بسم الله الرحمن الرحيم
____________________
(1/5)
حامدا لله تعالى أولا وثانيا ولعنان الثناء إليه ثانيا وعلى أفضل رسله وآله مصليا
____________________
(1/6)
وفي حلبة الصلوات مجليا ومصليا
وبعد فإن العبد المتوسل إلى الله تعالى بأقوى الذريعة
____________________
(1/7)
عبيد الله بن مسعود بن تاج الشريعة سعد جده وأنجح جده يقول لما وفقني الله بتأليف تنقيح الأصول أردت أن أشرح مشكلاته وأفتح مغلقاته معرضا عن شرح المواضع التي من يحلها بغير إطناب لا يحل له النظر في ذلك الكتاب واعلم أني لما سودت كتاب التنقيح وسارع بعض الأصحاب إلى انتساخه ومباحثته وانتشر النسخ في بعض الأطراف ثم بعد ذلك وقع فيه قليل من التغييرات وشيء من المحو والإثبات فكتبت في هذا الشرح عبارة المتن على النمط الذي تقرر عندي لتغيير النسخ المكتوبة قبل التغييرات إلى هذا النمط ثم لما تيسر إتمامه وفض بالاختتام ختامه مشتملا على تعريفات وحجج مؤسسة على قواعد المعقول وتفريعات مرصصة بعد ضبط الأصول وترتيب أنيق لم يسبقني على مثله أحد مع تدقيقات غامضة لم يبلغ فرسان هذا العلم إلى هذا الأمد سميت هذا الكتاب بالتوضيح في حل غوامض التنقيح والله تعالى مسئول أن يعصم عن الخطأ والخلل كلامنا وعن السهو والزلل أقلامنا وأقدامنا
____________________
(1/8)
إليه يصعد الكلم الطيب افتتح بالضمير قبل الذكر ليدل على حضوره في الذهن فإن ذكر الله تعالى كيف لا يكون في الذهن سيما عند افتتاح الكلام كقوله تعالى وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وقوله إنه لقرآن كريم وقوله الطيب صفة الكلم
والكلم إن كان جمعا وكل جمع يفرق بينه وبين واحدة بالتاء يجوز في وصفه التذكير والتأنيث نحو نخل خاوية ونحو منقعر من محامد لأصولها من شارع
____________________
(1/9)
الشرع ماء ولفروعها من قبول القبول نماء القبول الأول ريح الصبا على أن جعل أصول الشريعة ممهدة المباني وفروعها رقيقة الحواشي أي لطيفة الأطراف والجوانب ودقيقة
____________________
(1/10)
المعاني بني على أربعة أركان قصر الأحكام وأحكمه بالمحكمات غاية الإحكام وجعل المتشابهات مقصورات خيام الاستتار ابتلاء لقلوب الراسخين فإن إنزال المتشابهات على مذهبنا وهو الوقف اللازم على قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله
____________________
(1/11)
لابتلاء الراسخين في العلم بكبح عنان ذهنهم عن التفكر فيها والوصول إلى ما يشتاقون إليه من العلم بالأسرار التي أودعها فيها ولم يظهر أحدا من خلقه عليها والنصوص منصة عرائس أبكار أفكار المتفكرين منصة العروس مكان يرفع العروس عليه للجلوة وكشف القناع عن جمال مجملات كتابة بسنة نبيه المصطفى وفصل خطابه أي الخطاب الفاصل بين الحق
____________________
(1/12)
والباطل صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما رفع أعلام الدين بإجماع المجتهدين ووضع معالم العلم على مسالك المعتبرين أراد بمعالم العلم العلل التي يعلم القائس بها الحكم في المقيس وأراد بالمعتبرين بكسر الباء القائسين ومسالكهم هي مواقع سلوكهم بأقدام الفكر من مواد النصوص إلى الأحكام الثابتة في الفروع فمبدأ سلوكهم هو لفظ النص فيعبرون منه إلى معانيه اللغوية الظاهرة ثم منها إلى معانيه الشرعية الباطنة فيجدون فيها علامات وأمارات وضعها الشارع ليهتدوا بها إلى مقاصدهم ولما قال بني على أربعة أركان قصر الأحكام ذكر الأركان الأربعة وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس على الوجه الذي بنى الشارع قصر الأحكام عليها
____________________
(1/13)
وبعد فإن العبد المتوسل إلى الله تعالى بأقوى الذريعة عبيد الله بن مسعود بن تاج الشريعة سعد جده وجد سعده يقول لما رأيت فحول العلماء مكبين في كل عهد وزمان على مباحثة أصول الفقه أي مقبلين عليها من أكب على وجهه سقط عليه فإن من أقبل على الشيء غاية الإقبال فكأنه أكب عليه للشيخ الإمام مقتدى الأئمة العظام فخر الإسلام علي البزدوي بوأه الله تعالى دار السلام وهو كتاب جليل الشأن باهر البرهان مركوز كنوز معانيه في صخور عباراته ومرموز غوامض نكته في دقائق إشاراته ووجدت بعضهم طاعنين على ظواهر ألفاظه لقصور نظرهم عن مواقع ألحاظه أي لا يدركون بإمعان النظر ما يدركه هو بلحاظ عينه من غير أن ينظر إليه قصدا أردت تنقيحه وتنظيمه وحاولت أي طلبت تبيين مراده وتفهيمه وعلى قواعد المعقول وتأسيسه وتقسيمه موردا فيه زبدة مباحث المحصول وأصول الإمام المدقق جمال العرب ابن الحاجب مع تحقيقات بديعة وتدقيقات غامضة منيعة تخلو الكتب عنها سالكا فيه مسلك الضبط والإيجاز متشبثا بأهداب السحر متمسكا بعروة الإعجاز اختار في الإعجاز العروة وفي السحر الأهداب لأن الإعجاز أقوى وأوثق من السحر واختار في العروة لفظ الواحد وفي الأهداب لفظ الجمع لأن الإعجاز في الكلام أن يؤدى المعنى بطريق هو أبلغ من جميع ما عداه من الطرق ولا يكون هذا إلا واحدا وأما السحر في الكلام فهو دون الإعجاز وطرقه فوق الواحد فأورد فيه لفظ الجمع وسميته بتنقيح الأصول والله تعالى مسئول أن يمتع به مؤلفه وكاتبه وقارئه وطالبه
____________________
(1/14)
ويجعله خالصا لوجهه الكريم إنه هو البر الرحيم أصول الفقه أي هذا أصول الفقه أو أصول الفقه ما هي فنعرفها أولا باعتبار الإضافة وثانيا باعتبار أنه لقب لعلم مخصوص أما تعريفها باعتبار الإضافة فيحتاج إلى تعريف المضاف والمضاف إليه فقال الأصل ما يبتنى عليه غيره فالابتناء شامل للابتناء الحسي وهو ظاهر والابتناء العقلي وهو ترتب الحكم على دليله وتعريفه بالمحتاج إليه لا يطرد وقد عرفه الإمام في المحصول بهذا واعلم أن التعريف إما حقيقي كتعريف الماهيات الحقيقية وإما اسمي كتعريف الماهيات الاعتبارية كما إذا ركبنا شيئا من أمور هي أجزاؤه باعتبار تركيبنا ثم وضعنا لهذا المركب اسما كالأصل والفقه والجنس والنوع ونحوها فالتعريف الاسمي هو تبيين أن هذا الاسم لأي شيء وضع وشرط لكلا التعريفين الطرد أي كل ما صدق عليه الحد صدق عليه المحدود والعكس أي كل ما صدق ما عليه المحدود صدق عليه الحد فإذا قيل في تعريف الإنسان إنه حيوان ماش لا يطرد ولو قيل حيوان إن كان بالفعل لا ينعكس ولا شك أن تعريف الأصل تعريف اسمي أي بيان أن لفظ الأصل لأي شيء وضع فالتعريف الذي ذكر في المحصول لا يطرد لأنه أي الأصل لا يطلق على الفاعل أي العلة الفاعلية والصورة أي العلة الصورية والغاية أي العلة الغائبة والشروط كأدوات الصناعة مثلا فعلم أن هذا التعريف صادق على هذه الأشياء لكونها محتاجا إليها والمحدود لا يصدق عليها لأن شيئا من هذه الأشياء لا يسمى أصلا فلا يصح هذا التعريف الاسمي
____________________
(1/15)
والفقه معرفة النفس ما لها وما عليها ويزاد عملا ليخرج الاعتقاديات والوجدانيات فيخرج الكلام والتصرف ومن لم يزد أراد الشمول هذا التعريف منقول عن أبي حنيفة فالمعرفة إدراك الجزئيات عن دليل فخرج التقليد وقوله ما لها وما عليها يمكن أن يراد به ما تنتفع به النفس وما تتضرر به في الآخرة كما في قوله تعالى لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت فإن أريد بهما الثواب والعقاب فاعلم أن ما يأتي به المكلف إما واجب أو مندوب أو مباح أو مكروه كراهة تنزيه أو مكروه كراهة تحريم أو حرام فهذه ستة ثم لكل واحد طرفان طرف الفعل وطرف الترك يعني عدم الفعل فصارت اثني عشر ففعل الواجب والمندوب مما يثاب عليه وفعل الحرام والمكروه تحريما وترك الواجب مما يعاقب عليه والباقي لا يثاب ولا يعاقب عليه فلا يدخل في شيء من القسمين
____________________
(1/16)
وإن أريد بالنفع عدم العقاب وبالضرر العقاب ففعل الحرام والمكروه تحريما وترك الواجب يكون من القسم الثاني أي مما يعاقب عليه والتسعة الباقية تكون من الأول أي مما لا يعاقب عليه وإن أريد بالنفع الثواب وبالضرر عدم الثواب ففعل الواجب والمندوب مما يثاب عليه ثم العشرة الباقية مما لا يثاب عليه عليها ويمكن أن يراد بما لها وما عليها ما يجوز لها وما يجب عليها ففعل ما سوى الحرام والمكروه تحريما وترك ما سوى الواجب مما يجوز لها وفعل الواجب وترك الحرام والمكروه تحريما مما يجب عليها بقي فعل الحرام والمكروه تحريما وترك الواجب خارجين عن القسمين ويمكن أن يراد بما لها وما عليها ما يجوز لها وما يحرم عليها فيشملان جميع الأصناف إذا عرفت هذا فالحمل على وجه لا يكون بين القسمين واسطة أولى ثم ما لها وما عليها يتناول الاعتقاديات كوجوب الإيمان ونحوه والوجدانيات أي الأخلاق الباطنة والملكات النفسانية والعمليات كالصلاة والصوم والبيع ونحوها فمعرفة ما لها وما عليها من الاعتقاديات هي علم الكلام ومعرفة ما لها وما عليها من الوجدانيات هي علم الأخلاق والتصوف كالزهد والصبر والرضا وحضور القلب في الصلاة ونحو ذلك ومعرفة ما لها وما عليها من العمليات هي الفقه المصطلح فإن أردت بالفقه هذا المصطلح زدت عملا على قوله ما لها وما عليها وإن أردت ما يشمل الأقسام الثلاثة لم تزد وأبو حنيفة رحمه الله إنما لم يزد عملا لأنه أراد الشمول أي أطلق الفقه على العلم بما لها وعليها سواء كان من الاعتقاديات أو الوجدانيات أو العمليات ثم سمى الكلام فقها أكبر
____________________
(1/17)
وقيل العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية فالعلم جنس والباقي فصل فقوله بالأحكام يمكن أن يراد بالحكم هاهنا إسناد أمر إلى آخر ويمكن أن يراد
____________________
(1/18)
الحكم المصطلح وهو خطاب الله تعالى المتعلق إلخ فإن أريد الأول يخرج العلم بالذوات والصفات التي ليست بأحكام عن الحد أي يخرج التصورات ويبقي التصديقات وبالشرعية يخرج العلم بالأحكام العقلية والحسية كالعلم بأن العالم محدث والنار محرقة وإن أريد الثاني فقوله بالأحكام يكون احترازا عن علم ما سوى خطاب الله تعالى المتعلق إلى آخره فالحكم بهذا التفسير قسمان شرعي أي خطاب الله تعالى بما يتوقف على الشرع وغير شرعي أي خطاب الله تعالى بما لا يتوقف على الشرع كوجوب الإيمان بالله تعالى ووجوب تصديق النبي عليه السلام ونحوهما مما لا يتوقف على الشرع لتوقف الشرع عليه ثم الشرعي إما نظري وإما عملي فقوله العملية يخرج العلم بالأحكام الشرعية النظرية كالعلم بأن الإجماع حجة وقوله من أدلتها أي العلم الحاصل للشخص الموصوف به من أدلتها المخصوصة بها وهي الأدلة الأربعة وهذا القيد يخرج التقليد لأن المقلد وإن كان قول المجتهد دليلا له لكنه ليس من تلك الأدلة المخصوصة وقوله التفصيلية يخرج الإجمالية كالمقتضي والنافي وقد زاد ابن الحاجب على هذا قوله بالاستدلال ولا شك أنه مكرر
ولما عرف الفقه بالعلم بالأحكام الشرعية وجب تعريف الحكم وتعريف الشرعية فقال
____________________
(1/19)
فارغة
____________________
(1/20)
فارغة
____________________
(1/21)
والحكم قيل خطاب الله تعالى هذا التعريف منقول عن الأشعري فقوله خطاب الله تعالى يشمل جميع الخطابات
وقوله المتعلق بأفعال المكلفين يخرج ما ليس كذلك فبقي
____________________
(1/22)
في الحد نحو والله خلقكم وما تعملون مع أنه ليس بحكم فقال بالاقتضاء أي الطلب وهو إما طلب الفعل جازما كالإيجاب أو غير جازم كالندب وإما
____________________
(1/23)
طلب الترك جازما كالتحريم أو غير جازم كالكراهة أو التخيير أي الإباحة وقد زاد البعض أو الوضع ليدخل الحكم بالسببية والشرطية ونحوهما اعلم أن الخطاب نوعان إما تكليفي وهو المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير وإما وضعي وهو الخطاب بأن هذا سبب ذلك أو شرطه
____________________
(1/24)
كالدلوك سبب للصلاة والطهارة شرط فلما ذكر أحد النوعين وهو التكليفي وجب ذكر النوع الآخر وهو الوضعي والبعض لم يذكر الوضعي لأنه داخل في الاقتضاء أو التخيير لأن المعنى من كون الدلوك سببا للصلاة أنه إذا وجد الدلوك وجبت الصلاة حينئذ والوجوب من باب الاقتضاء لكن الحق هو الأول لأن المفهوم من الحكم الوضعي تعلق شيء بشيء آخر والمفهوم من الحكم التكليفي ليس هذا ولزوم أحدهما للآخر في صورة لا يدل على اتحادهما نوعا وبعضهم قد عرف الحكم الشرعي بهذا أي بعض المتأخرين من متابعي الأشعري قالوا الحكم الشرعي خطاب الله تعالى فالحكم على هذا إسناد أمر إلى آخر والفقهاء يطلقونه على ما ثبت بالخطاب كالوجوب والحرمة مجازا بطريق إطلاق اسم المصدر على المفعول كالخلق على المخلوق لكن لما شاع فيه صار منقولا اصطلاحيا وهو حقيقة اصطلاحية يرد عليه أي على تعريف الحكم وهو خطاب الله تعالى إلخ إن الحكم المصطلح بين الفقهاء ما ثبت بالخطاب لا هو أي لا الخطاب فلا يكون ما ذكر تعريفا للحكم المصطلح بين الفقهاء وهو المقصود بالتعريف هنا
____________________
(1/25)
وأيضا يخرج منه ما يتعلق بفعل الصبي كجواز بيعه وصحة إسلامه وصلاته وكونها مندوبة ونحو ذلك فإنه ليس بمتعلق بأفعال المكلفين مع أنه حكم فإن قيل هو حكم باعتبار تعلقه بفعل وليه قلنا هذا في الإسلام والصلاة لا يصح
وأما في غير الإسلام والصلاة فإن تعلق الحق بماله أو بذمته حكم شرعي ثم أداء الولي حكم آخر مترتب على الأول لا عينه وسيجيء في باب الحكم الأحكام المتعلقة بأفعاله فينبغي أن يقال بأفعال العباد ويخرج منه ما ثبت بالقياس إذ لا خطاب هنا إلا أن يقال اعلم أن المصادر قد تقع ظرفا نحو آتيك طلوع الفجر أي وقت طلوعه فقوله إلا أن يقال هذا القبيل فإنه استثناء
____________________
(1/26)
مفرغ من قوله ويخرج منه ما ثبت بالقياس أي جميع الأوقات إلا وقت قوله في جواب الإشكال يدرك بالقياس أن الخطاب ورد بهذا إلا أنه ثبت بالقياس فإن القياس مظهر للحكم لا مثبت فاندفع الإشكال وأيضا يخرج نحو آمنوا وفاعتبروا أي من الحد مع أنها حكم فالمراد بالإيمان هنا التصديق فوجوب التصديق حكم مع أنه ليس من الأفعال إذ المراد
____________________
(1/27)
بالأفعال المذكورة أفعال الجوارح ووجوب الاعتبار أي القياس حكم مع أنه ليس من أفعال الجوارح
ويقع التكرار بين العملية وبين المتعلق بأفعال المكلفين لأنه قال في حد الفقه العلم بالأحكام الشرعية العملية والحكم خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين فيكون حد الفقه العلم بخطابات الله تعالى المتعلقة بأفعال المكلفين الشرعية العملية فيقع التكرار إلا أن يقال نعني بالأفعال ما يعم فعل الجوارح وفعل القلب وبالعملية ما يختص بالجوارح فاندفع بهذه العناية التكرار وخرج جواب الإشكال المتقدم وهو قوله يخرج نحو آمنوا وفاعتبروا لأنهما من أفعال القلب
والشرعية ما لا تدرك لولا خطاب الشارع سواء كان الخطاب واردا في عين هذا الحكم أو واردا في صورة يحتاج إليها هذا الحكم كالمسائل القياسية فتكون أحكامها شرعية إذ لولا خطاب الشارع في المقيس عليه لا يدرك الحكم في المقيس فيدخل في حد الفقه حسن كل فعل وقبحه عند نفاة كونهما عقليين اعلم أن عندنا وعند جمهور المعتزلة حسن بعض الأفعال وقبحها يدركان عقلا وبعضها لا بل يتوقف على
____________________
(1/28)
خطاب الشارع فالأول لا يكون من الفقه بل هو علم الأخلاق والثاني هو الفقه وحد الفقه يكون صحيحا جامعا مانعا على هذا المذهب
وأما عند الأشعري وأتباعه فحسن كل فعل وقبحه شرعي فيكونان من الفقه مع أن حسن التواضع والجود ونحوهما وقبح أضدادهما لا يعدان من الفقه المصطلح عند أحد فيدخل في حد الفقه المصطلح ما ليس منه فلا يكون هذا تعريفا صحيحا للفقه المصطلح على مذهب الأشعري
ولا يزاد عليه أي على حد الفقه المصطلح التي لا يعلم كونها من الدين ضرورة لإخراج مثل الصلاة والصوم فإنهما منه وليس المراد بالأحكام بعضها وإن قل اعلم أن هذا القيد ذكر في المحصول ليخرج مثل الصلاة والصوم وأمثالهما إذ لو لم يخرج لكان الشخص العالم بوجوبهما فقيها وليس كذلك فأقول هذا القيد ضائع لأنا لا نسلم أنه لو لم يخرج لكان الشخص العالم بوجوبهما فقيها لأن المراد بالأحكام ليس بعضها وإن قل فإن الشخص العالم بمائة مسألة من أدلتها سواء يعلم كونها من الدين ضرورة أو لا يعلم كالمسائل الغريبة التي في كتاب الرهن ونحوه لا يسمى فقيها فالعلم بوجوب الصلاة والصوم من الفقه مع أن العالم بذلك وحده لا يسمى فقيها كالعلم بمائة مسألة غريبة فإنه من الفقه لكن العالم بها وحدها ليس بفقيه فلا معنى لإخراجهما منه بذلك العذر الفاسد ثم اعلم أنه لا يراد بالأحكام الكل لأن الحوادث لا تكاد تتناهى ولا ضابط يجمع أحكامها ولا يراد كل واحد لوجود لا أدري ولا بعض له نسبة معينة بالكل كالنصف أو
____________________
(1/29)
الأكثر للجهل به ولا التهيؤ للكل إذ التهيؤ البعيد قد يوجد لغير الفقيه والقريب مجهول غير منضبط ولا يراد أنه يكون بحيث يعلم بالاجتهاد حكم كل واحد لأن العلماء المجتهدين لم يتيسر لهم علم بعض الأحكام مدة حياتهم كأبي حنيفة رحمه الله تعالى لم يدر الدهر
____________________
(1/30)
وللخطأ في الاجتهاد ولأن حكم بعض الحوادث ربما يكون مما ليس للاجتهاد فيه مساغ وأيضا لا يليق في الحدود أن يذكر العلم ويراد به تهيؤ مخصوص إذ لا دلالة للفظ عليه أصلا وإذا عرفت هذا فلا بد أن يكون الفقه علما بجملة متناهية مضبوطة فلهذا قال بل هو العلم بكل الأحكام الشرعية العملية التي قد ظهر نزول الوحي بها والتي انعقد الإجماع عليها من أدلتها مع ملكة الاستنباط الصحيح منها فالمعتبر أن يعلم في أي وقت كان جميع ما قد ظهر نزول الوحي به في ذلك الوقت فالصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا فقهاء في وقت نزول بعض الأحكام بعده ثم ما لم يظهر نزول الوحي به قد لا يعلمه الفقيه والصحابة رضي الله عنهم لعربيتهم كانوا عالمين بما ذكر ولم يطلق الفقيه إلا على المستنبطين منهم وعلم المسائل الإجماعية يشترط إلا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدم الإجماع في زمنه
____________________
(1/31)
لا المسائل القياسية للدور بل يشرط ملكة الاستنباط الصحيح هو أن يكون مقرونا بشرائطه وما قيل إن الفقه ظني فلم أطلق العلم عليه فجوابه أولا أنه مقطوع به فإن الجملة التي ذكرنا أنها فقه وهي ما قد ظهر نزول الوحي به وما انعقد الإجماع عليه قطعية
وثانيا أن العلم يطلق على الظنيات كما يطلق على القطعيات كالطب ونحوه وثالثا أن الشارع لما اعتبر غلبة الظن في الأحكام صار كأنه قال كلما غلب ظن المجتهد بالحكم يثبت الحكم فكلما وجد غلبة ظن المجتهد يكون ثبوت الحكم مقطوعا به فهذا الجواب على مذهب من يقول إن كل مجتهد مصيب يكون صحيحا وأما عند من لا يقول به فيراد بقوله كلما غلب ظن المجتهد يثبت الحكم أنه يجب عليه العمل أو يثبت الحكم بالنظر إلى الدليل وإن لم يثبت في علم الله تعالى
____________________
(1/32)
وأصول الفقه الكتاب والسنة والإجماع والقياس وإن كان ذا فرعا للثلاثة لما ذكر أن أصول الفقه ما يبتنى عليه الفقه أراد أن يبين أن ما يبتنى عليه الفقه أي شيء هو فقال هو هذه الأربعة فالثلاثة الأول أصول مطلقة لأن كل واحد منها مثبت للحكم أما القياس فهو أصل من وجه لأنه أصل بالنسبة إلى الحكم وفرع من وجه لأنه فرع بالنسبة إلى الثلاثة الأول إذ العلة فيه مستنبطة من مواردها فيكون الحكم الثابت بالقياس ثابتا بتلك الأدلة وأيضا هو ليس بمثبت بل هو مظهر
أما نظير القياس المستنبط من الكتاب فكقياس حرمة اللوطة على حرمة الوطء في حالة الحيض الثابتة بقوله تعالى قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض والعلة هي الأذى وأما المستنبط من السنة فكقياس حرمة قفيز من الجص بقفيزين على حرمة قفيز من الحنطة بقفيزين الثابتة بقوله عليه السلام الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا وأما المستنبط من الإجماع فأوردوا لنظيره قياس الوطء الحرام على الحلال في حرمة المصاهرة يعني قياس
____________________
(1/33)
حرمة وطء أم المزنية على حرمة وطء أم أمته التي وطئها والحرمة في المقيس عليه ثابتة إجماعا ولا نص فيه بل النص ورد في أمهات النساء من غير اشتراط الوطء
ولما عرف أصول الفقه باعتبار الإضافة فالآن يعرفه باعتبار أنه لقب لعلم مخصوص فيقول
وعلم أصول الفقه العلم بالقواعد التي يتوصل بها إليه على وجه التحقيق أي العلم بالقضايا الكلية التي يتوصل بها إلى الفقه توصلا قريبا
____________________
(1/34)
وإنما قلنا توصلا قريبا احترازا عن المبادئ كالعربية والكلام وإنما قلنا على وجه التحقيق احترازا عن علم الخلاف والجدل فإنه وإن اشتمل على القواعد الموصلة إلى مسائل الفقه لكن لا على وجه التحقيق بل الغرض منه إلزام الخصم وذلك كقواعدهم المذكورة في الإشارة والمقدمة ونحوهما لتبتنى عليها النكت الخلافية ونعني بالقضايا الكلية المذكورة ما يكون إحدى مقدمتي الدليل على مسائل الفقه أي إذا استدللت على حكم مسائل الفقه بالشكل الأول فكبرى الشكل الأول هي تلك القضايا الكلية كقولنا هذا الحكم ثابت لأنه حكم يدل على ثبوته القياس وكل حكم يدل على ثبوته القياس فهو ثابت وإذا استدللت على مسائل الفقه بالملازمات الكلية مع وجود الملزوم فالملازمات الكلية هي تلك القضايا كقولنا هذا الحكم ثابت لأنه كلما دل القياس على ثبوت هذا الحكم يكون هذا الحكم ثابتا لكن القياس دل على ثبوت هذا الحكم فيكون ثابتا واعلم أنه يمكن أن لا يكون هذه القضية الكلية بعينها مذكورة في مسائل أصول الفقه
____________________
(1/35)
لكن تكون مندرجة في قضية كلية هي مذكورة في مسائل أصول الفقه كقولنا كلما دل القياس على الوجوب في صورة النزاع يثبت الوجوب فيها فإن هذه الملازمة مندرجة تحت هذه الملازمة وهي كلما دل القياس على ثبوت كل حكم هذا شأنه يثبت هذا الحكم والوجوب من جزئيات ذلك الحكم فكأنه قيل كلما دل القياس على الوجوب يثبت
____________________
(1/36)
الوجوب وكلما دل القياس على الجواز يثبت الجوار فالملازمة التي هي إحدى مقدمتي الدليل تكون من مسائل أصول الفقه بطريق التضمن ثم اعلم أن كل دليل من الأدلة الشرعية إنما يثبت به الحكم إذا كان مشتملا على شرائط تذكر في موضعها ولا يكون الدليل منسوخا ولا يكون له معارض مساو أو راجح
ويكون القياس قد أدى إليه رأي مجتهد حتى لو خالف إجماع المجتهدين يكون باطلا فالقضية المذكورة سواء جعلناها كبرى أو ملازمة إنما تصدق كلية إذا اشتملت على هذه القيود فالعلم بالمباحث المتعلقة بهذه القيود يكون علما
____________________
(1/37)
بالقضية الكلية التي هي إحدى مقدمتي الدليل على مسائل الفقه فتكون تلك المباحث من مسائل أصول الفقه وقولنا يتوصل بها إليه
الظاهر أن هذا يختص بالمجتهد فإن المبحوث عنه في هذا العلم قواعد يتوصل المجتهد بها إلى الفقه فإن المتوصل إلى الفقه ليس إلا المجتهد فإن الفقه هو العلم بالأحكام من الأدلة التي ليس دليل المقلد منها فلهذا لم تذكر
____________________
(1/38)
مباحث التقليد والاستفتاء في كتبنا ولا يبعد أن يقال إنه يعم المجتهد والمقلد والأدلة الأربعة إنما يتوصل بها المجتهد لا المقلد فأما المقلد فالدليل عنده قول المجتهد فالمقلد يقول هذا الحكم واقع عندي لأنه أدى إليه رأي أبي حنيفة رحمه الله وكل ما أدى إليه رأيه فهو واقع عندي فالقضية الثانية من أصول الفقه أيضا فلهذا ذكر بعض العلماء في كتب الأصول مباحث التقليد والاستفتاء
____________________
(1/39)
فعلى هذا علم أصول الفقه هو العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى مسائل الفقه ولا يقال إلى الفقه لأن الفقه هو العلم بالأحكام من الأدلة وقولنا على وجه التحقيق لا ينافي هذا المعنى فإن تحقيق المقلد أن يقلد مجتهدا يعتقد ذلك المقلد حقيقة رأي ذلك المجتهد هذا الذي ذكرنا إنما هو بالنظر إلى الدليل وأما بالنظر إلى المدلول فإن القضية
____________________
(1/40)
المذكورة إنما يمكن إثباتها كلية إذا عرف أنواع الحكم وأن أي نوع من الأحكام يثبت بأي نوع من الأدلة بخصوصية ناشئة من الحكم ككون هذا الشيء علة لذلك فإن هذا الحكم لا يمكن إثباته بالقياس ثم المباحث المتعلقة بالمحكوم به وهو فعل المكلف ككونه عبادة أو عقوبة ونحو ذلك مما يندرج في كليلة تلك القضية فإن الأحكام تختلف باختلاف أفعال المكلفين فإن العقوبات لا يمكن إثباتها بالقياس ثم المباحث المتعلقة بالمحكوم عليه وهو المكلف ومعرفة الأهلية والعوارض التي تعرض على الأهلية سماوية ومكتسبة مندرجة تحت تلك القضية الكلية أيضا لاختلاف الأحكام باختلاف المحكوم عليه بالنظر إلى وجود العوارض وعدمها فيكون تركيب الدليل على إثبات مسائل الفقه بالشكل الأول هكذا هذا الحكم ثابت لأنه حكم هذا شأنه متعلق بفعل هذا شأنه وهذا الفعل صادر من مكلف هذا شأنه ولم توجد العوارض المانعة من ثبوت هذا الحكم ويدل على ثبوت هذا الحكم قياس هذا شأنه هذا هو الصغرى ثم الكبرى قولنا وكل حكم موصوف بالصفات المذكورة يدل على ثبوته القياس الموصوف فهو ثابت فهذه القضية الأخيرة من مسائل أصول الفقه وبطريق الملازمة هكذا كلما وجد قياس موصوف بهذه الصفات دال على حكم موصوف بهذه الصفات يثبت ذلك الحكم لكنه وجد القياس الموصوف إلخ فعلم أن جميع المباحث المتقدمة مندرجة تحت تلك القضية الكلية المذكورة التي هي إحدى مقدمتي الدليل على مسائل الفقه فهذا هو معنى التوصل القريب المذكور وإذا علم أن جميع مسائل الأصول راجعة إلى قولنا كل حكم كذا يدل على ثبوته دليل كذا فهو ثابت أو كلما وجد دليل كذا دال على حكم كذا يثبت ذلك الحكم على أنه يبحث في هذا العلم عن الأدلة الشرعية لأحكام الكليتين من حيث إن الأولى مثبتة للثانية والثانية ثابتة بالأولى والمباحث التي ترجع إلى أن الأولى مثبتة للثانية والثانية ثابتة بالأولى بعضها ناشئة عن الأدلة وبعضها ناشئة عن الأحكام فموضوع هذا العلم الأدلة الشرعية والأحكام إذ يبحث فيه عن العوارض الذاتية للأدلة الشرعية وهي إثباتها الحكم وعن العوارض الذاتية للأحكام وهي ثبوتها بتلك الأدلة
فيبحث فيه عن أحوال الأدلة المذكورة وما يتعلق بها الفاء في قوله فيبحث متعلق بحد هذا العلم أي إذا كان حد أصول الفقه هذا يجب أن يبحث فيه عن أحوال الأدلة والأحكام ومتعلقاتهم ا والمراد بالأحوال العوارض الذاتية وما يتعلق بها عطف على الأدلة والضمير في قوله بها يرجع إلى الأدلة وما يتعلق بها هو الأدلة المختلف فيها كاستصحاب الحال والاستحسان وأدلة المقلد والمستفتي وأيضا ما يتعلق بالأدلة الأربعة مما له مدخل في
____________________
(1/41)
كونها مثبتة للحكم كالبحث عن الاجتهاد ونحوه
واعلم أن العوارض الذاتية للأدلة ثلاثة أقسام منها العوارض الذاتية المبحوث عنها وهي كونها مثبتة للأحكام ومنها ما ليست بمبحوث عنها لكن لها مدخل في لحوق ما هي مبحوث عنها ككونها عامة أو مشتركة أو خبر واحد وأمثال ذلك ومنها ما ليس كذلك ككونه ثلاثيا أو رباعيا قديما أو حادثا أو غيرها فالقسم الأول يقع محمولات في القضايا التي هي مسائل هذا العلم والقسم الثاني يقع أوصافا وقيودا لموضوع تلك القضايا كقولنا الخبر الذي يرويه واحد يوجب غلبة الظن بالحكم وقد يقع موضوعا لتلك القضايا كقولنا العام يوجب الحكم قطعا وقد يقع محمولا فيها نحو النكرة في موضوع النفي عامة وكذلك الأعراض الذاتية للحكم ثلاثة أقسام أيضا الأول ما يكون مبحوثا عنه وهو كون الحكم ثابتا بالأدلة المذكورة والثاني ما يكون له مدخل في لحوق ما هو مبحوث عنه ككونه متعلقا بفعل البالغ أو بفعل الصبي ونحوه
والثالث ما لا يكون كذلك فالأول يكون محمولا في القضايا التي هي مسائل هذا العلم والثاني أوصافا وقيودا لموضوع تلك القضايا وقد يقع موضوعا وقد يقع محمولا كقولنا الحكم المتعلق بالعبادة يثبت بخبر الواحد ونحو العقوبة لا تثبت بالقياس ونحو زكاة الصبي عبادة
وأما الثالث من كلا القسمين بمعزل عن هذا العلم وعن مسائله
ويلحق به البحث عما يثبت بهذه الأدلة وهو الحكم وعما يتعلق به الضمير المجرور في قوله ويلحق به راجع إلى البحث المدلول في قوله فيبحث عما يثبت أي عن أحوال ما يثبت وقوله عما يتعلق به أي بالحكم وهو الحاكم والمحكوم به والمحكوم عليه واعلم أن قوله ويلحق به يحتمل أمرين أحدهما أن يراد به أن يذكر مباحث الحكم بعد مباحث الأدلة على أن موضوع هذا العلم الأدلة والأحكام
والثاني أن موضوع هذا العلم الأدلة فقط وإنما يبحث عن الأحكام على أنه من لواحق هذا العلم فإن أصول الفقه هي أدلة الفقه ثم أريد به العلم بالأدلة من حيث إنها مثبتة للحكم فالمباحث الناشئة عن الحكم وما يتعلق به خارجة عن هذا العلم وهي مسائل قليلة تذكر على أنها لواحق وتوابع لمسائل هذا العلم كما أن موضوع المنطق التصورات والتصديقات من حيث إنها موصلة إلى تصور وتصديق فمعظم مسائل المنطق راجع إلى أحوال الموصل وإن كان يبحث فيه على سبيل الندرة عن أحوال التصور الموصل إليه كالبحث عن الماهيات أنها قابلة للحد فهذا البحث يذكر على طريق التبعية فكذا هنا وفي بعض كتب الأصول لم يعد مباحث الحكم من مباحث هذا العلم لكن الصحيح هو الاحتمال الأول وقوله وهو الحكم فإن أريد بالحكم
____________________
(1/42)
الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين وهو قديم فالمراد بثبوته بالأدلة الأربعة ثبوت علمنا به بتلك الأدلة وإن أريد بالحكم أثر الخطاب كالوجوب والحرمة فثبوته ببعض الأدلة الأربعة صحيح وبالبعض لا كالقياس مثلا لأن القياس غير مثبت للوجوب بل مثبت غلبة ظنه بالوجوب كما قيل إن القياس مظهر لا مثبت فيكون المراد بالإثبات إثبات غلبة الظن وإن نوقش في ذلك بأن اللفظ الواحد لا يراد به المعنى الحقيقي والمجازي معا فنقول نريد في الجميع إثبات العلم لنا أو غلبة الظن لنا
واعلم أني لما وقعت في مباحث الموضوع والمسائل أردت أن أسمعك بعض مباحثها التي لا يستغني المحصل عنها وإن كان لا يليق بهذا الفن منها أنهم قد ذكروا أن العلم الواحد قد يكون له أكثر من موضوع واحد كالطب فإنه يبحث فيه عن أحوال بدن الإنسان وعن الأدوية ونحوها وهذا غير صحيح والتحقيق فيه أن المبحوث عنه في العلم إن كان إضافة شيء إلى آخر كما أن في أصول الفقه يبحث عن إثبات الأدلة للحكم وفي المنطق يبحث فيه عن إيصال تصور أو تصديق إلى تصور أو تصديق وقد يكون بعض العوارض التي لها مدخل في المبحوث عنه ناشئة عن أحد المضافين وبعضها عن الآخر فموضوع هذا العلم كلا المضافين وإن لم يكن المبحوث عنه الإضافة لا يكون موضوع العلم الواحد أشياء كثيرة لأن اتحاد العلم واختلافه إنما هو باتحاد المعلومات أي المسائل واختلافها فاختلاف الموضوع يوجب اختلاف العلم وإن أريد بالعلم لواحد ما وقع الاصطلاح على أنه علم واحد من غير رعاية معنى يوجب الوحدة فلا اعتبار به على أن لكل واحد أن يصطلح حينئذ على أن الفقه والهندسة علم واحد وموضوعه شيئان فعل المكلف والمقدار وما أوردوا من النظير وهو بدن الإنسان والأدوية فجوابه أن البحث في الأدوية إنما هو من حيث إن بدن الإنسان يصح ببعضها ويمرض ببعضها فالموضوع في الجميع بدن الإنسان
ومنها أنه قد يذكر الحيثية أحدهما أن الشيء مع تلك الحيثية موضوع كما يقال
____________________
(1/43)
الموجود من حيث إنه موجود موضوع للعلم الإلهي فيبحث فيه عن الأعراض الذاتية التي تلحقه من حيث إنه موجود كالوحدة والكثرة ونحوهما ولا يبحث فيه عن تلك الحيثية لأن الموضوع ما يبحث عن أعراضه لا ما يبحث عنه أو عن أجزائه وثانيهما أن الحيثية تكون بيانا للأعراض الذاتية المبحوث عنها فإنه يمكن أن يكون للشيء أعراض ذاتية متنوعة وإنما يبحث في علم عن نوع منها فالحيثية بيان ذلك النوع فقولهم موضوع الطب بدن الإنسان من حيث إنه يصح ويمرض وموضوع الهيئة أجسام العالم من حيث إن لها شكلا يراد به المعنى الثاني لا الأول إذ في الطب يبحث عن الصحة والمرض وفي الهيئة عن الشكل فلو كان المراد هو الأول يجب أن يبحث في الطب والهيئة عن أعراض لاحقة لأجل الحيثيتين ولا يبحث عن الحيثيتين والواقع خلاف ذلك ومنها أن المشهور أن الشيء الواحد لا يكون موضوعا للعلمين أقول هذا غير ممتنع بل واقع فإن الشيء الواحد يكون له أعراض متنوعة ففي كل علم يبحث عن بعض منها كما ذكرناه
وإنما قلنا إن الشيء الواحد يكون له أعراض متنوعة فإن الواحد الحقيقي يوصف
____________________
(1/44)
بصفات كثيرة ولا يضر أن يكون بعضها حقيقة وبعضها إضافية وبعضها سلبية ولا شيء منها يلحقه لجزئه لعدم الجزء له فلحوق بعضها لا بد أن يكون لذاته قطعا للتسلسل في المبدأ فلحوق البعض الآخر إن كان لذاته فهو المطلوب وإن كان لغيره نتكلم في ذلك الغير حتى ينتهي إلى ذاته قطعا للتسلسل في المبدأ
ولأنه يلزم استكماله من غيره إذا ثبت ذلك يمكن أن يكون الشيء الواحد موضوع علمين ويكون تميزهما بحسب الأعراض المبحوث عنها وذلك لأن اتحاد العلمين واختلافهما بحسب اتحاد المعلومات واختلافها والمعلومات هي المسائل فكما أن المسائل تتحد وتختلف بحسب موضوعاتها وهي راجعة إلى موضوع العلم فكذلك تتحد المسائل وتختلف بحسب محمولاتها وهي راجعة إلى تلك الأعراض وإن أريد أن الاصطلاح جرى بأن الموضوع معتبر في ذلك لا المحمول فحينئذ لا مشاحة في ذلك على أن قولهم إن موضوع الهيئة هي أجسام العالم من حيث إنها شكل وموضوع علم السماء والعالم من الطبيعي أجسام العالم من حيث إنها طبيعية قول بأن موضوعهما واحد لكن اختلافهما باختلاف المحمول لأن الحيثية فيهما بيان المبحوث عنه لا أنها جزء الموضوع وإلا يلزم أن لا يبحث فيهما عن هاتين الحيثيتين بل عما يلحقهما لهاتين الحيثيتين والواقع خلاف ذلك والله أعلم
____________________
(1/45)
فنضع الكتاب على قسمين القسم الأول في الأدلة الشرعية وهي على أربعة أركان الركن الأول في الكتاب أي القرآن وهو ما نقل إلينا بين دفتي المصاحف تواترا فخرج سائر الكتب والأحاديث الإلهية والنبوية والقراءة الشاذة وقد أورد ابن الحاجب أن هذا
____________________
(1/46)
التعريف دوري لأنه عرف القرآن بما نقل في المصحف فإن سئل ما المصحف فلا بد وأن يقال الذي كتب فيه القرآن فأجبت عن هذا بقولي ولا دور لأن المصحف معلوم أي في العرف فلا يحتاج إلى تعريفه بقوله الذي كتب فيه القرآن ثم أردت تحقيقا في هذا
____________________
(1/47)
الموضع ليعلم أن هذا التعريف أي نوع من أنواع التعريفات فإن إتمام الجواب موقوف على هذا فقلت وليس هذا تعريف ماهية الكتاب
بل تشخيصه في جواب أي كتاب تريد ولا القرآن فإن علماءنا قالوا هو ما نقل إلينا إلخ فلا يخلو إما أن عرفوا الكتاب بهذا أو عرفوا القرآن بهذا فإن عرفوا الكتاب بهذا فليس تعريفا لماهية الكتاب بل تشخيصه في جواب أي كتاب تريد وإن عرفوا القرآن بهذا فليس تعريفا لماهية القرآن أيضا بل تشخيصه لأن القرآن اسم يطلق على الكلام الأزلي وعلى المقروء فهذا تعيين أحد محتمليه وهو المقروء فإن القرآن لفظ مشترك يطلق على الكلام الأزلي الذي هو صفة للحق عز وعلا ويطلق أيضا على ما يدل عليه وهو المقروء فكأنه قيل أي المعنيين تريد فقال ما نقل إلينا إلخ أي تريد المقروء فعلى هذا لا يلزم الدور وإنما يلزم الدور إن أريد تعريف ماهية القرآن لأنه لو
____________________
(1/48)
عرف ماهية القرآن بالمكتوب في المصحف فلا بد من معرفة ماهية المصحف فلا يكفي حينئذ معرفة المصحف ببعض الوجوه كالإشارة ونحوها ثم معرفة ماهية المصحف موقوفة على معرفة ماهية القرآن ثم أراد أن يبين أن القرآن ليس قابلا للحد بقوله على أن الشخصي لا يحد فإن الحد هو القول المعرف للشيء المشتمل على أجزائه وهذا لا يفيد معرفة الشخصيات بل لا بد
____________________
(1/49)
من الإشارة أو نحوها إلى مشخصاتها لتحصل المعرفة
إذا عرفت هذا فاعلم أن القرآن لما نزل به جبرائيل صلوات الله عليه فقد وجد مشخصا فإن كان القرآن عبارة عن ذلك المشخص لا يقبل الحد لكونه شخصيا وإن لم يكن عبارة عن ذلك المشخص بل القرآن هذه الكلمات المركبة تركيبا خاصا سواء يقرأ جبرائيل أو زيد أو عمرو على أن الحق هذا فقولنا على أن الشخصي لا يحد له تأويلان أحدهما أنا لا نعني أن القرآن شخصي بل عنينا أن القرآن لما كان هو الكلام المركب تركيبا خاصا فإنه لا يقبل الحد كما أن الشخصي لا يقبل الحد فكون الشخصي لا يحد جعل دليلا على أن القرآن لا يحد إذ معرفة
____________________
(1/50)
كل منهما موقوفة على الإشارة أما معرفة الشخصي فظاهر
وأما معرفة القرآن فلا تحصل إلا بأن يقال هو هذه الكلمات ويقرأ من أوله إلى آخره وثانيهما أنا نقول لا مشاحة في الاصطلاح فنعني بالشخصي هذه الكلمات مع الخصوصيات التي لها مدخل في هذا التركيب فإن الأعراض تنتهي بمشخصاتها إلى حد لا يقبل التعدد ولا اختلاف باعتبار ذاتها بل باعتبار محلها فقط كالقصيدة المعينة لا يمكن تعددها إلا بحسب محلها بأن يقرأها زيد أو عمرو فعنينا بالشخصي هذا والشخصي بهذا المعنى لا يقبل الحد فإذا سئل عن القرآن فإنه لا يعرف أصلا إلا بأن يقال هو هذا التركيب المخصوص فيقرأ من أوله إلى آخره فإن معرفته لا تمكن إلا بهذا الطريق وقد عرف ابن الحاجب القرآن بأنه الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه فإن حاول تعريف الماهية يلزم الدور أيضا لأنه إن قيل ما السورة فلا بد أن يقال بعض من القرآن أو نحو ذلك فيلزم الدور وإن لم يحاول تعريف الماهية بل التشخيص ويعني بالسورة هذا المعهود المتعارف كما عنينا بالمصحف لا يرد الإشكال عليه ولا علينا ونورد أبحاثه أي أبحاث الكتاب
____________________
(1/51)
في بابين الأول في إفادته المعنى اعلم أن الغرض إفادته الحكم الشرعي لكن إفادته الحكم الشرعي موقوفة على إفادته المعنى فلا بد من البحث في إفادته المعنى فيبحث في هذا الباب عن الخاص والعام والمشترك والحقيقة والمجاز وغيرها من حيث إنها تفيد المعنى والثاني في إفادته الحكم الشرعي فيبحث في الأمر من حيث إنه يوجب الوجوب وفي النهي من حيث إنه يوجب الحرمة والوجوب والحرمة حكم شرعي
الباب الأول لما كان
____________________
(1/52)
القرآن نظما دالا على المعنى قسم اللفظ بالنسبة إلى المعنى أربع تقسيمات المراد بالنظم هاهنا اللفظ إلا أن في إطلاق اللفظ على القرآن نوع سوء أدب لأن اللفظ في الأصل إسقاط شيء من الفم فلهذا اختار النظم مقام اللفظ وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لم يجعل النظم ركنا لازما في حق جواز الصلاة خاصة بل اعتبر المعنى فقط حتى لو قرأ بغير العربية في الصلاة من غير عذر جازت الصلاة عنده وإنما قال خاصة لأنه جعله لازما في غير جواز الصلاة كقراءة الجنب والحائض حتى لو قرأ آية من القرآن بالفارسية يجوز لأنه ليس بقرآن لعدم النظم
____________________
(1/53)
لكن الأصح أنه رجع عن هذا القول أي عن عدم لزوم النظم في حق جواز الصلاة فلهذا لم أورد هذا القول في المتن بل قلت إن القرآن عبارة عن النظم الدال على المعنى ومشايخنا قالوا إن القرآن هو النظم والمعنى والظاهر أن مرادهم النظم الدال على المعنى فاخترت هذه العبارة
باعتبار وضعه له هذا هو التقسيم الأول من التقاسيم الأربعة فينقسم
____________________
(1/54)
الكلام باعتبار الوضع إلى الخاص والعام والمشترك كما سيأتي وهذا ما قال فخر الإسلام رحمه الله الأول في وجوه النظم صيغة ولغة ثم باعتبار استعماله فيه هذا هو التقسيم الثاني فينقسم اللفظ باعتبار الاستعمال أنه مستعمل في الموضوع له أو في غيره كما يجيء
ثم باعتبار ظهور المعنى عنه وخفائه ومراتبهما وهذا ما قال فخر الإسلام والثاني في وجوه البيان بذلك النظم وإنما جعلت هذا التقسيم ثالثا واعتبار الاستعمال ثانيا على عكس ما أورده فخر الإسلام لأن الاستعمال مقدم على ظهور المعنى وخفائه
ثم في كيفية دلالته عليه وهذا ما قال فخر الإسلام والرابع في وجوه الوقوف على أحكام النظم
التقسيم الأول أي الذي باعتبار وضع اللفظ للمعنى
اللفظ إن وضع للكثير وضعا متعددا فمشترك كالعين مثلا وضع تارة للباصرة وتارة للذهب وتارة لعين الميزان
أو وضعا
____________________
(1/55)
واحدا أي وضع للكثير وضعا واحدا
والكثير غير محصور فعام إن استغرق جميع ما يصلح له وإلا فجمع منكر ونحوه فالعام لفظ وضع وضعا واحدا لكثير غير محصور مستغرق جميع ما يصلح له فقوله وضعا واحدا يخرج المشترك والكثير يخرج ما لم يوضع لكثير كزيد وعمرو وغير محصور يخرج أسماء العدد فإن المائة مثلا وضعت وضعا واحدا للكثير وهي مستغرقة جميع ما يصلح له لكن الكثير محصور وقوله مستغرق جميع ما يصلح له يخرج
____________________
(1/56)
الجمع المنكر نحو رأيت رجالا وهذا معنى قوله وإلا فجمع منكر أي وإن لم يستغرق جميع ما يصلح له وقوله ونحوه مثل رأيت جماعة من الرجال فعلى قول من لا يقول بعموم الجمع المنكر يكون الجمع المنكر واسطة بين الخاص والعام على قول من يقول بعمومه يراد بالجمع المنكر هاهنا الجمع المنكر الذي تدل القرينة على أنه غير عام فإن هذا يكون واسطة بين العام والخاص نحو رأيت اليوم رجالا فإن من المعلوم أن جميع الرجال غير مرئي
وإن كان أي الكثير
محصورا كالعدد والتثنية
أو وضع للواحد فخاص سواء كان الواحد باعتبار الشخص كزيد أو باعتبار النوع كرجل وفرس
ثم المشترك أن ترجح بعض معانيه بالرأي يسمى مؤولا
أصحابنا قسموا اللفظ باعتبار الصيغة واللغة أي باعتبار الوضع على الخاص والعام والمشترك والمؤول وإنما لم أورد المؤول في القسمة لأنه ليس باعتبار الوضع بل باعتبار رأي المجتهد ثم هاهنا تقسيم آخر لا بد من معرفته ومعرفة الأقسام التي تحصل منه وهو هذا
____________________
(1/57)
وأيضا الاسم الظاهر إن كان معناه عين ما وضع له المشتق منه مع وزن المشتق فصفة وإلا فإن تشخص معناه فعلم وإلا فاسم جنس وهما إما مشتقان أو لا ثم كل من الصفة واسم الجنس إن أريد المسمى بلا قيد فمطلق أو معه فمقيد أو أشخاصه كلها فعام أو بعضها معينا
____________________
(1/58)
فمعهود أو منكرا فنكرة فهي ما وضع لشيء لا بعينه عند الإطلاق للسامع والمعرفة ما وضع لمعين عند الإطلاق له أي للسامع وإنما قلت عند الإطلاق إذ لا فرق بين المعرفة والنكرة في التعيين وعدم التعيين عند الوضع وإنما قلت للسامع لأنه إذا قال جاءني رجل يمكن أن يكون الرجل متعينا للمتكلم فعلم من هذا التقسيم حد كل واحد من الأقسام وعلم أن المطلق من أقسام الخاص لأن المطلق وضع للواحد النوعي
واعلم أنه يجب في كل قسم من هذه الأقسام أن يعتبر من حيث هو كذلك حتى لا يتوهم التنافي بين كل قسم وقسم فإن بعض الأقسام قد يجتمع مع بعض وبعضها لا مثل قولنا جرت العيون
____________________
(1/59)
فمن حيث إن العين وضعت تارة للباصرة وتارة لعين الماء تكون العين مشتركة بهذه الحيثية ومن حيث إن العيون شاملة لأفراد تلك الحقيقة وهي عين الماء مثلا تكون عامة بهذه الحيثية فعلم أنه لا تنافي بين العام والمشترك لكن بين العام والخاص تناف إذ لا يمكن أن يكون اللفظ الواحد خاصا وعاما بالحيثيتين فاعتبر هذا في البواقي فإنه سهل بعد الوقوف على الحدود التي ذكرنا فصل الخاص من حيث هو خاص أي من غير اعتبار العوارض والموانع كالقرينة الصارفة عن إرادة الحقيقة مثلا
يوجب الحكم فإذا قلنا زيد عالم فزيد خاص فيوجب الحكم بالعلم على زيد وأيضا العلم لفظ خاص بمعناه فيوجب الحكم بذلك الأمر الخاص على زيد
قطعا وسيجيء
____________________
(1/60)
أنه يراد بالقطع معنيان والمراد هاهنا المعنى الأعم وهو أن لا يكون له احتمال ناشئ عن دليل لا أن لا يكون له احتمال أصلا
ففي قوله تعالى ثلاثة قروء لا يحمل القرء على الطهر وإلا فإن احتسب الطهر الذي طلق فيه يجب طهران وبعض وإن لم يحتسب تجب ثلاثة وبعض
اعلم أن القرء لفظ مشترك وضع للحيض ووضع للطهر ففي قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء المراد من القرء الحيض عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى والطهر عند الشافعي رحمه الله تعالى فنحن نقول لو كان المراد الطهر لبطل موجب الخاص وهو لفظ ثلاثة لأنه لو كان المراد الطهر والطلاق المشروع هو الذي يكون في حالة الطهر فالطهر الذي طلق فيه إن لم يحتسب من العدة يجب ثلاثة أطهار وبعض وإن احتسب كما هو
____________________
(1/61)
مذهب الشافعي يجب طهران وبعض
على أن بعض الطهر ليس بطهر وإلا لكان الثالث كذلك جواب عن سؤال مقدر وهو أن يقال لم قلتم إنه إذا احتسب يكون الواجب طهرين وبعضا بل الواجب ثلاثة لأن بعض الطهر طهر فإن الطهر أدنى ما يطلق عليه لفظ الطهر وهو طهر ساعة مثلا فنقول في جوابه إن بعض الطهر ليس بطهر لأنه لو كان كذلك لا يكون بين الأول والثالث فرق فيكفي في الثالث بعض طهر فينبغي أنه إذا مضى من الثالث شيء يحل لها التزوج وهذا خلاف الإجماع وهذا الجواب قاطع لشبهة الشافعي رحمه الله وقد تفردت بهذا وقوله تعالى فإن طلقها تحل له الفاء لفظ خاص للتعقيب وقد عقب الطلاق بالافتداء
____________________
(1/62)
فإن لم يقع الطلاق بعد الخلع كما هو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى يبطل موجب الخاص تحقيقه أنه تعالى ذكر الطلاق المعقب للرجعة مرتين ثم ذكر افتداء المرأة وفي تخصيص فعلها هنا تقرير فعل الزوج على ما سبق وهو الطلاق فقد بين نوعيه بغير مال وبمال كما يقول الشافعي رحمه الله تعالى أن الافتداء فسخ فإن ذلك زيادة على الكتاب ثم قال فإن طلقها أي بعد المرتين سواء كانتا بمال أو بغيره ففي اتصال الفاء بأول الكلام وانفصاله عن الأقرب
فساد التركيب اعلم أن الشافعي رحمه الله تعالى يصل قوله تعالى فإن طلقها بقوله تعالى الطلاق مرتان ويجعل ذكر الخلع وهو قوله تعالى ولا
____________________
(1/63)
يحل لكم أن تأخذوا إلى قوله تعالى فأولئك هم الظالمون معترضا ولم يجعل الخلع طلاقا بل فسخا وإلا يصر الأولان مع الخلع ثلاثة فيصير قوله فإن طلقها رابعا وقال المختلعة لا يلحقها صريح الطلاق فإن قوله فإن طلقها متصل بأول الكلام ووجه تمسكنا مذكور في المتن مشروحا
____________________
(1/64)
وقوله تعالى أن تبتغوا بأموالكم الباء لفظ خاص يوجب الإلصاق فلا ينفك الابتغاء أي الطلب
وهو العقد الصحيح عن المال أصلا فيجب بنفس العقد بخلاف الفاسد فإن المهر لا يجب بنفس العقد إذا كان فاسدا
خلافا للشافعي والخلاف هاهنا في مسألة المفوضة أي التي نكحت بلا مهر أو نكحت على أن لا مهر لها لا يجب المهر عند الشافعي رحمه الله عند الموت وأكثرهم على وجوب المهر إذا دخل بها وعندنا يجب كمال مهر المثل إذا دخل بها أو مات أحدهما
وقوله تعالى قد علمنا ما فرضنا عليهم خص فرض المهر أي تقديره بالشارع فيكون أدناه مقدرا خلافا له لأن قوله فرضنا معناه قدرنا وتقدير الشارع إما أن يمنع الزيادة أو يمنع النقصان والأول منتف لأن الأعلى غير مقدر في المهر إجماعا فتعين الثاني فيكون الأدنى مقدرا ولما لم يبين ذلك المفروض قدرناه بطريق الرأي والقياس بشيء هو معتبر شرعا في مثل هذا الباب أي كونه عوضا لبعض أعضاء الإنسان وهو عشرة
____________________
(1/65)
دراهم فإنه يتعلق بها وجوب قطع اليد وعند الشافعي رحمه الله تعالى كل ما يصلح ثمنا يصلح مهرا وقد أورد فخر الإسلام رحمه الله تعالى في هذا الفصل مسائل أخر أوردتها في الزيادة على النص في آخر فصل النسخ إلا مسألتين تركتهما بالكلية مخافة التطويل وهما مسألتا الهدم والقطع مع الضمان
فصل حكم العام التوقف عند البعض حتى يقوم الدليل لأنه مجمل لاختلاف أعداد الجمع فإن جمع القلة يصح أن يراد منه كل عدد من الثلاثة إلى العشرة وجمع الكثرة يصح أن يراد منه كل عدد من العشرة إلى ما لا نهاية له فإنه إذا قال لزيد علي أفلس يصح بيانه من الثلاثة إلى العشرة فيكون مجملا
وإنه يؤكد بكل وأجمع ولو كان مستغرقا لما احتيج إلى ذلك ولأنه يذكر الجمع ويراد به الواحد كقوله تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس المراد منه نعيم بن السعود أو أعرابي آخر والناس الثاني أهل مكة
وعند البعض يثبت الأدنى وهو الثلاثة في الجمع والواحد في غيره لأنه المتيقن فإنه إذا قال لفلان علي دراهم تجب ثلاثة باتفاق بيننا وبينكم لكنا نقول إنما تثبت الثلاثة لأن العموم غير ممكن فيثبت أخص الخصوص
____________________
(1/66)
وعندنا وعند الشافعي رحمه الله يوجب الحكم في الكل نحو جاءني القوم يوجب الحكم وهو نسبة المجيء إلى كل أفراد تناولها القوم
لأن العموم معنى مقصود فلا بد أن يكون لفظ يدل عليه فإن المعاني التي هي مقصودة في التخاطب قد وضع الألفاظ لها
وقد قال رضي الله تعالى عنه في الجمع بين الأختين وطئا بملك اليمين أحلتهما آية وهي قوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم فإنها تدل على حل وطء كل أمة مملوكة سواء كانت مجتمعة مع أختها في الوطء أو لا
وحرمتهما آية وهي أن تجمعوا بين الأختين تدل على حرمة الجمع بين الأختين سواء كان الجمع بطريق النكاح أو بطريق الوطء بملك اليمين
فالمحرم راجح كما يأتي في فصل التعارض أن المحرم راجح على المبيح
وابن مسعود رضي الله تعالى عنه جعل قوله تعالى وأولات الأحمال ناسخا لقوله تعالى والذين يتوفون منكم
____________________
(1/67)
حتى جعل عدة حامل توفي عنها زوجها بوضع الحمل
اختلف علي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما في حامل توفي عنها زوجها فقال علي رضي الله تعالى عنه تعتد بأبعد الأجلين توفيقا بين الآيتين إحداهما في سورة البقرة وهي قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا والأخرى في سورة النساء القصرى وهي قوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن فقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه من شاء باهلته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد سورة النساء الطولى وقوله وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن نزلت بعد قوله والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فقوله يتربصن يدل على أن عدة المتوفى عنها زوجها بالأشهر سواء كانت حاملا أو لا وقوله وأولات الأحمال يدل على أن عدة الحامل بوضع الحمل سواء توفي عنها زوجها أو طلقها فجعل قوله وأولات الأحمال أجلهن ناسخا لقوله يتربصن في مقدار ما تناوله الآيتان وهو ما إذا توفي عنها زوجها وتكون حاملا
وذلك عام كله أي النصوص الأربعة التي تمسك بها علي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما في الجمع بين الأختين والعدة
لكن عند الشافعي رحمه الله تعالى هو دليل فيه شبهة فيجوز تخصيصه بخبر الواحد والقياس أي تخصيص عام الكتاب بكل واحد من خبر الواحد والقياس
لأن كل عام يحتمل التخصيص وهو شائع فيه أي التخصيص شائع في العام وعندنا هو قطعي مساو للخاص وسيجيء معنى القطعي فلا يجوز تخصيصه بواحد منهما ما لم يخص بقطعي لأن اللفظ متى وضع لمعنى كان ذلك المعنى لازما له إلا أن تدل القرينة على خلافه ولو جاز إرادة البعض بلا قرينة يرتفع الأمان عن اللغة والشرع بالكلية لأن خطابات الشرع عامة والاحتمال الغير الناشئ عن دليل لا يعتبر فاحتمال الخصوص هنا
____________________
(1/68)
كاحتمال المجاز في الخاص فالتأكيد يجعله محكما هذا جواب عما قاله الواقفية أنه مؤكد بكل أو أجمع وأيضا جواب عما قاله الشافعي رحمه الله أنه يحتمل التخصيص فنقول نحن لا ندعي أن العام لا احتمال فيه أصلا فاحتمال التخصيص فيه كاحتمال المجاز في الخاص فإذا أكد يصير محكما أي لا يبقى فيه احتمال أصلا لا ناشئ عن دليل ولا غير ناشئ عن دليل فإن قيل احتمال المجاز الذي في الخاص ثابت في العام مع احتمال آخر وهو احتمال التخصيص فيكون الخاص راجحا فالخاص كالنص والعام كالظاهر قلنا لما كان العام موضوعا للكل كان إرادة البعض دون البعض بطريق المجاز وكثرة احتمالات المجاز لا اعتبار لها فإذا كان لفظ خاص له معنى واحد مجازي ولفظ خاص آخر له معنيان مجازيان أو أكثر ولا قرينة للمجاز أصلا فإن اللفظين متساويان في الدلالة على المعنى الحقيقي بلا ترجيح الأول على الثاني فعلم أن احتمال المجاز الواحد الذي لا قرينة له مساو لاحتمال مجازات كثيرة لا قرينة لها ولا نسلم أن التخصيص الذي يورث شبهة في العام شائع بلا قرينة فإن المخصص إذا كان هو العقل أو نحوه فهو في حكم الاستثناء على ما يأتي ولا يورث شبهة فإن كل ما يوجب العقل كونه غير داخل لا يدخل وما سوى ذلك يدخل تحت العام وإن كان المخصص هو الكلام فإن كان متراخيا لا نسلم أنه مخصص بل هو ناسخ
بقي الكلام في المخصص الذي لا يكون موصولا وقليل ما هو
____________________
(1/69)
فارغة
____________________
(1/70)
فارغة
____________________
(1/71)
فارغة
____________________
(1/72)
وإذا ثبت هذا فإن تعارض الخاص والعام فإن لم يعلم التاريخ حمل على المقارنة مع أن في الواقع أحدهما ناسخ والآخر منسوخ لكن لما جهلنا الناسخ والمنسوخ حملنا على المقارنة وإلا يلزم الترجيح من غير مرجح
فعند الشافعي رحمه الله يخص به وعندنا يثبت حكم التعارض في قدر ما تناولاه وإن كان العام متأخرا ينسخ الخاص عندنا وإن كان
____________________
(1/73)
الخاص متأخرا فإن كان موصولا يخصه فإن كان متراخيا ينسخه في ذلك القدر عندنا أي في القدر الذي تناوله العام والخاص ولا يكون الخاص ناسخا للعام بالكلية بل في ذلك القدر فقط حتى لا يكون العام عاما مخصصا بل يكون قطعيا في الباقي لا كالعام الذي خص منه البعض
فصل قصر العام على بعض ما تناوله لا يخلو من أن يكون بغير مستقل أي بكلام يتعلق بصدر الكلام ولا يكون تاما بنفسه والمستقل ما لا يكون كذلك سواء كان كلاما أو لم يكن
وهو أي غير المستقل
الاستثناء والشرط والصفة والغاية فالاستثناء يوجب قصر العام
____________________
(1/74)
على بعض أفراده والشرط يوجب قصر صدر الكلام على بعض التقادير نحو أنت طالق إن دخلت الدار والصفة توجب القصر على ما يوجد فيه الصفة نحو في الإبل السائمة زكاة والغاية توجب القصر على البعض الذي جعل الغاية حدا له نحو قوله تعالى أتموا الصيام إلى الليل ونحو فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق
____________________
(1/75)
أو بمستقل وهو أي القصر بمستقل التخصيص وهو إما بالكلام أو غيره وهو إما العقل الضمير يرجع إلى غيره
نحو خالق كل شيء يعلم ضرورة أن الله تعالى مخصوص منه وتخصيص الصبي والمجنون من خطابات الشرع من هذا القبيل
وأما الحس نحو وأوتيت من كل شيء وأما العادة نحو لا يأكل رأسا يقع على المتعارف وأما كون بعض الأفراد ناقصا فيكون اللفظ أولى بالبعض الآخر نحو كل مملوك لي حر لا يقع على المكاتب ويسمى مشككا أو زائدا عطف على قوله ناقصا أي وأما كون بعض أفراده زائدة
كالفاكهة لا تقع على العنب ففي غير المستقل أي فيما إذا كان الشيء الموجب لقصر العام غير مستقل وهو أي العام حقيقة في الباقي لأن الواضع وضع اللفظ الذي استثنى منه للباقي
وهو أي العام
حجة بلا شبهة فيه أي في الباقي وهذا إذا كان الاستثناء معلوما
أما إذا كان مجهولا فلا وفي المستقبل كلاما أو غيره أي فيما إذا كان القاصر مستقلا ويسمى هذا تخصيصا سواء كان المخصص كلاما أو غيره
____________________
(1/76)
مجاز أي لفظ العام مجاز في الباقي
بطريق اسم الكل على البعض من حيث القصر أي من حيث إنه مقصور على الباقي
حقيقة من حيث التناول أي من حيث إن لفظ العام متناول للباقي يكون حقيقة فيه
على ما يأتي في فصل المجاز إن شاء الله تعالى وهو حجة فيه شبهة ولم يفرقوا بين كونه أي التخصيص بالكلام أو غيره فإن العلماء قالوا كل عام خص بمستقل فإنه دليل فيه شبهة ولم يفرقوا في هذا الحكم بين أن يكون المخصص كلاما أو غيره
لكن يجب هناك فرق وهو أن المخصوص بالعقل ينبغي أن يكون قطعيا لأنه في حكم الاستثناء لكنه حذف الاستثناء معتمدا على العقل على أنه مفروغ عنه حتى لا نقول أن قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ونظائره دليل فيه شبهة وهذا فرق تفردت بذكره وهو واجب الذكر حتى لا يتوهم أن خطابات الشرع التي خص منها الصبي والمجنون بالعقل دليل فيه شبهة كالخطابات الواردة بالفرائض فإنه يكفر جاحدها إجماعا مع كونها مخصوصة عقلا فإن التخصيص بالعقل لا يورث شبهة فإن
كل ما يوجب العقل تخصيصه يخص وما لا فلا
____________________
(1/77)
وأما المخصوص بالكلام فعند الكرخي لا يبقى حجة أصلا معلوما كان المخصوص كالمستأمن حيث خص من قوله تعالى اقتلوا المشركين بقوله وإن أحد من المشركين استجارك فأجره
أو مجهولا كالربا حيث خص من قوله تعالى وأحل الله البيع وحرم الربا لأنه إن كان مجهولا صار الباقي مجهولا لأن التخصيص كالاستثناء إذ هو يبين أنه لم يدخل أي التخصيص يبين أن المخصوص لم يدخل تحت العام كالاستثناء فإنه يبين أن المستثنى لم يدخل في صدر الكلام والاستثناء إن كان مجهولا يكون الباقي في صدر الكلام مجهولا ولا يثبت به الحكم
وإن كان معلوما فالظاهر أن يكون معللا لأنه كلام مستقل والأصل في النصوص التعليل
ولا يدرى كم يخرج بالتعليل فيبقى الباقي مجهولا وعند البعض إن كان معلوما بقي العام فيما وراء المخصوص كما كان لأنه كالاستثناء في أنه يبين أنه لم يدخل فلا يقبل التعليل إذ الاستثناء لا يقبل التعليل لأنه غير مستقل بنفسه وفي صورة الاستثناء العام حجة في الباقي كما كان فكذا التخصيص
وإن كان مجهولا لا يبقى العام حجة لما قلنا إن التخصيص كالاستثناء
____________________
(1/78)
والاستثناء المجهول يجعل الباقي مجهولا فلا يبقى العام حجة في الباقي
وعند البعض إن كان معلوما فكما ذكرنا آنفا إن العام يبقى فيما وراء المخصوص كما كان
وإن كان مجهولا يسقط المخصص لأنه كلام مستقل بخلاف الاستثناء ولما كان المخصص كلاما مستقلا وكان معناه مجهولا يسقط هو بنفسه ولا تتعدى جهالته إلى صدر الكلام بخلاف الاستثناء لأنه غير مستقل بنفسه بل يتعلق بصدر الكلام فجهالته تتعدى إلى صدر الكلام
وعندنا تمكن فيه شبهة لأنه علم أنه غير محمول على ظاهره وهو إرادة الكل فعلم أن المراد البعض بطريق المجاز مثلا إذا كان كل أفراده مائة وعلم أن المائة غير مرادة فكل واحد من الأعداد التي دون المائة مساو في أن اللفظ مجاز فيه فلا يثبت عدد معين منها لأنه ترجيح من غير مرجح ثم ذكر ثمرة تمكن الشبهة فيه بقوله
فيصير عندنا كالعام الذي لم يخص عند الشافعي رحمه الله تعالى حتى يخصصه خبر الواحد والقياس ثم أراد أن يبين أن مع وجود هذه الشبهة لا يسقط الاحتجاج به فقال لكن لا يسقط الاحتجاج به لأن المخصص يشبه الناسخ بصيغة والاستثناء بحكمه كما قلنا فإن كان مجهولا يسقط في نفسه للشبه الأول ويوجب جهالة في العام للشبه الثاني فيدخل الشك في سقوط العام فلا يسقط به أي بالشك
____________________
(1/79)
إذ قبل التخصيص كان معمولا به فلما خص دخل الشك في أنه هل بقي معمولا به أم بطل فلا يبطل بالشك
وإن كان أي المخصص
معلوما فللشبه الأول يصح تعليله لا يريد بقوله فللشبه الأول أنه من حيث إنه يشابه الناسخ يصح تعليله كما يصح أن يعلل الناسخ الذي ينسخ بعض أفراد العام لينسخ بالقياس بعضا آخر من أفراد العام فإن تعليل الناسخ على هذا الوجه لا يصح على ما يأتي في هذه الصفحة بل يريد أنه من حيث إنه نص مستقل بنفسه يصح تعليله
كما هو عندنا فإن عندنا وعند أكثر العلماء يصح تعليله خلافا للجبائي وإذا صح تعليله لا يدرى أنه كم يخرج بالتعليل أي بالقياس وكم يبقى تحت العلم
فيوجب جهالة فيما بقي تحت العام وللشبه الثاني لا يصح تعليله كما هو عند البعض فدخل الشك في سقوط العام فلا سقط به أي الشبه الثاني هو شبه الاستثناء من حيث إن المخصص يبين أن
____________________
(1/80)
المخصص غير داخل في العام فلهذا الشبه لا يصح تعليله كما هو مذهب الجبائي كما لا يصح تعليل المستثنى وإخراج البعض الآخر بطريق القياس فمن حيث إنه يصح تعليله يصير الباقي تحت العام مجهولا فلا يبقى العام حجة ومن حيث إنه لا يصح تعليله يبقى العام حجة وقد كان قبل التخصيص حجة فوقع الشك في بطلانه فلا يبطل بالشك هذا ما قالوا ويرد عليه أنه لما كان المذهب عندكم وعند أكثر العلماء صحة تعليل فيجب أن يبطل العام عندكم بناء على زعمكم في صحة تعليله ولا تمسك لكم بزعم الجبائي أن عنده لا يصح تعليله فلدفع هذه الشبهة قال على أن احتمال التعليل لا يخرجه من أن يكون حجة لأن مقتضى القياس تخصيصه يخص وما لا فلا فإن المخصص إن لم يدرك فيه علة لا يعلل فيبقى العام في الباقي حجة وإن عرف فيه علة فكل ما توجد العلة فيه يخص قياسا وما لا فلا فلا يبطل العام باحتمال التعليل فظهر هنا الفرق بين التخصيص والنسخ أي لما ذكرنا أن تعليل المخصص صحيح ظهر من هذا الحكم الفرق بين المخصص والناسخ فإنه لا يصح تعليل الناسخ الذي ينسخ الحكم في بعض أفراد العام ليثبت النسخ في بعض آخر قياسا صورته أن يرد نص خاص حكمه مخالف لحكم العام ويكون وروده متراخيا عن ورود العام فإنا نجعله ناسخا لا مخصصا على ما سبق
فإن العام الذي نسخ بعض ما تناوله لا ينسخ بالقياس لأن القياس لا ينسخ النص إذ هو لا يعارضه لأنه دونه لكن يخصصه ولا يلزم به المعارضة لأنه يبين أنه لم يدخل وهنا مسائل من الفروع تناسب ما ذكرنا من الاستثناء والنسخ والتخصيص فنظير الاستثناء ما إذا باع الحر والعبد بثمن أو باع عبدين إلا هذا بحصته من الألف
____________________
(1/81)
يبطل البيع لأن أحدهما لم يدخل في البيع فصار البيع بالحصة ابتداء ولأن ما ليس بمبيع يصير شرطا لقبول المبيع فيفسد بالشرط الفاسد ففي المسألة الأولى ليست حقيقة الاستثناء موجودة لكنها تناسب الاستثناء في أن الاستثناء يمنع دخول المستثنى في حكم صدر الكلام وفي هذه المسألة لم يدخل الحر تحت الإيجاب مع أن صدر الكلام تناوله فصار كأنه مستثنى وفي المسألة الثانية وهي ما إذا باع عبدين إلا هذا حقيقة الاستثناء موجودة فإذا لم يدخل أحدهما في البيع لا يصح البيع في الآخر لوجهين أحدهما أنه يصير البيع في الآخر بحصته من الثمن المقابل بهما والبيع بالحصة ابتداء باطل للجهالة وإنما قلنا ابتداء لأن البيع بالحصة بقاء صحيح كما يأتي في المسألة التي هي نظير النسخ
والثاني أن البيع في الآخر بيع بشرط مخالف لمقتضى العقد وهو أن قبول ما ليس بمبيع وهو الحر أو العبد المستثنى يصير شرطا لقبول المبيع
ونظير النسخ ما إذا باع عبدين بألف فمات أحدهما قبل التسليم يبقى العقد في الباقي بحصته فهذه المسألة تناسب النسخ من حيث إن العبد الذي مات قبل التسليم كان داخلا تحت البيع لكن لما مات في يد البائع قبل التسليم انفسخ البيع فيه فصار كالنسخ لأن النسخ تبديل بعد الثبوت فلا يفسد البيع في العبد الآخر مع أنه يصير
____________________
(1/82)
بيعا بالحصة لكن في حالة البقاء وأنه غير مفسد لأن الجهالة الطارئة لا تفسد
ونظير التخصيص ما إذا باع عبدين بألف على أنه بالخيار في أحدهما صح إن علم محل الخيار وثمنه لأن المبيع بالخيار يدخل في الإيجاب لا في الحكم فصار في السبب كالنسخ وفي الحكم كالاستثناء فإذا جهل أحدهما لا يصح لشبه الاستثناء وإذا علم كل واحد منهما يصح لشبه النسخ ولم يعتبر هنا شبه الاستثناء حتى يفسد بالشرط الفاسد بخلاف الحر والعبد إذا بين حصة كل واحد منهما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وبيان مناسبتها التخصيص أن التخصيص يشابه النسخ بصيغته والاستثناء بحكمه وهنا العبد الذي فيه الخيار داخل في الإيجاب لا الحكم على ما عرف فمن حيث إنه داخل في الإيجاب يكون رده بخيار الشرط تبديلا فيكون كالنسخ ومن حيث إنه غير داخل في الحكم يكون رده بخيار الشرط بيان أنه لم يدخل فيكون كالاستثناء وإذا كان له شبهان يكون كالتخصيص الذي له شبه بالنسخ وشبه بالاستثناء فلرعاية الشبهين قلنا إن علم محل الخيار وثمنه يصح البيع وإلا فلا وهذه المسألة على أربعة أوجه أحدها أن يكون محل الخيار وثمنه معلومين كما
____________________
(1/83)
إذا باع هذا وذاك بألفين هذا بألف وذاك بألف صفقة واحدة على أنه بالخيار في ذلك
والثاني أن يكون محل الخيار معلوما لكن ثمنه لا يكون معلوما
والثالث على العكس
والرابع أن لا يكون شيء منهما معلوما فلو راعينا كونه داخلا في الإيجاب يصح البيع في الصور الأربع غاية ما في الباب أنه يصير بيعا بالحصة لكنه في البقاء لا في الابتداء فلا يفسد البيع ولو راعينا كونه غير داخل في الحكم يفسد البيع في الصور الأربع
أما إذا كان كل واحد من محل الخيار وثمنه معلوما فلأن قبول غير المبيع يصير شرطا لقبول المبيع وأما إذا كان أحدهما أو كلاهما مجهولا فلهذه العلة ولجهالة المبيع أو الثمن أو كليهما فإذا علم أن شبه النسخ يوجب الصحة في الجميع وشبه الاستثناء يوجب الفساد في الجميع فراعينا الشبهين وقلنا إذا كان محل الخيار أو ثمنه مجهولا لا يصح البيع رعاية لشبه الاستثناء وإذا كان كل منهما معلوما يصح البيع رعاية لشبه النسخ ولم يعتبر هنا شبه الاستثناء حتى يفسد بالشرط الفاسد وهو أن قبول ما ليس بمبيع يصير شرطا لقبول المبيع بخلاف ما إذا باع الحر والعبد بألف صفقة واحدة وبين ثمن كل واحد منهما حيث يفسد البيع في العبد عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن الحر غير داخل في البيع أصلا فيصير كالاستثناء بلا مشابهة النسخ فيكون ما ليس بمبيع شرطا لقبول المبيع فصل في ألفاظه وهي إما عام بصيغته ومعناه كالرجال وإما عام بمعناه وهذا إما أن
____________________
(1/84)
يتناول المجموع كالرهط والقوم وهو في معنى الجمع أو كل واحد على سبيل الشمول نحو من يأتيني فله درهم أو على سبيل البدل نحو من يأتيني أولا فله درهم فالجمع وما في معناه يطلق على الثلاثة فصاعدا فقوله يطلق على الثلاثة فصاعدا أي يصح إطلاق اسم الجمع والقوم والرهط على كل عدد معين من الثلاثة فصاعدا إلى ما لا نهاية له فإذا أطلقت على عدد معين تدل على جميع أفراد ذلك العدد المعين فإذا كان له ثلاثة عبيد مثلا أو عشرة عبيد فقال عبيدي أحرار يعتق جميع العبيد وليس المراد أنه يحتمل الثلاثة فصاعدا فإن
____________________
(1/85)
فارغة
____________________
(1/86)
هذا ينافي معنى العموم لأن أقل الجمع ثلاثة وعند البعض اثنان لقوله تعالى فإن كان له إخوة والمراد اثنان وقوله تعالى فقد صغت قلوبكما وقوله عليه الصلاة والسلام الاثنان فما فوقهما جماعة ولنا إجماع أهل اللغة في اختلاف صيغ الواحد والتثنية والجمع
ولا نزاع في الإرث والوصية فإن أقل الجمع فيهما اثنان
وقوله تعالى فقد صغت قلوبكما مجاز كما يذكر الجمع للواحد
والحديث محمول على المواريث أو على سنية تقدم الإمام فإنه إذا كان المقتدي واحدا يقوم على جنب الإمام وإذا كان اثنين فصاعدا فالإمام يتقدم أو على اجتماع الرفقة بعد قوة الإسلام فإنه لما كان الإسلام ضعيفا نهى عليه السلام عن أن يسافر واحد أو اثنان لقوله عليه السلام الواحد شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة ركب فلما ظهر قوة الإسلام رخص في سفر اثنين
____________________
(1/87)
وإنما حملناه على أحد هذه المعاني الثلاثة لئلا يخالف إجماع أهل العربية
ولا تمسك لهم بنحو فعلنا لأنه مشترك بين التثنية والجمع لا أن المثنى جمع فإنهم يقولون فعلنا صيغة مخصوصة بالجمع ويقع على اثنين فعلم أن الاثنين جمع فنقول فعلنا غير مختص بالجمع بل مشترك بين التثنية والجمع لا أن المثنى جمع فيصح تخصيص الجمع تعقيب لقوله إن أقل الجمع ثلاثة والمراد التخصيص بالمستقل
وما في معناه كالرهط والقوم إلى الثلاثة والمفرد بالجر عطف على الجمع أي المفرد الحقيقي
كالرجل وما في معناه كالجمع الذي يراد به الواحد نحو لا أتزوج النساء إلى الواحد أي يصح تخصيص المفرد إلى الواحد
____________________
(1/88)
والطائفة كالمفرد بهذا فسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة
ومنها أي أي من ألفاظ العام الجمع المعرف باللام إذا لم يكن معهودا لأن المعرف ليس هو الماهية في الجمع ولا بعض الأفراد لعدم الأولوية فتعين الكل اعلم أن لام التعريف إما للعهد الخارجي أو الذهني وإما لاستغراق الجنس وإما لتعريف الطبيعة لكن العهد هو الأصل ثم الاستغراق ثم تعريف الطبيعة لأن اللفظ الذي يدخل عليه اللام دال على الماهية بدون اللام فحمل اللام على الفائدة الجديدة أولى من حمله على تعريف الطبيعة والفائدة الجديدة أما تعريف العهد أو استغراق الجنس وتعريف العهد أولى من الاستغراق لأنه إذا ذكر بعض أفراد الجنس خارجا أو ذهنا فحمل اللام على ذلك البعض المذكور أولى من حمله على جميع الأفراد لأن البعض متيقن والكل محتمل فإذا علم ذلك ففي الجمع المحلى بالألف واللام لا يمكن حمله بطريق الحقيقة على تعريف الماهية لأن الجمع وضع لأفراد الماهية لا للماهية من حيث هي لكل يحمل عليها بطريق المجاز على ما يأتي في هذه الصفحة ولا يمكن حمله على العهد إذا لم يكن عهد فقوله ولا بعض الأفراد لعدم الأولوية إشارة
إلى هذا فتعين الاستغراق ولتمسكهم بقوله عليه الصلاة والسلام الأئمة من قريش لما وقع الاختلاف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلافة وقال الأنصار منا أمير ومنكم أمير تمسك أبو بكر رضي الله عنه بقوله عليه الصلاة والسلام الأئمة من قريش ولم يروه أحد
____________________
(1/89)
فارغة
____________________
(1/90)
فارغة
____________________
(1/91)
فارغة
____________________
(1/92)
فارغة
____________________
(1/93)
ولصحة الاستثناء قال مشايخنا هذا الجمع أي الجمع المحلى باللام مجاز عن الجنس وتبطل الجمعية حتى لو حلف لا أتزوج النساء يحنث بالواحدة ويراد الواحد بقوله تعالى إنما الصدقات للفقراء ولو أوصى بشيء لزيد وللفقراء نصف بينه وبينهم لقوله تعالى لا يحل لك النساء من بعد هذا دليل على أن الجمع مجاز عن الجنس
ولأنه لما لم يكن هناك معهود وليس للاستغراق لعدم الفائدة يجب حمله على تعريف الجنس وإنما قال لعدم الفائدة أما في قوله لا أتزوج النساء فلأن اليمين للمنع وتزوج جميع نساء الدنيا غير ممكن
____________________
(1/94)
فمنعه يكون لغوا وفي قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء لا يمكن صرف الصدقات إلى جميع فقراء الدنيا فلا يكون الاستغراق مرادا فيكون لتعريف الجنس مجازا فتكون الآية لبيان مصرف الزكاة
فتبقى الجمعية فيه من وجه ولو لم يحمل على الجنس لبطل اللام أصلا أي إذا كان اللام لتعريف الجنس ومعنى الجمعية باق في الجنس من وجه لأن الجنس يدل على الكثرة تضمنا فعلى هذا الوجه حرف اللام معمول ومعنى الجمعية باق من وجه ولو لم يحمل على هذا المعنى وتبقى الجمعية على حالها يبطل اللام بالكلية فحمله على تعريف الجنس وإبطال الجمعية من وجه أولى وهذا معنى كلام فخر الإسلام رحمه الله في باب موجب الأمر في معنى العموم والتكرار لأنا إذا أبقيناه جمعا لغا حرف العهد أصلا إلى آخره فعلم من هذه الأبحاث أن ما قالوا أنه يحمل على الجنس مجازا مقيد بصور لا يمكن
____________________
(1/95)
حمله على العهد والاستغراق حتى لو أمكن يحمل عليه كما في قوله تعالى لا تدركه الأبصار فإن علماءنا قالوا إنه لسلب العموم لا لعموم السلب فجعلوا اللام لاستغراق الجنس
والجمع المعرف بغير اللام نحو عبيدي أحرار عام أيضا لصحة الاستثناء واختلف في الجمع المنكر والأكثر على أنه غير عام وعند البعض عام لصحة الاستثناء كقوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا والنحويون حملوا إلا على غيره
ومنها المفرد المحلى باللام إذا لم يكن للمعهود كقوله تعالى إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وقوله تعالى والسارق والسارقة إلا أن تدل القرينة على أنه لتعريف الماهية نحو أكلت الخبز وشربت الماء وإنما يحتاج تعريف الماهية إلى القرينة لما ذكرنا أن الأصل في اللام العهد ثم الاستغراق ثم تعريف الماهية
____________________
(1/96)
ومنها النكرة في موضع النفي لقوله تعالى قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى في جواب ما أنزل الله على بشر من شيء وجه التمسك أنهم قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء فلو لم يكن مثل هذا الكلام للسلب الكلي لم يستقم في الرد عليهم الإيجاب الجزئي وهو قوله تعالى قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى
ولكلمة التوحيد والنكرة في موضع الشرط إذا كان أي الشرط مثبتا عاما في طرف النفي فإن قال إن ضربت رجلا فكذا معناه لا أضرب رجلا لأن اليمين للمنع هنا اعلم أن اليمين إما للحمل أو للمنع ففي قوله إن ضربت رجلا فعبدي حر اليمين للمنع فيكون كقوله لا أضرب رجلا فشرط البر أن لا يضرب أحدا من الرجال فيكون للسلب الكلي فيكون عاما في طرف النفي وإنما قيد بقوله
____________________
(1/97)
فارغة
____________________
(1/98)
إذا كان الشرط مثبتا حتى لو كان الشرط منفيا لا يكون عاما كقوله إن لم أضرب رجلا فعبدي حر فمعناه أضرب رجلا فشرط البر ضرب أحد من الرجال فيكون للإيجاب الجزئي
وكذا النكرة الموصوفة بصفة عامة عندنا نحو لا أجالس إلا رجلا عالما فله أن
____________________
(1/99)
يجالس كل عالم لقوله تعالى ولعبد مؤمن خير من مشرك قول معروف الآية وإنما يدل على العموم لأنه في معرض التعليل لقوله تعالى ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا وهذا الحكم عام ولو لم تكن العلة المذكورة عامة لما صح التعليل
ولأن النسبة إلى المشتق تدل على علية المأخذ فكذا النسبة
____________________
(1/100)
إلى الموصوف بالمشتق لأن قوله لا أجالس إلا عالما معناه إلا رجلا عالما فيعم لعموم العلة فإن قوله لا أجالس إلا عالما لعموم العلة ومعناه لا أجالس إلا رجلا عالما فإن أظهرنا الموصوف وهو الرجل ونقول لا أجالس إلا رجلا عالما كان عاما أيضا
فإن قيل النكرة الموصوفة مقيدة والمقيد من أقسام الخاص قلنا هو خاص من وجه وعام من وجه أي خاص بالنسبة إلى المطلق الذي لا يكون فيه ذلك القيد عام في إفراد ما يوجد فيه ذلك القيد
والنكرة في غير هذه المواضع خاص لكنها تكون مطلقة إذا كانت في الإنشاء ونحو قوله تعالى إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة
ويثبت بها واحد مجهول عند السامع إذا كانت في الأخبار نحو رأيت رجلا فإذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى وإذا أعيدت معرفة كانت عينها لأن الأصل في اللام العهد والمعرفة إذا أعيدت فكذلك في الوجهين أي إذا أعيدت المعرفة نكرة كان الثاني غير الأول وإن أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول فالمعتبر نكير الثاني وتعريفه
____________________
(1/101)
____________________
(1/102)
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا لن يغلب عسر يسرين والأصح أن هذا تأكيد وإن أقر بألف مقيد بصك مرتين يجب ألف وإن أقر به منكرا يجب ألفان عنده أي عند أبي حنيفة رحمه الله
إلا أن يتحد المجلس فالأقسام العقلية أربعة ففي قوله تعالى كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول أعيدت النكرة معرفة وفي قوله تعالى إن مع العسر يسرا أعيدت النكرة نكرة والمعرفة معرفة ونظير المعرفة التي تعاد نكرة غير مذكور وهو ما إذا أقر بألف مقيد بصك ثم أقر في مجلس آخر بألف منكر لا رواية لهذا ولكن ينبغي أن يجب ألفان عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى
ومنها أي وهي نكرة تعم بالصفة فإن قال أي عبيدي ضربك فهو حر فضربوه عتقوا وإن قال أي عبيدي ضربته لا يعتق إلا واحد قالوا لأن في الأول وصفه بالضرب فصار عاما به وفي الثاني قطع الوصف عنه وهذا الفرق مشكل من جهة النحو لأن في الأول وصفه بالضاربية وفي الثاني بالضروبية وهنا فرق آخر وهو أن أيا لا يتناول إلا الواحد المنكر ففي الأول في قوله أي عبيدي ضربك فهو حر
لما كان عتقه أي عتق الواحد المنكر
معلقا بضربه مع قطع النظر عن الغير فيعتق كل واحد باعتبار
____________________
(1/103)
أنه واحد مفرد فحينئذ لا تبطل الوحدة ولو لم يثبت هذا أي عتق كل واحد
وليس البعض أولى من البعض لبطل أي الكلام بالكلية وفي الثاني وهو قوله أي عبيدي ضربته يثبت الواحد ويتخير فيه الفاعل إذ هناك يمكن التخيير من الفاعل المخاطب بخلاف الأول نحو أيما إهاب دبغ فقد طهر هذا نظير الأول فإن طهارته متعلقة بدباغته من غير أن يكون له فاعل معين يمكن منه التخيير فيدل على العموم
ونحو كل أي حين تريد هذا نظير الثاني فإن التخيير من الفاعل المخاطب ممكن هنا فلا يتمكن من أكل كل واحد بل أكل واحد لكن يتخير فيه المخاطب ومثل هذا الكلام للتخيير في العرف
ومنها من وهو يقع خاصا كقوله تعالى ومنهم من يستمعون إليك ومنهم من ينظر إليك فإن المراد بعض مخصوص من المنافقين
ويقع عاما في العقلاء إذا كان للشرط نحو من دخل دار أبي سفيان فهو آمن فإن قال من شاء من عبيدي عتقه فهو حر فشاءوا عتقوا وفيمن شئت من عبيدي عتقه فاعتقه فشاء الكل يعتق الكل عندهما عملا بكلمة العموم ومن للبيان وعند أبي حنيفة رحمه الله يعتقهم إلا واحدا لأن من للتبعيض إذا دخل على ذي أبعاض
كما في كل من هذا الخبز ولأنه متيقن أي البعض متيقن لأن من إذا كان للتبعيض فظاهر وإن كان للبيان فالبعض مراد فإرادة البعض متيقنة وإرادة الكل محتملة
فوجب رعاية العموم والتبعيض وفي المسألة الأولى هذا مراعى لأن عتق كل معلق بمشيئته مع قطع النظر عن غيره فكل واحد بهذا الاعتبار بعض أي كل واحد مع قطع النظر عن غيره بعض من المجموع فيعتق كل واحد مع رعاية التبعيض بخلاف من شئت فإن المخاطب إن شاء الكل فمشيئة الكل مجتمعة فيه فيبطل التبعيض وهذا الفرق والفرق الأخير في أي مما تفردت به
____________________
(1/104)
____________________
(1/105)
____________________
(1/106)
____________________
(1/107)
ومنها ما في غير العقلاء وقد يستعار لمن فإن قال إن كان ما في بطنك غلاما فأنت حرة فولدت غلاما وجارية لم تعتق لأن المراد الكل وإن قال طلقي نفسك من ثلاث ما شئت تطلق ما دونها وعندهما ثلاثا وقد مر وجههما
ومنها كل وجميع وهما محكمان في عموم ما دخلا عليه بخلاف سائر أدوات العموم فإن دخل الكل على النكرة فلعموم الأفراد وإن دخل على المعرفة فلمجموع قالوا عمومه على سبيل الانفراد أي يراد كل واحد مع قطع النظر عن غيره وهذا إذا دخل على النكرة
فإن قال كل من دخل هذا الحصن أولا فله كذا فدخل عشرة معا يستحق كل واحد إذ في كل فرد قطع النظر عن غيره فكل واحد أول بالنسبة إلى المتخلف بخلاف من دخل وهاهنا فرق آخر هو أن من دخل أولا عام على سبيل البدل فإذا أضاف الكل إليه اقتضى
____________________
(1/108)
عموما آخر لئلا يلغو فيقتضي العموم في الأول فيتعدد الأول وهذا الفرق قد تفرد به أيضا وتحقيقه أن الأول عبارة عن الفرد السابق بالنسبة إلى كل واحد ممن هو غيره ففي قوله من دخل هذا الحصن أولا يمكن حمل الأول على هذا المعنى وهو معناه الحقيقي أما في قوله كل من دخل أولا فلفظ كل دخل على قوله من دخل أولا فاقتضى التعدد في المضاف إليه وهو من دخل أولا فلا يمكن حمل الأول على معناه الحقيقي لأن الأول الحقيقي لا يكون متعددا فيراد معناه المجازي وهو السابق بالنسبة إلا المتخلف
وجميع عمومه على سبيل الاجتماع فإن قال جميع من دخل هذا الحصن أولا فله كذا فدخل عشرة فلهم نفل واحد إن دخلوا فرادى يستحق الأول فيصير جميع مستعار الكل كذا ذكره فخر الإسلام رحمه الله تعالى في أصوله ويرد عليه أنه يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ولا يمكن أن يقال إن اتفق الدخول على سبيل الاجتماع يحمل على الحقيقة وإن اتفق فرادى يحمل على المجاز لأنه في حال التكلم لا بد أن يراد أحدهما معينا وإرادة كل واحد منهما معينا تنافي إرادة الآخر فحينئذ يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز فأقول معنى قوله إنه مستعار لكل أن الكل إلا فرادى يدل على أمرين أحدهما استحقاق الأول النفل سواء كان الأول واحدا أو جمعا والثاني أنه إذا كان الأول جمعا يستحق كل واحد منهم نفلا تاما فهاهنا يراد
____________________
(1/109)
الأمر الأول حتى يستحق الأول النفل سواء كان واحدا أو أكثر ولا يراد المعنى الحقيقي ولا الأمر الثاني حتى لو دخل جماعة يستحق الجميع نفلا واحدا أو ذلك لأن هذا الكلام للتحريض والحث على دخول الحصن أولا فيجب أن يستحق السابق النفل سواء كان منفردا أو مجتمعا ولا يشترط الاجتماع لأنه إذا أقدم الأول على الدخول فتخلف غيره من
____________________
(1/110)
المسابقة لا يوجب حرمان الأول عن استحقاق النفل فالقرينة دالة على عدم اشتراط الاجتماع فلا يراد المعنى الحقيقي وأيضا لا دليل على أنه إذا دخل جماعة يستحق كل واحد من الجماعة نفلا تاما بل الكلام دال على أن للمجموع نفلا واحدا فصار الكلام مجازا عن قوله إن السابق يستحق النفل سواء كان منفردا أو مجتمعا فإن دخل منفردا أو مجتمعا يستحق لعموم المجاز فالاستحقاق مجتمعا ليس لأنه المعنى الحقيقي بل لدخوله تحت عموم المجاز وهذا بحث في غاية التدقيق
مسألة حكاية الفعل لا تعم لأن الفعل المحكي عنه واقع على صفة معينة نحو صلى النبي عليه السلام في الكعبة فيكون هذا في معنى المشترك فيتأمل فإن ترجح بعض المعنى
____________________
(1/111)
بالرأي فذاك وإن ثبت التساوي فالحكم في البعض يثبت بفعله عليه السلام وفي البعض الآخر بالقياس قال الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز الفرض في الكعبة لأنه يلزم استدبار بعض أجزاء الكعبة ويحمل فعله عليه السلام على النفل ونحن نقول لما ثبت جواز البعض بفعله عليه السلام والتساوي بين الفرض والنفل في أمر الاستقبال حالة الاختيار ثابت فيثبت الجواز في البعض الآخر قياسا
وأما نحو قضى بالشفعة للجار فليس من هذا القبيل وهو عام لأنه نقل الحديث بالمعنى ولأن الجار عام جواب إشكال هو أن يقال حكاية الفعل لما لم تعم فما روي أنه عليه السلام قضى بالشفعة للجار يدل على ثبوت الشفعة للجار الذي لا يكون شريكا فأجاب بأن هذا ليس من باب حكاية الفعل بل هو نقل الحديث بالمعنى فهو حكاية عن قول النبي عليه السلام الشفعة ثابتة للجار ولئن سلمنا أنه حكاية الفعل لكن الجار عام لأن اللام لاستغراق الجنس لعدم المعهود فصار كأنه قال قضى عليه السلام بالشفعة لكل جار
مسألة اللفظ الذي ورد بعد سؤال أو حادثة إما أن لا يكون مستقلا أو يكون فحينئذ إما أن يخرج مخرج الجواب قطعا أو الظاهر أنه جواب مع احتمال الابتداء أو بالعكس أي الظاهر
____________________
(1/112)
أنه ابتداء الكلام مع احتمال الجواب نحو أليس لي عليك كذا فيه فيقول بلى أو كان لي عليك كذا فيقول نعم هذا نظير غير المستقل
ونحو سها فسجد وزنى ماعز فرجم هذا نظير المستقل الذي هو جواب قطعا ونحو تعال تغد معي فقال إن تغديت فكذا من غير زيادة هذا نظير المستقل الذي الظاهر أنه جواب ونحو إن تغديت اليوم مع زيادة على قدر الجواب هذا نظير المستقل الذي الظاهر أنه ابتداء مع احتمال الجواب ففي كل موضع ذكر لفظ نحو فهو نظير قسم واحد
ففي الثلاثة الأول يحمل على الجواب وفي الرابع يحمل على الابتداء عندنا حملا للزيادة على الإفادة ولو قال عنيت الجواب صدق ديانة وعند الشافعي رحمه الله تعالى يحمل على الجواب وهذا ما قيل إن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب عندنا فإن الصحابة ومن بعدهم تمسكوا بالعمومات الواردة في حوادث خاصة
فصل حكم المطلق أن يجري
____________________
(1/113)
على إطلاقه كما أن المقيد على تقييده فإذا وردا أي المطلق والمقيد
فإن اختلف الحكم لم يحمل المطلق على المقيد إلا في مثل قولنا أعتق عني رقبة ولا تملكني رقبة كافرة فالإعتاق يتقيد بالمؤمنة أي إلا في كل موضع يكون الحكمان المذكوران مختلفين لكن يستلزم أحدهما حكما غير مذكور يوجب تقييد الآخر كالمثال المذكور فإن أحد الحكمين إيجاب الإعتاق والثاني نفي تمليك الكافرة وهما حكمان مختلفان لكن نفي تمليك الكافرة يستلزم نفي إعتاقها ضرورة أن إيجاب الإعتاق يستلزم إيجاب التمليك ونفي اللازم يستلزم نفي الملزوم فصار كقوله لا تعتق عني رقبة كافرة ثم هذا أوجب تقييد الأول أي إيجاب الإعتاق بالمؤمنة
وإن اتحد أي الحكم فإن اختلفت الحادثة ككفارة اليمين وكفارة القتل لا يحمل عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يحمل سواء اقتضى القياس أو لا وبعضهم زادوا إن اقتضى القياس أي بعض أصحاب الشافعي زادوا أنه يحمل عليه إن اقتضى القياس حمله عليه
وإن اتحدت أي الحادثة كصدقة الفطر مثلا فإن دخلا على السبب نحو أدوا عن كل حر وعبد أدوا عن كل حر وعبد من المسلمين أي دخل النص المطلق والمقيد على السبب فإن الرأس سبب لوجود صدقة الفطر وقد ورد نصان يدل أحدهما على أن الرأس المطلق سبب وهو قوله عليه السلام أدوا عن كل حر وعبد ويدل الآخر أن رأس
____________________
(1/114)
المسلم سبب وهو قوله عليه السلام أدوا عن كل حر وعبد من المسلمين لم يحمل عندنا بل يجب العمل بكل واحدة منهما إذ لا تنافي في الأسباب بل يمكن أن يكون المطلق سببا والمقيد سببا
خلافا له أي للشافعي رحمه الله تعالى يتعلق بقوله لم يحمل عندنا
وإن دخلا أي المطلق والمقيد على الحكم في صورة اتحاد الحادثة نحو فصيام ثلاثة أيام مع قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وهي ثلاثة أيام متتابعات فإن الحكم وجوب صوم ثلاثة أيام من غير تقييد بالتتابع وفي قراءة ابن مسعود الحكم وجوب صوم ثلاثة أيام متتابعات يحمل بالاتفاق لامتناع الجمع بينهما فإن المطلق يوجب أجزاء غير المتتابع والمقيد يوجب عدم أجزائه
هذا إذا كان الحكم مثبتا فإن كان منفيا نحو لا تعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة لا يحمل اتفاقا فلا تعتق أصلا له أن المطلق ساكت والمقيد ناطق فكان أولى لأن السكوت عدم فنقول في جوابه نعم إن المقيد أولى لكن إذا تعارضا ولا تعارض إلا في اتحاد الحادثة والحكم كما ذكرنا في صوم ثلاثة أيام متتابعات
ولأن القيد زيادة وصف يجري مجرى الشرط فيوجب النفي أي نفي الحكم عند عدم الوصف في المنصوص وفي نظيره كالكفارات مثلا فإنها جنس واحد هذا دليل على المذهب الآخر وهو أن يحمل إن اقتضى
____________________
(1/115)
القياس حمله وحاصله أن التقييد بالوصف كالتخصيص بالشرط والتخصيص بالشرط يوجب نفي الحكم عما عداه عنده وذلك النفي لما كان مدلول النص المقيد كان حكما شرعيا فيثبت النفي بالنص في المنصوص وفي نظيره بطريق القياس
ولنا قوله تعالى لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم فهذه الآية تدل على أن المطلق يجري على إطلاقه ولا يحمل على المقيد لأن التقييد يوجب التغليظ والمساء كما في بقرة بني إسرائيل وقال ابن عباس رضي الله عنهما أبهموا ما أبهم الله واتبعوا ما بين الله أي اتركوه على إبهامه والمطلق مبهم بالنسبة إلى المقيد المعين فلا يحمل عليه
وعامة الصحابة ما قيدوا أمهات النساء بالدخول الوارد في الربائب ولأن إعمال الدليلين واجب ما أمكن فيعمل بكل واحد في مورده إلا أن لا يمكن وهو عند اتحاد الحادثة والحكم فهذه الدلائل لنفي المذهب الأول وهو الحمل مطلقا فالآن شرع في نفي المذهب الثاني وهو الحمل إن اقتضى القياس بقوله والنفي في المقيس عليه بناء على العدم الأصلي فكيف يعدى جواب عما قالوا إنه يحمل عليه فإنهم
____________________
(1/116)
قالوا أن النفي حكم شرعي ونحن نقول هو عدم أصلي فإن قوله تعالى في كفارة القتل فتحرير رقبة مؤمنة يدل على إيجاب المؤمنة وليس له دلالة على الكافرة أصلا والأصل عدم إجزاء تحرير رقبة عن كفارة القتل وقد ثبت إجزاء المؤمنة بالنص فبقي عدم إجزاء الكافرة على العدم الأصلي فلا يكون حكما شرعيا ولا بد في القياس من كون المعدى حكما شرعيا وتوضيحه أن الإعدام على قسمين الأول عدم إجزاء ما لا يكون تحرير رقبة كعدم إجزاء الصلاة والصوم وغيرهما والثاني عدم إجزاء ما يكون تحرير رقبة
____________________
(1/117)
غير مؤمنة فالقسم الأول إعدام أصلي بلا خلاف والقسم الثاني مختلف فيه فعند الشافعي رحمه الله تعالى حكم شرعي وعندنا عدم أصلي بناء على أن التخصيص بالوصف دال عنده على نفي الحكم عن الموصوف بدون ذلك الوصف فإنه لما قال فتحرير رقبة فلو لم يقل مؤمنة لجاز تحرير الكافرة فلما قال مؤمنة لزم منه نفي تحرير الكافرة فيكون النفي مدلول النص فكان حكما شرعيا ونحن نقول أوجب تحرير المؤمنة ابتداء وهو ساكت عن الكافرة لأنه إذا كان في آخر الكلام ما يغير أوله فصدر الكلام موقوف على
____________________
(1/118)
الآخر ويثبت حكم الصدر بعد التكلم بالمغير لئلا يلزم التناقض فلا يكون إيجاب الرقبة ثم نفي الرقبة الكافرة بالنص المقيد بل النص لإيجاب الرقبة المؤمنة ابتداء فتكون الكافرة باقية على العدم الأصلي كما في القسم الأول من الإعدام وشرط القياس أن يكون الحكم المعدى حكما شرعيا لا عدما أصليا
ولا يمكن أن يعدى القيد فيثبت العدم ضمنا جواب إشكال مقدر وهو أن يقال نحن نعدي القيد وهو حكم شرعي لأنه ثابت بالنص فيثبت عدم إجزاء الكافرة ضمنا لا أنا نعدي هذا العدم قصدا ومثل هذا يجوز في القياس فنجيب بقولنا لأن القيد وهو قيد الإيمان مثلا يدل على الإثبات في المقيد أي يدل على إثبات الحكم في المقيد وهو الإجزاء في تحرير رقبة يوجد فيه قيد الإيمان والنفي في غيره أي على نفي الحكم وهو نفي
____________________
(1/119)
الإجزاء في الرقبة الكافرة فثبت أن القيد يدل على هذين الأمرين
والأول وهو إجزاء المؤمنة حاصل في المقيس وهو كفارة اليمين بالنص المطلق وهو قوله أو تحرير رقبة فلا يفيد تعديته فهي أي التعدية في المثاني فقط فتعدية القيد تعدية العدم بعينها أي بعين تعدية العدم وإن كانت غيرها فهي مقصودة منها أي وإن كانت تعدية القيد غير تعدية العدم فتعدية العدم مقصودة من تعدية القيد وحاصل هذا الكلام أن تعدية القيد هي عين تعدية العدم وإن سلم أن مفهوم تعدية القيد غير مفهوم تعدية العدم فتعدية العدم مقصودة من تعدية القيد فبطل قوله نحن نعدي القيد فثبت العدم ضمنا بل العدم يثبت قصدا وهو ليس بحكم شرعي فلا يصح القياس فتكون أن تعدية القيد لإثبات ما ليس بحكم شرعي وهو عدم إجزاء الكافرة فإنه عدم أصلي
وإبطال الحكم الشرعي وهو إجزاء الرقبة الكافرة في كفارة اليمين الذي دل عليه المطلق وهو قوله تعالى في كفارة اليمين أو تحرير رقبة
وكيف يقاس مع ورود النص فإن شرط القياس أن لا يكون في المقيس نص دال على الحكم المعدى أو على عدمه
وليس حمل المطلق على المقيد كتخصيص العام كما زعموا ليجوز بالقياس جواب عن الدليل الذي ذكر في المحصول على جواز حمل المطلق على المقيد إن اقتضى القياس حمله وهو أن دلالة العام على الأفراد فوق دلالة المطلق عليها لأن دلالة العام على الأفراد قصدية ودلالة المطلق عليها ضمنية والعام يخص بالقياس اتفاقا بيننا وبينكم فيجب أن يقيد المطلق بالقياس عندكم أيضا فأجاب بمنع جواز التخصيص بالقياس مطلقا بقوله لأن التخصيص بالقياس إنما يجوز عندنا إذا كان العام مخصصا بقطعي وهنا يثبت القيد ابتداء بالقياس لا أنه قيد أولا بالنص ثم بالقياس فيصير القياس هنا مبطلا للنص فالحاصل أن العام لا يخص بالقياس عندنا مطلقا بل إنما يخص إذا خص أولا بدليل قطعي وفي مسألة حمل المطلق على المقيد لم يقيد المطلق بنص أولا حتى يقيد ثانيا بالقياس بل الخلاف في تقييده ابتداء بالقياس فلا يكون كتخصيص العام
وقد قام الفرق بين
____________________
(1/120)
الكفارات فإن القتل من أعظم الكبائر لما ذكر الحكم الكلي وهو أن تقييد المطلق بالقياس لا يجوز تنزله إلى هذه المسألة الجزئية وذكر فيها مانعا آخر يمنع القياس وهو أن القتل من أعظم الكبائر فيجوز أن يشترط في كفارته الإيمان ولا يشترط فيما دونه فإن تغليظ الكفارة بقدر غلظ الجناية
لا يقال أنتم قيدتم الرقبة بالسلامة هذا إشكال أورده علينا في المحصول وهو أنكم قيدتم المطلق في هذه المسألة فأجاب بقوله لأن المطلق لا يتناول ما كان ناقصا في كونه رقبة وهو فائت جنس المنفعة وهذا ما قال علماؤنا أن المطلق ينصرف إلى الكامل أي الكامل فيما يطلق عليه هذا الاسم كالماء المطلق لا ينصرف إلى ماء الورد فلا يكون حمله على الكامل تقييدا
ولا يقال أنتما قيدتم قوله عليه الصلاة والسلام في خمس من الإبل زكاة بقوله في خمس من الإبل السائمة زكاة مع أنهما دخلا في السبب والمذهب عندكم أن المطلق لا يحمل على المقيد وإن اتحدت الحادثة إذا دخلا على السبب كما في صدقة الفطر
وقيدتم قوله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم بقوله تعالى وأشهدوا ذوي عدل منكم مع أنهما في حادثتين قال الله تعالى فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم فأجاب عن الإشكالين المذكورين بقوله لأن قيد
____________________
(1/121)
الإسامة إنما يثبت بقوله عليه السلام ليس في العوامل والحوامل والعلوفة صدقة والعدالة بقوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة
فصل حكم المشترك التأمل حتى يترجح أحد معانيه ولا يستعمل في أكثر من معنى واحد لا حقيقة لأنه لم يوضع للمجموع اعلم أن الواضع لا يخلو إما إن وضع المشترك لكل واحد من المعنيين بدون الآخر أو لكل واحد منهما مع الآخر أي للمجموع أو لكل واحد منهما مطلقا والثاني غير واقع لأن الواضع لم يضعه للمجموع وإلا لم يصح استعماله في أحدهما بدون الآخر بطريق الحقيقة لكن هذا صحيح اتفاقا وأيضا على تقدير الوقوع يكون استعماله استعمالا في أحد المعنيين وإن وجد الأول أو الثالث ثبت المدعى لأن الوضع تخصيص اللفظ بالمعنى فكل وضع يوجب أن الإيراد باللفظ إلى هذا المعنى بالموضوع له ويوجب أن يكون هذا المعنى تمام المراد باللفظ فاعتبار كل من الموضوعين ينافي اعتبار الآخر ومن عرف سبب وقوع الاشتراك لا يخفى عليه امتناع استعمال اللفظ في المعنيين فقوله لا نعلم بوضع للمجموع إشارة إلى ما ذكرنا من أن المشترك إنما يصح استعماله في المعنيين إذا كان موضوعا للمجموع ووضعه للمجموع منتف أما على التقديرين الآخرين فلا يصح استعماله فيهما كما ذكرنا
ولا مجازا لاستلزامه الجمع بين الحقيقة والمجاز فإن اللفظ إن استعمل في أكثر من معنى واحد بطريق المجاز يلزم أن يكون اللفظ الواحد مستعملا في المعنى الحقيقي والمجازي معا وهذا لا يجوز
فإن قيل يصلون على النبي الآية والصلاة من الله رحمة ومن الملائكة استغفار قلنا لا اشتراك لأن سياق الكلام لإيجاب الاقتداء فلا بد من اتحاد معنى الصلاة من الجميع لكنه
____________________
(1/122)
____________________
(1/123)
يختلف باختلاف الموصوف كسائر الصفات لا بحسب الوضع اعلم أن المجوزين تمسكوا بقوله تعالى إن الله وملائكته يصلون على النبي فإن الصلاة من الله تعالى رحمة ومن الملائكة استغفار وقد أوردوا على هذه الآية من قبلنا إشكالا فاسدا وهو أن هذا ليس من المتنازع فيه فإن الفعل متعدد بتعدد الضمائر فكأنه كرر لفظ يصلي وأجابوا عن هذا بأن التعدد بحسب المعنى لا بحسب اللفظ لعدم الاحتياج إلى هذا وهذا الإشكال من قبلنا فاسد لأنا لا نجوز في مثل هذه الصورة أي في صورة تعدد الضمائر أيضا فتكون الآية من المتنازع فيه والجواب الصحيح لنا أن في الآية لم يوجد استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد لأن سياق الآية لإيجاب اقتداء المؤمنين بالله تعالى وملائكته في الصلاة على النبي عليه السلام فلا بد من اتحاد معنى الصلاة من الجميع لأنه لو قيل إن الله تعالى يرحم النبي والملائكة يستغفرون له يا أيها الذين آمنوا ادعوا له لكان هذا الكلام في غاية الركاكة فعلم أنه لا بد من اتحاد معنى الصلاة سواء كان معنى حقيقيا أو معنى مجازيا أما الحقيقي فهو الدعاء فالمراد والله أعلم أنه تعالى يدعو ذاته بإيصال الخير إلى النبي عليه السلام ثم من لوازم هذا الدعاء الرحمة فالذي قال إن الصلاة من الله تعالى
____________________
(1/124)
رحمة فقد أراد هذا المعنى لا أن الصلاة وضعت للرحمة كما ذكر في قوله تعالى يحبهم ويحبونه أن المحبة من الله إيصال الثواب ومن العبد طاعة ليس المراد أن المحبة مشتركة من حيث الموضوع بل المراد أنه أراد بالمحبة لازمها واللازم من الله تعالى ذلك ومن العبد هذا وأما المجازي فكإرادة الخير ونحوها مما يليق بهذا المقام ثم إن اختلف ذلك المعنى لأجل اختلاف الموصوف فلا بأس به فلا يكون هذا من باب الاشتراك بحسب الوضع ولما بينوا اختلاف المعنى باعتبار اختلاف المسند إليه يفهم منه أن معناه واحد لكنه يختلف بحسب الموصوف لا أن معناه مختلف وضعا وهذا جواب حسن تفردت به وتمسكوا أيضا بقوله تعالى ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض الآية حيث نسب السجود إلى العقلاء وغيرهم كالشجر والدواب فما نسب إلى غير العقلاء يراد به الانقياد لا وضع الجبهة على الأرض وما نسب إلى العقلاء يراد به وضع الجبهة على الأرض فإن قوله تعالى وكثير من الناس يدل على أن المراد بالسجود المنسوب إلى الإنسان هو وضع الجبهة على الأرض إذ لو كان المراد
____________________
(1/125)
الانقياد لما قال وكثير من الناس لأن الانقياد شامل لجميع الناس أقول تمسكهم بهذه الآية لا يتم إذ يمكن أن يراد بالسجود الانقياد في الجميع وما ذكر أن الانقياد شامل لجميع الناس باطل لأن الكفار لا سيما المتكبرين منهم لا يمسهم الانقياد أصلا وأيضا لا يبعد أن يراد بالسجود وضع الرأس على الأرض في الجميع ولا يحكم باستحالته من الجمادات إلا من يحكم باستحالة التسبيح من الجمادات والشهادة من الجوارح والأعضاء يوم القيامة مع أن محكم الكتاب ناطق بهذا وقد صح أن النبي عليه السلام سمع تسبيح الحصا وقوله تعالى ولكن لا تفقهون تسبيحهم يحقق أن المراد هو حقيقة التسبيح لا الدلالة على وحدانيته تعالى فإن قوله تعالى لا تفقهون لا يليق بهذا فعلم بهذا أن وضع الرأس خضوعا لله تعالى غير ممتنع من الجمادات بل هو كائن لا ينكره إلا منكر خوارق العادات
التقسيم الثاني في استعمال اللفظ في المعنى فإن استعمل فيما وضع له يشمل الوضع اللغوي والشرعي والعرفي والاصطلاحي
فاللفظ حقيقة أي بالحيثية التي يكون الوضع بتلك الحيثية فالمنقول الشرعي يكون حقيقة في المعنى المنقول إليه من حيث الشرع وفي المنقول عنه من حيث اللغة وإنما قال فاللفظ حقيقة لأن بعض الناس قد يطلقون الحقيقة والمجاز على المعنى إما مجازا وإما على أنه من خطأ العوام
وإن استعمل في غيره لعلاقة بينهما فمجاز أي وإن استعمل في غير ما وضع له بحيثية ما سواء كان من حيث اللغة أو نحوها فمجاز بالحيثية التي يكون بها غير ما وضع له فالمنقول الشرعي مجاز في المعنى الأول من حيث الشرع وفي المعنى الثاني من حيث اللغة فاللفظ الواحد يمكن أن يكون حقيقة ومجازا بالنسبة إلى المعنى الواحد لكن من جهتين
أولا العلاقة فمرتجل وهو حقيقة أيضا للوضع الجديد فاستعمال اللفظ في غير ما وضع له لا لعلاقة يكون وضعا جديدا فالمرتجل حقيقة في المعنى الثاني بسبب الوضع الثاني
____________________
(1/126)
____________________
(1/127)
وأما المنقول فمنه ما غلب في معنى مجازي للموضوع الأول حتى هجر الأول وهو حقيقة في الأول مجاز في الثاني حيث اللغة وبالعكس أي حقيقة في الثاني مجاز في
____________________
(1/128)
129 الأول
من حيث الناقل وهو إما الشرع أو العرف أو الاصطلاح ومنه ما غلب في بعض أفراد الموضوع له حتى هجر الباقي كالدابة مثلا فمن حيث اللغة إطلاقها على الفرس بطريق الحقيقة لكن إذا خصت به أي إذا خصت الدابة بالفرس
مع رعاية المعنى أي المعنى الأول وهو ما يدب على الأرض
صارت مجازا إذ أريد بها غير ما وضعت له وهو ما يدب على الأرض مع خصوصية الفرس ومن حيث العرف صارت كأنها موضوعة له ابتداء لأنها لما خصت به فكأنه لم يراع المعنى الأول فصارت اسما له فظهر أن اعتبار المعنى الأول فيه وهو ما يدب على الأرض ليس لصحة إطلاقه أي المنقول عليه الضمير يرجع إلى المعنى الأول ويراد بالمعنى الأول الأفراد التي يوجد فيها المعنى الأول كما في الحقيقة فإن الحقيقة إنما يعتبر المعنى الأول ليصح إطلاق اللفظ على كل ما يوجد فيه ذلك المعنى ولا لصحة إطلاقه أي المنقول على المعنى الثاني وهو ما يدب مع خصوصية الفرس كما في المجاز فإن في المجاز إنما يعتبر المعنى الأول وهو المعنى الحقيقي ليصح إطلاق اللفظ على كل ما يوجد فيه لازم ذلك المعنى واللازم هو المعنى الثاني بل لترجيح هذا الاسم على غيره أي اعتبار المعنى الأول في الاسم المنقول إنما هو لترجيح هذا الاسم على غيره من الأسماء في تخصيصه بالمعنى الثاني أي تخصيص هذا الاسم بالمعنى الثاني والمراد بالترجيح الأولوية فعلم بهذا أن الواضع قد لا يعتبر فيه المناسبة كالجدار والحجر وقد يعتبر فيه كالقارورة والخمر واعتبار المعنى الأول في الوضع الثاني لبيان المناسبة والأولوية لا لصحة الإطلاق وإلا يلزم أن يسمى الدن قارورة فلهذا السر لا يجري القياس في اللغة فلا يقال إن سائر الأشربة خمر لمعنى مخامرة العقل فإن معنى المخامرة ليس مراعى في الخمر لصحة إطلاق الخمر على كل ما يوجد فيه المخامرة بل لأجل المناسبة الأولوية ليضع الواضع لهذا المعنى لفظا مناسبا له فاحفظ هذا البحث فإنه بحث شريف بديع لم تزل أقدام من سوغ القياس في اللغة إلا لغفلة عنه فيطلق الأسد على كل من يوجد فيه الشجاعة مجازا بخلاف الدابة والصلاة أي لما علم أن اعتبار المعنى الأول في المجاز إنما هو لصحة إطلاق اللفظ على كل ما يوجد فيه لازم المعنى الأول واعتبار المعنى الأول في المنقول ليس لصحة الإطلاق فيصح إطلاق الأسد على كل ما يوجد فيه الشجاعة ولا يصح إطلاق الدابة في العرف على كل ما يوجد فيه الدبيب ولا يصح إطلاق اسم الصلاة شرعا على كل ما يوجد فيه دعاء
____________________
(1/129)
____________________
(1/130)
ويثبت أيضا أن الحقيقة إذا قل استعمالها صارت مجازا والمجاز إذا كثر استعماله صار حقيقة ثم كل واحد من الحقيقة والمجاز إن كان في نفسه بحيث لا يستتر المراد فصريح وإلا فكناية فالحقيقة التي لم تهجر صريح والتي هجرت وغلب معناها المجازي كناية والمجاز الغالب الاستعمال صريح وغير الغالب كناية اعلم أن الصريح والكناية اللذين هما قسما الحقيقة صريح وكناية في المعنى الحقيقي واللذين هما قسما المجاز صريح وكناية في المعنى المجازي
وعند علماء البيان الكناية لفظ يقصد بمعناه أي بمعناه الموضوع له معنى ثان ملزوم له وهي لا تنافي إرادة الموضوع له فإنها استعملت فيه لكن قصد بمعناه معنى ثان كما في طويل النجاد فإنه استعمل في الموضوع له لكن المقصود والغرض من طويل النجاد طويل القامة فطول القامة ملزوم لطول النجاد
بخلاف المجاز فإنه استعمل في غير ما وضع له فينافي إرادة الموضوع له ثم كل من الحقيقة والمجاز أما في المفرد وقد مر تعريفهما وأما في الجملة فإن نسب المتكلم الفعل إلى ما هو فاعل عنده فالنسبة حقيقة فيه وإن نسب إلى غيره لملابسة بين الفعل والمنسوب إليه فالنسبة مجازية نحو أنبت الربيع
____________________
(1/131)
البقل فقوله عنده أي عند المتكلم اعلم أن بعض العلماء قالوا إلى ما هو فاعل في العقل لكن صاحب المفتاح قال إلى ما هو فاعل عنده حتى لو قال الموحد أنبت الربيع البقل يكون الإسناد مجازيا لأن الفاعل عنده هو الله تعالى وإن قال الدهري أنبت الربيع البقل فقد أسند الفعل إلى ما هو فاعل عنده فالإسناد حقيقي مع أن الربيع ليس بفاعل في العقل وهو كاذب في هذا الكلام كما إذا قال رجل جاءني زيد نفسه مريدا معناه الحقيقي والحال أنه لم يجئ فكلامه حقيقية مع أنه كاذب فالمراد من الفاعل عنده ما يريد إفهام المخاطب أنه فاعل عنده حتى يشمل الخبر الصادق والكاذب
____________________
(1/132)
فصل هذا الفصل في أنواع علاقات المجاز وهي مذكورة في الكتب غير مضبوطة لكني أوردتها على سبيل الحصر والتقسيم العقلي
____________________
(1/133)
____________________
(1/134)
إذا أطلقت لفظا على مسمى هذا يشمل إطلاق اللفظ على المعنى سواء كان المعنى حقيقيا أو غير حقيقي وإطلاق اللفظ على أفراد ما يصدق عليها المعنى وكان ينبغي أن يقول فإن أردت عين الموضوع له فحقيقة لكن لم يذكر هذا القسم وذكر ما هو بصدده وهو أنواع المجازات فقال وأردت غير الموضوع له فالمعنى الحقيقي إن حصل له أي لذلك المسمى بالفعل في بعض الأزمان فمجاز باعتبار ما كان أو باعتبار ما يئول المراد ببعض الأزمان الزمان المغاير للزمان الذي وضع اللفظ للحصول فيه وإنما لم يقيد في المتن بعض الأزمان بهذا القيد لأن التقدير تقدير استعمال اللفظ في غير الموضوع له مع أن المعنى الحقيقي حاصل لذلك المسمى فإن كان زمان الحصول عين زمان وضع اللفظ للحصول فيه كان اللفظ مستعملا فيما وضع له والمقدر خلافه فهذا القيد مفروغ عنه أو بالقوة فمجاز بالقوة كالمسكر لخمر أريقت وإن لم يحصل له أصلا أي لا بالفعل ولا بالقوة
____________________
(1/135)
____________________
(1/136)
____________________
(1/137)
____________________
(1/138)
____________________
(1/139)
فلا بد وأن تريد معنى لازما لمعناه الوضعي ذهنا أي ينتقل الذهن من الوضعي والمراد الانتقال في الجملة ولا يشترط أن يلزم من تصوره تصوره كالبصير إذا أطلق على الأعمى وكالغائط إذا أطلق على الحدث وهو أي اللازم الذهني إما ذهني محض إن لم يكن بينهما لزوم في الخارج كتسمية الشيء باسم مقابله كما يطلق البصير عن الأعمى أو منضم إلى العرفي إن كان بينهما لزوم في الخارج أيضا لكن بحسب عادات الناس كالغائط
____________________
(1/140)
فإنه لما وقع في العرف قضاء الحاجة في المكان المطمئن حصل بينهما ملازمة عرفية فبناء على هذا العرف ينتقل الذهن من المحل إلى الحال فيكون ذهنيا منضما إلى العرفي أو الخارجي أي يكون الذهني منضما إلى الخارجي إن كان بينهما لزوم في الخارج لا بحسب عادات الناس بل بحسب الخلقة فصار اللزوم الخارجي قسمين عرفيا وخلقيا فسمى الأول عرفيا والثاني خارجيا
وحينئذ أي إذا كان اللزوم الذهني منضما إلى العرفي أو الخارجي
أما أن يكون أحدهما جزءا للآخر كإطلاق اسم الكل على الجزء وبالعكس كالجمع للواحد وهو نظير إطلاق اسم الكل على الجزء
والرقبة للعبد وهو نظير إطلاق اسم الجزء على الكل أو خارجا عنه عطف على قوله جزءا للآخر
وحينئذ إما أن لا يكون اللازم صفة للملزوم وهو أي اللزوم إما بحصول أحدهما في الآخر كإطلاق اسم المحل على الحال أو بالعكس وإما بالسببية كإطلاق اسم السبب على المسبب نحو عينا الغيث أي النبت أو بالعكس كقوله تعالى وينزل لكم من السماء رزقا وهذا يحتمل العكس أيضا أي قوله تعالى وينزل لكم من السماء رزقا يحتمل إطلاق اسم السبب على المسبب لأن الرزق سبب غائي للمطر وإما بالشرطية كقوله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم أي صلاتكم هذا نظير إطلاق اسم الشروط على المشرط
وكالعلم على المعلوم هذا نظير إطلاق اسم المشروط على الشرط ويكون صفته وهو الاستعارة وشرطها أن يكون الوصف بينا كالأسد يراد به لازمه وهو الشجاع فيطلق على زيد باعتبار أنه شجاع وإذا عرفت أن مبنى المجاز على إطلاق اسم الملزوم على اللازم والملزوم أصل واللازم فرع فإذا كانت الأصلية والفرعية من الطرفين يجري المجاز من الطرفين كالعلة مع المعلول الذي هو علة غائية لها وكالجزء مع الكل فإن الجزء تبع للكل أي بالنسبة إلى اللفظ الموضوع للكل فإن الجزء يفهم من هذا اللفظ بتبعية الكل فيصح أن يطلق هذا اللفظ ويراد به جزء الموضوع له
والكل محتاج إلى الجزء فيكون الجزء أصلا فيصح أن يراد الكل باللفظ الموضوع للجزء فإطلاق اسم الكل على الجزء مطرد وعكسه غير مطرد بل يجوز في صورة يستلزم الجزء الكل كالرقبة والرأس مثلا فإن الإنسان لا يوجد بدون الرأس والرقبة وأما إطلاق اليد وإرادة الإنسان فلا يجوز
____________________
(1/141)
وكالمحل فإنه أصل بالنسبة إلى الحال لاحتياج الحال إلى المحل
وأيضا على العكس إذا كان المقصود هو الحال كالماء والكوز فإن المقصود من الكوز الماء والمراد
____________________
(1/142)
بالحلول الحصول فيه وهو أعم من حلول العرض في الجوهر واعلم أن الاتصالات المذكورة إذا وجدت من حيث الشرع تصلح علاقة للمجاز أيضا كالاتصال في المعنى
____________________
(1/143)
المشروع كيف شرع يصلح علاقة للاستعارة أي ينظر في التصرفات المشروعة كالبيع والإجارة والوصية وغيرها أن هذه التصرفات على وجه شرعت فالبيع عقد شرع لتمليك المال بالمال والإجارة شرعت لتمليك المنفعة بالمال فإذا حصل اشتراك التصرفين في هذا المعنى تصح استعارة أحدهما للآخر
كالوصية والإرث فإن كلا منهما استخلاف بعد الموت إذا حصل الفراغ من حوائج الميت كالتجهيز والدين فالحاصل أنه كما يشترط للاستعارة في غير الشرعيات اللازم البين فكذلك في الشرعيات واللازم البين للتصرفات الشرعية هو المعنى الخارج عن مفهومها الصادق عليها الذي يلزم من تصورها تصوره
وكالسببية عطف على قوله كالاتصال في المعنى المشروع كنكاحه عليه السلام انعقد بلفظ الهبة فإن الهبة وضعت لملك الرقبة والنكاح لملك المتعة وذلك أي ملك الرقبة سبب لهذا أي لملك المتعة فأطلق اللفظ الذي وضع لملك الرقبة وأريد به ملك المتعة وكذا نكاح غيره عندنا أي نكاح غير النبي صلى الله عليه وسلم ينعقد بلفظ الهبة عندنا إذا كانت المنكوحة حرة حتى لو كانت أمة تثبت الهبة عندنا
وعند الشافعي رحمه الله لا ينعقد إلا بلفظ النكاح والتزويج لقوله تعالى خالصة لك ولأنه عقد شرع لمصالح لا تحصى كالنسب وعدم انقطاع النسل والاجتناب عن السفاح وتحصيل الإحصان والائتلاف بينهما واستمداد كل منهما في المعيشة بالآخر إلى غير ذلك مما يطول تعداده وغير هذين اللفظين أي غير لفظ النكاح والتزويج قاصر في الدلالة عليها أي على المصالح المذكورة قلنا الخلوص في الحكم وهو عدم وجوب المهر أي صحة النكاح بلفظ الهبة مع عدم وجوب المهر مخصوصة لك أما في غير النبي عليه السلام فالمهر واجب وأيضا يحتمل أن يكون المراد والله أعلم أنا
____________________
(1/144)
حللنا لك أزواجك حال كونها خالصة لك أي لا تحل أزواج النبي عليه السلام لأحد غيره كما قال الله تعالى وأزواجه أمهاتهم لا في اللفظ فإن المجاز لا يختص بحضرة الرسالة وأيضا تلك الأمور أي المصالح المذكورة ثمرات وفروع ومبنى النكاح للملك له عليها أي للزوج عن الزوجة حتى لزم المهر عليه عوضا عن ملك النكاح والطلاق بيده إذ هو المالك أي لو كان وضعه لتلك المصالح وهي مشتركة بينهما لما كان المهر واجبا للزوجة على الزوج أو ما كان الطلاق بيد الزوج خاصة فإذا كان المهر عليه والطلاق بيده علم أن وضع النكاح للملك له عليها
وإذا صح بلفظين لا يدلان على الملك لغة فأولى أن يصح بلفظ يدل عليه وإنما يصح بهما أي بلفظ النكاح والتزويج لأنهما صارا علمين لهذا العقد جواب إشكال وهو أن يقال لما قلت إن النكاح والتزويج لا يدلان على الملك لغة ينبغي أن لا يصح النكاح بهما فأجاب بأنه إنما يصح بهما لأنهما صارا علمين لهذا العقد أي بمنزلة العلم في كونهما لفظين موضوعين لهذا العقد ولا يجب في الإعلام رعاية المعنى اللغوي
وكذا ينعقد أي النكاح بلفظ البيع لما قلنا من طريق المجاز فإن البيع وضع لملك الرقبة فيراد به المسبب وهو ملك المتعة والجملة عطف على قوله وكذا نكاح غيره عندنا فإن قيل ينبغي أن يثبت العكس أيضا بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب أي ينبغي أن يصح إطلاق اسم النكاح إرادة البيع أو الهبة بطريق اسم المسبب على السبب فإن النكاح وضع لملك المتعة فيذكر ويراد به ملك الرقبة
قلنا إنما كان كذلك أي إنما يصح
____________________
(1/145)
إطلاق المسبب على السبب إذا كان أي السبب علة شرعت للحكم أي لذلك المسبب أي يكون المقصود من شرعية السبب ذلك المسبب
كالبيع للملك مثلا فإن الملك يصير كالعلة الغائبة فإن قال إن ملكت عبدا فهو حر أو قال إن اشتريت فشراه متفرقا يعتق في الثاني لا في الأول رجل قال إن ملكت عبدا فهو حر فاشترى نصف عبد ثم باعه ثم اشترى النصف الآخر لا يعتق هذا النصف لعدم تحقق الشرط وهو ملك العبد فإنه بعد اشتراء النصف الآخر لا يوصف بملك العبد وإن قال إن اشتريت عبدا فهو حر فشرى نصف عبد ثم باعه ثم اشترى النصف الآخر يعتق هذا النصف لأنه بعد اشتراء النصف الآخر يوصف بشراء العبد ويقال عرفا إنه مشتري العبد وهذا بناء على أن إطلاق اسم الصفات المشتقة كاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة على الموصوف في حال قيام المشتق منه بذلك الموصوف إنما هو بطريق الحقيقة أما بعد زوال المشتق منه فمجاز لغوي لكن في بعض الصور صار هذا المجاز حقيقة عرفية ولفظ المشتري من هذا القبيل أنه بعد الفراغ من الشراء يسمى مشتريا عرفا فصار منقولا عرفيا أما لفظ المالك فلا يطلق بعد زوال الملك عرفا ففي قوله إن ملكت يراد الحقيقة اللغوية وفي قوله إن اشتريت يراد الحقيقة العرفية والمسألة المذكورة غير مقصودة في هذا الموضع بل المقصود المسألة التي تأتي وهو قوله
____________________
(1/146)
فإن قال عنيت بأحدهما الآخر صدق ديانة لا قضاء فيما فيه تخفيف يعني في صورة إن ملكت عبدا فهو حر إن قال عنيت بالملك الشراء بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب صدق ديانة وقضاء لأن العبد لا يعتق في قوله إن ملكت ويعتق في قوله إن اشتريت فقد عنى ما هو أغلظ عليه وفي قوله اشتريت إن قال عنيت بالشراء الملك بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب صدق ديانة لا قضاء لأنه أراد تخفيفا
أما إذا كان سببا محضا هذا الكلام يتعلق بقوله إنما كان كذلك إذا كان علة فلا ينعكس أي لا يصح إطلاق اسم المسبب على السبب على ما قلنا وهو قوله إذا كانت الأصلية والفرعية من الطرفين يجري المجاز من الطرفين إلخ فإنه قد فهم منه أنه إذا لم تكن الأصلية والفرعية من الطرفين لا يجري المجاز من الطرفين والمراد بالسبب المحض ما يفضي إليه في الجملة ولا يكون شرعيته لأجله كملك الرقبة إذ ليس شرعيته لأجل حصول ملك المتعة لأن ملك الرقبة مشروع مع امتناع ملك المتعة كما في العبد والأخت من الرضاعة ونحوهما فيقع الطلاق بلفظ العتق أي بناء على الأصل الذي نحن فيه
فإن العتق وضع لإزالة ملك الرقبة والطلاق لإزالة ملك المتعة وتلك الإزالة سبب لهذه أي إزالة ملك الرقبة سبب لإزالة ملك المتعة إذ هي تفضي إليها وليست هذه أي إزالة ملك المتعة
مقصودة منها أي من إزالة ملك الرقبة فلا يثبت العتق بلفظ الطلاق خلافا للشافعي رحمه الله تعالى لما قلنا إنه إذا لم يكن المسبب مقصودا من السبب لا يصح إطلاق اسم المسبب على السبب
ولا يثبت العتق أيضا بطريق الاستعارة جواب إشكال وهو أن يقال سلمنا أنه لا يثبت العتق بلفظ الطلاق بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب لكن ينبغي أن يثبت بطريق الاستعارة ولا بد في الاستعارة من وصف مشترك فبينه بقوله إذ كل منهما إسقاط مبني على السراية واللزوم اعلم أن التصرفات إما إثباتات كالبيع والإجارة والهبة ونحوها وإما إسقاطات كالطلاق والعتاق والعفو عن القصاص ونحوها فإن فيها إسقاط الحق والمراد بالسراية ثبوت الحكم في الكل
____________________
(1/147)
بسبب ثبوته في البعض وباللزوم عدم قبول الفسخ وإنما لا يثبت بطريق الاستعارة أيضا لما قلنا
لأنها لا تصح بكل وصف بل بمعنى المشروع كيف شرع ولا اتصال بينهما فيه أي بين الاعتقاد والطلاق في معنى المشروع كيف شرع لأن الطلاق رفع قيد النكاح والإعتاق إثبات القوة الشرعية فإن في المنقولات اعتبرت المعاني اللغوية ومعنى العتق لغة القوة يقال عتق الطائر إذا قوي وطار عن وكره ومنه عتاق الطير ويقال عتقت البكر إذا أدركت وقويت فنقله الشرع إلى القوة المخصوصة
فإن قيل الإعتاق إزالة الملك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى على ما عرف في مسألة تجزي الإعتاق
والطلاق إثبات القيد فوجدت المناسبة المجوزة للاستعارة بينهما
قلنا نعم يعني أن الإعتاق إزالة الملك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى في مسألة تجزي الإعتاق لكن بمعنى أن التصرف الصادر من المالك هي أي إزالة الملك لا بمعنى أن الشارع وضع الإعتاق لإزالة الملك فالمراد بالإعتاق إثبات القوة المخصوصة أي يراد بالإعتاق إثبات القوة المخصوصة لأن الشارع وضعه له فيرد على هذا أن الإعتاق في الشرع إذا كان موضوعا لإثبات القوة المخصوصة ينبغي أن لا يسند إلى المالك فإنه ما أثبت قوة فأجاب بقوله فيسند إلى المالك مجازا لأنه صدر منه سببه وهو إزالة الملك فيكون المجاز في الإسناد كما في أنبت الربيع البقل أو يطلق أي الإعتاق عليها أي إزالة الملك مجازا بقوله
____________________
(1/148)
أعتق فلان عبده معناه أزال ملكه بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب وحينئذ يكون المجاز في المفرد فقوله أو يطلق عطف على قوله فيسند
فإن قيل ليس مجازا هذا إشكال على قوله أو يطلق عليها مجازا أي ليس إطلاق الإعتاق على إزالة الملك بطريق المجاز بل هو اسم منقول أي منقول شرعي والمنقول الشرعي حقيقة شرعية
قلنا منقول في إثبات القوة المخصوصة لا في إزالة الملك ثم يطلق مجازا على سببه وهو إزالة الملك يرد عليه أي على ما سبق أن الطلاق رفع القيد والإعتاق إثبات القوة الشرعية
أنا نستعير الطلاق وهو إزالة القيد لإزالة الملك لا للفظ الإعتاق حتى يقولوا الإعتاق ما هو فالاتصال المجوز للاستعارة موجود بين إزالة الملك وإزالة القيد
ولا يتعلق ببحثنا أن الإعتاق ما هو بالجواب اعلم أن هذا الجواب ليس لإبطال هذا الإيراد فإن هذا الإيراد حق بل يبطل الاستعارة بوجه آخر وهو أن إزالة الملك أقوى من إزالة القيد وليست أي إزالة الملك لازمة لها أي لإزالة القيد
فلا تصح استعارة هذه أي إزالة القيد لتلك أي لإزالة الملك
بل على العكس فإن الاستعارة لا تجري إلا من طرف واحد كالأسد الشجاع
وكذا إجارة الحر عطف على قوله فيقع الطلاق بلفظ العتق
وإنما قيد بالحر حتى لو كان عبدا يثبت البيع تنعقد بلفظ البيع دون العكس لأن ملك الرقبة سبب لملك المنفعة وهذه المسألة مبنية أيضا على الأصل المذكور أن الشيء إذا كان سببا محضا يصح إطلاقه على المسبب دون العكس
____________________
(1/149)
ولا يلزم عدم الصحة فيما أضافه إلى المنفعة جواب إشكال وهو أن يقال إذا صح استعارة البيع للإجارة ينبغي أن يصح عقد الإجارة بقوله بعت منافع هذه الدار في هذا الشهر بكذا لكنه لا يصح بهذا اللفظ
فقوله لأن ذلك ليس لفساد المجاز دليل على قوله ولا يلزم وقوله ذلك إشارة إلى عدم الصحة باللفظ المذكور بل لأن المنفعة المعدومة لا تصلح محلا للإضافة حتى لو أضاف الإجارة إليها لا تصح فكذا المجاز عنها فالإجارة إنما تصح إذا أضيف العقد إلى العين فإن العين تقوم مقام المنفعة في إضافة العقد ثم اعلم أن في الأمثلة
____________________
(1/150)
المذكورة وهي النكاح بلفظ الهبة والبيع والطلاق بلفظ العتق والإجارة بلفظ البيع الحق أن جميع ذلك بطريق الاستعارة لا بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب لأن الهبة ليست سببا لملك المتعة الذي ثبت بالنكاح بل إطلاق اللفظ على مباين معناه للاشتراك بينهما في اللازم وهو الاستعارة ثم إنما لا يثبت العكس لما ذكرت أن الاستعارة لا تجري إلا من طرف واحد وأما مثال البيع والملك فصحيح واعلم أنه يعتبر السماع في أنواع العلاقات لا في أفرادها فإن إبداع الاستعارات اللطيفة من فنون البلاغة وعند البعض لا بد من السماع فإن النخلة تطلق على الإنسان الطويل دون غيره قلنا لاشتراط المشابهة في أخص الصفات
مسألة المجاز خلف عن الحقيقة في حق التكلم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما في حق الحكم فعنده التكلم بهذا ابني للأكبر سنا منه في إثبات الحرية خلف عن التكلم به في إثبات البنوة والتكلم بالأصل صحيح من حيث إنه مبتدأ وخبر وعندهما ثبوت الحرية بهذا اللفظ خلف عن ثبوت البنوة به والأصل ممتنع ومن شرط الخلف إمكان الأصل وعدم ثبوته لعارض فيعتق عنده لا عندهما اتفق العلماء في أن المجاز خلف عن الحقيقة أي فرع لها ثم اختلفوا في أن الخلفية في حق التكلم أو في حق الحكم فعندهما في حق الحكم أي الحكم الذي ثبت بهذا اللفظ بطريق المجاز كثبوت الحرية مثلا بلفظ هذا ابني خلف عن الحكم الذي يثبت بهذا اللفظ بطريق الحقيقة كثبوت البنوة مثلا وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى في حق التكلم فبعض الشارحين فسروه بأن لفظ هذا ابني إذا أريد به الحرية خلف عن لفظ هذا حر فيكون التكلم باللفظ الذي يفيد عين ذلك المعنى بطريق المجاز خلفا عن التكلم باللفظ الذي يفيد عين ذلك المعنى بطريق الحقيقة وبعضهم فسروه بأن لفظ هذا ابني إذا أريد به الحرية خلف عن لفظ هذا ابني إذا أريد به البنوة والوجه الأول صحيح في هذا المعنى مفيد للغرض فإن لفظ هذا ابني خلف عن لفظ هذا حر أي قائم مقامه والأصل وهو هذا حر صحيح لفظا وحكما فيصح الخلف لكن الوجه الثاني أليق بهذا المقام لأمرين أحدهما أن المجاز خلف عن الحقيقة بالاتفاق ولم يذكروا الخلاف إلا في جهة الخلفية فقط فيجب أن لا يكون الخلاف فيما هو الأصل وفيما هو الخلف بل الخلاف يكون في جهة الخلفية
____________________
(1/151)
____________________
(1/152)
فقط فعندهما هذا ابني إذا كان مجازا خلف عن هذا ابني إذا كان حقيقة في حق الحكم أي حكمه المجازي خلف عن حكمه الحقيقي وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى هذا اللفظ خلف عن عين هذا اللفظ لكن بالجهتين فعلى كلا المذهبين الأصل هذا ابني والخلاف في الجهة فقط عندهما من حيث الحكم وعنده من حيث اللفظ ولو كان المراد أن هذا ابني خلف عن هذا حر فالخلاف يكون في الأصل والخلف لا في جهة الخلفية فقط والأمر الثاني أن فخر الإسلام رحمه الله تعالى قال إنه يشترط صحة الأصل من حيث إنه مبتدأ وخبر موضوع للإيجاب بصيغته وقد وجد ذلك فإذا وجد وتعذر العمل بحقيقته أي بالمعنى الحقيقي فصحة الأصل من حيث إنه مبتدأ وخبر وتعذر العمل بالمعنى الحقيقي مخصوصان بهذا ابني فأما هذا حر فإنه صحيح مطلقا والعمل بحقيقته غير متعذر فعلم أن الأصل هذا ابني مرادا به البنوة فحاصل الخلاف أنه إذا استعمل لفظ وأريد به المعنى المجازي هل يشترط إمكان المعنى الحقيقي بهذا اللفظ أم لا فعندهما يشترط فحيث يمنع المعنى الحقيقي لا يصح المجاز وعنده لا بل يكفي صحة اللفظ من حيث العربية لهما أن في المجاز ينتقل الذهن من الموضوع له إلى لازمه فالثاني أي اللازم موقوف على الأول أي الموضوع له فيكون اللازم خلفا وفرعا للموضوع له وهذا هو المراد بالخلفية في حق الحكم فلا بد من إمكانه أي إمكان الأول وهو المعنى الموضوع له لتوقف المعنى المجازي عليه
____________________
(1/153)
وأيضا بناء على أن الأصل المتفق عليه أن من شرط صحة الخلف إمكان الأصل كما في مسألة مس السماء فإن إمكان الأصل فيها شرط لصحة الخلف وصورة المسألة أن يحلف بقوله والله لأمس السماء تجب الكفارة لأن الكفارة خلف عن البر ففي كل موضع
____________________
(1/154)
يمكن البر ينعقد اليمين وتجب الكفارة وفي كل موضع لا يمكن البر لا ينعقد اليمين ولا تجب الكفارة ففي مسألة مس السماء البر وهو مس السماء ممكن في حق البشر كما كان النبي عليه السلام وإن حلف لأشربن الماء الذي في هذا الكوز ولا ماء فيه لا تجب الكفارة لأن الأصل هو البر غير ممكن فالمستشهد هاتان المسألتان والفرق الذي بينهما وإنما لم نذكر في المتن مسألة الكوز لأن المعتاد في كتبنا ذكرهما معا فكل منهما ينبئ عن الآخر قلنا موقوف على فهم الأول لا على إرادته إذ لا جمع بينهما أي بين الحقيقة والمجاز والمراد المعنى الحقيقي والمجازي فيها أي في الإرادة فإذا لم يتوقف على إرادة الأول لا يجب إمكان الأول وحيث توقف على فهم الأول وفهم الأول مبني على صحة اللفظ من حيث العربية يكفي صحة اللفظ من حيث العربية فإذا فهم الأول وامتنع إرادته علم أن المراد لازمه وهو عتقه من حين ملكه فإن هذا المعنى لازم للبنوة فيجعل إقرارا فيعتق قضاء من
____________________
(1/155)
غير نية لأنه متعين ولا يعتق بقوله يا بني لأنه لاستحضار المنادى بصورة الاسم بلا قصد المعنى فلا تجري الاستعارة لتصحيح المعنى فإن الاستعارة تقع أولا في المعنى وبواسطته في اللفظ فيستعار أولا الهيكل المخصوص للشجاع ثم بتوسط هذه الاستعارة يستعار لفظ الأسد للشجاع ولأجل أن الاستعارة تقع أولا في المعنى لا تجري الاستعارة في الأعلام إلا في أعلام تدل على المعنى كحاتم ونحوه ويعتق بقوله يا حر لأنه موضوع له فإن قيل قد ذكره في علم البيان أن زيدا أسد ليس
____________________
(1/156)
باستعارة بل هو تشبيه بغير آلة لأنه دعوى أمر مستحيل قصدا لأن التصديق والتكذيب يتوجهان إلى الخبر وإنما يكون استعارة إذا حذف المشبه نحو رأيت أسدا يرمي وإن كان هذا مستحيلا أيضا بواسطة القرينة لكن غير مقصود فإن القصد إلى الرؤية هاهنا فعلى هذا لا يكون هذا ابني استعارة
____________________
(1/157)
اعلم أن الاستعارة عند علماء البيان ادعاء معنى الحقيقة في الشيء لأجل المبالغة في التشبيه مع حذف التشبيه لفظا ومعنى فالاستعارة لا تجري في خبر المبتدأ عندهم فقولهم زيد أسد ليس باستعارة بل تشبيه بغير آلة بناء على الدليل الذي ذكر في المتن فعلى هذا لا يكون هذا ابني استعارة بل يكون تشبيها وفي التشبيه لا يعتق فعلم من هذا أنهم لا يجوزون الاستعارة إذا كانت مستلزمة لدعوى أمر مستحيل قصدا فهذا عين مذهبهما لأن شرط صحة المجاز إمكان المعنى الحقيقي قلنا هذا في الاستعارة في أسماء الأجناس وتسمى استعارة أصلية لأنه يلزم حينئذ قلب الحقائق لا في الاستعارة في المشتقات وتسمى استعارة تبعية نحو نطقت الحال أو الحال ناطقة فإن هذا استعارة بالاتفاق ولا يلزم هنا قلب الحقائق وهذا ابني من هذا القبيل هذا الذي ذكر وهو أن زيدا أسد ليس باستعارة بناء على أن الاستعارة لا تقع في خبر المبتدأ إنما هو مخصوص بالاستعارة في أسماء الأجناس أما الاستعارة في المشتقات فإنها تجري في خبر المبتدأ عند علماء البيان كما يقال الحال ناطقة أي دلالة استعير الناطقة للدلالة وهذه الاستعارة في خبر المبتدأ لكن ليست في أسماء الأجناس بل في الاسم المشتق فيجوزون هذا في خبر المبتدأ وفرقهم أن الاستعارة في خبر المبتدأ تستلزم قلب الحقائق إذا كان خبر المبتدأ اسم جنس أما إذا كان اسما مشتقا فلا تستلزم قلب الحقائق نحو الحال ناطقة فلا تجوز في أسماء الأجناس وتجوز في المشتقات وهنا خبر المبتدأ وهو ابني اسم مشتق لأن معناه مولود مني فتجوز فيه الاستعارة فإنه من قبيل قولنا الحال ناطقة واعلم أنهم يسمون الاستعارة في أسماء الأجناس استعارة أصلية والاستعارة في الأفعال والأسماء المشتقة استعارة تبعية لأن الاستعارة إنما تقع فيها بتبعية وقوعها في المشتق منه وسيأتي قريبا ويجب أن يعلم أن الجواب الذي أوردته في المتن إنما هو على تقدير تسليم زعم علماء البيان وترك المناقشة على دلائلهم الواهية وذلك أن قولهم زيد أسد ليس باستعارة مع أن قولهم رأيت أسدا يرمي استعارة ليس بقوي والفرق الذي ذكرته في المتن أن زيدا أسد دعوى أمر مستحيل قصدا بخلاف رأيت أسدا يرمي لا شك أنه فرق واه وما ذكر بعد ذلك أن في أسماء الأجناس لا تجري الاستعارة في خبر المبتدأ وتجري في الأسماء المشتقة أضعف من الأول وفرقهم أن الأول يقضي إلى قلب الحقائق دون الثاني أوهن من نسج العنكبوت لأن قولهم الحال ناطقة ليس في الاستحالة أدنى من قولهم زيد أسد فما الذي أوجب أن أحدهما استعارة والآخر ليس باستعارة
____________________
(1/158)
وإنما لم أذكر هذه الاعتراضات في المتن لعدم الاحتياج إليها فإن قولهم الحال ناطقة لما كانت استعارة بالاتفاق علم أن إمكان المعنى الحقيقي لا يشترط لصحة المجاز وعلى تقدير تسليم الفرق بين المشتقات وأسماء الأجناس قولهم هذا ابني من قبيل المشتقات فتصح فيه الاستعارة بلا اشتراط إمكان المعنى الحقيقي
مسألة قال بعض الشافعية لا عموم للمجاز لأنه ضروري يصار إليه توسعة فيقدر بقدر الضرورة قلنا لا ضرورة في استعماله لأنه إنما يستعمل لأجل الداعي الذي يأتي من بعد وإذا لم تكن الضرورة الترديد في استعماله بل يكون معنى الضرورة أنه إذا استعمل اللفظ يجب أن يحمل على المعنى الحقيقي فإذا لم يمكن فعلى المجازي فهذه الضرورة لا تنافي العموم بل العموم إنما يثبت إن استعمله المتكلم وأراد به المعنى العام ولا مانع لهذا لأنه ما وجد في الاستعمال ضرورة وهو أحد نوعي الكلام بل فيه من البلاغة ما ليس في الحقيقة
____________________
(1/159)
وهو في كلام الله تعالى كثير كقوله تعالى يريد أن ينقض فأقامه وقوله تعالى لما طغى الماء والله متعال عن العجز والضرورات نظيره قوله عليه السلام لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين وقد أريد به الطعام إجماعا فلا يشمل غيره عنده ذكر الصاع وأراد به ما فيه من الطعام بطريق إطلاق اسم المحل على الحال
____________________
(1/160)
مسألة لا يراد من اللفظ الواحد معناه الحقيقي والمجازي معا لرجحان المتبوع على التابع فلا يستحق معتق المعتق مع وجود المعتق إذا أوصى لمواليه ولا يراد غير الخمر بقوله
____________________
(1/161)
عليه السلام من شرب الخمر فاجلدوه لأنه أريد بها ما وضعت له ولا المس باليد بقوله تعالى أو لامستم النساء لأن الوطء وهو المجاز مراد بالإجماع اعلم أن لفظ المولى حقيقة في المولى الأسفل وهو المعتق مجاز في معتق المعتق فإذا أوصى لمواليه لا يستحق معتق المعتق مع وجود المعتق وكذا إذا أوصى لأولاد فلان أو لأبنائه وله بنون وبنو بنين فالوصية لأبنائه دون بني بنيه أما دخول بني البنين في الأمان في قوله آمنونا على أولادنا فلأن الأمان لحقن الدم فيبتني على الشبهات وفي هذه المسألة روايتان ولا جمع بينهما بالحنث إذا دخل حافيا أو متنعلا أو راكبا في لا يضع قدمه في دار فلان لأنه مجاز عن لا يدخل فيحنث كيف دخل
____________________
(1/162)
فلهذا من باب عموم المجاز اعلم أنه تذكر هنا مسائل تتراءى أنا جمعنا فيما بين الحقيقة والمجاز أولها إذا حلف لا يضع قدمه في دار فلان يحنث إذا دخل حافيا أو متنعلا أو راكبا والدخول حافيا معناه الحقيقي والباقي بطريق المجاز فقوله في لا يضع متعلق بقوله لا جمع بينهما وإنما حملناه على معنى المجاز لأن معناه الحقيقي مهجور إذ ليس المراد أن ينام ويضع القدمين في الدار وباقي الجسد يكون خارج الدار وفي العرف صار عبارة عن لا يدخل
____________________
(1/163)
وكذا أي من باب عموم المجاز قوله لا يدخل في دار فلان يراد به نسبة السكنى أي يراد بطريق المجاز بقوله دار فلان كون الدار منسوبة إلى فلان نسبة السكنى إما حقيقة وإما دلالة حتى لو كانت ملك فلان ولا يكون فلان ساكنا فيها يحنث بالدخول فيها وهي تعم الملك والإجارة والعارية لا نسبة الملك حقيقة وغيرها مجازا أي لا يراد نسبة الملك بطريق الحقيقة وغيرها أي الإجارة والعارية بطريق المجاز حتى يلزم الجمع بينهما أي بين
____________________
(1/164)
الحقيقة والمجاز ولا بالحنث عطف على قوله بالحنث في قوله ولا جمع بينهما بالحنث إذا قدم نهارا أو ليلا في قوله امرأته كذا يوم يقدم زيد لأنه يذكر للنهار وللوقت كقوله تعالى ومن يولهم يومئذ دبره صورة المسألة أنه إذا قال لامرأته أنت طالق يوم يقدم زيد يحنث إن قدم نهارا أو ليلا فاليوم حقيقة في النهار مجاز في الليل فيلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز فقوله لأنه يذكر دليل على قوله ولا بالحنث والهاء في لأنه يرجع إلى اليوم والمراد باليوم في الآية الوقت فاليوم حقيقة في النهار وكثيرا ما يراد به الوقت مجازا فاحتجنا إلى ضابط يعرف به في كل موضع أن المراد باليوم النهار أو مطلق الوقت والضابط هو قوله فإذ تعلق بفعل ممتد فللنهار وبغير ممتد فللوقت لأن الفعل إذا نسب إلى ظرف الزمان بغير في يقتضي كونه أي كون ظرف الزمان معيارا له أي للفعل والمراد بالمعيار ظرف لا يفضل عن المظروف كاليوم للصوم وهذا البحث كله يأتي في كلمة في فصل حروف المعاني
____________________
(1/165)
فإن امتد الفعل امتد المعيار فيراد باليوم النهار لأن النهار أولى وإن لم يمتد أي للفعل كوقوع الطلاق هنا أي في قوله أنت طالق يوم يقدم زيد لا يمتد المعيار فيراد به الآن إذ لا يمكن إرادة النهار باليوم فيراد به مطلق الآن ولا يعتبر كون ذلك الآن جزءا من النهار لقوله تعالى ومن يولهم يومئذ دبره ولأن العلاقة موجودة بين معناه الحقيقي ومطلق الآن سواء كان ذلك الآن جزءا من النهار أو من الليل ولا بالحنث عطف على قوله بالحنث الذي سبق بأكل الحنطة وما يتخذ منها عندهما في لا يأكل من هذه الحنطة لأنه يراد باطنها عادة فيحنث بعموم المجاز ولا يرد قول أبي حنيفة ومحمد
____________________
(1/166)
رحمهما الله تعالى أي على مسألة امتناع الجمع بين الحقيقة والمجاز فيمن قال لله علي صوم رجب ونوى به اليمين أنه نذر ويمين هذا مقول القول حتى لو لم يصم يجب القضاء لكونه نذرا والكفارة لكونه يمينا فهذه ثمرة الخلاف وإذا كان نذرا ويمينا يكون جمعا بين الحقيقة والمجاز لأن هذا اللفظ حقيقة في النذر مجاز في اليمين لأنه نذر بصيغته يمين بموجبه هذا دليل على قوله ولا يرد ثم أثبت أنه يمين بموجبه بقوله لأن إيجاب المباح يوجب تحريم ضده وتحريم الحلال يمين لقوله تعالى قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم كما أن شراء القريب شراء بصيغته تحرير بموجبه فالحاصل أن هذا ليس جمعا بين الحقيقة والمجاز بل الصيغة موضوعة للنذر وموجب هذا الكلام اليمين والمراد بالموجب اللازم المتأخر فدلالة اللفظ على لازمه لا تكون مجازا كما أن لفظ الأسد إذا أريد به الهيكل المخصوص يدل على الشجاعة التي هي لازمة للأسد بطريق الالتزام ولا يكون مجازا وإنما المجاز هو اللفظ الذي استعمل ويراد به لازم الموضوع له من غير إرادة الموضوع له وهنا وقع في خاطري إشكال وهو قوله يرد عليه أنه إن كان هذا موجبه يكون يمينا وإن لم ينو أي اليمين كما إذا اشترى القريب يعتق عليه وإن لم ينو
____________________
(1/167)
وإن لم يكن موجبه يكون جمعا بين الحقيقة والمجاز ويمكن أن يقال في جواب هذا الإشكال لا جمع بينهما في الإرادة لأنه نوى اليمين ولم ينو النذر لكنه يثبت النذر بصيغته واليمين بإرادته لأن الكلام موضوع للنذر وهو إنشاء فيثبت الموضوع له وإن لم ينو وحقيقة هذا الجواب أنا نسلم أن اليمين هو المعنى المجازي لكن في الإنشاءات يمكن أن يثبت للكلام المعنى الحقيقي والمجازي فالحقيقي لمجرد الصيغة سواء أراد أو لم يرد والمجازي إن أراد فهذه المسألة تنقسم أقساما فإن لم ينو شيئا أو نوى النذر فقط أو نوى
____________________
(1/168)
النذر مع نفي اليمين كان نذرا فقط عملا بالصيغة وإن نواهما أو نوى اليمين فقط فنذر ويمين أما النذر فبالصيغة ولا تأثير للإرادة فيما نواهما وأما اليمين فبالإرادة وإن نوى اليمين مع نفي النذر فيمين فقط وهذا الذي أوردته إشكالا وهو قوله فإن قيل يلزم أن يثبت النذر أيضا إذا نوى أنه يمين وليس بنذر لأن النذر يثبت بالصيغة فيجب أن يثبت مع أنه نوى أنه ليس بنذر فأجاب بقوله قلنا لما نوى مجازه ونفى حقيقته يصدق ديانة لأن هذا حكم ثابت بينه وبين الله تعالى فإذا نفى النذر يصدق ديانة بينه وبين الله تعالى ولا مدخل للقضاء فيه حتى يوجبه القاضي ولا يصدقه في نفيه بخلاف الطلاق والعتاق فإنه إذا قال أردت المعنى المجازي ونفيت الحقيقي لا يصدق في القضاء لأن هذا حكم فيما بين العباد فقضاء القاضي أصل فيه
مسألة لا بد للمجاز من قرينة تمنع إرادة الحقيقة عقلا أو حسا أو عادة أو شرعا وهي إما خارجة عن المتكلم والكلام كدلالة الحال نحو يمين الفور أو معنى من المتكلم كقوله تعالى واستفزز من استطعت منهم فإنه تعالى لا يأمر بالمعصية أو لفظ خارج عن هذا الكلام كقوله تعالى فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر فإن سياق الكلام وهو قوله تعالى إنا أعتدنا يخرجه من أن يكون للتخيير ونحو طلق امرأتي إن كنت رجلا لا يكون توكيلا أو غير
____________________
(1/169)
خارج فإما أن يكون بعض الأفراد أولى كما ذكرنا في التخصيص أو لم يكن نحو الأعمال بالنيات ورفع عن أمتي الخطأ والنسيان لأن عين فعل الجوارح لا يكون بالنية وعين الخطأ والنسيان غير مرفوع بل المراد الحكم وهو نوعان الأول الثواب والإثم والثاني الجواز والفساد ونحوهما والأول بناء على صدق عزيمته والثاني بناء على ركنه وشرطه فإن من توضأ
____________________
(1/170)
بماء نجس جاهلا وصلى لم يجز في الحكم لفقد شرطه ويثاب عليه لصدق عزيمته ولما اختلف الحكمان صار الاسم بعد كونه مجازا مشتركا فلا يعم أما عندنا فلأن المشترك لا عموم له وأما عنده فلأن المجاز لا عموم له فإذا ثبت أحدهما وهو النوع الأول من الحكم وهو الثواب اتفاقا لم يثبت الآخر أي النوع الآخر وهو الجواز ونحو لا يأكل من هذه
____________________
(1/171)
النخلة ولا يأكل من هذا الدقيق ولا يشرب من هذا البئر حتى إذا استف أو كرع لا يحنث ونحو لا يضع قدمه في دار فلان وكالأسماء المنقولة ونحو التوكيل بالخصومة فإنه يصرف إلى الجواب لأن معناه الحقيقي مهجور شرعا وهو كالمهجور عادة فيتناول الإقرار والإنكار اعلم أن القرينة إما خارجة عن المتكلم والكلام أي لا تكون معنى في المتكلم أي صفة له ولا تكون من جنس الكلام أو تكون معنى في المتكلم أو تكون من جنس الكلام ثم هذه القرينة التي هي من جنس الكلام إما لفظ خارج عن هذا الكلام الذي يكون المجاز فيه بل يكون في كلام آخر أي يكون ذلك اللفظ الخارج دالا على عدم إرادة الحقيقة أو
____________________
(1/172)
غير خارج عن هذا الكلام بل عين هذا الكلام أو شيء منه يكون دالا على عدم إرادة الحقيقة ثم هذا القسم على نوعين إما أن يكون بعض الأفراد أولى كما ذكر في التخصيص أن المخصص قد يكون كون بعض الأفراد ناقصا أو زائدا فيكون اللفظ أولى بالبعض الآخر فإذا قال كل مملوك لي حر لا يقع على المكاتب مع أن المكاتب مملوك حقيقة فيكون هذا اللفظ مجازا من حيث إنه مقصور على بعض الأفراد وهو غير المكاتب أو لم يكن بعض الأفراد أولى فانحصرت القرينة في هذه الأقسام فإن قيل قد جعل في فصل التخصيص كون بعض الأفراد أولى من قسم المخصص غير الكلامي وهنا جعل من قسم القرينة اللفظية فما الفرق بينهما قلنا المراد بالمخصص الكلامي أن الكلام بصريحه يوجب في بعض الأفراد حكما مناقضا لحكم يوجبه العام وكل مخصص ليس كذلك لا يكون كلاميا فيكون بعض الأفراد أولى بكونه مخصصا غير كلامي بهذا التفسير وهاهنا نعني بالقرينة اللفظية أن يفهم من اللفظ بأي طريق كان أن الحقيقة غير مرادة وفي كل مملوك لي حر يفهم من اللفظ عدم تناوله المكاتب فتكون القرينة لفظية جئنا إلى الأمثلة المذكورة في المتن فكل قسم من الأقسام فنظيره مذكور عقيب ذلك القسم لكن لم نذكره في كل مثال أن القرينة المانعة من إرادة الحقيقة مانعة عقلا أو حسا أو عادة أو شرعا فنبين هنا هذا المعنى ففي يمين الفور كما إذا أرادت المرأة الخروج فقال إن خرجت فأنت طالق يحمل على الفور فالقرينة مانعة عن إرادة الحقيقة عرفا والمعنى الحقيقي الخروج مطلقا وفي
____________________
(1/173)
قوله تعالى واستفزز من استطعت منهم القرينة تمنع الحقيقة عقلا وكذا في قوله تعالى فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر لأن التخيير وهو الإباحة مع العذاب المستفاد من قوله إنا أعتدنا للظالمين نارا ممتنع عقلا وفي قوله طلق امرأتي إن كنت رجلا الحقيقة ممتنعة عرفا وفي قوله عليه السلام الأعمال بالنيات الحقيقة غير مرادة عقلا وفي لا يأكل من هذه النخلة أو الدقيق حسا وفي لا يشرب من هذه البئر حسا وعرفا وفي لا يضع قدمه عرفا وفي الأسماء المنقولة إما عرفا عاما أو خاصا أو شرعا وفي التوكيل بالخصومة شرعا فإن قيل لا نسلم أن المعنى الحقيقي ممتنع في قوله لا يأكل من هذه النخلة حسا لأن المحلوف عليه عدم أكلها وهو غير ممتنع حسا بل أكلها كذلك قلنا اليمين إذا دخلت على النفي كانت للمنع فوجب اليمين أن يصير ممنوعا باليمين وما لا يكون مأكولا حسا أو عادة لا يكون ممنوعا باليمين ثم عطف أول المسألة وهو أنه لا بد للمجاز من قرينة قوله فأما إذا كانت الحقيقة مستعملة والمجاز متعارفا فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى المعنى الحقيقي أولى لأن الأصل لا يترك إلا لضرورة وعندهما المعنى المجازي أولى ونظيره لا يأكل من هذه الحنطة يصرف إلى القضم عنده وعندهما إلى أكل ما فيها مسألة وقد يتعذر المعنى الحقيقي والمجازي معا كقوله لامرأته وهي أكبر منه سنا أو معروفة النسب هذه بنتي أما الحقيقة أي المعنى الحقيقي
____________________
(1/174)
وهو النسب في الفصل الأول أي في الأكبر سنا منه فظاهر وفي الثاني فلأنها أي الحقيقة والمراد المعنى الحقيقي إما أن تثبت مطلقا أي في حقه وفي حق من اشتهر النسب منه أي تكون دعوته معتبرة في حقهما يثبت النسب منه وينتفي ممن اشتهر منه ولا يمكن هذا أي ثبوت النسب من المدعي وانتفاؤه ممن اشتهر منه لأنه يثبت ممن اشتهر منه أو في حق نفسه فقط أي يثبت المعنى الحقيقي وهو النسب في حق نفسه فقط بأن يثبت منه من غير أن ينتفي ممن اشتهر منه وذا متعذر أي الثبوت في حق نفسه فقط لأن الشرع يكذبه لاشتهاره من الغير فلا يكون أي تكذيب الشرع المدعي أقل من تكذيبه نفسه والنسب مما يحتمل التكذيب والرجوع بخلاف العتق في أنه لا يحتمل التكذيب والرجوع وأما المجاز عطف على قوله أما الحقيقة والمراد أن المعنى المجازي متعذر وهو التحريم فلأن التحريم الذي يثبت بهذا أي بلفظ هذه بنتي مناف لملك النكاح فلا يكون حقا من حقوقه بيانه أنه إن ثبت التحريم بهذا اللفظ لا يخلو إما أن يثبت التحريم الذي يقتضي صحة النكاح السابق أو التحريم الذي لا يقتضيها والثاني منتف لأنه لو قال لأجنبية معروفة النسب هذه بنتي يكون لغوا فعلم أنه إن ثبت التحريم يثبت التحريم الذي يقتضي صحة النكاح السابق ويكون حقا من حقوق النكاح كالطلاق وذلك أيضا محال لأن هذا اللفظ يدل على التحريم الذي يقتضي بطلان النكاح السابق فكيف يثبت به التحريم الذي هو حق من حقوق النكاح واعلم أن تقرير فخر الإسلام رحمه الله تعالى على هذا الوجه أن الحقيقة إما أن تثبت في حقه وحق من اشتهر منه وذا غير ممكن أو في حق نفسه فقط ثم هذا إما أن يثبت في حق النسب وذا متعذر لأن الشرع يكذبه أو في حق التحريم وذا لا يمكن أيضا لأن التحريم الذي يثبت بهذا مناف لملك النكاح كما ذكرنا وأما المجاز وهو التحريم فلتلك المنافاة أيضا
____________________
(1/175)
والفرق بين التحريم الأول والثاني أن المراد بالتحريم الأول ما ثبت بدلالة الالتزام فإن ثبوت النسب موجب للتحريم والمراد بالتحريم الثاني ما ثبت بطريق المجاز فإن لفظ السقف إذا أريد به الموضوع له دال على الجدار بطريق الالتزام ولا يكون هذا مجازا بل إنما يكون مجازا إذا أطلق السقف وأريد به الجدار فأقول لا حاجة إلى قوله إما أن يثبت في حق النسب أو في حق التحريم لأن الموضوع له ثبوت النسب فإن لم يثبت النسب لا يمكن ثبوت التحريم بطريق الالتزام لعدم ثبوت الأصل فهذا الترديد يكون قبيحا فالدليل النافي لهذا التحريم المدلول التزاما ليس كونه منافيا لملك النكاح بل الدليل النافي هو عدم ثبوت الموضوع له فعلم أن ثبوت التحريم لا يثبت إلا بطريق المجاز وذا متعذر أيضا للمنافاة المذكورة ولو ردد بهذا الوجه وهو أنه إن ثبت التحريم فإما أن يثبت بطريق الالتزام وهو محال لعدم ثبوت الموضوع له وهو النسب أو بطريق المجاز وهو أيضا محال للمنافاة المذكورة لكان أحسن
____________________
(1/176)
مسألة الداعي إلى المجاز اعلم أن المجاز يحتاج إلى عدة أشياء المستعار منه وهو الهيكل المخصوص والمستعار له وهو الإنسان الشجاع والمستعار وهو لفظ الأسد والعلاقة وهي الشجاعة والقرينة الصارفة عن إرادة المعنى الحقيقي إلى إرادة المعنى المجازي وهو يرمي في رأيت أسدا يرمي والأمر الداعي إلى استعمال المجاز فإنك إذا حاولت أن تخبر عن رؤية شجاع فالأصل أن تقول رأيت شجاعا فإذا قلت رأيت أسدا فلا بد أن يوجد أمر يدعو إلى ترك استعمال ما هو الأصل في المعنى المطلوب واستعمال ما هو خلاف الأصل وهو المجاز وذلك الداعي إما لفظي وإما معنوي فاللفظي اختصاص لفظه أي لفظ المجاز بالعذوبة فربما يكون لفظ الحقيقة لفظا ركيكا كلفظ الخنفقيق مثلا ولفظ المجاز يكون أعذب منه أو صلاحيته للشعر أي إذا استعمل لفظ الحقيقة لا يكون الكلام موزونا وإن استعمل لفظ المجاز يكون موزونا أو لسجع فإذا كان السجع داليا مثل الأحد والعدد فلفظ الأسد يستقيم في السجع لا لفظ الشجاع أو أصناف البديع كالتجنيسات ونحوها فربما يحصل التجنيس بلفظ المجاز لا الحقيقة نحو البدعة شرك الشرك فإن الشرك هنا مجاز استعمل ليجانس الشرك فإن بينهما شبه الاشتقاق أو معناه أي اختصاص معناه فمن هنا شرع في الداعي المعنوي بالتعظيم كاستعارة اسم أبي حنيفة رحمه الله تعالى لرجل عالم فقيه متق أو التحقير كاستعارة الهمج وهو الذباب للصغير الجاهل أو الترغيب أو الترهيب أي اختصاص المعنى المجازي بالترغيب أو الترهيب كاستعارة ماء الحياة لبعض المشروبات ليرغب السامع واستعارة السم لبعض المطعومات ليتنفر السامع أو
____________________
(1/177)
زيادة البيان أي اختصاص المعنى المجازي بزيادة البيان فإن قولك رأيت أسدا يرمي أبين في الدلالة على الشجاعة من قولك رأيت شجاعا فإن ذكر الملزوم بينة على وجود اللازم وفي المجاز أطلق اسم الملزوم على اللازم فاستعمال المجاز يكون دعوى الشيء بالبينة واستعمال الحقيقة يكون دعوى بلا بينة أو تلطف الكلام بالرفع عطف على قوله واختصاص لفظه أي الداعي إلى استعمال المجاز قد يكون تلطف الكلام كاستعارة بحر من المسك موجه الذهب لفحم فيه جمر موقد فيفيد لذة تخيلية وزيادة شوق إلى إدراك معناه فيوجب سرعة التفهم أو مطابقة تمام المراد بالرفع عطف على قوله أو تلطف الكلام أي الداعي إلى استعمال المجاز قد يكون معناه مطابقة تمام المراد فيمكن أن يكون معناه مطابقة تمام المراد في زيادة وضوح الدلالة أو نقصان وضوح الدلالة فإن دلالة الألفاظ الموضوعة على معانيها تكون على نهج واحد فإن حاولت أن تؤدي المعنى بدلالة أوضح من لفظ الحقيقة أو أخفى منه فلا بد أن تستعمل لفظ المجاز فإن المجازات متكثرة فبعضها أوضح في الدلالة وبعضها أخفى
فإن قيل كيف يكون دلالة لفظ المجاز أوضح من دلالة لفظ الحقيقة بل المجاز مخل بالفهم قلنا لما كانت القرينة مذكورة ارتفع الإخلال بالفهم ثم إذا كان المستعار منه أمرا محسوسا ويكون أشهر المحسوسات المتصفة بالمعنى المطلوب والمستعار له معقولا كان المجاز أوضح من الحقيقة وأيضا ما ذكر أن ذكر الملزوم بينة على وجود اللازم وأن المجاز يوجب سرعة التفهم يؤيد هذا المعنى ويمكن أن يكون معناه أن يؤدي بعبارة لسانه كنه ما في قلبه فإنك إذا أردت وصف الشيء بالسواد على مقدار مخصوص فأصل المراد أن تصفه بالسواد وتمام المراد أن تصفه بالسواد المخصوص فاللفظ الموضوع يدل على أصل المراد لكن لا يدل على تمام المراد وهو بيان كمية السواد فلا بد
____________________
(1/178)
أن يذكر شيء يعرف به السامع كمية سواده فيشبه به أو يستعار له ليتبين للسامع تمام المراد أو غير ذلك بالرفع أيضا أي يكون الداعي إلى المجاز غير ما ذكرنا في هذه المواضع مما ذكرنا في مقدمة كتاب الوشاح وفي فصلي التشبيه والمجاز فإني قد ذكرت في مقدمته وفي فصل التشبيه أن الغرض من التشبيه ما هو فإنه يكون غرضا للاستعارة أيضا وفي فصل المجاز أن المجاز ربما لا يكون مفيدا وربما يكون مفيدا ولا يكون فيه مبالغة في التشبيه وربما يكون مفيدا ويكون فيه مبالغة في التشبيه كالاستعارة
فصل وقد تجرى الاستعارة التبعية في الحروف ذكر علماء البيان أن الاستعارة على قسمين استعارة أصلية وهي في أسماء الأجناس واستعارة تبعية وهي في المشتقات والحروف وإنما قالوا هي تبعية لأن الاستعارة في المشتقات لا تقع إلا بتبعية وقوعها في المشتق منه كما تقول الحال ناطقة أي دالة فاستعير الناطقة للدلالة بتبعية استعارة النطق للدلالة وكذا الاستعارة في الحروف فإن الاستعارة تقع أولا في متعلق معنى الحرف ثم فيه أي في الحرف كاللام مثلا فيستعار أولا التعليل للتعقيب فإن التعقيب لازم للتعليل فإن المعلول يكون عقيب العلة فيراد بالتعليل التعقيب وهو أعم من أن يكون تعقيب العلة
____________________
(1/179)
المعلول أو غيره ثم بواسطتها أي بواسطة استعارة التعليل للتعقيب يستعار اللام له أي للتعقيب نحو لدوا للموت وابنوا للخراب لما كان الموت عقيب الولادة جعل كأن الولادة علة للموت فاستعمل لام التعليل وأريد أن الموت واقع بعد الولادة قطعا بلا تخلف كوقوع المعلول عقيب العلة وهذا بناء على أن اللام تدخل في العلة الغائية وهي الغرض بلا شك أنه معلول للعلة الفاعلية فعلم أن اللام الداخلة في الغرض داخلة حقيقة على المعلول وهاهنا نذكر حروفا تشتد الحاجة إليها وتسمى حروف المعاني منها حروف العطف الواو
____________________
(1/180)
لمطلق الجمع بالنقل عن أئمة اللغة واستقراء مواضع استعمالها وهي بين الاسمين المختلفين كالألف بين المتحدين فإنه يمكن جاء رجلان ولا يمكن هذا في رجل وامرأة فأدخلوا واو العطف وقولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي لا تجمع بينهما فلهذا لا يجب الترتيب في الوضوء
____________________
(1/181)
____________________
(1/182)
وأما في السعي بين الصفا والمروة فوجب الترتيب بقوله عليه السلام ابدءوا بما بدأ الله تعالى لا بالقرآن فإن كونهما من الشعائر لا يحتمله أي الترتيب وقوله عليه السلام ابدءوا بما بدأ الله تعالى لا يدل على أن بداءته تعالى موجبة لبداءتكم لكن تقديمه في القرآن لا يخلو عن مصلحة كالتعظيم أو الأهمية أو غيرهما ولا شك أن هذا يقتضي الأولوية لا الوجوب وإنما الوجوب في الحقيقة بما لاح له عليه السلام من وحي غير متلو وبالنسبة إلى علمنا بقوله ابدءوا وزعم البعض أنه للترتيب عند أبي حنيفة رحمه الله وللمقارنة عندهما استدلالا بوقوع الواحدة عنده والثلاث عندهما في إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق لغير المدخول بها وهذا أي زعم ذلك البعض باطل بل الخلاف راجع إلى أن عنده
____________________
(1/183)
كما يتعلق الثاني والثالث بالشرط بواسطة الأول يقع كذلك فإن المعلق بالشرط كالمنجز عند الشرط وفي المنجز تقع واحدة لأنه لا يبقى المحل للثاني والثالث وعندهما يقع جملة لأن الترتيب في التكلم لا في صيرورته طلاقا أي لا ترتيب في صيرورته هذا اللفظ تطليقا عند الشرط كما إذا كرر ثلاث مرات مع غير المدخول بها قوله إن دخلت الدار فأنت طالق فعند الشرط يقع الثلاث كذا هنا وإن قدم الأجزية أي قال لغير المدخول بها أنت طالق وطالق
____________________
(1/184)
وطالق إن دخلت الدار يقع الثلاث أي اتفاقا لأنه إذا قال إن دخلت الدار تعلق به الأجزية المتوقفة دفعة فإن قيل إذا تزوج أمتين بغير إذن مولاهما ثم أعتقهما المولى معا صح نكاحهما وبكلامين منفصلين أي قال أعتقت هذه ثم قال للأخرى بعد زمان أعتقت هذه أو بحرف العطف أي قال أعتقت هذه وهذه بطل نكاح الثانية فجعلتموه للترتيب هكذا وضع المسألة في أصول شمس الأئمة وأما فخر الإسلام رحمه الله تعالى فقد وضع المسألة هكذا زوج رجل أمتين من رجل بغير إذن مولاهما وبغير إذن الزوج فقوله بغير إذن الزوج لا حاجة إلى التقييد به وعلى تقدير أن يقيد به لا بد أن يقبل النكاح فضولي آخر من قبل الزوج إذ لا يجوز أن يتولى الفضولي الواحد طرفي النكاح وقد قيد في الحواشي كون نكاح الأمتين بعقد واحد اتباعا لوضع المسألة في الجامع الكبير ولا حاجة لنا إلى التقييد به إذ البحث الذي نحن بصدده لا يختلف بكونه بعقد واحد أو بعقدين وفي الجامع الكبير قيد المسألة بعقد واحد لأنه نظم كثيرا من المسائل في سلك واحد وبعض تلك المسائل يختلف حكمه بالعقد الواحد وبعقدين كما إذا كان نكاح الأمتين برضى المولى وبرضاهما دون رضا الزوج فإن هذه المسألة تختلف بالعقد الواحد وبعقدين فلأجل هذا الغرض قيد بعقد واحد وإن أردت معرفة تفاصيله فعليك بمطالعة الجامع الكبير
____________________
(1/185)
وإن زوجه الفضولي أختين بعقدين فأجازهما متفرقا بطل نكاح الثانية وإن أجازهما معا أي قال أجزت نكاحهما أو بحرف العطف أي قال أجزت نكاح هذه وهذه بطلا أي بطل نكاح كل واحدة منهما فجعلتموه للقران فإن قال أعتق أبي في مرض موته هذا وهذا وهذا ولا وارث له ولا مال سوى ذلك فإن أقر متصلا عتق من كل ثلثه وإن سكت فيما بين ذلك عتق الأول ونصف الثاني وثلث الثالث لأنه لما قال أعتق أبي هذا وسكت يعتق كله لأنه يخرج من الثلث لأن المفروض أن قيمة العبيد على السواء فإذا قال بعد السكوت وهذا وسكت فقد عطفه على الأول وموجبه أن يعتق نصف الثاني مع نصف الأول لكن لما عتق كل الأول لا يمكن الرجوع عنه ثم لما قال وهذا فموجبه عتق ثلث الثالث مع عتق ثلث كل من الأولين فيعتق ثلث الثالث ولا يمكن الرجوع عن الأولين فجعلتموه للقران أي جعلتم حرف العطف فيما إذا أقر متصلا للقران بمنزلة قولهم أعتقهم أبي معا لأنه لو لم يكن للقران بل يثبت الترتيب كان كمسألة السكوت قلنا أما الأول فلأنه لما عتقت الأولى لم
____________________
(1/186)
تبق الثانية محلا ليتوقف نكاحها على عتقها فإن نكاح الأمة على الحرة لا يجوز فلم تبق الأمة محلا للنكاح فبطل نكاحها وأما الثاني والثالث فلأن الكلام يتوقف على آخره إذا كان آخره مغيرا بمنزلة الشرط والاستثناء وهاهنا إشارة إلى هاتين المسألتين كذلك أي آخر الكلام مغير لأوله أما في الأختين فلأن إجازة نكاح الثانية توجب بطلان نكاح الأولى وأما في الإخبار بالإعتاق فلأن قوله أعتق أبي هذا يوجب عتق كله ثم قوله وهذا يوجب أن يكون الثلث منقسما بينهما ولا يعتق من الأول إلا بعضه فيكون مغيرا لأول الكلام بخلاف الأمتين أي في المسألة الأولى ليس آخر الكلام مغايرا للأول لأنه إذا قال أعتقت هذه وهذه فإعتاق الثانية لا يغير إعتاق الأولى فلا يتوقف أول الكلام على آخره وفي مسألة الأختين آخر الكلام مغير للأول فيتوقف وقد ذكر في الجامع الحصيري قد قيل لا فرق بين مسألة الأمتين ومسألة الأختين بل إنما جاء الفرق لاختلاف وضع المسألة وهو أن في مسألة الأمتين قال هذه حرة وهذه حرة وفي مسألة الأختين قال أجزت نكاح هذه وهذه فإنه أفرد لكل واحدة منهما تحريرا في مسألة الأمتين فلا يتوقف صدر الكلام على الآخر وفي مسألة
____________________
(1/187)
الأختين لم يفرد فيتوقف حتى لو أفرد هنا صح نكاح الأولى ولو لم يفرد في الأمتين بأن قال أعتقت هذه وهذه عتقا معا وصح نكاحهما وقد تدخل بين الجملتين فلا توجب المشاركة ففي قوله هذه طالق ثلاثا وهذه طالق تطلق الثانية واحدة وإنما تجب هي أي المشاركة إذا افتقر الآخر إلى الأول فيشارك الأول أي آخر الكلام أوله فيما تم به الأول بعينه أي بعين ما تم لا بتقدير مثله أي مثل ما تم إن لم يمتنع الاتحاد أي إن لم يمتنع أن يكون ما تم به الأول متحدا في المعطوف والمعطوف عليه نحو إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق وليس كتكرار قوله إن دخلت الدار فأنت طالق فلا يقع الثلاث عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى هنا بخلاف التكرار فإنه يمكن أن يتعلق الأجزية المتكثرة بشرط متحد فيتعلق طالق وطالق وطالق بعين الشرط المذكور وهو قوله إن دخلت الدار لا بتقدير
____________________
(1/188)
مثلها أي لا يقدر شرط آخر حتى يصير كقوله إن دخلت الدار فأنت طالق إن دخلت الدار فأنت طالق إن دخلت الدار فأنت طالق كما زعم أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وبتقديره أي بتقدير مثله وهو عطف على قوله لا بتقدير مثله إن امتنع أي الاتحاد نحو جاءني زيد وعمرو لا بد أن يكون مجيء زيد غير مجيء عمرو وبعضهم أوجبوا الشركة في عطف الجمل أيضا حتى قالوا إن القران في النظم يوجب القران في الحكم فقالوا في وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة لا تجب الزكاة على الصبي كما لا تجب الصلاة عليه يشبه أن يكون هذا الحكم عندهم بناء على أنه يجب أن يكون المخاطب بأحدهما عين المخاطب بالآخر ولما لم يكن الصبي مخاطبا بقوله تعالى وأقيموا الصلاة لا يكون مخاطبا بقوله تعالى وآتوا الزكاة لكنا نقول إنما لا تجب الزكاة على الصبي لأنها عبادة محضة والصبي ليس من أهلها لا للقران في النظم والقائل بوجوب الزكاة على الصبي يقول الخطاب بالصلاة والزكاة يتناول الصبيان لكن العقل خصهم عن وجوب الصلاة إذ هي عبادة بدنية لا عن وجوب الزكاة إذ هي عبادة مالية يمكن أداء الولي عنه وهذا فاسد عندنا الإشارة راجعة إلى إيجاب الشركة في الجمل لأن الشركة إنما تثبت إذا افتقرت الثانية ففي قوله إن دخلت الدار فأنت طالق وعبدي حر يتعلق العتق بالشرط أيضا لأن الأصل في الواو الشركة وهذه إنما تثبت إذا عطفت على الجزاء فهذه الجملة وإن كانت تامة لكنها في قوة
____________________
(1/189)
المفرد في حكم الافتقار فعطف على الجزاء فتكون الواو على أصلها وعطف الاسمية على مثلها بخلاف وضرتك طالق فإن إظهار الخبر هنا دليل على عدم المشاركة في الجزاء لما ذكرنا أن الشركة بين المعطوف والمعطوف عليه إنما تثبت إذا افتقرت الثانية فقوله وعبدي حر في قوله إن دخلت الدار فأنت طالق وعبدي حر يراد إشكالا لأنها جملة تامة غير مفتقرة إلى ما قبلها فينبغي أن لا يتعلق بالشرط بل يكون كلاما مستأنفا عطفا على المجموع فأجاب بأنها في قوة المفرد في حكم الافتقار مع أنها جملة تامة لأن مناسبتها الجزاء في كونهما جملتين اسميتين ترجع كونها معطوفة على الجزاء لا على مجموع الشرط والجزاء وإذا كانت معطوفة على الجزاء تكون في قوة المفرد لأن جزاء الشرط بعض الجملة
____________________
(1/190)
وأيضا الواو للعطف والأصل في العطف الشركة فتحمل على الشركة ما أمكن وهذا إذا كان المعطوف مفتقرا إلى ما قبله حقيقة كما في المفرد أو حكما كما في الجملة التي يمكن اعتبارها في قوة المفرد فحينئذ يحمل على الشركة لتكون الواو جارية على أصلها بقدر الإمكان أما إذا لم يمكن حملها على الشركة فلا تحمل وهذا إذا كان المعطوف جملة لا تكون في قوة المفرد فلا تكون مفتقرة إلى ما قبلها أصلا كما في وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فالواو وتكون لمجرد النسق والترتيب ففي قوله إن دخلت الدار فأنت طالق وضرتك طالق يمكن حمل قوله وضرتك طالق على الوجهين لكن إظهار الخبر وهو طالق في قوله وضرتك طالق يرجع العطف على المجموع لا على الجزاء لأنه لو كان معطوفا على الجزاء لكي أن يقول وضرتك فقوله بخلاف وضرتك طالق يرجع إلى قوله يتعلق العتق بالشرط ولهذا جعلنا قوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا معطوفا على الجزاء لا على قوله وأولئك هم الفاسقون أي ولأجل ما ذكرنا في قوله وعبدي حر مما يوجب كونه معطوفا على الجزاء وما ذكرنا في قوله وضرتك طالق من قيام الدليل على عدم المشاركة في الجزاء جعلنا قوله تعالى ولا تقبلوا إلخ معطوفا على الجزاء فإن قوله ولا تقبلوا جملة إنشائية مثل قوله تعالى فاجلدوا والمخاطب بهما الأئمة وقوله تعالى وأولئك جملة إخبارية وليس الأئمة مخاطبين بها فدليل المشاركة في الجزاء قائم ولا تقبلوا ودليل عدم المشاركة في أولئك فعطفنا الأول على الجزاء لا الآخر وثمرة هذا تأتي في آخر فصل الاستثناء إن شاء الله تعالى الفاء للتعقيب فلهذا تدخل في الجزاء فإن قال إن دخلت هذه الدار فهذه الدار فأنت طالق فالشرط أن تدخل على الترتيب من غير تراخ وقد تدخل على المعلول نحو جاء الشتاء فتأهب وقد يكون المعلول عين العلة في الوجود
____________________
(1/191)
لكن في المفهوم غيرها نحو سقاه فأرواه ونحو قوله عليه السلام لن يجزي ولد والده حتى يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه فإن قال بعت هذا العبد منك فقال الآخر فهو حر يكون قبولا بخلاف هو حر ولو قال لخياط أيكفيني هذا الثوب قميصا فقال نعم فقال فاقطعه فقطعه فإذا هو لا يكفيه يضمن كما لو قال إن كفاني فاقطعه بخلاف قوله اقطعه وقد تدخل على العلل نحو أبشر فقد أتاك الغوث ونظيره أد إلي ألفا فأنت حر يعتق في الحال وكذا انزل فأنت آمن
____________________
(1/192)
اعلم أن أصل الفاء أن تدخل على المعلول لأنها للتعقيب والمعلول يعقب العلة وإنما تدخل على العلل لأن المعلول إذا كان مقصودا من العلة يكون علة غائية للعلة فتصير العلة معلولا فلهذا تدخل على العلة باعتبار أنها معلول ومن ذلك قوله تعالى وتزودوا فإن خير الزاد التقوى وقول الشاعر ذا ملك لم يكن ذا هبه فدعه فدولته ذاهبه ونظائره كثيرة وإنما قلنا يعتق في الحال لأن قوله فأنت حر معناه لأنك حر ولا يمكن أن يكون فأنت حر جوابا للأمر لأن جواب الأمر لا يقع إلا الفعل المضارع لأن الأمر إنما يستحق الجواب بتقدير إن وكلمة إن تجعل الماضي بمعنى المستقبل والجملة الاسمية الدالة على الثبوت بمعنى المستقبل وإنما تجعل ذلك إذا كانت ملفوظة أما إذا كانت مقدرة فلا كما تقول إن تأتني أكرمتك ولا تقول ائتني أكرمتك بل يجب أن تقول ائتني أكرمك فكذا في الجملة الاسمية تقول إن تأتني فأنت مكرم ولا تقول ائتني فأنت مكرم فكما لا تجعل إن المقدرة الماضي بمعنى المستقبل فكذلك لا تجعل الاسمية بمعنى المستقبل أيضا بل أولى لأن مدلول الجملة الاسمية بعيد من المستقبل ومدلول الماضي قريب إليه لاشتراكهما في كونهما فعلا ودلالتهما على الزمان فلما لم تجعل الماضي بمعنى المستقبل لم تجعل الاسمية بمعناه بالطريق الأولى ما ثم للترتيب مع التراخي وهو أي الترتيب مع التراخي راجع إلى التكلم عنده أي عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وإلى الحكم عندهما فإن قال أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن
____________________
(1/193)
دخلت الدار فعندهما يتعلقن جميعا وينزلن مرتبا فإن كانت مدخولا بها يقع الثلاث وإن لم تكن مدخولا بها تقع واحدة وكذا إن قدم الشرط وعنده في غير المدخول بها أي عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى في غير المدخول بها إذا قدم الجزاء وإنما لم نذكر تقديم الجزاء لأنه يأتي هناك قوله وإن قدم الشرط فيدل على أن البحث السابق في تقديم الجزاء يقع الأول أي في الحال لعدم تعلقه بالشرط كأنه قال أنت طالق وسكت لأن التراخي عنده إنما هو في التكلم ويلغو الباقي لعدم المحل لأن المرأة غير مدخول بها وإن قدم الشرط تعلق الأول ونزل الثاني أي وقع في الحال لعدم تعلقه بالشرط كأنه قال إن دخلت الدار فأنت طالق وسكت ثم قال وأنت طالق ولغا الثالث لعدم المحل وفائدة تعلق الأول أنه إن ملكها ثانيا ووجد الشرط يقع الطلاق وفي المدخول بها أي إن قدم الجزاء ولم يذكره للعذر السابق نزل الأول والثاني أي يقعان في الحال لعدم تعلقهما بالشرط لها كأنه سكن عنهما ثم قال أنت طالق إن دخلت الدار ولما كانت المرأة مدخولا بها تكون محلا فيقع تطليقتان وتعلق الثالث لقربه بالشرط وإن قدم أي الشرط تعلق الأول ونزل الباقي وهذا ظاهر وإنما جعل أبو حنيفة رحمه الله تعالى التراخي راجعا إلى التكلم لأن التراخي في الحكم مع
____________________
(1/194)
عدمه في التكلم ممتنع في الإنشاءات لأن الأحكام لا تتراخى عن التكلم فيها فلما كان الحكم متراخيا كان التكلم متراخيا تقديرا كما في التعليقات فإن قوله إن دخلت الدار فأنت طالق يصير كأنه قال عند الدخول أنت طالق وليس هذا القول في الحال تطليقا أي تكلما بالطلاق بل يصير تطليقا عند الشرط بل للإعراض عما قبله وإثبات ما بعده على سبيل التدارك نحو جاءني زيد بل عمرو فلهذا قال زفر في قوله له علي ألف درهم بل ألفان يجب ثلاثة آلاف لأنه لا يملك إبطال الأول كقوله أنت طالق واحدة بل ثنتين تطلق ثلاثا قلنا الإخبار يحتمل التدارك وذا في العرف نفي انفراده ذا إشارة إلى التدارك أي التدارك في الإعداد بكلمة بل يراد به نفي الانفراد عرفا نحو سني ستون بل سبعون بخلاف الإنشاء فإنه لا يحتمل الكذب أي الإنشاء لا يحتمل التدارك لأن المراد بالتدارك تدارك الكذب والإنشاء
____________________
(1/195)
لا يحتمل الكذب فقلنا تعقيب لقوله بخلاف الإنشاء أي لما لم يكن الإنشاء محتملا للصدق والكذب قلنا تقع الواحدة إذا قال ذلك أي قوله أنت طالق واحدة بل ثنتين لغير المدخول بها فإنه إذا قال لغير المدخول بها أنت طالق واحدة وقعت واحدة لا يمكن التدارك والإبطال لكونه إنشاء فإذا وقعت واحدة لم يبق المحل ليقع بقوله بل ثنتين بخلاف التعليق وهو قوله لغير المدخول بها إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة بل ثنتين فإنه يقع الثلاث عند الشرط لأنه قصد إبطال الأول أي الكلام الأول وهو تعليق الواحدة بالشرط وإفراد الثاني بالشرط مقام الأول أي قصد تعليق الكلام الثاني بالشرط حال كونه منفردا غير منضم إلى الأول ولا يملك الأول أي الإبطال المذكور ويملك الثاني أي الإفراد المذكور فتعلق بشرط آخر أي تعلق الثاني وهو قوله ثنتين بشرط آخر فاجتمع تعليقان أحدهما إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة والثاني إن دخلت الدار فأنت طالق ثنتين فإذا وجد الشرط وقع الثلاث فصار كما إذا قال لا بل أنت طالق ثنتين إن دخلت الدار بخلاف الواو فإنه العطف على تقدير الأول فيتعلق الثاني بواسطة الأول كما قلنا أي بخلاف ما إذا قال لغير المدخول بها إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق فإن الواو للعطف مع تقرير الأول فيتعلق الثاني بعين ما تعلق به الأول بواسطة الأول فعند وجود الشرط يكون
____________________
(1/196)
الوقوع على الترتيب ولما لم يبق المحل بوقوع الأول لا يقع الثاني والثالث كما قلنا في حرف الواو لكن للاستدراك بعد النفي إذا دخل في المفرد وإن دخل في الجملة يجب اختلاف ما قبلها وما بعدها وهي بخلاف بل اعلم أن لكن للاستدراك فإن دخل في المفرد يجب أن يكون بعد النفي نحو ما رأيت زيدا لكن عمرا فإنه يتدارك عدم رؤية زيد برؤية عمرو وإن دخل في الجملة لا يجب كونه بعد النفي بل يجب اختلاف الجملتين في النفي والإثبات فإن كانت الجملة التي قبل لكن مثبتة وجب أن تكون الجملة التي بعدها منفية وإن كانت التي قبلها منفية وجب أن تكون التي بعدها مثبتة وهي بخلاف بل في أن بل للإعراض عن الأول ولكن ليست للإعراض عن الأول فإن أقر لزيد بعبد فقال زيد ما كان لي قط
____________________
(1/197)
لكن لعمرو فإن وصل فلعمرو وإن فصل فللمقر لأن النفي يحتمل أن يكون تكذيبا لإقراره فيكون أي النفي ردا إلى المقر ويمكن أن لا يكون تكذيبا إذ يجوز أن يكون العبد معروفا بكونه لزيد ثم وقع في يد المقر فأقر به لزيد فقال زيد العبد وإن كان معروفا بأنه لي لكنه كان في الحقيقة لعمرو فقوله لكنه لعمرو بيان تغيير لذلك النفي فيتوقف بيان عليه أي على قوله لكن لعمرو بشرط الوصل لأن بيان التغيير لا يصح إلا موصولا وقد ذكرنا في المتن أنه بيان تغيير لأن ظاهر كلامه يدل على الاحتمال الأول المذكور في المتن وقد عرف في بيان التغيير أن صدر الكلام موقوف على الآخر فيثبت حكمهما معا لا أنه يثبت الحكم في الصدر ثم يخرج البعض وعلى هذا قالوا في المقتضى له بدار بالبينة إذا قال ما كانت لي قط لكنها لزيد وقال زيد باع مني أو وهب لي بعد القضاء أن الدار لزيد وعلى المقتضى له القيمة للمقضي عليه لأنه إذا وصل فكأنه تكلم بالنفي والاستدراك معا فيثبت معا موجبهما وهو النفي عن نفسه وثبوت ملك لزيد ثم تكذيب الشهود وإثبات ملك المقضي عليه لازم لذلك النفي فيثبت الملك لعمرو بعد ثبوت موجبي الكلامين وهما النفي عن نفسه وثبوت ملك لزيد فيكون حجة عليه أي على المقضي له لا على زيد فيضمن القيمة ثم إن اتسق الكلام تعلق ما بعده
____________________
(1/198)
بما قبله يرجع إلى أول البحث وهو أن لكن للاستدراك فينظر أن الكلام مرتبط أم لا أي يصلح أن يكون ما بعد لكن تداركا لما قبلها أولا فإن صلح يحمل على التدارك وإلا فهو كلام مستأنف أي وإن لم يتسق أي لا يصلح أن يكون ما بعدها تداركا لما قبلها يكون ما بعدها كلاما مستأنفا نحو لك علي ألف قرض فقال المقر له لا لكن غصب الكلام متسق فصح الوصل على أنه نفي السبب لا الواجب فإن قوله لا لا يمكن حمله على نفي الواجب لأنه لو حمل على نفي الواجب لا يستقيم قوله لكن غصب ولا يكون الكلام متسقا
____________________
(1/199)
مرتبطا فحملناه على نفي السبب فلما نفى كونه قرضا تدارك بكونه غصبا فصار الكلام مرتبطا ولا يكون ردا لإقراره بل يكون نفي السبب بخلاف ما إذا تزوجت أمة بغير إذن مولاها بمائة فقال لا أجيز النكاح لكن أجيزه بمائتين ينفسخ النكاح وجعل لكن مبتدأ لأنه لا يمكن إثبات هذا النكاح بمائتين ففي هذه المسألة الكلام غير متسق لأن اتساقه بأن لا يصح النكاح الأول بمائة لكن يصح بمائتين وذا لا يمكن لأنه لما قال لا أجيز النكاح انفسخ النكاح الأول فلا يمكن إثبات ذلك النكاح بمائتين فيكون نفي ذلك النكاح وإثباته بعينه
____________________
(1/200)
فعلم أنه غير متسق فحملنا قوله لكن أجيزه بمائتين على أنه كلام مستأنف فيكون إجازة لنكاح آخر مهره مائتان أو لأحد الشيئين لا للشك فإن الكلام للإفهام وإنما يلزم الشك من المحل وهو الإخبار بخلاف الإنشاء فإنه حينئذ للتخيير كآية الكفارة فقوله هذا حر أو هذا إنشاء شرعا فأوجب التخيير بأن يوقع العتق في أيهما شاء ويكون هذا أي إيقاع العتق في أيهما شاء إنشاء حتى يشترط صلاحية المحل حينئذ أي حين إيقاع العتق في أيهما شاء وإخبار لغة عطف على قوله إنشاء شرعا فيكون بيانه إظهارا للواقع فيجبر عليه أي على البيان اعلم أن هذا الكلام إنشاء في الشرع لكنه يحتمل الإخبار لأنه وضع للإخبار لغة حتى لو جمع بين حر وعبد وقال أحدكما حر أو قال هذا حر أو هذا لا يعتق العبد لاحتمال الإخبار هنا فمن حيث إنه إنشاء شرعا يوجب التخيير أي يكون له ولاية إيقاع هذا العتق في أيهما شاء ويكون هذا الإيقاع إنشاء ومن حيث إنه إخبار لغة يوجب الشك ويكون إخبارا بالمجهول فعليه أن يظهر ما في الواقع وهذا الإظهار لا يكون إنشاء بل إظهارا لما هو الواقع فلما كان للبيان وهو تعيين أحدهما شبهان شبه الإنشاء وشبه الإخبار عملنا بالشبهين فمن حيث إنه إنشاء شرطنا صلاحية المحل عند البيان حتى إذا مات أحدهما فقال أردت الميت لا يصدق ومن حيث إنه إخبار قلنا يجبر على البيان فإنه لا جبر في الإنشاءات بخلاف الإخبارات كما إذا أقر بالمجهول حيث يجبر على البيان
____________________
(1/201)
وهذا ما قيل إن البيان إنشاء من وجه إخبار من وجه وفي قوله وكلت هذا أو هذا أيهما تصرف صح فلهذا أي لما قلنا إن أو في الإنشاءات للتخيير أوجب البعض التخيير في كل أنواع قطع الطريق بقوله تعالى أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض وقلنا ذكر الأجزية مقابلة لأنواع الجناية وهي معلومة عادة من قتل أو قتل وأخذ مال أو أخذ مال أو تخويف فالقتل جزاؤه القتل والقتل والأخذ جزاؤه الصلب وأخذ المال جزاؤه قطع اليد والرجل والتخويف جزاؤه النفي أي الحبس الدائم على أنه ورد في الحديث بيانه على هذا المثال فإن أخذ وقتل فعند أبي حنيفة رحمه الله إن شاء قطع ثم قتل أو صلب وإن شاء قتل أو صلب لأن الجناية تحتمل الاتحاد والتعدد ولهذا قالا في هذا حر أو هذا مشيرا إلى عبده ودابته أنه باطل لأن وضعه لأحدهما الذي هو أعم من كل
____________________
(1/202)
وهو غير صالح لعتق هنا وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يحمل على الواحد للعين مجازا إذ العمل بالحقيقة متعذر ولو قال لعبيده الثلاثة هذا حر أو هذا وهذا يعتق الثالث ويخير في الأولين كأنه قال أحدهما حر وهذا يمكن أن يكون معناه هذا حر أو هذان فيخير بين الأول والأخيرين لكن حمله على قولنا أحدهما حر وهذا أولى لوجهين الأول أنه حينئذ يكون تقديره أحدهما حر وهذا حر وعلى ذلك الوجه يكون تقديره هذا حر أو هذان حران ولفظ حر مذكور في المعطوف عليه لا لفظ حران فالأولى أن يضمر في المعطوف ما هو مذكور في المعطوف عليه والثاني أن قوله أو هذا مغير لمعنى قوله هذا حر ثم قوله وهذا غير مغير لما قبله لأن الواو للتشريك فيقتضي وجود الأول فيتوقف
____________________
(1/203)
أول الكلام على المغير لا على ما ليس بمغير فيثبت التخيير بين الأول والثاني بلا توقف على الثالث فصار معناه أحدهما حر ثم قوله وهذا يكون عطفا على أحدهما وهذان الوجهان تفرد بهما خاطري
____________________
(1/204)
وإذا استعمل أو في النفي يعم نحو ولا تطع منهم آثما أو كفورا أي لا هذا ولا ذاك لأن تقديره لا تطع أحدا منهما فيكون نكرة في موضع النفي فإن قال لا أفعل هذا أو هذا يحنث بفعل أحدهما وإذا قال هذا وهذا يحنث بفعلهما لا بأحدهما لأن المراد المجموع أي لا يحنث بفعل أحدهما لأنه حلف على أنه لا يفعل هذا المجموع فلا يحنث بفعل البعض بل بفعل المجموع إلا أن يدل الدليل على أن المراد أحدهما كما إذا حلف لا يرتكب الزنا وأكل مال اليتيم فإن الدليل دال على أن المراد أحدهما في النفي أي لا يفعل أحدا منهما لا هذا ولا ذاك بأن لا يكون للاجتماع تأثير في المنع أي دلالة الدليل على أن المراد أحدهما إنما تثبت بأن لا يكون للاجتماع تأثير في المنع واعلم أن هذا اليمين للمنع فإن كان لاجتماع الأمرين تأثير في المنع أي إنما منعه لأجل الاجتماع فالمراد نفي المجموع كما إذا حلف لا يتناول السمك واللبن فهاهنا للاجتماع تأثير في المنع فإن تناول أحدهما لا يحنث أما في الصورة الأولى فالدليل دال على أنه إنما حلف لأجل أن كل واحد منهما محرم في الشرع فالمراد نفي كل واحد منهما فيحنث بفعل أحدهما وأيضا كما أن الواو للجمع فإنها أيضا
____________________
(1/205)
نائبة عن العامل فيحتمل أن يراد لا يفعل المجموع فلا يحنث بفعل واحد منهما ويحتمل أن يراد لا يفعل هذا ولا يفعل هذا فيتعدد اليمين فيحنث بفعل كل واحد منهما فيحتاج إلى الترجيح بدلالة الحال وهو ما ذكرنا فاحفظ هذا البحث فإنه بحث بديع محتاج إليه في كثير من المسائل وقد تكون للإباحة نحو جالس الفقهاء أو المحدثين والفرق بينها وبين التخيير أن المراد فيه أحدهما فلا يملك الجمع بينهما بخلاف الإباحة فله أن يجالس كلا الفريقين اعلم أن المراد بالتخيير منع الجمع وبالإباحة منع الخلو
____________________
(1/206)
ويعرف بدلالة الحال أن المراد أيهما فعلى هذا قالوا في لا أكلم أحدا إلا فلانا أو فلانا له أن يكلمهما لأن الاستثناء من الحظر إباحة وقد يستعار لحتى كقوله تعالى ليس لك من
____________________
(1/207)
الأمر شيء أو يتوب عليهم لأن أحدهما يرتفع بوجود الآخر كالمغيا يرتفع بالغاية فإن حلف لا أدخل هذه الدار أو أدخل تلك الدار فإن دخل الأولى أولا حنث وإن دخل الثانية أولا بر حتى للغاية نحو حتى مطلع الفجر وحتى رأسها وقد تجيء للعطف فيكون المعطوف إما أفضل أو أخس وتدخل على جملة مبتدأة فإن ذكر الخبر نحو ضربت القوم حتى زيد غضبان
____________________
(1/208)
جواب الشرط هنا محذوف أي فبها ونعمت أو فالخبر ذلك وإلا أي وإن لم يذكر الخبر يقدر من جنس ما تقدم نحو أكلت السمكة حتى رأسها بالرفع أي مأكول إن دخلت الأفعال فإن احتمل الصدر الامتداد والآخر الانتهاء إليه فللغاية نحو حتى يعطوا الجزية حتى تستأنسوا وإلا فإن صلح لأن يكون سببا للثاني يكون بمعنى كي نحو أسلمت حتى أدخل الجنة وإلا فللعطف المحض فإن قال عبدي حر إن لم أضربك حتى تصيح حنث إن أقلع قبل الصياح لأن حتى للغاية في مثل هذه الصورة وإن قال عبدي حر إن لم آتك حتى تغديني
____________________
(1/209)
فأتاه فلم يغده لم يحنث لأن قوله حتى تغديني لا يصلح للانتهاء بل هو داع إلى الإتيان ويصلح سببا والغداء جزاء فحمل عليه ولو قال حتى أتغدى عندك فللعطف المحض لأن فعله لا يصلح جزاء لفعله فصار كقوله إن لم آتك فأتغدى عندك حتى إذا تغدى من غير تراخ بر وليس لهذا أي للعطف المحض نظير في كلام العرب بل اخترعوه أي الفقهاء استعارة
____________________
(1/210)
حروف الجر الباء للإلصاق والاستعانة فتدخل على الوسائل كالأثمان فإن قال بعت هذا العبد بكر يكون بيعا وفي بعت كرا بالعبد يكون سلما فتراعى شرائطه ولا يجري الاستبدال في الكر بخلاف الأول قال لا تخرج إلا بإذني يجب لكل خروج إذن لأن معناه إلا خروجا ملصقا بإذني وفي إلا أن آذن لا أي إن قال لا تخرج إلا أن آذن لا يجب لكل خروج إذن بل إن أذن مرة واحدة فخرج ثم خرج مرة أخرى بغير إذنه لا يحنث قالوا لأنه استثنى الإذن من الخروج لأن أن مع الفعل المضارع بمعنى المصدر والإذن ليس من جنس الخروج فلا يمكن إرادة المعنى الحقيقي وهو الاستثناء فيكون مجازا عن الغاية والمناسبة بين الاستثناء والغاية ظاهرة فيكون معناه إلى أن آذن فيكون الخروج ممنوعا إلى وقت وجود الإذن وقد وجد مرة فارتفع المنع
أقول يمكن تقريره على وجه آخر وهو أن أن مع الفعل المضارع بمعنى المصدر والمصدر قد يقع حينا لسعة الكلام تقول آتيك
____________________
(1/211)
خفوق النجم أي وقت خفوق النجم فيكون تقديره لا تخرج وقتا إلا وقت إذني فيجب لكل خروج إذن ويمكن أن يجاب عنه بأنه على هذا التقدير يحنث إن خرج مرة أخرى بلا إذن وعلى التقدير الأول لا يحنث فلا يحنث بالشك وقالوا إن دخلت الباء في آلة المسح نحو مسحت الحائط بيدي يتعدى إلى المحل فيتناول كله وإن دخلت في المحل نحو وامسحوا برءوسكم لا يتناول كل المحل تقديره ألصقوها برءوسكم اعلم أن الآلة غير مقصودة بل هي واسطة بين الفاعل والمنفعل في وصول أثره إليه والمحل هو المقصود في الفعل المتعدي فلا يجب استيعاب الآلة بل يكفي منها ما يحصل به المقصود بل يجب استيعاب المحل في مسحت الحائط بيدي لأن الحائط اسم المجموع وقد وقع مقصودا
____________________
(1/212)
فيراد كله بخلاف اليد فإذا دخلت الباء في المحل وهي حرف مخصوص بالآلة فقد شبه المحل بالآلة فلا يراد كله وإنما ثبت استيعاب الوجه في التيمم وإن دخل الباء في المحل في قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم لأن المسح خلف عن الغسل والاستيعاب ثابت فيه فكذا في خلفه أو لحديث عمار وهو مشهور يزاد به على الكتاب على للاستعلاء ويراد به الوجوب لأن الدين يعلوه ويركبه معنى ويستعمل للشرط نحو يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا وهي في المعاوضات المحضة بمعنى الباء إجماعا مجازا لأن اللزوم يناسب الإلصاق هذا بيان علاقة المجاز وإنما يراد به المجاز لأن المعنى الحقيقي وهو الشرط لا يمكن في المعاوضات المحضة لأنها لا تقبل الخطر والشرط حتى لا تصير قمارا فإذا قال بعت منك هذا العبد على ألف فمعناه بألف وكذا في الطلاق عندهما وعنده للشرط عملا بأصله أي عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى كلمة على في الطلاق للشرط لأن الطلاق يقبل الشرط فيحمل على معناه الحقيقي ففي طلقني ثلاثا على ألف فطلقها واحدة لا يجب ثلث الألف عنده لأنها للشرط عنده وأجزاء الشرط لا تنقسم على أجزاء المشروط ويجب عندهما أي ثلث الألف لأنها بمعنى الباء عندهما فيكون الألف عوضا لا شرطا وأجزاء العوض تنقسم على أجزاء المعوض وأما من فقد مر مسائلها أي في فصل العام في قوله من شئت من عبيدي إلى لانتهاء الغاية فصدر الكلام إن احتمله فظاهر أي
____________________
(1/213)
إن احتمل الانتهاء إلى الغاية وإلا فإن أمكن تعلقه بمحذوف دل الكلام عليه فذاك نحو بعت إلى شهر يتأجل الثمن لأن صدر الكلام وهو البيع لا يحتمل الانتهاء إلى الغاية لكن يمكن تعلق قوله إلى شهر بمحذوف دل الكلام عليه فصار كقوله بعت وأجلت الثمن إلى شهر وإن لم يكن أي وإن لم يمكن تعلقه بمحذوف دل الكلام عليه يحمل على تأخير صدر الكلام إن احتمله أي التأخير نحو أنت طالق إلى شهر ولا ينوي التأخير والتنجيز يقع عند مضي شهر وعند زفر رحمه الله تعالى يقع في الحال فيبطل قوله إلى شهر
____________________
(1/214)
ثم الغاية إن كانت غاية قبل تكلمه نحو بعت هذا البستان من هذا الحائط إلى ذاك وأكلت السمكة إلى رأسها لا تدخل تحت المغيا وإن لم تكن أي وإن لم تكن غاية قبل تكلمه فصدر الكلام إن لم يتناولها فهي لمد الحكم فكذلك نحو أتموا الصيام إلى الليل فإن صدر الكلام لا يتناول الغاية وهي الليل فتكون الآية حينئذ لمد الحكم إليها فقوله فكذلك جواب الشرط أي لا تدخل الغاية تحت المغيا وإن تناولها أي تناول صدر الكلام الغاية نحو اليد فإنها تتناول المرفق فذكرها لإسقاط ما وراءها أي ذكر الغاية يكون لإسقاط ما وراء الغاية نحو إلى المرافق فتدخل تحت المغيا وللنحويين في إلى أربعة مذاهب الدخول إلا مجازا أي دخول حكم الغاية تحت حكم المغيا إلا مجازا وعكسه أي المذهب الثاني هو أن لا تدخل الغاية تحت حكم المغيا إلا مجازا كالمرافق فدخولها تحت حكم المغيا يكون بطريق المجاز على هذا المذهب والاشتراك أي المذهب الثالث هو الاشتراك أي دخول الغاية تحت المغيا في إلى بطريق الحقيقة وعدم الدخول أيضا بطريق الحقيقة والدخول إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها وعدمه إن لم يكن هذا هو المذهب
____________________
(1/215)
216 الرابع وما ذكرنا في الليل وهو أن صدر الكلام لما لم يتناول الغاية لا تدخل تحت حكم المغيا والمرافق وهو أن صدر الكلام لما تناول الغاية دخل تحت حكم المغيا يناسب هذا الرابع أي معنى ما ذكرنا ومعنى ما ذكره النحويون في المذهب الرابع شيء واحد وإنما الاختلاف في العبارة فقط فإن قول النحويين إن الغاية إن كانت من جنس المغيا معناه أن لفظ المغيا إن كان متناولا للغاية وإنما اخترنا هذا المذهب الرابع لأن الأخذ به عمل بنتيجة المذاهب الثلاثة لأن تعارض الأولين أوجب الشك وكذا الاشتراك أوجب الشك فإن كان صدر الكلام لم يتناول الغاية لا يثبت دخولها تحت حكم المغيا بالشك وإن تناولها لا يثبت خروجها بالشك وبعض الشارحين قالوا هي غاية للإسقاط فلا تدخل تحته أي بعض المتأخرين من أصحابنا الذين شرحوا كلام علمائنا المتقدمين رحمهم الله تعالى بينوا بهذا
____________________
(1/216)
الوجه وهو أن إلى للغاية والغاية لا تدخل تحت المغيا مطلقا لكن الغاية هنا ليست الغسل بل للإسقاط فلا تدخل تحت الإسقاط فتدخل تحت الغسل ضرورة وذلك لأن اليد لما كانت اسما للمجموع لا تكون الغاية غاية لغسل المجموع لأن غسل المجموع إلى المرافق محال فقوله إلى المرافق يفهم منه سقوط البعض ومعلوم أن البعض الذي سقط غسله هو البعض الذي يلي الإبط فقوله إلى المرافق غاية لسقوط غسل ذلك البعض فلا يدخل تحت السقوط فإن قال له علي من درهم إلى عشرة يدخل الأول للضرورة لأنه جزء لما فوقه والكل
____________________
(1/217)
بدون الجزء محال لا الآخر عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيجب تسعة وعندهما تدخل الغايتان فتجب عشرة لأن العشرة لا توجد إلا بعشرة أجزاء وعند زفر لا تدخل الغايتان فتجب ثمانية وتدخل الغاية في الخيار عنده أي إذا باع على أنه بالخيار إلى غد يدخل الغد في الخيار أي يكون الخيار ثابتا في الغد عند أبي حنيفة رحمه الله لأن قوله على أنه بالخيار يتناول ما فوقه فقوله إلى الغد لإسقاط ما وراءه وكذا في الأجل واليمين في رواية الحسن عنه أي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى لما ذكرنا في المرافق أما الأجل فنحو
____________________
(1/218)
بعت إلى رمضان أي لا أطلب الثمن إلى رمضان وأما اليمين فنحو لا أكلم زيدا إلى رمضان فإن قوله لا أطلب الثمن ولا أكلم يتناول العمر فقوله إلى رمضان لإسقاط ما وراءه في للظرف والفرق ثابت بين إثباته وإضماره نحو صمت هذه السنة يقتضي الكل بخلاف صمت في هذه السنة فلهذا في أنت طالق غدا يقع في أول النهار ليكون واقعا في جميع الغد وفي الغد إن نوى آخر النهار يصح ولو قال أنت طالق في الدار تطلق في الحال إلا أن ينوي في دخولك الدار فيتعلق به وقد تستعار للمقارنة إن لم تصلح ظرفا نحو أنت طالق في دخولك الدار فتصير بمعنى الشرط فلا يقع بأنت طالق في مشيئة الله ويقع في علم الله لأنه يراد به المعلوم اعلم أن التعليق بالمشيئة متعارف لا التعليق بالعلم فلا يقال أنت طالق إن علم الله وذلك لأن مشيئة الله تعالى متعلقة ببعض الممكنات دون البعض فأما علم الله تعالى فإنه متعلق بجميع الممكنات والممتنعات فقوله في علم الله لا يراد به التعليق فالمراد أن هذا ثابت في معلوم الله
____________________
(1/219)
____________________
(1/220)
أسماء الظروف مع للمقارنة فيقع ثنتان إن قال لغير المدخول بها أنت طالق واحدة مع واحدة وقبل للتقديم فتقع واحدة إن قال لها أي لغير المدخول بها أنت طالق واحدة قبل واحدة لأن القبلية صفة للطلاق المذكور أولا فلم يبق محلا للآخر وثنتان لو قال قبلها أي
____________________
(1/221)
تقع ثنتان إن قال لغير المدخول بها أنت طالق واحدة قبلها واحدة لأن الطلاق المذكور أولا واقع في الحال والذي وصف بأنه قبل هذا الطلاق الواقع في الحال يقع أيضا في الحال بناء على أنه لو قال أنت طالق أمس يقع في الحال فيقعان معا وبعد على العكس أي لو قال لغير المدخول بها أنت طالق واحدة بعد واحدة تقع ثنتان لما بينا في قوله قبل واحدة ولو قال لها أنت طالق واحدة بعدها واحدة تقع واحدة لما بينا في قوله قبل واحدة وعند للحضرة فقوله لفلان عندي ألف يكون وديعة لأنه لا يدل على اللزوم كلمات الشرط إن
____________________
(1/222)
للشرط فقط فتدخل في أمر على خطر الوجود فإن قال إن لم أطلقك فأنت طالق فالشرط وهو عدم الطلاق يتحقق عند الموت فيقع في آخر الحياة وإذا عند الكوفيين يجيء للظرف وللشرط نحو وإذا يحاس الحيس يدعى جندب ونحو وإذا تصبك خصاصة فتجمل وعند البصريين حقيقة في الظرف وقد يجيء للشرط بلا سقوط معنى الظرف ودخوله في أمر كائن أو منتظر لا محالة
ومتى للظرف خاصة فيقع بأدنى سكوت في متى لم أطلقك أنت طالق لأنه وجد وقت لم يطلق فيه وإن قال إذا أي إن قال إذا لم أطلقك فأنت طالق فعندهما كمتى أي كقوله متى لم أطلقك أنت طالق حتى يقع بأدنى سكوت كما في إذا شئت فإنه كمتى شئت لا يتقيد بالمجلس أي لو قال لها طلقي نفسك إذا شئت فإنه كمتى شئت بالاتفاق حتى لا يتقيد بالمجلس بخلاف طلقي نفسك إن شئت فإنه يتقيد بالمجلس فأبو يوسف ومحمد حملا كلمة إذا على كلمة متى في قوله إذا لم أطلقك أنت طالق كما أن إذا محمول على متى باتفاق في قوله طلقي نفسك إذا شئت وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى كان أي قوله إذا لم أطلقك أنت طالق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو كقوله
____________________
(1/223)
____________________
(1/224)
إن لم أطلقك أنت طالق فاحتاج أبو حنيفة رحمه الله تعالى إلى الفرق والفرق أنه لما جاء لكلا المعنيين وقع الشك في مسألتنا في الوقوع في الحال فلا يقع بالشك وثمة في انقطاع تعلقه بالمشيئة فلا ينقطع بالشك أي لما جاء إذا بمعنى متى وبمعنى إن ففي قوله إذا لم أطلقك أنت طالق إن حمل على متى يقع في الحال وإن حمل على إن يقع عند الموت فوقع الشك في الوقوع في الحال فلا يقع بالشك فصار مثل إن وثمة أي في طلقي نفسك إذا شئت لا شك أن الطلاق تعلق في الحال بمشيئتها فإن حمل على إن انقطع تعلقه بالمشيئة وإن حمل على متى لا ينقطع ولا شك أنه في الحال متعلق فلا ينقطع بالشك
وكيف للسؤال عن الحال فإن استقام أي السؤال عن الحال وجواب إن محذوف أي فيها ويحمل على
____________________
(1/225)
السؤال عن الحال وإلا بطلت أي وإن لم يستقم السؤال عن الحال تبقى كلمة كيف ويحنث فيعتق في أنت حر كيف شئت لأنه لا يستقيم السؤال عن الحال فيعتق بقوله أنت حر وبطل كيف شئت واعلم أن كلمة كيف في مثل قوله أنت حر كيف شئت أو أنت طالق كيف شئت ليست للسؤال عن الحال بل صارت مجازا ومعناها أنت حر أو أنت طالق بأية كيفية شئت فعلى هذا المراد بالاستقامة هو أن يصح تعلق الكيفية بصدر الكلام كأنت طالق كيف شئت فإن الطلاق له كيفية وهي أن يكون رجعيا أو بائنا وأما العتق فلا كيفية له فلا يستقيم تعلق الكيفية بصدر الكلام
وتطلق في أنت طالق كيف شئت وتبقى الكيفية أي كونه رجعيا أو بائنا خفيفة أو غليظة مفوضة إليها إن لم ينو الزوج وإن نوى فإن اتفقا فذاك وإلا فرجعية وهذا لأنه لما فوض الكيفية إليها فإن لم ينو الزوج اعتبر نيتهما وإن نوى الزوج فإن اتفق نيتهما يقع ما
____________________
(1/226)
نويا وإن اختلف فلا بد من اعتبار النيتين أما نيتها فلأنه فوض إليها أو نيته فلأن الزوج هو الأصل في إيقاع الطلاق فإذا تعارضا تساقطا فبقي أصل الطلاق وهو الرجعي
وعندهما يتعلق الأصل أيضا أي في أنت طالق كيف شئت يتعلق أصل الطلاق أي وقوع الطلاق أيضا بمشيئتها فعندهما ما لا يقبل الإشارة أي ما لا يكون من قبيل المحسوسات فحاله وأصله سواء أظن أن هذا مبني على امتناع قيام العرض بالعرض فإن العرض الأول ليس
____________________
(1/227)
محلا للعرض الثاني بل كلاهما حالان في الجسم وليس أحدهما أولى بكونه أصلا ومحلا والآخر بكونه فرعا وحالا ففيما نحن فيه لا نقول إن الطلاق أصل والكيفية عرض قائم به وأن الأصل موجود بدون الفرع بل هما سواء في الأصلية والفرعية لكن لا انفكاك لأحدهما عن الآخر إذ الطلاق لا يوجد إلا وأن يكون رجعيا أو بائنا فإذا تعلق أحدهما بمشيئتها تعلق الآخر
فصل في الصريح والكناية الصريح لا يحتاج إلى النية والكناية تحتاج إليها ولاستتارها لا يثبت بها ما يندرئ بالشبهات فلا يحد بالتعريض نحو لست أنا بزان قالوا وكنايات الطلاق تطلق عليها مجازا لأن معانيها غير مستترة لكن الإبهام فيما يتصل بها كالبائن مثلا فإنه مبهم في أنها بائنة عن أي شيء عن النكاح أو عن غيره فإذا نوى نوعا منها وهو البينونة عن النكاح تعين وتبين بموجب الكلام ولو جعلت كناية حقيقة تطلق رجعية لأنهم
____________________
(1/228)
فسروها بما يستتر منه المراد والمراد المستتر هاهنا الطلاق فيصير كقوله أنت طالق اعلم أن علماءنا رحمهم الله لما قالوا بوقوع الطلاق البائن بقوله أنت بائن وأمثاله بناء على أن موجب الكلام هو البينونة ورد عليهم أن هذه الألفاظ كنايات عندكم والكناية هي ما استتر المراد منها والمراد المستتر هو الطلاق في هذه الألفاظ فيجب أن يقع بها الرجعي كما في أنت طالق فأجاب مشايخنا بأن إطلاق لفظ الكناية على هذه الألفاظ بطريق المجاز كما ذكرنا في المتن فيقع بها البائن لأن موجب الكلام هو البينونة وهذا بناء على تفسير الكناية عندهم ولو فسروها بتفسير علماء البيان يثبت المدعى وهو البينونة ولا يحتاج في الجواب إلى هذا التكلف وهو أن هذه الألفاظ كنايات بطريق المجاز فلهذا قال
____________________
(1/229)
وبتفسير علماء البيان لا يحتاجون إلى هذا التكلف لأنها عندهم أن يذكر لفظ ويقصد بمعناه معنى ثان ملزوم له فيراد بالبائن معناه ثم ينتقل منه بنيته إلى الطلاق فتطلق على صفة البينونة لا أنه أريد به الطلاق يتصل هذا بقوله فيراد بالبائن معناه
إلا في اعتدي فإنه يقع به الرجعي وهو استثناء من قوله فتطلق على صفة البينونة لأنه يحتمل ما يعد من الأقراء فإذا
____________________
(1/230)
نواه اقتضى الطلاق إن كان بعد الدخول وإن كان قبله يثبت بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب ويرد عليه أن المسبب إنما يطلق على السبب إذا كان المسبب مقصودا منه وهاهنا ليس كذلك وكذا استبرئي رحمك بعين هذا الدليل أي الدليل الذي ذكر في اعتدي فيحتمل أنه أمرها باستبراء الرحم لتتزوج زوجا آخر فإذا نوى اقتضى الطلاق كما مر وكذا أنت واحدة لأنها تحتمل الطلاق فإذا نوى يقع بها الرجعي ولا تبين لعدم دلالته على البينونة
____________________
(1/231)
التقسيم الثالث في ظهور المعنى وخفائه اللفظ إذا ظهر منه المراد يسمى ظاهرا بالنسبة إليه ثم إن زاد الوضوح بأن سيق الكلام له يسمى نصا ثم إن زاد حتى سد باب التأويل والتخصيص يسمى مفسرا ثم إن زاد حتى سد باب احتمال النسخ أيضا يسمى محكما كقوله تعالى وأحل الله البيع وحرم الربا ظاهر في الحل والحرمة نص في التفرقة بينهما أي بين البيع والربا لأنه في جواب الكفار عن قولهم إنما البيع مثل الربا وقوله تعالى مثنى وثلاث ورباع ظاهر في الحل نص في العدد لأن الحل قد علم من غير هذه الآية ولأنه إذا ورد الأمر بشيء مقيد ولا يكون ذلك الشيء واجبا فالمقصود إثبات هذا القيد نحو قوله عليه الصلاة والسلام بيعوا سواء بسواء ونظير المفسر قوله تعالى
____________________
(1/232)
فسجد الملائكة كلهم أجمعون أو قوله تعالى قاتلوا المشركين كافة والمحكم قوله تعالى إن الله بكل شيء عليم
وقوله عليه الصلاة والسلام الجهاد ماض إلى يوم القيامة النظير أن الأولان للمفسر والمحكم مذكوران في كتب الأصول وفي التمثيل بهما نظر لأن الفرق بين المفسر والمحكم أن المفسر قابل للنسخ والمحكم غير قابل له والمثالان المذكوران وهما قوله تعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون وقوله تعالى إن الله بكل شيء عليم في ذلك سواء بحسب اللفظ لأنهم إن أرادوا قبول النسخ وعدمه بحسب اللفظ فكل منهما مفسر إذ ليس في الآيتين ما يمنع النسخ بحسب اللفظ وإن أرادوا بحسب محل الكلام أو أعم من كل منهما فكل منهما محكم لأن الإخبار بسجود الملائكة لا يقبل النسخ كما أن الإخبار بعلم الله لا يقبله فلأجل هذا أوردت مثالين في الحكم الشرعي ليظهر الفرق بين المفسر والمحكم فقوله تعالى قاتلوا المشركين كافة مفسر لأن قوله كافة سد لباب التخصيص لكنه يحتمل النسخ لكونه حكما شرعيا وقوله عليه السلام الجهاد ماض إلى يوم القيامة محكم لأن قوله إلى يوم القيامة سد لباب النسخ
____________________
(1/233)
____________________
(1/234)
والكل يوجب الحكم إلا أنه يظهر التفاوت عند التعارض وإذا خفي فإن خفي لعارض يسمى خفيا وإن خفي لنفسه فإن أدرك عقلا فمشكل أو بل نقلا فمجمل أو لا أصلا فمتشابه فالخفي كآية السرقة خفيت في حق النباش والطرار لاختصاصهما باسم آخر فينظر إن كان الخفاء لمزية يثبت فيه الحكم ولنقصان لا والمشكل إما لغموض في المعنى نحو وإن كنتم جنبا فاطهروا فإن غسل ظاهر البدن واجب وغسل باطنه ساقط فوقع الإشكال في الفم فإنه باطن من وجه حتى لا يفسد الصوم بابتلاع الريق وظاهر من وجه حتى لا يفسد بدخول شيء
____________________
(1/235)
في الفم فاعتبرنا الوجهين فألحق بالظاهر في الطهارة الكبرى
حتى وجب غسله في الجنابة وبالباطن في الصغرى فلا يجب غسله في الحدث الأصغر وهذا أولى من العكس لأن قوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا بالتشديد يدل على التكلف والمبالغة لا قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم أو لاستعارة بديعة نحو قوارير من فضة فقوله
____________________
(1/236)
أو لاستعارة عطف على قوله والمشكل إما لغموض في المعنى وإنما أشكل هذا بسبب الاستعارة لأن القارورة تكون من الزجاج لا من الفضة فالمراد أن صفاءها صفاء الزجاج وبياضها بياض الفضة والمجمل كآية الربا فإن قوله تعالى وحرم الربا مجمل لأن الربا في اللغة هو الفضل وليس كل فضل حراما بالإجماع ولم يعلم أن المراد أي فضل فيكون مجملا ثم لما بين النبي صلى الله عليه وسلم الربا في الأشياء الستة احتيج بعد ذلك إلى الطلب والتأمل ليعرف علة الربا
____________________
(1/237)
والحكم في غير الأشياء الستة والمتشابه كالمقطعات في أوائل السور واليد والوجه ونحوهما وحكم الخفي الطلب والمشكل الطلب ثم التأمل والمجمل الاستفسار ثم الطلب ثم التأمل إن احتيج إليهما كما في الربا والمتشابه التوقف أي حكم المتشابه التوقف فهذا من باب العطف على معمولي عاملين والمجرور مقدم نحو في الدار زيد والحجرة عمرو وعلى اعتقاد الحقية عندنا على قراءة الوقف على إلا الله في قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا فبعض العلماء قرأ بالوقف على إلا الله وقفا لازما والبعض قرأ بلا وقف فعلى الأول والراسخون غير عالمين بالمتشابهات وهو مذهب علمائنا وهذا أليق بنظم القرآن حيث جعل اتباع المتشابهات حظ الزائغين والإقرار بحقيقته مع العجز عن دركه حظ الراسخين وهذا يفهم من قوله تعالى آمنا به كل من عند ربنا أي سواء علمنا أو لم نعلم والأليق بهذا المقام أن يكون قوله تعالى ربنا لا تزغ قلوبنا سؤالا للعصمة عن الزيغ السابق ذكره الداعي إلى اتباع المتشابهات الذي يوقع صاحبه في الفتنة والضلالة وأيضا على ذلك المذهب يقولون آمنا خبر مبتدأ محذوف والحذف خلاف الأصل فكما ابتلي من له ضرب جهل بالإمعان في
____________________
(1/238)
____________________
(1/239)
السير أي في طلب العلم والمراد بذل المجهود والطاقة في طلب العلم ابتلي الراسخ في العلم بالتوقف أي عن طلبه وهذا جواب إشكال وهو أن الكلام للإفهام فلما لم يكن للراسخين في العلم حظ في العلم بالمتشابهات فما الفائدة في إنزال المتشابهات فنجيب أن الفائدة هي الابتلاء فكما ابتلي الجاهل بالمبالغة في طلب العلم ابتلي الراسخ بكبح عنان ذهنه عن التأمل والطلب فإن رياضة البليد تكون بالعدو ورياضة الجواد تكن بكبح العنان والمنع عن السير وهذا أعظمها بلوى وأعمها جدوى أي هذا النوع من الابتلاء أعظم النوعين بلوى والنوعان من الابتلاء ما ذكرنا من ابتلاء الجاهل والعالم وإنما كان أعظمهما بلوى لأن هذا الابتلاء هو أن يسلم ذلك إلى الله تعالى ويفوضه إليه ويلقي نفسه في مدرجة العجز والهوان ويتلاشى علمه في علم الله ولا يبقى له في بحر الفناء اسم ولا رسم وهذا منتهى إقدام الطالبين وقد قيل العجز عن درك الإدراك إدراك مسألة قيل الدليل اللفظي لا يفيد اليقين لأنه مبني على نقل اللغة والنحو والصرف وعدم الاشتراك والمجاز والإضمار والنقل أي يكون منقولا من الموضوع له إلى معنى آخر والتخصيص والتقديم وقد أوردوا في مثاله وأسروا النجوى الذين ظلموا
____________________
(1/240)
تقديره والذين ظلموا أسروا النجوى كي لا يكون من قبيل أكلوني البراغيث والتأخير والناسخ والمعارض العقلي وهي ظنية أما الوجوديات وهي نقل اللغة والصرف والنحو فلعدم عصمة الرواة وعدم التواتر وأما العدميات وهي من قوله وعدم الاشتراك إلى آخره فلأن مبناها على الاستقراء وهذا باطل أي ما قيل إن الدليل اللفظي لا يفيد اليقين لأن بعض اللغات والنحو والتصريف بلغ حد التواتر كاللغات المشهورة غاية الشهرة ورفع
____________________
(1/241)
الفاعل ونصب المفعول وأن ضرب وما على وزنه فعل ماض وأمثال ذلك
فكل تركيب مؤلف من هذه المشهورات قطعي كقوله تعالى إن الله بكل شيء عليم ونحن لا ندعي قطعية جميع النقليات ومن ادعى أن لا شيء من التركيبات بمفيد للقطع بمدلوله فقد أنكر جميع المتواترات كوجود بغداد فما هو إلا محض السفسطة والعناد
والعقلاء لا يستعملون الكلام في خلاف الأصل عند عدم القرينة وأيضا قد نعلم بالقرائن القطعية أن الأصل هو المراد وإلا تبطل فائدة التخاطب وقطعية المتواتر أصلا واعلم أن العلماء يستعملون العلم القطعي في معنيين أحدهما ما يقطع الاحتمال أصلا كالمحكم والمتواتر والثاني ما يقطع الاحتمال الناشئ عن الدليل كالظاهر والنص والخبر المشهور مثلا فالأول يسمونه علم اليقين والثاني علم الطمأنينة
التقسيم الرابع في كيفية دلالة اللفظ على المعنى فهي على الموضوع له أو جزئه أو لازمه المتأخر عبارة إن سيق الكلام له وإشارة إن لم يسق الكلام له وعلى لازمه المحتاج إليه اقتضاء وعلى الحكم في شيء يوجد فيه معنى يفهم لغة أن الحكم في المنطوق لأجله دلالة اعلم أن مشايخنا رحمهم الله تعالى لما قسموا الدلالات على هذه الأربع وجب أن يحمل كلامهم على الحصر لئلا يفسد تقسيمهم فأقول الذي فهمت من كلامهم ومن الأمثلة التي
____________________
(1/242)
أوردوها لهذه الدلالات أن عبارة النص دلالته على المعنى المسوق له سواء كان ذلك المعنى عين الموضوع له أو جزأه أو لازمه المتأخر وإشارة النص دلالته على أحد هذه الثلاثة إن لم يكن مسوقا له وإنما قلنا ذلك لأن الحكم الثابت بالعبارة في اصطلاحهم يجب أن يكون ثابتا بالنظم ويكون سوق الكلام له والحكم الثابت بالإشارة أن يكون ثابتا بالنظم ولا يكون سوق الكلام له ومرادهم بالنظم اللفظ وقد قالوا قوله تعالى للفقراء المهاجرين الآية سيق لإيجاب سهم من الغنيمة للفقراء المهاجرين وفيه إشارة إلى زوال ملكهم عما خلفوا في دار الحرب والمعنى الأول وهو إيجاب سهم من الغنيمة لهم هو المعنى الموضوع له وقد جعلوه عبارة فيه فيكون المعنى الموضوع له ثابتا بالنظم والمعنى الثاني وهو زوال ملكهم عما خلفوا في دار الحرب جزء الموضوع له لأن الفقراء هم الذين لا يملكون شيئا فكونهم بحيث لا يملكون شيئا مما خلفوا في دار الحرب جزء لكونهم بحيث لا يملكون شيئا فيكون جزء الموضوع له فلما سمعوا دلالته على زوال ملكهم عما خلفوا إشارة والإشارة ثابتة بالنظم فيكون جزء الموضوع له ثابتا بالنظم وأما أن اللازم المتأخر ثابت بالنظم عندهم فلأنهم قالوا إن قوله تعالى وعلى المولود له رزقهن سيق لإيجاب نفقة الزوجات على الزوج الذي ولدن لأجله وهو المعنى الموضوع له فيه إشارة إلى أن الأب منفرد في الإنفاق على الولد إذ لا يشاركه أحد
____________________
(1/243)
في هذه النسبة فكذا في حكمها وهو الإنفاق على الولد وهذا المعنى لازم خارجي للموضوع له متأخر عنه ولما جعلوه إشارة إلى هذا المعنى جعلوا اللازم الخارجي المتأخر ثابتا بالنظم فالمثال الأول عبارة في الموضوع له إشارة إلى جزئه والمثال الثاني عبارة في الموضوع له إشارة إلى لازمه وهو الانفراد بنفقة الأولاد وأيضا إلى جزئه وهو أن النسب إلى الآباء إلى آخر ما ذكرنا في المتن
وإذا قالت المرأة لزوجها نكحت علي امرأة فطلقها فقال إرضاء لها كل امرأة لي فطالق طلقت كلهن قضاء فالمعنى الموضوع له طلاق جميع نسائه وقد سيق الكلام لجزء الموضوع له وهو طلاق بعضهن أي غير هذه المرأة فيكون عبارة في جزء الموضوع له وإشارة إلى الموضوع له وهو طلاق الكل وأيضا إلى الجزء الآخر وهو طلاق هذه المرأة وأيضا إلى لازم الموضوع له وهو لوازم الطلاق كوجوب المهر والعدة ونحوهما وقوله تعالى وأحل الله البيع وحرم الربا سيق اللازم
____________________
(1/244)
المتأخر وهو التفرقة بينهما فيكون عبارة فيه وإشارة إلى الموضوع له وإلى أجزائه وإلى اللوازم الأخر وإنما قيدنا اللازم بالمتأخر لأنهم سموا دلالة اللفظ على اللازم المتقدم اقتضاء وإنما جعلوا كذلك لأن دلالة الملزوم على اللازم المتأخر كالعلة على المعلول أقوى من دلالته على اللازم غير المتأخر كالمعلول على العلة فإن الأولى مطردة دون الثانية إذ لا دلالة للمعلول على العلة إلا أن يكون معلولا مساويا ولأن النص المثبت للعلة مثبت للمعلول تبعا لها أما المثبت للمعلول فغير مثبت لعلته التي هي أصل بالنسبة إلى المعلول فيحسن أن يقال إن المعلول ثابت بعبارة النص المثبت للعلة ولا يحسن أن يقال إن العلة ثابتة بعبارة النص المثبت للمعلول فتبين من هذه الأبحاث حدود العبارة والإشارة والاقتضاء وأما حد دلالة النص فهو قوله على الحكم في شيء أي دلالة اللفظ على الحكم في شيء يوجد فيه معنى يفهم كل من يعرف اللغة أن الحكم في المنطوق لأجل ذلك المعنى يسمى دلالة النص نحو فلا تقل لهما أف يدل على حرمة
____________________
(1/245)
الضرب فالضرب شيء يوجد فيه الأذى والأذى هو معنى يفهم كل من يعرف اللغة أن الحكم بالحرمة في المنطوق وهو التأفيف لأجله ووجه الحصر في هذه الأربع أن المعنى إن كان عين الموضوع له أو جزأه أو لازمه الغير المتقدم عليه فعبارة إن سيق الكلام له وإشارة إن لم يسق وإن كان لازمه المتقدم فاقتضاء وإن لم يكن شيء من ذلك فإن وجد في هذا المعنى علة يفهم كل من يعرف اللغة أن الحكم في المنطوق لأجلها فدلالة نص وإن لم يوجد فلا دلالة له أصلا
وإنما قلنا يفهم كل من يعرف اللغة لأنه إن لم يفهم أحد أو يفهم البعض دون البعض فلا دلالة من حيث اللفظ إذ الدلالة اللفظية إنما اعتبرت بالنسبة إلى كل من هو عالم بالوضع وبهذا القيد خرج القياس فإن المعنى في القياس لا يفهمه كل من يعرف اللغة فإنه لا يفهمه إلا المجتهد هذا هو نهاية أقدام التحقيق والتنقيح في هذا الموضع ولم يسبقني أحد إلى كشف الغطاء عن وجوه هذه الدلالات ومن لم يصدقني فعليه بمطالعة كتب المتقدمين والمتأخرين والله تعالى الموفق كقوله تعالى للفقراء المهاجرين سيق لاستحقاق سهم من الغنيمة لهم وفيه إشارة إلى زوال ملكهم عما خلفوا في دار الحرب وكقوله تعالى وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن
____________________
(1/246)
سيق لإيجاب نفقتها على الولد وفيه إشارة إلى أن النسب إلى الآباء وإلى أن للأب ولاية تملك ماله لأنه نسب إليه فاللام الملك فيقتضي كمال اختصاص الولد واختصاص ماله بأبيه على قدر الإمكان وتملك الولد غير ممكن لكن تملك ماله ممكن فيثبت هذا
وإلى انفراده بالإنفاق على الولد إذ لا يشاركه أحد في هذه النسبة فكذلك في حكمها وإلى أن أجر الرضاع يستغني عن التقدير لأنه تعالى أوجب على الأب رزق أمهات الأولاد من غير تقدير فإن
____________________
(1/247)
أراد استئجار الوالدة لإرضاع ولدها يكون ثابتا بالإشارة وإن أراد استئجار غير الوالدة فثبوته بدلالة النص لا بالإشارة لعدم ثبوته بالمنطوق وقوله تعالى وعلى الوارث مثل ذلك إشارة إلى أن الورثة ينفقون بقدر الإرث لأن العلة هي الإرث لأن النسبة إلى المشتق توجب علية المأخوذ وكقوله تعالى إطعام عشرة مساكين فيه إشارة إلى أن الأصل فيه هو الإباحة والتمليك ملحق به وعند الشافعي لا يجوز لا بالتمليك كما في الكسوة لأن الإطعام جعل الغير طاعما لا جعله مالكا وألحق به التمليك دلالة لأن المقصود قضاء حوائجهم وهي كثيرة فأقيم التمليك مقامها ولا كذلك في الكسوة أي لا يكون الأصل في الكسوة الإباحة لأن الكسوة بالكسر الثوب فوجب أن تصير العين كفارة وإذا بتمليك العين لا إعارة لا إذ هي ترد على المنفعة على أن الإباحة في الطعام تتم المقصود أي سلمنا أن الكسوة بالكسر مصدر لكن الإباحة في الطعام وهي أن يأكلوا على ملك المبيح يتم بها المقصود دون إعارة الثوب وهي أن يلبسوا على ملك المبيح فإنه لا يتم بها المقصود فإن للمبيح ولاية الاسترداد في إعارة الثوب ولا يمكن الرد في الطعام بعد الأكل
____________________
(1/248)
وأما دلالة النص وتسمى فحوى الخطاب فكقوله تعالى فلا تقل لهما أف يدل على حرمة الضرب لأن معنى المفهوم منه وهو الأذى أي المعنى الذي يفهم منه أن التأفيف حرام لأجله وهو الأذى موجود في الضرب بل هو أشد كالكفارة وبالوقاع وجبت عليه أي على الزوج نصا وعليها أي على المرأة دلالة لأن المعنى الذي يفهم موجبا للكفارة هو الجناية على الصوم وهي مشتركة بينهما وكوجوب الكفارة عندنا في الأكل والشرب بدلالة نص ورد في الوقاع لأن المعنى الذي يفهم في الوقاع موجبا للكفارة هو كونه جناية على الصوم فإنه
____________________
(1/249)
الإمساك عن المفطرات الثلاث فيثبت الحكم فيهما بل أولى لأن الصبر عنهما أشد والداعية إليهما أكثر فبالأحرى أن يثبت الزاجر فيهما وكوجوب الحد عندهما في اللواطة بدلالة نص ورد في الزنا فإن المعنى الذي يفهم فيه قضاء الشهوة بسفح الماء في محل محرم مشتهى وهذا موجود في اللواطة بل زيادة لأنها في الحرمة وسفح الماء فوقه أي فوق الزنا أما في الحرمة فلأن حرمة اللواطة لا تزول أبدا وأما في سفح الماء فلأنها تضييع الماء على وجه لا يتخلق منه الولد وفي الشهوة مثله لكنا نقول الزنا أكمل في سفح الماء والشهوة لأن فيه هلاك البشر لأن ولد الزنا هالك حكما وفيه إفساد الفراش أي فراش الزوج لأنه يجب فيه اللعان وتثبت الفرقة بسببه ويشتبه النسب
____________________
(1/250)
وأما تضييع الماء فقاصر أي ما قال من تضييع الماء في اللواطة فقاصر في الحرمة لأنه قد يحل بالعزل والشهوة فيه من الطرفين فيغلب وجوده أي وجود الزنا والترجيح بالحرمة غير نافع أي ترجيح اللواطة على الزنا بالحرمة غير نافع في وجوب الحد لأن الحرمة المجردة بدون هذه المعاني أي المعاني المخصوصة بالزنا وهي إهلاك البشر وإفساد الفراش واشتباه النسب لا توجب الحد كالبول مثلا وكوجوب القصاص بالمثقل عندهما بدلالة قوله عليه السلام لا قود إلا بالسيف يحتمل معنيين أحدهما أن القصاص لا يقام إلا بالسيف الثاني أن لا قود إلا بسبب القتل بالسيف فإن المعنى الذي يفهم موجبا حال من الضمير في يفهم للجزاء الكامل عن انتهاك حرمة النفس متعلق بالجزاء والانتهاك افتعال من النهك وهو القطع يقال سيف نهيك أي قاطع ومعناه قطع الحرمة بما لا يحل في تاج المصادر الانتهاك حرمة كسي شكستن الضرب خبران بما لا يطيقه البدن وقال أبو حنيفة رحمه الله المعنى جرح ينقض البنية ظاهرا وباطنا فإنه حينئذ يقع الجناية قصدا على النفس
____________________
(1/251)
الحيوانية التي بها الحياة فتكون أكمل وكوجوب الكفارة عند الشافعي رحمه الله تعالى في القتل العمد واليمين الغموس بدلالة نص ورد في الخطأ والمعقودة أوجب الشافعي الكفارة في القتل العمد بدلالة نص ورد في الخطأ وهو قوله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة وأوجب الكفارة في الغموس بدلالة نص ورد في المعقودة وهو قوله تعالى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته الآية لأنه لما أوجب القتل الخطأ الكفارة مع وجود العذر فأولى أن تجب بدونه وإذا وجبت الكفارة في المعقودة إذا كذبت فأولى أن تجب في الغموس وهي كاذبة في الأصل لكنا نقول الكفارة عبادة ليصير ثوابها جبرا لما ارتكب فلهذا تؤدى بالصوم وفيها معنى العقوبة فإنها جزاء يزجره عن ارتكاب المحظور فيجب أن يكون سببها دائرا بين الحظر والإباحة كقتل الخطأ والمعقودة فإن اليمين مشروعة والكذب حرام فأما العمد والغموس فكبيرة محضة وهي لا تلائم العبادة
____________________
(1/252)
وهي تمحو الصغائر لا الكبائر وقال الله تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات فإن قيل ينبغي أن لا تجب في القتل بالمثقل لأنه حرام محض هذا إشكال على قوله فيجب أن يكون سببها دائرا بين الحظر والإباحة فإن القتل بالمثقل حرام محض فيجب أن لا تجب فيه الكفارة قلنا فيه شبهة الخطأ أي في القتل بالمثقل شبهة الخطأ فإنه ليس بآلة القتل وهي أي الكفارة مما يحتاط في إثباته فتجب بشبهة السبب والسبب القتل الخطأ فإن قيل ينبغي أن تجب فيما إذا قتل مستأمنا عمدا فإن الشبهة قائمة هذا إشكال على قوله فيه شبهة الخطأ فإن قتل المستأمن فيه شبهة الخطأ بسبب المحل فإن المستأمن كافر حربي فظنه محلا يباح قتله كما إذا قتل مسلما ظنه صيدا أو حربيا وإذا كان فيه شبهة الخطأ ينبغي أن تجب فيه الكفارة كما في القتل بالمثقل تجب الكفارة لشبهة الخطأ
____________________
(1/253)
قلنا الشبهة في محل الفعل فاعتبرت في القود فإنه مقابل بالمحل من وجه لقوله تعالى أن النفس بالنفس فأما الفعل فعمد خالص والكفارة جزاء الفعل وفي المثقل الشبهة في الفعل فأوجبت الكفارة وأسقطت القصاص فإنه جزاء الفعل أيضا من وجه يعني شبهة الخطأ في قتل المستأمن إنما هي في محل الفعل لا في الفعل فإن قتل المستأمن من حيث الفعل عمد محض فاعتبرت الشبهة فيما هو جزاء المحل والقصاص جزاء المحل من وجه فاعتبرت الشبهة فيه حتى لا يجب القصاص بقتل المستأمن ولم تعتبر هذه الشبهة فيما هو جزاء الفعل من كل الوجوه وهو الكفارة فلم تجب الكفارة في قتل المستأمن أما القتل بالمثقل فإن شبهة الخطأ فيه من حيث الفعل فاعتبرت فيما هو جزاء الفعل من كل الوجوه وهو الكفارة حتى وجبت الكفارة فيه وكذا اعتبرت فيما هو جزاء الفعل من وجه وهو القصاص حتى لم يجب القصاص فيه وينبغي أن يعلم أن الشبهة مما تثبت الكفارة وتسقط القصاص وإنما قلنا إن القصاص من وجه جزاء المحل ومن وجه آخر جزاء الفعل أما الأول فلقوله تعالى أن النفس بالنفس وكونه حقا لأولياء المقتول يدل
____________________
(1/254)
على هذا
وأما الثاني فلأنه شرع ليكون زاجرا عن هدم بنيان الرب والزواجر كالحدود والكفارات إنما هي أجزية الأفعال ووجوب القصاص على الجماعة بالواحد يدل على كونه جزاء الفعل والثابت بدلالة النص كالثابت بالعبارة والإشارة إلا عند التعارض وهو فوق القياس لأن المعنى في القياس مدرك رأيا لا لغة بخلاف الدلالة فيثبت بها ما يندرئ بالشبهات ولا يثبت ذا بالقياس أي ما يندرئ بالشبهات كالحدود والقصاص لا يثبت
____________________
(1/255)
بالقياس قال عليه السلام ادرءوا الحدود بالشبهات واعلم أن في بعض المسائل المذكورة في المتن كلاما في أنها ثابتة بدلالة النص أم بالقياس فعليك بالتأمل فيها
____________________
(1/256)
وأما المقتضي فنحو أعتق عبدك عني بألف يقتضي البيع ضرورة صحة العتق فصار كأنه قال بع عبدك عني بألف وكن وكيلي في الإعتاق
فيثبت أي البيع بقدر الضرورة ولا يكون كالملفوظ حتى لا يثبت شروطه أي لا يجب أن يثبت جميع شروطه بل يثبت من الأركان والشروط ما لا يحتمل السقوط أصلا لكن ما يحتمل السقوط في الجملة لا يثبت فقال أبو يوسف رحمه الله تعالى هذا تفريع لما مر أنه لا يثبت شروطه لو قال أعتق عبدك عني بغير شيء أنه يصح عن الآمر وتستغني الهبة عن القبض وهو شرط كما يستغني البيع ثمة عن القبول وهو ركن قلنا يسقط ما يحتمل السقوط والقبول مما يحتمله أي
____________________
(1/257)
القبول باللسان في البيع مما يحتمل السقوط كما في التعاطي لا القبض أي في الهبة ولا عموم للمقتضى أي إذا كان المعنى المقتضى معنى تحته أفراد لا يجب أن يثبت جميع أفراده لأنه ثابت ضرورة فيتقدر بقدرها ولما لم يعم لم يقبل التخصيص في قوله والله لا آكل لأن طعاما ثابت اقتضاء وأيضا لا تخصيص إلا في اللفظ فإن قيل يقدر أكلا وهو مصدر ثابت لغة ودلالة الفعل على المصدر بطريق المنطوق لأنها دلالة تضمينية فالثابت لغة على قسمين حقيقي منطوق كالمصدر ومجازي محذوف نحو واسأل القرية فيصير كقوله لا آكل أكلا ونية التخصيص في لا آكل أكلا صحيحة بالاتفاق
____________________
(1/258)
قلنا المصدر الثابت لغة هو الدال على الماهية لا على الأفراد بخلاف قوله لا آكل أكلا فإن أكلا نكرة في موضع النفي وهي عامة فيجوز تخصيصها بالنية فإن قيل إذا لم يكن لا آكل عاما ينبغي أن لا يحنث بكل أكل قلنا إنما يحنث لأنه مندرج تحت ماهية الأكل فإن قوله لا آكل معناه لا يوجد منه ماهية الأكل وعدم وجود ماهية الأكل موقوف على أن لا يوجد منه فرد من أفراد الأكل أصلا للدلالة على هذا المعنى بطريق الاقتضاء لا لأن اللفظ يدل على جميع الأفراد أي بطريق المنطوق فإن قيل إن قال لا أساكن فلانا ونوى في بيت واحد تصح نيته والبيت ثابت اقتضاء قلنا إنما تصح نيته لأن المساكنة نوعان قاصرة وهي أن يكونا في دار واحدة وكاملة وهي هذه أي المساكنة الكاملة هي التي يسكنان في بيت واحد فنية البيت الواحد لا تكون من باب عموم المقتضى بل من باب نية أحد محتملي اللفظ المشترك أو نية
____________________
(1/259)
أحد نوعي الجنس وسيأتي تمامه في هذا الفصل وقد غيرت هنا عبارة المتن بالتقديم والتأخير هكذا فنوى الكامل ولذلك قلنا في أنت طالق وطلقتك ونوى الثلاث إن نيته باطلة لأن المصدر الذي يثبت من المتكلم إنشاء أمر شرعي لا لغوي فيكون ثابتا اقتضاء بخلاف طلقي نفسك فإنه يصح نية الثلاث لأن معناه افعلي فعل الطلاق فثبوت مصدر في المستقبل بطريق اللغة فيكون كالملفوظ كسائر أسماء الأجناس على ما يأتي فإن قيل ثبوت البينونة في أنت بائن أمر شرعي أيضا فينبغي أن لا يصح فيه نية الثلاث قلنا نعم لكن البينونة على نوعين
____________________
(1/260)
فتصح نية أحدهما ولا كذلك الطلاق فإنه لا اختلاف فيه إلا بالعدد ومما يتصل بذلك المحذوف وهو ما يغير إثباته المنطوق بخلاف المقتضى
نحو واسأل القرية أي أهلها فإثباته يغير الكلام بنقل النسبة من القرية إليه فالمفعول حقيقة هو الأهل فيكون ثابتا لغة فيكون كالملفوظ فيجري فيه العموم والخصوص
قوله ولذلك أي لما ذكر أن المقتضى لا عموم له أصلا لا يصح نية الثلاث في أنت طالق وطلقتك فإن دلالة أنت طالق وطلقتك على الطلاق بطريق الاقتضاء لا بطريق اللغة لأنه من حيث اللغة يدل على اتصاف المرأة بالطلاق لكن لا يدل على ثبوت الطلاق بطريق الإنشاء من المتكلم بهذا اللفظ وإنما ذلك أمر شرعي لا ثابت لغة فإن قيل الطلاق الذي يثبت من المتكلم بطريق الإنشاء كيف يكون ثابتا بالاقتضاء لأن المقتضى في اصطلاحهم هو اللازم والمحتاج إليه وهنا ليس كذلك لأن الطلاق يثبت بهذا اللفظ فثبوته يكون متأخرا فيكون من باب العبارة فيصح فيه نية الثلاث
____________________
(1/261)
قلنا عنه جوابان أحدهما أنه ليس المراد بوضع الشرع هذا اللفظ للإنشاء أن الشرع أسقط اعتبار معنى الإخبار بالكلية ووضعه للإنشاء ابتداء بل الشرع في جميع أوضاعه اعتبر الأوضاع اللغوية حتى اختار للإنشاء ألفاظا تدل على ثبوت معانيها في الحال كألفاظ الماضي والألفاظ المخصوصة بالحال فإذا قال أنت طالق وهو في اللغة للإخبار يجب كون المرأة موصوفة به في الحال فيثبت الشرع الإيقاع من جهة المتكلم اقتضاء ليصح هذا الكلام فيكون الطلاق ثابتا اقتضاء فهذا معنى وضع الشرع للإنشاء وإذا كان الطلاق ثابتا اقتضاء لا يصح فيه نية الثلاث لأنه عموم للمقتضى ولأن نية الثلاث إنما تصح بطريق المجاز من حيث إن الثلاث واحد اعتباري ولا تصح نية المجاز إلا في اللفظ كنية التخصيص وثانيهما أن قوله أنت طالق يدل على الطلاق الذي هو صفة المرأة لغة ويدل على التطليق الذي هو صفة الرجل اقتضاء فالذي هو صفة المرأة لا تصح فيه نية الثلاث لأنه غير متعدد في ذاته وإنما التعدد في التطليق حقيقة وباعتبار تعدده يتعدد لازمه أي الذي هو صفة المرأة فلا تصح فيه نية الثلاث
____________________
(1/262)
وأما الذي هو صفة الرجل فلا يصح فيه نية الثلاث أيضا لأنه ثابت اقتضاء وهذا الوجه مذكور في الهداية والجواب الأول شامل لأنت طالق وطلقتك والثاني مخصوص بأنت طالق وإذا قال أنت طالق طلاقا أو أنت الطلاق فإنه يصح فيهما نية الثلاث ووجهه على هذا الجواب الثاني مشكل لأن الجواب الثاني هو أن الطلاق الذي هو صفة المرأة لا يصح فيه نية الثلاث وفي قوله أنت طالق طلاقا لا شك أن طلاقا هو صفة المرأة فينبغي أن لا يصح فيه نية الثلاث
فنقول إذا نوى الثلاث تعين أن المراد بالطلاق هو التطليق فيكون مصدر الفعل محذوفا تقديره أنت طالق لأني طلقتك تطليقات وقوله ثلاثا أنت الطلاق إذا نوى الثلاث فمعناه أنت ذات وقع عليك التطليقات الثلاث وأما على الجواب
____________________
(1/263)
الأول فلا يجيء هذا الإشكال إذ لم يقل إن الطلاق الذي هو صفة المرأة لا يصح فيه نية الثلاث بل يجوز ذلك والطلاق ملفوظ فيصح فيه نية الثلاث وإن كان صفة للمرأة وقوله كسائر أسماء الأجناس إذا كان كالملفوظ لكنه اسم جنس وهو اسم فرد لا يدل على العدد بل يدل على الواحد الحقيقي أو الاعتباري كسائر أسماء الأجناس إذا كانت ملفوظة لا تدل على العدد بل على الواحد إما حقيقة أو اعتبارا على ما يأتي في فيه أن الأمر لا يدل على العموم والتكرار أن الطلاق اسم فرد يتناول الواحد الحقيقي ويمكن أن يراد به الواحد الاعتباري أن المجموع من حيث هو المجموع والمجموع في الطلاق هو الثلاث وقوله فإن قيل ثبوت البينونة هذا إشكال على بطلان نية الثلاث في أنت طالق وتقريره أنكم قلتم إن المصدر الذي يثبت من المتكلم إنشاء أمر شرعي لا لغوي فيكون ثابتا اقتضاء فلا يصح فيه نية الثلاث فكذلك ثبوت البينونة من المتكلم بقوله أنت بائن أمر شرعي أيضا فينبغي أن لا يصح فيه نية الثلاث وقوله قلنا نعم لكن البينونة جواب عن هذا الإشكال ووجهه أنا سلمنا أن البينونة ثابتة بطريق الاقتضاء لكن البينونة من حيث هي البينونة مشتركة بين الخفيفة وهي التي يمكن رفعها والغليظة وهي التي لا يمكن رفعها وهي الثلاث أو هي جنس بالنسبة إليهما ونية أحد المحتملين صحيحة في المقتضى وكذلك نية أحد النوعين لأنه لا بد أن يثبت أحدهما ولا يمكن اجتماعهما فلا بد أن ينوي أحدهما لكن لا يصح فيه نية عدد معين فيه إذ لا عموم للمقتضى ولا دلالة له على الأفراد أصلا ولأن المقتضى ثابت ضرورة ولا ضرورة في العدد المعين فيثبت ما ترتفع به الضرورة وهو الأقل
____________________
(1/264)
المتيقن ولا كذلك في النوعين لأنه لا يتصور فيهما الأقل المتيقن لأن الأنواع لا تكون إلا متنافية فلا بد وأن تصح نية أحد النوعين
وأيضا لا تصح نية المجاز في المقتضى كنية ثلاث تطليقات في أنت طالق طلاقا بناء على أنها واحد اعتباري كما ذكرنا وقوله ولا كذلك الطلاق فإنه لا اختلاف بين أفراده بحسب النوع بل يختلف بحسب العدد فقط ولا يمكن أن يقال إن الطلاق يتنوع على ما يمكن رفعه وعلى ما لا يمكن رفعه فإن الطلاق لا يمكن رفعه أصلا وقوله ومما يتصل بذلك أي بالمقتضى هو المحذوف واعلم أنه يشتبه على بعض الناس المحذوف بالمقتضى ولا يعرفون الفرق بينهما فيعطون أحدهما حكم الآخر
____________________
(1/265)
ويغلطون في كثير من الأحكام وإن توهم متوهم أن المحذوف يصير قسما خامسا بعد العبارة والإشارة والدلالة والاقتضاء فيبطل الحصر في الأربعة المذكورة فهذا وهم باطل لأن مرادنا باللفظ الدال على المعنى في مورد القسمة اللفظ إما حقيقة وإما تقديرا وكل ما هو محذوف فهو غير ملفوظ لكنه ثابت لغة فإنه في حكم الملفوظ فيكون اللفظ المنطوق دالا على اللفظ المحذوف ثم اللفظ المحذوف دال على معناه بأحد هذه الأقسام الأربعة فالدلالة المنقسمة على الأربع دلالة اللفظ على المعنى أما دلالة اللفظ على لفظ آخر فليست من باب دلالة اللفظ على المعنى فصل اعلم أن بعض الناس يقولون بمفهوم المخالفة وهو أن يثبت الحكم في المسكوت عنه على خلاف ما ثبت في المنطوق وشرطه أي وشرطه مفهوم المخالفة عند القائلين به أن لا تظهر أولويته أي أولوية المسكوت عنه من المنطوق بالحكم الثابت للمنطوق ولا مساواته إياه أي مساواة المسكوت عنه المنطوق في الحكم الثابت للمنطوق
____________________
(1/266)
حتى لو ظهر أولوية المسكوت عنه أو مساواته يثبت الحكم في المسكوت عنه بدلالة النص الذي ورد في المنطوق أو بقياسه عليه ولا يخرج أي المنطوق مخرج العادة نحو قوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم حرم الربائب على أزواج الأمهات ووصفن بكونهن في حجورهم فلو لم يوجد هذا الوصف لا يقال بانتفاء الحرمة لأنه إنما وصف الربائب بكونهن في حجورهم إخراجا للكلام مخرج العادة فإن العادة جرت بكون الربائب في حجورهم فحينئذ لا يدل على نفي الحكم عما عداه
ولا يكون أي المنطوق لسؤال أو حادثة كما إذا سئل عن وجوب الزكاة لا الإبل السائمة مثلا فقال بناء على السؤال أو بناء على وقوع الحادثة إن في الإبل السائمة زكاة فوصفها بالسوم هاهنا لا يدل على عدم وجوب الزكاة عند عدم السوم أو علم المتكلم بالجر عطف على قوله لسؤالي بأن السامع يسمع هذا الحكم المخصوص كما إذا علم أن السامع لا يعلم بوجوب الزكاة في الإبل السائمة فقال بناء على هذا إن في الإبل السائمة زكاة لا يدل أيضا على عدم الحكم عند عدم السوم فإذا بين شرائط مفهوم المخالفة شرع في أقسامه فقال منه أي من مفهوم المخالفة هذه المسألة
____________________
(1/267)
وهي أن تخصيص الشيء باسمه سواء كان اسم جنس أو اسم علم يدل على نفي الحكم عما عداه أي عما عدا ذلك الشيء عند البعض لأن الأنصار فهموا من قوله عليه السلام الماء من الماء أي الغسل من المني عدم وجوب الغسل بالإكسال وهو أن يفتر الذكر قبل الإنزال وعندنا لا يدل ولا يلزم الكفر والكذب في محمد رسول الله وفي زيد موجود ونحوهما أي إن دل على نفي الحكم عما عداه لا يلزم الكفر في قوله محمد رسول الله إذ يلزم حينئذ أن لا يكون غير محمد رسول الله وهو كفر ويلزم الكذب في زيد موجود لأنه يلزم حينئذ أن لا يكون غير زيد موجودا ولإجماع العلماء على جواز التعليل فإن الإجماع على جواز التعليل والقياس دال على أن تخصيص الشيء باسمه لا يدل على نفي الحكم عما عداه لأن القياس هو إثبات حكم مثل حكم الأصل في صورة الفرع فعلم أنه لا دلالة للحكم في الأصل على الحكم المخالف فيما عداه وإنما فهموا ذلك أي عدم وجوب الغسل بالإكسال من اللازم وهو للاستغراق غير أن الماء يثبت مرة عيانا ومرة دلالة جواب
____________________
(1/268)
عن إشكال وهو أن يقال لما قلتم إن اللام للاستغراق كان معناه أن جميع أفراد الغسل في صورة وجود المني فلا يجب الغسل بالتقاء الختانين بلا ماء فأجاب عن هذا بأن الغسل لا يجب بدون الماء إلا أن التقاء الختانين دليل الإنزال والإنزال أمر خفي فيدور الحكم مع دليل الإنزال وهو التقاء الختانين كما تدور الرخصة مع دليل المشقة وهو السفر ومنه أي من مفهوم المخالفة هذه المسألة وهي أن تخصيص الشيء بالوصف يدل على نفي الحكم عما عداه عند الشافعي رحمه الله تعالى أو نقول تخصيص الشيء مبتدأ ومنه خبره وقوله يدل خبر مبتدأ محذوف أي وهو الراجع إلى تخصيص الشيء وقوله عما عداه أي ما عدا ذلك الوصف والمراد نفي الحكم عن ذلك الشيء بدون ذلك الوصف كقوله تعالى من فتياتكم المؤمنات خص الحل بالفتيات المؤمنات فيلزم عندهم عدم حل نكاح الفتيات أي الإماء غير المؤمنات للعرف فإن في قوله الإنسان الطويل لا يطير يتبادر الفهم منه إلى ما ذكرنا ولهذا يستقبحه العقلاء والاستقباح ليس لأجل نسبة عدم الطيران إلى الإنسان الطويل لأنه لو قال الإنسان الطويل وغير الطويل لا يطير لا يستقبحه العقلاء فعلم أن الاستقباح لأجل أنه يفهم منه أن غير الطويل يطير ولتكثير الفائدة
____________________
(1/269)
ولأنه لو لم يكن فيه تلك الفائدة لكان ذكره ترجيحا من غير مرجح لأنه لو لم يدل على نفي الحكم عما عداه لكان الحكم فيما عدا الموصوف ثابتا فتخصيص الحكم بالموصوف يكون ترجيحا من غير مرجح لأن التقدير تقدير عدم المرجحات الأخر كالخروج مخرج العادة إلخ
ولأن مثل هذا الكلام يدل على علية هذا الوصف نحو في الإبل السائمة زكاة فيقتضي العدم عند عدمه وعندنا لا يدل لأن موجبات التخصيص لا تنحصر فيما ذكر اعلم أن القائلين بمفهوم المخالفة ذكروا في شرائطه أن التخصيص إنما يدل على نفي الحكم عما عداه إذا لم يخرج مخرج العادة ولم يكن لسؤال أو حادثة أو علم المتكلم بأن السامع يجهل هذا الحكم المخصوص فجعلوا موجبات التخصيص بالحكم منحصرة في هذه الأربعة وفي نفي الحكم عما عداه فإذا لم توجد هذه الأربعة علم أن التخصيص لنفي الحكم عما عداه فأقول إن موجبات التخصيص لا تنحصر في تلك المذكورات نحو الجسم الطويل العريض العميق متحيز فإن شيئا من هذه الأشياء لا يوجد فيه ومع ذلك لا يراد منه نفي الحكم عما عداه لأنه لو كان لنفي الحكم عما عداه يلزم أن الجسم الذي لا يوجد فيه ذلك الوصف لا يكون متحيزا وهذا محال لأن الجسم لا يوجد بدون هذه الصفة وإنما وصفه تعريفا للجسم وإشارة إلى أن علة التحيز هذا الوصف
وكالمدح أو الذم فإنه قد يوصف الشيء للمدح أو الذم ولا يراد بالوصف نفي الحكم عما عداه مع أن الأمور الأربعة المذكورة غير متحققة وقوله كالمدح عطف على
____________________
(1/270)
قوله نحو الجسم أي موجبات التخصيص لا تنحصر فيما ذكر نحو الجسم إلخ ونحو المدح والذم فإن موجبات التخصيص في هذه الصور أشياء أخر غير ما ذكروا أو التأكيد نحو أمس الدابر لا يعود أو غيره أي غير التأكيد نحو وما من دابة في الأرض فلم يوجد الجزم بأن كل الموجبات منفية إلا نفي الحكم عما عداه فقوله تعالى وما من دابة في الأرض وصف الدابة بكونها في الأرض ولا يراد نفي الحكم بدون ذلك الوصف لأن الدابة لا تكون إلا في الأرض مع أنه لم يوجد شيء من موجبات التخصيص المذكورة وقد ذكر في المفتاح أنه تعالى إنما وصفها بكونها في الأرض ليعلم أن المراد ليس دابة مخصوصة بل كل ما يدب في الأرض فعلم أن موجبات التخصيص وفوائده أشياء كثيرة غير محصورة فلا يحصل الجزم بأن كل موجبات التخصيص منتفية إلا نفي الحكم عما عداه وما ذكروا من استقباح العقلاء فلأنهم لم يجدوا في مثل هذا المثال لوصف الإنسان بالطول فائدة أصلا لكن المثال الواحد لا يفيد الحكم الكلي على أنه كثيرا ما يكون في كتاب الله وكلام الرسول لكلمة واحدة ألف فائدة تعجز عن دركها أفهام العقلاء وقوله لكان ذكره ترجيحا من غير مرجح في حيز المنع لأن المرجح لا ينحصر فيما ذكر ولأن أقصى درجاته أي الوصف أن يكون علة وهي لا تدل على ما ذكر لأن الحكم يثبت بعلل شتى جواب عن قوله ولأن مثل هذا الكلام يدل
ونحن نقول أيضا بعدم الحكم أي عند عدم الوصف لكن بناء على عدم العلة فيكون عدم الحكم عدما أصليا لا حكما شرعيا لا أنه علة لعدمه أي
____________________
(1/271)
لا بناء على أن عدم الوصف علة لعدم الحكم عند عدم الوصف ومن ثمرات الخلاف أنه إذا كان الحكم المذكور حكما عدميا لا يثبت الحكم الثبوتي فيما عدا الوصف عندنا كقوله عليه السلام ليس في العلوفة زكاة فإنه لا يلزم منه أن الإبل إذا لم تكن علوفة كان فيها زكاة عندنا لأن الحكم الثبوتي لا يمكن أن يثبت بناء على العدم الأصلي وعنده يثبت فيما عدا الوصف الحكم الثبوتي وأيضا من ثمرات الخلاف صحة التعدية وعدمها كما في قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة هل تصح تعدية عدم جواز الكافرة في كفارة القتل إلى كفارة اليمين وقد مر في فصل المطلق والمقيد
____________________
(1/272)
ونظيره قوله تعالى من فتياتكم المؤمنات هذا لا يوجب تحريم نكاح الأمة الكتابية عندنا خلافا له مع أنه يحتمل الخروج مخرج العادة فالعادة أن لا ينكح المؤمن إلا المؤمنة ثم أورد مسألتين يتوهم فيهما أنا قائلون بأن التخصيص بالوصف يدل على نفي
____________________
(1/273)
الحكم عما عداه وهما مسألتا الدعوة والشهادة فقال ولا يلزم علينا أمة ولدت ثلاثة في بطون مختلفة فقال المولى الأكبر مني فإنه نفى الأخيرين لأن هذا ليس لتخصيصه هذا دليل على قوله لا يلزم والمعنى أن كونه نفيا للآخرين ليس لأجل أن التخصيص دال على نفي الحكم عما عداه بل لأن السكوت في موضع الحاجة بيان فإنه يحتاج إلى البيان أي إلى الدعوة لو كان الولد منه فلما سكت عن الدعوة يكون بيانا بأنه ليس منه
وأيضا إنما انتفى نسب الآخرين لأن الدعوة شرط لثبوت نسبهما ولم توجد لا لأنه نفى نسبهما وإنما قال في بطون مختلفة حتى لو ولدت في بطن واحدة فإن دعوة الواحد دعوة للجميع لا يقال لا حاجة إلى البيان فإنها صارت بالأول أم ولد فيثبت نسبا الأخيرين بلا دعوة لأنه إنما يكون كذلك أن لو كانت دعوة الأكبر قبل ولادة الأخيرين أما هاهنا فلا فإن دعوة الأكبر في مسألتنا متأخرة عن ولادة الأخيرين فلا يكون الأخيران ولدي أم لولد بل هما ولدا الأمة فيحتاج ثبوت نسبهما إلى الدعوة
ولا يلزم إذا قال الشهود لا نعلم له وارثا في أرض كذا أنه لا تقبل شهادتهم عندهما فهذا أي عدم قبول الشهادة عندهما بناء على أن التخصيص دال على ما قلنا أي على نفي الحكم عما عداه فيفهم من هذا الكلام أن الشهود يعلمون له وارثا في غير تلك الأرض فبناء على هذا المعنى لا تقبل شهادتهم لأن الشاهد دليل على قوله ولا يلزم لما ذكر ما لا حاجة إليه جاء شبهة وبها ترد الشهادة ونحن لا ننفي الشبهة فيما نحن فيه أي في التخصيص بالوصف أي لا ننفي كونه شبهة في نفي الحكم عما عداه والشبهة كافية في عدم قبول الشهادة ولا حاجة إلى الدلالة وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى هذا أي السكوت عن غير الأرض المذكورة سكوت في غير موضع الحاجة لأن ذكر المكان غير واجب وهو هاهنا أي ذكر المكان المذكور يحتمل الاحتراز عن المجازفة فإنهم ربما كانوا متفحصين على أحوال تلك الأرض فأرادوا بنفي علمهم بالوارث في أرض كذا نفي وجوده فيها لأنه لو كان موجودا فيها لكانوا عالمين به أما سائر الأراضي فلا معرفة لهم بأحوالها فخصوا عدم الوارث بالأرض المذكورة دون سائر الأراضي احترازا عن المجازفة ومنه التعليق بالشرط يوجب العدم عند عدمه عند
____________________
(1/274)
الشافعي رحمه الله عملا بشرطيته فإن الشرط ما ينتفي بانتفائه وعندنا العدم لا يثبت به أي بالتعليق بل يبقى الحكم على العدم الأصلي حتى لا يكون هذا العدم حكما شرعيا بل عدما أصليا بعين ما ذكرنا في التخصيص بالوصف وما ذكرنا من ثمرة الخلاف ثمت يظهر هنا أيضا لأن الشرط يقال لأمر خارج يتوقف عليه الشيء ولا يترتب كالوضوء وقد يقال للمعلق به وهو ما يترتب الحكم عليه ولا يتوقف عليه فالشرط بالمعنى الأول يوجب ما ذكرتم لا بالمعنى الثاني أي ينتفي المشروط عند انتفاء الشرط بالمعنى الأول كالوضوء شرط لصحة الصلاة فإنه ينتفي صحة الصلاة عند انتفاء الوضوء وليس المراد أن انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط بهذا المعنى حكم شرعي بل لا شك أن عدم صحة الصلاة عند عدم الوضوء عدم أصلي لكن مع ذلك يكون عدم الوضوء دالا على عدم صحة الصلاة وأما الشرط بالمعنى الثاني فإنه لا دلالة لانتفائه على انتفاء المشروط فإن المشروط يمكن أن يوجد بدون الشرط نحو إن دخلت الدار فأنت طالق فعند انتفاء الدخول يمكن أن يقع الطلاق بسبب آخر
فقوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا الآية يوجب عدم جواز نكاح الأمة عند طول
____________________
(1/275)
الحرة عنده ويجوز عندنا قال الله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات علق جواز نكاح الأمة بعدم القدرة على نكاح الحرة فإن كانت القدرة على نكاح الحرة ثابتة يثبت عدم جواز نكاح الأمة عنده فيصير مفهوم هذه الآية مخصصا عنده لقوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم وعندنا لما لم يدل على نفي الجواز لا يصلح مخصصا ولا ناسخا لتلك الآية فيثبت الجواز بتلك الآية وهذا بناء على أي هذا الخلاف مبني على أن الشافعي رحمه الله تعالى اعتبر المشروط بدون الشرط فإنه يوجب الحكم على جميع التقادير فالتعليق قيده أي الحكم بتقدير معين وأعدمه أي الحكم على غيره فيكون له أي للتعليق تأثير في العدم أي عدم الحكم ونحن نعتبره معه أي نعتبر المشروط مع الشرط فإن الشرط والجزاء كلام واحد أوجب الحكم على تقدير وهو ساكت عن غيره فالمشروط بدون الشرط مثل أنت في أنت طالق أي المشروط وهو قولنا أنت طالق في قولنا أنت طالق إن دخلت الدار إذا أخذ
____________________
(1/276)
مجردا عن الشرط فهو بمنزلة أنت في أنت طالق لأنه ليس بكلام بل مجموع الشرط والجزاء كلام واحد فلا يكون موجبا للحكم على جميع التقادير كما زعم فعلى هذا أي على هذا الأصل وهو أنه اعتبر المشروط بدون الشرط ونحن اعتبرنا المشروط مع الشرط المعلق بالشرط نحو إن دخلت الدار فأنت طالق انعقد سببا عنده لكن التعليق أخر الحكم إلى زمان وجود الشرط على ما ذكرنا من أن المشروط بدون الشرط موجب للحكم على جميع التقادير والتعليق قيد الحكم بتقدير معين وأعدم الحكم على غيره من التقادير فصار أنت طالق سببا للحكم ويكون تأثير التعليق في تأخير الحكم لا في منع السببية فأبطل تعليق الطلاق والعتاق بالملك هذا تفريع على أن المعلق بالشرط انعقد سببا عنده فإن وجود الملك شرط عند وجود السبب بالاتفاق والمعلق انعقد سببا عند الشافعي رحمه الله تعالى فإذا علق الطلاق أو العتاق بالملك فالملك غير موجود عند وجود السبب فيبطل التعليق وجوز تعجيل النذر المعلق فإن التعجيل بعد وجود السبب قبل وجوب الأداء صحيح بالاتفاق كتعجيل الزكاة قبل الحلول إذا وجد السبب وهو النصاب فالنذر المعلق انعقد سببا عنده فيجوز التعجيل وكفارة اليمين إذا كانت مالية فإن الشافعي رحمه الله تعالى جوز تعجيل الكفارة المالية قبل الحنث فإن اليمين سبب للكفارة عنده بناء على هذا الأصل فيثبت نفس الوجوب بناء على السبب وإنما يثبت وجوب الأداء عند الشرط وهو الحنث لأن المالي يحتمل الفصل بين نفس الوجوب ووجوب الأداء كما في الثمن بأن يثبت المال
____________________
(1/277)
في الذمة مع أنه لا يجب أداؤه بخلاف البدني ففي الكفارة المالية الفصل بين نفس الوجوب ووجوب الأداء ثابت كما في الثمن فإن نفس الوجوب بالشراء ووجوب الأداء بالمطالبة فأما في البدنية فلا ينفك أحدهما عن الآخر ففي المالي لما ثبت نفس الوجوب بناء على السبب أفاد صحة الأداء وفي البدني لما لم يثبت لم يصح الأداء وأما قوله فلا ينفك أحدهما عن الآخر ففي فصل الأمر يأتي أن في العبادة البدنية لا ينفك نفس الوجوب عن وجوب الأداء
وعندنا لا ينعقد سببا إلا عند وجود الشرط لأن السبب ما يكون طريقا إلى الحكم
____________________
(1/278)
وقبل وجود الشرط ليس كذلك على ما عهدنا من الأصل وهو أنا نعتبر المشروط مع الشرط فلا يكون موجبا للوقوع لما ذكرنا أن الجزاء بمنزلة أنت في قولنا أنت طالق فلا ينعقد سببا للحكم بل إنما يصير سببا عند وجود الشرط فيختلف الحكم في المسائل المذكورة على أن اليمين انعقدت للبر فكيف تكون سببا للكفارة بل سببها الحنث لما لم ينعقد سببا عندنا اختلف الحكم في المسائل المذكورة فيجوز تعليق الطلاق والعتاق بالملك لأن الملك متحقق عند وجود السبب قطعا ولا يجوز تعجيل النذر والكفارة عندنا لأن التعجيل قبل السبب لا يجوز بالاتفاق والسبب إنما يصير سببا عند وجود الشرط في باب النذر والسبب للكفارة هو الحنث عندنا فإن اليمين لم تنعقد سببا للكفارة لأنها انعقدت للبر والكفارة إنما تجب على تقدير الحنث فلا يكون اليمين سببا للكفارة بل هي شرط لها والحنث سبب
وفرقه بين المالي والبدني غير صحيح إذ المال غير مقصود في حقوق الله تعالى وإنما المقصود هو الأداء فيصير كالبدنية وتبين الفرق أي على مذهبنا بين الشرط وبين الأجل وشرط الخيار فإن هذين دخلا على الحكم أما الأجل فظاهر فإنه داخل على الثمن لا على البيع
____________________
(1/279)
وأما خيار الشرط فلأن البيع لا يحتمل الحظر وإنما يثبت الخيار بخلاف القياس فدخوله على الحكم دون السبب أسهل من دخوله عليهما وأما الطلاق والعتاق فيحتملان الحظر أي الشرط والبيع لا يحتمله لأنه يصير بالشرط قمارا فشرط الخيار شرط مع المنافي فإن كان داخلا على السبب يكون داخلا على السبب والحكم معا فدخوله على الحكم فقط أسهل من دخوله عليهما فأما الطلاق والعتاق فيحتملان الشرط والأصل أن يدخل التعليق في السبب كي لا يتخلف الحكم عن السبب ولا مانع من دخوله على السبب فيدخل عليه بخلاف البيع
____________________
(1/280)
الباب الثاني في إفادة الحكم الشرعي أي في إفادة اللفظ الحكم الشرعي كالوجوب والحرمة ونحوهما اللفظ المفيد له إما خبر إن احتمل الصدق والكذب من حيث هو أي مع قطع النظر عن العوارض ككونه خبر مخبر صادق أو إنشاء إن لم يحتمل وأخبار الشارع كقوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن آكد أي من الإنشاء لأنه أدل على الوجود اعلم أن إخبار الشارع يراد به الأمر مجازا وإنما عدل عن الأمر إلى الإخبار لأن المخبر به إن لم يوجد في الأخبار يلزم كذب الشارع والمأمور به إن لم يوجد في الأمر لا يلزم ذلك فإذا أريد المبالغة في وجود المأمور به عدل إلى لفظ الإخبار مجازا وأما الإنشاء فالمعتبر من أقسامه هاهنا الأمر والنهي فالأمر قول القائل استعلاء افعل والنهي قوله استعلاء لا تفعل والأمر حقيقة في هذا القول اتفاقا مجاز عن الفعل عند الجمهور
____________________
(1/281)
وعند البعض حقيقة فما يدل على أنه أي على أن الأمر للإيجاب يدل على إيجاب فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لأن فعله أمر حقيقة وكل أمر للإيجاب احتجوا على الأصل وهو أن الأمر حقيقة في الفعل بقوله تعالى وما أمر فرعون برشيد أي فعله وعلى الفرع وهو أن فعله عليه
____________________
(1/282)
السلام للإيجاب بقوله عليه السلام صلوا كما رأيتموني أصلي قلنا ليس حقيقة في الفعل لأن الاشتراك خلاف الأصل ولأنه إذا فعل ولم يقل افعل يصح نفيه أي نفي الأمر أي يصح لغة وعرفا أن يقال إنه لم يأمر ومن هذا الدليل ظهر أن الأمر الذي هو مصدر ليس حقيقة في الفعل الذي هو مصدر لكن لم يثبت بهذا الدليل أن الأمر الذي هو اسم ليس بمعنى الشأن
____________________
(1/283)
وتسميته أمرا مجاز إذ الفعل يجب به قوله إذ الفعل إلخ بيان لعلاقة المجاز بين الأمر والفعل سلمنا أنه حقيقة فيه أي في الفعل لكن الدلائل تدل على أن القول للإيجاب لا الفعل أي الدلائل التي تدل على أن الأمر القولي للإيجاب لا الفعل فإن تلك الدلائل غير قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره يراد بها الأمر القولي ولا
____________________
(1/284)
يمكن حملها على الفعلي وسيأتي وأما قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره فالضمير في أمره إن كان راجعا إلى الله تعالى لا يمكن حمله على الفعل وإن كان راجعا إلى الرسول فالقول مراد إجماعا فلا يحمل على الفعل لأن المشترك لا يراد به أكثر من معنى واحد على أنا لا نحتاج إلى إقامة الدليل على أن الفعل غير مراد بل هو محتاج إلى إقامة الدليل على أن المراد الفعل ونحن في صدد المنع فصح ما قلنا إن الدلائل الدالة على
____________________
(1/285)
أن الأمر للإيجاب لا تدل على أن الفعل للإيجاب
واللفظ كاف أي الأمر القولي كاف للمقصود وهو الإيجاب والترادف خلاف الأصل وإيجاب فعله عليه السلام استفيد من قوله عليه السلام صلوا على أنه أنكر على الأصحاب صوم الوصال وخلع النعال مع أنه فعل
____________________
(1/286)
وموجبه التوقف عند ابن سريج حتى يتبين المراد لأنه يستعمل في معان مختلفة وهي ستة عشر الإيجاب كقوله تعالى أقيموا الصلاة الندب كقوله تعالى فكاتبوهم التأديب كقوله عليه السلام كل مما يليك
____________________
(1/287)
الإرشادات كقوله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم الإباحة نحو كلوا التهديد نحو اعملوا ما شئتم الامتنان نحو وكلوا مما رزقكم الله الإكرام نحو ادخلوها بسلام آمنين التعجيز نحو فأتوا بسورة التسخير نحو كونوا قردة الإهانة نحو ذق إنك أنت العزيز الكريم التسوية نحو اصبروا أو لا تصبروا الدعاء نحو اللهم اغفر لي التمني نحو ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي الاحتقار نحو ألقوا ما أنتم ملقون التكوين نحو كن فيكون قلنا لو وجب التوقف هنا لوجب في النهي لاستعماله في معان وهي التحريم كقوله تعالى لا تأكلوا الربا والكراهة كالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة والتنزيه نحو ولا تمنن تستكثر والتحقير نحو ولا تمدن عينيك وبيان العاقبة نحو لا تعتدوا والإرشاد نحو لا تسألوا عن أشياء والشفقة نحو النهي عن اتخاذ الدواب كراسي والمشي في نعل واحد ولأن النهي أمر بالانتهاء عطف على قوله لاستعماله في معان فلا يبقى الفرق بين قولك افعل ولا تفعل لأنه يصير موجبهما التوقف والفرق بين طلب الفعل وطلب الترك ثابت بديهة
وهذا الاحتمال يبطل الحقائق يمكن أن يراد بها حقائق الأشياء فإنه لو اعتبر مثل هذه الاحتمالات يجوز أن لا يكون زيد زيدا بل عدم الشخص الأول وخلق مكانه
____________________
(1/288)
شخص آخر وهو عين مذهب السوفسطائية النافين حقائق الأشياء ويمكن أن يراد حقائق الألفاظ إذ ما من لفظ إلا وله احتمال قريب أو بعيد من نسخ أو خصوص أو اشتراك أو مجاز فإن اعتبرت هذه الاحتمالات مع عدم القرينة تبطل دلالات الألفاظ على المعاني الموضوع لها وأيضا لم ندع أنه محكم وعند العامة موجبه واحد إذ الاشتراك خلاف الأصل وهو الإباحة عند بعضهم إذ هي الأدنى والندب عند بعضهم إذ لا بد من ترجيح جانب الوجود وأدناه الندب والوجوب عند أكثرهم لقوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم يفهم من هذا الكلام خوف إصابة الفتنة أو العذاب بمخالفة الأمر إذ لولا ذلك الخوف لقبح التحذير فيكون مأمورا به واجبا إذ ليس على ترك غير الواجب خوف الفتنة أو العذاب
و أن يكون لهم الخيرة من أمرهم قال الله تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم القضاء والله أعلم بمعنى الحكم وأمرا مصدر من غير لفظه أو حال أو تمييز ولا يمكن أن يكون المراد من القضاء ما هو المراد من قوله تعالى فقضاهن سبع سماوات لأن عطف الرسول على الله تعالى يمنع ذلك ولا يراد القضاء الذي يذكر في جنب القدر بعين ذلك فتعين أن المراد الحكم والمراد من الأمر القول لا الفعل لأنه إن أريد الفعل فإما أن يراد فعل القاضي أو المقضي عليه والأول لا يليق لأن الله تعالى إذا فعل فعلا فلا
____________________
(1/289)
معنى لنفي الخيرة وإن أريد فعل المقضي عليه فالمراد إذا قضى بأمر فالأصل عدم تقدير الباء وأيضا يكون المعنى إذا حكم بفعل لا تكون الخيرة والحكم بفعل مطلقا لا يوجب نفي الخيرة إذ يمكن أن يكون الحكم بإباحة فعل أو ندبه وإن أوجب ذلك فهو المدعي فعلم أن المراد بالأمر ما ذكرنا لا الفعل
و ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك فالذم على تركه يوجب الوجوب و إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون وهذا حقيقة لا مجاز عن سرعة الإيجاد ذهب الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي رحمه الله إلى أن هذا مجاز عن سرعة الإيجاد والمراد التمثيل لا حقيقة القول وذهب فخر الإسلام رحمه الله تعالى إلى أن حقيقة الكلام مرادة بأن أجرى الله تعالى سننه في تكوين الأشياء أن يكونها بهذه الكلمة لكن المراد هو الكلام النفسي المنزه عن الحروف والأصوات وعلى المذهبين يكون الوجود مرادا من هذا الأمر أما على المذهب الثاني فظاهر وأما على المذهب الأول فلأنه جعل الأمر قرينة
____________________
(1/290)
للإيجاد ومثل سرعة الإيجاد بالتكلم بهذا الأمر وترتب وجود المأمور به عليه ولولا أن الوجود مقصود من الأمر لما صح هذا التمثيل
فيكون الوجود مرادا بهذا الأمر أي إرادة الله تعالى أنه كلما وجد الأمر يوجد المأمور به فكذا في كل أمر من الله تعالى لأن معناه كن فاعلا لهذا الفعل أي يكون الوجود مرادا في كل أمر من الله تعالى لأن كل أمر فإن معناه كن فاعلا لهذا الفعل فقوله صل أي كن فاعلا للصلاة وزك أي كن فاعلا للزكاة فثبت أن كل أمر أمر بالكون فيجب أن يتكون ذلك الفعل إلا أن هذا أي كون الوجود مرادا من كل أمر يعدم الاختيار فلم يثبت الوجود ويثبت الوجوب لأنه مفض إلى الوجود وغيرها من النصوص كقوله تعالى أفعصيت أمري
____________________
(1/291)
وقوله تعالى وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون وللعرف فإن كل من يريد طلب الفعل جزما يطلب بهذا اللفظ
____________________
(1/292)
____________________
(1/293)
مسألة وكذا بعد الحظر لما قلنا وقيل للندب كما في وابتغوا من فضل الله أي اطلبوا الرزق وقيل للإباحة كما في فاصطادوا قلنا ثبت ذلك بالقرينة أي الندب والإباحة في الآيتين ثبتا بالقرينة فإن الابتغاء والاصطياد إنما أمر بهما لحق العباد ومنفعتهم فلا ينبغي أن يثبتا على وجه تنقلب المنفعة مضرة بأن يجب عليهم مسألة وإن أريد به الإباحة أو الندب فاستعارة عند البعض والجامع جواز الفعل لا إطلاق اسم الكلي على البعض لأن الإباحة مباينة للوجوب لا جزؤه
اعلم أن الأمر إذا كان حقيقة في الوجوب فإذا أريد به الإباحة أو الندب يكون بطريق المجاز لا محالة لأنه أريد به غير ما وضع له فقد ذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى في هذه المسألة اختلافا فعند الكرخي والجصاص مجاز فيهما وعند البعض حقيقة وقد اختار فخر الإسلام رحمه الله تعالى هذا
وتأويله أن المجاز في اصطلاحه لفظ أريد به معنى خارج عن الموضوع له فأما إذا أريد به جزاء الموضوع له فإنه لا يسميه مجازا بل يسميه حقيقة قاصرة والذي يدل على هذا الاصطلاح قوله في هذا الموضوع أن معنى
____________________
(1/294)
الإباحة والندب من الوجوب بعضه في التقدير كأنه قاصر لا مغاير أما في اصطلاح غيره من العلماء فالمجاز لفظ أريد به غير ما وضع له سواء كان جزأه أو معنى خارجا عنه وهذا التعريف صحيح عند فخر الإسلام رحمه الله تعالى لكن يحمل غير الموضوع له على المعنى الخارجي بناء على عدم إطلاق الغير على الجزء فإن الجزء عنده ليس عينا ولا غيرا على ما عرف من تفسير الغير في علم الكلام
____________________
(1/295)
فحاصل الخلاف في هذه المسألة أن إطلاق الأمر على الإباحة أو الندب أهو بطريق إطلاق اسم الكل على الجزء أم بطريق الاستعارة ومعنى الاستعارة أن تكون علاقة المجاز وصفا بينا مشتركا بين المعنى الحقيقي والمجازي كالشجاعة بين الإنسان الشجاع والأسد والأصح الثاني وهو إطلاق اسم الكل على الجزء لأنا سلمنا أن الإباحة مباينة للوجوب فإن معنى الإباحة جواز الفعل وجواز الترك ومعنى الوجوب جواز الفعل مع حرمة الترك لكن معنى قولنا أن الأمر للإباحة هو أن الأمر يدل على جزء واحد من الإباحة وهو جواز الفعل فقط لا أنه يدل على كلا جزأيه لأن الأمر لا دلالة له على جواز الترك أصلا بل إنما يثبت جواز الترك بناء على أن هذا الأمر لا يدل على حرمة الترك التي هي جزء آخر للوجوب فيثبت جواز الترك بناء على هذا الأصل لا بلفظ الأمر فجواز الفعل الذي يثبت بالأمر جزء للوجوب فيكون إطلاق لفظ الكل على الجزء وهذا معنى قوله لأن الأمر دال على جواز
____________________
(1/296)
الفعل الذي هو جزؤهما أي الإباحة والوجوب لا على جواز الترك الذي به المباينة لكن يثبت ذا لعدم الدليل على حرمة الترك التي هي جزء آخر للوجوب وهذا بحث دقيق ما مسه إلا خاطري
____________________
(1/297)
هذا إذا استعمل وأريد الإباحة أو الندب ما إذا استعمل في الوجوب لكن عدم الوجوب بالنسخ حتى يبقى الندب أو الإباحة عند الشافعي فلا يكون مجازا لأن هذه دلالة الكل على الجزء
والمجاز اللفظ المستعمل في غير ما وضع له ولم يوجد أي هذا الخلاف الذي ذكرنا وهو أن دلالة الأمر على الإباحة بطريق إطلاق لفظ الكل على الجزء أم بطريق الاستعارة إنما يكون ذلك إذا استعمل الأمر وأريد به الندب أو الإباحة أما إذا استعمل الأمر وأريد به الوجوب ثم نسخ الوجوب وبقي الندب أو الإباحة على مذهب الشافعي فالأمر هل يكون مجازا أم لا فأقول لا يكون مجازا لأن المجاز لفظ أريد به غير ما وضع له ولم يوجد لأنه أريد بالأمر الوجوب بل يكون دلالة الكل على الجزء والدلالة لا تكون مجازا فإنك إذا أطلقت الإنسان وأردت به الحيوان الناطق فإن اللفظ يدل على كل واحد من الأجزاء ولا مجاز هنا بل إنما يكون مجازا إذا أطلقت الإنسان وأردت به الحيوان فقط أو الناطق فقط وإنما قلنا على مذهب الشافعي لأنه على مذهبنا إذا نسخ الوجوب لا تبقى الإباحة التي تثبت في ضمن الوجوب كما أن قطع الثوب كان واجبا بالأمر إذا أصابته نجاسة ثم نسخ الوجوب فإنه لم يبق القطع مستحبا ولا مباحا
فصل الأمر المطلق عند البعض يوجب العموم والتكرار لأن اضرب مختصر من أطلب منك الضرب والضرب اسم جنس يفيد العموم ولسؤال السائل في الحج ألعامنا هذا أم للأبد
سأل أقرع بن حابس في الحج ألعامنا هذا أم للأبد فهم أن الأمر بالحج يوجب
____________________
(1/298)
التكرار قلنا اعتبره بسائر العبادات وعند الشافعي رحمه الله تعالى يحتمله لما قلنا غير أن المصدر نكرة في موضع الإثبات فيخص على احتمال العموم وعند بعض علمائنا لا يحتمل التكرار إلا أن يكون معلقا بشرط أو مخصوصا بوصف كقوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا أقم الصلاة لدلوك الشمس قلنا لزوم لتجدد السبب لا لمطلق الأمر وعند عامة علمائنا لا يحتملهما أصلا لأن لفظ المصدر فرد إنما يقع على الواحد الحقيقي وهو متيقن أو مجموع الأفراد لأنه واحد من حيث المجموع وذا محتمل لا يثبت إلا بالنية على العدد المحض أي لا يقع على العدد المحض ففي طلقي نفسك يوجب الثلاث على الأول ويحتمل الاثنين والثلاث عند الشافعي رحمه الله تعالى وعندنا يقع على الواحد ويصح نية الثلاث لا الاثنين لأن الثلاث مجموع أفراد الطلاق فيكون واحدا اعتباريا ولا يصح نية الاثنين لأن الاثنين
____________________
(1/299)
عدد محض ولا دلالة لاسم الفرد على العدد فذكروا هذه المسألة بيانا لثمرة الاختلاف ولم يذكروا ثمرة الاختلاف بيننا وبين من قال لا يحتمل التكرار إلا أن يكون معلقا بشرط فأوردت هذه المسألة وهي إن دخلت الدار فطلقي نفسك فعلى ذلك المذهب ينبغي أن يثبت التكرار وإنما قلت ينبغي لأنه لا رواية عن هؤلاء في هذه المسألة لكن بناء على أصلهم وهو أنه يوجب التكرار إذا كان معلقا بشرط يجب أن يثبت التكرار عندهم
وفي إن دخلت الدار فطلقي نفسك ينبغي أن يثبت التكرار على المذهب الثالث لا عندنا وقوله تعالى فاقطعوا أيديهما لا يراد به كل الأفراد إجماعا فيراد الواحد فلم يدل على اليسار
فصل الإتيان بالمأمور به نوعان أداء أي تسلم عين الثابت بالأمر وقضاء أي تسليم
____________________
(1/300)
____________________
(1/301)
____________________
(1/302)
مثل الواجب به وقلنا في الأول الثابت به ليشمل النفل
ويطلق كل منهما على الآخر مجازا
والقضاء يجب بسبب جديد عند البعض لأن القربة عرفت في وقتها فإذا فات شرف الوقت لا
____________________
(1/303)
يعرف له مثل إلا بنص وعند عامة أصحابنا يجب بما أوجب الأداء لأنه لما وجب بسببه لا يسقط بخروج الوقت وله مثل من عنده يصرفه إلى ما عليه فما فات إلا شرف الوقت وقد فات غير مضمون إلا بالإثم إذا كان عامدا لقوله تعالى فعدة من أيام أخر وقوله عليه السلام من نام عن صلاة الحديث قال الله تعالى فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وقال عليه السلام من نام على صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها استدل بالآية والحديث على أن شرف الوقت غير مضمون أصلا إذا لم يكن عامدا في الترك
____________________
(1/304)
وإذا ثبت في الصوم والصلاة وهو معقول ثبت في غيرهما كالمنذورات المعينة والاعتكاف قياسا وما ذكرنا من النص لإعلام أن ما وجب بالسبب السابق غير ساقط بخروج الوقت وأن شرف الوقت ساقط لا للإيجاب ابتداء جواب إشكال مقدر وهو أن القضاء إنما وجب بالنص وهو فعدة من أيام أخر فيكون واجبا بسبب جديد لا بالسبب الذي أوجب الأداء فقال في جوابه وما ذكرنا من النص لإعلام إلخ وأيضا لا يرد قضاء الاعتكاف
____________________
(1/305)
والمنذورات قياسا لأن القياس مظهر لا مثبت فإن قيل فهذا الأصل وهو أن القضاء يجب بما أوجب الأداء قضاء الاعتكاف المنذور في رمضان ينبغي أن يجوز في رمضان آخر أي إذا نذر الاعتكاف في رمضان ولم يعتكف إلى رمضان آخر ينبغي أن يجوز قضاء الاعتكاف المنذور في رمضان آخر لأن القضاء إنما يجب بما أوجب الأداء والأداء قد أوجبه النذر والنذر بالاعتكاف في رمضان لم يوجب صوما مخصوصا بالاعتكاف فيجوز القضاء في رمضان آخر
قلنا القضاء هاهنا يجب بما أوجب الأداء أي النذر وهو يقتضي صوما مخصوصا بالاعتكاف لكنه أي الصوم المخصوص بالاعتكاف سقط في رمضان بعارض شرف الوقت فإذا فات هذا أي عارض شرف الوقت بحيث لا يمكن دركه إلا بوقت مديد يستوي فيه الحياة والموت وهو من شوال إلى رمضان آخر عاد إلى الأصل موجبا لصوم مقصود أي لصوم مخصوص بالاعتكاف فوجوب القضاء مع سقوط شرف الوقت أحوط من وجوبه مع رعاية شرف الوقت إذ سقوطه يوجب صوما مقصودا وفضيلة الصوم المقصود أحوط من فضيلة شرف الوقت هذا هو مراد فخر الإسلام رحمه الله تعالى بقوله وكان هذا
____________________
(1/306)
أحوط الوجهين والإشارة ترجع إلى السقوط في قوله فسقط ما ثبت بشرف الوقت من الزيادة فالحاصل أن وجوب القضاء مع سقوط زيادة تثبت بشرف الوقت أحوط من الوجه الآخر وهو أن يجب القضاء مع وجوب رعاية شرف الوقت كما أن الأداء وجب معه فكأنه يرد عليه أن في سقوط شرف الوقت ترك الاحتياط فنجيب بأن هذا أحوط من وجوب رعاية شرف الوقت والدليل على الأحوطية ما قال فخر الإسلام رحمه الله تعالى لأن ما ثبت بشرف الوقت إلخ فمعناه أن شرف الوقت أوجب زيادة وأوجب نقصانا فالزيادة هي أفضلية صوم رمضان على صيام سائر الأيام والنقصان هو عدم وجوب الصوم
____________________
(1/307)
____________________
(1/308)
المقصود فلما مضى رمضان سقط وجوب رعاية تلك الزيادة لما ذكرنا من إمكان الموت قبل رمضان آخر فينبغي أن يسقط ذلك النقصان المنجبر بتلك الزيادة أيضا وهو عدم وجوب الصوم المقصود بالطريقة الأولى
ووجه الأولوية أن العبادة مما يحتاط في إثباته فسقوط النقصان أولى من سقوط الزيادة وأيضا سقوط الزيادة بشرف الوقت إنما يثبت بخوف الموت وسقوط النقصان وهو عبارة عن وجوب صوم مقصود يثبت بخوف الموت والنذر بالاعتكاف أيضا فإذا سقطت الزيادة المذكورة سقط النقصان المذكور أيضا بالطريق الأولى
وسقوط النقصان عبارة عن وجوب صوم مقصود فعلم أن سقوط شرف الوقت يوجب وجوب صوم مقصود ولا شك أن وجوب القضاء مع فضيلة الصوم المقصود أحوط من وجوب القضاء مع فضيلة شرف الوقت إذ فضيلة شرف الوقت فضيلة يغلب فوتها بخلاف فضيلة الصوم المقصود وهذا البحث من مشكلات مباحث أصول فخر الإسلام رحمه الله تعالى وقد فسر في بعض الحواشي الوجهان بغير ما فسرت لكن لا يخفى على ذوي الكياسة الممارسين للعلوم أن الدليل الذي استدل به على الأحوطية يدل على أن المراد ما ذكرت لا ما توهموه والحمد لله ملهم الصواب
____________________
(1/309)
والأداء إما كامل وهو أن يؤدى بالوصف الذي شرع كالجماعة أو قاصر إن لم يكن به كصلاة المنفرد والمسبوق منفرد أو شبيه بالقضاء كفعل اللاحق فإنه أداء باعتبار الوقت وقضاء لأنه يقضي ما انعقد له إحرام الإمام بمثله فكأنه خلف الإمام فعلى هذا إن اقتدى المسافر بمثله في الوقت ثم سبقه الحدث ثم أقام إما بدخول مصره ليتوضأ وإما بنية الإقامة في غير مصره وقد فرغ إمامه يبني ركعتين باعتبار أنه قضاء والقضاء لا يتغير أصلا لا بإقامة ولا بالسفر وإن لم يفرغ أي إمامه وصورة المسألة اقتدى مسافر بمسافر في الوقت ثم سبق المقتدي حدث فدخل مصره للوضوء أو نوى الإقامة والإمام لم يفرغ يتم أربعا لأن نية الإقامة اعترضت على الأداء فصار فرضا أربعا أو كان هذا المسافر مسبوقا أي كان المسافر
____________________
(1/310)
الذي اقتدى بمسافر في صلاة الظهر في الوقت مسبوقا أي اقتدى بعد ما صلى الإمام ركعة فلما تم صلاة الإمام نوى المقتدي الإقامة فإنه يتم أربعا لأن نية الإقامة اعترضت على قدر ما سبق وهو مؤد هذا القدر من كل الوجوه لأن الوقت باق ولم يلتزم أداء هذا القدر مع الإمام حتى يكون قاضيا لما التزم أداءه مع الإمام أما اللاحق فإنه التزم أداء جميع الصلاة مع الإمام فيكون في المقدار الذي سبقه الحدث ولم يؤد مع الإمام قاضيا
أو تكلم أي تكلم اللاحق بعد فراغ الإمام أو قبله ونوى الإقامة يتم أربعا لأنه أداء فيتغير بالإقامة لأن عليه الاستئناف فإذا استأنف يكون مؤديا من كل الوجوه فنية الإقامة اعترضت على الأداء فيتم أربعا ولهذا لا يقرأ اللاحق ولا يسجد للسهو أي لأجل أن اللاحق كأنه خلف الإمام لا يقرأ ولا يسجد للسهو أي إذا سها في القدر الذي لم يصل مع الإمام لا يسجد للسهو كالمقتدي إذا سها لا يسجد للسهو بخلاف المسبوق فإنه منفرد فيما سبق فيقرأ ويسجد للسهو
وأما القضاء فإما بمثل معقول كالصلاة للصلاة وإما بمثل غير معقول كالفدية للصوم وثواب النفقة للحج وكل ما لا يعقل له مثل قربة لا يقضى إلا بنص كالوقوف بعرفة ورمي
____________________
(1/311)
الجمار والأضحية وتكبيرات التشريق فإنها على صفة الجهر لم تعرف قربة إلا في هذا الوقت لأن الأصل فيه الإخفاء قال الله تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر وقال الله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية فإن كونها قربة مخصوص بزمان ولا يقضى تعديل الأركان لأن إبطال الأصل بالوصف باطل والوصف وحده لا يقوم بنفسه فلم يبق إلا الإثم وكذا صفة الجودة أي لا تقضى لأن إبطال الأصل إلخ إذا أدى الزيوف في الزكاة فإن قيل فلم أوجبتم الفدية في الصلاة قياسا أي على الصوم هذا الإشكال على قوله وما لا يعقل له مثل قوله لا يقضى إلا بنص وقد عدم النص بوجوب الفدية إذا فاتت الصلاة للشيخ الفاني والنص ورد في الصوم بوجوب الفدية وهذا حكم لا يدرك بالقياس فينبغي أن لا يقاس عليه غيره وأما الأضحية فلأن إراقة الدم لم تعرف قربة في غير هذه الأيام ولا يدرى أن التصدق بعين الشاة أو بقيمتها هل هو مثل قربة الإراقة أم لا والتصدق بالعين أو القيمة في الأضحية قلنا يحتمل في الصوم التعليل بالعجز فقلنا بالوجوب احتياطا فيكون آتيا بالمندوب أو الواجب ونرجو القبول فإنه يحتمل أن تكون الفدية واجبة قضاء للصلاة وإن لم تكن واجبة فلا أقل من أن يكون آتيا بالمندوب ومحمد قال في هذا الموضع نرجو القبول
في الأضحية لأن الأصل في العبادة المالية التصدق بالعين إلا أنه نقل إلى الإراقة تطييبا للطعام وتحقيقا لضيافة الله لكن لم نعمل بهذا التعليل المظنون وهو أن الأصل في العبادة المالية التصدق بالعين وفي الوقت حتى لم نقل إن التصدق بالعين في الوقت يجوز في معرض النص وعملنا به بعد الوقت احتياطا فلهذا
____________________
(1/312)
الإشارة ترجع إلى قوله وعملنا به بعد الوقت إذا جاء العام الثاني لم ينتقل إلى التضحية لأنه لما احتمل جهة أصالته ووقع الحكم به لم يبطل بالشك وإما قضاء يشبه الأداء عطف على قوله وإما بمثل غير معقول كما إذا أدرك الإمام في العيد راكعا كبر في ركوعه أي كبر تكبيرات الزوائد فإنه وإن فات موضعه وليس لتكبيرات العيد قضاء إذ ليس لها المثل قربة لكن للركوع شبه بالقيام فيكون شبيها بالأداء
وحقوق العباد أيضا تنقسم إلى هذا الوجه فالأداء الكامل كرد غير الحق في الغصب والبيع والصرف والسلم لما عقد الصرف أو السلم يجب له بدل الصرف والمسلم فيه في الذمة فكان ينبغي أن يكون تسليم بدل الصرف والمسلم فيه قضاء إذ العين غير الدين لكن الشرع جعله عين ذلك الواجب في الذمة لئلا يكون استبدالا في بدل الصرف والمسلم فيه والاستبدال فيهما حرام والقاصر كرد المغصوب والمبيع مشغولا بجناية أو دين أو غيرهما بأن كان حاملا أو مريضا حتى إذا هلك بذلك السبب انتقض القبض عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما هذا عيب وهو لا يمنع تمام التسليم وكأداء الزيوف إذا لم يعلم به صاحب الحق حتى لو هلك عنده بطل حقه أصلا لما مر
____________________
(1/313)
____________________
(1/314)
____________________
(1/315)
والأداء الذي يشبه القضاء كما إذا أمهر أباها فاستحق صورة المسألة أن يكون أب المرأة عبد الرجل فتزوجها ذلك الرجل على أن المهر أبوها فاستحق حتى وجبت قيمته للمرأة على الزوج ولم يقض بها القاضي حتى ملكه ثانيا فمن حيث إنه عين حقها أداء أي تسليم الزوج إليها أداء فلا يملك منعه أي إذا طلبت المرأة من الزوج أن يسلم أباها إليها لا يملك الزوج أن يمنعه منها ومن حيث إن تبدل الملك يوجب تبدل العين قضاء روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على بريرة فأتت بريرة بتمر والقدر كان يغلي باللحم فقال عليه الصلاة والسلام ألا تجعلين لنا من اللحم نصيبا فقالت هو لحم تصدق علينا يا رسول الله فقال
____________________
(1/316)
عليه الصلاة والسلام هي لك صدقة ولنا هدية فقد جعل تبدل الملك موجبا لتبدل العين حكما مع أن العين واحد ولأن حكم الشرع على الشيء بالحل والحرمة وغيرهما يتعلق بذلك الشيء من حيث إنه مملوك لا من حيث الذات حتى لو كان حكم الشرع يتعلق من حيث الذات لا يتغير أصلا كلحم الخنزير فإنه حرام لعينه ونجس لعينه أما إذا تعلق حكم الشرع بهذا الذات من حيث الاعتبار فإذا تبدل الاعتبار تبدل هذا المجموع وقد أراد بالعين هذا المجموع أي الذات مع الاعتبار لأن العين الذي تعلق به حكم الشرع هو هذا المجموع فلا يعتق قبل تسليمه إليها ويملك الزوج إعتاقه وبيعه وقبله أي بيع العبد قبل تسليمه إليها وإن كان قضى القاضي بقيمته عليه ثم ملكه لا يعود حقها فيه ومن الأداء القاصر ما إذا أطعم المغصوب المالك جاهلا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يبرأ عن الضمان لأنه
____________________
(1/317)
مأمور بالأداء لا بالتغرير وربما يأكل الإنسان في موضع الإباحة فوق ما يأكل من ماله ولنا أنه أداء حقيقة وإن كان فيه قصور فتم بالإتلاف وبالجهل لا يعذر والعادة المخالفة للديانة لغو وهو أن يأكل في موضع الإباحة فوق ما يأكل من ماله
والقضاء بمثل معقول إما كامل كالمثل صورة ومعنى وإما قاصر كالقيمة إذا انقطع المثل أو لا مثل له لأن الحق في الصورة قد فات للعجز فبقي المعنى فلا يجب القاصر إلا عند العجز عن الكامل ففي قطع اليد ثم القتل خير الولي بين القطع ثم القتل وهو مثل كامل وبين القتل فقط وهو قاصر وعندهما لا يقطع لأنه إنما يقتص بالقطع إذا تبين أنه لم يسر فإذا أفضى إليه يدخل موجبه في موجب القتل المراد بالموجب هنا ما يجب بالقتل والقطع وهو القصاص إذ القتل أتم موجب القطع المراد بالموجب هنا الأثر الحاصل بالقطع في محله فصار كما إذا قتله بضربات قلنا
____________________
(1/318)
هذا من حيث المعنى أي هذا الذي ذكر أن القتل أتم أثر القطع فاتحد الجناية فيتحد موجبهما إنما هو من حيث المعنى أما من حيث الصورة في جزاء الفعل فلا لأن الفعل وهو القطع والقتل من حيث الصورة متعدد فيتعدد ما هو جزاء الفعل وهو القصاص وإنما يدخل في جزاء المحل أي إنما يدخل ضمان الجزء في ضمان الكل فيما هو جزاء المحل كما يدخل أرش الموضحة في دية الشعر وهذا لأن الدية جزاء المحل والقتل قد يمحو أثر القطع كما يتم قال الله تعالى وما أكل السبع إلا ما ذكيتم جعل القتل ماحيا أثر الجرح فهذا منع لقوله إن القتل أتم أثر القطع وإنما لا يجب أي القصاص جواب عن قوله فصار كما إذا قتله بضربات بتلك الضربات إذ لا قصاص فيها وإذا انقطع المثل يجب القيمة يوم الخصومة لأنه حينئذ تحقق العجز عن الكامل بالقضاء أي قضاء القاضي وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعند أبي يوسف يوم الغصب وعند محمد يوم الانقطاع
والقضاء بمثل غير معقول كالنفس تضمن بالمال المتقوم فلا يجب عند احتمال المثال المعقول صورة ومعنى وهو القصاص خلافا للشافعي رحمه الله فإن عنده ولي الجناية مخير بين القصاص وأخذ الدية وإنما شرع أي المال عند عدم احتماله أي القصاص منه على
____________________
(1/319)
القاتل بأن سلم نفسه وعلى القتيل بأن لم يهدر حقه بالكلية وما لا يعقل له مثل لا يقضى إلا بنص قد ذكر هذه المسألة في حقوق الله تعالى فالآن نذكرها في حقوق العباد لنفرع عليها فروعها
فلا يضمن المنافع بالمال المتقوم لأنها غير متقومة إذ لا تقوم بلا إحراز ولا إحراز بلا بقاء ولا بقاء للأعراض فإن قيل فكيف يرد العقد عليها أي إن لم تكن المنافع متقومة فكيف يرد عقد الإجارة على المنافع قلنا بإقامة العين مقامها فإن قيل هي في العقد متقومة أي المنافع في العقد مال متقوم لتقومها في عقد النكاح لأن ابتغاء البضع وهو النكاح لا يجوز إلا به أي بالمال المتقوم قال الله تعالى أن تبتغوا بأموالكم ويجوز أي
____________________
(1/320)
ابتغاء البضع بمنفعة الإجارة فتكون منفعة الإجارة في عقد النكاح مالا متقوما فتكون في نفسها كذلك أي لما كانت المنافع في العقد متقومة كانت في نفسها متقومة لأن ما ليس بمتقوم لا يصير بورود العقد متقوما ولأن تقومها ليس لاحتياج العقد إليه هذا دليل آخر على قوله فتكون في نفسها كذلك لأن العقد قد يصح بدونه كالخلع فإن منافع البضع غير متقومة في حال الخروج عن العقد وإن كانت متقومة في حال الدخول في العقد فمع أنها غير متقومة حال الخروج يصح مقابلتها بالمال في العقد وهو عقد الخلع فعلم أن العقد لا يحتاج إلى تقومها فتقومها في العقد ليس لضرورة العقد ولما ثبت تقومها في العقد تكون في نفسها متقومة قلنا تقومها في العقد ثبت بالرضا هذا منع لقوله إن ما ليس بمتقوم لا يصير بورود العقد متقوما بل يصير في العقد متقوما بالرضا بخلاف القياس لما بينا أنه لا تقوم بلا إحراز فلا يقاس عليه فيشمل معنيين أحدهما أنه لا يقاس تقوم المنافع في الغصب على تقومها في العقد والثاني أنه لا يقاس كون المنافع مقابلا بالمال في الغصب على كونها مقابلا بالمال في العقد
لهذا أي لكونه التقوم في العقد بخلاف القياس وهذا دليل على بطلان القياس بالمعنى الأول
____________________
(1/321)
وقوله وللفارق أيضا وهو الرضا دليل على بطلان القياس بالمعنى الثاني فإن له أثرا في إيجاب المال مقابلا بغير المال ولا يضمن الشاهد بعفو الولي القصاص إذا قضى القاضي به ثم رجع هذا تفريع آخر على قوله وما لا يعقل له مثل لا يقضى إلا بنص وصورة المسألة شهد شاهدان بعفو الولي عن القصاص فقضى القاضي بالعفو ثم رجعا عن الشهادة لم
____________________
(1/322)
يضمنا ولا غير ولي القتيل إذا قتل القاتل أي لا يضمن غير ولي القتيل إذا قتل القاتل لأن الشهود وقاتل القتيل لم يفوتوا لولي القتيل شيئا إلا استيفاء القصاص وهو معنى لا يعقل له مثل
والقضاء الشبيه بالأداء كالقيمة فيما إذا أمهر عبدا غير معين فإنها قضاء حقيقة لكن لما
____________________
(1/323)
كان الأصل مجهولا من حيث الوصف ثبت العجز أي عن أداء الأصل وهو تسليم العبد فوجب القيمة فكأنها أصل ولما كان أي الأصل وهو العبد معلوما من حيث الجنس يجب هو أي الأصل وهو العبد فيخير بينه وبين القيمة وأيهما أدى تجبر على القبول وأيضا الواجب من الأصل الوسط وذا يتوقف على القيمة فصارت أصلا من وجه فقضاؤها يشبه الأداء
فصل لا بد للمأمور به من الحسن هذه المسألة من أمهات مسائل الأصول ومهمات مباحث المعقول والمنقول ومع ذلك هي مبنية على مسألة الجبر والقدر الذي زلت في بواديها أقدام الراسخين وضلت في مباديها أفهام المتفكرين وغرقت في بحارها عقول المتبحرين وحقيقة الحق فيها أعني الحق بين طرفي الإفراط والتفريط سر من أسرار الله تعالى التي لا يطلع عليها إلا خواص عباده وها أنا بمعزل عن ذلك لكن أوردت مع
____________________
(1/324)
العجز عن درك الإدراك قدر ما وقفت عليه ووقفت لإيراده اعلم أن العلماء قد ذكروا أن الحسن والقبح يطلقان على ثلاثة معان الأول كون الشيء ملائما للطبع ومنافرا له والثاني كونه صفة كمال وكونه صفة نقصان والثالث كون الشيء متعلق المدح عاجلا والثواب
____________________
(1/325)
آجلا وكونه متعلق الذم عاجلا والعقاب آجلا فالحسن والقبح بالمعنيين الأولين يثبتان بالعقل اتفاقا أما بالمعنى الثالث فقد اختلفوا فيه فعند الأشعري لا يثبتان بالعقل بل بالشرع فقط وهذا بناء على أمرين أحدهما أنهما ليسا لذات الفعل وليس للفعل صفة يحسن الفعل أو يقبح لأجلها عند الأشعري وثانيهما أن فعل العبد ليس باختياره عنده فلا يوصف بالحسن والقبح ومع ذلك جوز كونه متعلق الثواب والعقاب بالشرع بناء على أن عنده لا يقبح من الله تعالى أن يثيب العبد أو يعاقبه على ما ليس باختياره لأن الحسن والقبح لا ينسبان إلى أفعال الله تعالى عنده فالحسن والقبيح بالمعنى الثالث يكونان عند الأشعري بمجرد كون الفعل مأمورا به ومنهيا عنه فلهذا قال فالحسن عند الأشعري ما أمر به سواء كان الأمر للإيجاب أو الإباحة أو الندب والقبيح ما نهي عنه سواء كان النهي للتحريم أو للكراهة وعند المعتزلة ما يحمد على فعله سواء كان يحمد عليه شرعا أو عقلا وهذا تفسير الحسن
____________________
(1/326)
وما يذم على فعله هذا تفسير القبيح وبالتفسير الآخر ما يكون للقادر العالم بحاله أو يفعله احترز بالقيدين عن فعل المضطر والمجنون وهذا تفسير آخر للحسن فإن المعتزلة فسروا الحسن والقبيح بتفسيرين فالحسن بالتفسير الأول يختص بالوجوب والمندوب وبالتفسير الثاني يتناول المباح أيضا
وما ليس له ذلك أي القبيح ما ليس للقادر العالم بحاله أن يفعله فكلا تفسيري القبيح متساويان لا يتناولان إلا الحرام والمكروه فعلى التفسير الأول للحسن المباح واسطة بين الحسن والقبيح وعلى الثاني لا واسطة بينهما فعند الأشعري لا يثبتان إلا بالأمر والنهي لما ذكرت أن هذا الحكم مبني عنده على أصلين أوردت على مذهبه دليلين لإثبات الأصلين أما الأول فقوله لأنهما ليسا لذات الفعل أو لصفة له وإلا يلزم قيام العرض وضعفه ظاهر أي ضعف هذا الدليل ظاهر لأنه إن عني بقيام العرض بالعرض اتصافه به فلا نسلم امتناعه فإنه واقع كقولنا هذه الحركة سريعة أو بطيئة على أن قيام العرض بالعرض بهذا المعنى لازم على تقدير كونهما شرعيين أيضا نحو هذا
____________________
(1/327)
الفعل حسن شرعا أو قبيح شرعا وإن عني أن العرض لا يقوم بعرض آخر بل لا بد من جوهر يقوم به العرضان فالقيام بهذا المعنى غير لازم على تقدير كون الحسن والقبح لذات الفعل أو لصفة له إذ لا بد من فاعل يقوم الفعل الحسن به وإن عني به معنى آخر فلا بد من بيانه لنتكلم عليه وأما الثاني فقوله ولأن فاعل القبيح إن لم يتمكن من تركه ففعله اضطراري وإن تمكن فإن لم يتوقف على مرجح كان اتفاقيا وإن توقف يجب عنده لأنا فرضناه مرجحا تاما ولئلا يترجح المرجوح ولا
____________________
(1/328)
يكون المرجح باختياره لئلا يتسلسل فيكون اضطراريا والاضطراري والاتفاقي لا يوصفان بهما اتفاقا تقريره أن فاعل القبيح لا يخلو إما أن يكون متمكنا من تركه أو لا فإن لم يكن متمكنا من تركه ففعله اضطراري لأن التمكن من الفعل مع عدم التمكن من الترك لا يكون باختياره إذ لو كان يتكلم في ذلك الاختيار أنه باختياره أم لا فإما أن يتسلسل أو ينتهي إلى الاضطرار وإن كان متمكنا من تركه ففعله إن لم يتوقف على مرجح يكون اتفاقيا وهو لا يوصف بالحسن والقبح اتفاقا وأيضا يكون رجحانا من غير مرجح وهو محال وإن توقف على مرجح يجب وجود الفعل عند وجود المرجح لأنا فرضناه مرجحا تاما أي جملة ما يتوقف عليه وجود الفعل فلو لم يجب الفعل مع هذه الجملة فصدور الفعل مع هذه الجملة تارة وعدم صدوره أخرى يكون رجحانا من غير مرجح ولأنه لو لم يجب حينئذ يمكن عدمه لكن عدمه يوجب رجحان المرجوح وهو أشد امتناعا من رجحان أحد المتساويين وإذا وجب عند وجود المرجح لا يكون اختياريا لأن المرجح لا يكون باختياره وألا نتكلم في ذلك الاختيار كما ذكرنا فيؤدي إلى التسلسل أو الاضطرار والتسلسل باطل فثبت أنه اضطراري والاضطراري يوصف بالحسن والقبح اتفاقا واعلم أن كثيرا من العلماء
____________________
(1/329)
اعتقدوا هذا الدليل يقينيا والبعض الذي لا يعتقدونه يقينيا لم يوردوا على مقدماته منعا يمكن أن يقال إنه شيء وقد خفي على كل الفريقين مواقع الغلط فيه وأنا أسمعك ما سنح لخاطري وهذا مبني على أربع مقدمات المقدمة الأولى أن الفعل يراد به المعنى الذي وضع المصدر بإزائه ويمكن أن يراد به المعنى الحاصل بالمصدر فإنه إذا تحرك زيد فقد قامت الحركة بزيد فإن أريد بالحركة الحالة التي تكون للمتحرك في أي جزء يفرض من أجزاء المسافة فهي المعنى الثاني وإن أريد بها إيقاع تلك الحالة فهي المعنى الأول والمعنى الثاني موجود في الخارج أما الأول فأمر يعتبره العقل ولا وجود له في الخارج إذ لو كان لكان له موقع ثم إيقاع ذلك الإيقاع يكون واقعا إلى ما لا يتناهى فيلزم التسلسل في طرف المبدأ في الأمور الواقعة في الخارج وهو محال ولأنه يلزم أنه إذا أوقع الفاعل شيئا واحدا فقد أوجد أمورا غير متناهية وهذا بديهي الاستحالة على أن كون الإيقاع أمرا غير موجود في الخارج أظهر على مذهب الأشعري فإن التكوين عنده أمر غير موجود في الخارج
____________________
(1/330)
____________________
(1/331)
____________________
(1/332)
المقدمة الثانية كل ممكن فلا بد من أن يتوقف وجوده على موجد وألا يكون واجبا بالذات ثم إن لم يوجد جملة ما يتوقف عليه وجوده يمتنع وجوده وإلا أمكن وجوده وكل ممكن لا يلزم من فرض وقوعه محال وهاهنا يلزم لأنه إن وقع بدون تلك الجملة لم تكن هي جملة ما يتوقف عليه والمفروض خلافه وإن وجد تلك الجملة يجب وجوده عندها وإلا أمكن عدمه ففي حال العدم إن توقف على شيء آخر لم يكن المفروض جملة وإن لم يتوقف على شيء آخر فوجوده مع الجملة تارة وعدمه أخرى رجحان من غير مرجح وهو محال فإن قيل لا نسلم أنه محال بل الرجحان بلا مرجح بمعنى وجود الممكن من غير أن
____________________
(1/333)
يوجده شيء آخر محال ولم يلزم هذا المعنى قلت قد لزم هذا المعنى لأنه إن أمكن عدمه مع هذه الجملة يجب أن لا يلزم من فرض عدمه محال لكنه يلزم لأنه لا شك أنه في زمان عدمه لم يوجده شيء ففي الزمان الذي وجد إن وجد بإيجاد شيء آخر إياه يكون الإيجاد من جملة ما يتوقف عليه وجوده فلا يكون المفروض جملة وإن وجد من غير إيجاد شيء
____________________
(1/334)
آخر إياه لزم ما سلمتم استحالته فثبت أنه لا بد لوجود كل شيء ممكن من شيء يجب عنده وجود ذلك الممكن ولولاه يمتنع وجوده عند وجود جملة وهذه القضية متفق عليها بين أهل السنة والحكماء لكن أهل السنة يقولون بها على وجه لا يلزم منه الموجب بالذات فإن وجود الشيء يجب على تقدير إيجاد الله تعالى إياه ويمتنع على تقدير أن لا يوجده واعلم أن ما زعموا أن كل موجود ممكن محفوف بوجهين
____________________
(1/335)
سابق ولاحق باطل لأنه إن أريد السبق الزماني فمحال لأنه يلزم وجوب وجود الشيء حال عدمه وإن أريد سبق المحتاج إليه فكذا لأنه مع العلة الناقصة لا يجب ومع التامة لا يكون الوجوب منها ضرورة أن الوجوب معلولها فالوجوب ليس إلا مقارنا بحيث لا يحتاج الوجود إليه وكل منهما أثر المؤثر التام ثم العقل قد يعتبر أحد المتضايفين مؤخرا من حيث إنه يحتاج إلى الآخر في التعقل ومقدما من حيث إن الآخر يحتاج إليه وأيضا مقارنا مع أنه في الحقيقة واحد
____________________
(1/336)
المقدمة الثالثة لما ثبت أنه لا بد لوجود كل ممكن من شيء يجب عنده وجود ذلك الممكن يلزم أنه لا بد أن يدخل في جملة ما يجب عنده وجود الحادث أمور لا موجودة في الخارج ولا معدومة كالأمور الإضافية وهو القول بالحال وذلك لأن جملة ما يجب عنده وجود زيد الحادث لا يكون تمامها قديما لأن القديم إن أوجبه في وقت معين فحدوثه يتوقف على حصول ذلك الوقت فلا يكون تمام ما يجب عنده قديما وإن أوجبه لا في وقت معين فحدوثه في وقت معين رجحان من غير مرجح فيكون بعضها حادثة فحينئذ إن لم يدخل في تلك الجملة أمور لا موجودة ولا معدومة فهي إما موجودات محضة وهي مستندة
____________________
(1/337)
إلى الواجب فيلزم إما قدم الحادث أو انتفاء الواجب وإما معدومات محضة وهي لا تصلح علة الموجود وأيضا وجود زيد متوقف على أجزائه الموجودة وإما الموجودات مع معدومات وهذا باطل أيضا لأن هذه القضية ثابتة وهي أنه كلما وجد جميع الموجودات التي يفتقر إليها زيد يوجد زيد من غير توقف على عدم شيء إذ لو توقف على عدم عمرو مثلا يتوقف على عدمه الذي بعد الوجود لأن العدم الذي قبل الوجود قديم فيلزم قدم زيد الحادث ثم عدم عمرو الذي بعد الوجود لا يمكن إلا بزوال جزء من العلة الموجبة لوجود عمرو أو بقائه وذلك الجزء إما أن يكون موجودا محضا فيصير معدوما وهذا لا يمكن لأنه لا يصير معدوما إلا بعدم جزء من علة وجوده أو بقائه وهلم جرا إلى الواجب فلا يمكن عدم
____________________
(1/338)
عمرو حينئذ لا يمكن وجود زيد لتوقفه على عدم عمرو وكلامنا في زيد الموجود وإما أن يكون لزوال العدم مدخل في زوال ذلك الجزء وزوال ذلك العدم هو الوجود
ونفرضه وجود بكر فعدم عمرو يتوقف على وجود بكر وقد فرضناه وجود زيد متوقفا على عدم عمرو فيلزم توقف وجود زيد على وجود بكر على تقدير وجود جميع الموجودات التي يفتقر إليها زيد هذا خلف وإذا ثبت القضية المذكورة يلزم أنه كلما عدم زيد لا يكون عدمه إلا بعدم شيء من تلك الموجودات ثم هكذا الواجب فيثبت على تقدير افتقار وجود كل ممكن إلى شيء يجب ذلك الممكن عنده دخول ما ليس بموجود ولا معدوم في جملة ما يجب عنده وجود الحادث
____________________
(1/339)
____________________
(1/340)
____________________
(1/341)
فإن قيل لا يثبت هذا الأمر على ذلك التقدير لأنه يراد بالمعدوم نقيض الموجود فالأمر الذي يسمونه حالا داخل في أحد النقيضين ضرورة
قلت هذا التأويل صحيح إلا في قوله وذلك الجزء إما أن يكون موجودا محضا إلى آخره فإن الانحصار فيما ذكر من الأمرين ممنوع فإنه يمكن أن يدخل في العلة الموجبة لعمرو أمور لا موجودة ولا معدومة كالإضافيات فإن فسر الموجود بما يندرج فيه الإضافيات لا نسلم أن كل موجود يجب بواسطة الموجودات المستندة إلى الواجب فلا يصح قوله وهلم جرا إلى الواجب وإن فسر بما لا يندرج فيه الإضافيات في الموجود بل في المعدوم لا نسلم حينئذ أن زوال كل معدوم لا يكون إلا بوجود شيء فإن الإضافيات الوجودية معدومة في الخارج وزوالها لا
____________________
(1/342)
يكون بوجود شيء فثبت توقف الموجودات الحادثة على أمور لا موجودة ولا معدومة ولا يمكن استناد تلك الأمور إلى الواجب بطريق الإيجاب لأنه يلزم حينئذ المحالات المذكورة من قدم الحادث وانتقاء الواجب ولا يلزم من عدم استناد الأمور المذكورة استغناؤها عن الواجب إذ لا شك أنها مفتقرة إلى الواجب بلا واسطة أو بواسطة الموجودات المستندة إليه
____________________
(1/343)
لكن لا على سبيل الوجوب وحينئذ إما أن يجب بالتزام التسلسل فيها وهذا باطل أو بكون إضافة الإضافة عين الأولى وإما أن لا يجب
والظاهر أن الحق هذا فإن إيقاع الحركة غير واجب ومع ذلك أوقعها الفاعل ترجيحا لأحد المتساويين ثم الحركة أي الحالة المذكورة تجب على تقدير الإيقاع إذ لو لم تجب فوجودها رجحان بلا مرجح ولا يلزم في الإيقاع الرجحان بلا مرجح أي الوجود بلا موجد إذ لا وجود للإيقاع واعلم أن إثبات تلك الأمور عن تقدير أن كل ممكن يحتاج وجوده إلى مؤثر يوجبه مخلص عن القول بالموجب بالذات وموجب للفاعل بالاختيار ولولا تلك الأمور لا يمكن نفي الموجب بالذات إلا بالتزام وجود بعض الموجودات من غير وجوب ويلزم من هذا وجود الممكن بلا موجد وهو محال كما مر في المقدمة الثانية
____________________
(1/344)
المقدمة الرابعة الرجحان بلا مرجح باطل وكذا الترجيح من غير مرجح لكن ترجيح أحد المتساويين أو المرجوح واقع لأنه إما أن لا يكون ترجيح أصلا أو يكون للراجح فقط أو المتساوي أو المرجوح والأول باطل لأنه لولا الترجيح لا يوجد ممكن أصلا وكذا ترجيح الراجح باطل لأن الممكن لا يكون راجحا بالذات بل بالغير فترجيح الراجح يؤدي إلى إثبات الثابت أو احتياج كل ترجيح إلى ترجيح قبله إلى غير النهاية فالترجيح لا يكون إلا للمتساوي والمرجوح ولأن كل ممكن معدوم فعدمه راجح على وجوده في نفس الأمر بالنسبة إلى علة العدم ومساو له بالنسبة إلى ذات الممكن فإيجاده ترجيح المرجوح أو المساوي على أن الإرادة صفة من شأنها أن يرجح الفاعل بها أحد المتساويين أو المرجوح على الآخر فعلم أن الإرادة لا تعلل كما أن الإيجاب بالذات لا يعلل لأن ذات الإرادة تقتضي ما ذكرنا وإنما يمتنع رجحان المرجوح أو المتساوي ما داما كذلك فإذا رجح
____________________
(1/345)
الفاعل لم يبقيا كذلك
واعلم أن المتكلمين أوردوا لتجويز ترجيح المختار أحد المتساويين المثال المشهور وهو الهارب من السبع إذا رأى طريقين متساويين فقال الحكماء القضية البديهية التي لولاها لانسد باب العلم بالصانع هو أن الرجحان بلا مرجح باطل ولا تبطل بإيراد مثال لا يدل على عدم المرجح بل غايته عدم العلم بالمرجح فأقول القضية التي تستعمل في إثبات العلم بالصانع هي أن رجحان أحد طرفي الممكن بلا مرجح محال بمعنى أن وجوده بلا موجد محال مع أنه يمكن إثبات هذا المطلوب مع الغنية عن هذه القضية بأن نقول الموجود إما أن لا يحتاج في وجوده إلى غيره أو يحتاج ولا بد من الأول قطعا للتسلسل ثم على تقدير تسليم تلك القضية وبداهتها الفاعل هو المرجح فلا يلزم وجود الممكن بلا موجد وأيضا إنما أوردوا المثال سندا للمنع فعليكم البرهان على الرجحان في المثال المذكور على أنا نقول إن وجب المرجوح في المثال المذكور فإما أن يجب بحسب نفس الأمر وهذا باطل
____________________
(1/346)
لأن الاعتقاد الذي لا يطابق لما في نفس الأمر كاف للأفعال الاختيارية وإما أن يجب بحسب اعتقاد الفاعل وذا باطل أيضا إذ يفعل أفعالا مع عدم اعتقاد الرجحان كما في الهارب بل مع اعتقاد المرجوحية ومن أنكر هذا فقد أنكر الوجدانيات فبطل قولهم إن غايته عدم العلم بالرجحان فإن عدم علم الفاعل بالرجحان كاف في هذا الغرض فعلم أن المراد بقولنا إن الرجحان بلا مرجح باطل هو أن وجود الممكن بلا موجد محال سواء كان الموجد موجبا أو لا فالرجحان هو الوجود فقط لا أنه يصير راجحا قبل الوجود
____________________
(1/347)
إذا عرفت هذه المقدمات فقوله يجب وجود الفعل عند وجود المرجح إن أراد بالفعل الحالة التي تكون للمتحرك في أي جزء يفرض من أجزاء المسافة فعلى تقدير القول بوجود بعض الأشياء بلا وجوب نمنع وجوب تلك الحالة فلا يلزم الجبر على أنا قد أبطلنا هذا التقدير لكن إثبات المطلوب على هذا التقدير أيضا أقرب من الاحتياط وعلى تقدير امتناع وجود الأشياء بلا وجوب الجبر منتف أيضا إما بالقول بأن اختيار الاختيار عين الاختيار فلا يلزم التسلسل على تقدير كون المرجح من العبد وإما بأنه يلزم حينئذ توقف الموجود على ما ليس بموجود ولا معدوم فالحالة المذكورة تتوقف على أمر لا موجود ولا معدوم كالإيقاع مثلا ثم هو إما أن يجب بطريق التسلسل أو بأن إيقاع الإيقاع عين الأول
وإما أن لا يجب لكن الفاعل يرجح أحد المتساويين وإن أراد بالفعل الإيقاع فيعين ما قلنا في الإيقاع هذا الذي ذكرنا هو إبطال دليل الجبر فالآن جئنا إلى إثبات ما هو الحق وهو التوسط بين الجبر والقدر أي ما هو حاصل بمجموع خلق الله تعالى وفعل العبد فنقول التفرقة ضرورية بين الأفعال الاختيارية والاضطرارية وليست التفرقة بمجرد كونها موافقة
____________________
(1/348)
لإرادتنا لأن الإرادة إن كانت صفة بها يرجح الفاعل أحد المتساويين ويخصص الأشياء بما هي عليه من الخصوصيات يلزم من وجود الإرادة لنا كون الترجيح والتخصيص صادرين منا وهو المطلوب وإن لم يكونا صادرين منا لا تكون الإرادة إلا مجرد شوق فيجب أن لا يقع فرق بين الاختيارية والاضطرارية التي تشتاق إليها كحركة نبضنا على نسق نشتهي أن تكون عليه لكنا نفرق بينهما ونعلم أن الأولى بفعلنا لا الثانية
____________________
(1/349)
وأيضا نفرق في الاختياريات بين ما نقدر على تركه وبين ما لا نقدر على تركه كانحدار إلى صبب بالعدو الشديد الذي لا نقدر على الإمساك عنه وكذا نفرق في الترك بين ما نقدر على الفعل وبين ما لا نقدر أيضا قد نفعل بداعية وقد نفعل بلا داعية فعلم أن العلم الوجداني قاض بأنا نفعل من غير اضطرار ولا وجوب ونرجح أحد المتساويين أو المرجوح وهذا الترجيح هو الاختيار والقصد ثم مع ذلك نشاهد خوارق العادات في صدور الأفعال كالحركات القوية من القوى الضعيفة كقطع مسافة بعيدة في طرفة عين وأمثاله وكذا في عدم صدورها كما تواتر في أخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصديقين أن الكفار قصدوهم بأنواع الأذى فلم يقدروا على ذلك مع سلامة الآلات وتوافر الدواعي والإرادات مع قدرتهم في ذلك الزمان على أمور أشق من ذلك فعلم أن المؤثر في وجود الحركة أي الحالة المذكورة ليس قدرة العبد وإرادته إذ لو كان لم يخالف إرادته ولو كان مؤثرا طبعا فيما جرى عليه العادة لم يوجد خوارق العادات وأيضا لا تمكن الحركات إلا بتمديد الأعصاب وإرخائها ولا شعور لنا بشيء من ذلك ولا ندري أي عصبة يجب تمديدها لتحصيل الحركة المخصوصة وكذا لا شعور لنا بكيفية خروج الحروف عن مخارجها فعلم من وجدان ما يدل على الاختيار ووجدان اختيار العبد ليس مؤثرا في وجود الحالة المذكورة أنه جرى عادته تعالى أنا متى قصدنا الحركة الاختيارية قصدا جازما من غير اضطرار إلى القصد يخلق
____________________
(1/350)
الله تعالى عقيبه الحالة المذكورة الاختيارية وإن لم نقصد لم يخلق ثم القصد مخلوق الله بمعنى أنه تعالى خلق قدرة يصرفها العبد إلى كل منهما على سبيل البدل ثم صرفها إلى واحد معين بفعل العبد وهو القصد والاختيار فالقصد مخلوق الله بمعنى استناده لا على سبيل الوجوب إلى موجودات هي مخلوقة الله تعالى لا أن الله خلق هذا الصرف مقصورا لأن هذا ينافي خلق القدرة فحصلت الحالة المذكورة بمجموع خلق الله واختيار العبد فلهذا قال قلنا توقفه على مرجح لا يوجب كونه اضطراريا لأن لاختياره تأثيرا في فعله أيضا
وإنما قال أيضا ليعلم أن الاختيار ليس بمؤثر تام بل هو جزء المؤثر ببرهان آخر قد ثبت أنه لا يوجد شيء إلا وأن يجب وجوده بالغير فإن كان العبد موجبا لوجود بلا واسطة أمر فلا صنع له فيه كما لا صنع له في وجوده وفي ذاته وإن كان يتوسط وجود أمر فذلك الأمر يجب بالموجودات المستندة إلى الواجب فيخرج من صنع العبد وإن كان يتوسط عدم أمر لا يكون ذلك العدم العدم السابق على الوجود إذ لا صنع للعبد فيه فيكون العدم الذي بعد الوجود وهذا العدم لا يمكن إلا بزوال العلة التامة لذلك الأمر أو لبقائه فالعلة التامة إن
____________________
(1/351)
كانت موجودات محضة تكون واجبة بالاستناد إلى الواجب تعالى فلا يقدر العبد على إعدامها وإن كان للعدم مدخل في تلك العلة التامة فزوال العدم هو الوجود فيكون يتوسط وجود أمر وقد مر امتناعه وقد ثبت بالوجدان أن للعبد صنعا ما فلا يكون إلا في أمر لا موجود ولا معدوم ولا يكون ذلك الأمر واجبا بواسطة الموجودات المستندة إلى الواجب تعالى إذ حينئذ يخرج من صنع العبد ثم ذلك الشيء الموجود لا يجب على تقدير ذلك الأمر لتوقفه على أمور لا صنع للعبد فيها أصلا كقدرة العبد ووجوده وأمثالهما فالأمر الإضافي الذي هو الصادر من العبد وهو الذي لا يجب عند وجود الأثر يسمى كسبا وقد قال مشايخنا إن ما يقع به المقدور مع صحة انفراد القادر به فهو خلق وما يقع به المقدور لا مع صحة انفراد القادر به
____________________
(1/352)
فهو كسب ثم إن مقدورات الله قسمان الأول ما يصح انفراد القادر به مع تحقق الانفراد كما في الموجودات التي لا صنع للعبد فيها والثاني ما يصح انفراد القادر به لكن لا يكون منفردا بل يكون لقدرة العبد مدخل ما في ذلك الشيء كالأفعال الاختيارية للعبادة وقد قيل ما وقع لا في محل قدرته فهو خلق وما وقع في محل قدرته فهو كسب هذا وإن كان تفسيرا آخر لكن في الحقيقة المجموع تفسير واحد فالخلق أمر إضافي يجب أن يقع به المقدور لا في محل القدرة ويصح انفراد القادر بإيقاع المقدور بذلك الأمر والكسب أمر إضافي يقع به المقدور في محل القدرة ولا يصح انفراد القادر بإيقاع المقدور بذلك الأمر فالكسب لا يوجب وجود المقدور بل يوجب من حيث هو كسب اتصاف الفاعل بذلك المقدور ثم اختلاف الإضافات ككونه طاعة أو معصية حسنة أو قبيحة مبنية على الكسب لا على الخلق إذ خلق القبيح ليس بقبيح إذ خلقه لا ينافي المصلحة والعاقبة الحميدة بل يشتمل على كثير منهما وإنما الاتصاف به بإرادته وقصده قبيح وقد علم أن الكسب من حيث هو هو يوجب الاتصاف به فالقصد إليه قبيح لأنه موصل إلى القبيح لأنه يعلم أنه كلما قصده يخلقه الله تعالى ولا جبر في القصد
فالحاصل أن مشايخنا رحمهم الله تعالى ينفون عن العبد قدرة الإيجاد والتكوين فلا خالق ولا مكون إلا الله لكن يقولون إن للعبد قدرة ما على وجه لا يلزم منه وجود أمر حقيقي لم يكن بل إنما يختلف بقدرته النسب والإضافات فقط كتعيين أحد المتساويين وترجيحه هذا ما وقفت عليه من مسألة الجبر والقدرة وبالله التوفيق
ثم بعد ذلك رجعنا إلى ما نحن بصدده وهو مسألة الحسن والقبح فقوله إن الاتفاقي والاضطراري لا يوصفان بالحسن والقبح غير مسلم لأن كون الفعل اتفاقيا أو اضطراريا لا ينافي كونه حسنا لذاته أو لصفة من صفاته فيمكن أن يوجب ذات الفعل أو صفة من صفاته لحوق المدح أو الذم بكل من اتصف به سواء كان اتصافه به اختياريا أو
____________________
(1/353)
اضطراريا أو اتفاقيا ألا ترى أن الله تعالى يحمد على صفاته العليا مع أن اتصافه بها ليس باختياره على أن الأشعري يسلم القبح والحسن عقلا بمعنى الكمال والنقصان فلا شك أن كل كمال محمود وكل نقصان مذموم وأن أصحاب الكمالات محمودون بكمالاتهم وأصحاب النقائص مذمومون بنقائصهم فإنكاره الحسن والقبح بمعنى أنهما صفتان لأجلهما يحمد أو يذم الموصوف بهما في غاية التناقض وإن أنكرهما بمعنى أنه لا يوجد في الفعل شيء يثاب الفاعل أو يعاقب لأجله فنقول إنه عنى أنه لا يجب على الله تعالى الإثابة والعقاب لأجله فنحن نساعده في هذا الفعل وإن عني أنه لا يكون في معرض ذلك فهذا بعيد عن الحق وذلك لأن الثواب والعقاب آجلا وإن كان لا يستقل العقل بمعرفة كيفيتهما لكن كل من علم أن الله تعالى عالم بالكليات والجزئيات فاعل بالاختيار قادر على كل شيء وعلم أنه غريق في نعم الله في كل لمحة ولحظة ثم مع ذلك كله ينسب من الصفات والأفعال ما يعتقد أنه في غاية القبح والشناعة إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا فلم ير بعقله أنه يستحق بذلك مذمة ولم يتيقن أنه في معرض سخط عظيم وعذاب أليم فقد سجل غوايته على غباوته ولجاجته وبرهن على سخافة عقله واعوجاجه واستخف بفكره ورأيه حيث لم يعلم بالشر الذي في ورائه عصمنا الله من الغباوة والغواية وأهدانا هدايا الهداية
فلما أبطلنا دليل الأشعري رجعنا إلى إقامة الدليل على مذهبنا وإلى الخلاف الذي بيننا وبين المعتزلة
____________________
(1/354)
وعند بعض أصحابنا والمعتزلة حسن بعض أفعال العباد وقبحها يكونان لذات الفعل أو لصفة له ويعرفان عقلا أيضا أي يكون ذات الفعل بحيث يحمد فاعله عاجلا ويثاب آجلا أو يذم فاعله عاجلا ويعاقب آجلا أو يكون للفعل صفة يحمد فاعل الفعل ويثاب لأجلها أو يذم ويعاقب لأجلها وإنما قال أيضا لأنه لا خلاف في أنهما يعرفان شرعا لأن وجوب تصديق النبي صلى الله عليه وسلم إن توقف على الشرع يلزم الدور واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ادعى النبوة وأظهر المعجزة وعلم السامع أنه نبي فأخبر بأمور مثل أن الصلاة واجبة عليكم وأمثال ذلك فإن لم يجب على السامع تصديق شيء من ذلك تبطل فائدة النبوة وإن وجب فلا يخلو من أن يكون وجوب تصديق بعض إخباراته عقليا أو لا يكون بل يكون وجوب تصديق كل إخباراته شرعيا والثاني باطل لأنه لو كان وجوب تصديق الكل شرعيا لكان وجوبه بقول النبي عليه السلام فأول الإخبارات الواجبة التصديق لا بد أن يجب تصديقه بقوله عليه السلام إن تصديق الإخبار الأول واجب فنتكلم في هذا القول فإن لم يجب تصديقه لا يجب تصديق الأول وإن وجب فإما أن يجب بالإخبار الأول فيلزم الدور أو بقول آخر فنتكلم فيه فيلزم التسلسل وإذا ثبت ذلك تعين الأول وهو كون وجوب تصديق شيء من إخباراته عقليا فقوله
وإلا أي وإن لم يتوقف على الشرع كان واجبا عقلا فيكون حسنا عقلا لأن الواجب العقلي ما يحمد على فعله ويذم على تركه عقلا والحسن العقلي ما يحمد على فعله عقلا فالواجب العقلي أخص من الحسن العقلي وكذلك نقول في امتثال أوامره إنه إما واجب عقلا إلخ هذا الدليل لإثبات العقلي صريحا وقوله
____________________
(1/355)
وأيضا وجوب تصديق النبي عليه السلام موقوف على حرمة الكذب فهي إن ثبتت شرعا يلزم الدور وإن ثبتت عقلا يلزم قبحها عقلا هذا يدل على القبح العقلي صريحا وكل منهما يدل على الآخر التزاما لأنه إذا كان الشيء واجبا عقلا يكون تركه قبيحا عقلا وإن كان الشيء حراما عقلا فتركه يكون واجبا فيكون حسنا عقلا ثم عند المعتزلة العقل حاكم بالحسن والقبح موجب للعلم بهما وعندنا الحاكم بهما هو الله تعالى
____________________
(1/356)
والعقل آلة للعلم بهما فيخلق الله العلم عقيب نظر العقل نظرا صحيحا لما أثبتنا الحسن والقبح العقليين وفي هذا القدر لا خلاف بيننا وبين المعتزلة أردنا أن نذكر بعد ذلك الخلاف بيننا وبينهم وذلك في أمرين أحدهما أن العقل عندهم حاكم مطلق بالحسن والقبح على الله تعالى وعلى العباد أما على الله فلأن الأصلح للعباد واجب على الله بالعقل فيكون تركه حراما على الله والحكم بالوجوب والحرمة يكون حكما بالحسن والقبح ضرورة وأما على العباد فلأن العقل عندهم يوجب الأفعال عليهم ويبيحها ويحرمها من غير أن يحكم الله فيها بشيء من ذلك وعندنا الحاكم بالحسن والقبح هو الله وهو متعال عن أن يحكم عليه غيره وعن أن يجب عليه شيء وهو خالق أفعال العباد على ما مر جاعل بعضها حسنا وبعضها قبيحا وله في كل قضية كلية أو جزئية حكم معين وقضاء مبين وإحاطة بظواهرها وبواطنها وقد وضع فيها ما وضع من خير أو شر ومن نفع أو ضر ومن حسن أو قبح وثانيهما أن العقل عندهم موجب للعلم بالحسن والقبيح بطريق التوليد بأن يولد العقل العلم بالنتيجة عقيب النظر الصحيح وعندنا العقل آلة لمعرفة بعض من ذلك إذ كثير مما يحكم الله بحسنه أو قبحه لم يطلع العقل على شيء منه بل معرفته موقوفة على تبليغ الرسل لكن البعض منه قد أوقف الله العقل عليه على أنه غير مولد للعلم بل أجرى عادته أنه خلق بعضه من غير كسب وبعضه بعد الكسب أي ترتيب العقل المقدمات المعلومة ترتيبا صحيحا على ما مر أنه ليس لنا قدرة إيجاد الموجودات وترتيب الموجودات ليس بإيجاد والمأمور به في صفة الحسن نوعان حسن لمعنى في نفسه وحسن لمعنى في غيره لما ثبت أن الحسن والقبح يعرفان عقلا علم أنهما ليسا بمجرد الأمر والنهي بل إنما يحسن الفعل أو يقبح إما لعينه أو لشيء آخر ثم ذلك الشيء حسن لعينه أو قبيح لعينه قطعا للتسلسل وهو إما أن يكون جزء ذلك الفعل أو خارجا
____________________
(1/357)
عنه والجزء إما صادق على الكل كالعبادة تصدق على الصلاة والصلاة عبادة مع خصوصية فالعادة جزؤها أو لم تصدق كالأجزاء الخارجية كالسجود لا يصدق على الصلاة والحسن لمعنى في نفسه يعم الحسن لعينه والحسن لجزئه ويجب أن يعلم أن الحسن باعتبار الجزء إنما يكون حسنا إذا كان جميع أجزائه حسنا بمعنى أنه لا يكون جزء واحد منه قبيحا لعينه إذ لو كان لا يكون المجموع حسنا ثم الخارج إما أن يكون صادقا على ذلك الفعل نحو الجهاد إعلاء كلمة الله تعالى فالجهاد حسن لكونه إعلاء والإعلاء خارج عن مفهوم الجهاد وإما أن لا يكون صادقا كالوضوء حسن للصلاة والصلاة لا تصدق على الوضوء فثبت أن الحسن ينقسم إلى هذه الأقسام وكذا القبيح لكن أمثلة هذا ستأتي في فصل النهي إن شاء الله تعالى وإنما أطلق الحسن لمعنى في نفسه على الحسن لعينه إما اصطلاحا ولا مشاحة في الاصطلاحات أو لأن الحسن لعينه هو الفعل المطلق كالعبادة مثلا وهو لا يوجد في ضمن جزئياته إلا الموجودة وبحثنا في تلك الجزئيات المعلوم وجودها حسا وهي لا تكون إلا حسنة لمعنى في نفسها أو حسنة لغيرها والفرق بين الجزء الصادق وبين الخارج الصادق أن ما يكون مفهوم الفعل متوقفا عليه فهو الجزء وما ليس كذلك فهو الخارج كالصلاة مثلا فإن مفهومها الشرعي إنما هو عبادة
____________________
(1/358)
مخصوصة بالخصوصيات المعلومة فمفهومها متوقف على العبادة وأما الجهاد فمفهومه القتل والضرب والنهب مع الكفار وليس إعلاء كلمة الله تعالى داخلا في هذا المفهوم بل يلزم ذلك في الخارج فيكون لازما لا جزءا وهذا هو الفرق المشهور بين الذاتي والعرضي إذا عرفت هذا علمت بطلان قول من أنكر كون الفعل حسنا أو قبيحا لذاته بأن قال قد يختلف حسن الفعل وقبحه باعتبار الإضافة فلا يكون حسنا لذاته أو قبيحا لذاته لأن الاختلاف بالإضافة لا يدل على ما ذكر لأن الإضافة داخلة في ذات ذلك الفعل لأن الفعل من الأعراض النسبية والأعراض النسبية تتقوم بالنسب والإضافات فالإضافات المختلفة فصول مقومة لها فقولنا شكر المنعم حسن لذاته معناه أن الشكر المضاف إلى المنعم حسن لا أن ذات الشكر من غير إضافة حسن
أما الأول فإما أن لا يقبل سقوط التكليف كالتصديق وإما أن يقبل كالإقرار باللسان يسقط حال الإكراه والتصديق هو الأصل والإقرار ملحق به لأنه دال عليه فإن الإنسان مركب من الروح والجسد فلا تتم صفة إلا بأن تظهر من الباطن إلى الظاهر بالكلام الذي هو أدل على الباطن ولا كذلك سائر الأفعال إنما قال هذا للفرق بين الإقرار وعمل الأركان فإن الإقرار نجعله داخلا في الإيمان ولا نجعل عمل الأركان داخلا فيه واعلم أن المنقول من علمائنا رحمهم الله تعالى في هذه المسألة قولان أحدهما أن الإيمان هو التصديق وإنما الإقرار لإجراء الأحكام الدنيوية عليه والثاني أن الإيمان هو التصديق والإقرار معا
____________________
(1/359)
فمن صدق بقلبه وترك الإقرار من غير عذر لم يكن مؤمنا اعتبار الجهة ركنية الإقرار في حال الاختيار
وإن صدق ولم يصادف وقتا يقر فيه يكون مؤمنا اعتبار الجهة التبعية في حال الاضطرار
وكالصلاة تسقط بالعذر وهو عطف على قوله كالإقرار وإما
____________________
(1/360)
أن يكون شبيها للحسن لمعنى في غيره كالزكاة والصوم والحج يشبه أن يكون حسنها بالغير وهو دفع حاجة الفقير وقهر النفس وزيارة البيت لكن الفقير والبيت لا يستحقان هذه العبادة والنفس مجبولة على المعصية فلا يحسن قهرها فارتفع الوسائط فصارت تعبدا محضا لله تعالى يرد عليه أنكم إن
____________________
(1/361)
أردتم بالحسن لمعنى في نفسه أن يكون الحسن لذات الفعل أو لجزئه لا تكون الزكاة وأمثالها من هذا القسم إذا بينتم أن جهة حسنها لمعنى في نفسها كونها تعبدا محضا لله تعالى فيكون عينها حسنا لكونها مأمورا بها لا لذاتها ولا لجزئها وإن أردتم بالحسن لمعنى في نفسه كون الفعل مأمورا به فهذا عين مذهب الأشعري ولا يستقيم تقسيم الحسن إلى الحسن لمعنى في نفسه والحسن لمعنى في غيره لأن كل المأمورات حسنة لمعنى في نفسها بهذا المعنى والجواب عنه وجهان الأول أنه قد علم مما تقدم أن حسن الفعل عند الأشعري لكونه مأمورا به وعندنا لا بل إنما أمر به لأنه كان حسنا قال الله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان يقتضي كونه عدلا وإحسانا قبل الأمر لكنه خفي عن العقل فأظهره الله تعالى بالأمر
____________________
(1/362)
فالأمر بالزكاة وأمثالها دال على حسنها لمعنى في نفسها على ما يأتي في هذا الفصل أن الأمر المطلق يتناول الضرب الأول من القسم الأول فيكون حسنا لمعنى في نفسها لكنا لا نعلم ذلك المعنى والثاني أن الإتيان بالمأمور به من حيث إنه إتيان بالمأمور به حسن لمعنى في نفسه لأن طاعة الله تعالى وترك مخالفته مما يحكم العقل بحسنه خلافا للأشعري فإن شكر المنعم عنده ليس بحسن عقلا فأداء الزكاة يكون حسنا لمعنى في نفسه لأنه إتيان بالمأمور به والإتيان بالمأمور به حسن لمعنى في نفسه وعند الأشعري إنما يحسن أداء الزكاة لأنه مأمور به فيصدق عليه تفسير الحسن وهو ما أمر به من غير ملاحظة أنه طاعة الله تعالى فهذا بناء على أن الحسن لمعنى في نفسه نوعان أحدهما أن يكون حسنا إما لعينه وإما لجزئه والثاني أن يكون حسنا لكونه إتيانا بالمأمور به وقد يجتمع المعنيان كالإيمان بالله تعالى فإنه حسن لعينه وإتيان بالمأمور به وقد يوجد الأول بدون الثاني وإذا أتى به لكونه حسنا لعينه أو لجزئه لكن لم يؤمر به وأيضا على العكس في الحسن لا لجزئه ولا لعينه لكن يكون مأمورا به وقد أتى به لكونه مأمورا به كالوضوء فعلم فساد ما قال أن كل المأمورات حسنة لمعنى في نفسها بهذا المعنى لأنه إنما يكون كذلك إذا أتى به لكونه مأمورا به فالوضوء الغير المنوي حسن لغيره عندنا لأجل الصلاة والمنوي بنية امتثال أمر
____________________
(1/363)
الله تعالى حسن لغيره ولمعنى في نفسه لأنه إتيان بالمأمور به
حتى شرط فيه الأهلية الكاملة فإن العبادات يشترط لها الأهلية الكاملة حتى لا تجب على الصبي بخلاف المعاملات على ما يأتي في فصل الأهلية إن شاء الله تعالى
وأما الثاني وهو الحسن لغيره
فذلك الغير إما منفصل عن هذا المأمور به كأداء الجمعة فإنه منفصل عن السعي وفي هذه العبارة تغيير وقد كانت قبل التغيير هكذا فذلك
____________________
(1/364)
الغير إما قائم بنفسه منفصل عن هذا المأمور به فأسقطت قولي إما قائم لأن الأعراض لا تقوم بنفسها فالمراد به أنه لا يكون قائما بهذا المأمور به فقوله منفصل يكون مكررا
كالسعي إلى الجمعة حسن لأداء الجمعة فالوضوء حسن للصلاة وليس قربة مقصودة حيث يسقط بسقوطها فلا يحتاج في كونه وسيلة لها إلى النية وإما قائم بهذا المأمور به كالجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى وصلاة الجنازة لقضاء حق الميت حتى إن أسلم الكفار بأجمعهم لا يشرع الجهاد وإن قضى البعض حق الميت يسقط عن الباقين ولما كان المقصود يتأدى بعين المأمور به كان هذا الضرب وهو أن يكون الغير قائما بالمأمور به
لا الضرب الأول وهو أن يكون الغير منفصلا عن المأمور به
شبيها بالقسم الأول وهو الحسن لمعنى في نفسه وجه المشابهة أن مفهوم الجهاد وهو القتل والضرب وأمثالهما وهذا المعنى ليس مفهوم إعلاء كلمة الله تعالى لكن في الخارج صار هذا القتل والضرب إعلاء كلمة الله تعالى كما أن السعي في المفهوم غير الأداء لكن في الخارج عينه وكما أن الحيوان في الحقيقة والمفهوم غير الناطق والكاتب لكن في الخارج هو عينهما فالجهاد حقيقة وهي القتل ليست حسنة لمعنى في نفسها لكن في الخارج وهو عين الإعلاء والإعلاء حسن لمعنى في نفسه فشابه هذا الضرب القسم الأول لا الضرب الأول لأن السعي غير أداء الجمعة في المفهوم وفي الخارج
والأمر المطلق أي من غير انضمام قرينة تدل على الحسن لمعنى في نفسه أو غيره
يتناول الضرب الأول من القسم الأول ويصرف عنه إن دل الدليل أي الذي لا يقبل سقوط التكليف من الحسن بمعنى في نفسه
لأن كمال الأمر يقتضي كمال صفة المأمور به لما علم أن المطلق ينصرف إلى الكامل لزم أن الأمر المطلق يكون أمرا كاملا بأن يكون للإيجاب فأما الأمر الذي للإباحة أو الندب فناقص في كونه أمرا إذا ثبت هذا وقد علم أن الحسن مقتضى الأمر أي لو لم يكن الشيء حسنا لما أمر الله تعالى به فيكون الأمر الكامل أي الأمر الذي هو للإيجاب مقتضيا للحسن الكامل لأن الشيء لو لم يكن بحيث يكون في فعله
____________________
(1/365)
مصلحة عظيمة وفي تركه مفسدة عظيمة لما أوجب الله تعالى فعله ليكون الإيجاب محصلا لفعله ومانعا من تركه فالإيجاب يدل على كمال العناية بوجود المأمور به وكمال العناية بوجود المأمور به يدل على كمال حسنه وكمال الحسن أن يكون حسنا لمعنى في نفسه وهو لا يقبل سقوط التكليف
وكونه عبادة يوجب ذلك أيضا وقوله ذلك إشارة إلى الحسن لمعنى في نفسه بمعنى أنه إتيان بالمأمور به وإنما اخترت في الأول لفظ يقتضي وفي الثاني يوجب لأن المعنى الأول مقتضى الأمر والثاني موجب الأمر والفرق بينهما لا يخفى على أهل التحصيل
فقال الشافعي رحمه الله تعالى الأمر بالجمعة يوجب صفة حسنها وأن لا يكون المشروع في ذلك اليوم إلا هي فلا يجوز ظهر غير المعذور إذا لم تفت الجمعة ولما لم يخاطب المعذور بالجمعة فإذا أدى الظهر لم ينتقض بالجمعة قلنا لما كان الواجب قضاء الظهر لا الجمعة علمنا أن الأصل هو الظهر لكنا أمرنا بإقامة الجمعة مقامه في الوقت فصارت مقررة له لا ناسخة ولا فرق في هذا بين المعذور وغيره لعموم فاسعوا لكن سقطت عنه الجمعة رخصة فإذا أتى بالعزيمة صار كغير المعذور فانتقض الظهر
هذه المسألة تفريع على أن الأمر المطلق يقتضي ما ذكره والخلاف هنا في أمرين أحدهما أن غير المعذور إذا أدى الظهر في البيت قبل فوات الجمعة لا يجوز عنده ويجوز عندنا بناء على أن الأصل في هذا اليوم الجمعة عنده والظهر عندنا ودليلنا في المتن مذكور وثانيهما أن المعذور إذا أدى الظهر هل ينتقض إذا حضر الجمعة أم لا فعنده لا وعندنا ينتقض لأن الأمر بالسعي يعم المعذور وغير المعذور فالعزيمة في هذا اليوم إقامة الجمعة مقام الظهر الذي هو الأصل لكن هذا ساقط من المعذور بطريق الرخصة فإذا حضر الجمعة صار كغير المعذور فانتقض الظهر
____________________
(1/366)
فصل التكليف بما لا يطاق غير جائز خلافا للأشعري لأنه لا يليق من الحكيم ولقوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها إلى غير ذلك من الآيات وهو غير واقع في الممتنع لذاته اتفاقا واقع عنده في غيره أي واقع عند الأشعري في غير الممتنع لذاته
كإيمان أبي جهل وعندنا ليس هذا تكليفا بما لا يطاق بناء على أن لقدرة العبد تأثيرا في أفعاله توسطا بين الجبر والقدر وقد سبق تقريره في الفصل المتقدم فإن قيل التكليف بالمحال لازم على تقدير التوسط أيضا لأن العبد غير قادر على إيجاد الفعل بل يوجد بخلق الله فيكون التكليف بالفعل تكليفا بالمحال قلنا نعم لكن للعبد قصد اختياري فالمراد بالتكليف بالحركة التكليف بالقصد إليها ثم بعد القصد الجازم يخلق الله تعالى الحركة أي الحالة المذكورة بإجراء عادته أو التكليف بالحركة بناء على قدرته على سببها الموصل إليها غالبا وهو القصد
على أن علمه تعالى بأنه لا يؤمن باختياره لا يخرجه عن حيز الإمكان هذا جواب عن دليل الأشعري وهو أن الله تعالى علم في الأزل أن أبا جهل لا يؤمن أصلا فإن آمن ينقلب علم الله جهلا وهو محال فإيمانه محال فالأمر بالإيمان يكون تكليفا بالمحال فنجيب بأن الله علم كل شيء على ما هو عليه والعلم تابع للمعلوم فعلمه تعالى بأنه لا يؤمن باختياره لا يخرجه من حيز الإمكان أي عن أن يكون مقدورا ومختارا له
وعنده لا تأثير لها أي لقدرة العبد في
____________________
(1/367)
أفعاله
بل هو مجبور ثم عندنا عدم جوازه أي عدم جواز التكليف بما لا يطاق
ليس بناء على أن الأصلح واجب على الله خلافا للمعتزلة بل بناء على أنه لا يليق بحكمه وفضله ثم القدرة شرط لوجوب الأداء لا لنفس الوجوب لأنه قد ينفك عن وجوب الأداء فلا حاجة إلى القدرة وسيأتي الفرق بين نفس الوجوب ووجوب الأداء في الفصل المتأخر
بل هو يثبت أي نفس الوجوب بالسبب والأهلية على ما يأتي أي في فصل الأهلية
والقدرة نوعان ممكنة وميسرة فالممكنة أدنى ما يتمكن به المأمور على أداء المأمور به أي من غير حرج غالبا وإنما قيدنا بهذا لأنهم جعلوا الزاد والراحلة في الحج من قبيل القدرة الممكنة
وهي
____________________
(1/368)
شرط لأداء كل واجب فضلا من الله تعالى بدنيا كان أو ماليا فلهذا يجب التيمم مع العجز والصلاة قاعدا أو موميا معه أي مع العجز
وتسقط الزكاة إذا هلك المال بعد الحول قبل التمكن اتفاقا فعلى هذا يتصل بقوله وهي شرط لأداء كل واجب
قال زفر لا يجب القضاء على من صار أهلا للصلاة في الجزء الأخير من الوقت لأنه لا يجب الأداء لعدم القدرة قلنا إنما يشترط حقيقة القدرة للأداء إذا كان هو الفرض وأما هاهنا فالفرض القضاء وقد وجد السبب فإمكان القدرة على الأداء بإمكان امتداد الوقت كاف لوجوب القضاء كمسألة الحلف بمس السماء فإنه ينعقد اليمين لإمكان البر في الجملة كما كان للنبي عليه السلام فإمكان الأصل وهو البر كاف لوجوب الخلف وهو الكفارة على أن القدرة التي شرطناها متقدمة هي سلامة الآلات والأسباب فقط وقد وجدت هنا
____________________
(1/369)
____________________
(1/370)
فأما القدرة الحقيقية فإنها مقارنة للفعل أي ولئن سلمنا أن إمكان القدرة على الأداء غير كاف لوجوب القضاء بل يشترط لوجوب القضاء وجود القدرة على الأداء فوجود القدرة على الأداء حاصل هنا لأن القدرة التي تشترط لوجوب العبادات متقدمة هي سلامة الآلات والأسباب فقط وهي حاصلة هنا ولا تشترط القدرة التامة الحقيقية لأنها مقارنة للفعل لأن العلة التامة تكون مقارنة للمعلول إذ لو كانت سابقة زمانا يلزم تخلف المعلول عن العلة التامة
أو نقول القضاء يبتنى على نفس الوجوب لا على وجوب الأداء كما في قضاء المسافر والمريض الصوم ولا يشترط بقاء هذه القدرة أي الممكنة لبقاء الواجب إذ التمكن
____________________
(1/371)
على الأداء يستغني عن بقائها أي استمرارها فلهذا لا تشترط للقضاء فلهذا إذا ملك الزاد والراحلة فلم يحج فهلك المال لا يسقط عنه لأن الحج وجب بالقدرة الممكنة فقط لأن الزاد والراحلة أدنى ما يتمكن به على هذا السفر غالبا اعلم أن جعل الزاد والراحلة من القدرة الممكنة يناقض قوله لأن القدرة التي شرطناها متقدمة إلخ
____________________
(1/372)
والقدرة الميسرة ما يوجب اليسر على الأداء كالنماء في الزكاة ويشترط بقاؤها لبقاء الواجب لئلا ينقلب إلى العسر فلا تجب الزكاة في هلاك النصاب بعد الحول بعد التمكن بخلاف الاستهلاك لأنه تعد فإن قيل لما شرطتم بقاءها لبقاء الواجب يجب أن يشترط بقاء
____________________
(1/373)
النصاب للوجوب في البعض فلا تجب بعد هلاك بعضه في الباقي توجيه السؤال أنكم شرطتم بقاء القدرة الميسرة لبقاء الواجب والنصاب شرط لليسر فيجب أن يشترط بقاء النصاب للوجوب في البعض فينبغي أن لا تجب الزكاة في الباقي إذا هلك بعض النصاب
فنجيب بأن النصاب ما شرط لليسر بل للتمكن وفي هذا الكلام ما فيه
قلنا النصاب ما شرط لليسر لأن الواجب ربع العشر ونسبته إلى كل المقادير سواء بل ليصير غنيا فيصير أهلا
____________________
(1/374)
للإغناء لقوله عليه السلام لا صدقة إلا عن ظهر غنى ولا حد له فقدره الشرع بالنصاب وكذا الكفارة وجبت بهذه القدرة لدلالة التخيير ولقوله تعالى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام وليس المراد العجز في العمر لأن ذا يبطل أداء الصوم فالمراد العجز الحالي مع احتمال القدرة في المستقبل أي تشترط القدرة المقارنة للأداء
كالاستطاعة مع الفعل أي القدرة التامة الحقيقية التي تقارن الفعل كما ذكرنا آنفا فالقدرة المشروطة في الكفارة قدرة كذلك أي مقارنة لأداء الكفارة لا سابقة ولا لاحقة
وذا دليل اليسر أي اشتراط بقاء القدرة المقارنة دليل اليسر
فيشترط بقاؤها لبقاء الواجب أي يشترط بقاء القدرة في باب الكفارة لبقاء الواجب حتى إن تحققت القدرة على الإعتاق فوجب الإعتاق
____________________
(1/375)
ثم إن لم تبق القدرة يسقط الإعتاق لأنها لما لم تتصل بالأداء علم أن القدرة المقارنة للأداء لم توجد وهو الشرط لما ذكرنا أن وجوب الكفارة بالقدرة الميسرة فيشترط بقاؤها
إلا أن المال هاهنا غير عين فلا يكون الاستهلاك تعديا فيكون كالهلاك جواب سؤال مقدور وهو أنه لما سوى بين الزكاة والكفارة في أنهما واجبتان بالقدرة الميسرة ينبغي أن لا تسقط الكفارة بالمال إذا استهلك المال كما لا تسقط الزكاة فأجاب بأن المال غير معين في الكفارة فلا
____________________
(1/376)
يكون الاستهلاك تعديا وهو في الزكاة معين لأن الواجب جزء من النصاب فتعين أن الواجب من هذا المال فإذا استهلك المال كله استهلك الواجب فيضمن واعلم أن في قولهم إن بقاء القدرة الميسرة شرط لبقاء الواجب وإلا انقلب اليسر عسرا نوع نظر لأنه إن يسر الله تعالى لنا أمرا لا يلزم من ذلك أن يثبت يسر آخر وهو بقاء النصاب أبدا فإن اشتراط هذا اليسر يؤدي إلى فوات أداء الزكاة فإنه إن أخر أداء الزكاة خمسين سنة ثم هلك المال بعد ذلك لا يجب عليه شيء وأيضا لا ينقلب اليسر عسرا فإن اليسر الذي حصل باشتراط الحول لا ينقلب عسرا بل غايته أن لا يثبت يسرا آخر أنه الميسر للصواب فصل المأمور به نوعان مطلق ومؤقت هذا الفصل هو أصل الشرائع قد تأسس عليه مباني الأصول والفروع فإن طالعت هذا الموضع في كتب الأصول علمت سعيي في تنقيح هذه المباحث وتحقيقها المراد بالمطلق غير المؤقت كالكفارات والنذور المطلقة والزكاة
أما المطلق فعلى التراخي لأنه أي الأمر
جاء للفور وجاء للتراخي فلا يثبت الفور
____________________
(1/377)
إلا بالقرينة وحيث عدمت يثبت التراخي لا أن الأمر يدل عليه لأن المراد بالفور الوجوب في الحال والمراد بالتراخي عدم التقييد بالحال لا التقييد بالمستقبل حتى لو أداه في الحال يخرج عن العهدة فالفور يحتاج إلى القرينة لا التراخي
____________________
(1/378)
وأما المؤقت فإما أن يتضيق الوقت عن الواجب وهذا غير واقع لأنه تكليف بما لا يطاق إلا لغرض القضاء كمن وجب عليه الصلاة آخر الوقت إما أن يفضل كوقت الصلاة وإما أن يساوي وحينئذ إما أن يكون الوقت سببا للوجوب كصوم رمضان أو لا يكون كقضاء رمضان وقسم آخر كالحج مشكل في أن يفضل أو يساوي كالحج أما وقت الصلاة فهو ظرف للمؤدي وشرط للأداء إذ الأداء يفوت بفوات الوقت لأن الأداء تسليم عين الثابت بالأمر
____________________
(1/379)
والثابت بالأمر هو الصلاة في الوقت أما الصلاة خارج الوقت فتسليم مثل الثابت بالأمر
وسبب للوجوب لقوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس ولإضافة الصلاة إليه إذ الإضافة تدل على اختصاص فمطلقها ينصرف إلى الاختصاص الكامل أن يرى أن قوله المال لزيد ينصرف إلى الاختصاص بطريق الملك ولو لم يمكن ينصرف إلى ما دونه أما الإضافة بأدنى ملابسة فمجاز فالاختصاص الكامل في مثل قولنا صلاة الفجر إنما هو بالسببية فالأمور التي ذكرنا من الإضافة إلى آخرها كل واحد منها يوجب غلبة الظن بالسببية لكن مجموعها يفيد القطع
ولتغيرها بتغيره صحة وكراهة وفسادا ولتجدد الوجوب بتجدده ولبطلان التقديم عليه فإن التقديم على الشرط أي التقديم على شرط وجوب الأداء صحيح كالزكاة قبل الحول يحققه أي يحقق كون الوقت سببا للوجوب
إن الوقت وإن لم يكن مؤثرا في ذاته بل بجعل الله تعالى بمعنى أنه تعالى رتب الأحكام على أمور ظاهرة تيسيرا كالملك على الشراء إلى غير ذلك فتكون الأحكام بالنسبة إلينا مضافة إلى هذه الأمور فهذه الأمور مؤثرة في الأحكام بجعل الله تعالى كالنار في الإحراق عند أهل السنة فإن قيل الحكم قديم فلا يؤثر فيه
____________________
(1/380)
الحادث قلنا الإيجاب قديم وهو حكمه تعالى في الأزل أنه إذا بلغ زيد يجب عليه ذا وأثره وهو الحكم المصطلح أي الوجوب حادث فإنه مضاف إلى الحادث فلا يوجد قبله ثم هو أي الوقت لما بين أن الوقت سبب للوجوب أراد أن يبين أن المراد بالوجوب نفس الوجوب لا وجوب الأداء
سبب لنفس الوجوب لأن سببها الحقيقي الإيجاب القديم وهو رتب الحكم على شيء ظاهر فكان هذا أي الشيء الظاهر وهو الوقت سببا لها أي لنفس الوجوب بالنسبة إلينا ثم لفظ الأمر لمطالبة ما وجب بالإيجاب المرتب الحكم على
____________________
(1/381)
ذلك الشيء وهو الوقت فيكون أي لفظ الأمر سببا لوجوب الأداء والفرق بين نفس الوجوب ووجوب الأداء أن الأول هو اشتغال ذمة المكلف بالشيء والثاني هو لزوم تفريغ الذمة عما تعلق بها فلا بد له من سبق حق في ذمته فإذا اشترى شيئا يثبت الثمن في الذمة فثبوت الثمن في الذمة نفس الوجوب
أما لزوم الأداء فعند المطالبة بناء على أصل الوجوب
____________________
(1/382)
وأيضا واجب على المغمى عليه والنائم والمريض والمسافر ولا أداء عليهم لعدم الخطاب أما في الأولين فلأن خطاب من لا يفهم لغو وأما في الأخيرين فلأنهما مخاطبان بالصوم في أيام أخر
____________________
(1/383)
ولا بد للقضاء من وجوب الأصل فيكون نفس الوجوب ثابتا ويكون سببه أي سبب نفس الوجوب شيئا غير الخطاب وهو الوقت لما ذكرنا من عدم الخطاب لأنه لا شيء غير الوقت والخطاب يصلح للسببية فالسببية منحصرة فيهما إما لهذا أو للإجماع فيلزم من نفي أحدهما ثبوت الآخر ثم اعلم أن بعض العلماء لا يدركون الفرق بين نفس الوجوب ووجوب الأداء ويقولون إن الوجوب لا ينصرف إلا إلى الفعل وهو الأداء فبالضرورة يكون نفس الوجوب هي نفس وجوب الأداء فلا يبقى فرق بينهما ولله در من أبدع الفرق بينهما
____________________
(1/384)
وما أدق نظره وما أمتن حكمته وتحقيق ذلك أنه لما كان الوقت سببا لوجوب الصلاة كان معناه أنه لما حضر وقت شريف كان لازما أن يوجد فيه هيئة مخصوصة وضعت لعبادة الله تعالى وهي الصلاة فلزوم وجود تلك الهيئة عقيب السبب هو نفس الوجوب ثم الأداء هو إيقاع تلك الهيئة فوجوب الأداء هو لزوم إيقاع تلك الهيئة وذلك مبني على الأول لأن السبب أوجب وجود تلك الهيئة لمناسبة بينهما فإن المراد بالسبب الداعي ثم بواسطة هذا الوجوب يجب إيقاع تلك الهيئة فالوجوب الأول يتعلق بالصلاة وهي الهيئة والثاني بأدائها حتى لو كان السبب بذاته داعيا إلى نفس الإيقاع لا إلى الهيئة الحاصلة بالإيقاع فلزوم ذلك الإيقاع يكون نفس الوجوب فإذا تصوره العقل لازم الوقوع لا بد له من إيقاع فلزم إيقاع
____________________
(1/385)
الإيقاع هو وجوب الأداء وقد يوجد نفس الوجوب بدون الوجوب الأداء كما في المريض والمسافر فإن لزوم وجود الحالة التي هي الصوم حاصل لأن ذلك اللزوم باعتبار أن السبب داع إليه والمحل وهو المكلف صالح لهذا فلو لم يحصل ذلك اللزوم لما كان السبب سببا لكن لا يجب إيقاعه مع أنه يجوز أن يكون واقعا إذا وجد البيع بثمن غير معين والبيع مبادلة المال بالمال وقد ملك المشتري المبيع فلا بد أن يملك البائع مالا على المشتري تحقيقا للمبادلة فهذا نفس الوجوب ثم لزوم أداء المال الواجب فرع على الأول فهو وجوب الأداء فلما ذكر أن الوقت سبب لنفس الوجوب أراد أن يبين أن السبب ليس كل الوقت بل بعضه فقال ثم إذا كان الوقت سببا وليس ذلك كله أي السبب ليس كل الوقت لأنه إن كان الكل سببا لا يخلو إما أن تجب الصلاة في الوقت أو بعده فإن وجبت في الوقت يلزم التقدم على
____________________
(1/386)
السبب لأنه إن كان الكل سببا فما لم ينقض كل الوقت لا يوجد السبب إن وجبت بعد الوقت لزم الأداء بعد الوقت وكل منهما باطل فلا يكون الكل سببا وهذا معنى قوله لأنه إن وجبت في الوقت تقدم الأداء على السبب وإن لم تجب فيه تأخر الأداء عن الوقت فالبعض سبب ولا يتعين الأول بدليل الوجوب على من صار أهلا في الآخر إجماعا ولا الآخر وإلا لما صح التقديم عليه فالجزء الذي اتصل به الأداء سبب فهذا الجزء إن كان كاملا يجب الأداء كاملا فإذا اعترض عليه الفساد بطلوع الشمس يفسد وإن كان ناقصا كوقت الأحمر يجب كذلك فإذا اعترض عليه الفساد بالغروب لا يفسد لتحقق الملاءمة بين الواجب والمؤدى لأنه وجب ناقصا وقد أدى كما وجب بخلاف الفصل الأول لأنه شرع في الوقت الكامل لأن ما قبل طلوع الشمس وقت كامل لا نقصان فيه قطعا فوجب عليه كاملا فإذا فسد الوقت بالطلوع يكون مؤديا كما وجب لأن النهي عن الصلاة في هذه الأوقات باعتبار أن عبدة الشمس يعبدونها في هذه الأوقات فالعبادة في هذه الأوقات مشابهة لعبادة الشمس
____________________
(1/387)
فلهذا ورد النهي وعبادة الشمس إنما هي بعد الطلوع وقبل الغروب فقبل الطلوع وقت كامل ولا كذلك قبل الغروب
فإن قيل يلزم أن يفسد العصر إذا شرع فيه في الجزء الصحيح ومدها إلى أن غربت الشمس قلنا لما كان الوقت متسعا جاز له شغل كل الوقت فيعفى الفساد الذي يتصل بالبناء البناء هنا ضد الابتداء والمراد أنه ابتدأ الصلاة في الوقت الكامل والفساد الذي اعترض في حالة البقاء جعل عذرا لأن الاحتراز عنه مع الإقبال على الصلاة متعذر لكن هذا يشكل
____________________
(1/388)
بالفجر يعني من شرع في الفجر ومدها إلى أن طلعت الشمس ينبغي أن لا يفسد كما في العصر إذا شرع في الوقت الكامل ومدها إلى أن غربت فإن الصورتين الشروع في الوقت الكامل فالفساد المعترض في العصر أن جعل عفوا ينبغي أن يجعل في الفجر عفوا بعين تلك العلة هذا إشكال اختلج في خاطري ولم أذكر له جوابا في المتن فيخطر ببالي عنه جواب وهو أن في العصر لما كان له شغل في الوقت فلا بد أن يؤدي البعض في الوقت الكامل والبعض في الوقت الناقص وهو وقت الاحمرار فاعترض الفساد بالغروب على البعض الناقص فلا تفسد وأما في الفجر فإن كل وقته كامل فيجب أداء الكل في الوقت الكامل فإن شغل كل الوقت يجب أن يشغله على وجه لا يعترض الفساد بالطلوع على الكامل
ولو لم يؤد فكل الوقت سبب في حق القضاء لأن العدول عن الكل إلى الجزء في الأداء كان لضرورة وقد انتفت هنا هذا البحث الذي ذكرناه وهو أن بعض الوقت سبب إنما هو في الأداء أما إذا لم يؤد في الوقت ففي حق القضاء كل الوقت سبب لأن الدلائل دالة على سببية كله لكن في الأداء عدلنا عن سببية الكل إلى سببية البعض لضرورة وهي أنه يلزم حينئذ التقدم على السبب أو تأخر الأداء عن الوقت وهذه الضرورة غير متحققة في القضاء
فوجب القضاء بصفة الكمال أي لا نقول إنه إذ لم يؤد في الوقت انتقلت السببية من أول الوقت إلى آخره فاستقرت السببية عليه في حق القضاء حتى يجب القضاء ناقصا في العصر فيجوز القضاء في وقت الغروب بل نقول الكل سبب للقضاء فيجب كاملا
ثم وجوب الأداء يثبت آخر الوقت إذ هنا توجه الخطاب حقيقة لأنه الآن يأثم بالترك لا قبله حتى إذا مات في الوقت لا شيء عليه ومن حكم هذا القسم أن الوقت لما لم يكن
____________________
(1/389)
متعينا شرعا والاختيار في الأداء إلى العبد لم يتعين بتعيينه نصا إذ ليس له وضع الشرائع وإنما له الارتفاق فعلا فيتعين فعلا كالخيار في الكفارات ومنه أنه لما كان الوقت متسعا شرع فيه غير هذا الواجب فلا بد من تعيين النية ولا يسقط التعيين إذا ضاق الوقت بحيث لا يسع إلا لهذا الواجب هذا جواب إشكال وهو أن التعيين إنما وجب لاتساع الوقت فإذا ضاق الوقت ينبغي أن يسقط التعيين فقال
لأن ما ثبت حكما أصليا وهو وجوب التعيين بالنية وقوله حكما منصوب على الحال بناء على سعة الوقت لا يسقط بالعواض وتقصير العباد
وأما القسم الثاني وهو أن يكون الوقت مساويا للواجب ويكون سببا للوجوب
فوقت الصوم وهو رمضان أي نهار رمضان شرط للأداء ومعيار للمؤدي لأنه قدر وعرف به فإن الصوم مقدر بالوقت وهذا ظاهر ومعرف بالوقت فإنه الإمساك عن المفطرات الثلاث من الصبح إلى الغروب مع النية فالوقت داخل في تعريف الصوم
وسبب للوجوب لقوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومثل هذا الكلام للتعليل ونظائره كثيرة فإنه إذا كان الشيء خبرا للاسم الموصول فإن الصلة علة للخبر وقد ذكر غير مرة أنه إذا حكم على المشتق فإن المشتق منه علة له وهنا كذلك لأن قوله تعالى فمن شهد منكم الشهر معناه شاهد الشهر فالشهود علة
ولنسبة الصوم إليه ولتكرره به ولصحة الأداء فيه للمسافر مع عدم
____________________
(1/390)
الخطاب ومن حكمه أن لا يشرع فيه غيره فلهذا يقع عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى عن رمضان إذا نوى المسافر واجبا آخر لأن المشروع في هذا اليوم هذا لا غير إشارة إلى الصوم المخصوص برمضان
في حق الجميع ولهذا يصح الأداء منه أي من المسافر
لكنه رخص بالفطر وذا لا يجعل غيره مشروعا فيه قلنا لما رخص فيه لمصالح بدنه فمصالح دينه وهو قضاء دينه أولى وإنما لم يشرع للمسافر غيره إن أتى بالعزيمة وهنا لم يأت إذ صام واجبا آخر جواب عما قالا إن المشروع في هذا اليوم في حق الجميع صوم رمضان لا غير فنقول لا نسلم أن المشروع في حق المسافر هذا لا غير مطلقا بل إن أتى المسافر بالعزيمة أما إذا أعرض عنها فلا نسلم ذلك
ولأن وجوب الأداء ساقط عنه فصار هذا الوقت في حقه كشعبان فعلى الدليل الأول وهو قوله فمصالح دينه وهو قضاء دينه أولى
إن شرع في النفل يقع عن رمضان لأنه إذا شرع في واجب آخر إنما يقع عنه لمصالح دينه فإن
____________________
(1/391)
قضاء ما فات أولى للمسافر من أداء رمضان لأنه إن مات قبل إدراك عدة من أيام أخر لقي الله تعالى وعليه صوم القضاء ولا يكون عليه صوم رمضان فإذا كان الوقوع عن واجب آخر لمصالح دينه ففيما إذا نوى النفل فمصالح دينه إنما هي أداء رمضان لا النفل
وعلى الثاني أي وعلى الدليل الثاني وهو أن الوقت بالنسبة إليه كشعبان يقع عن النفل وهنا روايتان أي بناء على هذين الدليلين في هذه المسألة روايتان
وإن أطلق فالأصح أنه يقع عن رمضان إذا لم يعرض عن العزيمة وأما المريض إذا نوى واجبا آخر يقع عن رمضان لتعلق الرخصة بحقيقة العجز فإذا صام ظهر فوات شرط الرخصة فيه فصار كالصحيح وفي المسافر قد تعلقت بدليل العجز وهو السفر فشرط الرخصة ثابت هنا قوله ظهر فوات شرط الرخصة فيه وفي هذا الكلام نظر لأن المرخص هو المرض الذي يزداد بالصوم لا المرض الذي لا يقدر به على الصوم فلا نسلم أنه إذا صام ظهر فوات شرط الرخصة فصار كالصحيح
وقال زفر هذه مسألة ابتدائية لا تعلق لها بالمريض والمسافر وهي أنه لما صار الوقت متعينا له فكل إمساك يقع فيه يكون مستحقا على الفاعل
أي يكون حقا مستحقا لله تعالى على الفاعل كالأجير الخاص فإن منافعه حق المستأجر
فيقع الفرض وإن لم ينو كهبة كل النصاب من الفقير بغير النية قلنا هذا يكون جبرا
____________________
(1/392)
والشرع عين الإمساك الذي هو قربة لهذا أي لصوم رمضان
ولا قربة بدون القصد وقال الشافعي رحمه الله تعالى لما كان منافعه على ملكه لا أن منافعه صارت حقا لله جبرا لا بد من التعيين لئلا يصير جبرا في صفة العبادة قلنا نعم لكن الإطلاق في المتعين تعيين هذا قول بموجب العلة أي تسليم دليل المعلل مع بقاء الخلاف على ما يأتي فحاصله أنا نسلم أن التعيين واجب لكن نقول الإطلاق في المتعين تعيين فإنه إذا كان في الدار زيد وحده فقال آخر يا إنسان فالمراد به زيد
ولا يضر الخطأ في الوصف بأن نوى النفل أو واجبا آخر وهو صحيح مقيم لأن الوصف لم يكن مشروعا يبطل فبقي الإطلاق وهو تعيين وقال أي الشافعي رحمه الله تعالى لما وجب التعيين وجب من أوله إلى آخره لأن كل جزء يفتقر إلى النية فإذا عدمت في البعض فسد ذلك فيفسد الكل لعدم التجزي أي لعدم تجزي الصوم صحة وفسادا فإنه إذا فسد الجزء الأول من الصوم شاع وفسد الكل
والنية المعترضة لا تقبل التقدم
____________________
(1/393)
قلنا لما صح بالنية المتقدمة المنفصلة عن الكل فلأن يصح بالمتصلة بالبعض أولى جواب عن قوله أن النية المعترضة لا تقبل التقدم واعلم أولا أن الاستناد هو أن يثبت الحكم في الزمان المتأخر ويرجع القهقرى حتى يحكم بثبوته في الزمان المتقدم كالمغصوب
____________________
(1/394)
فإنه يملكه الغاصب بأداء الضمان مستندا إلى وقت الغصب حتى إذا استولد الغاصب المغصوبة فهلكت فأدى الضمان يثبت النسب من الغاصب فالشافعي رحمه الله تعالى يقول إذا اعترض النية في النهار لا يمكن تقدمه إلى الفجر بطريق الاستناد لأن الاستناد إنما يمكن في الأمور الثابتة شرعا كالملك ونحوه وأما في الأمور الحسية والعقلية فلا يمكن الاستناد وهنا صحة الصوم متعلقة بحقيقة النية وهي أمر وجداني فإذا كان حاصلا في وقت لا يكون حاصلا قبل ذلك الوقت ألا يرى أنها لا تستند إذا اعترضت النية بعد الزوال وكما في صوم القضاء فإذا لم تستند بقي البعض بلا نية
فنجيب بأنا لا نقول إن النية المعترضة تثبت في الزمان المتقدم بطريق الاستناد بل نقول إن النية في الزمان المتقدم متحققة تقديرا فإن الأصل هو مقارنة العمل بالنية فإذا نوى في أول الليل فجعلها الشرع مقارنة للعمل تقديرا فكذا هنا وأيضا إذا كان الأكثر مقرونا بالنية وللأكثر حكم الكل يكون الكل مقارنا بالنية تقديرا فلهذا قال
وتكون تقديرية لا مستندة والطاعة قاصرة في أول النهار لأن الإمساك في أول النهار عادة الناس فيكفيها النية التقديرية فلا نقول إن الجزء الأول من الصوم إذا خلا عن النية فسد ويشيع ذلك الفساد ولا يعود صحيحا باعتراض النية بل نقول إن الجزء الأول لم يفسد بل موقوفة فإن وجدت النية في الأكثر علم أن النية التقديرية كانت موجودة في الأول والنية التقديرية كافية في الجزء الأول لقصور العبادة فيه وإن لم توجد في الأكثر علم أن
____________________
(1/395)
النية التقديرية لم تكن موجودة في الأول
على أنا نرجح بالكثرة لأن للأكثر حكم الكل وهذا الترجيح الذي بالذات أولى من ترجيحه بالوصف على ما يأتي في باب الترجيح اعلم أنا نرجح البعض الذي وجد فيه النية على البعض الذي لم توجد فيه النية بالكثرة والشافعي رحمه الله تعالى يرجح على العكس بوصف العبادة فإن العبادة لا تصلح بدون النية فيفسد ذلك البعض فيشيع الفساد إلى البعض الذي وجد فيه النية فيرجع البعض الفاسد على البعض الصحيح بوصف العبادة ونحن نرجح البعض الصحيح على البعض الفاسد الذي لم توجد فيه النية بالكثرة وترجيحنا ترجيح بالذاتي لأنا نرجح بالإجزاء وترجيحه بالوصف غير الذاتي وهو وصف العبادة فإن قيل في التقديم ضرورة فإن محافظة وقت الصبح متعذرة جدا فالتقديم الذي لا يعترض عليه المنافي كالاتصال قلنا وفي التأخير أيضا ضرورة كما في يوم الشك لأن تقديم نية الفرض حرام ونية النفل لغو عندكم فيثبت الضرورة وأيضا الضرورة لازمة في غير يوم الشك أيضا إذا نسي النية في الليل أو نام أو أغمي عليه ولأن صيانة الوقت الذي لا درك له أصلا واجبة حتى أن الأداء مع النقصان أفضل من القضاء بدونه وعلى هذا الوجه لا كفارة ويروى هذا عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى اعلم أنه لما أقام الدليلين على صحة الصوم المنوي نهارا أولهما قوله لما صح بالنية المنفصلة وثانيهما قوله ولأن صيانة الوقت الذي إلخ والدليل الثاني يشعر بأن الصوم المنوي نهارا إنما يصح ضرورة أن الصيانة واجبة فعلى
____________________
(1/396)
هذا الدليل لا تجب الكفارة إذا أفسده
ومن حكمه أي من حكم هذا القسم وهو أن يكون الوقت معيارا للمؤدى
أن الصوم مقدر بكل اليوم فلا يقدر النفل ببعضه أي ببعض النهار خلافا للشافعي رحمه الله فإن عنده إذا نوى النفل من النهار يكون صومه من زمان النية وإن كان بعد الزوال
ومن هذا الجنس أي من جنس صوم رمضان
المنذور في الوقت المعين يصح بالنية المطلقة ونية النفل لكن إن صام عن واجب آخر يصح عنه لأن تعيينه مؤثر في حقه وهو النفل لا في حق الشارع فإن الوقت صار متعينا بتعيين الناذر فتعيينه صار مؤثر في حقه وهو النفل حتى يقع عن المنذور بسبب أن الوقت متعين للمنذور بتعيينه لكن لا يؤثر في حق الشارع أي إن نوى واجبا آخر لا يقع عن المنذور
وأما القسم الثالث فالوقت معيار لا سبب كالكفارات والنذور المطلقة والقضاء وحكمه أنه لما لم يكن الوقت متعينا لها كان
____________________
(1/397)
الصوم من عوارض الوقت فلا بد من التبييت أي من النية في الليل بخلاف صوم رمضان والنذر المعين فإن الوقت متعين فتكفي النية الحاصلة في الأكثر وتكون النية التقديرية حاصلة في أول النهار بناء على تعيين الوقت فإن تعيين الوقت يوجب كونه صائما وهنا لم يتعين الوقت فوجبت النية الحقيقية في أول النهار وأما النفل فهو المشروع الأصلي في غير رمضان كالفرض في رمضان فتكفي النية في الأكثر
وأما القسم الرابع وهو الحج فيشبه الظرف لأن أفعاله لا تستغرق أوقاته ويشبه المعيار لأنه لا يصح في عام واحد إلا حج واحد ولأن وقته العمر فيكون ظرفا حتى إن أتى به بعد العام الأول يكون أداء بالاتفاق لكن عند أبي يوسف رحمه الله تعالى يجب مضيقا لا يجوز تأخيره عن العام الأول وهو لا يسع إلا حجا واحدا فيشبه المعيار وعند محمد رحمه الله تعالى يجوز بشرط أن لا يفوته قال الكرخي هذا بناء على الخلاف الذي بينهما في أن الأمر المطلق أيوجب الفور أم لا وعند عامة مشايخنا رحمهم الله تعالى أن أمر المطلق لا يوجب الفور اتفاقا بيننا فمسألة الحج مبتدأة فقال محمد رحمه الله تعالى لما كان الإتيان به في العمر أداء إجماعا علم أن كل العمر وقته كقضاء الصلاة والصوم وغيرهما وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لما وجب عليه لا يسعه أن يؤخره لأن الحياة إلى العام القابل مشكوكة حتى إذا أدرك القابل زال ذلك الشك فقام مقام الأول بخلاف قضاء الصلاة والصوم
____________________
(1/398)
فإن الحياة إلى اليوم الثاني غالبة فاستوت الأيام كلها فإن قيل لما تعين العام الأول ينبغي أن لا يشرع فيه النفل قلنا إنما عينا احتياطيا احترازا عن الفوت فظهر ذلك في حق الاسم فقط لا في أن يبطل اختيار جهة التقصير والإثم أي لما كان الحج فرض العمر كان الأصل أن لا يتعين بالعام الأول وإنما عينا احتياطا لئلا يفوت ويظهر أثر هذا التعيين في الإثم فقط أي إن أخر عن العام الأول ثم مات ولم يدرك الحج كان آثما لكن لا يظهر أثر التعيين في بطلان اختياره لما اختار جهة التقصير والإثم بأن أدرك الوقفة ولم ينو حجة الإسلام بل نوى النفل
وإذا كان هذا الوقت يشبه المعيار ولكنه ليس بمعيار لما قلنا ولأن أفعاله غير مقدرة
____________________
(1/399)
بالوقت بخلاف الصوم فإنه مقدر بالوقت فإن المعيار هو ما يقدر الشيء به كالمكيال ونحوه
فإن تطوع هذا جواب إذا في قوله وإذا كان هذا الوقت وعليه حجة الإسلام يصح وعند الشافعي رحمه الله تعالى يقع عن الفرض إشفاقا عليه فإن هذا أي التطوع وعليه حجة الإسلام من السفه فيحجر عليه أي إذا نوى التطوع يحجر عن نية التطوع فبطلت نيته فبقيت النية المطلقة وهي كافية
على أنه يصح بإطلاق النية وبلا نية كمن أحرم عنه أصحابه وهو مغمى عليه قلنا الحجر يفوت الاختيار ولا عبادة بدونه أما الإطلاق ففيه دلالة التعيين إذ الظاهر أن لا يقصد النفل وعليه حجة الإسلام والإحرام غير مقصود جواب عن قوله كمن أحرم عنه أصحابه
بل هو شرط عندنا كالوضوء فيصح بفعل غيره بدلالة الأمر فإن عقد الرفاقة دليل الأمر بالمعاونة
فصل هذا الفصل في أن الكفار هل يخاطبون بالشرائع أم لا وهو غير مذكور في أصول الإمام فخر الإسلام رحمه الله تعالى ولما كان مهما نقلته من أصول الإمام شمس الأئمة
ذكر الإمام السرخسي لا خلاف في أن الكفار يخاطبون بالإيمان والعقوبات والمعاملات
____________________
(1/400)
وبالعبادات في حق المؤاخذة في الآخرة لقوله تعالى ما سلككم في سقر الآية اعلم أن الكفار مخاطبون بالثلاثة الأول مطلقا إجماعا أما بالعبادات فهم مخاطبون بها في حق المؤاخذة في الآخرة اتفاقا أيضا لقوله تعالى ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وأما في حق وجوب الأداء في الدنيا فمختلف فيه كما ذكر في المتن وهو قوله أما في حق وجوب الأداء فكذا عند العراقيين من مشايخنا رحمهم الله تعالى لأنه لو لم يجب لا يؤاخذون على تركها ولأن الكفر لا يصلح مخففا ولا يضر كونها غير معتد بها مع الكفر
جواب إشكال وهو أن العبادات لما لم تكن
____________________
(1/401)
معتدا بها مع الكفر لا يكون في وجوب الأداء فائدة فأجاب بأن هذا لا يضر لأنه يجب عليه بشرط الإيمان كالجنب يجب عليه الصلاة بشرط الطهارة لا عند مشايخ ديارنا يتعلق بقوله فكذا عند العراقيين لقوله عليه السلام ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله فإن هم أجابوك فأعلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات الحديث يفهم منه أن فرضية الصلوات الخمس مختصة بتقدير الإجابة فعلى تقديم عدم الإجابة لا تفرض أما عند القائلين بأن التعليق بالشرط يدل على نفي الحكم عند عدم الشرط فظاهر وأما عندنا فلعدم الدليل على الفرضية لا أنه دليل على عدم الفرضية على ما مر في فصل مفهوم المخالفة
ولأن الأمر بالعبادة لنيل الثواب والكافر ليس أهلا له وليس في سقوط العبادة عنهم تخفيف بل تغليظ ونظيره أن الطبيب لا يأمر العليل بشرب الدواء عند اليأس لأنه غير مفيد فكذا هاهنا وقد ذكر أي الإمام
____________________
(1/402)
شمس الأئمة رحمه الله تعالى
أن علماءنا لم ينصوا في هذه المسألة لكن بعض المتأخرين استدلوا من مسائلهم على هذا وعلى الخلاف بينهم وبين الشافعي رحمه الله تعالى فاستدل البعض بأن المرتد إذا أسلم لا يلزمه قضاء صلاة الردة خلافا للشافعي رحمه الله تعالى فدل على أن المرتد غير مخاطب بالصلاة عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى مخاطب بها
والبعض بأنه إذا صلى في أول الوقت ثم ارتد ثم أسلم والوقت باق فعليه الأداء خلافا له بناء على أن الخطاب ينعدم بالردة وصحة ما مضى كانت بناء عليه أي على الخطاب فإذا علم الخطاب عدم صحة ما مضى فبطل ذلك الأداء فإذا أسلم في الوقت وجب ابتداء وعنده الخطاب باق فلا يبطل الأداء والبعض فرعوه على أن الشرائع ليست من الإيمان عندنا خلافا
____________________
(1/403)
له وهم يخاطبون بالإيمان فقط فلا يخاطبون بالشرائع عندنا لأنها غير داخلة في الإيمان ويخاطبون عنده لكونها من الإيمان عنده
والكل ضعيف فاحتج على ضعف الاستدلال الأول بقوله لأنه إنما يسقط القضاء عندنا لقوله تعالى إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف فسقوط القضاء عندنا لا يدل على أن المرتد غير مخاطب بل يمكن أن يكون مخاطبا لكن سقط عنه لقوله تعالى إن ينتهوا الآية واحتج على ضعف الاستدلال الثاني بقوله ولأن المؤدى إنما بطل لقوله تعالى ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله فإذا أسلم في الوقت يجب لا محالة أي فإذا حبط العمل ثم أسلم والوقت باق يجب عليه قطعا واحتج على ضعف التفريع المذكور بقوله
ولأنهم مخاطبون للعقوبات والمعاملات عندنا مع أنها ليست مع الإيمان فقولهم إنهم مخاطبون بالإيمان فقط ممنوع ثم لما أبطل الاستدلالات المذكورة قال والاستدلال الصحيح على مذهبنا أن من نذر بصوم شهر ثم ارتد ثم أسلم لا يجب عليه فعلم أن الردة تبطل وجوب أداء العبادات
فصل والنهي إما عن الحسيات كالزنا وشرب الخمر المراد بالحسيات ما لها وجود حسي فقط والمراد بالشرعيات ما لها وجود شرعي مع الوجود الحسي كالبيع فإن له وجودا حسيا فإن الإيجاب والقبول موجودان حسا ومع هذا الوجود الحسي له وجود شرعي فإن الشرع يحكم بأن الإيجاب والقبول الموجودين
____________________
(1/404)
حسا يرتبطان ارتباطا حكميا فيحصل معنى شرعي يكون ملك المشتري أثرا له فذلك المعنى هو البيع حتى إذا وجد الإيجاب والقبول في غير المحل لا يعتبره الشرع بيعا وإذا وجد مع الخيار يحكم الشرع بوجود البيع بلا ترتب الملك عليه فيثبت الوجود الشرعي
فيقتضي القبح لعينه اتفاقا إلا بدليل أن النهي لقبح غيره فهو إن كان وصفا فكالأول لا إن كان مجاورا كقوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن وأما عن الشرعيات كالصوم والبيع فعند الشافعي رحمه الله تعالى هو كالأول وعندنا يقتضي القبح لغيره فيصح ويشرع بأصله إلا بدليل أن النهي للقبح لعينه ثم إن القبح لعينه باطل اتفاقا اعلم أن النهي يقتضي القبح وإنما اخترنا لفظ الاقتضاء لما ذكرنا أن الله تعالى إنما ينهى عن الشيء لقبحه لا أن النهي يثبت القبح فإن كان النهي عن الحسيات يقتضي القبح لعينه لأن الأصل أن يكون عين المنهي عنه قبيحا لا غيره فقبح عين المنهي عنه إما لقبح جميع أجزائه أو بعض أجزائه فالقبح لبعض أجزائه داخل في القبح لعينه فإذا كان الأصل أن يكون قبيحا لعينه لا يصرف عنه إلا إذا دل الدليل على أن النهي عنه لغيره فحينئذ يكون قبيحا لغيره ثم ذلك الغير إن كان وصفا فحكمه حكم القبيح لعينه وهو ملحق بالقسم الأول إلا أن القسم الأول حرام لعينه وهذا حرام لغيره وإن كان مجاورا لا يلحق بالقسم الأول كقوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن دل الدليل على أن النهي عن القربان للمجاور وهو الأذى حتى إن قربها ووجد العلوق يثبت
____________________
(1/405)
النسب اتفاقا وإن كان النهي عن الشرعيات فعند الشافعي رحمه الله تعالى هو كالأول أي يقتضي القبح لعينه إلا إذا دل الدليل على أن النهي للقبح لغيره وعندنا يقتضي القبح لغيره والصحة والمشروعية بأصله إلا إذا دل الدليل على أن النهي للقبح لعينه ثم كل ما هو قبيح لعينه باطل اتفاقا وإنما أوردنا للشرعيات نظيرين الصوم والبيع ليعلم أنه لا فرق عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى بين العبادات والمعاملات وهو يقول لا صحة لها أي للشرعيات شرعا إلا وأن تكون مشروعة ولا تكون مشروعة مع نهي الشرع عنها إذ أدنى درجات المشروعية الإباحة وقد انتفت ولأن النهي يقتضي القبح وهو ينافي المشروعية اعلم أن الخلاف بيننا وبين الشافعي رحمه الله تعالى في أمرين أولهما أن النهي عن الشرعيات بلا قرينة أصلا يقتضي القبح لعينه عنده وفائدته أن يكون التصرف باطلا وعندنا يقتضي القبح لغيره والصحة بأصله وثانيهما أنه إذا وجدت القرينة على أن النهي بسبب القبح لغيره ويكون ذلك الغير وصفا فإنه باطل عند الشافعي رحمه الله تعالى وعندنا يكون صحيحا بأصله لا بوصفه ونسميه فاسدا وهذا الخلاف مبني على الخلاف الأول وسيجيء هذا الخلاف في هذا الفصل والدليلان المذكوران في المتن يدلان على مذهبه في الخلاف الأول وهو كون التصرف باطلا
قلنا حقيقة النهي توجب كون المنهي عنه ممكنا فيثاب بالامتناع عنه ويعاقب بفعله والنهي عن المستحيل عبث هذا هو الدليل المشهور لأصحابنا على أن النهي عن الشرعيات
____________________
(1/406)
يقتضي الصحة وقد أورد الخصم عليهم أن إمكان المنهي عنه بالمعنى اللغوي كاف ولا نسلم أنه يجب أن يكون ممكنا بالمعنى الشرعي فأجبت عن هذا بقولي فإمكانه إما بحسب المعنى الشرعي أو اللغوي والثاني باطل لأن المعنى اللغوي لا يوجب المفسدة التي نهى لأجلها حتى لو وجب يكون النهي عن الحسيات ولا نزاع فيه فتعين الأول تحقيقه أنه إذا نهى عن بيع درهم بدرهمين فهنا أمران أحدهما أمر لغوي من غير المعنى الشرعي الذي ذكرنا وهو قولهما بعت واشتريت وهذا أمر حسي والثاني هذا القول مع المعنى الشرعي المذكور وهذا هو البيع الشرعي فإن كان النهي عن الأمر الأول يكون النهي عن الحسيات وحينئذ إن كانت المفسدة التي نهى لأجلها في نفس هذا القول من حيث هو القول فلا نزاع في كونه باطلا لكن الواقع ليس هذا القسم لأن المفسدة ليست في نفس هذا القول وهو بعت هذا الدرهم بدرهمين وإن كانت المفسدة في غير هذا القول الحسي لا يكون هذا القول قبيحا لعينه كقوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن وإن كان النهي عن الأمر الثاني يجب إمكانه بحسب المعنى الشرعي فلا يكون النهي للقبح لذاته أو لجزئه لأن ذلك ينافي إمكان وجوده شرعا فيكون لقبح أمر خارجي وأيضا إذا اجتمع الموضوع له لغة وشرعا لا بد من حمل اللفظ على الموضوع له الشرعي فيجب الإمكان
____________________
(1/407)
بالمعنى الشرعي فإن قيل النهي عن البيع مثلا ليس إلا عن التصرف الحسي فأما المعنى الشرعي فلا قدرة للعبد عليه فكيف يصح النهي عنه قلنا الشارع قد وضع اللفظ لإنشاء البيع بمعنى أنه كلما وجد هذا اللفظ من الأهل مضافا إلى المحل يوجد إنشاء البيع الشرعي قطعا فالقدرة حاصلة على إنشاء المعنى الشرعي بأن يتكلم باللفظ الموضوع له مضافا إلى المحل الصالح له فإذا كان المعنى الشرعي مقدورا يصح أن يكون منهيا عنه ثم بتبعية هذا النهي يكون التكلم باللفظ منهيا عنه لأنه إن تكلم به يثبت به ما هو المنهي عنه وهو الإنشاء فإذا تكلم به ثبت المعنى الموضوع له وهو الإنشاء الشرعي ونظيره الطلاق في حالة الحيض ولأن النهي يدل على كونه معصية لا على كونه غير مفيد لحكمه كالملك مثلا فنقول بصحته لإباحته والقبح مقتضى النهي فلا يثبت على وجه يبطل النهي وقد ثبت فيما مضى أن الأمر يقتضي كون المأمور به حسنا قبل الأمر والنهي يقتضي كونه قبيحا قبله خلافا
____________________
(1/408)
للأشعري وهذا معنى الاقتضاء فلا يمكن أن يثبت المقتضى على وجه يبطل المقتضي وهو النهي فإنه لو كان قبيحا لعينه في الشرعيات يكون باطلا أي لا يمكن وجوده شرعا والنهي عن المستحيل عبث فيثبت على الوجه الذي ادعيناه وهو القبح لغيره
والبعض سلموا ذلك في المعاملات لما قلنا لا في العبادات أصلا فلا تصح الصلاة في الأرض المغصوبة اعلم أن أبا الحسين البصري أخذ في المعاملات مذهبنا على التفصيل الذي يأتي أما في العبادات فمذهبه أن النهي يقتضي البطلان مطلقا وإن كان الدليل دالا على أن النهي بسبب القبح في المجاور كالصلاة في الأرض المغصوبة فإنها باطلة عنده وأما عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى صحيحة لكن على صفة الكراهة لأنه لم يأت بالمأمور به لأن المنهي عنه لم يؤمر به قلنا كل معين يأتي به فإنه لم يؤمر به بل مطلق الفعل مأمور به لكنه يخرج عن العهدة
____________________
(1/409)
بإتيانه بمعين لاشتماله على المأمور به ذاتا والمنهي عنه عرضا والمشروعات تحتمل هذا الوصف إجماعا كالإحرام الفاسد والطلاق الحرام والنكاح الحرام ونحوهما وإنما قيدنا بقولنا ذاتا وعرضا لأنه بالتقسيم العقلي إما أن يكون مأمورا به لذاته ومنهيا عنه لذاته أو مأمورا به بالعرض ومنهيا عنه بالعرض أو مأمورا به بالذات ومنهيا عنه بالعرض أو بالعكس أما الأول فمحال لأنه إما بحسب عينه فيوجب أن يكون حسنا لعينه وقبيحا لعينه فيجتمع الضدان وأما بحسب جزئه فهذا الجزء القبيح يكون قبيحا لعينه قطعا للتسلسل فيكون باطلا فلا يتحقق الكل فعلم من هذا أن القبيح لمعنى في نفسه يمكن أن يكون قبيحا لجزء واحد وأما الحسن لمعنى في نفسه فلا يتصور إلا وأن يكون جميع أجزائه حسنا أي لا يكون شيء من أجزائه قبيحا لعينه وأما الثاني فقد ذكرنا أن الأمر المطلق يقتضي الحسن لمعنى في نفسه فلا يتأدى بما هو مأمور به بالعرض لأن هذا حسن لغيره فلا يتأدى به المأمور به فهذا القسم ممكن بل واقع لكن لا يتأدى به المأمور به أمرا مطلقا وأما الرابع وهو العكس فيكون باطلا لا يتأدى به المأمور به فبقي القسم الثالث وهو المدعى ثم يرد علينا إشكال وهو أنكم قد اخترعتم نوعا من الحكم لا نظير له في المشروعات فيكون نصب الشرع بالرأي فنقول في جوابه المشروعات تحتمل هذا الوصف أي كونه حسنا لعينه قبيحا لغيره وبعبارة أخرى كونه مأمورا به لذاته منهيا عنه لعارض وبعبارة أخرى كونه صحيحا ومشروعا بأصله لا بوصفه أو مجاوره والكل واحد
____________________
(1/410)
فعلى هذا الأصل وهو أن النهي عن المشروعات يقتضي القبح لعينه عنده إلا بدليل أن النهي للقبح لغيره وعندنا يقتضي القبح لغيره والصحة والمشروعية بأصله إلا بدليل أن النهي للقبح لعينه
إن لم يدل الدليل على أن النهي للقبح لعينه أو لغيره يبطل عنده ويصح بأصله عندنا وإن دل الدليل على أن النهي للقبح لغيره فذلك الغير إن كان وصفا له يبطل عنده ويفسد عندنا أي يصح بأصله لا بوصفه إذ الصحة تتبع الأركان والشرائط فيحسن لعينه ويقبح لغيره بلا ترجيح العارضي على الأصلي وعنده الباطل والفاسد سواء هذا هو الخلاف الآخر الذي وعدت ذكره وهو بناء على الخلاف الأول لأنه لما كان الأصل في المنهي عنه البطلان عنده يجب أن يجري على أصله الأول إلا عند الضرورة فالضرورة مقتصرة على ما إذا دل الدليل على أن النهي لقبح المجاور كالبيع وقت النداء أما إذا دل الدليل على أن
____________________
(1/411)
النهي لقبح الوصف اللازم فلا ضرورة في أن لا يجري النهي على أصله فإن بطلان الوصف اللازم يوجب بطلان الأصل بخلاف المجاورة فإنه ليس بلازم وأما عندنا فلأن الأصل في النهي عنه إذا كان تصرفا شرعيا يجب أن يكون وجوده وصحته شرعا فيجري على أصله إلا عند الضرورة وهي منحصرة فيما إذا دل الدليل على أن القبح لعينه أو لجزئه أما إذا دل الدليل على أن النهي لقبح الوصف اللازم فلا ضرورة في البطلان لأن صحة الأجزاء والشروط فيه كافية لصحة الشيء وترجيح الصحة بصحة الأجزاء أولى من ترجيح البطلان بالوصف الخارجي وإذا لم تكن الضرورة قائمة هنا يجري النهي على أصله وهو أن يكون المنهي عنه موجودا شرعا أي صحيحا
وذلك كالبيع بالشرط والربا والبيع بالخمر وصوم الأيام المنهية هذه أمثلة الصحيح بأصله لا بوصفه الذي نسميه فاسدا
لكن صح النذر به أي مع أن صوم الأيام المنهية فاسد يصح النذر به
لأنه طاعة والمعصية غير متصلة به ذكرا بل فعلا وهو الإعراض عن ضيافة الله تعالى وأما في ذكره والتلفظ به فلا معصية فصح النذر به لأن النذر ذكره لا فعله
فلا يلزم بالشروع لأن الشروع فعل وهو معصية
____________________
(1/412)
وأما الصلاة في الأوقات المنهية فقد نهيت لفساد في الوقت وهو سببها وظرفها فأوجب نقصانا فلا يتأدى به الكامل لا معيارها فلم يوجب فسادا فيضمن بالشروع بخلاف الصوم اعلم أن الوقت سبب للصلاة وظرف لها فمن حيث إنه سبب يجب الملاءمة بينهما فإذا وجب كاملا لا يتأدى ناقصا كما في الفجر وقضاء الصلاة في الأوقات المنهية وإن وجب ناقصا يتأدى ناقصا كما في أداء العصر ومن حيث إنه ظرف لا معيار يكون تعلقه
____________________
(1/413)
بالصلاة تعلق المجاورة لا تعلق الوصفية فلا يوجب الفساد بل يوجب النقصان بخلاف الصوم فإن الوقت معياره فالصوم عبادة مقدرة بالوقت فيكون كالوصف له ففساده يوجب فساد الصوم وهذا الفرق إنما يظهر أثره في النفل حتى لو شرع في الصلاة في الأوقات المنهية يجب عليه إتمامها ولو أفسد يجب عليه قضاؤها أما إن شرع في الصوم في الأيام المنهية لا يجب إتمامه بل يجب رفضه فإن رفضه لا يجب القضاء
وإن كان مجاورا يقتضي كراهته عندنا وعنده هذا الكلام يتعلق بقوله فذلك الغير إن كان وصفا له وإنما قال عندنا وعنده لما مر أن على مذهب أبي الحسين البصري النهي في العبادات يوجب البطلان مطلقا مع أن الدليل يكون دالا على أن النهي لقبح أمر مجاور
كالصلاة في الأرض المغصوبة والبيع وقت النداء أوردت هنا مثالين أحدهما للعبادات والآخر للمعاملات
وإن دل على أن النهي لعينه أي لذاته أو لجزئه يبطل اتفاقا هذا الكلام يتعلق بقوله وإن دل على أن النهي لغيره كالملاقيح والمضامين فإن الركن معدوم فدل الدليل على أنه مجاز عن النسخ فيكون قبيحا لعينه قوله فيكون قبيحا لعينه تعقيب لقوله فإن الركن معدوم فيلزم من بطلانه قبحه لعينه لأنهما متلازمان الملاقيح جمع ملقوحة وهي ما في البطن من الجنين والمضامين جمع مضمون وهو ما في أصلاب الفحول من الماء وفي الحديث نهي عن بيع المضامين والملاقيح فلما كان ركن البيع وهو المبيع معدوما لا يمكن وجود البيع فلا يراد حقيقة النهي لما ذكرنا أن النهي عن المستحيل عبث فيكون النهي مجازا عن النسخ فإن النسخ
____________________
(1/414)
لإعدام الصحة والمشروعية روعية والجامع أن الحرمة تثبت لكل منهما إلا أن الحرمة بالنسخ لعدم بقاء المحل بخلاف الحرمة بالنهي ثم اعلم أن من جملة مشكلات هذا الفصل التفرقة بين الجزء والوصف والمجاور فكل واحد من هذه الثلاثة إما أن يصدق على ذلك المنهي عنه أو لم يصدق فالجزء إما صادق على الكل وهو ما يصدق على الشيء ويتوقف تصور ذلك الشيء على تصوره كالعبادة للصلاة وإما غير صادق كأركان الصلاة للصلاة والإيجاب والقبول والمبيع للبيع وأما الوصف فالمراد به اللازم الخارجي وهو إما أن يصدق على الملزوم نحو الجهاد إعلاء كلمة الله وصوم الأيام المنهية إعراض عن ضيافة الله تعالى وإما أن لا يصدق كالثمن فإنه كلما يوجد البيع يوجد الثمن لكن الثمن لا يصدق على البيع وليس ركن البيع لأنه وسيلة إلى المبيع لا مقصود أصلي فجرى مجرى آلات الصناعة كالقدوم وأما المجاور فهو الشيء الذي يصحبه ويفارقه في الجملة وهو إما صادق على الشيء كما يقال البيع وقت النداء اشتغال عن السعي الواجب فإنه قد يوجد الاشتغال عن السعي الواجب بدون البيع وأيضا على العكس إذا جرى البيع في حالة السعي وإما غير صادق كقطع الطريق لا يصدق على السفر بل السفر الموصل إلى القطع فالقطع يوجد بدون سفر المعصية كما إذا قطع بدون السفر أو سافر للحج فقطع الطريق وأيضا على العكس بأن سافر بدون نية القطع ولم يوجد القطع أو سافر بنية القطع لكن لم يوجد القطع إذا ثبت هذا جئنا إلى تطبيق هذه الأصول على الأمثلة المذكورة أما الربا فإنه فضل خال عن العوض شرط في عقد المعاوضة فلما كان مشروطا في العقد كان لازما للعقد ثم هو خال عن العوض لأن الدرهم لا يصلح عوضا إلا لمثله فإن المعادلة بين الزائد والناقص عدول عن قضية العدل فلم توجد المبادلة في الزائد لكن الزائد هو فرع على المزيد عليه فكان كالوصف أو نقول ركن البيع وهو مبادلة المال بالمال وقد وجد لكن لم توجد المبادلة التامة فأصل المبادلة حاصل لا وصفها وهو كونها تامة وأما البيع بالشرط فكالربا لأن الشرط أمر زائد وأما البيع بالخمر
____________________
(1/415)
فإن الخمر مال غير متقوم فجعلها ثمنا لا يبطل البيع لما ذكرنا أن الثمن غير مقصود بل تابع ووسيلة فيجري مجرى الأوصاف التابعة ولأن ركن البيع وهو مبادلة المال بالمال متحقق لكن المبادلة التامة لم توجد لعدم المال المتقوم في أحد الجانبين وأما صوم الأيام المنهية فلما ذكرنا أن الوقت كالوصف ولأنه إعراض عن ضيافة الله تعالى وهذا وصف له وأما الصلاة في الأرض المغصوبة فإن شغل مكان الغير لم يلزم من الصلاة بل إنما يلزم من المصلي فإن كل جسم متمكن فوقع بين شغل مكان الغير وبين الصلاة ملازمة اتفاقية وأما البيع الفاسدة فإنها أوجبت تلك المفاسد أي المفاسد المذكورة كالبيع بالشرط والربا فتكون قبيحة بوصفها وأما البيع وقت النداء فقد سبق ذكره وقد وقع بينه وبين الاشتغال عن السعي ملازمة اتفاقية
وكذا النكاح بغير شهود لأنه منفي بقوله عليه الصلاة والسلام لا نكاح إلا بشهود أي يكون باطلا لأنه منفي لا منهي وكلامنا في المنهي فيرد إشكال وهو أنه لما كان باطلا ينبغي أن لا يثبت النسب ولا يسقط الحد فأجاب بقوله وإنما النسب وسقوط الحد للشبهة ولأنه عطف على قوله لأنه منفي
وضع للحل فلا ينفصل عنه والبيع وضع للملك والحل تابع له لأنه قد يشرع في موضع الحرمة وفيما لا يحتمل الحل أصلا كالأمة المجوسية والعبد أي وإن سلم أن النكاح منهي عنه فإن نهيه يوجب البطلان لأنه لا خلاف في أن النهي يوجب الحرمة والنكاح عقد موضوع للحل فلما انفصل عنه ما وضع له وهو الحل يكون باطلا بخلاف البيع لأن وضعه للملك لا للحل بدليل مشروعيته في موضع الحرمة كالأمة المجوسية وفيما لا يحتمل الحل أصلا كالعبد فإذا انفصل عنه الحل لا يبطل البيع
____________________
(1/416)
فإن قيل النهي عن الحسيات يقتضي القبح لعينه والقبح لعينه لا يفيد حكما شرعيا إجماعا فلا يثبت حرمة المصاهرة بالزنا والملك بالغصب واستيلاء الكفار والرخصة بسفر المعصية لا توجب النعمة ثم ورد على هذا إشكال وهو أنا لا نسلم أنه إذا ورد النهي عن الحسيات لا يفيد حكما شرعيا فإن الطلاق في الحيض يفيد حكما شرعيا والظهار يفيد الحكم الشرعي وهو الكفارة فأجاب بقوله
ولا يلزم أن الطلاق في الحيض يوجب حكما شرعيا لأنه قبيح لغيره ولا الظهار لأن الكلام في حكم مطلوب عن سبب لا في حكم
____________________
(1/417)
زاجر فإن هذا يعتمد حرمة سببه فحاصل الجواب في الطلاق إن بحثنا في النهي عن الحسيات إذا لم يدل الدليل على أنه لقبح المجاور وفي الطلاق قد دل الدليل وأما في الظهار فبحثنا في أن المنهي عنه لا يفيد حكما شرعيا هو مطلوب عن السبب والظهار لا يفيد حكما شرعيا كذلك بل أفاد حكما شرعيا هو زاجر
قلنا الزنا لا يوجب ذلك بنفسه بل لأنه سبب للولد وهو الأصل في إيجاب الحرمة ثم يتعدى منه إلى الأطراف والأسباب كالوطء تقريره أن الزنا بذاته لا يوجب حرمة المصاهرة حتى يرد الإشكال بل لأن الولد يوجب الحرمة لأن الاستمتاع بالجزء لا يجوز ثم تتعدى منه الحرمة إلى أطرافه أي فروعه وأصوله كأمهات النساء وتتعدى إلى الأسباب أي الولد هو موجب لحرمة أمهات النساء فأقيم ما هو سبب الولد مقام الولد في إيجاب حرمتهن كما أقمنا السفر مقام المشقة في إثبات الرخصة وسبب الولد هو الوطء ودواعيه فجعلناها موجبة لحرمة المصاهرة لا ذاتا بل بتبعية الولد
____________________
(1/418)
وما يعمل بالخلفية يعتبر في عمله صفة لأصل والأصل وهو الولد لا يوصف بالحرمة أي لما جعل الوطء موجبا لحرمة المصاهرة لكونه خلفا عن الولد لا تعتبر حرمته لأن المعتبر في الخلف صفات الأصلي لا صفات الخلف كالتراب جعل خلفا عن الماء لا تعتبر صفات التراب بل تعتبر صفات الماء من الطهورية ونحوها فهنا لا يعتبر صفات الوطء وهي الحرمة بل المعتبر الولد وهو لا يوصف بالحرمة
والملك بالغصب لا يثبت مقصودا بل شرطا لحكم شرعي وهو الضمان لئلا يجتمع البدل والمبدل منه في ملك شخص واحد هذا
____________________
(1/419)
جواب عما يقال لا يثبت الملك بالغصب وتقريره أن الغصب لا يفيد ملكا مقصودا بل إنما يثبت الملك في المغصوب بناء على أن الضمان صار ملكا للمغصوب منه فلو لم يخرج المغصوب عن ملكه ولم يدخل في ملك الغاصب لاجتمع البدل والمبدل منه في ملك شخص واحد هذا لا يجوز ثم ورد على هذا إشكال وهو أن يقال لا نسلم أن اجتماع البدل والمبدل منه في ملك شخص واحد لا يجوز فإن
____________________
(1/420)
ضمان المدبر يصير ملكا للمغصوب منه مع أن المدبر لا ينتقل عن ملكه فأجاب عن هذا بقوله
والمدبر يخرج عن ملك المولى تحقيقا للضمان لكن لا يدخل في ملك الغاصب ضرورة لئلا يبطل حقه أي المدبر يخرج عن ملك المغصوب منه إذ لو لم يخرج عن ملكه لا يدخل الضمان في ملكه لكن لا يدخل في ملك الغاصب إذ لو دخل لبطل حق المدبر وهو استحقاق الحرية ثم أجاب بجواب آخر وهو قوله أو هو في مقابلة ملك اليد فلما كان ضمان المدبر في مقابلة إزالة ملك اليد فلا يرد الإشكال المذكور ثم أجاب عن استيلاء الكفار بقوله
وأما الاستيلاء فإنما نهي لعصمة أموالنا وهي غير ثابتة في زعمهم أو هي ثابتة ما دام محرزا وقد زال فسقط النهي في حق الدنيا أما في حق الآخرة فلا حتى يكون آثما مؤاخذا به وأجاب عن سفر المعصية بقوله وسفر المعصية قبيح لمجاوره على ما بيناه من قبل
فصل اختلفوا في الأمر والنهي هل لهما حكم في الضد أم لا والصحيح أنه إن فوت
____________________
(1/421)
المقصود بالأمر يحرم وإن فوت عدمه المقصود بالنهي يجب وإن لم يفوت فالأمر يقتضي كراهته والنهي كونه سنة مؤكدة يعني إذا أمر بالشيء فضد ذلك الشيء إن فوت المقصود بالأمر ففعل الضد يكون حراما وإن لم يفوته يكون فعله مكروها وإذا نهي عن الشيء فعدم ضده إن فوت المقصود بالنهي ففعل الضد يكون واجبا وإن لم يفوته ففعله يكون سنة مؤكدة فالحاصل أنه إن وجد شرائط التناقض بين الضدين فوجوب أحدهما يوجب حرمة الآخر وحرمة أحدهما توجب وجوب الآخر لأنه لما لم يقصد الضد لا يعتبر إلا من حيث يفوت المقصود فيكون هذا القدر مقتضى الأمر والنهي وإذا لم يفوت المقصود نقول بكراهته وكونه سنة مؤكدة ملاحظة لظاهر الأمر والنهي فإن مشابهة المنهي عنه توجب الكراهة ومشابهة المأمور به توجب الندب وكونه سنة مؤكدة
____________________
(1/422)
فقوله تعالى ولا يحل لهن أن يكتمن وهو في معنى النهي يقتضي وجوب الإظهار والأمر بالتربص يقتضي حرمة التزوج وقوله تعالى ولا تعزموا عقدة النكاح يقتضي الأمر بالكف لكنه غير مقصود فيجري التداخل في العدة بخلاف الصوم فإن الكف ركنه وهو مقصود
وأما المأمور بالقيام في الصلاة إذا قعد ثم قام لا يبطل لكنه يكره والمحرم لما نهي عن لبس المخيط كان لبس الإزار والرداء سنة والسجود على
____________________
(1/423)
النجس لا يفسد عند أبي يوسف لأنه لا يفوت المقصود حتى إذا أعاده على الطاهر يجوز وعندهما يفسد لأنه يصير مستعملا للنجس في عمل هو فرض والتطهير عن النجاسة في الأركان فرض دائم فيصير ضده مفوتا فهذه المسائل تفريعات على ما ذكر من الأصل وبعد معرفة أحكام الأصل معرفة هذه الفروع تكون سهلة إنه المسهل لكل عسير
____________________
(1/424)
الركن الثاني في السنة وهي تطلق على قول الرسول عليه السلام وعلى فعله والحديث مختص بقوله والأقسام التي ذكرت في كتاب كالخاص والعام والمشترك إلى آخرها والأمر والنهي ثابتة ههنا أيضا فلا نشتغل بها وإنما بحثنا في بيان الاتصال بالرسول عليه السلام فنبحث في أمور في كيفية الاتصال وفي الانقطاع وفي محل الخبر وفي كيفية السماع والضبط والتبليغ وفي الطعن
فصل في الاتصال الخبر لا يخلو من أن يكون رواته في كل عهد قوما لا يحصى عددهم ولا يمكن تواطؤهم على الكذب لكثرتهم وعدالتهم وتباين أماكنهم أو تصير كذلك
____________________
(2/3)
بعد القرن الأول أو لا تصير كذلك بل رواته آحاد
والأول متواتر والثاني مشهور والثالث خبر الواحد ولم يعتبر فيه العدد إذا لم يصل حد التواتر
والأول يوجب علم اليقين لأن الاتفاق على شيء مخترع مع تباين همومهم وطبائعهم وأماكنهم مما يستحيل عقلا
والثاني يوجب علم طمأنينة وهو علم تطمئن به النفس وتظنه يقينا لكن لو تأمل حق التأمل علم أنه ليس بيقين كما إذا رأى قوما جلسوا للمأتم يقع له علم عن غفلة عن التأمل لأنه يمكن المواضعة بناء على أنه آحاد الأصل وإنما يوجب أي الخبر المشهور
____________________
(2/4)
ذلك أي علم طمأنينة القلب لأنه وإن كان في الأصل خبر واحد لكن أصحاب الرسول عليه السلام تنزهوا عن وصمة الكذب
ثم بعد ذلك دخل في حد التواتر فأوجب ما ذكرنا والثالث يوجب غلبة الظن إذا اجتمع الشرائط التي نذكرها إن شاء الله تعالى وهي كافية لوجوب العمل وعند البعض لا يوجب شيئا لأنه لا يوجب العلم ولا عمل إلا عن علم لقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وعند بعض أهل الحديث يوجب العلم لأنه يوجب العمل ولا عمل إلا عن علم فأما إيجابه العمل فلقوله تعالى
____________________
(2/5)
فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون الطائفة تقع على الواحد فصاعدا والرسول عليه السلام قبل خبر بريرة وسلمان في الهدية والصدقة وأرسل الأفراد إلى الآفاق والأخبار في أحكام الآخرة لا توجب إلا الاعتقاد وهي مقبولة ولأنه يحتمل الصدق والكذب وبالعدالة يترجح الصدق ولنا هذه الدلائل لكن لا نسلم أنه لا عمل إلا عن علم قطعي والعقل يشهد أنه لا يوجب اليقين
والأحاديث في أحكام الآخرة منها ما اشتهر ومنها ما دون ذلك وكل ذلك يوجب ما ذكرنا ولأنها توجب عقد القلب وهو عمل فيكفي له خبر الواحد وفي هذا نظر لأنه يجب أن لا يختص هذا بأحكام الآخرة بل يكون كل الاعتقاديات كذلك
فصل الراوي إما معروف بالرواية وإما مجهول أي لم يعرف إلا بحديث أو حديثين والمعروف إما أن يكون معروفا بالفقه والاجتهاد كالخلفاء الراشدين والعبادلة أي عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وزيد ومعاذ وأبي موسى الأشعري وعائشة
____________________
(2/6)
ونحوهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين وحديثه يقبل وافق القياس أو خالفه وحكي عن مالك أن القياس مقدم عليه ورد بأنه يقين بأصله وإنما الشبهة في نقله وفي القياس العلة محتملة وهي الأصل وأيضا إذا ثبت أن هذا علة قطعا لكن يمكن أن يكون في الفرع مانع أو لخصوصية الأصل أثر أو بالرواية فقط كأبي هريرة وأنس رضي الله تعالى عنهما فإن وافق القياس قبل وكذا إن خالف قياسا ووافق قياسا آخر لكنه إن خالف جميع الأقيسة لا يقبل
____________________
(2/7)
عندنا وهذا هو المراد من السداد باب الرأي وذلك لأن النقل بالمعنى كان مستفيضا فيهم فإذا قصر فقه الراوي لم يؤمن من أن يذهب شيء من معانيه فتدخله شبهة زائدة يخلو عنها القياس
وذلك كحديث المصراة وهي ما روي أنه عليه السلام قال من اشترى شاة فوجدها محفلة فهو بخير النظرين إلى ثلاثة أيام إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها ورد معها صاعا من تمر
والمحفلة شاة جمع اللبن في ضرعها بترك حلبها ليظنها المشتري سمينة فيغتر
فهذا الحديث مخالف للقياس الصحيح من كل وجه لأن تقدير ضمان العدوان بالمثل أو بالقيمة حكم ثابت بالكتاب وهو قوله فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم والسنة والإجماع
____________________
(2/8)
____________________
(2/9)
وأما المجهول فإن روى عنه السلف وشهدوا له بصحة الحديث صار مثل المعروف بالرواية وإن سكتوا عن الطعن بعد النقل فكذا لأن السكوت عند الحاجة إلى البيان بيان وإن قبل البعض ورد البعض مع نقل الثقات عنه يقبل إن وافق قياسا كحديث معقل بن سنان في بروع مات عنها هلال بن مرة وما سمى لها مهرا وما دخل بها فقضى عليه السلام لها بمهر مثل نسائها فقبله ابن مسعود ورده علي رضي الله تعالى عنهما وقال ما نصنع بقول أعرابي بوال على عقبيه قال شمس الأئمة الكردري إن من عادة الأعرابي الجلوس محتبيا فإذا بال يقع البول على عقبيه وهذا لبيان قلة احتياط الأعراب حيث لم يستنزهوا البول وهذا طعن من علي رضي الله تعالى عنه وقد روى عنه الثقات كابن مسعود وعلقمة ومسروق وغيرهم فعملنا به لما وافق القياس عندنا فإن الموت كالدخول بدليل وجوب العدة في الموت ولم يعمل به الشافعي رحمه الله تعالى لما خالف القياس عنده
وإن رده الكل فهو مستنكر لا يعمل به كحديث فاطمة بنت قيس أنه عليه السلام لم يجعل لها نفقة ولا سكنى وقد طلقها زوجها ثلاثا فرده عمر وغيره من الصحابة وقال عمر لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت أحفظت أم نسيت قال عيسى بن أبان فيه أراد بالكتاب
____________________
(2/10)
والسنة القياس لأن ثبوته بهما حيث قال الله تعالى فاعتبروا وحديث معاذ في القياس مشهور وقال بعضهم أراد بالكتاب قوله تعالى أسكنوهن وأراد بالسنة ما قال عمر سمعت النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للمطلقة الثلاث النفقة والسكنى ما دامت في العدة
وإن لم يظهر حديثه في السلف كان يجوز العمل به في زمن أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا وافق القياس لأن الصدق في ذلك الزمان غالب قال عليه السلام خير القرون قرني الذين أنا فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب فالقرن الأول الصحابة والثاني التابعون والثالث تبع التابعين أما بعد القرن الثالث فلا لغلبة الكذب فلهذا صح عنده القضاء بظاهر العدالة وعندهما لا فهذا لاختلاف العهد
فصل في شرائط الراوي وهي أربعة العقل والضبط والعدالة والإسلام أما العقل فيعتبر هنا كماله وهو مقدر بالبلوغ على ما يأتي فلا يقبل خبر الصبي والمعتوه
وأما الضبط فهو سماع الكلام كما يحق سماعه ثم فهم معناه ثم حفظ لفظه ثم الثبات عليه مع المراقبة
____________________
(2/11)
إلى حين الأداء وكماله أن ينضم إلى هذا الوقوف على معانيه الشرعية
وشرطنا حق السماع احترازا عن أن يحضر رجل مجلسا وقد مضى صدر من الكلام ويخفى على المتكلم هجومه ليعيده وهو يزدري نفسه فلا يستعيده
وفهم المعنى بالنصب عطف على حق السماع في قوله وشرطنا حق السماع هنا لا في القرآن لأن المعتبر في نقله نظمه فلهذا يبالغ في حفظه عادة بخلاف الحديث على أنه قد ينقل بالمعنى حتى ولو بولغ في حفظه كانت كافية ولأنه محفوظ لقوله تعالى وإنا له لحافظون
والمراقبة بالنصب عطف أيضا على ذلك احترازا عما لا يرى نفسه أهلا للتبليغ فيقصر في مراقبة بعض ما ألقي إليه وأما العدالة فهي الاستقامة وهي الانزجار عن محظورات دينه وهي متفاوتة وأقصاها أن يستقيم كما أمر وهو أن لا يكون مخالفا النبي عليه السلام فاعتبر ما لا يؤدي إلى الحرج وهو رجحان جهة الدين والعقل على داعي الهوى والشهوة فقيل إن من ارتكب كبيرة سقطت عدالته وإذا أصر على الصغيرة فكذا
أما من ابتلي بشيء منها من غير إصرار فتام العدالة فشهادة المستور وإن كانت مردودة لكن خبر المجهول يقبل عندنا لشهادة النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك القرن بالعدالة
وأما الإسلام فإنما شرطناه وإن كان الكذب حراما في كل دين لأن الكافر يسعى في هدم دين الإسلام تعصبا فيرد قوله في أموره وهو التصديق والإقرار وهو نوعان ظاهر بنشوئه بين المسلمين وثابت بالبيان بأن يصف الله تعالى كما هو إلا أن في اعتباره على سبيل التفصيل
____________________
(2/12)
حرجا فيكفي الإجمال بأن يصدق بكل ما أتى به النبي عليه السلام فلهذا قلنا الواجب أن يستوصف فيقال أهو كذا وكذا فإذا قال نعم يكمل إيمانه أي لأجل أن الإجمال كاف بناء على أن الحرج مدفوع في الدين قلنا إن الواجب الاستيصاف وليس المراد بالاستيصاف أن نسأله عن صفات الله تعالى أو نسأله عن الإيمان ما هو وما صفته فإن هذا بحر عميق تغرق فيه العقول والأفهام ولا يكاد العلماء يعلمون صفات الله بل المراد أن نذكر صفات الله تعالى التي يجب أن يعرفها المؤمنون ونسأله أهو كذلك أي أتشهد أن الله موصوف بالصفات المذكورة فيقول نعم فيكمل إيمانه
وهذا هو المراد والله أعلم بقوله تعالى فامتحنوهن فإذا ثبتت هذه الشرائط يقبل حديثه سواء كان أعمى أو عبدا أو امرأة أو محدودا في قذف تائبا بخلاف الشهادة في حقوق الناس فإنها تحتاج إلى تمييز زائد ينعدم بالعمى وإلى ولاية كاملة تنعدم بالرق وتقصر بالأنوثة
فإن الشهادة والقضاء ولاية للشاهد والقاضي على المشهود عليه والمقضي عليه ألا يرى أن الشاهد يلزم المشهود عليه شيئا وهذا أي الإخبار بالحديث ليس من باب الولاية فإن المخبر لا يلزمه أي الناقل لا يلزم المنقول إليه شيئا بل يلزمه بالتزامه أي يلزم الحكم على المنقول إليه بالتزامه الشرائع ولأنه يلزمه أولا ثم يتعدى منه إلى الغير أي يلزم الحكم الناقل أولا ثم يتعدى منه إلى الغير وهو المنقول إليه
ولا تشترط لمثله الولاية أي لمثل الحكم الذي يلزم على الغير بتبعية لزومه أولا على الشاهد وبالتزام الشاهد عليه شيئا كما في الشهادة بهلال رمضان فإن الصوم يلزم الشاهد أولا ثم يتعدى منه إلى الغير تبعا فلا يكون ولاية على الغير أي ثبوت هذا الحكم بالتبعية على الغير إذ ليس هو إلزاما على الغير قصدا فلهذا يقبل من العبد والمرأة الشهادة بهلال رمضان ورد الشهادة أبدا من تمام الحد هذا بيان الفرق بين قبول الحديث من
____________________
(2/13)
المحدود في القذف إذا تاب وبين عدم قبول الشهادة منه فإن حديثه مقبول وشهادته غير مقبولة فإن عدم قبول شهادته من تمام حده قال الله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا
فبعد التوبة لا تقبل شهادتهم وإن كانوا عدولا لكن يقبل حديثهم بناء على عدالتهم وقد ثبت عن أصحابه عليه السلام قبول الحديث عن الأعمى والمرأة كعائشة وهو عليه السلام قبل خبر بريرة وسلمان رضي الله تعالى عنهما
فصل في الانقطاع أي انقطاع الحديث عن الرسول عليه السلام وهو ظاهر وباطن أما الظاهر فكالإرسال الإرسال عدم الإسناد وهو أن يقول الراوي قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من غير أن يذكر الإسناد والإسناد أن يقول حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمرسل منقطع عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من حيث الظاهر لعدم الإسناد الذي يحصل به الاتصال لا من حيث الباطن للدلائل المذكورة في المتن الدالة على قبول المرسل
ومرسل الصحابي مقبول بالإجماع ويحمل على السماع ومرسل القرن الثاني والثالث لا يقبل عند الشافعي رحمه الله تعالى إلا أن يثبت اتصاله من طريق آخر كمراسيل سعيد بن المسيب قال لأني وجدتها مسانيد للجهل بصفات الراوي التي تصح بها الرواية وهذا دليل على قوله لا يقبل عند الشافعي رحمه الله تعالى ويقبل عندنا وعند مالك وهو فوق المسند لأن الصحابة أرسلوا وقال البراء ما كل ما نحدثه سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما حدثنا عنه لكنا لا نكذب
ولأن كلامنا في إرسال من لو أسند لا يظن به الكذب فلأن لا يظن الكذب على الرسول أولى والمعتاد أنه إذا وضح له الأمر طوى الإسناد وجزم وإذا لم يتضح نسبه إلى الغير ليحمله ما حمله هذا جواب في دليل الشافعي رحمه الله تعالى حيث قال للجهل بصفات الراوي ولا بأس بالجهالة لأن المرسل إذا كان ثقة لا يتهم بالغفلة على حال من سكت عنه ألا يرى أنه لو قال أخبرني ثقة يقبل مع الجهل ولا يعزم ما لم يسمعه من الثقة
ومرسل من دون هؤلاء يقبل عند أصحابنا لما ذكرنا ويرد عند البعض لأن الزمان زمان الفسق والكذب إلا أن يروي الثقات مرسله كما رووا مسنده مثل إرسال محمد بن الحسن وأمثاله
وأما الانقطاع الباطن فإما بالمعارضة أو بنقصان في الناقل أما الأول فإما بمعارضة الكتاب كحديث فاطمة بنت قيس قوله تعالى بالنصب أي كمعارضة حديث فاطمة قوله تعالى فنصب قوله تعالى لكونه مفعول المعارضة أسكنوهن أما في السكنى فظاهر وأما في النفقة فلأن قوله تعالى من وجدكم يحمل عندنا على قراءة ابن مسعود وهي وأنفقوا عليهن من وجدكم وكحديث القضاء بشاهد ويمين المدعي قوله تعالى بالنصب أيضا لهذا المعنى وهكذا الأمثلة
____________________
(2/14)
التي تأتي واستشهدوا شهيدين من رجالكم الآية وعند عدم الرجلين أوجب رجلا وامرأتين وحيث نقل إلى ما ليس بمعهود في مجالس الحكم دل على عدم قبول الشاهد الواحد مع اليمين فإن حضور النساء لا يعهد في مجالس الحكم ولو كانت اليمين كافية مع الشاهد الواحد مقام المرأتين لما أوجب حضورهما على أن النساء ممنوعات من الخروج وحضور مجالس الرجال وذكر في المبسوط أن القضاء بشاهد ويمين بدعة وأول من قضى به معاوية
____________________
(2/15)
وكحديث المصراة قوله تعالى فاعتدوا وإنما يرد لتقدم الكتاب حتى يكون عام الكتاب وظاهره أولى من خاص خبر الواحد ونصه ولا ينسخ ذلك بهذا ولا يزاد به عليه
وإما بمعارضة الخبر المشهور كحديث الشاهد واليمين قوله عليه السلام البينة على المدعي واليمين على من أنكر وكحديث بيع الرطب بالتمر فإنه إن كان الرطب هو التمر يعارض قوله عليه السلام التمر بالتمر مثلا بمثل وقوله جيدها ورديئها سواء وإن لم يكن يعارض قوله إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم تحقيقه أن الرطب لا يخلو من أن يكون تمرا أو لم يكن فإن كان تمرا فإن لم يجز بيعه بالتمر يكون معارضا لقوله عليه السلام التمر بالتمر مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا ولا يقال إنه تمر لكن الرطب والتمر مختلفان في الصفة لأنا نقول لا اعتبار لاختلاف الصفة لقوله صلى الله عليه وسلم جيدها ورديها سواء ولدفع هذه الشبهة صريحا زدت قوله جيدها ورديئها سواء
____________________
(2/16)
____________________
(2/17)
____________________
(2/18)
وأما بكونه شاذا في البلوى العام كحديث الجهر بالتسمية فإنه لو كان فخفاؤه في مثل هذه الحادثة مما يحيله العقل
فإن قيل جعل هذا النوع من أقسام المعارضة ولا معارضة فيه قلت أمثال هذا الحديث يدل على عدم وجوب التبليغ عن النبي عليه الصلاة والسلام أو على ترك الصحابة رضي الله تعالى عنهم التبليغ الواجب عليهم فتكون معارضة لدلائل وجوب التبليغ أو لدلائل تدل على عدالتهم أو تكون معارضة للقضية العقلية وهي أنه لو وجد لاشتهر وفي المتن إشارة إلى هذا وإما بإعراض الصحابة عنه نحو الطلاق بالرجال والعدة بالنساء فإنهم اختلفوا في الحكم ولم يرجعوا إليه
وأما الثاني وهو الذي يكون الانقطاع بنقصان في الناقل فصار الانقطاع الباطن على
____________________
(2/19)
قسمين الأول أن يكون منقطعا بسبب كونه معارضا
والثاني أن يكون الانقطاع بنقصان في الناقل والأول على أربعة أوجه إما أن يكون معارضا للكتاب أو السنة المشهورة أو بكونه شاذا في البلوى العام أو بإعراض الصحابة عنه فإنه معارض لإجماع الصحابة
فلما ذكر الوجوه الأربعة شرع في القسم الثاني من الانقطاع الباطن وهذان القسمان وإن كانا متصلين ظاهرا لوجود الإسناد لكنهما منقطعان باطنا وحقيقة
أما القسم الأول فلقوله عليه السلام يكثر لكم الأحاديث من بعدي فإذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافق كتاب الله فاقبلوه وما خالف فردوه فدل هذا الحديث على أن كل حديث يخالف كتاب الله فإنه ليس بحديث الرسول عليه السلام وإنما هو مفترى وكذلك كل حديث يعارض دليلا أقوى منه فإنه منقطع عنه عليه السلام لأن الأدلة الشرعية لا يناقض بعضها بعضا وإنما التناقض من الجهل المحض
وأما القسم الثاني فلأنه لما كان الاتصال بوجود الشرائط التي ذكرناها في الراوي فحيث عدم بعضها لا يثبت الاتصال فكخبر المستور إلا في الصدر الأول كما قلنا في المجهول وخبر الفاسق بالجر عطف على قوله خبر المستور والمعتوه وسيأتي معناه في فصل العوارض
والصبي العاقل والمغفل الشديد الغفلة لا من غالب حاله التيقظ والمساهل أي المجازف الذي لا يبالي من السهو والخطأ والتزوير وصاحب الهوى فإنه لا تقبل روايتهم للشرائط المذكورة أي لاشتراط الشرائط المذكورة في الراوي
____________________
(2/20)
فصل في محل الخبر أي الحادثة التي ورد فيها الخبر وهو إما حقوق الله تعالى وهي إما العبادات أو العقوبات
والأولى تثبت بخبر الواحد بالشرائط المذكورة وما كان من الديانات كالإخبار بطهارة الماء ونجاسته فكذا أي يثبت بأخبار الآحاد بالشرائط المذكورة أي إذا أخبر الواحد العدل أن هذا الماء طاهر أو نجس يقبل خبره ثم استدرك عن قوله فكذا بقوله لكن إن أخبر بها الفاسق أو المستور يتحرى لأن هذا إشارة إلى الإخبار عن طهارة الماء ونجاسته أمر لا يستقيم تلقيه من جهة العدول بخلاف أمر الحديث ففي كثير من الأحوال لا يكون العدل حاضرا عند الماء فاشتراط العدالة بمعرفة الماء حرج فلا يكون خبر الفاسق والمستور ساقط الاعتبار فأوجبنا انضمام التحري به بخلاف أمر الأحاديث فإن الذين يتلقونها هم العلماء الأتقياء فلا حرج إذا لم يعتبر قول الفسقة والمستورين في الأحاديث فلا اعتبار لأحاديثهم أصلا
وأما أخبار الصبي والمعتوه والكافر فلا يقبل فيها أصلا أي لا يقبل في الديانات كالإخبار عن طهارة الماء ونجاسته أصلا أي لا يلتفت إلى قوله فلا يجب التحري بخلاف أخبار الفاسق فإن الواجب فيه التحري
والثانية أي العقوبات كذلك عند أبي يوسف رحمه الله أي تثبت بخبر الواحد بالشرائط المذكورة لأنه يفيد من العلم ما يصح به العمل في الحدود كالبينات ولأنه يثبت العقوبات بدلالة النص
والثابت بدلالة النص فيه شبهة فعلم أن العقوبات تثبت بدليل فيه شبهة وجوابه أن الثابت بدلالة النص قطعي بمعنى
____________________
(2/21)
قطع الاحتمال الناشئ عن دليل كحرمة الضرب من قوله تعالى فلا تقل لهما أف والثابت بخبر الواحد ليس في هذه المرتبة وعندنا لا لتمكن الشبهة في الدليل والحد يندرئ بها وإنما تثبت بالبينة بالنص أي كان القياس أن لا تثبت العقوبات كالحدود والقصاص بالبينة لأنها خبر الواحد فإن كل ما دون التواتر خبر الواحد فتكون البينة دليلا فيه شبهة والحد يندرئ بها لكن إنما تثبت العقوبات بالبينة بالنص على خلاف القياس فلا يقاس ثبوتها بحديث يرويه الواحد على ثبوتها بالبينة
وأما حقوق العباد فتثبت بحديث يرويه الواحد بالشرائط المذكورة وأما ثبوتها بخبر يكون في معنى الشهادة فما كان فيه إلزام محض لا يثبت إلا بلفظ الشهادة والولاية فلا تقبل
____________________
(2/22)
شهادة الصبي والعبد والعدد عند الإمكان حتى لا يشترط العدد في كل موضع لا يمكن فيه العدد عرفا كشهادة القابلة مع سائر شرائط الرواية صيانة لحقوق العباد ولأن فيه معنى الإلزام فيحتاج إلى زيادة توكيد والشهادة بهلال الفطر من هذا القسم أي له حكم هذا القسم لما فيه من خوف التزوير والتلبيس وما ليس في الإلزام كالوكالات والمضاربات والرسالات في الهدايا وما أشبه ذلك كالودائع والأمانات تثبت بأخبار الواحد بشرط التمييز دون العدالة فيقبل فيها خبر الفاسق والصبي والكافر لأنه لا إلزام فيه وللضرورة اللازمة هنا
فإن في اشتراط العدالة في هذه الأمور غاية الحرج على أن المتعارف بعث الصبيان والعبيد بهذه الأشغال
والعدول الثقات لا ينتصبون دائما للمعاملات الخسيسة لا سيما لأجل الغير بخلاف الطهارة والنجاسة فإن ضرورتهما غير لازمة لأن العمل بالأصل ممكن فإنه قد سبق في هذا الفصل في الطهارة والنجاسة أن هذا أمر لا يستقيم تلقيه من جهة العدول
فهذا بيان أن الضرورة حاصلة في قبول خبر غير العدول في الطهارة والنجاسة لكن نذكر هنا أن الضرورة فيهما غير لازمة لأن العمل بالأصل ممكن فأما في المعاملات فالضرورة لازمة فلم يقبل خبر العدول ثمة مطلقا بل مع انضمام التحري وقبل هنا مطلقا وما فيه إلزام من وجه دون
____________________
(2/23)
وجه كعزل الوكيل فإنه إلزام من حيث إنه يبطل عمله في المستقبل وليس بإلزام من حيث أن الموكل يتصرف في حقه وحجر المأذون وفسخ الشركة لما ذكرنا في عزل الوكيل وإنكاح الولي البكر البالغة فإنه من حيث إنه لا يمكن لهذا التزوج في المستقبل على تقدير نفاذ هذا الإنكاح إلزام ومن حيث إنه يمكن لها فسخ هذا الإنكاح ليس بإلزام فإن كان المخبر وكيلا أو رسولا يقبل خبر الواحد غير العدل وإن كان فضوليا يشترط إما العدد أو العدالة بعد وجود سائر الشرائط
إنما فرقوا بين الوكيل والرسول وبين الفضولي لأن الوكيل والرسول يقومان مقام الموكل والمرسل فينتقل عبارتهما إليهما فلا يشترط شرائط الأخبار من العدالة ونحوها في الوكيل والرسول بخلاف الفضولي وأيضا قلما يتطرق الكذب في الوكالة والرسالة بأن يقول كاذبا وكلني فلان أو أرسلني إليك ويقول كذا وكذا
وأما الأخبار الكاذبة من غير رسالة ووكالة فكثيرة الوقوع وذلك لأن مخافة ظهور الكذب ولزوم الضرر في الأولين أشد
وقوله رعاية للشبهين أي شبه الإلزام وعدم الإلزام
فصل في كيفية السماع والضبط والتبليغ أما السماع فهو العزيمة في هذا الباب وهو إما بأن يقرأ المحدث عليك أو بأن تقرأ عليه فتقول أهو كما قرأت فيقول نعم والأول أعلى عند المحدثين فإنه طريقة الرسول عليه السلام وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى كان ذلك أحق منه عليه السلام فإنه كان مأمونا عن السهو أما في غيره فلا على أن رعاية الطالب أشد عادة
____________________
(2/24)
وطبيعة وأيضا إذا قرأ التلميذ فالمحافظة من الطرفين وإذا قرأ الأستاذ لا تكون المحافظة إلا منه
وأما الكتابة والرسالة فقائم مقام الخطاب فإن تبليغ الرسول عليه السلام كان بالكتاب والإرسال أيضا والمختار في الأولين أن يقول حدثنا وفي الأخيرين أخبرنا
وأما الرخصة فهي الإجازة والمناولة فإن كان عالما بما في الكتاب يجوز فالمستحب أن يقول أجاز ويجوز أيضا أخبر وإن لم يكن عالما بما فيه لا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى خلافا لأبي يوسف كما في كتاب القاضي
لهما أن أمر السنة أمر عظيم مما لا يتساهل فيه وتصحيح الإجازة من غير علم فيه من الفساد ما فيه وفيه فتح لباب التقصير في طلب العلم وهذا أمر يتبرك به لا أمر يقع به الاحتجاج
وأما الضبط فالعزيمة فيه الحفظ إلى وقت الأداء وأما الكتابة فقد كانت رخصة فانقلبت عزيمة في هذا الزمان صيانة للعلم
والكتابة نوعان مذكر أي إذا رأى الخط تذكر الحادثة هذا هو الذي انقلب عزيمة وأمام وهو لا يفيد التذكر والأول حجة سواء خطه هو أو رجل معروف أو مجهول
والثاني لا يقبل عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أصلا وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى إن كان تحت يده يقبل في الأحاديث وديوان القضاء للأمن من التزوير وإن لم يكن في يده لا يقبل في ديوان القضاء ويقبل في الأحاديث إذا كان خطا معروفا لا يخاف عليه التبديل عادة ولا يقبل في الصكوك لأنه في يد الخصم حتى إذا كان في يد الشاهد يقبل وعند محمد رحمه الله تعالى يقبل أيضا في الصكوك إذا علم بلا شك أنه خطه لأن الغلط فيه نادر وما يجده بخط رجل معروف في كتاب معروف
____________________
(2/25)
يجوز أن يقول وجدت بخط فلان كذا وكذا وأما الخط المجهول فإن ضم إليه خط جماعة لا يتوهم التزوير في مثله والنسبة تامة يقبل وغير مضموم لا المراد من النسبة التامة أن يذكر الأب والجد
____________________
(2/26)
وأما التبليغ فإنه لا يجوز عند بعض أهل الحديث النقل بالمعنى لقوله عليه الصلاة والسلام نضر الله امرأ أي نعم الله سمع منا مقالة فوعاها وأداها كما سمعها لأنه مخصوص بجوامع الكلم وعند عامة العلماء يجوز ولا شك أن العزيمة هو الأول والتبرك بلفظه عليه الصلاة والسلام أولى لكن إذا ضبط المعنى ونسي اللفظ فالضرورة داعية إلى ما ذكرنا وهو في ذلك أنواع أي الحديث في النقل بالمعنى أنواع فما كان محكما يجوز للعالم باللغة وما كان ظاهرا يحتمل الغير كعام يحتمل الخصوص أو حقيقة تحتمل المجاز يجوز للمجتهد فقط وما كان مشتركا أو مجملا أو متشابها أو من جوامع الكلم لا يجوز أصلا لأن في الأول أي المشترك إن أمكن التأويل فتأويله لا يصير حجة على غيره والثاني والثالث أي المجمل والمتشابه لا يمكن نقلهما بالمعنى وفي الأخير أي ما كان من جوامع الكلم لا يؤمن الغلط فيه لإحاطته عليه السلام لمعان تقصر عنها عقول غيره
____________________
(2/27)
فصل في الطعن وهو إما من الراوي أو من غيره والأول إما بأن يعمل بخلافه بعد الرواية فيصير مجروحا كحديث عائشة رضي الله عنها أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ثم زوجت بعدها ابنة أخيها عبد الرحمن رحمه الله تعالى وهو غائب وكحديث ابن عمر رضي الله عنهما في رفع اليدين في الركوع وقال مجاهد صحبت ابن عمر رحمه الله تعالى عشر سنين فلم أره رفع يديه إلا في تكبيرة الافتتاح وإن عمل بخلافه قبلها أو لا يعلم التاريخ لا يجرح وأما بأن يعمل ببعض محتملاته فإنه رد منه للباقي بطريق التأويل لا جرح كحديث ابن عباس من بدل دينه فاقتلوه وقال لا تقتل المرتدة وأما بأن أنكرها صريحا كحديث عائشة أيما امرأة نكحت الحديث رواه سليمان عن موسى عن الزهري عن عائشة رضي الله عنها وقد أنكر الزهري لا يكون جرحا عند محمد رحمه الله تعالى لقصة ذي اليدين وهي ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى إحدى العشاءين فسلم على رأس ركعتين فقام ذو اليدين فقال لرسول الله عليه الصلاة والسلام أقصرت الصلاة أم نسيتها فقال عليه الصلاة والسلام كل ذلك لم يكن فقال وبعض ذلك قد كان فأقبل على القوم فيهم أبو بكر وعمر فقال أحق ما يقول ذو اليدين فقالا نعم فقام فصلى ركعتين فقبل عليه
____________________
(2/28)
السلام روايتهما عنه مع إنكاره
ومن ذهب إلى أن كلام الناسي يبطل الصلاة زعم أن هذا كان قبل تحريم الكلام في الصلاة ثم نسخ ولأن الحمل على نسيانه أولى من تكذيب الثقة الذي يروي عنه ويكون جرحا عند أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن عمارا قال لعمر أما تذكر حيث كنا في إبل فأجنبت فتمعكت إلى آخره ولم يقبله عمر رضي الله تعالى عنه قال كنا في إبل الصدقة فأجنبت فتمعكت في التراب فذكرت ذلك لرسول الله عليه الصلاة والسلام فقال أما كان يكفيك ضربتان فلم يتذكره عمر فلم يقبل قول عمار يقال تمعكت الدابة في التراب أي تمرغت
ووجه التمسك بهذا أن عمارا لو لم يحك حضور عمر في تلك القضية لقبله عمر لعدالة عمار فالمانع من القبول أن عمارا حكى حضور عمر وعمر لم يتذكر ذاك
____________________
(2/29)
فبالأولى إذا نقل عن رجل حديث وهو لا يتذكره لا يكون مقبولا
ونقل البخاري في صحيحه عن سفيان عن شقيق كنت مع عبد الله بن مسعود وأبي موسى فقال أبو موسى ألم تسمع قول عمار لعمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني أنا وأنت فأجنبت فتمعكت الصعيد فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه فقال عليه الصلاة والسلام أما كان يكفيك هكذا ومسح وجهه وكفيه واحدة وقال عبد الله أفلم تر عمر لم يقنع بقول عمار
وهذا فرع خلافهما في شاهدين شهدا على قاض أنه قضى بهذا ولم يتذكر القاضي والثاني أنه إن كان من الصحابي فيما لا يحتمل الخفاء يكون جرحا نحو البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ولم يعمل به عمر وعلي رضي الله عنهما ولا يمكن خفاء مثل هذا الحكم عنهما وفيما يحتمل الخفاء لا يكون جرحا كما لم يعمل أبو موسى بحديث الوضوء على من قهقه في الصلاة لأنه من الحوادث النادرة فيحمل على الخفاء عنه وإن كان من أئمة الحديث فإن كان الطعن مجملا لا يقبل وإن كان مفسرا فإن فسر بما هو جرح شرعا متفق عليه والطاعن من أهل النصيحة لا من أهل العداوة والعصبية يكون جرحا وإلا فلا وما ليس بطعن شرعا فمذكور في أصول البزدوي فإن أردت فعليك بالمطالعة فيه
____________________
(2/30)
فصل في أفعاله عليه الصلاة والسلام فمنها ما يقتدى به وهو مباح ومستحب وواجب وفرض وغير المقتدى به وهو إما مخصوص به أو زلة وهي فعله من الصغائر يفعله من غير قصد ولا بد أن ينبه عليها لئلا يقتدى بها ففعله المطلق يوجب التوقف عند البعض للجهل بصفته ولا تحصل المتابعة إلا بإتيانه على تلك الصفة وعند البعض يلزمنا اتباعه لقوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره أي فعله وطريقته وعند الكرخي يثبت المتيقن وهو الإباحة ولا يكون لنا اتباعه لأنه لا يمكن أن يكون مخصوصا به والمختار عندنا الإباحة لكن يكون لنا اتباعه لأنه بعث ليقتدى بأقواله وأفعاله قال الله تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام إني جاعلك للناس إماما وذلك بسبب النبوة والمخصوص به نادر
____________________
(2/31)
فصل في الوحي وهو ظاهر وباطن أما الظاهر فثلاثة
الأول ما ثبت بلسان الملك فوقع في سمعه عليه الصلاة والسلام بعد علمه بالمبلغ بآية قاطعة والقرآن من هذا القبيل
والثاني ما وضح له بإشارة الملك من غير بيان بالكلام كما قال عليه الصلاة والسلام إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت الحديث حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب
الروع القلب وهذا يسمى خاطر الملك والثالث ما تبدى لقلبه بلا شبهة بإلهام الله تعالى إياه بأن أراه بنور من عنده كما قال الله تعالى لتحكم بين الناس بما أراك الله وكل ذلك حجة مطلقا بخلاف الإلهام للأولياء فإنه لا يكون حجة على غيره وأما الباطن فما ينال بالرأي والاجتهاد وفيه خلاف فعند البعض حظه الوحي الظاهر لا غير وإنما الرأي وهو المحتمل للخطأ يكون لغيره لعجزه عن الأول لقوله تعالى إن هو إلا وحي يوحى وعند البعض له العمل بهما والمختار عندنا أنه مأمور بانتظار الوحي ثم العمل
____________________
(2/32)
بالرأي بعد انقضاء مدة الانتظار لعموم فاعتبروا يا أولي الأبصار ولحكم داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام بالرأي في نفش غنم القوم يقال نفشت الغنم والإبل نفوشا أي رعت ليلا بلا راع روي أن غنم قوم وقعت ليلا في زرع جماعة فأفسدته فتخاصموا عند داود عليه الصلاة والسلام فحكم داود بالغنم لصاحب الحرث فقال سليمان عليه الصلاة والسلام وهو ابن إحدى عشرة سنة غير هذا أرفق بالفريقين فقال أرى أن تدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأصوافها والحرث إلى أرباب الشاة يقومون عليه حتى يعود كهيئته يوم أفسدته ثم يترادون فقال داود عليه الصلاة والسلام القضاء ما قضيت وأمضى الحكم بذلك
أما وجه حكومة داود عليه الصلاة والسلام أن
____________________
(2/33)
الضرر وقع بالغنم فسلمت إلى المجني عليه كما في العبد الجاني وأما وجه حكومة سليمان عليه الصلاة والسلام أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان
ولقوله عليه الصلاة والسلام أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته الحديث روي أن الخثعمية قالت يا رسول الله إن فريضة الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة فيجزيني أن أحج عنه فقال عليه الصلاة والسلام أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يقبل منك قالت نعم قال فدين الله أحق أن يقبل
وقوله عليه السلام أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته الحديث روي أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن قبلة الصائم فقال عليه السلام أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك
لكن يحتمل في الحديثين أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي لكن بينه بطريق القياس لما كان موافقا له ليكون أقرب إلى فهم السامع ولأنه أسبق الناس في العلم وأنه يعلم المتشابه والمجمل فمحال أن يخفى عليه معاني النص المراد بها العلل
فإذا وضح له لزمه العمل ولأنه شاور أصحابه في سائر الحوادث عند عدم النص فأخذ في أسارى بدر برأي أبي بكر رضي الله عنه روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى يوم بدر بسبعين أسيرا فيهم العباس عمه عليه السلام وعقيل ابن عمه أبي طالب فاستشار أبا بكر فيهم فقال قومك وأهلك فاستبقهم لعل الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية يقوى بها أصحابك وقال عمر كذبوك وأخرجوك فقدمهم واضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر وإن الله عز وجل أغناك عن الفداء مكن عليا من عقيل وحمزة من عباس ومكني من فلان لنسيب له فلنضرب أعناقهم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أبي بكر وكان ذلك هو الرأي عنده فمن عليهم حتى نزل قوله تعالى لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم أي لولا حكم الله سبق في اللوح المحفوظ وهو أنه لا يعاقب أحد بالخطأ فكان هذا خطأ في الاجتهاد لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سببا لإسلامهم وتوبتهم وأن فداءهم يتقوى به على الجهاد
____________________
(2/34)
في سبيل الله وخفي عليهم أن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم وأقل لشوكتهم فلما نزلت هذه الآية قال عليه السلام لو نزل بنا عذاب ما نجا إلا عمر ولهذه الآية تأويل آخر نذكره في باب الاجتهاد إن شاء الله تعالى
ومثل ذلك كثير أي مثل ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أصحابه كثير وبعض ذلك مذكور في أصول البزدوي ومن ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد يوم الأحزاب أن يعطي المشركين شطر ثمار المدينة لينصرفوا فقام سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فقالا إن كان هذا عن وحي فسمعا وطاعة وإن كان عن رأي فلا نعطيهم إلا السيف قد كنا نحن وهم في الجاهلية لم يكن لنا ولهم دين كانوا لا يطعمون من ثمار المدينة إلا بشراء أو قرى فإذا أعزنا الله تعالى بالدين أنعطيهم ثمار المدينة لا نعطيهم إلا السيف وقال عليه السلام إني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة فأردت أن أصرفهم عنكم فإذا أبيتم فذاك ثم قال عليه السلام للذين جاءوا للصلح اذهبوا فلا نعطيهم إلا السيف
واجتهاده لا يحتمل القرار على الخطأ لكن مع ذلك الوحي الظاهر أولى لأنه أعلى ولأنه لا يحتمل الخطأ لا ابتداء ولا بقاء والباطن لا يحتمل بقاء أي الوحي الباطن وهو القياس يحتمل الخطأ لا حالة الابتداء لكن لا يحتمل القرار على الخطأ فهذا هو المراد بالبقاء والوحي الظاهر لا يحتمل الخطأ أصلا لا ابتداء ولا بقاء فكان أقوى
ومدة الانتظار ما يرجو نزوله فإذا خاف الفوت في الحادثة يعمل بالرأي لما ذكر في هذا الفصل أنه مأمور بانتظار الوحي للعمل بالرأي بعد انقضاء مدة الانتظار بين مدة الانتظار وهي ما يرجو نزوله
والله تعالى إذا سوغ له الاجتهاد كان الاجتهاد وما يستند إليه وهو الحكم الذي ظهر له بالاجتهاد وحيا لا نطقا عن الهوى وهذا جواب التمسك على المذهب الأول بقوله تعالى إن هو إلا وحي يوحى
فصل في شرائع من قبلنا وهي تلزمنا حتى يقوم الدليل على النسخ عند البعض لقوله
____________________
(2/35)
تعالى فبهداهم اقتده قوله تعالى ومصدقا لما بين يديه وعند البعض لا لقوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولأن الأصل في الشرائع الماضية الخصوص إلا بدليل كما كان في المكان أي كان في القرون الأولى لكل قوم نبي ويتبع كل واحد منهم نبيهم دون الآخر وكل من الأنبياء مخصوص لمعين
وما ذكروا وهو قوله تعالى فبهداهم اقتده وقوله تعالى مصدقا لما بين يديه فذلك في أصول الدين وعند البعض تلزمنا على أنها شريعة لنا لقوله تعالى ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا الآية والإرث يصير ملكا للوارث مخصوصا به فنعمل به على أنه شريعة لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام ولقوله عليه السلام لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي وما ذكروا غير مختص بالأصول بل في الجميع على أن النسخ ليس تغييرا بل هو بيان لمدة الحكم والمذهب عندنا هذا لكن لما لم يبق الاعتماد على كتبهم للتحريف شرطنا أن يقص الله تعالى علينا من غير إنكار
فصل في تقليد الصحابي يجب إجماعا فيما شاع فسكتوا مسلمين ولا يجب إجماعا
____________________
(2/36)
فيما ثبت الخلاف بينهم واختلف في غيرهما وهو ما لم يعلم اتفاقهم ولا اختلافهم
فعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يجب لأنه لما لم يرفعه لا يحمل على السماع وفي الاجتهاد هم وسائر المجتهدين سواء لعموم قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار ولأن كل مجتهد يخطئ ويصيب عند أهل السنة
وعند أبي سعيد البردعي يجب لقوله عليه السلام أصحابي كالنجوم بأيهم إن اقتديتم اهتديتم اقتدوا باللذين من بعدي تمام الحديث أبي بكر وعمر
ولأن أكثر أقوالهم مسموع من حضرة الرسالة وإن اجتهدوا فرأيهم أصوب لأنهم شاهدوا موارد النصوص ولتقدمهم في الدين وبركة صحبة النبي عليه السلام وكونهم في خير القرون وعند الكرخي يجب فيما لا يدرك بالقياس لأنه لا وجه له إلا السماع أو الكذب
والثاني منتف لا فيما يدرك لأن القول بالرأي منهم مشهور والمجتهد يخطئ ويصيب والاقتداء في البعض بما ذكرنا أي الاقتداء في بعض المواضع بأن نقلدهم ونأخذ بقولهم وفي البعض أي في بعض المواضع بأن نسلك مسلكهم أي في الاجتهاد ونجتهد كما اجتهدوا وهذا اقتداء أيضا وهو جواب عن قوله عليه السلام أصحابي كالنجوم
وأيضا كل
____________________
(2/37)
ما ثبت فيه اتفاق الشيخين يجب الاقتداء به وأما التابعي فإن ظهر فتواه في زمن الصحابة فهو كالصحابي عند البعض لأنهم بتسليمهم إياه دخل في جملتهم كشريح خالف عليا رضي الله عنه ورد شهادة الحسن له وكان مذهب علي قبول شهادة الولد لوالده
وابن عباس رجع إلى فتوى مسروق في النذر بذبح الولد وكان مذهبه أن يجب عليه مائة من الإبل إذ هي الدية فرجع إلى فتوى مسروق وهي أن يجب ذبح شاة والله أعلم
باب البيان ويلحق بالكتاب والسنة البيان وهو إظهار المراد وهو إما بالمنطوق أو غيره الثاني بيان ضرورة والأول إما أن يكون بيانا لمعنى الكلام أو اللازم له كالمدة
الثاني بيان تبديل
والأول إما أن يكون بلا تغيير أو معه
الثاني بيان تغيير كالاستثناء والشرط والصفة والغاية
والأول إما أن يكون معنى الكلام معلوما لكن الثاني أكده بما قطع الاحتمال أو مجهولا كالمشترك والمجمل
الثاني بيان تفسير والأول بيان تقرير فبيان التقرير والتفسير يجوز للكتاب بخبر الواحد دون التغيير لأنه دونه فلا يغيره فلا يجوز تخصيصه بخبر الواحد عندنا على ما سبق ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأنه تكليف بما لا يطاق وهل يجوز تأخيره عن وقت الخطاب فبيان التقرير والتفسير يجوز موصولا ومتراخيا اتفاقا لقوله تعالى ثم إن علينا بيانه وبيان التغيير لا يصح متراخيا إلا عند ابن عباس لقوله عليه السلام فليكفر عن يمينه الحديث
جاء بروايتين إحداهما من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ثم ليأت بالذي هو خير والأخرى فليأت بالذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه وجه التمسك لنا أن النبي عليه الصلاة والسلام أوجب الكفارة ولو جاز بيان التغيير
____________________
(2/38)
متراخيا لما وجبت الكفارة أصلا لجواز أن يقول متراخيا إن شاء الله تعالى فيبطل يمينه ولا تجب الكفارة
____________________
(2/39)
وطريقه أنه لما جاء في كتاب الله تعالى وجب حمله على وجه لا يلزم التناقض فقلنا الكلام إذا تعقبه مغير توقف على الآخر فيصير المجموع كلاما واحدا كما ذكر في الشرط أي في فصل مفهوم المخالفة أن الشرط والجزاء كلام واحد أوجب الحكم على تقدير وهو ساكت عن غيره
واختلف في التخصيص بالكلام المستقل فعند الشافعي رحمه الله تعالى يصح متراخيا وعندنا لا بل يكون نسخا أي المتراخي لا يكون تخصيصا بل يكون نسخا
له قصة البقرة أي قوله تعالى إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة يعم الصفراء وغيرها ثم خص متراخيا وعلم أن المراد بقرة مخصوصة وقوله تعالى وأهلك في قوله تعالى لنوح عليه السلام فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك وقوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم نقل أنه لما نزلت هذه الآية قال
____________________
(2/40)
ابن الزبعرى لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أأنت قلت ذلك قال نعم فقال اليهود عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح وبنو مليح عبدوا الملائكة فقال عليه الصلاة والسلام لا بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك فأنزل الله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون يعني عزيرا وعيسى والملائكة
خصتا متراخيا أي خصت الآيتان تخصيصا متراخيا وهما قوله تعالى وأهلك وقوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله بقوله إنه ليس من أهلك وبقوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون قلنا في قصة البقرة نسخ الإطلاق لأن في الأول يجوز ذبح أي بقرة شاءوا ثم نسخ هذا والأهل لم يكن متناولا للابن لأن من لا يتبع الرسول لا يكون أهلا له ولو سلمنا تناوله لكن استثنى بقوله تعالى إلا من سبق فإن أريد بالأهل الأهل قرابة حتى يشمل الابن فالاستثناء متصل وقوله ليس من أهلك أي من الأهل الذي لم يسبق عليه القول وإن أريد الأهل إيمانا فاستثناء منقطع تحقيقه أن الأهل لا يخلو إما أن يراد به الأهل إيمانا أو الأهل
____________________
(2/41)
قرابة فإن أريد به الأول لا يتناول الابن لأنه كافر فالاستثناء وهو قوله تعالى إلا من سبق عليه القول على هذا منقطع وقوله تعالى إنه ليس من أهلك لا يكون تخصيصا لعدم تناول الأهل الابن الكافر
وإن أريد الثاني أي الأهل قرابة يتناول الابن لكن استثني الابن بقوله تعالى إلا من سبق عليه القول فخرج الابن بالاستثناء لا بالتخصيص المتراخي لقوله إنه ليس من أهلك أي من الأهل الذي لم يسبق عليه القول والمراد بسبق القول ما وعد الله تعالى بإهلاك الكفار
وقوله تعالى وما تعبدون من دون الله لم يتناول عيسى عليه السلام حقيقة لأن ما لغير العقلاء وإنما أورده تعنتا بالمجاز أو التغليب فقال إن الذين سبقت لهم لدفع هذا الاحتمال وأصحابنا قالوا كل ما هو تفسير يصح متراخيا اتفاقا وما هو تغيير لا يصح إلا موصولا اتفاقا كالاستثناء
وإنما اختلفوا في التخصيص بناء على أنه عندنا بيان تغيير وعنده بيان تفسير لما عرف أن العام عنده دليل فيه شبهة فيحتمل الكل والبعض فبيان إرادة البعض يكون تفسيرا فيصح متراخيا كبيان المجمل وعندنا قطعي في الكل فيكون التخصيص تغيير موجبه
أقول لا فرق عند الشافعي رحمه الله تعالى بين التخصيص والاستثناء بناء على أن العام محتمل عنده فعلى هذا كلاهما يكونان تفسيرا عنده لكن الاستثناء لما كان غير مستقل لا بد من اتصاله والتخصيص مستقل فيجوز فيه التراخي وعندنا كلاهما تغيير وهو لا يجوز إلا موصولا
____________________
(2/42)
____________________
(2/43)
فصل في الاستثناء وهو مشتق من الثني يقال ثنى عنان فرسه إذا منعه عن المضي في الصوب الذي هو متوجه إليه اعلم أن بعض الناس قسموا الاستثناء على المتصل والمنقطع ثم عرفوا كلا منهما بما يجب تعريفه به لكني لم أفعل كذلك لأن الاستثناء الحقيقي هو المتصل وإنما المنقطع يسمى استثناء بطريق المجاز فلم أجعل المنقطع قسما منه لكن أوردته في ذنابة الاستثناء الحقيقي وهو المنع عن دخول بعض ما تناوله صدر الكلام في حكمه
أي في حكم صدر الكلام وفي متعلق بالدخول وقوله بعض ما تناوله صدر الكلام ليخرج الاستثناء المستغرق
بإلا وأخواتها متعلق بالمنع وفيه احتراز عن سائر التخصيصات وهذا تعريف تفردت به وهو أجود من سائر التعريفات لأن من قال هو إخراج بإلا وأخواتها إن أراد حقيقة الإخراج فممتنع لأن الإخراج إما أن يكون بعد الحكم فيكون تناقضا والاستثناء واقع في كلام الله تعالى أو قبل الحكم وحقيقة الإخراج لا تكون إلا بعد الدخول والمستثنى غير داخل في حكم صدر الكلام فيمتنع الإخراج من الحكم وإنما المستثنى داخل في صدر الكلام من حيث التناول أي من حيث إنه يفهم أن المستثنى من صدر الكلام وضعا والإخراج ليس من حيث التناول لأن التناول بعد الاستثناء باق فعلم أن حقيقة الإخراج غير مرادة على أنهم صرحوا بأنه إخراج ما لولاه لدخل
فعلم أن المراد بالإخراج المنع من الدخول مجازا وهو غير مستعمل في الحدود فالتعريف الذي ذكرته أولى قالوا هو بيان تغيير لأنه يغير موجب صدر الكلام إذ لولاه لشمل الكل ومع ذلك إنه
____________________
(2/44)
45 بيان لمعنى الكلام لأنه يبين أن المراد هو البعض بخلاف النسخ فإنه تغيير محض لمعنى الكلام
واختلفوا في كيفية عمله ففي قوله علي عشرة إلا ثلاثة لا يخلو إما أن أطلق العشرة على السبعة فحينئذ قوله إلا ثلاثة يكون بيانا لهذا فهو كما قال ليس له علي ثلاثة منها فيكون كالتخصيص بالمستقل في أن كلا منهما يبين أن الحكم المذكور في صدر الكلام وارد على بعض أفراده والحكم في البعض الآخر مخالف للحكم في البعض الأول ولا فرق بينهما على هذا المذهب إلا أن الاستثناء كلام غير مستقل والتخصيص كلام مستقل وعندنا هذا الفرق ثابت بينهما مع فرق آخر وهو أن الاستثناء لا يثبت حكما مخالفا لحكم الصدر بخلاف التخصيص وهذا المذهب وهو أن العشرة يراد بها السبعة إلخ هو ما قال مشايخنا إن الاستثناء عند الشافعي رحمه الله يمنع الحكم بطريق المعارضة مثل دليل الخصوص والمراد
____________________
(2/45)
بالمعارضة أن يثبت حكما مخالفا لحكم صدر الكلام
وإنما قلت إن مرادهم بالمنع بطريق المعارضة هذا المذهب لأنهم ذكروا في الجواب عنه أن الألف اسم علم للعدد المعين لا يقع على غيره ولا يحتمله إذ لا يجوز أن يسمى تسعمائة ألفا بخلاف دليل الخصوص لأن المشركين إذا خص منهم نوع كان الاسم واقعا على الباقي بلا خلل وهذا الكلام نص على أنه جواب عن قول من قال إن المراد بالعشرة هو السبعة أو أطلق العشرة على عشرة أفراد ثم أخرج ثلاثة بعد الحكم وهذا تناقض ظاهر وإنكار بعد الإقرار ولا أظنه مذهب أحد أو قبله ثم حكم على الباقي أو أطلق عشرة إلا ثلاثة على السبعة فكأنه قال علي سبعة فحصل ثلاثة مذاهب فعلى هذين أي على المذهبين الأخيرين يكون أي الاستثناء تكلما بالباقي في صدر الكلام بعد الثنيا أي المستثنى ففي قوله له علي عشرة إلا ثلاثة صدر الكلام عشرة والثنيا ثلاثة والباقي في صدر الكلام بعد المستثنى سبعة فكأنه تكلم بالسبعة وقال له علي سبعة وإنما قلنا إنه على الأخيرين تكلم بالباقي بعد الثنيا أما على المذهب الأخير فلأن عشرة إلا ثلاثة موضوعة للسبعة فيكون تكلما بالسبعة وأما على المذهب الثاني فلأنه أخرج
____________________
(2/46)
الثلاثة قبل الحكم من أفراد العشرة ثم حكم على السبعة فالتكلم في حق الحكم يكون بالسبعة أي يكون الحكم على السبعة فقط لا على الثلاثة لا بالنفي ولا بالإثبات
إلا أن على المذهب الأخير يكون فيما إذا كان المستثنى منه عدديا كالتخصيص بالعلم وفي غير العددي كالتخصيص بالوصف كأنه قال جاءني زيد لما جمع بين المذاهب الثاني والثالث في أن الاستثناء على كليهما تكلم بالباقي أراد أن يبين الفرق الذي بينهما وهو أن على المذهب الأخير المستثنى منه إذا كان عدديا كقوله له علي عشرة إلا ثلاثة فهو كقوله له علي سبعة فيكون الاستثناء في دلالته على كون الحكم في المستثنى مخالفا لحكم الصدر كالتخصيص بالعلم في نفي الحكم عما عداه
وإن كان غير عددي كجاءني القوم إلا زيدا فهو كقوله جاءني من القوم غير زيد فيكون في دلالته على كون الحكم في المستثنى مخالفا لحكم الصدر كالتخصيص بالوصف في نفي الحكم عما عداه فإن قوله غير زيد صفة فلا فرق على هذا المذهب إذا كان المستثنى منه غير عددي بين إلا وغير صفة
وعلى المذهب الثاني آكد من هذا أي المذهب الثاني هو أن المراد بالعشرة عشرة أفراد والإخراج قبل الحكم فالاستثناء على هذا المذهب آكد في دلالته على كون الحكم في المستثنى مخالفا لحكم الصدر من التخصيص بالعلم والوصف في نفي الحكم عما عداهما
لأن ذكر المجموع أولا ثم إخراج البعض ثم الإسناد إلى الباقي يشير إلى أن حكم المستثنى خلاف حكم الصدر بخلاف جاءني غير زيد وعلى الأول أي على المذهب الأول يكون إثباتا ونفيا بالمنطوق أي يكون المستثنى والمستثنى منه جملتين إحداهما مثبتة والأخرى منفية والإثبات والنفي يكونان بطريق المنطوق لا المفهوم وعلى المذهب الأخير يكون كالتخصيص بالعلم أو الوصف فلا دلالة لهما على نفي الحكم عما عداهما عندنا وعند البعض يكون دلالته من حيث المفهوم وعلى المذهب الثاني يكون آكد من هذا فدلالته على الحكم في المستثنى تكون إشارة لا منطوقا
____________________
(2/47)
حجته أي حجة المذهب الأول أن وجود التكلم مع عدم حكمه في البعض شائع كالتخصيص فأما إعدام التكلم الموجود فلا وإجماعهم أي إجماع أهل العربية وهو عطف على قوله أن وجود التكلم مع عدم حكمه في البعض شائع
على أنه من النفي إثبات وبالعكس وأيضا لولا ذلك لما كان كلمة التوحيد توحيدا تاما فإن قيل لو كان المراد البعض يلزم استثناء النصف من النصف في اشتريت الجارية إلا النصف أو التسلسل هذا دليل أورده ابن الحاجب على نفي المذهب الأول وإثبات المذهب الثاني وهو المذهب عنده ولما وجدته زيفا أوردته على طريق الإشكال وبينت فساده وتوجيهه أنه لو كان المراد من العشرة سبعة كما هو المذهب الأول فإذا قلت اشتريت الجارية إلا النصف يكون المراد بالجارية النصف فإن كان المراد بالنصف المستثنى نصف الجارية فقد استثنيت نصف الجارية من نصف الجارية وإن كان المراد بالنصف المستثنى نصف ما هو المراد بالجارية فالمراد
____________________
(2/48)
بالجارية كان النصف ثم نصف هذا النصف مستثنى من النصف
فعلم أن المراد بالجارية لم يكن نصفا بل ربعا والمفروض أن المستثنى نصف ما هو المراد فيكون نصف الربع مستثنى فيتسلسل هذا حكاية ما أورد ابن الحاجب والجواب الذي خطر ببالي هو قوله
قلنا هو بيان أن المراد هو البعض لا أن المتناول هو البعض فإن اللفظ متناول للكل ثم هو استثناء من المتناول لا من المراد أي الاستثناء هو بيان أن المراد هو البعض لا أن المتناول هو البعض فإن اللفظ متناول للكل ثم الاستثناء من المتناول إلا من المراد فيكون استثناء النصف من الكل
____________________
(2/49)
والجواب أي عن الدليل على المذهب الأول أن العشرة هذا جواب عن قوله أن وجود التكلم مع عدم حكمه في البعض شائع
لفظ خاص للعدد المعين لا عام كالمسلمين فلا يجوز إرادة البعض بالاستثناء كما لا يجوز بالتخصيص ولو صحت مجازا فالأصل عدمه وقولهم هو من الإثبات نفي وبالعكس مجاز والمراد أنه لم يحكم عليه بحكم الصدر لا أنه حكم عليه بنقيض حكم الصدر وقوله عليه الصلاة والسلام لا صلاة إلا بطهور هو كقوله لا صلاة بغير طهور ولو كان نفيا وإثباتا يلزم صلاة طهور ثابتة فيصح كل صلاة بطهور لعموم النكرة الموصوفة ولأن الاستثناء متعلق بكل فرد وقولهم هو من الإثبات نفي إلخ جواب عن قوله وإجماعهم وقوله لم يحكم عليه أي على المستثنى وإنما حملنا قولهم على المجاز لأنا لما أبطلنا المذهب الأول فعلى المذهبين الأخيرين المستثنى غير محكوم عليه لا بالنفي ولا بالإثبات ووجه المجاز إطلاق الأخص على الأعم لأن الحكم عليه بنقيض
____________________
(2/50)
حكم الصدر أخص من قولنا حكم الصدر منتف عنه وقوله عليه الصلاة والسلام لا صلاة إلا بطهور تكلم بالباقي بعد الثنيا وهو لا صلاة بغير طهور وليس هو نفيا وإثباتا لأن تقديره لا صلاة ثابتة إلا صلاة ملصقة بطهور فلو كان نفيا وإثباتا فالجملة الإثباتية هي صلاة ملصقة بطهور ثابتة وصلاة ملصقة بطهور نكرة موصوفة وهي عامة لعموم الصفة على ما دللنا عليه في فصل العام فصار كقوله كل صلاة بطهور ثابتة وهذا باطل لأن الشرائط الأخر إن كانت مفقودة والطهور موجودا لا تجوز الصلاة وأيضا صدر الكلام يوجب السلب الكلي أي كل واحد واحد من أفراد الصلوات غير جائزة ثم الاستثناء يجب أن يتعلق بكل واحد واحد وإلا يلزم جواز بعض الصلوات بلا طهور وإذا كان الاستثناء متعلقا بكل واحد واحد والاستثناء يكون من النفي إثباتا يلزم تعلق الإثبات بكل واحد فيلزم كل صلاة بطهور جائزة معناه كل واحد واحد من الصلوات غير جائزة في حال إلا في حال اقترانها بالطهور فالجملة الإثباتية قولنا كل واحد واحد من الصلوات جائزة في حال اقترانها بالطهور فإن قيل قوله لا صلاة إلا بطهور يشكل عليكم لا علينا لأنكم قد ذكرتم في فصل العام أن النكرة الموصوفة عامة لعموم الصفة وأوردتم للمثال لا أجالس إلا رجلا عالما له أن يجالس كل عالم فقوله لا صلاة إلا بطهور عام في زعمكم فيلزم عليكم فسادان
أحدهما ما ذكرتم أنه يلزم أن تكون كل صلاة بطهور جائزة
والثاني أنه يلزم أن يكون الاستثناء من النفي إثباتا وأنتم لا تقولون به ولا يشكل علينا لأن النكرة الموصوفة لا تعم عندنا فإن كان الاستثناء من النفي إثباتا يصير كقوله بعض صلاة بطهور جائزة وهذا حق قلت المستثنى في كلتا الصورتين أي في قوله لا أجالس إلا رجلا عالما وقوله لا صلاة إلا بطهور عام عندنا والاستثناء ليس من النفي إثباتا في كلتيهما لكن في قوله لا أجالس إلا رجلا عالما لا يدخل في الخلف شيء من أفراد
____________________
(2/51)
العالم ومن ضرورة هذا أن يكون له مجالسة كل عالم فإباحة المجالسة لكل عالم لهذا المعنى لا لأن الاستثناء من النفي إثبات وأما في قوله لا صلاة إلا بطهور كل صلاة بطهور غير محكوم عليه بعدم الجواز إلا أنه محكوم عليه بالجواز عندنا فلا يلزم شيء من الفسادين علينا بل على من يقول إن الاستثناء من النفي إثبات وأيضا يجيء في باب القياس أن الفرق بطريق الاستثناء يدل على علية المستثنى فتكون الصلاة الخالية عن الطهور علة لعدم جوازها فكلما خلت عنه لا تجوز فلو كان الاستثناء من النفي إثباتا يكون كونها مقارنة للطهور علة للجملة الإثباتية
____________________
(2/52)
فتعم لعموم العلة
وقوله تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ هو كقوله وما كان له أن يقتل مؤمنا عمدا إلا أنه كان له أن يقتل خطأ لأنه يوجب إذن الشرع به ولا يجوز إذن الشرع بالقتل الخطأ لأن جهة الحرمة ثابتة فيه بناء على ترك التروي ولهذا تجب فيه الكفارة ولو كان مباحا محضا لما وجبت الكفارة وهذا دليل تفردت بإيراده وهذا أقوى دليل على هذا المذهب
والشافعية حملوا الاستثناء في قوله إلا خطأ على المنقطع فرارا عن هذا لكن
____________________
(2/53)
54 الأصل هو المتصل وأما كلمة التوحيد جواب عن قوله وأيضا لولا ذلك لما كان كلمة التوحيد توحيدا تاما فلأن معظم الكفار كانوا أشركوا وفي عقولهم وجود الإله ثابت فسيق لنفي الغير ثم يلزم منه وجوده تعالى إشارة على الثاني أي على المذهب الثاني وهو أن الاستثناء إخراج قبل الحكم ثم حكم على الباقي وإنما قلنا إن وجوده تعالى يثبت على هذا المذهب بطريق الإشارة لأنه لما ذكر الإله ثم أخرج الله تعالى ثم حكم على الباقي بالنفي يكون إشارة إلى أن الحكم في المستثنى خلاف حكم الصدر وإلا لما أخرج منه
وضرورة على الأخير أي على المذهب الأخير وهو أن العشرة إلا ثلاثة موضوعة للسبعة فعلى هذا المذهب وجوده تعالى يثبت بطريق الضرورة لأن وجود الإله لما كان ثابتا في عقولهم يلزم من نفي غيره وجوده ضرورة وذلك لأن تقديره على هذا المذهب لا إله غير الله موجود فيكون كالتخصيص بالوصف وليس له دلالة على نفي الحكم عما عداه عندنا فلا دلالة للكلام على وجوده تعالى منطوقا ومفهوما بل ضرورة فقط
وما قيل عليه أي على المذهب الأخير هذا دليل حاول به ابن الحاجب نفي المذهب الأخير إنه لم يعهد في العربية لفظ مركب من ثلاثة أي المستثنى منه وأداة الاستثناء والمستثنى بل عهد لفظ مركب من كلمتين كبعلبك ومركب أعرب في وسطه ضعيف إذ ليس المراد أنه مركب موضوع مثل بعلبك بل المراد أن معناه مطابق لمعنى السبعة مثلا فيكون
____________________
(2/54)
هناك وضع كلي أي وضع الواضع اللفظ الذي استثني منه الباقي وضعا كليا لا وضعا جزئيا
واعلم أن الوضع على نوعين وضع جزئي كوضع اللغات ووضع كلي كالأوضاع التصريفية والنحوية ففي الأوضاع الجزئية سلمنا أنه لم يعهد في العربية لفظ مركب من ثلاث كلمات مع أنه في حيز المنع نحو شاب قرناها وبرق نحره وعبد الرحمن فإنه مركب من ثلاثة العبد واللام ورحمن لكن في الأوضاع الكلية لا نسلم أنه لم يعهد في العربية أن في معنى المركب من ثلاث كلمات يطابق معنى الكلمة الواحدة فإن من له يد في الإيجاز والإطناب يسهل عليه أن يفيد معنى الكلمات الكثيرة بكلمة واحدة ويفيد معنى كلمة واحدة بكلمات كثيرة فإن لفظ إنسان وحيوان ذي نطق كل منها يقوم مقام الآخر وكذا لفظ فرس وحيوان ذي صهيل وأمثال ذلك كثيرة
وأيضا منقوض بنحو أبي عبد الله فإنه مركب من ثلاثة والإعراب في وسطه وهذا المذهب هو المشهور بين علمائنا وبعضهم أي بعض مشايخنا كالقاضي الإمام أبي زيد وفخر الإسلام وشمس الأئمة السرخسي رحمهم الله تعالى مالوا في الاستثناء الغير العددي
____________________
(2/55)
إلى الثاني بحكم العرف أي إلى المذهب الثاني وهو أنه إخراج قبل الحكم ثم حكم على الباقي
وقد فهم هذا من قولهم في كلمة التوحيد أن إثبات الإله بالإشارة لأنه على الأخير كالتخصيص بالوصف وهم لا يقولون به بل شبهوا
____________________
(2/56)
الاستثناء بالغاية
اعلم أنهم لم يصرحوا بهذا المذهب لكن قالوا في كلمة التوحيد إن إثبات الإله بطريق الإشارة ففهمت من ذلك أن مذهبهم هذا لأنه لو كان مذهبهم هو الثالث وهو أن العشرة إلا ثلاثة موضوعة للسبعة وقد بينا أن الاستثناء الغير العددي على هذا المذهب كالتخصيص بالوصف فصار كقوله لا إله إلا غير الله موجود والتخصيص بالوصف عند هؤلاء لا يدل على نفي الحكم عما عداه فلا دلالة له على وجوده تعالى بطريق الإشارة فعلم أن مذهبهم ليس هذا الثالث وأنهم شبهوا الاستثناء بالغاية ويقولون إن حكم ما بعد الغاية يخالف حكم ما قبل الغاية وليس مذهبهم هو الأول لأن على الأول النفي والإثبات بطريق المنطوق لا بطريق الإشارة
فعلم أن مذهبهم في الاستثناء الغير العددي هو الثاني بحكم العرف وهذا مناسبا لما قال علماء البيان إن الاستثناء وضع لنفي التشريك والتخصيص يفهم منه ولما قال أهل اللغة إنه إخراج وتكلم بالباقي ومن النفي إثبات وبالعكس فيكون إخراجا من الأفراد وتكلما بالباقي في حق الحكم ونفيا وإثباتا بالإشارة وفي العددي ذهبوا إلى الأخير حتى قالوا في إن كان لي إلا مائة فكذا ولم يملك إلا خمسين لا يحنث فعلى المذهب الثالث هو كقوله إن كان لي فوق المائة فلا يشترط وجود المائة
ولو قال ليس له علي عشرة إلا ثلاثة لا يلزمه شيء فكأنه قال ليس له علي سبعة
____________________
(2/57)
____________________
(2/58)
مسألة شرط الاستثناء أن يكون مما أوجبه الصيغة قصدا لا مما يثبت بها ضمنا لأنه تصرف في اللفظ فلهذا قال أبو يوسف لو وكل رجلا بالخصومة غير جائز الإقرار لا يجوز لأنه إنما يجوز له الإقرار لأنه قائم مقامه لا لأنه من الخصومة فيكون ثابتا بالوكالة ضمنا فلا يستثنى إلا أن ينقض الوكالة استثناء منقطع أي لكن له أن ينقض الوكالة
ويصح عند محمد رحمه الله تعالى لأن المراد بالخصومة الجواب مجازا فيتناول الإقرار والإنكار فيصح الاستثناء موصولا لأنه بيان تقرير نظرا إلى الحقيقة اللغوية لأن الإقرار مسالمة لا مخاصمة
____________________
(2/59)
فعلى هذا يصح مفصولا ولو قال غير جائز الإنكار فأيضا على الخلاف بناء على الدليل الأول لمحمد
وهو أن الخصومة تشتمل الإقرار والإنكار فيصح عند محمد رحمه الله تعالى استثناء الإنكار ولا يتأتى ذلك على الدليل الثاني لمحمد وهو أن استثناء الإقرار بيان تقرير نظرا إلى الحقيقة اللغوية لأن استثناء الإنكار ليس تقريرا للحقيقة اللغوية بل إبطال لها أما عند أبي يوسف رحمه الله تعالى فلا يصح هذا الاستثناء لا للدليل الذي ذكر في استثناء الإقرار بل لأنه استثناء الكل من الكل لأنه قد ذكر أن الإقرار ليس من الخصومة فالخصومة هي الإنكار فقط فلا يمكن استثناء الإنكار منها هذا ما خطر ببالي
____________________
(2/60)
مسألة الاستثناء متصل ومنقطع والثاني مجاز فإن قيل قسمت الاستثناء على المتصل والمنقطع فكيف يصح قولك والثاني مجاز قلت ليس هذا قسمة حقيقة بل المراد أن الاستثناء يطلق على معنيين أحدهما بطريق الحقيقة والثاني بطريق المجاز
وقد أورد أصحابنا قوله تعالى إلا الذين تابوا من أمثلة الاستثناء المنقطع ووجهه أن الاستثناء المتصل هو إخراج عن حكم المستثنى منه بالمعنى المذكور وهنا ليس كذلك لأن حكم الصدر أن من قذف فهو فاسق وهنا لا يخرج من هذا الحكم إلا أنه لا يبقى فاسقا بعد التوبة فهذا حكم آخر أورده أصحابنا من أمثلة الاستثناء المنقطع
والوجه الذي ذكره فخر الإسلام رحمه الله تعالى في كونه منقطعا هو أن صدر الكلام الفاسقون والتائبون ليسوا من الفاسقين وفي هذا نظر لأن الفاسقين ليس مستثنى منه بل المستثنى منه قوله وأولئك أي الذين يرمون والفاسقون حكم المستثنى منه ولا شك أن الرماة التائبين داخلون في المستثنى منه وهو أولئك غير داخلين في حكم المستثنى منه وهو الفاسقون كما تقول القوم منطلقون إلا زيدا فزيد داخل في القوم وغير داخل في منطلقون وقد ذكر في التقويم وجه حسن
____________________
(2/61)
لكونه منقطعا فأوردت ذلك في المتن وهو أن الاستثناء المتصل إخراج عن حكم المستثنى منه
بالمعنى المذكور والمعنى المذكور أن معنى الإخراج هو المنع عن الدخول كما ذكرنا في حد الاستثناء والاستثناء المنقطع هو أن يذكر شيء بعد إلا وأخواتها غير مخرج بالمعنى المذكور فقولنا غير مخرج يتناول أمرين أحدهما أن لا يكون داخلا في صدر الكلام
والثاني أن يكون داخلا فيه لكن لا يخرج عن عين ذلك الحكم وحكم صدر الكلام أن من
____________________
(2/62)
قذف صار فاسقا وقوله تعالى إلا الذين تابوا لا يخرج عن عين ذلك الحكم بل معناه أن من تاب لا يبقى فاسقا بعد التوبة فهذا حكم آخر ونظائره في القرآن كثيرة منها وقوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف فإن قوله إلا ما قد سلف أي الجمع بين الأختين الذي قد سلف داخل في الجمع بين الأختين لكنه غير مخرج من حكم صدر الكلام وهو الحرمة لأنه حرام أيضا لكنه أثبت فيه حكما آخر وهو أنه مغفور
مسألة الاستثناء المستغرق باطل وأصحابنا قيدوه بلفظه أو بما يساويه نحو عبيدي أحرار إلا عبيدي أو إلا مماليكي لكن إن استثنى بلفظ يكون أخص منه في المفهوم لكن في الوجود يساويه يصح نحو عبيدي أحرار إلا هؤلاء ولا عبيد له سواهم
مسألة إذا تعقب الاستثناء الجمل المعطوفة كآية القذف ينصرف إلى الكل عند الشافعي رحمه الله وعندنا إلى الأقرب لقربه واتصاله به وانقطاعه عما سواه ولأن توقف صدر الكلام
____________________
(2/63)
ثبت ضرورة فيتقدر بقدر الحاجة على أنه لا شركة في عطف الجمل في الحكم ففي الاستثناء أولى وصرفه إلى الكل في الجمل المختلفة كآية القذف في غاية البعد لأن قوله تعالى فاجلدوا ولا تقبلوا ردا على سبيل الجزاء بلفظ الإنشاء ثم وأولئك هم الفاسقون جملة مستأنفة بلفظ الإخبار أي صرف الشافعي رحمه الله تعالى الاستثناء إلى الكل ففي آية القذف قطع الشافعي رحمه الله تعالى قوله تعالى ولا تقبلوا عن قوله فاجلدوهم حتى لم يجعل رد الشهادة من تمام الحد وجعل وأولئك هم الفاسقون عطفا على قوله
____________________
(2/64)
ولا تقبلوا ثم جعل الاستثناء مصروفا إلى قوله ولا تقبلوا وقوله وأولئك لا إلى قوله فاجلدوا حتى أن الجلد لا يسقط بالتوبة
وعدم قبول الشهادة والفسق يسقطان بالتوبة عنده والجمل المختلفة في آية القذف هي قوله فاجلدوا وقوله ولا تقبلوا وقوله وأولئك هم الفاسقون ونحن جعلنا الأولين جزاء لأنهما أخرجا بلفظ الطلب مفوضين إلى الأئمة وجعلنا وأولئك مستأنفا لأنها بطريق الإخبار والاستثناء مصروفا إلى أولئك
ومن أقسام بيان التغيير الشرط وقد مر أي في فصل مفهوم المخالفة
والفرق بينه
____________________
(2/65)
وبين الاستثناء يظهر في قوله بعت منك هذا العبد بألف إلا نصف العبد أنه يقع البيع على النصف بألف لأن الاستثناء تكلم بالباقي فكأنه قال بعت نصف العبد بألف
ولو قال على أن لي نصفه يقع على النصف بخمسمائة فكأنه يدخل في البيع لفائدة تقسيم الثمن ثم يخرج ولا يفسد بهذا الشرط لأنه بيع شيء من شيئين
____________________
(2/66)
فصل في بيان التبديل وهو النسخ والبحث هنا في تعريفه وجوازه ومحله وشرطه
والناسخ والمنسوخ وهو أن يرد دليل شرعي متراخيا عن دليل شرعي مقتضيا خلاف حكمه ولما كان الشارع عالما بأن الحكم الأول مؤقت إلى وقت كذا كان دليل الثاني بيانا محضا لمدة الحكم في حقه ولما كان الحكم الأول مطلقا كان البقاء فيه أصلا عندنا لجهلنا عن مدته فالثاني يكون تبديلا بالنسبة إلى علمنا كالقتل بيان للأجل في حقه تعالى لأن المقتول ميت بأجله وفي حقنا تبديل
وهو جائز في أحكام الشرع عندنا خلافا لليهود عليهم اللعنة فعند بعضهم باطل نقلا وعند بعضهم عقلا وقد أنكره بعض المسلمين أيضا وهذا لا يتصور من مسلم إن كان المراد أن الشرائع الماضية لم ترتفع بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام وتلك الشرائع باقية كما كانت لكن المسلمين الذين لم يجوزوا النسخ لم يروا هذا المعنى بل مرادهم أن الشريعة المتقدمة مؤقتة إلى وقت ورود الشريعة المتأخرة إذ ثبت في
____________________
(2/67)
القرآن أن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام بشرا بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام وأوجبا الرجوع إليه عند ظهوره وإذا كان مؤقتا الأول لا يسمى الثاني ناسخا ونحن نقول إن الله تعالى سماه نسخا بقوله ما ننسخ من آية الآية
أما النقل ففي التوراة تمسكوا بالسبت ما دامت السماوات والأرض وادعوا نقله تواترا ويدعون النقل عن موسى عليه الصلاة والسلام أن لا نسخ لشريعته قلنا هذه الدعوى غير
____________________
(2/68)
صحيحة لوجود التحريف
وأما العقل فلأنه يوجب كون الشيء مأمورا به ومنهيا عنه فيكون حسنا وقبيحا ولأنه يوجب البداء والجهل بالعواقب ولنا أن حل الأخوات في شريعة آدم عليه السلام وحل الجزء أي حواء له عليه السلام ولم ينكره أحد ثم نسخ في غير شريعته ولأن الأمر للوجوب لا للبقاء وإنما هو بالاستصحاب فلا يقع التعارض بين الدليلين بل الدليل الثاني بيان لمدة الحكم الأول التي لم تكن معلومة لنا وقولهم بأن البقاء بالاستصحاب مع أن الاستصحاب
____________________
(2/69)
ليس بحجة عندهم مشكل لأنه يلزم أن لا يكون نص ما في زمن النبي عليه السلام حجة إلا في وقت نزوله فأما بعده فلا
والجواب عن هذا إما بالتزام الاحتجاج بمثل هذا الاستصحاب أي في كل صورة علم أنه لم يغير وإما بأن النص يدل على شرعية موجبة قطعا إلى زمان نزول الناسخ فبهذا يندفع التعارض المذكور اعلم أن فخر الإسلام رحمه الله تعالى أجاب عن قولهم أنه يوجب كون الشيء منهيا عنه ومأمورا به بقوله إلا أن الأمر للوجوب لا للبقاء إنما البقاء بالاستصحاب فلا يلزم كون الشيء مأمورا به ومنهيا عنه في حالة واحدة وفي هذا الجواب نظر وهو أنه لما كان البقاء بالاستصحاب
والاستصحاب ليس بحجة عند علمائنا فيلزم أن لا يكون نص ما في زمن حياة النبي عليه الصلاة والسلام حجة لا في حالة نزوله ولا يكون حجة بعدها وهذا قول باطل وإنما قيدناه بزمن النبي عليه الصلاة والسلام لأن بوفاته عليه الصلاة والسلام ارتفع احتمال النسخ وبقي الشرائع التي قبض النبي عليه السلام عليها حجة قطعية مؤبدة
وقد خطر ببالي عن هذا النظر جوابان أحدهما أن نلتزم أن مثل هذا الاستصحاب حجة أي كل استصحاب يكون فيه عدم التغيير معلوما فلما نزل على النبي عليه السلام حكم فثبوته بالنص وبقاؤه بالاستصحاب وقد علم أنه لم ينزل مغير إذ لو نزل لبين النبي عليه السلام فلما لم يبين علم أنه لم ينزل فمثل الاستصحاب يكون حجة
وثانيهما أنا لا نقول إن البقاء بالاستصحاب بل النص يدل على شرعية موجبة قطعا إلى زمان نزول الناسخ وبهذا يندفع التعارض المذكور وهو كون الشيء مأمورا به ومنهيا عنه في زمان واحد لأن النص الأول حكمه مؤقت إلى زمان نزول الناسخ فإذا نزل الناسخ فلم يبق موجب الأول وهذا عين ما ذكر في أول الفصل أنه لما كان الشارع عالما بأن الحكم الأول مؤقت إلخ فلا يحتاج لدفع التعارض المذكور إلى أن نقول إن البقاء بالاستصحاب وفي هذا حكمة بالغة وهو كالإحياء ثم الإماتة وأيضا يمكن حسن الشيء وقبحه في زمانين
وأما محله فاعلم أن الحكم إما أن لا يحتمل النسخ في نفسه كالأحكام العقلية مثل وحدانية الله وأمثالها وما يجري مجراها كالأمور الحسية والإخبارات عن الأمور الماضية أو الحاضرة أو المستقبلة نحو فسجد الملائكة
وإما أن يحتمل كالأحكام الشرعية ثم هذا إما إن لحقه تأبيد نصا كقوله تعالى وجاعل الذين اتبعوك الآية وقوله عليه السلام الجهاد ماض إلى يوم القيامة أو دلالة كالشرائع التي قبض عليها النبي عليه السلام فإنها مؤبدة بدلالة أنه خاتم النبيين أو توقيت عطف على قوله تأبيد في قوله أما إن لحقه تأبيد
فإن النسخ قبل تمام الوقت
____________________
(2/70)
بداء ويكون الحكم مطلقا عنهما أي عند التأبيد والتوقيت
فالذي يجري فيه النسخ هذا فقط وأما شرطه فالتمكن من الاعتقاد كاف لا حاجة إلى التمكن من الفعل عندنا وعند المعتزلة لا يصح قبل الفعل لأن المقصود منه الفعل فقبل حصوله يكون بدءا ولنا أنه عليه السلام أمر ليلة المعراج بخمسين صلاة ثم نسخ الزائد على الخمس مع عدم التمكن من العمل وذلك لأنه يمكن أن يكون المقصود هو الاعتقاد فقط أو الاعتقاد والعمل جميعا وهنا أي في صورة يكون المقصود الاعتقاد والعمل جميعا
الاعتقاد أقوى فإنه يصلح أن يكون قربة مقصودة كما في المتشابه وهو أي الاعتقاد لا يحتمل السقوط بخلاف العمل فإن العمل يمكن أن يسقط بعذر كالإقرار والصلاة والصوم وغيرها فذبح إبراهيم عليه السلام من
____________________
(2/71)
هذا القبيل أي من قبيل النسخ قبل الفعل عند البعض
وعند البعض ليس بنسخ فإن الاستخلاف لا يكون نسخا لأن الاستخلاف لا يكون إلا مع تقرير الأصل على ما كان وإنما أمر بذبح الولد ابتلاء على القولين فإن قيل الأمر بالفداء حرم الأصل فيكون نسخا هذا إشكال على مذهب من يقول إن ذبح إبراهيم عليه السلام ليس بنسخ قلنا لما قام الغير مقامه عاد الحرمة الأصلية
____________________
(2/72)
وأما الناسخ فهو إما الكتاب أو السنة لا القياس على ما يأتي ولا الإجماع لأنه إن كان في حياة النبي عليه السلام يكون من باب السنة لأنه متفرد ببيان الشرائع وإن كان بعده فلا نسخ حينئذ فيكون أربعة أقسام نسخ الكتاب بالكتاب أو السنة بالسنة أو الكتاب بالسنة أو بالعكس وقال الشافعي رحمه الله تعالى بفساد الأخيرين لقوله تعالى نأت بخير منها أو مثلها دليل على امتناع نسخ الكتاب بالسنة والسنة دونه أي دون الكتاب
وقوله تعالى قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ولقوله عليه السلام إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله الحديث أوله قوله عليه السلام يكثر لكم الأحاديث من بعدي فإذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه
ولأنه إن نسخ الكتاب بالسنة يقول الطاعن خالف النبي عليه السلام ما يزعم أنه كلام ربه وإن نسخ السنة
____________________
(2/73)
بالكتاب يقول كذبه ربه فلا نصدقه فالتعاون بينهما أولى واحتج بعض أصحابنا أي على جواز نسخ الكتاب بالسنة بأنه نسخ قوله تعالى الوصية للوالدين والأقربين أول الآية قوله كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف بقوله عليه السلام لا وصية لوارث وبعضهم بأن قوله تعالى فأمسكوهن الآية أول الآية قوله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا نسخ بقوله عليه السلام الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ولكن هذا فاسد أي ما مر من الاحتجاجين لبعض أصحابنا فاسد فاستدل على فساد الاحتجاج الأول بقوله لأن الوصية للوارث نسخت بآية المواريث إذ في الأول فوضها إلينا ثم تولى بنفسه بيان حق كل منهم وإلى هذا أشار بقوله يوصيكم الله في أولادكم قال عليه السلام إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ثم استدل على فساد الاحتجاج الثاني بقوله ولأن عمر قال إن الرجم كان مما يتلى في كتاب الله تعالى فقوله تعالى فأمسكوهن في البيوت لم ينسخ بقوله عليه السلام الثيب بالثيب بل نسخ بالكتاب وهو قوله تعالى الشيخ والشيخة إذا
____________________
(2/74)
زنيا فارجموهما وكان هذا مما يتلى في كتاب الله تعالى فنسخ تلاوته وبقي حكمه ثم لما بين فساد ما احتج به بعض أصحابنا على جواز نسخ الكتاب بالسنة والسنة بالكتاب أراد أن يذكر الحجة الصحيحة على هذا المطلوب فقال
والحجة أنه عليه السلام حين كان بمكة يصلي إلى الكعبة وبعدما قدم إلى المدينة كان يصلي إلى بيت المقدس فالأول إن كان بالكتاب نسخ بالسنة والثاني كان بالسنة ثم نسخ بالكتاب
واعلم أنه عليه السلام لما كان بمكة كان يتوجه إلى الكعبة ولا يدرى أنه كان بالكتاب أو بالسنة ثم لما قدم إلى المدينة توجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا وليس هذا بالكتاب بل بالسنة ثم نسخ هذا بالكتاب وهو قوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام فنسخ السنة بالكتاب متيقن به أما نسخ الكتاب بالسنة في هذه القضية فمشكوك فيه وحديث عائشة رضي الله عنها دليل على نسخ الكتاب بالسنة وهو قوله وقالت عائشة رضي الله عنها ما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أباح الله له من النساء ما شاء فتكون السنة ناسخة لقوله لا يحل لك النساء من بعد
ولأنه عليه السلام بعث مبينا فجاز له بيان مدة حكم الكتاب بوحي غير متلو ويجوز أن يبين الله بوحي
____________________
(2/75)
متلو مدة حكم ثبت بوحي غير متلو وقوله تعالى نأت بخير أي فيما يرجع إلى مصالح العباد دون النظم وإن سلم هذا لكنها إنما نسخ حكمه لا نظمه وهما في الحكم مثلان أي إن سلم أن المراد الخيرية من حيث النظم فالسنة لا تنسخ نظم الكتاب فإن الأحكام المتعلقة بالنظم باقية كما كانت بل تنسخ حكمه والكتاب والسنة في إثبات الحكم مثلان وإن الكتاب راجح في النظم بأن نظمه معجز وتثبت بنظمه أحكام كالقراءة في الصلاة ونحوها
وليس ذلك من تلقاء نفسه عليه السلام لقوله تعالى إن هو إلا وحي يوحى أي ليس نسخ الكتاب بالسنة من تلقاء نفسه وهذا جواب عن قوله تعالى قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي
وقوله عليه الصلاة والسلام فاعرضوه على كتاب الله إذا أشكل تاريخه أو لم يكن في الصحة بحيث ينسخ به الكتاب بدليل سياق الحديث وهو قوله عليه السلام يكثر الأحاديث من بعدي وما ذكر من الطعن فإنه في نسخ الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة وارد فإن من هو مصدق يتيقن أن الكل من عند الله ومن هو مكذب يطعن في الكل ولا اعتبار بالطعن الباطل وفيما ذكرنا إعلاء منزلة الرسول عليه السلام وتعظيم سنته ونظائر نسخ الكتاب بالكتاب كثيرة كنسخ الوصية للوالدين بآية المواريث ونسخ الكتاب بالسنة ما روت عائشة رضي
____________________
(2/76)
الله تعالى عنها ما قبض النبي عليه السلام حتى أباح الله له من النساء ما شاء فيكون قوله تعالى لا يحل لك النساء من بعد منسوخا بالسنة ونسخ السنة بالكتاب نسخ التوجه إلى بيت المقدس بقوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام ونسخ السنة بالسنة بقوله عليه السلام كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها
الحديث
مسألة يجوز أن يكون الناسخ أشق عندنا لأن في ابتداء الإسلام كل من عليه الصيام كان مخيرا بين الصيام والفدية ثم صار الصوم حتما وعند البعض لا يصح إلا بالمثل أو الأخف لقوله تعالى نأت بخير منها الآية
قلنا الأشق قد يكون خيرا لأن فيه فضل الثواب مسألة لا ينسخ المتواتر بالآحاد وينسخ بالمشهور لأنه من حيث إنه بيان يجوز بالآحاد ومن حيث إنه تبديل يشترط التواتر فيجوز بما هو متوسط بينهما أي بين المتواتر وخبر الآحاد وهو المشهور
وأما المنسوخ فهو إما الحكم والتلاوة معا قالوا وقد يرفعان بموت العلماء أو بالإنساء كصحف إبراهيم عليه السلام والإنساء كان للقرآن في زمن النبي عليه السلام قال الله تعالى سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله فأما بعد وفاته فلا لقوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وإما الحكم فقط وإما التلاوة فقط ومنعه البعض لأن النص بحكمه والحكم بالنص فلا انفكاك بينهما ولنا قوله تعالى فأمسكوهن في البيوت نسخ حكمه وبقي تلاوته ونظائره كثيرة كوصية الوالدين وسورة الكافرين ونحوهما ونسخ قراءة ابن مسعود وهي ثلاثة أيام متتابعات مع بقاء حكمه ولأن حكمه أي حكم النص على قسمين أحدهما يتعلق
____________________
(2/77)
بمعناه
والآخر بنظمه كالإعجاز وجواز الصلاة وحرمته للجنب والحائض فيجوز أن ينسخ أحدهما بدون الآخر وإما وصف الحكم عطف على قوله وإما الحكم فقط وإما التلاوة فقط فقد اختلفوا أن الزيادة على النص نسخ أم لا وذكروا أنها إما بزيادة جزء كزيادة ركعة على ركعتين
____________________
(2/78)
أو شرط كالإيمان في الكفارة
وإما برفع مفهوم المخالفة كما لو قال في العلوفة زكاة بعد قوله في السائمة زكاة وهي نسخ عندنا أي الزيادة على النص نسخ عندنا ويجب استثناء الثالث إذ لا نقول بالمفهوم أي بمفهوم المخالفة
اعلم أن في المحصول وأصول ابن الحاجب ذكر أن الزيادة على النص إما بزيادة الجزء أو بزيادة الشرط أو بزيادة ما يرفع مفهوم المخالفة وذكر الخلاف في كل واحد من هذه الثلاثة وهو أن الزيادة نسخ عند أبي حنيفة رحمه
____________________
(2/79)
الله تعالى فأقول يجب استثناء الثالث فإن الزيادة بما يرفع مفهوم المخالفة لا تكون نسخا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى بناء على أنه لا يقول بمفهوم المخالفة وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا مطلقا وقيل نسخ في الثالث وقيل نسخ إن غيرت الأصل حتى لو أتى به كما هو قبل الزيادة تجب الإعادة كزيادة ركعة في الفجر وعشرين في حد القذف مثلا والتخيير في الثلاثة بعد ما كان في الاثنين كالشاهد واليمين كان في الكتاب التخيير بين الاثنين بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين فزاد الشافعي رحمه الله تعالى أمرا ثالثا وهو الشاهد ويمين المدعي لكن الأخيرين لا يستقيمان على هذا التفسير
اعلم أن ابن الحاجب أورد هنا ثلاثة أمثلة فالأول هو زيادة ركعة في الفجر مثلا وهذا المثال مستقيم لأنه على تقدير الزيادة إن أتى به كما هو قبل الزيادة تجب الإعادة والمثالان الأخيران وهما زيادة عشرين في حد القذف والشاهد واليمين لا يستقيمان على هذا التفسير فإنه فسر تغيير الأصل بأنه لو أتى به كما هو قبل الزيادة تجب الإعادة
وإنما قلنا إنهما لا يستقيمان على هذا التفسير لأن في هاتين الصورتين إن أتى به كما هو قبل الزيادة لا تجب الإعادة وقيل إن صار الكل شيئا واحدا كان نسخا كزيادة ركعة لا كالوضوء في الطواف واختار البعض قول أبي الحسين وذكر في المحصول وأصول ابن الحاجب أن المختار قول أبي الحسين وهو أنه لا شك أن الزيادة تبدل شيئا فإن كان أي الشيء المبدل حكما شرعيا تكون نسخا وإلا نحو أن يكون
____________________
(2/80)
عدما أصليا فلا
ولنا أن زيادة الجزء إما بالتخيير في اثنين أو ثلاثة بعد ما كان الواجب واحدا أو واحد اثنين فترفع حرمة الترك وإما بإيجاب شيء زائد فترفع أجزاء الأصل كزيادة الشرط هذا دليل على أن الزيادة نسخ كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى وتقريره أن الزيادة المختلف فيها بيننا وبينهم زيادة الجزء وزيادة الشرط أما زيادة الجزء فإنما تكون بثلاثة أمور الأول بالتخيير في اثنين بعدما كان الواجب واحدا فالزيادة هنا ترفع حرمة ترك ذلك الواجب الواحد
والثاني بالتخيير في الثلاثة بعد ما كان الواجب أحد اثنين فالزيادة هنا ترفع حرمة ترك أحد هذين الاثنين والثالث بإيجاب شيء زائد فالزيادة
____________________
(2/81)
هنا ترفع أجزاء الأصل وأما زيادة الشرط فإنها ترفع أجزاء الأصل وهذا ما قال في المتن كزيادة الشرط
والكل حكم شرعي مستفاد من النص وأيضا المطلق يجري على إطلاقه كما ذكرنا أي حرمة ترك الواجب الواحد وحرمة ترك أحد اثنين وأجزاء الأصل أحكام شرعية
قالوا حرمة الترك التي يرفعها التخيير ليست بحكم شرعي لأن حرمة الترك لهذا الواجب الواحد إنما كانت ثابتة إذا لم يكن شيء آخر خلفا عنه والأصل عدمه قد ذكرنا أن التخيير يرفع حرمة الترك وهي حكم شرعي وهم يقولون حرمة الترك التي يرفعها التخيير ليست بحكم شرعي لأن حرمة الترك لهذا الواجب إنما كانت ثابتة إذا لم يكن شيء آخر خلفا عن ذلك الواجب الواحد أما إذا كان شيء آخر خلفا عن ذلك الواجب الواحد لا يكون تركه حراما فعلم أن حرمة تركه مبنية على عدم الخلف وعدم الخلف عدم أصلي فكل حق مبني على عدم أصلي لا يكون حكما شرعيا فحرمة ترك ذلك الواجب لا تكون حكما شرعيا فرفعها لا يكون نسخا
فلهذا أي لأجل أن حرمة الترك التي ترى فيها التخيير ليست بحكم شرعي يثبت التخيير بين غسل الرجل ومسح الخف بخبر الواحد وكذا بين التيمم والوضوء بالنبيذ فعلى هذا لا يكون الشاهد واليمين ناسخا لقوله تعالى فإن لم يكونا رجلين هذا تفريع على مذهب أبي الحسين فنص الكتاب أوجب غسل الرجلين على التعيين فيمكن أن يثبت التخيير بين غسل الرجلين ومسح الخف بخبر الواحد
وأيضا أوجب النص التيمم على التعيين عند عدم الماء فيمكن أن يثبت بخبر الواحد التخيير بين التيمم والوضوء بالنبيذ عند عدم الماء وأيضا النص أوجب رجلا وامرأتين عند عدم الرجلين فيمكن أن يثبت بخبر الواحد التخيير بين رجل وامرأتين وبين اليمين والشاهد
قلنا حرمة الترك تثبت بلفظ النص عند عدم الخلف لا به أي لا بعدم الخلف يعني عدم الخلف ليس علة لحرمة الترك بل النص علة لحرمة الترك لكن عند عدم الخلف فيكون حرمة الترك حكما شرعيا ولو كان
____________________
(2/82)
الأمر كما توهم لم يكن شيء من الأحكام الواجبة حكما شرعيا إذ يمكن أن يقال حرمة ترك الصلاة والصوم وغيرهما مبنية على عدم الخلف وأيضا وجوبهما
وأيضا التخيير ليس باستخلاف إذ في الأول الواجب أحدهما وفي الثاني الأصل لكن الخلف كأنه هو فلا يكون أي الاستخلاف نسخا وإن كان ففي المسح والنبيذ ثبت بخبر مشهور أي وإن كان الاستخلاف نسخا ففي مسألة المسح على الخفين والوضوء بالنبيذ ثبت بخبر مشهور ونسخ الكتاب بالخبر المشهور جائز عندنا
وقوله تعالى فرجل وامرأتان أي فالواجب هذا فيكون الشاهد واليمين ناسخا ثم أورد الفروع على أن الزيادة نسخ عندنا وقال فلا يزاد التغريب على الجلد والنية والترتيب والولاء على الوضوء وهو أي الوضوء على الطواف والفاتحة وتعديل الأركان على سبيل الفرضية بخبر الواحد يرجع إلى الكل والإيمان على الرقبة بالقياس أي لا يزاد قيد الإيمان على الرقبة في كفارة اليمين بالقياس على كفارة القتل
يرد هنا أنكم زدتم الفاتحة والتعديل بخبر الواحد حتى وجبا وإنما لم تثبت الفرضية لأنها لا تثبت بخبر الواحد عندكم فإن الفرض عندكم ما ثبت لزومه بدليل قطعي والواجب ما ثبت لزومه بدليل ظني فقد زدتم على الكتاب بخبر الواحد ما يمكن أن يزاد به وهو الوجوب ويمكن أن يجاب بأنا لم نزد الفاتحة والتعديل على وجه يلزم منه نسخ الكتاب لأنا لم نقل بعدم إجزاء الأصل لولا الفاتحة والتعديل حتى يلزم النسخ حينئذ بل قلنا بالوجوب فقط
بمعنى أنه يأثم تاركهما وفي هذا المعنى لا يلزم نسخ الكتاب أصلا ولا
____________________
(2/83)
يمكن مثل هذا في الوضوء حتى تكون النية والترتيب واجبين في الوضوء لأن الوضوء ليس عبادة مقصودة بل هو شرط للصلاة فلا يمكن أن يكون شيء من أجزائه واجبا لعينه بمعنى أنه يأثم تاركه بل لأجل الصلاة بمعنى أنه لا تجوز الصلاة إلا به فإن قلنا بوجوب النية والترتيب فمعناه أنه لا تصح الصلاة إلا بهما فيلزم من وجوبهما عدم إجزاء الصلاة التي هي الأصل
____________________
(2/84)
وهذا سر أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى جعل في الصلاة واجبات ولم يجعل تلك في الوضوء فلله دره ما أدق نظره في أحكام الشريعة الغراء وهو الذي أصله ثابت وفروعه في السماء
فصل في بيان الضرورة وهو أربعة أنواع الأول ما هو في حكم المنطوق مثل قوله تعالى وورثه أبواه فلأمه الثلث يدل على أن الباقي للأب وكذا نصيب المضارب أي إذا بين تعين الباقي لرب المال قياسا واستحسانا
وكذا نصيب رب المال استحسانا للشركة في صدر الكلام أي إذا بين تعين الباقي للمضارب استحسانا لا قياسا لأن المضارب إنما يستحق الربح بالشرط ولم يوجد بخلاف رب المال فإنه يستحق بدونه لأن الربح نماء ملكه فيكون له حتى إذا فسدت المضاربة يكون كل الربح للمالك وللمضارب أجر عمله هذا هو وجه القياس
وأما وجه الاستحسان فمذكور في المتن
____________________
(2/85)
والثاني ما ثبت بدلالة حال المتكلم كسكوت صاحب الشرع عن تغيير أمر يعاينه يدل على حقيته وكذا السكوت في موضع الحاجة كسكوت الصحابة عن تقويم منفعة البدن في ولد المغرور روي أن عمر رضي الله تعالى عنه حكم فيمن اشترى جارية فاستولدها ثم استحقت برد الجارية على المستحق ورد قيمة الولد والعقر وكان شاور عليا رضي الله عنه واشتهر في الصحابة ولم يرده أحد ولم يقض برد قيمة المنافع ولو كانت واجبة لما حل الإعراض عنه بعدما رفعت إليه القضية وطلب منه القضاء بما للمولى عليه
وكذا سكوت البكر البالغة جعل بيانا لحالها التي توجب الحياء وكذا النكول وطلب منه القضاء بما للمولى جعل بيانا أي جعل إقرار الحال في الناكل وهو أنه امتنع عن أداء ما لزمه وهو اليمين مع القدرة عليها فيدل
____________________
(2/86)
ذلك الامتناع على إقراره بالمدعى لأنه لا يظن بالمسلم الامتناع عما هو لازم عليه إلا إذا كان محقا في الامتناع وذلك بأن تكون اليمين كاذبة إن حلف ولا تكون كاذبة إلا أن يكون المدعي محقا في دعواه
والثالث ما جعل بيانا لضرورة دفع الغرور كالمولى يسكت حين يرى عبده يبيع ويشتري يكون إذنا دفعا للغرور عن الناس
وكذا سكوت الشفيع جعل تسليما لأنه إن لم يجعل تسليم فإن امتنع المشتري عن التصرف يكون ذلك ضررا له وإن لم يمتنع وتصرف ثم ينقض الشفيع تصرفه يتضرر المشتري أيضا
والرابع ما ثبت لضرورة الكلام نحو له علي مائة ودرهم ومائة ودينار ومائة وقفيز حنطة يكون الآخر بيانا للأول وعند الشافعي رحمه الله تعالى المائة مجملة عليه بيانها كما في
____________________
(2/87)
مائة وثوب ومائة وشاة لنا أن حذف المعطوف عليه في العدد متعارف للخفة نحو بعت بمائة وعشرة دراهم ونظائرها فيحمل على ذلك فيما هو مقدر بخلاف العبد والثوب على أنهما لا يثبتان في الذمة
فقوله فيحمل على ذلك أي حذف المعطوف عليه فالحاصل أنه إذا ذكر بعد المائة عدد مضاف نحو مائة وثلاثة أثواب فإن الأخير بيان المائة بالاتفاق فإن كان بعد المائة شيء من المقدرات كالدرهم والدينار والقفيز نجعله بيانا للمائة قياسا على العدد والجامع كونهما مقدرين فإذا قال له علي مائة ودرهم قلنا المائة من الدراهم قياسا على قوله علي مائة وثلاثة أثواب أما إذا كان بعد المائة شيء مما هو غير مقدر كالعبد والثوب كقوله له علي مائة وثوب ومائة وعبد لا نجعله بيانا للمائة والله أعلم
الركن الثالث في الإجماع وهو اتفاق المجتهدين من أمة محمد عليه الصلاة والسلام في عصر على حكم شرعي بعض العلماء قيدوا الإجماع بالحكم الشرعي وبعضهم قالوا على أمر حتى يعم الحكم الشرعي وغيره
واعلم أن الأحكام إما دينية وإما غير دينية كالحكم بأن السقمونيا
____________________
(2/88)
مسهل فإن وقع الاتفاق على مثل هذا أو لم يقع فهما سواء حتى إن أنكره أحد لا يكون كفرا بل يكون جهلا بهذا الحكم سواء وقع الاتفاق أو لم يقع أما الأحكام الدينية فإما أن تكون شرعية أو غير شرعية
والمراد بالحكم الشرعي ما ذكرت في أول الكتاب أنه ما لا يدرك لولا خطاب الشارع وما ليس كذلك فإدراكه إما بالحس أو بالعقل وكل واحد منهما يفيد اليقين فإن كان ذلك الأمر أمرا حسيا ماضيا فالإجماع عليه يكون إخبارا فلا يكون من قسم الإجماع المخصوص بأمة محمد عليه الصلاة والسلام
ولا يشترط له الاجتهاد بل يكون من قبيل الإخبارات وإن كان أمرا حسيا مستقبلا كأمور الآخرة وأشراط الساعة مثلا فمعرفته لا يمكن إلا بالنقل عن مخبر صادق يوقف على المغيبات كالنبي عليه الصلاة والسلام مثلا فإجماعهم على ذلك من حيث إنه إجماع على ذلك الأمر المستقبل لا يعتبر لأنهم لا يعلمون الغيب لكن يعتبر من حيث إنه منقول عمن يوقف على الغيب فرجع إلى الأمر الأول وهو أن يكون محسوسا ماضيا وإن كان أمرا يدرك بالعقل فالعقل يفيد اليقين فالدليل هو العقل لا الإجماع بخلاف الشرعيات فإن مستند الإجماع لا يكون قطعيا ثم الإجماع يفيدها قطعية
فالبحث هنا في أمور الأول في ركنه وهو الاتفاق والعزيمة فيه أن يثبت ذلك إما بالتكلم منهم أو بعملهم به والرخصة أن يتكلم البعض أو يعمل به ويسكت الباقي بعد بلوغ ذلك إليهم ومضي مدة التأمل وعند البعض لا يثبت بالسكوت لأن عمر رضي الله عنه شاور
____________________
(2/89)
الصحابة في مال فضل عنده وعلي رضي الله عنه ساكت حتى سأله فروى حديثا في قسمة الفضل لما شاور عمر رضي الله تعالى عنه الصحابة في ذلك أشار بعض الصحابة بتأخير القسمة والإمساك إلى وقت الحاجة وعلي رضي الله عنه ساكت حتى سأله فقال أرى أن يقسم بين المسلمين وروى في ذلك حديثا فعمل عمر بذلك ولم يجعل سكوته دليل الموافقة حتى شافهه وجوز علي رضي الله عنه السكوت مع أن الحق عنده خلافهم
وشاورهم في إسقاط الجنين فأشاروا بأن لا غرم عليك وعلي رضي الله عنه ساكت فلما سأله قال أرى عليك الغرم فلم يكن سكوته تسليما روي أن عمر رضي الله عنه ضرب امرأة لجناية فأسقطت الجنين فشاور الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا لا غرم عليك فإنك مؤدب وما أردت إلا الخير وعلي رضي الله عنه ساكت فلما سأله قال أرى عليك الغرم ولأنه قد يكون للمهابة كما قيل لابن عباس رضي الله تعالى عنه ما منعك أن تخبر عمر بقولك في العول فقال ردته وذكر الإمام سراج الملة والدين رحمه الله تعالى في شرحه
____________________
(2/90)
للفرائض أن العول ثابت على قول عامة الصحابة رضي الله تعالى عنهم باطل عند ابن عباس
وهو يدخل النقص على البنات وبنات الابن والأخوات لأب وأم أو لأب مثاله تركت زوجا وأما وأختا لأب وأم فعند العامة المسألة من ستة وتعول إلى الثمانية وعند ابن عباس رضي الله عنه للزوج النصف ثلاثة وللأم الثلث اثنان وللأخت الباقي وهذه أول حادثة وقعت في نوبة عمر رضي الله تعالى عنه فأشار العباس رضي الله عنه إلى أن يقسم المال على سهامهم فقبلوا منه ولم ينكره أحد
وكان ابن عباس صبيا فلما بلغ خالف وقال من شاء باهلته إن الذي أحصى رمل عالج عددا لم يجعل في المال نصفين وثلثا فقيل هلا قلت ذلك في عهد عمر رضي الله عنه قال كنت صبيا وكان عمر رضي الله تعالى عنه رجلا مهيبا فهبته
وقد يكون للتأمل وغيره أي يكون السكوت للتأمل وغيره من الأسباب المانعة للإظهار
ولنا أن شرط التكلم من الكل متعسر غير معتاد والمعتاد أن يتولى الكبار الفتوى
____________________
(2/91)
ويسلم سائرهم ولما كان الحكم عنده مخالفا فالسكوت حرام والصحابة لا يتهمون بذلك
وأما سكوت علي رضي الله عنه فيمكن حمله على أن ما أفتوا به من إمساك المال أي مال فضل عنده وعدم الغرم عليه أي في مسألة الإسقاط
كان حسنا إلا أن تعجيل أداء الصدقة والتزام الغرم صيانة عن القيل والقال ورعاية لحسن الثناء والعدل كان أحسن وبعد التسليم أي بعد تسليم ما أفتوا به لم يكن حسنا وكان خطأ
فالسكوت بشرط الصيانة عن الفوت جائز وذلك إلى آخر المجلس تعظيما للفتيا وحديث الدرة غير صحيح لأن الخلاف والمناظرة بينهم في مسألة العول أشهر من أن تخفى على عمر رضي الله تعالى عنه وكان عمر ألين للحق وإن صح فيحمل على أنه اعتذر عن الكف عن المناظرة معه لا عن بيان مذهبه فإن الواجب عليه أن يبين مذهبه وما هو حق عنده لئلا يكون شيطانا أخرس لسكوته عن الحق
لكن المناظرة غير واجبة عليه وكان ابن عباس رضي الله عنهما إنما اعتذر عن الكف عن المناظرة التي لم تكن واجبة عليه
ولما شرطنا مضي مدة التأمل لم ترد الشبهة التي ذكرت وهي أن السكوت قد يكون للتأمل وغيره
مسألة إذا اختلفت الصحابة في قولين يكون إجماعا على نفي قول ثالث عندنا وأما في غير الصحابة فكذا عند بعض مشايخنا وبعضهم خصوا ذلك بالصحابة رضي الله عنهم إذ لا يجوز أن يظن بهم الجهل أصلا نظيره أنهم اختلفوا في عدة حامل توفي عنها زوجها فعند البعض تعتد بأبعد الأجلين وعند البعض بوضع الحمل فالاكتفاء بالأشهر قبل وضع الحمل قول ثالث لم يقل به أحد
واختلفوا في الجد مع الإخوة فعند البعض كل المال للجد وعند البعض المقاسمة فحرمان الجد قول ثالث لم يقل به أحد واختلفوا في علة الربا فعندنا العلة هي القدر مع الجنس وعند الشافعي رحمه الله تعالى الطعم مع الجنس وعند مالك رحمه الله تعالى الطعم والادخار مع الجنس فالقول بأن العلة غير ذلك لم يقل به أحد
واختلفوا في الزوج مع الأبوين والزوجة مع الأبوين فعند البعض للأم ثلث الكل في المسألتين وعند البعض ثلث الباقي بعد فرض أحد الزوجين في المسألتين فالقول بثلث الكل في إحداهما وثلث الباقي في الأخرى قول ثالث لم يقل به أحد
واختلفوا في فسخ النكاح بالعيوب الخمسة فعند البعض لا فسخ في شيء منها وعند البعض حق الفسخ ثابت في كل منها فالفسخ في البعض دون البعض قول ثالث لم يقل به أحد ويعبر عن هذا بعدم القائل بالفصل
واختلفوا في الخارج من غير السبيلين فعند البعض غسل المخرج فقط واجب وعند البعض غسل الأعضاء الأربعة واجب فقط فشمول العدم أو شمول الوجود قول ثالث لم يقل به أحد
وأيضا الخروج من غير السبيلين ناقض عندنا لا مس المرأة وعند الشافعي رحمه الله تعالى المس ناقض لا
____________________
(2/92)
الخروج فشمول الوجود أو شمول العدم ثالث لم يقل به أحد
وقال بعض المتأخرين الحق هو التفصيل وهو أن القول الثالث إن استلزم إبطال ما أجمعوا عليه لم يجز إحداثه وإلا جاز مثال الأول الصورتان الأوليان فإن الاكتفاء بالأشهر قبل الوضع منتف بالإجماع إما لأن الواجب أبعد الأجلين وإما لأن الواجب وضع الحمل فهذا يسمى إجماعا مركبا فما به الاشتراك وهو عدم الاكتفاء بالأشهر مجمع عليه وفي الجد مع الإخوة اتفاق الفريقين واقع على عدم حرمان الجد ومثال الثاني الأمثلة الأخيرة فإنه ليس في كل صورة إلا مخالفة مذهب واحد لا مخالفة الإجماع ولو كان مثل هذا مردودا يلزم أن كل مجتهد وافق صحابيا أو مجتهدا في مسألة يلزمه أن يوافقه في جميع المسائل وهذا باطل إجماعا
فإن عند ابن مسعود رحمه الله تعالى الحامل المتوفى عنها زوجها عدتها بوضع الحمل وأبو حنيفة رحمه الله تعالى وافقه في ذلك ولم يوافقه في أن المحروم يحجب حجب النقصان عنده ولم يقل أحد بأن المجموع المركب من كون عدتها بوضع الحمل مع انتفاء الحجب منتف إجماعا أما عند ابن مسعود رحمه الله تعالى فلثبوت الثاني وأما عند غيره فلانتفاء الأول ومثل هذا كثير فإن المجتهدين رحمهم الله تعالى وافقوا بعض الصحابة في مسألة مع أنهم خالفوا ذلك البعض في مسألة أخرى أقول التمسك بالإجماع المركب وبعدم القائل بالفصل مشهور في المناظرات وإبطاله على الوجه الذي نقلته عن بعض المتأخرين ليس بحق
بل الحق في ذلك والله أعلم أنه إن كان الغرض إلزام الخصم يكون مقبولا في هذا الغرض كما يقال في الوجوب في الحلي أن الوجوب في الضمار لا يخلو من أن يكون ثابتا أو لا فإن كان ثابتا في الضمار يكون ثابتا في الحلي قياسا وإن لم يكن ثابتا في الضمار يكون ثابتا في الحلي إذ لو لم يثبت في الحلي يلزم العدم في الضمار مع العدم في الحلي وهذا منتف إجماعا فهذا لا يفيد حقية الوجوب في الحلي لكن يفيد نفي ما قاله الشافعي رحمه الله تعالى فإنه لو لم يثبت الوجوب في الحلي يلزم العدمان وهو منتف عند الشافعي رحمه الله تعالى
____________________
(2/93)
أما إن لم يكن الغرض إلزام الخصم بل إظهار ما هو الحق فاعلم أن التفصيل الذي اختاره بعض المتأخرين وهو أن القول الثالث استلزم إبطال ما أجمعوا عليه لم يجز إحداثه كلام غير مفيد لأنه لا خفاء في أن القول الثالث إن استلزم إبطال ما أجمعوا عليه كان مردودا والخصم يسلم هذا المعنى لكن يدعي أن القول الثالث مستلزم لإبطال ما أجمعوا عليه في جميع الصور إما في مسألة واحدة كما في مسألة العدة وحرمان الجد وإما في مجموع المسألتين ففي مسألة الزوج أو الزوجة مع الأبوين أحد الشمولين ثابت وهو ثلث الكل في كليهما أو ثلث الباقي في كليهما فالقول بثلث الكل في أحدهما دون الآخر مخالف للإجماع وكذا في الفسخ بالعيوب وفي مسألة الخارج من غير السبيلين إحدى الطهارتين
____________________
(2/94)
واجبة إجماعا فالقول بأن لا شيء منها واجب مبطل للإجماع وكذا في الحلي والضمار وكذا القول بأن العدة المذكورة بوضع الحمل مع انتفاء الحجب المذكور مبطل للإجماع فالشأن في تمييز صورة يلزم فيها بطلان الإجماع عن صورة لا يلزم فيها ذلك فلا بد من ضابط وهو أن القولين إن كانا يشتركان في أمر هو في الحقيقة واحد وهو من الأحكام الشرعية فحينئذ يكون القول الثالث مستلزما لإبطال الإجماع وإلا فلا فعند ذلك نقول إن المختلف فيه إما حكم متعلق بمحل واحد أو حكم متعلق بأكثر من محل واحد
أما الأول فكمسألة العدة والجد مع الإخوة فإن القولين يشتركان في أن العدة لا تنقضي بالأشهر وحدها وأن الجد لا يحرم وكل منهما أمر واحد وهو حكم شرعي
____________________
(2/95)
____________________
(2/96)
وأما مسألة الربا فعلته القدر مع الجنس أو الطعم مع الجنس لا يشتركان في أمر واحد هو حكم شرعي ولو جعل مفهوم أحد الأمرين أو أحد الأمور أمرا واحدا فذلك ليس بأمر هو في الحقيقة واحد بل واحد اعتباري ولو كان أمرا واحدا فليس حكما شرعيا بخلاف مسألة الخارج من غير السبيلين فإن الواجب أحد الغسلين
إما الوضوء أو غسل المخرج فهما يشتركان في أمر واحد وهو حكم شرعي وهو وجوب التطهير فالتطهير واجب بالإجماع فذلك التطهير الواجب هو الوضوء عندنا وغسل المخرج عند الشافعي رحمه الله تعالى فالقول بأن لا شيء من التطهير بواجب خلاف الإجماع
أما القول بأن كل واحد واجب لا يكون مخالفا للإجماع ولو قيل الافتراق ثابت بالإجماع فشمول الوجود مخالف للإجماع فنقول الافتراق هنا ليس حكما شرعيا أي لم يحكم الشرع بأن المنافاة ثابتة بينهما حتى يلزم من عدم أحدهما وجود الآخر بخلاف ما إذا كان الافتراق حكما شرعيا كما إذا أخبرت امرأة أن زوجها الغائب مات فتزوجت وولدت فجاء الزوج الأول فعندنا يثبت نسب الولد من الزوج الأول وعند الشافعي رحمه الله تعالى من الأخير فثبوته من كليهما أو عدم الثبوت من أحدهما منتف إجماعا ففي هذه الصورة الافتراق حكم شرعي وأما الثاني فإما أن يكون الثابت عند البعض الوجود في صورة مع العدم في الأخرى وعند البعض عكس ذلك كمسألة الخروج والمس فالقول بأن كلا منهما ناقض أو ليس
____________________
(2/97)
شيء منهما ناقضا لا يكون خلاف الإجماع فإن القول بانتقاض كل منهما مخالف لقول أبي حنيفة رحمه الله تعالى في مسألة المس ولقول الشافعي رحمه الله تعالى في مسألة الخروج وليس في شيء منهما مخالفة الإجماع ولو جعل الحكمان حكما واحدا كما يقال الانتقاض في الخروج مع عدمه في المس قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعكسه قول الشافعي رحمه الله تعالى فهما لا يشتركان في أمر واحد ولو جعل أحد الافتراقين مشتركا فقد مر أنه ليس حكما شرعيا ولو قيل يشتركان في حكم شرعي وهو عدم جواز الصلاة فإن من احتجم ومس المرأة لا تجوز صلاته بالإجماع
أما عندنا فللاحتجام وأما عنده فللمس فالذي يخطر ببالي أن لا يقال إن هذه الصلاة باطلة إجماعا لأن الحكم عندنا أنها لا تجوز للاحتجام والحكم عند الشافعي رحمه الله تعالى أنها لا تجوز للمس وكل من الحكمين منفصل عن الآخر لا تعلق لأحدهما بالآخر
فيمكن أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى يكون مخطئا في الخروج مصيبا في المس والشافعي رحمه الله تعالى يكون مخطئا في المس مصيبا في الخروج إذ ليس من ضرورة كونه مخطئا في أحدهما أن يكون مخطئا في الآخر وإما أن يكون الثابت عند البعض الوجود في الصورتين وعند البعض العدم في الصورتين ويسمى هذا عدم القائل بالفصل وأما الإجماع المركب فأعم من هذا كمسألة الزوج مع الأبوين والزوجة مع الأبوين ومسألة الفسخ بالعيوب فإن الثابت شمول الوجود أو شمول العدم فيجب أن ينظر أن شمول الوجود وشمول العدم إن كانا مشتركين في حكم واحد شرعي فحينئذ يكون الافتراق إبطالا للإجماع نظيره أنه ليس للأب والجد إجبار البكر البالغة على النكاح عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لكل واحد منهما ولاية الإجبار فالقول بولاية الأب دون الجد خلاف
____________________
(2/98)
الإجماع لأن شمول الوجود وشمول العدم يشتركان في حكم شرعي وهو وجوب المساواة فإن الجد كالأب شرعا عند عدم الأب فالمساواة بينهما حكم شرعي بخلاف الزوج مع الأبوين والزوجة مع الأبوين فإن مساواة الزوج والزوجة في أن للأم ثلث الكل أو ثلث الباقي لم يعهد حكما شرعيا فكذا في العيوب الخمسة المساواة بينهما لم تعهد حكما شرعيا
وأما أن يكون الثابت عند البعض الوجود في أحدهما مع العدم في الأخرى وعند البعض الوجود في كليهما أو العدم في كليهما كجواز النفل دون الفرض في الكعبة عند الشافعي رحمه الله تعالى وجوازيهما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فجواز النفل متفق عليه فالقول بعدم جوازهما أو جواز الفرض دون النفل خلاف الإجماع وكبيع الملاقيح والبيع بشرط فإن الثاني يفيد الملك عند أبي حنيفة رحمه الله دون الأول وعند الشافعي رحمه الله تعالى كل واحد منهما لا يفيد الملك فالملاقيح متفق عليها فالقول بإفادتهما الملك أو إفادة الملاقيح لا البيع بالشرط خلاف الإجماع وهذا غاية التحقيق في هذه المسألة
وأما الثاني ففي أهلية من ينعقد به الإجماع وهي لكل مجتهد ليس فيه فسق ولا بدعة فإن الفسق فيه يورث التهمة ويسقط العدالة وصاحب البدعة يدعو الناس إليها وليس هو من الأمة على الإطلاق وسقطت العدالة بالتعصب أو السفه وكذا المجون اعلم أن البدعة لا تخلو من أحد الأمرين إما تعصب وإما سفه لأنه إن كان وافر العقل عالما بقبح ما يعتقده ومع ذلك يعاند الحق ويكابره فهو المتعصب وإن لم يكن وافر العقل كان سفيها إذ السفه خفة واضطراب يحمله على فعل مخالف للعقل لقلة التأمل وأما المجون فهو عدم المبالاة فالمفتي الماجن هو الذي يعلم الناس الحيل
وأما عامة الناس ففيما لا يحتاج إلى الرأي كنقل القرآن وأمهات الشرائع داخلون في الإجماع كالمجتهدين وفيما يحتاج لا عبرة بهم اعلم أن الإجماع على نوعين أحدهما إجماع يفيد قطعية الحكم أي سند الإجماع لا يكون موجبا للقطع بل الإجماع يفيد القطعية
والثاني إجماع لا يفيد قطعية الحكم بأن يكون سند الإجماع موجبا للقطع ثم الإجماع يفيد زيادة توكيد فنقل القرآن وأمهات الشرائع من هذا القبيل
والإجماع الأول لا ينعقد ما بقي مخالف واحد وذلك المخالف أو مخالف آخر في عهد آخر لا يكفر بالمخالفة وأما
____________________
(2/99)
الإجماع الثاني فليس كذلك فإن الحكم قطعي بدونه فليس المراد أنه لو لم يوافق جميع العوام لم ينعقد الإجماع حتى لا يكفر الجاحد بل لا يمكن لأحد من الخواص والعوام المخالفة حتى لو خالف أحد يكفر
وبعض الناس خصوا الإجماع بالصحابة لأنهم هم الأصول في أمور الدين والبعض بعترة الرسول عليه الصلاة والسلام لطهارتهم عن الرجس والبعض بأهل المدينة لقوله عليه الصلاة والسلام إن المدينة طيبة تنفي خبثها وإن الخطأ خبث
إلا أن هذه الأمور زائدة على الأهلية وما يدل على كونه حجة لا يوجب الاختصاص بشيء من هذا وعند البعض لا يشترط اتفاق الكل بل الأكثر كاف لقوله عليه السلام عليكم بالسواد الأعظم وعندنا يشترط لأن الحجة إجماع الأمة فما بقي أحد من أهله لا يكون إجماعا وربما كان اختلاف الصحابة والمخالف واحد في مقابلة الجمع الكثير والسواد الأعظم عامة المسلمين ممن هو أمة مطلقة والمراد بالأمة المطلقة أهل السنة والجماعة وهم الذين طريقتهم طريقة الرسول عليه السلام وأصحابه دون أهل البدع
وأما الثالث ففي شروطه انقراض العصر ليس شرطا عندنا وعند الشافعي رحمه
____________________
(2/100)
الله تعالى يشترط أن يموتوا على ذلك الإجماع لاحتمال رجوع بعضهم ولنا أنه تحقق الإجماع فلا يعتبر توهم رجوع البعض حتى لو رجع لا يعتبر عندنا
مسألة شرط البعض كونه في مسألة غير مجتهد فيها في زمن الصحابة فجعلوا الخلاف المتقدم مانعا من الإجماع المتأخر لأن ذلك المخالف إنما اعتبر خلافه لدليله لا لعينه ودليله باق ولأن في تصحيح هذا الإجماع تضليل بعض الصحابة والمختار عدم اشتراطه لأن المعتبر اتفاق أهل العصر وقد وجد ودليله كان دليلا لكنه لم يبق كما إذا نزل نص بعد العمل بالقياس فلا يلزم التضليل الذي ذكر
اعلم أن الضلال إما أن يكون بالنظر إلى الدليل أي لا يكون الدليل مقرونا بشرائطه وإما أن يكون بالنظر إلى الحكم لا بالنظر إلى الدليل أن يكون الدليل مقرونا بشرائطه ومع ذلك لا يكون موصلا إلى الحكم الذي هو حق عند الله فإن أراد بتضليل الصحابة المعنى الأول فلا نسلم لزومه لأن الصحابة إذا اختلفوا وأقام كل واحد منهم الدليل مقرونا بشرائطه لا يكون واحد منهم ضالا ولا مخطئا بالنظر إلى الدليل ثم إذا انعقد الإجماع بعدهم على أحد الطرفين فدليل المخالف لم يبق الآن دليلا لأنه حدث دليل أقوى وهو الإجماع لكن الإجماع لم يدل على أن الدليل لم يكن قبل ذلك مقرونا بشرائطه فلا يكون تضليلا بالنظر إلى الدليل وإن أراد المعنى الثاني فلا نسلم أن تضليل بعض الصحابة بالنظر إلى الحكم ممتنع بل تضليل كلهم بالنظر إلى الحكم ممتنع فإنه إذا وقع الاختلاف بينهم فإصابة الحق لا تعدوهم ومع ذلك لا شك أن أحدهم مخطئ نظرا إلى الحكم لأن الحق عند الله واحد عندنا
فالحاصل أنهم إن أرادوا بالتضليل التضليل بالنسبة إلى الدليل فالتضليل غير لازم لأن دليلهم كان دليلا في ذلك الزمان لكنه لم يبق دليلا في زمان حدوث الإجماع وإن أرادوا التضليل بالنسبة إلى الواقع فلا نسلم امتناعه لأن المجتهد يخطئ ويصيب فإذا وقع الخلاف في مسألة فلا شك أن أحدهما بالنسبة إلى الواقع وإلى علم الله تعالى مخطئ وضال
____________________
(2/101)
وأما الرابع ففي حكمه وهو أن يثبت الحكم يقينا حتى يكفر جاحده لقوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين فإن قيل الوعيد متعلق بالمجموع وهو المشاقة والاتباع قلنا بل بكل واحد وإلا لم يكن في ضمه إلى المشاقة فائدة أول الآية ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا أي نجعله واليا لما تولى من الضلالة
ووجه الاستدلال أنه جمع بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد ولا شك أن مشاقة الرسول وحدها تستوجب الوعيد فلولا أن الاتباع المذكور حرام لم يكن في ضمه إلى المشاقة فائدة فكان الكلام حينئذ ركيكا كما لو قال ومن يشاقق الرسول ويأكل الخبز وإذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراما ولا شك أن اتباع سبيل من السبل واجب لقوله تعالى قل هذه سبيلي الآية فيكون الواجب اتباع سبيل المؤمنين ثم سبيل المؤمنين لا يمكن أن يكون عين ما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام لأنه إذا كان كذلك فاتباع غيره يكون مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام ويكون المعطوف أي الاتباع عين المعطوف عليه وهو المشاقة
____________________
(2/102)
ولا يمكن أيضا أن يكون سبيل المؤمنين أحكاما لا يدخل فيها ما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام إذ لو كان كذلك لكان ما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام غير سبيل المؤمنين فيكون اتباعه داخلا في الوعيد فيكون سبيل المؤمنين مجموعا مركبا مما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام ومن غيره فهذا الغير يكون واجب الاتباع فإن شرط لكونه واجب الاتباع اتفاق الأمة حصل المطلوب وإن لم يشرط فمع عدم الاتفاق إذا كان واجب الاتباع فمع تحقق الاتفاق أولى أن يكون واجب الاتباع
فإن قيل إن كان سبيل المؤمنين مركبا مما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام ومن غيره فما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام يكون غير سبيل المؤمنين فاتباعه يكون داخلا في الوعيد قلنا لا يكون غير سبيل المؤمنين لأن جزء الشيء لا يصدق عليه أنه غيره كما لا يصدق عليه أنه عينه لأن من له عشرة دراهم فقط يصدق أن يقول ليس لي غير عشرة دراهم مع أنه يملك أجزاء العشرة
واعلم أن هذا الاستدلال على أن الإجماع حجة ليس بقوي لأنه يمكن أن يكون ما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام عين سبيل المؤمنين مع أنه لا يكون المعطوف عين المعطوف عليه لأن مفهوم مشاقة الرسول عليه الصلاة والسلام غير مفهوم اتباع غير سبيل المؤمنين فهذه الغيرية كافية لصحة
____________________
(2/103)
العطف كقوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول مع أن طاعة الرسول عين إطاعة الله تعالى في الوجود الخارجي لقوله تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله لكنه غيره بحسب المفهوم
وقوله تعالى كنتم خير أمة الآية والخيرية توجب الحقية فيما اجتمعوا لأنه لو لم يكن حقا كان ضلالا لقوله تعالى فماذا بعد الحق إلا الضلال ولا شك أن الأمة الضالين لا يكونون خير الأمم على أنه قد وصفهم بقوله تعالى تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر فإذا اجتمعوا على الأمر بشيء يكون ذلك الشيء معروفا وإذا نهوا عن الشيء يكون ذلك الشيء منكرا فيكون إجماعهم حجة وقوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء والوساطة العدالة ومنه قوله تعالى قال أوسطهم وكل الفضائل منحصرة في التوسط بين الإفراط والتفريط فإن رءوس الفضائل الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة فالحكمة نتيجة تكميل القوة العقلية وهي متوسطة بين الجربزة والغباوة فتوسطه أن تنتهي القوة العقلية إلى حد يمكن للعقل الوصول إليه ولا يتجاوز عن الحد الذي وجب أن يتوقف عليه ولا يتعمق فيما ليس من شأنه التعمق كالتفكر في المتشابهات والتفتيش في مسألة القضاء والقدر والشروع بمجرد العقل في المبدأ والمعاد كما هو دأب الفلاسفة
والعفة هي نتيجة تهذيب القوة الشهوانية وهي متوسطة بين الخلاعة والجمود
والشجاعة نتيجة تهذيب القوة الغضبية وهي متوسطة بين التهور والجبن وإنما يحمد فيها التوسط لأن النفس الحيوانية هي مركب للروح الإنسانية فلا بد من توسطها لئلا
____________________
(2/104)
تضعف عن السير ولا تجمح بل تنقاد للروح ثم التوسط في هذا المجموع أي الحكمة والعفة والشجاعة هي العدالة فلهذا فسر الوساطة بالعدالة فالعدالة تقتضي الرسوخ على الصراط المستقيم وتنفي الزيغ عن سواء السبيل
وقوله عليه الصلاة والسلام لا تجتمع أمتي على الضلالة وقوله عليه السلام ما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن هذه هي الأدلة المشهورة على أن الإجماع حجة فقوله تعالى ومن يشاقق الرسول فقد عرفت ما عليه
وأما غيره من الآيات فدلالته على أن اتفاق مجتهدي عصر واحد حجة ليست بقوية وما ذكر من أخبار الآحاد فبلوغ مجموعها إلى حد التواتر غير معلوم والإجماع دليل قاطع يكفر جاحده فيجب أن تكون الدلائل الدالة على أنه دليل قاطع قطعية الدلالة على هذا المدلول المطلوب فأنا أذكر ما سنح لخاطري فأقول القضايا المتفق عليها نوعان أحدهما ما اتفق عليه جميع الناس نحو العدل حسن والظلم قبيح فهذا النوع يجب أن يكون يقينيا يضاهي المتواترات والمجربات لأن الناس إذا اتفقوا على قضية فإن لم تكن ثابتة عندهم
____________________
(2/105)
فتواطؤهم على الكذب مما يحيله العقل إذ لولا ذلك يلزم القدح في المتواترات وإن كانت ثابتة عندهم فحكم العقل بها إن لم يتوقف على السمع فإن كان حكما واجبا على تقدير تصور الطرفين في نفس الأمر بديهة أو كسبا فهو المطلوب وإن كان واجبا في اعتقادهم إلا أنه خطأ فوقوع الخطأ بحيث لم يتنبه عليه أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والحكماء والعلماء وغيرهم في الأزمنة المتطاولة يوجب أن لا اعتماد على العقل أصلا وأيضا الحكم الضروري ليس معناه إلا أنه ما يقع في العقول وإن لم يكن واجبا أصلا بل وقع اتفاقا والاتفاقي لا يكثر ولولا ذلك للزم القدح في المجربات وإن توقف على السمع فإن حكم العقل بوجوب على قبوله بأن يحكم بامتناع الكذب من قائله فهو المطلوب وإن لم يحكم فاتفاق الجمهور على قبوله من غير وجوب باطل لما مر
فإن قلت لم لا يجوز أن واحدا من أهل الشوكة حكم به واتبعه متابعوه ثم بعد ذلك اتبعهم الناس كما نشاهده من الرسوم والعادات قلت كلامنا فيما يعتقده الناس أنه حسن أو قبيح عند الله فلا يرد ذلك على أن الأنبياء وأهل الحق لم يخافوا أن يعنتهم الناس على ترك الرسوم بل رفضوها وهم قد اعتقدوا ما نحن بصدده وأيضا مثل ذلك الاحتمال يرد على المتواترات الماضية ولم يقدح فيها
والثاني ما اتفق عليه المجتهدون من أمة محمد عليه الصلاة والسلام في عصر على أمر فهذا من خواص أمة محمد عليه الصلاة والسلام فإنه خاتم النبيين فلا وحي بعده وقد قال الله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم
____________________
(2/106)
ولا شك أن الأحكام التي تثبت بصريح الوحي بالنسبة إلى الحوادث الواقعة قليلة غاية القلة فلو لم يعلم أحكام تلك الحوادث من الوحي الصريح وبقيت أحكامها مهملة لا يكون الدين كاملا فلا بد من أن يكون للمجتهدين ولاية استنباط أحكامها من الوحي فإن استنبط المجتهدون في عصر حكما واتفقوا عليه يجب على أهل ذلك العصر قبوله فاتفاقهم صار بينة على ذلك الحكم فلا يجوز بعد ذلك مخالفتهم لقوله تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وقوله تعالى وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وأيضا قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة الآية
يدل على وجوب اتباع كل قوم طائفته المتفقهة فإن اتفق الطوائف على حكم لم يوجد فيه وحي صريح وأمروا أقوامهم به يجب قبوله فاتفاقهم صار بينة على الحكم فلا يجوز المخالفة بعد ذلك لما ذكرنا
وأيضا قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فأولوا الأمر إن كانوا هم المجتهدين فإذا اتفقوا على أمر لم يوجد فيه صريح الوحي يجب إطاعتهم وإن
____________________
(2/107)
كانوا هم الحكام فإن لم يكونوا مجتهدين ولم يعلموا الحكم المذكور يجب عليهم السؤال من أهل العلم والاجتهاد لقوله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون فإذا سألوهم واتفقوا على الجواب يجب القبول وإلا لم يكن في السؤال فائدة فيجب على الناس الإطاعة في ذلك العصر وكذا بعده لما مر وأيضا قوله تعالى وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم يدل على أنه لا يلقي في قلوب قوم هم العلماء المهديون خلاف الحق لكونه ضلالا لقوله تعالى فماذا بعد الحق إلا الضلال وأيضا قوله تعالى ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها يدل على أن النفس المزكاة يلهمها الله الخير لا الشر لا سيما عند الاجتماع والنفس المزكاة هي المشرفة بالعلم والعمل
وأيضا العلماء إذا قالوا أن الإجماع حجة قطعية مع اتفاقهم على أن الحكم لا يكون
____________________
(2/108)
قطعيا إلا وأن يكون الدليل الدال عليه قطعيا فإخبارهم الإجماع حجة قطعية إخبار بأن قد وصلوا إلى دليل دال على أنه حجة قطعية إذ لولا ذلك لا يكون كلامهم إلا كاذبا والقائلون بهذا القول العلماء العاملون المجتهدون الكثيرون غاية الكثرة بحيث لا يمكن تواطؤهم على الكذب وذلك الدليل لا يكون قياسا لأنه لا يفيد القطعية عندهم ولا الإجماع للدور بقي الدليل الذي هو الوحي فصار كأن كل واحد قال أنه وصل إلي من الكتاب أو السنة ما يدل على أنه حجة قطعية وإذا قالوا هذا القول كان الدليل على أنه حجة وحيا متواترا على أن الإجماع الذي ندعي أنه حجة أخص الإجماعات فإن قوما قالوا إجماع أهل المدينة حجة وقوما قالوا إجماع العترة حجة ونحن لا نكتفي بهذا بل نقول لا بد من اتفاق جميع المجتهدين حتى يدخل فيهم العترة وأهل المدينة فأدلتهم تدل على مطلوبنا والأحاديث كثيرة في هذا المطلوب كقوله عليه السلام يد الله مع الجماعة وقوله عليه السلام من خالف الجماعة قدر شبر فقد مات ميتة جاهلية وقوله عليه السلام عليكم بالسواد الأعظم فالغرض من هذا أن الأدلة الدالة على أنه حجة قد وصلت إلى العلماء بحيث توجب العلم اليقيني
ثم الإجماع على مراتب إجماع الصحابة ثم إجماع من بعدهم فيما لم يرو فيه خلاف الصحابة ثم إجماعهم فيما روي خلافهم فهذا إجماع مختلف فيه وفي مثل هذا الإجماع
____________________
(2/109)
يجوز التبديل في عصر واحد وفي عصرين والإجماع الذي ثبت ثم رجع واحد منهم إجماع مختلف فيه أيضا
وأما الخامس ففي السند والناقل يجوز أن يكون سند الإجماع خبر الواحد أو القياس عندنا وعند البعض لا بد من قطعي قلنا يكون الإجماع لغوا حينئذ وكونه حجة ليس من قبل دليل بل لعينه كرامة لهذه الأمة وأما الناقل فكما ذكرنا في نقل السنة
الركن الرابع في القياس وهو تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع بعلة متحدة لا تدرك بمجرد اللغة أي إثبات حكم مثل حكم الأصل في الفرع والمراد بالأصل المقيس عليه والفرع المقيس وقد قيل عليه إن التعدية توجب أن لا يبقى الحكم في الأصل وهذا باطل لأن التعدية في اصطلاح الفقهاء المعنى الذي ذكرنا وأيضا لا تشعر بعدم بقائه في الأصل بل تشعر ببقائه في الأصل في وضعها اللغوي ألا يرى أن تعدية الفعل هي أن لا يقتصر على التعلق بالفاعل بل يتعلق بالمفعول أيضا كما هو متعلق بالفاعل
فالمراد هنا أن لا يقتصر ذلك النوع من الحكم على الأصل بل يثبت في الفرع أيضا ولا حاجة إلى أن يقال تعدية الحكم المتحد لأن التعدية لا تمكن إلا وأن يكون الحكم متحدا من حيث النوع وإنما الاختلاف يكون باعتبار المحل
وقوله لا تدرك بمجرد اللغة احتراز عن دلالة النص وذكر هذا القيد واجب لاتفاق العلماء على الفرق بين دلالة النص والقياس
____________________
(2/110)
وبعض أصحابنا جعلوا العلة ركن القياس والتعدية حكمه فالقياس تبيين أن العلة في الأصل هذا ليثبت الحكم في الفرع
ذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن العلة ركن القياس والتعدية حكمه فالركن ما يتقوم به الشيء والحكم هو الأثر الثابت بالشيء والمراد أن الشيء الذي يتقوم به ويتحقق به القياس هو العلة أي العلم بالعلة ثم التعدية هي أثر القياس فالقياس هو تبيين أن العلة في الأصل هذا الشيء ليثبت الحكم في الفرع فإثبات الحكم في الفرع وهو التعدية نتيجة القياس والغرض منه
وإنما قلنا ليثبت الحكم في الفرع حتى لو علل بالعلة القاصرة كما هو مذهب الشافعي رحمه الله لا يكون هذا التعليل قياسا وهذا أحسن من جعل القياس تعدية وإثباتا للحكم في الفرع لأن إثبات الحكم في الفرع معلل
____________________
(2/111)
بالقياس والعلة لا بد وأن تكون خارجة عن المعلول وعلة إثبات الحكم في الفرع ليست إلا الحكم بالمساواة بين الأصل والفرع في العلة لتثبت المساواة بينهما في الحكم
وهو يفيد غلبة الظن بأن الحكم هذا إلا أنه مثبت له ابتداء أي القياس يفيد غلبة ظننا بأن حكم الله في صورة الفرع هذا فما ذكرنا من إثبات الحكم فالمراد به هذا المعنى لا أن القياس مثبت للحكم ابتداء لأن مثبت الحكم هو الله تعالى وهذا ما قالوا إن القياس مظهر للحكم لا مثبت
____________________
(2/112)
وأصحاب الظواهر نفوه فبعضهم على أن لا عبرة للعقل أصلا وبعضهم على أن لا
____________________
(2/113)
عبرة له في الشرعيات لهم قوله تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ولما كان الكتاب تبيانا لكل شيء يكون كل الأحكام مستفادة من الكتاب والقياس إنما يكون حجة فيما لا يوجد في الكتاب
وقوله تعالى ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين إن كان المراد بالكتاب اللوح المحفوظ فلا تمسك لهم حينئذ وإن كان المراد القرآن فالتمسك به كما
____________________
(2/114)
ذكرنا في قوله تعالى تبيانا لكل شيء
وقوله عليه السلام فقاسوا ما لم يكن بما قد كان فضلوا وأضلوا لفظ الحديث هكذا لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى كثرت فيهم أولاد السبايا فقاسوا إلخ
ولأن العمل بالأصل ممكن وقد دعينا إليه قال الله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما أي دعينا إلى العمل بالأصل وهو الإباحة والبراءة الأصلية وإنما دعينا إليه بقوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا الآية وكل ما لا يوجد في كتاب الله تعالى محرما لا يكون محرما بل يكون باقيا على الإباحة الأصلية
ولأن الحكم حق الشارع وهو قادر على البيان القطعي فلم يجز إثباته بما فيه شبهة وهو تصرف الضمير يرجع إلى الإثبات أي إثبات الحكم المذكور
في حقه تعالى ولأنه طاعة الله تعالى أي الحكم الشرعي طاعة الله والمراد بالحكم هنا المحكوم به
ولا مدخل للعقل في دركها كالمقدرات مثل أعداد الركعات وسائر المقادير الشرعية التي لا مدخل للعقل في دركها
بخلاف أمر الحرب وقيم المتلفات ونحوهما فإن العمل بالأصل لا يمكن هنا وهي من حقوق العباد وهي تدرك بالحس أو العقل فقوله بخلاف أمر الحرب جواب عن سؤال مقدر هو أن هذه الأشياء يصح فيها القياس والعمل بالرأي اتفاقا فصح ثبوت بعض الأحكام بالقياس فأجاب بالفرق المذكور
وكذا أمر القبلة أي يدرك بالحس أو العقل أو بالسفر أو بمحاذاة الكواكب ونحوهما والاعتبار محمول على الاتعاظ بالقرون الخالية اعلم أن النص
____________________
(2/115)
التمسك به للقائسين هو قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار والمراد بالاعتبار الاتعاظ بالقرون الخالية يدل عليه سياق الآية
وقوله تعالى وشاورهم في الأمر محمول على الحرب أي إن تمسك بها أحد على صحة العمل بالرأي في الأحكام الشرعية نقول إنه محمول على أمر الحرب
ولنا قوله تعالى فاعتبروا الآية فإن الاعتبار رد الشيء إلى نظيره والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب واللفظ عام يشمل الاتعاظ وكل ما هو رد الشيء إلى نظيره أي الحكم على الشيء بما هو ثابت لنظيره واشتقاقه من العبور والتركيب يدل على التجاوز والتعدي
فيدل على الاتعاظ عبارة وعلى القياس إشارة لأن الاتعاظ يكون ثابتا بطريق المنطوق مع أن سياق الكلام له والقياس يكون ثابتا بطريق المنطوق من غير أن يكون سياق الكلام له
سلمنا أن الاعتبار هو الاتعاظ لكن يثبت القياس دلالة أي ما ذكرنا أنه يدل على القياس إشارة كان على تقدير أن المراد بالاعتبار رد الشيء إلى نظيره فالآن نسلم أن المراد بالاعتبار الاتعاظ ومع ذلك يدل على القياس بطريق دلالة النص التي تسمى فحوى الخطاب
وطريقها أي طريق دلالة النص في هذه أن الصورة في النص ذكره الله تعالى هلاك قوم بناء على سبب وهو اغترارهم بالقوة والشوكة ثم أمر بالاعتبار ليكف عن مثل ذلك السبب لئلا يترتب عليه مثل ذلك الجزاء
____________________
(2/116)
فالحاصل أن العلم بالعلة يوجب العلم بحكمه فكذا في الأحكام الشرعية من غير تفاوت وهذا المعنى يفهم منه من غير اجتهاد فيكون دلالة نص لا قياسا حتى لا يكون إثبات القياس بالقياس قال الله تعالى في سورة الحشر هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار فعلى تقدير أن يكون المراد بالاعتبار الاتعاظ معناه اجتنبوا عن مثل هذا السبب لأنكم إن أتيتم بمثله يترتب على فعلكم مثل ذلك الجزاء فلما أدخل فاء التعليل على قوله فاعتبروا جعل القصة المذكورة علة لوجوب الاتعاظ
وإنما تكون علة لوجوب الاتعاظ باعتبار قضية كلية وهي أن كل من علم بوجود السبب يجب الحكم عليه بوجود المسبب حتى لو لم تقدر هذه القضية الكلية لا يصدق التعليل لأن التعليل إنما يكون صادقا إذا كان الحكم الكلي صادقا فيكون حينئذ هذا الحكم الجزئي صادقا فإذا ثبتت القضية الكلية ثبت وجوب القياس في الأحكام الشرعية وهذا المعنى يفهم من لفظ الفاء وهي للتعليل فيكون مفهوما بطريق اللغة فيكون دلالة نصا لا قياسا فلا يلزم الدور وهو إثبات القياس بالقياس ودلالة النص مقبولة اتفاقا
وإنما الخلاف في القياس الذي يعرف فيه العلة استنباطا واجتهادا ونظيره أي نظير القياس وإنما أورد هذا النظير هنا لأنه لما ذكر أن القياس في الأحكام الشرعية اعتبار حسب الاعتبار في الأمور التي يتعظ بها أراد أن يبين كيفية الاعتبار في القياس وكيفية استنباط العلة
قوله عليه الصلاة
____________________
(2/117)
والسلام الحنطة بالحنطة بالنصب أي بيعوا الحنطة ولما كان الأمر للإيجاب والبيع مباح يصرف إلى قوله مثلا بمثل أي يصرف الإيجاب إلى قوله مثلا بمثل كما في قوله تعالى فرهان مقبوضة يصرف الإيجاب إلى القبض حتى يصير القبض شرطا للرهن
فتكون هذه الحالة شرطا والمراد بالمثل القدر لأنه روي أيضا كيلا بكيل ثم قال عليه الصلاة والسلام والفضل ربا أي الفضل على القدر بأنه فضل خال عن عوض فحكم النص وجوب المساواة ثم الحرمة بناء على فوتها والداعي إلى هذا الحكم القدر والجنس إذ بهما يثبت المساواة صورة ومعنى فإذا وجدنا هذه العلة في سائر المكيلات والموزونات اعتبرناها بالحنطة وأيضا حديث معاذ رضي الله عنه عطف على قوله فاعتبروا وحديثه أن النبي عليه الصلاة والسلام لما بعث معاذا إلى اليمن قال له بم تقضي قال بما في كتاب
____________________
(2/118)
الله
قال فإن لم تجد في كتاب الله تعالى قال أقضي بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن لم تجد ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أجتهد برأيي
قال عليه السلام الحمد لله الذي وفق رسول رسوله بما يرضى به رسوله
وقد روينا ما هو قياس عنه عليه الصلاة والسلام في آخر ركن السنة وهو قوله عليه السلام أرأيت لو كان على أبيك دين الحديث وحديث قبلة الصائم
وعمل الصحابة ومناظرتهم فيه أي في القياس أشهر من أن يخفى ثم شرع في جواب الدلائل المذكورة على نفي القياس فقال ويكون الكتاب تبيانا بمعناه لأن التبيان يتعلق بالمعنى والبيان باللفظ ولما كان الثابت بالقياس ثابتا بمعنى النص يكون النص دالا على حكم المقيس بطريق التبيان
وأما قوله تعالى
____________________
(2/119)
ولا رطب ولا يابس الآية
فكل شيء يكون في كتاب الله بعضه لفظا وبعضه معنى فالحكم في المقيس عليه يكون موجودا في الكتاب لفظا والحكم في المقيس يكون موجودا فيه معنى
وفي ذلك تعظيم شأن الكتاب والعمل لفظا ومعنى أي في العمل بالقياس تعظيم شأن الكتاب واعتبار نظمه في المقيس عليه واعتبار معناه في المقيس
وأما منكرو القياس فإنهم عملوا بنظم الكتاب فقط وأعرضوا عن اعتبار فحواه وإخراج الدرر المكنونة من بحار معناه وجهلوا أن للقرآن ظهرا وبطنا وأن لكل حد مطلعا وقد وفق الله تعالى العلماء الراسخين العارفين دقائق التأويل لكشف قناع الأستار عن جمال معاني التنزيل وإنكاره عليه الصلاة والسلام لقياس بني إسرائيل بناء على جهلهم وتعصبهم لا يقدح في قياسنا والعمل بالأصل أي في الاستصحاب عمل بلا دليل لأن وجود الشيء أي عدمه في زمان لا يدل على بقائه فإن الممكنات توجد بعد العدم وتعدم بعد الوجود
و قل لا أجد ليس أمرا به أي بالعمل بالأصل بل العمل بالنص أي بل هو أمر بالعمل بالنص وهو خلق لكم ما في الأرض جميعا فكل ما لم يوجد حرمته فيما أوحي إلى النبي عليه الصلاة والسلام يكون حلالا بقوله خلق لكم الآية ونحن نقول أيضا بأنه لا يجوز لنا أن نحرم شيئا مما في الأرض بطريق
____________________
(2/120)
القياس فإنه قياس في مقابلة النص
والظن كاف للعمل جواب عن قوله فلم يجز إثباته بما فيه شبهة وهو تصرف في حقه تعالى بإذنه ولا يعمل به أي بالقياس فيما لا يدرك بالعقل وهو جواب عن قوله ولا مدخل للعقل في دركها
فصل في شرطه أي شرط القياس
اعلم أن للقياس أربعة شرائط أولها أن لا يكون حكم الأصل أي المقيس عليه مخصوصا به أي بالأصل بنص آخر كشهادة خزيمة والأحكام المخصوصة بالنبي عليه الصلاة والسلام كتحليل تسع زوجات وأن لا يكون أي حكم الأصل معدولا عن القياس هذا هو الشرط الثاني وهو إما بأن لا يدركه العقل كأعداد الركعات أو يكون مستثنى عن سننه كأكل الناسي فإنه ينافي ركن الصوم أي العدول عن القياس بأحد الأمرين إما بأن لا يدرك العقل حكم الأصل أي لا يدرك علته وحكمته كأعداد الركعات أو يكون حكم الأصل مستثنى عن سنن القياس أي على طريقته المسلوكة وقاعدته المستمرة كأكل الناسي فإنه مستثنى عن سنن القياس وهو تحقق الفطر من كل ما دخل في الجوف وإذا كان مستثنى عن سننه لا يصح القياس عليه فلا يصح قياس الأكل خطأ على الأكل ناسيا وكتقوم المنافع في الإجارة فإنه مستثنى عن سنن القياس لأنه أي التقوم يعتمد الإحراز والإحراز يعتمد البقاء ولا بقاء للأعراض
وإن منع استحالة بقاء الأعراض فمثل هذه الأعراض أي المنافع لا شك في استحالة بقائها فالقياس يقتضي عدم تقوم كل ما لا يبقى فإذا كان تقومها مستثنى عن سنن القياس لا يقاس تقوم المنافع في الغصب على تقومها في الإجارة
وأن يكون المعدى حكما شرعيا هذا هو الشرط الثالث وهو واحد مقيد بقيود كثيرة وهي هذه ثابتا بأحد الأصول الثلاثة أي الكتاب والسنة والإجماع من غير تغيير إلى فرع متعلق بالمعدى هو نظيره أي الفرع يكون نظيرا للأصل في الحكم ولا نص فيه أي في
____________________
(2/121)
الفرع والمراد نص دال على الحكم المعدى أو عدمه لا مطلق النص فلا تثبت اللغة بالقياس هذا تفريع قوله حكما شرعيا وإنما لا تثبت اللغة بالقياس لما بينا في الحقيقة والمجاز أن في الوضع قد لا يراعى المعنى كوضع الفرس والإبل ونحوهما وقد يراعى المعنى كما في القارورة والخمر لكن رعاية المعنى إنما هي للوضع لا لصحة الإطلاق حتى لا تطلق القارورة على الدن لقرار الماء فيه فرعاية المعنى لأولوية وضع هذا اللفظ لهذا المعنى من بين سائر الألفاظ
كالخمر وضع لشراب مخصوص بمعنى وهو المخامرة فلا يطلق على سائر الأشربة لأنه إن أطلق مجازا فلا نزاع فيه لكن لا يحمل عليه مع إرادة الحقيقة وإن أطلق حقيقة فلا بد من وضع العرب وكذا الزنا على اللواطة ولا يقال الذمي أهل
____________________
(2/122)
للطلاق فيكون أهلا للظهار كالمسلم هذا تفريع قوله من غير تغيير لأن الحكم في الأصل وهو المسلم حرمة تنتهي بالكفارة وفي الذمي حرمة لا تنتهي بها لعدم صحة الكفارة عنه لعدم أهليته لها
وكذا تعليل الربا بالطعم فإنه يوجب في العدديات حرمة مطلقة وهي في الأصل مقيدة بعدم التساوي حتى لو روعي التساوي لا تبقى الحرمة في الأصل وهو الحنطة والشعير والتمر والملح ولا يمكن رعاية التساوي في العدديات لأن التساوي في الأصل إنما هو بالكيل والعدديات ليست بمكيلة والتساوي بالعدد غير معتبر شرعا
ولا يصح قياس الخطأ على النسيان في عدم الإفطار هذا تفريع قوله إلى فرع هو نظيره
لأنه ليس نظيره لأن عذره دون عذر النسيان ولا يصح إن كان في الفرع نص هذا بيان تفريع قوله ولا نص فيه
لأنه إن كان موافقا للنص فلا حاجة إليه وإن كان مخالفا له يبطل والضمائر في قوله إن كان وفي قوله فلا حاجة إليه وفي قوله يبطل ترجع إلى القياس وأن لا يغير أي القياس حكم النص هذا هو الشرط الرابع فلا يصح شرطية التمليك في طعام الكفارة قياسا على الكسوة لأنها تغير حكم قوله تعالى فكفارته إطعام عشرة مساكين وكذا شرط الإيمان في كفارة اليمين قياسا على كفارة القتل يخالف إطلاق النص وكذا السلم الحال قياسا على المؤجل يخالف قوله عليه الصلاة والسلام إلى أجل معلوم وأيضا لم يعده أي الشافعي
____________________
(2/123)
رحمه الله تعالى كما هو في الأصل فهذا بيان أن في قياس جواز السلم الحال على المؤجل فسادين أحدهما أنه مغير للنص
والثاني أن الحكم لم يعد كما هو في المقيس عليه بل عدي بنوع تغيير وقد بينا في الشرط الثالث بطلان هذا إذ في الأصل جعل الأجل خلفا عن وجود المعقود عليه ليمكن تحصيله فيه وهنا أسقط فإن قيل أنتم غيرتم أيضا قوله عليه الصلاة والسلام لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء فإنه يعم القليل والكثير فخصصتم القليل من هذا النص العام فجوزتم بيع القليل بالقليل مع عدم التساوي بالتعليل بالقدر أي قلتم إن علة الربا هي القدر والجنس والقدر أي الكيل غير موجود في بيع الحفنة بالحفنتين فلا يجري فيه الربا فهذا التعليل مغير للنص
____________________
(2/124)
وكذا في دفع القيم في الزكاة أي غيرتم النص وهو قوله عليه الصلاة والسلام في خمس من الإبل السائمة شاة وغيره مما يدل على دفع عين ذلك الشيء دون القيمة وفي
____________________
(2/125)
صرفها إلى صنف واحد أي غيرتم النص الدال على صرفها إلى جميع الأصناف وهو قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية بالتعليل بالحاجة أي قلتم إن العلة وجوب دفع الحاجة عن الفقير وهذا المعنى موجود في دفع القيم بل أكمل لأن الدراهم والدنانير خلقتا لتحصيل جميع الأشياء التي تمس بها الحاجة إلى دفع عين الواجب تندفع الحاجة الواحدة وربما لا يحتاج الفقير إلى ذلك الشيء بل يحتاج إلى غيره وقد قلتم عد الأصناف لبيان مواقع الحاجة والعلة هي دفع الحاجة فيجوز الصرف إلى صنف واحد توجد فيه الحاجة فالتعليل بالحاجة في الصورتين مغير لحكم النص
وفي جواز غير لفظ تكبيرة الافتتاح أي غيرتم النص وهو قوله تعالى وربك فكبر بالتعليل بأن المراد تعظيم الله تعالى فيجوز بأي لفظ كان نحو الله أجل ونحوه وفي إزالة الخبث بغير الماء أي غيرتم النص وهو قوله عليه الصلاة والسلام الماء طهور وقوله عليه الصلاة والسلام حتيه واقرصيه ثم اغسليه بالماء
قلنا المراد التسوية بالكيل وهي لا تتصور إلا في الكثير لأن المراد التسوية الشرعية في قوله عليه الصلاة والسلام إلا سواء بسواء والتسوية المعتبرة شرعا في المطعومات التسوية بالكيل وهي لا تتصور إلا في الكثير فلا نسلم أنه يعم القليل والكثير كما يقال لا تقتل حيوانا إلا بالسكين فإن معناه لا تقتل حيوانا من شأنه أن يقتل بالسكين إلا بالسكين فقتل حيوان لا يقتل بالسكين كالقملة والبرغوث لا يدخل تحت النهي
وإنما كان تغييرا إذا كان الأصل واجبا لعينه وليس كذلك فإن الصدقة حلت مع وسخها ضرورة دفع الحاجة وهي مختلفة فلا بد من جواز دفع القيم أي إنما كان التعليل في
____________________
(2/126)
دفع القيم تغييرا للنص إذا كان الأصل وهو الشاة مثلا واجبا للفقير لعينه وليس كذلك فإن الزكاة عبادة محضة لا حق للعباد فيها وإنما هي حق الله تعالى لكن سقط حقه في صورة ذلك الواجب بإذنه بدلالة النص لأنه تعالى وعد أرزاق الفقراء بقوله إلا على الله رزقها ثم أوجب على الأغنياء مالا مسمى ثم أمر بأداء تلك المواعيد وهي الأرزاق المختلفة من ذلك المسمى ولا يمكن ذلك الأداء إلا بالاستبدال فيكون متضمنا للأمر بالاستبدال كالسلطان يعد مواعيد مختلفة ثم يأمر بعض وكلائه بأدائها من مال معين عنده يكون إذنا بالاستبدال
فكذا هاهنا مثبت هناك حكمان جواز الاستبدال وصلاحية عين الشاة
____________________
(2/127)
لأن تكون مصروفة إلى الفقير فالحكم الأول يثبت بدلالة النص
وأما الحكم الثاني المستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام في خمس من الإبل السائمة شاة فقد عللناه بالحاجة فإن الصدقة مع وسخها حلت لهذه الأمة لأجل الحاجة بعد أن لم تكن في الأمم الماضية فإذا كانت عين الشاة صالحة للصرف إلى الفقير للحاجة تكون قيمتها صالحة أيضا بهذه العلة فالتعليل وقع في هذا الحكم وليس فيه تغيير النص بل يكون التغيير في الحكم الأول وهو ثابت بالنص لا بالتعليل فيكون تغيير النص بالنص مجتمعا مع التعليل في حكم آخر ليس فيه تغيير النص وهذا معنى قول فخر الإسلام رحمه الله فصار التغيير مجامعا للتعليل بالنص لا بالتعليل وقد قال أيضا فصار صلاح الصرف إلى الفقير بعد الوقوع لله بابتداء اليد ليصير مصروفا إلى الفقير بدوام يده حكما شرعيا في الشاة فعللناه بالتقويم وعديناه إلى سائر الأموال معناه أن الصدقة تقع لله تعالى بابتداء يد الفقير
قال عليه الصلاة والسلام الصدقة تقع في كف الرحمن قبل أن تقع في كف الفقير
ففي حال ابتداء يد الفقير تقع لله تعالى وفي حال بقاء يد الفقير تصير للفقير فقوله صلاح الصرف أي صلاح المحل وهو عين الشاة مثلا للصرف إلى الفقير وقوله ليصير مصروفا علة غائية للصلاح أي صلاحية الشاة للصرف إلى الفقير ليصير مصروفا إليه بدوام يده فقوله إلى الفقير يتعلق بالصرف وبابتداء اليد يتعلق بالوقوع وليصير يتعلق بالصلاح وبدوام يده يتعلق
____________________
(2/128)
بقوله مصروفا وقوله حكما شرعيا خبر صار فهذا الحكم هو الحكم الثاني المذكور وفي قوله إن الصدقة واقعة في الابتداء لله وفي البقاء مصروف إلى الفقير بيان أن الصدقة ليست في الابتداء حق الفقير حتى يلزم تغيير حقه من غير إذنه وهذه المسألة مع هذه العبارة من مشكلات كتب أصحابنا في الأصول
وذكر الأصناف لعد المصارف فإن قوله تعالى إنما الصدقات الآية ذكروا أن
____________________
(2/129)
اللام للعاقبة لا للتمليك وإنما يلزم تغيير النص لو كان اللام للتملك فيلزم حينئذ دفع ملك شخص إلى شخص آخر وإنما قلنا إن اللام ليست للتمليك لأن الصدقات والفقراء لا يمكن أن يراد بهما الجميع لما عرفت أن حرف التعريف إذا دخل على الجميع تبطل الجمعية ويراد به الجنس
وأيضا في هذا الموضع لو أريد الجمع لكان المراد جمعا مستغرقا فمعناه أن جميع الصدقات لجميع الفقراء والمساكين وهذا غير مراد إجماعا إذ ليس في وسع أحد أن يوزع جميع الصدقات على جميع الفقراء بحيث لا يحرم واحد على أنه إن أريد هذا يبطل مذهب الشافعي رحمه الله تعالى وإذا لم يكن الجمع مرادا كان المراد الجنس فيراد أن جنس الصدقة لجنس الفقير والمسكين من غير أن يراد الإفراد فتكون اللام للعاقبة لا للتمليك الذي يوجب التوزيع على الأفراد فيكون لعد المصارف
والتكبير لتعظيم الله تعالى فأداء القيمة وذكر لفظ آخر يكونان في معنى المنصوص اعلم أن بعض العلماء فرقوا بين الكبرياء
____________________
(2/130)
والعظمة فإنه جاء عن الأحاديث الإلهية الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فالكبرياء صفة هي لله تعالى بمنزلة الرداء للإنسان والعظمة بمنزلة الإزار فالأول أدل على الظهور والثاني على البطون فلا يكون الله أعظم وأجل بمعنى أكبر لكنا نقول قوله تعالى وربك فكبر لا يراد به قل الله أكبر لأنه لو قيل وربك قل الله أكبر لا يفيد معنى فمعناه وربك فعظم أي قل أو افعل ما فيه تعظيم الله والفرق الذي ذكروا بين الكبرياء والعظمة لا يفيد لأنه ليس في وسع العبد إثبات ذلك المعنى بل في وسعه ذكر الله بالتعظيم والإجلال وإثبات المعنى المشترك بين التكبير والتعظيم والإجلال على أنه ليس لبعض صفات الله تعالى مزية على البعض لا سيما إذا كانت من جنس واحد فإذا كان المقصود التعظيم فكل لفظ فيه التعظيم يكون في معنى الله أكبر
وقوله فأداء القيمة راجع إلى مسألة دفع القيم وإنما ذكره هاهنا لأن فيه وفي مسألة التكبير معنى مشتركا وهو كونهما في معنى المنصوص فلذلك جمعهما في سلك واحد
واستعمال الماء لإزالة النجاسة فيجوز بكل ما يصلح لها اعلم أنه إن أورد الإشكال على قوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا وقوله عليه السلام الماء طهور فغير وارد لأنه لا يدل على أن غير الماء ليس بطهور وإن أورد
____________________
(2/131)
على قوله عليه الصلاة والسلام حتيه واقرصيه ثم اغسليه بالماء فوارد
والجواب أن استعمال الماء ليس مقصودا بالذات لأن من ألقى الثوب النجس أو قطع موضع النجاسة بالمقراض سقط عنه استعمال الماء ولو كان استعماله مقصودا بالذات لم يسقط بدون العذر لكن الواجب إزالة العين النجسة
وإنما لا يزول الحدث بسائر المائعات لكونه غير معقول في الأصل وهو الماء بخلاف الخبث فإن إزالته معقولة ولا يضر أن يلزمها أمر غير معقول دفعا للحرج وهو أن لا يتنجس كل ما يصل إليه ولأن الماء مطهر طبعا فيزول به كلاهما وغيره كالخل مثلا قالع يزول به الخبث لا الحدث فإن قيل لما كان إزالة الحدث غير معقولة وجبت النية كالتيمم قلنا يأتي الجواب في فصل المناقضة
فصل العلة قيل المعرف ويشكل بالعلامة اختلفوا في تعريف العلة فقال البعض هي
____________________
(2/132)
المعرف أي ما يكون دالا على وجود الحكم وقالوا العلل الشرعية كلها معرفات لأنها ليست في الحقيقة بمؤثرة بل المؤثر هو الله تعالى قلنا تدخل العلامة في تعريف العلة ولا يبقى الفرق بينهما لكن الفرق ثابت لأن الأحكام بالنسبة إلينا مضافة إلى العلل كالملك إلى الشراء والقصاص إلى القتل وليست الأحكام مضافة إلى العلامات كالرجم إلى الإحصان فلا بد من الفرق بين العلة والعلامة
وقيل المؤثر وهي في الحقيقة ليست بمؤثرة اعلم أن البعض عرفوا العلة بالمؤثر والمراد بالمؤثر ما به وجود الشيء كالشمس للضوء والنار للإحراق والبعض أبطلوا تعريف العلة بالمؤثر بأنها في الحقيقة ليست بمؤثرة بل العلل الشرعية كلها معرفات لأن الحكم قديم فلا يؤثر فيه الحادث
والجواب عن هذا أنا قد ذكرنا أن الحكم المصطلح هو أثر حكم الله القديم فإن إيجاب الله قديم والوجوب حادث فالمراد من المؤثر في الحكم ليس أنه مؤثر في الإيجاب القديم بل في الوجوب الحادث بمعنى أن الله تعالى رتب بالإيجاب القديم الوجوب على أمر حادث كالدلوك مثلا فالمراد بكونه مؤثرا أن الله تعالى حكم بوجوب ذلك الأثر بذلك الأمر كالقصاص بالقتل والإحراق بالنار ولا فرق في هذا بين العلل العقلية والشرعية فكل من جعل العلل العقلية مؤثرة بذواتها يجعل العلل الشرعية كذلك وهم المعتزلة فكما أن النار علة للاحتراق عندهم بالذات بلا خلق الله تعالى الاحتراق فإن القتل العمد بغير حق علة لوجوب القصاص أيضا عقلا
وكل من جعل العلة العقلية مؤثرة بمعنى أنه جرت العادة الإلهية بخلق الأثر عقيب ذلك الشيء فيخلق الاحتراق عقيب مماسة النار لا أنها مؤثرة بذاتها بجعل العلل الشرعية كذلك بأنه تعالى حكم أنه كلما وجد ذلك الشيء يوجد عقيبه الوجوب حسب وجود الاحتراق عقيب مماسة النار فإن المتولدات بخلق الله تعالى عند أهل السنة والجماعة على ما عرف في علم الكلام
إلا أن يقال بالنسبة إلينا فإن الأحكام تضاف إلى الأسباب في حقنا فإنا مبتلون بنسبة الأحكام إلى الأسباب الظاهرة فيجب القصاص بالقتل وإن كان في الحقيقة المقتول ميت بأجله ففي ظاهر الشرع الأحكام مضافة إلى الأسباب فهذا معنى كونها مؤثرة
____________________
(2/133)
وقيل الباعث لا على سبيل الإيجاب بعض الناس عرفوا العلة بالباعث يعني ما يكون باعثا للشارع على شرع الحكم كما في قولك جئتك لإكرامك الإكرام باعث على المجيء والقتل العمد باعث للشارع على شرع القصاص صيانة للنفوس وقوله لا على سبيل الإيجاب احتراز عن مذهب المعتزلة فإن العلة توجب على الله تعالى شرع الحكم عندهم على ما عرف أن الأصلح للعباد واجب على الله تعالى عندهم أي المشتمل على حكمة مقصودة للشارع في شرعه الحكم هذا تفسير الباعث لا على سبيل الإيجاب فإن المراد من الحكمة المصلحة والمراد من كونه مشتملا على الحكمة أن ترتب الحكم على هذه العلة محصل للحكمة فإن العلة لوجوب القصاص القتل العمد العدوان ولا يتصور اشتماله على الحكمة إلا بهذا المعنى من جلب نفع أي إلى العباد أو دفع ضر أي عن العباد
وهذا مبني على أن أفعال الله تعالى معللة بمصالح العباد عندنا مع أن الأصلح لا يكون واجبا عليه خلافا
____________________
(2/134)
للمعتزلة وما أبعد عن الحق قول من قال إنها غير معللة بها فإن بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لاهتداء الخلق وإظهار المعجزات لتصديقهم فمن أنكر التعليل فقد أنكر النبوة وقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله وأمثال ذلك كثيرة في القرآن ودالة على ما قلنا وأيضا لو لم يفعل لغرض أصلا يلزم العبث
ودليلهم أنه إن فعل لغرض فإن لم يكن حصول ذلك الغرض أولى به من عدمه امتنع منه فعله وإن كان أولى به كان مستكملا به فيكون ناقصا في ذاته وقد قيل عليه إنه إنما يكون مستكملا به لو كان الغرض راجعا إليه وهنا راجع إلى العبد وأجابوا عن ذلك أن تحصيل مصلحة العبد وعدمه إن استويا بالنسبة إليه لا يكون غرضا وداعيا له إلى الفعل لأنه حينئذ يلزم الترجيح من غير مرجح وإن لم يستويا بالنسبة إليه يكون فعله أولى فيلزم الاستكمال أقول هذا الجواب غير مرضي لأنا لا نسلم أنه إن استويا بالنسبة إليه لا يكون غرضا وداعيا ولا نسلم أن الترجيح من غير مرجح
لم لا يجوز أن تكون الأولوية بالنسبة إلى العباد مرجحا
وكون العلة هكذا تسمى مناسبة أي كونها بحيث تجلب النفع إلى العباد وتدفع الضرر عنهم يسمى مناسبة والوصف المناسب ما يجلب نفعا أو يدفع ضررا وقد قال القاضي الإمام أبو زيد الوصف المناسب ما لو عرض
____________________
(2/135)
على العقول تلقته بالقبول وقد ذكروا أن المناسب إما حقيقي وإما إقناعي فالحقيقي إما لمصلحة دينية كرياضة النفس وتهذيب الأخلاق فالوصف المناسب كالدلوك وشهود الشهر والحكم وجوب الصلاة والصوم
والحكمة رياضة النفس وقهرها أو دنيوية وهي إما ضرورية وهي خمسة حفظ النفس والمال والنسب والدين والعقل فهذه الخمسة هي الحكمة والمصلحة في شرعية القصاص والضمان وحد الزنا والجهاد وحرمة المسكرات والوصف المناسب هو القتل العمد العدوان والسرقة والغصب مثلا والزنا وحربية الكافر والإسكار وإما محتاج إليها كما في تزويج الصغيرة فالوصف المناسب هو الصغر والحكم شرعية التزويج والحكمة والمصلحة كون المولية تحت الكفء وهذه المصلحة ليست ضرورية لكنها في محل الحاجة لأنه يمكن أن يفوت الكفء لا إلى بدل
وإما أن لا تكون ضرورية ولا محتاجا إليها بل للتحسين كحرمة القاذورات فإنها حرمت لنجاستها وعلو منصب الآدمي فلا يحسن تناولها والإقناعي ما يتوهم أنه مناسب ثم إذا تؤمل يظهر خلافه كنجاسة الخمر لبطلان بيعها فمن حيث إنها نجسة تناسب الإدلال والبيع يقتضي الإعزاز لكن معنى النجاسة كونها مانعة من صحة الصلاة وهذا لا يناسب بطلان البيع
____________________
(2/136)
والحكمة المجردة لا تعتبر في كل فرد لخفائها وعدم انضباطها بل في الجنس فيضاف الحكم إلى وصف ظاهر منضبط يدور معها أي يدور الوصف مع الحكمة
أو يغلب وجودها أي وجود الحكمة عنده أي عند الوصف والمراد أن ترتب الحكم على الوصف يكون محصلا للحكمة دائما وفي الأغلب كالسفر مع المشقة أي ليس المراد أن المشقة هي الحكمة بل الحكمة هي دفع الضرر ودفع الضرر إنما يتحقق في صورة وجود الضرر ووجود الضرر لا يتحقق إلا أن تكون المشقة موجودة ثم المشقة غالبة الوجود في السفر فترتب الحكم وهو الرخصة على الوصف وهو السفر يكون محصلا للحكمة التي هي دفع الضرر في الأغلب
وهنا أبحاث الأول الأصل في النصوص عدم التعليل عند البعض إلا بدليل كما قال عليه الصلاة والسلام الهرة ليست بنجسة لأنها من الطوافين والطوافات عليكم فتعليله عليه الصلاة والسلام دل على أن هذا النص معلل وأن عدم نجاستها معلل بالطواف لأن النص موجب بصيغته لا بالعلة ولأن التعليل بكل الأوصاف محال وبالبعض محتمل وعند البعض هي معللة بكل وصف إلا لمانع لأن كل وصف صالح لهذا أي للتعليل
والنص مظهر للحكم والعلة داعية جواب عن قوله أن النص موجب للحكم بصيغته إلا بالعلة أي نعم أن النص موجب للحكم بمعنى أنه مظهر للحكم بصيغته لا أنه داع بل الداعي إلى الحكم هو العلة
والتعليل لإثبات الحكم في الفرع جواب آخر عن قوله أن النص موجب بصيغته أي نعم أن النص موجب للحكم بصيغته في الأصل لا في الفرع بل في الفرع موجب للحكم بسبب العلة ونحن إنما نعلل لإثبات الحكم في الفرع لا في الأصل
وعند الشافعي رحمه الله تعالى معللة لكن لا بد من دليل مميز لأن بعض الأوصاف متعد وبعضها قاصر فلو علل بكل وصف يلزم التعدية وعدمها وعندنا لا بد مع ذلك أي مع ما قاله الشافعي رحمه الله تعالى من الدليل على أن النص معلل في الجملة لاحتمال أن يكون من النصوص الغير المعللة نظيره في حديث الربا أن قوله عليه الصلاة والسلام يدا بيد يوجب التعيين
وذلك من باب الربا أيضا لأنه لما شرط تعيين أحد البدلين احترازا عن بيع الدين بالدين فإنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الكالئ بالكالئ شرط تعيين الآخر احترازا عن شبهة الفضل
____________________
(2/137)
فإن للنقد مزية على النسيئة
وقد وجدنا هذا الحكم متعديا حتى لا يجوز بيع الحنطة بعينها بشعير بغير عينه إجماعا وشرط الشافعي رحمه الله تعالى التقابض في بيع الطعام بالطعام فإذا وجدناه معللا في ربا النسيئة نعلله في ربا الفضل أيضا لأنه أثبت منه لأن الربا هو الفضل الخالي من العوض وهو موجود حقيقة في ربا الفضل كبيع قفيز من الحنطة بقفيزين منها
أما الربا في النسيئة وهو بيع الحنطة بعينها بشعير بغير عينه نسيئة فشبهة الفضل قائمة لا حقيقة الفضل هذا ما قالوا
واعلم أن اشتراط هذا الشرط وهو كون هذا النص معللا في الجملة في غاية الصعوبة لأن التعليل إن توقف على تعليل آخر فالتعليل الموقوف عليه إن توقف على تعليل آخر يلزم التسلسل وإن لم يتوقف يثبت أن بعض التعليلات لم يتوقف على هذا ويمكن أن يجاب عن هذا بأنا لما شرطنا في العلة التأثير وهو أن يثبت بالنص أو الإجماع اعتبار الشارع جنس هذا الوصف أو نوعه في جنس هذا الحكم أو نوعه لا يثبت التأثير إلا وأن يثبت كون هذا النص من النصوص المعللة لأنه كلما ثبت اعتبار الشارع جنس هذا الوصف أو نوعه في جنس هذا الحكم أو نوعه ثبت أن هذا النص من النصوص المعللة
الثاني يجوز أن تكون العلة وصفا لازما كالثمنية للزكاة في المضروب عندنا فإن الذهب والفضة خلقا ثمنا وهذا الوصف لا ينفك عنهما أصلا حتى تجب الزكاة في الحلي وللربا عنده وعارضا كالكيل للربا فإن الكيل ليس بلازم حسا للحنطة والشعير فإنهما قد يباعان وزنا وجليا وخفيا على ما يأتي واسما أي اسم جنس كقوله عليه الصلاة والسلام في المستحاضة أنه دم عرق انفجر وهذا اسم مع وصف عارض الدم اسم جنس والانفجار وصف عارض وحكما كقوله عليه الصلاة والسلام أرأيت لو كان على أبيك دين قاس النبي
____________________
(2/138)
عليه الصلاة والسلام إجزاء قضاء الحج عن الأب على إجزاء قضاء دين العباد عن الأب والعلة كونهما دينا وهو حكم شرعي لأن الدين لزوم حق في الذمة
وكقولنا في المدبر أنه مملوك تعلق عتقه بمطلق موت المولى فلا يباع كأم الولد فيه قياس عدم جواز بيع المدبر على عدم جواز بيع أم الولد والعلة كونهما مملوكين تعلق عتقهما بمطلق موت المولى وهذا حكم شرعي وإنما قال بمطلق موت المولى احترازا عن المدبر المقيد كقوله إن مت في هذا المرض فأنت حر ومركبا كالكيل والجنس وغير مركب وهذا ظاهر ومنصوصة وغير منصوصة كما يأتي
مسألة ولا يجوز التعليل بالعلة القاصرة عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يجوز فإنه جعل علة الربا في الذهب والفضة الثمنية فهي مقتصرة على الذهب والفضة غير متعدية عنهما إذ غير الحجرين لم يخلق ثمنا
والخلاف فيما إذا كانت العلة مستنبطة أما إذا كانت منصوصة فيجوز عليتها اتفاقا لأن الحكم في الأصل ثابت بالنص سواء كان معقول المعنى أو لا
____________________
(2/139)
وإنما يجوز التعليل للاعتبار إذ ليس للعبد بيان علية أحكام الله تعالى وما قالوا أن فائدة التعليل لا تنحصر في هذا أي في الاعتبار
وفائدته أن يصير الحكم أقرب إلى القبول ليس بشيء إذ الفائدة الفقهية ليست إلا إثبات الحكم فإن قيل التعدية موقوفة على التعليل فتوقفه عليها دور
قلنا يتوقف على علمه بأن الوصف حاصل في الغير أي التعليل لا يتوقف على التعدية بل يتوقف التعليل على العلم بأن هذا الوصف حاصل في غير مورد النص
واعلم أن كثيرا من العلماء قد تحيروا في هذه المسألة واستبعدوا مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيها توهما منهم أن الحق أن يتفكروا أولا في استنباط العلة أن العلة في الأصل ما هي فإذا حصل غلبة الظن بالعلة فإن كانت متعدية من الأصل أي حاصلة في غير صورة الأصل يتعدى
____________________
(2/140)
الحكم وإلا فلا بل يقتصر الحكم على مورد النص أو مورد الإجماع فيقتصر الحكم
أما توقف التعليل على التعدية أو على العلم بأن العلة حاصلة في غير الأصل فلا معنى له فأقول هذه المسألة مبنية على اشتراط التأثير عند أبي حنيفة رحمه الله وعلى الاكتفاء بالإخالة عند الشافعي رحمه الله ومعنى التأثير اعتبر الشارع جنس الوصف أو نوعه في جنس الحكم أو نوعه فإن كان الوصف مقتصرا على مورد النص غير حاصل في صورة أخرى لا يحصل غلبة الظن بالعلة أصلا لأن نوع العلة أو جنسها لما لم يوجد في صورة أخرى لا يدرى أن الشارع اعتبره أو لم يعتبره
وعند الشافعي رحمه الله لما كان مجرد الإخالة كافيا يحصل الوقوف على العلة مع الاقتصار على مورد النص فحاصله الخلاف أنه إذا كان الوصف مقتصرا على مورد النص أو الإجماع يمتنع الوقوف بطريق الاستنباط على كونه علة عندنا خلافا له فهذا الذي ذكرنا من مبنى الخلاف أفاد عدم صحة التعليل بالوصف القاصر عندنا وصحته عنده وثمرة الخلاف أنه إذا وجد في مورد النص وصفان قاصر ومتعد وغلب
____________________
(2/141)
على ظن المجتهد أن القاصر علة هل يمنع التعليل بالمتعدي أم لا فعنده يمنع وعندنا لا فإنه لا اعتبار لغلبة الظن بعلية الوصف القاصر فإنها مجرد وهم لا غلبة ظن فلا تعارض غلبة الظن بغلبة الوصف المتعدي المؤثر
كما أن توهم أن لخصوصية الأصل تأثيرا في الحكم فهذا المعنى لا يمنع التعليل بالوصف المتعدي المؤثر فكذا هاهنا إلا إذا كان الوصف القاصر يثبت عليته بالنص كقوله عليه الصلاة والسلام حرمت الخمر لعينها فحينئذ يثبت عليته ويكون مانعا من علية وصف آخر فإن قيل تعليلكم بالثمنية للزكاة في المضروب تعليل بالوصف القاصر قلنا لا بل متعد إلى الحلي فإن قيل تعديته إلى الحلي لا تدل على كونه وصفا مؤثرا وقد جعلتم هذه المسألة مبنية على التأثير
قلنا معنى قولنا أن الثمنية علة للزكاة في المضروب هو أن كون الذهب والفضة خلقا ثمنين دليل على أنهما غير مصروفين إلى الحاجة الأصلية بل هما من أموال التجارة خلقة فيكونان من المال النامي وتأثير المال النامي في وجوب الزكاة عرف شرعا فمعنى كون الثمنية علة للزكاة أن الثمنية من جزئيات كون المال ناميا فتكون علة مؤثرة باعتبار أن الشارع اعتبر جنسه في حكم وجوب الزكاة فالعلة في الحقيقة النماء لا الثمنية
____________________
(2/142)
مسألة ولا يجوز التعليل بعلة اختلف في وجودها في الفرع أو في الأصل كقوله في الأخ أنه شخص يصح التكفير بإعتاقه فلا يعتق إذا ملكه كابن العم فإنه إن أراد عتقه إذا ملكه لا يفيده لأن هذا الوصف غير موجود في ابن العم وإن أراد إعتاقه بعدما ملكه فلا نسلم ذلك في الأخ وكقوله إن تزوجت زينب فكذا تعليق فلا يصح بلا نكاح
كما لو قال زينب التي أتزوجها طالق لأنا نمنع وجود التعلق في الأصل أو ثبت الحكم في الأصل بالإجماع مع الاختلاف في العلة كقوله في قتل الحر بالعبد إنه عبد فلا يقتل بالحر كالمكاتب أي مكاتب قتل وله مال يفي ببدل الكتاب وله وارث غير سيده فنقول العلة في الأصل جهالة المستحق لا كونه عبدا
مسألة ولا يجوز التعليل بوصف يقع به الفرق كقوله مكاتب فلا يصح التكفير بإعتاقه كما إذا أدى بعض البدل فنقول أداء بعض البدل عوض مانع
الثالث تعرف العلة
____________________
(2/143)
بأمور أولها النص إما صريحا كقوله تعالى كي لا يكون دولة يقال صار الفيء دولة بينهم يتداولونه بأن يكون مرة لهذا ومرة لذلك وقوله تعالى لدلوك الشمس وقوله تعالى فبما رحمة من الله وغيرها من ألفاظ التعليل أو إيماء بأن يترتب الحكم على الوصف بالفاء في أيهما كان نحو قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وقوله عليه الصلاة والسلام لا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا والحق أن هذا صريح لأن الفاء في مثل هذه الصورة للتعليل فصار كاللام فمعناه لأنه يحشر وكذا في لفظ الراوي نحو زنى ماعز فرجم أو يترتب الحكم
____________________
(2/144)
على المشتق نحو أكرم العالم أو يقع جوابا نحو واقعت امرأتي في نهار رمضان فقال أعتق رقبة أو يكون بحيث لو لم يكن علة لم يفد نحو إنها من الطوافين والحق أن هذا صريح إذ كلمة إن إذا وقعت بين الجملتين تكون لتعليل الأولى بالثانية كقوله تعالى وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ونظائره كثيرة فإما أن تكون إن في مثل هذا الكلام للتعليل أو يكون تقديره لأن والحذف غير الإيماء ونحو أرأيت لو كان على أبيك دين الحديث أو يفرق في الحكم بين شيئين بحسب وصف مع ذكرهما نحو للفارس سهمان
____________________
(2/145)
وللراجل سهم فإنه فرق في هذا الحكم بين الفارس والراجل بحسب وصف الفروسية وضدها فقوله مع ذكرهما إما أن يرجع الضمير إلى الحكمين باعتبار أنه ذكر الفرق بين الشيئين في الحكم ففهم الحكمان فيرجع الضمير إليهما أو يرجع الضمير إلى الشيئين أو ذكر أحدهما أي أحد الحكمين أو أحد الشيئين نحو القاتل لا يرث فإن تخصيص القاتل بالمنع من الإرث مع سابقة الإرث يشعر بأن علة المنع القتل أو يفرق بينهما بطريق الاستثناء نحو إلا أن يعفون قال الله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون والعفو يكون علة لسقوط المفروض أو بطريق الغاية نحو حتى يطهرن أو بطريق الشرط نحو مثلا بمثل فإن اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم فاختلاف الجنس يكون علة لجواز البيع
____________________
(2/146)
واعلم أن في هذه المواضع إن سلم العلية إنما قال إن سلم العلية لأن العلية في بعض هذه المواضع غير مسلمة نحو واقعت امرأتي لأنه وإن نسب الحكم إلى المواقعة لكن يمكن أن تكون العلة شيئا يشمل علية المواقعة كهتك حرمة الصوم مثلا لكن بعد تلك العلل لا يمكن بها القياس أصلا نحو السارق والسارقة لأن السرقة إن كانت علة فكلما وجدت يثبت الحكم القطعي نصا لا قياسا وكذا في زنى ماعز ونحوه فاستخرجه وأيضا النص يدل على ترتب الحكم على تلك القضية في واقعت امرأتي ونحوها لا على كونها مناطا فإنه يمكن أن يكون هتك حرمة الصوم وأيضا الغاية والاستثناء لا يدلان على العلية وثانيها الإجماع كإجماعهم على أن الصغر علة لثبوت الولاية عليه في المال
وثالثها
____________________
(2/147)
المناسبة وشرطها الملاءمة وهي أن تكون على وفق العلل الشرعية وأظن أن المراد منه أن الشرع اعتبر جنس هذا الوصف في جنس هذا الحكم ويكفي الجنس البعيد هنا بعد أن يكون أخص من كونه متضمنا لمصلحة فإن هذا مرسل لا يقبل اتفاقا وكلمة هذا إشارة إلى كونه متضمنا لمصلحة لكن كلما كان الجنس أقرب كان القياس أقوى الاستدراك يتعلق بقوله ويكفي الجنس البعيد هنا والملائم كالصغر فإنه علة لثبوت الولاية عليه لما فيه من العجز وهذا يوافق تعليل الرسول عليه الصلاة والسلام لطهارة سؤر الهرة بالطواف لما فيه من
____________________
(2/148)
الضرورة فإن العلة في أحد الصورتين العجز وفي الأخرى الطواف فالعلتان وإن اختلفتا لكنهما مندرجتان تحت جنس واحد وهو الضرورة والحكم في إحدى الصورتين الولاية وفي الأخرى الطهارة وهما مختلفان لكنهما مندرجان تحت جنس واحد وهو الحكم الذي يندفع به الضرورة فالحاصل أن الشرع اعتبر الضرورة في إثبات حكم يندفع به الضرورة أي اعتبر الضرورة في حق الرخص
____________________
(2/149)
وكما يقال قليل النبيذ يحرم كقليل الخمر والعلة أن قليله يدعو إلى كثيره والشرع اعتبر جنس هذا في الخلوة مع الجماع وكذا حمل حد الشرب على حد القذف فإن الشرع اعتبر إقامة السبب الداعي مقام المدعو إليه في الخلوة مع الجماع فإن فيه إقامة الداعي مقام المدعو إليه وقد قال علي كرم الله وجهه في حد الشرب إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وحد المفترين ثمانون وإذا وجدت الملاءمة يصح العمل ولا يجب عندنا بل يجب إذا كانت مؤثرة فالملاءمة كأهلية الشهادة والتأثير كالعدالة وعند بعض الشافعية
____________________
(2/150)
يجب العمل بالملائم بشرط شهادة الأصل وهي أن يكون للحكم أصل معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه وعند البعض بمجرد كونه مخيلا أي يقع في الخاطر أن هذا الوصف علة لذلك الحكم وهذا يسمى بالمصالح المرسلة أي الأوصاف التي تعرف عليتها بمجرد كونه مخيلا تسمى بالمصالح المرسلة
____________________
(2/151)
وتقبل عند الغزالي رحمه الله تعالى أي المصالح المرسلة فاعلم أن الوصف المرسل نوعان نوع لا يقبل اتفاقا وهو الذي اعتبر الشرع جنسه الأبعد وهو كونه متضمنا لمصلحة في إثبات الحكم ونوع يقبل عند الغزالي وهو أن الشرع اعتبر جنسه البعيد الذي هو أقرب من ذلك الجنس الأبعد إذا كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية كتترس الكفار بأسارى المسلمين فإنه لم يوجد اعتبار الشارع الجنس القريب لهذا الوصف في الجنس القريب لهذا الحكم إذ لم يعهد في الشرع إباحة قتل المسلم بغير حق
____________________
(2/152)
لكن وجد اعتبار الضرورة في الرخص في استباحة المحرمات
واعلم أنه قيد المصلحة بكونها ضرورية قطعية كلية كما لو تترس الكفار بجمع من المسلمين ونعلم أنا لو تركناهم استولوا على المسلمين وقتلوهم ولو رمينا الترس يخلص أكثر المسلمين فتكون المصلحة ضرورية لأن صيانة الدين وصيانة نفوس عامة المسلمين داعية إلى جواز الرمي إلى الترس وتكون قطعية لأن حصول المصلحة وهي صيانة الدين ونفوس عامة المسلمين برمي الترس تكون قطعية لا ظنية كحصول المصلحة في رخص السفر فإن السفر مظنة المشقة وتكون كلية لأن استخلاص عامة المسلمين مصلحة كلية فخرج بقيد الضرورة ما لو تترس الكافرون في قلعة بمسلم لا يحل رمي الترس وبالقطعية ما لم نعلم تسلطهم إن تركنا رمي الترس وبالكلية ما إذا لم تكن المصلحة كلية كما إذا كانت جماعة في سفينة وثقلت السفينة فإن طرحنا البعض في البحر نجا الباقون لا يجوز طرحهم لأن المصلحة غير كلية لأنه على تقدير ترك الطرح لا تهلك إلا جماعة مخصوصة وفي التترس لو تركنا الرمي لقتلوا كافة المسلمين مع الأسارى والتأثير عندنا أن يثبت بنص أو إجماع اعتبار نوعه أو جنسه في نوعه أو جنسه أي نوع
____________________
(2/153)
الوصف أو جنسه في نوع الحكم أو جنسه والمراد بالجنس هنا الجنس القريب كالسكر في الحرمة هذا نظير اعتبار النوع في النوع وكقوله عليه الصلاة والسلام أرأيت لو تمضمضت الحديث هذا نظير اعتبار الجنس في النوع فإن للجنس وهو عدم دخول شيء اعتبارا في عدم فساد الصوم وكقياس الولاية على الثيب الصغيرة وعلى البكر الصغيرة بالصغر هذا نظير اعتبار النوع في الجنس ولنوعه اعتبار في جنس الولاية لثبوتها في المال على الثيب الصغيرة
____________________
(2/154)
وكطهارة سؤر الهرة نظير اعتبار الجنس في الجنس فإن لجنس الضرورة اعتبارا في جنس التخفيف وقد يتركب بعض الأربعة مع بعض فاستخرجه كالصغر مثلا فإن لنوعه اعتبارا في جنس الولاية ولجنسه اعتبارا في جنسها فإن جنسه العجز والولاية ثابتة على العاجز كالمجنون مثلا وقس عليه البواقي والمركب ينقسم بالتقسيم العقلي أحد عشر قسما واحد منها مركب من الأربعة وأربعة منها مركبة من ثلاثة وستة مركبة من اثنين ولا شك أن المركب من أربعة أقوى الجميع ثم المركب من ثلاثة ثم المركب من اثنين ثم ما لا يكون مركبا قد سمى البعض أول الأربعة غريبا والثلاثة ملائمة ثم لا يخلو من أن يكون له أصل
____________________
(2/155)
معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه ويسمى شهادة الأصل وهي أعم من أولى الأربعة مطلقا أي شهادة الأصل أعم من اعتبار نوع الوصف في نوع الحكم ومن اعتبار جنس الوصف في نوع الحكم لأنه كلما وجد اعتبار نوع
____________________
(2/156)
الوصف أو جنسه في نوع الحكم فقد وجد للحكم أصل معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه لكن لا يلزم أنه كلما وجد له أصل معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه فقد وجد اعتبار نوع الوصف أو جنسه في نوع الحكم وبينها وبين أخيري الأربعة عموم وخصوص من وجه أي قد يوجد شهادة الأصل بدون واحد من أخيري الأربعة وقد يوجد واحد من أخيري الأربعة بدون شهادة الأصل وقد يوجدان معا
____________________
(2/157)
فالتعليل بهما بدون الشهادة حجة ويسمى عند البعض تعليلا لا قياسا وعند البعض هو قياس أيضا وإذا وجد شهادة الأصل بدون التأثير لا يكون حجة عندنا ويسمى غريبا أيضا اعلم أن التعليل بأولى الأربعة لا يكون إلا مع شهادة الأصل لما قلنا إنها أعم فيكون التعليل بكل منهما قياسا اتفاقا والتعليل بأخيري الأربعة إذا وجد مع شهادة الأصل يكون قياسا اتفاقا وإذا وجد بدون شهادة الأصل فعند البعض قياس وعند البعض لا ويسمى تعليلا لكنه مقبول اتفاقا وإنما الخلاف في تسميته قياسا وشهادة الأصل قد توجد بدون الأولين لأنها أعم من كل منهما مطلقا وقد توجد بدون أخيري الأربعة لأنها أعم من كل منهما من وجه فإذا وجدت بدون التأثير لا يقبل عندنا ويسمى غريبا أي يسمى الوصف الذي يوجد في صورة يوجد فيها نوع الحكم من غير تأثير غريبا فالغريب نوعان أحدهما مقبول وهو الوصف
____________________
(2/158)
الذي اعتبر نوعه في نوع الحكم والثاني مردود وهو الوصف الذي يوجد جنسه أو نوعه في نوع ذلك الحكم لكن لا نعلم أن الشارع اعتبر هذا الوصف أو لا وإنما اعتبرنا التأثير لأنه أي القياس أمر شرعي فيعتبر فيه أي في القياس اعتبار الشارع وهو أن يكون القياس بوصف اعتبره الشارع أو اعتبر جنسه ولأن العلل المنقولة ليست إلا مؤثرة كقوله عليه الصلاة والسلام إنها من الطوافين والطوافات عليكم وقوله في المستحاضة إنه دم عرق انفجر ولانفجار الدم من العرق وهو النجاسة تأثير في وجوب الطهارة وفي عدم كونه حيضا وفي كونه مرضا لازما فيكون له تأثير في التخفيف وقوله عليه
____________________
(2/159)
الصلاة والسلام أرأيت لو تمضمضت بماء الحديث وغيرها من أقيسة الرسول عليه السلام والصحابة رضي الله تعالى عنهم وعلى هذا قلنا مسح الرأس مسح فلا يسن تثليثه كمسح الخف لأن كونه مسحا مؤثر في التخفيف حتى لم يستوعب محله وأما قوله ركن فيسن تثليثه
____________________
(2/160)
كما في سائر الأركان فغير معقول وكذا جعلنا الصغر علة للولاية بخلاف البكارة وأيضا قلنا صوم رمضان متعين فلا يجب التعيين وقد ظهر تأثيره أي تأثير المتعين في عدم التعيين في الودائع والمغصوب فإن رد الوديعة والمغصوب واجب عليه ولا يجب عليه رد وغير هذا ولما كان هذا الرد متعينا لا يجب عليه تعيينه بأن يقول هذا الرد هو رد الوديعة فإن ردها مطلقا يصرف إلى الواجب عليه وهو رد الوديعة وفي النقل فإنه إذا نوى في غير رمضان صوما مطلقا ينصرف إلى النقل لتعينه ففي رمضان ينصرف إلى صوم رمضان لتعينه فإن فرض رمضان فيه كالنقل في غيره وبعض العلماء احتجوا بالتقسيم فيه أي على العلية في القياس وهو أن يقول العلة إما هذا أو هذا أو هذا والأخيران باطلان فتعين الأول فإن لم يكن حاصرا لا يقبل وإن كان
____________________
(2/161)
حاصرا بأن يثبت عدم علية الغير أي غير هذه الأشياء التي ردد فيها بالإجماع مثلا إنما قال مثلا لأنه يمكن أن يثبت عدم علية الغير بالنص بعدما ثبت تعليل هذا النص يقبل كإجماعهم على أن علة الولاية إما الصغر أو البكارة فهذا إجماع على نفي ما عداهما وبتنقيح المناط وهو أن يبين عدم علية الفارق ليثبت علية المشترك الفارق هو الوصف الذي يوجد في الأصل دون الفرع والمشترك هو الوصف الذي يوجد فيهما وعلماؤنا رحمهم الله لم يتعرضوا لهذين فإنه على تقدير قبولهما يكون مرجعهما إلى النص أو الإجماع أو المناسبة
____________________
(2/162)
وبالدوران وهو باطل عندنا ففسره بعضهم بأنه وجود الحكم في كل صور وجود الوصف وزاد بعضهم العدم عند العدم وشرط بعضهم قياس النص في الحالين أي في حال وجود الوصف وعدمه ولا حكم له نظيره أن المرء إذا قام إلى الصلاة وهو متوضئ لا يجب عليه الوضوء وإذا قعد وهو محدث يجب فعلم أن الوجوب دائر مع الحدث فإنا قد وجدنا وجوب الوضوء دائرا مع الحدث وجودا وعدما والنص موجود في الحالين أي حال وجود الحدث وحال عدمه ولا حكم له لأن النص يوجب أنه كلما وجد القيام إلى الصلاة وجب الوضوء وكلما لم يوجد لم يجب أما عند القائلين بالمفهوم فظاهر وأما عندنا فلأن
____________________
(2/163)
الأصل هو العدم على ما مر في مفهوم المخالفة وموجب النص غير ثابت في الحالين أما حال عدم الحدث فإن ظاهر النص يوجب أنه إذا وجد القيام مع عدم الحدث يجب الوضوء وهذا غير ثابت وأما حال وجود الحدث فلأنه ينبغي أنه إذا لم يقم إلى الصلاة مع وجود الحدث لا يجب الوضوء أما عند القائلين بالمفهوم فلأن هذا الحكم هو مدلول النص وأما عندنا فلأن عدم وجوب الوضوء وإن كان بناء على العدم الأصلي لكن جعل هذا الحكم حكم النص مجازا فعلم بهذا علية الحدث إذ لولا ذلك لما تخلف الحكم عن النص أصلا قوله عليه الصلاة والسلام لا يقضي القاضي وهو غضبان فإنه يحل القضاء وهو غضبان عند فراغ القلب ولا يحل عند شغله بغير الغضب لهم أن علل الشرع أمارات فلا
____________________
(2/164)
حاجة إلى معنى يعقل قلنا نعم في حقه تعالى أما في حق العباد فإنهم مبتلون بنسبة الأحكام إلى العلل كنسبة الملك إلى البيع والقصاص إلى القتل فإنه يجب القصاص مع أن المقتول ميت بأجله فلا بد من التمييز بين العلل والشروط والوجود عند الوجود لا يدل على العلية لأنه قد يقع اتفاقا وقد يقع في العلامة ولا يشترط لها أيضا أي لا يشترط الوجود عند الوجود للعلية لأن التخلف لمانع لا يقدح فيها ثم العلة عين ذلك الوصف عند القائلين بتخصيصها وذلك الوصف مع عدم المانع عند من لا يقول به اعلم أن تخلف الحكم عن العلة لمانع لا يقدح في العلية أما عند القائلين بتخصيص العلة فلأن الشيء يمكن أن يكون علة والحكم تخلف عنه لمانع وهذا التخلف لا يقدح في العلية وأما عند من لا يقول بتخصيص العلة
____________________
(2/165)
فإن العلة مجموع ذلك الوصف مع عدم المانع فالوصف يكون جزءا للعلة فمعنى قولنا إن التخلف لمانع لا يقدح فيها أن التخلف لمانع لا يقدح في كون الوصف جزءا للعلة ولا يشترط العدم عند العدم لأنه قد يوجد بعلة أخرى وقيام النص في الحالين ولا حكم له أمر لا يوجد إلا نادرا فكيف يجعل أصلا في باب القياس وأيضا هو غير مسلم في آية الوضوء لأنه ثبت الحدث بالنص لأن ذكره في الخلف ذكر في الأصل ولأن المعنى إذا قمتم من مضاجعكم والنوم دليل الحدث ولما كان الماء مطهرا دل على قيام النجاسة فاكتفى فيه أي في الماء يعني في إيجاب الوضوء بدلالة النص أي على وجود الحدث واختار في التيمم التصريح أي بوجود الحدث وهو قوله تعالى أو جاء أحد منكم
____________________
(2/166)
من الغائط إلى قوله فتيمموا وأيضا فيه إيماء أي في النص إشارة إلى أن الوضوء عند عدم الحدث سنة لكونه ائتمارا لظاهر الأمر وعند الحدث واجب بخلاف الغسل فإنه ليس بسنة لكل صلاة وهذا وجه آخر لترك التصريح بالحدث في الوضوء والتصريح به في التيمم والغضب لا يوجد بدون شغل القلب ولا يحل القضاء إلا بعد سكونه هذا منع لقوله فإنه يحل القضاء وهو غضبان عند فراغ القلب فما ذكر أن النص قائم في الحالين ولا حكم له ممنوع أما حال وجود الوصف فإنه لا يحل القضاء إلا بعد سكون النفس عن الغضب كما ذكر في المتن وأما حال عدم الوصف وهو غير مذكور في المتن فعندنا لا دلالة للنص على عدم الحكم عند عدم الوصف وكذا عند من يقول بالمفهوم لأن من شرائط مفهوم المخالفة أن لا يثبت التساوي بين المنطوق والمسكوت وقد ذكرتم أن القضاء لا يحل عند شغل القلب بغير الغضب فيثبت التساوي بين المنطوق والمسكوت فلم يوجد شرط صحة مفهوم المخالفة فلا يكون النص حينئذ دالا على عدم الحكم عند عدم الوصف فبطل قوله إن النص قائم في الحالين ولا حكم له
فصل لا يجوز التعليل لإثبات العلة كإحداث تصرف موجب للملك أي لا يجوز
____________________
(2/167)
بالقياس إحداث تصرف يكون علة لثبوت الملك وقولنا الجنس بانفراده يحرم النساء بالنص وهو نهي عن الربا والريبة جواب إشكال وهو أنكم أثبتم بالقياس شيئا هو علة لحرمة النساء وهو الجنس بانفراده أي بدون الكيل والوزن فأجاب بأن هذا النص وهو قول الراوي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الربا والريبة والريبة الشك والمراد بالريبة هنا شبهة الربا وشبهة الربا ثابتة فيما إذا كان الجنس بانفراده موجودا أو قد باع نسيئة لأن للنقد مزية على النسيئة وكون الأكل والشرب موجبا للكفارة بدلالة النص وكذا القصاص في القتل بالمثقل عندهما أي ثابت بدلالة النص لا بالقياس المستنبط فلا يرد حينئذ إشكال وصفتها بالجر أي لا يجوز التعليل لإثبات صفة العلة كإثبات السوم في الأنعام ولإثبات الشرط أو صفته كالشهود في النكاح هذا نظير إثبات الشرط وككونهم رجالا أو مختلطة نظير إثبات صفة الشرط ولإثبات
____________________
(2/168)
الحكم أو صفته كصوم بعض اليوم نظير إثبات الحكم وكصفة الوتر نظير إثبات صفة الحكم لأن فيه نصب الشرع بالرأي فلا يجوز ابتداء أما إذا كان له أصل فيصح كاشتراط التقابض في بيع الطعام بالطعام أي عند الشافعي رحمه الله فإن له أي لاشتراط التقابض عند الشافعي رحمه الله أصلا وهو الصرف ولجوازه بدونه أصلا أي لجواز البيع بدون التقابض عندنا أصلا وهو بيع سائر السلع فالحاصل أن اشتراط التقابض عند الشافعي رحمه الله وإن كان إثبات الشرط فإنه يوجد له أصل وهو بيع الصرف وعدم اشتراطه عندنا كذلك يوجد له أصل وهو بيع سائر السلع
____________________
(2/169)
فالتعليل لا يصح إلا للتعدية هذا ما قالوا إنما قلت هذا لأني نقلت هذا الفصل عن أصول الإمام فخر الإسلام رحمه الله ولم أدر ما مراده فإن أراد أن القياس لا يجري في هذه الأشياء أصلا فهذا لا يصح وقد قال في آخر الباب وإنما أنكرنا هذه الجملة إذا لم يوجد له في الشريعة أصل يصح تعليله وأما إذا وجد له فلا بأس به وإن أراد أنه لا يصح التعليل في هذه الأمور إلا إذا كان لها أصل فلا معنى لتخصيص هذه الأمور بهذا الحكم ولا فائدة في تفصيلها بل يكفيه أن يقول لا يصح القياس إلا إذا كان له أصل وهذا المعنى معلوم من تعريف القياس فإنه تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع بعلة متحدة والحق إثبات العلة أنه إن ثبت أن عليتها لمعنى آخر يصلح للتعليل فكل شيء يوجد فيه ذلك المعنى يحكم بعليته لكن لا يكون هذا إثبات العلة بالقياس لأن العلة في الحقيقة ذلك المعنى وإن لم يثبت ذلك فلا لأنه يكون تعليلا بالمرسل وهذا هو المختلف فيه
____________________
(2/170)
فصل القياس جلي وخفي فالخفي يسمى بالاستحسان لكنه أعم من القياس الخفي فإن كل قياس خفي استحسان وليس كل استحسان قياسا خفيا لأن الاستحسان قد يطلق على غير القياس الخفي أيضا كما ذكر في المتن لكن الغالب في كتب أصحابنا أنه إذا ذكر الاستحسان أريد به القياس الخفي وهو دليل يقابل القياس الجلي الذي يسبق إليه الأفهام هذا تفسير الاستحسان وبعض الناس تحيروا في تعريفه وتعريفه الصحيح هذا وهو أنه دليل يقع في مقابلة القياس الجلي
وقوله الذي يسبق إليه الأفهام تفسير للقياس الجلي وهو حجة عندنا لأن ثبوته بالدلائل التي هي حجة إجماعا ضمير وهو راجع إلى الاستحسان وقد أنكر بعض الناس العمل بالاستحسان جهلا منهم فإن أنكروا هذه التسمية فلا مشاحة في الاصطلاحات وإن أنكروه من حيث المعنى فباطل أيضا لأنا نعني به دليلا من الأدلة المتفق
____________________
(2/171)
عليها يقع في مقابلة القياس الجلي ويعمل به إذا كان أقوى من القياس الجلي فلا معنى لإنكاره لأنه إما بالأثر كالسلم والإجارة وبقاء الصوم في النسيان وإما بالإجماع كالاستصناع وإما بالضرورة كطهارة الحياض والآبار وإما بالقياس الخفي وذكروا له أي للقياس الخفي قسمين الأول ما قوي أثره أي تأثيره والثاني ما ظهر صحته وخفي فساده أي إذا نظرنا إليه بادئ النظر نرى صحته ثم إذا تأملنا حق التأمل علمنا أنه فاسد
____________________
(2/172)
وللقياس أي للقياس الجلي قسمان ما ضعف أثره وما ظهر فساده وخفي صحته فأول ذلك راجح على أول هذا أي القسم الأول من الاستحسان وهو ما قوي أثره راجح على القسم الأول من القياس الجلي وهو ما ضعف أثره واعلم أنا إذا ذكرنا القياس نريد به القياس الجلي وإذا ذكرنا الاستحسان نريد به القياس الخفي فلا تنس هذا الاصطلاح لأن المعتبر هو الأثر لا الظهور وثاني هذا على ثاني ذلك أي القسم الثاني من القياس وهو ما ظهر فساده وخفي صحته راجح على القسم الثاني من الاستحسان وهو ما ظهر صحته وخفي فساده فالأول وهو أن يقع القسم الأول من الاستحسان في مقابلة القسم الأول من القياس كسؤر سباع الطير فإنه نجس قياسا على سؤر سباع البهائم طاهر استحسانا لأنها تشرب بمنقارها وهو عظم طاهر
والثاني وهو أن يقع القسم الثاني من الاستحسان في مقابلة القسم الثاني من القياس كسجدة التلاوة تؤدى بالركوع قياما لأنه تعالى جعل الركوع مقام السجدة
____________________
(2/173)
في قوله وخر راكعا استحسانا لأن الشرع أمر بالسجود فلا تؤدى بالركوع كسجود الصلاة فعملنا بالصحة الباطنة في القياس وهي أن السجود غير مقصود هنا وإنما الغرض ما يصلح تواضعا مخالفة للمتكبرين
واعلم أنهم جعلوا في هذه المسألة كون السجود يؤدى بالركوع حكما ثابتا بالقياس وعدمه حكما ثابتا بالاستحسان ولا أدري خصوصية الأول بالقياس والثاني بالاستحسان فلهذا أوردت مثالا آخر وهو قوله وكما إذا اختلفا في ذراع المسلم فيه ففي القياس يتحالفان لأنهما اختلفا في المستحق بعقد السلم فيوجب التحالف وفي الاستحسان لا لأنهما ما اختلفا في أصل المبيع بل في وصفه وذا لا يوجب التحالف لكن عملنا بالصحة الباطنة للقياس وهي أن الاختلاف في الوصف هنا يوجب الاختلاف في الأصل اعلم أنه إذا اختلف المتعاقدان في ذراع المسلم فيه ففي القياس يتحالفان وفي الاستحسان لا وذلك لأنهما اختلفا في المستحق بعقد السلم فيوجب التحالف كما في المبيع
____________________
(2/174)
فهذا قياس جلي يسبق إليه الأفهام ثم إذا نظرنا علمنا أنهما ما اختلفا في أصل المبيع بل في وصفه لأنهما اختلفا في الذراع والذراع وصف لأن زيادة الذراع توجب جودة في الثوب بخلاف الكيل والوزن وإذا كان الذراع وصفا والاختلاف في الوصف لا يوجب التحالف فهذا المعنى أخفى من الأول فيكون هذا استحسانا والأول قياسا هذا ما ذكروه
واعلم أنه لا دليل على انحصار القياس والاستحسان في هذين القسمين وعلى انحصار التعارض بينهما في هذين الوجهين فلهذا أوردت الأقسام الممكنة عقلا وقلت وبالتقسيم العقلي ينقسم كل إلى ضعيف الأثر وقويه وعند التعارض لا يرجع الاستحسان إلا في صورة واحدة وهي أن يكون القياس ضعيف الأثر والاستحسان قوي الأثر أما في الصور الثلاث الأخر فالقياس راجح على الاستحسان أما إذا كان القياس قوي الأثر والاستحسان ضعيف الأثر فواضح وأما إذا كانا قويين فالقياس يرجح لظهوره وأما إذا كانا ضعيفين فإما أن يسقط أو يعمل بالقياس لظهوره فلهذا أوردت الحكم المتيقن وهو أن الاستحسان لا يرجح على القياس في هذه الصور الثلاث ويرجح في صورة واحدة وإلى
____________________
(2/175)
صحيح الظاهر والباطن وفاسدهما وصحيح الظاهر فاسد الباطن والعكس فالأول من القياس يرجح على كل استحسان وثانيه مردود بقي الأخيران فالأول من الاستحسان أي صحيح الظاهر والباطن يرجح عليهما أي على قياس صحيح الظاهر فاسد الباطن وعكسه وثانيه مردود أي ثاني الاستحسان وهو فاسد الظاهر والباطن بقي الأخيران أي من الاستحسان وهما صحيح الظاهر فاسد الباطن وعكسه فالتعارض بينهما وبين أخيري القياس إن وقع مع خلاف النوع فما ظهر فساده بادئ النظر لكن إذا تؤمل تبين صحته أقوى مما كان على العكس اعلم أن التعارض بين كل واحد من هذين القسمين من الاستحسان أي صحيح الظاهر فاسد الباطن وعكسه وبين كل واحد من أخيري القياس إن وقع مع اختلاف النوع وهذا في
____________________
(2/176)
صورتين إحداهما أن يعارض صحيح الظاهر فاسد الباطن من الاستحسان فاسد الظاهر صحيح الباطن من القياس وثانيتهما أن يعارض فاسد الظاهر صحيح الباطن من الاستحسان صحيح الظاهر فاسد الباطن من القياس فلا شك أن ما ظهر فساده بادئ النظر لكن إذا تؤمل تبين صحته أقوى مما كان على العكس سواء كان قياسا أو استحسانا ومع اتحاده إن أمكن فالقياس أولى أي إن وقع التعارض بينهما مع اتحاد النوع وهو أن يعارض استحسان صحيح الظاهر فاسد الباطن قياسا كذلك أو يعارض استحسان فاسد الظاهر صحيح الباطن قياسا كذلك يكون القياس راجحا في الصورتين وإنما قلنا إن أمكن لأنا لم نجد تعارض القياس والاستحسان على هذه الصفة والظاهر أنه إذا كان الاستحسان على صفة كان القياس على خلاف تلك الصفة لأن القياس لا يكون صحيحا في نفس الأمر إلا وقد جعل الشرع وصفا من الأوصاف علة للحكم بمعنى أنه كلما وجد ذلك الوصف مطلقا أو كلما وجد ذلك الوصف بلا مانع يوجد ذلك الحكم لكنه وجد ذلك الوصف بإحدى الصفتين المذكورتين في الفرع فيوجد ذلك الحكم فإن كان القياس بهذه الصفة لا يعارضه قياس صحيح سواء كان جليا أو خفيا لأنه لا يمكن أن يجعل الشرع وصفا آخر علة لنقيض ذلك الحكم بالمعنى المذكور ثم يوجد ذلك الوصف في الفرع إذ لو كان كذلك يلزم حكم الشرع بالتناقض وهذا محال على الشارع تعالى وتقدس فعلم أن تعارض قياسين صحيحين في الواقع ممتنع وإنما يقع التعارض لجهلنا بالصحيح والفاسد فالتعارض لا يقع بين قياس قوي الأثر واستحسان كذلك وكذا لا يقع بين قياس صحيح الظاهر والباطن وبين استحسان كذلك وكذا لا يقع بين قياس فاسد الظاهر صحيح الباطن وبين استحسان كذلك وما ذكروا من حيث القوة والضعف فعند التحقيق داخل في هذا التفصيل أيضا لأنه لا يخلو إما أن يكون صحيح الظاهر أو فاسد الظاهر وعلى كل من التقديرين لا يخلو من أنه إذا تؤمل حق التأمل يتبين صحته أو يتبين فساده وإذا كانت القسمة منحصرة في هذه الأقسام فقوي الأثر وضعيفه لا يخلو من أحد هذه الأقسام قطعا
____________________
(2/177)
والمستحسن بالقياس الخفي يعدى لا المستحسن بغيره نظيره أن في الاختلاف في الثمن قبل قبض المبيع اليمين على المشتري فقط قياسا لأنه المنكر وعليهما قياسا خفيا لأن البائع ينكر تسليم المبيع أي إنما يحلف البائع لأنه ينكر وجوب تسليم المبيع بقبض ما هو ثمن في زعم المشتري وإنما يحلف المشتري لأنه ينكر زيادة الثمن
ولما كان هذا ظاهرا لم يذكره في المتن فيعدى إلى الوارثين أي إذا اختلف وارثا البائع والمشتري في قدر الثمن قبل قبض المبيع تحالف الوارثان
وإلى الإجارة أي إذا اختلف المؤجر والمستأجر في مقدار الأجرة قبل استيفاء المنفعة تحالفا
وأما بعد القبض فثبوته بقوله عليه الصلاة والسلام إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا فلا يعدى إلى الوارث وإلى حال هلاك السلعة والاستحسان ليس من باب تخصيص العلة على ما يأتي بعض الناس زعموا أن الاستحسان من باب تخصيص العلة وليس كذلك لما يأتي في تخصيص العلة أن ترك القياس بدليل أقوى لا يكون تخصيصا
فصل في دفع العلل المؤثرة أي الاعتراضات الواردة على العلل المؤثرة منه النقض وهو وجود العلة في صورة مع تخلف الحكم ودفعه بأربع طرق أي الجواب عنه يكون بأربع طرق
____________________
(2/178)
الأول منع وجود العلة في صورة النقض نحو خروج النجاسة علة الانتقاض فنوقض بالقليل فيمنع الخروج فيه وكذا وجود ملك بدل المغصوب يوجب ملكه أو ملك المغصوب لئلا يجتمع البدل والمبدل منه في ملك شخص واحد فنوقض بالمدبر أي إذا كان ملك بدل المغصوب علة لملك المغصوب ففي غصب المدبر يكون كذلك لكن الحكم متخلف لأن المدبر غير قابل للانتقال من ملك إلى ملك عندكم فيمنع ملك بدله أي ملك بدل المغصوب بأن يمنع في المدبر كون بدله بدل المغصوب فإنه ليس بدل العين بل بدل اليد الفائتة فإن ضمان المدبر ليس بدلا عن العين بل بدل عن اليد الفائتة
____________________
(2/179)
والثاني منع معنى العلة في صورة النقض أي المعنى الذي صارت العلة علة لأجله وهو بالنسبة إلى العلة كالثابت بدلالة النص بالنسبة إلى المنصوص نحو مسح الرأس مسح فلا يسن فيه التثليث كمسح الخف فنوقض بالاستنجاء فيمنع في الاستنجاء المعنى الذي في المسح وهو أنه تطهير حكمي غير معقول ولأجله أي لأجل أنه تطهير حكمي غير معقول لا يسن في المسح التثليث لأنه لتوكيد التطهير المعقود فلا يفيد أي التثليث في المسح كما في التيمم ويفيد في الاستنجاء والثالث قالوا هو الدفع بالحكم وهو أن يمنع تلف الحكم عن العلة في صورة النقض وذكروا له أمثلة خروج النجاسة علة للانتقاض وملك بدل المغصوب علة لملك المغصوب وحل الإتلاف لإحياء المهجة لا ينافي عصمة المال كما في المخمصة فيضمن الجمل الصائل فنوقض بالمستحاضة والمدبر ومال الباغي فأجابوا في الأولين بالمانع لكن هذا تخصيص العلة ونحن لا نقول به وفي الثالث بأنا لا نسلم حل الإتلاف ينافي العصمة في مال الباغي بل إنما انتفت بالبغي أورد الإمام فخر الإسلام رحمه الله تعالى للدفع بالحكم ثلاثة أمثلة أحدها خروج النجاسة علة للانتقاض فنوقض بالمستحاضة أن خروج النجاسة موجود فيها بدون الانتقاض وثانيها أن ملك بدل المغصوب علة لملك المغصوب فنوقض بالمدبر فأجاب فخر الإسلام رحمه الله تعالى في الصورتين بأنه إنما تخلف الحكم في الصورتين
____________________
(2/180)
بالمانع فأقول هذا الجواب ليس دفعا بالحكم بل هو تخصيص العلة ونحن لا نقول به وثالثها أن حل الإتلاف لإحياء المهجة لا ينافي العصمة كما في المخمصة فإنه إن أكل مال الغير في المخمصة لإحياء المهجة يجب الضمان فيضمن الجمل الصائل فنوقض بمال الباغي أن العادل إذا أتلف مال الباغي حال القتال لإحياء المهجة لا يجب الضمان فعلم أن حل الإتلاف لإحياء المهجة ينافي العصمة فأجاب بأنا لا نسلم أن حل الإتلاف ينافي العصمة في مال الباغي فإن عصمة مال الباغي لم تنتف بحل الإتلاف بل بالبغي فأقول الظاهر أن الحكم المدعى في الجمل الصائل وجوب الضمان وبقاء العصمة فحينئذ لا تكون هذه الصورة نظيرا للدفع بالحكم بل حاصل هذا المثال أن المعلل ادعى حكما أصليا وهو العصمة مثلا فإن الأصل في أموال المسلمين العصمة وهي لا ترتفع إلا بعارض وليس في المتنازع فيه وهو الجمل الصائل إلا عارض واحد وهو حل الإتلاف وقد ثبت بالقياس على المخمصة أن حل الإتلاف لا يصلح رافعا للعصمة فتبقى العصمة في الجمل الصائل فيجب الضمان فنوقض بمال الباغي أن حل الإتلاف رافع للعصمة في مال الباغي فأجاب بأن رافع العصمة في مال الباغي ليس حل الإتلاف بل الرافع هو البغي فهذا لا يكون دفعا بالحكم بل بيان أن علة الحكم وهو ارتفاع العصمة في صورة النقض شيء آخر هذا معنى قوله
____________________
(2/181)
والضابط المنتزع من هذه الصورة أن المعلل إذا ادعى حكما أصليا لا يرتفع إلا بعارض كالعصمة هنا وليس في المتنازع فيه إلا عارض واحد وهو حل الإتلاف وأثبت بالقياس أن هذا العارض لا يرفعه كما في المخمصة فنوقض بصورة كمال الباغي مثلا فأجاب بأن الرافع شيء آخر فهذا بيان أن علة الحكم في صورة النقض شيء آخر ويمكن أن يتكلف في أن تصير هذه المسألة نظيرا للدفع بالحكم ووجهه أن يراد بالحكم عند منافاة حل الإتلاف العصمة وهذا الحكم ثابت في الجمل الصائل قياسا على المخمصة فنوقض بمال الباغي أن حل الإتلاف ثابت فيه وعدم منافاته العصمة غير ثابت لأن الثابت فيه منافاة حل الإتلاف العصمة فأجاب بأن منافاة حل الإتلاف العصمة غير ثابتة فيه لأن العصمة لم تنتف في مال الباغي بحل الإتلاف بل إنما انتفت للبغي هذا غاية التكلف ومع هذا لا يوجد النقض في هذه الصورة لأن النقض وجود العلة مع تخلف الحكم وحل الإتلاف لإحياء المهجة ليس علة لعدم منافاته العصمة لثبوت حل الإتلاف في مال الباغي مع المنافاة فلا يكون نقضا فلأجل هذه الفسادات في الأمثلة الثلاثة أورد مثلا آخر في المتن فقال وأنا أورد للدفع بالحكم مثالا وهو القيام إلى الصلاة مع خروج النجاسة علة لوجوب الوضوء
____________________
(2/182)
فيجب في غير السبيلين فنوقض بالتيمم أي في صورة عدم القدرة على الماء يوجد القيام إلى الصلاة مع خروج النجاسة ومع ذلك لا يوجب الوضوء فيمنع عدم وجوب الوضوء فيه بل الوضوء واجب لكن التيمم خلف عنه معناه أنا لا نسلم عدم وجوب الوضوء في صور عدم الماء بل الوضوء واجب لكن التيمم خلف عنه الرابع الدفع بالغرض نحو خارج نجس فيكون ناقضا فنوقض بالاستحاضة فنقول الغرض التسوية بين السبيلين وغيرهما فإنه حدث ثمة لكن إذا استمر يصير عفوا فكذلك هنا
ثم اعلم أنه إن تيسر الدفع أي دفع النقض بهذه الطرق فيها وإلا فإن لم يوجد في صورة النقض مانع فقد بطلت العلة وإن وجد المانع فلا لكن بعض أصحابنا يقولون العلة توجب هذا لكن تخلف الحكم لمانع فهذا تخصيص العلة ونحن لا نقول به بل نقول إنما عدم الحكم لعدم ما هو والعلة حقيقة فنجعل عدم المانع جزءا للعلة أو شرطا لها لهم في جواز
____________________
(2/183)
تخصيص القياس على الأدلة اللفظية والثابت بالاستحسان عطف على قوله القياس على الأدلة اللفظية فإنه مخصوص عن القياس ولأن التخلف قد يكون لفساد العلة وقد يكون لمانع كما في العلل العقلية وذكروا أن جملة ما يوجب عدم الحكم خمسة المسطور في كتبنا أنه ذكر القائلون بتخصيص العلة أن الموانع خمسة لكني عدلت عن هذه العبارة لما سيأتي مانع من انعقاد العلة كانقطاع الوتر في الرمي وكبيع الحر أو من تمامها كما إذا حال شيء فلم يصب السهم وكبيع ما لا يملكه أو من ابتداء الحكم كما إذا أصاب السهم فدفعه الدرع وكخيار الشرط أو من تمامه كما إذا اندمل بعد إخراج السهم والمداواة وكخيار الرؤية أو من لزومه كما إذا خرج وامتد حتى صار طبعا له وأمن وكخيار العيب فالتخصيص ليس في الأولين بل في الثلاث الأخر لأن التخصيص أن توجد العلة ويتخلف الحكم لمانع فالمانع ما يمنع الحكم بعد وجود العلة ففي الأوليين من الصور الخمس ليس كذلك لأن العلة لم
____________________
(2/184)
توجد فيهما وفي الثلاث الأخر العلة موجودة والحكم متخلف لمانع فتخصيص العلة مقصور على الثلاث الأخر فلهذا لم يقل في المتن إن الموانع خمسة بل قال ما يوجب عدم الحكم خمسة والفرق بين الخيارات أن في خيار الشرط قد وجد السبب وهو البيع والخيار داخل على الحكم وهو الملك على ما عرف في فصل مفهوم المخالفة أن الخيار يثبت بالضرورة فدخوله على الحكم أسهل من دخوله على السبب لأن دخوله على السبب يوجب الدخول على المسبب والحكم فإذا كان داخلا على الحكم لم يكن الملك ثابتا وأما خيار الرؤية فإن البيع صدر مطلقا من غير شرط فأوجب الحكم وهو الملك لكن الملك لم يتم لعدم الرضا بالحكم عند عدم الرؤية وأما خيار العيب فإنه حصل السبب والحكم بتمامه لتمام الرضا بالحكم لأنه قد وجد الرؤية لكن على تقدير العيب يتضرر المشتري فقلنا بعدم اللزوم على تقدير العيب فلا خيار العيب يتمكن المشتري من رد البعض لأنه تفريق الصفقة وهو بعد التمام جائز وفي خيار الرؤية لا يتمكن لأنه تفريق قبل التمام وذا لا يجوز
____________________
(2/185)
ولنا أن التخصيص في الألفاظ مجاز فيخص بها وترك القياس بدليل أقوى لا يكون تخصيصا لأنه ليس بعلة حينئذ ولأن العلة في القياس ما يلزم من وجوده وجود الحكم لإجماع العلماء على وجوب التعدية إذا علم وجود العلة في الفرع من غير تقييدهم بعدم المانع مع أن هذا التقييد واجب فعلم أن عدم المانع حاصل عند وجود العلة فهو إما ركنها أو شرطها أي عدم المانع إما ركن العلة أو شرطها فإذا وجد المانع فقد عدم العلة ثم عدمها قد يكون لزيادة وصف كما أن البيع المطلق علة للملك فإذا زيد الخيار فقد عدمت أو لنقصانه كالخارج النجس مع عدم الحرج علة للانتقاض وهذا معدوم في المعذور ومنه فساد
____________________
(2/186)
الوضع وهو أن يترتب على العلة نقيض ما تقتضيه ولا شك أن ما ثبت تأثيره شرعا لا يمكن فيه فساد الوضع وما ثبت فساد وضعه على عدم تأثيره شرعا وسيأتي مثاله ومنه عدم العلة مع وجود الحكم وهذا لا يقدح لاحتمال وجوده بعلة أخرى ومنه الفرق قالوا هو فاسد لأنه غصب منصب المعلل وهذا نزاع جدلي ولأنه إذا ثبت علية المشترك لا يضره الفارق لكن إذا أثبت في الفرع مانعا يضره وكل كلام صحيح في الأصل إذا أورد على سبيل الفرق لا يقبل فينبغي أن يورد على سبيل الممانعة حتى يقبل كقول الشافعي رحمه الله تعالى إعتاق الراهن تصرف يبطل حق المرتهن هذا تعليم ينفع في المناظرات وهو أن كل كلام يكون في نفسه صحيحا أي يكون في الحقيقة منعا للعلة المؤثرة فإنه إذا أورد على سبيل الفرق يمنع الجدلي توجيهه فيجب أن يورد على سبيل المنع لا على سبيل الفرق فلا يتمكن الجدلي من رده كقول الشافعي رحمه الله تعالى إعتاق الراهن تصرف يبطل حق المرتهن فيرد كالبيع فإن
____________________
(2/187)
قلنا بينهما فرق فإن البيع يحتمل الفسخ لا العتق يمنع توجيه هذا الكلام فينبغي أن نورده على هذا الوجه وهو أن حكم الأصل إن كان هو البطلان فلا نسلم الأصل هنا بيع الراهن فإن أراد أن الحكم فيه البطلان فهذا ممنوع لأن الحكم عندنا في بيع الراهن التوقف وإن كان التوقف أي إن كان حكم الأصل التوقف ففي الفرع إن ادعيتم البطلان لا يكون الحكمان متماثلين وإن ادعيتم التوقف لا يمكن لأن العتق لا يحتمل الفسخ وكقوله في العمد قتل آدمي مضمون فيوجب المال كالخطأ فنقول ليس كالخطأ إذ لا قدرة فيه على المثل أي في الخطأ على المثل لأن المثل جزاء كامل فلا يجب مع قصور الجناية وهو
____________________
(2/188)
الخطأ فإن أورد على هذا الوجه ربما لا يقبله الجدلي فنورده على سبيل الممانعة فتوجيه هذا أي توجيه هذا الكلام على سبيل الممانعة أن حكم الأصل وهو الخطأ شرع المال خلفا عن القود وفي الفرع مزاحمته إياه يعني أن المال شرع خلفا عن القود لأن حكم الأصل وجوب القود لكن لم يجب لما قلنا فوجب خلفه وفي الفرع وهو العمد الحكم عند الشافعي رحمه الله تعالى مزاحمة المال القود فلا يكون الحكمان متماثلين
ومنه الممانعة فهي إما في نفس الحجة لاحتمال أن يكون متمسكا بما لا يصلح دليلا كالطرد والتعليل بالعدم ولاحتمال أن لا تكون العلة هذا بل غيره كما ذكرنا في قتل الحر بالعبد وأما في وجودها في الأصل أو في الفرع كما مروا في شروط التعليل وأوصاف العلة ككونها مؤثرة ومنه المعارضة واعلم أن المعترض إما أن يبطل دليل المعلل ويسمى مناقضة أو يسلمه لكن يقيم الدليل على نفي مدلوله ويسمى معارضة وتجري في الحكم وفي علته والأولى تسمى
____________________
(2/189)
معارضة في الحكم والثانية في المقدمة فقوله واعلم أن المعترض هذا تقسيم الاعتراض على المناقضة والمعارضة لا تقسيم المعارضة فإذا علل المعلل فللمعترض أن يمنع مقدمات دليله ويسمى هذا ممانعة فإذا ذكر لمنعه سندا يسمى مناقضة كما يقول ما ذكرت لا يصلح دليلا لأنه طرد مجرد من غير تأثير إلى آخر ما عرفت في الممانعة وله أن يسلم دليله فيقول ما ذكرت من الدليل وإن دل على ما ذكرت من المدلول لكن عندي ما ينفي ذلك المدلول ويقيم دليلا على نفي مدلوله سواء كان المدلول هو الحكم أو مقدمة من مقدمات دليله الأول يسمى معارضة في الحكم والثاني يسمى معارضة في المقدمة كما إذا أقام المعلل دليلا على أن العلة للحكم هي الوصف الفلاني فللمعترض أن لا ينقض دليله بل
____________________
(2/190)
يثبت بدليل آخر أن هذا الوصف ليس بعلة فهذا معارضة في المقدمة ثم شرع في تقسيم المعارضة في الحكم فقال
____________________
(2/191)
أما الأولى فإما بدليل المعلل وإن كان بزيادة شيء عليه وهي معارضة فيها مناقضة فإن دل على نقيض الحكم بعينه فقلب كقوله صوم رمضان صوم فرض فلا يتأدى إلا بتعيين النية كالقضاء فنقول صوم فرض فيستغنى عن التعيين بعد تعيينه كالقضاء لكن هنا التعيين قبل
____________________
(2/192)
الشروع وفي القضاء بالشروع أي تعيين الصوم في رمضان تعيين قبل الشروع بتعيين الله وفي القضاء إنما يتعين بالشروع بتعيين العبد وكقوله مسح الرأس ركن فيسن تثليثه كغسل الوجه فنقول ركن فلا يسن تثليثه بعد إكماله بزيادة على الفرض في محله وهو الاستيعاب كغسل الوجه وإن دل على حكم آخر يلزم منه ذلك النقيض يسمى عكسا كقوله في صلاة النفل عبادة لا تمضي في فاسدها فلا تلزم بالشروع كالوضوء فنقول لما كان كذلك وجب أن يستوي فيه النذر والشروع كالوضوء اعلم أن كل عبادة تجب بالشرع لا بد أن يجب المضي فيها إذا فسدت كما في الحج فيلزم أن كل عبادة إذا فسدت لا يجب المضي فيها لا تجب بالشروع فنقول لو كان عدم وجوب المضي في الفاسد علة لعدم الوجوب بالشروع لكان علة لعدم الوجوب بالشروع والنذر كما في الوضوء فإنه لا يمضى في فاسده فلا يجب بالشروع والنذر فيلزم استواء النذر والشروع في هذا الحكم والأول أقوى من هذا أي القلب أقوى من العكس لأنه جاء بحكم آخر وبحكم
____________________
(2/193)
مجمل وهو الاستواء أي المعترض جاء في العكس بحكم آخر وفي القلب جاء بنقيض حكم يدعيه المعلل فالقلب أقوى لأنه في العكس اشتغل بما ليس هو بصدده وهو إثبات الحكم الآخر وفي القلب لم يشغل بذلك وأيضا جاء بحكم مجمل وهو الاستواء إذ الاستواء يكون
____________________
(2/194)
بطريقين والمعترض لم يبين أن المراد أيهما وإثبات الحكم المبين أقوى من إثبات الحكم المجمل وأيضا الاستواء الذي في الفرع غير الاستواء الذي هو في الأصل وهذا هو قوله ولأنه مختلف في الصورتين ففي الوضوء بطريق شمول العدم وفي الفرع بطريق شمول الوجود وإما بدليل آخر عطف على قوله فأما بدليل المعلل وهو معارضة خالصة وهو إما أن يثبت نقيض حكم المعلل بعينه أو بتغيير أو حكما يلزم منه ذلك النقيض كقوله المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه كالغسل فنقول مسح فلا يسن تثليثه كمسح الخف وهذا أي الوجه الأول من الوجوه الثلاثة من المعارضة أقوى الوجوه فقوله المسح ركن نظير الوجه الأول من المعارضة وكقولنا في الصغيرة التي لا أب لها صغيرة فتنكح كالتي لها أب فيقال صغيرة فلا يولى عليها بولاية الأخوة كالمال فلم ينف مطلق الولاية بل ولاية بعينها لكن إذا انتفت هي ينتفي سائرها بالإجماع أي لعدم القائل بالفصل فإن كل من ينفي الإجبار بولاية الإخوة ينفي الإجبار بولاية العمومة ونحوها فهذا نظير الوجه الثاني من المعارضة وكالتي نظير الوجه الثالث نعي إليها زوجها فنكحت وولدت ثم جاء الأول فهو
____________________
(2/195)
أحق بالولد عندنا لأنه صاحب فراش صحيح فيقال الثاني صاحب فراش فاسد فيستحق النسب كمن تزوج بغير شهود فولدت فالمعارض وإن أثبت حكما آخر وهو ثبوت النسب من الزوج الثاني لكن يلزم من ثبوته للثاني نفيه من الأول فإذا ثبت المعارضة فالسبيل الترجيح بأن الأول صاحب فراش صحيح وهو أولى بالاعتبار من كون الثاني حاضرا وأما الثانية فمنها ما فيه معنى المناقضة وهو أن تجعل العلة معلولا والمعلول علة وهي قلب أيضا وإنما يرد هذا إذا كانت العلة حكما لا وصفا لأنه إذا كان وصفا لا يمكن جعله معلولا والحكم علة نحو الكفار جنس يجلد بكرهم مائة فيرجم ثيبهم كالمسلمين لأن جلد المائة غاية حد البكر والرجم غاية حد الثيب فإذا وجب في البكر غايته وجب في الثيب غايته أيضا فإن النعمة كلها كانت أكمل فالجناية عليها تكون أفحش فجزاؤها يكون أغلظ فإذا وجب في البكر المائة يجب في الثيب أكثر من ذلك وليس هذا إلا الرجم فإن الشرع ما أوجب فوق جلد المائة إلا الرجم والقراءة تكررت فرضا في الأوليين فكانت فرضا في الأخريين كالركوع والسجود فنقول المسلمون إنما يجلد بكرهم مائة لأنه يرجم ثيبهم يعني لو جعل المعلل جلد البكر علة لرجم الثيب فنقول لا نسلم هذا بل رجم الثيب علة لجلد البكر وإنما تكرر الركوع والسجود فرضا في الأوليين لأنه يتكرر فرضا في الأخريين والمخلص عن هذا أي التعليل بوجه لا يرد عليه هذا القلب أن لا يذكر على سبيل التعليل
____________________
(2/196)
بل يستدل بوجود أحدهما على وجود الآخر إذا ثبت المساواة بينهما نحو ما يلزم بالنذر يلزم بالشروع إذا صح كالحج فتجب الصلاة والصوم بالشروع تطوعا وفيه خلاف الشافعي رحمه الله تعالى فقالوا الحج إنما يلزم بالنذر لأنه يلزم بالشروع فنقول الغرض الاستدلال من لزوم المنذور على لزوم ما شرع لثبوت التساوي بينهما بل الشروع أولى لأنه لما وجب رعاية ما هو سبب القربة وهو النذر فلأن يجب رعاية ما هو القربة أولى ونحو الثيب الصغيرة يولى عليها في مالها فكذا في نفسها كالبكر الصغيرة فيثبت إجبار الثيب الصغيرة على النكاح وفيه خلاف الشافعي رحمه الله تعالى فقالوا إنما يولى على البكر في مالها لأنه يولى في نفسها فنقول الولاية شرعت للحاجة والنفس والمال والبكر والثيب فيها سواء أي لا نقول إن الولاية في المال علة للولاية في النفس بل نقول كلتاهما شرعتا للحاجة فتكونان متساويين فإذا ثبتت إحداهما ثبتت الأخرى لأن حكم المتساويين واحد
____________________
(2/197)
وهذه المساواة غير ثابتة في المسألتين الأوليين على ما ذكروا وهما مسألتا رجم الكفار والقراءة في الشفع الأخير فأراد أن يبين أنه يمكن لنا في مسألة الشروع في النفل وفي الثيب الصغيرة المخلص عن القلب ولو يمكن للشافعي رحمه الله تعالى هذا في مسألة الرجم والقراءة أما في مسألة الرجم فلأن الرجم والجلد ليسا بسواء في أنفسهما لأن أحدهما قتل والآخر ضرب ولا في شروطهما حيث يشترط لأحدهما ما لا يشترط للآخر فلا يمكن الاستدلال بوجود أحدهما على وجود الآخر وأما في مسألة القراءة فلأن الشفع الأول والثاني ليسا بسواء في القراءة لأن قراءة السورة ساقطة في الشفع الثاني وأيضا الجهر ساقط فيه فقوله على ما ذكروا إشارة إلى هذا ومنها خالصة فإن أقام الدليل على نفي علية ما أثبته
____________________
(2/198)
المعلل فمقبولة وإن أقام على علية شيء آخر فإن كانت قاصرة لا يقبل عندنا وكذا إن كانت متعدية إلى مجمع عليه كما يعارضنا مالك بأن العلة الطعم والادخار وهو متعد إلى الأرز وغيره فلا فائدة له إلا نفي الحكم في الجص لعدم العلة وهي لا تفيد ذلك لأن الحكم قد ثبت بعلل شتى وإن تعدى إلى مختلف فيه يقبل عند أهل النظر للإجماع على أن العلة أحدهما فقط فإذا ثبت أحدهما انتفى الآخر لا عند الفقهاء لأنه ليس لصحة أحدهما تأثير في فساد الآخر
فصل في دفع العلل الطردية لما عرف أن العلة نوعان إما علة مؤثرة وهي المعتبرة
____________________
(2/199)
عندنا وإما علة تثبت عليتها بالدوران دون التأثير وهي المعتبرة عند البعض وليست بمعتبرة عندنا وتسمى علة طردية ففي هذا الفصل تذكر الاعتراضات الواردة على القياس بالعلة الطردية وهو أربعة الأول القول بموجب العلة وهو التزام ما يلزمه المعلل مع بقاء الخلاف وهو يلجئ المعلل إلى العلة المؤثرة أي يجعل المعلل مضطرا إلى القول بمعنى مؤثر يرفع الخلاف ولا يتمكن الخصم من تسليمه مع بقاء الخلاف كقوله المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه فنقول يسن عندنا أيضا لكن الفرض البعض لقوله تعالى برءوسكم وهو إما ربع أو أقل فالاستيعاب تثليث وزيادة وإن غير فقال يسن تكراره يمنع ذلك في الأصل بل المسنون في الركن التكميل كما في أركان الصلاة بالإطالة لكن الغسل لما استوعب المحل لا يمكن التكميل إلا بالتكرار وهنا المحل متسع أي في مسح الرأس المحل
____________________
(2/200)
وهو الرأس متسع يمكن الإكمال بدون التكرار على أن التكرار ربما يصير غسلا فيلزم تغيير المشروع فالاعتراض على التقدير الأول قول بموجب العلة وعلى تقدير التغيير ممانعة فالحاصل أن نقول إن أردتم بالتثليث جعله ثلاثة أمثال الفرض فنحن قائلون به لأن الاستيعاب تثليث وزيادة وإن أردتم بالتثليث التكرار ثلاثة مرات نمنع هذا في الأصل أي لا نسلم أن الركنية توجب هذا بل الركنية توجب الإكمال كما في أركان الصلاة فالاعتراض على تقدير أن يراد بالتثليث جعله ثلاث أمثال الفرض يكون قولا بموجب العلة وعلى تقدير التغيير وهو أن يراد بالتثليث التكرار فالاعتراض ممانعة وكقوله صوم رمضان صوم فرض فلا يتأدى إلا بتعيين النية فنسلم موجبه لكن الإطلاق تعيين وكقوله المرفق لا يدخل في الغسل لأن الغاية لا تدخل تحت المغيا قلنا نعم لكنها غاية للإسقاط فلا تدخل تحته الثاني الممانعة وهي إما في الوصف أي تمنع وجود الوصف الذي يدعي المعلل عليته في الفرع كقوله في مسألة الأكل والشرب عقوبة متعلقة بالجماع فلا تجب بالأكل والشرب كحد الزنا فلا نسلم تعلقها بالجماع بل هي متعلقة بالفطر وكقوله في بيع التفاحة بالتفاحتين إنه بيع مطعوم بمطعوم مجازفة فيحرم كالصبر بالصبر فنقول إن أراد المجازفة بالوصف أو بالذات بحسب الأجزاء فهي جائزة لجواز الجيد
____________________
(2/201)
بالرديء هذا دليل على جواز المجازفة بالوصف وللجواز عند تفاوت الأجزاء هذا دليل على جواز المجازفة بالذات بحسب الأجزاء وإن أرادها أي المجازفة بحسب المعيار فتختص بما يدخل فيه أي في المعيار وأما في الحكم عطف على قوله وهي إما في الوصف كما في هذه المسألة إن ادعيت حرمة تنتهي بالمساواة لا نسلم إمكانها في الفرع وإن ادعيتها غير متناهية لا نسلم في الصبرة فقوله كما في هذه المسألة إشارة إلى مسألة بيع التفاحة بالتفاحتين فالممانعة في الحكم أن يمنع ثبوت الحكم الذي يكون الوصف علة له في الفرع قوله لا نسلم إمكانها في الفرع إشارة إلى هذا أو نمنع ثبوت الحكم الذي يدعيه المعلل بالوصف المذكور في الأصل وقوله لا نسلم في الصبرة إشارة إلى هذا وكقوله صوم فرض فلا يصح إلا بتعيين النية كالقضاء فنقول أبعد التعين فلا نسلم في الأصل أو قبله فلا نسلم في الفرع أي إن ادعيتم أن الصوم لا يصح إلا بتعيين النية بعد
____________________
(2/202)
صيرورته متعينا فلا نسلم هذا في القضاء وإن ادعيتم أن الصوم لا يصح إلا بتعيين النية قبل صيرورته متعينا فلا نسلم هذا في المتنازع فيه لأن تعيين النية قبل صيرورته متعينا ممتنع في المتنازع فيه لأن الصوم متعين في المتنازع بتعيين الشارع فلا تكون صحة الصوم في المتنازع موقوفة على تعيين النية قبل صيرورته متعينا لأنه حينئذ تكون صحة صوم رمضان ممتنعة وهذا باطل وأما في صلاح الوصف للحكم فإن الطرد باطل عندنا كما مر وأما في نسبة الحكم إلى الوصف كقوله في الأخ لا يعتق على أخيه لعدم البعضية كابن العم فلا نسلم أن العلة في الأصل هذا أي لا نسلم أن علة عدم عتق ابن العم هي عدم البعضية فإن عدم البعضية لا يوجب عدم العتق لجواز أن توجد علة أخرى للعتق بل إنما لم يعتق ابن العم لعدم القرابة المحرمية وكقوله لا يثبت النكاح بشهادة النساء مع الرجال لأنه ليس بمال كالحد فلا نسلم أن العلة في الحد عدم المالية وكذا في كل موضع يستدل بالعدم على العدم فإنه يمكن أن يقول عدم تلك العلة لا يوجب عدم الحكم فإن الحكم يمكن أن يثبت بعلة أخرى الثالث
____________________
(2/203)
فساد الوضع وقد مر تفسيره وهو فوق المناقضة إذ يمكن الاحتراز عنها بتغيير الكلام أما هو فيبطل العلة أصلا فإن المعلل إذا تمسك بالعلة الطردية ويرد عليها مناقضة فربما يغير الكلام ويجعل علته مؤثرة فحينئذ تندفع المناقضة كما سيأتي في المناقضة في قوله الوضوء والتيمم طهارتان أما فساد الوضع فإنه يبطل العلة بكليتها إذ لا يندفع بتغيير الكلام كتعليله لإيجاب الفرقة بإسلام أحد الزوجين أي أحد الزوجين الذميين إذا أسلم قبل الدخول فعند الشافعي رحمه الله تعالى بانت في الحال وبعد الدخول بانت بعد ثلاثة أقراء فقد جعل الإسلام علة لإيجاب الفرقة وعندنا يعرض الإسلام على الآخر فإن أسلم فهي له وإن أبى يفرق بينهما في الحال سواء كان بعد الدخول أو قبله ولإبقاء النكاح مع ارتداد أحدهما أي إذا ارتد أحد الزوجين قبل الدخول بانت في الحال وبعد الدخول بانت بعد ثلاثة أقراء عند الشافعي
____________________
(2/204)
رحمه الله تعالى فيجعل الردة علة لبقاء النكاح بمعنى أنه لا يجعلها قاطعة للنكاح وعندنا تبين في الحال سواء كان قبل الدخول أو بعده ثم في المتن يقيم الدليل على أن تعليله مقرون بفساد الوضع بقوله فإن الإسلام لا يصلح قاطعا للنعمة والردة لا تصلح عفوا وكقوله إذا حج بإطلاق النية يقع عن الفرض فكذا بنية النفل فإن بعض العلماء حملوا المطلق على المقيد فأما هذا فحمل المقيد على المطلق وهو باطل وكقوله المطعوم شيء ذو خطر فيشترط لتملكه شرط زائد وهو التقابض كالنكاح فإنه يشترط له الشهود فيقال ما كان الحاجة إليه أكثر جعله الله أوسع
الرابع المناقضة وهي تلجئ أهل الطرد إلى المؤثرة كقوله الوضوء والتيمم طهارتان فيستويان في النية فينتقض بتطهير الخبث فيضطر إلى أن يقول الوضوء تطهير
____________________
(2/205)
حكمي كالتيمم بخلاف تطهير الخبث فنقول نعم أي الوضوء تطهير حكمي بمعنى النجاسة حكمية أي حكم الشرع بالنجاسة في حق الصلاة فجعلها كالحقيقة فيزيلها الماء كما يزيل الحقيقية فهي غير معقولة الضمير يرجع إلى النجاسة وهذا الجواب هو الذي أحاله في فصل شرائط القياس إلى فصل المناقضة لكن تطهيرها بالماء معقول بخلاف التراب فلا يحتاج إلى النية في ذلك أي في التطهير فيحصل الطهارة سواء نوى أو لم ينو بل في صيرورته قربة أي يحتاج إلى النية في صيرورة الوضوء قربة والصلاة تستغني عنها أي عن صيرورة الوضوء قربة كما في سائر شرائط الصلاة بل تحتاج إلى كون الوضوء طهارة
____________________
(2/206)
وأما المسح فملحق بالغسل تيسيرا جواب عن سؤال مقدر هو أنكم قلتم إن الغسل تطهير معقول فلا يحتاج إلى النية لكن مسح الرأس تطهير غير معقول فيجب أن يحتاج إلى
____________________
(2/207)
النية كالتيمم فأجاب بأن مسح الرأس ملحق بالغسل ووظيفة الرأس كانت هي الغسل لكن لدفع الحرج اقتصر على المسح فيكون خلفا عن الغسل فاعتبر فيه أحكام الأصل فإن قيل غسل الأعضاء الأربعة غير معقول هذا إشكال على قوله لكن تطهيرها بالماء معقول قلنا لما اتصف البدن بها اقتصر على غسل الأطراف في المعتاد دفعا للحرج وأقر على الأصل في غير المعتاد كالمني والحيض أي لما اتصف البدن بالنجاسة بحكم الشرع وجب غسل جميع البدن لأن الشرع لما حكم بسراية النجاسة وليس بعض الأعضاء أولى بالسراية من البعض وجب غسل جميع البدن لكن سقط البعض في المعتاد دفعا للحرج وبقي غسل الأطراف الأربعة التي هي أمهات الأعضاء فلا يكون غسل الأعضاء الأربعة غير معقول فلا تجب النية واعلم أن الإمام فخر الإسلام رحمه الله تعالى ذكر أن تغير وصف محل الغسل من الطهارة إلى الخبث غير معقول وقوله في التنقيح فهي غير معقولة إشارة إلى هذا ويرد عليه أنه لما كان غير معقول لا يصح قياس غير السبيلين على السبيلين في هذا الحكم وقد ذكر في الهداية أن مؤثرية خروج النجاسة في زوال الطهارة أمر معقول فعلى تقدير الهداية لا يرد هذا الإشكال لكن يرد عليه إشكال آخر وهو أنه لما كان هذا الحكم معقولا ينبغي أن يقاس سائر المائعات على الماء في تطهير الحدث كما قد قيس في تطهير الخبث
وجوابه أنه إنما قيس في الخبث باعتبار أنها قالعة لا باعتبار أنها مطهرة فلا يقاس في الحدث واعلم أنه يمكن التوفيق بين قول فخر الإسلام رحمه الله تعالى وصاحب الهداية أن مراد فخر الإسلام رحمه الله تعالى بكونه غير معقول أن العقل لا يستقل بدركه ومراد صاحب الهداية بكونه معقولا أنه إذا علم أن هذا الوصف قد وجد وأن الشرع قد حكم بهذا الحكم يحكم العقل بأن هذا الحكم إنما هو لأجل هذا الوصف وشرط صحة القياس كون الحكم معقولا بهذا المعنى وهو أعم من الأول فاندفع عن قول فخر الإسلام رحمه الله تعالى ما ذكرنا من الإشكال وهو أنه يلزم أن لا يصح قياس غير السبيلين على السبيلين
____________________
(2/208)
____________________
(2/209)
وفي هذا الفصل فروع أخر طويتها مخافة التطويل
فصل في الانتقال أي الانتقال من كلام إلى آخر وهو إنما يكون قبل أن يتم إثبات الحكم الأول فلا يخلو إما أن ينتقل إلى علة أخرى لإثبات علته أو لإثبات الحكم الأول أو لإثبات حكم آخر يحتاج إليه الحكم الأول أو ينتقل إلى حكم كذلك أي حكم يحتاج إليه الحكم الأول والانتقال منحصر في هذه الأربعة لأنه إما في العلة فقط وهو على قسمين لإثبات علته وهو الأول أو لإثبات حكمه وهو الثاني حتى لو لم يكن لشيء منهما كان كلاما حشوا وأما في الحكم فقط وهو الرابع ولا بد أن يكون حكما يحتاج إليه الحكم الأول وإلا لكان كلاما حشوا وأما فيهما وهو الثالث فيثبت الحكم بالعلة الأولى فالأول صحيح كما إذا قال الصبي المودع إذا استهلك الوديعة
____________________
(2/210)
لا يضمن لأنه مسلط على الاستهلاك
فلما أنكره الخصم احتاج إلى إثباته فهذا لا يسمى انتقالا حقيقة لأن الانتقال أن يترك الكلام الأول بالكلية ويشتغل بآخر كما في قصة الخليل عليه السلام وإنما أطلق الانتقال على هذا القسم لأنه ترك هذا الكلام واشتغل بكلام آخر وإن كان هو دليلا على الكلام الأول وكذا الثاني عند البعض كقصة الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ولأن الغرض إثبات الحكم فلا يبالي بأي دليل كان لا عند البعض لأنه لما لم يثبت الحكم بالعلة الأولى يعد انقطاعا في عرف النظار وأما
____________________
(2/211)
قصة الخليل فإن الحجة الأولى وهو قوله تعالى ربي الذي يحيي ويميت كانت ملزومة واللعين عارضه بأمر باطل وهو قوله تعالى أنا أحيي وأميت فالخليل عليه السلام لما خاف الاشتباه والتلبيس على القوم انتقل إلى العلة التي لا يكون فيها اشتباه أصلا والثالث كقولنا الكتابة عقد يحتمل الفسخ بالإقالة فلا تمنع الصرف إلى الكفارة أي إن أعتق المكاتب بنية الكفارة يجوز كالبيع بالخيار والإجارة أي باع عبدا بشرط الخيار يجوز إعتاقه بنية الكفارة وكذا إذا آجر عبدا ثم أعتقه بنية الكفارة فإن قيل عندي لا يمنع هذا العقد بل نقصان الرق أي نقصان الرق يمنع الصرف إلى الكفارة عندي فنقول الرق لم ينقص ونثبت هذا أي عدم نقصان الرق بعلة أخرى وهي قوله الكتابة عقد يحتمل الفسخ فيجوز صرفه إلى الكفارة كما نقول الكتابة عقد معاوضة فلا توجب نقصانا في الرق وإن أثبتناه بالعلة الأولى فهو نظير الرابع كما نقول احتماله الفسخ دليل على أن الرق لم ينقص وكلاهما صحيحان والرابع أحق لأن العلة التي أوردها تكون تامة في قطع الشبهات بلا احتياج إلى شيء آخر وإن انتقل إلى حكم لا حاجة إليه أو إلى علة لإثبات حكم كذلك فهو باطل
فصل في الحجج الفاسدة الاستصحاب حجة عند الشافعي رحمه الله تعالى في كل شيء ثبت وجوده بدليل ثم وقع الشك في بقائه وعندنا حجة للدفع لا للإثبات له أن بقاء الشرائع بالاستصحاب ولأنه إذا تيقن بالوضوء ثم شك في الحدث يحكم بالوضوء وفي
____________________
(2/212)
العكس بالحدث
إذا شهدوا أنه كان ملكا للمدعي فإنه حجة عنده ولنا أن الدليل الموجب لا يدل على البقاء وهذا ظاهر فبقاء الشرائع بعد وفاته عليه الصلاة والسلام ليس بالاستصحاب بل لأنه لا نسخ لشريعته وفي حياته فقد مر جوابه في النسخ والوضوء والبيع والنكاح ونحوها يوجب حكما ممتدا إلى زمان ظهور مناقض فيكون البقاء للدليل وكلامنا فيما لا دليل على البقاء كحياة المفقود فيرث عنده لا عندنا لأن الإرث من باب الإثبات فلا يثبت به ولا يورث لأن عدم الإرث من باب الدفع فيثبت به والصلح على الإنكار ولا يصح عنده فجعل براءة الذمة وهي الأصل حجة على المدعي فلا يصح الصلح كما بعد اليمين وعندنا يصح لما قلنا إن الاستصحاب لا يصح حجة للإثبات فلا يكون براءة الذمة حجة على المدعي فيصح الصلح و تجب البينة على الشفيع عندنا على ملك المشفوع به إذا أنكره المشتري لأن ملك الشفيع الدار المشفوع بها ثابت بالاستصحاب فلا يكون حجة على المشتري فتجب البينة على الشفيع على ملك المشفوع بها لا عنده وإذا قال لعبده إن لم تدخل الدار اليوم فأنت حر ولا يدري أنه دخل أم لا فالقول قول المولى عندنا فإن العبد تمسك بالأصل وهو أن الأصل عدم الدخول فلا يصلح حجة لاستحقاق العتق على المولى
ومنها أي من الحجج الفاسدة التعليل بالنفي كما ذكرنا في شهادة النساء أي في الممانعة في دفع العلل الطردية والأخ فإنه يمكن الوجود بعلة أخرى إلا أن يثبت بالإجماع أن له علة واحدة فقط كقول محمد في ولد الغصب إنه غير مضمون لأنه لم يغصب الولد
____________________
(2/213)
ومنها الاحتجاج بتعارض الأشباه كقول زفر إن غسل المرافق ليس بفرض لأن من الغايات ما يدخل وما لا يدخل فلا يدخل بالشك فإن هذا جهل محض لأنه لم يعلم أن هذه من أي القسمين
باب المعارضة والترجيح إذا ورد دليلان يقتضي أحدهم عدم ما يقتضيه الآخر في محل واحد في زمان واحد فإن تساويا قوة أو يكون أحدهما أقوى بوصف هو تابع فبينهما المعارضة والقوة المذكورة رجحان وإن كان أقوى بما هو غير تابع لا يسمى رجحانا فلا يقال النص راجح على القياس من قوله عليه الصلاة والسلام زن وأرجح
والمراد الفضل القليل لئلا يلزم الربا في قضاء الديون فيجعل ذلك عفوا لأنه لقلته في حكم العدم بالنسبة إلى المقابل
والعمل بالأقوى وترك الآخر واجب في الصورتين أي فيما إذا كان أحدهما أقوى بوصف هو تابع وفيما إذا كان أحدهما أقوى بما هو غير تابع وإذا تساويا قوة واعلم أن الأقسام ثلاثة الأول أن يكون أحد الدليلين أقوى من الآخر بما هو غير تابع كالنص مع القياس
والثاني أن يكون أحدهما أقوى يوصف بما هو تابع كما في خبر الواحد الذي يرويه عدل فقيه مع خبر الواحد الذي يرويه عدل غير فقيه
والثالث أن يكونا متساويين قوة ففي القسمين الأولين العمل بالأقوى وترك الآخر واجب وأما الثالث فيأتي حكمه هنا وهو قوله في المتن وإذا تساويا قوة فالمعارضة تختص بالقسم الثاني والثالث أما الأول فبمعزل
____________________
(2/214)
عنها وإن كان العمل بالأقوى واجبا لكن لا يسمى هذا ترجيحا فالترجيح إنما يكون بعد المعارضة فيختص بالقسم الثاني
____________________
(2/215)
____________________
(2/216)
ففي الكتاب والسنة أي في معارضة الكتاب الكتاب والسنة السنة يحمل ذلك على فسخ أحدهما الآخر إذ لا تناقض بين أدلة الشرع لأنه دليل الجهل
واعلم أن في الكتاب والسنة حقيقة التعارض غير متحققة لأنه إنما يتحقق التعارض إذا اتحد زمان ورودهما ولا شك أن الشارع تعالى وتقدس منزه عن تنزيل دليلين متناقضين في زمان واحد بل ينزل
____________________
(2/217)
أحدهما سابقا والآخر متأخرا ناسخا للأول لكنا لما جهلنا المتقدم والمتأخر توهمنا التعارض لكن في الواقع لا تعارض
فقوله يحمل ذلك الإشارة ترجع إلى التعارض والمراد صورة التعارض وهي ورود دليلين يقتضي أحدهما عدم ما يقتضيه الآخر
فإن علم التاريخ جواب لشرط محذوف أي يكون المتأخر ناسخا للمتقدم وإلا يطلب المخلص أي يدفع المعارضة ويجمع بينهما ما أمكن ويسمى عملا بالشبهين فإن تيسر فيها وإلا يترك ويصار من الكتاب إلى السنة ومنها إلى القياس وأقوال الصحابة رضي الله تعالى عنهم إن أمكن ذلك وإلا يجب تقرير الأصل على ما كان في سؤر الحمار عند تعارض الآثار روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه نجس وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه طاهر وأيضا قد تعارضت الأدلة في حرمة لحمه وحله فلما تعارضت الأدلة يبقى الحكم على ما كان وهو أن الماء كان طاهرا فيكون طاهرا ولا يزيل الحدث لوقوع الشك في زوال الحدث فلا يزول بالشك
وهو أي التعارض في الكتاب والسنة إما بين آيتين أو قراءتين أو سنتين أو آية أو
____________________
(2/218)
سنة مشهورة والمخلص إما من قبل الحكم والمحل أو الزمان أما الأول فإما أن يوزع الحكم كقسمة المدعى بين المدعين أو بأن يحمل على تغاير الحكم كقوله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم وفي موضع آخر ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته الآية اللغو في الأولى ضد كسب القلب أي السهو
بدليل اقترانه به أي بكسب القلب حيث قال لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم وفي الثانية ضد العقد أي في الآية الثانية وهي قوله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان باللغو ضد العقد بدليل اقترانه بالعقد
والعقد قول يكون له حكم في المستقبل كالبيع ونحوه قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود فاللغو في هذه الآية ما يخلو عن الفائدة وقد جاء اللغو بهذا المعنى كما ذكر في المتن فاللغو يكون شاملا للغموس في
____________________
(2/219)
هذه الآية فتقتضي هذه الآية عدم المؤاخذة في الغموس والآية الأولى تقتضي المؤاخذة في الغموس لأن الغموس من كسب القلب والمؤاخذة ثابتة في كسب القلب فوقع التعارض في الغموس وهذا ما قاله في المتن
فاللغو في الآية الثانية يشمل الغموس إذ هو ما يخلو عن الفائدة كقوله تعالى لا يسمعون فيها لغوا وقوله تعالى وإذا سمعوا اللغو فأوجب عدم المؤاخذة فوقع التعارض فجمعنا بينهما بأن المراد من المؤاخذة في الأولى في الآخرة بدليل اقترانه بكسب القلب وفي الثانية في الدنيا أي بالكفارة فقال فكفارته
والشافعي رحمه الله تعالى يحمل المؤاخذة في
____________________
(2/220)
الآية الأولى على المؤاخذة في الثانية أي في الدنيا أي يحمل المؤاخذة في الآية الأولى على المؤاخذة في الآية الثانية وهي المؤاخذة في الدنيا حتى أوجب الكفارة في الغموس
والعقد في الثانية على كسب القلب الذي ذكر في الأولى أي يحمل الشافعي رحمه الله تعالى العقد في الآية الثانية على كسب القلب حتى يكون اللغو هو عين اللغو المذكور في الآية الأولى وهو السهو فلا يكون التعارض واقعا لكن ما قلنا أولى من هذا لأن على مذهبه يلزم أن لا يكون العقد مجرى على معناه الحقيقي وأيضا الدليل دال على أن المؤاخذة في الآية الأولى هي المؤاخذة الأخروية بدليل اقترانها بكسب القلب وهو يحملها على الدنيوية وأما على
____________________
(2/221)
مذهبنا فإن اللغو جاء لمعنيين فيحمل في كل موضع على ما هو أليق به وتحمل المؤاخذة في كل موضع على ما هو أليق به من الدنيوية أو الأخروية
وأقول لا تعارض هنا واللغو في الصورتين واحد وهو ضد الكسب لأنه لا يليق من الشارع أن يقول لا يؤاخذكم الله تعالى بالغموس والمؤاخذة في الصورتين في الآخرة لكن في الثانية سكت عن الغموس وذكر المنعقدة واللغو وقال الإثم الذي في المنعقدة يستر بالكفارة لا أن المراد المؤاخذة في الدنيا وهي الكفارة هذا وجه وقع في خاطري لدفع التعارض
واللغو في الآيتين واحد وهو السهو أما في الآية الأولى فبدليل اقترانه بكسب القلب وأما في الآية الثانية فلأنه لا يليق من الشارع أن يقول لا يؤاخذكم الله بالقول الخالي عن الفائدة الذي يدع الديار بلاقع أعني اليمين الفاجرة بل اللائق أن يقول لا يؤاخذكم الله بالسهو كما قال الله تعالى ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا والمراد بالمؤاخذة المؤاخذة الأخروية لأن الآخرة هي دار الجزاء والمؤاخذة
وقوله فكفارته لا يدل على أن المراد المؤاخذة الدنيوية لأن معنى الكفارة الستارة أي الإثم الحاصل بالمنعقدة يستر بالكفارة والآية الثانية دلت على عدم المؤاخذة في اليمين السهو وعلى المؤاخذة في المنعقدة وهي ساكتة عن الغموس فاندفع التعارض وثبت الحكم على وفق مذهبنا وهو عدم الكفارة في الغموس
وأما الثاني وهو المخلص من قبل المحل فبأن يحمل على تغاير المحل كقوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن بالتشديد والتخفيف فبالتخفيف يوجب الحل بعد الطهر قبل
____________________
(2/222)
الاغتسال وبالتشديد يوجب الحرمة قبل الاغتسال فحملنا المخفف على العشرة والمشدد على الأقل وإنما لم يحمل على العكس لأنها إذا طهرت لعشرة أيام حصلت الطهارة الكاملة لعدم احتمال العود وإذا طهرت لأقل منها يحتمل العود فلم تحصل الطهارة الكاملة فاحتيج إلى الاغتسال لتتأكد الطهارة
وأما الثالث أي المخلص من قبل الزمان فإنه إذا كان صريح اختلاف الزمان يكون الثاني ناسخا للأول فكذا إن كان دلالته كنصين أحدهما محرم والآخر مبيح يجعل المحرم ناسخا لأن قبل البعثة كان الأصل الإباحة والمبيح ورد لإبقائه ثم المحرم نسخه ولو جعلنا على العكس يتكرر النسخ أي لو قلنا إن المحرم كان متقدما على المبيح فالمحرم كان
____________________
(2/223)
ناسخا للإباحة الأصلية ثم المبيح يكون ناسخا للمحرم فيتكرر النسخ فلا يثبت التكرار بالشك وفيه نظر لأن الإباحة الأصلية ليست حكما شرعيا فلا تكون الحرمة بعده نسخا
وبيانه أنا لا نسلم أن المحرم لو كان متقدما لكان ناسخا للإباحة فإنه إنما كان ناسخا لها إن قد ورد في الزمان الماضي دليل شرعي دال على إباحة جميع الأشياء فيلزم حينئذ كون المحرم ناسخا لذلك المبيح لكن ورد الدليل المذكور غير مسلم فلا يكون المحرم ناسخا لذلك المبيح لما عرفت من تعريف النسخ ويمكن إتمام الدليل المذكور على وجه لا يرد عليه هذا النظر وهو أنه إذا انتفع المكلف بشيء قبل ورود ما يحرمه أو يبيحه فإنه لا يعاقب بالانتفاع به لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا لقوله تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعا فإن هذا الإخبار يدل على أن الإنسان إن انتفع بما في الأرض قبل ورود محرمه أو مبيحه لا يعاقب ثم لا شك أنه إذا ورد المحرم فقد غير الأمر المذكور وهو عدم العقاب على الانتفاع ثم إذا ورد المبيح فقد نسخ ذلك المحرم فيلزم منا تغييران وأما على العكس فلا يلزم إلا تغيير واحد فاندفع الإيراد المذكور بهذا التقرير فتقرر الدليل بهذا الطريق أو نقول عنينا بتكرر النسخ هذا المعنى لا النسخ بالتفسير الذي ذكرتم
وقد قال فخر الإسلام رحمه الله تعالى هذا أي تكرر النسخ بناء على قول من جعل الإباحة أصلا ولسنا نقول بهذا في
____________________
(2/224)
الأصل لأن البشر لم يتركوا سدى في شيء من الزمان وإنما هذا أي كون الإباحة أصلا بناء على زمان الفترة قبل شريعتنا فإن الإباحة كانت ظاهرة في الأشياء كلها بين الناس في زمان الفترة وذلك ثابت إلى أن يوجد المحرم وإنما كان كذلك لاختلاف الشرائع في ذلك الزمان ووقوع التحريفات في التوراة فلم يبق الاعتماد والوثوق على شيء من الشرائع فظهرت الإباحة بالمعنى المذكور وهو عدم العقاب على الإتيان به ما لم يوجد له محرم ولا مبيح
واعلم أن الشيء الذي لا يوجد له محرم ولا مبيح فإن كان الانتفاع به ضروريا كالتنفس ونحوه فغير ممنوع اتفاقا وإن لم يكن ضروريا كأكل الفواكه فعند بعض الفقهاء على الإباحة فإن أرادوا بالإباحة أن الله تعالى حكم بإباحته في الأزل فهذا غير معلوم وإن أرادوا عدم العقاب على الانتفاع به فحق
وعند بعض المعتزلة على الحظر فإن أرادوا أن الله تعالى حكم بحظره فغير معلوم وإن أرادوا العقاب على الانتفاع به فباطل لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقوله تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعا
وعند الأشعري على الوقف ففسر الوقف تارة بعدم الحكم وهذا باطل لأنه إما ممنوع من الله عن الانتفاع به أو ليس بممنوع والأول حظر والثاني إباحة ولا خروج عن النقيضين
وأجاب الإمام في المحصول عن هذا بأن المباح هو الذي أعلم الشارع فاعله أو دل على أنه لا حرج عليه في الفعل وهذا الجواب ليس بشيء لأن الخلاف في شيء لم يعلم الشارع بالحرج في فعله وتركه وعدمه فمعنى كلامه أن الشيء الذي لم يعلم الشارع بالحرج في فعله وتركه وعدم الحرج لم يعلم الشارع بعدم الحرج فيه
وهذا كلام حشو ولا خلاف في هذا وقد فسر الوقف تارة بعدم العلم بأن هناك حكما أم لا وإن كان حكم فلا نعلم أنه حظر أو إباحة أما عدم العلم بأن هناك حكما أم لا فباطل لأنا نعلم أن عند الله تعالى حكما لازما إما بالمنع أو بعدمه وأما أنه لا نعلم أن
____________________
(2/225)
الحكم حظر أو إباحة فحق فالحق عندنا أنا لا نعلم أن الحكم عند الله تعالى الحظر أو الإباحة ومع ذلك لا عقاب على فعله وتركه فعلم أنه لا خلاف بين من يقول إنا لا نعلم أن الحكم عند الله الحظر أو الإباحة وبين من يقول بالإباحة إذ لا معنى للإباحة إلا أنه لا يعاقب على الفعل والترك وهذا حاصل عند من يقول لا نعلم أن الحكم أيهما ولقوله عليه الصلاة والسلام ما اجتمع الحلال والحرام الحديث إلا وقد غلب الحرام الحلال
____________________
(2/226)
____________________
(2/227)
____________________
(2/228)
وأما إذا كان أحدهما مثبتا والآخر نافيا فإن كان النفي يعرف بالدليل كان مثل الإثبات وإن كان لا يعرف به بل بناء على العدم الأصلي فالمثبت أولى لما قلنا في المحرم والمبيح وإن احتمل الوجهين ينظر فيه أي إن احتمل النفي أن يعرف بدليل وأن يعرف بغير دليل بناء على العدم الأصلي ينظر في ذلك النفي فإن تبين أنه يعرف بالدليل يكون كالإثبات وإن تبين أنه بناء على العدم الأصلي فالإثبات أولى
فما روي أنه عليه الصلاة والسلام تزوج ميمونة وهو حلال مثبت وما روي أنه محرم ناف فإنه اتفق على أنه لم يكن في الحل الأصلي والإحرام حالة مخصوصة تدرك عيانا فكلاهما سواء فرجح بالراوي وروي أنه المحرم عبد الله بن عباس ولا يعدله يزيد بن الأصم ونحوه هذا نظير النفي الذي يعرف بالدليل
اعلم أن نكاح المحرم جائز عندنا تمسكا بما روي أنه عليه الصلاة والسلام تزوج ميمونة وهو محرم وتمسك الخصم بما روي أنه عليه الصلاة والسلام تزوج وهو حلال واتفقوا على أنه لم يكن في الحل الأصلي فالخلاف في أنه كان في الإحرام أو في الحل الذي بعد الإحرام فمعنى أنه تزوجها في الإحرام أنه لم يتغير الإحرام بعد ومعنى أنه تزوجها في الحل الذي بعد الإحرام أن الإحرام تغير إلى الحل فالأول ناف والثاني مثبت لكن الإحرام حالة مخصوصة مدركة عيانا فتكون كالإثبات فرجحنا بالراوي وهو ابن عباس رضي الله عنهما
____________________
(2/229)
ونحو أعتقت بريرة وزوجها حر مثبت وأعتقت وزوجها عبد ناف وهذا النفي مما يعرف بظاهر الحال فالمثبت أولى هذا نظير النفي الذي لا يكون بالدليل
اعلم أن الأمة التي زوجها حر إذا أعتقت يثبت لها خيار العتق عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى ولنا أنها أعتقت بريرة وزوجها حر ويروى أنها أعتقت وزوجها عبد فالأول مثبت والثاني ناف لأن معناه أن رقيته لم تتغير بعد وهذا نفي لا يدرك عيانا بل بقاء على ما كان فالمثبت أولى
____________________
(2/230)
وإذا أخبر بطهارة الماء ونجاسته فالطهارة وإن كانت نفيا لكنه مما يحتمل المعرفة بالدليل فيسأل فإن بين وجه دليله كان كالإثبات وإن لم يبين فالنجاسة أولى هذا نظير النفي الذي يحتمل معرفته بالدليل وتحتمل بناء على العدم الأصلي لأن طهارة الماء قد تدرك بظاهر الحال وقد تدرك عيانا بأن غسل الإناء بماء السماء أو بالماء الجاري وملأه بأحدهما ولم يغب عنه أصلا ولم يلاقه شيء نجس فإذا أخبر واحد بنجاسة الماء والآخر بطهارته فإن تمسك بظاهر الحال فإخبار النجاسة أولى وإن تمسك بالدليل كان مثل الإثبات
وعلى هذا الأصل يتفرع الشهادة على النفي
وأما في القياس عطف على قوله ففي الكتاب والسنة ومعناه إذا تعارض قياسان فلا يحمل على النسخ
وقول الصحابي فيما يدرك بالقياس كالقياس فيأخذ بأيهما شاء من القياسين وكذا يأخذ بأيهما شاء من قول الصحابي والقياس بعد شهادة قلبه ولا يسقطان بالتعارض كما يسقط النصان حتى يعمل بعده بظاهر الحال إذ في الأول أي في تعارض النصين إنما يقع التعارض للجهل المحض بالناسخ منهما فلا يصح عمله بأحدهما مع الجهل وهنا أي في القياسين ليس أي التعارض لجهل محض لأنه أي المجتهد وهو لم يذكر لفظا بل دلالة في كل واحد من الاجتهادين مصيب بالنظر إلى الدليل وإن لم يكن مصيبا بالنظر إلى المدلول على ما يأتي فكل واحد دليل له في حق العمل
فصل ما يقع به الترجيح فعليك استخراجه من مباحث الكتاب والسنة متنا وسندا أما المتن فكترجيح النص على الظاهر والمفسر على النص والمحكم على المفسر والحقيقة على المجاز والصريح على الكناية والعبارة على الإشارة والإشارة على الدلالة والدلالة على الاقتضاء وأما السند فكترجيح المشهور على خبر الواحد والترجيح بفقه الراوي وبكونه معروفا بالرواية والقياس عطف على الكتاب والسنة فما عرف عليته نصا صريحا أولى مما عرف إيماء وما عرف إيماء فبعضه أولى من البعض ثم ما عرف
____________________
(2/231)
إيماء أولى مما عرف بالمناسبة وأيضا ما عرف بالإجماع تأثير نوعه في نوعه أولى مما عرف بالإجماع تأثير الجنس في النوع وهذا أولى من عكسه وكل منهما أولى من الجنس في الجنس ثم الجنس القريب في الجنس القريب أولى من غير القريب ثم المركب من هذه الأقسام أولى من المفرد وأقسام المركبات بعضها أولى من بعض ومن أتقن المباحث السابقة لا يخفى عليه شيء من ذلك
والذي ذكروا في ترجيح القياس أربعة أمور الأول قوة لا أثر أي قوة التأثير كما مر في القياس والاستحسان وكما في مسألة طول الحرة فإن الشافعي رحمه الله تعالى يقول يرق ماؤه مع غنية عنه فلا يجوز كالذي تحته حرة وقلنا هذا نكاح يملكه العبد بإذن مولاه إذا دفع إليه مهرا يصلح للحرة وللأمة وقال تزوج من شئت فيملكه الحر وهذا أقوى أثرا أي قياسنا أقوى تأثيرا من قياس الشافعي رحمه الله تعالى إذ زيادة محل حل العبد على حل الحر قلب المشروع وتضييع الماء بالعزل بإذن الحرة يجوز فالإرقاق دونه لأن في الأول تضييع الأصل وفي الثاني تضييع الوصف وهو الحرية ونكاح الأمة لمن له سرية جائز مع وجود
____________________
(2/232)
ما ذكر من العلة وكما في نكاح الأمة الكتابية فإنه يقول الرق من الموانع وكذا الكفر فإذا اجتمعا يصير كالكفر بلا كتاب فلا يجوز للمسلم ولأن الضرورة ترتفع بإحلال الأمة المسلمة وقلنا هو نكاح يملكه العبد المسلم فكذا الحر المسلم على ما مر
وأيضا هو دين يصح معه للحر المسلم نكاح الحرة فكذا يصح للحر نكاح الأمة أي دين الكتابية دين يصح معه للحر المسلم نكاح الحرة التي هي على هذا الدين فكذا يصح للحر المسلم نكاح الأمة التي هي على هذا الدين فهذا أقوى أثرا لأن الرق منصف لا محرم كما في الطلاق والعدة والقسم والحدود لأن الرقيق له شبه بالحيوانات والجمادات بواسطة الكفر فمن هذا الشبه قلنا إنه مال ثم له شبه بالحر من حيث الذات فأوجب هذان الشبهان التنصيف في استحقاق النعم التي تختص بالإنسان
____________________
(2/233)
فطرف الرجال يقبل العدد بأن يحل للحر أربع وللعبد ثنتان لا طرف النساء فينتصف باعتبار الأحوال فتحل الأمة مقدمة على الحرة لا مؤخرة فأما في المقارنة فقد غلبت الحرمة كما في الطلاق والقرء أي لما كان الرق منصفا وطرف الرجال يقبل التنصيف بالعدد في حل النكاح بأن يحل للعبد ثنتان وللحر أربع أما طرف النساء فلا يقبل التنصيف بالعدد لأن الحرة لا يحل لها إلا زوج واحد فلا يمكن تنصيف الزوج الواحد فاعتبرنا التنصيف بالأحوال بأنها لو كانت متقدمة على الحرة يصح نكاحها وإن كانت متأخرة لا يصح وإن كانت
____________________
(2/234)
مقارنة لا يصح أيضا تغليبا للحرمة كما في الطلاق والأقراء فثبت بهذا أن كل نكاح يصح للحرة فإنه يصح للأمة الكتابية إذا لم تكن متأخرة عن الحرة أو مقارنة لها فيصح للحر المسلم نكاح الأمة الكتابية إذا لم تكن على الحرة
وقوله كما في الطلاق فيه نظر فإن كون طلاق الأمة اثنين ليس تغليب الحرمة بل تغليب الحل لأن الزوج إذا كان مالكا للطلقتين عليها فإن الحل يكون أكثر مما كان مالكا للطلقة الواحدة ثم عطف على قوله وكما في نكاح الأمة الكتابية قوله وكما في مسح الرأس إن المسح في التخفيف أقوى أثرا من الركن في التثليث والثاني قوة ثباته على الحكم والمراد منه كثرة اعتبار الشارع هذا الوصف في هذا الحكم كالمسح في التخفيف في كل تطهير غير معقول كالتيمم ومسح الخف والجبيرة والجورب بخلاف الركن فإن الركنية لا توجب التكرار كما في أركان الصلاة بل الإكمال ونحن نقول به أي بالإكمال وهو الاستيعاب
وكقولنا في صوم رمضان إنه متعين فلا يجب التعيين وهذا الوصف اعتبره الشارع في الودائع والمغصوب ورد المبيع بيعا فاسدا والأيمان ونحوها فإن رد الوديعة والمغصوب متعين عليه فلا يجب أن يعين أن هذا الرد رد الوديعة والمغصوب وكذا لا
____________________
(2/235)
يجب التعيين في رد المبيع بيعا فاسدا وكذا في الأيمان أن البر واجب عليه متعينا فلا يجب عليه التعيين أنه فعله لأجل البر
وكمنافع الغصب فإنه يقول ما يضمن بالعقد يضمن بالإتلاف تحقيقا للجبر بالمثل تقريبا وإن كان فيه فضل فهو على المعتدي أي إن كان المثل التقريبي وهو الضمان مماثلا في الحقيقة لتلك المنافع فهو المطلوب وإن لم يكن مماثلا في الحقيقة يكون المثل التقريبي أفضل من تلك المنافع لأن الأعيان الباقية خير من الأعراض الغير باقية وهذا الفضل على المتعدي أولى من إهدار حق المظلوم اللازم على تقدير عدم وجوب الضمان ولأن إهدار الوصف أسهل من إهدار الأصل يعني إن أوجبنا الضمان لا يلزم إلا إهدار كون المماثلة تامة وإن لم نوجب الضمان يلزم إهدار حق المغصوب منه في
____________________
(2/236)
المثل بالكلية في الأصل والوصف فالأول أسهل من هذا
قلنا التقييد بالمثل واجب في كل باب كالأموال كلها والصلاة والصوم ونحوهما ووضع الضمان عن المعصوم جائز في الجملة أي عدم إيجاب الضمان في إتلاف المال المعصوم جائز في الجملة كإتلاف العادل مال الباغي والحربي مال المسلم والفضل على المتعدي غير مشروع أصلا قال الله تعالى فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم
ويلزم منه أي من إيجاب الفضل على المتعدي نسبة الجور ابتداء إلى صاحب الشرع المراد من الابتداء أن يكون بلا واسطة فعل العبد وفيه احتراز عن إيجاب القيمة فيما لا مثل له لأن الواجب فيه قيمة عدل وهو معلوم عند الله تعالى والتفاوت إنما يقع لعجزنا عن معرفة ذلك الواجب فإن وقع فيه جور فهو منسوب إلى العبد أما في مسألتنا في التفاوت في نفس ذلك الواجب لأن المال المتقوم لا يماثل المنفعة فلو وجب يكون التفاوت مضافا إلى الشارع وذا لا يجوز
أما عدم الضمان فمضاف إلى عجزنا عن الدرك أي إن قلنا بعدم الضمان فإنما نقول به لعجزنا عن درك المثل فإن وقع جور يكون منسوبا إلينا لا إلى الشارع فهذا أولى ثم أجاب عن قوله ولأن إهدار الوصف أسهل إلخ بقوله ولأن الوصف وإن قل فائت أصلا
____________________
(2/237)
بلا بدل والأصل وإن عظم فائت إلى ضمان في دار الجزاء فكان هذا تأخيرا والأول إبطالا وتقريره أن الوصف وهو كون المماثلة تامة يفوت على تقدير وجوب الضمان بلا بدل والأصل وهو حق المغصوب منه في المثل يفوت إلى بدل يصل إليه في دار الجزاء فهذا الفوت تأخير والأول وهو فوت الوصف إبطال فالتأخير أولى
وضمان العقد قد يثبت بالتراضي مع عدم المماثلة جواب عن قياس الشافعي رحمه الله تعالى وهو قوله ما يضمن بالعقد يضمن بالإتلاف فالأمثلة الثلاثة المذكورة وهي قوله كالمسح في التخفيف وكقولنا في صوم رمضان وكمنافع الغصب أوردناها لترجيح القياس على القياس بكثرة اعتبار الشارع الوصف في الحكم المذكور أما الأول فقياسنا وهو قولنا مسح فلا يسن تثليثه راجح على قياس قول الشافعي رحمه الله تعالى وهو قوله ركن فيسن تثليثه لكثرة اعتبار الشارع المسح في التخفيف وأما الثاني فقياسنا وهو قولنا صوم رمضان متعين فلا يجب تعيينه كما في سائر المتعينات راجح على قياسه وهو قوله صوم رمضان صوم فرض فيجب تعيينه كالقضاء لكثرة اعتبار الشارع التعين في سقوط التعيين وأما الثالث فقياسنا وهو أن التقييد بالمثل واجب في غصب المنافع كما في سائر العدوانات لكن رعاية المثل غير ممكن في المنافع فلا يجب راجح على قياسه وهو قوله ما يضمن بالعقد إلخ لكثرة اعتبار الشارع المماثلة في جميع صور قضاء الصلاة والصوم ونحوهما وجميع العدوانات
والثالث كثرة الأصول وهو قريب من الثاني
والرابع وهو العكس أي العدم عند العدم أي عدم الحكم في
____________________
(2/238)
جميع صور عدم الوصف كقولنا مسح أي مسح الرأس مسح فلا يسن تكراره كمسح الخف فإنه ينعكس فإن كل ما ليس بمسح فإنه يسن تكراره
بخلاف قوله ركن لأن المضمضة متكررة وليست بركن أي مسح الرأس ركن وكل ما هو ركن يسن تكراره كسائر الأركان فإنه غير منعكس لأن عكسه أن كل ما هو ليس بركن لا يسن تكراره وهذا غير صادق لأن المضمضة والاستنشاق ليس بركنين ومع ذلك يسن تكرارهما
واعلم أنه إنما جعل عدم الحكم في جميع صور عدم الوصف عكسا لأن المراد بالعكس ما هو متعارف بين الناس وهو جعل المحكوم به محكوما عليه مع رعاية الكلية إذا كان الأصل كليا
يقال كل إنسان حيوان ولا ينعكس أي لا يصدق كل حيوان إنسان وإذا عرفت هذا فعدم الحكم في جميع صور عدم الوصف لازم لهذا العكس فسماه عكسا لهذا
وإنما قلنا إنه لازم لأن الأصل وهو قولنا كلما وجد الوصف وجد الحكم وعكسه كلما وجد الحكم وجد الوصف ومن لوازم هذا كلما لم يوجد الوصف لم يوجد هذا الحكم فسمي هذا عكسا
وكقولنا في بيع الطعام بالطعام مبيع عين فلا يشترط قبضه أي كل مبيع متعين لا يشترط قبضه كما في سائر المبيعات المعينة
وينعكس بدل الصرف والسلم فإن كل مبيع غير متعين يشترط قبضه كما في الصرف والسلم فإنه أولى من قوله كل منهما مال لو قوبل بجنسه حرم ربا الفضل أي كل من الطعامين مال لو قوبل بجنسه حرم ربا الفضل فكل مال لو قوبل بجنسه حرم ربا الفضل فإنه يشترط التقابض فيه فإنه لا ينعكس لاشتراط قبض رأس مال السلم في غير الربوي وذلك لأن عكس القضية المذكورة هو قولنا كل مال لو قوبل بجنسه لا يحرم ربا الفضل فإنه لا يشترط قبضه وهذا غير صحيح لأن رأس مال السلم يشترط قبضه وإن كان مالا لو قوبل بجنسه لا يحرم ربا الفضل فالمراد بغير الربوي في المتن هذا المال كالثياب مثلا وهذا العكس هو أضعف وجوه الترجيح أما كونه من وجوه الترجيح فلأنه إذا وجد وصفان مؤثران أحدهما بحيث يعدم الحكم عند عدمه فإن الظن بعليته أغلب من الظن بعلية ما ليس كذلك وأما كونه أضعف فلأن المعتبر في العلية التأثير ولا اعتبار للعدم عند عدم الوصف
____________________
(2/239)
لأن الحكم يثبت بعلل شتى فما يرجع إلى تأثير العلل وهو الثلاثة الأول أقوى من العدم عند العدم
مسألة إذا تعارض وجوه الترجيح فما كان بالذات أولى مما كان بالحال أي الترجيح بالوصف الذاتي أولى من الترجيح بالوصف العارض كما إذا تعارض جهتا الفساد والصحة في صوم رمضان لم يبيته أي لم ينو الصوم من الليل فإنه لا يصح الصوم عند الشافعي رحمه الله تعالى ويصح عندنا
هو يرجح الفساد بكونه عبادة ونحن نرجح الصحة بكون النية في أكثر اليوم فالترجيح بالكثرة ترجيح بالذات وذلك بالعارضي وذلك لأن بعض الصوم وقع فاسدا لعدم النية فإنه لا عبادة بدون النية والبعض وقع صحيحا لوجود النية لكن الصوم لا يتجزأ فإما أن يفسد الكل وإما أن يصح الكل فلا بد من ترجيح أحدهما على الآخر فالشافعي رحمه الله تعالى يرجح الفاسد على الصحيح بوصف العبادة فإن وصف العبادة يوجب الفساد وهو وصف عارضي لأن وصف العبادة للإمساك عارضي لأن الإمساك من حيث الذات ليس بعبادة بل صار عبادة بجعل الله تعالى وهو أمر خارج عن الإمساك ونحن نرجح الصحيح على الفاسد بكون النية واقعة في أكثر النهار والترجيح بالكثرة ترجيح بالوصف الذاتي لأن الكثرة وصف يقوم بالكثير بحسب أجزائه فيكون وصفا ذاتيا إذ المراد بالوصف الذاتي وصف يقوم بالشيء بحسب ذاته أو بحسب بعض أجزائه والوصف العارضي وصف يقوم بالشيء بحسب أمر خارج عنه
____________________
(2/240)
وذكروا له أمثلة أخرى وفيما ذكرنا كفاية
فصل ومن التراجيح الفاسدة الترجيح بغلبة الأشباه كقوله أي كقول الشافعي رحمه الله تعالى في أن الأخ المشترى لا يعتق عنده الأخ يشبه الولد بوجه وهو المحرمية وابن العم بوجوه كحل الزكاة وحل زوجته وقبول الشهادة ووجوب القصاص وهذا باطل لأن المشابهة في وصف واحد مؤثر في الحكم المطلوب أقوى منها أي من المشابهة في ألف وصف غير مؤثر
ومنها الترجيح بكون الوصف أعم كالطعم فإنه يشمل القليل والكثير ولا اعتبار لهذا إذ الترجيح بالقوة وهو التأثير لا بصورته
ومنها الترجيح بقلة الأجزاء فإن علة ذات جزء أولى من ذات جزأين ولا أثر لهذا المسألة يرجح بكثرة الدليل عند البعض لغلبة الظن بها أي لأجل حصول غلبة الظن بالحكم بسبب كثرة الدليل
ولأن ترك الأقل أسهل من ترك الكل أو الأكثر أي إذا تعارض الأدلة الكثيرة والقليلة
____________________
(2/241)
ولا يمكن الجمع بينهما لامتناع اجتماع الضدين فإما أن يترك الجميع أو الأكثر أو الأقل وترك الدليل خلاف الأصل فترك الأقل أسهل من ترك الكل أو الأكثر
لا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأبي يوسف لهما أن كل دليل مع قطع النظر عن غيره مؤثر فوجود الغير وعدمه سواء وأيضا القياس على الشهادة فإنه لا يرجح بكثرة الشهود إجماعا فقوله والقياس عطف على قوله أن كل دليل ثم عطف على القياس قوله والإجماع على عدم ترجيح ابن عم هو زوج أو أخ لأم في التعصيب فإنه لا يرجح بحيث يستحق جميع المال على ابن عم ليس كذلك بل يستحق بكل سبب على انفراده ولو كان الترجيح بكثرة الدليل ثابتا كان الترجيح بكثرة دليل الإرث ثابتا واللازم منتف
خلافا لابن مسعود رضي الله عنه في الأخير أي في ابن عم هو أخ لأم فإنه راجح عند ابن مسعود
____________________
(2/242)
رضي الله عنه على ابن عم ليس كذلك أي يستحق جميع الميراث ويحجب الآخر
بخلاف الأخ لأب وأم فإنه يرجح على الأخ لأب بالأخوة لأم لأن هذه الجهة أي جهة الأخوة لأم تابعة للأولى أي للإخوة لأب والحيز متحد أي حيز القرابة متحد لأن الأخوة لأب والأخوة لأم كل منهما أخوة فيحصل بهما أي بأخوة لأب والأخوة لأم هيئة اجتماعية بخلاف الأوليين فيصير مجموع الأخوتين قرابة واحدة قوية فيترجح على الأضعف فلا يرجح بكثرة الرواة ما لم تبلغ حد الشهرة فإنه يحصل حينئذ هيئة اجتماعية
هذه تفريعات
____________________
(2/243)
على عدم الترجيح بكثرة الدليل فالرواة إذا لم يبلغوا حد التواتر لم تحصل هيئة اجتماعية أما إذا بلغوا فقد حصل هيئة اجتماعية تمنع التوافق على الكذب وقبل بلوغ هذا الحد يحتمل كذب كل واحد منهم
واعلم أنا نرجح بالكثرة في بعض المواضع كالترجيح بكثرة الأصول وكترجيح الصحة على الفساد بالكثرة في صوم غير مبيت ولا نرجح بالكثرة في بعض المواضع كما لم نرجح بكثرة الأدلة ولنا في ذلك فرق دقيق
وهو أن الكثرة معتبرة في كل موضع يحصل بها هيئة اجتماعية ويكون الحكم منوطا بالمجموع من حيث هو المجموع وأنها غير معتبرة في كل موضع لا يحصل بالكثرة هيئة اجتماعية ويكون الحكم منوطا بكل واحد منها لا بالمجموع واعتبر هذا بالشاهد فإن كل أمر منوط بالكثرة كحمل الأثقال والحروب ونحوهما فإن الأكثر فيه راجح على الأقل وكل أمر منوط بكل واحد واحد كالمصارعة مثلا فإن الكثير لا يغلب القليل فيها بل رب واحد قوي يغلب الآلاف من الضعاف فكثرة الأصول من قبيل الأول لأنها دليل قوة تأثير الوصف فهي راجعة إلى القوة فتعتبر وكثرة الأدلة من قبيل الثاني لأن كل واحد دليل هو مؤثر بنفسه بلا مدخل لوجود الآخر أصلا فإن الحكم منوط بكل واحد لا بالمجموع من حيث هو المجموع بخلاف الكثرة التي هي في الصوم فإن هذا الحكم تعلق بالأكثر من حيث هو الأكثر لا بكل واحد من
____________________
(2/244)
الأجزاء فيكون من قبيل الأول هذا هو الأصل فأحكمه وفرع عليه الفروع
وقوله ولا القياس بقياس آخر عطف على الضمير المرفوع في قوله فلا يرجح ومعناه أنه إذا كانت العلة في أحدهما مغايرة للعلة في الآخر لكنهما أديا إلى حكم واحد كما أن علة الربا عند الشافعي رحمه الله تعالى الطعم وعند مالك الطعم والادخار فكل واحد من العلتين يوجب حرمة بيع الحفنة من الحنطة بحفنتين منها وأما إذا كانت العلة فيهما شيئا واحدا لكن المقيس عليه متعدد فإنه حينئذ لا يكون قياسان بل قياس واحد مع كثرة الأصول وهذا يصلح للترجيح
ولا الحديث بحديث آخر وعلى هذا كل ما يصلح علة لا يصلح مرجحا وكذا إذا جرح أحدهما جراحة والآخر عشر جراحات فالدية نصفان وكذا الشفيعان بشقصين متفاوتين
والشافعي رحمه الله تعالى لا يرجح صاحب الكثير أيضا بمعنى أن يكون هو المستحق دون الآخر ولكن يقسم بقدر الملك لأن الشفعة من مرافق الملك كالثمرة والولد فنقول حكم العلة لا يتولد منها ولا ينقسم عليها المراد بالعلة هاهنا العلة الفاعلية وهي التي يحصل المعلول بها فإن المعلول غير متولد منها وغير منقسم عليها بخلاف العلة المادية وهي التي يحصل المعلول منها فالمعلول يتولد منها وينقسم عليها كالولد والثمر فاستحقاق الشفعة غير متولد من الدار المشفوع بها بل هو ثابت بها لا منها فلا تنقسم عليها
باب الاجتهاد شرطه أن يحوي علم الكتاب بمعانيه لغة وشرعا وأقسامه المذكورة وعلم السنة متنا وسندا ووجوه القياس كما ذكرنا
وحكمه غلبة الظن على احتمال الخطأ
____________________
(2/245)
فالمجتهد عندنا يخطئ ويصيب وعند المعتزلة كل مجتهد مصيب وهذا بناء على أن عندنا في كل حادثة حكما معينا عند الله تعالى وعندهم لا بل الحكم ما أدى إليه اجتهاد كل مجتهد فإذا اجتهدوا في حادثة فالحكم عند الله تعالى في حق كل واحد مجتهده
لهم أن المجتهدين كلفوا بإصابة الحق ولولا تعدد الحقوق يلزم التكليف بما ليس في وسعهم وهذا كالاجتهاد في القبلة فإن القبلة جهة التحري حتى أن المخطئ يخرج عن عهدة الصلاة
واختلاف الحكم بالنسبة إلى قومين جائز كما كان في إرسال رسولين على قومين ثم اختلفوا فقال بعضهم بتساوي الحقوق لأن دليل التعدد لا يوجب التفاوت وعند بعضهم واحد منها أحق لأنها لو
____________________
(2/246)
استوت لأصيبت بمجرد الاختيار ولسقط الاجتهاد وفيه نظر لأنه قبل الاجتهاد لا يعلم أن جميع الاجتهادات تتفق على شيء واحد فيكون الحق واحدا أو تختلف فيكون حينئذ متعددا
ولنا قوله تعالى ففهمناها سليمان وقوله عليه الصلاة والسلام إن أصبت فلك عشر حسنات وإن أخطأت فلك حسنة وفي حديث آخر جعل الله للمصيب أجرين وللمخطئ واحدا وقال ابن مسعود رضي الله عنه إن أصبت فمن الله تعالى وإن أخطأت فمني ومن الشيطان ولأن الثابت بالقياس ثابت بمعنى النص وإن ورد نصان صيغة في حادثة لا يتعدد الحق اتفاقا فكيف إذا وردا معنى أي كيف يتعدد الحق إذا وردا معنى
نظيره حلي النساء فإنا نقول بوجوب الزكاة فيها قياسا على المضروب والشافعي رحمه الله تعالى بعدم وجوب الزكاة قياسا على الثياب فإن كلا منهما مصروف لحاجته فمعنى القياس أن النص الوارد في
____________________
(2/247)
المقيس عليه وارد في المقيس معنى وإن لم يكن واردا صريحا فلو كان النصان واردين فيه صريحا كان الحق واحدا لأنه لا تعارض في أدلة الشرع فيكون أحدهما منسوخا والآخر ناسخا فإذا كان النصان وهما النص الوارد في المضروب والنص الوارد في الثياب واردين في الحلي من حيث المعنى لا يدلان على حقيقة مدلولي كل منهما إذ دلالتهما معنى لا تزيد على دلالتهما صريحا ولو وجدت دلالتهما صريحا لا يكون مدلول كل منهما حقا فكذا إذا وجدت دلالتهما معنى بالطريق الأولى
____________________
(2/248)
____________________
(2/249)
ولأن الجمع بين الحظر والإباحة ممتنع وكذا بالنسبة إلى قومين في شريعتنا والتكليف بالاجتهاد يفيد جواب عن قول المعتزلة أن المجتهدين كلفوا لأنه إن أخطأ فهو مصيب نظرا إلى الدليل وله الأجر وأما مسألة القبلة فإن فساد صلاة من خالف الإمام عالما يدل على
____________________
(2/250)
مذهبنا فأما عدم إعادة المخطئ للكعبة فلأنها غير مقصودة لكن الشرع جعلها وسيلة إلى المقصود وهو وجه الله تعالى فأقيم غلبة ظن إصابتها مقام إصابتها ثم اختلف علماؤنا في المخطئ فعند البعض مخطئ ابتداء وانتهاء أي بالنظر إلى الدليل وبالنظر إلى الحكم لما روينا من إطلاق الخطأ في الحديث ولقوله عليه الصلاة والسلام في أسارى بدر حين نزل لولا كتاب من الله سبق الآية لو نزل بنا عذاب ما نجا منه إلا عمر رضي الله تعالى عنه هذا هو المقول لقوله عليه الصلاة والسلام فدل هذا الحديث على أن المجتهد المخطئ مخطئ ابتداء وانتهاء لأن المجتهد لو كان مصيبا من وجه لما كانوا مستحقين لنزول العذاب وقد مر هذا الحديث وقصته في الركن الثاني في السنة
وعند البعض مصيب ابتداء مخطئ انتهاء وهذا ما قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى كل مجتهد مصيب والحق عند الله واحد فإن كان الحق عند الله واحدا لا يراد أن كل مجتهد
____________________
(2/251)
مصيب بالنظر إلى الحكم بل بالنظر إلى الدليل بمعنى أنه قد أقام الدليل كما هو حقه مستجمعا لشرائطه وأركانه فيكون آتيا بما كلف به من الاعتبار وليس في وسعه إقامة البرهان القطعي في الشرعيات حتى يكون مدلوله قطعيا ألبتة لقوله تعالى ففهمناها سليمان الآية فسمى عمل كليهما حكما وعلما لكن سليمان عليه الصلاة والسلام خص بإصابة الحق المطلوب وتنصيف الأجر يدل على هذا أيضا أي على أنه مصيب من وجه دون وجه آخر
وأما قوله تعالى لولا كتاب من الله سبق لمسكم فإن الحكم في الأسارى من قبل كان إما القتل أو المن ورخص النبي عليه الصلاة والسلام بالفداء أيضا فلولا الكتاب السابق بإباحة الفداء وهو الرخصة لمسكم العذاب على ترك العزيمة فنزول العذاب كان واجبا على تقدير عدم سبق الكتاب لكن سبق الكتاب كان واقعا فلا يستحقون العذاب واقعا بسبب الخطأ في الاجتهاد بعد سبق الكتاب
____________________
(2/252)
والمخطئ في الاجتهاد لا يعاقب إلا أن يكون طريق الصواب بينا والله أعلم
القسم الثاني من الكتاب في الحكم ويفتقر إلى الحاكم وهو الله تعالى لا العقل على ما مر في باب الأمر
والمحكوم به وهو فعل المكلف والمحكوم عليه وهو المكلف ونورد الأبحاث في ثلاثة أبواب باب في الحكم اعلم أني اخترعت تقسيما حاصرا على وفق مذهبنا
____________________
(2/253)
وعلى ما هو المذكور في كتبنا من الأقسام المتفرقة وهو قسمان إما أن لا يكون حكما بتعلق شيء بشيء آخر أو يكون كالحكم بأن لهذا ركن ذلك أو سببه أو نحو ذلك
اعلم أن المراد بالتعلق تعلق زائد على التعلق بالحكم والمحكوم عليه والمحكوم به ككون الشيء ركنا لشيء أو علة أو شرطا فإن هذا التعلق بالحكم ونحوه حاصل في جميع الأحكام
أما القسم الأول فإما أن يكون صفة لفعل المكلف كالوجوب والحرمة وأمثالهما فإنها صفات لفعل المكلف أو أثرا له
الثاني كالملك فإن الملك هو أثر لفعل المكلف وما يتعلق به كملك المتعة وملك المنفعة وثبوت الدين في الذمة
والأول إما أن يعتبر فيه المقاصد الدنيوية اعتبارا أوليا أو الأخروية فإن صحة العبادة كونها بحيث توجب تفريغ الذمة فالمعتبر في مفهومها اعتبارا أوليا إنما هو المقصود الدنيوي وهو تفريغ الذمة وإن كان يلزمها الثواب مثلا وهو المقصود الأخروي لكنه غير معتبر في مفهومه اعتبارا أوليا والوجوب كون الفعل بحيث لو أتى به يثاب ولو تركه يعاقب فالمعتبر في مفهومه اعتبارا أوليا هو المقصود الأخروي وإن كان يتبعه المقصود الدنيوي كتفريغ الذمة ونحوه
أما الأول أي الذي يعتبر فيه
____________________
(2/254)
المقاصد الدنيوية
فالمقصود الدنيوي في العبادات تفريغ الذمة وفي المعاملات الاختصاصات الشرعية فكون الفعل موصلا إلى المقصود الدنيوي يسمى صحة وكونه بحيث لا يوصل إليه أصلا يسمى بطلانا وكونه بحيث يقتضي أركانه وشرائطه الإيصال إليه لا أوصافه الخارجية يسمى فسادا ثم في المعاملات أحكام أخر منها الانعقاد وهو ارتباط أجزاء التصرف شرعا فالبيع الفاسد منعقد لا صحيح ثم النفاذ وهو ترتب الأثر عليه كالملك فبيع الفضولي منعقد لا نافذ ثم اللزوم كونه بحيث لا يمكن رفعه
____________________
(2/255)
____________________
(2/256)
وأما الثاني أي ما يعتبر فيه المقاصد الأخروية فإما أن يكون حكما أصليا أي غير مبني على أعذار العباد أو لا يكون أما الأول وهو الحكم الأصلي فإن كان الفعل أولى من الترك مع منعه أي مع منع الترك فإن كان هذا أي كون الفعل أولى من الترك مع منع الترك بدليل قطعي فالفعل فرض وبظني واجب وبلا منعه فإن كان الفعل طريقة مسلوكة في الدين
____________________
(2/257)
فسنة وإلا فنفل ومندوب وإن كان على العكس أي إن كان الترك أولى من الفعل مع منع الفعل فحرام وبلا منعه فمكروه وإن استويا فمباح
فالفرض لازم علما وعملا حتى يكفر جاحده والواجب لازم عملا لا علما فلا يكفر جاحده بل يفسق إن استخف بأخبار الآحاد الغير المؤولة وأما مؤولا فلا ويعاقب تاركهما أي تارك الفرض والواجب إلا أن يعفو الله
والشافعي رحمه الله تعالى لم يفرق بين الفرض والواجب والتفاوت بين الكتاب وخبر الواحد في أن الكتاب نقل بطريق التواتر وخبر الواحد لم ينقل كذلك يوجب التفاوت بين مدلوليهما فيكون الحكم الذي دل عليه محكم الكتاب ثابتا يقينا والحكم الذي دل عليه محكم خبر الواحد ثابتا بغلبة الظن
وقد يطلق الواجب عندنا على المعنى الأعم أيضا أي أعم من الفرض والواجب بالتفسير المذكور وهو أن يكون الفعل أولى من الترك مع منع الترك أعم من أن يكون هذا المعنى بالمعنى القطعي أو الظني فيصح أن يقال صلاة الفجر واجبة
والسنة نوعان سنة الهدى وتركها يوجب إساءة وكراهية كالجماعة والآذان والإقامة ونحوها وسنة الزوائد وتركها لا يوجب ذلك كسنن النبي عليه الصلاة والسلام في لباسه وقيامه وقعوده والسنة المطلقة تطلق على طريقة النبي عليه الصلاة والسلام عند الشافعي رحمه الله تعالى وعندنا تقع على غيره أيضا فإن السلف كانوا يقولون سنة العمرين والنفل ما يثاب فاعله ولا يسيء تاركه وهو دون سنن الزوائد وهو الضمير يرجع إلى النفل لا يلزم بالشروع عند الشافعي رحمه الله تعالى لأنه مخير فيما لم يفعله بعد فله إبطال ما أداه تبعا وعندنا يلزم أي النفل بالشروع لقوله تعالى ولا تبطلوا أعمالكم ولأن ما أداه صار لله تعالى فوجب صيانته ولا سبيل إليها أي إلى صيانة ما أداه إلا بلزوم الباقي فالترجيح بالمؤدى أولى من العكس لأن العبادة مما يحتاط فيها ولما وجب صيانة ما صار لله تعالى تسمية وهو النذر فما صار فعلا أولى أي
____________________
(2/258)
صيانة ما صار لله تعالى فعلا أولى بالوجوب
وقوله فعلا نصب على التمييز وكذا قوله تسمية ويجوز أن ينصب تسمية وفعلا على الحال تقديره حال كونه مسمى وحال كونه مفعولا
____________________
(2/259)
____________________
(2/260)
____________________
(2/261)
والحرام يعاقب على فعله وهو إما حرام لعينه أي منشأ الحرمة عين ذلك الشيء كشرب الخمر وأكل الميتة ونحوهما
وإما حرام لغيره كأكل مال الغير والحرمة هنا ملاقية لنفس الفعل لكن المحل قابل له
وفي الأول أي في الحرام لعينه قد خرج المحل عن قبول الفعل فعدم الفعل لعدم المحل فيكون المحل هناك أي في الحرام لعينه أصلا والفعل تبعا فتنسب الحرمة إلى المحل لتدل على عدم صلاحيته للفعل لا أنه أطلق المحل ويقصد به الحال كما في الحرام لغيره ففي الحرام لغيره إذا قيل هذا الخبز حرام يكون مجازا بإطلاق اسم المحل على الحال أي أكله حرام وإذا قيل الميتة حرام فمعناه أنها منشأ الحرمة لا أنها
____________________
(2/262)
ذكر المحل وقصد به الحال فالمجاز ثمة في المسند إليه وهنا في المسند وهو قوله حرام إذا أريد به منشأ الحرمة
والمكروه نوعان مكروه كراهة تنزيه وهو إلى الحل أقرب ومكروه كراهة تحريم وهو إلى الحرمة أقرب وعند محمد لا بل هذا الإشارة ترجع إلى المكروه كراهة تحريم حرام لكن بغير القطعي كالواجب مع الفرض
وأما الثاني المراد بالثاني أن لا يكون حكما أصليا أي يكون مبنيا على أعذار العباد فيسمى رخصة وما وقع من القسم الأول أي الذي هو حكم أصلي في مقابلتها أي في مقابلة الرخصة يسمى عزيمة وهي إما
____________________
(2/263)
فرض الضمير يرجع إلى العزيمة أو واجب أو سنة أو نفل لا غير
والرخصة أربعة أنواع نوعان من الحقيقة أحدهما أحق بكونه رخصة من الآخر ونوعان من المجاز أحدهما أتم في المجازية من الآخر أي نوعان يطلق عليهما الرخصة حقيقة ثم أحدهما أحق بكونه رخصة من الآخر ونوعان يطلق عليهما اسم الرخصة مجازا لكن أحدهما أتم في المجازية أي أبعد من حقيقة الرخصة من الآخر
____________________
(2/264)
____________________
(2/265)
أما الأول أي الذي هو رخصة حقيقة وهو أحق بكونه رخصة من الآخر فما استبيح مع قيام المحرم والحرمة كإجراء كلمة الكفر مكرها أي بالقتل أو القطع فإن حرمة الكفر قائمة أبدا لأن المحرم للكفر وهو الدلائل الدالة على وجوب الإيمان قائمة فتكون حرمة الكفر قائمة أبدا أيضا لكن حقه أي حق العبد يفوت صورة له ومعنى وحق الله تعالى لا يفوت معنى لأن قلبه مطمئن بالإيمان فله أن يجري على لسانه وإن أخذ بالعزيمة وبذل نفسه حسبة في دينه فأولى وكذا الأمر بالمعروف وأكل مال الغير والإفطار ونحوه من العبادات أي إذا أكره على أكل مال الغير أو على الإفطار في رمضان أو أكره على ترك الصلاة ونحوها ففي هذه الصور له أن يعمل بالرخصة حقيقة لكن إن أخذ بالعزيمة وبذل نفسه فأولى
والثاني أي الذي هو رخصة حقيقة لكن الأول أحق منه بكونه رخصة ما استبيح مع قيام المحرم دون الحرمة كإفطار المسافر فإن المحرم للإفطار وهو شهود الشهر قائم لكن حرمة الإفطار غير قائمة رخص بناء على سبب تراخي حكمه فالسبب شهود الشهر والحكم وجوب الصوم وقد تراخى لقوله تعالى فعدة من أيام أخر والعزيمة أولى عندنا لقيام السبب ولأن في العزيمة نوع يسر لموافقة المسلمين
هذا دليل آخر على أن العزيمة أولى وتقريره أن العمل بالرخصة وترك العزيمة إنما شرع لليسر واليسر حاصل في العزيمة أيضا فالأخذ بالعزيمة موصل إلى ثواب يختص بالعزيمة ومتضمن ليس يختص
____________________
(2/266)
بالرخصة فالأخذ بها أولى إلا أن يضعفه الصوم فليس له بذل نفسه لأنه يصير قاتل نفسه بخلاف الفصل الأول أي إلا أن يضعف الصوم الصائم وهو استثناء من قوله والعزيمة أولى
وإنما قلنا إن الأول أحق بكونه رخصة من الثاني لأن في الثاني وجد السبب للصوم لكن حكمه متراخ فصار رمضان في حقه كشعبان فيكون في الإفطار شبهة كونه حكما أصليا في حق المسافر بخلاف الأول فإن المحرم والحرمة قائمان فالحكم الأصلي فيه الحرمة وليس فيه شبهة كون استباحة الكفر حكما أصليا فيكون الأول أحق بكونه رخصة
____________________
(2/267)
والثالث أي الذي هو رخصة مجازا وهو أتم في المجازية وأبعد عن الحقيقة من الآخر
ما وضع عنا من الإصر والأغلال يسمى رخصة مجازا لأن الأصل لم يبق مشروعا أصلا
والرابع أي الذي هو رخصة مجازا لكنه أقرب من حقيقة الرخصة من الثالث ما سقط مع كونه مشروعا في الجملة فمن حيث إنه سقط كان مجازا ومن حيث إنه مشروع في الجملة كان شبيها بحقيقة الرخصة بخلاف الفصل الثالث كقول الراوي رخص في السلم فإن
____________________
(2/268)
الأصل في البيع أن يلاقي عينا وهذا حكم مشروع لكنه سقط في السلم حتى لم يبق التعيين عزيمة ولا مشروعا وكذا أكل الميتة وشرب الخمر ضرورة فإن حرمتهما ساقطة هنا أي في حال الضرورة مع كونها ثابتة في الجملة لقوله تعالى إلا ما اضطررتم فإنه استثناء من الحرمة فالفرق بين هذا وبين الثاني أن المحرم قائم وفي الثاني وأما هاهنا فالمحرم غير قائم حال الضرر لقوله تعالى وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم فالنص ليس بمحرم في حال الضرورة ولأن الحرمة لصيانة عقل ولا صيانة عند فوت النفس وكذا صلاة المسافر رخصة إسقاط لقوله عليه السلام إن هذه صدقة الحديث روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال أنقصر الصلاة ونحن آمنون فقال عليه السلام إن هذه صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته وإنما سأل عمر رضي الله تعالى عنه لأن القصر متعلق بالخوف قال الله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن
____________________
(2/269)
تقصروا من الصلاة إن خفتم وهذه الآية دليل على أن التعليق بالشرط لا يدل على العدم عند عدم الشرط وكذا سؤال عمر دليل عليه أيضا لأنه لو كان دالا على عدم الحكم لما سأل عمر رضي الله عنه ولكان عالما بهذا لأنه من أهل اللسان وأرباب الفصاحة والبيان
____________________
(2/270)
والتصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط لا يحتمل الرد وإن كان أي التصدق ممن لا يلزم طاعته كولي القصاص فهاهنا أولى أي في صورة يكون التصدق ممن يلزم طاعته وهو
____________________
(2/271)
الله أولى أن يكون إسقاطا لا يحتمل الرد ولأن الخيار إنما يثبت للعبد إذا تضمن رفقا كما في الكفارة هذا دليل آخر على أن صلاة المسافر رخصة إسقاط وهو عطف على قوله لقوله عليه الصلاة والسلام والرفق هنا متعين في القصر فلا يثبت الخيار فتكون الرخصة رخصة إسقاط
أما صوم المسافر وإفطاره فكل منهما يتضمن رفقا ومشقة فإن الصوم على سبيل موافقة المسلمين أسهل وفي غير رمضان أشق فالتخيير يفيد فإن قيل إكمال الصلاة وإن كان أشق فثوابه أكمل فيفيد التخيير قلنا الثواب الذي يكون بأداء الفرض مساو فيهما وأما القسم الثاني من الحكم وهو الحكم الذي يكون حكما بتعلق شيء بشيء آخر فالشيء المتعلق إن كان داخلا في الآخر فهو ركن وإلا فإن كان مؤثرا فيه على ما ذكرنا في القياس فعلة وإلا فإن كان موصلا إليه في الجملة فسبب وإلا فإن توقف عليه وجوده فشرط وإلا فلا أقل من أن
____________________
(2/272)
يدل على وجوده فعلامة
وأما الركن فما يقوم به الشيء وقد شنع بعض الناس على أصحابنا فيما قالوا الإقرار ركن زائد والتصديق ركن أصلي فإنه إن كان أي الإقرار ركنا يلزم من انتفائه انتفاء المركب كما تنتفي العشرة بانتفاء الواحد فنقول الركن الزائد شيء اعتبره الشارع في وجود المركب لكن إن عدم بناء على ضرورة جعل الشارع عدمه عفوا واعتبر المركب موجودا حكما
وقولهم للأكثر حكم الكل من هذا الباب وهذا نظير أعضاء الإنسان فالرأس ركن ينتفي الإنسان بانتفائه واليد ركن لا ينتفي بانتفائه ولكن ينقص
____________________
(2/273)
وأما العلة فإما علة اسما ومعنى وحكما أي يضاف الحكم إليها هذا تفسير العلة اسما وهي مؤثرة فيه هذا تفسير العلة معنى ولا يتراخى الحكم عنها هذا تفسير العلة
____________________
(2/274)
حكما
كالبيع المطلق للملك والنكاح للحل والقتل للقصاص فعندنا هي مقارنة للمعلول كالعقلية وفرق بعض مشايخنا بينهما أي بين الشرعية والعقلية فقالوا المعلول يقارن العلل
____________________
(2/275)
العقلية ويتأخر عن الشرعية
وإما اسما فقط كالمعلق بالشرط على ما يأتي
وإما اسما ومعنى كالبيع الموقوف والبيع بالخيار فمن حيث إن الملك يضاف إليه علة اسما ومن حيث إنه مؤثر في الملك علة معنى لكن الملك يتراخى عنه فلا يكون علة حكما على ما ذكرنا أن الخيار يدخل على الحكم فقط في آخر فصل مفهوم المخالفة
ودلالة كونه علة لا سببا أن المانع إذا زال وجب الحكم به من حين الإيجاب وكالإجارة حتى صح تعجيل الأجرة تفريع على قوله إنه علة معنى حتى لو لم يكن كذلك لما صح التعجيل كالتكفير قبل الحنث عندنا
وليست علة حكما لأن المنفعة معدومة فيكون الحكم وهو ملك المنفعة متراخيا عن العقد
____________________
(2/276)
فلا يكون علة حكما لكنها أي الإجارة تشبه الأسباب لما فيها من الإضافة إلى وقت مستقبل كما إذا قال في رجب أجرت الدار من غرة رمضان يثبت الحكم من غرة رمضان بخلاف البيع الموقوف فإنه إذا زال المانع يثبت حكمه من وقت البيع حتى تكون الزوائد الحاصلة في زمان التوقف للمشتري فهو علة غير مشابهة بالأسباب بخلاف الإجارة وإنما تشبه الأسباب لأن السبب الحقيقي لا بد أن يتوسط بينه وبين الحكم العلة
فالعلة التي يتراخى
____________________
(2/277)
عنها الحكم لكن إذا ثبت لا يثبت من حين العلة تكون مشابهة للسبب لوقوع تخلل الزمان بينها وبين الحكم والتي إذا ثبت حكمها يثبت من أوله ولم يتخلل الزمان بينها وبين الحكم فلا تكون مشابهة للسبب
وكذا كل إيجاب مضاف نحو أنت طالق غدا فإنه علة اسما ومعنى لا حكما لكنه يشبه الأسباب
وكذا النصاب حتى يوجب صحة الأداء فيتبين بعد الحول أنه كان زكاة لأنه في أول الحول علة اسما للإضافة إليه ومعنى لكونه مؤثرا لأن الغنى يوجب مواساة الفقراء وليس علة حكما لتراخي الحكم عنه لكنه مشابه بالأسباب لأن الحكم متراخ إلى وجود النماء ولو لم يكن متراخيا إليه وكان النصاب علة من غير مشابهة بالأسباب ولو كان متراخيا إلى
____________________
(2/278)
ما هو علة حقيقية لكان النصاب سببا حقيقيا لكن النماء ليس بعلة حقيقة لأن النماء لا يستقل بنفسه بل هو وصف قائم بالمال فلا يصح أن يكون النماء تمام المؤثر بل تمام المؤثر المال النامي ولو كان متراخيا إلى شيء يجب حصوله بالنصاب لكان النصاب علة العلة والنماء لا يجب حصوله بالمال لكن النماء وصف قائم بالمال له شبه العلية لترتب الحكم عليه ولو كان النماء سببا مستقلا بنفسه وهو علة حقيقة لكان النصاب سببا حقيقيا فإذا كان للنماء شبه العلية كان للنصاب شبه السببية
وكذا مرض الموت والجرح فإنه يتراخى حكمه إلى السراية وكذا الرمي والتزكية عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى إذا رجع أي المزكي ضمن وكذا كل ما هو علة العلة كشراء القريب فإن كل ذلك علة اسما ومعنى لا حكما لكنه يشبه الأسباب وعلة العلة إنما تشبه السبب من حيث إنه يتخلل بينها وبين الحكم واسطة
واعلم أن الإمام فخر الإسلام رحمه الله تعالى أورد للعلة اسما ومعنى لا حكما عدة أمثلة منها البيع الموقوف والبيع بالخيار فهما علتان اسما ومعنى لا حكما وهما لا يشابهان الأسباب ومنها الإجارة وكل إيجاب مضاف والنصاب ومرض الموت والجرح وقد صرح في هذه الأمور أنها علة اسما ومعنى لا حكما
____________________
(2/279)
لكنها تشبه الأسباب ومنها علة العلة كشراء القريب فإن الشراء علة الملك والملك علة العتق وقد صرح فيها أنها علة تشبه الأسباب لكن لم يصرح أنها علة اسما ومعنى لا حكما والظاهر أن شراء القريب ليس علة اسما ومعنى لا حكما لأن الحكم غير متراخ عنه وإنما يشابه الأسباب لتوسط العلة وهو الملك وقد جعل الإمام فخر الإسلام رحمه الله تعالى العلة المشابهة بالسبب قسما آخر لكني لم أجعل كذلك لأنها لا تخرج من الأقسام السبعة التي تنحصر العلة فيها وذلك لأنه إن لم توجد الإضافة ولا التأثير ولا الترتيب لا توجد العلة أصلا وإن وجد أحدها منفردا يحصل ثلاثة أقسام وإن وجد الاجتماع بين اثنين منها فثلاثة أقسام أخر وإن وجد الاجتماع بين الثلاثة فقسم آخر فحمل سبعة
وقد علم من الأمثلة المذكورة أن العلة اسما ومعنى لا حكما قد توجد مع مشابهتها السبب كالإجارة ونحوها وقد توجد بدونها كالبيع الموقوف وقد توجد مشابهة السبب بدونها أي بدون العلة اسما ومعنى لا حكما كشراء القريب علة اسما ومعنى القريب المحرم وأظن أن شراء القريب يكون حكما لكنه يشابه السبب
وأما ما له شبه العلية كجزء العلة فيثبت به ما يثبت بالشبهة كربا النسيئة يثبت بأحد
____________________
(2/280)
الوصفين وهو إما القدر أو الجنس
وإما معنى وحكما كالجزء الأخير من العلة كالقرابة والملك للعتق فإذا تأخر الملك يثبت الحكم به أي العتق بالملك فإنه الجزء الأخير للعلة فيثبت الحكم به حتى تصبح نية الكفارة عند الشراء فإن نية الكفارة تعتبر عند الإعتاق فتعتبر النية عند الشراء ويضمن إذا كان شريكا عندهما أي عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ولا يضمن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى
والخلاف فيما إذا اشترياه معا أما إذا اشترى الأجنبي نصفه ثم القريب يضمن بالاتفاق والفرق لأبي حنيفة رحمه الله تعالى أن في
____________________
(2/281)
282 الأول رضي الأجنبي بفساد نصيبه حيث اشترك مع القريب ولا يعتبر جهله وفي الثاني لم يرض
وأن تأخر القرابة يثبت بها أي يثبت العتق بالقرابة حتى يضمن مدعي القرابة ولو كانت القرابة معلومة لم يضمن
كما إذا ورثا عبدا ثم ادعى أحدهما أنه قريبه بخلاف الشهادة أي إذا شهد واحد ثم واحد لا يضاف الحكم إلى الشهادة الأخيرة بل إلى المجموع فأيهما رجع يضمن النصف فإن الحكم يثبت بالمجموع لأنها إنما تعمل بالقضاء وهو يقع بهما وإما اسما وحكما لا معنى وهي إما بإقامة السبب الداعي مقام المدعو إليه كالسفر والمرض فإنهما أقيما مقام المشقة والنوم أقيم مقام استرخاء المفاصل والمس والنكاح مقام الوطء أي المس والنكاح يقومان مقام الوطء في ثبوت النسب وحرمة المصاهرة أما في الثلاثة الأول فلم يذكر في المتن المدعو إليه للظهور أو بإقامة الدليل مقام المدلول كالخبر عن المحبة أقيم مقامها في قوله إن أحببتني فأنت كذا والطهر مقام الحاجة في إباحة الطلاق واستحداث الملك مقام الشغل في الاستبراء والداعي إلى ذلك أي السبب المقتضي لإقامة الداعي مقام المدعو إليه والدليل مقام المدلول أحد الأمور الثلاثة المذكورة في المتن
إما دفع الضرورة كما في إن أحببتني وكما في الاستبراء وإما الاحتياط كما في تحريم الدواعي في المحرمات والعبادات وإما دفع الحرج كالسفر والطهر والتقاء الختانين والفرق بين دفع الحرج ودفع الضرورة أن في دفع الضرورة لا يمكن الوقوف على ذلك الشيء كالمحبة فإن وقوف الغير عليها محال فالضرورة داعية إلى إقامة الخبر عن المحبة مقام المحبة
أما المشقة في السفر والإنزال في التقاء الختانين فإن الوقوف عليهما ممكن
____________________
(2/282)
لكن في إضافة الحكم إليهما حرج لخفائهما وبالتقسيم العقلي بقي قسمان علة معنى فقط وعلة حكما فقط ولما جعلوا الجزء الأخير من العلة علة معنى وحكما لا اسما يكون الجزء الأول علة معنى لا اسما ولا حكما فالقسم الذي ذكرناه وهو ما له شبهة العلية كجزء العلة يكون هذا القسم بعينه
والعلة اسما وحكما إن كانت مركبة فالجزء الأخير علة حكما فقط كالداعي مثلا وإن كان مركبا من جزأين فالجزء الأخير علة حكما لا اسما ومعنى أيضا لما
____________________
(2/283)
أرادوا بالعلة حكما ما يقارنه الحكم فالشرط كدخول الدار مثلا علة حكما
____________________
(2/284)
وأما السبب فاعلم أنه لا بد أن يتوسط بينه وبين الحكم علة فإن كانت مضافة إليه أي إن كانت العلة مضافة إلى السبب كوطء الدابة شيئا فإنه علة لهلاكه وهذه العلة مضافة إلى سوقها وهو السبب فالسبب في معنى العلة فيضاف الحكم إليه فتجب الدية بسوق الدابة وقودها وبالشهادة بالقصاص إذا رجع لا القصاص عندنا أي لا يجب القصاص عندنا على
____________________
(2/285)
الشاهد إذا شهد أن زيدا قتل عمرا فاقتص ثم رجع الشاهد لأنه جزاء المباشرة وشهادته إنما صارت قتلا بحكم القاضي واختيار الولي وإن لم تكن مضافة إليه أي العلة مضافة إلى السبب
نحو أن تكون أي العلة فعلا اختياريا فسبب حقيقي لا يضاف الحكم إليه فلا يضمن ولا يشترك في الغنيمة الدال على مال السرقة وعلى حصن في دار الحرب أي لا يضمن الدال على مال يسرقه السارق ولا يشترك في الغنيمة الدال على حصن في دار الحرب لأنه توسط بين السبب والحكم علة هي فعل فاعل مختار وهو السارق في فصل السرقة والغازي في الدلالة على الحصن فتقطع هذه العلة نسبة الحكم إلى السبب ولا أجنبي أي ولا يضمن قيمة الولد أجنبي قال لآخر تزوج هذه المرأة فإنها حرة ففعل واستولدها فإذا هي أمة لا يضمن قيمة الولد بخلاف ما إذا زوجها الوكيل أو الولي على هذا الشرط
ولا يلزم أن المودع أو المحرم إذا دلا على الوديعة والصيد يضمنان مع أنهما سببان لأن المودع إنما يضمن بترك الحفظ الذي التزم والمحرم بإزالة الأمن إذا تقررت بإفضائها إلى القتل أي إذا
____________________
(2/286)
تقررت إزالة الأمن وإنما قال هذه لأنه لما قال إن المحرم إنما يضمن بإزالة الأمن
ورد عليه أنه ينبغي أن يضمن بمجرد الدلالة لأنه حصل إزالة الأمن بمجرد الدلالة فقال إنما يضمن بإزالة الأمن إذا تقررت بكونها مفضية إلى القتل إذ قيل الإفضاء لم يصر سببا للهلاك فلا يضمن ثم أقام الدليل على أن إزالة الأمن سبب للضمان بقوله فإن الصيد محفوظ بالبعد عن الناس بخلاف مال المسلم أي إذ دل رجل سارقا على مال مسلم لا يضمن فإن كونه محفوظا ليس لأجل البعد عن أيدي الناس فدلالته لا تكون إزالة الأمن
وصيد الحرم أي إذا دل عليه غير المحرم فإنه لا يضمن لأن كونه محفوظا ليس للبعد عن الناس بل لكونه في
____________________
(2/287)
الحرم
ومن دفع إلى صبي سكينا ليمسكه للدافع فوجأ به نفسه لا يضمن الدافع لأنه تخلل بين السبب وهو دفع السكين إلى الصبي وبين الحكم فعل فاعل مختار وهو قصد الصبي قتل نفسه
وإن سقط عن يده السكين فجرحه ضمن لأنه لم يتخلل هناك فعل فاعل مختار
____________________
(2/288)
فيضاف الحكم إلى السبب وهو الدفع
ومنه أي من السبب ما هو سبب مجازا كالتطليق والإعتاق والنذر المعلقة فالمعلقة صفة للتطليق والإعتاق والنذر نحو إن دخلت الدار فأنت طالق وإن دخلت فعبده حر وإن دخلت فلله علي كذا للجزاء متعلق بقوله ما هو سبب فالجزاء وقوع الطلاق والعتق ولزوم المنذور لأنها ربما لا توصل إليه لأن الشرط معدوم على خطر الوجود أي لأن هذه الأمور المعلقة ربما لا توصل إلى الجزاء وهذا دليل على كونها سببا مجازا
وكاليمين بالله للكفارة أي سبب للكفارة مجازا لأنها أي اليمين للبر فلا توصل إلى الكفارة إذ الكفارة تجب عند الحنث فلا يكون اليمين موصلة إلى الكفارة فلا تكون سببا لها حقيقة بل مجازا
ثم إذا وجد الشرط أي في صورة تعليق الطلاق والعتاق والنذر بالشرط يصير الإيجاب السابق علة حقيقة بخلاف اليمين للكفارة فإن الحنث
____________________
(2/289)
علتها وعند الشافعي رحمه الله تعالى هي أسباب في معنى العلل حتى أبطل التعليق بالملك أي إن قال لأجنبية إن نكحتك فأنت طالق أو لعبد إن ملكتك فأنت حر يكون باطلا لعدم الملك عند وجود العلة
وجوز التكفير بالمال قبل الحنث لجواز التعجيل قبل وجود الشرط
____________________
(2/290)
إذا وجد السبب كالزكاة قبل الحول إذا وجد السبب وهو النصاب
ثم عندنا لهذا المجاز شبهة الحقيقة هذا الكلام متصل بقوله ومنه ما هو سبب مجازا وهذا يتبين في أن التنجيز هل يبطل التعليق أم لا فعند زفر رحمه الله تعالى لا لأنه لما لم يكن الملك والحل عند وجود الشرط قطعي الوجود ليصح التعليق شرطنا وجودهما في الحال ليترجح جانب الوجود عند وجود الشرط فكما لا يبطله زوال الملك لا يبطله زوال الحل
صورة المسألة إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق ثم قال لها أنت طالق ثلاثا فعندنا يبطل التعليق حتى إذا تزوجها بعد التحليل ثم دخلت الدار لا يقع الطلاق وعند زفر رحمه الله تعالى لا يبطل التعليق فيقع الطلاق هو يقول شرط صحة التعليق وجود الملك عند وجود الشرط لا عند وجود التعليق لأن زمان وجود الشرط هو زمان وقوع الطلاق ووقوع الطلاق يفتقر إلى الملك وأما التعليق فلا افتقار له إلى الملك حال التعليق فإذا علق
____________________
(2/291)
بالملك نحو إن تزوجتك فأنت طالق فالملك قطعي الوجود عند وجود الشرط فيصح التعليق وإن علق بغير الملك نحو إن دخلت الدار فأنت طالق فشرط صحة التعليق وجود الملك عند وجود الشرط وغير ذلك معلوم فيستدل بالملك حال التعليق على الملك حال وجود الشرط بالاستصحاب فإذا وجد الملك حال التعلق صح التعليق ثم لا يبطله زوال الملك فكما لا يبطله زوال الملك لا يبطله زوال الحل أيضا والمراد بزوال الحل وقوع الطلاق الثالث في قوله تعالى فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره
قلنا اليمين شرعت للبر فلا بد من أن يكون البر مضمونا بالجزاء فيكون للجزاء شبهة الثبوت في الحال فلا بد من المحل فإنه إذا قال إن دخلت الدار فأنت طالق
____________________
(2/292)
فالغرض أن لا تدخل الدار لأنها إن دخلت يترتب عليه هذا الأمر المخوف أي الجزاء فيكون الجزاء وهو وقوع الطلاق مانعا من تفويت البر كالضمان يكون من الغصب فالمراد بكون البر مضمونا هذا فيبطله زوال الحل لا زوال الملك أي يبطل التعليق زوال الحل وهو أن يقع الثلاث لا زوال الملك وهو أن يقع ما دون الثلاث لأنه يمكن له الرجوع إليها
فالحاصل أن قوله إن دخلت الدار فأنت طالق يتوقف صحة هذا التعليل على وجود النكاح فيكون مقتصرا على الطلقات التي يملكها بهذا النكاح أما الطلقات التي يملكها بالنكاح بعد الثلاث فالمرأة أجنبية عن الزوج في تلك الطلقات
فأما التعلق بالتزوج فإن البر فيه مضمون بوجود الملك عند وجود الشرط فإن الشرط فيه بمعنى العلة وليس للجزاء شبهة الثبوت قبلها فلا حاجة إلى إثبات تلك الشبهة ليكون البر مضمونا
المراد بتلك الشبهة ما ذكرنا من شبهة الحقيقة ليكون للجزاء شبهة الثبوت في الحال ليكون البر مضمونا
واعلم أن لكل من الأحكام سببا ظاهرا يترتب الحكم عليه على ما مر في فصل الأمر
____________________
(2/293)
فسبب وجود الإيمان بالله تعالى حدوث العالم ولما كان هذا السبب في الآفاق والأنفس موجودا دائما يصح إيمان الصبي وإن لم يخاطب به وللصلاة الوقت على ما مر وللزكاة ملك المال
اعلم أنه ورد على سببية النصاب للزكاة إشكال وهو أن تكرر الوجوب بتكرر وصف يدل على سببية ذلك الوصف وهنا الوجوب يتكرر بالحول فيجب أن يكون الحول سببا لا النصاب فلدفع هذا الإشكال قال إلا أن الغنى لا يكمل إلا بمال نام والنماء بالزمان فأقيم الحول مقام النماء فيتجدد المال تقديرا بتجدد الحول فيتكرر الوجوب بتكرر المال تقديرا
وللصوم أيام شهر رمضان كل يوم لصومه ولصدقة الفطر رأس يمونه ويلي عليه وإنما الفطر
____________________
(2/294)
شرط لقوله عليه الصلاة والسلام أدوا عمن تمونون وعن إما لانتزاع الحكم عن السبب أو لأن يجب عليه فيؤدي عنه كما في العاقلة والثاني باطل لعدم الوجوب على العبد والصبي والفقير والكافر فيثبت الأول وأيضا يتضاعف الواجب بتضاعف الرأس والإضافة إلى الفطر تعارضها الإضافة إلى الرأس وهي تحتمل الاستعارة أيضا بخلاف تضاعف الوجوب
هذا جواب إشكال وهو أن الإضافة آية السببية والصدقة تضاف إلى الفطر فيدل على سببية الفطر فأجاب بأن الصدقة تضاف إلى الرأس أيضا فإذا تعارضا تساقطا
ونحن نتمسك على سببية الرأس بالتضاعف فهذا الدليل أقوى من الإضافة لأن الحكم قد يضاف إلى غير السبب مجازا وهذا المجاز لا يجري في التضاعف وأيضا وصف المؤنة أي في قوله عليه السلام أدوا عمن تمونون يرجح سببية الرأس
وللحج البيت وأما الوقت والاستطاعة فشرط
وللعشر الأرض النامية بحقيقة الخارج وبهذا الاعتبار هو مؤنة الأرض وباعتبار الخارج وهو تبع الأرض
قوله وهو تبع حال من
____________________
(2/295)
الخارج
عبادة أي العشر عبادة لأن العشر جزء من الخارج فأشبه الزكاة فإنها جزء من النصاب
وكذا الخراج أي سببية الأرض النامية
إلا أن النماء يعتبر فيه تقديرا بالتمكن من الزراعة فصار مؤنة باعتبار الأصل وهو الأرض عقوبة باعتبار الوصف وهو التمكن من الزراعة لأن الزراعة عمارة الدنيا وإعراض عن الجهاد فصار سببا للمذلة
ولذلك لم يجتمعا عندنا أي لأجل ثبوت وصف العبادة في العشر وثبوت وصف العقوبة في الخراج لم يجتمع العشر والخراج عندنا خلافا للشافعي رحمه الله
وللطهارة إرادة الصلاة والحدث شرط وللحدود والعقوبات ما نسبت إليه من سرقة وقتل وللكفارات ما نسبت إليه من أمر دائر بين الحظر والإباحة ولشرعية المعاملات البقاء المقدر أي للعالم وللاختصاصات الشرعية التصرفات المشروعة كالبيع والنكاح ونحوهما
واعلم أن ما يترتب عليه الحكم إن كان شيئا لا يدرك العقل تأثيره ولا يكون بصنع المكلف كالوقت للصلاة يخص باسم السبب وإن كان بصنعه فإن كان الغرض من وضعه ذلك الحكم كالبيع للملك فهو علة ويطلق عليه اسم السبب أيضا مجازا وإن لم يكن هو الغرض كالشراء لملك المتعة فإن العقل لا يدرك تأثير
____________________
(2/296)
لفظ اشتريت في هذا الحكم وهو بصنع المكلف وليس الغرض من الشراء ملك المتعة بل ملك الرقبة فهو سبب وإن أدرك العقل تأثيره كما ذكرنا في القياس يخص باسم العلة
وأما الشرط فهو إما شرط محض وهو حقيقي كالشهادة للنكاح والوضوء للصلاة أو جعلي وهو بكلمة الشرط أو دلالتها
نحو المرأة التي أتزوجها طالق وقد مر أن أثر التعليق عندنا منع العلية وعنده منع الحكم وإما شرط في حكم العلة وهو شرط لا يعارضه علة تصلح أن يضاف الحكم إليها فيضاف إليه كما إذا رجع شهود الشرط وحدهم ضمنوا وإن رجعوا مع شهود اليمين يضمن الثاني فقط كما إذا اجتمع السبب والعلة كشهود التخيير والاختيار كما
____________________
(2/297)
إذا شهد شاهدان على أن الزوج خير امرأته وآخران بأن المرأة اختارت نفسها فقضى القاضي بوقوع الطلاق ثم رجع الفريقان يضمن شهود الاختيار فشهود التخيير سبب وشهود الاختيار علة
فإن قال إن كان قيد عبده عشرة أرطال فهو حر ثم قال وإن حله آخر فهو حر فشهد
____________________
(2/298)
شاهدان أنه عشرة أرطال فقضى القاضي بعتقه ثم حله فإذا هو ثمانية يضمنان قيمته عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن القضاء بالعتق ينفذ ظاهرا وباطنا عنده فالعلة لا تصلح لضمان العتق لأن العلة قضاء القاضي وإنما لا تصلح للضمان لكونه غير متعد فإنه قضى بناء على شهادة شاهدين
بخلاف رجوع الفريقين أي شهود الشرط وشهود اليمين فإن العلة تصلح للضمان لأنها أثبتت العتق بطريق التعدي
____________________
(2/299)
____________________
(2/300)
____________________
(2/301)
____________________
(2/302)
وعندهما لا يضمنان لأن القضاء لا ينفذ في الباطن فيعتق بحل القيد
وكذا حافر البئر عطف على المثالين المذكورين وهما رجوع شهود الشرط ومسألة القيد والتشبيه في أن هناك شرطا لا تعارضه علة تصلح لإضافة الحكم إليها والشرط هو الحفر لأن علة السقوط هو الثقل لكن الأرض مانعة عن السقوط فبإزالة المانع صارت شرطا للسقوط ثم بين أن العلة لا تصلح لإضافة الحكم وهو الضمان إليها بقوله فإن الثقل علة السقوط وهو أمر طبيعي والمشي مباح فلا يصلحان لإضافة الحكم فيضاف إلى الشرط لأن صاحب الشرط متعد لأن الضمان فيما إذا حفر في غير ملكه
بخلاف ما إذا أوقع نفسه
وأما وضع الحجر وإشراع
____________________
(2/303)
الجناح والحائط المائل بعد الإشهاد فمن قسم الأسباب
وأما شرط في حكم السبب وهو شرط اعترض عليه فعل فاعل مختار غير منسوب إليه كما إذا حل قيد عبد الغير فأبق العبد لا يضمن عندنا فإن الحل لما سبق الإباق الذي هو علة التلف صار كالسبب فإنه يتقدم على صورة العلة والشرط يتأخر عنها وكذا إذا فتح باب قفص أو إصطبل
خلافا لمحمد رحمه الله تعالى له أن فعل الطير والبهيمة هدر فإذا خرجا على فور الفتح يجب الضمان كما في
____________________
(2/304)
سيلان ماء الزق فإن النفار طبيعي للطير كالسيلان للماء ولهما أنه هدر في إثبات الحكم لا في قطعه عن الغير كالكلب يميل عن سنن الإرسال وإذا قال الولي سقط وقال الحافر أسقط نفسه فالقول له أي للحافر لأنه يدعي صلاحية العلة للإضافة وقطع الإضافة عن الشرط فهو متمسك بالأصل بخلاف الجارح إذا ادعى الموت بسبب آخر لأنه صاحب علة
وأما شرط اسما لا حكما إذا علق الطلاق بشرطين فأولهما وجودا شرط اسما لا حكما حتى إذا وجد الأول في الملك لا الثاني لا تطلق وبالعكس تطلق خلافا لزفر رحمه الله تعالى
صورته أن يقول لامرأته إن دخلت هذه الدار وهذه الدار فأنت طالق فأبانها فدخلت أحدهما ثم تزوجها فدخلت الأخرى يقع الطلاق عندنا لأن الملك شرط عند وجود الشرط لصحة الجزاء لا لصحة الشرط فيشترط عند الثاني لا الأول
____________________
(2/305)
____________________
(2/306)
____________________
(2/307)
وأما العلامة فقد ذكروا في نظيرها الإحصان للرجم لأن الشرط ما يمنع انعقاد العلة إلى أن يوجد هو ووجوده متأخر عن وجود صورة العلة كدخول الدار مثلا وهنا علية الزنا لا تتوقف على إحصان يحدث متأخرا أقول ما ذكروا وهو أن الشرط أمر متأخر عن وجود صورة العلة ويمنع انعقاد العلة إلى أن يوجد هو هو تفسير الشرط التعليقي لا الشرط الحقيقي كالشهادة للنكاح والعقل للتصرفات ونحوهما كالوضوء للصلاة وطهارة الثوب والبدن والمكان لها فالشرط التعليقي متأخر عن صورة العلة
أما الشرط الحقيقي فلا يجب تأخره عن وجود العلة كالعقل والوضوء وغيرهما فكون الإحصان متقدما لا يدل على أنه ليس بشرط
وهذا الإشكال اختلج في خاطري
والجواب عنه أن الشرط إما تعليقي وإما
____________________
(2/308)
حقيقي والحقيقي قسمان أحدهما أن يكون الشرط متأخرا عن العلة كحفر البئر وقطع حبل القنديل والآخر أن يكون متقدما كالوضوء للصلاة والعقل للتصرفات فأما ما هو متأخر أقوى مما هو متقدم لأن الحكم يقارن الشرط الذي هو متأخر عن صورة العلة فيضاف الحكم إليه فهو شرط في معنى العلة بخلاف الشرط الذي هو متقدم فالإحصان هو الشرط الذي يكون متقدما على العلة ويسمى هذا الشرط علامة وإذا لم يكن الحكم مضافا إليه لا يكون في حكم العلة فيمكن أن يثبت بشهادة الرجال مع النساء مع أنه لا يثبت العلة وهي الزنا بهذه الشهادة ولما كان لي نظر في كون الإحصان علامة لا شرطا في معنى العلة قلت ثم إن كان الإحصان علامة لا شرطا أي على تقدير كونه علامة لا شرطا في معنى العلة يثبت بشهادة الرجال مع النساء
فإن قيل فيجب أن يثبت أيضا بشهادة كافرين شهدا على عبد مسلم زنى
____________________
(2/309)
ومولاه كافر أنه أعتقه أي لما ذكرنا أن الإحصان يثبت بشهادة الرجال مع النساء مع أن الزنا لا يثبت الإحصان بشهادة الكافرين أيضا إذا شهدا على عبد مسلم زنى بأن مولاه أعتقه والحال أن مولاه كافر فتكون الشهادة على المولى الكافر فتقبل فيثبت عتقه والحرية من شرائط الإحصان فيثبت إحصانه بشهادة الكافر
قلنا لشهادة النساء خصوص بالمشهود به دون المشهود عليه أي في عدم القبول فإن العقوبات لا تثبت بشهادة الرجال مع النساء فإنها لا تثبت العقوبة وهنا لا تثبتها لأن الإحصان ليس إلا علامة لكن يتضمن ضررا بالمشهود عليه وهو تكذيبه ورفع إنكاره بمنزلة الكافر وهي تصلح لذلك أي شهادة الرجال مع النساء تصلح للضرر على المشهود عليه وهو المسلم
وشهادة الكفار بالعكس فإنها لا تصلح على المسلم وهي تتضمن ضررا بالمسلم أي شهادة الكفار في هذه الصورة تتضمن ضررا بالمسلم وهو العبد الذي أثبتوا حريته ليثبت عليه الرجم فلا تصلح لذلك أي لا تصلح شهادة الكفار للإضرار بالمسلم وهو ما ذكر من تكذيبه ورفع إنكاره بمنزلة الكافر
وعلى هذا أي بناء على أن العلامة ليست في حكم العلة
____________________
(2/310)
فيجوز أن يثبت بما لا يثبت به العلة
قالا إن شهادة القابلة على الولادة تقبل من غير فراش أي في المبتوتة والمتوفى عنها زوجها ولا حبل ظاهر عطف على قوله من غير فراش ولا إقرار به عطف على قوله ولا حبل أي بلا إقرار الزوج بالحبل لأنه لم يوجد هنا أي في شهادة القابلة إلا تعيين الولد وهي مقبولة فيه أي شهادة القابلة مقبولة في تعيين الولد فأما النسب فإنما يثبت بالفراش السابق فيكون انفصاله علامة للعلوق السابق
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تقبل لأنه إذا لم يوجد سبب ظاهر كان النسب مضافا إلى الولادة فشرط لإثباتها كمال الحجة بخلاف ما إذا وجد أحد الثلاثة وهو إما الفراش وإما الحبل الظاهر وإما إقرار الزوج بالحبل
وإذا علق بالولادة طلاق تقبل شهادة امرأة عليها في حقه أي في حق الطلاق عندهما لأنه لما ثبت الولادة بها يثبت ما كان تبعا لها
لا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن الولادة شرط للطلاق فيتعلق بها الوجود فيشترط لإثباته أي لإثبات الشرط ما يشترط لإثبات حكمه وهو الطلاق كما في العلة فإنه يشترط لإثبات العلة ما يشترط لإثبات حكمها
على أن هذه الحجة ضرورية فلا تتعدى أي شهادة المرأة الواحدة حجة ضرورية لا تقبل إلا فيما لا يطلع عليه الرجال وهو الولادة فلا تتعدى عنه إلى ما لا ضرورة فيه وهو الطلاق لأن الطلاق مما يطلع عليه الرجال فلا يقبل فيه شهادة الواحدة
كما في
____________________
(2/311)
شهادة المرأة الواحدة على ثيابة أمة بيعت على أنها بكر في حق الرد فإن شهادة المرأة لا تقبل في حق الرد وإن كانت مقبولة في حق البكارة والثيابة فكذا هنا بل يحلف البائع
وقال الشافعي رحمه الله تعالى الأصل في المسلم العفة والقذف كبيرة ثم العجز عن إقامة البينة يعرف ذلك أي كونها كبيرة أي يتبين بالعجز عن إقامة البينة أن القذف حين وجد كان كبيرة لا أنه يصير كبيرة عند العجز فيكون العجز علامة لجناية فيثبت سقوط الشهادة وهو حكم شرعي سابق عليه أي على العجز عن إقامة البينة فمجرد القذف يسقط الشهادة عند الشافعي رحمه الله تعالى وإن لم يجلد وعندنا لا تسقط شهادته بمجرد القذف بل إنما تسقط إذا تحقق العجز عن إقامة البينة فأقيم عليه الجلد
بخلاف الجلد إذ هو فعل حسي أي لا يمكن إقامة الجلد سابقا عن العجز عن إقامة البينة فإنه فعل حسي لا مرد له فإن أقيم الجلد قبل العجز فربما يكون بغير حق أما عدم قبول الشهادة فإنه حكم شرعي يمكن سبقه فإن تحقق
____________________
(2/312)
العجز يظهر أن عدم قبول الشهادة كان ثابتا حين القذف وإن لم يتحقق العجز يظهر أنه كان مقبول الشهادة وكان صادقا في ذلك القذف
قلنا القذف في نفسه ليس كبيرة فإن الشهادة عليه مقبولة حسبة أي حسبة لله تعالى وهو أي القذف لا يحل إلى أن يوجد الشهود فإذا مضى زمان يتمكن من إحضارهم ولم يحضرهم صار كبيرة فيكون العجز شرطا أي لرد القاضي شهادة الرامي والعفة أصل لكن لا تصلح لإثبات رد الشهادة لما عرفت أن الأصل لا يصلح حجة للإثبات بل للدفع فقط
ثم إن أتى بالبينة على الزنا من غير تقادم العهد بعدما جلد يبطل رد شهادته ويحد الزاني وإن تقادم العهد أي إن أتى بالبينة على الزنا بعدما جلد الرامي لكن بعد تقادم العهد يبطل الرد أي رد شهادة الرامي ولا يثبت الحد أي حد الزنا على المقذوف لأن تقادم العهد صار شبهة في درء الحد
باب المحكوم به وهو قسمان ما ليس له إلا وجود حسي وما له وجود آخر شرعي فالأول بعد أن يكون متعلقا لحكم شرعي إما أن يكون سببا لحكم آخر أو لم يكن
____________________
(2/313)
كالزنا فإنه حرام وهو سبب لوجوب الحد وكالأكل ونحوه وكذا الثاني كالبيع فإنه مباح وهو سبب لحكم آخر وهو الملك وكالصلاة المحكوم به وهو فعل المكلف قسمان ما ليس له إلا وجود حسي كالزنا والأكل ونحوه وما له وجود شرعي مع الوجود الحسي فالمحكوم به لا بد أن يكون متعلقا بحكم شرعي فبعد أن يكون كذلك لا يخلو من أن يكون سببا لحكم شرعي آخر أو لم يكن فحصل أربعة أنواع الأول ما ليس له إلا وجود حسي وهو متعلق بحكم شرعي وسبب لحكم شرعي آخر كالزنا فإنه حرام وسبب لحكم شرعي وهو وجوب الحد والثاني ما ليس له إلا وجود حسي وهو متعلق بحكم شرعي لكنه ليس سببا لحكم شرعي كالأكل أما كونه متعلقا بحكم شرعي فلأن الأكل تارة واجب وأخرى حرام والثالث ما له وجود شرعي وهو متعلق بحكم شرعي وسبب لحكم شرعي كالبيع فإنه مباح وسبب للملك والرابع ما له وجود شرعي ومتعلق بحكم شرعي وليس سببا لحكم شرعي كالصلاة والوجود الشرعي بحسب أركان وشرائط اعتبرها الشرع فإن وجدت فإن حصل معها الأوصاف المعتبرة شرعا الغير الذاتية يسمى صحيحا وإلا فاسدا أي أن لم يحصل معها
____________________
(2/314)
الأوصاف المذكورة يسمى فاسدا وإن لم توجد أي الأركان والشرائط يسمى باطلا والفاسد صحيح بأصله دون وصفه فأما الصحيح المطلق فيراد به الأول أي ما وجدت الأركان والشرائط وحصلت الأوصاف المذكورة
ثم المحكوم به إما حقوق الله أو حقوق العباد أو ما اجتمعا فيه والأول غالب أو ما اجتمعا فيه والثاني غالب أما حقوق الله فثمانية عبادات خالصة كالإيمان وفروعه وكل مشتمل على الأصل والملحق به والزوائد فالإيمان أصله التصديق والإقرار ملحق به حتى إن من تركه مع القدرة عليه لم يكن مؤمنا عند الله تعالى وعند الناس وهذا عند بعض علمائنا أما عند البعض فالإيمان هو التصديق والإقرار شرط
____________________
(2/315)
لإجراء الأحكام الدنيوية وهو أصل في حقها أي الإقرار أصل في حق الأحكام الدنيوية اتفاقا حتى صح إيمان المكروه في حق الدنيا ولا يصح ردته لأن الأداء دليل محض لا ركن وزوائد الإيمان الأعمال وعبادة فيها مؤنة كصدقة الفطر فلم يشترط لها كمال الأهلية ومؤنة فيها عقوبة كالخراج فلا يبتدأ على المسلم لكنه يبقى لأنه أي لأن الخراج لما تردد بين الأمرين أي بين العقوبة والمؤنة لا يبطل بالشك على أن الوصف الأول وهو المؤنة غالب على ما سبق أنه مؤنة باعتبار الأصل وهو الأرض عقوبة باعتبار الوصف ومؤنة فيها عبادة كالعشر فلا يبتدأ على الكافر لكن يبقى عند محمد كالخراج على السلم وعند أبي يوسف يضاعف لأن فيه أي في العشر معنى العبادة والكفر ينافيها من كل وجه فأما الإسلام فلا ينافي العقوبة من كل وجه فيضاعف أي العشر إذ هي أي المضاعفة أسهل من
____________________
(2/316)
الإبطال أصلا اعلم أن محمدا قاس إبقاء العشر على الكافر على إبقاء الخراج على المسلم فقال أبو يوسف رحمه الله تعالى إن في العشر معنى العبادة والكفر ينافيها بالكلية فيجب تغيير العشر أما الخراج فإن فيه معنى العقوبة والإسلام لا ينافي العقوبة من كل وجه فيبقى الخراج على المسلم قوله فيضاعف كلمة التعقيب وهي الفاء ترجع إلى قوله والكفر ينافيها فلا بد من تغيير العشر والمضاعفة أسهل من الإبطال فيضاعف إذ هي في حقه مشروع في الجملة
____________________
(2/317)
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ينقلب خراجا إذ التضعيف أمر ضروري فلا يصار إليه مع إمكان الأصل وهو الخراج لأن التضعيف ثبت بإجماع الصحابة بخلاف القياس في قوم بأعيانهم لأن تلك الطائفة كفار لا يؤخذ منهم الجزية وغيرهم من الكفار يؤخذ منهم
____________________
(2/318)
الجزية فلا يكونون في حكمهم وحق قائم بنفسه أي لا يجب في ذمة أحد كخمس الغنائم والمعادن وعقوبات كاملة كالحدود وقاصرة كحرمان الميراث بالقتل فلا يثبت في حق الصبي لأنه لا يوصف بالتقصير والبالغ الخاطئ مقصر فلزمه الجزاء القاصر ولا في القتل بسبب أي لا يثبت حرمان الميراث في القتل بسبب كحفر البئر ونحوه
والشاهد إذا رجع أي شهد على مورثه بالقتل فقتل ثم رجع هو عن شهادته لم يحرم ميراثه لأنه أي حرمان الإرث جزاء المباشرة وحقوق دائرة بين العبادة والعقوبة كالكفارات فلا تجب على المسبب كحافر البئر لأنها أي الكفارات جزاء الفعل والصبي أي لا تجب الكفارات على الصبي لأنه لا يوصف بالتقصير خلافا للشافعي رحمه الله تعالى فيهما أي في السبب والصبي لأنها عنده ضمان المتلف وهذا لا يصح في حقوق الله تعالى ولا الكافر أي لا تجب الكفارات على الكافر لوصف العبادة وهي أي العبادة فيها غالبة أي في الكفارات إلا في كفارة الظهار
____________________
(2/319)
فإن وصف العقوبة فيها غالبة لأنه أي الظهار منكر من القول وزور وكذا كفارة الفطر أي وصف العقوبة غالبة فيها لقوله عليه السلام فعليه ما على المظاهر ولإجماعهم على أنها لا تجب على الخاطئ ولأن الإفطار عمدا ليس فيه شبهة الإباحة ثم ورد على هذا أن الإفطار عمدا لما لم يكن فيه شبهة الإباحة ينبغي أن يكون كفارة الفطر عقوبة محضة فلدفع هذا الإشكال قال
____________________
(2/320)
لكن الصوم لما كان حقا ليس مسلما إلى صاحبه ما دام فيه فلا يكون الإفطار إبطال حق ثابت بل هو منع عن تسليمه إلى المستحق فأوجبنا الزاجر بالوصفين أي العبادة والعقوبة وهي أي الكفارة عقوبة وجوبا وعبادة أداء وقد وجدنا في الشرع ما هذا شأنه أي ما يكون عقوبة وجوبا وعبادة أداء كإقامة الحدود ولم نجد على العكس أي لم نجد في الشرع ما هو عقوبة أداء وعبادة وجوبا وإنما قال هذا جوابا لمن يقول لم يعكس حتى تسقط بالشبهة كالحدود تفريع على أن كفارة الفطر عقوبة وبشبهة قضاء القاضي في المنفرد أي المنفرد برؤية هلال رمضان إذا رد القاضي شهادته وقضى أن اليوم من شعبان فأفطر بالوقاع عامدا لا
____________________
(2/321)
يجب عليه الكفارة عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى فتسقط إذا أفطرت ثم حاضت أو مرضت وكذا إذا أصبح صائما ثم سافر فأفطر وأما حقوق العباد فأكثر من أن يحصى وما اجتمعا فيه والأول غالب حد القذف وما اجتمعا فيه والثاني غالب القصاص وأما قاطع
____________________
(2/322)
الطريق فخالص حق الله تعالى عندنا وهذه الحقوق تنقسم إلى أصل وخلف ففي الإيمان أصله التصديق والإقرار ثم صار خلفا في أحكام الدنيا أي صار الإقرار المجرد قائما مقام الأصل في أحكام الدنيا ثم صار أداء أحد أبوي الصغير خلفا عن أدائه حتى لا يعتبر
____________________
(2/323)
التبعية إذا وجد أداؤه أي لما كان أداؤه أصلا وأداء الأبوين خلفا فإذا وجد الأصل وهو أداء الصغير العاقل لا تعتبر التبعية فيحكم بإيمانه أصالة لا بكفره تبعية ثم تبعية أهل الدار والغانمين خلفا عن أداء أحدهما إذا عدما أي إذا عدم الأبوان وكذا الطهارة والتيمم لكنه أي التيمم خلف مطلق عندنا بالنص أي إذا عجز عن
____________________
(2/324)
استعمال الماء يكون التيمم خلفا عن الماء مطلقا فيجوز أداء الفرائض بتيمم واحد كما يجوز بوضوء واحد وعنده خلف ضروري أي التيمم خلف عن الماء عند الشافعي رحمه الله تعالى عند العجز بقدر ما تندفع به الضرورة حتى لم يجز أداء الفرائض بتيمم واحد وقال أي الشافعي رحمه الله تعالى عطف على قوله لم يجز في إناءين نجس وطاهر يتحرى ولا يتيمم فيتوضأ بما يغلب على ظنه طهارته ولا يتيمم بناء على أن التيمم خلف ضروري ولا ضرورة هنا وعندنا يتيمم إذا ثبت العجز بالتعارض أي بين النجس والطاهر ولا احتياج إلى الضرورة فإنه خلف مطلق لا ضروري
ثم عندنا التراب خلف عن الماء فبعد حصول الطهارة كان شرط الصلاة موجودا في كل واحد منهما بكماله فيجوز إمامة المتيمم للمتوضئ كإمامة الماسح للغاسل وعند محمد وزفر رحمهما الله تعالى التيمم خلف عن التوضؤ فلا يجوز لأن المتوضئ صاحب أصل والمتيمم صاحب خلف فلا يبني صاحب الأصل القوي صلاته على صاحب الخلف الضعيف كما لا يبني المصلي بركوع وسجود على المومئ
وشرط الخلفية إمكان الأصل ليصير السبب منعقدا له ثم عدمه بعارض كما في مسألة مس السماء بخلاف الغموس
____________________
(2/325)
____________________
(2/326)
باب المحكوم عليه ولا بد من أهليته للحكم وهي لا تثبت إلا بالعقل قالوا هو نور يضيء به طريق يبتدأ به من حيث ينتهي إليه درك الحواس فيتبدى المطلوب للقلب أي نور يحصل بإشراق العقل
____________________
(2/327)
الذي أخبر النبي عليه السلام أنه من أوائل المخلوقات فكما أن العين مدركة بالقوة فإذا وجد النور الحسي يخرج إدراكها إلى الفعل فكذا القلب أي النفس الإنسانية مع هذا النور العقلي وقوله طريق يبتدأ به فابتداء درك الحواس ارتسام المحسوس في الحاسة الظاهرة ونهايته ارتسامه في الحواس الباطنة وحينئذ بداية تصرف القلب فيه بواسطة العقل بأن يدرك من الشاهد أو ينتزع الكليات من تلك الجزئيات المحسوسة ولهذا التصرف مراتب استعداده لهذا الانتزاع ثم علم البديهيات على وجه يوصل إلى النظريات ثم علم النظريات منها ثم استحضارها بحيث لا تغيب وهذا نهايته ويسمى العقل المستفاد والمرتبة الثانية هي مناط التكليف اعلم أن ما ذكرنا من تعريف العقل أورده مشايخنا في كتبهم ومثلوه بالشمس كما ذكرنا في المتن وهذا مناسب لما قاله الحكماء والتمثيل بعينه مسطور في كتب الحكمة واعلم أنهم أطلقوا العقل على جوهر مجرد غير متعلق بالبدن تعلق التدبير والصرف وقد ادعوا أن أول شيء خلقه الله تعالى هذا الجوهر وقد قال عليه السلام أول ما خلق الله تعالى العقل فيمكن أن يراد بهذا التعريف هذا الجوهر الذي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه من أوائل المخلوقات فيكون المراد بالنور المنور كما فسر في قوله تعالى الله نور السماوات والأرض وأيضا قد يطلق العقل على الأثر الفائض من هذا الجوهر في الإنسان فيمكن أن يراد
____________________
(2/328)
بهذا التعريف هذا المعنى وبيانه أن النفس الإنسانية مدركة بالقوة فإذا أشرف عليها الجوهر المذكور خرج إدراكها من القوة إلى الفعل بمنزلة الشمس إذا أشرقت خرج إدراك العين من القوة إلى الفعل فالمراد بالعقل هذا النور المعنوي الذي حصل بإشراق ذلك الجوهر وقد يطلق العقل على قوة للنفس بها تكسب العلوم وهي قابلية النفس لإشراق ذلك الجوهر ولها أربع مراتب كما ذكرت في المتن ويسمى الأول العقل الهيولاني والثاني العقل بالملكة والثالث العقل بالفعل والرابع العقل المستفاد وأيضا يطلق على بعض العلوم فقيل علم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات وجواز الجائزات وقوله يبتدأ به يلزم من هذا
____________________
(2/329)
الكلام أن يكون لدرك الحواس الخمس بداية ونهاية وكذا للإدراك العقلي بداية ونهاية فنهاية درك الحواس هي بداية الإدراك العقلي فاعلم أن بداية درك الحواس ارتسام المحسوسات في إحدى الحواس الخمس ونهايته ارتسامه في الحواس الباطنة والمشهور أن الحواس الباطنة خمس الحس المشترك في مقدم الدماغ وهو الذي يرتسم فيه صور المحسوسات
____________________
(2/330)
ثم الخيال وهو خزانة الحس المشترك ثم الوهم في مؤخر الدماغ يرتسم فيه المعاني الجزئية ثم بعده الحافظة وهي خزانة الوهم ثم المفكرة في وسط الدماغ تأخذ المدركات من الطرفين وتتصرف فيها وتركب بينها تركيبا وتسمى مخيلة أيضا فهذا نهاية إدراك الحواس
____________________
(2/331)
فإذا تم هذا انتزع النفس الإنسانية من المفكرة علوما فهذا بداية تصرف النفس بواسطة إشراق العقل وله أربع مراتب كما ذكرنا والعلم عند الله تعالى ثم معلومات النفس إما أن لا يتعلق بها العمل كمعرفة الصانع تعالى وتسمى علوما نظرية وإما أن يتعلق وتسمى علمية فإذا اكتسبت العلمية حركت البدن إلى ما هو خير وعما هو شر فيستدل بهذا على وجود تلك القوة وعدمها أي يستدل بهذا التحريك على وجود تلك القوة وهي قابلية النفس لإشراق ذلك الجوهر وإنما يستدل لأن النفس لا محالة آمرة للبدن محركة إلى ما هو خير عندها وعما هو شر عندها والجوهر المذكور دائم الإشراق فإذا حركته إلى الخير وعن الشر علم معرفتها بالخير والشر وهي لا تحصل إلا بالقابلية
____________________
(2/332)
المذكورة وإذا لم تحركه إلى الخير وعن الشر علم عدم معرفتها بالخير والشر إذ لو كانت عارفة لحركته ثم عدم معرفتها لعدم قابليتها إذ لو كانت قابلة وقد قلنا إن ذلك الجوهر دائم الإشراق لكانت عارفة فعلم أن وجود العقل وعدمه يعرفان بالأفعال ثم لما كان العقل متفاوتا في أفراد الناس وذلك التفاوت إنما يكون لزيادة قابلية بعض النفوس ذلك الفيض والإشراق لشدة صفائها ولطافتها في مبدأ الفطرة ونقصان قابلية بعضها لكدورتها وكثافتها في أصل الخلقة متدرجا من النقصان إلى الكمال بواسطة كثرة العلوم ورسوخ الملكات المحمودة فيها فتصير أشد تناسبا بذلك الجوهر ويزداد استضاءتها بأنواره واستفادتها مغانم آثاره فالقابلية المذكورة سبب لحصول العلم والعمل ثم حصول العلم والعمل سبب لزيادة تلك القابلية
والاطلاع على حصول ما ذكرنا أنه مناط التكليف متعذر قدره الشرع بالبلوغ إذ عنده يتم التجارب بتكامل القوى الجسمانية التي هي مراكب للقوى العقلية ومسخرة لها بإذن الله تعالى وقد سبق في باب الأمر الخلاف في إيجابه الحسن والقبح فعند المعتزلة الخطاب
____________________
(2/333)
متوجه بنفس العقل هذا فرع مسألة الحسن والقبح المذكورة في باب الأمر فالصبي العاقل وشاهق الجبل مكلفان بالإيمان حتى إن لم يعتقدا كفرا ولا إيمانا يعذبان عند المعتزلة وعند الأشعري يعذران فلم يعتبر كفر شاهق الجبل فيضمن قاتله ولا إيمان الصبي والمذهب عندنا التوسط بينهما إذ لا يمكن إبطال العقل بالعقل ولا بالشرع وهو مبني عليه أي الشرع مبني على العقل لأنه مبني على معرفة الله تعالى والعلم بوحدانيته والعلم بأن المعجزة دالة على النبوة وهذه الأمور لا تعرف شرعا بل عقلا قطعا للدور لكن قد يتطرق الخطأ في العقليات فإن مبادئ الإدراكات العقلية الحواس فيقع الالتباس بين القضايا الوهمية والعقلية فيتطرق الغلط في مقتضيات الأفكار كما ترى من اختلافات العقلاء بل اختلاف الإنسان نفسه في زمانين فصار دليلنا على التوسط بين مذهب الأشعرية والمعتزلة أمرين أحدهما التوسط المذكور في مسألة الجبر والقدر وفي مسألة الحسن والقبح وثانيهما معارضة الوهم العقل
____________________
(2/334)
في بعض الأمور العقلية وتطرق الخطأ فيها فهو وحده غير كاف أي العقل وحده غير كاف فيما يحتاج الإنسان إلى معرفته بناء على ما ذكرنا من الأمرين بل لا بد من انضمام شيء آخر إما إرشاد أو تنبيه ليتوجه العقل إلى الاستدلال أو إدراك زمان يحصل له التجربة فيه فتعينه على الاستدلال فلهذا اخترنا التوسط في المسائل المتفرعة المذكورة في المتن وهي قوله فالصبي العاقل لا يكلف بالإيمان لعدم استيفاء مدة جعلها الله تعالى علما لحصول التجارب وكمال العقل ولكن يصح منه اعتبارا لأصل العقل ورعاية للتوسط فجعلنا مجرد العقل كافيا للصحة وشرطنا الانضمام المذكور للوجوب والمراهقة إن غفلت عن الاعتقادين
____________________
(2/335)
لا تبين من زوجها خلافا للمعتزلة وإن كفرت تبين فإنها إن لم تدرك المدة المذكورة لم يجعل مجرد عقلها كافيا في التوجه إلى الاستدلال لكن إن توجهت علم حينئذ أنها أدركت مدة إفادتها التوجه فجعلنا مجرد عقلها كافيا إذا حصل التوجه وشرطنا الانضمام إذا لم يحصل التوجه
وكذا الشاهق أي لا يكلف قبل مضي زمان يحصل فيه التجربة وبعده يكلف فلا يضمن قاتل الشاهق ولو قبل مدة التجربة فإنه لم يستوجب عصمة بدون دار الإسلام
فصل ثم الأهلية ضربان أهلية وجوب وأهلية أداء أما الأولى فبناء على الذمة وهي في
____________________
(2/336)
اللغة العهد وفي الشرع وصف يصير به الإنسان أهلا لما له وعليه قال الله تعالى وإذ أخذ
____________________
(2/337)
ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى هذه الآية إخبار عن عهد جرى بين الله وبين بني آدم وعن إقرارهم بوحدانية الله تعالى وبربوبيته والإشهاد عليهم دليل على أنهم يؤاخذون بموجب إقرارهم من أداء حقوق تجب للرب تعالى على عباده فلا بد لهم من وصف يكونون به أهلا للوجوب عليهم فيثبت لهم الذمة بالمعنى اللغوي والشرعي
وقال وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه العرب كانوا ينسبون الخير والشر إلى الطائر فإن مر سانحا يتيمنون به وإن مر بارحا يتشاءمون به فاستعير الطائر لما هو في الحقيقة سبب للخير والشر وهو قضاء الله تعالى وقدره وأعمال
____________________
(2/338)
العباد فإنها وسيلة لهم إلى الخير والشر فالمعنى ألزمناه ما قضي له من خير أو شر وألزمناه عمله لزوم القلادة أو الغل العنق أي لا ينفك عنه أبدا فدلت الآية على لزوم العمل للإنسان فمحل ذلك اللزوم وهو الذمة فقوله في عنقه استعار العنق لذلك الوصف المعنوي الذي به يلزم التكليف لزوم القلادة أو الغل العنق
وقال وحملها الإنسان فهذه الآية تدل على خصوصية الإنسان بحمل أعباء التكليف أي وجوبها عليه فيثبت بهذه الآيات الثلاث أن للإنسان وصفا هو به يصير أهلا لما عليه وقد فسر الذمة بوصف يصير هو به أهلا لما له وما عليه ولا دليل في هذه الآيات على وصف يصير به أهلا لما له ولكن المقصود هنا إثبات أهلية الوجوب عليه فيكون هذا كافيا في إثبات المقصود وأما الدلائل الدالة على الوصف الذي يصير به أهلا لما له فكثيرة منها قوله تعالى وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها وقوله تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعا ونحوهما
فقبل الولادة له ذمة من وجه يصلح ليجب له الحق لا ليجب عليه فإذا ولد تصير
____________________
(2/339)
ذمته مطلقة لكن الوجوب غير مقصود بنفسه بل المقصود حكمه وهو الأداء فكل ما يمكن أداؤه يجب وما لا يمكن فلا فحقوق العباد ما كان منها غرما وعرضا يجب أي على الصبي وهذا فهم من قوله فإذا ولد لأن المقصود هو المال وأداؤه يحتمل النيابة وكذا ما كان صلة تشبه المؤن أو الأعواض كنفقة القريب نظير الصلة التي تشبه المؤن والزوجة نظير الصلة التي تشبه الأعواض لا صلة تشبه الأجزية أي لا يجب فلا يتحمل العقل أي لا يتحمل الصبي الدية
وإن كان عاقلا في هذا الكلام إبهام لأنه يشبه أن يكون جزاء أنه لم يحفظه عما فعل ولا العقوبة أي لا يجب على الصبي العقوبة كالقصاص ولا الأجزية كحرمان الميراث على ما مر في باب المحكوم به وهو قوله كحرمان الميراث بالقتل في حق الصبي لأنه لا يوصف بالتقصير
وأما حقوق الله تعالى فالعبادات لا تجب عليه أما البدنية فظاهرة لأن الصبا سبب العجز
____________________
(2/340)
وأما المالية فلأن المقصود هو الأداء لا المال فلا يحتمل النيابة فصارت كالبدنية ولا العقوبات كالحدود ولا عبادة فيها مؤنة كصدقة الفطر عند محمد رحمه الله تعالى لرجحان معنى العبادة ويجب عندهما اجتزاء أي اكتفاء بالأهلية القاصرة وما كان مؤنة محضة كالعشر والخراج يجب وعلى الأصل المذكور وهو أن ما يمكن أداؤه يجب وما لا
____________________
(2/341)
فلا
قلنا لو وجب أداء الصلاة على الحائض والحيض ينافيها لظهور ذلك في حق القضاء وفي قضائها حرج فيسقط أصل الوجوب بخلاف الصوم إذ ليس في القضاء حرج والأداء محتمل أي يحتمل أن يكون أداء الصوم من الحائض واجبا لأن الحدث لا ينافي الصوم وعدم جوازه منها أي عدم جواز الصوم من الحائض خلاف القياس فينتقل إلى الخلف أي ينتقل الوجوب إلى الخلف وهو القضاء والجنون الممتد بوجوب الحرج في الصلاة والصوم وكذا الإغماء الممتد في الصلاة دون الصوم لأنه أي الإغماء يندر مستوعبا شهر رمضان وأما الثانية أي أهلية الأداء فقاصرة وكاملة وكل تثبت بقدرة كذلك أي أهلية الأداء القاصرة تثبت بقدرة قاصرة وأهلية الأداء الكاملة تثبت بقدرة كاملة
والقدرة القاصرة تثبت بالعقل القاصر وهو عقل الصبي والمعتوه والكاملة بالعقل الكامل وهو عقل البالغ غير المعتوه فما يثبت بالقاصرة أقسام فحقوق الله تعالى كالإيمان وفروعه تصح من الصبي لقوله عليه الصلاة والسلام مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا واضربوهم إذا بلغوا عشرا وإنما الضرب للتأديب جواب إشكال وهو أن يقال كيف
____________________
(2/342)
يضرب والضرب عقوبة والصبي ليس من أهلها فأجاب بأن هذا الضرب للتأديب والصبي أهل للتأديب ولأنه عطف على قوله لقوله عليه الصلاة والسلام أهل للثواب ولأن الشيء إذا وجد لا ينعدم شرعا إلا بحجره أي بحجر الشرع وهو باطل فيما هو حسن وفيه نفع محض ولا ضرر إلا في لزوم أدائه وهو عنه موضوع وأما حرمان الميراث والفرقة فيضافان إلى كفر الآخر جواب إشكال وهو أن لزوم أداء الإسلام لما كان موضوعا عن الصبي لكونه ضررا يلزم أن لا يثبت بإسلامه حرمان الميراث عن مورثه الكافر ولا الفرقة بينه وبين زوجته الوثنية لأن كلا منهما ضرر فأجاب بأنهما يضافان إلى كفر الآخر لا إلى إسلامه وأيضا هما من ثمرات الإيمان وإنما يعرف صحة الشيء بحكمه الذي وضع له وهو سعادة الدارين ألا ترى أنهما يثبتان تبعا ولم يعدا ضررا حتى لو كان ضررا لا يلزم بتبعية
____________________
(2/343)
الأب إذ تصرفات الأب لا تلزم الصغير فيما هو ضرر محض وأما الكفر فيعتبر منه أيضا لأن الجهل لا يعد علما فتصح ردته فيلزم أحكام الآخرة لأنها تتبع الاعتقاديات والاعتقاديات أمور موجودة حقيقة لا مرد لها بخلاف الأمور الشرعية وكذا أحكام الدنيا لأنها تثبت ضمنا أي لأن أحكام الدنيا تثبت بالكفر ضمنا والأحكام القصدية في الإسلام والكفر هي الأحكام الأخروية ولما كانت ثابتة ضمنا تثبت وإن كانت ضررا مع أنه لا يصح منه قصدا ما هو ضرر دنيوي على أنها تلزم تبعا أيضا أي الأحكام الدنيوية بسبب الكفر تلزم الصبي تبعا للأبوين وإن كان لا يلزمه تصرفاتهما الضارة قصدا
وأما حقوق العباد فما كان نفعا محضا كقبول الهبة ونحوه يصح وإن لم يأذن وليه فإن آجر المحجور أي الصبي المحجور أو العبد المحجور نفسه وعمل يجب الأجر استحسانا وفي القياس لا يجب الأجر لبطلان العقد
____________________
(2/344)
وجه الاستحسان أن عدم الصحة كان لحق المحجور حتى لا يلزمه ضرر فإذا عمل فوجوب الأجرة نفع محض وإنما الضرر في عدم الوجوب لكن في العبد يشترط السلامة حتى إن تلف فيه يضمن أي إن تلف العبد المحجور في ذلك العمل يضمن المستأجر بخلاف الصبي لأن الغصب لا يتحقق في الحر وإذا قاتلا لا يستحقان الرضخ الضمير يرجع إلى الصبي والعبد المحجورين والرضخ عطاء لا يكون كثيرا أي لا يبلغ سهم الغنيمة ويصح تصرفهما وكيلين بلا عهدة وإن لم يأذن الولي إذ في الصحة اعتبار الآدمية وتوسل إلى إدراك المضار والمنافع واهتداء في التجارة بالتجربة قال الله تعالى وابتلوا اليتامى وما كان ضررا محضا عطف على قوله فما كان نفعا كالطلاق والهبة والقرض ونحوها لا يصح منه وإن أذن وليه ولا مباشرته أي لا يصح مباشرة الولي الطلاق والهبة والقرض من قبل الصبي إلا القرض للقاضي وإنما يصح إقراض مال الصبي للقاضي دون غيره من الأولياء لأن القاضي أقدر على استيفائه فإن عليه صيانة الحقوق والعين لا يؤمن هلاكها جملة حالية أي لما كان صيانة الحقوق على القاضي والحال أن العين ربما تهلك فيقرضها القاضي لتلزم في ذمة المستقرض ويأمن هلاكها
____________________
(2/345)
وما كان مترددا بينهما أي بين النفع والضرر كالبيع والشراء ونحوهما فمن حيث إنه يدخل المشترى في ملك المشتري نفع ومن حيث إنه يخرج البدل من ملكه ضرر يصح شرط رأي الولي لأنه أي الصبي أهل لحكمه إذا باشر وليه فكذا إذا باشر بنفسه برأي الولي ويحصل بهذا أي بمباشرة الصبي برأي الولي ما يحصل بذلك أي بمباشرة الولي مع فضل تصحيح عبارته وتوسيع طريق حصول المقصود ثم هذا أي تصرف الصبي برأي الولي فيما يتردد بين النفع والضرر عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى بطريق أن احتمال الضرر في تصرفه يزول برأي الولي فيصير كالبالغ حتى يصح بغبن فاحش من الأجانب ولا يملكه الولي فأما من الولي أي بيع الصبي من الولي مع غبن فاحش ففي رواية يصح لما قلنا أنه يصير كالبالغ وفي رواية لا لأنه أي الصبي في الملك أصيل وفي الرأي أصيل من وجه دون وجه لأن له أصل الرأي باعتبار أصل العقل دون وصفه إذ ليس له كمال العقل فثبت شبهة النيابة أي شبهة أنه نائب الولي إذا كان كذلك صار كأن الولي يبيع من نفسه مال الصبي بالغبن فاعتبرت أي شبهة النيابة في موضع التهمة وهو أن يبيع الصبي من الولي وسقطت في غير موضعها أي في غير موضع التهمة وهو ما إذا باع من الأجانب وعندهما متعلق بقوله ثم هذا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى بطريق أنه أي تصرف الصبي يصير برأيه أي برأي الولي كمباشرته أي الوالي فلا يصح بالغبن الفاحش أصلا أي لا من الولي ولا من الأجانب وأما وصيته أي وصية الصبي فباطلة لأن الإرث شرع نفعا للمورث قال عليه الصلاة والسلام لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء عالة يتكففون الناس أي
____________________
(2/346)
يمدون أكفهم سائلين وإنما ذكر الوصية لأنها تراد إشكالا وهو أن الوصية نفع لأنها سبب لثواب الآخرة مع أنه لا يزول الموصى به ما دام حيا من ملكه فينبغي أن يصح وصيته فأجاب بأن الإرث شرع نفعا للمورث وفي الوصية إبطال الإرث حتى شرع في حق الصبي فرع على أن الإرث شرع نفعا للمورث حتى لو كان ضررا لما شرع في حق الصبي إلا أنها شرعت في حق البالغ كالطلاق جواب إشكال وهو أن الوصية لما كانت ضررا لكونها إبطالا للإرث ينبغي أن لا تصح من البالغ فأجاب بأنها شرعت من البالغ وإن كان ضررا كالطلاق
____________________
(2/347)
فصل الأمور المعترضة على الأهلية سماوية ومكتسبة أو السماوية فمنها الجنون وهو اختلال العقل بحيث يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهج العقل إلا نادرا وهو في القياس مسقط لكل العبادات لمنافاته القدرة ولهذا عصم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عنه وحيث لم يمكن الأداء يسقط الوجوب لكنهم استحسنوا أنه إذا لم يمتد لا يسقط الوجوب لعدم الحرج على أنه لا ينافي أهلية الوجوب فإنه يرث ويملك لبقاء ذمته وهو أهل للثواب ثم عند أبي يوسف رحمه الله تعالى هذا إشارة إلى أنه لا يسقط الوجوب إذا لم يمتد الجنون إذا اعترض بعد البلوغ أما إذا بلغ مجنونا فإنه يسقط مطلقا ومحمد لم يفرق ما بين عرض بعد
____________________
(2/348)
البلوغ وبين ما إذا بلغ مجنونا فالممتد مسقط وغير الممتد مسقط ففي كل واحد من الصورتين الممتد مسقط وغير الممتد غير مسقط عنده ثم الامتداد في الصلاة بأن يزيد على يوم وليلة بساعة وعند محمد بصلاة فتصير الصلاة ستا وفي الصوم بأن يستغرق شهر رمضان وبالزكاة بأن يستغرق الحول عند محمد رحمه الله تعالى وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى
____________________
(2/349)
أكثره كاف أي الجنون في أكثر الحول كاف لسقوط الزكاة وأما إيمانه فلا يصح لعدم ركنه وهو الاعتقاد لعدم العقل وذلك لا يكون حجرا وإنما قال هذا جوابا لسؤال وهو أن عدم صحة الإسلام من المجنون إذا تكلم بكلمة التوحيد إنما يكون بطريق الحجر والحجر إنما شرع بطريق النظر ولا نظر في الحجر عن الإسلام لأنه نفع محض فلا يصح الحجر عنه فأجاب عنه بأن عدم صحته ليس بطريق الحجر ويصح تبعا عطف على قوله فلا يصح
____________________
(2/350)
وإذا أسلمت امرأته عرض الإسلام على وليه ويصير مرتدا تبعا لأبويه وأما المعاملات فإنه يؤاخذ بضمان الأفعال في الأموال لما قلنا في الصبي في أول فصل الأهلية وهو قوله فحقوق العباد ما كان منها غرما وعوضا يجب ولما بينا أنه أهل لكن هذا العارض من أسباب الحجر وأما ما هو من الأقوال فتفسد عباراته
ومنها الصغر إنما جعل الصغر من العوارض مع أنه حالة أصلية للإنسان في مبدأ الفطرة لأن الصغر ليس لازما لماهية الإنسان إذ ماهية الإنسان لا تقتضي الصغر فنعني بالعوارض على الأهلية هذا المعنى أي حالة لا تكون لازمة للإنسان وتكون منافية للأهلية ولأن الله تعالى خلق الإنسان لحمل أعباء التكاليف ولمعرفة الله تعالى فالأصل أن يخلقه على صفة تكون وسيلة إلى حصول ما قصده من خلقه
____________________
(2/351)
وهو أن يكون من مبدأ الفطرة وافر العقل تام القدرة كامل القوى والصغر حالة منافية لهذه الأمور فتكون من العوارض فقبل أن يعقل كالمجنون أما بعده فيحدث له ضرب من أهلية الأداء لكن الصبا عذر مع ذلك فيسقط عنه ما يحتمل السقوط عن البالغ فلا يسقط نفس الوجوب في الإيمان حتى إذا أداه كان فرضا لا نفلا حتى إذا بلغ لا يجب عليه الإعادة لكن التكليف والعهدة عنه ساقطان فلا يحرم الميراث بالقتل تعقيب لقوله لكن التكليف والعهدة عنه ساقطان بالقتل ولا يلزم على هذا الحرمان بالكفر والرق لأنهما ينافيان الإرث فعدم الحق لعدم سببه أو لعدم الأهلية لا يعد جزاء إنما قال هذا لأن الحرمان بسبب القتل إنما هو بطريق الجزاء فإن القاتل تعجل بأخذ الميراث فجوزي بحرمانه لكن الصبي ليس من أهل الجزاء بالشر فلم يحرم ولا يشكل على هذا الحرمان بالكفر والرق لأن الحرمان بهما ليس بطريق الجزاء بل لعدم سببه في الكفر وعدم الأهلية في الرق
ومنها العته وهو اختلال في العقل بحيث يختلط كلامه فيشبه مرة كلام العقلاء ومرة كلام المجانين وحكمه حكم الصبي
____________________
(2/352)
مع العقل فيما ذكرنا إلا أن امرأة المعتوه إذا أسلمت لا يؤخر عرض الإسلام عليه كما لا يؤخر عرضه على ولي المجنون بخلاف الصبي والفرق أنهما أي الجنون والعته غير مقدرين والصبا مقدر
ومنها النسيان وهو لا ينافي الوجوب لكنه لما كان من جهة صاحب الشرع يكون عذرا في حقه أي في حق صاحب الشرع فيما يقع فيه غالبا لا في حق العباد وهو إما أن يقع فيه المرء بتقصيره كالأكل في الصلاة مثلا فإن حالها مذكرة وإما لا بتقصيره إما بأن يدعو إليه
____________________
(2/353)
الطبع كالأكل في الصوم أو بمجرد أنه مركوز في الإنسان كما هو في تسمية الذبيحة والأول ليس بعذر بخلاف الأخيرين فسلام الناسي يكون عذرا لأنه غالب الوجود
ومنها النوم وهو لما كان عجزا عن الإدراكات والحركات الإرادية أوجب تأخير الخطاب لا الوجوب أي نفس الوجوب لاحتمال الأداء بعده بلا حرج لعدم امتداده قال عليه الصلاة والسلام من نام عن صلاة الحديث وأبطل عباراته أي أبطل النوم عبارات النائم وهو عطف على قوله أوجب تأخير الخطاب لعدم الاختيار فإذا قرأ في صلاته نائما لا تصح القراءة وإذا تكلم لا تفسد وإذا قهقه لا يبطل الوضوء ولا الصلاة
ومنها الإغماء وهو تعطل القوى المدركة
____________________
(2/354)
والمحركة حركة إرادية بسبب مرض يعرض للدماغ أو القلب وهو ضرب من المرض حتى لم يعصم منه النبي عليه الصلاة والسلام وهو فوق النوم فيما ذكرنا لأن النوم حالة طبيعية يتعطل معها القوى المدركة بسبب ترقي البخارات إلى الدماغ ولما كان النوم حالة طبيعية كثيرة الوقوع وسببه شيء لطيف سريع الزوال والإغماء على خلافه في جميع هذه الأمور كان الإغماء فوق النوم ألا ترى أن التنبيه والانتباه من النوم في غاية السرعة أما التنبيه من الإغماء فغير ممكن فيبطل العبادات ويوجب الحدث في كل حال أي سواء كان قائما أو راكعا أو ساجدا أو متكئا أو مستندا بخلاف النوم وإنما جعلناه كذلك لما ذكرنا من قوة سبب الإغماء وكثافته ولطافة سبب النوم فمنافاة الإغماء تماسك اليقظة أشد من منافاة النوم إياه فجعل الإغماء حدثا في كل حال لا النوم وأيضا كثرة وقوع النوم وقلة الإغماء توجب ذلك دفعا للحرج
____________________
(2/355)
ولما كان نادرا في الصلاة يمنع البناء وهو في القياس لا يسقط شيئا من الواجبات كالنوم وفي الاستحسان يسقط ما فيه حرج وهو في الصلاة بأن يمتد حتى يزيد على يوم وليلة وفي الصوم والزكاة لا يعتبر لأنه يندر وجوده شهرا أو سنة
ومنها الرق وهو عجز حكمي شرع في الأصل جزاء عن الكفر فيكون حق الله تعالى لكنه في البقاء أمر حكمي به يصير
____________________
(2/356)
المرء عرضة للتملك فحينئذ يكون حق العبد وهو لا يحتمل التجزي حتى إن أقر مجهول النسب أن نصفه ملك فلان يجعل عبدا في شهادته وجميع أحكامه وكذا العتق الذي هو ضده أي لا يحتمل التجزي لأنه يلزم من تجزيه تجزي الرق وكذا الإعتاق عندهما لعدم تجزي لازمه اتفاقا فمعتق البعض معتق الكل عندهما وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى متجزئ إذ الإعتاق إزالة الملك لأن العبد إنما يتصرف في حقه ثم يلزم من إزالة كله زوال الرق وهو
____________________
(2/357)
العتق فإعتاق البعض إيجاد شطر العلة ففي الابتداء ثبوت حق العبد يتبع ثبوت حق الله تعالى وفي البقاء على العكس حتى أن زواله يتبع زوال حق العبد أي زوال حق الله تعالى يتبع زوال حق العبد فمعتق البعض مكاتب عنده إلا في الرد إلى الرق والرق يبطل مالكية المال لأنه مملوك مالا فلا يملك المكاتب التسري ولا يصح منهما الحج أي من الرقيق والمكاتب
____________________
(2/358)
حتى إذا أعتقا ووجب الحج عليهما لا يقع المؤدى قبل العتق من الواجب بخلاف الفقير لأن منافع بدنهما ملك المولى إلا ما استثنى من الصلاة والصوم ويصح من الفقير لأن أصل القدرة ثابت له وإنما الزاد والراحلة لنفي الحرج ولا يبطل مالكية غير المال كالنكاح والدم والحياة فيصح إقراره بالحدود والقصاص وبالسرقة المستهلكة سواء كان أقر بها المأذون أو المحجور إذ ليس فيها إلا القطع وبالقائمة المأذون وأما من المحجور فيصح عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى مطلقا أي في القطع ورد المال وعند محمد رحمه الله تعالى لا
____________________
(2/359)
يصح مطلقا وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يصح في حق القطع دون المال وينافي كمال أهلية الكرامات البشرية كالذمة والحل والولاية فيضعف الذمة حتى لا يحتمل الدين إلا إذا ضمنت إليها مالية الرقبة والكسب فيباع في دين لا تهمة في ثبوته كدين الاستهلاك أي استهلاك مال الإنسان والتجارة لا فيما كان في ثبوته تهمة كما إذا أقر المحجور أو تزوج بغير إذن مولاه ودخل بل يؤخر إلى عتقه وينصف الحل بتنصيف المحل في حق الرجال أي يحل للحر أربع وللرقيق ثنتان وباعتبار الأحوال في حق النساء كما سبق أي في فصل الترجيح أي تحل الأمة إذا كانت مقدمة على الحرة ولا تحل إذا كانت مؤخرة عنها أو مقارنة وينصف الحد والعدة والقسم والطلاق لكن الوحدة لا تقبله أي التنصيف فيتكامل
____________________
(2/360)
وعدد الطلاق عبارة عن اتساع المملوكية فاعتبر بالنساء فإن قيل يلزم من اتساع المملوكية اتساع المالكية أيضا فكما يعتبر بالنساء يجب أن يعتبر بالرجال أيضا قلنا قد اعتبر مالكية الزوج مرة حتى انتقص عدد الزوجات فإن انتقص مالكيته في هذا العدد الناقص يلزم النقصان من المنصف ولما كان أحد الملكين وهو ملك النكاح والطلاق ثابتا له على الكمال والملك الآخر وهو ملك المال ناقصا غير منتف بالكلية لأنه يملك اليد لا الرقبة أوجب ذلك نقصانا في قيمته فانتقصت ديته عن دية الحر بشيء هو معتبر شرعا في المهر والسرقة وهو
____________________
(2/361)
عشرة دراهم وأما المرأة فهي مالكة لأحدهما وهو المال دون الآخر فتنصف ديتها اعلم أن الملك نوعان ملك المال وملك ما ليس بمال وهو ملك المتعة كالنكاح والثاني ثابت للعبد والأول ناقص لأنه يملك ملك اليد لا ملك الرقبة فتكون قيمته ناقصة عن قيمة الحر أي عن ديته لا نصفها أي إذا بلغ قيمة العبد المقتول خطأ عشرة آلاف درهم فإنه ينقص عن قيمته عشرة دراهم وأما المرأة الحرة فإن ملك المال ثابت لها دون ملك النكاح فديتها نصف دية الرجل هذا ما ذكروا وقد وقع على هذا التقرير في خاطري اعتراض فقلت لكن هذه العلة لا تختص بالدية وأيضا توجب الإكمال فيما هو من باب الازدواج أي لو كانت العلة لنقصان دية العبد عن دية الحر هذا الأمر وجب أن لا يختص هذا الحكم بالدية بل يكون مطردا في جميع الصور ولا يكون الرق منصفا لشيء من الأحكام بل يوجب نقصانا والواقع خلاف هذا وأيضا لما ذكروا أن أحد الملكين ثابت للرقيق وهو الازدواج ينبغي أن يكون كل ما هو من باب الازدواج كاملا في الأرقاء وليس كذلك ثم لما ثبت أن العلة لنقصان ديته عن دية الحر ليست ما ذكروا أردت أن أبين ما هو العلة لثبوت هذا الحكم فقلت وإنما انتقص ديته لأن المعتبر فيه أي في العبد المالية فلا تنصف لكن في الإكمال شبهة المساواة بالحر فينتقص وهو أهل للتصرف في المال حتى أن المأذون يتصرف لنفسه
____________________
(2/362)
بأهليته عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا بل هو كالوكيل وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا أذن العبد في نوع من التجارة فعندنا يعم إذنه لسائر الأنواع وعنده لا بل يختص الإذن بما أذن فيه كما في الوكالة لأنه لما لم يكن أهلا للملك لم يكن أهلا لسببه وقلنا هو أهل للتكلم والذمة فيحتاج إلى قضاء ما يجب في ذمته وأدنى طرقه اليد على أنها أي اليد ليست بمال فلا يكون الرق منافيا لملك اليد لكنه مناف لملك المال لكونه مملوكا حال كونه مالا وهي الحكم الأصلي في التصرفات أي اليد هي الغرض الأصلي في التصرفات فإن الإنسان محتاج إلى الانتفاع بما يكون سببا لبقائه ولا يمكن الانتفاع إلا بكونه في يده فشرع التصرفات كالشراء ونحوه لحصول ملك اليد ثم ملك الرقبة إنما يثبت ليكون وسيلة إلى ملك اليد فإن ملك الرقبة هو اختصاص المالك بالشيء فيقطع طمع الطامعين والإفضاء إلى التنازع والتقاتل ونحوهما فثبت أن المقصود في التصرفات ملك اليد فأما ملك الرقبة فإنما يثبت ضرورة إكمال ملك اليد فيبطل ما قال لما لم يكن أهلا للملك لم يكن أهلا لسببه لأن مباشرة سبب الملك لا تكون خالية عن المقصود الأصلي لأن المقصود وهو ملك اليد حاصل للعبد فأما الملك أي ملك الرقبة فإنما هو حكم ضروري أي ليس مقصودا
____________________
(2/363)
أصليا أي مقصودا لذاته وإنما يثبت ضرورة أن يثبت شيء آخر وإذا كان كذلك فعدم أهليته لما هو المقصود بالذات يوجب عدم أهليته لما شرع لأجله أما عدم أهليته لما هو المقصود بالغير فلا يوجب عدم أهليته لما يكون وسيلة إليه لا سيما إذا كان أهلا لذلك الغير المقصود لذاته كملك اليد في مسألتنا فاليد تثبت له والملك للمولى خلافة عنه أي يكون المولى قائما مقام العبد فإن الأصل أن يثبت الملك للمباشر وهو كالوكيل في الملك أي العبد المأذون في الملك بمنزلة الوكيل أي إذا اشترى شيئا يقع الملك للمولى كما يقع الملك للموكل في شراء الوكيل وفي بقاء الإذن في مسائل مرض المولى وعامة مسائل المأذون أي المأذون في حال بقاء الإذن بمنزلة الوكيل في هاتين الصورتين وهما مرض المولى وعامة مسائل المأذون أما
____________________
(2/364)
مرض المولى فصورته أن المأذون إن تصرف في حال مرض المولى وحابى محاباة فاحشة وعلى المولى دين لا يصح تصرفه أصلا وإذا لم يكن على المولى دين والمسألة بحالها يعتبر من الثلث لا من جميع المال فهو في حال مرض المولى كالوكيل ولو كان هذا التصرف في حال الصحة يصح ويعتبر من جميع المال ففي حال صحة المولى ليس كالوكيل وأما عامة مسائل المأذون فكما إذا أذن المولى عبده والعبد المأذون عبدا اشتراه من كسبه في التجارة ثم حجر المولى المأذون الأول لا ينحجر الثاني بمنزلة الوكيل إذا وكل غيره وعزل الموكل الوكيل الأول لم ينعزل الثاني وكذا إذا مات المأذون الأول لا ينحجر الثاني كالوكيل إذا مات وإنما قال في بقاء الإذن لأنه في حال ابتداء الإذن ليس كالوكيل عندنا فإن الوكيل لا يثبت له التصرف إلا فيما وكل به بخلاف المأذون لكن في بقاء الإذن هو كالوكيل وهو معصوم الدم كالحر لأنها أي العصمة وقد فهمت من قوله وهو معصوم الدم بناء على الإسلام وداره فيقتل الحر بالعبد والرق يوجب نقصانا في الجهاد على ما قلنا
____________________
(2/365)
في الحج إن منافعه ملك المولى إلا ما استثني فلا يستحق السهم الكامل وينافي الولايات كلها فلا يصلح أمان المحجور لأنه تصرف على الناس ابتداء وأما أمان المأذون فليس من باب
____________________
(2/366)
الولاية لأنه لا يصح أولا في حقه إذ هو شريك في الغنيمة ثم يتعدى كما في شهادته بهلال رمضان فإن صوم رمضان يثبت أولا في حقه ثم يتعدى إلى كافة الناس ولا تشترط الولاية لمثل هذا وينافي ضمان ما ليس بمال فلا تجب الدية في جناية العبد بل يجب دفعه جزاء أي لا يجب على العبد ضمان ما ليس بمال لأن الضمان ما ليس بمال صلة والعبد ليس بأهل
____________________
(2/367)
لها حتى لا يجب عليه نفقة المحارم فلا يجب الدية في جناية العبد خطأ لأن الدية صلة في حق الجاني كأنه يهب ابتداء وعوض في حق المجني عليه فكون المتلف غير مال ينافي الوجوب على العبد وكون الدم مما لا ينبغي أن يهدر يوجب الحق للمتلف عليه فصارت رقبته جزاء إلا أن يختار المولى الفداء فيصير الوجوب عائدا إلى الأصل فإن الأرش أصل في الباب حتى لا يبطل بالإفلاس وعندهما يصير كالحوالة أي الأرش أصل في باب الجنايات خطأ لكن العبد ليس أهلا لأن يجب عليه الأرش لما قلنا أنه صلة ولما لم يجب عليه الأرش لا يمكن تحمل العاقلة عنه فصارت رقبته جزاء لكن لما اختار المولى الأرش فداء عن العبد لئلا يفوته العبد صار وجوب الفداء عائدا إلى الأصل لا كالحوالة حتى إذا
____________________
(2/368)
أفلس المولى بعد اختيار الفداء لا يجب الدفع عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما يكون كالحوالة حتى يعود حق ولي الجناية في الدفع
ومنها الحيض والنفاس وهما لا يعدمان الأهلية إلا أن الطهارة عندهما شرط للصلاة والصوم على ما مر
ومنها المرض وهو لا ينافي الأهلية لكنه لما فيه من العجز شرعت العبادات فيه للقدرة الممكنة ولما كان سبب الموت وهو علة للخلافة كان سبب تعلق الوارث والغريم فيوجب الحجر إذا اتصل بالموت الضمير في وهو يرجع إلى الموت والضمير في كان وفي يوجب وفي اتصل يعود إلى المرض والمعنى أن الموت علة لأن يقوم الغير
____________________
(2/369)
مقامه مستندا إلى أوله أي أول المرض وهو حال عن قوله فيوجب الحجر فإن مرض الموت يوجب الحجر ولا يظهر أنه مرض الموت إلا باتصاله بالموت فإذا اتصل به يثبت الحجر مستندا إلى أول المرض في قدر ما يصان به حقهما فقط أي حق الغريم والوارث وقوله في قدر متعلق بالحجر فيجوز النكاح بمهر المثل ففي مقدار مهر المثل لم يتعلق به حق الوارث والغريم لأن المريض محتاج إلى النكاح لبقاء نسله وفي كل ما يحتاج هو إليه لا يتعلق به حق الغير وإذا لم يتعلق حقهما بمهر المثل لم يكن في الحجر عن النكاح بمهر المثل صيانة حقهما إذ لا حق لهما فيه وكل تصرف يحتمل الفسخ يصح في الحال ثم ينقض إن احتيج إليه وما لا يحتمله أي الفسخ كالإعتاق يصير كالمعلق بالموت إذ لا يقبل النقض فإن كان على الميت دين مستغرق ينفذ على وجه لا يبطل حق الدائن فيجب السعاية في الكل وإن لم يكن دين مستغرق ينفذ على وجه لا يبطل حق الوارث في الثلثين والقياس في الوصية البطلان لكن الشرع جوزها نظرا له أي للمريض ليتدارك
____________________
(2/370)
بتقصيرات أيام حياته في القليل ليعلم أن الحجر وترك إيثار الأجنبي على الوارث أصل ولما أبطل الشرع الوصية للوارث إذ تولى بنفسه اعلم أنه تعالى فرض أولا الوصية للوارث بقوله تعالى كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف ثم تولى بنفسه حيث قال يوصيكم الله فنسخ الأول بطلت أي الوصية للوارث صورة بأن يبيع المريض عينا من التركة من الوارث بمثل القيمة لأنه وصية بصورة العين لا بمعناه ومعنى بأن يقر لأحد من الورثة فإنه وصية معنى وحقيقة بأن أوصى لأحد الورثة وشبهة بأن باع الجيد من الأموال الربوية برديء منها وتقومت الجودة عطف على قوله بطلت في حقه أي في حق الوارث كما في الصغار أي إن باع الولي مال الصبي من نفسه تقومت الجودة حتى لا يجوز إلا باعتبار القيمة ولما تعلق
____________________
(2/371)
حق الورثة والغرماء بما له صورة ومعنى في حقهم أي في حق الورثة والغرماء حتى لا يكون لأحد الورثة أن يأخذ التركة ويعطي باقي الورثة القيمة ولو قضى المريض حق بعض الغرماء بمثل القيمة شاركهم البقية ولا يجوز للمريض البيع من أحد الورثة أو الغرماء بمثل القيمة ومعنى فقط في حق غيرهم حتى يصح بيع المريض من الأجانب بمثل القيمة لا ينفذ إعتاق المريض هذا تفريع على قوله ومعنى فقط في حق غيرهم فإن حق الغرماء والورثة لما تعلق بالتركة من حيث المعنى فقط بالنسبة إلى غيرهم والعبد غيرهم فبالنسبة إلى العبد تعلق حقهم بماليته لا بصورته فيصح إعتاق المريض من حيث الصورة فيصير العبد مستحقا للحرية ولا يمكن نقض الإعتاق لكن لا ينفذ من حيث المعنى وهي المالية حتى يجب السعاية في الكل إذا استغرق الدين وفيما وراء ثلث المال إذا لم يستغرق فيكون بمنزلة المكاتب إلا أنه لا يمكن رده إلى الرق بخلاف إعتاق الراهن لأن حق المرتهن في ملك اليد
____________________
(2/372)
فقط فإن إعتاق الراهن ينفذ فإن كان الراهن غنيا فلا سعاية على العبد وإن كان فقيرا يسمى في الأقل من قيمته ومن الدين لكن يرجع على المولى بعد غناء فعتق الراهن حر مديون فتقبل شهادته قبل السعاية ومعتق المريض قبل السعاية بمنزلة المكاتب فلا تقبل شهادته
ومنها الموت وهو عجز ظاهر كله والأحكام هنا دنيوية وأخروية أما الأولى فكل ما هو من باب التكليف يسقط به إلا في حق الإثم وما شرع عليه لحاجة غيره إن كان متعلقا بالعين يبقى ببقائها كالوديعة لأنها أي العين هي المقصودة وإن كان دينا لا يبقى بمجرد الذمة إلا أن يضم إليها أي إلى الذمة مال أو كفيل فلا تجوز الكفالة عن ميت إلا عند وجود أحدهما أي الكفالة لا تجوز إلا أن يبقى عنه مال أو كفيل ويلزمه الدين مضافا إلى سبب صح في حياته كما إذا حفر بئرا فوقع فيها حيوان بعد موته وأما ما شرع صلة كنفقة المحارم إلا أن يوصي فيصح من الثلث وأما ما شرع له لحاجته فتبقى ما تنقضي به الحاجة فتبقى التركة على حكم ملكه حتى يترتب منها حقوقه ولهذا تبقى الكتابة بعد موت المولى لحاجته
____________________
(2/373)
إلى الثواب وكذا بعد موت المكاتب عن وفاء لحاجته إلى انقطاع أثر الكفر وإلى حرية أولاده وأما المملوكية فتابعة هنا فإن الأصل في هذا العقد ثبوت اليد أي تابعة في باب الكتابة وهو جواب عن سؤال مقدر وهو أنه لما ذكر أن كل ما يحتاج إليه الميت يبقى بعد موته ضرورة قضاء حاجته وكل ما لا يحتاج إليه لا يبقى لقيام الدليل على عدم بقائه والضرورة الموجبة للبقاء غير ثابتة وعقد الكتابة إنما يمكن بقاؤه إذا بقي مملوكية الميت ولا حاجة له إلى بقاء المملوكية فلا يبقى فبعد الكتابة لا يبقى فأجاب بأن المملوكية تابعة والمقصود من بقاء عقد الكتابة به المالكية يدا والمملوكية رقبة تبقى ضمنا لا قصدا ويثبت الإرث نظرا له خلافة والخلافة إذا ثبت سببها وهو مرض الموت يحجر الميت عن إبطالها فكذا إذا ثبتت أي الخلافة نصا فيما لا يحتمل الفسخ كتعليق العتق به أي بالموت وإنما يثبت به الخلافة لأن التعليق بالموت وصية والموصى له خليفة للميت في
____________________
(2/374)
الموصى به فيكون سببا أي التعليق بالموت سببا في الحال للعتق بخلاف سائر التعليقات لأنه أي الموت كائن بيقين فإن قيل فعلى هذا ينبغي أن لا يجوز بيع عبد علق عتقه بأمر كائن يقينا قلنا بيع العبد المعلق عتقه بالموت إنما لا يجوز لأمرين أحدهما الاستخلاف كما ذكرنا والثاني التعليق بأمر كائن لا محالة فصار مجموع الأمرين علة لعدم جواز بيعه فكل منهما على الانفراد جزء العلة فلا يجوز بيع المدبر ويصير كأم الولد في استحقاق الحرية دون سقوط التقوم لأن تقومها إنما يسقط لأنه لما استفرشها صار التمتع فيها أصلا والمال تبعا على عكس ما كان قبل وعلى هذا الأصل وهو أن ما يحتاج إليه الميت يبقى دون ما لا يحتاج إليه قلنا المرأة تغسل الزوج في عدتها بخلاف العكس لأن مالكيته حق له فتبقى بخلاف مملوكيتها لأنها حق عليها وأما ما لا يصلح لحاجته كالقصاص لأن القصاص عقوبة وجبت لدرك الثأر عند انقضاء الحياة والميت لا يحتاج إلى هذا بل الورثة محتاجون إليه فإنه يجب حقا للورثة ابتداء حتى يصح عفوهم قبل موت المجروح لكن السبب انعقد في حق
____________________
(2/375)
الميت حتى يصح عفوه أيضا ولهذا أي ولأجل أن القصاص يجب ابتداء للورثة قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى القصاص غير مورث حتى لا ينتصب بعض الورثة خصما عن البقية لكن إذا انقلب أي القصاص مالا وهو يصلح لحوائج الميت يصرف إلى حوائجه ويورث منه وأما أحكام الآخرة فكلها ثابتة في حقه
وأما العوارض المكتسبة فهي إما من نفسه وإما من غيره أما الأول فمنها الجهل وهو إما جهل لا يصلح عذرا كجهل الكافر لأنه مكابرة بعدما وضح الدليل فديانة الكافر أي اعتقاده في حكم لا يحتمل التبدل كعبادة الصنم مثلا باطلة فلا يكون للكفر حكم الصحة أصلا بخلاف الأحكام القابلة للتبدل كبيع الخمر مثلا فإنه يصح منهم
____________________
(2/376)
وأما في حكم يحتمله فدافعة للتعرض لهم فقط عند الشافعي رحمه الله تعالى أي ديانته دافعة للتعرض لهم لقوله عليه الصلاة والسلام اتركوهم وما يدينون فلا يحد الذمي بشرب الخمر وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى هي دافعة له أي للتعرض ولدليل الشرع في أحكام الدنيا استدراجا ومكرا وزيادة لإثمهم وعذابهم كأن الخطاب لم يتناولهم فيها أي في أحكام الدنيا اعلم أن الاستدراج تقريب الله تعالى العبد إلى العقوبة بالتدريج فتكون ديانتهم دافعة لدليل الشرع في أحكام الدنيا فيوهم تخفيفا لكنه تغليظ في الحقيقة كما بينا في فصل
____________________
(2/377)
خطاب الكفار بالشرائع أن الطبيب يعرض عن مداواة العليل عند اليأس وصورة التخفيف والإمهال توقعهم في زيادة ارتكاب المعاصي وفي توهم الإهمال كما نطق به الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام أمهلناهم فظنوا أننا أهملناهم وكما قال الله تعالى سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين وقال إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين وقال نوله ما تولى الآية فيثبت عنده أي عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى تقوم الخمر والضمان بإتلافها وجواز البيع ونحوها وصحة نكاح المحارم حتى إن وطئ فيه أي في نكاح المحارم ثم أسلم يكون محصنا فإن العفة عن الزنا شرط لإحصان القذف فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن وطأه في هذا النكاح لا يكون زنا فيحد قاذفه وتجب به النفقة أي بنكاح المحارم ولا يفسخ أي نكاح المحارم ما دام الزوجان كافرين إلا أن يترافعا ثم أقام الدليل على ثبوت تقوم الخمر في حقهم وثبوت الإحصان بنكاح المحارم بقوله لأن تقوم المال وإحصان النفس من باب العصمة وهي الحفظ فيكون في ثبوتهما الحفظ عن التعرض تقريره أن ديانتهم تصلح دافعة للتعرض اتفاقا ودافعة لدليل الشرع في أحكام الدنيا أي في الأحكام التي تصلح ديانتهم دافعة لها لا يتناولهم دليل الشرع في تلك الأحكام عندنا فإذا عرفت هذا فتقوم الخمر وإحصان النفس من باب دفع التعرض لا من باب التعدي إلى الغير
____________________
(2/378)
فيثبتان ولا يلزم الربا لأنهم قد نهوا عنه هذا جواب إشكال على أن ديانتهم معتبرة في ترك التعرض فإنه يجب أن يتركوا على ديانتهم في باب الربا أيضا فأجاب بأن معتقدهم في الربا ليس هو الحل لقوله تعالى وأكلهم الربا وقد نهوا عنه وقد خطر ببالي على هذا الجواب نظر وهو أن قوله ديانتهم دافعة للتعرض اتفاقا ودليل الشرع لا يراد به أن ديانتهم الصحيحة دافعة لهما فإن ديانة الكافر لا تكون صحيحة بل المراد أن معتقدهم وإن كان باطلا دافع كنكاح المحارم مثلا فإنه لا يحل في شريعة من الشرائع لأن حله كان في شريعة آدم عليه الصلاة والسلام للضرورة ثم نسخ في شريعة نوح عليه الصلاة والسلام فارتكاب المجوس ذلك وارتكاب أهل الكتاب الربا سيان والفرق بينهما صعب جدا ويمكن أن يقال حرمة الربا مذكورة في التوراة فارتكابهم ذلك يكون بطريق الفسق وحرمة نكاح المحارم غير مذكورة في كتب المجوس ولا يمكن لنا إلزامهم بما في كتبنا فافترقا فإن قيل ديانتهم ليست حجة متعدية إجماعا فلا توجب ضمان الخمر وحد القذف والنفقة كما في مجوسي غلب بنتين إحداهما لا ترث بالزوجية اعلم أن الحكم في المقيس عدم وجوب الضمان وعدم وجوب حد القذف وعدم وجوب النفقة والحكم في المقيس عليه عدم الإرث فالحكمان مختلفان في الأصل والفرع لكنهما مندرجان تحت حكم واحد هو
____________________
(2/379)
بمنزلة الجنس لهما وهو أن ديانتهم غير متعدية قلنا يثبت بديانتهم بقاء تقوم الخمر على ما كان فليس فيه إلا دفع دليل الشرع ثم هو أي التقوم شرط للضمان لا علته وكذا الإحصان أي إحصان المقذوف شرط لوجوب الحد على القاذف فلا يكون في إثباتهما أي في إثبات التقوم والإحصان إثبات الضمان والحد بل الضمان والحد إنما يثبتان بإتلاف الخمر وبالقذف وإنما يلزم القول بتعدي دياتهم لو أثبتنا الضمان والحد باعتقادهم التقوم والإحصان ولم نفعل كذلك وأما النفقة فإنما تجب دفعها للهلاك فتكون دافعة لا متعدية ولأنهما لما تناكحا دانا بصحته فيؤخذ الزوج بديانته ولا كذلك من ليس في نكاحهما كالوارث الآخر لأن تقوم المال وإحصان النفس من باب العصمة وهي الحفظ فيكون في ثبوتهما الحفظ عن التعرض ولا يلزم الربا لأن هم قد نهوا عنه جواب عن القياس المذكور وهو قوله كما في مجوسي وتقريره أن في إرث البنت التي هي زوجته ضررا بالوارث الآخر أي البنت التي هي ليست زوجته فتكون متعدية هنا وأما عندهما فكذلك اعلم أما ما ذكر هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأما على قولهما فكذلك أيضا أي ديانتهم دافعة للتعرض ولدليل الشرع في أحكام الدنيا إلا أن نكاح المحارم ليس حكما أصليا بخلاف تقوم الخمر بل كان ضروريا إذ في شريعة آدم عليه الصلاة والسلام لم يحل نكاح الأخت من بطن واحد أي نكاح المحارم كان في شريعة آدم عليه الصلاة والسلام حكما ضروريا إذ لولا جوازه في ذلك العهد لا يحصل النسل أصلا والدليل على هذا أن نكاح الأخت من بطن واحد لم يكن جائزا في شريعة آدم عليه السلام وكانت السنة الإلهية في ذلك الزمان ولادة ذكر مع أنثى من بطن
____________________
(2/380)
واحد والمشروع أن يتزوج كل أنثى ذكر من بطن آخر فكان النكاح بين التوأمين حرام ولا شك أن التوأمين مخلوقان من ماء اندفق دفعة واحدة والولدان من بطنين مخلوقان من ماءين اندفقا دفعتين فالأخت من بطن واحد أقرب من أخت لا تكون كذلك ولما كانت الضرورة تنقضي بالبعد لم تحل القربى فعلم أن الأصل في نكاح المحارم الحرمة وقد ثبت الحل بالضرورة فلما ارتفعت الضرورة بكثرة النسل نسخ حل الأخوات فعلى تقدير كون ديانتهم دافعة لدليل الشرع لا يثبت لهم حل نكاح المحارم إذ بعد قصر دليل الشرع عنهم يبقى الحكم على ما كان وهو الحرمة في نكاح المحارم بخلاف الخمر إذ بعد قصر دليلنا عنهم يبقى الحكم على ما كان وهو الحل وإذا ثبت هذا فنكاح المحارم لا يكون مثبتا للإحصان ولا يحد قاذف من نكح المحارم ووطئ ثم أسلم وأيضا حد القذف يندرئ بالشبهة أي سلمنا أن هذا النكاح صحيح في حقهم لكن شبهة عدم الصحة ثابتة في حقهم فيندرئ حد القذف بها فقوله وأيضا عطف على قوله أن نكاح المحارم إلخ وكل واحد من المعطوف والمعطوف عليه دليل على عدم وجوب الحد على قاذف من نكح المحارم ووطئ ثم أسلم فلهذا المعنى قال وأيضا ولا تجب النفقة
____________________
(2/381)
أيضا عطف على الحكم المفهوم من الدليلين المذكورين ونعني بالحكم المفهوم عدم وجوب حد القذف أما على الدليل الأول فظاهر وهو أن حل نكاح المحارم ليس حكما أصليا وذلك لأن الدليل الأول يوجب بطلان النكاح فلا تجب النفقة وأما على الثاني وهو أن حد القذف يندرئ بالشبهة فالنكاح وإن صح لكن النفقة صلة مبتدأة فلا تجب كالميراث إذ لو وجبت تصير الديانة متعدية فالحاصل أن المراد بالشبهة لدرء حد القذف شبهة عدم صحة النكاح فهذا الدليل مشعر بتسليم صحة نكاح المحارم وكونها حكما أصليا في حقهم والجواب أي جواب أبي حنيفة رحمه الله تعالى في النفقة أنها لدفع الهلاك فإيجاب النفقة بناء على ديانتهم لا يكون قولا بأن ديانتهم متعدية بل ديانتهم دافعة وذلك لأن الزوج حابس للزوجة فإن حبسها بلا نفقة يكون متعرضا لها بالإهلاك فإيجاب النفقة دفع لهذا التعرض ثم ورد على هذا أن إيجاب النفقة ليس لدفع الهلاك بدليل وجوبها مع غنى المرأة فأجاب بقوله وغناها لا يدفع الحاجة الدائمة بدوام الحبس وأما جهل كما ذكرنا أي لا يصلح عذرا وهو عطف على قوله وأما جهل لا يصلح عذرا لكنه دونه أي دون الجهل الأول كجهل صاحب الهوى في صفات الله تعالى وأحكام الآخرة لأنه مخالف للدليل الواضح لكنه لما كان مؤولا للقرآن كان دون الأول ولما كان مسلما لزمنا مناظرته وإلزامه فلا يترك على ديانته فلزمه جميع أحكام الشرع وكجهل الباغي فيضمن بإتلاف مال العادل أو
____________________
(2/382)
نفسه إلا أن يكون له منعة فتسقط ولاية الإلزام وتجب علينا محاربته ولم يحرم الميراث بقتله لأن الإسلام جامع أي بيننا وبين الباغي فيكون سبب الإرث موجودا والقتل حق فلا يكون مانعا من الإرث وكذا إن قتل عادلا أي لا يحرم الباغي الإرث إن قتل عادلا لأنه حق في زعمه وولايتنا منقطعة عنه ولما كان الدار واحدة والديانة مختلفة تثبت العصمة من وجه فلا نملك ماله لكن لا نضمن بالإتلاف كما في غصب مال غير متقوم فإن الغاصب لا يملكه حتى
____________________
(2/383)
يجب عليه رده وأما إذا أتلف لا يجب عليه الضمان وإنما لم يعكس لأن القول بأنه يملك ماله مع القول بأنه يملك ماله مع التناقض وكجهل من خالف في اجتهاده الكتاب كمتروك التسمية عمدا فإن فيه مخالفة قوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه والقضاء بالشاهد واليمين أي يمين المدعي فإن فيه مخالفة قوله تعالى فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان أو السنة المشهورة كالتحليل بدون الوطء على مذهب سعيد بن المسيب فإن فيه مخالفة حديث العسيلة والقصاص في مسألة القسامة فإنه إن وجد لوث أي علامة القتل استحلف الأولياء خمسين يمينا عمدا كانت الدعوى أو خطأ وهذا عند الشافعي رحمه الله تعالى وأما عند مالك رحمه الله يقضى بالقود
____________________
(2/384)
إن كانت الدعوى في العمد وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى وفيه خلاف قوله عليه الصلاة والسلام البينة على المدعي واليمين على من أنكر وهذا وحديث العسيلة من المشاهير أو الإجماع كبيع أم الولد فإن إجماع الصحابة انعقد على بطلانه حتى لا ينفذ قضاء القاضي فيه متعلق بأول البحث وهو أن الجهل ليس بعذر حتى إن قضى القاضي في هذه المسائل لا ينفذ قضاؤه لكونه مخالفا للكتاب أو السنة المشهورة أو الإجماع
____________________
(2/385)
وأما جهل يصلح شبهة عطف على النوعين المذكورين في الجهل كالجهل في موضع الاجتهاد الصحيح أي غير مخالف للكتاب أو السنة المشهورة أو الإجماع أو في موضع الشبهة كمن صلى الظهر بلا وضوء ثم العصر به أي بالوضوء زاعما صحة ظهره ثم تذكر أنه صلى الظهر بلا وضوء ثم قضى الظهر بناء على هذا التذكر ثم صلى المغرب على ظن أن العصر جائز بناء على جهله بفرضية الترتيب يصح المغرب لأن الترتيب مجتهد فيه فلا يضر جهله فلا تجب عليه إعادة المغرب كما يجب قضاء العصر عندنا لأنه أداه زاعما صحة ظهره وهذا زعم بخلاف الإجماع وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يجب قضاء العصر لعدم فرضية الترتيب عنده هذا إذا كان يزعم وقت أداء المغرب أن عصره جائز أما لو علم وقت أداء المغرب أن عصره لم يجز كان عليه إعادة المغرب كما يجب قضاء العصر وإن لم يقض الظهر وصلى العصر بناء على ظن أن الظهر جائز أي صلى الظهر بلا وضوء
____________________
(2/386)
ثم العصر بوضوء زاعما صحة الظهر ولم يقض الظهر بناء على أنه غير عالم بعدم الوضوء فإن من صلى صلاة بغير وضوء جاهلا أن لا وضوء له ثم توضأ وصلى فرضا آخر ثم تذكر أنه كان على غير وضوء فالفرض الثاني غير صحيح في ظاهر الرواية خلافا لحسن بن زياد فإن عنده إنما يجب رعاية الترتيب على من يعلمه وأيضا فيه خلاف زفر رحمه الله فإنه يقول إذا كان عنده أن الفرض الأول يجزيه فهو في معنى الناسي للفائتة فيجزيه الفرض الثاني لم يصح العصر أي صلى الظهر بلا وضوء ثم العصر بوضوء زاعما صحة الظهر ولم يقض الظهر لم يصح العصر لأن زعمه مخالف للإجماع والمسألة المستشهد بها هي الأولى لا الثانية وإذا عفا أحد الوليين ثم اقتص الآخر على ظن أن القصاص لكل واحد على الكمال فلا قصاص عليه لأنه موضع الاجتهاد فإن عند البعض لا يسقط القصاص فصار هذا شبهة في درء القصاص عن قاتل القاتل وكذا المحتجم إذا ظن أنه أفطر فأكل عمدا فلا كفارة عليه لأن قوله عليه الصلاة والسلام أفطر الحاجم والمحجوم صار شبهة في درء
____________________
(2/387)
الكفارة إذ هذه الكفارة مما يندرئ بالشبهة وكذا القصاص في المسألة السابقة ومن زنى بجارية امرأته أو والده بظن أنها تحل له لا يحد لأنه موضع الاشتباه فتصير شبهة في درء الحد حتى يندرئ الحد بهذه الشبهة إلا في النسب والعدة أي لا يثبت النسب والعدة بهذه الشبهة وإن كانا يثبتان بالوطء بشبهة
وكذا حربي أسلم فدخل دارنا فشرب خمرا جاهلا بالحرمة أي لا يحد لأن جهله يكون شبهة لا إن زنى هو أي زنى حربي أسلم حيث يحد لأن جهله في حرمة الزنا لا يكون شبهة لأن الزنا حرام في جميع الأديان أو شرب ذمي أسلم أي يجب الحد لأن حرمة الخمر شائعة في دار الإسلام والذمي ساكن فيها فلا يعذر بالجهل بحرمة الخمر فلا يصير شبهة في درء الحد وأما جهل يصلح عذرا هذا هو النوع
____________________
(2/388)
389 الرابع من الجهل كجهل مسلم لم يهاجر بالشرائع وكذا إذا نزل خطاب ولم ينتشر بعد في دارنا كما في قصة أهل قباء فإنهم إذ بلغهم تحويل القبلة وكانوا في الصلاة استداروا إلى الكعبة فاستحسن رسول الله عليه الصلاة والسلام وكانوا يقولون كيف صلاتنا إلى بيت المقدس قبل علمنا بالتحويل فأنزل الله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم أي صلاتكم إلى بيت المقدس وقصة تحريم الخمر لما نزل تحريم الخمر قال الصحابة يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر أي بعد التحريم قبل بلوغ الخطاب إليهم فنزل قوله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا فأما إذا انتشر التبليغ في ديارنا فقد تم التبليغ فمن جهل هنا يكون لتقصيره كمن لم يطلب الماء في العمرانات فتيمم وكان الماء موجودا لا يصح وكذا الجهل بأنه وكيل أو
____________________
(2/389)
مأذون أي يكون عذرا حتى إن تصرف لا يصح أي من الموكل فإن شراء الوكيل قبل العلم بالوكالة يقع عن الوكيل ولو باع مال الموكل قبل العلم بالوكالة يتوقف كبيع الفضولي وكذا جهل الوكيل بالعزل والمأذون بالحجر والمولى بجناية العبد الجاني والشفيع بالبيع والأمة المنكوحة بالإعتاق أو بالخيار والبكر بالنكاح لا بالخيار أي جهل الوكيل بالعزل وجهل المأذون بالحجر عذر حتى إن تصرفا قبل العلم بالعزل والحجر يصح تصرفهما وكذا جهل المولى بجناية العبد الجاني عذر حتى لو باع العبد الجاني قبل العلم بالجناية لا يكون مختارا للفداء وكذا جهل الشفيع بالبيع حتى لو باع الشفيع الدار المشفوع بها بعد ما بيعت دار بجنبها لكن قبل علمه ببيعها لا يكون مسلما للشفعة والأمة المنكوحة إذا جهلت أن المولى أعتقها فسكتت عن فسخ النكاح فجهلها عذر حتى لا يبطل خيارها وكذا إذا علمت بالإعتاق ولكن جهلت أن لها خيار العتق فجهلها عذر حتى لا يبطل خيارها وإذا بلغت البكر التي زوجها غير الأب والجد جاهلة بالنكاح فسكتت فجهلها عذر فلا يكون سكوتها رضى أما إذا علمت بالنكاح وجهلت بأن لها الخيار لا يكون جهلها عذرا حتى يبطل خيارها إذ جهلها بالأحكام الشرعية ليس بعذر لأن الدليل مشهور في حقها لأن طلب العلم واجب عليها
____________________
(2/390)
فدلائل الشرع يجب أن تكون مشهورة في حقها فبالجهل لا تعذر وفي حق الأمة مخفي لأن خدمة المولى تشغلها عن التعلم فالدليل مخفي في حقها فتعذر بالجهل ولأن البكر تريد إلزام الفسخ والأمة تريد دفع زيادة الملك هذا فرق آخر بين البكر والأمة في أن الأمة تعذر بالجهل لا البكر وتقريره أن البكر تريد إلزام الفسخ على الزوج والمعتقة تريد بالفسخ دفع زيادة الملك فإن طلاق الأمة ثنتان وطلاق الحرة ثلاثة والجهل عدم أصلي يصلح للدفع لا للإلزام وهذا الفرق أحسن من الأول لأن البكر قبل البلوغ لم تكلف بالشرائع لا سيما في المسائل التي لا يعرفها إلا أحذق الفقهاء حتى يشترط القضاء ثمة لا هنا تفريع على أن فسخ النكاح بخيار البلوغ إلزام ضرورة وبخيار العتق دفع ضرر
ومنها السكر هو وإما بطريق مباح كسكر المضطر والسكر بدواء كالبنج والأفيون وبما يتخذ من الحنطة أو الشعير أو العسل وهو كالإغماء يمنع صحة جميع التصرفات حتى الطلاق والعتاق وأما بطريق محظور كالسكر من شراب محرم أو مثلث لأنه إنما يحل أي المثلث بشرط أن لا يسكر فالسكر به يصير كالسكر بالمحرم فيحد به أي بالسكر من المثلث وهو أي القسم الثاني من السكر وهو السكر بشراب محرم أو بالمثلث لا ينافي الخطاب لقوله تعالى ولا تقربوا الصلاة وأنتم
____________________
(2/391)
سكارى فهذا خطاب متعلق بحال السكر فهو لا يبطل الأهلية أصلا فيلزمه كل الأحكام وتصح عباراته وإنما ينعدم به القصد حتى إن تكلم بكلمة الكفر لا يرتد استحسانا لعدم ركنه وهو القصد كما إذا أراد أن يقول اللهم أنت ربي وأنا عبدك فجرى على لسانه عكسه لا يرتد وإذا أسلم يصح كالمكره وإذا أقر بما يحتمل الرجوع كالزنا وشرب الخمر لا يحد حتى يصحو فيقر لأن السكر دليل الرجوع وإذا أقر بما لا يحتمله كالقصاص والقذف وغيرهما أو باشر سبب الحد يلزمه لكن إنما يحد إذا صحا وحده اختلاط الكلام أي حد السكر والمراد به الحالة المميزة بين السكر والصحو
____________________
(2/392)
وزاد أبو حنيفة رحمه الله تعالى أن لا يعرف الأرض من السماء لوجوب الحد فقط
ومنها الهزل وهو أن لا يراد باللفظ معناه لا الحقيقي ولا المجازي وهو ضد الجد وهو أن يراد به أحدهما وشرطه أن يشترط باللسان لا يعتبر دلالته أي دلالة الهزل أي شرط الهزل أن تجري المواضعة قبل العقد بأن يقال نحن نتكلم بلفظ العقد هازلا ولا يشترط كونه أي كون
____________________
(2/393)
394 الشرط وهو المواضعة في نفس العقد بل يكفي أن تكون المواضعة سابقة على العقد وهو أي الهزل لا ينافي الأهلية أصلا ولا اختيار المباشرة والرضى بها بل اختيار الحكم والرضى به فوجب النظر بالتصرفات كيف تنقسم فيهما أي في الاختيار والرضى وهي إما من الإنشاءات أو الإخبارات أو الاعتقادات أما الإنشاءات فإما أن تحتمل النقض أو لا فما يحتمله كالبيع والإجارة فإما أن يتواضعا في أصل العقد أي تجري المواضعة قبل العقد بأنا نتكلم بلفظ البيع عند الناس ولا نريد البيع فإن اتفقا على الإعراض أي فالأبعد البيع إنا قد أعرضنا وقت البيع عن الهزل وبعنا بطريق الجد صح البيع وبطل الهزل لإعراضهما وإن اتفقا على بناء العقد على المواضعة صار كخيار الشرط لهما مؤبدا أي للمتعاقدين لوجود الرضى بالمباشرة لا بالحكم هذا دليل على كونه بمنزلة خيار الشرط فإنه إذا بيع بالخيار فالرضى بالمباشرة حاصل لا بالحكم وهو الملك فيفسد العقد كما في الخيار المؤبد لكن لا يملك
____________________
(2/394)
بالقبض فيه لعدم الرضى بالحكم هذا استدراك عن قوله فيفسد العقد فإن الملك بالقبض يثبت في البيع الفاسد فإن نقضه أحدهما انتقض وإن أجازاه في الثلاث جاز أي إن أجازاه في ثلاثة أيام جاز عند أبي حنيفة رحمه الله أي ينقلب جائز الارتفاع المفسد كما في الخيار المؤبد إلا إن أجاز أحدهما لأنه كخيار الشرط للمتعاقدين فيتوقف على إجازتهما وعندهما لا يشترط في الثلاث أي عندهما لا تنتهي الإجازة بالثلاثة فكلما أجازاه جاز البيع كما في الخيار المؤبد وإن اتفقا على أن لا يحضرهما شيء أي لم يقع في خاطريهما وقت العقد أنهما بنيا على المواضعة أو أعرضا أو اختلفا في الإعراض والبناء يصح العقد عند أبي حنيفة رحمه الله عملا بالعقد وهو أولى بالاعتبار من المواضعة التي لم تتصل به أي بالعقد لا عندهما أي لا يصح العقد عندهما فاعتبر العادة تحقيق المواضعة ما أمكن على أن المواضعة أسبق قلنا الأخير ناسخ أي الأخير وهو العقد ناسخ للمواضعة السابقة لأن أحدهما لم يمض على المواضعة واعلم أنه بقي بالتقسيم العقلي قسمان لم يذكرا وهما إذا أعرض أحدهما وقال
____________________
(2/395)
الآخر لم يحضرني شيء أو بنى أحدهما وقال الآخر لم يحضرني شيء فعلى أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى يجب أن يكون عدم الحضور كالإعراض وعلى أصلهما كالبناء وإما أن يتواضعا على البيع بألفين على أن الثمن ألف فهما يعملان بالمواضعة إلا في صورة إعراضهما وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يعمل بظاهر العقد في الكل والفرق بين البناء هنا وثمة أن العمل بالمواضعة هنا يجعل قبول أحدهما الألفين شرطا لوقوع البيع بالآخر فيفسد العقد وقد جدا في أصل العقد فهو أولى بالترجيح من الوصف
أي أصل العقد أولى بالترجيح من الوصف فإن اعتبار أصل العقد يوجب الصحة لأن المتعاقدين جدا في أصل العقد وإنما الهزل في مقدار الثمن وهو المراد بالوصف فإن اعتبر المواضعة والهزل في الوصف حتى يصح العقد بالألف يلزم فساد العقد كما بينا في المتن
____________________
(2/396)
وأما أن يتواضعا على أن الثمن جنس آخر فالعمل بالعقد اتفاقا والفرق لهما بين هذا والمواضعة في القدر أن العمل بها مع صحة العقد ممكن ثمة لا هنا والهزل بأحد الألفين ثمة
____________________
(2/397)
شرط لا طالب له فلا يفسد وإنما قال هذا جوابا عما ذكر أنه يجعل قبول أحد الألفين شرطا لوقوع البيع بالآخر وإنما قال إنه لا طالب له لاتفاق المتعاقدين على أن الثمن ألف لا ألفان وإذا لم يكن للشرط طالب لا يفسد كما إذا اشترى حمارا على أن يحمله حملا خفيفا أو نحو ذلك لا يفسد العقد لعدم الطالب لكن الجواب لأبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الشرط في مسألتنا وقع لأحد المتعاقدين وهو الطالب لكن لا يطالب هنا للمواضعة وعدم الطلب بواسطة الرضا لا يفيد الصحة كالرضى بالربا ثم عطف على قوله وإما أن يحتمل النقض قوله وإما أن لا يحتمل النقض فمنه ما لا مال فيه وهو الطلاق والعتاق والعفو عن القصاص واليمين والنذر وكله صحيح والهزل باطل لقوله عليه الصلاة والسلام ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق واليمين ولأن الهازل راض بالسبب لا الحكم وحكم هذه
____________________
(2/398)
الأسباب لا يحتمل التراخي والرد حتى لا يحتمل خيار الشرط ومنه ما يكون المال فيه تبعا كالنكاح فإن كان الهزل في الأصل فالعقد لازم أو في قدر البدل فإن اتفقا على الإعراض فالمهر ألفان أو على البناء فألف والفرق لأبي حنيفة رحمه الله تعالى بين هذا وبين البيع أن البيع يفسد بالشرط لكن النكاح لا يفسد بالشرط وعلى أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا ففي رواية محمد عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى المهر ألف بخلاف البيع لأن الثمن مقصود بالإيجاب فترجح به أي بالثمن فيترجح الثمن بالإيجاب
____________________
(2/399)
وفي رواية أبي يوسف رحمه الله تعالى ألفان قياسا على البيع وفي جنس البدل فإن اتفقا على الإعراض فالمسمى وعلى البناء فمهر المثل إجماعا وعلى أنه لم يحضرهما أو اختلفا ففي رواية محمد رحمه الله تعالى مهر المثل لأن الأصل في رواية محمد رحمه الله تعالى بطلان المسمى عند الاختلاف وعدم الحضور في المواضعة في قدر المهر على ما ذكر وكذا في المواضعة في جنس في المهر لكن المواضعة في قدر المهر العمل بالمواضعة ممكن لأن ما تواضعا عليه وهو الألف داخل في المسمى وهو الألفان أما في المواضعة في الجنس فهذا غير ممكن فلما بطل المسمى وجب مهر المثل وفي رواية أبي يوسف رحمه الله المسمى وعندهما مهر المثل ومنه ما يكون المال فيه مقصودا كالخلع والعتق على مال والصلح عن دم عمد سواء هزلا في الأصل أو القدر أو الجنس ففي الإعراض يلزم الطلاق والمال وكذا في الاختلاف وعدم الحضور أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلترجيح الإيجاب أي ترجيح العقد على المواضعة وأما عندهما فلعدم تأثير الخيار فإنه إذا شرط في الخلع الخيار لها فعندهما الطلاق واقع والمال واجب والخيار باطل وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يقع الطلاق ولا يجب المال حتى تشاء المرأة فكذا في مسألتنا على كلا المذهبين
____________________
(2/400)
وكذا في البناء عندهما على أن المال يلزم تبعا اعلم أن المال في الخلع والعتق على مال والصلح عن دم عمد يجب عندهما بطريق التبعية والمقصود هو الطلاق والعتق وسقوط القصاص والهزل لا يؤثر في هذه الأمور فيثبت ثم يجب المال ضمنا لا قصدا فلا يؤثر الهزل في وجوب المال وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يتوقف على مشيئتها وأما تسليم الشفعة فقبل طلب المواثبة يكون كالسكوت لأنه لما اشتغل بالهزل عن طلب الشفعة فقد سكت عن الطلب فتطلب الشفعة وبعده التسليم باطل لأنه من جنس ما يبطل بالخيار حتى لو قال سلمت الشفعة على أني بالخيار ثلاثة أيام يبطل التسليم ويكون طلب الشفعة باقيا وكذا الإبراء أي يبطل إبراء الغريم هازلا كما يبطل الإبراء بشرط الخيار وأما الإخبارات فالهزل
____________________
(2/401)
يبطلها سواء كان فيما يحتمل الفسخ أو لا لأنه يعتمد صحة المخبر به ألا يرى بالطلاق والعتاق مكرها باطل فكذا هازلا وأما الاعتقادات فالهزل بالردة كفر لأنه استخفاف فيكون مرتدا بعين الهزل لا بما هزل به أي ليس كفره بسبب ما هزل به وهو اعتقاد معنى كلمة الكفر التي تكلم بها هازلا فإنه غير معتقد معناها بل كفره بعين الهزل فإنه استخفاف بالدين وهو كفر نعوذ بالله تعالى منه قال الله تعالى إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم وأما الإسلام هازلا فيصح لأنه إنشاء لا يحتمل حكمه الرد والتراخي ترجيحا لجانب الإيمان كما في الإكراه
ومنها السفه وهو خفة تعتري الإنسان فتبعثه على العمل بخلاف موجب العقل وقال الإمام فخر الإسلام رحمه الله تعالى هو العمل بخلاف موجب الشرع من وجه واتباع الهوى وخلاف دلالة العقل وإنما قال من وجه لأن التبذير أصله مشروع وهو البر والإحسان إلا أن الإسراف حرام والفرق ظاهر بين السفه والعته فإن المعتوه يشابه المجنون في بعض أفعاله
____________________
(2/402)
وأقواله بخلاف السفيه فإنه لا يشابه المجنون لكن تعتريه خفة إما فرحا وإما غضبا فيتابع مقتضاها في الأمور من غير نظر وروية في عواقبها ليقف على أن عواقبها محمودة أو وخيمة أي مذمومة وهو لا ينافي الأهلية ولا شيئا من الأحكام وأجمعوا على منع ماله عنه في أول البلوغ لقوله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ثم علق الإيتاء بإيناس رشد منكر لا ينفك سن الجدية عن مثله إلا نادرا فيسقط حينئذ المنع وهي خمس وعشرون سنة لأن أقل مدة البلوغ اثنتا عشرة سنة وأقل مدة الحمل نصف سنة فيكون أقل سن يمكن أن يصير المرء فيه جدا خمسا وعشرين سنة واختلفوا في السفيه فعندهما يحجر الحجر هو منع نفاذ التصرفات القولية لأن النظر واجب حقا له لدينه فإن العفو عن صاحب الكبيرة حسن وإن أصر عليها كالقتل عمدا
____________________
(2/403)
فإن العفو عن القصاص فيه حسن فغاية فعل السفيه ارتكاب الكبيرة ومرتكب الكبيرة إذا كان مؤمنا يستحق النظر إليه وقياسا عطف على قوله حقا له على منع المال وأيضا صحة العبارة لأجل النفع فإذا صارت ضررا يجب دفعها وأيضا حقا للمسلمين فإن السفهاء إذا لم يحجروا أسرفوا فتركب عليهم الديون فتضيع أموال المسلمين في ذمتهم مثل أن يشتري جارية بألف دينار ولا فلس له فيعتقها في الحال كما فعله واحد من ظرفاء طلبة العلم في
____________________
(2/404)
بخارى وقصته أنه دخل ذات يوم في سوق النخاسين فعشق جارية بلغت في الحسن غايته فعجز عن مكابدة شدائد هجرها وكان في الفقر والمتربة بحيث لم يملك قوت يومه فضلا عن أن يملك مالا يجعله ذريعة إلى مواصلتها فاستعار من بعض خلانه ثيابا نفيسة وبغلة لا يركبها إلا أعاظم الملوك فلبس لباس التلبيس وركب البغلة وشركاء درسه يمشون في ركابه مطرقين حتى دخل السوق فظن التجار أنه حاكم بخارى الملقب بصدر جهان فجلس على نمرقة ودعا صاحب الجارية وساومها فاشتراه بألف دينار وأعتقها وتزوجها في المجلس بحضرة العدول فرجع إلى منزله ممتلئا بهجة وسرورا ورد العواري إلى أهلها فلما جاء البائع لتقاضي الثمن لقي المشتري وعرف فنونه فأخذ ينتف عثنونه وهذا بناء على أن الإنسان يمنع عن التصرف في ملكه بما يضر جاره عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يحجر لأن السفه لما كان مكابرة وتركا للواجب عن علم أي صادرا عن علم ومعرفة لم يكن سببا للنظر وما ذكر من النظر حقا له فذلك جائز لا واجب كما في صاحب الكبيرة وإنما يحسن أي حجر السفيه بطريق النظر إذا لم يتضمن ضررا فوقه وهو إهدار الأهلية والعبارة والأهلية نعمة أهلية واليد زائدة فيبطل قياس الحجر على منع
____________________
(2/405)
المال ثم إذا كان الحجر بطريق النظر أي عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يلحق في كل حكم إلى من كان في إلحاقه إليه نظر من الصبي والمريض والمكره أي المحجور بسبب السفه عندهما إن ولدت جاريته فادعاه يثبت نسبه منه وكان الولد حرا لا سبيل عليه والجارية أم ولد له وإن مات كانت حرة لأن توفير النظر كان في إلحاقه بالمصلح في حكم الاستيلاد فإنه يحتاج إلى ذلك لإبقاء نسله وصيانة مائه ويلحق في هذا الحكم بالمريض فإن المريض المديون إذا ادعى نسب ولد جاريته يكون في ذلك كالصحيح حتى يعتق من جميع ماله بموته ولا تسعى هي ولا ولدها لأن حاجته متقدمة على حق غرمائه ولو اشترى هذا
____________________
(2/406)
المحجور عليه ابنه وهو معروف وقبضه كان شراؤه فاسدا ويعتق الغلام حين قبضه ويجعل في هذا الحكم بمنزلة شراء المكره فيثبت له الملك بالقبض فإذا ملكه بالقبض فالتزام الثمن أو القيمة بالعقد منه غير صحيح لما في ذلك من الضرر عليه وهو في هذا الحكم ملحق بالصبي وإذا لم يجب على هذا المحجور عليه شيء لا يسلم له أيضا شيء من سعايته فتكون السعاية الواجبة على العبد للبائع وهذا الحجر عندهما أي الحجر المختلف فيه الذي هو بطريق النظر أنواع إما بسبب السفه فينحجر بنفسه أي بنفس السفه بلا احتياج إلى أن يحجر القاضي له عند محمد ويحجر القاضي عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وإما بسبب الدين بأن يخاف أن يلجئ أمواله التلجئة هي المواضعة المذكورة مفصلة ببيع أو إقرار فيحجر على أن لا يصح تصرفه إلا مع الغرماء وإن لم يكن سفيها متصل بما قبله وهو قوله فيحجر وإما بأن يمتنع عن بيع ماله لقضاء الديون فيبيع القاضي فهذا ضرب حجر
ومنها السفر وهو خروج مديد لا ينافي الأهلية ولا شيء من الأحكام لكنه من أسباب التخفيف بنفسه لأنه من أسباب المشقة بخلاف المرض لأن بعضه يضره الصوم وبعضه لا بل ينفعه واختلفوا في الصلاة فعند
____________________
(2/407)
الشافعي رحمه الله تعالى القصر رخصة وعندنا إسقاط لقول عائشة فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر ولأن حد النافلة يصدق على الركعتين الساقطتين ولتسميته بالصدقة ولعدم إفادة التخيير على ما مر أي في فصل العزيمة والرخصة وإنما يثبت هذا الحكم أي القصر بالسفر إذا اتصل بسبب الوجوب أي اتصل السفر بسبب الوجوب وهو الوقت فيثبت القصر في الأداء أما إذا لم يتصل بسبب الوجوب بل اتصل بحال القضاء لا يجوز القصر ولما كان السفر بالاختيار قيل إذا شرع المسافر في صوم رمضان لا يحل له الفطر بخلاف المريض لكن إذا أفطر يصير السفر شبهة في الكفارة فإذا سافر الصائم لا يفطر بخلاف ما إذا مرض لكن إن أفطر لا كفارة عليه أي الصائم المقيم إذا سافر وأفطر لا يجب عليه الكفارة وإذا أفطر ثم سافر لم تسقط أي الكفارة بخلاف ما إذا مرض والفرق بينهما
____________________
(2/408)
أن الصحيح إذا أفطر حكمنا عليه بوجوب الكفارة لكن إذا مرض في هذا اليوم تسقط الكفارة لأنه تبين بعروض المرض أن الصوم لم يكن واجبا عليه في هذا اليوم بخلاف عروض السفر فإنه أمر اختياري والمرض ضروري وأحكام السفر تثبت بالخروج بالسنة المشهورة وإن لم يتم السفر علة والسنة المشهورة ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم ترخصوا برخص المسافر بمجاوزتهم العمران والقياس أن لا يثبت القصر إلا بعد مضي مدة السفر لأن حكم العلة لا يثبت قبلها لكن ترك القياس بما روينا ثم إذا نوى الإقامة قبل الثلاثة تصح وإن كان في غير موضع الإقامة قبل ثلاثة أيام منع الثلاثة ويشترط موضع الإقامة لأن الأول منع أي نية الإقامة وإن نواها بعد للسفر وهذا رفع أي نية الإقامة بعد ثلاثة أيام رفع للسفر والمنع أسهل من الرفع وسفر المعصية يوجب الرخصة وقد مر أي في فصل النهي على أن المعصية منفصلة عنه فإن البغي وقطع الطريق والتمرد معصية وإن كانت في المصر والرجل قد يخرج غازيا ثم يستقبله غيره فيقطع عليهم فصار النهي عن هذا السفر لمعنى في غيره من
____________________
(2/409)
كل وجه بخلاف السكر لأنه عصيان بعينه فلا يثبت بالسكر الحرام الرخص المنوطة بزوال العقل قوله تعالى غير باغ ولا عاد أي فأكل غير طالب ولا متجاوز حد سد الرمق قد تمسك به الشافعي رحمه الله تعالى على عدم الرخصة لمن يسافر سفر المعصية فجعل قوله تعالى غير باغ حالا من قوله فمن اضطر ونحن نقول لا بد من تقدير قوله فأكل ثم نجعل قوله غير باغ حالا من أكل فمعناه غير طالب للميتة قصدا إليها ولا آكل الميتة تلذذا واقتضاء للشهوة بل يأكلها دافعا للضرورة ولا عاد حد ما يسد جوعته أو لا ينبغي أن يتجاوز حد سد الرمق ولا يعدو أي لا يرفعها لجوعة أخرى
____________________
(2/410)
ومنها الخطأ وهو أن يفعل فعلا من غير أن يقصده قصدا تاما كما إذا رمى صيدا فأصاب إنسانا فإنه قصد الرمي لكن لم يقصد به الإنسان فوجد قصد غير تام وهو يصلح عذرا في سقوط حق الله تعالى إذا حصل عن اجتهاد ويصلح شبهة في العقوبة حتى لا يأثم إثم القتل ولا يؤاخذ بحد ولا قصاص لأنه جزاء كامل فلا يجب على المعذور وليس بعذر في
____________________
(2/411)
حقوق العباد حتى يجب ضمان العدوان لأنه ضمان مال لا جزاء فعل ويصلح أي الخطأ مخففا لما هو صلة لم تقابل مالا ووجبت بالفعل كالدية إنما قال هذا لأن ما يجب بسبب المحل لا يكون الخطأ مخففا فيه كما ذكرنا في المتن لأنه ضمان مال لا جزاء فعل ويوجب الكفارة إذ لا ينفك عن ضرب تقصير فيصلح سببا لما هو دائر بين العباد والعقوبة إذ هو جزاء قاصر الضمير يرجع إلى ما هو دائر والمراد به الكفارة ويقع طلاقه عندنا لا عند الشافعي رحمه الله تعالى لعدم الاختيار فصار كالنائم ولنا أن دوام العمل بالعقل بلا سهو وغفلة أمر لا يوقف عليه إلا بحرج فأقيم البلوغ مقامه لا مقام اليقظة والرضى فيما يبتنى عليهما كالبيع إذ لا حرج في دركهما تقريره أن الأصل أن لا تعتبر الأعمال إلا وأن تكون
____________________
(2/412)
صادرة عن العقل بلا سهو وغفلة وأما إذا كانت صادرة عن سهو وغفلة يجب أن لا تعتبر ولا يؤاخذ الإنسان بها لقوله تعالى ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ولأن السهو والغفلة مركوزان في الإنسان فيكونان عذرا لكن هذا أمر لا يوقف عليه إلا بالحرج فأقمنا البلوغ مقام دوام العقل من غير سهو وغفلة إقامة للدليل مقام المدلول فإن السهو والغفلة إنما يعرضان لنقصان العقل فإذا كمل العقل بكثرة التجارب عند البلوغ لا يقع السهو والغفلة إلا نادرا وكل عمل صدر عن العاقل البالغ اعتبر في جميع الأوقات صادرا عن العقل بلا سهو وغفلة ولم يعتبر أنه ربما يسهو في وقت ما وهذا معنى قوله أن دوام العمل بالعقل إلخ
وإنما لم نقم البلوغ مقام اليقظة حتى أبطلنا عبارات النائم وكذا لم نقم البلوغ مقام الرضى في التصرفات المبنية على الرضى كالبيع ونحوه إذ لا حرج في درك اليقظة والرضا ولا يحتاج إلى إقامة الدليل مقامهما فإن الأصل أن الأمور الخفية التي يتعذر الوقوف عليها تقيم ما هو دليل عليها مقامها كالسفر مقام المشقة أما الأمور الظاهرة فلا وإنما ذكر اليقظة والرضى دفعا لشبهة الشافعي رحمه الله تعالى فإنه قال لو قام البلوغ مقام اعتدال العقل لوقع طلاق النائم ولقام البلوغ مقام الرضا فيما يعتمد على الرضا ثم عطف على قوله ويقع طلاقه قوله وإذا جرى البيع على لسانه أي لسان الخاطئ خطأ وصدقه خصمه يكون كبيع المكره
وأما الذي من غيره فالإكراه هذا هو القسم الثاني من العوارض المكتسبة وهو إما ملجئ بأن يكون بفوت النفس أو العضو وهذا معدم للرضا ومفسد للاختيار وإما غير
____________________
(2/413)
ملجئ بأن يكون بحبس أو قيد أو ضرب وهذا معدم للرضا غير مفسد للاختيار والإكراه بهما لا ينافي الأهلية ولا الخطاب لأن المكره عليه إما فرض كما إذا أكره على شرب الخمر بالقتل أو مباح كما إذا أكره على الإفطار في شهر رمضان أو مرخص كما إذا أكره على إجراء كلمة الكفر أو حرام كما إذا أكره على قتل مسلم بغير الحق حتى يؤجر مرة ويأثم أخرى ولا الاختيار أي لا ينافي الاختيار لأنه حل على اختيار الأهون وأصل الشافعي في
____________________
(2/414)
ذلك أن الإكراه بغير حق إن كان عذرا شرعا يقطع الحكم عن فعل الفاعل لعدم اختياره الإكراه عند الشافعي إما أن يكون بحق كالإكراه على الإسلام وإما بغير حق ثم هذا إما أن يكون عذرا وإما أن لا يكون واعلم أني أقمت لفظ الفاعل مقام المكره بالفتح ولفظ الحامل مقام المكره بالكسر لئلا يشتبه الفتح بالكسر والعصمة تقتضي دفع الضرر بدون رضاه أي رضا الفاعل ثم إن أمكن نسبة الفعل إلى الحامل ينسب وإلا يبطل فتبطل الأقوال كلها لأن نسبة الأقوال إلى غير المتكلم باطل لأن الإنسان لا يتكلم بلسان غيره ويضمن الحامل الأموال أي إذا أكرهه على إتلاف مال الغير لأن نسبة الإتلاف إلى الحامل ممكن فيجعل الفاعل آلة للحامل وإن لم يكن عذرا لا يقطع أي الحكم عن فعل الفاعل فيحد الزاني ويقتص القاتل مكرهين وإنما يقتص الحامل بالتسبيب جواب إشكال هو أنه لما لم تقطع نسبة الحكم عن فعل الفاعل يكون الفاعل هو القاتل فيجب أن يقتص هو
____________________
(2/415)
ولا يقتص الحامل لكن القصاص يجب عليهما عند الشافعي رحمه الله تعالى فأجاب بأن الحامل إنما يقتص بالتسبيب وإن كان الإكراه حقا لا يقطع أيضا أي الحكم عن فعل الفاعل فيصح إسلام الحربي وبيع المديون ماله لقضاء الديون وطلاق المولي بعد المدة بالإكراه متعلق بما ذكر وهو إسلام الحربي وطلاق المولي وبيع المديون ماله وهو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى أن الزوج يجبر على الطلاق بعد مدة الإيلاء لا إسلام الذمي به أي بالإكراه لأن إكراه الذمي على الإسلام ليس بحق فيبطل لما ذكرنا أنه يبطل الأقوال كلها والإكراه بالقتل والحبس عنده سواء وأصلنا أن الإكراه الملجئ لما أفسد الاختيار فإن عارض هذا
____________________
(2/416)
الاختيار اختيار صحيح وهو اختيار الحامل يصير اختيار الفاعل كالمعدوم وهذا أي صيرورة اختيار الفاعل كالمعدوم لا يكون إلا بأن يصير الفاعل آلة للحامل فإن احتمل ذلك أي كونه آلة له ينسب إلى الحامل وإلا أي وإن لم يحتمل كون الفاعل آلة للحامل يبقى منسوبا إلى الفاعل فالأقوال كلها لا تحتمل ذلك أي كون الفاعل آلة للحامل لما ذكرنا أن التكلم بلسان الغير ممتنع فإن كانت أي الأقوال مما لا ينفسخ ولا يتوقف على الاختيار كالطلاق والعتاق تنفذ لأنها أي الأقوال التي لا تنفسخ تنفذ مع الهزل وهو ينافي الاختيار أصلا والرضى بالحكم ومع خيار الشرط عطف على قوله مع الهزل وهو ينافي الاختيار أصلا أي ينافي اختيار الحكم أصلا أما اختيار السبب فحاصل في الخيار فلأن تنفذ أي الأقوال التي لا تنفسخ بالإكراه وهو يفسد الاختيار أولى
وجه الأولوية أن في الهزل اختيار المباشرة والرضا بها
____________________
(2/417)
ثابتان لكن اختيار الحكم والرضا به منتفيان أما الإكراه فالرضا بالسبب والحكم منتف فيه أما اختيار السبب فحاصل في الإكراه مع الفساد فإن كان الطلاق والعتاق واقعين في الهزل من غير اختيار الحكم والرضا به فوقوعهما في الإكراه مع فساد الاختيار أولى هذا ما قالوا ولكن يرد عليه أن اختيار السبب والرضا به حاصل في الهزل بدون الفساد وأما في الإكراه فلا رضا بالسبب أصلا واختيار السبب موجود مع الفساد فلا يلزم من الوقوع في الهزل الوقوع في الإكراه وإذا اتصل بقبول المال أي إذا اتصل الإكراه بقبول المال في الطلاق يقع الطلاق بلا مال لأنه أي الإكراه بعدم الرضا بالسبب والحكم فكأن المال لم يوجد فلم يتوقف الطلاق
____________________
(2/418)
عليه أي على المال كما في خلع الصغيرة فإنه يقع الطلاق فيه بلا مال بخلاف الهزل أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلأن الرضا بالسبب ثابت أي في الهزل دون الحكم فيصح إيجاب المال فيتوقف الطلاق عليه أي على المال في الخلع بطريق الهزل كما في خيار الشرط في جانبها أي إذا خالعها بشرط الخيار لهما فيتوقف الطلاق على قبولها المال وإنما قال في جانبها لأن شرط الخيار في جانب الزوج لا يصح في الخلع لما عرف أن الخلع يمين في حقه معاوضة في حقها
وأما عندهما فالهزل لا يؤثر في بدل الخلع فيجب وإن كانت مما
____________________
(2/419)
ينفسخ ويتوقف على الرضا كالبيع والإجارة تفسد والملجئ وغيره هنا سواء لعدم الرضا وكذا الأقارير كلها لقيام الدليل على عدم المخبر به والأفعال منها ما لا يحتمل ذلك أي كون
____________________
(2/420)
الفاعل آلة للحامل كالأكل والشرب والزنا فيقتصر على الفاعل منها ما يحتمل فإن لزم من جعله آلة تبديل محل الجناية فيقتصر عليه أيضا لأن في تبديل المحل مخالفة الحامل وفيها بطلان الإكراه كإكراه المحرم على قتل الصيد لأنه إنما حمله على الجناية على إحرامه ولو جعل آلة يصير المحل إحرام الحامل وكما أكره على البيع والتسليم فالتسليم يقتصر عليه لأنه أكرهه على تسليم المبيع ولو جعل آلة يصير تسليم المغصوب ويتبدل ذات الفعل أيضا فإن البيع حينئذ يصير غصبا والإعتاق وإن كان لا يحتمل ذلك لا يحتمل كون الفاعل آلة للحامل لأنه من
____________________
(2/421)
الأقوال لكن الإتلاف فعل يحتمله فالحاصل أن الإعتاق تصرف قولي لكنه إتلاف نفي المعنى الأول لم يجعل آلة فيعتق على الفاعل وفي المعنى الثاني وهو الإتلاف يجعل آلة فيضمن الحامل فهذا معنى قوله لكن لإتلاف فعل يحتمل فينتقل إلى الحامل فيضمن ويكون الولاء للفاعل لأنه من حيث إنه إعتاق يقتصر على الفاعل وإن لم يلزم منه التبديل أي وإن لم يلزم من جعله آلة تبديل محل الجناية يجعل آلة كإتلاف المال والنفس فيصير كأنه ضربه عليه وأتلفه فيخرج الفاعل من البين فيضاف إلى الحامل ابتداء فموجب الجناية عليه فقط أي على الحامل فإن كان عمدا يقتص هو فقط لكن في الإثم لا يمكن جعله آية لأنه أكرهه بالجناية على دينه ولو جعل آلة لتبدل محل الجناية فيأثم كل منهما والحرمات
____________________
(2/422)
أنواع حرمة لا تسقط بالإكراه ولا تدخلها الرخصة كالقتل والجرح والزنا لأن دليل الرخصة خوف الهلاك وهما في ذلك سواء أي القاتل والمقتول وإذا كان سواء لا يحل للفاعل قتل غيره ليخلص نفسه
____________________
(2/423)
وكذا جرح الغير أي إذا أكره على جرح الغير بالقتل لا يحل له الجرح لا جرح نفسه حتى لو أكره على قطع يده بالقتل حل له لأن حرمة نفسه فوق حرمة يده ولا كذلك بالنسبة إلى الغير والزنا قتل معنى فإن ولد الزنا بمنزلة الهالك فإن انقطاع نسبه من الغير هلاك فإن أكره على الزنا لا يحل له الزنا وحرمة تسقط كالميتة والخمر والخنزير فالإكراه الملجئ يبيحها لأن الاستثناء من الحرمة حل وهو قوله تعالى وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه حتى إن امتنع أثم لا غير الملجئ أي لا يبيحها غير الملجئ لعدم الضرورة وحرمة لا تسقط لكن تحتمل الرخصة وهي إما من حقوق الله التي لا تحتمل السقوط أبدا كإجراء كلمة الكفر فإن الإيمان لا يحتمل السقوط أبدا وإما في حقوقه
____________________
(2/424)
تعالى التي تحتمل السقوط في الجملة كالعبادات فيرخص بالملجئ وإن صبر صار شهيدا وقد مر في فصل الرخصة وزنا المرأة من هذا القسم إذ ليس فيه معنى قطع النسب بخلاف زناه أي إذا أكرهت المرأة على الزنا بالملجئ رخص لها فإن حرمة الزنا عليها حق الله تعالى وليس من باب الإكراه على قتل النفس إذ في زنا المرأة ليس قطع النسب إذ لا نسب من المرأة فلا يكون بمنزلة قتل النفس
بخلاف زنا الرجل فإنه بمنزلة القتل لأنه قطع النسب
____________________
(2/425)
ولما رخص زناها بالملجئ لا تحد بغير الملجئ للشبهة ويحد هو أي إذا أكرهت المرأة على الزنا بالملجئ يكون زناها مرخصا فينبغي أنها إن زنت بالإكراه بغير الملجئ يكون في زناها شبهة الرخصة فلا تحد وأما الرجل فزناه لا يرخص بالملجئ فإن زنى بغير الملجئ يحد لعدم شبهة الرخصة وأما في حقوق العباد كإتلاف مال المسلم وحكمه حكم أخويه أي في أنه يرخص بالملجئ وإن صبر صار شهيدا والمراد بأخويه حرمة لا تحتمل السقوط وحرمة تحتمل السقوط لكنها لم تسقط وهما حق الله تعالى ويجب الضمان لوجود العصمة والله ولي العصمة والتوفيق وبيده أزمة التحقيق تم
____________________
(2/426)