِينه , فَالضَّمِير فِي " لَهُمْ " عَائِد عَلَيْهِمْ فِي الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا .
تَعَلَّقَ قَوْم بِهَذِهِ الْآيَة فِي ذَمّ التَّقْلِيد لِذَمِّ اللَّه تَعَالَى الْكُفَّار بِاتِّبَاعِهِمْ لِآبَائِهِمْ فِي الْبَاطِل , وَاقْتِدَائِهِمْ بِهِمْ فِي الْكُفْر وَالْمَعْصِيَة .
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 2 / ص 29)(2/59)
وَهَذَا فِي الْبَاطِل صَحِيح , أَمَّا التَّقْلِيد فِي الْحَقّ فَأَصْلٌ مِن أُصُول الدِّين , وَعِصْمَةٌ مِن عِصَم الْمُسْلِمِينَ يَلْجَأ إِلَيْهَا الْجَاهِل الْمُقَصِّر عَن دَرْك النَّظَر ،وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي جَوَازه فِي مَسَائِل الْأُصُول عَلَى مَا يَأْتِي , وَأَمَّا جَوَازه فِي مَسَائِل الْفُرُوع فَصَحِيح ."(1)
وقال الألوسي : " قيل : وفي الآية دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر ، وأما اتباع الغير في الدين بعد العلم- بدليل ما -إنه محقٌّ فاتباع في الحقيقة لما أنزل الله تعالى، وليس من التقليد المذموم في شيء وقد قال سبحانه : { فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأنبياء : 7 ] . "(2)
قلت: والصواب أن الآية لا علاقة لها بما استدلَّ به من منع تقليد الأئمة ، فهو استدلال باطل ، ولا يعوَّل عليه ،لأنه شبه تقليد الأئمة بتقليد الكفار والفجار لآبائهم وأجدادهم ، وهذا لا يقول به عاقل ، قال تعالى :{ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) } [القلم/35-36]
بل أخشى على هؤلاء الذين سحبوا هذه الآيات التي وردت بحق الكفار أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون ، فلا يجوز في دين الله تعالى تفسير آية دون الإحاطة بمعانيها والنظر في موقعها في كتاب الله تعالى ، ومعرفة سبب نزولها ، وماذا قال السلف الصالح في تفسيرها ، فعَن جُنْدَُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مَن قَالَ فِي كِتَابِ اللهِ بِرَأْيِهِ ، فَأَصَابَ ، فَقَدْ أَخْطَأَ".(3)
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 416)
(2) - تفسير الألوسي - (ج 2 / ص 96) والوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 271)
(3) - السنن الكبرى للإمام النسائي (8032) حسن(2/60)
قال ابن كثير(1): " أي: لأنه قد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر، لكن يكون أخف جرمًا ممن أخطأ، والله أعلم، وهكذا سمى الله القَذَفة كاذبين، فقال: { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [النور: 13] ، فالقاذف كاذب، ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر؛ لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به، ولو كان أخبر بما يعلم؛ لأنه تكلف ما لا علم له به، والله أعلم.
ولهذا تَحَرَّج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، كما روى شعبة، عن سليمان، عن عبد الله بن مرة، عن أبي مَعْمَر، قال: قال أبو بكر الصديق، رضي الله عنه: أيّ أرض تقلّني وأي سماء تظلني؟ إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم(2).
قلت : وكلُّ من شذَّ عن المنهج الوسط استدل بآيات من القرآن أو أحاديث نبوية في غير محلها ، ومن ثم لا يجوز لنا شرعاً أن نسلك هذا المسلك ، لأنه نوعٌ من الافتراء على الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، قال تعالى : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (33) سورة الأعراف.
وقس على ذلك جميع الآيات التي استدل بها ابن حزم ومن سار بركابه .
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 1 / ص 11)
(2) - فضائل القرآن (ص 227) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (10/ 513) عن محمد بن عبيد عن العوام بن حوشب به.(2/61)
قلت: وقال ابن حزم رحمه الله: بعد سرد الأدلة على ذمِّ الاختلاف، فإن قيل(1): إن الصحابة قد اختلفوا وهم أفاضل الناس ـ أفيلحقهم الذم المذكور؟.
قيل: كلا، ما يلحق أولئك شيء من هذا، لأنَّ كلَّ امرئٍ منهم تحرَّى سبيل الله، ووجهته الحقُّ، فالمخطئُ منهم مأجورٌ أجراً واحداً لنيته الجميلة في إرادة الخير، وقد رفع عنهم الإثم في خطئهم، لأنهم لم يتعمدوه، ولا قصدوه، ولا استهانوا بطلبهم، والمصيبُ منهم مأجور أجرين. وهكذا كلُّ مسلم إلى يوم القيامة فيما خفيَ عليه من الدين ولم يبلغه، وإنما الذمُّ المذكور، والوعيد المنصوصُ لمن تركَ التعلق بحبل الله: وهو القرآنُ، وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد بلوغ النصِّ إليه، وقيام الحجةِ عليه، وتعلق بفلانٍ وفلان مقلداً عامداً للاختلاف، داعياً إلى عصبيةٍ، وحميةٍ الجاهلية، قاصداً للفرقة، متحريًّا في دعواه بردِّ القرآن والسُّنَّة إليها، فإن وافقها النصُّ أخذ به، وإنْ خالفها تعلقَ بجاهلية، وترك القرآن وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهؤلاء هم المختلفونَ المذمومون. وطبقةٌ أخرى وهم قومٌ بلغت بهم رقَّةُ الدين وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءَهم في قولة كل قائل، فهم يأخذونَ ما كان رخصةً في قول كلِّ عاملٍ، مقلِّدين له غير طالبين ما أوجبَه النصُّ عن الله وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - انتهى(2)
__________
(1) - الأحكام لابن حزم - (ج 5 / ص 642)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 3240) رقم الفتوى 7134 و(ج 2 / ص 3255) رقم الفتوى 7158 أقوال العلماء في حديث "اختلاف أمتي رحمة"(2/62)
فالمذموم حسب وجهة نظره هو(وإنما الذمُّ المذكور، والوعيد المنصوصُ لمن تركَ التعلق بحبل الله: وهو القرآنُ، وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد بلوغ النصِّ إليه، وقيام الحجةِ عليه، وتعلق بفلانٍ وفلان مقلداً عامداً للاختلاف، داعياً إلى عصبيةٍ، وحميةٍ الجاهلية، قاصداً للفرقة، متحريًّا في دعواه بردِّ القرآن والسُّنَّة إليها، فإن وافقها النصُّ أخذ به، وإنْ خالفها تعلقَ بجاهلية، وترك القرآن وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهؤلاء هم المختلفونَ المذمومون)
فمن يخالف ابن حزم في هذا الكلام، فمن انطبقت عليه هذه الشروط ، ليس فقط مذموماً ، بل نخشى عليه الهلاك وسوء العاقبة ، وآيات الوعيد بلا ريب تتناول هؤلاء لاتحاد العلة بينهم وبين الكفار.
ولكن هل يوجد أحد في أتباع الأئمة الأربعة تنطبق عليه الشروط النادرة ؟.
لا أظن أحدا منهم يفعل ذلك ، لأنه خروج عن سواء السبيل بالاتفاق .
ولكن بما أن هذا الصنف من المقلدين بالكاد أن يوجد منهم ، فلا حاجة لهذا الكلام لأن النادر لا حكم له أصلاً .
ومن ثمَّ فالاستدلال بكلام ابن حزم – رحمه الله – على ذم التقليد- والاختلاف- مطلقاً وتحريمه – هو قول مكذوب مفترى عليه ، فلا بدَّ أن نفهم كلامه عن التقليد في سياقه ، لا أن نذكر بعض قوله الذي يوافق هوانا ، وندع الذي يخالفه .
ولما عذر الصحابة رضي الله عنهم في اختلافهم – والأئمة من هذا القبيل قطعاً- ذم المقلدين بالصفات المذكورة ، فدلَّ على أن المقلد الذي لا تنطبق عليه هذه الصفات المذمومة أو أكثرها فهو معذور ، مأجور على تقليده لأهل العلم ، لأنه عاجز عن معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.(2/63)
وهناك طبقة أخرى تكلم عليها بقوله : ( وطبقةٌ أخرى وهم قومٌ بلغت بهم رقَّةُ الدين وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءَهم في قولة كل قائل، فهم يأخذونَ ما كان رخصةً في قول كلِّ عاملٍ، مقلِّدين له غير طالبين ما أوجبَه النصُّ عن الله وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وهذا الصنف من الناس لا يخالفه أحد في ذمهم ، ولا يقبل إمام من الأئمة أن ينتسبوا إليه أصلاً .
ومن ثمَّ أقول : فإن احتجاج من أجاز التقليد بهاتين الآيتين هو احتجاج صحيح لا معارض له، قال تعالى : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (43) سورة النحل. وبقوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (7) سورة الأنبياء.
لأن هاتين الآيتين نصٌّ في محل النزاع .
قال القرطبي : " لَمْ يَخْتَلِف الْعُلَمَاء أَنَّ الْعَامَّة عَلَيْهَا تَقْلِيد عُلَمَائِهَا , وَأَنَّهُمْ الْمُرَاد بِقَوْلِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " فَاسْأَلُوا أَهْل الذِّكْر إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " وأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَعْمَى لَا بُدّ لَهُ مِن تَقْلِيد غَيْره مِمَن يَثِق بِمَيْزِهِ بِالْقِبْلَةِ إِذَا أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ ; فَكَذَلِكَ مَن لَا عِلْم لَهُ وَلَا بَصَر بِمَعْنَى مَا يَدِين بِهِ لَا بُدّ لَهُ مِن تَقْلِيد عَالِمه , وَكَذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِف الْعُلَمَاء أَنَّ الْعَامَّة لَا يَجُوز لَهَا الْفُتْيَا ; لِجَهْلِهَا بِالْمَعَانِي الَّتِي مِنهَا يَجُوز التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم . "(1)
وقال الألوسي:" واستدلَّ بها أيضاً على وجوب المراجعة للعلماء فيما لا يعلم .
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 3635)(2/64)
وفي الإكليل للجلال السيوطي أنه استدل بها على جواز تقليد العامي في الفروع وانظر التقييد بالفروع فإن الظاهر العموم لا سيما إذا قلنا: إن المسألة المأمورين بالمراجعة فيها والسؤال عنها من الأصول ، ويؤيد ذلك ما نقل عن الجلال المحلي أنه يلزم غير المجتهد عامياً كان أو غيره التقليد للمجتهد لقوله تعالى : { فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } والصحيح أنه لا فرق بين المسائل الاعتقادية وغيرها وبين أن يكون المجتهد حياً أو ميتاً اه "(1).
والآية عامة في كل مسألة من مسائل الدين، إذا لم يكن عند الإنسان علم منها أن يسأل من يعلمها من العلماء الراسخين في العلم(2).
وأما احتجاجهم ببعض أقوال الأئمة في النهي عن تقليدهم ، فهو احتجاج في غير محله ، لأن هؤلاء الأئمة يقولون ذلك لطلابهم ، وهم يعلمون أنهم قد بلغوا رتبة الاجتهاد مثلهم ، وليس هذا الكلام وارداَ بحق عامة الناس مطلقاً ، ومع هذا فقد قلَّد هؤلاء المجتهدون غيرهم في بعض المسائل الفرعية ، فكيف بغيرهم من العوام ؟
والدليل من المعقول على حجية القول بالجواز أن الاجتهاد وغيره من الفروض الكفائية في الدين ، وليس من الفروض العينية بالاتفاق ، فإذا قام بهذه الفروض الكفائية البعض الذين يسدون حاجة الأمة سقط الإثم والحرج عن الباقين بالاتفاق ، وإذا لم يقم بها أحد مع قدرتهم على ذلك أثم الجميع .
وهل نطالب المسلمين جميعاً أن يكونوا أطباء أو مزارعين أوخياطين أو حدادين وكلها من فروض الكفايات ؟!
فهذا لا يقول بهذه عاقل أصلاً ، وهو تكليف بما لا يطاق ، وليس بمكنة الناس ، فهم مختلفون في مداركهم وقدراتهم العقلية والبدنية، فكيف نطلب منهم جميعاً أن يكونوا مجتهدين ونحرِّم عليهم التقليد وهو محال واقعاً ؟.
__________
(1) - تفسير الألوسي - (ج 10 / ص 172)
(2) - التفسير الميسر - (ج 4 / ص 415)(2/65)
والله تعالى يقول : {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (286) سورة البقرة
وقال تعالى : {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (7) سورة الطلاق
وفي ذلك تعطيل لمصالح العباد بلا ريب ، وإلقاء بهم إلى التهلكة .
والصحابة الذين نزل عليهم القرآن الكريم ، ورأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكانوا أئمة اللغة ، لم يملك أكثرهم أدوات الاجتهاد ، فالذين اجتهدوا منهم قلة قليلة جدًّا ، من مجموع الصحابة الذين نافوا على المائة ألف ، ولم يستطع ابن حزم أن يحصي من له فتوى منهم أكثر من مائة وعشرين صحابيا ،فأين فتاوى واجتهادات الباقين؟
مع أن أكثرهم كانوا يقلِّدون بعضهم البعض في كثير من المسائل – وهم من هم- فكيف بمن جاء بعدهم ؟!!
والذين لم يعاصروا التنزيل كالتابعين فمن بعدهم الاجتهاد فيهم أقلُّ من الصحابة بكثير ، وهكذا كلَّما ابتعدنا عنهم كلما قلَّ الاجتهاد وندر ، فكيف نقول للناس بعد ذلك يجب عليكم الاجتهاد وإلا أنتم آثمون !
ثم نرميهم بكمٍّ هائلٍ من الآيات- التي وردت بحق الكفار والمشركين – التي تذم اتباع الآباء والأجداد !!
وفي هذه المسألة الجلل عندنا أمران :(2/66)
الأول: اجتهاد مطلق ( مستقل ) فهذا قد طوي بابه منذ قرون ، فقد أصِّلت الأصول ، وقعرت القواعد الشرعية ، فكلُّ من يطالب الناس اليوم أن يكونوا مجتهدين كالأئمة السابقين فهو يهرف بما لا يعرف .
الثاني : اجتهاد مقيَّدٌ ( غير مسقل ) وهذا موجود في المذاهب الفقهية المتبوعة، ويجب أن يكون من هؤلاء ما يغطي حاجة الأمة .
المبحث الرابع
أمثلة من تخبط المانعين من التقليد :
اختلف علماء الأصول في قول الصحابي هل هو حجَّة أم لا ؟(1)
وقد أيد الحجية ابن القيم في إعلام الموقعين بكلام كثير وأفاض في الاستدلال على ذلك ، وفي كثير مما قاله حول هذه المسألة صحيح .(2)
__________
(1) - البحر المحيط - (ج 7 / ص 318) فما بعدها
(2) - قلت : قد أفردتها بكتاب بعنوان ( جواز الفتوى في الآثار السلفية )(2/67)
ولننظر ماذا يقول الشوكاني بعد إيراده الخلاف في ذلك:" والحقُّ: أنه ليس بحجة، فإن الله سبحانه لم يبعث إلى هذه الأمة إلا نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، وليس لنا إلا رسول واحد، وكتاب واحد، وجميع الأمة مأمورة باتباع كتابه، وسنَّة نبيه، ولا فرق بين الصحابة وبين من بعدهم، في ذلك، فكلهم مكلفون بالتكاليف الشرعية، وباتباع الكتاب والسُّنَّة، فمن قال: إنها تقوم الحجَّة في دين الله عز وجل بغير كتاب الله، وسنة رسوله، وما يرجع إليهما، فقد قال في دين الله بمالم يثبت، وأثبت في هذه الشريعة الإسلامية شرعا لم يأمر الله به، وهذا أمر عظيم، وتقوُّل بالغ، فمن حكم لفرد أو أفراد من عباد الله بأن قوله، أو أقوالهم حجَّة على المسلمين يجبُ عليهم العمل بها وتصير شرعا ثابتا متقررا تعمُّ به البلوى، مما لا يدانُ الله عز وجل به، ولا يحلُّ لمسلم الركون إليه، ولا العمل عليه، فإن هذا المقام لم يكن إلا لرسل الله، الذين أرسلهم بالشرائع إلى عباده لا لغيرهم، وإن بلغ في العلم والدين عظم المنزلة أي مبلغ "(1)
ثم ختم قوله :" فاعرف هذا، واحرص عليه، فإن الله لم يجعل إليك وإلى سائر هذه الأمة رسولا إلا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يأمرك باتباع غيره، ولا شرع لك على لسان سواه من أمته حرفا واحدا ، ولا جعل شيئًا من الحجة عليك في قول غيره، كائنا من كان."(2)
قلت : ويردُّ على الشوكاني من وجهين :
__________
(1) - إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول - (ج 3 / ص 313) ، وقد أيده أستاذنا الزحيلي في كتابه أصول الفقه الإسلامي حيث قال- بعد تأييده لعدم حجيته- : وأحسن ما يختم به هذا المبحث كلمو رائعة للشوكاني في مذهب الصحابي قال: وذكرها كلها ،دون تعقيب ص 857-858 ط دار الفكر
(2) - إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول - (ج 3 / ص 315)(2/68)
الأول- هذا الكلام الذي قاله الشوكاني مليء بالمغالطات ، فمن من الأئمة قال : نترك القرآن والسُّنَّة ونتبع قول الصحابي ؟
والذين قالوا بجواز العمل بقول الصحابي هو فيما إذا لم يكن في المسألة الشرعية نصٌّ صريح لا في الكتاب ولا في السنَّة النبوية، وقدمه الكثيرون على القياس .
وهل اتباع قول الصحابي في ذلك هو إيجاد شرع جديد غير شرع محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟!!!
وهل يقارن أي مجتهد في الأرض بالصحابة في العلم والفضل ؟!!
وهل الصحابة – رضي الله عنهم- كانوا يستنبطون الأحكام الشرعية من غير الكتاب والسُّنَّة؟!!
وهل أقوالهم خارجة عما يدلُّ عليه الكتاب والسُّنَّة دلالة عامة أو خاصة ؟!
وهل نقل لنا الكتاب والسُّنَّة سوى هؤلاء ؟!!
فإذا كان الذين عاصروا التنزيل مثلهم مثل غيرهم فعلى الدنيا العفاء !
بل نصوص القرآن والسُّنَّة تدلُّ على عكس ما ذهب إليه ، ومن راجع كلام ابن القيم – وهو ممن يمنع التقليد- لرأى تهافت كلام الشوكاني رحمه الله .(2/69)
وقال العلامة أبو زهرة رحمه الله : " ولا شكَّ أن هذه مغالاة في ردِّ أقوال الصحابة، ومن الواجب علينا أن نقول : إنَّ الأئمة الأعلام عندما اتبعوا أقوال الصحابة لم يجعلوا رسالةً لغير محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يعتبروا حجَّةً في غير الكتاب والسنَّة ، فهم مع اقتباسهم من أقوال الصحابة مستمسكون أشدَّ الاستمساك بأن النبي واحدٌ ، والسنَّةَ واحدةٌ ، والكتابَ واحدٌ ، ولكنهم وجدوا أن هؤلاء الصحابة هم الذين استحفظوا على كتاب الله سبحانه وتعالى ، ونقلوا أقوال محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى من بعدهم ، فكانوا أعرف الناس بشرعه ، وأقربهم إلى هديه ، وأقوالهم قبسةٌ نبويةٌ ، وليست بدعاً ابتدعوه ، ولا اختراعاً اخترعوه، ولكنها تلمُّسٌ للشرع الإسلامي من ينابيعه ، وهم أعرفُ الناس بمصادرها ومواردها ، فمن اتبعهم فهو من الذين قال الله تعالى فيهم : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) } [التوبة/100]"(1).
والثاني-لقد ناقض نفسه وأيد القول بحجية الصحابي في كتابه (التقليد والإفتاء والاستفتاء)(2)
قال : " منصوص الشافعي في قوله القديم والجديد أن قول الصحابي حجة.
أمَّا قوله القديم فأصحابه مقِرُّون به، وأما الجديد فحكى عنه كثير من أصحابه فيه، أن قول الصحابي ليس بحجة، إلا أن هذه الحكاية غير محرَّرة؛ إذ لا يحفظ عن الإمام قول في الجديد أن قول الصحابي ليس بحجة.
__________
(1) - أصول الفقه ص 218 – دار الفكر العربي
(2) - التقليد والإفتاء والاستفتاء للشوكاني - (ج 1 / ص 51) فما بعدها(2/70)
وغاية ما يتعلق به هؤلاء الذين نقلوا عنه عدم حجية قول الصحابي، هو قولهم: إن الشافعي -رحمه الله- يحكي أقوال الصحابة في مذهبه الجديد، ثم يخالفها، وهذا يدل على أن أقوال الصحابة ليست بحجة عنده، ولو كانت عنده حجة لم يخالفها.
ويتعلَّق بعضهم بأن الشافعي في الجديد إذا ذكر أقوال الصحابة لا يعتمد عليها وحدها، كما يعتمد على النصوص وحدها، بل نراه يعضدها بضروب من الأقيسة: فنراه تارة يذكرها ويصرح بخلافها، وتراه تارة أخرى يوافقها ولا يعتمد عليها، بل يعضدها بذكر دليل آخر.
وما تعلَّق به كل من الفريقين ضعيف جدًّا.
أما ما تعلق به الفريق الأول فيجاب عنه، بأن المجتهد إذا خالف الدليل المعين لدليل هو أقوى في نظره منه، فإنه لا يدل على أنه لا يرى الأول دليلا، وهذا من حيث الجملة.
وأما ما تعلق به الفريق الثاني، فيجاب عنه: بأن الشافعي -رحمه الله- إذا عضد قول الصحابي بضروب من الأقيسة، فهذا من باب تظافر الأدلة وتناصرها، وهذا من عادة أهل العلم قديمًا وحديثًا، فلا يدل سردهم للأدلة المتتابعة على أن ما ذكروه من الأدلة مقدَّمًا ليس بدليل.(2/71)
ويجاب أيضًا عن ما توهمه كل من الفريقين الذين حكوا عن الشافعي في الجديد أن قول الصحابي ليس بحجة، بأن الشافعي صرَّح في الجديد من رواية الربيع عنه، بأن قول الصحابي حجة يجب المصير إليه، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْمُحْدَثَاتُ مِنَ الْأُمُورِ ضِرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا أُحْدِثَ يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سَنَةً أَوْ أَثَرًا أَوْ إِجْمَاعًا , فَهَذِهِ لَبِدْعَةُ الضَّلَالَةِ . وَالثَّانِيةُ : مَا أُحْدِثَ مِنَ الْخَيْرِ لَا خِلَافَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْ هَذَا , فَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ : " نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ " يَعْنِي أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ لَمْ تَكُنْ , وَإِنْ كَانَتْ فَلَيْسَ فِيهَا رَدٌّ لِمَا مَضَى".(1)
فقد جعل -رحمه الله- مخالفة الأثر الذي ليس بكتاب ولا سنة ولا إجماع، ضلالة، فكيف يقال بعد هذا إنه لا يرى قول الصحابي حجة، والربيع إنما أخذ عنه بمصر.
__________
(1) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (190 ) صحيح(2/72)
وفي مَعْرِفَةُ السُّنَنِ وَالْآثَارِ لِلْبَيْهَقِيِّ-أَقَاوِيلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ , وَمَا يُقْضَى وَمَا يُفْتَى بِهِ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ : أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَا كَانَ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ مَوْجُودَيْنِ فَالْعُذْرُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُمَا مَقْطُوعٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهِمَا ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صِرْنَا إِلَى أَقَاوِيلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُمَّ كَانَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ أَيْ : أَبِي بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ - قَالَ فِي الْقَدِيمِ : أَوْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إِذَا صِرْنَا إِلَى التَّقْلِيدِ أَحَبُّ إِلَيْنَا وَذَلِكَ إِذَا لَمْ نَجِدْ دَلَالَةً فِي الِاخْتِلَافِ تَدُلُّ عَلَى أَقْرَبِ الِاخْتِلَافِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَنَتَّبِعُ الْقَوْلَ الَّذِي مَعَهُ الدَّلَالَةُ ، ثُمَّ بَسَطَ الْكَلَامَ فِي تَرْجِيحِ قَوْلِ الْأَئِمَّةِ إِلَى أَنْ قَالَ : فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ عَنِ الْأَئِمَّةِ فَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدِّينِ فِي مَوْضِعِ الْأَمَانَةِ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِمْ ، وَكَانَ اتِّبَاعُهُمْ أَوْلَى بِنَا مِنَ اتِّبَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ .(2/73)
قَالَ : وَالْعِلْمُ طَبَقَاتٌ : الْأُولَى : الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إِذَا ثَبَتَتِ السُّنَّةُ ، ثُمَّ الثَّانِيَةُ : الْإِجْمَاعُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ ، وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْهُمْ ، وَالرَّابِعَةُ : اخْتِلَافُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْخَامِسَةُ : الْقِيَاسُ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الطَّبَقَاتِ . وَلَا يُصَارُ إِلَى شَيْءٍ غَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَهُمَا مَوْجُودَانِ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ مِنْ أَعْلَى . قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي : وَغَيْرِ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ دَهْرِهِ وَإِنْ كَانَ أَبْيَنَ فَضْلًا فِي الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ مِنْهُ ، وَلَا يَقْضِي أَبَدًا إِلَّا بِمَا يَعْرِفُ ثُمَّ سَاقَ الْكَلَامَ إِلَى أَنْ قَالَ : وَإِذَا اجْتَمَعَ لَهُ عُلَمَاءٌ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ أَوِ افْتَرَقُوا فَسَوَاءٌ لَا يَقْبَلُهُ إِلَّا تَقْلِيدًا لِغَيْرِهِمْ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ يُدِلُّونَهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْقِلَهُ كَمَا عَقَلُوهُ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ عَلَى التَّقْلِيدِ أَوِ الْقِيَاسِ .(2/74)
قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ : رُوِّينَا فِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي مَوْعِظَتِهِ : " أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ، فَتَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ " وَرُوِّينَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاخْتَارَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَبَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ وَانْتَخَبَهُ بِعِلْمِهِ ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ بَعْدَهُ فَاخْتَارَ لَهُ أَصْحَابَهُ ، فَجَعَلَهُمْ أَنْصَارَ دِينِهِ وَوُزَرَاءَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَمَا رَأَوْهُ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ "(2/75)
وقال البيهقي في كتابه: "مدخل السنن"، باب: "ذكر أقاويل الصحابة إذا تفرقوا ( 20)": قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَقَاوِيلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ : " إِذَا تَفَرَّقُوا فِيهَا نَصِيرُ إِلَى مَا وَافَقَ الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ أَوِ الْإِجْمَاعَ ، أَوْ كَانَ أَصَحَّ فِي الْقِيَاسِ , وَإِذَا قَالَ الْوَاحِدُ مِنْهُمُ الْقَوْلَ لَا نَحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْهُمْ فِيهِ لَهُ مُوَافَقَةً وَلَا خِلَافًا , صِرْتُ إِلَى اتِّبَاعِ قَوْلِ وَاحِدِهِمْ ، إِذَا لَمْ أَجِدْ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا إِجْمَاعًا وَلَا شَيْئًا فِي مَعْنَاهُ يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِهِ أَوْ وُجِدَ مَعَهُ قِيَاسٌ "(2/76)
قلت : وفي حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (13592) حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانٍ ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ ، ثَنَا أَبُو حَاتِمٍ ، حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، قَالَ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ : الْأَصْلُ قُرْآنٌ وَسُنَّةٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيَاسٌ عَلَيْهِمَا ، وَإِذَا اتَّصَلَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَّ الْإِسْنَادُ عَنْهُ فَهُوَ سُنَّةٌ . وَالْإِجْمَاعُ أَكْثَرُ مِنَ الْخَبَرِ الْمُنْفَرِدِ ، وَالْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ . وَإِذَا احْتَمَلَ الْمَعَانِيَ فَمَا أَشْبَهَ مِنْهَا ظَاهِرَهُ أَوْلَاهَا بِهِ . وَإِذَا تَكَافَأَتِ الْأَحَادِيثُ فَأَصَحُّهَا إِسْنَادًا أَوْلَاهَا . وَلَيْسَ الْمُنْقَطِعُ بِشَيْءٍ مَا عَدَا مُنْقَطِعُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ . وَلَا يُقَاسُ أَصْلٌ عَلَى أَصْلٍ . وَلَا يُقَالُ لِأَصْلٍ : لِمَ وَلَا كَيْفَ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِلْفَرْعِ : لِمَ ، فَإِذَا صَحَّ قِيَاسُهُ عَلَى الْأَصْلِ صَحَّ ، وَقَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَكُلًّا قَدْ رَأَيْتُهُ اسْتَعْمَلَ الْحَدِيثَ الْمُنْفَرِدَ ؛ اسْتَعْمَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّغْلِيسِ ، وَاسْتَعْمَلَ أَهْلُ الْعِرَاقِ حَدِيثَ الْغَرَرِ . وَكُلٌّ قَدِ اسْتَعْمَلَ الْحَدِيثَ هَؤُلَاءِ أَخَذُوا بِهَذَا وَتَرَكُوا الْآخَرَ ، وَهَؤُلَاءِ أَخَذُوا بِهَذَا وَتَرَكُوا الْآخَرَ .(2/77)
وَالَّذِي لَزِمَ قُرْآنٌ وَسُنَّةٌ ، وَأَنَا أَظْلِمُ فِي إِلْزَامِ تَقْلِيدِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا نَظَرًا أَتْبَعُهُمْ لِلْقِيَاسِ ، إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَصْلٌ يُخَالِفُهُمْ ، أَتَّبِعُ أَتْبَعَهُمْ لِلْقِيَاسِ . قَدِ اخْتَلَفَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ ؛ الْقِيَاسُ فِيهَا مَعَ عَلِيٍّ ، وَبِقَوْلِهِ آخُذُ ، مِنْهَا الْمَفْقُودُ ، قَالَ عُمَرُ : يُضْرَبُ الْأَجَلُ إِلَى أَرْبَعِ سِنِينَ ، ثُمَّ تَعْتَدُّ امْرَأَتَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا . وَقَالَ عَلِيٌّ : امْرَأَتُهُ لَا تُنْكَحُ أَبَدًا . وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ عَلِيٍّ حَتَّى يَتَّضِحَ بِمَوْتٍ أَوْ فِرَاقٍ . وَقَالَ عُمَرُ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فِي سَفَرٍ ، ثُمَّ يَرْتَجِعُهَا فَسَيَبْلُغُهَا الطَّلَاقُ ، وَلَا تَبْلُغُهَا الرَّجْعَةُ حَتَّى تَحِلَّ وَتُنْكَحُ : إِنَّ زَوْجِهَا الْآخَرَ أَوْلَى بِهَا إِذَا دَخَلَ بِهَا . وَقَالَ عَلِيٌّ : هِيَ لِلْأَوَّلِ ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا . وَقَالَ عُمَرُ فِي الَّذِي يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ فِي الْعِدَّةِ ، وَيَدْخُلُ بِهَا أَنَّهُ يفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ لَا يَنْكِحُهَا أَبَدًا وَقَالَ عَلِيٌّ : يَنْحِكُهَا بَعْدُ . وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَقْرَاءِ ، وَأَصَحُّ ذَلِكَ أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ : " مُرْهُ - يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ - أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ " .(2/78)
فَلَمَّا سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّةً كَانَ أَصَحَّ الْقَوْلِ فِيهَا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى الْأَطْهَارَ الْعِدَّةَ "(1).
وفي جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ - بَابُ جِامِعِ بَيَانِ مَا يَلْزَمُ النَّاظِرَ فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ (1066) أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ ثنا الْمَيْمُونُ بْنُ حَمْزَةَ الْحُسَيْنِيُّ بِمِصْرَ ثنا أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ ، ثنا أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى الْمُزَنِيُّ ، ح وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : نا أَبُو عَلِيٍّ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ زِيَادٍ الْمَدَائِنِيُّ ، ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى الْمُزَنِيُّ قَالَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ " فِي اخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصِيرُ مِنْهُمَا إِلَى مَا وَافَقَ الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ أَوِ الْإِجْمَاعَ أَوْ كَانَ أَصَحَّ فِي الْقِيَاسِ وَقَالَ فِي قَوْلِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ : إِذَا لَمْ يُحْفَظْ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ صِرْتُ إِلَيْهِ وَأَخَذْتُ بِهِ إِذَا لَمْ أَجِدْ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا إِجْمَاعًا وَلَا دَلِيلًا مِنْهَا هَذَا إِذَا وَجَدْتُ مَعَهُ الْقِيَاسَ ، قَالَ : وَقَلَّ مَا يُوجَدُ ذَلِكَ " قَالَ الْمُزَنِيُّ : " فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ قَبِلَ قَوْلَهُ بِحُجَّةٍ فَفِي هَذَا مَعَ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ فِي كُلِّ قَرْنٍ يُنْكِرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ قَضَاءٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنْ لَا يُقَالَ إِلَّا بِحُجَّةٍ وَأَنَّ الْحَقَّ فِي
__________
(1) - الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ(457)(2/79)
وَجْهٍ وَاحِدٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقُضَاةِ أَنَّ الْقَاضِيَ وَالْمُفْتِيَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ وَيُفْتِيَ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَبِمَا قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ وَعَالِمًا بِالسُّنَنِ وَالْآثَارِ وَعَالِمًا بِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ ، حَسَنَ النَّظَرِ صَحِيحَ الْأَوَدِ وَرِعًا مُشَاوِرًا فِيمَا اشْتُبِهَ عَلَيْهِ وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَسَائِرُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مِصْرٍ يَشْتَرِطُونَ أَنَّ الْقَاضِيَ وَالْمُفْتِيَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ " ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْبَابِ ، فَمَرَّةً قَالَ : أَمَّا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآخُذُ بِقَوْلِ مَنْ شِئْتُ مِنْهُمْ وَلَا أَخْرُجُ عَنْ قَوْلِ جَمِيعِهِمْ وَإِنَّمَا يَلْزَمُنِي النَّظَرُ فِي أَقَاوِيلِ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَمَنْ دُونَهُمْ " قَالَ أَبُو عُمَرَ : " قَدْ جَعَلَ لِلصِّحَابَةِ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَجْعَلْ لِغَيْرِهِمْ وَأَظُنُّهُ مَالَ إِلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ " وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَإِلَى نَحْوِ هَذَا كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَذْهَبُ "(2/80)
وفي الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ - بَابُ أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِذَا تَفَرَّقُوا فِيهَا وَيُسْتَدَلُّ بِهِ (21 ) أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو ، فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، ثنا أَبُو الْعَبَّاسِ , أَبْنَا الرَّبِيعُ قَالَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " مَا كَانَ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ مَوْجُودَيْنِ فَالْعُذْرُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُمَا مَقْطُوعٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهِمَا , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صِرْنَا إِلَى أَقَاوِيلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ وَاحِدِهِمْ , ثُمَّ كَانَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ : أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، " إِذَا صِرْنَا إِلَى التَّقْلِيدِ أَحَبَّ إِلَيْنَا وَذَلِكَ إِذَا لَمْ نَجِدْ دَلَالَةً فِي الِاخْتِلَافِ تَدُلُّ عَلَى أَقْرَبِ الِاخْتِلَافِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَنَتَّبِعُ الْقَوْلَ الَّذِي مَعَهُ الدَّلَالَةُ لِأَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ مَشْهُورٌ مَا يَلْزَمُ النَّاسَ , وَمَنْ لَزِمَ قَوْلُهُ النَّاسَ كَانَ أَشْهَرَ مِمَّنْ يُفْتِي الرَّجُلَ أَوِ النَّفْرَ ، وَقَدْ يَأْخُذُ بُفُتْيَاهُ وَيدَعُهَا وَأَكْثَرُ الْمُفْتِينَ يُفْتُونَ الْخَاصَّةَ فِي بُيوتِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ , وَلَا يُعْنَى الْعَامَّةُ بِمَا قَالُوا عِنَايَتَهُمْ بِمَا قَالَ الْإِمَامُ , وَقَدْ وَجَدْنَا الْأَئِمَّةَ يُنْتَدَبُونَ فَيُسْأَلُونَ عَنِ الْعِلْمِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا أَرَادُوا , وَأَنْ يَقُولُوا فِيهِ وَيَقُولُونَ ، فَيُخْبَرُونَ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ فَيَقْبَلُونَ مِنَ الْمُخْبِرِ وَلَا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ أَنْ يَرْجِعُوا لِتَقْوَاهُمُ اللَّهَ(2/81)
وَفَضْلِهِمْ فِي حَالَاتِهِمْ , فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ عَنِ الْأَئِمَّةِ فَأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدِّينِ فِي مَوْضِعِ الْأَمَانَةِ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِمْ وَكَانَ اتِّبَاعُهُمْ أَوْلَى بِنَا مِنَ اتِّبَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ " قَالَ : وَالْعِلْمُ طَبَقَاتٌ : الْأُولَى : الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إِذَا ثَبَتَتِ السُّنَّةُ , ثُمَّ الثَّانِيةُ : الْإِجْمَاعُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ كِتَابٌ وَلَا سَنَةٌ , وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْهُمْ , وَالرَّابِعَةُ : اخْتِلَافُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ , وَالْخَامِسَةُ : الْقِيَاسُ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الطَّبَقَاتِ وَلَا يُصَارُ إِلَى شَيْءٍ غَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُمَا مَوْجُودَانِ , وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ مِنْ أَعْلَى وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ الْقَدِيمَةِ , بَعْدَ ذِكْرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِمَا هُمْ أَهْلُهُ ، فَقَالَ : " وَهُمْ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَوَرِعٍ وَعَقْلٍ وَأَمْرٍ اسْتُدْرِكَ بِهِ عِلْمٌ وَاسْتُنْبِطَ بِهِ , وَآرَاؤُهُمْ لَنَا أَحْمَدُ وَأَوْلَى بِنَا مِنْ آرَائِنَا عِنْدَنَا لِأَنْفُسِنَا , وَ اللَّهُ أَعْلَمُ , وَمَنْ أَدْرَكْنَا مِمَّنْ أَرْضِي أَوْ حُكِيَ لَنَا عَنْهُ بِبَلَدِنَا صَارُوا فِيمَا لَمْ يَعْلَمُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ سَنَةً إِلَى قَوْلِهِمْ إِنِ اجْتَمِعُوا ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ إِنْ تَفَرَّقُوا ، فَهَكَذَا نَقُولُ إِذَا اجْتَمَعُوا أَخَذْنَا بِاجْتِمَاعِهِمْ ، وَإِنْ قَالَ(2/82)
وَاحِدُهُمْ وَلَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِ , فَإِنِ اخْتَلَفُوا أَخَذْنَا بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ وَلَمْ نُخَرِّجْ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ كُلِّهِمْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِذَا قَالَ الرَّجُلَانِ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ نَظَرْتُ ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُ أَحَدِهِمَا أَشْبَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ أَشْبَهُ بِسُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذْتُ بِهِ , لِأَنَّ مَعَهُ شَيْئًا يَقْوَى بِمِثْلِهِ لَيْسَ مَعَ الَّذِي يُخَالِفُهُ مِثْلُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ دَلَالَةٌ بِمَا وَصَفْتُ كَانَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ أَبِي بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَرْجَحُ عِنْدَنَا مِنْ أَحَدٍ ، لَوْ خَالَفَهُمْ غَيْرُ إِمَامٍ وَذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَقَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْقَوْلِ دَلَالَةٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سَنَةٍ كَانَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ ، أَوْ عُمَرَ ، أَوْ عُثْمَانَ ، أَوْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَقُولَ بِهِ مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِمْ إِنْ خَالَفَهُمْ ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمْ أَهْلُ عِلْمٍ وَحُكَّامٌ ، ثُمَّ سَاقَ الْكَلَامَ إِلَى أَنْ قَالَ : فَإِنِ اخْتَلَفَ الْحُكَّامُ اسْتَدْلَلْنَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فِي اخْتِلَافِهِمْ فَصِرْنَا إِلَى الْقَوْلِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَقَلَّ مَا يَخْلُو اخْتِلَافُهُمْ مِنْ دَلَائِلِ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ , وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَفْتُونَ يَعْنِي مِنَ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ بِلَا دَلَالَةٍ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ نَظَرْنَا إِلَى الْأَكْثَرِ , فَإِنْ تَكَافَؤُوا نَظَرْنَا إِلَى(2/83)
أَحْسَنِ أَقَاوِيلِهِمْ مَخْرَجًا عِنْدَنَا ، وَإِنْ وَجَدْنَا لِلْمُفْتِينَ فِي زَمَانِنَا وَقَبْلَهُ اجْتِمَاعًا فِي شَيْءٍ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ تَبِعْنَاهُ ، وَكَانَ أَحَدَ طُرُقِ الْأَخْبَارِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ : كِتَابُ اللَّهِ , ثُمَّ سَنَةُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ الْقَوْلُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ , ثُمَّ اجْتِمَاعُ الْفُقَهَاءِ , فَإِذَا نَزَلَتْ نَازِلَةٌ لَمْ نَجِدْ فِيهَا وَاحِدَةً مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْبَارِ فَلَيْسَ السَّبِيلُ فِي الْكَلَامِ فِي النَّازِلَةِ إِلَّا اجْتِهَادُ الرَّأْيِ"
وقال الشافعي أيضًا: والعلم طبقات: الأولى: الكتاب والسنة، الثانية: الإجماع، فيما ليس كتابًا ولا سنة، الثالثة: أن يقول صحابي فلا يعلم له مخالف من الصحابة، الرابعة: اختلاف الصحابة، الخامسة: القياس " هذا كله كلامه في الجديد.
وقال الشافعي في الجديد، في قتل الراهب: إنه القياس عنده، ولكن اتركه لقول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -(1).
__________
(1) - الأم للشافعي(ج 12 / ص 192)(2/84)
ويوافق الشافعي على قبول قول الصحابة أئمة الإسلام، ففي الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ - بَابُ أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِذَا تَفَرَّقُوا فِيهَا وَيُسْتَدَلُّ بِهِ (22 )أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ : سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ بَالَوَيْهِ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ يَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الطَّبَرِيَّ يَقُولُ : سَمِعْتُ نُعَيْمَ بْنَ حَمَّادٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ : إِذَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَإِذَا جَاءَ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَخْتَارُ مِنْ قَوْلِهِمْ وَإِذَا جَاءَ عَنِ التَّابِعِينَ زَاحَمْنَاهُمْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ ، وَالتَّوْرَاةِ ، وَالْإِنْجِيلِ كَأَنَّهُ عَنَى قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ الْآيَةَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَسَبَقَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْفَضْلِ مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُمْ فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ وَهَنَّأَهُمْ مَا آتَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِبُلُوغِ أَعْلَى مَنَازِلِ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ"
ثم قال : "لقد اختص الله الصحابة بخصائص، وميزهم بميزات لم تكن في مَن بعدهم، فقد كانوا أبرَّ الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلُّفًا، وأقربها إلى الصواب.(2/85)
وقد خصَّهم الله بفصاحة اللسان، وتوقد الأذهان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك، وقلة المعارض، وحسن القصد، وتقوى الرب سبحانه، فالعربية سليقتهم وطبيعتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم، وليسوا بحاجة إلى النظر في الإسناد، وأحوال الرواة، وعلل الحديث، والجرح والتعديل، ولا إلى النظر في قواعد الأصول، بل هم مستغنون عن هذا كله، وليس أمامهم إلا كتاب الله وسنة رسوله ومعاني كل منهما.
وهم أسعد الناس بهذا من المتأخرين؛ لأن قواهم متوافرة مجتمعة عليها، إلى جانب ما خُصُّوا به من قوى الأذهان وصفائها وصحتها، وقوة إدراكها وكمالها، وكثرة المعاون، وقلة الصارف، وتلقيهم من مشكاة النبوة.
بخلاف المتأخرين فأقوالهم متفرقة، وهممهم متشعِّبة، فالعربية وتوابعها قد أخذت من قوى أذهانهم شعبة، والأصول وقواعدها قد أخذت منها بشعبة، وعلم الإسناد وأحوال الرواة قد أخذ منها شعبة، وفكرهم في كلام المصنِّفين والمشايخ -على اختلافهم فيما أرادوا به- قد أخذ منها شعبة، فإذا وصلوا إلى النصوص النبوية وصلوا إليها بقلوب وأذهان قد كلَّت وضعفت، فأدركوا من النصوص ومعانيها بحسب تلك القوة، وهذا أمر محسوس مشاهد.
ثم قال : " إذا وجد للصحابي قول فلا يخلو أن يخالفه صحابي آخر، أو لا يخالفه: فإن لم يخالفه صحابي آخر، فإما أن يُشْتَهر قوله في الصحابة أو لا يشتهر: فإن اشْتُهر فالذي عليه جماهير الفقهاء أنه إجماع وحجة، وقالت طائفة منهم: هو حجة وليس بإجماع.
وقال شرذمة من المتكلمين والفقهاء المتأخرين: لا يكون إجماعًا ولا حجة. وإن لم يشتهر قول الصحابي، أو لم يعلم هل اشتهر أم لا؟
فالذي عليه جمهور الأمة أنه حجة، وهو قول جمهور الحنفية، وصرح به محمد بن الحسن، وذكر عن أبي حنيفة نصًّا، وهو مذهب مالك وأصحابه، وهو منصوص الشافعي في القديم والجديد، وهو منصوص الإمام أحمد في غير موضع عنه، واختيار جمهور أصحابه.(2/86)
وإن خالفه صحابي آخر، فلا يخلو من أن يكون مثله في العلم، أو يكون أعلم منه: فإن كان مخالفه مماثلا له في العلم لم يكن قول أحدهما حجة على الآخر، وإن كان مخالفه أعلم منه، كأن يكون المخالف أحد الخلفاء الراشدين أو جميعهم، فللعلماء في الأخذ بقول الأعلم قولان -وهما روايتان عن الإمام أحمد- وأصح القولين أن القول الذي ذهب إليه الخلفاء الراشدين أو بعضهم أرجح وأولى أن يؤخذ به من قول الصحابي المخالف لهم.
فإن ذهب الخلفاء الأربعة إلى قول فالراجح أن الصواب معهم دون المخالف لهم، وإن ذهب بعض الخلفاء إلى قول وبعضهم إلى قول آخر فالصواب أغلب في قول الأكثر منهم، فإن انقسموا بالتساوي فذهب اثنان من الخلفاء إلى قول واثنان إلى قول آخر، فالأقرب إلى الصواب القول الذي ذهب إليه أبو بكر وعمر.
فإن اختلف أبو بكر وعمر، وذهب كل منهما إلى قول، فالأقرب إلى الصواب قول أبي بكر؛ إذ لا يحفظ للصدِّيق خلاف نص واحد، ولا يحفظ له فتوى ولا حكم مأخذها ضعيف أبدًا، وهذا تحقيق لكون خلافته خلافة نبوة.
ويكفي في ذلك معرفة رجحان قول الصدِّيق في الجد والإخوة، وأن الجد أب يُسْقط الإخوة، ورجحان قوله في كون الطلاق الثلاث بكلمة واحدة لا تقع إلا طلقة واحدة، فإن العالم المتَّصف إذا نظر في أدلة هذه المسائل من الجانبين تبين له أن جانب الصدِّيق أرجح من الجانب الآخر، وكذلك بالنسبة لفتاوى التابعين وأقوالهم".(1)
مثال آخر ، لقد ادعى الإمام السيوطي الاجتهاد المطلق ، وألف رسالة في هذا الموضوع ، فأنكر عليه ذلك جلُّ علماء عصره ، وردوا عليه ، وهذا مثال من اجتهاداته ،ففي رسالته (حسن المقصد في عمل المولد) قال : وقد استخرج له إمام الحفاظ أبو الفضل بن حجر أصلا من السنَّة واستخرجت له أنا أصلا ثانيا وسيأتي ذكرها بعد هذا.
__________
(1) - وانظر لقاءات الباب المفتوح - (ج 74 / ص 11)-حجية قول الصحابي:(2/87)
وقد سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل بن حجر عن عمل المولد فأجاب بما نصه: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرَّى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا، قال وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَسُئِلُوا عَن ذَلِكَ فَقَالُوا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِى أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَبَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ فَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنكُمْ ». فَأَمَرَ بِصَوْمِهِ.(1)
__________
(1) - صحيح مسلم(2712)(2/88)
فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة ،وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم ، وعلى هذا فينبغي أن يتحرَّى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء ،ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر ،بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة، وفيه ما فيه - فهذا ما يتعلق بأصل عمله، وأما ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة ،وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن يقال ما كان من ذلك مباحا بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم لا بأس بإلحاقه به ،وما كان حراما أو مكروها فيمنع وكذا ما كان خلاف الأولى انتهى(1)
قلت : وهو كلام في غاية الدقة والروعة .
ثم قال السيوطي :" قلت: وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر وهو ما أخرجه البيهقي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَقَّ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ . مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين وتشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه.."(2)
قلت : وهذا نص الحديث الذي استدل به (حافظ السنة )
__________
(1) - الحاوي للفتاوي للسيوطي - (ج 1 / ص 282)
(2) - الحاوي للفتاوي للسيوطي - (ج 1 / ص 282 -283)(2/89)
ففي السنن الكبرى للبيهقي (ج 9 / ص 300)(19750) قَالَ الْفَقِيهُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَرَّرٍ فِى عَقِيقَةِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - عَن نَفْسِهِ حَدِيثًا مُنْكَرًا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ : مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دَاوُدَ الْعَلَوِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سُفْيَانَ الطُّوسِىُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الأَبِيوَرْدِىُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَرَّرٍ عَن قَتَادَةَ عَن أَنَسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنهُ : أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - عَقَّ عَن نَفْسِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ. {ج} قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : إِنَّمَا تَرَكُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَرَّرٍ لِحَالِ هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ الْفَقِيهُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ رُوِىَ مِن وَجْهٍ آخَرَ عَن قَتَادَةَ وَمِن وَجْهٍ آخَرَ عَن أَنَسٍ وَلَيْسَ بِشَىْءٍ.
وهناك طريق آخر أخرجه في المعجم الأوسط للطبراني(1006 ) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ : نا الْهَيْثَمُ قَالَ : نا عَبْدُ اللَّهِ ، عَنْ ثُمَامَةَ ، عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " عَقَّ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ مَا بُعِثَ نَبِيًّا "
فهذا الطريق ليس فيه ما طعن به على الأول ، فاستدلَّ بالواهي الساقط وترك المقبول(1)
__________
(1) - وانظر البدر المنير - (ج 9 / ص 339) والتلخيص الحبير - (ج 4 / ص 362) والسلسلة الصحيحة (2726)(2/90)
وفات حافظ السنَّة أن هناك حديثا صحيحاً بلا خلاف يمكن أن يحتجَّ به على جواز ذلك ، ففي صحيح مسلم (2804 ) عَن أَبِى قَتَادَةَ الأَنْصَارِىِّ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَن صَوْمِهِ قَالَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ عُمَرُ رضى الله عنه رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً وَبِبَيْعَتِنَا بَيْعَةً. قَالَ فَسُئِلَ عَن صِيَامِ الدَّهْرِ فَقَالَ « لاَ صَامَ وَلاَ أَفْطَرَ ». أَوْ « مَا صَامَ وَمَا أَفْطَرَ ». قَالَ فَسُئِلَ عَن صَوْمِ يَوْمَيْنِ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ قَالَ « وَمَن يُطِيقُ ذَلِكَ ». قَالَ وَسُئِلَ عَن صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمَيْنِ قَالَ « لَيْتَ أَنَّ اللَّهَ قَوَّانَا لِذَلِكَ ». قَالَ وَسُئِلَ عَن صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ قَالَ « ذَاكَ صَوْمُ أَخِى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ». قَالَ وَسُئِلَ عَن صَوْمِ يَوْمِ الاِثْنَيْنِ قَالَ « ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَىَّ فِيهِ ». قَالَ فَقَالَ « صَوْمُ ثَلاَثَةٍ مِن كُلِّ شَهْرٍ وَرَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ صَوْمُ الدَّهْرِ ». قَالَ وَسُئِلَ عَن صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ « يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ ». قَالَ وَسُئِلَ عَن صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ « يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ ».
وكم من حديث ساقط وموضوع احتج به في كتبه !!!
المبحث الخامس
شُرُوطُ مَن يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ(1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 13 / ص 162) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 11 / ص 363)(2/91)
لاَ يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَسْتَفْتِيَ إِلاَّ مَن يَعْرِفُهُ بِالْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ ، أَمَّا مَن عَرَفَهُ بِالْجَهْل فَلاَ يَسْأَلُهُ اتِّفَاقًا ، وَكَذَا لاَ يَسْأَل مَن عَرَفَهُ بِالْفِسْقِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مَن غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِن أَهْل الْعِلْمِ ، لِمَا يَرَاهُ مِنَ انْتِصَابِهِ لِلْفُتْيَا وَأَخْذِ النَّاسِ عَنهُ بِمَشْهَدٍ مِن أَهْل الْعِلْمِ ، وَمَا يَلْمَحُهُ فِيهِ مِن سِمَاتِ أَهْل الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالسَّتْرِ ، أَوْ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ ثِقَةٌ . قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ(1): لاَ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَفْتَى إِلاَّ مَن يُفْتِي بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ . أَمَّا مَجْهُول الْحَال فِي الْعِلْمِ فَلاَ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ إِذْ قَدْ يَكُونُ أَجْهَل مِنَ السَّائِل . وَأَمَّا مَجْهُول الْحَال فِي الْعَدَالَةِ فَقَدْ قِيل : لاَ بُدَّ مِنَ السُّؤَال عَنهُ مِن عَدْلٍ أَوْ عَدْلَيْنِ ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَأْمَنُ كَذِبَهُ وَتَدْلِيسَهُ ، وَقِيل : لاَ يَلْزَمُ السُّؤَال عَنِ الْعَدَالَةِ ؛ لأَِنَّ الأَْصْل فِي الْعُلَمَاءِ الْعَدَالَةُ(2).
وَلاَ يُقَلِّدُ مُتَسَاهِلاً فِي الْفُتْيَا(3)، وَلاَ مَن يَبْتَغِي الْحِيَل الْمُحَرَّمَةَ ، وَلاَ مَن يَذْهَبُ إِلَى الأَْقْوَال الشَّاذَّةِ الَّتِي يُنْكِرُهَا الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ(4).
المبحث السادس
مَن يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ :
__________
(1) - الفتاوى الكبرى - (ج 8 / ص 427)
(2) - المستصفى 2 / 390 ، وروضة الناظر 2 / 452 .
(3) - ككثير من فقهاء هذا العصر الذين يبيحون الربا أو موالاة الكفار أو يشترون بآيات الله ثمنا قليلا
(4) - مطالب أولي النهى 6 / 441 ، 446 ، 447 ، وتبصرة الحكام 1 / 52 ، القاهرة المطبعة العامرة الشرفية 1301 هـ .(2/92)
تَقَدَّمَ أَنَّ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ هُوَ الْعَامِّيُّ وَمَن عَلَى شَاكِلَتِهِ مِن غَيْرِ الْقَادِرِينَ عَلَى الاِجْتِهَادِ . وَكَذَلِكَ مَن لَهُ أَهْلِيَّةُ الاِجْتِهَادِ إِذَا اسْتَشْعَرَ الْفَوَاتَ لَوِ اشْتَغَل بِالاِجْتِهَادِ فِي الأَْحْكَامِ ، فَلَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مُجْتَهِدًا . فَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ لَوْ أَرَادَ التَّقْلِيدَ مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ وَإِمْكَانِ الاِجْتِهَادِ فَقَدْ قَال الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ بَل عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ . وَقِيل : يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ .
وَدَلِيل الْقَوْل بِأَنَّ الاِجْتِهَادَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنَّ اجْتِهَادَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ يُضَاهِي النَّصَّ ، فَلاَ يَعْدِل عَنِ الاِجْتِهَادِ عِنْدَ إِمْكَانِهِ ، كَمَا لاَ يَعْدِل عَنِ النَّصِّ إِلَى الْقِيَاسِ(1).
__________
(1) - البرهان للجويني 2 / 1340 بتحقيق د . عبد العظيم الديب ، نشر على نفقة أمير قطر ، 1399هـ ، وروضة الطالبين 11 / 100(2/93)
أَمَّا إِنِ اجْتَهَدَ مَن هُوَ أَهْلٌ لِلاِجْتِهَادِ ، فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ وَيَصِيرَ إِلَى الْعَمَل أَوِ الإِْفْتَاءِ بِقَوْل غَيْرِهِ تَقْلِيدًا لِمَن خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ ، قَال صَاحِبُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ : " إِجْمَاعًا " أَيْ بِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ ، لأَِنَّ مَا عَلِمَهُ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ فَلاَ يَتْرُكُهُ لِقَوْل أَحَدٍ . وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْقَاضِيَ الْمُجْتَهِدَ حَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ نَفَذَ حُكْمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى رِوَايَةٍ ، وَلَمْ يَنْفُذْ عَلَى الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى ، وَلاَ عَلَى قَوْل الصَّاحِبَيْنِ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَن أَبِي حَنِيفَةَ(1).
وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِتَجَزُّؤِ الاِجْتِهَادِ يَجِبُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ أَنْ يُقَلِّدَ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ حُكْمُ الشَّرْعِ فِيهِ ، فَيَكُونُ مُجْتَهِدًا فِي الْبَعْضِ مُقَلِّدًا فِي الْبَعْضِ الآْخَرِ ، وَلَكِنْ قِيل : إِنَّهُ مَا دَامَ عَالِمًا فَلاَ يُقَلِّدُ إِلاَّ بِشَرْطِ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الصِّحَّةِ ، بِأَنْ يُظْهِرَهُ لَهُ الْمُجْتَهِدُ الآْخَرُ(2).
وَأَيْضًا قَدْ يُقَلِّدُ الْعَالِمَ فِي الثُّبُوتِ ، كَمَن قَلَّدَ الْبُخَارِيَّ فِي تَصْحِيحِ الْحَدِيثِ ، ثُمَّ يَجْتَهِدُ فِي الدَّلاَلَةِ أَوِ الْقِيَاسِ أَوْ دَفْعِ التَّعَارُضِ بِنَاءً عَلَى مَا ثَبَتَ عِنْدَ غَيْرِهِ(3).
__________
(1) - مسلم الثبوت 2 / 392 ، 393 .
(2) - مسلم الثبوت 2 / 402 .
(3) - المصدر نفسه 2/402(2/94)
وقال الرازي:" اختلف الناس في أنه هل يجوز للمجتهد تقليد المجتهد؟ منهم من حكم بالجواز واحتج بهذه الآية فقال : لما لم يكن أحد المجتهدين عالماً وجب عليه الرجوع إلى المجتهد الآخر الذي يكون عالماً لقوله تعالى : { فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } فإن لم يجب فلا أقل من الجواز "(1).
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 9 / ص 393)(2/95)
وقال الألوسي : " وصحح هو - السيوطي- وغيره امتناع التقليد على المجتهد مطلقاً سواء كان له قاطع أو لا وسواء كان مجتهداً بالفعل أو له أهلية الاجتهاد ، ومقتضى كلامهم أنه لا فرق بين تقليد أحد أئمة المذاهب الأربع وتقليد غيره من المجتهدين . نعم ذكر العلامة ابن حجر وغيره أنه يشترط في تقليد الغير أن يكون مذهبه مدوناً محفوظ الشروط والمعتبرات فقول السبكي : إن مخالف الأربعة كمخالف الإجماع محمول على ما لم يحفظ ولم تعرف شروطه وسائر معتبراته من المذاهب التي انقطع حملتها وفقدت كتبها كمذهب الثوري . والأوزاعي . وابن أبي ليلى . وغيرهم ، ثم إن تقليد الغير بشرطه إنما يجوز في العمل ،وأما للإفتاء والقضاء فيتعين أحد المذاهب الأربع ، واستشكل الفرق العلامة ابن قاسم العبادي ، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون الفرق أنه يحتاط فيهما لتعديهما ما لا يحتاط في العمل فيتركان لأدنى محذور ولو محتملاً ، ونظير ذلك ما ذكره بعض الشافعية في القولين المتكافئين أنه لا يفتي ولا يقضي بكل منهما لاحتمال كونه مرجوحا، ويجوز العمل به؛ وذكر الإمام أن من الناس من جوز التقليد للمجتهد لهذه الآية فقال : لما لم يكن أحد المجتهدين عالماً وجب عليه الرجوع إلى المجتهد العالم لقوله تعالى : {فاسألوا} الآية فإن لم يجب فلا أقل من الجواز ، وأيد ذلك بأن بعض المجتهدين نقلوا مذاهب بعض الصحابة وأقروا الحكم عليها ، والصحيح ما سمعت أولاً ، وما ذكر ليس بتقليد بل هو من باب موافقة الاجتهاد الاجتهاد "(1).
المبحث السابع
تَعَدُّدُ الْمُفْتِينَ وَاخْتِلاَفُهُمْ عَلَى الْمُقَلِّدِ :
__________
(1) - تفسير الألوسي - (ج 10 / ص 172)(2/96)
إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إِلاَّ مُفْتٍ وَاحِدٌ وَجَبَ عَلَى الْمُقَلِّدِ مُرَاجَعَتُهُ وَالْعَمَل بِمَا أَفْتَاهُ بِهِ مِمَّا لاَ يَعْلَمُهُ . وَإِنْ تَعَدَّدَ الْمُفْتُونَ وَكُلُّهُمْ أَهْلٌ ، فَلِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَسْأَل مَن شَاءَ مِنهُمْ ، وَلاَ يَلْزَمُهُ مُرَاجَعَةُ الأَْعْلَمِ ، وَذَلِكَ لِمَا عُلِمَ أَنَّ الْعَوَامَّ فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَسْأَلُونَ الْفَاضِل وَالْمَفْضُول ، وَلَمْ يُحْجَرْ عَلَى أَحَدٍ فِي سُؤَال غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . فَلاَ يَلْزَمُ إِلاَّ مُرَاعَاةُ الْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ .
لَكِنْ إِذَا تَنَاقَضَ قَوْل عَالِمَيْنِ ، فَأَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ مَا أَفْتَاهُ بِهِ الآْخَرُ ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الأَْخْذُ بِقَوْل مَن يَرَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ الأَْفْضَل مِنهُمَا فِي عِلْمِهِ وَدِينِهِ . فَوَاجِبُهُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمُقَلَّدِينَ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ . قَال صَاحِبُ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى : يَحْرُمُ الْحُكْمُ وَالْفُتْيَا بِقَوْلٍ أَوْ وَجْهٍ مِن غَيْرِ نَظَرٍ فِي التَّرْجِيحِ إِجْمَاعًا(1).
__________
(1) - الإنصاف - (ج 16 / ص 498)(2/97)
وَهَذَا لأَِنَّ الْغَلَطَ عَلَى الأَْعْلَمِ أَبْعَدُ وَمِنَ الأَْقَل عِلْمًا أَقْرَبُ . وَلَيْسَ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَجْعَل نَفْسَهُ بِالْخِيَارِ يَأْخُذُ مَا شَاءَ وَيَتْرُكُ مَا شَاءَ ، وَخَاصَّةً إِذَا تَتَبَّعَ الرُّخَصَ لِيَأْخُذَ بِمَا يَهْوَاهُ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي . وَذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ وَاجِبُهُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الأَْدِلَّةِ وَلَيْسَ لَهُ التَّخَيُّرُ مِنهَا اتِّفَاقًا . وَاَلَّذِينَ أَجَازُوا التَّخَيُّرَ - وَهُمْ قِلَّةٌ - إِنَّمَا أَجَازُوهُ عِنْدَ عَدَمِ إِمْكَانِ التَّرْجِيحِ(1).
المبحث الثامن
تَقْلِيدُ الْمَذَاهِبِ :
قَال الشَّوْكَانِيُّ :" اخْتَلَفَ الْمُجَوِّزُونَ لِلتَّقْلِيدِ هَل يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ ، فَقَال جَمَاعَةٌ : يَلْزَمُهُ ، وَاخْتَارَهُ إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ . وَقَال آخَرُونَ : لاَ يَلْزَمُهُ ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ بُرْهَانٍ وَالنَّوَوِيُّ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ . وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى الْعَامَّةِ تَقْلِيدَ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل وَبَعْضِهِمْ فِي الْبَعْضِ الآْخَرِ . وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يُقَلِّدُونَ مَن شَاءُوا قَبْل ظُهُورِ الْمَذَاهِبِ(2).
__________
(1) - المستصفى 2 / 391 ، 392 ، وروضة الناظر 2 / 454 ، وإرشاد الفحول ص 271 ، والبرهان للجويني 2 / 1342 ـ 1344 ، نهاية المحتاج 1 / 41 ، ومطالب أولي النهى 6 / 441 ، وتبصرة الحكام 1 / 51 .
(2) - إرشاد الفحول ص 272 .(2/98)
وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِعَزَائِمِهِ وَرُخَصِهِ ، إِلاَّ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِالاِلْتِزَامِ مِنهُ . قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ :" وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْعَامِّيَّ هَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا يَأْخُذَ بِعَزَائِمِهِ وَرُخَصِهِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَد وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورُ مِن هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَا يُوجِبُونَ ذَلِكَ وَاَلَّذِينَ يُوجِبُونَهُ يَقُولُونَ : إذَا الْتَزَمَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ عَنهُ مَا دَامَ مُلْتَزِمًا لَهُ أَوْ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِالِالْتِزَامِ مِنهُ .(2/99)
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْتِزَامَ الْمَذَاهِبِ وَالْخُرُوجَ عَنهَا إنْ كَانَ لِغَيْرِ أَمْرٍ دِينِيٍّ مِثْلَ : أَنْ يَلْتَزِمَ مَذْهَبًا لِحُصُولِ غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ مِن مَالٍ أَوْ جَاهٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَهَذَا مِمَّا لَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ بَلْ يُذَمُّ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ؛ وَلَوْ كَانَ مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ خَيْرًا مِمَّا انْتَقَلَ عَنهُ وَهُوَ بِمَنزِلَةِ مَن لَا يُسْلِمُ إلَّا لِغَرَضِ دُنْيَوِيٍّ أَوْ يُهَاجِرُ مِن مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ لِامْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا أَوْ دُنْيَا يُصِيبُهَا، وَقَدْ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ هَاجَرَ لِامْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ قَيْسٍ فَكَانَ يُقَالُ لَهُ : مُهَاجِرُ أُمِّ قَيْسٍ(1)فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنبَرِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَن كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ »(2)..
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني(8462 ) صحيح موقوف إلى هنا عن ابن مسعود
(2) - صحيح البخارى (1)(2/100)
وَأَمَّا إنْ كَانَ انْتِقَالُهُ مِن مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ لِأَمْرِ دِينِيٍّ مِثْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ رُجْحَانَ قَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ فَيَرْجِعَ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ : فَهُوَ مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ ؛ بَلْ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَمْرٍ أَلَّا يَعْدِلَ عَنهُ وَلَا يَتَّبِعَ أَحَدًا فِي مُخَالَفَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ فَرَضَ طَاعَةَ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ ، قَالَ تَعَالَى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء ،وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (31) سورة آل عمران ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِن أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (36) سورة الأحزاب.(2/101)
وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَد كِتَابًا فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَحْلِيلُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِيجَابُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ : وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ:الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ : سِرًّا وَعَلَانِيَةً(1).
قلت: وكلام ابن تيمية – رحمه الله- واردٌ على من له بصر ومعرفة بالأدلة ، بحيث يستطيع تمييز الصواب من الخطأ ، والصحيح من الضعيف، وهؤلاء بشكل عام قلة قليلة بالنسبة لمجموع الأمة ، ولكن الغالبية العظمى لا تستطيع ذلك ، ولا تميز هذا الدليل من ذاك ، فما عليها إلا التقليد لأحد الأئمة الأربعة ، ومن ثم فليس لنا مخاطبة العامة بهذه الأدلة – وهم غير قادرين على التمييز بينها- ثم أمرهم بالعمل بها ، ومخالفة المذهب الذي ساروا عليه ، فليس قول هذا- المخاطِب لهم- بأرجح من قول إمام مذهبهم الذي أجمعت الأمة عليه .
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 20 / ص 223) و(ج 4 / ص 283) والفتاوى الكبرى - (ج 7 / ص 170) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 4 / ص 56) وكشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 22 / ص 100)(2/102)
"قال فِي الرِّعَايَةِ مَن الْتَزَمَ مَذْهَبًا أُنْكِرَ عَلَيْهِ مُخَالَفَتُهُ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا تَقْلِيدٍ سَائِغٍ وَلَا عُذْرٍ ، وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ : بِلَا دَلِيلٍ إذَا كَانَ مِن أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَقَوْلُهُ : وَلَا تَقْلِيدٍ سَائِغٍ أَيْ لِعَالِمٍ أَفْتَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ ،وَقَوْلُهُ ، وَلَا عُذْرٍ أَيْ يُبِيحُ لَهُ مَا فَعَلَهُ فَيُنْكَرُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ : لِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ :يَلْزَمُ كُلُّ مُقَلِّدٍ أَنْ يَلْتَزِمَ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فِي الْأَشْهَرِ وَلَا يُقَلِّدُ غَيْرَهُ وَقِيلَ بَلَى ، وَقِيلَ : ضَرُورَةٌ ".(1)
المبحث التاسع
أَثَرُ الْعَمَل بِالتَّقْلِيدِ الصَّحِيحِ :
مَن عَمِل بِتَقْلِيدٍ صَحِيحٍ فَلاَ إِنْكَارَ عَلَيْهِ ، لأَِنَّهُ لاَ إِنْكَارَ فِي الْمَسَائِل الاِجْتِهَادِيَّةِ . وَدَعْوَى الْحِسْبَةِ أَيْضًا لاَ تَدْخُل فِيهَا ، وَلِذَلِكَ فَلاَ يَمْنَعُهُ الْحَاكِمُ مَا فَعَل . وَهَذَا وَاضِحٌ فِيمَا ضَرَرُهُ قَاصِرٌ عَلَى الْمُقَلِّدِ نَفْسِهِ ، كَمَن مَسَّ فَرْجَهُ ثُمَّ صَلَّى دُونَ أَنْ يَتَوَضَّأَ . لَكِنْ لَوْ كَانَ فِي فِعْلِهِ ضَرَرٌ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ ، فَقَدْ قِيل : إِنَّ الْحَاكِمَ أَوِ الْمُحْتَسِبَ إِنْ كَانَ يَرَى حُرْمَةَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الاِعْتِرَاضُ عَلَيْهِ(2).
__________
(1) - كشاف القناع 6 / 307 وكشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 22 / ص 100) الشاملة 2
(2) - نهاية المحتاج 1 / 219 القاهرة .(2/103)
وَلَيْسَ مَعْنَى عَدَمِ الإِْنْكَارِ عَلَى مَن عَمِل بِتَقْلِيدٍ صَحِيحٍ تَرْكَ الْبَيَانِ لَهُ مِن عَالِمٍ يَرَى مَرْجُوحِيَّةَ فِعْلِهِ ، وَكَانَ الْبَيَانُ دَأْبَ أَهْل الْعِلْمِ وَلاَ يَزَال ، فَضْلاً عَنِ الأَْخْذِ وَالرَّدِّ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ . وَقَدْ يُخَطِّئُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَخَاصَّةً مَن خَالَفَ نَصًّا صَحِيحًا سَالِمًا مِنَ الْمُعَارَضَةِ . وَهَذَا وَاضِحٌ عَلَى قَوْل أَكْثَرِ الأُْصُولِيِّينَ ، وَهُمُ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ تَخْطِئَةِ الْمُجْتَهِدِ فِي الْمَسَائِل الاِجْتِهَادِيَّةِ . إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْبَيَانَ يَكُونُ مَعَ تَمْهِيدِ الْعُذْرِ لِلْمُخَالِفِ مِن أَهْل الْعِلْمِ ، وَحِفْظِ رُتْبَتِهِ وَإِقَامَةِ هَيْبَتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَيْضًا لاَ تَمْنَعُ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْحَاكِمَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى مُقَلِّدٍ رُفِعَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ بِمَا يَرَاهُ طِبْقًا لاِجْتِهَادِهِ ، إِذْ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِخِلاَفِ مُعْتَقَدِهِ(1)
المبحث العاشر
إِفْتَاءُ الْمُقَلِّدِ :
يُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا ، وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ شَرْطَ صِحَّةٍ وَلَكِنَّهُ شَرْطُ أَوْلَوِيَّةٍ ، تَسْهِيلاً عَلَى النَّاسِ(2).
__________
(1) - الأشباه والنظائر للسيوطي ص 158 . القاهرة ، مصطفى الحلبي . 1378 هـ ، والمغني لابن قدامة 8 / 306 .
(2) - مجمع الأنهر 2 / 146 ، والمغني9 / 52 .(2/104)
وَصَحَّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ إِفْتَاءَ الْمُقَلِّدِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِ وُجُودِ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ(1)، وَقَيَّدَهُ ابْنُ حَمْدَانَ - مِنَ الْحَنَابِلَةِ - بِالضَّرُورَةِ(2).
وَنَقَل الشَّوْكَانِيُّ اشْتِرَاطَ بَعْضِ الأُْصُولِيِّينَ أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي أَهْلاً لِلنَّظَرِ مُطَّلِعًا عَلَى مَأْخَذِ مَا يُفْتِي بِهِ وَإِلاَّ فَلاَ يَجُوزُ(3).
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ : الْمُفْتِي يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا سَمِعَ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ مُفْتِيًا فِي تِلْكَ الْحَال وَإِنَّمَا هُوَ مُخْبِرٌ ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يُخْبِرَ عَن رَجُلٍ بِعَيْنِهِ مِن أَهْل الاِجْتِهَادِ فَيَكُونُ مَعْمُولاً بِخَبَرِهِ لاَ بِفُتْيَاهُ(4).
__________
(1) - إعلام الموقعين 1 / 46 .
(2) - صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ، لابن حمدان ص 24 . دمشق . المكتب الإسلامي ص 24 .
(3) - إرشاد الفحول ص 296 .
(4) - الفروع لابن مفلح - (ج 12 / ص 211) والمغني - (ج 22 / ص 455(2/105)
وَصَحَّحَ الشَّوْكَانِيُّ أَنَّ مَا يُلْقِيهِ الْمُقَلِّدُ عَن مُقَلَّدِهِ إِلَى الْمُسْتَفْتِي لَيْسَ مِنَ الْفُتْيَا فِي شَيْءٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ نَقْل قَوْلٍ . قَال : الَّذِي أَعْتَقِدُهُ أَنَّ الْمُفْتِيَ الْمُقَلِّدَ لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يُفْتِيَ مَن يَسْأَلُهُ عَن حُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ ، أَوْ عَنِ الْحَقِّ ، أَوْ عَمَّا يَحِل لَهُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ ؛ لأَِنَّ الْمُقَلِّدَ لاَ يَدْرِي بِوَاحِدٍ مِن هَذِهِ الأُْمُورِ ، بَل لاَ يَعْرِفُهَا إِلاَّ الْمُجْتَهِدُ . وَهَذَا إِنْ سَأَلَهُ السَّائِل سُؤَالاً مُطْلَقًا . وَأَمَّا إِنْ سَأَلَهُ سَائِلٌ عَن قَوْل فُلاَنٍ وَرَأْيِ فُلاَنٍ فَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَنْقُل إِلَيْهِ ذَلِكَ وَيَرْوِيهِ لَهُ إِنْ كَانَ عَارِفًا بِمَذْهَبِهِ(1).
وَنَقَل ابْنُ الصَّلاَحِ عَنِ الْحَلِيمِيِّ وَالرُّويَانِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِمَا هُوَ مُقَلِّدٌ فِيهِ ، ثُمَّ قَال ابْنُ الصَّلاَحِ : مَعْنَاهُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُذَكِّرَهُ فِي صُورَةِ مَا يَقُولُهُ مِن عِنْدِ نَفْسِهِ ، بَل يُضَيِّفُهُ وَيَحْكِيهِ عَن إِمَامِهِ الَّذِي قَلَّدَهُ . قَال ابْنُ الصَّلاَحِ : فَعَلَى هَذَا مَن عَدَدْنَاهُ مِن أَصْنَافِ الْمُفْتِينَ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ لَيْسُوا عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنَ الْمُفْتِينَ ، وَلَكِنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَهُمْ وَأَدَّوْا عَنهُمْ(2).
المبحث الحاديس عشر
__________
(1) - رسالة القول المفيد في الاجتهاد والتقليد للشوكاني ـ خاتمة الرسالة . والقول المفيد في الاجتهاد والتقليد للشوكاني - (ج 1 / ص 55) الشاملة 2
(2) - فتاوى ابن الصلاح مخطوطة بدار الكتب المصرية برقم ( 1889 أصول فقه ) ق10 و الفتاوى الفقهية الكبرى - (ج 10 / ص 105و157) .(2/106)
هَل الْمُقَلِّدُ مِن أَهْل الإِْجْمَاعِ ؟(1)
يَرَى جُمْهُورُ الأُْصُولِيِّينَ أَنَّ الْمُقَلِّدَ لاَ يُعْتَبَرُ فَقِيهًا ، وَلِذَا قَالُوا : إِنَّ رَأْيَهُ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الإِْجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ عَارِفًا بِالْمَسَائِل الْفِقْهِيَّةِ ، إِذِ الْجَامِعُ بَيْنَ أَهْل الإِْجْمَاعِ هُوَ الرَّأْيُ ، وَلَيْسَ لِلْمُقَلِّدِ رَأْيٌ إِذْ رَأْيُهُ هُوَ عَن رَأْيِ إِمَامِهِ . وَهَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا فِي بَعْضِ الْمَسَائِل ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَى أَسَاسِ قَاعِدَةِ جَوَازِ تَجَزُّؤِ الاِجْتِهَادِ ، يُعْتَدُّ بِالْمُقَلِّدِ فِي الإِْجْمَاعِ فِي الْمَسَائِل الَّتِي يَجْتَهِدُ فِيهَا(2).
المبحث الثاني عشر
قَضَاءُ الْمُقَلِّدِ(3):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 13 / ص 166)
(2) - شرح مسلم الثبوت 2 / 217 ، 218 .
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 13 / ص 166) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 4 / ص 29)(2/107)
يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ ، فِي الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا . وَادَّعَى ابْنُ حَزْمٍ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ، وَلِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى : {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (48) سورة المائدة، وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء، وَفَاقِدُ الاِجْتِهَادِ إِنَّمَا يَحْكُمُ بِالتَّقْلِيدِ وَلاَ يَعْرِفُ الرَّدَّ إِلَى مَا أَنْزَل اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُول .(2/108)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ : لاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ وَيَحْكُمَ بِقَوْل سِوَاهُ ، سَوَاءٌ ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ فَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فِيهِ أَمْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ ، وَسَوَاءٌ ضَاقَ الْوَقْتُ أَمْ لَمْ يَضِقْ . وَقَال سَائِرُ الْحَنَفِيَّةِ ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مُقَلِّدًا ، لِئَلاَّ تَتَعَطَّل أَحْكَامُ النَّاسِ ، وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ غَرَضَ الْقَضَاءِ فَصْل الْخُصُومَاتِ فَإِذَا تَحَقَّقَ بِالتَّقْلِيدِ جَازَ(1).
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ الْقَاضِي الْمُجْتَهِدُ جَازَ تَوْلِيَةُ الْمُقَلِّدِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَتَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ بِأَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل : أَنْ يُوَلِّيَهُ سُلْطَانٌ ذُو شَوْكَةٍ ، بِخِلاَفِ نَائِبِ السُّلْطَانِ ، كَالْقَاضِي الأَْكْبَرِ ، فَلاَ تُعْتَبَرُ تَوْلِيَتُهُ لِقَاضٍ مُقَلِّدٍ ضَرُورَةً . وَيَحْرُمُ عَلَى السُّلْطَانِ تَوْلِيَةُ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِ . ثُمَّ لَوْ زَالَتِ الشَّوْكَةُ انْعَزَل الْقَاضِي بِزَوَالِهَا .
__________
(1) - المغني 9 / 41 ، 52 ، وتبصرة الحكام 1 / 46 ، وروضة الطالبين 11 / 94 ، 97 ، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي وعميرة 4 / 297 .(2/109)
الثَّانِي : أَنْ لاَ يُوجَدَ مُجْتَهِدٌ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ ، فَإِنْ وُجِدَ مُجْتَهِدٌ صَالِحٌ لِلْقَضَاءِ لَمْ يَجُزْ تَوْلِيَةُ الْمُقَلِّدِ ، وَلَمْ تَنْفُذْ تَوْلِيَتُهُ . وَعَلَى قَاضِي الضَّرُورَةِ أَنْ يُرَاجِعَ الْعُلَمَاءَ ، وَهَذَا مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ ، وَعَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَذْكُرَ مُسْتَنَدَهُ فِي أَحْكَامِهِ(1).
المبحث الثالث عشر
مَا يَفْعَلُهُ الْمُقَلِّدُ إِذَا تَغَيَّرَ الاِجْتِهَادُ(2):
__________
(1) - الفتاوى الفقهية الكبرى - (ج 10 / ص 77) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 82) و(ج 8 / ص 356) وحاشية رد المحتار - (ج 5 / ص 505) وروضة الطالبين وعمدة المفتين - (ج 4 / ص 122) وأسنى المطالب - (ج 22 / ص 87) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 42 / ص 467) ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج - (ج 28 / ص 77) والمسودة - الرقمية - (ج 1 / ص 540)
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 13 / ص 166)(2/110)
إِذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ بَعْدَ أَنْ فَعَل الْمُقَلِّدُ طِبْقًا لِمَا أَفْتَاهُ بِهِ ، لَمْ يَلْزَمِ الْمُقَلِّدَ مُتَابَعَةُ الْمُقَلَّدِ فِي اجْتِهَادِهِ الثَّانِي بِالنِّسْبَةِ لِتَصَرُّفٍ أَمْضَاهُ ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِلاَ وَلِيٍّ - مَثَلاً - مُقَلِّدًا لِمُجْتَهِدٍ يَرَى صِحَّةَ النِّكَاحِ بِلاَ وَلِيٍّ ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ إِلَى الْبُطْلاَنِ ، وَهَذَا كَمَا لَوْ حَكَمَ لَهُ حَاكِمٌ بِذَلِكَ ، إِذْ لاَ يُنْقَضُ الاِجْتِهَادُ بِمِثْلِهِ . وَلاَ يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ إِذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ أَنْ يُعْلِمَ مَن قَلَّدَهُ بِذَلِكَ . وَهَذَا إِنْ كَانَ الاِجْتِهَادُ مُعْتَبَرًا ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ يَقِينًا ، بِأَنْ كَانَ مُخَالِفًا لِنَصٍّ صَحِيحٍ سَالِمٍ مِنَ الْمُعَارَضَةِ ، أَوْ مُخَالِفًا لِلإِْجْمَاعِ ، أَوْ لِقِيَاسٍ جَلِيٍّ ، فَيُنْقَضُ . وَقِيل بِالتَّفْرِيقِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ ، فَفِي النِّكَاحِ يُنْقَضُ وَفِي غَيْرِهِ لاَ يُنْقَضُ . أَمَّا قَبْل أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمُقَلِّدُ بِنَاءً عَلَى الْفُتْيَا ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى ذَلِكَ التَّصَرُّفِ بَعْدَ تَغَيُّرِ الاِجْتِهَادِ إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْفُتْيَا مُسْتَنَدَهُ الْوَحِيدَ(1).
المبحث الرابع عشر
التَّقْلِيدُ فِي اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ وَمَوَاقِيتِ الصَّلاَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ(2):
__________
(1) - مطالب أولي النهى 6 / 536 ، وإعلام الموقعين 4 / 223 ، وروضة الطالبين 11 / 107 ، وجمع الجوامع 2 / 361 ، 391 .
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 13 / ص 167)(2/111)
مَن أَمْكَنَهُ مَعْرِفَةُ جِهَةِ الْقِبْلَةِ بِرُؤْيَةٍ أَوْ نَحْوِهَا دُونَ حَرَجٍ يَلْحَقُهُ حَرُمَ عَلَيْهِ الأَْخْذُ بِالْخَبَرِ عَنهَا ، وَحَرُمَ عَلَيْهِ الاِجْتِهَادُ وَالتَّقْلِيدُ فِي ذَلِكَ . وَإِلاَّ يُمْكِنْهُ الْعِلْمُ أَخَذَ بِخَبَرِ ثِقَةٍ يُخْبِرُ عَن عِلْمٍ ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ حَرُمَ عَلَيْهِ الاِجْتِهَادُ وَالتَّقْلِيدُ ، وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ وَلاَ يُقَلِّدَ ، وَمَن عَجَزَ عَنِ الاِجْتِهَادِ فِي الأَْدِلَّةِ يُقَلِّدُ ثِقَةً عَارِفًا بِأَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ . فَلَوْ صَلَّى مِن غَيْرِ تَقْلِيدٍ مُعْتَبَرٍ وَقَدْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُقَلِّدَ لَزِمَتْهُ الإِْعَادَةُ وَلَوْ صَادَفَتْ صَلاَتُهُ الْقِبْلَةَ . أَمَّا مَا صَلَّى بِالاِجْتِهَادِ أَوِ التَّقْلِيدِ وَصَادَفَ الْقِبْلَةَ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنِ الْحَال فَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ(1).
وَقَرِيبٌ مِن ذَلِكَ الْقَوْل فِي التَّقْلِيدِ فِي مَوَاقِيتِ الصَّلاَةِ(2)( ر : أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ ) .
أَمَّا تَقْلِيدُ أَهْل الْخِبْرَةِ مِنِ الْمُنَجِّمِينَ وَالْحَاسِبِينَ إِذَا اجْتَهَدُوا فِي دُخُول شَهْرِ رَمَضَانَ مَثَلاً بِالنَّظَرِ فِي الْحِسَابِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الصَّوْمُ وَلاَ الْفِطْرُ بِقَوْلِهِمْ تَقْلِيدًا لَهُمْ وَلاَ يَجُوزُ .
وَقَال الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ : يَجُوزُ لِلْمُنَجِّمِ وَالْحَاسِبِ أَنْ يَعْمَلاَ بِمَعْرِفَتِهِمَا بَل يَجِبُ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ ، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ تَقْلِيدُهُمَا . وَقَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : إِنَّ لِغَيْرِهِ الْعَمَل بِهِ(3).
__________
(1) - نهاية المحتاج 1 / 419ـ 428 ، وكشاف القناع 1 / 307 .
(2) - المغني 1 / 387 ، ونهاية المحتاج 1 / 362 ، وكشاف القناع 1 / 259 .
(3) - روضة الطالبين 2 / 347 ، ونهاية المحتاج 1 / 363 .(2/112)
وَلَكِنْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ التَّقْلِيدُ مِنَ الصَّائِمِ فِي الْفَجْرِ وَالْغُرُوبِ وَلَوْ مِن قَادِرٍ عَلَى الاِجْتِهَادِ . وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ بِكَثْرَةِ الْخَطَأِ فِيهَا(1).وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
- - - - - - - - - - - - - -
المبحث الخامس عشر
أسبابُ تقليد المذاهب الأربعة
قال ولي الله الدهلوي رحمه الله(2):
مما يناسبُ هذا المقام التنبيه على مسائل ضلت في بواديها الأفهامُ ،وزلت الأقدام ،÷وطغت الأقلام منها :
(1)- أنَّ هذه المذاهب الأربعة المدونة قد اجتمعتِ الأمةُ أو من يعتدُّ به منها على جواز تقليدها إلى بومنا هذا .
__________
(1) - الدسوقي على الشرح 1 / 526 .
(2) - حجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 98) فما بعدها إذ هو فصل من فصول كتابه النفيس هذا(2/113)
وفي ذلك من المصالح ما لا يخفى لا سيما في هذه الأيام التي قصرت فيها الهمم ،وأشربتِ النفوسُ الهوى، وأعجبَ كلُّ ذي رأي برأيه، فما ذهب إليه ابن حزم حيث قال(1): التقليدُ حرامٌ ولا يحلُّ لأحدٍ أن يأخذَ قولَ أحدٍ غيرَ قولِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا برهانِ لقوله تعالى {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (3) سورة الأعراف ، وقوله تعالى :{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (170) سورة البقرة ،وقال مادحاً من لم يقلد: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (18) سورة الزمر ، وقال الله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء، فلم يبحِ اللهُ تعالى الردَّ عند التنازعِ إلى أحدٍ دون القرآنِ والسُّنَّة ،وحرَّم بذلك الردَّ عند التنازعِ إلى قولِ قائلٍ لأنهُ غيرُ القرآنِ والسُّنَّة، وقد صحَّ إجماعُ الصحابةِ كلِّهم أولِّهم عن آخرِهم وإجماعُ التابعين أولِّهم عن آخرهِم وإجماعُ تابعي التابعينَ إلى آخرهِم على الامتناعِ والمنعِ منْ أنْ يقصدَ منهم أحدٌ إلى قول إنسانٍ منهم أو ممنْ قبلهم فيأخذَهُ كلَّه ، فليعلمْ مَن أخذَ جميعَ أقوالِ أبي حنيفةَ أو جميعَ أقوالِ مالكَ أو جميعَ أقوال الشافعيِّ أو
__________
(1) - الأحكام لابن حزم - (ج 2 / ص 234)(2/114)
جميعَ أقوالِ أحمدَ رضيَ اللهُ عنهم ،ولم يتركْ قولَ من اتبع منهم أو من غيرهِم إلى قول غيرهِ، ولم يعتمدْ على ما جاءَ في القرآنِ والسُّنَّة غيرَ صارفٍ ذلكَ إلى قولِ إنسانٍ بعينهِ أنهُ قد خالفَ إجماع َالأمةٍ كلِّها منْ أولها إلى آخرِها بيقينٍ لا إشكالَ فيهِ، ولا يجدُ لنفسهِ سلفاً ولا إنساناً في جميع الأعصارِ المحمودةِ الثلاثةِ، فقد اتبعَ غيرَ سبيلِ المؤمنينِ ،فنعوذُ باللهِ منْ هذهِ المنزلةِ، وأيضاً فإنَّ هؤلاءِ الفقهاءَ كلَّهُم قدْ نهوا عنْ تقليدِ غيرهِم ،وقدْ خالفهُم مَن قلَّدهم، وأيضاً فما الذي جعلَ رجلاً منْ هؤلاءِ أو من غيرهِم أولى أنْ يقلَّد منْ عمرَ بن الخطابِ أو عليَّ بن أبي طالبٍ أو ابنِ مسعود أو ابنِ عمر َأو ابنِ عباسٍ أو عائشةَ أمِّ المؤمنين رضيَ اللهُ تعالى عنهُم، فلو ساغَ التقليدُ لكانَ كلُّ واحدٍ منْ هؤلاءِ أحقَّ بأنْ يتبعَ منْ غيرهِ انتهى .
إنما يتِمُّ(1)فيمنْ لهُ ضربٌ منَ الاجتهادِ ولو في مسألة واحدةٍ ، وفيمنْ ظهرَ عليه ظهوراً بيناً أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ بكذا ونهَى عنْ كذا، وأنهُ ليسَ بمنسوخٍ، إمَّا بأنْ يتتبعَ الأحاديثَ وأقوالَ المخالفِ والموافقِ في المسألةِ، فلا يجدُ له نسخاً، أو بأنْ يرَى جمعاً غفيراً منَ المتبحرينَ في العلمِ يذهبونَ إليهِ ويرَى المخالفَ لهُ لا يحتجُّ إلا بقياسٍ أو استنباطٍ أو نحوِ ذلكَ، فحينئذٍ لا سببَ لمخالفةِ حديثِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلا نفاقٌ خفيٌّ أو حمقٌ جليٌّ .
__________
(1) - يعني يصح ذلك لمن ملك آلة الاجتهاد أو كان قادرا على معرفة الأدلة الشرعية من مصادرها الأصلية، وإلا كان تكليفاً بما لا يطاق ، فلا يمكن أن يكون كلُّ الناس مجتهدين ، ولا أطباء ، ولا مهندسين ، وذلك لأن الله تعالى شاء أن يكونوا مختلفين في طاقاتهم وقدراتهم العقلية والمادية ، فكيف نوجب على الجميع الاجتهاد ونحرِّم عليهم التقليد ؟!!(2/115)
وهذا الذي أشارَ إليه الشيخُ عز الدينِ بنُ عبد السلام حيثُ قالَ(1):" وَمِن الْعَجَبِ الْعَجِيبِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ الْمُقَلِّدِينَ يَقِفُ أَحَدُهُمْ عَلَى ضَعْفِ مَأْخَذِ إمَامِهِ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ لِضَعْفِهِ مَدْفَعًا وَمَعَ هَذَا يُقَلِّدُهُ فِيهِ ، وَيَتْرُكُ مِن الْكِتَابِ والسُّنَّة وَالْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ لِمَذْهَبِهِ جُمُودًا عَلَى تَقْلِيدِ إمَامِهِ ، بَلْ يَتَحَلَّلُ لِدَفْعِ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ والسُّنَّة ، وَيَتَأَوَّلُهُمَا بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ الْبَاطِلَةِ نِضَالًا عَن مُقَلِّدِهِ ، وَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَجَالِسِ فَإِذَا ذُكِرَ لِأَحَدِهِمْ فِي خِلَافٍ مَا وَظَنَّ نَفْسَهُ عَلَيْهِ تَعَجَّبَ غَايَةَ التَّعَجُّبِ مِن اسْتِرْوَاحٍ إلَى دَلِيلٍ بَلْ لِمَا أَلِفَه مِن تَقْلِيدِ إمَامِهِ حَتَّى ظَنَّ أَنَّ الْحَقَّ مُنْحَصِرٌ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ أَوْلَى مِن تَعَجُّبِهِ مِن مَذْهَبِ غَيْرِهِ ، فَالْبَحْثُ مَعَ هَؤُلَاءِ ضَائِعٌ مُفْضٍ إلَى التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ مِن غَيْرِ فَائِدَةٍ يُجْدِيهَا ، وَمَا رَأَيْت أَحَدًا رَجَعَ عَن مَذْهَبِ إمَامِهِ إذَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ فِي غَيْرِهِ بَلْ يَصِيرُ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِضَعْفِهِ وَبُعْدِهِ ، فَالْأَوْلَى تَرْكُ الْبَحْثِ مَعَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إذَا عَجَزَ أَحَدُهُمْ عَن تَمْشِيَةِ مَذْهَبِ إمَامِهِ قَالَ : لَعَلَّ إمَامِي وَقَفَ عَلَى دَلِيلٍ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ وَلَمْ أَهْتَدِ إلَيْهِ ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْمِسْكِينُ أَنَّ هَذَا مُقَابَلٌ بِمِثْلِهِ وَيَفْضُلُ لِخَصْمِهِ مَا ذَكَرَهُ مِن الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ وَالْبُرْهَانِ اللَّائِحِ ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ مَن أَعْمَى
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 1 / ص 2) وقواعد الأحكام في مصالح الأنام - (ج 2 / ص 277)(2/116)
التَّقْلِيدُ بَصَرَهُ حَتَّى حَمَلَهُ عَلَى مِثْلِ مَا ذُكِرَ ، وَفَّقَنَا اللَّهُ لِاتِّبَاعِ الْحَقِّ أَيْنَ مَا كَانَ وَعَلَى لِسَانِ مَن ظَهَرَ ، وَأَيْنَ هَذَا مِن مُنَاظَرَةِ السَّلَفِ وَمُشَاوَرَتِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ وَمُسَارَعَتِهِمْ إلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ إذَا ظَهَرَ عَلَى لِسَانِ الْخَصْمِ ، وَقَدْ نُقِلَ عَن الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : مَا نَاظَرْت أَحَدًا إلَّا قُلْت اللَّهُمَّ أَجْرِ الْحَقَّ عَلَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مَعِي اتَّبَعَنِي وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مَعَهُ اتَّبَعْته ".
وقالَ الإمام أبو شامةَ: ينبغي لمنِ اشتغلَ بالفقهِ أنْ لا يقتصرَ على مذهبِ إمامٍ ويعتقدُ في كلِّ مسألةٍ صحةَ ما كانَ أقربَ إلى الكتابِ والسُّنَّة المحكَمةِ، وذلك سهلٌ عليهِ إذا كانَ أتقنَ العلومَ المتقدمةَ، وليجتنبِ التعصبَ والنظرَ في طرائقِ الخلافِ المتأخرةِ ،فإنها مضيعةٌ للزمانِ ولصفوهِ مكدرةً، فقد صحَّ عنِ الشافعيِّ أنه نهَى عنْ تقليدهِ وتقليدِ غيرهِ .(1)
وقال صاحبه المزني في أول مختصره :" اخْتَصَرَتْ هَذَا مِن عِلْمِ الشَّافِعِيِّ ، وَمِن مَعْنَى قَوْلِهِ ، لِأُقَرِّبَهُ عَلَى مَن أَرَادَهُ ، مَعَ إعْلَامِيَّةِ نَهْيِهِ عَن تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ ،لِيَنْظُرَ فِيهِ لِدِينِهِ وَيَحْتَاطُ فِيهِ لِنَفْسِهِ "(2).
__________
(1) - مختصر المؤمل في الرد إلى الأمر الأول- (ج 1 / ص 47)
(2) - إيقاظ همم أولي الأبصار - (ج 1 / ص 112) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 5 / ص 297) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 305) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 197) الشاملة 2 و مجلة المنار - (ج 14 / ص 510)(2/117)
وفيمنْ يكونُ عاميًّا ويقلِّدُ رجلاً منَ الفقهاءِ بعينهِ يرَى أنْ يمتنعَ منْ مثلهِ الخطأُ ،وأنَّ ما قالهُ هو الصوابُ البتةُ، وأضمرَ في قلبهِ ألا يتركَ تقليدَه وإنْ ظهرَ الدليلُ على خلافهِ، وذلك ما رواهُ الترمذيُّ(1)عنْ عدي بن حاتم أنه قال : سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِى سُورَةِ بَرَاءَةَ يعني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - :{اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (31) سورة التوبة ، قَالَ : « أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ»
وفيمنْ لا يجوزُ أنْ يستفتيَ الحنفيُّ مثلاً فقيهاً شافعيًّا وبالعكسِ، ولا يجوزُ أنْ يقتديَ الحنفيُّ بإمامٍ شافعيٍّ مثلاً، فإنَّ هذا قدْ خالفَ إجماعَ القرونِ الأولى، وناقضَ الصحابةَ والتابعينَ.
وليس محلُّه فيمنْ لا يدينُ إلا بقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،ولا يعتقدُ حلالاً إلا ما أحلَّهُ اللهُ ورسولهُ، ولا حراماً إلا ما حرَّمَهُ اللهُ ورسولهُ .
__________
(1) - برقم ( 3378 ) ومصنف ابن أبي شيبة برقم( 34930) ومصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل - (ج 13 / ص 245) برقم(34930 ) وتفسير ابن أبي حاتم برقم (10291 و10292 ) والسنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 10 / ص 116) برقم(20847) وهو صحيح لغيره
وانظر مجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 98) ومجموع الفتاوى - (ج 20 / ص 216) ومجموع الفتاوى - (ج 20 / ص 289)(2/118)
لكنْ لمَّا لم يكنْ لهُ علمٌ بما قالهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،ولا بطريقِ الجمعِ بينَ المختلفاتِ من كلامِه ولا بطريقِ الاستنباطِ منْ كلامِه اتَّبعَ عالماً راشداً على أنهُ مصيبٌ فيما يقولُ ويُفتي ظاهراً متبعَ سنَّةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنْ خالفَ ما يظنُّه أقلعَ منْ ساعتِه منْ غيرِ جدالٍ ولا إصرارٍ، فهذا كيفَ ينكرهُ أحدٌ ؟!
مع أنَّ الاستفتاءَ والإفتاءَ لم يزلْ بينَ المسلمينَ منْ عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
ولا فرقَ بينَ أنْ يستفتيَ هذا دائماً أو أنْ يستفتيَ هذا حيناً، وذلك حيناً، بعدَ أنْ يكونَ مجمعاً على ما ذكرناهُ، كيف لا ولمْ نؤمنْ بفقيهٍ أيًّا كانَ أنهُ أوحَى اللهُ إليهِ الفقهِ، وفرضَ علينا طاعتَهُ وأنهُ معصومٌ، فإنِ اقتدينا بواحدٍ منهم فذلكَ لعلمِنا بأنهُ عالمٌ بكتابِ اللهِ وسنَّة ِرسولهِ ( - صلى الله عليه وسلم - )، فلا يخلو قولُه إمَّا أنْ يكونَ منْ صريحِ الكتابِ والسُّنَّة أو مستنبطاً منهُما بنحوٍ منِ الاستنباطِ، أو عرفَ بالقرائنَ أنَّ الحكمَ في صورةٍ ما منوطٌ بعلَّةِ كذا ،واطمأنَّ قلبُه بتلكَ المعرفةِ فقاسَ غيرَ المنصوصِ على المنصوصِ، فكأنهُ يقولُ: ظننتُ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ كلَّما وجدتَ هذهِ العلَّةَ فالحكمُ ثمَّةَ هكذا ، والمقيسُ مندرجٌ في هذا العمومِ، فهذا أيضا معزيٌّ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ولكنْ في طريقهِ ظنونٌ، ولولا ذلك ما قلَّدَ مؤمنٌ مجتهداً، فإنْ بلغَنا حديثاً منْ رسولِ اللِه المعصومِ - صلى الله عليه وسلم - الذي فُرضَ علينا طاعتُه بسندٍ صالحٍ يدلُّ على خلافِ مذهبهِ، وتركنا حديثَهُ واتبعنا ذلكَ التخمينَ فمنْ أظلمُ منَّا ؟!!
وما عذرُنا يومَ يقومُ الناسُ لربِّ العالمينَ؟!
(2)- ومنها أنَّ تتبعَ الكتابُ والآثارُ لمعرفةِ الأحكامِ الشرعيةِ على مراتبَ:(2/119)
أعلاها أنْ يحصلَ له منْ معرفةِ الأحكام ِ بالفعلِ أو بالقوةِ القريبةِ منَ الفعلِ ما يتمكنُ بهِ منْ جوابِ المستفتينَ في الوقائعَ غالباً، بحيثُ يكونُ جوابهُ أكثرَ مما يتوقفُ فيهِ وتخصُّ باسمِ الاجتهادِ .
وهذا الاستعدادُ يحصلُ تارةً بالإمعانِ في جمعِ الرواياتِ وتتبعِ الشاذةِ والفاذَّةِ(1)منها كما أشارَ إليهِ أحمدُ بنُ حنبلٍ معَ ما لا ينفكُّ منهُ العاقلُ العارفُ باللغةِ منْ معرفةِ مواقعِ الكلامِ وصاحبَ العلمَ بآثارِ السلف منْ طريقِ الجمعِ بينَ المختلفاتِ، وترتيب ِالاستدلالاتِ ونحو ذلك .
وتارةً بإحكامِ طرقِ التخريجِ على مذهبِ شيخٍ منْ مشايخِ الفقهِ مع معرفةِ جملةٍ صالحةٍ منَ السُّننِ والآثارِ بحيثُ يعلمُ أنَّ قولهُ لا يخالفُ الإجماعَ، وهذه طريقةُ أصحابِ التخريجِ .
__________
(1) - الفَاذَّةُ " أَي المُنْفَرِدَة في مَعنَاهَا وكَلِمَةٌ فَذَّةٌ تاج العروس - (ج 1 / ص 2413) وفي لسان العرب - (ج 3 / ص 502): الفَاذَّة أَي المنفردة في معناها والفذُّ الواحد وقد فذ الرجل عن أَصحابه إِذا شذَّ عنهم وبقي فرداً(2/120)
وأوسطُها منْ كلتا الطريقتينِ أنْ يحصلَ له منْ معرفةِ القرآنِ والسُّننِ ما يتمكَّنُ بهِ منْ معرفةِ رؤوسِ مسائلِ الفقهِ المجمعِ عليها بأدلتِها التفصيليةِ، ويحصلُ له غايةَ العلمِ ببعضِ المسائل الاجتهاديةِ منْ أدلتِها ،وترجيحِ بعضِ الأقوال على بعضٍ، ونقدِ التخريجاتِ ومعرفةِ الجيدِ منَ الزيفِ، وإنْ لم يتكاملْ لهُ الأدواتُ كما يتكاملُ للمجتهدِ المطلَقِ فيجوزُ لمثلهِ أنْ يلفِّقَ منَ المذهبينِ إذا عرفَ دليلَهُما،وعلِمَ أنَّ قولَهُ مما لا ينفذُ فيهِ اجتهادُ المجتهدِ، ولا يقبلُ فيه قضاءُ القاضي ،ولا يجري فيه فتوَى المفتينَ أنْ يتركَ بعضَ التخريجاتِ التي سبق الناسُ إليها إذا عرفَ عدمَ صحَّتِها ، ولهذا لم يزلِ العلماءُ ممنْ لا يدَّعي الاجتهادَ المطلقَ يصنِّفونَ ويرتبونَ ويخرِّجونَ ويرجِّحونَ، وإذا كانَ الاجتهادُ يتجزأُ عندَ الجمهورِ والتخريجُ يتجزأُ، وإنما المقصودُ تحصيلُ الظنِّ وعليهِ مدارُ التكليفِ، فما الذي يستبعدُ منْ ذلك َ ؟.
وأمَّا دونَ ذلك منَ الناسِ فمذهبُه فيما يردُ عليه كثيراً ما أخذَهُ عنْ أصحابِه وآبائهِ وأهلِ بلدهِ منَ المذاهبِ المتبعةِ، وفي الوقائعَ النادرةٍ فتاوَى مفتيةٌ، وفي القضايا ما يحكُمُ القاضي .(2/121)
وعلى هذا وجدنا محققي العلماءِ منْ كلِّ مذهبٍ قديماً وحديثاً، وهو الذي وصَّى به أئمةُ المذاهبِ أصحابَهُم، وفي اليواقيتِ والجواهرِ أنهُ روي عن أبي حنيفةَ رضيَ اللهُ عنهُ أنهُ كانَ يقولُ(1): لا ينبغي لمنْ لم يعرفْ دليلي أنْ يفتيَ بكلامي، وكانَ رضيَ اللهُ عنه إذا أفتَى يقولُ: هذا رأيُ النعمانَ بنِ ثابتٍ يعني نفسَه وهو أحسنُ ما قدرِنا عليهِ فمن جاء بأحسن منه فهو أولى بالصوابِ(2).
وكانَ الإمامُ مالكٌ رضيَ اللهُ عنهُ يقولُ: ما منْ أحدٍ إلا وهوَ مأخوذٌ منْ كلامهِ ومردودٌ عليهِ إلا رسول اللهُ - صلى الله عليه وسلم - (3).
__________
(1) - الجامع الصغير - (ج 1 / ص 7) و فتاوى يسألونك - (ج 1 / ص 171) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 4646)
(2) - التقليد والإفتاء والاستفتاء - (ج 1 / ص 21) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 4 / ص 28) وفقه العبادات - حنفي - (ج 1 / ص 9) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 96) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 24)
(3) - قلت : لم أعثر عليه بهذا اللفظ في مصدر من مصادر المالكية ، وهو موجود في تفسير ابن كثير - (ج 1 / ص 54) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 66 / ص 6) وفتاوى يسألونك - (ج 2 / ص 207) وفتاوى الشيخ ابن جبرين - (ج 63 / ص 253) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 1 / ص 223) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 3 / ص 52) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 846) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 2263) وفتاوى نور على الدرب - (ج 1 / ص 25) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 4 / ص 93) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 6 / ص 234) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 13 / ص 52) وسير أعلام النبلاء - (ج 8 / ص 93) وسير أعلام النبلاء - (ج 10 / ص 73) وسير أعلام النبلاء - (ج 3 / ص 372)(2/122)
وروى الحاكمُ والبيهقيُّ عنِ الشافعيِّ رضي اللهُ عنهُ أنهُ كانَ يقولُ: إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي(1)، وفي روايةٍ : إذا رأيتُمْ كلامي يخالفُ الحديثَ فاعملوا بالحديثِ واضربوا بكلامي الحائطَ(2)، وقال يوماً للمزني: يا أبا إبراهيمُ لا تقلدني في كلِّ ما أقولُ وانظرْ في ذلكَ لنفسكَ
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 175) وفتاوى الرملي - (ج 6 / ص 277) والفتاوى الفقهية الكبرى - (ج 3 / ص 340) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 3) وفتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 2 / ص 3630) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 5 / ص 170) و (ج 5 / ص 202) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4443) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 35) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 1 / ص 220) وحاشية رد المحتار - (ج 1 / ص 72) وفتح القدير - (ج 12 / ص 166) ورد المحتار - (ج 1 / ص 166) ومواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل - (ج 3 / ص 204) والذخيرة في الفقه المالكي للقرافي - (ج 1 / ص 128) والمجموع - (ج 1 / ص 92) وشرح البهجة الوردية - (ج 5 / ص 156) وحاشيتا قليوبي - وعميرة - (ج 13 / ص 406) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 1 / ص 219) ومغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج - (ج 1 / ص 49) ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج - (ج 1 / ص 127) وكتاب الإبهاج في شرح المنهاج - (ج 2 / ص 468) والتقليد والإفتاء والاستفتاء - (ج 1 / ص 5) وسير أعلام النبلاء - (ج 10 / ص 35) والموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 12 / ص 266) وقد شرح التقي السبكي، المتوفي سنة 756هـ قول الإمام الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي، في رسالة نشرت ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 3/98-114، فراجعها لزاماً ، وسيمر الكلام عليها ببحث معنون (إذا صح الحديث فهو مذهبي)
(2) - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - (ج 2 / ص 21802) وعقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد- (ج 1 / ص 27)(2/123)
فإنهُ دينٌ(1)، وكانَ رضي اللهُ عنه يقولُ:"لا حجةَ في قولِ أحدٍ دونَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (2)وإنْ كثُروا"
وقال الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِىُّ قَالَ قَدْ رُوِىَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِأَبِى هُوَ وَأُمِّى : أَنَّهُ قَضَى فِى بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ وَنُكِحَتْ بِغَيْرِ مَهْرٍ فَمَاتَ زَوْجُهَا فَقَضَى لَهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا وَقَضَى لَهَا بِالْمِيرَاثِ(3). فَإِنْ كَانَ يَثْبُتُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَهُوَ أَوْلَى الأُمُورِ بِنَا وَلاَ حُجَّةَ فِى قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنْ كَثُرُوا وَلاَ فِى قِيَاسٍ وَلاَ شَىْءَ فِى قَوْلِهِ إِلاَّ طَاعَةُ اللَّهِ بِالتَّسْلِيمِ لَهُ وَإِنْ كَانَ لاَ يَثْبُتُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ لأَحَدٍ أَنْ يُثْبِتَ عَنْهُ مَا لَمْ يَثْبُتْ وَلَمْ أَحْفَظْهُ بَعْدُ مِنْ وَجْهٍ يَثْبُتُ مِثْلُهُ. هُوَ مَرَّةً يُقَالُ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَمَرَّةً عَنْ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ وَمَرَّةً عَنْ بَعْضِ أَشْجَعَ لاَ يُسَمَّى : فَإِذَا مَاتَ أَوْ مَاتَتْ فَلاَ مَهْرَ لَهَا وَلاَ مُتْعَةَ."(4)
__________
(1) - المصدر السابق
(2) - ذكر ه ابن حزم من قوله في المحلى في سبعة عشر موضعا انظر مثلا : - (ج 1 / ص 477) و (ج 2 / ص 742) و (ج 3 / ص 492) و (ج 4 / ص 688) و (ج 5 / ص 635)
(3) - سنن أبى داود(2116 ) والحديث قد صح
(4) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 7 / ص 244)(14796) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 428) وهو صحيح(2/124)
وكان الإمامُ أحمدُ رضي الله عنه يقولُ: ليسَ لأحدٍ معَ اللهِ ورسولهِ كلامٌ،(1)وقال أيضاً لرجلٍ(2):" لَا تُقَلِّدْنِي وَلَا تُقَلِّدْ مَالِكًا وَلَا الثَّوْرِيَّ وَلَا الْأَوْزَاعِيَّ , وَخُذْ مِن حَيْثُ أَخَذُوا ."- يعني - منَ الكتابِ والسُّنَّة(3)،لا ينبغي لأحدٍ أنْ يفتيَ إلا أنْ يعرفَ أقاويلَ العلماءِ في الفتاوَى الشرعيةِ ويعرفَ مذهَبهم، فإنْ سئلَ عنْ مسألةٍ يعلمُ أنَّ العلماءَ الذين يتخذُ مذهبَهم قدِ اتفقوا عليها فلا بأسَ بأنْ يقول َ :هذا جائزٌ وهذا لا يجوزُ، ويكون قولهُ على سبيلِ الحكايةِ ،وانْ كانتْ مسألةٌ قدِ اختلفوا فيها فلا بأسَ بأنْ يقولَ هذا جائز ٌفي قولِ فلانٍ وفي قولِ فلانٍ لا يجوزُ، وليس له أنْ يختارَ فيجيبَ بقولِ بعضهِم ما لم يعرفْ حجَّتَه .
وعن أبي يوسفَ وزفرَ وغيرهِما رحمهُم اللهُ أنهم قالوا(4): لا يحلُّ لأحدٍ أنْ يفتيَ بقولنا ما لم يعلمْ منْ أينَ قلنا .
__________
(1) - عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد- (ج 1 / ص 32)
(2) - الفتاوى الكبرى - (ج 7 / ص 212) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 1 / ص 224) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 3) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4679) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 5 / ص 297) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 5 / ص 317) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 306) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 197)
(3) - قلت : هذا الكلام يقال للمجتهد فقط، وليس للعامي
(4) - البحر الرائق شرح كنز الدقائق - (ج 13 / ص 300) و (ج 17 / ص 360و362) وتيسير التحرير - (ج 4 / ص 363) وفواتح الرحموت - (ج 2 / ص 364)(2/125)
قيلَ لعصامَ بنِ يوسفَ رحمَه اللهُ إنكَ تكثرُ الخلافَ لأبي حنيفةَ رحمَه اللهُ، قالَ: لأنَّ أبا حنيفةَ رحمَه اللهُ أوتيَ منَ الفهمِ لِما لمْ نؤتَ فأدركَ بفهمِه ما لم ندركْ، ولا يسعُنا أنْ نفتيَ بقولِه ما لمْ نفهمْ".
وعن محمدِ بنِ الحسنِ أنهُ سئلَ متَى يحلُّ للرجلِ أنْ يفتيَ؟ قالَ: إنْ كانَ منْ أهل ِالاجتهادِ فلا يسعُه ،قيلَ : كيفَ يكونُ منْ أهلِ الاجتهادِ؟ قالَ : أنْ يعرفَ وجوهَ المسائلِ ويناظرَ أقرانَه إذا خالفوهُ، قيلَ أدنى الشروط للاجتهاد حفظُ المبسوطِ(1).
وفي البحر الرائقِ(2)"قَالَ الْإِمَامُ أَبُو اللَّيْثِ فِي نَوَازِلِهِ سُئِلَ أَبُو نَصْرٍ عَن مَسْأَلَةٍ وَرَدَتْ عَلَيْهِ مَا تَقُلْ رَحِمَك اللَّهُ وَقَعَتْ عِنْدَك كُتُبٌ أَرْبَعَةٌ كِتَابُ إبْرَاهِيمَ بْنِ رُسْتُمَ وَأَدَبِ الْقَاضِي عَن الْخَصَّافِ وَكِتَابُ الْمُجَرَّدِ وَكِتَابُ النَّوَادِرِ مِن جِهَةِ هِشَامٍ فَهَلْ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُفْتِيَ مِنهَا أَوْ لَا وَهَذِهِ الْكُتُبُ مَحْمُودَةٌ عِنْدَك فَقَالَ مَا صَحَّ عَن أَصْحَابِنَا فَذَلِكَ عِلْمٌ مَحْبُوبٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ مَرَضِيٌّ بِهِ .
وَأَمَّا الْفُتْيَا ، فَإِنِّي لَا أَرَى لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ بِشَيْءٍ لَا يَفْهَمُهُ وَلَا يَتَحَمَّلُ أَثْقَالَ النَّاسِ ، فَإِنْ كَانَتْ مَسَائِلَ قَدْ اُشْتُهِرَتْ وَظَهَرَتْ وَانْجَلَتْ عَن أَصْحَابِنَا رَجَوْت أَنْ يَسَعَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا فِي النَّوَازِلِ ".
__________
(1) - انظر تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق - (ج 12 / ص 57)
(2) - البحر الرائق شرح كنز الدقائق - (ج 1 / ص 286)(2/126)
وفيه أيضاً(1):لَوْ احْتَجَمَ أَوْ اغْتَابَ فَظَنَّ أَنَّهُ يُفَطِّرُهُ ثُمَّ أَكَلَ إنْ لَمْ يَسْتَفْتِ فَقِيهًا وَلَا بَلَغَهُ الْخَبَرُ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ جَهْلٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِعُذْرٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ إذَا كَانَ يَعْتَمِدُ عَلَى فَتْوَاهُ فَكَانَ مَعْذُورًا فِيمَا صَنَعَ وَإِنْ كَانَ الْمُفْتِي مُخْطِئًا فِيمَا أَفْتَى وَإِنْ لَمْ يَسْتَفْتِ وَلَكِنْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ :{ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - { الْغِيبَةُ تُفْطِرُ الصَّائِمَ } وَلَمْ يَعْرِفْ النَّسْخَ وَلَا تَأْوِيلَهُ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَاجِبُ الْعَمَلِ بِهِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِّيِّ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنسُوخِ وَلَوْ لَمَسَ امْرَأَةً أَوْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ اكْتَحَلَ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفَطِّرُهُ ثُمَّ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا اسْتَفْتَى فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ بِالْفِطْرِ أَوْ بَلَغَهُ خَبَرٌ فِيهِ وَلَوْ نَوَى الصَّوْمَ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ أَفْطَرَ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا كَذَا فِي الْمُحِيطِ وَقَدْ عُلِمَ مِن هَذَا أَنَّ مَذْهَبَ الْعَامِّيِّ فَتْوَى مُفْتِيهِ مِن غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمَذْهَبٍ وَلِهَذَا قَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ فَتْوَى مُفْتِيهِ .
__________
(1) - البحر الرائق شرح كنز الدقائق - (ج 6 / ص 271)(2/127)
وفيه أيضاً في بابِ قضاءِ الفوائت(1): إِنْ كَانَ عَامِّيًّا لَيْسَ لَهُ مَذْهَبٌ مُعَيَّنٌ فَمَذْهَبُهُ فَتْوَى مُفْتِيهِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَإِنْ أَفْتَاهُ حَنَفِيٌّ أَعَادَ الْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ، وَإِنْ أَفْتَاهُ شَافِعِيٌّ فَلَا يُعِيدُهُمَا وَلَا عِبْرَةَ بِرَأْيِهِ ،وَإِنْ لَمْ يَسْتَفْتِ أَحَدًا وَصَادَفَ الصِّحَّةَ عَلَى مَذْهَبٍ مُجْتَهِدٍ أَجْزَأَهُ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ .
__________
(1) - البحر الرائق شرح كنز الدقائق - (ج 4 / ص 387)(2/128)
قال ابن الصلاح(1): " من وجد من الشافعية حديثا يخالف مذهبه نظر وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ: إنْ كَانَ فِيهِ آلَاتُ الِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا ، أَوْ فِي ذَلِكَ الْبَابِ ، أَوْ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ ، كَانَ لَهُ الِاسْتِقْلَالُ بِالْعَمَلِ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ ، وَإِنْ لَمْ تَكْتَمِلُ آلَتُهُ ، وَوَجَدَ فِي قَلْبِهِ حَزَازَةً مِن الْحَدِيثِ ، وَلَمْ يَجِدْ لَهُ مُعَارِضًا بَعْدَ الْبَحْثِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ إمَامٌ مُسْتَقِلٌّ فَلَهُ التَّمَذْهُبُ بِهِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي تَرْكِ قَوْلِ إمَامِهِ ، وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ إنَّمَا يَكُونُ هَذَا لِمَن لَهُ رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَذْهَبِ ، أَوْ قَرِيبٌ مِنهُ ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ ، أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَقِفْ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ صِحَّتَهُ ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مُطَالَعَةِ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ كُلِّهَا ، وَنَحْوِهَا مِن كُتُبِ أَصْحَابِ الْآخِذِينَ عَنهُ ، وَهَذَا شَرْطٌ صَعْبٌ ، قَلَّ مَن يَتَّصِفُ بِهِ .
__________
(1) - المدخل إلى مذهب الإمام أحمد - الرقمية - (ج 1 / ص 63) والمسودة - الرقمية - (ج 1 / ص 536) وفتاوى ابن الصلاح - (ج 1 / ص 25) والمجموع - (ج 1 / ص 64) والبحر المحيط - (ج 8 / ص 222)(2/129)
وَقَالَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ : إنْ كَانَتْ لَهُ قُوَّةٌ لِلِاسْتِنْبَاطِ ، لِمَعْرِفَتِهِ بِالْقَوَاعِدِ ، وَكَيْفِيَّةِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِن الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِالْمَنقُولِ ، بِحَيْثُ عَرَفَ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ مِن إجْمَاعٍ أَوْ اخْتِلَافٍ ، وَجَمَعَ الْأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا ، وَالْأَدِلَّةَ ، وَرُجْحَانَ الْعَمَلِ بِبَعْضِهَا ، فَهَذَا هُوَ الْمُجْتَهِدُ فِي الْجُزْئِيِّ ، وَالْمُتَّجَهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمَا قَامَ عِنْدَهُ عَلَى الدَّلِيلِ ، وَلَا يُسَوَّغُ لَهُ التَّقْلِيدُ" .
(3) كثير من مسائل الخلاف بين الفقهاء ترجع للخلاف بين الصحابة:(2/130)
قال : ومنها أنَّ أكثر صورِ الخلاف بين الفقهاءِ لا سيما في المسائل التي ظهرَ فيها أقوالُ الصحابةِ في الجانبينِ - كتكبيرات التشريقِ(1)وتكبيراتِ العيدينِ(2)ونكاحِ المحرم(3)وتشهدِ ابن عباسِ(4)وابن مسعودِ(5)والإخفاءِ بالبسملة(6)
__________
(1) - الفتاوى الهندية - (ج 3 / ص 185) و الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 10 / ص 270)
(2) - انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 8083) و الفتاوى الهندية - (ج 4 / ص 124) والفتاوى الهندية - (ج 4 / ص 357) والموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 31 / ص 114) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 2 / ص 269)
(3) - موطأ مالك - (ج 2 / ص 430) برقم(5 ) وصحيح البخاري برقم (5114 ) وصحيح مسلم برقم(3512) وسنن النسائى برقم(3284 و3288 ) وشرح معاني الآثار - (ج 3 / ص 349) بَابُ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ ومشكل الآثار للطحاوي - (ج 12 / ص 499) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 9 / ص 71)
(4) - مجموع الفتاوى - (ج 22 / ص 286) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 5 / ص 166) والفتاوى الكبرى - (ج 2 / ص 258) وفتاوى يسألونك - (ج 7 / ص 16) صفة التشهد في الصلاة وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 6087)
(5) - شرح معاني الآثار - (ج 1 / ص 456) ومشكل الآثار للطحاوي - (ج 8 / ص 294) ومجموع الفتاوى - (ج 22 / ص 69) و (ج 22 / ص 285) و (ج 22 / ص 480) (ج 27 / ص 398) والفتاوى الهندية - (ج 3 / ص 67) وفتاوى يسألونك - (ج 7 / ص 16-24) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1086) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 3831) و (ج 2 / ص 4179)
(6) - صحيح ابن حبان - (ج 5 / ص 100) برقم(1797و 1798) مجموع الفتاوى - (ج 13 / ص 354) ومجموع الفتاوى - (ج 20 / ص 198) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 8 / ص 415) والمنتقى من فتاوى الفوزان - (ج 80 / ص 4) وفتاوى الشيخ ابن جبرين - (ج 10 / ص 3) و مجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 11 / ص 71) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 5 / ص 373) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 2348) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 2 / ص 26)(2/131)
ِوبآمينَ(1)والإشفاعِ والإيتار في الإقامة(2)ونحو ذلك- إنما هو في ترجيحِ أحدِ القولينِ .
__________
(1) - سنن ابن ماجه برقم(900 ) وصحيح ابن حبان - (ج 5 / ص 111) برقم( 1806 ) وصحيح ابن خزيمة برقم(546 ) وهو صحيح، والأوسط لابن المنذر - (ج 4 / ص 280) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 8 / ص 473) وفتاوى الأزهر - (ج 8 / ص 462)
(2) - مجموع الفتاوى - (ج 22 / ص 70) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 10 / ص 249) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 3108)(2/132)
وكانَ السلفُ لا يختلفونَ في أصلِ المشروعيةِ، وإنما كانَ خلافهُم في أولى الأمرينِ، ونظيرهُ اختلافُ القراءِ في وجوهِ القراءاتِ(1)وقد عللوا كثيراً منْ هذا البابِ بأنَّ الصحابةَ مختلفونُ وأنهمُ جميعاً على الهدَى(2)،ولذلك لم يزلِ العلماءُ يجوِّزون فتاوَى المفتينَ في المسائلِ الاجتهاديةِ ويسلِّمون قضاءَ القضاةِ ، ويعملونَ في بعض الأحيانِ بخلافِ مذهبهِم ولا ترَى أئمةَ المذاهبِ في هذهِ المواضعَ إَّلا وهم يصحِّحونَ القولَ ويبينونَ الخلافَ يقولُ أحدهُم: هذا أحوطُ(3)وهذا هو المختارُ(4)
__________
(1) - مشكل الآثار للطحاوي - (ج 11 / ص 45) وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر برقم(967 ) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 3396) و(ج 9 / ص 733)
(2) - ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين - (ج 1 / ص 100) برقم(80 ) ومجموع الفتاوى - (ج 13 / ص 343) والفتاوى الهندية - (ج 24 / ص 355) وفتاوى يسألونك - (ج 6 / ص 294) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 4560) و (ج 3 / ص 794) و(ج 4 / ص 6507) و(ج 6 / ص 5258) و (ج 8 / ص 3859) و (ج 10 / ص 2178)
(3) - انظر الفتاوى الهندية - (ج 3 / ص 468) و (ج 50 / ص 176) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 50 / ص 11) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 10 / ص 268) و فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 5423) و(ج 6 / ص 4799) وفتاوى الشيخ ابن جبرين - (ج 48 / ص 13) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 4 / ص 386) وشرح النيل وشفاء العليل - إباضية - (ج 6 / ص 329) وحلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء - (ج 2 / ص 83) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 6 / ص 56) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 34 / ص 255)
(4) - انظر على سبيل المثال : فتاوى الأزهر - (ج 5 / ص 486) والفتاوى الهندية - (ج 11 / ص 152) و (ج 16 / ص 84) وتنقيح الفتاوى الحامدية - (ج 7 / ص 291) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 6 / ص 387) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1329) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 1097) وفتاوى إسلامية - (ج 1 / ص 474) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 5 / ص 10) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 9 / ص 221) وطرح التثريب - (ج 2 / ص 144) والفقه على المذاهب الأربعة - (ج 1 / ص 595) و (ج 2 / ص 52) والفقه الإسلامي وأصوله - (ج 2 / ص 151) والأحكام للآمدي - (ج 1 / ص 256) و (ج 2 / ص 26) و (ج 3 / ص 21) و (ج 3 / ص 202) والأحكام للآمدي - (ج 4 / ص 76) والمحصول - (ج 2 / ص 151) والمنخول - (ج 1 / ص 124) والمستصفى - (ج 2 / ص 181) وقواعد الأحكام في مصالح الأنام - (ج 1 / ص 306) وقواعد الأحكام في مصالح الأنام - (ج 2 / ص 323) وكشف الأسرار - (ج 3 / ص 358) والبحر المحيط - (ج 3 / ص 173) و (ج 4 / ص 340) و (ج 7 / ص 233) والتقرير والتحبير - (ج 2 / ص 379) و(ج 3 / ص 75) وشرح الكوكب المنير - (ج 1 / ص 145) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 3 / ص 215) وإرشاد الفحول الي تحقيق الحق من علم الأصول - (ج 2 / ص 60) وقواطع الأدلة فى الأصول / للسمعانى - (ج 1 / ص 235) وفواتح الرحموت - (ج 1 / ص 307) والبرهان في أصول الفقه - الرقمية - (ج 1 / ص 75)(2/133)
وهذا أحبُّ إليَّ(1)، ويقولُ : ما بلغنا إلا ذلكَ، وهذا كثير ٌفي المبسوطِ وآثار محمدٍ رحمه الله وكلامِ الشافعيِّ رحمهُ اللهُ .ثمَّ خلَفَ منْ بعدهِم خلفٌ اختصروا كلامَ القومِ فتأوَّلوا الخلافَ، وثبتوا على مختارِ أئمتهِم ،والذي يروَى عنِ السلفِ منَ تأكيدِ الأخذِ بمذهبِ أصحابهِم ،وألا يخرجَ عنها بحالٍ، فإنَّ ذلكَ إمَّا لأمرٍ جبليٍّ فإنَّ كلَّ إنسانٍ يحبُّ ما هو مختارُ أصحابهِ وقومهِ حتَى في الزيِّ والمطاعمِ، أو لصولةٍ ناشئةٍ منْ ملاحظةِ الدليلِ ،أو لنحو ذلكَ منَ الأسبابِ فظنَّهُ البعضُ تعصباً دينيًّا حاشاهُم منْ ذلكَ .
__________
(1) - انظر : فتاوى الأزهر - (ج 7 / ص 368) و (ج 10 / ص 106) و (ج 10 / ص 287) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 4366) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 4349) و (ج 10 / ص 3367) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 420) والتشريع الجنائي في الإسلام - (ج 4 / ص 52) والروضة الندية - (ج 2 / ص 70) ومشكل الآثار - (ج 3 / ص 439) والتقرير والتحبير - (ج 3 / ص 340) وتيسير التحرير - (ج 2 / ص 331)(2/134)
وقد كانَ في الصحابةِ والتابعينَ ومنْ بعدهُم منْ يقرأُ البسملةَ، ومنهُم منْ لا يقرؤها(1)،ومنهم من يجهرُ بها ومنهم منْ لا يجهر ُبها ،وكان منهم مَن يقنتُ في الفجرِ ومنهم منْ لا يقنتُ في الفجرِ(2)،
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى - (ج 22 / ص 279) و (ج 23 / ص 374) وفتاوى يسألونك - (ج 4 / ص 26) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 2348) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 5790) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 7 / ص 37) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 2 / ص 22) والفقه الإسلامي وأصوله - (ج 1 / ص 418) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 8 / ص 65) وحاشية البجيرمي على الخطيب - (ج 4 / ص 219) والفروع لابن مفلح - (ج 2 / ص 121)
(2) - سنن الترمذى برقم(403 ) ومصنف عبد الرزاق مشكل - (ج 2 / ص 453) برقم(4946-4980) و مصنف ابن أبي شيبة(ج 2 / ص 306)591- مَنْ كَانَ لاَ يَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ..وتهذيب الآثار للطبري - (ج 6 / ص 67) برقم(2579-2747 ) وشرح معاني الآثار - (ج 1 / ص 414-426) وفتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 5) و مجموع الفتاوى - (ج 7 / ص 572) و(ج 22 / ص 267) و (ج 22 / ص 372) و(ج 23 / ص 374)(2/135)
ومنهم منْ يتوضأُ منَ الحجامةِ والرعافِ والقيءِ ومنهم منْ لا يتوضأُ من ذلكَ(1)، ومنهم منْ يتوضأُ من مسِّ الذكَرِ ومسِّ النساءِ بشهوة ٍومنهم منْ لا يتوضأُ منْ ذلك(2)، ومنهم منْ يتوضأُ مما مستْهُ النارُ ومنهم منْ لا يتوضأُ منْ ذلكَ(3)، ومنهم منْ يتوضأُ منْ أكلِ لحمِ الإبلِ(4)ومنهم منْ لا يتوضأُ منْ ذلكَ .
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 23 / ص 375) وفتاوى يسألونك - (ج 4 / ص 26) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 4133)
(2) - مجموع الفتاوى - (ج 20 / ص 524) و(ج 23 / ص 375) وفتاوى يسألونك - (ج 6 / ص 298) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 4133) و (ج 8 / ص 5790) ومجموع رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية - (ج 44 / ص 10) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 41)
(3) - فتاوى يسألونك - (ج 6 / ص 298) و من أصول الفقه على منهج أهل الحديث الرقمية - (ج 1 / ص 54) وحجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 101)
(4) - مجموع الفتاوى - (ج 23 / ص 375) وفتاوى يسألونك - (ج 4 / ص 27) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 4133) و (ج 8 / ص 5790)(2/136)
وَمَعَ هَذَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُصَلِّي خَلْفَ بَعْضٍ(1): مِثْلَ مَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ يُصَلُّونَ خَلْفَ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِن الْمَالِكِيَّةِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَقْرَءُونَ الْبَسْمَلَةَ لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا وَصَلَّى أَبُو يُوسُفَ خَلْفَ الرَّشِيدِ وَقَدْ احْتَجَمَ وَأَفْتَاهُ مَالِكٌ بِأَنَّهُ لَا يَتَوَضَّأُ فَصَلَّى خَلْفَهُ أَبُو يُوسُفَ وَلَمْ يُعِدْ . وَكَانَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ يَرَى الْوُضُوءَ مِن الْحِجَامَةِ وَالرُّعَافِ فَقِيلَ لَهُ : فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ خَرَجَ مِنهُ الدَّمُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ . تُصَلِّي خَلْفَهُ ؟ فَقَالَ : كَيْفَ لَا أُصَلِّي خَلْفَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٍ(2).
ورويَ أنَّ أبا يوسف ومحمد كانا يكبرانِ في العيدين تكبيرَ ابن عباسٍ لأنَّ هارونَ الرشيدَ كانَ يحبُّ تكبيرَ جدِّه(3).
وصلَّى الشافعيُّ رحمهُ اللهُ الصبحَ قريباً من~ مقبرةِ أبي حنيفة َرحمهُ اللهُ فلمْ يقنتْ تأدباً معهُ وقال أيضاً: رُبما انحدرنا إلى مذهبِ أهلِ العراقِ(4).
وقال مالكٌ رحمه الله للمنصورِ وهارونِ الرشيدِ ما ذكرنا عنهُ سابقاُ .
__________
(1) - الفتاوى الكبرى - (ج 3 / ص 62) وفتاوى يسألونك - (ج 4 / ص 27) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 4133) و (ج 8 / ص 5790) وحجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 101)
(2) - مجموع الفتاوى - (ج 23 / ص 375) و حجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 101)
(3) - يسألونك فتاوى - (ج 2 / ص 122) و (ج 3 / ص 362) وحجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 101)
(4) - يسألونك فتاوى - (ج 2 / ص 122) وحجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 101)(2/137)
وفي البزازيةِ عن الإمامِ الثاني وهو أبو يوسفَ رحمهُ اللهُ أنه صلَّى يومَ الجمعةِ مغتسلاً منَ الحمامِ وصلَّى بالناسِ وتفرَّقوا ،ثمَّ أُخبرَ بوجودِ فأرةٍ ميتةٍ في بئرِ الحمامِ فقالَ : إذاً نأخذُ بقولِ إخواننا منْ أهلِ المدينةِ إذا بلغَ الماءُ قلَّتينِ لمْ يحملْ خبثاً(1).
وسئل الإمام الخجنديُّ رحمه الله عن رجلٍ شافعيِّ المذهبِ تركَ صلاةً سنةً أو سنتينِ ثم انتقلَ إلى مذهب أبي حنيفةَ رحمه اللهُ كيفُ يجبُ عليه القضاءُ أيقضيها على مذهبِ الشافعيِّ أو على مذهبِ أبي حنيفةَ؟ فقال : على أيِّ المذهبينِ قضَى بعد أنْ يعتقدَ جوازَها جازَ . انتهى(2)
__________
(1) - فتاوى يسألونك - (ج 6 / ص 298) و حجة الله البالغة 1/295-296 . وشرح معاني الآثار - (ج 1 / ص 2) فما بعدها والفتاوى الفقهية الكبرى - (ج 1 / ص 34) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 47) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 93) ورسم المفتي في حاشية ابن عابدين: 70/1 . وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق - (ج 1 / ص 142) وفتح القدير - (ج 1 / ص 128) ورد المحتار - (ج 1 / ص 189) وكتاب الإبهاج في شرح المنهاج - (ج 2 / ص 47) والإحكام في أصول الأحكام - (ج 2 / ص 147) والتقرير والتحبير - (ج 6 / ص 238) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 6 / ص 43) وفواتح الرحموت - (ج 1 / ص 274) والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد الرقمية - (ج 1 / ص 54) والإحكام في أصول الأحكام للآمدي - (ج 2 / ص 94) وحجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 69) و(ج 1 / ص 101) قلت : والحديث صحيح
(2) - فتاوى يسألونك - (ج 4 / ص 27) و (ج 2 / ص 122) وحجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 101)(2/138)
وفي جامع الفتاوَى أنهُ إنْ قالَ حنفيٌّ إنْ تزوجتُ فلانةً فهيَ طالقٌ ثلاثاً، ثم استفتَى شافعيًّا فأجابَ أنها لا تطلقُ ويمينهُ باطلٌ فلا بأسَ باقتدائهِ بالشافعيِّ في هذه المسألةَ، لأنَّ كثيراً من الصحابةِ في جانبهِ(1).
قال محمدٌ رحمة في أماليه: لو أنَّ فقيهاً قال لامرأتهِ أنتِ طالقٌ البتةَ وهو ممنْ يراها ثلاثاً ثمَّ قضَى عليه قاضٍ بأنها رجعيةٌ وسِعهُ المقامُ معها، وكذا كلُّ فصلٍ مما يختلفُ فيهُ الفقهاءُ منْ تحريمٍ أو تحليلٍ أو إعتاقٍ أو أخذِ مالٍ أو غيرهِ ينبغي للفقيهِ المقضيِّ عليهِ الأخذَ بقضاءِ القاضي ويدعُ رأيهَ ويلزِمُ نفسَه ما ألزمَ القاضي ويأخذُ ما أعطاهُ(2).
قال محمدٌ رحمهُ اللهُ: وكذلكَ رجلٌ لا علمَ له ابتليَ ببليةٍ فسألَ عنها الفقهاءَ فأفتوهُ فيها بحلالِ أو بحرامٍ وقضَى عليه قاضي المسلمينَ بخلافِ ذلكَ وهيَ مما يختلفُ فيه الفقهاءُ فينبغي له أنْ يأخذَ بقضاءِ القاضي ويدعَ ما أفتاهُ الفقهاءُ .(3)انتهى
وقد أطنبنا الكلامَ في هذا المقامِ غايةَ الإطنابِ واللهُ وحدهُ أعلمُ بالصوابِ"(4)
- - - - - - - - - - - - - -
المبحث السادس عشر
__________
(1) - فتاوى يسألونك - (ج 4 / ص 28) و (ج 2 / ص 122) وحجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 101)
(2) - حجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 101) و الفتاوى الهندية - (ج 24 / ص 324) وفتاوى يسألونك - (ج 4 / ص 28) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 89)
(3) - حجة الله البالغة للدهلوي - (ج 1 / ص 101)
(4) - قلت : وكلامه الآنف الذكر نفيس ، ينبغي أن يكتب بماء الذهب(2/139)
هل يجوز الانتقال من مذهب إلى مذهب ؟(1)
( سُئِلَ ) العلامة ابن حجر الهيتمي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَلْ يَجِبُ بَعْدَ تَدْوِينِ الْمَذَاهِبِ الْتِزَامُ أَحَدِهَا وَهَلْ لَهُ الِانْتِقَالُ عَمَّا الْتَزَمَهُ(2)؟
( فَأَجَابَ ) بِقَوْلِهِ الَّذِي نَقَلَهُ(3)فِي زِيَادَاتِ الرَّوْضَةِ عَن الْأَصْحَابِ وُجُوبُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي ،وَلَا بِمَا وَجَدَ عَلَيْهِ أَبَاهُ ،بَلْ يَخْتَارُ مَا يَعْتَقِدُهُ أَرْجَحَ أَوْ مُسَاوِيًا إنْ اعْتَقَدَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ وَإِلَّا فَهُوَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَن أَقْوَمِ الْمَذَاهِبِ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَن الْأَعْلَمِ، ثُمَّ قَالَ : وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّمَذْهُبُ بِمَذْهَبٍ بَلْ يَسْتَفْتِي مَن شَاءَ أَوْ مَن اتَّفَقَ لَكِنْ مِن غَيْرِ تَلَقُّطِ الرُّخَصِ فَلَعَلَّ مَن مَنَعَهُ لَمْ يَثِقْ بِعَدَمِ تَلَقُّطِهِ"
__________
(1) -انظر فتاوى الأزهر - (ج 1 / ص 57) و (ج 7 / ص 173) و (ج 7 / ص 174) والحاوي للفتاوي للسيوطي - (ج 1 / ص 437) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 86-92) والسيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار - الرقمية - (ج 1 / ص 19) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 4 / ص 471) وشرح التلويح على التوضيح - (ج 1 / ص 231) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 6 / ص 40) وإرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول - (ج 2 / ص 138) والتقليد والإفتاء والاستفتاء - (ج 1 / ص 37) وغاية الوصول في شرح لب الأصول - (ج 1 / ص 173)
(2) - الفتاوى الفقهية الكبرى - (ج 10 / ص 112-116)
(3) - يعني به الإمام النووي(2/140)
وَظَاهِرُهُ جَوَازُ الِانْتِقَالِ وَإِنْ اعْتَقَدَ الثَّانِي مَرْجُوحًا وَجَوَازُ تَقْلِيدِ إمَامٍ فِي مَسْأَلَةٍ وَآخَرَ فِي أُخْرَى ،وَهَكَذَا مِن غَيْرِ الْتِزَامِ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ أَفْتَى بِهِ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالشَّرَفُ الْبَارِزِيُّ وَفِي الْخَادِمِ عَن ابْنِ أَبِي الدَّمِ فِي بَابِ الْقُدْوَةِ مَا يُؤَيِّدُهُ وَإِنْ كَانَ مَرْدُودًا مِن جِهَةٍ أُخْرَى كَمَا يُعْرَفُ بِتَأَمُّلِهِ وَعِبَارَةُ الْغَزَالِيِّ فِي فَتَاوِيهِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْتَحِلَ مَذْهَبَ إمَامٍ رَأْسًا إلَّا إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ أَوْلَى الْأَئِمَّةِ بِالصَّوَابِ وَيَحْصُلُ لَهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ ،إمَّا بِالتَّسَامُعِ مِن الْأَفْوَاهِ أَوْ بِكَوْنِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ تَابِعِينَ لِذَلِكَ الْإِمَامِ فَصَارَ قَوْلُ الْعَامِّيِّ أَنَا شَافِعِيٌّ أَنَا حَنَفِيٌّ لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ لَا يَتْبَعُ إمَامًا عَن غَلَبَةِ الظَّنِّ ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُقَلِّدَ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ مَن حَضَرَ عِنْدَهُ مِن الْعُلَمَاءِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ ثُمَّ اشْتِرَاطُ عَدَمِ تَتَبُّعِ الرُّخَصِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَتَبِعَهُ الْمُحَقِّقُ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ مِن الْحَنَفِيَّةِ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَهَلْ يَفْسُقُ بِالتَّتَبُّعِ وَجْهَانِ أَوْجَهُهُمَا أَنَّهُ لَا يَفْسُقُ كَمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ النَّوَوِيِّ فِي فَتَاوِيهِ ،وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ إنَّ ابْنَ حَزْمٍ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى الْفِسْقِ مَحْمُولٌ عَلَى مُتَتَبِّعِهَا مِن غَيْرِ تَقْلِيدٍ وَإِلَّا فَقَدْ أَفْتَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِجَوَازِهِ ،وَقَالَ : إنَّ إنْكَارَهُ جَهْلٌ، وَهَلْ الْمُرَادُ بِالرُّخَصِ هُنَا الْأُمُورُ السَّهْلَةُ أَوْ الَّتِي يَنْطَبِقُ عَلَيْهَا ضَابِطُ الرُّخْصَةِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ(2/141)
مَحَلُّ نَظَرٍ وَلَمْ أَرَ مَن نَبَّهَ عَلَيْهِ وَمُقْتَضَى تَعْبِيرِ أَصْلِ الرَّوْضَةِ بِالْأَهْوَنِ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ ،ثُمَّ شَرْطُ الِانْتِقَالِ أَنْ لَا يَعْمَلَ بِمَذْهَبٍ فِي وَاقِعَةٍ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى تَقْلِيدِ إمَامٍ آخَرَ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ وَهُوَ يَرَى فِيهَا خِلَافَ مَا يُرِيدُ الْعَمَلَ بِهِ وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مِمَّا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَأَلْحَقَ بِمَا يُنْقَضُ مَا خَالَفَ ظَاهِرَ النَّصِّ بِحَيْثُ يَكُونُ التَّأْوِيلُ مُسْتَكْرَهًا وَزَادَ شَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ كَمَا فِي الْخَادِمِ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا تَجْتَمِعَ صُورَةٌ يَقَعُ الْإِجْمَاعُ عَلَى بُطْلَانِهَا كَمَا إذَا افْتَصَدَ وَمَسَّ الذَّكَرَ وَصَلَّى .(2/142)
الثَّانِي انْشِرَاحُ صَدْرِهِ لِلتَّقْلِيدِ وَعَدَمُ اعْتِقَادِهِ لِكَوْنِهِ مُتَلَاعِبًا بِالدِّينِ لِحَدِيثِ : { الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِك }(1)قَالَ: بَلْ أَقُولُ إنَّ هَذَا شَرْطُ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ، وَهُوَ أَنْ لَا يُقْدِمَ إنْسَانٌ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ مُخَالِفًا لِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ الْقَرَافِيُّ وَمَثَّلَهُ بِمَن قَلَّدَ مَالِكًا فِي عَدَمِ النَّقْضِ بِاللَّمْسِ بِلَا شَهْوَةٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَلَّدَ مَالِكًا فِي تِلْكَ الطَّهَارَةِ الَّتِي مَسَّ فِيهَا وَيَمْسَحُ جَمِيعَ رَأْسِهِ وَإِلَّا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ الْإِمَامَيْنِ وَنَقَلَهُ عَنهُ الْإِسْنَوِيُّ وَأَقَرَّهُ وَذَكَرَ مِن فُرُوعِهِ مَا لَوْ نَكَحَ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ فَإِنَّهُ يُحَدُّ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ لِاتِّفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ عَلَى بُطْلَانِ النِّكَاحِ وَأَمَّا الثَّالِثُ كَاَلَّذِي وَافَقَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فَنُظِرَ فِيهِمَا بِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَسْتَقِلُّ بِذَلِكَ وَلَا وُثُوقَ بِمَا فِي ظَنِّهِ وَبِأَنَّهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى وُجُوبِ الْبَحْثِ وَالْعَمَلِ بِمَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ وَيَمِيلُ قَلْبُهُ إلَيْه،ِ وَالْمُعْتَمَدُ خِلَافُهُ نَعَمْ إنْ عَلِمَ ذَلِكَ مِمَن لَهُ أَهْلِيَّةٌ فَيُمْكِنُ الْقَوْلُ بِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَيُؤَيِّدُهُ إيجَابُهُمْ الْحَدَّ عَلَى مَن وَطِئَ أَمَةً بِإِذْنِ مَالِكِهَا ،وَإِنْ قَلَّدَ عَطَاءً وَطَاوُسًا فِي إبَاحَةِ ذَلِكَ ،وَأَمَّا مَا زَادَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فَبَعِيدٌ جِدًّا كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إذْ مَا مِن مَذْهَبٍ إلَّا وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ
__________
(1) - المستدرك مع تعليقات الذهبي برقم(2172 ) وهو صحيح(2/143)
وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِن الْمَشَقَّةِ الْمُنَافِيَةِ لِلرُّخَصِ لِلْعَوَامِّ فِي تَقْلِيدِ مَن شَاءُوا وَمَا ذَكَرَهُ مِن التَّلَاعُبِ بِالدِّينِ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مَعَ فِعْلِ مَا خُيِّرَ فِيهِ شَرْعًا وَكَذَا دَعْوَاهُ اعْتِقَاد الْمُخَالِفَةِ إذْ مَن قَلَّدَ الشَّافِعِيَّ وَاعْتَقَدَ أَرْجَحِيَّتَهُ يَرَى جَوَازَ تَقْلِيدِ الْحَنَفِيِّ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ التَّخْيِيرِ وَعَدَمِ لُزُومِ التَّقْيِيدِ بِالرَّاجِحِ وَهُوَ الْأَصَحُّ ،فَمَتَى قَلَّدَهُ لَا يُقَالُ إنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ مُخَالِفًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ مَا يَعْتَقِدُ مُوَافَقَتُهُ لَهُ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الأَنْصَارِىِّ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ فَقَالَ « الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِى نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ »(1).
__________
(1) - مسلم برقم(6681)(2/144)
فَلَا دَلِيلَ فِيهِ وَمَعْنَى حَاكَ تَرَدَّدَ حَتَّى حَصَلَ فِي الْقَلْبِ شَكٌّ وَخَوْفُ كَوْنِهِ ذَنْبًا أَوْ رَسَخَ فِيهِ وَاسْتَقَرَّ كَوْنُهُ ذَنْبًا أَوْ خَرَجَ جَوَابًا لِفَطِنٍ حَاذِقِ الْفَهْمِ دُونَ ضَعِيفِ الْإِدْرَاكِ ، وَعَلَى كُلٍّ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ وَشَرَطَ ابْنُ السُّبْكِيّ تَبَعًا لِلْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ أَنْ لَا يَعْمَلَ بِقَوْلِ إمَامِهِ فِي وَاقِعَةٍ قَالَا فَمَتَى عَمِلَ بِهِ فِي وَاقِعَةٍ فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنهُ اتِّفَاقًا كَذَا نَقَلَ عَنهُمَا غَيْرُ وَاحِدٍ لَكِنْ فِي تَمْهِيدِ الْإِسْنَوِيِّ عَن ابْنِ الْحَاجِبِ إثْبَاتُ الْخِلَافِ وَلَكِنَّهُ فَرَضَهُ فِيمَن الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا وَكَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ دَالٌّ عَلَيْهِ لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ حِكَايَةُ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْمَنعِ فِيمَن لَمْ يَلْتَزِمْ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا وَإِثْبَاتُ خِلَافٍ فِي الْمُلْتَزِمِ وَمَا أَبْعَدَهُ إذْ الْعَكْسُ أَوْلَى لِأَنَّ الْتِزَامَهُ مُلْزِمٌ لَهُ كَمَا لَوْ الْتَزَمَ مَذْهَبَهُ فِي حُكْمِ حَادِثَةٍ مُعَيَّنَةٍ عَلَى أَنَّ السُّبْكِيّ فِي فَتَاوِيهِ مَنَعَ دَعْوَى الِاتِّفَاقِ حَيْثُ قَالَ مَا حَاصِلُهُ(1): السَّابِعَةُ أَنْ يَعْمَلَ بِتَقْلِيدِهِ الْأَوَّلِ كَالْحَنَفِيِّ يَدَّعِي شُفْعَةَ الْجِوَارِ فَيَأْخُذُهَا بِمَذْهَبِهِ ثُمَّ تُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَيُرِيدُ تَقْلِيدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنهُ فَيُمْنَعُ لِأَنَّهُ مُخْطِئٌ إمَّا أَوَّلًا أَوْ ثَانِيًا وَهُوَ شَخْصٌ وَاحِدٌ مُكَلَّفٌ أَيْ وَالْقَضِيَّةُ وَاحِدَةٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى هَذَا الْحَنَفِيُّ عَقَارًا آخَرَ فَإِنَّ لَهُ تَقْلِيدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنهُ فِي
__________
(1) - فتاوى السبكي - (ج 1 / ص 291) والبحر المحيط - (ج 8 / ص 267)(2/145)
امْتِنَاعِ شُفْعَةِ الْجِوَارِ قَالَ وَقَوْلُ الْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ يَجُوزُ قَبْلَ الْعَمَلِ لَا بَعْدَهُ بِالِاتِّفَاقِ .
دَعْوَى الِاتِّفَاقِ فِيهَا نَظَرٌ وَفِي كَلَامِ غَيْرِهِمَا مَا يُشْعِرُ بِإِثْبَاتِ خِلَافٍ بَعْدَ الْعَمَلِ أَيْضًا وَكَيْفَ يَمْتَنِعُ إذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ وَلَكِنْ وَجْهُ مَا قَالَاهُ أَنَّهُ بِالْتِزَامِهِ مَذْهَبَ إمَامٍ يُكَلَّفُ بِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ غَيْرُهُ ،وَالْعَامِّيُّ لَا يَظْهَرُ لَهُ الْغَيْرُ وَلَا بَأْسَ بِهِ لَكِنْ أَرَى تَنْزِيلَهُ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرْتهَا ثُمَّ اسْتَشْهَدَ لِمَا اخْتَارَهُ بِمَا فِيهِ طُولٌ ،وَيَجُوزُ الِانْتِقَالُ مُطْلَقًا أَفْتَى الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ النَّوَوِيِّ وَقَدْ صَرَّحَ فِي مَجْمُوعِهِ بِأَنَّ مَا شَمِلَهُ إطْلَاقُ الْأَصْحَابِ فِي حُكْمِ الْمَنقُولِ فَلَا يُعْتَدُّ بِمُخَالَفَةِ بَعْضِهِمْ لَهُ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْإِسْنَوِيُّ وَالْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ وَالْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ وَيُؤَيِّدُ مَا مَرَّ مِن الْإِطْلَاقِ مَا فِي الْخَادِمِ عَن الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ مِن أَنَّهُ هَمَّ بِالتَّحَرُّمِ فَذَرَقَ عَلَيْهِ طَيْرٌ فَقَالَ أَنَا حَنْبَلِيُّ وَأَحْرَمَ ،وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ يَتَجَنَّبُ ذَرْقَ الطُّيُورِ لِنَجَاسَتِهِ عِنْدَهُ،وَفِي الْمَجْمُوعِ يُسَنُّ لِمَن نَسِيَ النِّيَّةَ فِي رَمَضَانَ أَنْ يَنْوِيَ أَوَّلَ النَّهَارِ لِإِجْزَائِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيُحْتَاطُ بِالنِّيَّةِ فَنِيَّتُهُ حِينَئِذٍ تَقْلِيدٌ لَهُ وَإِلَّا كَانَ مُتَلَبِّسًا بِعِبَادَةٍ فَاسِدَةٍ فِي اعْتِقَادِهِ وَذَلِكَ حَرَامٌ(1).
__________
(1) - تحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 13 / ص 249)(2/146)
قلتُ : فلو انتقل الشخص من مذهبه إلى مذهب آخر في مسألة قوي دليل مذهب غيره فيها فلا حرج عليه إن شاء الله تعالى، قال ابن تيمية في الفتاوى:" وَأَمَّا إنْ كَانَ انْتِقَالُهُ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ لِأَمْرِ دِينِيٍّ مِثْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ رُجْحَانَ قَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ فَيَرْجِعَ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ : فَهُوَ مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ "(1).
وذكر صاحب الفواكه الدواني المالكي نقلا عن الزناتي جوازه حيث قال ما نصه: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَذَاهِبِ فِي النَّوَازِلِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : الْأَوَّلُ : أَنْ لَا يُجْمَعَ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ عَلَى صِفَةٍ تُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ كَمَنْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ وَلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ فَإِنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لَمْ يَقُلْ بِهَا أَحَدٌ .
الثَّانِي : مِنْ شُرُوطِ التَّقْلِيدِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ الْفَضْلَ وَلَوْ بِوُصُولِ خَبَرٍ إلَيْهِ وَلَا يُقَلِّدُهُ زَمَنًا فِي عَمَائِهِ .
الثَّالِثُ : مِنْ شُرُوطِ التَّقْلِيدِ أَنْ لَا يَتَّبِعَ رُخَصَ الْمَذَاهِبِ اهـ(2)
- - - - - - - - - - - - -
المبحث السابع عشر
هل يجوز الخروج عن المذهب لمذهب إمام أخر ؟(3)
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 20 / ص 223)
(2) - الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني - (ج 1 / ص 86) و فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 3687) رقم الفتوى 54529 شروط جواز التحول من مذهب فقهي إلى غيره
(3) - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - (ج 2 / ص 15862)(2/147)
من التزم بمذهب إمام بعينه فالأصح أنه لا يلزمه ، لأن التزامه به غير ملزم ، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ، ولم يوجب الله سبحانه وتعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده في دينه في كل ما يأتي ويذر دون غيره . وإذا التزم بمذهب معين فله الانتقال عنه كلية إلى مذهب آخر ، وله أن ينتقل منه في بعض الأحكام في آحاد المسائل .
أما أهل الاجتهاد المقيد ، فيجب عليهم تقليد أهل الاجتهاد المطلق في أصول مذاهبهم فقط ، دون الفروع .
وأهل الاجتهاد المطلق لا يجوز لهم تقليد غيرهم مطلقاً ، وإنما الواجب عليهم العمل باجتهادهم(1).
وقد نقل الثقات عن عدد عظيم من العلماء أنهم تحولوا من المذاهب التي كانوا يقلدونها إلى غيرها . كما نقلوا عن غيرهم أنهم ما كانوا يلتزمون مذهبا معينا فيما يؤلفون من الكتب الفقهية وفي إفتاء العامة ، وهؤلاء كانوا خلقا كثيرا في عصور مختلفة ، ولم ينكر عليهم أحد تحولهم أو عدم التزامهم بمذهب معين . ثم ما زال عوام كل عصر يقلد أحدهم هذا المذهب في مسألة والآخر في أخرى والثالث في ثالثة ، وكذلك إلى ما لا يحصى ، ولم ينقل إنكار ذلك عليهم ، ولم يؤمروا بتحري الأعلم والأفضل في نظرهم .
- - - - - - - - - - - - - -
المبحث الثامن عشر
هَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الْتِزَامُ تَقْلِيدِ مُعَيَّنٍ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ ؟
__________
(1) - فتح القدير: 5 /456. الشعراني: 1 /14-38. الغزالي: المنخول ص 476. فتاوى عليش: 1 /51. التقرير والتحبير: 3 /350.(2/148)
قال الزركشي رحمه الله(1): "فِيهِ وَجْهَانِ قَالَ إلْكِيَا : يَلْزَمُهُ ،وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ : لَا ، وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي ( أَوَائِلِ الْقَضَاءِ ) وَهُوَ الصَّحِيحُ ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى الْعَامَّةِ تَقْلِيدَ بَعْضِهِمْ مِن غَيْرِ تَقْلِيدٍ .
وَقَدْ رَامَ بَعْضُ الْخُلَفَاءِ زَمَنَ مَالِكٍ حَمْلَ النَّاسَ فِي الْآفَاقِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ فَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ فَرَّقَ الْعِلْمَ فِي الْبِلَادِ بِتَفْرِيقِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا ، فَلَمْ يَرَ الْحَجْرَ عَلَى النَّاسِ ، وَرُبَّمَا نُودِيَ : " لَا يُفْتَى أَحَدٌ وَمَالِكٌ بِالْمَدِينَةِ "، قَالَ ابْنُ الْمُنَيَّرِ : وَهُوَ عِنْدِي مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ : لَا يُفْتَى أَحَدٌ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ مَالِكٌ بِالْأَهْلِيَّةِ .
وَذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ ، فَإِنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ : لَا تَحْمِلْ عَلَى مَذْهَبِك فَيُحْرَجُوا ، دَعْهُمْ يَتَرَخَّصُوا بِمَذَاهِبِ النَّاسِ(2).
__________
(1) - البحر المحيط - (ج 8 / ص 261)
(2) - إرشاد الفحول الي تحقيق الحق من علم الاصول - (ج 2 / ص 138)(2/149)
وَسُئِلَ عَن مَسْأَلَةٍ مِن الطَّلَاقِ فَقَالَ : يَقَعُ يَقَعُ ، فَقَالَ لَهُ الْقَائِلُ : فَإِنْ أَفْتَانِي أَحَدٌ أَنَّهُ لَا يَقَعُ ، يَجُوزُ ؟ قَالَ : نَعَمْ وَدَلَّهُ عَلَى حَلْقَةِ الْمَدَنِيِّينَ فِي الرَّصَافَةِ ،فَقَالَ : إنْ أَفْتَوْنِي جَازَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ،وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يُقَلِّدُونَ مَن شَاءُوا قَبْلَ ظُهُورِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِعَزَائِمِهِ"(1).
وَتَوَسَّطَ ابْنُ الْمُنَيَّرِ فَقَالَ : الدَّلِيلُ يَقْتَضِي الْتِزَامَ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ، لَا قَبْلَهُمْ(2).
__________
(1) - المعجم الأوسط للطبراني برقم(6464) بلفظه ومسند أحمد برقم ( 6004 و6012) ابن عمر وتهذيب الآثار للطبري برقم (504 ) أبو هريرة وهو صحيح
(2) - قال الشوكاني ردا عليه :"وأعجب من هذا كله قول ابن المنير إن الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأربعة لا قبلهم فليت شعري ما هو هذا الدليل، وقد صان الله أدلة الشرع أن تدل على هذا بل وصان علماء الدين من المجتهدين أن يقولوا بمثل هذا التفصيل العليل،ولعله قول لبعض المقلدة فظنه هذا القائل دليلا".السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار - الرقمية - (ج 1 / ص 19) و وإرشاد الفحول الي تحقيق الحق من علم الأصول - (ج 2 / ص 138)
قلت : قد ذكر ذلك الزركشي بعده تماماً ، لأنه قبل الأئمة لم يكن هناك تدوين لمذهب فقهي ، فهم الذين دونت مذاهبهم وحفظت ، ووصلتنا صحيحة سليمة ، بينما مذاهب غيرهم لم تصلنا ، لأنها لم تدون وتحفظ كمذاهب الأئمة الأربعة .
وكَمْ من عائبٍ قَوْلاً صَحيحاً ... وآفتُه مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ(2/150)
وَالْفَرْقُ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا قَبْلَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يُدَوِّنُوا مَذَاهِبَهُمْ وَلَا كَثُرَتْ الْوَقَائِعُ عَلَيْهِمْ ، حَتَّى عُرِفَ مَذْهَبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنهُمْ فِي كُلِّ الْوَقَائِعِ وَفِي أَكْثَرِهَا ، وَكَانَ الَّذِي يَسْتَفْتِي الشَّافِعِيَّ - مَثَلًا - لَاعِلْمَ لَهُ بِمَا يَقُولُهُ الْمُفْتِي ، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ مَذْهَبُهُ فِي تِلْكَ الْوَاقِعِةِ ، أَوْ لِأَنَّهَا مَا وَقَعَتْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعَضِّدَهُ إلَّا سِرٌّ خَاصٌّ ، وَأَمَّا بَعْدَ أَنْ فُهِمَتْ الْمَذَاهِبُ وَدُوِّنَتْ وَاشْتُهِرَتْ وَعُرِفَ الْمُرَخِّصُ مِن الْمُشَدِّدِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ ، فَلَا يَنْتَقِلُ الْمُسْتَفْتِي - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - مِن مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ إلَّا رُكُونًا إلَى الِانْحِلَالِ وَالِاسْتِسْهَالِ
وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عَن أَبِي الْفَتْحِ الْهَرَوِيِّ أَحَدِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَنَّ مَذْهَبَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْعَامِّيَّ لَا مَذْهَبَ لَهُ(1)..
__________
(1) - انظر فتاوى الأزهر - (ج 7 / ص 173) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 7262) و (ج 9 / ص 2345) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 86) وروضة الطالبين وعمدة المفتين - (ج 4 / ص 115) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 12 / ص 491) و (ج 29 / ص 429) و(ج 29 / ص 434) و (ج 29 / ص 435) و(ج 9 / ص 204) وطبقات الشافعية - (ج 1 / ص 55)
قلت : وهذا هو الراجح في هذه المسألة(2/151)
وقال أستاذنا الزحيلي : " التزام المذهب غير ملزم شرعاً ، وإلا كان ذلك تشريع شرع جديد ، كما قال شيخ الإسلام العز بن عبد السلام. وتقليد المذهب بجملته أولى وأحكم وأحوط ، بالنسبة لمن لا يحسن ترجيح الأدلة ، وهذا شأن الأغلبية الساحقة من الناس. أما الذي عنده قدرة على الترجيح وهو قليل جداً فله أن يعمل بالحكم الذي يجده راجحاً لأن العبرة بقوة الدليل.
والعوام لا مذهب لهم ومذهبهم مذهب مفتيهم ، والعامي : من حفظ الأحكام الشرعية دون معرفة أدلتها.
فإن كان التقلب أو التلفيق بين المذاهب لهوى أو شهوة أو بقصد ، تتبع الأيسر دون حاجة فهو ممنوع شرعاً ، وإن كان لضرورة أو حاجة فهو جائز ولو ضمن دائرة صلاة واحدة.
وهذا الذي يأخذ بكل جزئية بمذهب ، له ذلك إن أفتاه به عالم معتبر ، وإلا فعليه اتباع مذهب معين منعاً من الاضطراب ، أما العمل بالحكم على جهل فغير جائز. وقد تؤدي اللا مذهبية إلى ضلالة وأخطاء."(1)
__________
(1) - فتاوى الزحيلي - (ج 2 / ص 23) موقعه على النت(2/152)
وقال أيضاً(1):" ويجوز تقليد كل مذهب إسلامي معتمد عند الأغلبية، وإن أدى إلى التلفيق ، عند الضرورة أو الحاجة أو العجز والعذر؛ لأن الصحيح جوازه عند المالكية وجماعة من الحنفية، كما يجوز الأخذ بأيسر المذاهب أو تتبع الرخص(2)عند الحاجة أو المصلحة لاعبثاً وتلهياً وهوى؛ لأن دين الله يسر لا عسر، فيكون القول بجواز التلفيق من باب التيسير على الناس، قال الله تعالى: { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (185) سورة البقرة ، . قال تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (78) سورة الحج
ولا يجوز تتبع الرخص عبثاً أو لهوى ذاتي، بأن يأخذ الإنسان من كل مذهب ماهو الأخف عليه، من غير ضرورة ولا عذر، سداً لذرائع الفساد بالانحلال من التكاليف الشرعية، ولا يجوز التلفيق الذي يؤدي إلى نقض حكم الحاكم؛ لأن حكمه يرفع الخلاف درءاً للفوضى، ولا التلفيق الذي يؤدي إلى الرجوع عما عمل به المرء تقليداً، أو إلى مصادمة أمر مجمع عليه، أو الوقوع في محظور شرعي، كالتزوج بامرأة بلا ولي ولا صداق ولا شهود، مقلداً كل مذهب فيما لا يقول به الآخر ، أو تحليل المبتوتة بتزويجها من غلام صغير."(3)
وقال أيضاً : " انقسم الأصوليون في هذه المسألة على آراء ثلاثة:
1 - فقال بعضهم: يجب التزام مذهب إمام معين، لأنه اعتقد أنه حق، فيجب عليه العمل بمقتضى اعتقاده.
__________
(1) - التلفيق: هو الإتيان بكيفية لايقول بها كل مجتهد على حدة.
(2) - تتبع الرخص: أن يأخذ الشخص من كل مذهب ماهو أهون له وأيسر فيما يطرأ عليه من المسائل قال تعالى :{يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} (28) سورة النساء.
(3) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 9)(2/153)
2- وقال أكثر العلماء: لا يجب تقليد إمام معين في كل المسائل والحوادث التي تعرض، بل يجوز أن يقلد أي مجتهد شاء، فلو التزم مذهباً معيناً كمذهب أبي حنيفة أو الشافعي أو غيرهما، لا يلزمه الاستمرار عليه، بل يجوز له الانتقال منه إلى مذهب آخر، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله تعالى ولا رسوله على أحد أن يتمذهب بمذهب رجل من الأئمة، وإنما أوجب الله تعالى اتباع العلماء من غير تخصيص بواحد دون آخر، فقال عز وجل: { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (7) سورة الأنبياء ، ولأن المستفتين في عصر الصحابة والتابعين، لم يكونوا ملتزمين بمذهب معين، بل كانوا يسألون من تهيأ لهم دون تقيد بواحد دون آخر، فكان هذا إجماعاً منهم على عدم وجوب تقليد إمام، أو اتباع مذهب معين في كل المسائل.
ثم إن القول بالتزام مذهب ما، يؤدي إلى الحرج والضيق، مع أن المذاهب نعمة وفضيلة ورحمة للأمة.
وهذا القول هو الراجح عند علماء الأصول.
3 - وفصل الآمدي والكمال بن الهمام في المسألة فقال: إن عمل الشخص بما التزمه في بعض المسائل بمذهب معين، فلا يجوز له تقليد الغير فيها، وإن لم يعمل في بعضها الآخر جاز له اتباع غيره فيها، إذ إنه لم يوجد في الشرع ما يوجب عليه اتباع ما التزمه، وإنما أوجب الشرع عليه اتباع العلماء دون تخصيص عالم دون آخر(1).
__________
(1) - راجع فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت لابن عبد الشكور:402/2(2/154)
يتلخص من هذا أن القول الأصح الراجح عند علماء الأصول(1): هو عدم ضرورة الالتزام بمذهب معين، وجواز مخالفة إمام المذهب، والأخذ بقول غيره، لأن التزام المذهب غير ملزم، كما بينا. وبناء عليه فلا مانع إطلاقاً من حيث المبدأ في العصر الحاضر من اختيار بعض الأحكام الشرعية المقررة لدى علماء المذاهب، دون تقيد بجملة المذهب أو بتفصيلاته.
وقال الشافعية: الأصح من كلام المتأخرين كالشيخ ابن حجر وغيره أنه يجوز الانتقال من مذهب إلى مذهب من المذاهب المدونة، ولو بمجرد التشهي، سواء انتقل دواماً أو في بعض الحادثة، وإن أفتى أو حكم أو عمل بخلافه ما لم يلزم منه التلفيق"(2).
- - - - - - - - - - - - - -
المبحث التاسع عشر
هل يجب التزام مذهب معين؟(3)
لقد اختلف أهل العلم في حكم التزام مذهب معينٍ من المذاهب المعتبرة على أقوال عديدة، والذي يرجحه المحققون منهم: جواز ذلك في حقِّ العاميِّ وغير العالم بأحكام الشريعة؛ لأن هؤلاء لا يستطيعون النظر والاجتهاد، ومن أجل ألاّ يختار أحدهم الأسهل والأهون من أقوال أهل العلم من المذاهب المختلفة.
__________
(1) - شرح المحلي على جمع الجوامع: 328/2، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 3174، التقرير والتحبير: 344/3، شرح الإسنوي: 266/3، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد: ص 193، ارشاد الفحول: ص 240، فتاوى الشيخ عليش: 60/1
(2) - الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية من المسائل والضوابط والقواعد الكلية للسيد علوي بن أحمد السقّاف: ص51، ط البابي الحلبي .
(3) - فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 4 / ص 471) هل يجب التزام مذهب معين؟ المجيب أحمد بن عبدالرحمن الرشيد عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أصول الفقه /الاجتهاد والتقليد -التاريخ 11/11/1424هـ(2/155)
أمَّا طلاب العلم والقادرون على النظر في الأدلة والاجتهاد في النوازل والحوادث ولو بالاجتهاد الجزئي - وهو القدرة على الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض - فإن الواجب عليهم النظرَ في الأدلة، والعمل بما يوافقها، وطرح ما يخالفها؛ لأنَّ الواجب على جميع المكلفين معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها، ولكن تُرك هذا الأمر في حقِّ عامة الناس لعدم قدرتهم عليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ } (286) سورة البقرة ، فيبقى الأمر على ما هو عليه فيمن عداهم من أهل العلم وطلابه، وبهذا يتضحُ أنَّ الشخص العامي الذي لا يستطيع النظر في الأدلة يجوز له أن يقلّدَ أحد الأئمة المجتهدين، المشهود لهم بالعلم والصلاح، ويتبعه في كل ما لم يعلم بطلانه، أما إذا علم بطلانَ قوله في أيِّ مسألة من المسائل بأنْ تبين له فيها دليل يخالفُ قول إمامه، فإن الواجب عليه العمل بما دلَّ عليه الدليل، ولا يجوز له حينئذٍ الاستمرار على ما ذهب إليه إمامه؛ لأنَّ التقليد إنما جاز لهذا العامي؛ لأنه جاهل بالدليل، أما إذا عرفه أو أٌخبر به وجبَ عليه ترك التقليد والعمل بالدليل؛ لعدم الحاجة إلى التقليد(1). وإذا ثبت أن العامي يُشرع له تقليد أحد الأئمة المعتبرين فإن مخالفته له حينئذٍ تكونُ على قسمين:
الأول: أن يخالف العاميُّ مذهب إمامه لظهور دليلٍ صحيح يدلُّ على خلاف ما ذهب إليه إمامه، وهنا يجب على العامي العمل بما دلَّ عليه الدليلُ وترك التقليد.
__________
(1) - فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 4 / ص 470) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 4 / ص 471) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 4 / ص 479) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 4 / ص 501) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 16 / ص 148)(2/156)
الثاني: أنْ يخالفَ مذهب إمامه من غير ظهور دليل يدلُّ على خلاف ما ذهب إليه إمامه، وهنا لا يجوز للعامي أن يخالف إمامه؛ لأنه لا يخالفه حينئذٍ على علم-كما في القسم الأول- وإنما على هوًى، واتباع الهوى لا يجوز.
ومن هنا نقول لكل مقلد ٍ(1): إذا رأيت أقوالاً مختلفة في مسألة واحدة فليس لك أن تختار بنفسك ما تريد، فعليك في هذه الحالة أن تبحث عن دليل كل عالم بما أفتى به، فإن ظهرت لك قوة الدليل في مسألة من المسائل فعليك بالأخذ بما ظهر لك من الدليل الصحيح، ولا تتبع الظنون والاحتمالات، وأما إن كنت غير قادر على التمييز فاسأل أهل الذكر ليميزوا لك الحكم، ولكن لا تبحث عن الشبهات والرخص، ولا تتعصب لعالمٍ معين لأن التعصب يضعف الأمة ويوقد نار العداوة، وقد قال الله تعالى:{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } [آل عمران:103].
فمن علم حكماً شرعياً صحيحاً قد ثبت دليله، ولم يعلم له مخصصاً ولا ناسخاً ولا معارضاً فليس له عذر في ترك اتباعه، واختلاف المجتهدين الذين بذلوا جهدهم دون تعصب للوصول إلى الحقِّ غير مذموم؛ بل هم معذورون. فالمصيبُ له أجران، والمخطئ له أجر.
ولقد قال الإمام الشافعي -رحمه الله-(2): ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعزب عنه وقال: أجمع الناس على أنه من استبانت له سنة رسول الله لم يكن له أن يدعها لقول أحد. وقال: إذا صح الحديث فهو مذهبي. وقال: كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد مماتي.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 6643)
رقم الفتوى 26480 الاختلاف في المسائل الفقهية اختلاف تنوع لا تضاد تاريخ الفتوى : 09 شوال 1423
(2) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 427)(2/157)
ولا يصح أن يقال: إنَ مسائل الدِّين فرقت المسلمين، وإنما الفرقة ناتجةٌ عن الجهل واتباع الهوى والإعراض عن الحقِّ.
على أنه يجب علينا أن نحسن الظن بأئمة الإسلام وعلمائه عندما نجد لهم أقوالاً تخالف أدلة الكتاب والسُّنَّة ، ونعتذر لهم بأنَّ هذه الأدلة لم تبلغهم أو لم تصح عندهم ؛ لأنهم لو بلغتهم هذه الأدلة وصحَّت عندهم فإنهم -ومن دون شك- سيصيرون إليها وسيقولون بمقتضاها .
- - - - - - - - - - - - - -
المبحث العشرون
رأي ابن عبد البر في التقليد ومناقشته(1)
قال ابن عبد البرِّ رحمه الله :" قَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى التَّقْلِيدَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِن كِتَابِهِ فَقَالَ : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة/30، 31] وَرُوِيَ عَن حُذَيْفَةَ وَغَيْرِهِ ، قَالَ " لَمْ يَعْبُدُوهُمْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَحَلُّوا لَهُمْ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ فَاتَّبَعُوهُمْ(2)
__________
(1) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ - بَابُ فَسَادِ التَّقْلِيدِ وَنَفْيِهِ وَالْفَرَقِ بَيْنِ التَّقْلِيدِ وَالِاتِّبَاعِ "
(2) - تفسير الطبري - (ج 14 / ص 211)(16634) حسن لغيره(2/158)
وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ فَقَالَ لِي : " يَا عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ : " أَلْقِ هَذَا الْوَثَنَ مِن عُنُقِكَ " . وَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَةٍ حَتَّى أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَمْ نَتَّخِذْهُمْ أَرْبَابًا ، قَالَ : " بَلَى ، أَلَيْسَ يُحِلُّونَ لَكُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فَتُحِلُّونَهُ ، وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْكُمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ فَتُحَرِّمُونَهُ ؟ " فَقُلْتُ : بَلَى ، قَالَ : " تِلْكَ عِبَادَتُهُمْ "(1)
وعَن أَبِي الْبَخْتَرِيِّ ، قَالَ : قِيلَ لِحُذَيْفَةَ فِي قَوْلِهِ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِن دُونِ اللَّهِ " أَكَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ ؟ قَالَ : لَا ، وَلَكِنْ كَانُوا يُحِلُّونَ لَهُمُ الْحَرَامَ فَيُحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ فَيُحَرِّمُونَهُ ".
__________
(1) - تفسير الطبري - (ج 14 / ص 210)(16632) حسن لغيره(2/159)
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ :{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)} [الزخرف/23، 24] فَمَنَعَهُمُ الِاقْتِدَاءُ بِآبَائِهِمْ مِن قَبُولِ الِاهْتِدَاءِ فَقَالُوا : إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ، وَفِي هَؤُلَاءِ وَمِثْلِهِمْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} (22) سورة الأنفال، وَقَالَ : إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) } [البقرة/166-168] ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَائِبًا لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَذَامًّا لَهُمْ : مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) [الأنبياء/52-54] ،وَقَالَ: { إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} (67) سورة الأحزاب ،وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ مِن ذَمِّ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ .(2/160)
قَالَ أَبُو عُمَرَ : وَقَدِ احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي إِبْطَالِ التَّقْلِيدِ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ كُفْرُ أَؤلْئِكَ مِنَ جِهَةِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا ؛ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ لَمْ يَقَعْ مِن جِهَةِ كُفْرِ أَحَدِهِمَا وَإِيمَانِ الْآخَرِ وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ بَيْنَ التَّقْلِيدَيْنِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ لِلْمُقَلِّدِ كَمَا لَوْ قَلَّدَ رَجُلٌ فَكَفَرَ وَقَلَّدَ آخَرُ فَأَذْنَبَ وَقَلَّدَ آخَرَ فِي مَسْأَلَةِ دُنْيَاهُ فَأَخْطَأَ وَجْهَهَا ، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مَلُومًا عَلَى التَّقْلِيدِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَقْلِيدٌ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْآثَامُ فِيهِ ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (115) سورة التوبة ،وَقَدْ ثَبَتَ الِاحْتِجَاجُ بِمَا قَدَّمْنَا فِي الْبَابِ قَبْلَ هَذَا وَفِي ثُبُوتِهِ إِبْطَالُ التَّقْلِيدِ أَيْضًا ، فَإِذَا بَطَلَ التَّقْلِيدُ بِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا وَجَبَ التَّسْلِيمُ لِلْأُصُولِ الَّتِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا وَهِيَ الْكِتَابُ والسُّنَّة أَوْ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُمَا بِدَلِيلٍ جَامِعٍ بَيْنَ ذَلِكَ "
وعَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيُّ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " إِنِّي لَأَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِن بَعْدِي أَعْمَالًا ثَلَاثَةً " قَالُوا : وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " أَخَافُ عَلَيْهِمْ مِن زَلَّةِ الْعَالِمِ ، وَمِن حَكَمٍ جَائِزٍ ، وَمِن هَوًى مُتَّبَعٍ " (ضعيف)(2/161)
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : " تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - " (صحيح لغيره)
وعَن زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ ، قَالَ : قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : " ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ : زَلَّةُ الْعَالِمِ ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ "(حسن)
وعَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : " إِنَّ مِمَّا أَخْشَى عَلَيْكُمْ زَلَّةَ الْعَالِمِ ، وَجِدَالَ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ ، وَالْقُرْآنُ حَقٌّ ، وَعَلَى الْقُرْآنِ مَنَارٌ كَأَعْلَامِ الطَّرِيقِ "(فيه انقطاع)
وعَن زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ ، قَالَ : قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ ، " ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ : زَيْغَةُ الْعَالِمِ وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ " (صحيح)(2/162)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يَقُولُ فِي مَجْلِسِهِ كُلَّ يَوْمٍ ، قَلَّ مَا يُخْطِئُهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ : " اللَّهُ حَكَمٌ قِسْطٌ هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ إِنَّ وَرَاءَكُمْ فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ وَيُفْتَحُ فِيهِ الْقُرْآنُ حَتَّى يَقْرَأَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ وَالْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ وَالْأَسْوَدُ وَالْأَحْمَرُ فَيُوشِكُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقُولَ : قَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ فَمَا أَظُنُّ أَنْ تَتَّبِعُونِي ، حَتَّى ابْتَدَعَ لَهُمْ غَيْرَهُ ، فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ، وَإِيَّاكَ وَزَيْغَةَ الْحَكِيمِ ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ بِكَلِمَةِ الضَّلَالَةِ ، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ فَتَلَقَّوَا الْحَقَّ عَمَن جَاءَ بِهِ ؛ فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا قَالُوا : وَكَيْفَ زَيْغَةُ الْحَكِيمِ ؟ قَالَ : هِيَ الْكَلِمَةُ تُرَوِّعُكُمْ وَتُنْكِرُونَهَا وَتَقُولُونَ : مَا هَذِهِ ؟ فَاحْذَرُوا زَيْغَتَهُ وَلَا يَصُدَّنَّكُمْ عَنهُ ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَفِيءَ وَأَنْ يُرَاجِعَ الْحَقَّ ، وَإِنَّ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ مَكَانَهُمَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَمَنِ ابْتَغَاهُمَا وَجَدَهُمَا "(1)
__________
(1) - والصحيح أنه موقوف انظر العلل للدارقطني 6/ 81.(2/163)
وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ ، قَالَ : قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ " يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ كَيْفَ تَصْنَعُونَ بِثَلَاثٍ ؟ دُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ ، وَزَلَّةِ عَالِمٍ وَجِدَالِ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ ، فَسَكَتُوا فَقَالَ : أَمَّا الْعَالِمُ فَإِنِ اهْتَدَى فَلَا تُقَلِّدُوهُ دِينَكُمْ ، وَإِنِ افْتُتِنَ فَلَا تَقْطَعُوا مِنهُ أَنَاتَكُمْ ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يُفْتَتَنُ ثُمَّ يَتُوبُ ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَلَهُ مَنَارٌ كَمَنَارِ الطَّرِيقِ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ ، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنهُ فَلَا تَسْأَلُوا عَنهُ ، وَمَا شَكَكْتُمْ فَكِلُوهُ إِلَى عَالِمِهِ ، وَأَمَّا الدُّنْيَا فَمَن جَعَلَ اللَّهُ الْغِنَى فِي قَلْبِهِ فَقَدْ أَفْلَحَ ، وَمَن لَا فَلَيْسَ بِنَافِعَتِهِ دُنْيَاهُ " ( حسن موقوف)
وعَن أَبِي الْبَخْتَرِيُّ ، قَالَ : قَالَ سَلْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ " كَيْفَ أَنْتُمْ عِنْدَ ثَلَاثٍ ؟ زَلَّةِ عَالِمٍ وَجِدَالِ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ ، وَدُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ ، فَأَمَّا زَلَّةُ الْعَالِمِ فَإِنِ اهْتَدَى فَلَا تُقَلِّدُوهُ دِينَكُمْ ، وَأَمَّا مُجَادَلَةُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ لِلْقُرْآنِ مَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ ، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنهُ فَخُذُوا وَمَا لَمْ تَعْرِفُوهْ فَكِلُوهُ إِلَى اللَّهِ ، وَأَمَّا دُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ فَانْظُرُوا إِلَى مَن هُوَ دُونَكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَن هُوَ فَوْقَكُمْ "( فيه انقطاع)
وَشَبَّهَ الْعُلَمَاءُ زَلَّةَ الْعَالِمِ بِانْكِسَارِ السَّفِينَةِ ؛ لِأَنَّهَا إِذَا غَرِقَتْ غَرِقَ مَعَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ وَإِذَا ثَبَتَ وَصَحَّ أَنَّ الْعَالِمَ يُخْطِئُ وَيَزِلُّ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ وَيَدِينَ بِقَوْلٍ لَا يَعْرِفُ وَجْهَهُ(2/164)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " اغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا وَلَا تَغْدُ إِمَّعَةً فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ " ( حسن موقوف)
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : فَسَأَلْتُ سُفْيَانَ ، عَنِ الْإِمَّعَةِ ، فَحَدَّثَنِي عَن أَبِي الزَّعْرَاءِ ، عَن أَبِي الْأَحْوَصِ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : " كُنَّا نَعُدُّ الْإِمَّعَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي يُدْعَى إِلَى الطَّعَامِ فَيُذْهَبُ مَعَهُ بِغَيْرِهِ وَهُوَ فِيكُمُ الْيَوْمَ الْمُحْقِبُ دِينَهُ الرِّجَالَ "(1)
وعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " اغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا وَلَا تَغْدُوَنَّ إِمَّعَةً فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ " ( حسن موقوف)
وعَن أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ : " وَيْلٌ لِلْأَتْبَاعِ مِن عَثَرَاتِ الْعَالِمِ ، قِيلَ : كَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : يَقُولُ الْعَالِمُ شَيْئًا بِرَأْيِهِ ثُمَّ يَجِدُ مَن هُوَ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنهُ فَيَتْرُكُ قَوْلَهُ ذَلِكَ ثُمَّ يَمْضِي الْأَتْبَاعُ "(صحيح)
__________
(1) - أراد الذي يُقَلّد دِينَه لكُل أحد . أي يجعل دِينَه تابعاً لدين غيره بلا حُجَّة ولا بُرْهان ولاَ رَوِيَّة وهو من الإرداف على الحَقِيبة .النهاية في غريب الأثر - (ج 1 / ص 1011)(2/165)
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ يُسْتَغْنَى عَنِ الْإِسْنَادِ لِشُهْرَتِهِ عِنْدَهُمْ : " يَا كُمَيْلُ بْنَ زِيَادٍ ، إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا لِلْخَيْرِ ، وَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ : فَعَالِمٌ رَبَّانِيُّ ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ ، وَهَمَجٌ رِعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ هَا هُنَا لَعِلْمًا ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ ، لَوْ أَصَبْتَ لَهُ حَمَلَةً ، بَلَى لَقَدْ أَصَبْتَ لَقِنًا غَيْرَ مَأْمُونٍ يَسْتَعْمِلُ الدُّنْيَا لِلدِّينِ وَيَسْتَظْهِرُ بِحُجَجِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كِتَابِهِ وَبِنِعَمِهِ عَلَى مَعَاصِيهِ أُفٍّ لِحَامِلِ حَقٍّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ بِأَوَّلِ عَارِضٍ مِن شُبْهَةٍ ، لَا يَدْرِي أَيْنَ الْحَقُّ ؟ إِنْ قَالَ أَخْطَأَ وَإِنْ أَخْطَأَ لَمْ يَدْرِ مَشْغُوفٌ بِمَا لَا يَدْرِي حَقِيقَتَهُ ، فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنِ فُتِنَ بِهِ وَإِنَّ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ مَن عَرَّفَهُ اللَّهُ دِينَهُ وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَنْ لَا يَعْرِفَ دِينَهُ "(1)
__________
(1) - جزء من وصية طويلة للإمام علي أوصاها لكميل، وهي جامعة مانعة. رواها أبو نعيم في الحلية 1/ 79-80، والخطيب في الفقيه والمتفقه 1/ 49-50، والنهرواني في الجليس الصالح 3/ 331، والشجري في أماليه "1/ 66، والمزي في تهذيب الكمال 3/ 1150 "دار المأمون". والذهبي في تذكرة الحفاظ 1/ 11، وانظر شرحها في مفتاح دار السعادة 1/ 403-405.(2/166)
وعَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ ، قَالَ : سُئِلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ عَن مَسْأَلَةٍ ، فَدَخَلَ مُبَادِرًا ثُمَّ خَرَجَ فِي حِذَاءٍ وَرِدَاءٍ وَهُوَ مُبْتَسِمٌ ، فَقِيلَ لَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّكَ كُنْتَ إِذَا سُئِلْتَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ تَكُونُ فِيهَا كَالسِّكَّةِ الْمُحْمَاةِ قَالَ : " إِنِّي كُنْتُ حَاقِنًا وَلَا رَأْيَ لِحَاقِنٍ وَأَنْشَأَ يَقُولُ :
إِذَا الْمُشْكِلَاتُ تَصَدَّيْنُ لِي كَشَفْتُ حَقَائِقَهَا بِالنَّظَرْ
فَإِنْ بَرِقَتْ فِي مُخَيَّلِ الصَّوَابِ عَمْيَاءُ لَا يُجَلِّيهَا الْبَصَرْ
مُقَنَّعَةٌ بِغُيُوبِ الْأَمُورِ وَضَعْتُ عَلَيْهَا صَحِيحَ الْفِكَرْ
لِسَانًا كَشَقْشَقَةِ الْأَرْحَبِيِّ أَوْ كَالْحُسَامِ الْيَمَانِيِّ الذَّكَرْ
وَقَلْبًا إِذَا اسْتَنْطَقَتْهُ الْفَنُ ونُ أَبَرَّ عَلَيْهَا بِوَاهٍ دُرَرْ
وَلَسْتُ بِإِمَّعَةٍ فِي الرِّجَالِ يُسَائِلُ هَذَا وَذَا مَا الْخَبَرْ
وَلَكِنَّنِي مِذْرَبُ الْأَصْغَرَيْنِ أُبَيِّنُ مَعَ مَا مَضَى مَا غَبَرْ
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ : الْمُخَيَّلُ السَّحَابُ يُخَالُ فِيهِ الْمَطَرُ ، وَالشَّقَّشْقَةُ مَا يُخْرِجُهُ الْفَحْلُ مِن فِيهِ عِنْدَ هَيَاجِهِ ، وَمِنهُ قِيلَ لِخُطَبَاءِ الرِّجَالِ : شَقَاشِقُ وَأَبَرَّ : زَادَ عَلَى مَا تَسْتَنْطِقُهُ ، والْإِمَّعَةُ : الْأَحْمَقُ الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى رَأْيٍ ، وَالْمِذْرَبُ : الْحَادُّ ، وَأَصْغَرَاهُ : قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ " *(2/167)
قَالَ أَبُو عُمَرَ : مِنَ الشَّقَاشِقِ مَا روي عَن أَنَسٍ ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ ، رَأَى رَجُلًا يَخْطُبُ فَأَكْثَرَ فَقَالَ عُمَرُ " إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُطَبِ مِن شَقَاشِقِ الشَّيْطَانِ "(صحيح)(1)
وعَن عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ ، قَالَ : " إِيَّاكُمْ وَالِاسْتِنَانَ بِالرِّجَالِ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يَنْقَلِبُ لَعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَمُوتُ وَهُوَ مِن أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَنْقَلِبُ لَعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَمُوتُ وَهُوَ مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَبِالْأَمْوَاتِ لَا بِالْأَحْيَاءِ "( ضعيف) .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : " أَلَا لَا يُقَلِّدَنَّ أَحَدُكُمْ دِينَهُ رَجُلًا إِنْ آمَنَ آمَنَ وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ ، فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشَّرِّ "
وعَن أَبِي سَعِيدٍ الطَّبَرِيِّ ، قَالَ : أَنْشَدَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ لِنَفْسِهِ وَكَانَ أَفْضَلَ أَهْلِ بَيْتِهِ وَزَمَانِهِ فِي وَقْتِهِ :
تُرِيدُ تَنَامُ عَلَى ذِي الشَّبَهْ وَعَلَّكَ إِنْ نِمْتَ لَمْ تَنْتَبِهْ
فَجَاهِدْ وَقَلِّدْ كِتَابَ الْإِلَهِ لِتَلْقَى الْإِلَهَ إِذَا مِتَّ بِهْ
فَقَدْ قَلَّدَ النَّاسُ رُهْبَانَهُمْ وَكُلٌّ يُجَادِلُ عَن رَاهِبِهْ
__________
(1) - قال أبو عبيد: في "غريب الحديث" 3/297: شبه عمر إكثار الخاطب من الخطبة بهدر البعير في شقشقته،ثم نسبها إلي الشيطان،وذلك لما يدخل فيها من الكذب،وتزوير الخاطب الباطل عند الإكثار من الخطب،وإن كان الشيطان لا شقشقة له، إنما هذا مثَلٌ.(2/168)
وَلِلْحَقِّ مُسْتَنْبِطٌ وَاحِدٌ وَكُلٌّ يَرَى الْحَقَّ فِي مُذْهَبِهْ
فَفِيمَا أَرَى عَجَبٌ غَيْرَ أَنَّ بَيَانَ التَّفَرُّقِ مِن أَعْجَبِهْ
" وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِنَا هَذَا أَنَّهُ قَالَ : " يَذْهَبُ الْعُلَمَاءُ ثُمَّ يَتَّخِذُ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا يُسْأَلُونَ فَيُفْتُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ " وَهَذَا كُلُّهُ نَفْيٌ لِلتَّقْلِيدِ وَإِبْطَالٌ لَهُ لِمَن فَهِمَهُ وَهُدِيَ لِرُشْدِهِ "(2/169)
وقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: اضْطَجَعَ رَبِيعَةُ مُقَنِّعًا رَأْسَهُ وَبَكَى فَقِيلَ لَهُ : مَا يُبْكِيكَ ؟ فَقَالَ : " رِيَاءٌ ظَاهِرٌ وَشَهْوَةٌ خَفِيَّةٌ وَالنَّاسُ عِنْدَ عُلَمَائِهِمْ كَالصِّبْيَانِ فِي حُجُورِ أُمَّهَاتِهِمْ ، مَا نَهَوْهُمْ عَنهُ انْتَهَوْا وَمَا أَمَرُوهُمْ بِهِ ائْتَمَرُوا " وَقَالَ أَيُّوبُ رَحِمَهُ اللَّهُ : " لَيْسَ تَعْرِفُ خَطَأَ مُعَلِّمِكَ حَتَّى تُجَالِسَ غَيْرَهُ " وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ : " لَا فَرْقَ بَيْنَ بَهِيمَةٍ تُقَادُ وَإِنْسَانٍ يُقَلِّدُ " وَهَذَا كُلُّهُ لِغَيْرِ الْعَامَّةِ ؛ فَإِنَّ الْعَامَّةَ لَا بُدَّ لَهَا مِن تَقْلِيدِ عُلَمَائِهَا عِنْدَ النَّازِلَةِ تَنْزِلُ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَبَيَّنُ مَوْقِعَ الْحُجَّةِ وَلَا تَصِلُ لِعَدَمِ الْفَهْمِ إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ دَرَجَاتٌ لَا سَبِيلَ مِنهَا إِلَى أَعْلَاهَا إِلَّا بِنَيْلِ أَسْفَلِهَا ، وَهَذَا هُوَ الْحَائِلُ بَيْنَ الْعَامَّةِ وَبَيْنَ طَلَبِ الْحُجَّةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، وَلَمْ تَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعَامَّةَ عَلَيْهَا تَقْلِيدَ عُلَمَائِهَا وَأَنَّهُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (43) سورة النحل ،وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَعْمَى لَا بُدَّ لَهُ مِن تَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِمَن يَثِقُ بِمَيْزِهِ بِالْقِبْلَةِ إِذَا أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ مَن لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا بَصَرَ بِمَعْنَى مَا يَدِينُ بِهُ لَا بُدَّ لَهُ مِن تَقْلِيدِ عَالِمِهِ ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعَامَّةَ لَا يَجُوزُ لَهَا الْفُتْيَا ، وَذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِجَهْلِهَا بِالْمَعَانِي الَّتِي مِنهَا يَجُوزُ التَّحْلِيلُ(2/170)
وَالتَّحْرِيمُ وَالْقَوْلُ فِي الْعِلْمِ.
وَقَدْ نَظَمْتُ فِي التَّقْلِيدِ وَمَوْضِعِهِ أَبْيَاتًا رَجَوْتُ فِي ذَلِكَ جَزِيلَ الْأَجْرِ لِمَا عَلِمْتُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَن يُسْرِعُ إِلَيْهِ حَفْظُ الْمَنظُومِ وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْمَنثُورُ وَهِيَ مِن قَصِيدَةٍ لِي :
يَا سَائِلِي عَن مَوْضِعِ التَّقْلِيدِ خُذْ عَنِّي الْجَوَابَ بِفَهْمِ لُبٍّ حَاضِرِ
وَاصْغِ إِلَى قَوْلِي وَدِنْ بِنَصِيحَتِي وَاحْفَظْ عَلَيَّ بَوَادِرِي وَنَوَادِرِي
لَا فَرْقَ بَيْنَ مُقَلِّدٍ وَبَهِيمَةٍ تَنْقَادُ بَيْنَ جَنَادِلَ وَدَعَاثِرِ
تَبًّا لِقَاضٍ أَوْ لِمُفْتٍ لَا يَرَى عِلَلًا وَمَعْنًى لِلْمَقَالِ السَّائِرِ
فَإِذَا اقْتَدَيْتَ فَبِالْكِتَابِ وَسُنَّةِ الْمَبْعُوثِ بِالدِّينِ الْحَنِيفِ الطَّاهِرِ
ثُمَّ الصَّحَابَةِ عِنْدَ عُدْمِكَ سُنَّةً فَأُولَاكَ أَهْلُ نَهًى وَأَهْلُ بَصَائِرِ
وَكَذَاكَ إِجْمَاعُ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ مِن تَابِعِيهِمْ كَابِرًا عَن كَابِرِ
إِجْمَاعُ أُمَّتِنَا وَقَوْلُ نَبِيِّنَا مِثْلُ النُّصُوصِ لِذِي الْكِتَابِ الزَّاهِرِ
وَكَذَا الْمَدِينَةُ حُجَّةٌ إِنْ أَجْمَعُوا مُتَتَابِعِينَ أَوَائِلًا بِأَوَاخِرِ
وَإِذَا الْخِلَافُ أَتَى فَدُونَكَ فَاجْتَهِدْ وَمَعَ الدَّلِيلِ فَمِلْ بِهَمٍّ وَافِرِ
وَعَلَى الْأُصُولِ فَقِسْ فُرَوعَكَ لَا تَقِسْ فَرْعًا بِفَرْعٍ كَالْجَهُولِ الْحَائِرِ
وَالشَّرُّ مَا فِيهِ فَدَيْتُكَ أُسْوَةٌ فَانْظُرْ وَلَا تَحْفِلْ بِزَلَّةِ مَاهِرِ(2/171)
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَن قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ، وَمَنِ اسْتَشَارَ أَخَاهُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رُشْدِهِ فَقَدْ خَانَهُ ، وَمَن أُفْتِيَ بِفُتْيَا عَن غَيْرِ ثَبَتٍ فَإِنَّمَا إِثْمُهَا عَلَى مَن أَفْتَاهُ "(صحيح)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ ، قَالَ : " مَن أَفْتَى بِفُتْيَا وَهُوَ يَعْمَى عَنهَا كَانَ إِثْمُهَا عَلَيْهِ " .(2/172)
وَقَدِ احْتَجَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ النَّظَرِ عَلَى أَنَّ مَن أَجَازَ التَّقْلِيدَ بِحُجَجٍ نَظَرِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ بِغَيْرِ مَا تَقَدَّمَ فَأَحْسَنُ مَا رَأَيْتُ مِنَ ذَلِكَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَنَا أُورِدُهُ قَالَ : " يُقَالُ لِمَن حَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ : هَلْ لَكَ مِن حُجَّةٍ فِيمَا حَكَمْتَ بِهِ ؟ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ أُبْطِلَ التَّقْلِيدُ ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَا التَّقْلِيدُ ، وَإِنْ قَالَ : حَكَمْتُ فِيهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ قِيلَ لَهُ : فَلِمَ أَرَقْتَ الدِّمَاءَ وَأَبَحْتَ الْفُرُوجَ وَأَتْلَفْتَ الْأَمْوَالَ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِحُجَّةٍ ؟ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إِنْ عِنْدَكُمْ مِن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَيْ مِن حُجَّةٍ بِهَذَا فَإِنْ قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي قَدْ أَصَبْتُ وَإِنْ لَمْ أَعْرِفِ الْحُجَّةَ ؛ لِأَنِّي قَلَّدْتُ كَبِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ لَا يَقُولُ إِلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَلَيَّ ، قِيلَ لَهُ : إِذَا جَازَ تَقْلِيدُ مُعَلِّمِكَ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَلَيْكَ فَتَقْلِيدُ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِكَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَلَى مُعَلِّمِكَ ، كَمَا لَمْ يَقُلْ مُعَلِّمُكَ إِلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَلَيْكَ ، فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ تَرَكَ تَقْلِيدَ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِهِ ، وَكَذَلِكَ مَن هُوَ أَعْلَى حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ نَقَضَ قَوْلَهُ وَقِيلَ لَهُ : كَيْفَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَن هُوَ أَصْغَرُ وَأَقَلُّ عِلْمًا وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَن هُوَ أَكْبَرُ وَأَكْثَرُ عِلْمًا وَهَذَا يَتَنَاقَضُ ، فَإِنْ قَالَ : لِأَنَّ مُعَلِّمِي(2/173)
وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَ فَقَدْ جَمَعَ عِلْمَ مَن هُوَ فَوْقَهُ إِلَى عِلْمِهِ ، فَهُوَ أَبْصَرُ بِمَا أَخَذَ وَأَعْلَمُ بِمَا تَرَكَ قِيلَ لَهُ : وَكَذَلِكَ مَن تَعَلَّمَ مِن مُعَلِّمِكَ فَقَدْ جَمَعَ عِلْمَ مُعَلِّمِكَ وَعِلْمَ مَن فَوْقَهُ إِلَى عِلْمِهِ ؛ فَيَلْزَمُكَ تَقْلِيدُهُ وَتَرْكُ تَقْلِيدِ مُعَلِّمِكَ ، وَكَذَلِكَ أَنْتَ أَوْلَى أَنْ تُقَلِّدَ نَفْسَكَ مِن مُعَلِّمِكَ ؛ لِأَنَّكَ جَمَعْتَ عِلْمَ مُعَلِّمِكَ وَعِلْمَ مَن هُوَ فَوْقَهُ إِلَى عِلْمِكَ ، فَإِنْ فَادَ قَوْلَهُ جُعِلَ الْأَصْغَرَ وَمَن يُحَدِّثُ مِن صِغَارِ الْعُلَمَاءِ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِن أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَذَلِكَ الصَّاحِبُ عِنْدَهُ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ التَّابِعِ ، وَالتَّابِعُ مَن دُونَهُ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ والْأَعْلَى الْأَدْنَى أَبَدًا وَكَفَى بِقَوْلٍ يَؤُولُ إِلَى هَذَا قُبْحًا وَفُسَادًا " قَالَ أَبُو عُمَرَ : " وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ : حَدُّ الْعِلْمِ التَّبْيِينُ وَإِدْرَاكُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ ، فَمَن بَانَ لَهُ الشَّيْءُ فَقَدْ عَلِمَهُ ، قَالُوا : وَالْمُقَلِّدُ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِكَ وَمِن هَا هُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْبَخْتَرِيُّ فِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الزَّيَّاتِ :
عَرَفَ الْعَالِمُونَ فَضْلَكَ بِالْعِلْـ ـمِ وَقَالَ الْجُهَّالُ بِالتَّقْلِيدِ
وَأَرَى النَّاسَ مُجْمِعِينَ عَلَى فَضْلِكَ مِن بَيْنِ سَيِّدٍ وَمَسُودِ(2/174)
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ خُوَازٍ مِندَادٌ الْبَصْرِيُّ الْمَالِكِيُّ : " التَّقْلِيدُ مَعْنَاهُ فِي الشَّرْعِ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلٍ لَا حُجَّةَ لِقَائِلِهِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ مِنهُ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَالِاتِّبَاعُ مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ حُجَّةٌ " وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِن كِتَابِهِ : " كُلُّ مَنِ اتَّبَعْتَ قَوْلَهُ مِن غَيْرِ أَنْ يَجِبَ عَلَيْكَ قَبُولُهُ لِدَلِيلٍ يُوجِبُ ذَلِكَ فَأَنْتَ مُقَلِّدُهُ ، وَالتَّقْلِيدُ فِي دِينِ اللَّهِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَكُلُّ مَن أَوْجَبَ عَلَيْكَ الدَّلِيلُ اتِّبَاعَ قَوْلِهِ فَأَنْتَ مُتَّبِعُهُ والِاتِّبَاعُ فِي الدِّينِ مَسُوغٌ وَالتَّقْلِيدُ مَمْنُوعٌ "(2/175)
وعَن سُحْنُونَ ، قَالَ : كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ وَغَيْرُهُمْ يَخْتَلِفُونَ إِلَى ابْنِ هُرْمُزَ ، وَكَانَ إِذَا سَأَلَهُ مَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ أَجَابَهُمَا وَإِذَا سَأَلَهُ ابْنُ دِينَارٍ وَذَوُوهُ لَمْ يُجِبْهُمْ ، فَتَعَرَّضَ لَهُ ابْنُ دِينَارٍ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا بَكْرٍ لِمَ تَسْتَحِلُّ مِنِّي مَا لَا يَحِلُّ لَكَ ؟ قَالَ لَهُ : يَا ابْنَ أَخِي وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ : يَسْأَلُكَ مَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ فَتُجِيبُهُمَا وَأَسْأَلُكَ أَنَا وَذَوِي فَلَا تُجِيبُنَا ؟ فَقَالَ : " أَوَقَعَ ذَلِكَ يَا ابْنَ أَخِي فِي قَلْبِكَ ؟ " قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : إِنِّي قَدْ كَبُرَ سِنِّي وَرَقَّ عَظْمِي ، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ يَكُونَ خَالَطَنِي فِي عَقْلِي مِثْلُ الَّذِي خَالَطَنِي فِي بَدَنِي " وَمَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ عَالِمَانِ فَقِيهَانِ إِذَا سَمِعَا مِنِّي حَقًّا قَبِلَاهُ وَإِذَا سَمِعَا مِنِّي خَطَأً تَرَكَاهُ وَأَنْتَ وَذَوُوكَ مَا أَجَبْتُكُمْ بِهِ قَبِلْتُمُوهُ ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَارِثٍ : هَذَا وَاللَّهِ هُوَ الدِّينُ الْكَامِلُ وَالْعَقْلُ الرَّاجِحُ لَا كَمَن يَأْتِي بِالْهَذَيَانِ وَيُرِيدُ أَنْ يَنْزِلَ مِنَ الْقُلُوبِ مَنزِلَةَ الْقُرْآنِ " قَالَ أَبُو عُمَرَ : " يُقَالُ لِمَن قَالَ بِالتَّقْلِيدِ : لِمَ قُلْتُ بِهِ وَخَالَفْتَ السَّلَفَ فِي ذَلِكَ ؟ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُقَلِّدُوا فَإِنْ قَالَ : قَلَّدْتُ ؛ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا عِلْمَ لِي بِتَأْوِيلِهِ ، وَسُنَّةَ رَسُولِهِ لَمْ أُحْصِهَا وَالَّذِي قَلَّدْتُهُ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ فَقَلَّدْتُ مَن هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي قِيلَ لَهُ : أَمَّا الْعُلَمَاءُ إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى شَيْءٍ(2/176)
مِن تَأْوِيلِ الْكِتَابِ أَوْ حِكَايَةِ سُنَّةٍ عَن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوِ اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ الْحَقُّ لَا شَكَّ فِيهِ ، وَلَكِنْ قَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا قَلَّدَتْ فِيهِ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ ، فَمَا حُجَّتُكَ فِي تَقْلِيدِ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ ، وَكُلُّهُمْ عَالِمٌ وَلَعَلَّ الَّذِي رَغِبْتَ عَن قَوْلِهِ أَعْلَمُ مِنَ الَّذِي ذَهَبْتُ إِلَى مَذْهَبِهِ ، فَإِنْ قَالَ : قَلَّدْتُهُ لِأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّهُ صَوَابٌ قِيلَ لَهُ : عَلِمْتَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ مِن كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ ، فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ ، فَقَدْ أَبْطَلَ التَّقْلِيدَ وَطُولِبَ بِمَا ادَّعَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ وَإِنْ قَالَ : قَلَّدْتُهُ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ مِنِّي ، قِيلَ لَهُ : فَقَلِّدْ كُلَّ مَن هُوَ أَعْلَمُ مِنكَ فَإِنَّكَ تَجِدُ مِن ذَلِكَ خَلْقًا كَثِيرًا وَلَا يُحصَى مَن قَلَّدْتَهُ إِذْ عِلَّتُكَ فِيهِ أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنكَ وَتَجِدُهُمْ فِي أَكْثَرِ مَا يَنْزِلُ بِهِمْ مِنَ السُّؤَالِ مُخْتَلِفِينَ فَلِمَ قَلَّدْتَ أَحَدَهُمْ ؟ فَإِنْ قَالَ : قَلَّدْتُهُ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ النَّاسِ قِيلَ لَهُ : فَهُوَ إِذًا أَعْلَمُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَكَفَى بِقَوْلٍ مِثْلِ هَذَا قُبْحًا وَإِنْ قَالَ : إِنَّمَا قَلَّدْتُ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قِيلَ لَهُ : فَمَا حُجَّتُكَ فِي تَرْكِ مَن لَمْ تُقَلِّدْ مِنهُمْ ؟ وَلَعَلَّ مَن تَرَكْتَ قَوْلَهُ مِنهُمْ أَعْلَمُ وَأَفْضَلُ مِمَن أَخَذْتَ بِقَوْلِهِ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ لَا يَصِحُّ لِفَضْلِ قَائِلِهِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ"(2/177)
وعَن مَالِكٍ ، قَالَ : " لَيْسَ كُلَّمَا قَالَ رَجُلٌ قَوْلًا وَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ يُتَّبَعُ عَلَيْهِ " " يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (18) سورة الزمر ، فَإِنْ قَالَ : قِصَرِي وَقِلَّةُ عِلْمِي يَحْمِلُنِي عَلَى التَّقْلِيدِ ، قِيلَ لَهُ : أَمَّا مَن قَلَّدَ فِيمَا يَنْزِلُ بِهِ مِن أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ عَالِمًا بِمَا يَتَّفِقُ لَهُ عَلَى عِلْمِهِ فَيُصْدِرُ فِي ذَلِكَ عَمَّا يُخْزِهِ بِهِ فَمَعْذُورٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ وَأَدَّى مَا لَزِمَهُ فِيمَا نَزَلَ بِهِ لِجَهْلِهِ وَلَا بُدُّ لَهُ مِن تَقْلِيدِ عَالِمِهِ فِيمَا جَهِلَ ؛ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمَكْفُوفَ يُقَلِّدُ مَن يَثِقُ بِخَبَرِهِ فِي الْقِبْلَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ وَلَكِنْ مَن كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ هَلْ تَجُوزُ لَهُ الْفَتْوَى فِي شَرَائِعِ دِينِ اللَّهِ ؟ فَيَحْمِلُ غَيْرَهُ عَلَى إِبَاحَةِ الْفُرُوجِ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَاسْتِرْقَاقِ الرِّقَابِ وَإِزَالَةِ الْأَمْلَاكِ وَتَصْيِيرِهَا إِلَى غَيْرِ مَن كَانَتْ فِي يَدِهِ بِقَوْلٍ لَا يُعْرَفُ صِحَّتُهُ وَلَا قَامَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُقِرٌّ أَنَّ قَائِلَهُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ وَأَنَّ مُخَالِفَهُ فِي ذَلِكَ رُبَّمَا كَانَ الْمُصِيبَ فِيمَا خَالَفَهُ فِيهِ ، فَإِنْ أَجَازَ الْفَتْوَى لِمَن جَهِلَ الْأَصْلَ وَالْمَعْنَى لِحِفْظِهِ الْفُرُوعَ لَزِمَهُ أَنْ يُجِيزَهُ لِلْعَامَّةِ وَكَفَى بِهَذَا جَهْلًا وَرَدًّا لِلْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ وَقَالَ : أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا(2/178)
تَعْلَمُونَ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يُتَبَيَّنْ وَلَمْ يُسْتَيْقَنْ فَلَيْسَ بِعِلْمٍ وَإِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ، وَقَدْ مَضَى فِي هَذَا الْبَابِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا " فِيمَن أَفْتَى بِفُتْيَا وَهُوَ يَعْمَى عَنهَا أَنَّ إِثْمَهَا عَلَيْهِ " وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : " إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ " وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ فِي فَسَادِ التَّقْلِيدِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنِ الْإِكْثَارِ "
--------------
قلت : هذا ما استدل به ابن عبد البر على فساد التقليد ، وهو الذي تناقله من جاء بعده ممن حرَّم التقليد ، وقد بين ابن عبد البر أن الكلام فيمن كان له قدرة على معرفة الأدلة والتمييز بينها ، كابن ابن عبد البر مثلا ، فهذا يدور أمره بين مرتبتين إما الاجتهاد إن استطاع أو الاتباع على هدى لمن سبق .(2/179)
وأما الذي لا يستطيع ذلك ، فقال عنه : "، لَمْ تَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعَامَّةَ عَلَيْهَا تَقْلِيدَ عُلَمَائِهَا وَأَنَّهُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ :{ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (43) سورة النحل ،وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَعْمَى لَا بُدَّ لَهُ مِن تَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِمَن يَثِقُ بِمَيْزِهِ بِالْقِبْلَةِ إِذَا أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ مَن لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا بَصَرَ بِمَعْنَى مَا يَدِينُ بِهُ لَا بُدَّ لَهُ مِن تَقْلِيدِ عَالِمِهِ ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعَامَّةَ لَا يَجُوزُ لَهَا الْفُتْيَا ، وَذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِجَهْلِهَا بِالْمَعَانِي الَّتِي مِنهَا يَجُوزُ التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ وَالْقَوْلُ فِي الْعِلْمِ".
فهذا أبلغ ردٍّ على يحتجُّ بقوله على منع التقليد مطلقاً ، فهو مفتر على ابن عبد البر ، ولعل هذه الحملة الشديدة على التقليد كان سببها العصر الذي عاش فيه ابن عبد البر ، فهو معاصر لابن حزم ، وقد أوذي ابن حزم أذى شديدا بسبب منعه التقليد ، وإيجابه الاجتهاد على القادر عليه .
ومن هنا نقول : كلُّ الأدلة التي ساقها مانعي التقليد لا تنطبق إلا على حفنة قليلة من الناس ، وهم أهل العلم القادرين على الاجتهاد أو الاتباع ، والغالبية العظمى لا يقال هذا بحقها أصلاً .
فنشر مثل هذا الكلام بين العامة لمنع تقليدهم الأئمة الذين أجمعت الأمة عليهم إنما هو فتنة لهم بيقين ، فلا يجوز ذلك في دين الله تعالى ،ففي صحيح البخارى(127) عَنْ عَلِىٍّ أنه َقَالَ :" حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ".(2/180)
وفي صحيح مسلم(14)عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً.
فلو تركوا تقليد الأئمة فسوف يقلِّدون من هو دونهم بيقين في العلم والفهم ، فخرجوا من تقليد سائغ إلى تقليد حرام .
فالصحابة رضي الله عنهم كان غالبهم مقلِّدا لمن هو فوقه من الصحابة ، وهم الذين عاصروا التنزيل ، فكيف نوجب على الناس شيئا لا يطاق ولم يرده الله تعالى ؟!!
فلو أراده لجعل شرعه قطعيَّ الدلالة ، قطعيَّ الثبوت ، ولجعل الناس بسوية واحدة ، ولكنه ما أراد ذلك ، { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (64) سورة مريم، وقال تعالى : {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) } سورة هود.(2/181)
والمعنى يَا أَيُّها النَّبِيُّ إِنَّكَ حَرِيصٌ عَلَى إِيمَانِ قَوْمِكَ ، وَحَزِينٌ لإِعْرَاضِهِمْ ، أَوْ إِعْرَاضِ أَكْثَرِهِمْ ، عَنْ إِجَابَةِ دَعْوَتِكَ ، وَاللهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ كُلَّهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ، عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ ، بِمُقْتَضَى الغَرِيزَةِ وَالفِطْرَةِ ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمْ مُتَفَاوِتِينَ فِي الاسْتِعْدَادِ ، وَكَسْبِ العِلْمِ . وَكَانُوا فِي أَطْوَارِهِمُ الأُولَى لاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ كَثُرَتْ حَاجَاتُهُمْ وَتَنَوَّعَتْ ، وَكَثُرَتْ مَطَالِبُهُمْ ، فَظَهَرَ فِيهِم الاسْتِعْدَادَ لِلاخْتِلاَفِ ، وَهُمْ لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ فِي شُؤُونِهِمِ الدِّينِيَّةِ وَالدَّنْيَوِيَّةِ ، تَبَعاً لِمُيُولِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ ، وَاسْتِعْدَادِهِم الفِطْرِيِّ ، يَتَعَصَّبُ كُلُّ فَرِيقٍ لِرَأْيِهِ ، وَلِمَا وَجَدَ عَلَيْهَ آبَاءَهُ .
إِلاَّ الذِينَ رَحِمَهُمُ اللهُ فَإِنَّهُمْ يَبْقَوْنَ مُتَمَسِّكِينَ بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ ، وَغَيْرَ مُخْتَلِفِينَ ، وَلَقَدْ سَبَقَ عِلْمُ اللهِ أَنَّ النَّاسَ سَيَكُونُونَ مُخْتَلِفِينَ ، وَأَنَّ مِنْهُمْ فَرِيقاً سَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ ، وَسَتَكُونُ الجَنَّةَ مَصِيرَهُمْ وَمَأْوَاهُمْ ، وَقَدْ قَضَى اللهُ ، لِحِكْمَةٍ يَرَاهَا هُوَ ، أَنَّهُ سَيَمْلأُ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنِّ وَمِنَ البَشَرِ جَمِيعاً .(1)
ومن ثم تجد هؤلاء الذين يدَّعون هذه الدعوى العريضة لو خالفهم واحد ممن يقلِّدهم ، وقال لهم: أنتم رجالٌ ونحن رجال !!، بقول أو فعل لأقاموا الدنيا عليه وأقعدوها .
فهم يريدون منا أن نترك تقليد مَن أجمعتِ الأمةُ على علمهم وورعهم ، وتقليد من لم يجتمع عليه أهل قرية صغيرة !!
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (ج 1 / ص 1592)(2/182)
والتقليد هو التقليد ، بل ما رأيت واحداً ادعى هذه الدعوى اليوم إلا وكان أتباعه من أشدِّ المتعصبين له ، أكثر من تعصب أتباع الأئمة للأئمة بكثير .
فهم يحرِّمون التقليد ، ويأمرون الناس بالاجتهاد ، ثم ينقضونه إذا خالفهم أي واحد من أتباعهم أو أقرانهم .
وجميع هؤلاء لم يتوفر فيهم من شروط الاجتهاد عشر معشار ما توفر للعلماء السابقين.
وكلٌّ يدَّعي وصلاً بليلى وليلى لا تقرُّ لهم بذاكَ
- - - - - - - - - - - - - -
المبحث الواحد والعشرون
التقليدُ وما يسوغ منه وما لا يسوغ(1)
قال الخطيب البغدادي :" قَدْ ذَكَرْنَا الْأَدِلَّةَ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا الْمُجْتَهِدُ فِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ , وَبَقِيَ الْكَلَامُ فِي بَيَانِ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ الْعَامِّيُّ فِي الْعَمَلِ وَهُوَ التَّقْلِيدُ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ التَّقْلِيدَ هُوَ : قَبُولُ الْقَوْلِ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ وَالْأَحْكَامُ عَلَى ضَرْبَيْنِ عَقْلِيٍّ وَشَرْعِيٍّ ، فَأَمَّا الْعَقْلِيُّ : فَلَا يَجُوزُ فِيهِ التَّقْلِيدُ , كَمَعْرِفَةِ الصَّانِعِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَمَعْرِفَةِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَصِدْقِهِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ وَحُكِيَ عَن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنبَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (3) سورة الأعراف.
__________
(1) - الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ -بَابُ الْكَلَامِ فِي التَّقْلِيدِ وَمَا يَسُوغُ مِنهُ وَمَا لَا يَسُوغُ (ج 2 / ص 128) رقم (747 - 756)(2/183)
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (170) سورة البقرة .
وَقَالَ تَعَالَى : {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) }[الزخرف/23-25].(2/184)
وَقَالَ تَعَالَى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) } [الشعراء/69-77] ، فَتَرَكُوا جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ لِانْقِطَاعِهِمْ عَنهُ , وَكَشَفَتِ الْمَسْأَلَةُ عَن عَوَارِ مَذْهَبِهِمْ , فَذَكَرُوا مَا لَمْ يَسْأَلْهُمْ عَنهُ مِن فِعْلِ آبَائِهِمْ وَتَقْلِيدِهِمْ إِيَّاهُمْ , وَقَالَ تَعَالَى : {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} (67) سورة الأحزاب, وَقَالَ تَعَالَى : {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (31) سورة التوبة.(2/185)
عَن عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ , قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِن ذَهَبٍ , قَالَ : فَقَالَ لِي : " يَا ابْنَ حَاتِمٍ أَلْقِ هَذَا الْوَثَنَ مِن عُنُقِكَ " قَالَ : فَأَلْقَيْتُهُ , قَالَ : ثُمَّ افْتَتَحَ بِسُورَةِ بَرَاءَةَ , فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَا كُنَّا نعَبْدُهُمْ , فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " أَلَيْسَ كَانُوا يُحِلُّونَ لَكُمُ الْحَرَامَ فَتَسْتَحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْكُمُ الْحَلَالَ فَتُحَرِّمُونَهُ ؟ " , قَالَ : قُلْتُ : بَلَى , قَالَ : " فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ " ( حسن لغيره)
وعَن أَبِي الْبَخْتَرِيِّ , قَالَ : سُئِلَ حُذَيْفَةُ عَن هَذِهِ الْآيَةِ : اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِن دُونِ اللَّهِ أَكَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ ؟ قَالَ : " كَانُوا يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ , فَيُحِلُّونَهُ , وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَيُحَرِّمُونَهُ " ( حسن لغيره)
وعَن أَبِي الْبَخْتَرِيِّ , قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ حُذَيْفَةَ , فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ : أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِن دُونِ اللَّهِ أَكَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ , قَالَ : " لَا , وَلَكِنَّهُمُ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ , وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ "(حسن لغيره)(2/186)
وعَن أَبِي الْبَخْتَرِيِّ : اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِن دُونِ اللَّهِ وَقَالَ : " أَطَاعُوهُمْ فِيمَا أَمَرُوهُمْ بِهِ مِن تَحْلِيلِ حَرَامٍ وَتَحْرِيمِ حَلَالٍ , عَبَدُوهُمْ بِذَلِكَ " (صحيح)
وعَن أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ , قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : " لَا يُقَلِّدَنَّ رَجُلٌ دِينَهُ رَجُلًا , إِنْ آمَنَ آمَنَ , وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ "(سنده حسن).
قُلْتُ : وَلِأَنَّ طَرِيقَ الْأُصُولِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا الْعَقْلُ , وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي الْعَقْلِ , فَلَا مَعْنَى لِلتَّقْلِيدِ فِيهِ، وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ , فَضَرْبَانِ :
أَحَدُهُمَا : يُعْلَمُ ضَرُورَةً مِن دِينِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ , وَالزَّكَوَاتِ , وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ , وَالْحَجِّ , وَتَحْرِيمِ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ , وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ , لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي إِدْرَاكِهِ , وَالْعِلْمِ بِهِ , فَلَا مَعْنَى لِلتَّقْلِيدِ فِيهِ .(2/187)
وَضَرْبٌ آخَرُ : لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ : كَفُرُوعِ الْعِبَادَاتِ , وَالْمُعَامَلَاتِ , وَالْفُرُوجِ , وَالْمُنَاكَحَاتِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ , فَهَذَا يُسَوَّغُ فِيهِ التَّقْلِيدُ , بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (43) سورة النحل، وَلِأَنَّا لَوْ مَنَعْنَا التَّقْلِيدَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي هِيَ مِن فُرُوعِ الدِّينِ لَاحْتَاجَ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ ذَلِكَ , وَفِي إِيجَابِ ذَلِكَ قَطْعٌ عَنِ الْمَعَايِشِ , وَهَلَاكُ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ , فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ "(1)
وقَالَ أَبُو بَدْرٍ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ قَيْسٍ , يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ , قَالَ : " أَهْلُ الْعِلْمِ "(2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ رَجُلًا , أَصَابَهُ جُرْحٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْنِي : فَاحْتَلَمَ فَأُمِرَ بِالِاغْتِسَالِ , فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ , فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - , فَقَالَ : " قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ , إِنَّ شِفَاءَ الْعِيِّ السُّؤَالُ " قَالَ عَطَاءٌ : فَبَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ بَعْدَ ذَلِكَ , فَقَالَ : " لَوْ غَسَلَ جَسَدَهُ , وَتَرَكَ رَأْسَهُ حَيْثُ أَصَابَهُ يَعْنِي : الْجُرْحَ "(3)
__________
(1) - الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي - (ج 2 / ص 350) برقم(751 )
(2) - نفسه برقم (752)
(3) - سنن أبى داود برقم(336 و337) والفقيه والمتفقه برقم(753) وهو حسن(2/188)
وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِن أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَكَانَ فَرْضُهُ التَّقْلِيدَ , كَتَقْلِيدِ الْأَعْمَى فِي الْقِبْلَةِ , فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ آلَةُ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ , كَانَ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ الْبَصِيرِ فِيهَا وَحُكِيَ عَن بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ , أَنَّهُ قَالَ : لَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ الْعَمَلُ بِقَوْلِ الْعَالِمِ حَتَّى يَعْرِفَ عِلَّةَ الْحُكْمِ , وَإِذَا سَأَلَ الْعَالِمَ فَإِنَّمَا يَسْأَلُهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ طَرِيقَ الْحُكْمِ , فَإِذَا عَرَّفَهُ وَقَفَ عَلَيْهِ وَعَمِلَ بِهِ وَهَذَا غَلَطٌ , لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْعَامِّيِّ إِلَى الْوقُوفِ عَلَى ذَلِكَ , إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَفَقَّهَ سِنِينَ كَثِيرَةً , وَيُخَالِطَ الْفُقَهَاءَ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ , وَيَتَحَقَّقَ طُرُقَ الْقِيَاسِ , وَيَعْلَمَ مَا يُصَحِّحُهُ وَيُفْسِدُهُ وَمَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ , وَفِي تَكْلِيفِ الْعَامَّةِ بِذَلِكَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطِيقُونَهُ , وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا الْعَالِمُ : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ ؟
يُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا عَلَيْهِ , يُمْكِنُهُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ , لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّقْلِيدُ , وَلَزِمَهُ طَلَبُ الْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ وَمِنَ النَّاسِ مَن قَالَ : يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ .
قَالَ : سَمِعْتُ سُفْيَانَ , يَقُولُ : " مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ , فَلَا أَنْهَى أَحَدًا مِن إِخْوَانِي أَنْ يَأْخُذَ بِهِ "(1)
__________
(1) - قواطع الأدلة فى الأصول / للسمعانى - (ج 1 / ص 11) والمسودة - الرقمية - (ج 1 / ص 459)(2/189)
وقال سُفْيَانَ(1): " إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الَّذِي قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ وَأَنْتَ تَرَى غَيْرَهُ فَلَا تَنْهَهُ " وَرُوِي عَن مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ , أَنَّهُ قَالَ : يَجُوزُ لِلْعَالِمِ تَقْلِيدُ مَن هُوَ أَعْلَمُ مِنهُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مِثْلِهِ"(2).
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ أَصْلًا مَعَ اتِّسَاعِ الْوَقْتِ : أَنَّ مَعَهَ آلَةً يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ , فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ , كَمَا قُلْنَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ , وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْوَقْتُ قَدْ ضَاقَ , وَخُشِيَ فَوَاتُ الْعِبَادَةِ إِنِ اشْتَغَلَ بِالِاجْتِهَادِ , فَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ , لِأَنَّ مَعَهُ آلَةَ الِاجْتِهَادِ , فَأَشْبَهَ إِذَا كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا , وَقِيلَ , هَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ , وَاللَّهُ أَعْلَمُ "(3).
قلت : وكلام البغدادي واضح لا يحتاج إلى تفسير ، فقد فسره بنفسه .
- - - - - - - - - - - - - -
المبحث الثاني والعشرون
تَقْلِيدِ الْعَامِّيِّ لِلْعَالِمِ(4)
__________
(1) - الفقيه والمتفقه برقم(754) وفي رواد كلام
(2) - حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء - (ج 1 / ص 1) والفقيه والمتفقه - (ج 1 / ص 418)برقم(755 ) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 311) والتقليد والإفتاء والاستفتاء - (ج 1 / ص 16)
(3) - الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي - (ج 2 / ص 356) برقم(756)
(4) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ -بَابُ تَقْلِيدِ الْعَامِّيِّ لِلْعَالِمِ رقم(199- 207)(2/190)
قال البيهقي رحمه الله : " قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (43) سورة النحل ، وَقَالَ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ قَالَ : يَعْنِي أَهْلَ الْفِقْهِ وَالدَّيْنِ , وَأَهْلَ طَاعَةِ اللَّهِ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَعَانِيَ دِينِهِمْ , وَيَأْمُرُونَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ , فَأَوْجَبَ اللَّهُ طَاعَتَهُمْ"(صحيح لغيره)
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمِرِ مِنكُمْ قَالَ : الْأُمَرَاءُ , قَالَ وَكِيعٌ : يَعْنِي أُمَرَاءَ السَّرَايَا , الَّذِينَ كَانُوا يَبْعَثُهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - . وَعَنِ الْأَعْمَشِ عَن مُجَاهِدٍ قَالَ : أُولِي الْفِقْهِ مِنكُمْ "
وعَن جَابِرٍ : وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ قَالَ : أُولي الْفِقْهِ وَالْخَيْرِ (حسن)
وعَن عَطَاءٍ والحسن قَالَا : أُولُو الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ "( صحيح)
وعَن مُجَاهِدٍ قَالَ : أُولُو الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ قَالَ : إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ قَالَ : إِلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , ثُمَّ قَرَأَ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنهُمْ "(صحيح)(2/191)
وعَن مُجَاهِدٍ : وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ قَالَ : يَعْنِي أُولِي الْفِقْهِ فِي الدِّينِ وَالْعَقْلِ"(صحيح)
وعَنِ الْحَسَنِ قَالَ : يَعْنِي أُولِي الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَالرَّأْي وَالْفَضْلِ "(حسن)
وعَن أَبِي وَائِلٍ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ : لَقَدْ أَتَانِي الْيَوْمَ رَجُلٌ يَسْأَلُنِي عَن أَمَرٍ مَا دَرِيتُ مَا أَرُدُّ عَلَيْهِ , قَالَ : أَرَأَيْتَ رَجُلًا مُؤْدِيًا نَشِيطًا يَخْرُجُ مَعَ أُمَرَائِنَا فِي الْمَغَازِي , فَيَعْزِمُوا عَلَيْنَا فِي أَشْيَاءَ لَا نُحْصِيهَا , فَقُلْتُ : وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ , إِلَّا إِنَّا كُنَّا نَكُونُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَعَسَى أَنْ لَا يَعْزِمَ عَلَيْنَا فِي الْأَمْرِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً حَتَّى نَفْعَلَهُ , وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يَزَالَ بِخَيْرٍ مَا اتَّقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَإِذَا شَكَّ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ سَأَلَ رَجُلًا فَشَفَاهُ , وَأَوْشَكَ أَنْ لَا تَجِدُوهُ , وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا أَذْكُرُ مَا غَبَرَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا كَالثَّغْبِ شُرِبَ صَفْوُهُ وَبَقِي كَدَرُهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ(1)
وعَن شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ وَهُوَ أَبُو وَائِلٍ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ , إِلَّا أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَزَالُ بِخَيْرٍ مَا اتَّقَى اللَّهَ فَإِذَا حَاكَ فِي صَدْرِهِ شَيْءٌ أَتَى رَجُلًا عَالِمًا فَسَأَلَهُ فَشَفَاهُ مِنهُ وَأَيْمُ اللَّهِ لَيوشِكَنَّ أَنْ لَا تَجِدُوهُ "(صحيح)
__________
(1) - صحيح البخارى(2964 )(2/192)
وعَن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَخَذُوا الْعِلْمَ عَن أَكَابِرِهِمْ وَعَن أُمَنَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ , فَإِذَا أَخَذُوهُ مِن أَصَاغِرِهِمْ وَشِرَارِهِمْ هَلَكُوا "(صحيح)
- - - - - - - - - - - - - - -
المبحث الثالث والعشرون
رأي الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالاجتهاد والتقليد(1)
قال في الدرر السنية : "وتضمن أيضاً كلام ابن هبيرة، أن إجماع الأئمة الأربعة حجة، وأن الحق لا يخرج عن أقوالهم؛ فلا يخرج القاضي عما أجمعوا عليه; فإن اختلفوا، فالأولى أن يتبع ما عليه الأكثر; وصرح بأنه يكره له أن يقضي بما انفرد به الواحد منهم عما عليه الثلاثة، لكونه مذهب شيخه أو أهل بلده، وذكر أنه يخاف على هذا أن يكون متبعاً لهواه.
وتضمن كلامه أيضاً: أن الإجماع انعقد على تقليد كل واحد من المذاهب الأربعة دون من عداهم من الأئمة، لأن مذاهبهم مدونة، قد حررت، ونقحها أتباعهم، بخلاف أقوال غيرهم من الأئمة؛ فلأجل هذا جاز تقليدهم. فليس في كلامه إلا حكاية الإجماع على جواز تقليدهم، لا على وجوبه؛ بل صرح بأن القاضي لا ينبغي له الاقتصار على مذهب واحد منهم، لا يفتي إلا به.
بل ذكر أن الأولى للقاضي أن يتوخى مواطن الاتفاق إن وجده، وإلا توخَّى ما عليه الأكثر، فيعمل بما قاله الجمهور، لا بما قاله الواحد منهم مخالفاً الأكثر.
__________
(1) - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 4 / ص 50)(2/193)
فقضية كلامه: أن المقلد لا يخرج عن أقوال الأئمة الأربعة، بل يجتهد في أقوالهم، ويتوخى ما عليه أكثرهم، إلا أن يكون للواحد منهم دليل، فيأخذ بقول من كان الدليل معه، فيكون من { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [سورة الزمر آية: 18]، وهذا من جنس ما أشرنا إليه فيما تقدم، من أن المقلد إذا كان نبيهاً، وله ملكة قوية، ونظر فيما تنازع فيه الأئمة، وأمعن النظر في أدلتهم وتعليلاتهم، تبين له الراجح من المرجوح، وحينئذ فيعمل بما ترجح عنده أنه الصواب، ولا يخرج بذلك عن التقليد.
فإذا كان الرجل شافعياً أو حنبلياً، ونظر في كتب الخلاف، ووجد دليلاً صحيحاً قد استدلَّ به مالك، فعمل بالدليل، كان هذا هو المناسب في حقه، فيجعل إماماً بإزاء إمام، ويسلم له الدليل بلا معارض؛ وليس هذا من الاجتهاد المطلق، بل هو من الاجتهاد المقيد؛ فهو يتبع الدليل، ويقلد الإمام الذي قد أخذ به.
وأما الأخذ بالدليل، من غير نظر إلى كلام العلماء، فهو وظيفة المجتهد المطلق؛ وأما المقلد الذي لم تجتمع فيه الشروط، ففرضه التقليد وسؤال أهل العلم؛ قال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبي عن الرجل تكون عنده الكتب المصنفة، فيها قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، واختلاف الصحابة والتابعين، وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك، ولا الإسناد القوي من الضعيف، أفيجوز أن يعمل بما شاء؟ ويتخير ما أحب منها، فيفتي به ويعمل به؟ قال: لا; لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها، فيكون يعمل على أمر صحيح، يسأل عن ذلك أهل العلم. انتهى كلامه.
وأما إذا وجد الحديث قد عمل به بعض الأئمة المجتهدين ولم يعلم عند غيره حجة يدفع بها الحديث، فعمل به، كان قد عمل بالحديث وقلد هذا الإمام المجتهد في تصحيحه وعدم ما يعارضه، فيكون متبعاً للدليل، غير خارج عن التقليد".(2/194)
وفيها أيضاً(1):" فإن لم يكن الحكم متفقاً عليه، نظر فيما عليه الجمهور، إذا لم يكن مع مخالفهم دليل; فليس الناظر في كتب الخلاف، ومعرفة الأدلة بخارج عن التقليد; وليس في كلام صاحب الإفصاح ما يقتضي التمذهب بمذهب لا يخرج عنه؛ بل كلامه صريح في ضد ذلك.
وهذه الشبهة ألقاها الشيطان على كثير ممن يدعي العلم، وصال بها أكثرهم، فظنوا أن النظر في الأدلة أمر صعب لا يقدر عليه إلا المجتهد المطلق، وأن من نظر في الدليل، وخالف إمامه لمخالفة قوله لذلك الدليل، فقد خرج عن التقليد، ونسب نفسه إلى الاجتهاد المطلق.
واستقرت هذه الشبهة في قلوب كثير، حتى آل الأمر بهم إلى أن { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [سورة المؤمنون آية: 53]، وزعموا أن هذا هو الواجب عليهم، وأن من انتسب إلى مذهب إمام، فعليه أن يأخذ بعزائمه ورخصه، وإن خالف نص كتاب أو سنَّة؛ فصار إمام المذهب عند أهل مذهبه كالنبي في أمته، لا يجوز الخروج عن قوله، ولا تجوز مخالفته.
فلو رأى واحداً من المقلدين قد خالف مذهبه، وقلد إماماً آخر في مسألة لأجل الدليل الذي استدلَّ به، قالوا: هذا قد نسب نفسه إلى الاجتهاد، ونزل نفسه منْزلة الأئمة المجتهدين، وإن كان لم يخرج عن التقليد، وإنما قلد إماماً دون إمام آخر، لأجل الدليل، وعمل بقوله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [سورة النساء آية: 59].
فالمتعصبون للمذاهب إذا وجدوا دليلاً ردوه إلى نص إمامهم، فإن وافق الدليل نص الإمام قبلوه، وإن خالفه ردوه واتبعوا نص الإمام، واحتالوا في ردِّ الأحاديث بكل حيلة يهتدون إليها.
__________
(1) - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 4 / ص 54)(2/195)
فإذا قيل لهم: هذا حديث رسول الله، قالوا: أنت أعلم بالحديث من الإمام الفلاني؟! أمثال ذلك: إذا حكمنا بطهارة بول ما يؤكل لحمه، وحكم الشافعي بنجاسته، وقلنا له: قد دلَّ على طهارته حديث العرنيين، وهو حديث صحيح.
وكذلك حديث أنس في الصلاة في مرابض الغنم، فقال هذا المنجس لأبوال مأكول اللحم: أنت أعلم بهذه الأحاديث من الإمام الشافعي؟ فقد سمعها ولم يأخذ بها; فنقول له: قد خالف الشافعي في هذه المسألة من هو مثله، أو هو أعلم منه، كمالك والإمام أحمد، رحمهما الله، وغيرهما من كبار الأئمة، فنجعل هؤلاء الأئمة بإزاء الشافعي ونقول: إمام بإمام، وتسلم لنا الأحاديث، ونردُّ الأمر إلى الله والرسول عند تنازع هؤلاء الأئمة، ونتبع الإمام الذي أخذ بالنص، ونعمل بقوله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [سورة النساء آية: 59]، فنمتثل ما أمر الله به؛ وهذا هو الواجب علينا.
ولسنا في هذا العمل خارجين عن التقليد، بل خرجنا من تقليد إمام، إلى تقليد إمام آخر، لأجل الحجة التي أدلى بها من غير معارض لها ولا ناسخ؛ فالانتقال من مذهب إلى مذهب آخر، لأمر ديني، بأن تبين له رجحان قول على قول، فيرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الدليل، مثاب على فعله، بل واجب على كل أحد، إذا تبين له حكم الله ورسوله، في أمر، أن لا يعدل عنه، ولا يتبع أحداً في مخالفة حكم الله ورسوله؛ فإن الله فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كل حال، كما تقدم ذكره.
وقد ذكرنا أن الشافعي، رحمه الله، قال: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس؛ وأما الانتقال من مذهب إلى مذهب، لمجرد الهوى، أو لغرض دنيوي، فهذا لا يجوز، وصاحبه يكون متبعاً لهواه.(2/196)
وقد نص الإمام أحمد، رحمه الله، على أنه: ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجباً، أو محرماً، ثم يعتقده غير واجب أو محرم، بمجرد هواه، وذلك مثل: أن يكون طالباً للشفعة بالجوار، فيعتقدها أنها حق، ويقول: مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة أرجح من مذهب الجمهور، ثم إذا طلبت منه الشفعة بالجوار، اعتقد أنها ليست ثابتة، وقال: مذهب الجمهور في هذه المسألة أرجح.
ومثل من يعتقد: إذا كان أخاً مع جد، أن الإخوة تقاسم الجد، كما هو مذهب الأئمة الثلاثة، فإذا كان جد، مع أخ، اعتقد أن الجد يسقط الإخوة كما هو مذهب أبي حنيقة؛ فهذا ونحوه لا يجوز، وصاحبه مذموم، بل يجب عليه أن يعتقد الحق فيما له وعليه، ولا يتبع هواه، ولا يتبع الرخص؛ فمتبع الرخص مذموم، والمتعصب للمذهب مذموم، وكلاهما متبع هواه.
والمتعصبون لمذاهب الأئمة تجدهم في أكثر المسائل قد خالفوا نصوص أئمتهم، واتبعوا أقوال المتأخرين من أهل مذهبهم، فهم يحرصون على ما قاله الآخر، فالآخر; وكلما تأخر الرجل أخذوا بكلامه، وهجروا أو كادوا يهجرون كلام من فوقه; فأهل كل عصر إنما يقضون بقول الأدنى فالأدنى إليهم، وكلما بعد العهد، ازداد كلام المتقدمين هجراً ورغبة عنه، حتى إن كتب المتقدمين لا تكاد توجد عندهم، فإن وقعت في أيديهم، فهي مهجورة.
فالحنابلة قد اعتمدوا على ما في الإقناع، والمنتهى، ولا ينظرون فيما سواهما، ومن خالف مذهب المتأخرين، فهو عندهم مخالف لمذهب أحمد، رحمه الله، مع أن كثيراً من المسائل التي جزم بها المتأخرون مخالفة لنصوص أحمد، يعرف ذلك من عرفه، وتجد كتب المتقدمين من أصحاب أحمد مهجورة عندهم؛ بل قد هجروا كتب المتوسطين، ولم يعتمدوا إلا على كتب المتأخرين.
ف "المغني" و"الشرح" و"الإنصاف" و"الفروع" ونحو هذه الكتب، التي يذكر فيها أهلها خلاف الأئمة، أو خلاف الأصحاب، لا ينظرون فيها؛ فهؤلاء في الحقيقة أتباع الحجاوي وابن النجار، لا أتباع الإمام أحمد.(2/197)
وكذلك متأخرو الشافعية، هم في الحقيقة أتباع ابن حجر الهيتمي صاحب "التحفة" وأضرابه من شراح المنهاج؛ فما خالف ذلك من نصوص الشافعي، لا يعبؤون به شيئاً.
وكذلك متأخرو المالكية، هم في الحقيقة: أتباع خليل، فلا يعبؤون بما خالف مختصر خليل شيئاً، ولو وجدوا حديثاً ثابتاً في الصحيحين، لم يعملوا به إذا خالف المذهب، وقالوا: الإمام الفلاني أعلم منا بهذا الحديث، { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [سورة المؤمنون آية: 53]؛ وكل أهل مذهب اعتمدوا على كتب متأخريهم، فلا يرجعون إلا إليها، ولا يعتمدون إلا عليها.
وأما كتب الحديث، كالأمهات الست، وغيرها من كتب الحديث، وشروحها، وكتب الفقه الكبار، التي يذكر فيها خلاف الأئمة وأقوال الصحابة والتابعين، فهي عندهم مهجورة، بل هي في الخزانة مسطورة، للتبرك بها لا للعمل.
ويعتذرون بأنهم قاصرون عن معرفتها، فالأخذ بها وظيفة المجتهدين، والاجتهاد قد انطوى بساطه من أزمنة متطاولة، ولم يبق إلا التقليد، والمقلِّد يأخذ بقول إمامه، ولا ينظر إلى دليله وتعليله.
ولم يميزوا بين المجتهد المطلق، الذي قد اجتمعت فيه شروط الاجتهاد، فهو يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد ولا تقييد، وبين المجتهد في مذهب إمامه أو في مذاهب الأئمة الأربعة، من غير خروج عنها؛ فهو ملتزم لمذهب إمام من الأئمة، وينظر في كتب الخلاف، ويمعن النظر في الأدلة، فإذا رأى الدليل بخلاف مذهبه، قلَّد الإمام الذي قد أخذ بالدليل؛ فهو اجتهاد مشوب بالتقليد.
فينظر إلى ما اتفقوا عليه ويأخذ به، فإن اختلفوا نظر في الأدلة؛ فإن وجد مع أحدهم دليلاً أخذ بقوله، فإن لم يجد في المسألة دليلاً من الجانبين، أخذ بما عليه الجمهور، فإن لم يجد ذلك، بل قوي الخلاف عنده من الجانبين، التزم قول إمامه، إذا لم يترجح عنده خلافه.(2/198)
فأكثر المقلدين لا يميزون بين المجتهد المستقلِّ من غيره، وجعلوهما نوعاً واحداً; وهذا غلط واضح; فإن من كان قاصراً في العلم، لا يستقل بأخذ الأحكام من الأدلة، بل يسأل أهل العلم، كما نص عليه الإمام أحمد، رحمه الله، في رواية ابنه عبد الله؛ وقد ذكرناه فيما تقدم.
وأما الاجتهاد المقيد بمذاهب الأئمة، وتوخي الحقَّ بما دلَّ عليه الدليل، وبما عليه الجمهور، فهذا هو الذي لا ينبغي العدولُ عنه، وهو الذي ذكره صاحب الإفصاح. وأما لزوم التمذهب بمذهب بعينه بحيث لا يخرج عنه، وإن خالف نص الكتاب أو السنَّة، فهذا مذموم غير ممدوح؛ وقد ذمه صاحب الإفصاح كما تقدم ذكره، بل قد ذمه الأئمة، رضي الله عنهم.
قال الشافعي، قدس الله روحه: طالب العلم بلا حجة، كحاطب ليل، يحملُ حزمة حطب وفيها أفعى تلدغه، وهو لا يدري.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لا يحلُّ لأحد أن يقول بقولنا، حتى يعلم من أين قلناه؛ وقد صرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب، لقول إبراهيم النخعي، أنه يستتاب، فكيف بمن ترك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول من هو دون إبراهيم أو مثله؟!
قال جعفر الفريابي: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني الهيثم بن جميل، قلت لمالك بن أنس رضي الله عنه: يا أبا عبد الله، إن عندنا قوماً وضعوا كتباً، يقول أحدهم: حدثنا فلان عن فلان، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكذا وكذا، وفلان عن إبراهيم بكذا، ويأخذ بقول إبراهيم; قال مالك: وصح عندهم قول عمر؟ قلت: إنما هي رواية، كما صح عندهم قول إبراهيم، فقال: هؤلاء يستتابون.
وذكر قول ابن عبد البر الآنف الذكر ، ثم قال : " فتأمل ما في هذا الكلام من الرد على من يقول بلزوم التمذهب بمذهب من هذه المذاهب الأربعة، لا يخرج عن ذلك المذهب، ولو وجد دليلاً يخالفه، لأن الإمام صاحب المذهب أعلم بمعناه، ويجعل هذا عذراً له في ردِّ الحديث، أو ترك العمل به إذا خالف المذهب.(2/199)
وتأمل قوله: لا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد؛ ومراده إذا كان المقلد قادراً على الاستدلال، وأما العاجز عنه، فهو كالأعمى يقلد في جهة القبلة، فهو معذور إذا كان عاجزا.
وقد حكى الإمام أبو محمد ابن حزم الإجماع على أنه لا يجوز التزام مذهب بعينه، لا يخرج عنه، فقال: أجمعوا على أنه لا يجوز لحاكم ولا لمفت تقليد رجل، فلا يحكم ولا يفتي إلا بقوله. انتهى. فحكاية الإجماع من هذين الإمامين، أعني أبا عمر ابن عبد البر، وأبا محمد ابن حزم كاف في إبطال قول المتعصبين للمذهب؛ والله سبحانه وتعالى أعلم، ونسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فإنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
- - - - - - - - - - - - - - -
المبحث الرابع والعشرون
رأي الشيخ محمد بن عبد الوهاب بتقليد المذاهب الأربعة(1)
جاء في الدرر السنية : "ونحن أيضا في الفروع، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولا ننكر على من قلَّد أحد الأئمة الأربعة، دون غيرهم، لعدم ضبط مذاهب الغير، الرافضة، والزيدية، والإمامية، ونحوهم، ولا نقرُّهم ظاهرا على شيء من مذاهبهم الفاسدة، بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة.
ولا نستحقُّ مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحد لدينا يدعيها، إلا أننا في بعض المسائل، إذا صح لنا نص جليٌّ، من كتاب، أو سنة غير منسوخ، ولا مخصص، ولا معارض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة: أخذنا به، وتركنا المذهب، كإرث الجد والإخوة، فإنا نقدم الجد بالإرث، وإن خالف مذهب الحنابلة.
__________
(1) - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 1 / ص 227)(2/200)
ولا نفتش على أحد في مذهبه، ولا نعترض عليه، إلا إذا اطلعنا على نصٍّ جليٍّ، مخالف لمذهب أحد الأئمة، وكانت المسألة مما يحصل بها شعار ظاهر، كإمام الصلاة، فنأمر الحنفي، والمالكي مثلا، بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال، والجلوس بين السجدتين، لوضوح دليل ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة، فلا نأمره بالإسرار، وشتان ما بين المسألتين، فإذا قوي الدليل أرشدناهم بالنص، وإن خالف المذهب، وذلك يكون نادرا جدا. ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض، فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد، وقد سبق جمع من أئمة المذاهب الأربعة، إلى اختيارات لهم في بعض المسائل، مخالفين للمذهب، الملتزمين تقليد صاحبه.
ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله، بالتفاسير المتداولة المعتبرة، ومن أجلها لدينا: تفسير ابن جرير، ومختصره لابن كثير الشافعي، وكذا البغوي، والبيضاوي، والخازن، والحداد، والجلالين، وغيرهم، وعلى فهم الحديث، بشروح الأئمة المبرزين: كالعسقلاني، والقسطلاني، على البخاري، والنووي على مسلم، والمناوي على الجامع الصغير.
ونحرص على كتب الحديث، خصوصا: الأمهات الست، وشروحها، ونعتني بسائر الكتب، في سائر الفنون، أصولا، وفروعا، وقواعد، وسيرا، ونحوا، وصرفا، وجميع علوم الأمة. ولا نأمر بإتلاف شيء من المؤلفات أصلا، إلا ما اشتمل على ما يوقع الناس في الشرك، كروض الرياحين، أو يحصل بسببه خلل في العقائد، كعلم المنطق، فإنه قد حرَّمه جمع من العلماء، على أنا لا نفحص عن مثل ذلك، وكالدلائل، إلا إن تظاهر به صاحبه معاندا، أتلف عليه، وما اتفق لبعض البدو، في إتلاف بعض كتب أهل الطائف، إنما صدر منه لجهله، وقد زجر هو وغيره عن مثل ذلك".
- - - - - - - - - - - - - - -
المبحث الخامش والعشرون
هل يعمل المقلد بالدليل عند محمد بن عبد الوهاب ؟(1)
__________
(1) - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 4 / ص 12)(2/201)
"قال ابنا الشيخ: الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، رحمهم الله: عقيدة الشيخ، رحمه الله، التي يدين الله بها هي عقيدتنا، وديننا الذي ندين الله به، وهي عقيدة سلف الأمة وأئمتها، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهو: اتباع ما دلَّ عليه الدليل، من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وعرض أقوال العلماء على ذلك؛ فما وافق كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - قبلناه، وأفتينا به، وما خالف ذلك، رددناه على قائله.
وهذا هو الأصل الذي أوصانا به في كتابه حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية [سورة النساء آية: 59]، أجمع المفسرون على أن الرد إلى الله هو: الرد إلى كتابه، وأن الرد إلى الرسول هو: الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته.
والأدلة على هذا الأصل كثيرة في الكتاب والسُّنَّة؛ وإذا تفقه الرجل في مذهب من المذاهب الأربعة، ثم رأى حديثاً يخالف مذهبه، فاتبع الدليل، وترك مذهبه، كان هذا مستحباً، بل واجباً عليه إذا تبين له الدليل، ولا يكون بذلك مخالفاً لإمامه الذي اتبعه؛ فإن الأئمة كلهم متفقون على هذا الأصل: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، رضي الله عنهم أجمعين.(2/202)
قال الإمام مالك: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال الشافعي لأصحابه: إذا صح الحديث عندكم فاضربوا بقولي الحائط، وفي لفظ: إذا صح الحديث عندكم فهو مذهبي. وقال الإمام أحمد، رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان؛ والله يقول: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63]. أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. وقال لبعض أصحابه: لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكاً، ولا الشافعي، وتعلموا كما تعلَّمنا. وكلام الأئمة في هذا كثير جداً، ومبسوط في غير هذا الموضع.
وأما إذا لم يكن عند الرجل دليل في المسألة، يخالف القول الذي نص عليه العلماء أصحاب المذاهب، فنرجو أنه يجوز له العمل به، لأن رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا، وهم إنما أخذوا الأدلة من أقوال الصحابة فمن بعدهم؛ ولكن لا ينبغي الجزم بأن هذا شرع الله ورسوله، حتى يتبين الدليل الذي لا معارض له في المسألة; وهذا عمل سلف الأمة وأئمتها قديماً وحديثاً؛ والذي ننكره هو التعصب للمذاهب، وترك اتباع الدليل.
وقالا أيضاً: اعلم أن مسائل الخلاف بين الأئمة، لا إنكار فيها، إذا لم يتبين الدليل القاطع; والصحابة، رضي الله عنهم، قد اختلفوا في أشياء من مسائل الفروع، ولم ينكر بعضهم على بعض؛ وكذلك العلماء بعدهم، وأن كلاً منهم قد قال بما عنده من العلم.(2/203)
وقالا أيضاً، لما سئلا عن العمل بصريح الحديث: الذي ينبغي لطالب العلم: أن يبحث عن كلام أهل العلم في المسألة التي دل عليها الحديث، وهل هو معمول به عندهم، أم هو منسوخ؟ أم قد عارضه ما هو أقوى منه؟ فإذا فعل ذلك، وعرف مذاهب العلماء في المسألة، وتبين له أن الحديث محكم صحيح، وجب عليه العمل به؛ هذا إذا كان الإنسان من أهل المعرفة بالحديث، وكلام العلماء، وكان قد سبقه إليه من أهل العلم من يقتدى به، ولو خالف مذهبه الذي ينتسب إليه؛ وإذا كان الرجل ليس له معرفة بالحديث، وكلام العلماء، وترجيح الأقوال، فإنما وظيفته تقليد أهل العلم،قال الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43].
وعندنا: أن الإمام ابن القيم، وشيخه: إماما حق، من أهل السنة، وكتبهم من أعز الكتب، إلا أنا غير مقلدين لهم في كل مسألة، فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا نبينا - صلى الله عليه وسلم - .
- - - - - - - - - - - - -
المبحث السادس والعشرون
رأي الشيخ صالح الفوزان بالاجتهاد والتقليد(1)
__________
(1) - المنتقى من فتاوى الفوزان - (ج 97 / ص 10)(485)(2/204)
قال الفوزان :"الذي عنده القدرة على الاجتهاد المطلق لا يجوز له التقليد، والذي لا يقدر يقلد من هو أعلم منه، والتمذهب بمذهب واحد من المذاهب الأربعة المعروفة التي بقيت وحفظت وحررت بين المسلمين والانتساب إلى مذهب منها لا مانع منه، فيقال : فلان شافعي، وفلان حنبلي، وفلان حنفي، وفلان مالكي، ولا زال هذا اللقب موجودًا من قديم بين العلماء حتى كبار العلماء يقال مثلاً : ابن تيمية الحنبلي وابن القيم الحنبلي وما أشبه ذلك ولا حرج في ذلك، ومجرد الانتماء إلى المذهب لا مانع منه لكن بشرط أن لا يتقيد بهذا المذهب فيأخذ كل ما به سواء كان صوابًا أو خطأ، بل يأخذ منه ما كان صوابًا، وما علم أنه خطأ لا يجوز له العمل به، وإذا ظهر له القول الراجح فإنه يجب عليه أن يأخذ به سواء كان في مذهبه الذي ينتسب إليه أو في مذهب آخر؛ لأن من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد، القدوة هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنحن نأخذ بالمذهب ما لم يخالف قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا خالفه يجب علينا أن نتركه وأن نأخذ بالسنَّة، ونأخذ بالقول الراجح المطابق للسنة من أي مذهب كان من مذاهب المجتهدين، أمَّا الذي يأخذ بقول الإمام مطلقًا سواء كان خطأ أو صوابًا يعتبر تقليدًا أعمى، وإذا كان يرى أنه يجب تقليد إنسان معين غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهذا ردةٌ عن الإسلام، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُتَّبِعًا لِأَبِي حَنِيفَةَ أَوْ مَالِكٍ أَوْ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَحْمَد : وَرَأَى فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ أَنَّ مَذْهَبَ غَيْرِهِ أَقْوَى فَاتَّبَعَهُ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي دِينِهِ .(2/205)
وَلَا عَدَالَتِهِ بِلَا نِزَاعٍ ؛ بَلْ هَذَا أَوْلَى بِالْحَقِّ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّنْ يَتَعَصَّبُ لِوَاحِدِ مُعَيَّنٍ غَيْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَمَنْ يَتَعَصَّبُ لِمَالِكِ أَوْ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَحْمَد أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَرَى أَنَّ قَوْلَ هَذَا الْمُعَيَّنِ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي يَنْبَغِي اتِّبَاعُهُ دُونَ قَوْلِ الْإِمَامِ الَّذِي خَالَفَهُ .فَمَنْ فَعَلَ هَذَا كَانَ جَاهِلًا ضَالًّا ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ كَافِرًا ؛ فَإِنَّهُ مَتَى اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعُ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ دُونَ الْإِمَامِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . بَلْ غَايَةُ مَا يُقَالُ : إنَّهُ يَسُوغُ أَوْ يَنْبَغِي أَوْ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يُقَلِّدَ وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ زَيْدٍ وَلَا عَمْرٍو . وَأَمَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ : إنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامَّةِ تَقْلِيدُ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ . وَمَنْ كَانَ مُوَالِيًا لِلْأَئِمَّةِ مُحِبًّا لَهُمْ يُقَلِّدُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلسُّنَّةِ فَهُوَ مُحْسِنٌ فِي ذَلِكَ . بَلْ هَذَا أَحْسَنُ حَالًا مِنْ غَيْرِهِ وَلَا يُقَالُ لِمِثْلِ هَذَا مُذَبْذَبٌ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ . وَإِنَّمَا الْمُذَبْذَبُ الْمَذْمُومُ الَّذِي لَا يَكُونُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا مَعَ الْكُفَّارِ بَلْ يَأْتِي الْمُؤْمِنِينَ بِوَجْهِ وَيَأْتِي الْكَافِرِينَ بِوَجْهِ.."(2/206)
لأنه لا أحد يجب اتباعه إلا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ، أما ما عداه من الأئمة المجتهدين رحمهم الله فنحن نأخذ بأقوالهم الموافقة للسنَّة، أمَّا إذا أخطأ المجتهد في اجتهاده فإنه يحرم علينا أن نأخذ بالخطأ ".
وقال جوابا على سؤال (هل لا بد للإنسان أن ينهج في عبادته منهجًا واحدًا في كل شيء ؟ أم ليس عليه شيء إن أخذ من كل المذاهب أو بعضها فيما يراه أكثر أجرًا أو أيسر لدينه ودنياه ؟(1)
هذا يختلف باختلاف الناس فالعامي والمبتدئ في التعلم، هؤلاء لا يسعهم إلا أن يقلدوا أحد المذاهب الأربعة التي هي مذاهب أهل السنة .
وأما بالنسبة للمتعلم الذي عنده المقدرة على معرفة الراجح من المرجوح من أقوال أهل العلم ، فهذا يجب عليه أن يأخذ ما قام عليه الدليل من أقوال الأئمة الأربعة وغيرهم، إذا كان عنده المقدرة على معرفة الراجح من المرجوح ومعرفة الدليل الذي ينبني عليه القول، فهذا يجب عليه أن يعمل بالدليل؛ لأن عنده المقدرة على ذلك، فالناس يختلفون في هذا ليسوا على وتيرة واحدة، فالتقليد لا يحرم مطلقًا ولا يجب مطلقًا بل كلٌّ على حسب حاله، والله عزَّ وجل يقول : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ سورة النحل : آية 43 ] ، على أنه لا يجوز للإنسان أن يأخذ من أقوال العلماء ما وافق هواه أو رغبة نفسه فيتتبع الرخص ويتتبع الأقوال السهلة التي ليس عليها دليل لأنها تلائم هواه ورغبته، هذا لا يجوز، وإنما يختار ما قام عليه الدليل ولو خالف هواه ورغبته" .
__________
(1) - المنتقى من فتاوى الفوزان - (ج 97 / ص 12)(486)(2/207)
وقال جوابا على سؤال: هل يجوز لمن كن يلتزم مذهبًا معينًا في عباداته أن يعدل عنه ويتمسك بمذهب آخر متى شاء ؟ أم أنه يلزم المسلم أن يتمسك بمذهب واحد حتى الممات ؟ وهل بين المذاهب الأربعة فرق في كيفية أداء الصلوات أم لا ؟ وما هي كيفية الصلاة الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟(1)
قضية التمذهب بمذهب هذه فيها تفصيل : الإنسان الذي عنده الاستطاعة لمعرفة الحكم من الأدلة واستنباط الحكم من الأدلة هذا لا يجوز له التمذهب بمذهب بل عليه أن يأخذ الحكم من الدليل إذا كان عنده الاستطاعة والمقدرة على ذلك، ولكن هذا نادر في الناس لأن هذا منصب المجتهدين من أهل العلم الذين بلغوا رتبة الاجتهاد، أما من لم يكن كذلك لا يستطيع أخذ الأحكام من الأدلة، وهذا هو الكثير والغالب على أحوال الناس لا سيما في هذه الأزمان المتأخرة، فإن هذا لا حرج عليه أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة، وأن يقلد أحد المذاهب الأربعة، لكن ليس تقليدًا أعمى بأن يأخذ كل ما في المذهب من خطأ وصواب، بل عليه أن يأخذ من المذهب ما لم يتضح أنه مخالف للدليل، أما إذا اتضح أن هذا القول في المذهب مخالف للدليل فلا يجوز للمسلم أن يأخذ به، بل عليه أن يأخذ ما قام عليه الدليل ولو من مذهب آخر، فترك المذهب إلى مذهب آخر هذا إن كان طلبًا للدليل لمن يحسن ذلك، فهذا أمر طيب، بل هذا الواجب؛ لأن اتباع الدليل هو الواجب .
__________
(1) - المنتقى من فتاوى الفوزان - (ج 97 / ص 8) (484)(2/208)
أما إذا كان الأخذ بمذهب في بعض الأحيان وبمذهب آخر في الحين الآخر، وهكذا ينتقل الإنسان من باب التشهي ومن باب طلب الرخص، فهذا لا يجوز يعني ما وافق هواه من أقوال أهل العلم أخذ به ولو كان خلاف الدليل، وما خالف هواه تركه ولو كان هو الذي يدل عليه الدليل هذا متبع لهواه، والعياذ بالله، فالتنقل من مذهب إلى مذهب بدافع التشهي وطلب الأسهل والرخص هذا لا يجوز، أما الانتقال من مذهب إلى مذهب طلبًا للدليل وفرارًا من القول الذي لا دليل عليه أو القول الخاطئ فهذا أمر مرغوب ومطلوب من المسلم، والله تعالى أعلم .
وأما قضية الخلاف بين المذاهب الأربعة في الصلاة، فالمذاهب الأربعة - والحمد لله - متفقة على كثير من أحكام الصلاة في الجملة، وإنما الخلاف في بعض الجزئيات في الصلاة، فالخلاف إنما هو في جزئيات من الصلاة، منهم من يراها مثلاً مشروعة ومنهم من لا يراها مشروعة، ومنهم من يراها واجبة ومنهم من يراها مستحبة وهكذا، فالخلاف إنما هو في جزئيات في الصلاة أما أحكام الصلاة في الجملة فهذه لا خلاف فيها، والحمد لله .
وأما صفة الصلاة التي صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذه معلومة من سنته عليه الصلاة والسلام، وهي محفوظة ومشروحة في كتب السنَّة فعلى السائل وغيره من المسلمين أن يراجعوا ذلك، لا سيما الرجوع إلى كتاب " زاد المعاد " لابن القيم فإنه تحرَّى بيان الصفة التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليها وشرحها من أول الصلاة إلى آخرها، وكذلك في رسالته المسماة (الصلاة) فإنه عقد بابًا لبيان صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - من أولها إلى آخرها حتى كأنك تشاهده عليه الصلاة والسلام، فعلى المسلم أن يرجع إلى هذه الكتب".
قلت : كلامه من حيث الجملة موافق لكلام غيره ، ولا يخلو من التناقض
- - - - - - - - - - - - - - -
المبحث السابع والعشرون(2/209)
هَلْ يَجُوزُ التَّقْلِيدُ مُطْلَقًا أَوْ فِيهِ تَفْصِيلٌ؟(1)
قال ابن عليش :"( وَسُئِلَ ) بَعْضُهُمْ هَلْ يَجُوزُ التَّقْلِيدُ مُطْلَقًا أَوْ فِيهِ تَفْصِيلٌ ؟
فَأَجَابَ الْفَقِيهُ الصَّالِحُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ السُّنُوسِيَُّ بِمَا نَصُّهُ :
" اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ بِاعْتِبَارِ التَّقْلِيدِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: مُجْتَهِدٌ اجْتَهَدَ حَتَّى ظَنَّ أَنَّ الْحُكْمَ كَذَا وَمُجْتَهِدٌ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ النَّظَرُ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ وَعَالِمٌ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِبْدَادِ بِالنَّظَرِ لِنَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا بُيِّنَتْ لَهُ أَدِلَّةُ الْأَقْوَالِ فَهِمَ الرَّاجِحَ مِنهَا مِن الْمَرْجُوحِ , وَعَامِّيٌّ مَحْضٌ.
أَمَّا الْمُجْتَهِدُ الَّذِي ظَنَّ الْحُكْمَ بِاجْتِهَادِهِ فَلَا خَفَاءَ أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي حَقِّهِ مُحَرَّمٌ .
__________
(1) - فتاوى ابن عليش - (ج 1 / ص 58)(2/210)
وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ الَّذِي هُوَ بِصِفَاتِ الِاجْتِهَادِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ فَالْأَكْثَرُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّقْلِيدِ فِي حَقِّهِ لِتَمَكُّنِهِ مِن الِاجْتِهَادِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ التَّقْلِيدِ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَن الْأَصْلِ الْمُمْكِنِ إلَى بَدَلِهِ كَالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ , وَعَن هَذَا وَقَعَ قَوْلُهُمْ الْقُدْرَةُ عَلَى الِاجْتِهَادِ تَمْنَعُ التَّقْلِيدَ ،وَقِيلَ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْحُكْمِ فِي الْحَالِ صَارَ كَغَيْرِ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي يَجُوزُ فِي حَقِّهِ التَّقْلِيدُ . وَثَالِثُهَا : يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي حَقِّ الْقَاضِي لِحَاجَتِهِ إلَى تَنْجِيزِ فَصْلِ الْخُصُومَاتِ وَقَطْعِ مَوَادِّ النِّزَاعِ فِي الْحَالِ لِأَنَّ بَقَاءَهَا يُفْضِي إلَى الْفَسَادِ دِينًا وَدُنْيَا بِخِلَافِ غَيْرِهِ . وَرَابِعُهَا : يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ لِمَن هُوَ أَعْلَمُ مِنهُ لِظُهُورِ رُجْحَانِهِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمُسَاوِي وَالْأَدْنَى . وَخَامِسُهَا : يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ عِنْدَ ضِيقِ الِاحْتِيَاجِ إلَى حُكْمِهَا كَصَلَاةٍ مُؤَقَّتَةٍ فِي آخِرِ وَقْتِهَا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَضِقْ . وَسَادِسُهَا : يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيمَا يَخُصُّهُ دُونَ مَا يُفْتِي بِهِ غَيْرُهُ ، لِأَنَّ غَرَضَ الْمُسْتَفْتَى الَّذِي عُرِفَ مِنهُ الِاجْتِهَادُ رَأْيُهُ لَا رَأْيَ غَيْرِهِ .(2/211)
وَأَمَّا الْعَالِمُ الَّذِي لَمْ يَصِلْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَالْعَامِّيُّ الْمَحْضُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُمَا تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ لقوله تعالى { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ مِن مَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ يُعْتَقَدُ أَنَّهُ أَرْجَحُ مِن غَيْرِهِ أَوْ مُسَاوٍ وَيَنْبَغِي لَهُمَا فِي الْمُسَاوِي السَّعْيُ فِي رُجْحَانِهِ لِيَتَّجِهَ لَهُمَا اخْتِيَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ ثُمَّ اُخْتُلِفَ بَعْدَ الْتِزَامِ الْمُقَلِّدِ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا هَلْ لَهُ الْخُرُوجُ مِنهُ إلَى غَيْرِهِ مِن مَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ؟.
فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ وَأَنَّهُ يَجِبُ الْتِزَامُهُ بِعَيْنِهِ، وَقِيلَ :يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ مِنهُ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا لَا يَلْزَمُهُ، وَثَالِثُهَا الْفَرْقُ فَيَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ فِيمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَلَا يَجُوزُ فِيمَا عَمِلَ بِهِ , وَقِيلَ : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَدْءًا الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِيمَا يَنْزِلُ بِهِ بِهَذَا الْمَذْهَبِ تَارَةً وَبِغَيْرِهِ أُخْرَى ،وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُمْتَنَعُ تَتَبُّعُ الرُّخَصِ فِي الْمَذَاهِبِ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنهَا مَا هُوَ الْأَهْوَنُ فِيمَا يَقَعُ مِن الْمَسَائِلِ، وَقِيلَ: لَا يُمْتَنَعُ ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِتَفْسِيقِ مُتَتَبِّعِ الرُّخَصِ .(2/212)
أَمَّا التَّقْلِيدُ فِي الرُّخْصَةِ مِن غَيْرِ تَتَبُّعٍ بَلْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ خَوْفَ فِتْنَةٍ وَنَحْوِهَا فَلَهُ ذَلِكَ، وَالْأَصَحُّ عَلَى صِحَّةِ تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لِلْمُقَلِّدِ صِحَّةُ اجْتِهَادِهِ بِأَنْ تَبَيَّنَ لَهُ مُسْتَنَدُهُ فِيمَا قَلَّدَهُ فِيهِ التَّقْلِيدُ مُطْلَقًا , وَقِيلَ لَا يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ فِي نَازِلَةٍ حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ مُسْتَنَدُ مَن أَرَادَ تَقْلِيدَهُ فِي الْحُكْمِ لِيَسْلَمَ بِذَلِكَ مِن اتِّبَاعِ الْخَطَأِ الْجَائِزِ عَلَيْهِ ،وَثَالِثُهَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَامِّيِّ الْمَحْضِ فَيَجُوزُ تَقْلِيدُهُ وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ صِحَّةُ اجْتِهَادِ مُقَلِّدِهِ، وَبَيْنَ الْعَالِمِ الَّذِي لَمْ يَصِلْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُ لِمُجْتَهِدٍ فِي نَازِلَةٍ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ صِحَّةُ اجْتِهَادِهِ فِيهَا لِتَمَكُّنِهِ مِن فَهْمِ مُسْتَنَدَاتِ الْأَحْكَامِ إذَا بُيِّنَتْ لَهُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَجُوزُ لِلْمُفْتِي إذَا سُئِلَ عَن نَازِلَةٍ أَنْ يَذْكُرَ حُكْمَهَا مُجَرَّدًا عَن الدَّلِيلِ , وَعَلَى الثَّانِي لَا بُدَّ مِن ذِكْرِ الدَّلِيلِ , وَعَلَى الثَّالِثِ يَنْظُرُ فِي حَالِ السَّائِلِ هَلْ هُوَ عَامِّيٌّ أَوْ عَالِمٌ , وَعَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ جَرَى الْعَمَلُ.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُقَلِّدَ الْمَفْضُولَ؟.(2/213)
فَالْأَكْثَرُ عَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مُطْلَقًا أَعْنِي فِي حَقِّ مَن اعْتَقَدَهُ مَفْضُولًا أَوْ لَا وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ تَقْلِيدُ الْأَفْضَلِ لِأَنَّهُ أَرْجَحُ , وَثَالِثُهَا الْمُخْتَارُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَفْضُولِ فِي حَقِّ مَن لَمْ يَعْتَقِدْهُ مَفْضُولًا بَل اعْتَقَدَهُ مُسَاوِيًا لِغَيْرِهِ أَوْ أَفْضَلَ، وَعَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ فَلَا يَجِبُ عَلَى مُقَلِّدِ الْبَحْثِ عَن الْأَرْجَحِ عَلَى الثَّانِي يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَن الْأَرْجَحِ لِامْتِنَاعِ تَقْلِيدِهِ غَيْرَهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَلَيْهِ , فَالرَّاجِحُ عِلْمًا مُقَدَّمٌ عَلَى الرَّاجِحِ وَرَعًا عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ لِزِيَادَةِ الْعِلْمِ تَأْثِيرًا فِي الِاجْتِهَادِ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الْوَرَعِ بِهَا تَأْثِيرٌ فِي التَّثَبُّتِ فِي الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الْعِلْمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِالتَّسَاوِي بَيْنَهُمَا لِأَنَّ لِكُلِّ مُرَجِّحًا، فَإِذَا عَرَفْت هَذَا كُلَّهُ اسْتَبَانَ لَك أَنَّ خُرُوجَ الْمُقَلِّدِ مِن الْعَمَلِ بِالْمَشْهُورِ إلَى الْعَمَلِ بِالشَّاذِّ الَّذِي فِيهِ رُخْصَةٌ مِن غَيْرِ تَتَبُّعٍ لِلرُّخَصِ صَحِيحٌ عِنْدَ كُلِّ مَن قَالَ بِعَدَمِ لُزُومِ تَقْلِيدِ الْأَرْجَحِ ،وَيُبَاحُ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُقَلِّدَ مَن شَاءَ مِن أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ وَإِنْ نَقْلَ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَنعِ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا قِيلَ إنَّ لِلْمُجْتَهِدِ الَّذِي لَمْ يَجْتَهِدْ أَنْ يُقَلِّدَ مَن شَاءَ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْلَمَ مِنهُ وَقِيلَ أَيْضًا فِي الْمُقَلِّدِ بَعْدَ الْتِزَامِ مَذْهَبِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ وَعَمِلَ بِقَوْلِهِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ عَن تَقْلِيدِهِ إلَى تَقْلِيدِ غَيْرِهِ فَكَيْفَ يُمْنَعُ مُقَلِّدٌ(2/214)
مُتَمَكِّنٌ مِن النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَلْتَزِمْ مَذْهَبَ إمَامٍ مُعَيَّنٍ مِن تَقْلِيدِ مَن شَاءَ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَلْتَزِمَ مَذْهَبَ إمَامٍ مُعَيَّنٍ فَهُوَ لَمْ يَخْرُجْ عَنهُ بِتَقْلِيدِهِ الشَّاذِّ مِن أَقْوَالِ مَذْهَبِهِ الْجَارِيَةِ كُلِّهَا عَلَى أُصُولِ إمَامِهِ بِحَسَبِ مَقَاصِدِ قَائِلِهَا ".
- - - - - - - - - - - - -
المبحث الثامن والعشرون
للمرء اقتفاء آثار أيٍ من مذاهب أهل السنة الأربعة(1)
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية (ج 8 / ص 5628) -رقم الفتوى 56777 للمرء اقتفاء آثار أيٍ من مذاهب أهل السنة الأربعة(2/215)
لا مانع من أن يكون الأبناء على مذهب غير مذهب أبيهم، أو على مذهب غير مذهب أمهم، ولا مانع من أن يكون ابنك على مذهب، وبنتك على مذهب آخر، ما دام الأمر في نطاق مذاهب أهل السنة الأربعة، لأن هذه المذاهب حق. قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه المبارك المغني:" فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ وَطَوْلِهِ ، وَقُوَّتِهِ وَحَوْلِهِ ، ضَمِنَ بَقَاءَ طَائِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَجَعَلَ السَّبَبَ فِي بَقَائِهِمْ بَقَاءَ عُلَمَائِهِمْ ، وَاقْتِدَاءَهُمْ بِأَئِمَّتِهِمْ وَفُقَهَائِهِمْ ، وَجَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ مَعَ عُلَمَائِهَا ، كَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ مَعَ أَنْبِيَائِهَا ، وَأَظْهَرَ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِنْ فُقَهَائِهَا أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهَا ، وَيُنْتَهَى إلَى رَأْيِهَا ، وَجَعَلَ فِي سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَئِمَّةً مِن الْأَعْلَامِ ، مُهْدٍ بِهِمْ قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ ، وَأَوْضَحَ بِهِمْ مُشْكِلَاتِ الْأَحْكَامِ ، اتِّفَاقُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ ، وَاخْتِلَافُهُمْ رَحْمَةٌ وَاسِعَةٌ ، تَحْيَا الْقُلُوبُ بِأَخْبَارِهِمْ ، وَتَحْصُلُ السَّعَادَةُ بِاقْتِفَاءِ آثَارِهِمْ ، ثُمَّ اخْتَصَّ مِنْهُمْ نَفَرًا أَعْلَى أَقْدَارَهُمْ وَمَنَاصِبَهُمْ وَأَبْقَى ذِكْرَهُمْ وَمَذَاهِبَهُمْ فَعَلَى أَقْوَالِهِمْ مَدَارُ الْأَحْكَامِ ، وَبِمَذَاهِبِهِمْ يُفْتِي فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ ."(1)
__________
(1) - المغني - (ج 1 / ص 2)(2/216)
وكل أئمة المسلمين على هدى وخير، ويحرم على المسلم أن يتعصب تعصباً أعمى يؤدي به إلى بغض إخوانه المسلمين وتضليلهم، وقد قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ فَجَزَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ خَيْرَ الْجَزَاءِ وَأَكْمَلَهُ وَحَشَرَنَا فِي زُمْرَتِهِمْ وَإِذَا كَانُوا كُلُّهُمْ عَلَى هُدًى مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَا حَرَجَ عَلَى مَنْ أَرْشَدَ غَيْرَهُ إلَى التَّمَسُّكِ بِأَيِّ مَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَإِنْ خَالَفَ مَذْهَبَهُ وَاعْتِقَادَهُ لِأَنَّهُ أَرْشَدَهُ إلَى حَقٍّ وَهُدًى " .(1)
- - - - - - - - - - - - - - - -
المبحث التاسع والعشرون
تقليد المذاهب الأربعة.. رؤية فقهية(2)
الراجح من أقوال أهل العلم أن من كان أهلاً للفتوى فإنه يعوَّل عليه، ويعتد بكلامه، ما دام مستكملاً للآلة، حائزاً للشروط.
قال ابن حجر في تحفة المحتاج -وهو شافعي-:" وَحَاصِلُ الْمُعْتَمَدِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ كُلٍّ مِن الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ، وَكَذَا مَنْ عَدَاهُمْ مِمَّنْ حُفِظَ مَذْهَبُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَدُوِّنَ حَتَّى عُرِفَتْ شُرُوطُهُ وَسَائِرُ مُعْتَبَرَاتِهِ "(3).
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 2620) -رقم الفتوى 22612 الأئمة الأربعة كلهم على هدى..وبيان الفرقة الناجية -تاريخ الفتوى : 11 رجب 1423 والفتاوى الفقهية الكبرى - (ج 10 / ص 182)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 1573) -رقم الفتوى 31408 تقليد المذاهب الأربعة.. رؤية فقهية إفتائية قضائية -تاريخ الفتوى : 27 صفر 1424
(3) - تحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 42 / ص 451)(2/217)
وقال في البحر الرائق -وهو حنفي-: فصل: يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ شَاءَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، وَإِنْ دُوِّنَتْ الْمَذَاهِبُ كَالْيَوْمِ وَلَهُ الِانْتِقَالُ مِنْ مَذْهَبِهِ لَكِنْ لَا يَتَّبِعُ الرُّخَصَ فَإِنْ تَتَبَّعَهَا مِن الْمَذَاهِبِ فَهَلْ يَفْسُقُ وَجْهَانِ اهـ .
قَالَ الشَّارِحُ أَوْجَهُهُمَا لَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ "(1).
وقال في الفواكه الدواني -وهو مالكي-:" وَقَدْ انْعَقَدَ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ عَلَى وُجُوبِ مُتَابَعَةِ وَاحِدٍ مِن الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعِ : أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَدَمِ جَوَازِ الْخُرُوجِ عَنْ مَذَاهِبِهِمْ ، وَإِنَّمَا حَرُمَ تَقْلِيدُ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ مِن الْمُجْتَهِدِينَ ، مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ عَلَى هُدًى لِعَدَمِ حِفْظِ مَذَاهِبِهِمْ لِمَوْتِ أَصْحَابِهِمْ وَعَدَمِ تَدْوِينِهَا ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ : الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْأَرْبَعَةِ ، وَكَذَا مَنْ عَدَاهُمْ مِمَّنْ يُحْفَظُ مَذْهَبُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَدُوِّنَ حَتَّى عَرَفْت شُرُوطَهُ وَسَائِرَ مُعْتَبَرَاتِهِ ، فَالْإِجْمَاعُ الَّذِي نَقَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ كَابْنِ الصَّلَاحِ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْقَرَافِيِّ عَلَى مَنْعِ تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ يُحْمَلُ عَلَى مَا فُقِدَ مِنْهُ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ."(2)
__________
(1) - البحر الرائق شرح كنز الدقائق - (ج 17 / ص 358)
(2) - الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني - (ج 8 / ص 469)(2/218)
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة لا عملاً ولا فتوى ولا قضاء، ومن هؤلاء ابن الصلاح وابن رجب الحنبلي وغيرهم، ولابن رجب هذا رسالة لطيفة سماها (الرد على من اتبع غير المذاهب الأربع) وقد قال فيها مبيناً علة المنع من اتباع غيرها:" قد نبهنا على علة المنع من ذلك، وهو أن مذاهب غير هؤلاء لم تشتهر ولم تنضبط، فربما نُسِبَ إليهم ما لم يقولوه أو فُهم عنهم ما لم يريدوه، وليس لمذاهبهم من يذبُّ عنها وينبه على ما يقع من الخلل فيها، بخلاف هذه المذاهب المشهورة.".
وقال الحطاب في مواهب الجليل:" قَالَ الْقَرَافِيُّ : وَرَأَيْت لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ الصَّلَاحِ مَا مَعْنَاهُ أَنَّ التَّقْلِيدَ يَتَعَيَّنُ لِهَذِهِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّ مَذَاهِبَهُم انْتَشَرَتْ وَانْبَسَطَتْ حَتَّى ظَهَرَ فِيهَا تَقْيِيدُ مُطْلَقِهَا وَتَخْصِيصُ عَامِّهَا وَشُرُوطُ فُرُوعِهَا فَإِذَا أَطْلَقُوا حُكْمًا فِي مَوْضِعٍ وُجِدَ مُكَمَّلًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ،وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَتُنْقَلُ عَنْهُ الْفَتَاوَى مُجَرَّدَةً فَلَعَلَّ لَهَا مُكَمِّلًا أَوْ مُقَيِّدًا أَوْ مُخَصِّصًا لَوْ انْضَبَطَ كَلَامُ قَائِلِهِ لَظَهَرَ فَيَصِيرُ فِي تَقْلِيدِهِ عَلَى غَيْرِ ثِقَةٍ، بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ قَالَ : وَهَذَا تَوْجِيهٌ حَسَنٌ فِيهِ مَا لَيْسَ فِي كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ ."(1).
وقال في مراقي السعود:
والمجمع اليوم عليه الأربعة ===== وقَفْوُ غيرها الجميعُ منعه
وهذا الإجماع غير مسلم، وقد ردَّه غيرُ واحد من أهل العلم.
- - - - - - - - - - - - - - -
المبحث الثلاثون
__________
(1) - مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل - (ج 1 / ص 99)(2/219)
التقليد الفقهي بين الجواز وعدمه(1)
إذا كان الإنسان من أهل الاجتهاد مستوفياً لشروطه التي ذكرها العلماء، فهذا لا يجوز له التقليد، وإنما يعمل بما ترجح عنده بالدليل الشرعي، وإن كان ممن يستطيع الوقوف على أدلة كل مذهب في المسألة والترجيح بينها، فهذا يلزمه العمل بما تظهر له قوته من دليل في أي مذهب كان، وهذه المرتبة مرتبة وسطى بين الاجتهاد والتقليد يسميها بعض العلماء بالتبصر، ويسميها آخرون بالاتباع، قال تعالى: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر:17-18]. [النحل:43]
وأما من كان من العوام، فإنه يجوز له تقليد مذهب معين والعمل بما فيه، كما يجوز له أن لا يقلد مذهباً، وما أشكل عليه سأل عنه من يثق في علمه وورعه، ولا يشترط معرفة الدليل في حقه، قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
مع أن الأولى له أن يسأل العالم عن دليل المسألة، وعلى العالم أن يبينه له إلا إذا كان مأخذه خفياً يعسر على العامي فهمه، قال صاحب المراقي:
ولك أن تسأل للتثبت عن مأخذ المسؤول لا التعنت
ثم عليه غاية البيان إن لم يكن عذر بالاكتنان
والتقليد الذي ذَّه الله تعالى في كتابه هو التقليد في الباطل، فكثيراً ما يُبين للإنسان خطأ ما هو عليه من علم أو عمل فيصرُّ على خطئه تقليداً لمذهبه أو شيخه، وهذا حاله كحال من قال الله فيهم: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف:22].
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 4317) -رقم الفتوى 17519 التقليد الفقهي بين الجواز وعدمه تاريخ الفتوى : 27 ربيع الأول 1423(2/220)
وإذا نزلت بالمسلم نازلة فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان، ولا يجب عليه التزام مذهب معين لأن كل واحد يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
واتباع الشخص لمذهب معين لعجزه عن معرفة الشرع من جهته هو مما يسوغ، وليس مما يجب على كل أحد إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق.
قال صاحب الإنصاف: وَأَمَّا لُزُومُ التَّمَذْهُبِ بِمَذْهَبٍ ، وَامْتِنَاعُ الِانْتِقَالِ إلَى غَيْرِهِ فِي مَسْأَلَةٍ : فَفِيهِ وَجْهَانِ ، وِفَاقًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ،وَعَدَمُهُ أَشْهَرُ"(1)
وقال في إعلام الموقعين:" وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ ؛ إذْ لَا وَاجِبَ إلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَلَمْ يُوجِب اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ عَلَى أَحَدٍ مِن النَّاسِ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبِ رَجُلٍ مِنْ الْأُمَّةِ فَيُقَلِّدَهُ دِينَهُ دُونَ غَيْرِهِ"(2).
وقال ابن مفلح في أصوله: عدم اللزوم قول جمهور العلماء. وقد رجحه ابن برهان والنووي، واستُدل لذلك بأن الصحابة لم ينكروا على العامة تقليد بعضهم في بعض المسائل وبعضهم في البعض الآخر، وليس معنى ذلك أن ينتقل بين المذاهب أو لا يتقيد بمذهب بغية الترخص والتلاعب فإن هذا مذموم. قال أحمد رحمه الله: لو أن رجلا عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً. وفي السنن للبيهقي عن الأوزاعي أنه قال: من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام،وليكن قصده من ذلك تحري الصواب والوصول إلى الحق. والله أعلم.(3)
- - - - - - - - - - - - - - -
المبحث الواحد والثلاثون
__________
(1) - الإنصاف - (ج 17 / ص 15)
(2) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 5 / ص 150)
(3) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 2486)(2/221)
هل يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة ؟(1)
قال ابن حجر الهيتمي جوابا على هذا السؤال :" الَّذِي تَحَرَّرَ أَنَّ تَقْلِيدَ غَيْرِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ لَا يَجُوزُ فِي الْإِفْتَاءِ وَلَا فِي الْقَضَاءِ، وَأَمَّا فِي عَمَلِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ فَيَجُوزُ تَقْلِيدُهُ لِغَيْرِ الْأَرْبَعَةِ مِمَّنْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ لَا كَالشِّيعَةِ وَبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ ،وَيُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهُ بِمَذْهَبِ الْمُقَلَّدِ بِنَقْلِ الْعَدْلِ عَنْ مِثْلِهِ وَتَفَاصِيلِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَوْ الْمَسَائِلِ الْمُقَلِّدِ فِيهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عَلَى مَذْهَبِ ذَلِكَ الْمُقَلَّدِ وَعَدَمِ التَّلْفِيقِ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَضُمَّ إلَيْهَا أَوْ إلَى بَعْضِهَا تَقْلِيدَ غَيْرِ ذَلِكَ الْإِمَامِ، لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ تَلْفِيقَ التَّقْلِيدِ كَتَقْلِيدِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي عَدَمِ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ فِي مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ فَمُمْتَنِعٌ اتِّفَاقًا، بَلْ قِيلَ إجْمَاعًا، وَإِذَا وُجِدَتْ شُرُوطُ التَّقْلِيدِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَغَيْرُهَا مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ فَعِبَادَاتُ الْمُقَلِّدِ وَمُعَامَلَتُهُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى ذَلِكَ صَحِيحَةٌ، وَإِلَّا فَلَا وَيَأْثَمُ بِذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فَوْرًا ، وَلَا يُشْتَرَطُ مُوَافَقَةُ اجْتِهَادِ ذَلِكَ الْمُقَلِّدِ لِأَحَدِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا نَقْلُ مَذْهَبِهِ تَوَاتُرًا كَمَا أَشَرْتُ إلَيْهِ وَلَا تَدْوِينُ مَذْهَبِهِ عَلَى اسْتِقْلَالِهِ، بَلْ يَكْفِي أَخْذُهُ مِنْ كُتُبِ الْمُخَالِفِينَ الْمَوْثُوقِ بِهَا الْمُعَوَّلِ عَلَيْهَا وَكَلَامُ جَمْعِ
__________
(1) - الفتاوى الفقهية الكبرى - (ج 10 / ص 183)(2/222)
الْجَوَامِعِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَا يُخَالِفُهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ" .
وقال الإمام الذهبي : " قَالَ إِسْحَاقُ بنُ رَاهَوَيْه: إِذَا اجْتَمَعَ الثَّوْرِيُّ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ عَلَى أَمرٍ فَهُوَ سُنَّةٌ.
قُلْتُ: بَلِ السُّنَّةُ: مَا سَنَّهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالخُلَفَاءُ الرَّاشِدُوْنَ مِنْ بَعْدِهِ، وَالإِجْمَاعُ: هُوَ مَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الأُمَّةِ قَدِيْماً وَحَدِيْثاً، إِجْمَاعاً ظَنِّياً أَوْ سُكُوتِيّاً، فَمَنْ شَذَّ عَنْ هَذَا الإِجْمَاعِ مِنَ التَّابِعِيْنَ، أَوْ تَابِعِيْهِم لِقَوْلٍ بِاجْتِهَادِه، احْتُمِلَ لَهُ، فَأَمَّا مَنْ خَالَفَ الثَّلاَثَةَ المَذْكُوْرِيْنَ مِنْ كِبَارِ الأَئِمَّةِ، فَلاَ يُسَمَّى مُخَالِفاً لِلإِجْمَاعِ، وَلاَ لِلسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا مُرَادُ إِسْحَاقَ: أَنَّهُم إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى مَسْأَلَةٍ، فَهُوَ حَقٌّ غَالِباً، كَمَا نَقُوْلُ اليَوْمَ: لاَ يَكَادُ يُوجَدُ الحَقُّ فِيْمَا اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الاجْتِهَادِ الأَرْبَعَةُ عَلَى خِلاَفِه، مَعَ اعْتِرَافِنَا بِأَنَّ اتِّفَاقَهُم عَلَى مَسْأَلَةٍ، لاَ يَكُوْنُ إِجْمَاعَ الأُمَّةِ، وَنَهَابُ أَنْ نَجْزِمَ فِي مَسْأَلَةٍ اتَّفَقُوا عَلَيْهَا، بِأَنَّ الحَقَّ فِي خِلاَفِهَا.
وَمِنْ غَرَائِبِ مَا انْفَرَدَ بِهِ الأَوْزَاعِيُّ: أَنَّ الفَخِذَ لَيْسَتْ فِي الحَمَّامِ عَوْرَةً، وَأَنَّهَا فِي المَسْجِدِ عَوْرَةٌ، وَلَهُ مَسَائِلُ كَثِيْرَةٌ حَسَنَةٌ يَنفَرِدُ بِهَا، وَهِيَ مَوْجُوْدَةٌ فِي الكُتُبِ الكِبَارِ، وَكَانَ لَهُ مَذْهَبٌ مُسْتَقِلٌّ مَشْهُوْرٌ، عَمِلَ بِهِ فُقَهَاءُ الشَّامِ مُدَّةً، وَفُقَهَاءُ الأَنْدَلُسِ، ثُمَّ فَنِيَ."(1)
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (7/116)(2/223)
قلت : الذي يظهر لي أنه يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة ، إذا صحَّت نسبة القول لصاحبه كالصحابة والتابعين ، ولم ينصَّ العلماءُ على إنكاره وشذوذه وانحرافه ،وكان المقلِّدُ يميِّز الغثَّ من السَّمين لا حاطب ليل .
وأمَّا من لم تتوفر فيه هذه الشروط من طلاب العلم ، فلا يجوز له ذلك .
قلت : مثال على ذلك :
الطلاق الثلاث بلفظ واحد :
فللفقهاء آراء ثلاثة في جمع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة وهي(1):
الأول ـ قول الجمهور منهم أئمة المذاهب الأربعة والظاهرية: يقع به ثلاث طلقات، وهو منقول عن أكثر الصحابة ومنهم الخلفاء الراشدون غير أبي بكر، والعبادلة الأربعة (ابن عمر، وابن عمرو، وابن عباس، وابن مسعود) وأبو هريرة وغيرهم، ومنقول عن أكثر التابعين، لكن لا يسن أن يطلق الرجل أكثر من واحدة عند الحنفية والمالكية كما تقدم؛ لأن طلاق السنة: هو أن يطلقها واحدة ثم يتركها حتى تنقضي عدتها.
الثاني ـ قول الشيعة الإمامية: لا يقع به شيء.
الثالث ـ قول الزيدية وبعض الظاهرية وابن إسحاق وابن تيمية وابن القيم: يقع به واحدة، ولا تأثير للفظ فيه.
وأخذ القانون في مصر وسورية بهذ الرأي، نص القانون السوري على ما يلي:
(م 91) - يملك الزوج على زوجته ثلاث طلقات.
(م 92) - الطلاق المقترن بعدد لفظاً أو إشارة لا يقع إلا واحداً.
وقد عدلت لجنة الإفتاء بالرياض عن هذا القول واختارت بالأكثرية القول بوقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثاً(2).
__________
(1) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 9 / ص 383) والمختصر النافع: ص 222، المحلى: 204/10، مسألة 1949. أعلام الموقعين: 41/3-52.
(2) - مجلة البحوث الإسلامية ـ المجلد الأول ـ العدد الثالث، عام 1397 هـ ، ص 165 وما بعدها.(2/224)
ثم ذكر أستاذنا الزحليلي- حفظه الله-أدلة هؤلاء المختلفين وناقشها ، ثم قال بنهايتها :" والذي يظهر لي رجحان رأي الجمهور: وهو وقوع الطلاق ثلاثاً إذا طلق الرجل امرأته دفعة واحدة، لكن إذا رجح الحاكم رأياً ضعيفاً صار هو الحكم الأقوى، فإن صدر قانون، كما هو الشأن في بعض البلاد العربية بجعل هذا الطلاق واحدة، فلا مانع من اعتماده والإفتاء به، تيسيراً على الناس، وصوناً للرابطة الزوجية، وحماية لمصلحة الأولاد، خصوصاً ونحن في وقت قل فيه الورع والاحتياط، وتهاون الناس في التلفظ بهذه الصيغة من الطلاق، وهم يقصدون غالباً التهديد والزجر، ويعلمون أن في الفقه منفذاً للحل، ومراجعة الزوجة."(1)
وكذلك حكم الطلاق المعلق أو اليمين بالطلاق(2):
اختلف الفقهاء في اليمين بالطلاق أو الطلاق المعلق على ثلاثة أقوال(3):
كأن يعلق طلاق زوجته على أمر المستقبل، ويوجد المعلق عليه، مثل: إن دخلت الدارفأنت طالق، أو كلمت زيداً، أو إن قدم فلان من سفره، فأنت طالق. أو يقول لها في العرف الشائع اليوم: علي الطلاق إن ذهبت لبيت أهلك، أو سافرت، أو ولدت أنثى، أو علي الطلاق إن لم أتزوج زوجة أخرى ونحوه.
__________
(1) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 9 / ص 389)
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 7 / ص 272) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 9 / ص 421)
(3) - فتح القدير: 76/4 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص231، مغني المحتاج: 314/3 ومابعدها، المغني: 178/7 ومابعدها، المحلى: 258/10 ومابعدها، مسألة 1969، المختصر النافع من فقه الإمامية: ص222، أعلام الموقعين: 66/3 ومابعدها، مقارنة المذاهب للأستاذين شلتوت والسايس: ص108 ومابعدها.(2/225)
1 - فقال أئمة المذاهب الأربعة: يقع الطلاق المعلق متى وجد المعلق عليه، سواء أكان فعلاً لأحد الزوجين، أم كان أمراً سماوياً، وسواء أكان التعليق قسمياً: وهو الحث على فعل شيء أو تركه أو تأكيد الخبر، أم شرطياً يقصد به حصول الجزاء عند حصول الشرط.
2 - وقال الظاهرية والشيعة الإمامية: اليمين بالطلاق أو الطلاق المعلق إذا وجد المعلق عليه لا يقع أصلاً، سواء أكان على وجه اليمين: وهو ما قصد به الحث على فعل شيء أو تركه أو تأكيد الخبر، أم لم يكن على وجه اليمين: وهو ما قصد به وقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه.
3 - وقال ابن تيمية وابن القيم بالتفصيل: إن كان التعليق قسمياً أو على وجه اليمين ووجد المعلق عليه، لا يقع، ويجزيه عند ابن تيمية كفارة يمين إن حنث في يمينه، ولا كفارة عليه عند ابن القيم، وأما إن كان التعليق شرطياً أو على غير وجه اليمين، فيقع الطلاق عند حصول الشرط.
قال اأستاذنا الزحيلي - حفظه الله- : "وفي تقديري أن القول الأول هو الأصح دليلاً، لكن يلاحظ أن الشبان غالباً يستخدمون اليمين بالطلاق للتهديد لا بقصد الإيقاع، وهذا يجعلني أميل إلى القول الثالث، لا سيما وقد أخذ به القانون في مصر رقم ( 25 لسنة 1929)، وفي سورية، نصت المادة الثانية من القانون المصري والمادة (90) من القانون السوري على الأخذ برأي ابن تيمية وابن القيم: «لا يقع الطلاق غير المنجز إذا لم يقصد به إلا الحث على فعل شيء، أو المنع منه، أو استعمل استعمال القسم لتأكيد الإخبار لا غير»"(1).
- - - - - - - - - - - - - - -
المبحث الثاني والثلاثون
رأي الحافظ الذهبي بالاجتهاد والتقليد
قال في ترجمة الإمام مالك رحمه الله(2): "قَالَ مَالِكِيٌّ: قَدْ نَدَرَ الاجْتِهَادُ اليَوْمَ، وَتَعَذَّرَ، فَمَالِكٌ أَفْضَلُ مَنْ يُقَلَّدُ، فَرَجَّحَ تَقْلِيْدَهُ.
__________
(1) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 9 / ص 424)
(2) - سير أعلام النبلاء (8/90-94)(2/226)
وَقَالَ شَيْخٌ: إِنَّ الإِمَامَ لِمَنِ التَزَمَ بِتَقلِيْدِهِ، كَالنَّبِيِّ مَعَ أُمَّتِهِ، لاَ تَحِلُّ مُخَالَفَتُهُ.
قُلْتُ: قَوْلُهُ: لاَ تَحِلُّ مُخَالَفَتُه: مُجَرَّدُ دَعْوَى وَاجْتِهَادٍ بِلاَ مَعْرِفَةٍ، بَلْ لَهُ مُخَالَفَةُ إِمَامِهِ إِلَى إِمَامٍ آخَرَ، حُجَّتُهُ فِي تِلْكَ المَسْأَلَةِ أَقوَى، لاَ بَلْ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الدَّلِيْلِ فِيْمَا تَبَرهَنَ لَهُ، لاَ كَمَنْ تَمَذْهَبَ لإِمَامٍ، فَإِذَا لاَحَ لَهُ مَا يُوَافِقُ هَوَاهُ، عَمِلَ بِهِ مِنْ أَيِّ مَذْهَبٍ كَانَ، وَمَنْ تَتَبَّعَ رُخَصَ المَذَاهِبِ، وَزَلاَّتِ المُجْتَهِدِيْنَ، فَقَدْ رَقَّ دِيْنُهُ، كَمَا قَالَ الأَوْزَاعِيُّ أَوْ غَيْرُهُ: مَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ المَكِّيِّيْنَ فِي المُتْعَةِ، وَالكُوْفِيِّيْنَ فِي النَّبِيذِ، وَالمَدَنِيِّينَ فِي الغِنَاءِ، وَالشَّامِيِّينَ فِي عِصْمَةِ الخُلَفَاءِ، فَقَدْ جَمَعَ الشَّرَّ.
وَكَذَا مَنْ أَخَذَ فِي البُيُوْعِ الرَّبَوِيَّةِ بِمَنْ يَتَحَيَّلُ عَلَيْهَا، وَفِي الطَّلاَقِ وَنِكَاحِ التَّحْلِيْلِ بِمَنْ تَوسَّعَ فِيْهِ، وَشِبْهِ ذَلِكَ، فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلانحِلاَلِ، فَنَسْأَلُ اللهَ العَافِيَةَ وَالتَّوفِيْقَ.
وَلَكِنْ شَأْنُ الطَّالِبِ أَنْ يَدْرُسَ أَوَّلاً مُصَنَّفاً فِي الفِقْهِ، فَإِذَا حَفِظَهُ، بَحَثَهُ، وَطَالَعَ الشُّرُوحَ، فَإِنْ كَانَ ذَكِيّاً، فَقِيْهَ النَّفْسِ، وَرَأَى حُجَجَ الأَئِمَّةِ، فَلْيُرَاقِبِ اللهَ، وَلْيَحْتَطْ لِدِيْنِهِ، فَإِنَّ خَيْرَ الدِّيْنِ الوَرَعُ، وَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ، فَقَدِ اسْتَبرَأَ لِدِيْنِهِ وَعِرْضِهِ، وَالمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللهُ.(2/227)
فَالمُقَلَّدُوْنَ صحَابَةُ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشَرْطِ ثُبُوْتِ الإِسْنَادِ إِلَيْهِم، ثُمَّ أَئِمَّةُ التَّابِعِيْنَ كَعَلْقَمَةَ، وَمَسْرُوْقٍ، وَعَبِيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ، وَسَعِيْدِ بنِ المُسَيِّبِ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ، وَسَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، وَعُبَيْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَعُرْوَةَ، وَالقَاسِمِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالحَسَنِ، وَابْنِ سِيْرِيْنَ، وَإِبْرَاهِيْمَ النَّخَعِيِّ.
ثُمَّ كَالزُّهْرِيِّ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَأَيُّوْبَ السِّخْتِيَانِيِّ، وَرَبِيْعَةَ، وَطَبَقَتِهِم.
ثُمَّ كَأَبِي حَنِيْفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَمَعْمَرٍ، وَابْنِ أَبِي عَرُوْبَةَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالحَمَّادَيْنِ، وَشُعْبَةَ، وَاللَّيْثِ، وَابْنِ المَاجِشُوْنِ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ.
ثُمَّ كَابْنِ المُبَارَكِ، وَمُسْلِمٍ الزَّنْجِيِّ، وَالقَاضِي أَبِي يُوْسُفَ، وَالهِقْلِ بنِ زِيَادٍ، وَوَكِيْعٍ، وَالوَلِيْدِ بنِ مُسْلِمٍ، وَطَبَقَتِهِم.
ثُمَّ كَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَالبُوَيْطِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ بنِ أَبِي شَيْبَةَ.
ثُمَّ كَالمُزَنِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الأَثْرَمِ، وَالبُخَارِيِّ، وَدَاوُدَ بنِ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدِ بنِ نَصْرٍ المَرْوَزِيِّ، وَإِبْرَاهِيْمَ الحَرْبِيِّ، وَإِسْمَاعِيْلَ القَاضِي.
ثُمَّ كَمُحَمَّدِ بنِ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ بنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبِي عَبَّاسٍ بنِ سُرَيْجٍ، وَأَبِي بَكْرٍ بنِ المُنْذِرِ، وَأَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الخَلاَّلِ.(2/228)
ثُمَّ مِنْ بَعْدِ هَذَا النَّمَطِ تَنَاقَصَ الاجْتِهَادُ، وَوُضِعَتِ المُخْتَصَرَاتُ، وَأَخلَدَ الفُقَهَاءُ إِلَى التَّقْلِيْدِ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي الأَعْلَمِ، بَلْ بِحَسبِ الاتِّفَاقِ، وَالتَّشَهِّي، وَالتَّعْظِيْمِ، وَالعَادَةِ، وَالبَلَدِ.
فَلَو أَرَادَ الطَّالِبُ اليَوْمَ أَنْ يَتَمَذْهَبَ فِي المَغْرِبِ لأَبِي حَنِيْفَةَ، لَعَسُرَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَذْهَبَ لابْنِ حَنْبَلٍ بِبُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ، لَصَعُبَ عَلَيْهِ، فَلاَ يَجِيْءُ مِنْهُ حَنْبَلِيٌّ، وَلاَ مِنَ المَغْرِبِيِّ حَنَفِيٌّ، وَلاَ مِنَ الهِنْدِيِّ مَالِكِيٌّ.
وَبِكُلِّ حَالٍ: فَإِلَى فِقْهِ مَالِكٍ المُنْتَهَى، فَعَامَّةُ آرَائِهِ مُسَدَّدَةٌ، وَلَو لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلاَّ حَسمُ مَادَةِ الحِيَلِ، وَمُرَاعَاةُ المَقَاصِدِ، لَكَفَاهُ، وَمَذْهَبُهُ قَدْ مَلأَ المَغْرِبَ وَالأَنْدَلُسَ، وَكَثِيْراً مِنْ بِلاَدِ مِصْرَ، وَبَعْضَ الشَّامِ، وَالِيَمَنَ، وَالسُّوْدَانَ، وَبِالبَصْرَةِ، وَبَغْدَادَ، وَالكُوْفَةِ، وَبَعْضِ خُرَاسَانَ.
وَكَذَلِكَ اشْتُهِرَ مَذْهَبُ الأَوْزَاعِيِّ مُدَّةً، وَتَلاَشَى أَصْحَابُهُ، وَتَفَانَوْا.
وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ سَمَّيْنَا، وَلَمْ يَبْقَ اليَوْمَ إِلاَّ هَذِهِ المَذَاهِبُ الأَرْبَعَةُ.
وَقَلَّ مَنْ يَنهَضُ بِمَعْرِفَتِهَا كَمَا يَنْبَغِي، فَضْلاً عَنْ أَنْ يَكُوْنَ مُجْتَهِداً.
وَانْقَطَعَ أَتْبَاعُ أَبِي ثَوْرٍ بَعْدَ الثَّلاَثِ مائَةٍ، وَأَصْحَابُ دَاوُدَ إِلاَّ القَلِيْلُ، وَبَقِيَ مَذْهَبُ ابْنِ جَرِيْرٍ إِلَى مَا بَعْدَ الأَرْبَعِ مائَةٍ.(2/229)
وَللزَّيْدِيَّةِ مَذْهَبٌ فِي الفُرُوْعِ بِالحِجَازِ وَبِاليَمَنِ، لَكِنَّهُ مَعْدُوْدٌ فِي أَقْوَالِ أَهْلِ البِدَعِ، كَالإِمَامِيَّةِ، وَلاَ بَأْسَ بِمَذْهَبِ دَاوُدَ، وَفِيْهِ أَقْوَالٌ حَسَنَةٌ، وَمُتَابَعَةٌ لِلنُّصُوصِ، مَعَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ العُلَمَاءِ لاَ يَعتَدُّونَ بِخِلاَفِهِ، وَلَهُ شُذُوْذٌ فِي مَسَائِلَ شَانَتْ مَذْهَبَهُ.
وَأَمَّا القَاضِي، فَذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَقلِيْدِهِم إِجْمَاعاً، فَإِنَّهُ سَمَّى المَذَاهِبَ الأَرْبَعَةَ، وَالسُّفْيَانِيَّةَ، وَالأَوْزَاعِيَّةَ، وَالدَّاوُوْدِيَّةَ.
ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ: فَهَؤُلاَءِ الَّذِيْنَ وَقَعَ إِجْمَاعُ النَّاسِ عَلَى تَقْلِيْدِهِم، مَعَ الاخْتِلاَفِ فِي أَعْيَانِهِم، وَاتِّفَاقِ العُلَمَاءِ عَلَى اتِّبَاعِهِم، وَالاقْتِدَاءِ بِمَذَاهِبِهِم، وَدَرْسِ كُتُبِهِم، وَالتَّفَقُّهِ عَلَى مَآخِذِهِم، وَالتَّفْرِيْعِ عَلَى أُصُوْلِهِم، دُوْنَ غَيْرِهِم مِمَّنْ تَقَدَّمَهُم أَوْ عَاصَرَهُم؛ لِلْعِلَلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
وَصَارَ النَّاسُ اليَوْمَ فِي الدُّنْيَا إِلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ، فَالخَامِسُ: هُوَ مَذْهَبُ الدَّاوُوْدِيَّةِ.
فَحَقٌّ عَلَى طَالِبِ العِلْمِ أَنْ يَعْرِفَ أَوْلاَهُم بِالتَّقْلِيْدِ، لِيَحصَلَ عَلَى مَذْهَبِهِ.
وَهَا نَحْنُ نُبَيِّنُ أَنَّ مَالِكاً -رَحِمَهُ اللهُ- هُوَ ذَلِكَ؛ لِجَمعِهِ أَدَوَاتِ الإِمَامَةِ، وَكَونِهِ أَعْلَمَ القَوْمِ.
ثُمَّ وَجَّهَ القَاضِي دَعوَاهُ، وَحَسَّنَهَا، وَنَمَّقَهَا، وَلَكِنْ مَا يَعْجِزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ حَنَفِيٍّ، وَشَافِعِيٍّ، وَحَنْبَلِيٍّ، وَدَاوُوْدِيٍّ عَنِ ادِّعَاءِ مِثْلِ ذَلِكَ لِمَتْبُوعِه، بَلْ ذَلِكَ لِسَانُ حَالِه، وَإِنْ لَمْ يَفُهْ بِهِ.(2/230)
ثُمَّ قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ: وَعِنْدنَا - وَللهِ الحَمْدُ - لِكُلِّ إِمَامٍ مِنَ المَذْكُوْرِيْنَ مَنَاقِبُ، تَقْضِي لَهُ بِالإِمَامَةِ.
قُلْتُ: وَلَكِنَّ هَذَا الإِمَامَ الَّذِي هُوَ النَّجمُ الهَادِي قَدْ أَنْصَفَ، وَقَالَ قَوْلاً فَصْلاً، حَيْثُ يَقُوْلُ:
كُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِه، وَيُتْرَكُ، إِلاَّ صَاحِبَ هَذَا القَبْرِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَلاَ رَيْبَ أَنَّ كُلَّ مِنْ أَنِسَ مِنْ نَفْسِهِ فِقهاً، وَسَعَةَ عِلْمٍ، وَحُسْنَ قَصدٍ، فَلاَ يَسَعُهُ الالْتِزَامُ بِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ فِي كُلِّ أَقْوَالِه، لأَنَّهُ قَدْ تَبَرَهَنَ لَهُ مَذْهَبُ الغَيْرِ فِي مَسَائِلَ، وَلاَحَ لَهُ الدَّلِيْلُ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ الحُجَّةُ، فَلاَ يُقَلِّدُ فِيْهَا إِمَامَهُ، بَلْ يَعْمَلُ بِمَا تَبَرْهَنَ، وَيُقِلِّدُ الإِمَامَ الآخَرَ بِالبُرْهَانِ، لاَ بِالتَّشَهِّي وَالغَرَضِ.
لِكَنَّهُ لاَ يُفْتِي العَامَّةَ إِلاَّ بِمَذْهَبِ إِمَامِه، أَوْ لِيَصمُتْ فِيْمَا خَفِيَ عَلَيْهِ دَلِيْلُهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: العِلْمُ يَدُوْرُ عَلَى ثَلاَثَةٍ: مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ.
قُلْتُ: بَلْ وَعَلَى سَبْعَةٍ مَعَهُم، وَهُمُ: الأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَعْمَرٌ، وَأَبُو حَنِيْفَةَ، وَشُعْبَةُ، وَالحَمَّادَانِ." .
- - - - - - - - - - - - - - -
الفصل الثاني
أحكام تتبع الرخص
المبحث الأول(2/231)
رخَصُ المذاهب وحكمُ تتبعها(1)
الرخصُ الشرعيةُ الثابتة بالكتاب أو السنة لا باس بتتبعها والأخذ بها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ ».(2)
وفي المسند عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ يُحِبُ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ »(3). وهذه الرخص مثل القصر والفطر للمسافر، والمسح على الخفين والجبائر.
ومن الرخص الشرعية ما يجبُ الأخذ به كالأكل من لحم الميتة عند الضرورة وخوف الهلاك ، ونحو ذلك .
__________
(1) -فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 1809) رقم الفتوى 4145 رخص المذاهب وحكم تتبعها، واختلاف الأئمة. تاريخ الفتوى : 13 صفر 1422 وانظر في الموضوع نفسه فتاوى الأزهر - (ج 7 / ص 172) وفتاوى الأزهر - (ج 7 / ص 173) وفتاوى السبكي - (ج 1 / ص 285) وفتاوى الرملي - (ج 6 / ص 258) والفتاوى الفقهية الكبرى - (ج 10 / ص 112) و(ج 10 / ص 120) والحاوي للفتاوي للسيوطي - (ج 1 / ص 438) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 46 / ص 8) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 303) وفتاوى الزحيلي - (ج 1 / ص 110) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 9) و (ج 1 / ص 78) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 4 / ص 34) ومجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (ج 11 / ص 44) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 4 / ص 445) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 493)
(2) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 3 / ص 140) برقم( 5621 ) وصحيح ابن حبان - (ج 2 / ص 69) برقم(354 و3568 ) وغيرهما من طرق وهو صحيح مشهور
(3) - مسند أحمد برقم( 6004 و6012 ) وهو صحيح مشهور(2/232)
أما تتبع رخص المذاهب الاجتهادية والجري وراءها دون سبب من الأسباب المعتبرة فإنه يعد هروباً من التكاليف وهدماً لبنيان الدين، ونقضاً لمقاصد الشرع المرعيةِ في الأوامر والنواهي الشرعية. وقد اعتبر العلماءُ هذا العمل فسقاً لا يحلُّ ارتكابه.
وحكى ابنُ حزمٍ الإجماعَ على ذلك، وقال في الإحكام نقلاً عن سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ: إنْ أَخَذْت بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيك الشَّرُّ كُلُّهُ(1).
ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن ابن عبد البر أنه قَالَ : هَذَا إجْمَاعٌ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا(2).
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :" إِنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِن ثَلاثٍ : مِن زَلَّةِ عَالِمٍ ، وَمِن هَوًى مُتَّبَعٍ ، وَمِن حُكْمٍ جَائِرٍ."(3).
__________
(1) - عون المعبود - (ج 10 / ص 456) والموسوعة الفقهية الكويتية (ج 22 / ص 164) و الأحكام 6 / 179 .
(2) - الفتاوى الكبرى - (ج 9 / ص 108) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 3 / ص 407) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7760) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 11 / ص 118) والأحكام لابن حزم - (ج 6 / ص 883) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 4 / ص 52) والموافقات في أصول الشريعة - (ج 3 / ص 113) و مجلة مجمع الفقه الإسلامي - (ج 2 / ص 15810) وفتاوى ابن عليش - (ج 1 / ص 75)
(3) - فيه ضعف مسند البزار برقم(3384) ومجمع الزوائد - (ج 1 / ص 439) برقم(883) والمعجم الكبير للطبراني برقم (16701 ) عن معاذ وشعب الإيمان للبيهقي برقم( 9935 ) ابن عمر من طرق تحسنه لغيره
وانظر والفتاوى الكبرى - (ج 9 / ص 108) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 4 / ص 53) والموافقات في أصول الشريعة - (ج 2 / ص 400) و (ج 3 / ص 112) وفتاوى الرملي - (ج 6 / ص 169)(2/233)
وعَن زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ قَالَ قَالَ لِى عُمَرُ : هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الإِسْلاَمَ؟ قَالَ قُلْتُ : لاَ. قَالَ : يَهْدِمُهُ زَلَّةُ الْعَالِمِ وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْكِتَابِ وَحُكْمُ الأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ(1).
وقال الإمام أحمد: لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً(2).
وقال الأوزاعيُّ: مَن أَخَذَ بِنَوَادِرِ الْعُلَمَاءِ خَرَجَ مِنَ الإِسْلاَمِ(3).
__________
(1) - سنن الدارمى برقم (220) وجامع الأحاديث برقم( 29738) وأخرجه الفريابى فى صفة المنافق (1/54 ، رقم 31) والفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي برقم( 599 ) وهو صحيح
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 22 / ص 164) وإرشاد الفحول الي تحقيق الحق من علم الاصول - (ج 2 / ص 139) والتقليد والإفتاء والاستفتاء - (ج 1 / ص 40) و مجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 3 / ص 407) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 1809) رقم الفتوى 4145 رخص المذاهب وحكم تتبعها، واختلاف الأئمة.والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 15 / ص 155)
(3) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 10 / ص 211) برقم(21446) وإسناده صحيح إليه
وانظر فتاوى قطاع الإفتاء بالكويت - (ج 1 / ص 47) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11497) والبحر المحيط - (ج 8 / ص 271) وإرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول - (ج 2 / ص 139) والتقليد والإفتاء والاستفتاء - (ج 1 / ص 40)(2/234)
وقَالَ إسْمَاعِيلَ الْقَاضِيَ : دَخَلْت عَلَى الْمُعْتَضِدِ فَدَفَعَ إلَيَّ كِتَابًا نَظَرْت فِيهِ وَقَدْ جَمَعَ فِيهِ الرُّخَصَ مِن زَلَلِ الْعُلَمَاءِ وَمَا احْتَجَّ بِهِ كُلٌّ مِنهُمْ ، فَقُلْت : مُصَنِّفُ هَذَا زِنْدِيقٌ ، فَقَالَ : لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ ؟ قُلْت : الْأَحَادِيثُ عَلَى مَا رَوَيْت وَلَكِنْ مَن أَبَاحَ الْمُسْكِرَ لَمْ يُبِحْ الْمُتْعَةَ ، وَمَن أَبَاحَ الْمُتْعَةَ لَمْ يُبِحْ الْمُسْكِرَ ، وَمَا مِن عَالِمٍ إلَّا وَلَهُ زَلَّةٌ ، وَمَن جَمَعَ زَلَلَ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ أَخَذَ بِهَا ذَهَبَ دِينُهُ ، فَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِإِحْرَاقِ ذَلِكَ الْكِتَابِ .
فالأخذ بالرّخص لا يعني تتبّعها والبحث عنها للتّحلّل من التّكليف وإنّما يعني الانتقال من تكليفٍ أشدّ إلى تكليفٍ أخفّ لسببٍ شرعيٍّ(1).
والنقول في هذا الباب كثيرة جداً لا تكاد تحصى، والعلماء متفقون على مضمونها وإن اختلفت عباراتهم، وعلة ذلك عندهم أنه ما من عالم إلا وله زلةٌ في مسألة لم يبلغه فيها الدليل أو أخطأ فهمه فيها الصواب. فمن تبعَ ذلك وأخذ به تملَّص من التكاليف الشرعية وزاغ عن جادة الحق وهو لا يدري.
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 22 / ص 164) والبحر المحيط - (ج 8 / ص 271) وإرشاد الفحول الي تحقيق الحق من علم الاصول - (ج 2 / ص 139) والتقليد والإفتاء والاستفتاء - (ج 1 / ص 40)(2/235)
فالعالمُ معذورٌ مأجورٌ، ومتَّبعه في ذلك بعدما يتبينُ له الحقُّ مذمومٌ مأزورٌ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعدما نقل كلاماً لابن المبارك في هذا المعنى: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، فَإِنَّهُ مَا مِن أَحَدٍ مِن أَعْيَانِ الْأُمَّةِ مِن السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَمَن بَعْدَهُمْ إلَّا لَهُمْ أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ خَفِيَ عَلَيْهِمْ فِيهَا السُّنَّةُ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَا يُحْصَى مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَغُضُّ مِن أَقْدَارِهِمْ وَلَا يُسَوِّغُ اتِّبَاعَهُمْ فِيهَا.(1)انتهى كلامه.
وفي الموسوعة الفقهية(2):
"الرُّخَصُ الشَّرْعِيَّةُ الثَّابِتَةُ بِالْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ لاَ بَأْسَ فِي تَتَبُّعِهَا لِقَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - :« إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ»(3)
أَمَّا تَتَبُّعُ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ الاِجْتِهَادِيَّةِ وَالْجَرْيُ وَرَاءَهَا دُونَ سَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا وَنَحْوُهَا مِمَّا يُمَاثِلُهَا يُعْتَبَرُ هُرُوبًا مِنَ التَّكَالِيفِ ، وَتَخَلُّصًا مِنَ الْمَسْئُولِيَّةِ ، وَهَدْمًا لِعَزَائِمِ الأَْوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ، وَجُحُودًا لِحَقِّ اللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ ، وَهَضْمًا لِحُقُوقِ عِبَادِهِ ، وَهُوَ يَتَعَارَضُ مَعَ مَقْصِدِ الشَّرْعِ الْحَكِيمِ مِنَ الْحَثِّ عَلَى التَّخْفِيفِ عُمُومًا وَعَلَى التَّرَخُّصِ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ } (185) سورة البقرة.
__________
(1) - الفتاوى الكبرى - (ج 9 / ص 108) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 4 / ص 52)
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 22 / ص 164)
(3) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 3 / ص 140)(5621) صحيح لغيره(2/236)
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ وَقَدِ اعْتَبَرَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الْعَمَل فِسْقًا لاَ يَحِل(1).
وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ الإِْجْمَاعَ عَلَيْهِ .(2)
وَقَال نَقْلاً عَنْ غَيْرِهِ : لَوْ أَخَذْتَ بِرُخْصَةِ كُل عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ .(3)
وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ : لَوْ أَنَّ رَجُلاً عَمِل بِقَوْل أَهْل الْكُوفَةِ فِي النَّبِيذِ وَأَهْل الْمَدِينَةِ فِي السَّمَاعِ وَأَهْل مَكَّةَ فِي الْمُتْعَةِ كَانَ فَاسِقًا .(4)
وَقَدْ دَخَل الْقَاضِي إِسْمَاعِيل - يَوْمًا - عَلَى الْمُعْتَضِدِ الْعَبَّاسِيِّ فَرَفَعَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ كِتَابًا وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ وَقَدْ جَمَعَ فِيهِ صَاحِبُهُ الرُّخَصَ مِنْ زَلَل الْعُلَمَاءِ فَقَال لَهُ الْقَاضِي الْمَذْكُورُ - بَعْدَ أَنْ تَأَمَّلَهُ - : مُصَنِّفُ هَذَا زِنْدِيقٌ ، فَقَال : أَلَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الأَْحَادِيثُ ؟ قَال : بَلَى ، وَلَكِنْ مَنْ أَبَاحَ الْمُسْكِرَ لَمْ يُبِحِ الْمُتْعَةَ ، وَمَنْ أَبَاحَ الْمُتْعَةَ لَمْ يُبِحِ الْغِنَاءَ وَالْمُسْكِرَ ، وَمَا مِنْ عَالِمٍ إِلاَّ وَلَهُ زَلَّةٌ ، وَمَنْ جَمَعَ زَلَل الْعُلَمَاءِ ثُمَّ أَخَذَ بِهَا ذَهَبَ دِينُهُ ، فَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِإِحْرَاقِ ذَلِكَ الْكِتَابِ .(5)
فَالأَْخْذُ بِالرُّخَصِ لاَ يَعْنِي تَتَبُّعَهَا وَالْبَحْثَ عَنْهَا لِلتَّحَلُّل مِنَ التَّكْلِيفِ وَإِنَّمَا يَعْنِي الاِنْتِقَال مِنْ تَكْلِيفٍ أَشَدَّ إِلَى تَكْلِيفٍ أَخَفَّ لِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ .
- - - - - - - - - - - - - - -
المبحث الثاني
__________
(1) - الموافقات 4 / 140، وشرح التنقيح ص 386 ، والمعيار 6 / 369 - 381 ، 382 .
(2) - مراتب الإجماع ص 175 .
(3) - الأحكام 6 / 179 .
(4) - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ص 272 .
(5) - نفس المصدر .(2/237)
الاحتياط ُوالورعُ الأخذ بالأثقل ولو كان مرجوحاً(1)
عَن عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِيِنِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَن وَقَعَ فِى الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى ، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ . أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِى أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ ، أَلاَ وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ . أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ » أخرجه البخاري ومسلم(2).
وعَن أَبِى الْحَوْرَاءِ السَّعْدِىِّ قَالَ قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِىٍّ مَا حَفِظْتَ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: حَفِظْتُ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ » أخرجه الترمذي(3).
قلت : يمكن للمرء أن يأخذ بالورع عند التنازع في خاصة نفسه، ولا يمكنُ أن يحملَ عليه جميعَ الناس، بل الواجبُ في حقِّ المسلم أنْ لا يعملَ بالأخفِّ إنْ كان مرجوحاً، وأمَّا إذا كان هو الراجح فله أنْ يعملَ به، والاحتياطُ والورعُ أن يأخذَ بالأثقلِ ولو كانَ هو المرجوحُ .
__________
(1) - انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 7 / ص 1086) رقم الفتوى 48485 الاحتياط والورع الأخذ بالأثقل ولو كان مرجوحاً تاريخ الفتوى : 21 ربيع الأول 1425
(2) - صحيح البخارى برقم(52 ) وصحيح مسلم برقم(4181 )
(3) - سنن الترمذى برقم(2708 ) وَهو صَحِيحٌ.(2/238)