التقليد
والإفتاء والاستفتاء
الشيخ
عبدالعزيز بن عبدالله الراجحي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي أمرنا باتباع المنزَّل في كتابه: { } - قرآن كريم ((( - ( - - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - - ( - الله أكبر ( - المحتويات ( - ( - - - ( { صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( فهرس - { - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ((( - ( - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ((( مقدمة ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم -( - - عليه السلام -( - - - عليه السلام - - ( - (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - } (1) والصلاة والسلام على رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي دعا الناس إلى الهداية، وحثّهم على التمسك بالكتاب والسنة، والقائل: - ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم - (2) وعلى آله وأصحابه، الذين بادروا إلى امتثال أوامره، والانتهاء عن نواهيه، وتحرروا من قيود التقليد، وعلى من تبعهم من المجتهدين من أئمة المسلمين، الذين بذلوا أقصى جهودهم العقلية في استمداد الأحكام الشرعية من مصادرها، واستخرجوا من نصوص الشريعة كنوزًا تشريعية ثمينة، والذين عُنوا بوضع قواعد للاستمداد وقوانين للاستنباط، صلاة وسلامًا إلى يوم الدين.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 3.
(2) - رواه البخاري .(1/1)
أما بعد، فإنه من المعروف لدى كل لبيب أن خير ما أنفق الإنسان فيه نفيس أوقاته، وهجر لأجله الأولاد والأخلاء والأصحاب، هو اكتساب العلم والاشتغال به؛ إذ هو السبب لإنارة الطريق الموصلة إلى الله -سبحانه- وإلى رضاه، وبالتالي إلى سعادة الدارين، وشرف المنزلتين، وبقاء الذكر الحسن مدى الحياة، كما قال -سبحانه- حكايةً عن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: { - - رضي الله عنهم -(( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( - - - رضي الله عنه - تمت - - - ( - - - ( - (( - (( - رضي الله عنه -((( - ( - - - رضي الله عنهم - - - (((( } (1).
من أجل ذلك استمددت العون من الله، وعزمت على المساهمة في الكتابة والإدلاء بدلوي، واخترت أن يكون بحثي في علم أصول الفقه؛ لأنه الأصل والعكازة التي يرتكز عليها الأئمة المجتهدون لاستنباط الأحكام الشرعية، وبعد وقفة تأمل في اختيار موضوع البحث، ترجح لدي أن يكون موضوع بحثي: " التقليد والإفتاء والاستفتاء "؛ وإنما اخترت هذا البحث للأسباب التالية:
1- أن كثيرًا من الناس وقع في التقليد المحرم، كأن يقلد آباءه في بعض فروع الدين فيما فيه مخالفة للشريعة، أو يقلد بعد قيام الحجة وظهور الدليل، أو يقلد من ليس أهلا للتقليد.
2- أن فتنة المقلدين عظيمة، تركوا لأجله نصوص الكتاب والسنة؛ اكتفاء بآراء الرجال.
3- أن التقليد ليغير من يجوز له يعمي البصيرة، ويلغي العقل، ويسد باب الاجتهاد والنظر والفكر في فهم النصوص.
طريقة البحث
لذا رأيت أن أبيّن في بحثي أنواع التقليد، وأنه لا يجوز إلا عند الحاجة والضرورة، وأن التقليد ليس بعلم، وأن طريقة الأئمة المجتهدين كانت اتباع الحجة والنهي عن تقليدهم، ثم أبيّن -بعد ذلك- ما يتبعه من أحكام الإفتاء والاستفتاء.
ورتبت هذه المباحث على: تمهيد، وأربعة أبواب، وخاتمة:
__________
(1) - سورة الشعراء آية : 84.(1/2)
فالتمهيد: في معنى التقليد لغة، ومعناه اصطلاحًا، وأمثلة له، ونتائج من تعريف التقليد وأمثلته، ووجه الارتباط بين المعنى اللغوي والاصطلاحي، والفرق بين التقليد والاتباع، ونبذة تاريخية عن أدوار الفقه ومراحله، ومتى كان دور التقليد.
والباب الأول: في التقليد، وفيه فصلان: الفصل الأول في أقسامه، والفصل الثاني في أسباب التقليد ومراحله.
والباب الثاني: في المفتي، وفيه فصلان: الفصل الأول في أقسامه، والفصل الثاني في ما يتعلق بالمفتي.
والباب الثالث: في المستفتي، وفيه فصلان: الفصل الأول في أقسام المستفتي، والفصل الثاني فيما يتعلق بالمستفتي.
والباب الرابع: فيما فيه الاستفتاء، وفيه فصلان: الفصل الأول في الاستفتاء في القضايا العلمية، والفصل الثاني في القضايا الظنية الاجتهادية.
وأما الخاتمة فتتضمن المباحث الآتية:
1- جواز الأخذ بأقوال الصحابة والتابعين، وأنه ليس من التقليد.
2- فوائد وإرشادات تتعلق بالإفتاء.
3- أمثلة من فتاوى إمام المفتين رسول رب العالمين.
وقصدت من ذلك الوصول إلى الحق في المسائل التي بحثتها؛ لذلك قرنت الأقوال بالأدلة -حسب الاستطاعة- مع المناقشة؛ ليتبين للناظر من خلال ذلك من هو الأسعد بالدليل.
وأرجو الله أن ينفع بها في الدنيا، وأن يثيبني عليها في العقبى، إنه سميع مجيب.
وهذا أوان الشروع فيما قصدت، ومن الله أستمد المعونة والسداد، وأستلهمه الرشاد فيما أردت، وهو حسبي ونعم الوكيل.
الباحث
التمهيد
ويتناول البحث فيما يلي:
(أ) معنى التقليد لغة.
(ب) معنى التقليد اصطلاحًا.
(ج) أمثلة له.
(د) نتائج من تعريف التقليد وأمثلته.
(هـ) وجه الارتباط بين المعنى اللغوي والاصطلاحي.
(و) الفرق بين التقليد والاتباع.
(ز) نبذة تاريخية عن أدوار الفقه ومراحله ومتى كان دور التقليد.
(أ) معنى التقليد لغة:(1/3)
التقليد في اللغة: وضع الشيء في العنق محيطًا به، ومنه تقليد الهدي، ويسمى الشيء المحيط بالعنق "قلادة"، والجمع: "قلائد". قال الله -تعالى-: { - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنهم - - ( - - - ( - - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنهم - - (((( فهرس - - { ( - - - } (1) ومنه قوله -عليه الصلاة والسلام- في الخيل: - لا تقلدوها الأوتار - (2).
ومنه قول الشاعر:
قلدوها تمائما ... ... خوف واش وحاسد (3)
وفي القاموس: وقلدتها قلادة، جعلتها في عنقها، ومنه: تقليد الولاة الأعمال، وتقليد البدنة يعلم بها أنها هدي. ا هـ (4).
ويستعمل التقليد في تفويض الأمر إلى الغير مجازًا، كأنه ربط الأمر بعنقه، ومنه قول لفيظ الإيادي:
وقلِّدوا أمرَكم لله دركموا ... ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعًا (5)
(ب) تعريف التقليد اصطلاحًا:
(جـ) أمثلة له:
(د) نتائج من تعريف التقليد وأمثلته:
للأصوليين في تعريف التقليد عبارات مختلفة، إلا أن أكثرها متقاربة المعنى، وقد اخترت ثلاثةً من هذه التعاريف، وأرجعت إليها بقية التعاريف، مع اختيار أمثلها في نظري.
التعريف الأول:
عرف الآمدي التقليد بأنه: العمل بقول الغير من غير حجة ملزمة (6).
__________
(1) - سورة المائدة آية : 2.
(2) - أخرجه أبو داود والنسائي ، ص 389 .
(3) - التميمة هي ما يعلق في رقاب الأطفال والدواب خشية العين .
(4) - انظر القاموس المحيط جـ 2 ص 342 .
(5) - انظر روضة الناظر ص 205، وانظر إرشاد الفحول ص 265، وانظر شرح الورقات للجلال المحلي ص 33، وأصول الفقه محمد الشنقيطي ص 342 .
(6) - انظر الإحكام للآمدي جـ 4 ص 221 .(1/4)
والمراد بـ "العمل بقول الغير": اعتقاد صحة قوله، وتنفيذه، وهو مراد من عرف التقليد " بقبول قول الغير "؛ فإن القبول يستلزم الاعتقاد، ويفضي إلى العمل والتنفيذ، والمراد بـ (القول) ما يشمل الفعل والتقرير، وإطلاق القول حينئذ من باب التغليب، وهذا ما فسّره به سعد الدين التفتازاني في حاشيته على شرح القاضي عضد الدين، وتابعه عليه البنائي في حاشية على جمع الجوامع.
وقد استشكل الشربيني في تقريره هذا التعميم، بأن الفعل والتقرير لا يظهر جواز العمل بمجردهما من المجتهد لجواز سهوه وغفلته، وإنما يعوّل على الفعل والتقرير الواقعين من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكن ذلك ليس بتقليد بل استدلال، ثم أورد اعتراضًا بأنه قد يقترن التقرير بما يدل على الرضا بالفعل وعدم الغفلة، ودفعه بأنه يجوز أنه قد رضيه لكونه مذهب غيره وقلده فيه، فلا يكون من اجتهاده ورأيه.
والمراد بالحجة: ما يجب العمل به ويلزم، والمراد بها الحجة العامة، وهي الدليل المعتبر شرعًا لإثبات الأحكام: كالكتاب، أو السنة، أو الإجماع.
والتقييد بالإلزام في التعريف تصريح بمفهوم الحجة أو بلازمها، فهو وصف كاشف وليس قيدًا فيها.
والعمل بقول الغير من غير حجة تقوم على وجوب العمل به، يخرج عن حقيقة التقليد ما يأتي:
1- العمل بقول الله تعالى؛ لأنه عمل مبني على الحجة، وهي الأدلة الدالة على وجوب الإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله.
2- العمل بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه مبني على الحجة القاطعة، وهي أمر الله باتباع رسوله والعمل بما جاء به.
3- العمل بقول أهل الإجماع؛ فإنه عمل قائم على الحجة، وهي دلالة كتاب الله تعالى، وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- على وجوب العمل بقولهم.
4- عمل القاضي بشهادة الشهود والحكم بها؛ فإنه مبني على ما ورد في الكتاب والسنة، ودل عليه الإجماع، من وجوب الحكم بها إذا وقعت مستوفية لأركانها وشروطها.(1/5)
5- عمل العامي بقول المفتي؛ فإنه مبني على حجة، وهي دلالة الإجماع على وجوب رجوع العامي إلى المفتي فيما يحتاج إليه والعمل بما يفتيه به.
6- العمل برواية الراوي؛ لأن العمل بها مبني على حجة , وهي الأدلة الدالة على وجوب العمل بالرواية الصحيحة، كحديث: - بلغوا عني ولو آية - ، وحديث: - ليبلغ الشاهدُ الغائبَ - (1).
7 - العمل بقول الصحابي، إذا لم يخالفه غيره؛ لأن قوله حجة على الراجح كما سيأتي.
وعرف التقليد كل من ابن عبد الشكور في مسلّم الثبوت، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر ابن الحاجب بأنه: " العمل بقول الغير من غير حجة " (2) وهو مثل تعريف الآمدي، إلا أنه ينقص عنه التصريح بوصف الإلزام، ولا قيمة لهذا النقص؛ لما سبق آنفًا من أن التصريح بالإلزام تصريح بمفهوم الحجة أو لازمها، فلا يضر حذفه من التعريف، ولا ينقص بعدم وجوده شيئًا.
وعرف ابن الحاجب في المختصر التقليد بأنه: " العمل بقول غيرك من غير حجة " (3) وهو مثل تعريف الآمدي، إلا أن ابن الحاجب عدل عن التعبير بالغير إلى التعبير بغيرك، وهما بمعنى واحد؛ لأن "ال" عوض عن المضاف إليه، ولعل سرّ عدوله هو ما يراه البعض من أهل اللغة من عدم دخول "ال" على "غير"؛ بسبب تمكّنها وتوغلها في الإبهام.
وعرف الغزالي في المستصفى التقليد بأنه: " قبول قول بلا حجة " (4).
وعرفه ابن قدامة في روضة الناظر بأنه: " قبول قول الغير من غير حجة " (5).
وعرفه عبد المؤمن بن كمال الدين الحنبلي في قواعد الأصول بأنه: " قبول قول الغير بلا حجة " (6).
__________
(1) - والغرض من التبليغ: العمل؛ لحديث ما أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، ولما جاء من الوعيد على ترك العمل .
(2) - انظر فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت جـ 2 ص 400 .
(3) - انظر شرح عضد الدين على مختصر ابن الحاجب جـ 2 ص 305 .
(4) - انظر المستصفى جـ 2 ص 123 .
(5) - انظر روضة الناظر ص 205 .
(6) - انظر قواعد الأصول ص 45 .(1/6)
وعرفه إمام الحرمين في الورقات بأنه: " قبول قول القائل بلا حجة" (1).
وهذه التعاريف الأربعة الأخيرة تماثل تعريف الآمدي، بعد إرجاع معنى قبول قول الغير إلى العمل به كما تقدم.
ويتضح من هذه التعاريف أن التقليد يشمل الصور الآتية:
1- عمل العامي بقول عامي مثله.
2- عمل المجتهد بقول مجتهد مثله، سواء اجتهد أو لم يجتهد.
3- عمل المجتهد بقول العامي.
إذ لا تقوم حجة على وجوب العمل بقول هؤلاء.
لكن يلاحظ على تعريف الآمدي والتعريفات التي تدور في فلكه ما يأتي:
1- عدم شمول التقليد لعمل العامي بقول المفتي؛ لوجود الحجة على رجوع العامي إلى المفتي، وهو الإجماع المستند إلى الكتاب والسنة على رجوعه إليه، مع أن دخول هذه الصورة أصبح معروفًا مشهورًا لدى العلماء، واعتذر الآمدي بأنه لا مانع من تسميته تقليدًا في العرف؛ لأن هذا اصطلاح ولا مشاحة فيه - غير مقبول؛ لأن المسألة ليست من باب الاصطلاح في التسمية، وإنما هي بيان حقائق يترتب عليها أحكام تختلف باختلاف هذه التسمية.
2- قصر التقليد على الصورة المذكورة آنفًا لا يجعل له صورة مشروعة، مع أن هذا خلاف الواقع؛ إذ قال جمهور العلماء بجواز تقليد العامي للمجتهد.
3- أن الظاهر - بالحجة - هي الحجة الخاصة، وهي الدليل الخاص على حكم القول الخاص، وهو الذي يخرج به الإنسان عن دائرة التقليد، وليس المراد الحجة العامة المثبتة لوجوب العمل.
التعريف الثاني:
عرّف ابن السبكي في جمع الجوامع التقليد بأنه: "أخذ القول من غير معرفة دليله" (2) والمراد بأخذ القول: قبوله واعتقاد صحته والعمل به.
ويفسر الجلال المحلي معرفة الدليل:
__________
(1) - انظر شرح الورقات ص 31 .
(2) - انظر جمع الجوامع وشرحه جـ 2 ص 432 .(1/7)
بالمعرفة التي توصل إلى استفادة الحكم من هذا الدليل، وهذه لا تتوفر إلا للمجتهد؛ لأنها تتوقف على سلامة الدليل من المعارض، وهذه السلامة تتوقف على البحث واستقراء الأدلة كلها، وهذا شأن المجتهد؛ إذ لا يستطيع العامي الوصول إلى هذه المعرفة.
وبناء على هذا أخرج: أخذ قول المجتهد مع معرفة دليله، من التقليد؛ لأنه اجتهاد وافق اجتهاد القائل.
والمراد بالدليل هنا: دليل القول الذي يأخذ به المقلِّد، وهو الحجة الخاصة، كما هو ظاهر من مرجع الضمير.
ويماثل هذا التعريف التعريفات الآتية:
1- تعريف الشيخ زكريا الأنصاري في غاية الوصول بأنه: " أخذ قول الغير من غير معرفة دليله " (1).
ولا فرق بينهما؛ لأن "ال" في القول، في تعريف ابن السبكي عوض عن المضاف إليه، وهو "الغير" في تعريف الشيخ زكريا.
2- تعريف الفتوحي في الكوكب المنير بأنه: "أخذ مذهب الغير من غير معرفة دليله" (2) ولا فرق بين بينه وبين سابقيْه، فإن المذهب يراد به رأي المجتهد في المسألة، وهو قول من الأقوال.
3- تعريف ابن تيمية في المسودة بأنه: "القول بغير دليل" (3).
فإن المراد بأخذ القول في التعريفات المتقدمة الأخذ المعنوي، وهو القبول (4) والمراد بنفي الدليل في تعريف ابن تيمية: نفي المعرفة؛ فاتفق تعريفه مع التعريفات السابقة.
4- تعريف القفال الشاشي بأنه: "قبول القائل، وأنت لا تدري من أين قاله" (5) أي: لا تعلم مأخذ قوله، وهو مثل التعريفات السابقة.
5-تعريف الشيخ أبو حامد والأستاذ أبو منصور بأنه:
"قبول القول من غير حجة تظهر على قوله (6).
أي: على قول القائل، وهو أيضًا مثل التعريفات السابقة.
__________
(1) - انظر غاية الوصول ص 150.
(2) - انظر شرح الكوكب المنير ص 408 .
(3) - انظر مسودة ابن تيمية ص 462 .
(4) - والقبول يستلزم الاعتقاد ويفضي إلى العمل والتنفيذ .
(5) - انظر شرح الورقات للجلال المحلي ص 31 .
(6) - انظر إرشاد الفحول ص 265 .(1/8)
6- تعريف ذكره الشوكاني من غير أن يعزوَه إلى أحد بأنه: قبول قول الغير دون حجته (1).
أي: دون معرفة حجة هذا القول، وهو كذلك راجع إلى التعريفات السابقة.
وبالنظر في التعريفات المذكورة يتبين لنا أنها تشمل الصور الآتية:
1- أخذ العامي بقول العامي.
2- أخذ المجتهد الذي لم يجتهد في المسألة بقول مجتهد آخر، من غير بحث في دليله.
3- أخذ العامي بقول المجتهد.
4- أخذ المجتهد بقول العامي، ويتصور ذلك في حكم قاله العامي وأخذ به المجتهد، من غير أن يعرف دليله.
ويخرج عنه الصورة الآتية، وهي:
أخذ المجتهد بقول مجتهد آخر إذا عرف دليله؛ لأن هذه من صور الاجتهاد كما تقدم.
لكن يلاحظ على هذه التعريفات أنها ليست صريحة في إخراج الرجوع إلى السنة وإلى الإجماع من دائرة التقليد وحقيقته، مع أن الرجوع إليهما ليس من باب التقليد بالإجماع، ذلك أن الأخذ بقول الرسول -عليه الصلاة والسلام-، أو قول أهل الإجماع من غير معرفة هذا الدليل، يعتبر تقليدا بناء على هذه التعريفات، مع أن الرجوع إلى كل منها ليس من التقليد في شيء؛ لذلك يحتاج التعريف -في نظري- إلى قيد صريح يخرج هاتين الصورتين عن دائرة التقليد.
التعريف الثالث:
للشيخ المحقق الكمال بن الهمام في كتابه التحرير، عرفه بأنه:
" العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة منها " (2).
وهذا التعريف قد تلافى المؤخذات التي أوردتها على التعريفات السابقة، فإن تقييد الغير - بمن ليس قوله إحدى الحجج - يخرج من دائرة التقليد: العمل بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - والعمل بقول أهل الإجماع؛ لأن قول الرسول عليه السلام حجة، وكذلك قول أهل الإجماع.
ويخرج أيضًا عمل القاضي بشهادة الشهود العدول؛ فإنه عمل بقول أهل الإجماع المستند إلى الكتاب والسنة بوجوب حكم القاضي عند شهادة العدول.
__________
(1) - انظر إرشاد الفحول ص 265 .
(2) - انظر التحرير ص 547 .(1/9)
ومثل ذلك أيضًا بالنسبة للعمل بالرواية؛ لأنه عمل بالإجماع على قبول الرواية الصحيحة، وكذلك بالنسبة لقول الصحابي عند من يرى حجيته.
وكذلك شمل هذا التعريف رجوع العامي إلى المفتي، كما هو المشهور والمتعارف لدى العلماء، فإن قول المفتي ليس إحدى الحجج، ويستند العامي إلى قوله لا إلى حجة تفصيلية أو إجمالية (1) فدخل عمل العامي بقول المفتي في حقيقة التقليد.
والمراد بالحجة في هذا التعريف: الحجة الخاصة، وهي الدليل الخاص على الحكم الخاص، ولا يأبى التعريف إرادة الحجة بالمعنى العام.
ورغم أن هذا التعريف أمثل التعريفات في نظري، إلا أنني لم أرَ من تابعه عليه سوى ما نقله الشوكاني في ثنايا التعريفات التي ساقها للتقليد بأنه:
" رأي من لا تقوم به الحجة بلا حجة " (2) ولم يعزه لأحد، وهو نفس تعريف الكمال بن الهمام.
(هـ) وجه الارتباط بين المعنى اللغوي والاصطلاحي:
إذا نظرنا إلى التقليد في معناه اللغوي وفي معناه الاصطلاحي وجدنا أن كلا المعنيين فيه تحمّل، فالتقليد في معناه اللغوي فيه تحمّل الأشياء الحسيّة، والتقليد في معناه الاصطلاحي فيه تحمّل الأمور المعنوية.
ووجه جعل التقليد من العامي كالقلادة في عنق المجتهد أنه: بتقليده له كأنه طوّقه ما في ذلك الحكم من تبعه -إن كانت- وجعلها في عنقه.
__________
(1) - المراد بالحجة التفصيلية: حجة المسألة الخاصة، والمراد بالحجة الإجمالية الكتاب والسنة والإجماع .
(2) - انظر إرشاد الفحول ص 265 .(1/10)
أو بعبارة أوضح: كأن المقلِّد يطوِّق المجتهد إثم ما غشه به في دينه وكتمه عنه من علمه، أخذًا من قوله -تعالى-: { ( مقدمة ( - - جل جلاله -( تم بحمد الله - رضي الله عنه - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - (( فهرس - عليه السلام - - (((( - ( - (( (( مقدمة ( { ( - (( } (1) على جهة الاستعارة (2).
(و) الفرق بين التقليد والاتباع:
قد يظن الناظر بادئ ذي بدء أن التقليد والاتباع شيء واحد، ولكن المتأمل يجد بينهما فرقًا واضحًا.
فالتقليد: هو أن تأخذ أو تعمل بقول أو عمل لغيرك لم يوجبه الدليل عليك، ولم يجزه لك، كأخذ العامي أو المجتهد عن العامي مثلا؛ فإن الدليل لا يوجب ذلك ولا يجيزه، ما عدا أخذ العامي عن المجتهد، وأخذ المجتهد بقول غيره في حالات خاصة -كما سيأتي بيان ذلك في التقليد الواجب والتقليد الجائز.
والاتباع: هو أن تأخذ أو تعمل بقول أو عمل أوجبه الدليل عليك، وذلك كأن تأخذ بما جاء في القرآن الكريم، أو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكأن يأخذ القاضي بقول الشهود العدول؛ فإن الدليل أوجب العمل والأخذ بذلك.
فالتقليد والاتباع يتفقان في أن كل منهما أخذ وعمل بقول الغير، ويفترقان في أن التقليد أخذ وعمل بغير حجة ودليل، والاتباع أخذ وعمل بالحجة والدليل (3).
(ز) نبذة تاريخية عن أدوار الفقه، ومراحله، ومتى كان دور التقليد:
يذهب بعض المؤرخون لتاريخ الفقه الإسلامي إلى تقسيمه إلى أربعة عهود:
1- عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
2- عهد الصحابة حتى أواخر القرن الأول الهجري.
3- عهد التدوين والاجتهاد حتى منتصف القرن الرابع الهجري.
__________
(1) - سورة الإسراء آية : 13.
(2) - انظر إرشاد الفحول تعليقًا ص 265، والبلبل في أصول الفقه ص 183، والمدخل في مذهب الإمام أحمد ص 193 .
(3) - انظر جامع بيان العلم وفضله جـ2 ص 143، وإعلام الموقعين جـ2 ص 171، وص 178، وص 181، و 182، انظر القول المفيد في حكم التقليد للشوكاني ص 14 و 38 .(1/11)
4- عهد التقليد، بعد منتصف القرن الرابع الهجري (1).
ويذهب الشيخ محمد الخضري في كتابه تاريخ التشريع الإسلامي إلى تقسيمه إلى ستة أدوار مبنيًا على العصور المتمايزة:
1- التشريع في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو الأصل الذي يصرح كل فقيه أنه مستند إليه.
2- التشريع في عهد كبار الصحابة، وينتهي هذا العهد بانتهاء الخلفاء الراشدين.
3- التشريع في عهد صغار الصحابة، ومن ضاهاهم من التابعين، وينتهي بانتهاء القرن الأول الهجري، أو بعده بقليل.
4- التشريع في العهد الذي صار فيه الفقه علمًا من العلوم، وظهر فيه نوابغ الفقهاء الذين صارت بيدهم مقاليد الزعامة الدينية، وينتهي هذا الدور بانتهاء القرن الثالث الهجري.
5- التشريع في العهد الذي دخلت فيه المسائل الفقهية في دور الجدل، لتحقيق المسائل المتلقاة عن الأئمة، وظهور المؤلفات الكبيرة، وينتهي هذا العهد بسقوط بغداد ونهاية الدولة العباسية وظهور التتار على ممالك الإسلام.
6- التشريع في عهد التقليد المحض، وهو ما بعد سقوط بغداد إلى العصر الحاضر (2).
روح التقليد وحقيقته
يراد بالتقليد: تلقي الأحكام من إمام معين، واعتبار أقواله كأنها نصوص من الشارع يلزم المقلِّد اتباعها.
ولا شك أنه في كل دور من الأدوار السابقة مجتهدون ومقلدون.
ويراد بالمجتهدين: الفقهاء الذين يدرسون الكتاب والسنة، ويكون عندهم من المقدرة ما يستنبطون به الأحكام من ظواهر النصوص أو من معقولها.
ويراد بالمقلدين: العامة، الذين لم يشتغلوا بدراسة الكتاب والسنة دراسة تؤهلهم إلى الاستنباط.
__________
(1) - تاريخ التشريع والفقه الإسلامي للشيخ مناع القطان ص 10 .
(2) - تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ محمد الخضري ص 4 - 5 .(1/12)
فهؤلاء المقلدون إذا نزل بأحدهم نازلة، فزع إلى فقيه من فقهاء بلده؛ يستفتيه فيما نزل به فيفتيه، وهؤلاء كانوا موجودين في كل عصر، ولكن في دور التقليد -الذي سبقت الإشارة إليه- سرت روح التقليد فيه سريانًا عامًا، اشترك فيه العلماء وغيرهم، فبعد أن كان الفقيه يشتغل بدراسة الكتاب وبرواية السنة، اللذين هما أساس الاستنباط، أصبح الفقيه في هذا الدور يتلقى كتب إمام معين، ثم يدرس طريقته التي استنبط بها ما دوّنه من الأحكام، فإذا فعل ذلك سُمي عالمًا فقيهًا.
ومنهم من تسمو همته، فيؤلف كتابًا في أحكام إمامه: إما اختصارًا لمؤلف سبقه، أو شرحًا له، أو جمعًا لما تفرق في الكتب، أو ترتيبًا، لكنه لا يستجيز أن يخالف إمامه في مسألة، حتى قال بعض متعصبي المذهب: كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة، وكل حديث كذلك.
ولم يكن لهم من الحرية الكاملة والصراحة، التي تمتع بها الأئمة، التي بها يقول الشافعي اليوم بالرأي يظهر له، ثم لا يمنعه مانع أن يغيره في الغد، إذا ظهر له الدليل، وما للصحابة من ذلك، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب، الذي يقضي العام بحرمان الأخوة الأشقاء مع إخوة الأم في مسألة المشركة، وفي العام المقبل يشرك بين الأخوة جميعًا، ويقول: ذاك على ما قضينا وهذا على ما نقضي.
ولا يخطر ببال هؤلاء الأئمة الفحول العصمة لأى إمام في اجتهاده، وأثر عن كل واحد منهم هذه العبارة المشهورة: إذا صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي عرض الحائط.
أما علماء هذا الدور فقد التزم كل منهم مذهبًا معينًا لا يتعداه، ويبذل كل ما أوتى مقدرة وقوة في نصرة ذلك المذهب جملة وتفصيلا (1).
الباب الأول في التقليد
وفيه فصلان:
الفصل الأول: في أقسام التقليد ومناقشة المقلدين.
الفصل الثاني: في أسباب التقليد ومراحله. الفصل الأول: في أقسام التقليد ومناقشة المقلدين:
__________
(1) - انظر تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ محمد الخضري ص 323 - 324 .(1/13)
وفيه مبحثان: المبحث الأول: في أقسام التقليد:
ينقسم التقليد إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: تقليد محرم.
القسم الثاني: تقليد واجب.
القسم الثالث: تقليد جائز.
القسم الأول: التقليد المحرم، وهو ثلاثة أنواع:
النوع الأول: تقليد الآباء إعراضًا عما أنزل الله، كحال المشركين في زمن النبي عليه الصلاة والسلام.
النوع الثاني: تقليد من تجهل أهليته للأخذ بقوله.
النوع الثالث: التقليد بعد ظهور الدليل على خلاف قول المقلَّد.
الفرق بين النوع الأول والنوع الثالث: هو أن المقلِّد في النوع الأول قلّد قبل تمكنه من العلم والحجة، والمقلِّد في النوع الثالث قلد بعد ظهور الحجة له، فهو أشد معصية لله من المقلد في النوع الأول، وهو أولى بالذم منه.
أمثلة للتقليد المحرم
المثال الأول:
مذهب الإمامية في وجوب اتباع الإمام المعصوم -في زعمهم- وإن خالف ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - فحكّموا الرجال على الشريعة.
المثال الثاني:
تقليد بعض متعصبي المذاهب لمذهب إمام بعينه، ويزعمون أن آراء إمامهم هي الشريعة، بحيث يأنفون أن تنسب إلى أحد من العلماء فضيلة دون إمامهم.
المثال الثالث:
مذهب جماعة من المتأخرين ممن يزعم التخلق بخلق أهل التصوف المتقدمين، يعمدون إلى ما نقل عنهم في الكتب من الأحوال أو الأقوال الصادرة عنهم، فيتخذونها دينًا وشريعة لأهل الطريقة، مع كونها مخالفة للنصوص الشرعية.
المثال الرابع:
تحكيم المقلِّدين لبعض الشيوخ الذين جعلوهم في أعلى درجات الكمال، ونسبوا إليهم ما ارتكبوه من الخطأ، وردّوا جميع ما نُقل عمن سبقهم مما هو الحق والصواب.
المثال الخامس:
مذهب أهل التحسين والتقبيح العقليين من المعتزلة، وحاصله تحكيم عقول الرجال دون الشرع، وهو أصل من الأصول عندهم، بحيث إذا وافق الشرع عقولهم وأهواءهم قبلوه، وإلا ردّوه (1).
الأدلة من القرآن
على ذم الأنواع الثلاثة وتحريمها
__________
(1) - انظر الاعتصام جـ 2 ص 347 وما بعدها .(1/14)
أما النوع الأول: فقد وردت آيات كثيرة في ذمه، منها:
1- قوله -تعالى-: { - - - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - ( - ( المحتويات ( - - - } - قرآن كريم ((( - ( - - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( - - - } - قرآن كريم ( - - - - ( - - رضي الله عنه - - ((( تمهيد ( - - رضي الله عنه - الله أكبر - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام - - ( - - (( - - صلى الله عليه وسلم - - ( مقدمة ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - - - رضي الله عنه - الله أكبر - عليه السلام -( - - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - - - - - ( المحتويات ( - (- رضي الله عنه - - - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( - صدق الله العظيم - - قرآن كريم ( - ( { ((- رضي الله عنه - - - - (( - - { - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - - ( - - رضي الله عنه - - ((((( } (1).
__________
(1) - سورة البقرة آية : 170.(1/15)
2- قول الله -تعالى-: { - - - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - ( - ( المحتويات ( - - - } - قرآن كريم ((( - ( - - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( - - - } - قرآن كريم ( - - - - ( - - رضي الله عنه - - ((( - ( - - رضي الله عنه - الله أكبر - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - رضي الله عنه - الله أكبر ( - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( مقدمة ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - - - رضي الله عنه - الله أكبر - عليه السلام -( - - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تمت - - - ( صدق الله العظيم ( - (( - } ( - - - ( المحتويات ( - قرآن كريم ((( - - رضي الله عنه - - - - فهرس - ( { ( - - - - - رضي الله عنه -( ( - - (( - - - - - (((( } (1).
__________
(1) - سورة لقمان آية : 21.(1/16)
3- قول الله -تعالى-: { - رضي الله عنهم - - ( - ( - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنهم - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - رضي الله عنهم - - ( - ( - - - - (( - { - رضي الله عنه - - ( - - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - - - ( - ( الله أكبر - صدق الله العظيم ( { - رضي الله عنه - - - - - - - - رضي الله عنهم - - قرآن كريم ((- عليه السلام - - (- سبحانه وتعالى -( تم بحمد الله - ( الله أكبر ( { - - - رضي الله عنه - الله أكبر ( - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - الله أكبر - عليه السلام -( - - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( - - فهرس - - رضي الله عنه -( - { } تم بحمد الله ( - - ( الله أكبر ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - - رضي الله عنه -( المحتويات ( - ( - (- صلى الله عليه وسلم - بسم الله الرحمن الرحيم - - عليه السلام -( - - - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - - ( { - تم بحمد الله (((( - - - ( - - ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - ( } ( - - - - رضي الله عنهم - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( - - - - ( تم بحمد الله ( المحتويات - - - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( مقدمة ( - فهرس - - رضي الله عنه -( ( - ( - - عليه السلام -( - - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( } (1).
__________
(1) - سورة الزخرف آية : 23-24.(1/17)
4- قول الله -تعالى-: { - - - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - ( - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - مقدمة - } - ( قرآن كريم - - - - رضي الله عنهم -( - - - - فهرس - ( { - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( - - - - فهرس - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - قرآن كريم ( - { - - - - } - قرآن كريم ( - - - - - - عليه السلام - - ( تمهيد ( - - رضي الله عنهم - مقدمة - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - رضي الله عنه - الله أكبر ( - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( مقدمة ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - - - رضي الله عنه - الله أكبر - عليه السلام -( - - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تمت - - - ( المحتويات ( - (- رضي الله عنه - - - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - فهرس - ((- رضي الله عنه - - - - (( - - { - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - - ( - - عليه السلام - - ((((( } (1).
__________
(1) - سورة المائدة آية : 104.(1/18)
5- قول الله -تعالى- معاتبًا لأهل الكفر وذامًّا لهم على لسان إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: { - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( فهرس ( - (- رضي الله عنهم - - ( - - ( بسم الله الرحمن الرحيم - - رضي الله عنهم - - ( - - - - ((( - { - - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - - - مقدمة - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((( - (- رضي الله عنه -( (((( } - قرآن كريم ( - - - - - - - رضي الله عنه - الله أكبر ( - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - الله أكبر - عليه السلام -( - - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( - - - مقدمة - - ((( - ( - (- رضي الله عنه -( (((( } (1).
6- قول الله -تعالى-: { } - قرآن كريم ( - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - - جل جلاله -( - - عليه السلام - - - - ( الله أكبر ( { - - عليه السلام - - (( - (- صلى الله عليه وسلم - - - - عليه السلام - - - - - رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنه - الله أكبر - عليه السلام -( - - - عليه السلام - - - رضي الله عنهم - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم - - - (- صلى الله عليه وسلم - - - ( - - - - ( تمهيد - - - - - (((( } (2).
__________
(1) - سورة الأنبياء آية : 52-53.
(2) - سورة الأحزاب آية : 67.(1/19)
7- قول الله -تعالى-: { ( المحتويات ( - } - ( { } - ( قرآن كريم - (( - - صلى الله عليه وسلم - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - عليه السلام -( - - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( - رضي الله عنه -( - ( - - - - - ( (((( ( تمهيد ( - - ( - - فهرس - - رضي الله عنه -( ( المحتويات ( - ( - (- صلى الله عليه وسلم - بسم الله الرحمن الرحيم - - عليه السلام -( - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((- رضي الله عنه - - ( - ( - (((( } (1).
8- وقال -تعالى- حكاية عن قوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم، أنهم قالوا لرسلهم: { ( تمت ( { ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم ( { ( - - ( - - - - عليه السلام - - ( - ( الله ( } تم بحمد الله - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - ( - ( - تمت - صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنه - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - (( - - - - - - رضي الله عنه -( - - - - - ( - ( - ((- رضي الله عنه - - - - رضي الله عنه - الله أكبر (- رضي الله عنه - - - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( } (2).
ووجه الدلالة من هذه الآيات إجمالا على إبطال تقليد الآباء وتحريمه إعراضًا عما أنزل الله.
دلت هذه الآيات على أن الله أنكر علىالمشركين اتباعهم للآباء، وعدولهم عن اتباع المنزَّل من عند الله إذا أمروا به، وأن تقليدهم للآباء، إعراضًا عن المنزل، دعوة من الشيطان لهم إلى عذاب النار، وأنكر على المترفين في كل أمة اتباعها لملل آبائهم، مع إعراضهم عن الهدى الذي جاءوا به، ووبخهم على لسان إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- على عكوفهم على التماثيل وعبادتهم للأصنام؛ جريًا وراء آبائهم، وسيرًا خلفهم فيما وجدوهم عليه.
__________
(1) - سورة الصافات آية : 69-70.
(2) - سورة إبراهيم آية : 10.(1/20)
وأخبر أنهم يندمون يوم القيامة أشد الندم على اتباعهم لسادتهم وكبرائهم كآبائهم وغيرهم، وأخبر على وجه الذم عن هذه الأمم قوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم، أنهم كفروا بما جاءتهم به رسلهم من البينات؛ لمخالفتها لما وجدوا عليه الآباء، فدلت كلها على تحريم تقليد الآباء وإبطاله، إعراضًا عما جاءت به الرسل من عند الله.
وقد يرد على وجه الاستدلال من هذه الآيات على تحريم تقليد الآباء اعتراضٌ، وهو أن هذه الآيات واردة في حق المشركين، الذين قلدوا آباءهم في الكفر بالله -تعالى- وعبادة الأصنام، فهي تدل على المنع من تقليد الآباء في أصول الدين؛ فلا تكون دليلا على تحريم تقليد الآباء غير المشركين في فروع الدين.
والجواب على هذا الاعتراض: أن هذه الآيات -وإن كانت واردة في المشركين- فلا يمتنع الاحتجاج بها والاستدلال بها على المنع من تقليد غير الآباء الكفار؛ لأن التشبيه لم يكن من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما التشبيه بين المقلدين في الفروع - ممن لا يجوز لهم التقليد - وبين المقلدين لآبائهم في عبادة الأصنام، من جهة كون التقليد وقع بغير حجة للمقلِّد، كما لو قلد رجل فكفر، وقلد آخر فأذنب، وقلد آخر في مسألة فأخطأ وجه الحق فيها، فإن كل واحد من هؤلاء المقلِّدين مذموم على التقليد بغير حجة ودليل؛ لتشابهم في التقليد، وإن اختلف آثامهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: قد ذم الله -تعالى- في القرآن من عَدَل عن اتباع الرسول إلى ما نشأ عليه من دين آبائه، وهذا هو التقليد الذي حرمه الله ورسوله وهو أن يتبع غير الرسول فيما خالف فيه الرسول، وهذا حرام باتفاق المسلمين على كل أحد، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ا. هـ (1).
وأما النوع الثاني: فقد وردت فيه آيات منها:
__________
(1) - انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جـ 20 ص 15 - 16 .(1/21)
1- قوله -تعالى-: { - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( { - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله { { ( - - - - رضي الله عنهم - - - - (( مقدمة ( - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - (( } (1).
ووجه الدلالة: أن الله -تعالى- نهى المسلمَ عن أن يقفو ما ليس له به علم، والنهي للتحريم، ومن قلد من يجهل أهليته للأخذ بقوله فقد قفا ما ليس له به علم، فيكون محرمًا.
2- قوله -تعالى-: { ( - ( - - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر ( { - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم { - - رضي الله عنهم - مقدمة { - ( فهرس - - عليه السلام - - - (( مقدمة (- عليه السلام - قرآن كريم - (( - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - - ( - { - ( { ( تم بحمد الله - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - (- رضي الله عنه - - - المحتويات ( بسم الله الرحمن الرحيم تمهيد { - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - (((- رضي الله عنه - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - - رضي الله عنه -(( - ( - - - رضي الله عنهم -(( - - - تمت - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( - ( - ((( - ( - - - ( - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( بسم الله الرحمن الرحيم - - ( - ( } - - رضي الله عنه - - ( - (( مقدمة ( - - - جل جلاله - - ( - (( - ( - تمت - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( - قرآن كريم ( { - - - فهرس - - رضي الله عنه -( ( - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - - - (( - - (((( } (2).
__________
(1) - سورة الإسراء آية : 36.
(2) - سورة الأعراف آية : 33.(1/22)
ووجه الاستدلال: أن الآية دلت على تحريم القول على الله بلا علم، ومن قلد من يجهل أهليته للأخذ بقوله فقد قال على الله بلا علم، فيكون محرمًا.
وأما النوع الثالث: فمن الآيات الواردة في ذمه:
1- قول الله -تعالى-: { } - (- صلى الله عليه وسلم -( - - - ( تم بحمد الله - - ( المحتويات ( - - عليه السلام - - - - رضي الله عنه - تمهيد ( مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات ( - - عليه السلام - - (- رضي الله عنه - تمهيد ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - - - رضي الله عنه - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - - } (1).
ووجه الاستدلال: أن الله ذم أهل الكتاب في طاعتهم للعلماء، وتقليدهم لهم، في تحريم الحلال وتحليل الحرام بعد معرفتهم لذلك، فدل ذلك على تحريم التقليد بعد ظهور الدليل على خلاف قول المقلَّد.
2- قول الله -تعالى-: { } - قرآن كريم ((( - ( - - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - - ( - الله أكبر ( - المحتويات ( - ( - - - ( { صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( فهرس - { - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ((( - ( - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ((( مقدمة ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم -( - - عليه السلام -( - - - عليه السلام - - ( - (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - } (2).
ووجه الدلالة: أمر الله باتباع المنزَّل من عنده، ونهى عن اتباع غيره مما يخالفه، وهذا يدل على تحريم التقليد بعد ظهور الحجة على خلاف قول المقلَّد.
__________
(1) - سورة التوبة آية : 31.
(2) - سورة الأعراف آية : 3.(1/23)
3- قول الله -تعالى-: { تمت ( - - ( ( - ((((- رضي الله عنه - - (- عليه السلام - - - - - (( - ((( - ( ( فهرس - صلى الله عليه وسلم - - - ( - - ( - فهرس - ( { ( - - - ( - قرآن كريم ( - { - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } (1).
ووجه الاستدلال: أمر الله بردّ المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة، فيكون الرد إلى غيرهما محرمًا، ومن قلد أحدًا بعد ظهور الدليل على خلاف قوله، فقد رد المتنازع فيه إلى غير الكتاب والسنة، فيكون محرمًا.
4- قول الله -تعالى-: { - - - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - ( - ( المحتويات ( - مقدمة - } - ( قرآن كريم - - - - رضي الله عنهم -( - - - - فهرس - ( { - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( - - - - فهرس - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - قرآن كريم ( - { - - - - - تمهيد ( - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - - - رضي الله عنه -((( { (((- عليه السلام - - ( - ( - - - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم - - - ((- رضي الله عنه - - - درهم - - رضي الله عنه -( - - جل جلاله - - - صلى الله عليه وسلم -( - (( (((( } (2).
ووجه الدلالة: أن الله ذم من أعرض عن التحاكم إلى الله وإلى رسوله إذا دُعي إلى ذلك، وهذا يدل على أن التقليد بعد ظهور الدليل على خلاف قول المقلَّد مذموم محرم (3).
القسم الثاني من أقسام التقليد
التقليد الواجب
__________
(1) - سورة النساء آية : 59.
(2) - سورة النساء آية : 61.
(3) - انظر إعلام الموقعين ج 2 ص 168 وما بعدها و ص 209 - 210 وانظر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر جـ 2 ص 133 ، وانظر القول المفيد في حكم التقليد ص 16 - 32 وانظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن جـ 3 ص 577 .(1/24)
التقليد يكون في فروع الدين ومسائل الاجتهاد، وهي الأمور النظرية التي يشتبه أمرها للعامي العاجز عن النظر والاستدلال، ولمن كان محصلا لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد، ولكنه قاصر عن بلوغ درجة الاجتهاد.
وفي حكم التقليد للعامي ومن في حكمه مذاهب
المذهب الأول لجمهور العلماء: بل هو شبه إجماع أن التقليد واجب على العامة ومن في حكمهم.
قال ابن عبد البر في كتابه " جامع بيان العلم وفضله ": "العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها؛ لأنها لا تتبين موقع الحجة، ولا تصل بعدم الفهم إلى علم ذلك؛ لأن العلم درجات لا سبيل منها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها، وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجة"، ثم قال: "ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقوله - عز وجل - { } - ( قرآن كريم ( - - رضي الله عنه -(( - - ( - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - (- صلى الله عليه وسلم - - - - - تمت ( { ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - جل جلاله -( - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - - - (( - - (((( } (1).
وأجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره، ممن يثق بميزه بالقبلة إذا أشكلت عليه، فكذلك مَن لا علم له ولا بصر، بمعنى ما يدين به، لا بد من تقليد عالمه ا. هـ (2).
وقال الغزالي في المستصفى: " العامي يجب عليه الاستفتاء واتباع العلماء " ا. هـ (3).
وقال ابن قدامة في روضة الناظر: " وأما التقليد في الفروع فهو جائز إجماعًا"، ثم قال: "فلهذا جاز التقليد فيها، بل وجب على العامي ذلك " ا. هـ (4).
__________
(1) - سورة النحل آية : 43.
(2) - انظر الجامع جـ 2 ص 140 .
(3) - انظر المستصفى جـ 2 ص 124 .
(4) - انظر الروضة ص 206 .(1/25)
وقال الشاطبي في الاعتصام: " الثاني: أن يكون مقلِّدًا صرفًا خليًا من العلم الحاكم جملة، فلا بد له من قائد يقوده، وحاكم يحكم عليه، وعالم يقتدي به ا. هـ (1).
وقال الآمدي في الإحكام: " العامي ومن ليس له أهلية الاجتهاد -وإن كان محصلا لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد- يلزمه اتباع قول المجتهدين، والأخذ بفتواه عند المحققين من الأصوليين " ا. هـ (2).
وقال ابن الجوزي في تلبيس إبليس: " وأما الفروع فإنها لما كثرت حوادثها، واعتاص على العامي عرفانها، وقرب لها أمر الخطأ فيها؛ كان أصلح ما يفعله العامي التقليد فيها لمن قد سير ونظر " ا. هـ (3).
وقال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر في رسالة الاجتهاد والتقليد: " وبالجملة فالعامي الذي ليس له من العلم حظّ ولا نصيب فرضه التقليد " ا. هـ.
وقال أيضًا: " من كان من العوام الذين لا معرفة لهم بالفقه والحديث، ولا ينظرون في كلام العلماء، فهؤلاء لهم التقليد بغير خلاف، بل حكى غير واحد إجماع العلماء على ذلك " ا. هـ (4).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وتقليد العاجز عن الاستدلال للعالم يجوز (5) عند الجمهور (6).
المذهب الثاني: أن التقليد يحرم على العامة، ويلزمهم النظر في الدليل، ويجب الاجتهاد على كل عاقل مطلقًا، في الأصول وفي الفروع، وإلى هذا ذهب بعض القدرية وابن حزم.
المذهب الثالث:
__________
(1) - انظر الاعتصام جـ2 ص 343 .
(2) - انظر الإحكام جـ 4 ص 228 .
(3) - انظر تلبيس إبليس ص 79 .
(4) - انظر مجموعة الرسائل والمسائل النجدية ، رسالة الاجتهاد والتقليد جـ2 ص 7 و ص 21 و ص 6 .
(5) - المراد بالجواز الإذن له فيه .
(6) - انظر مجموع فتاوى ابن تيمية جـ 19 ص 262 .(1/26)
أن التقليد واجب على العامة، ولكنه خاص بالإمام المعصوم، وهذا مذهب الإمامية (1).
أدلة المجيزين للتقليد
والمراد بجواز التقليد الإذن فيه الشامل للوجوب والإباحة:
استدل القائلون بجواز التقليد للعامي ومن في حكمه، وهم الجمهور، بأدلة بعضها شرعي، وبعضها عقلي، نذكر أهمها فيما يلي:
الدليل الأول:
قول الله -تعالى-: { } - ( قرآن كريم ( - - رضي الله عنه -(( - - ( - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - (- صلى الله عليه وسلم - - - - - تمت ( { ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - جل جلاله -( - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - - - (( - - (((( } (2).
ووجه الاستدلال: أن الله -تعالى- أمر من لا علم له أن يسأل من هو أعلم منه، ولا معنى للسؤال إلا العمل بقول المسئول، فدل ذلك على جواز التقليد؛ إذ لا معنى للتقليد إلا العمل بقول الغير من غير حجة.
وقد نوقش هذا الدليل بما يأتي:
__________
(1) - أقوال الإمامية وخلافهم لا يعول عليها عند أهل الحق؛ إذ أنهم ليسوا أهلًا لذلك . والإمامية هم القائلون بإمامة اثني عشر إمامًا من نسل الحسين بن علي، وكلهم معصومون عندهم ، والإمامية هم الرافضة .
(2) - سورة النحل آية : 43.(1/27)
1- أن هذه الآية الشريفة وردت في سؤال خاص خارج عن محل النزاع، كما يفيده السياق المذكور قبل ذلك: { - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( تمهيد - عليه السلام - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( المحتويات ( - فهرس - ( تمهيد - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - { - رضي الله عنه - - ( - - - - - - رضي الله عنهم - - ( - - جل جلاله -( - فهرس - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات ( - - (- صلى الله عليه وسلم - - - - قرآن كريم ( - ( تم بحمد الله ( - ( - ((( - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنهم - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - درهم فهرس - ( تمهيد - - - صدق الله العظيم ( { - صدق الله العظيم - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم ( - (((- صلى الله عليه وسلم - قرآن كريم - الله أكبر ( المحتويات ( - ( - - - ( { } (1).
وكما يفيده السياق بعده: { - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - ( - - جل جلاله -( - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنهم - - - - جل جلاله - - - - - رضي الله عنهم - - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( - ( - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم - - رضي الله عنهم -( { ( - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( الله أكبر - - - - رضي الله عنه -((( - ( - (- رضي الله عنهم - - ((( } (2).
__________
(1) - سورة الأنبياء آية : 6-7.
(2) - سورة الأنبياء آية : 8.(1/28)
قال ابن كثير والبغوي وأكثر المفسرين: إنها نزلت ردًّا على المشركين، لمّا أنكروا كون الرسول بشرًا، وهذا هو المعنى الذي يفيده السياق (1).
2- أن الله -سبحانه- أمر العامي بسؤال أهل الذكر، وهم أهل العلم، عما حكم الله به في هذه المسألة، وما رُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها؛ ليخبروه به، لا عن رأي رجل بعينه ومذهبه؛ ليأخذه به وحده، ويخالف ما سواه، مع وجود النص.
ويجاب عن هاتين المناقشتين بما يأتي:
أما المناقشة الأولى: فالجواب عنها أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأما المناقشة الثانية: فالجواب عنها أن المسئول عنه عام، يشمل ما نص عليه في الكتاب والسنة، وما لم ينص عليه، مما اجتهد فيه المجتهدون، ووصلوا بالاجتهاد إلى حكم فيه، وقد أُمروا باتباعهم فيما يقولون؛ فكان ذلك دالا على جواز تقليدهم في آرائهم الاجتهادية. أما الأخذ بالرأي مع وجود النص ومخالفته، فهو من تعصب بعض الفقهاء، وهو خارج عن محل النزاع.
الدليل الثاني:
__________
(1) - انظر تفسير ابن كثير والبغوي جـ 5 ص 476 ، ط الحكومة . المجموع فيها التفسيران، وانظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 182 و 215، وانظر القول المفيد ص 2، وانظر الإحكام لابن حزم جـ 6 ص 861 .(1/29)
قول الله -تعالى-: { - صدق الله العظيم ( قرآن كريم فهرس - - ( - رضي الله عنه - - - (- رضي الله عنه - الله أكبر صدق الله العظيم ( تم بحمد الله (- صلى الله عليه وسلم - - ( - - { - - ( - (( ( المحتويات ( - ( { ( } تم بحمد الله ( { - ((( - - - ( } - قرآن كريم ( - } { - (- رضي الله عنه - - - عليه السلام - - ( - - - (( ( صدق الله العظيم - (- صلى الله عليه وسلم - - - - - } - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - جل جلاله -( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( قرآن كريم - - - - - ( { } - ( قرآن كريم ((- رضي الله عنهم - - - عليه السلام - - ( المحتويات ( - ( - - - ( { ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - - رضي الله عنهم -( - - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - - (- رضي الله عنه - - - ((((( } (1).
ووجه الاستدلال: أن الله أوجب على الناس قبول نذارة المنذر لهم، وهذا أمر بتقليد العوام للعلماء.
وقد نوقش هذا الدليل بما يأتي:
1- أن الله -سبحانه- أوجب على الناس قبول ما أنذرهم به من الوحي الذي ينزل في غيبتهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد، وليس في هذا ما يدل على تقديم آراء الرجال على الوحي.
2- أن الإنذار إنما يقوم بالحجة، والنذير من أقام الحجة، ومن لم يأت بالحجة فليس بنذير، والمنكر والمذموم من أفعال المقلِّدين هو نصْب رجل بعينه يجعل قوله عيارًا (2) على القرآن والسنة، فما وافق قوله منها قُبل، وما خالفه رُدّ، ويقبل قوله بغير حجة، ويرد قول نظيره أو أعلم منه، ولو كانت الحجة معه (3).
__________
(1) - سورة التوبة آية : 122.
(2) - قال في مختار الصحاح ص 465 عاير المكاييل والموازين عيارًا ، والمعيار بالكسر العيار ا . هـ .
(3) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 184 و ص 233 - 234، وانظر الإحكام لابن حزم جـ 6 ص 836 .(1/30)
ويجاب عن هاتين المناقشتين: بأننا -وإن سلمنا أن الدليل في غير محل النزاع- لكن لا نسلم تفسير التقليد بالأخذ بقول رجل بعينه دون النبي - صلى الله عليه وسلم - بل فسرناه سابقًا.
الدليل الثالث:
وهو دليل عقلي، لو كان التقليد غير جائز للعامة ومن في حكمهم، وكلفوا الاجتهاد لأدى ذلك إلى ضياع مصالح العباد، وانقطاع الحرث والنسل، وتعطيل الحرف والصنائع، فيؤدي إلى خراب الدنيا، وفي هذا من الحرج ما لا تأتي به الشريعة. قال الله -تعالى- { - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنهم - - ( - ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - (( (((( - - - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - مقدمة } (1).
ونوقش هذا الدليل بما يأتي:
1- أن قولكم: لو كلف الناس الاجتهاد لضاعت مصالح العباد، معارض بالمثل، وذلك بأن يقال: لو كلفنا التقليد لضاعت أمورنا وفسدت مصالحنا؛ إذ لا ندري من نقلد من الفقهاء والمفتين، فإن عددهم لا يحصيه إلا الله، وهم قد ملأوا الأرض شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالا، فلو كلفنا بالتقليد لوقعنا في أعظم العنت والفساد.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأنه لا حرج ولا عنت في التقليد، فليقلِّدْ كل واحد فقهاء بلده والمفتين فيها، ما داموا قد ملأوا الأرض، خصوصًا وأن أصحاب هذه المناقشة يقولون: إن التقليد جائز لمن تقوم بهم الحياة من أرباب الصنائع المختلفة، من زراعة وصناعة وتجارة لا لكل الناس.
__________
(1) - سورة الحج آية : 78.(1/31)
2- ونوقش أيضًا: بأننا لو كلفنا بالتقليد لكل عالم لاجتمع في حقنا النقيضان، وذلك بتحليل هذا الشيء تقليدًا لهذا العالم، وتحريمه تقليدًا لعالم آخر، وإيجاب هذا الشيء تقليدًا لهذا العالم، وإسقاطه تقليدًا لعالم آخر، ولو كلفنا بتقليد الأعلم فالأعلم، لكان في ذلك مشقة، ومعرفة الأحكام من القرآن والسنة أسهل بكثير من معرفة الأعلم وشروطه المطلوبة فيه، ولو كلفنا بتقليد البعض منهم على حسب اختيارنا وتشهِّينا، لصار دين الله تبعًا للهوى والارادة، وهذا محال لا تأتي به الشريعة.
ويجاب عن هذه المناقشة:
بأن القائلين بجواز التقليد لا يقولون بتقليد كل عالم، ويقولون بجواز تقليد المفضول مع وجود الفاضل، وتقليد البعض لا يلزم منه خضوع الدين للهوى والارادة، ويقولون: إن معرفة العامي للأحكام من الكتاب والسنة فيها كل المشقة عليه؛ إذ لا يصل إلى ذلك إلا إذا انقطع لذلك، وترك تحصيل وسائل المعيشة له ولأولاده.
3- ونوقش أيضًا بأن النظر والاستدلال يكون به صلاح الأمور لا ضياعها، وبتركه وتقليد من يخطيء ويصيب يكون فيه إضاعتها وفسادها، والواقع شاهد بذلك.
ويجاب عن هذه المناقشة:
بالمنع؛ فلا ضياع ولا فساد في تقليد العامي للعالم.
4- ونوقش أيضًا بأن الواجب من النظر والاستدلال على كل مكلف هو معرفة ما يخصه وتدعو إليه حاجته من الأحكام، ولا يجب عليه ما لا تدعوا الحاجة إلى معرفته.
ويجاب عن هذه المناقشة:
بأن النظر والاستدلال يحتاج إلى وسائل ينقضي أكثر العمر حتى يتقنها المرء ويستطيع معرفة الأحكام بواسطتها، وفي هذا مشقة على من يريد تحصيل معاشه.(1/32)
5- ونوقش أيضًا: بأن ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من العلم النافع أيسر على النفوس تحصيلا وفهما وحفظًا من كلام الناس، مما هو زبالة الأذهان ونحاتة الأفكار ومسائل الخرص والألغاز، فإن الله -تعالى- قد يسّر فهم شريعته وكتابه، قال الله -تعالى-: { ( - - { - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - الله أكبر ( - - - - - - رضي الله عنه - تمت - - عليه السلام -(( - ( { ( - - - ( - ( - (- صلى الله عليه وسلم - - - ( - ( - - رضي الله عنهم - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - - ( - - - - تم بحمد الله (((( } (1).
وقال البخاري في صحيحه: قال مطر الورّاق: هل من طالب علم فيعان عليه؟ ولم يقل فتضيع عليه مصالحه، وتتعطل عليه معايشه، بل الذي في غاية الصعوبة والمشقة مقدرات الأذهان، وأغلوطات المسائل، والتأصيل والتفريغ، الذي ما أنزل الله به من سلطان (2).
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن فهم الشريعة ميسور، ولكن الوصول إلى درجة استنباط الأحكام يحتاج إلى جهد وانقطاع تتعطل معه مصالح المقلين، الذين يحتاجون إلى كسب معاشهم يومًا فيومًا، وأما إعانة طالب العلم فهي إعانته على التحصيل والفهم لا على توفير المال والإمكانيات لمعاشه ومعاش أهله.
الدليل الرابع:
الإجماع من الصحابة بوجود سائل ومسئول، فلم تزل العامة يستفتون العلماء، والعلماء يفتونهم من غير ذكر دليل، ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد، من غير نكير، وذلك معلوم على الضرورة، والتواتر من علمائهم بالإفتاء وعوامهم بالرجوع إلى العلماء.
الدليل الخامس:
__________
(1) - سورة القمر آية : 17.
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 185 و 237 و 238، وانظر الإحكام لابن حزم جـ 6 ص 823 - 824 .(1/33)
دليل عقلي: وهو أن المجتهد في الفروع إما مصيب فله أجران وإما مخطأ فله أجر، فهو مثاب على كلا الحالين، فجاز التقليد فيها، بل وجب على العامي، بخلاف الأصول فإنه إذا أخطأ فهو آثم (1).
الدليل السادس:
قول الله -تعالى-: { - { - - - - صلى الله عليه وسلم - - ((- رضي الله عنه - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - ( قرآن كريم (- جل جلاله -- رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( } - قرآن كريم (( - ((- صلى الله عليه وسلم - - { - - - } - قرآن كريم (( - ((- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - - قرآن كريم ( - { - - - - - ( - - - صلى الله عليه وسلم -( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - - } - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - ( تم بحمد الله } (2).
ووجه الاستدلال: أن الله أمر بطاعة أولي الأمر، وهم العلماء، وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به، والأمر للوجوب، فهو أمر بتقليد العوام للعلماء.
ونوقش هذا الدليل بما يأتي:
1- أن للمفسرين في تفسير أولي الأمر قولين: أحدهما: أنهم الأمراء، والثاني أنهم العلماء، والتحقيق أن الآية تتناول الطائفتين، وعلى كلا التفسيرين فليس في الآية دليل على جواز التقليد، لأن العلماء والأمراء إنما يطاعون في طاعة الله وفق شريعته، لأن العلماء مبلغون لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمراء منفذون له، وليس في الآية ما يدل على تقديم آراء الرجال على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإيثار التقليد عليها.
__________
(1) - انظر الإحكام للآمدي جـ 4 ص 228 وما بعدها، وانظر المستصفى جـ 2 ص 124 ، وروضة الناظر ص 206، وشرح الكوكب المنير ص 411 .
(2) - سورة النساء آية : 59.(1/34)
ويجاب عن هذه المناقشة: بأننا لا نقول بتقديم آراء الرجال على سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن هذا ليس من مفهوم التقليد الذي هو محل النزاع، بل هو من تعصب بعض الفقهاء.
2- ونوقش أيضًا: بأن العلماء إنما أرشدوا غيرهم إلى ترك تقليدهم، ونهوهم عن ذلك فطاعتهم ترك تقليدهم.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن العلماء أمروا غيرهم بترك تقليدهم ممن يقدر على الاجتهاد، ويستطيع الاستنباط، ولم يكن لديه مانع من ذلك.
3- ونوقش أيضًا: بأن الله أمر بطاعته وطاعة رسوله، ولا يكون العبد مطيعًا لله ورسوله حتى يكون عالمًا بأمر الله ورسوله، والمقلد ليس من أهل العلم بأوامر الله ورسوله، فلا يمكنه تحقيق طاعة الله ورسوله؛ لأنه مقلد فيها لأهل العلم (1).
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن هذا دليل على جواز التقليد، لأنه مأمور بالطاعة، وهي لا تتحقق إلا بالعلم، وعلم غير القادر على الاجتهاد لا يتحقق إلا بالتقليد، فهو إذن مأمور بالتقليد.
الدليل السابع:
قوله -عليه الصلاة والسلام- في شأن الصلاة: - إن معاذًا قد سنّ لكم سُنّة فكذلك فافعلوا - .
قاله -عليه الصلاة والسلام- حينما أخّر ما فاته من الصلاة، فصلاه بعد فراغ الإمام، والتزم متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "لا أراه على حال إلا كنت معه". وكانوا قبل ذلك يصلون ما فاتهم أولا، ثم يدخلون مع الإمام.
ووجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بتقليد معاذ، والأمر للوجوب، فدل على وجوبه.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 183 و 221، وانظر القول المفيد ص 11 - 12 .(1/35)
ونوقش هذا الدليل: بأن فعل معاذ لم يصِر سنة إلا حينما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - لا لأن معاذا فعله فقط، ومعنى الحديث: أن معاذًا فعل فعلا جعله الله لكم سنة، لا بمجرد فعله؛ بل لأنه كان السبب بثبوت السنة، وإلا فقد فعل معاذ في الصلاة أمرًا يغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما طولها ونهاه عن العودة، فلو كان ما فعل معاذ يقلَّد فيه لقلد في تطويله الصلاة حينما أمّ الناس.
ونوقش أيضًا: بأن معاذًا قد ورد عنه النهي عن التقليد، فقد صح عنه أنه قال: "كيف تصنعون بثلاثٍ: دنيا تقطع أعناقكم، وزلة عالم، وجدال منافقٍ بالقرآن، فأما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، وإن افتتن فلا تقطعوا منه إياسكم، فإن المؤمن يفتتن ثم يتوب، وأما القرآن فإن له منارًا كمنار الطريق لا يخفى على أحد، فما علمتم منه فلا تسألوا عنه أحدًا، وما لم تعلموه فكلموه إلى عالمه، وأما الدنيا فمن جعل الله غناه في قلبه فقد أفلح، ومن لا فليست بنافعته دنياه.
فنهى عن التقليد وأمر باتباع ظاهر القرآن وألا يبالي بمن خالف فيه، وأمر بالتوقف فيما أشكل على خلاف ما عليه المقلدون (1).
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن معاذًا ينهى عن التقليد القادر على الفهم والاستنباط من الكتاب والسنة، أما العاجز العامي ومن في حكمه فلا يتناوله النهي؛ إذ لا يقدر إلا على التقليد وهو مأمور بذلك.
الدليل الثامن:
قوله -عليه الصلاة والسلام-: - عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي - (2) وقوله -عليه الصلاة و السلام-: - اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمّار، وتمسكوا بعهد ابن مسعود - أخرجه الترمذي (3).
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 220 ، وانظر القول المفيد في حكم التقليد ص 10، وانظر الإحكام لابن حزم جـ 6 ص 802 وص 808 .
(2) - الحديث رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن .
(3) - انظر جامع الأصول لابن الأثير الجزري ج9ص420- 421 .(1/36)
ووجه الاستدلال: أن النبي -عليه السلام- أمر بالأخذ بسنة الخلفاء الراشدين، والاقتداء بأبي بكر وعمر، والأخذ بهدي عمار وعهد ابن مسعود، وذلك تقليد لهم، فالتقليد مما أمر به النبي -عليه السلام- وحثٌ على لزومه. ونوقش هذا الدليل بما يأتي:
1- أن الأخذ بما سنَّه الخلفاء الراشدون، والاقتداء بما فعلوه ليس تقليدًا لهم، بل هو امتثال لقول النبي -عليه السلام- واتباع له، حيث أمر به، وليس من التقليد في شيء.
ويجاب عن هذة المناقشة: بأن الامتثال يكون بالأخذ بسنتهم، والأخذ بسنتهم هو التقليد.
2- ونوقش أيضًا: بأن سنتهم خلاف ما عليه المقلدون، فانهم لا يدَعُون السنة -إذا ظهرت- لقول أحد من الناس كائنًا من كان، والمقلدون يأخذون برأي فلان وفلان وإن خالف السنة.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن المقلِّدين يأخذون بالكتاب والسنة عند سؤالهم أهل العلم من المجتهدين، ومن يخالف السنة فغير قادح فيها فليس من المجتهدين.
3- ونوقش أيضًا: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خصهم بالاقتداء بهم؛ لمزيتهم وفضلهم على غيرهم، فلا يجوز أن يلحق بهم غيرهم، والمقلدون بهم، بل صرح بعض غلاتهم بتحريم الاقتداء بهم، ووجوب الاقتداء بأصحاب المذاهب بعدهم (1).
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن التحقيق أنه لا يجوز تقليد الصحابة إذا لم يثبت النقل عنهم، لكن إذا ثبت النقل عن الصحابة بطريق صحيح موثوق به، فالإجماع على جواز تقليدهم.
أما أدلة المذهب الثاني والثالث فسيأتي في الباب الرابع في الفصل الثاني.
القسم الثالث من أقسام التقليد
التقليد الجائز
يكون التقليد جائزًا للأصناف الآتية:
1- من بذل جهده في طلب الحق والصواب والدليل، فخفي عليه ولم يظفر بالدليل، ولم يظهر له، فهذا يسوغ له التقليد.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 184 و 225، وانظر القول المفيد في حكم التقليد ص 8 - 10، وانظر الإحكام لابن حزم جـ 6 ص 803 - 805 .(1/37)
2- من اجتهد وتكافأت عنده الأدلة، ولم يظهر له ترجيح بعضها على بعضها، فإنه يسوغ التقليد.
3- المجتهد الذي نزلت به حادثة، وضاق الوقت عن الاجتهاد، فإنه يجوز له -والحالة هذه- التقليد عند البعض، والراجح أنه لا يجوز له التقليد (1) كما سيأتي تحقيق ذلك في الباب الثالث في الفصل الأول (2).
النقول الدالة على
جواز التقليد لهؤلاء الأصناف
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: فأما القادر على الاجتهاد فهل يجوز له التقليد ؟.
هذا فيه خلاف، والصحيح أنه يجوز حيث عجز عن الاجتهاد، إما لتكافؤ الأدلة، وإما لضيق الوقت عن الاجتهاد، وإما لعدم ظهور دليل له، فإنه حيث عجز سقط عنه وجوب ما عجز عنه، وانتقل إلى بدله، وهو التقليد كما لو عجز عن الطهارة بالماء ا. هـ (3).
وقال أيضًا في موضع آخر: متى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة كان هو الواجب، وإن لم يكن لضيق الوقت، أو عجز الطالب، أو تكافؤ الأدلة عنده، أو غير ذلك، فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه، هذا أقوى الأقوال ا. هـ (4).
وقال ابن القيم: أما تقليد من بذل جهده في اتباع ما أنزل الله، وخفي عليه بعضه، فقلد فيه من هو أعلم منه، فهذا محمود غير مذموم، ومأجور غير مأزور ا هـ (5).
__________
(1) - بل يقيسها بنظائرها في الحال؛ لأنه ليس كالعامي ، بل عنده القدرة وعنده الملكة، فبمجرد ما يرى الحادثة يعلق في ذهنه شيء من حالها بخلاف العامي .
(2) - انظر القسم الثاني من أقسام المستفتي، في الفصل الأول من الباب الثالث.
(3) - انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام جـ 20 ص 204 .
(4) - انظر جـ 28 ص 388 من مجموع فتاوي ابن تيمية .
(5) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 169 .(1/38)
وقال أيضًا في موضع آخر: بل غاية ما نقل عنهم -أي الأئمة- من التقليد في مسائل يسيرة لم يظفروا فيها بنص عن الله ورسوله، ولم يجدوا فيها سوى قول من هو أعلم منهم فقلدوه، وهذا فعل أهل العلم، وهو الواجب، فإن التقليد إنما يباح للمضطر ا. هـ (1).
الأدلة الدالة على جواز التقليد
وهي نوعان: نقلية وعقلية.
الأدلة النقلية:
الدليل الأول:
حديث: العسيف الذي زنى بامرأة مستأجره فقال أبوه: - وإني سألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ابني جلد مائة، وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم - وهو حديث ثابت في الصحيحين وغيرهما.
ووجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على والد العسيف سؤال أهل العلم وتقليده لمن هو أعلم منه، والناس يفتون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي، فدل ذلك على جواز التقليد.
ونوقش هذا الدليل: بأن والد العسيف إنما سأل علماء الصحابة عن حكم كتاب الله وسنة رسوله -عليه السلام-، ولم يسألهم عن آرائهم ومذاهبهم.
وأما فتوى الناس في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنهم لما اختلفوا ردوا تنازعهم إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فحكم بالحق وأبطل الباطل (2).
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن السؤال كان عن الحكم الشرعي أعم من أن يكون منصوصًا عليه أو غير منصوص، وأقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - على هذا السؤال، فيكون إقرارًا له على ما يستلزمه، وهو العمل بقول المسئول مطلقًا.
الدليل الثاني:
ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حديث صاحب الشجة: - ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العيِّ السؤال - (3).
ووجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرشد من لا يعلم إلى سؤال من يعلم، وهذا يدل على جواز التقليد.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 241 .
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 182 و 215 ، وانظر القول المفيد ص 3 - 4، وانظر الإحكام لابن حزم جـ 6 ص 824 .
(3) - رواه أبو داود والدارقطني .(1/39)
ونوقش هذا الدليل: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرشدهم في حديث صاحب الشجة إلى السؤال عن آراء الرجال، بل أرشدهم إلى السؤال عن الحكم الشرعي الثابت عن الله أو عن رسوله، ولهذا دعا عليهم - صلى الله عليه وسلم - لما أفتوا بغير علم، فقال: - قتلوه قتلهم الله - ؛ لأنهم أفتوه بآرائهم، وفي هذا دليل على تحريم الإفتاء بالتقليد، فإن الحديث اشتمل على أمرين: أحدهما: الإرشاد لهم إلى السؤال عن الحكم الثابت بالدليل.
الثاني: الذم لهم على اعتماد الرأي والإفتاء به، وهذا واضح لكل ناظر (1).
ويجاب عن هذه المناقشة: بما أجيب به عن مناقشة الدليل الأول.
الدليل الثالث:
ما ثبت أن أبا بكر قال في الكلالة: أقضي فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله منه بريء، هو ما دون الولد والوالد، فقال عمر بن الخطاب: إني لأستحق من الله أن أخالف أبا بكر.
ووجه الاستدلال: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تبع أبا بكر في قوله، وهذا تقليد له، فدل على جواز التقليد.
ونوقش هذا الدليل بما يأتي:
1- أن عمر استحيا من مخالفة أبي بكر في اعترافه بجواز الخطأ عليه، وأن كلامه ليس كله صوابًا مأمونًا عليه من الخطأ، ويدل على ذلك: أن عمر أقر عند موته أنه لم يقضِ في الكلالة بشيء، واعترف أنه لم يفهمها، فلو كان قد قال بما قال به أبو بكر تقليدًا له لَمَا أقر أنه لم يقض فيها بشيء، ولا قال إنه لم يفهمها.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن اعتراف عمر بعدم القضاء فيها بشيء، وأنه لم يفهمها، دليل على تقليده لأبي بكر فيها، وليس دليلا على عدم التقليد.
2- ونوقش أيضًا: بأن خلاف عمر لأبي بكر مشهور، فمن ذلك:
(أ) مخالفته له في سبي أهل الردّة؛ فسباهم أبو بكر وخالفه عمر، وبلغ من خلافه أن ردهن حرائر إلى أهلهن، إلا من ولدت لسيدها منهن.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 182 و 215 ، وانظر القول المفيد ص 3 - 4 .(1/40)
(ب) خالفه في الأرض المفتوحة عنوة؛ فقسمها أبو بكر، ووقفها عمر على المسلمين.
(جـ) خالفه في العطاء؛ فكان أبو بكر يرى التسوية، وعمر يرى المفاضلة بين الناس.
(د) خالفه في الاستخلاف؛ فقد استخلف أبو بكر، ولم يستخلف عمر، بل جعل الأمر شورى.
ويجاب عن هذه الماقشة: بأن هذه الأدلة لا تمنع من تقليده في حادثة خاصة، وهي موضوع الكلالة التي لم يفهمها، وإذا قلده في حادثة واحدة ثبت المطلوب، وهو جواز التقليد.
3- ونوقش أيضًا: بأنه لو سلِم تقليد عمر لأبي بكر في كل ما قاله لكان خاصًا بتقليد علماء الصحابة، فلا يصح إلحاق غيرهم بهم؛ لما للصحابة على غيرهم من المزايا البالغة إلى حد يقصر عنه الوصف، حتى إن المنفق مثل جبل أحد من متأخري الصحابة لا يعدل المد من متقدميهم ولا نصيفه، فكيف يصح أن يلحق بهم غيرهم؟.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأنه إذا جاز لهم أن يقلدوا بعضهم وهم من هم (1) جاز لغيرهم أن يقلدهم من باب أولى.
4- ونوقش أيضًا: بأن المقلدين المحتجين بفعل عمر وقوله، يخالفون أبا بكر وعمر في أكثر أقوالهما , بل قد صرح بعضهم في كتب الأصول أنه لا يجوز تقليد أبي بكر وعمر وسائر الصحابة، ويجب تقليد أحد الأئمة الأربعة.
ويجاب عن هذة المناقشة: بأنه إذا ثبت النقل عن الصحابة بطريق صحيح جاز تقليدهم إجماعًا، كما سبق في جواب مناقشات الدليل الثامن.
5- ونوقش أيضًا: بأنه لو سلِم أن عمر قلد أبا بكر في هذه المسألة، لكان دليلا على أن المجتهد إذا لم يمكنه الاجتهاد في مسألة، وأمكن غيره أن يجتهد فيها، جاز له أن يقلده، ما دام غير متمكن من الاجتهاد، وليس فيه دليل على جواز اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع، لا يلتفت إلى قول سواه إلا إذا وافق قوله.
__________
(1) - أي في العلم والفضل.(1/41)
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن فيه جواز التقليد في مثل هذه الحالة، وهذا كاف في جواز التقليد فيما ندعيه، أما اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع فهذا من تعصّب المقلدين، وهذا خارج عن موضوعنا (1).
الدليل الرابع:
ما صح عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال لأبي بكر: رأْيُنا لرأيك تبع.
ووجه الدلالة: أن هذا تصريح من عمر بأنه تابع لأبي بكر مقلد له، وهذا يدل على جواز التقليد.
ونوقش هذا الدليل بما يأتي:
1- أن في هذا الحديث ما يرد الاستدلال به على جواز التقليد، فإن عمر قرر بعض ما رآه أبو بكر ورد بعضه، ويتبين ذلك واضحًا بسوق الحديث كاملا:
فقد ساق البخاري في صحيحه هذه القصة هكذا:
عن طارق بن شهاب قال: - جاء وفد بزاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر - رضي الله عنه - يسألونه الصلح، فخيرهم بين الحرب المُجْلِية والسلم المخزية، فقالوا: هذه المجلية قد عرفناها، فما المخزية ؟ قال: تنزع منكم الحلقة والكراع، ونغنم ما أصبنا لكم، وتردون ما أصبتم منا، وتَدُون لنا قتلانا، وتكون قتلاكم في النار، وتتركون أقوامًا يتبعون أذناب الإبل، حتى يُرِي الله خليفةَ رسوله والمهاجرين أمرًا يعذرونكم به. فعرض أبو بكر ما قال على القوم، فقام عمر بن الخطاب فقال: قد رأيت رأيا سنشير عليك،... أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية فنعم ما ذكرت، وما ذكرت من أن نغنم ما أصبنا منكم وتردون ما أصبتم منا فنعم ما ذكرت، وأما ما ذكرت من أن تَدُون قتلانا وتكون قتلاكم في النار، فإن قتلانا قاتلت فقتلت على ما أمر الله، أجورها على الله، ليس لها ديات، فتتابع القوم على ما قال عمر - .
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 183 و 216 ، وانظر القول المفيد ص 4 - 5، وانظر الإحكام لابن حزم جـ 6 ص 798 ، ص 845 .(1/42)
وفي بعض ألفاظ هذا الحديث: - قد رأيت رأيا ورَأْيُنا لرأيك تبع - (1) فالمتابعة من عمر لأبي بكر في بعض ما رآه أو في كله ليس من التقليد في شيء، بل هو من الاستصواب لما جاء به في الآراء والحروب؛ لموافقته لاجتهاده، وهذه المناقشة مسلمة.
2- ونوقش أيضًا: بأن هذه الآراء إنما هي في تدبير الحروب، وليست في مسائل الدين، وإن تعلق بعضها بشيء من ذلك فإنما هي بطريق التبع.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن هذه الآراء كانت في أحكام شرعية حربية، ولم تكن في تدبير الحروب وتنظيمها فلم تكن تبعًا، وعلى فرض تبعيتها فإن ذلك لا يخرجه عن كونها أحكامًا شرعية.
3- ونوقش أيضًا: بأنه قد يكون السكوت عن اعتراض بعض ما فيه مخالفة، من آراء الأمراء، فيه مصلحة دينية، وهي إخلاص الطاعة للأمير، وكراهة الخلاف كما ورد بذلك الشرع.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن هذا لا ينطبق على عمر المعروف بصراحته وجرأته في الحق، وأنه لا تأخذه فيه لومة لائم (2).
الدليل الخامس ما صح عن ابن مسعود أنه كان يأخذ بقول عمر:
ووجه الاستدلال: أن أخذ ابن مسعود بقول عمر دليل تقليده له، فدل على جواز التقليد. ونوقش هذا الدليل بما يأتي:
1- أن هذه دعوى ممنوعة، فإن مخالفة ابن مسعود لعمر مشهورة، حتى ذكر أهل العلم أنه خالفه في نحو مائة مسألة، منها:
(أ) أن ابن مسعود يرى أن أم الولد تعتق من نصيب ولدها، ويرى عمر أنها تعتق من رأس المال.
(ب) أن ابن مسعود كان يُطبِّق في الصلاة إلى أن مات، وعمر كان يضع يديه على ركبته وينهي عن التطبيق (3).
__________
(1) - أخرجه البخاري ،مختصرًا، فذكر طرفًا منه 8/51 وأخرجه بطوله البرقاني في مستخرجه، وساقها الحميدي في جمعه على الصحيحين فتح الباري 13/120 المطبعة السلفية .
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 183 ، ص 218 ، وانظر القول المفيد ص 4 ، 6 ، 7 .
(3) - التطبيق وضع اليدين بين الرجلين في الركوع في الصلاة .(1/43)
(جـ) أن ابن مسعود يقول في الحرام (1) هي يمين، وعمر يقول طلقة واحدة.
(د) أن ابن مسعود كان يحرم نكاح الزانية على الزاني أبدًا، وعمر كان يُتَوِّبهما ويُنكح أحدهما الآخر.
(هـ) أن ابن مسعود يرى أن بيع الأمة طلاقها، وعمر لا يرى بيعها طلاقًا.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن مخالفته في بعض المسائل لا تمنع من تقليده في بعض آخر، مما لا يكون قد اجتهد فيه.
2- ونوقش أيضًا: بأن ابن مسعود إذا أخذ بقول عمر فليس ذلك من التقليد في شيء، وإنما هو الموافقة في الاجتهاد كما يوافق العالم العالم.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن عبارة: " كان يأخذ بقول عمر"، أظهر في التقليد من المخالفة.
3- ونوقش أيضًا: بأنه كيف يصح من ابن مسعود تقليد غيره، وهو القائل: لقد علم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أعلمهم بكتاب الله، ولو أعلم أن أحدًا أعلم مني لرحلت إليه. وقد صح عنه أنه قال: اغد عالمًا أو متعلمًا، ولا تكونن إمَّعة. والإمعة هو المقلد، فأخرجه من زمرة العلماء والمتعلمين.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن معنى العبارة: "ولا تكونن إمعة"، ولا يكن شأنك دائمًا إمعة، وهذا لا ينافي أن يأخذ بقول الغير أحيانًا (2).
الدليل السادس:
ما روى الشعبي عن مسروق قال: كان ستة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتون الناس: ابن مسعود، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وأُبَيّ بن كعب، وأبو موسى -رضي الله عنهم-، وكان ثلاثة منهم يَدَعون قولهم لقول ثلاثة، كان عبد الله يدع قوله لقول عمر، وكان أبو موسى يدع قوله لقول علي، وكان زيد يدع قوله لقول أبي بن كعب.
ووجه الاستدلال: أن هذا تقليد من هؤلاء الثلاثة للثلاثة الذين يتركون أقوالهم لأقوالهم، فدل على جواز التقليد.
__________
(1) - الحرام تحريم الزوجة ، مثل أن يقول : هي علي حرام .
(2) - انظر إعلام الموقعين ص 218 ، وانظر القول المفيد ص 5 - 7 ، وانظر الإحكام لابن حزم جـ 6 ص 794 - 795 .(1/44)
ونوقش هذا الدليل بما يأتي:
1- أن رجوع بعض الستة المذكورين إلى أقوال بعضهم، ليس معناه أنهم يدعون ما يعرفون من السنة تقليدًا لهؤلاء الثلاثة، كما هو حال المقلدين، بل إنهم كانوا جميعًا -هم وسائر الصحابة- إذا ظهرت لهم السنة لم يتركوها لقول أحد كائنًا من كان، بل إن هذا من باب الموافقة في الاجتهاد.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن الترك يحتمل -أيضًا- الموافقة لهم من غير اجتهاد وهو معنى التقليد، ويحتمل أيضًا الموافقة بعد الاجتهاد، إذا لم يتبين لهم رأي في المسألة، فيكون دليلا على جواز تقليد المجتهد لمجتهد آخر إذا اجتهد ولم يتبين له حكم في المسألة.
2- ونوقش أيضًا: بأن الرجوع الذي كان يقع من بعض الصحابة إلى قول بعض، إنما هو في الغالب رجوع إلى روايته لا إلى رأيه، كما يعرف هذا من عرف أحوال الصحابة وتأمل سيرتهم، فإنهم كانوا يعضون على السنة بالنواجذ، ويرمون بآرائهم وراء الحائط، وإنما كانوا يرجعون إلى الرأي إذا أعوزهم الدليل، وضاقت عليهم الحادثة، ثم لا يرمون أمرًا إلا بعد التراود والمفاوضة، كما قال عبيدة السلماني لعلي بن أبي طالب: لَرَأْيُك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن غير الغالب، وهو الرجوع إلى بعضهم في الرأي، يكفي في إثبات المطلوب، وهو جواز التقليد عند الحاجة إليه (1).
الدليل السابع:
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 219 - 220 ، وانظر القول المفيد ص 5 - 7 - 8 .(1/45)
قول الله تعالى: { - - قرآن كريم ( { ( تمهيد ( - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - } - صلى الله عليه وسلم - - } - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - رضي الله عنه -((( - ( - (- رضي الله عنهم - - ( - ( - - - ( - - - ( الله أكبر - } - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه -((( - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ( - قرآن كريم ((- رضي الله عنه - - } - - - - صدق الله العظيم ( - - ( مقدمة ( - ( - - - (( { - ( - - - ( المحتويات ( - ( { - رضي الله عنه -( } - قرآن كريم ((- عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( مقدمة ( - - رضي الله عنه -( } (1).
ووجه الدلالة: أن الله أثنى على من يتبع السابقين الأولين بإحسان , واتباعهم بإحسان هو تقليدهم، وهذا يدل على جواز التقليد.
ونوقش هذا الدليل بما يأتى:
1- أن دعوى أن اتباعهم تقليدهم، دعوى ممنوعة، بل اتباعهم هو سلوك سبيلهم ومنهاجهم، وهم قد نهوا عن التقليد وكون الرجل إمعة، وأخبروا أن المقلِّد ليس من أهل البصيرة، فالتابعون لهم على وجه الحقيقة هم أولوا العلم والبصائر، الذين لا يقدمون على كتاب الله وسنة رسوله رأيًا ولا قياسًا ولا عقلا، ولا قول أحد من الناس.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن من اتباعهم أيضًا اتباع آرائهم التي يفتون بها العوام ومن في حكمهم، لعموم قوله: { - رضي الله عنه -((( - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ( - قرآن كريم ((- رضي الله عنه - - } - - - } (2).
__________
(1) - سورة التوبة آية : 100.
(2) - سورة التوبة آية : 100.(1/46)
2- ونوقش أيضًا: بأنه لو كان أتْباع السابقين الأولين هم المقلدون لكان العلماء الذين يأخذون بالحجة والدليل ليسوا من أتباعهم، والمقلدون الجهلة أسعد منهم بالاتباع، وهذا محال، بل من خالفهم واتبع الدليل فهو المتبع لهم دون من أخذ أقوالهم بغير حجة ولا دليل.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأننا لم نقل: إن المراد بالذين اتبعوهم العوام الجهلة فقط، بل إن النص يشملهم ويشمل غيرهم من العلماء، الذين ترسموا خطاهم، واتبعوا سبيلهم (1).
الدليل الثامن:
قوله -تعالى-: { ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم - - ( مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - - - جل جلاله -- جل جلاله - - ( - ( صدق الله العظيم - - ( } تم بحمد الله - المحتويات فهرس - ( - - صلى الله عليه وسلم - - (( مقدمة - رضي الله عنهم - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - عليه السلام - قرآن كريم ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم ( - (- رضي الله عنه -( - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنه - - } - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - { - ( تم بحمد الله - بسم الله الرحمن الرحيم - ( - (- رضي الله عنه - - ( - ( { - - ( - ( - - رضي الله عنهم - مقدمة } (2).
ووجه الدلالة: أن الله أثنى على من اتّبع ملة إبراهيم، واتباعه هو تقليده، وهذا يدل على جواز التقليد.
ونوقش هذا الدليل: بأن الله أمر باتباع ملة إبراهيم، وما يأمر الله به ليس من التقليد في شيء، بل هو الدليل والحجة والبرهان، إنما التقليد هو اتباع قول غير المعصوم من غير حجة، كأن يأخذ بقول رجل بعينه دون النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا دليل يصحح قوله، بل لأن فلانا قاله فقط (3).
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ2 ص 183 ، ص 222 .
(2) - سورة النساء آية : 125.
(3) - انظر الإحكام لابن حزم جـ 6 ص 801 .(1/47)
ويجاب عن هذه المناقشة: بأننا وإن سلمنا أن الدليل في غير محل النزاع، لكن لا نسلم تفسير التقليد بالأخذ بقول رجل بعينه دون النبي - صلى الله عليه وسلم - بل بما فسرناه سابقًا، في التعريف وهو العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة.
الدليل التاسع:
قوله -عليه السلام-: - أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم - (1).
ووجه الدلالة: أنه -عليه الصلاة والسلام- أخبر أن من اقتدى بواحد من الصحابة فقد اهتدى، والاقتداء بهم هو تقليدهم، وهذا يدل على جواز التقليد.
ونوقش هذا الدليل بما يأتي:
1- أن هذا الحديث قد روي من طرق: من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، ومن حديث سعيد بن المسيب عن ابن عمر، ومن طريق حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر، وصرح أئمة الجرح والتعديل بأنه لم يثبت شيء منها، ولم يصح منها شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2).
2- ونوقش أيضًا: بأنه على فرض صحته، فإن الحديث تضمن منقبة للصحابة، ومزيّة لا توجد لغيرهم فيقتدى بهم دون من بعدهم، ولكن المقلدين لم يقلدوهم، بل قلدوا مَنْ دونهم بمراتب، فما دل عليه الحديث صريحًا خالفوه، واستدلوا به على تقليد من لم يتعرض له بوجه.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن تقليد الصحابة مبني على اجتهادهم وفقههم مع التسليم بمميزاتهم، فإذا وجد الاجتهاد في غيرهم جاز تقليدهم للعوام ومن في حكمهم.
3- ونوقش أيضًا: بأنه يلزم من تقليد كل واحد منهم والاقتداء به التناقض؛ لاختلاف أقوالهم وتضاربها في التحليل والتحريم، من ذلك:
__________
(1) - أخرجه رزين ، انظر كتاب جامع الأصول من أحاديث الرسول لابن الأثير الجرزي جـ 9 ص 410 . وهو حديث ضعيف .
(2) - انظر باب أدب القضاء من تلخيص الحبير جـ 4 ص 190 - 191 ، وانظر جامع بيان العلم وفضله جـ 2 ص 110 - 11 .(1/48)
(أ) أن يكون أكل البَرَد للصائم حلالا اقتداء بأبي طلحة، وحرامًا اقتداء بغيره (1).
(ب) أن يكون ترك الغسل من الإكسال واجبًا اقتداء بعلي وعثمان، وحرامًا اقتداء بعائشة وابن عمر.
(جـ) أن يكون بيع التمر قبل ظهور الطيب فيها حلالا اقتداء بعمر، وحرامًا اقتداء بغيره.
(د) أن يكون قول: الحرام، يمينًا، اقتداء بابن مسعود، وطلاقًا، اقتداء بعمر (2).
(هـ) أن يكون رضاع الكبير محرمًا اقتداء بعائشة، وغير محرم اقتداء بغيرها.
(و) أن يكون لحوم الحُمُر حلالا اقتداء بابن عباس، وحراما اقتداء بغيره.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأنه يلزم هذا المحظور لو قبل باتباع الرأيين في وقت واحد، ولكنه لا يلزم باتباع أحد الرأيين، ويصدق عليه نص الحديث بأنه اهتدى باتباع أحدهم.
4- ونوقش أيضًا: بأن معنى الاقتداء هو أن يأتي المقتدى بمثل ما أتوا به، ويفعل مثل ما فعلوا، وفعلهم إنما هو اتباع القرآن والسنة، والقبول من كل من دعا إليهما منهم، فالاقتداء بهم يحرم التقليد ويوجب الاستدلال وتحكيم الدليل.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن العامي عندما يقلدهم متبع القرآن، الذي أمر بالسؤال عند عدم العلم، فهو مقتد بهم في هذا الاتباع أيضًا (3).
الدليل العاشر:
قول ابن مسعود - رضي الله عنه -
من كان منكم مُسْتنًّا فليستنّ بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد، أبرّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
__________
(1) - حجة أبي طلحة أن البرد ليس بأكل ولا شرب ، انظر المغني لابن قدامة جـ 3 ص 94 مطبعة العاصمة ش الفلكي بالقاهرة .
(2) - سبق تفسير الحرام قريبًا .
(3) - انظر إعلام الموقعين جـ2 ص 183 ، 223 - 224 ، وانظر القول المفيد ص 9 -10 وانظر الإحكام لابن حزم جـ6 ص810- 811 .(1/49)
ووجه الدلالة: أن ابن مسعود أجاز الاقتداء بمن مات من الصحابة، والاقتداء بهم هو تقليدهم، فدل على جواز التقليد وإباحته.
ونوقش هذا الدليل بما يأتي:
1- أن ابن مسعود نهى عن الاستنان بالأحياء، والمقلدون يقلدون الأحياء والأموت.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن أثر ابن مسعود معارض للنص الآمر بسؤال الأحياء فلا يعتبر.
2 - ونوقش أيضًا: بأن ابن مسعود ذكر العلة في جواز الاقتداء، وهي كونهم خير الخلق وأبر الأمة وأعلمهم، والمقلدون لا يقلدون الصحابة، وإنما يقلدون من دونهم بكثير.
ويجاب عن هذه المناقشة: بما سبق من أنهم يقلدون الصحابة أيضًا كما هو التحقيق.
3 - ونوقش أيضًا: بأن معنى الاستنان بهم هو الاقتداء بهم، وهو أن يأتي المستنّ والمقتدي بمثل ما أتوا ويفعل مثل ما فعلوا، وهم إنما يتبعون الدليل والحجة، وهذا يبطل قبول قول أحدهم بغير حجة كما عليه المقلدون.
ويجاب عن هذه المناقشة:
بأن العوام ومَن في حكمهم يتبعون الدليل الذي يأمرهم بالسؤل عما لا يعلمون.
4- ونوقش أيضًا: بأنه صح عن ابن مسعود النهي عن التقليد، وأن يكون الرجل إمعة لا بصيرة له، فعلم بهذا أن الاستنان عند ابن مسعود غير التقليد (1).
ويجاب عن هذه المناقشة: بما سبق في الجواب عن المناقشة الثالثة للدليل الخامس.
الدليل الحادي عشر:
ما في كتاب عمر بن الخطاب إلى شريح: " أنِ اقضِ بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يكن في سنة رسول الله فاقضِ بما قضى به الصالحون ".
ووجه الاستدلال: أن عمر بن الخطاب أمر شريحًا أن يقضي بما قضى به الصالحون فهو أمر بتقليدهم، وهذا يدل على جواز التقليد.
ونوقش هذا الدليل:
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص224 - 225، وانظر القول المفيد ص10.(1/50)
بأن قول عمر هذا يدل على بطلان التقليد، فإنه أمر أن يقدم الحكم بالكتاب على كل من سواه، فإن لم يجده في الكتاب ووجده في السنة حكم بها، فإن لم يجده في السنة قضى بما قضى به الصحابة، أما المقلدون فإنهم إذا نزلت بهم نازلة فإنهم يأخذون حكمها من قول من قلدوه , وإن ظهر لهم في الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة خلاف قوله لم يلتفتوا إليها.
ويجاب عن هذه المناقشة:
بأن المقلد إذا ظهر له خلاف قول من قلده من الكتاب والسنة وجب عليه الرجوع عنه، ولكن الذي يستطيع معرفة المخالفة من غيرها هو القادر على الاستنباط دون العوام (1).
الدليل الثاني عشر:
ما ثبت عن عمر أنه منع بيع أمهات الأولاد، وتبعه الصحابة، وألزم بالطلاق الثلاث، وتبعوه أيضًا.
ووجه الدلالة: أن اتباع الصحابة لعمر في ذلك تقليد منهم له، وهذا يدل على جواز التقليد.
ونوقش هذا الدليل بما يأتي:
1- أن الصحابة لم يتبعوا عمر كلهم، بل هم مختلفون في المسألتين، أما بيع أمهات الأولاد فقد خالف عمر ابن مسعود وعلي وزيد بن ثابت وابن عباس، فرأوا بيعهن، وأما الإلزم بالطلاق الثلاث فقد خالف عمر ابن عباس وغيره، وإذا اختلف الصحابة وغيرهم فالمعول عليه الدليل والحجة.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأنه تبعه بعضهم ممن لا يستطيع الاجتهاد والاستنباط وهذا كافٍ في جواز التقليد.
2- ونوقش أيضًا: بأن من وافق عمر في هاتين المسألتين وغيرهما لم يتبعه تقليدًا له، بل ذهب في ذلك إلى ما أداه إليه اجتهاده، ولم يقل أحد منهم إني رأيت ذلك تقليدًا لعمر.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن هذا في حق القادر على الاجتهاد والاستنباط، أما العاجز عن ذلك فإنه يتبعه تقليدا له، وهو كاف في الدلالة على المطلوب جواز التقليد عند الحاجة.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ2 ص 184 ، 277 ، وانظر الإحكام لابن حزم جـ 6 ص807.(1/51)
3- ونوقش أيضًا: بأنه على فرض أن الصحابة تبعوا عمر في هاتين المسألتين تقليدًا له، فليس في ذلك ما يدل على جواز تقليد مَن هو دون عمر بكثير في كل ما يقوله، وترك قول مَن هو مثله أو مَن هو أعلم منه.
ويجاب عن هذه المناقشة:
بأنه إذا جاز التقليد للصحابة جاز التقليد لمن دونهم من باب أولى، وأما ترك المقلِّد لمن هو مثل مقلَّده أو أعلم منه، فهذا من تعصب بعض الفقهاء، وهو خارج عما نحن فيه (1).
الدليل الثالث عشر:
ما قاله عمر، وقد احتلم مرة، فقال له عمرو بن العاص: خذ ثوبًا غير ثوبك. فقال: لو فعلتها صارت سنّة.
ووجه الدلالة: أن القصة دلت على أن عمرو بن العاص أشار على عمر بن الخطاب حينما احتلم أن يستبدل ثوبًا غير الثوب الذي أصابه أثر الاحتلام به؛ ليصلي فيه، استحسانًا من باب النظافة، فامتنع عمر من إبدال ثوبه؛ معتذرًا لعمرو بأنه لو فعل ذلك، واستبدل ثوبه بآخر لكان هذا الاستبدل سنة يقلد الناس فيها عمر، مع أن الاستبدل ليس بواجب؛ لأن المني طاهر، وإنما يستحب غسل رطبه وحكّ يابسه، وهذا إقرار من عمر للتقليد، فدل على جوازه.
ونوقش هذا الدليل: بأن معنى قول عمر:" لو فعلتها صارت سنة "، لو فعلتها لاستنّ بذلك الجهال بعدي، فترك عمر الاستبدال لئلا يقتدي به من يراه، ويقول: لولا أن هذا سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما فعله عمر، فهذا هو الذي خشيه عمر، وليس فيه إذن من عمر في تقليده، والإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن كون عمر خشي من تقليد العوام له دليل على أنه يرى جواز التقليد لهم، وهم حينما يقلدونه ليس في تقليدهم إعراض عن الكتاب والسنة؛ لأنهم مأمورون بتقليد العلماء (2).
الدليل الرابع عشر:
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص184، ص 23، والقول المفيد ص13، والإحكام لابن حزم جـ 6 ص814.
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 184 . ص 231 ، وانظر الإحكام لابن حزم جـ 6 ص 815 .(1/52)
قول أُبَيِّ بن كعب - رضي الله عنه - ما استبان لك فاعمل به، وما اشتبه عليك فكِلْه إلى عالمه.
ووجه الدلالة: أن أبيًّا وصّى بأنه إذا اشتبه شيء على الإنسان فإنه يَكِلْه إلى عالمه، وهو تقليده فيه، وهذا يدل على جواز التقليد.
ونوقش هذا الدليل:
بأن هذه الوصية من أُبي مبطلة للتقليد؛ لأن المقلدين إذا استبانت لهم السنة لا يتركون لها قول من قلدوه ويعملون بها، بل يتركونها ويعدلون إلى قوله، وليس في قول أُبي ما يدل على جواز الإعراض عن القرآن والسنن، واتخاذ رجل بعينه معيارًا، وترك النصوص لقوله وعرضها عليه.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن هذا الفعل خاص بطبقة معينة وهم المتعصبون لمذهب أئمتهم، مع أنهم يستطيعون فهم النصوص واستنباط الأحكام منها، وهؤلاء لا يجوز لهم التقليد، فهم خارجون عن حمل النزاع (1).
الدليل الخامس عشر:
ما ثبت من فعل الصحابة من إنهم كانوا يفتون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي بين أظهرهم.
ووجه الدلالة: أن في إفتائهم دليلا على تقليد المستفتين لهم؛ إذ أن قولهم يكون حجة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - بتقرير الرسول لهم.
ونوقش هذا الدليل: بأن فتوى الصحابة غالبًا إنما تكون تبليغًا عن الله ورسوله؛ لأنهم يفتون بالنصوص من الكتاب والسنة، فكانوا بمنزلة المخبرين فقط، ولم تكن فتواهم تقليدًا لرأي فلان وفلان، بل هي رواية، المستفتون إنما يعتمدون على ما يبلغونهم إياه عن نبيهم، ولا شك أن قبول الرواية ليس من التقليد في شيء، فإن قبول الرواية قبول للحجة، والتقليد إنما هو قبول الرأي، وفرق بين قبول الرواية وقبول الرأي، وأحيانًا تصدر الفتوى من الصحابة، فتبلغ النبي -عليه الصلاة والسلام- فيقرهم عليها، فتكون الحجة بإقراره -عليه الصلاة والسلام- لا بمجرد إفتائهم.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 184 ، ص 231 .(1/53)
ويجاب عن هذه المناقشة: بأنهم يفتون في غير الغالب بآرائهم واجتهادهم، والمستفتون يعتمدون على هذه الفتاوى منهم ويقلدونهم فيها، وهذا كاف في جواز التقليد (1).
الدليل السادس عشر:
ما صح عن ابن الزبير أنه سُئل عن الجد والإخوة، فقال: أما الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا - فإنه أنزله أبًا.
ووجه الاستدلال: أن هذا القول من ابن الزبير ظاهر في تقليده لأبي بكر، وهذا يدل على جواز التقليد.
ونوقش هذا الدليل: بأن ابن الزبير لم يخبر بذلك تقليدًا لأبي بكر، بل هو من باب الإضافة إلى الصِّدِّيق؛ لينبه على جلالة قائله، وأنه ممن لا يقاس غيره به , لا ليقبل قوله بغير حجة , ولا ليترك الدليل من القرآن والسنة لقوله، وابن الزبير وغيره من الصحابة أتقى لله من أن يقدموا قولا لأحد على كتاب الله وسنة نبيه، أو أن يتركوها لآراء الرجال ومذاهبهم، بل إن قول ابن الزبير: "إن الصّدّيق أنزله أبًا" متضمن للحكم وللدليل معًا.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن مسألة الجد مع الإخوة لا نص فيها من كتاب أو سنة، فقول ابن الزبير ظاهر في تقليده لأبي بكر، وليس في ذلك تقديم لرأي أبي بكر على القرآن والسنة؛ لعدم وجودهما في المسألة (2).
الدليل السابع عشر:
ما ورد عن الأئمة أنهم صرحوا بجواز التقليد، من ذلك:
(أ) قال حفص بن غياث، سمعت سفيان يقول: إذا رأيتَ الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه، وأنت ترى تحريمه، فلا تنهه.
(ب) وقال محمد بن الحسن، يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه، ولا يجوز له تقليد من هو مثله.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 184 ، 232 ، وانظر القول المفيد ص 13 .
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 184 و 234 .(1/54)
(جـ) وقال الشافعي: في الضبع بعير، قلته تقليدًا لعمر، وقال في مسألة بيع الحيوان بالبراءة من العيوب: قلته تقليدًا لعثمان، وقال: في مسألة الجد مع الإخوة: أنه يقاسمهم، ثم قال: وإنما قلت بقول زيد، وعنه قبلنا أكثر الفرائض، وقال في موضع آخر من كتابه الجديد: قلته تقليدًا لعطاء.
(د) وقال أبو حنيفة في مسائل الآبار: ليس معه فيها إلا تقليد من تقدمه من التابعين.
(هـ) وهذا مالك لا يخرج عن عمل أهل المدينة، ويصرح في موطئه بأنه أدرك العمل على هذا، وهو الذي عليه أهل العلم ببلدنا، ويقول في غير موضع: ما رأيت أحدًا اقتدى به يفعله.
ونوقش هذا الدليل بما يأتي:
1- أن دعوى أن جميع الأئمة صرحوا بجواز التقليد دعوى ممنوعة، بدليل أن الأئمة والصحابة نهوا عن تقليدهم، وعن الاستنان بآراء الرجال، وقد كانوا يذمّون التقليد وأهله، ويُسَمُّون المقلد "الإمعة" و"المحقب"، كما قال ابن مسعود: الإمعة الذي يحقب دينه الرجال (1) ويسمّونه الأعمى الذي لا بصيرة له، ويقولون إن المقلدين هم أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يركنوا إلى ركن وثيق، وسمَّى الشافعيُ المقلدَ: حاطب ليل، ونهى عن تقليده وتقليد غيره.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن ذم التقليد والمنع منه محمول على على من له قدرة على الاجتهاد والاستنباط، ولا يراد شموله العوام ومن في حكمهم جمعًا بين الأدلة.
2- ونوقش أيضًا: بأن هؤلاء الأئمة، الذين حكيتم عنهم أنهم جوزوا التقليد، هم من أعظم الناس بعدًا عن التقليد، واتباعًا للحجة والدليل، من ذلك:
__________
(1) - ورد في حديث ابن مسعود: (الإمعة فيكم اليوم المحقب الناس دينه )، وفي رواية: (الذي يحقب دينه الرجال). أراد الذي يقلد دينه لكل أحد ، أي يجعل دينه تابعًا لدين غيره بلا حجة ولا برهان ولا روية ، وهو من الإرداف على الحقيبة ا. هـ من لسان العرب جـ 1 ص 327 دار بيروت للطباعة والنشر.(1/55)
(أ) ما سبق عن الشافعي، أنه نهى عن التقليد، وسمى المقلد حاطب ليل.
(ب) وصحّ عن أبي حنيفة وأبي يوسف، أنهما قالا: لا يحلّ لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا، وهذا تصريح بتحريم التقليد.
(جـ) ومحمد بن الحسن من أتباع أبي حنيفة وخلافه له مشهور.
(د) وأما حفص بن غياث فليس في كلامه ما يدل على جواز التقليد، بل معنى قوله: "إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه، وأنت ترى تحريمه، فلا تنهه"، معناه: لا تنهه؛ لجواز أن يكون قد أداه اجتهاده على خلاف ما أداك اجتهادك إليه.
ويجاب عن هذه المناقشة: بما سبق من حمل الإنكار على غير العوام ومَن في حكمهم.
3- ونوقش أيضًا: بأن المقلدين لا يرون تقليد الصحابة والتابعين، الذين نقلوا عن الأئمة أنهم قلدوهم، فكان هذا حجة عليهم.
ويجاب عن هذه المناقشة: بعدم صحة ذلك؛ لتصريحهم بجواز تقليد الصحابة إذا صح النقل عنهم.
4- ونوقش أيضًا: بأنه على تسليم أن الأئمة يقلدون فإنهم يقلدون في مسائل يسيرة لم يظفروا فيها بنص عن الله ورسوله، لكنهم لا يعدلون عن الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، وعن معرفة الحق بدليله مع التمكن منه إلى التقليد، كما هو حال المقلدين.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأننا نقول بذلك، أما التقليد مع العدول عن الكتاب فهو في غير محل النزاع؛ لأن هذا وصف طبقة خاصة من المقلدين، وهم الفقهاء المقلدون لأئمتهم مع التعصب لهم، حتى ولو استبان لهم الحق (1).
الدليل الثامن عشر:
ما ثبت عن الشافعي أنه قال في الصحابة: رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا.
ووجه الدلالة: أن قول الشافعي دليل على تقليده للصحابة، وهذا يدل على جواز التقليد.
ونوقش هذا الدليل بما يأتي:
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 185 - 186 و ص 240 - 241، وانظر رسالة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بابطين في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية جـ 2 ص 126 .(1/56)
1- أن هناك فرقًا بين حال الأئمة وحال المقلدين، فالأئمة يرون أن رأي الصحابة خير من رأيهم، والمقلدون لا يرون رأي الصحابة خيرًا من رأي مقلديهم، ولذلك يتركون أقوال الصحابة لأقوال من يقلدونه.
ويجاب عن هذه المناقشة: بما سبق من أن التحقيق، أنه إذا ثبت النقل الصحيح عن الصحابة جاز تقليدهم.
2- ونوقش أيضًا: بأنه على تسليم صحة تقليد الصحابة، وأن الشافعي يرى جوازه- فليس في ذلك دليل على تقليد من عداهم؛ للمزية التي اختص بها الصحابة من غير مشاركة، من العلم والفهم والفضل والفقه، والتلقي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا واسطة، ونزول الوحي بلغتهم قبل فساد الألسنة، ورجوعهم إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أشكل عليهم من القرآن والسنة.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأنه إذا صح تقليد الصحابة جاز تقليد من بعدهم لعموم الأدلة الدالة على جواز تقليد العامة ومَن في حكمهم للعلماء.
3- ونوقش أيضًا: بأن قياس أقوال الأئمة على أقوال الصحابة في جواز التقليد قياس مع الفارق؛ لأن العلماء لم يختلفوا في أقوال مَن بعد الصحابة مِن الأئمة وغيرهم ليست بحجة، أما أقوال الصحابة فأكثر العلماء والذي نص عليه الأئمة أنها حجة، وإذا ثبت الفرق بطل القياس.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن الأدلة التي أجازت تقليد العامة للعلماء لم تفرق بين علماء الصحابة ومن بعدهم، وليس هذا من باب القياس، بل من باب عموم الدليل (1).
الدليل التاسع عشر:
ما ثبت أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فتحوا البلاد كان حديثُ العهد بالإسلام يسألهم فيفتونه، ولا يقولون له عليك أن تطلب معرفة الحق بدليله في هذه الفتوى، بل لا يعرف ذلك عن أحد منهم البتة.
ووجه الدلالة: أن إفتاء الصحابة لحديثِ العهد بالإسلام، وعدم تكليفه بمعرفة الدليل، يدل على جواز التقليد.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 186 و ص 186 و ص 241 - 242 و جـ 4 ص 122 .(1/57)
ونوقش هذا الدليل: بأن الصحابة إنما كانوا يفتون حديث العهد وغيره بما سمعوه من نبيهم وما بلغهم من كتاب ربهم لا بآرائهم، ولم يقل الصحابة للتابعين: لينصب كل منكم رجلا لنفسه، يقلده دينه، ولا يلتفت إلى غيره، كما هو حال المقلدين.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن الصحابة كانوا يفتون بآرائهم في بعض الأحايين، إذا لم يجدوا في تلك القضية التي سئلوا عنها نصًا من كتاب أو سنة، وكانوا يقولون للتابعين إذا لم تعلموا فاسألوا أهل العلم، وهذه دعوة إلى تقليد من يتيسر سؤاله من أهل العلم (1).
الأدلة العقلية
الدليل الأول:
أن الله -تعالى- قد جعل في فطر العباد تقليد المتعلمين للأساتذة والمعلمين، وذلك عام في كل علم وصناعة، ولا تقوم مصالح الخلق إلا بهذا، وهذا يدل على جواز التقليد.
ونوقش هذا الدليل: بأن ما ركزه الله في فطر عباده من تقليد المعلمين والأساتذة، لا يستلزم جواز التقليد في الدين، وقبول قول المتبوع بغير حجة، وتقديم قوله على قول من هو أعلم منه، وترك الحجة وأقوال أهل العلم لقوله، بل إن الله قد فطر عباده أيضًا على طلب الحجة والدليل المثبت لقول المدعي.
ومن ثم أقام الله -سبحانه- البراهين والأدلة القاطعة، والحجج الواضحة، والآيات العظيمة، التي تبهر العقول على صدق أنبيائه ورسله؛ إقامةً للحجة، وقطعًا للمعذرة، مع أن الأنبياء أصدق الخلق وأعلمهم، وأبرهم قلوبًا، وأكملهم في جميع الصفات، والانقياد للحجة أمر مشترك بين أجناس البشر، وإن خالف بعضهم عنادًا في الظاهر فهو مستيقن بصحته في الباطن، فما فطر الله عليه عباده من الانقياد للدليل والحجة والبحث عنه يبطل قول المقلدين (2).
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 186 و ص 247 .
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 186 و ص 243 و ص 244.(1/58)
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن ما فطر الله عباده عليه من طلب الحجة لا ينافي جواز التقليد؛ لأن من لا يستطيع البحث عن الدليل، كالعامة ومن في حكمهم، ليس لهم طريق إلا التقليد لمن يستطيع البحث عن الدليل، ولا يستلزم جواز التقليد، تقديم المقلد على قول من هو أعلم منه، وترك الحجة إذا ظهرت على خلاف قول من قلده، لكن العامي لا يستطيع معرفة ذلك.
الدليل الثاني:
أن الله قد فاوت بين قوى الأذهان كما فاوت بين قوى الأبدان، فلا يحسن في حكمته وعدله ورحمته أن يفرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله، والجواب عن معارضه في جميع مسائل الدين دقيقها وجليلها، ولو كان الأمر كذلك لتساوت أقدام الخلق في كونهم علماء، بل جعل -سبحانه- هذا عالمًا، وهذا متعلمًا، وهذا متبعًا للعالم مؤتمًا به، وقد علم -سبحانه- أن الحوادث والنوازل كل وقت نازلة بالخلق؛ فلا يعقل أن يحرِّم على الجاهل أن يكون متبعًا للعالم مؤتمًا به مقلدًا له، ويفرض عليه أن يأخذ حكم نازلته من الأدلة الشرعية بشروطها ولوازمها، وهل هذا في الإمكان، فضلا عن كونه مشروعًا.
ونوقش هذا الدليل: بأن تفاوت الاستعداد لا يستلزم التقليد في كل حكم، ونحن لا ننكر أن الله فاوت بين الأذهان، ولا ندعي أن الله فرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله في كل مسألة من مسائل الدين دقيقه وجليله، بل الذي ننكره وينكره الأئمة، ما عليه المقلدون من نصب رجل واحد، وجعل فتاويه بمنزلة نصوص الشارع، بل تقدم عليها وعلى أقوال الصحابة اكتفاء بتقليده، فإن هذا ينافي حكمة الله ورحمته وإحسانه، ويؤدي إلى ضياع دينه، وهجر كتابه وسنة رسوله، كما هو الواقع من المقلدين (1).
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن هذا وصف طبقة معينة من الفقهاء، وهم المتعصبون لأئمتهم، بحيث لا يقبلون قولا يخالف قولهم، وهذا خارج عن محل النزاع.
الدليل الثالث:
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 186 و ص 244 و 245.(1/59)
أن التقليد للعاجز عن النظر، والاستدلال أسلم له من طلب الحجة، ومانع التقليد إنما منعه خشية وقوع المقلد في الخطأ، بأن يكون من قلده مخطئًا في فتواه، ثم أوجب عليه النظر والاستدلال، ولا ريب أن صوابه في تقليده للعالم أقرب من صوابه في اجتهاده هو لنفسه، ومثله كمثل من أراد شراء سلعة لا خبرة له بها، فإنه إذا قلد عالمًا بتلك السلعة، خبيرًا بها، أمينًا ناصحًا، كان صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه، وهذا متفق عليه بين العقلاء.
ونوقش هذا الدليل بما يأتي:
1- أن دعوى أن التقليد أسلم من طلب الحجة ممنوعة، فإن من ظفر بالحجة متيقن أنه على صواب، بخلاف المقلد فإنه شاك في صوابه، ولا شك أن طالب الحجة والمعتمد عليها أسلم عند الله من المقلد.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن من ظفر بالحجة متيقن حقا أنه على صواب، ولكن هل يستطيع العامي الذي يحتاج إلى كسب معاشه الظفر بهذه الحجة ؟.
2- أن دعوى أن علة المنع من التقليد هي خشية الوقوع في الخطأ دعوى ممنوعة، بل إننا منعنا التقليد طاعةً لله ورسوله، حيث أن الله ورسوله قد منع من التقليد، وذم المقلدين في كتابه، وأمر بتحكيم كتابه ورسوله عند التنازع.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن التقليد للعامي ومن في حكمه طاعة لله ورسوله؛ إذ أنه مأمور بالسؤال عند عدم العلم.
3- أن دعوى: أن صواب المقلد في تقليده لمن هو أعلم منه أقرب من صوابه في اجتهاده دعوى ممنوعة؛ فإن المقلد إذا قلد من قد خالفه ممن هو أعلم منه أو نظيره في العلم، فإنه لا يدري مَن الصواب معه منهم، بل إنه كما قال الشافعي: " حاطب ليل، إما أن يقع بيده عود، أو أفعى تلدغه، أما إذا بذل جهده في معرفة الحق فإنه لا يخلو: إما أن يظفر بالحق والصواب فيكون له أجران، وإما أن يخطئ فيحصل على أجر واحد، وهذا بخلاف المقلد فإنه إن أصاب لم يؤجر وإن أخطأ فهو آثم.(1/60)
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن بذل الجهد من العامي المذكور متعذر، فلا سبيل له في معرفة الحكم إلا التقليد.
4- أن المقلد لا يكون أقرب إلى الصواب إلا إذا عرف أن الصواب مع مقلده دون غيره، ولا يعرف ذلك إلا إذا عرف الدليل، وحينئذ لا يكون مقلدًا بل يكون متبعًا للحجة والدليل.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأنه يكتفي في معرفة الصواب بالمعرفة الإجمالية، وهي تتحقق بتقليد المجتهد العالم بالكتاب والسنة.
5- أن الأقرب إلى الصواب عند تنازع العلماء من يرد المتنازَع فيه إلى القرآن والسنة، كما قال الله -تعالى-: { تمت ( - - ( ( - ((((- رضي الله عنه - - (- عليه السلام - - - - - (( - ((( - ( ( فهرس - صلى الله عليه وسلم - - - ( - - ( - فهرس - ( { ( - - - ( - قرآن كريم ( - { - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } (1) بخلاف المقلد الذي يرد المتنازع فيه إلى قول متبوعه، دون غيره ممن هو مماثل له في العلم أو أعلم منهن لا سيما إذا كان معه الدليل.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن الرد إلى قول المتبوع المماثل له في العلم ليس من التقليد المتنازع فيه، بل المتنازع فيه هو التقليد في فروع الدين للعامي ومن في حكمه.
6- أن المثال الذي ضربتموه في من أراد شراء سلعة إلخ...، حجة عليكم، فإن من أراد شراء سلعة، واختلف عليه اثنان أو أكثر، وكل منهم يأمره بضد ما يأمره به الآخر، فإنه يتوقف ولا يقدم على تقليد واحد حتى يتبين له الصواب، ولو أقدم على قول واحد، مع مساواة الآخر له في المعرفة والنصيحة والديانة؛ لعدّ مخاطرًا مذمومًا، ولم يمدح ولو أصاب. فكذلك المقلد قبل تبين الصواب مذموم (2).
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن المجيزين للتقليد لا يقولون بهذا في المثال ولا في التقليد قبل تبين الصواب أن هذا عالم مجتهد، فلا يكون حجة عليهم.
الدليل الرابع:
__________
(1) - سورة النساء آية : 59.
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 187 و 250 وما بعدها .(1/61)
أن العامي ومن في حكمه لم يرزق من الفهم والعلم ما يمكنه أن يأخذ الحكم من القرآن وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يبق له طريق إلا التقليد.
ونوقش هذا الدليل بما يأتي:
1- أن الله -سبحانه- أمر الناس أن بتدبر القرآن، فقال: { - - - (- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - تمت - - عليه السلام -(( - ( { ( - - - } (1) ولولا أن في وسعهم الفهم لأحكام القرآن ما أمرهم بتدبره، ولولا أن في وسعهم الفهم لكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أمره بالبيان للناس، ولا أمرهم بطاعته، والمقلدون من جملتهم، وقد قال الله -تعالى-: { - صدق الله العظيم ( - ( - - - - ( - ( - - - - ( - ((- رضي الله عنه - الله أكبر - صدق الله العظيم ( { - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم -(( - (- صلى الله عليه وسلم - } (2).
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن أخذ الأحكام لا يتوقف على الفهم فقط، بل يحتاج أيضًا إلى توفر المعيشة، والانقطاع إلى دراسة كتاب الله وسنة رسوله، والعلوم المساعدة على فهمها (3) وذلك غير ممكن من العامي ومن في حكمه.
2- يقال للمقلدين: كيف قصرت عقولكم عن فهم كلام الله، وتدبر كتابه، والأخذ به، واتسعت عقولكم للأخذ عمن تقلدونه، والفهم لما يقوله.
ويجاب عن هذه المناقشة: بالفرق. فإن فهم الحكم من كلام الله ورسوله يحتاج إلى مجهود وتوفر آلات الاجتهاد، بخلاف فهم الحكم من كلام المقلد، فإنه لا يحتاج إلى شيء من ذلك.
__________
(1) - سورة النساء آية : 82.
(2) - سورة البقرة آية : 286.
(3) - من النحو والصرف والبلاغة ومصطلح الحديث.(1/62)
2- أن الله لا يأمر بشيء إلا وقد أوضح الطرق الموصلة إليه، وسهّلها وبيّنها، وقد ضمن الله -تعالى- العون على فهم كلامه، ويسره للتدبر والتذكر، ولا شك أن وجوه معرفة أحكام الآيات والأحاديث التي أمرنا بقبولها بينة لمن طلبها.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن الطرق الموصلة إلى أخذ الأحكام من الكتاب والسنة واضحة لطالب العلم، لكن العامي الذي لم يصل إلى درجة استنباط الأحكام، يحتاج إلى جهد وانقطاع، تتعطل معه مصالحه في كسب معاشه، حتى يصل إلى هذه الطرق، وأما الإعانة على فهم الكتاب والسنة فهي إعانة على التحصيل والفهم، لا على توفير المال والإمكانيات لمعاش العامي ومعاش أهله (1).
الدليل الخامس:
أن المنع للعاجز عن أخذ الحكم من النصوص يوجب عليه النظر في الأدلة، والأدلة تشتبه عليه والصواب يخفى، والتقليد سليم في حقه، فوجب العدول إليه.
ونوقش هذا الدليل بما يأتي:
1- أن العلة التي مدحتم بها التقليد بها يذم التقليد، فإنه إذا كانت الأدلة تشتبه والصواب يخفى، وجب هجر التقليد لئلا يوقع في ضلال.
2- أن في التقليد إبطالا لمنفعة العقل التي أمر الله بالانتفاع بها، حيث قال -تعالى-: { - - - (- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - - - - - عليه السلام -(( - ( { ( - - - ( الله - صلى الله عليه وسلم - - - - فهرس - - رضي الله عنه -( - - قرآن كريم ( - ( - - - - رضي الله عنهم - - ( - - - (( - - صلى الله عليه وسلم - - (((( } (2).
وقال ابن الجوزي: اعلم أن المقلد على غير ثقة فيما قلد فيه، وفي التقليد إبطال منفعة العقل، وقبيح بمن أُعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة ا. هـ (3).
__________
(1) - انظر الإحكام لابن حزم جـ 6 ص 848 .
(2) - سورة محمد آية : 24.
(3) - انظر تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 79.(1/63)
ويجاب عن هاتين المناقشتين: بأن هذا يقال في حق القادر على الاستنباط والفهم من النصوص، فإنه يجب عليه هجر التقليد، وفي تقليده إبطال لمنفعة عقله، أما العامي ومن في حكمه فليس له طريق إلا التقليد، وهو مأمور بسؤال العلماء.
الدليل السادس:
أن المانع للتقليد مقر بأن الأئمة المقلَّدين على هدى، فوجب أن يكون من قلدهم من العامة على هدى؛ لأنهم متبعون لطريقتهم فيما يأمرونهم به.
ونوقش هذا الدليل: بأن المقلِّدين لو ساروا خلف الأئمة واتبعوا طريقتهم لأبطلوا التقليد، فإن طريقة الأئمة اتباع الحجة والدليل، وقد نهوا الناس عن تقليدهم، فمن ارتكب ما نهى عنه الأئمة من التقليد فليس على طريقتهم، بل هو من المخالفين لهم.
ويجاب عن هذه المناقشة: بأن الأئمة إنما نهوا القادر على الاستنباط عن التقليد، لكنهم لم ينهوا العامة العاجزين عن النظر في المنزل من الكتاب والسنة، فهؤلاء إذا قلدوا فقد ساروا على طريقتهم، وهم حينئذ مهتدون وليسوا ضالين (1).
المبحث الثاني
في مناقشة المقلدين
تقليد المتعصبين من الفقهاء لأئمتهم، رغم مخالفة ما نقل عن أئمتهم للصحيح من الكتاب والسنة، هل هو جائز أو غير جائز.
لا يجوز هذا إلا إذا وجد ما يبيح التقليد مما يدخل تحت أحد الأصناف الثلاثة التي يجوز لها التقليد.
ذكر بعض المناقشات والأمثلة التي تبين عدم الجواز، مع تحليلها، واستخلاص النتيجة المذكورة.
مناقشة المقلدين المتعصبين لأئمتهم والاحتجاج عليهم بحجج عقلية:
المناقشة الأولى:
يقال لمن حكم بالتقليد: هل لك من حجة فيما حكمت به؟ فإن قال: نعم. بطل التقليد؛ لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد، وإن قال: حكمت بغير حجة. قيل له: فلم أريقت الدماء، وأبيحت الفروج، وأتلفت الأموال، وقد حرم الله ذلك إلا بحجة ؟
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 170 - 171 .(1/64)
فإن قال: أنا أعلم أني أصبت، وإن لم أعرف الحجة؛ لأني قلدت كبيرًا من العلماء، وهو لا يقول إلا بحجة خفيت عليّ. قيل له: إذا جاز تقليد معلمك؛ لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك، فتقليد معلم معلمك أولى؛ لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك، كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك.
فإن قال: نعم. ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه، وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن أبى ذلك نقض قوله، وقيل له: كيف تجوز تقليد من هو أصغر وأقل علمًا، ولا تجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علما؟ فهذا تناقض.
فإن قال: لأن معلمي وإن كان أصغر فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه، فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك. قيل له: وكذلك من تعلم من معلمك فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه، فيلزمك تقليده وترك تقليد معلمك، وكذلك أنت أولى بتقليد نفسك من معلمك؛ لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك. فإن قلد قوله جعل الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع، والتابع مَن دونه في قياس قوله، والأعلى للأدنى، وكفى بقول يؤول إلى هذا تناقضا وفسادًا (1).
المناقشة الثانية:
__________
(1) - انظر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر جـ 2 ص 142 - 143، وانظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 177 - 178، ، وانظر الفقيه والمتفقه جـ 8 ص 69 - 70 ، وانظر إرشاد الفحول ص 268 - 269 .(1/65)
يقال للمقلدين المتعصبين لأئمتهم: هل دين الله عندكم: الأقوال المختلفة المتضادة، التي يناقض بعضها بعضها، ويبطل بعضها بعضًا، أم هو واحد لا يتعدد؟ فإن قالوا: بل هذه الأقوال المتضادة المتعارضة كلها دين الله. خرجوا عن نصوص أئمتهم؛ فإن جميعهم متفقون على أن الحق في واحد، كما أن القبلة في جهة من الجهات، وخرجوا أيضًا عن نصوص القرآن والسنة والمعقول الصريح، وجعلوا دين الله تبعًا لآراء الرجال.
وإن قالوا: الصواب أن دين الله واحد، وهو ما أنزل الله به كتابه وأرسل به رسوله، كما أن نبيه واحد وقبلته واحدة. قيل لهم: فالواجب إذن طلب الحق، وبذل الجهد في الوصول إليه بحسب الإمكان، فقد أوجب الله على الخلق تقواه بحسب استطاعتهم، ومعرفة ما به تكون التقوى لا تكون إلا بنوع اجتهاد منكم، وطلب وتحرٍّ للحق دون التقليد (1).
المناقشة الثالثة:
يقال للمقلد المتعصب: بأي شيء عرفت أن الصواب مع من قلدته دون من لم تقلده ؟ فإن قاله: عرفته بالدليل. قيل له: لست بمقلد حينئذ. وإن قال: عرفته تقليدًا له؛ لأنه أفتى بهذا القول ودان به، وعلمه ودينه وحسن ثناء الأمة عليه يمنعه أن يقول غير الحق. قيل له: أفمعصوم هو عندك، أم يجوز عليه الخطأ ؟
فإن قال: إنه معصوم. فقد خالف الأدلة الدالة على أنه لا عصمة لغير محمد - صلى الله عليه وسلم - من البشر، وإن جوز عليه الخطأ، قيل له: فما يؤمنك أن يكون قد أخطأ فيما قلدته فيه وخالف فيه غيره. فإن قال: إنه إن أخطأ فهو مأجور. قيل له: هو مأجور لاجتهاده، وأنت غير مأجور؛ لأنك لم تأت بموجب الأجر، بل قد فرطت في الاتباع الواجب، فأنت مأزور.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 211 .(1/66)
فإن قال: كيف يأجره الله على ما أفتى به، ويثني عليه، ويذم المقلد له؟ قيل له: المقلَّد إن قصر وفرط في معرفة الحق مع قدرته عليه لحقه الذم والوعيد، وإن بذل جهده ولم يقصر واتقى الله ما استطاع فهو مأجور، وأما المتعصب الذي يجعل قول متبوعه عيارًا على الكتاب والسنة وأقوال الصحابة يزنها به، ما وافق قول مقلده منها قبله، وما خالفه رده، فهذا يذم ويلحقه الوعيد.
وإن قال: قلدته ولا أدري: أعلى صواب هو، أم لا؟ فالعهدة على القائل، وأنا حاك لأقواله. قيل له: فهل تتخلص بهذا عند سؤالك أمام الله عما حكمت به بين عباد الله وأفتيتهم به، فإن للحكام والمفتين لموقفًا للسؤال لا يتخلص منه إلا من عرف الحق، وحكم به وأفتى به دون من عداه (1).
المناقشة الرابعة:
يقال للمقلد المتعصب: لم أخذت بقول فلان ؟ هل ذلك لأن فلانا قاله، أو لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قاله ؟ فإن قال: لأن فلانا قاله. فيقال له: فقد جعلت قوله حجة، وهذا عين الباطل. وإن قال: لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله، كان هذا أعظم وأقبح؛ لتضمنه لأمرين عظيمين، أحدهما: الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثاني: التقول على المتبوع مما لم يقله، فإنه لم يقل: إن هذا قول رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، فقد لزم المقلد المتعصب أحد أمرين لا ثالث لهما:
الأول: جعل قول غير المعصوم حجة.
الثاني: تقويل المعصوم ما لم يقله، وكلاهما عظيم عند الله (2).
المناقشة الخامسة:
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 213 .
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 214 .(1/67)
يقال للمقلد المتعصب لإمامه: هل يجوز أن يخفي على من قلدته بعض شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما خفي ذلك على سادات الأمة أولا؟ فإن قال: لا يخفى عليه شيء من ذلك. بلغ في الغلو فيه مبلغ مدعي العصمة في الأئمة، وإن قال: يجوز أن يخفى عليه شيء. قيل له: فنحن نناشدك الله، إذا قضى الله ورسوله أمرًا خفي على من قلدته، هل تبقى لك الخيرة بين قول إمامك ورده، أم تنقطع خيرتك؟ ويجب عليك العمل بما قضاه الله ورسوله دون سواه؛ فأعد لهذا السؤال جوابًا، وللجواب صوابًا (1).
أمثلة من تخبط المقلدين
في الأخذ ببعض السنة وترك بعضها الآخر
لقد أخذ المقلدون المتعصبون لأئمتهم يهيمون على وجوههم، ويتخبطون خبط عشواء، فأخذوا ببعض السنة، وتركوا بعضها الآخر؛ تعصبًا لأئمتهم ومذاهبهم؛ فنجدهم يحتجون بالحديث فيما لم يرد به وما لم يدل عليهن ويبطلون الاحتجاج به فيما أريد به ودل عليه، ويتبين ذلك واضحًا منهم في الأمثلة الآتية:
المثال الأول:
احتج طائفة من الفقهاء بحديث: - نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل الرجل بفضل وضوء المرأة، والمرأة بفضل الرجل - (2) على سلب طهورية الماء المستعمل في رفع الحدث، وقالوا: فضل وضوئهما: هو الماء المنفصل عن أعضائهما، وجوزوا لكل من الرجل والمرأة أن يتوضأ بالفاضل والباقي من طهور الآخر، وليس للخلوة عندهم أثر، ولا لكون الفضلة فضلة امرأة أثر.
مع أن هذا هو المقصود بالنهي في الحديث، فخالفوه وحملوا الحديث على غير محمله، فإن فضل الوضوء يقينًا هو الماء الذي فضل من المتوضئ وليس هو الماء المتوضأ به؛ إذ لا يقال له فضل الوضوء، فاحتجوا بالحديث فيما لم يرد به، وأبطلوا الاحتجاج فيما أريد به (3).
المثال الثاني:
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 253 - 254 .
(2) - انظر سنن ابن ماجه جـ 1 ص 133 مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه .
(3) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 196 .(1/68)
استدل طائفة منهم بحديث ابن عباس في الذي وقصته ناقته وهو محرم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - - لا تخمِّروا رأسه ولا وجهه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا - (1) على منع المحرم من تغطية وجهه، ثم خالفوه، وقالوا: إذا مات المحرم جاز تغطية رأسه ووجهه، وقد بطل إحرامه (2).
المثال الثالث:
احتجوا على إسقاط الضمان بجناية المواشي بقوله -عليه السلام-: - العجماء جرحها جُبَار - (3) ثم خالفوا الحديث، وقالوا: من ركب دابة أو قادها أو ساقها فهو ضامن لمن عضت بفمها، ولا ضمان عليه فيما أتلفت برجلها (4).
وعندي: أن قول الفقهاء ليس فيه مخالفة للحديث؛ لأن من ركب دابة أو قادها فهو متصرف فيها، ويقدر على منعها، فيضمن ما أتلفته بفمها دون ما أتلفته برجلها؛ لأنه لا يقدر على منعها منه، فيكون الحديث محمولا على ما أتلفته برجلها، إذا كان معها راكب أو قائد أو سائق، وكذلك يشمل الحديث ما أتلفته مطلقًا إذا لم يكن معها أحد.
المثال الرابع:
احتجوا بالحديث الصحيح: - عن عمر بن الخطاب أنه نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفي بنذره - (5).
احتجوا به على عدم اشتراط الصوم في الاعتكاف كما دل عليه الحديث، ثم خالفوا الحديث فيما دل عليه أيضًا، وقالوا: إن نذر الكافر لا ينعقد، ولا يلزم الوفاء به بعد الإسلام (6).
المثال الخامس:
__________
(1) - أخرجه مسلم وأخرجه البخاري بدون قوله: " ولا وجهه " .
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 198.
(3) - رواه الجماعة.
(4) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 199 .
(5) - الحديث رواه البخاري .
(6) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 202 .(1/69)
احتجوا بحديث بُسر بن أرطأة أنه وجد رجلاً يسرق في الغزو، فجلده ولم يقطع يده، وقال: - نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القطع في الغزو - (1). احتجوا به على أن الحدود تسقط عن المسلم في دار الحرب إذا فعل ما يوجبها، ثم خالفوا الحديث وقالوا: لا أثر للسفر ولا للغزو في ذلك (2).
المثال السادس:
احتجوا بحديث المصراة: - لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردّها وصاعًا من تمر - (3) على أن خيار الشرط لا يكون أكثر من ثلاثة أيام، مع أنه ليس في الحديث تعرض لخيار الشرط لا يكون أكثر من ثلاثة أيام، مع أنه ليس في الحديث تعرض لخيار الشرط، وخالفوا ما دل عليه الحديث من إثبات خيار التدليس، فلم يقولوا به (4).
المثال السابع:
احتجوا بحديث: - القصعة التي كسرتها إحدى أمهات المؤمنين، فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - على صاحبة القصعة نظيرتها - (5). احتجوا به على تضمين المتلف ما أتلفه، وأنه يملك هو ما أتلفه، ثم خالفوا الحديث، فقالوا: إنما يضمن بالدراهم والدنانير ولا يضمن بالمثل (6).
المثال الثامن:
احتجوا بحديث سعيد بن المسيب: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع اللحم بالحيوان - (7). على المنع من بيع الزيت بالزيتون، إلا بعد العلم بأن ما في الزيتون من الزيت أقل من الزيت المفرد، ثم خالفوا الحديث فيما دل عليه، وقالوا: يجوز بيع اللحم بالحيوان من نوعه وغير نوعه (8).
__________
(1) - رواه أحمد وأبو داود والنسائي .
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 199 .
(3) - الحديث متفق عليه .
(4) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 197 .
(5) - رواه الترمذي وصححه .
(6) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 205 .
(7) - رواه مالك في الموطأ .
(8) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 207 .(1/70)
ذكر بعض ما روي عن الصحابة من النهي عن الأخذ بآراء الرجال للقادر على الأخذ من الكتاب والسنة، وما روي عن الأئمة الأربعة من الذم لمن قلدهم بغير حجة وهو قادر على أخذ الحجة من مصدرها - الكتاب والسنة.
نهي الصحابة عن الاستنان بالرجال
روي عن الصحابة نصوص كثيرة في النهي عن الأخذ بآراء الرجال والأمر بالأخذ بالسنة نذكر بعضها فيما يلي:
1- ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله، عن أبي البختري، عن علي - رضي الله عنه - قال: إياكم والاستنان بالرجال؛ فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة، ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار، فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة، فيموت وهو من أهل الجنة، فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء.
2- وقال ابن مسعود: ألا لا يقلدن أحدكم دينه الرجال، إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في البشر.
3- وعن زرّ بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول: اغد عالمًا أو متعلمًا، ولا تغد إمعة فيما بين ذلك.
4- وعن ابن مسعود قال: كنا ندعو الإمعة في الجاهلية: الذي يُدعي إلى الطعام فيذهب معه بغيره، وهو فيكم اليوم المحقب (1) دينه الرجال.
__________
(1) - سبق تفسير معنى المحقب تعليقًا على المناقشة الأولى على الدليل السابع عشر .(1/71)
5- وقال عبد الله بن المعتمر (1) لا فرق بين بهيمة تنقاد وإنسان يقلد (2).
نهيُ الأئمة الأربعة عن تقليدهم
وذمهم لمن أخذ أقوالهم بغير حجة
رُوي عن الأئمة الأربعة نقول كثيرة في المنع من تقليدهم، والأمر بتقديم النص من الكتاب والسنة على آرائهم لمن هو قادر على ذلك، وهي حجة على المتعصبين من الفقهاء الذين يتعصبون لمذاهبهم مع قدرتهم على الاستنباط من الكتاب والسنة ومعرفة الحق بدليله، نذكر بعض ما نقل عنهم لتكون حجة على هؤلاء:
مما روي عن الإمام أبي حنيفة:
1- روي عنه، وعن صاحبه أبي يوسف، أنهما قالا: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلنا (3).
__________
(1) - اختلف في ضبط اسم " المعتمر " ففي كتاب الإصابة في تمييز الصحابة جـ 2 ص 364 - 365 ما نصه : عبد الله بن مغنم ، بالمعجمة والنون وزن جعفر ، ضبطه ابن ماكولا، وقال له صحبة ورواية ، روى عنه سليمان بن شهاب العبسي في ذكر الدجال ، وروى حديثه البخاري في تأريخه، وابن السكن، والحسن بن سفيان، والطبراني من طريق حلام بن صالح عن سليمان بن شهاب العبسي، قال : نزل علي عبد الله بن مغنم، وكان من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحدثني عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : الدجال ليس به خفاء، وإنما يأتي من قبل المشرق، فيدعو إلى حق فيتبع، ويظهر على الناس فلا يزال على ذلك حتى يقول إنه نبي ، الحديث بطوله ، قال البخاري: له صحبة ولم يصح إسناده ، وقال أبو حاتم وأبو أحمد العسكر وابن عبد البر في اسم أبيه: " المعتمر "، بضم أوله والمهملة وفتح المثناة وآخره راء ا . هـ.
(2) - انظر جامع بيان العلم وفضله جـ 2 ص 136 - 139، وانظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 176 - 177 .
(3) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 182 ، وانظر مجموعة الرسائل والمسائل النجدية جـ 2 رسالة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بابطين ص 126 ، وانظر القول المفيد ص 16 .(1/72)
2- وقال أبو حنيفة: هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت فمن جاء برأي خير منه قبلناه، ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه -أبو يوسف- بمالك فسأله عن مسألة الصاع وصدقة الخضروات، ومسألة الأجناس، فأخبره مالك بما تدل عليه السنة في ذلك، فقال: رجعت إلى قولك، يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيتَ لرجع إلى قولك كما رجعتُ (1).
3- وقال أبو حنيفة: علمنا هذا رأيي وهو أحسن ما قدرنا عليه، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه منه (2).
4- وقد روى جماعة من أصحاب أبي حنيفة أنه قيل له: إذا قلت قولا وكتاب الله يخالفه؟ قال: اتركوا قولي بكتاب الله. فقيل له: إذا كان خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخالفه ؟ قال: اتركوا قولي بخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فقيل له: إذا كان قول الصحابي يخالفه، فقال: اتركوا قولي بقول الصحابي ا. هـ (3).
مما روي عن الإمام مالك:
1- قال معن بن عيسى: سمعت مالكًا يقول: إنما أنا بشر أخطيء وأصيب، فانظروا في قولي، فكل ما خالف الكتاب والسنة فاتركوه هـ (4).
__________
(1) - انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جـ 2 ص 211 .
(2) - انظر مجموع الرسائل والمسائل النجدية جـ 2 رسالة الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر ص 3 .
(3) - انظر رسالة القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد للشوكاني ص 23 .
(4) - انظر مجموع الرسائل، والمسائل النجدية جـ 2 رسالة الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر ص 3 ، وانظر مجموع فتاوى ابن تيمية جـ 20 ص 211 ، وانظر القول المفيد ص 16 و 23 .(1/73)
2- وقال جعفر الغرياني: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني الهيثم بن جميل، قال: قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله، إن قومًا وضعوا كتابًا، يقول أحدهم: حدثنا فلان، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بكذا وكذا، وفلان عن إبراهيم بكذا، ويأخذ بقول إبراهيم. قال مالك: وصحّ عندهم قول عمر. قلت: إنما هي رواية، كما صح عندهم قول إبراهيم. فقال مالك: هؤلاء يستتابون (1).
ووجه الدلالة من هذه القصة:
أن مالكًا صرّح بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب؛ وذلك لأن احتمال الخطأ في آراء إبراهيم أكثر من احتمال الخطأ في آراء عمر بن الخطاب، وهذا يدل على أن مالكًا ينهى عن تقليده ويذم من أخذ قوله بغير حجة.
3- وقال ابن القاسم: كان مالك يكثر أن يقول: إن نظن إلا ظنًّا، وما نحن بمستيقنين (2).
ووجه الدلالة: أن مالكًا إذا كان يرى في آرائه احتمال الخطأ، فيكون من الواضح عدم دعوة غيره إلى تقليده في هذا الخطأ.
4- وقال مالك عند موته: وددت أني ضربت بكل مسألة تكلمت فيها برأيي سوطًا، على أنه لا صبر لي على السياط (3).
ووجه الاستدلال: أن مالكًا تمنى عند موته أن لو ضرب سوطًا على كل مسألة تكلم فيها برأيه؛ خوفًا من أن يقلد فيها وهو مخطيء، فيكون من الواضح أنه ينهى عن تقليده في الخطأ.
مما روي عن الإمام الشافعي:
1- قال -رحمه الله-: مثل طالب العلم بلا حجة كحاطب ليل، يحمل حزمة حطب، وفيها أفعى تلدغه وهو لا يدري (4).
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 182 ، وانظر مجموعة الرسائل والمسائل النجدية جـ 2 رسالة الشيخ حمد بن معمر ص 26 .
(2) - انظر مجموعة الرسائل والمسائل النجدية جـ 2 رسالة الشيخ حمد بن معمر ص 3 .
(3) - انظر الإحكام لابن حزم جـ 6 ص 880 .
(4) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 181 و جـ 4 ص 233 وانظر مجموعة الرسائل والمسائل النجدية جـ 2 رسالة الشيخ حمد بن معمر ص 27 .(1/74)
2- وقال: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي (1).
3- وفي مختصر المزني لمّا ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه، قال: مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء (2).
4- وقال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوا ما قلته (3).
5- وقال: إذا صح الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقلت أنا قولا، فأنا راجع عن قولي وقائل بذلك الحديث (4).
6- وعن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: كل مسألة يصح فيها الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد مماتي (5).
7- ونقل إمام الحرمين في نهايته، عن الشافعي أنه قال: إذا صح خبر يخالف مذهبي فاتبعوه، واعلموا أنه مذهبي (6).
8- وقال حرملة بن يحيى: قال الشافعي: ما قلت وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال بخلاف قولي، فما صح من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى، ولا تقلدوني (7).
مما روي عن الإمام أحمد:
1- قال أبو داود: قلت لأحمد: الأوزاعي هو أتبع من مالك. قال: لا تقلد دينك أحدًا من هؤلاء، ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فخذ به، ثم التابعين بعدُ الرجل فيه مخيّر (8).
__________
(1) - انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جـ 20 ص 211 ، وانظر مجموعة الرسائل والمسائل النجدية جـ 2 رسالة الشيخ حمد بن معمر ص 3 .
(2) - انظر فتاوى ابن تيمية رحمه الله جـ 20 ص 211 وانظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 181 .
(3) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 233 .
(4) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 233 .
(5) - انظر القول المفيد ص 24 .
(6) - انظر القول المفيد ص 24 .
(7) - انظر القول المفيد ص 24 .
(8) - انظر إعلام الموقعين جـ2 ص 181 وانظر القول المفيد ص 54 - 55 .(1/75)
2- وقال أبو داود: قال لي أحمد لا تقلدوني ولا مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا، وفي رواية: وتعلموا كما تعلمنا (1).
3- وقال: لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسْلَموا من أن يغلطوا (2).
4- وقال: من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال (3).
5- وقال: من ضيق علم الرجل أن يقلد في اعتقاده رجلا (4).
6- وقال: عجبتُ لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله -سبحانه- يقول: { ( - - - ( - - عليه السلام - - ( - - ( - رضي الله عنه -((( - { - - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((( - - - - ( - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( ((( فهرس ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - تمت - صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات ( - - - - ((( - ( { - عليه السلام - - ( - (( (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات ( - - - - ((( - ( - - - - - رضي الله عنه -( ( بسم الله الرحمن الرحيم - ( - - صلى الله عليه وسلم - - (((( } (5). أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا ردّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك (6).
طريق أهل العلم خلاف ما عليه المقلدون
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 182 ، وانظر مجموعة الرسائل النجدية جـ 2 رسالة الشيخ حمد بن معمر ص 3 .
(2) - انظر رسالة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بابطين ص 126 ، وانظر مجموع فتاوى ابن تيمية جـ 20 ص 211 و جـ 6 ص 215 .
(3) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 182 وانظر القول المفيد للشوكاني ص 26 .
(4) - انظر كتاب تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 79 .
(5) - سورة النور آية : 63.
(6) - انظر مجموعة الرسائل، والمسائل النجدية جـ 2 رسالة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بابطين ص 126 .(1/76)
لا يخفى على كل عاقل أن طريق أهل العلم لا يتفق مع ما عليه المقلدون المتعصبون لأئمتهم من الفقهاء، فإن طريق أهل العلم: طلب أقوال العلماء، وضبطها، والنظر فيها، وعرضها على القرآن الكريم والسنن الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقوال خلفائه الراشدين، فما وافق منها الكتاب أو السنة أو أقوال الخلفاء الراشدين قبلوه، ودانو به، وحكموا به، وأفتوا به، وما خالف شيئًا منها ردوه ولم يلتفتوا إليه، وما لم يتبين لهم فيه شيء اجتهدوا فيه، وكان عندهم سائغ الاتباع، لا واجب الاتباع، من غير أن يلزموا بها أحدًا، أو يقولوا: إنها الحق، وما خالفها هو الباطل.
وأما المقلدون المتعصبون فعلى ضد طريقة أهل العلم، فإنهم قلبوا الأوضاع، فعمدوا إلى كتاب الله وسنة رسوله وأقوال خلفائه وأصحابه، فعرضوها على أقوال مقلديهم، فما وافقها منها قبلوه وانقادوا له مذعنين، وما خالف أقوال من يقلدونه لم يقبلوها، واحتالوا في ردها، وتطلبوا لها وجوه الحيل بكل ما يستطيعون.
قال سند بن عنان المالكي في شرحه في مدوّنة سحنون:
واعلم أن مجرد الاقتصار على محض التقليد لا يرضى به رجل رشيد، وإنما هو شأن الجاهل البليد أو الغبي العنيد.
وقال أيضًا: نفس المقلد ليس على بصيرة، ولا يتصف من العلم بحقيقة؛ إذ ليس التقليد بطريق إلى العلم بوفاق أهل الوفاق (1).
المقلدون المتعصّبون مخالفون أمر الله، وأمر رسوله، وهدي أصحابه، وأمر أئمتهم، إن هؤلاء المتعصبين من الفقهاء في تقليدهم لأئمتهم في آرائهم واجتهاداتهم التي يخطئون فيها ويصيبون، يخالفون ما أمر الله به، ويخالفون ما أمر به رسوله، ويخالفون ما عليه صحابته، ويخالفون أوامر أئمتهم.
أما مخالفتهم لأمر الله:
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 208 - 209 ، وانظر القول المفيد في حكم التقليد ص 16 .(1/77)
فإن الله -سبحانه- أمر برد ما تنازع فيه المسلمون إليه وإلى رسوله، كما في قوله -سبحانه-: { تمت ( - - ( ( - ((((- رضي الله عنه - - (- عليه السلام - - - - - (( - ((( - ( ( فهرس - صلى الله عليه وسلم - - - ( - - ( - فهرس - ( { ( - - - ( - قرآن كريم ( - { - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } (1) والمقلدون يردون ما تنازعوا فيه إلى من قلدوه.
وأما مخالفتهم لأمر رسول الله -عليه الصلاة والسلام-:
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عند الاختلاف بالأخذ بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين، وأمر أن يُتمسك بها، فقال -عليه الصلاة والسلام-: - فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ - (2) والمقلدون يتمسكون عند الاختلاف بقول من قلدوه، ويقدمونه على كل من سواه.
وأما مخالفتهم لهدي الصحابة: فمن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن فيهم شخص واحد وهو يقدر على الاستنباط والاجتهاد يقلد رجلا واحدًا، يتعصب له في جميع أقواله، ويخالف من عداه من الصحابة، بحيث لا يردّ من أقواله شيئًا ولا يقبل من أقوال غيره شيئًا، كما هو حال المقلدين المتعصبين.
وأما مخالفتهم لأقوال أئمتهم: فإن الأئمة نهوهم عن تقليدهم، وحذروهم من الأخذ بأقوالهم عند مخالفتها للنصوص، فخالفوهم وأخذوا بآرائهم، وتركوا نصوص الكتاب والسنة (3).
الفصل الثاني
في أسباب التقليد ومراحله
وفيه المباحث التالية
(أ) أسباب التقليد.
(ب) أسباب انتشار المذاهب الأربعة.
(جـ) عصر التقليد.
(د) مراحل التقليد في هذا العصر.
(هـ) أسباب جمود الفقه الإسلامي في ذلك العصر.
المبحث الأول:
(أ) أسباب التقليد:
إن للتقليد أسبابًا تدعو إليه، أهمها الأسباب التالية:
__________
(1) - سورة النساء آية : 59.
(2) - الحديث سبق تخريجه.
(3) - انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 208 - 209 .(1/78)
1- احترام المرء لآبائه ومربيه، ولذلك أنكر فرعون على موسى -عليه الصلاة والسلام- مخالفته له وقد رباه في حجره، قال الله -تعالى- حكاية عنه أنه قال لموسى: { ( بسم الله الرحمن الرحيم - - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - ( فهرس - - رضي الله عنه - - ( الله أكبر - - عليه السلام - - - (( - - جل جلاله - - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - تمهيد ( الله ( تمهيد - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - - - (( ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - - ( - ( - (( - رضي الله عنه -((( - ( - (((( } (1).
2- اعتقاد عظمة أسلافه من رجال الدين، ولذلك كان المشركون من قريش يعظمون أسلافهم وينتهجون طريقتهم، ويوصي بعضهم بعضًا بالمضي على دينهم، ولهذا أنكروا على النبي - صلى الله عليه وسلم - خروجه على دين آبائهم وأسلافهم، وقالوا له في مبدأ دعوته: " لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة ".
وقالوا لبعضهم حينما جاءوا إلى عمه أبي طالب، عندما حضرته الوفاة، يطلبون منه أن يدعو النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ له منهم ليكف عنهم ويكفوا عنه، لمّا لم يفد ذلك، قالوا لبعضهم: " إنه والله، ما هذا الرجل بمعطيكم شيئًا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه ا. هـ (2).
قال ابن الجوزي رحمه الله: " دخل إبليس على هذه الأمة في عقائدها من طريقين:
أحدهما: التقليد للآباء والأسلاف، ثم قال: وقد ضل في هذا الطريق خلق كثير، وبه هلاك عامة الناس، فإن اليهود والنصارى قلدوا آباءهم وعلماءهم فضلّوا، وكذلك أهل الجاهلية ا. هـ (3).
__________
(1) - سورة الشعراء آية : 18.
(2) - انظر البداية والنهاية لابن كثير جـ 3 ص 42 ، و ص 50 و ص 123 .
(3) - انظر تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 78 - 79 .(1/79)
3 - الحذر من إنكار الناس المختصين به واعتراضهم عليه، إذا حاول أن يخرج عما هم عليه، ولذلك قال أبو طالب للنبي - صلى الله عليه وسلم - حينما حضرته الوفاة، وقد عرض عليه أن يقول كلمة التوحيد، قال: " والله لولا مخافة السُّبَّة عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعًا من الموت، لقلتها "، وبين في قصيدته النونية أنه لم يمنعه من الدخول في دين الإسلام إلا مَلامَة الناس، والحذر من مسبتهم، وأنه مستيقن أن دين محمد -عليه الصلاة والسلام- خير دين، قال يخاطب الرسول - صلى الله عليه وسلم -
ودعوتني وعلمتُ أنك ناصحي ... ... فلقد صدقت وكنت قدم أمينًا
وعرضت دينًا قد عرفتُ بأنه ... ... من خير أديان البرية دينًا
لولا الملامة أو حذاري سُبَّة ... ... لوجدتني سمحًا بذاك مبينًا (1)
قال الشيخ محمد رشيد رضا: " فمن لم يحترم نفسه واستقلال فكره، ويمرن نفسه على الأخذ بما يعتقد أنه الحق، وإن خالف الآباء والمعلمين والأحياء والأموات غير المعصومين من الخطأ، فلا يمكنه أن ينطلق من قيود التقليد " ا. هـ (2).
وقال الشيخ محمد عبده: صرف -أي الإسلام- القلوب عن التعليق بما كان عليه الآباء، وما توارثه عنهم الأبناء، وسجل الحمق والسفاهة على الأخذين بأقوال السابقين " ا. هـ.
وقال: أَنْحَى الإسلام على التقليد، وحمل عليه حملة لم يردها عنه القدر، فبددت فيالقه المتغلبة على النفوس، واقتلعت أصوله الراسخة في المدارك، ونسقت ما كان له من دعائم ا. هـ.
قلت: قوله: لم يردها عنه القدر، ليس بصحيح، فإن القدر لا يرد؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن ثوبان مرفوعًا، وفيه وإن ربي قال: يا محمد، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد.
__________
(1) - انظر البداية والنهاية لابن كثير جـ 3 ص 43 ، و ص 50 و ص 123 .
(2) - انظر تعليقه على رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده ص 157 .(1/80)
وقال: عاب أرباب الأديان في اقتفائهم أثر آبائهم ووقوفهم عندما اختطته لهم سير أسلافهم، وقولهم: { ( - - رضي الله عنه - - ((( - ( - - رضي الله عنه - الله أكبر - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - رضي الله عنه - الله أكبر ( - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( مقدمة ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - - - رضي الله عنه - الله أكبر - عليه السلام -( - - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( } (1) { - ( الله أكبر ( { - - - رضي الله عنه - الله أكبر ( - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - الله أكبر - عليه السلام -( - - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( - - فهرس - - رضي الله عنه -( - { } تم بحمد الله ( - - ( الله أكبر ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - - رضي الله عنه -( المحتويات ( - ( - (- صلى الله عليه وسلم - بسم الله الرحمن الرحيم - - عليه السلام -( - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - - ( - - تم بحمد الله (((( } (2) فأطلق بهذا سلطان العقل من كل ما كان قيده، وخلَّصه من كل تقليد كان استعبده " ا. هـ (3).
المبحث الثاني
أسباب انتشار المذاهب الأربعة
وبقائها وتقليد من بعدهم لها
إن لانتشار المذاهب الأربعة، وبقائها دون غيرها من المذاهب، وتقليد المتأخرين لها، أسبابًا كثيرة أهمها الأسباب الآتية:
__________
(1) - سورة لقمان آية : 21.
(2) - سورة الزخرف آية : 22.
(3) - انظر رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده ص 157 وما بعدها .(1/81)
1- التلاميذ: فقد هيأ الله لكل إمام من الأئمة الأربعة تلاميذ نجباء، ذوي قوة، أعجبوا بطريقة الإمام، وتأثروا بها، ودافعوا عنها، وكان لهؤلاء التلاميذ مكانة عند الجمهور تدعوهم إلى الأخذ عنهم والعمل بفتواهم، ولما تأصلت الثقة في قلوب الجماهير بهؤلاء الأئمة كان من الصعب بعد ذلك أن يقوم قائم بمذهب جديد يدعو الناس إلى اتباعه، ولو فعل ذلك أحد لثاروا عليه، وعدوه بذلك خارجًا عن الجماعة وكادوا له، وكانت همة الفقيه -بعدهم- الذي سَمَتْ نفسه إلى الاجتهاد أن يكون في النهاية مجتهد مذهب، يفتي بمذهب إمامه، أو يرجح أحد الرأيين له في مسألة من المسائل.
2- القضاء: فقد كان الخلفاء في الماضي يختارون قضاتهم ممن يتوسَّمُون فيهم العلم بكتاب الله وسنة رسوله، والقدرة على استنباط الأحكام، فيَكِلُون إليهم الحكم، بعد أن يأخذوا عليهم ألا يعملوا إلا بالنصوص فيما فيه نصٌّ، أو الرأي الذي هو أقرب إلى النصوص فيما لا يكون فيه نص، كما في كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري في القضاء: " الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، فاعرف الأشباه وقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق " ا. هـ.
وكان جمهور الناس يثقون بهؤلاء القضاة ثقة تامة، ثم تغيّرت الحال بامتداد الزمن، فوُجِد من القضاة من لم يحافظ على سمعته وثقة الناس به، بما يظهر للناس من خطئه فظهر منهم الميل؛ لأن يكون القاضي مقيدًا في قضاءه بأحكام مذهب معيّن، حتى لا يتيسر له الشذوذ ليقضي به إذا وافق هواه وغرضه.(1/82)
وهيأ الله لكل مذهب من الملوك والسلاطين من يقلده ويقصر تولية القضاء عليه، فيزداد العلماء الذين يقومون به بنشره وإشاعته، كما حصل لمذهب الشافعي من نصرة محمود بن سُبكتكين في بلاد المشرق، وصلاح الدين الأيوبي في مصر، وكما كان لمذهب أبي حنيفة من نصرة العنصر التركي له، وكما حصل لمذهب مالك من نصرة الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل من نشره في بلاد الأندلس، وكما حصل لمذهب أحمد من نصرة الدولة السعودية له في بلاد نجد والحجاز وملحقاتهما في العصر الحاضر، وكان من أنشأ مدرسة أو وقف وقفًا قصره على ذلك المذهب، فكان ذلك سببًا في انتشاره وتقليد الناس له.
3 - تدوين المذاهب: فقد وُفّق لكل مذهب مدوّنون موثوق بهم، فدوّنوا ما تلقوه عن إمامهم من الأحكام، وأخذها منهم العدد الكثير من تلاميذهم، فبثوها بين الناس الذين اتبعوهم ثقة منهم بمن يفتونهم، وبذلك قضي على المذاهب التي لم ينشط أتباعها إلى تدوينها وتهذيبها حتى يسهل تناولها، ولذلك لم ينتشر مذهب الليث بن سعد مع فقهه وورعه، حتى قال الشافعي: كان الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به. أي لم يُعْنَوا بتدوين آرائه وبثها بين الناس، كما فعل أتباع مالك -رحمه الله-، ومثل الليث كثير من أئمة الصحابة والتابعين، الذين لهم آراء واستنباطات جيدة (1).
المبحث الثالث
عصر التقليد
في منتصف القرن الرابع الهجري دبَّ الضعف في الدولة الإسلامية، فتفككت عراها، حتى اقتطع الأمويون من الدولة العباسية الأندلسَ، والفاطميون شمال أفريقيا، واقتطع الإخشيديون مصر واستقلوا بها، وضعفت العراق التي بها بغداد عاصمة الدولة العباسية، حتى جاء التتار بغاراتهم الهوجاء فقضوا عليها.
__________
(1) - انظر تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ محمد الخضري ص 326 وما بعدها .(1/83)
وتبع هذا الانحلال السياسي جمود الفقهاء على ما تركه أسلافهم من ثروة فقهية هائلة، والتي أصبحت مدوّنة متداولة، فكان جُلّ همهم البحث عن علل الأحكام التي قررها أئمتهم، وانحصرت بحوثهم في الدائرة المذهبية، وترجيح بعض الأحكام على بعض والاستدلال لأقوال أئمتهم، والانتصار لها، ومحاولة إبطال رأي مخالفهم، مما كان لهذا العمل أثره السيئ فيما بعد من وجود التعصب دون نظر في الدليل.
وقد امتد هذا العصر حتى أواخر القرن الماضي، وشخصيات فقهاء هذا العصر قد ذابت في شخصيات أئمتهم في الجملة، وإن كان قد وجد فيهم فقهاء لا يقلون عن سابقيهم في حسن الاستنباط، وعمق الفكرة، وجمع الآثار، والترجيح بين الروايات، واستنباط علل الأحكام، والإفتاء في مسائل جديدة لم يسبق لأئمتهم النظر فيها (1).
المبحث الرابع
مراحل التقليد في هذا العصر
لم يكن ترك الاجتهاد من الفقهاء في هذا العصر والركون إلى التقليد طفرة واحدة، بل كان على سبيل التدريج.
1- فقد اتجه الفقهاء في الفترة الأولى من هذا العصر إلى التقليد؛ لقربهم من العهد الأول، الذي ازدهر فيه الفقه الإسلامي، واتصالهم به ولم تَجِدَّ لهم حوادث، ولم تتغير العادات -في الغالب- عما هي عليه في العصر السابق، ومما شجع على الوقوف من العلماء عند هذه المذاهب المعروفة تعيين القضاة والمفتين من قبل الدولة في المذهب الحنفي في الشرق، والمذهب المالكي في الأندلس وبلاد المغرب، كما أن العلماء أصدروا فتواهم بسد باب الاجتهاد؛ ليضعوا حدا لفوضى الإفتاء، إثر فقدان الدولة سيطرتها، حتى على الشئون الدينية؛ لمنع الدخلاء على الإفتاء الذين تصدَّوْا له.
__________
(1) - انظر مدخل الفقه الإسلامي للدكتور محمد سلام مدكور ص 56 .(1/84)
2- وفي الفترة الثانية من هذا العصر، من وقت سقوط بغداد بأيدي التتار، سُمِّيَ الفقهاء بالمتأخرين، وانتقلت حركة الثقافة ومراكز العلم من بغداد وبخارى ونيسابور إلى أماكن نزح إليها كثير من العلماء بسبب اضطهاد المغول لهم، كمصر والشام والهند وغيرها، واهتم الفقهاء في هذا العصر بتمييز الأقوال الضعيفة من القوية في المذهب، وتصنيف المختصرات التي وصلوا فيها إلى حدّ الألغاز، ثم علَّقوا على شرحها، ثم شرح الشروح التي وضعت عليها، كما اتجهوا أيضًا إلى جمع الفتاوى وتبويبها وترتيبها حسب أبواب الفقه.
3- وركون الفقهاء إلى التقليد في هذا العصر، وعُزوفهم عن الاجتهاد المطلق، جعل الفقيه يبعد عن واقع الحياة شيئًا فشيئًا، كما أنه أثر على الناس مما أوجد مجالا للتلاعب وتسخير القواعد والنظم الشرعية للأهواء.
4- ومع هذا لم تخْلُ هذه القرون في هذه الدور التقليدي من فقهاء متحررين، حاربوا التقليد، ونادوا بالرجوع إلى الكتاب والسنة، من أبرزهم: شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم -رحمهما الله- في القرن السابع الهجري، والشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر من الهجرة (1).
المبحث الخامس
أسباب جمود الفقه الإسلامي في عصر التقليد
تتلخص أسباب جمود الفقه الإسلامي في هذه الفترة فيما يلي:
1- انصراف الفقهاء إلى الانتصار لمذاهبهم، والتعصب لأئمتهم، والدعاية لنشر مذهبهم.
2- ازدهار الفقه والعناية به، وكثرة التدوين والتصنيف في العصر السابق لهذا العصر.
3- انحلال الدولة الإسلامية، وإصابتها بالضعف المتوالي مما أفقدها الشخصية القوية، التي يكون لها من النظم ما تضع فيه حدًا للفتوى والإفتاء، فتصدَّى للإفتاء من هو من أهله ومن هو من غير أهله (2).
الباب الثاني في المفتي
وفيه فصلان:
__________
(1) - انظر مدخل الفقه الإسلامي للدكتور محمد سلام مدكور ص 58.
(2) - المرجع السابق مدخل الفقه الإسلامي ص 58 .(1/85)
الفصل الأول: في أقسام المفتي.
الفصل الثاني: في ما يتعلق بالمفتي.
الفصل الأول: في أقسام المفتي
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: في المجتهد المطلق المفتي
إما أن يكون مجتهدًا مطلقًا، وإما أن يكون مجتهدًا مقيدًا، ويقال له مجتهد المذهب.
القسم الأول: المجتهد المطلق، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في ما يشترط فيه وما لا يشترط فيه.
فإن كان المفتي مجتهدًا مطلقًا متصديًا للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه، فيشترط فيه ما يأتي:
1- أن يكون عارفًا بالأدلة العقلية، كأدلة حدوث العالم، وأن له صانعًا، وأنه واحد، متصف بصفات الكمال والجلال، منزه عن صفات النقص والخَلَل، وأنه واجب الوجود لذاته، حتى يُتَصور منه التكليف.
2- وأن يكون مصدقًا بالرسول، وما جاء به من الشرع المنقول عن الله، وأن الله أيده بالمعجزات الدالة على صدقه في رسالته، وتبليغه للأحكام الشرعية؛ ليكون فيما يسنده إليه من الأقوال والأحكام محققًا.
3- أن يكون عالمًا بمدارك الأحكام الشرعية، من كتاب وسنة وإجماع واستصحاب وقياس، ووجوه دلالاتها على مدلولاتها، واختلاف مراتبها، والشروط المعتبرة فيها، ومعرفة الراجح منها عند ظهور التعارض، وتقديم ما يجب تقديمه منها، كتقديم النص على القياس، وكيفية استثمار الأحكام منها، قادرًا على تحريرها وتقريرها، والإجابة عن الاعتراضات الواردة عليها.
4- أن يكون عالمًا بالناسخ والمنسوخ، ومواضع الإجماع والاختلاف، ويكفي في ذلك أن يعلم أن ما يستدل به ليس منسوخًا، وأن المسألة التي يبحث فيها ليست من واقع الإجماع.
5- أن يكون عارفًا بما يصلح للاحتجاج به من الأحاديث من أنواع الصحيح والحسن، والتمييز بين ذلك وبين الضعيف الذي لا يحتج به، بأن يكون عارفًا بالرواة وطرق الجرح والتعديل.(1/86)
6- أن يكون عارفًا بأسباب النزول، عالمًا باللغة والنحو، ويكفيه من ذلك ما تيسر به فهم خطاب العرب، بحيث يميّز بين دلالات الألفاظ، من المطابقة والتضمن والالتزام والمفرد والمركب، والكلّي والجزئي، والحقيقة والمجاز، والتواطؤ والاشتراك، والترادف، والتباين، والنص والمظاهر، والعام والخاص، والمطلق والمقيَّد، والمنطوق والمفهوم، والاقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء.
7- أن يكون عارفًا بكيفية إقامة الأدلة ونصبها وشروطها.
1- أن يكون عدلا ثقة، حتى يوثق به فيما يخبر عنه من الأحكام الشرعية.
ما لا يشترط فيه:
1- لا يشترط فيه أن يكون عارفًا بدقائق علم الكلام، متبحرًا فيه كالمشاهير من المتكلمين، بل يشترط أن يكون عارفًا بما يتوقف عليه الإيمان كما سبق.
2- ولا يشترط في معرفة الكتاب معرفة كل الكتاب، بل معرفة ما يتعلق منه بالأحكام، ولا يشترط حفظ آيات الأحكام، بل يكفي علم مواضعها في المصحف، ومعرفة موقع ما يحتاج إليه في المسألة التي يبحث فيها.
3- ولا يشترط في معرفة السُّنَّة معرفة كل الأحاديث، بل معرفة أحاديث الأحكام، ولا يشترط حفظ أحاديث الأحكام، بل يكفي معرفة مواقع أحاديث الأحكام، ومعرفة موقع ما يحتاج إليه في المسألة التي يبحث فيها، ومعرفة صحة الحديث الذي يعتمد عليه في المسألة التي يبحث فيها.
4- ولا يشترط معرفة تفاريع الفقه؛ لأنها مما ولَّده المجتهدون بعد حيازة منصب الاجتهاد.
5- ولا يشترط أن يكون في اللغة كالأصمعي، وفي النحو كسيبويه والخليل بأن يعرف دقائق العربية والتصريف، بل يكفي من ذلك ما يعرف به أو ضاع العرب والجاري من عاداتهم في المخاطبات.
ما يستحب له:(1/87)
ويستحب للمفتي أن يكون قاصدًا للإرشاد وهداية العامة، لا بجهة الرياء والسمعة (1) متصفا بالسكينة والوقار؛ ليرغب المستمع في قبول ما يقوله، كافًا نفسه عمَّا في أيدي الناس، حَذِرًا من التنفير عنه (2).
المطلب الثاني
في حكم فتوى المجتهد المطلق بمذهب غيره من الناس
هل يجوز للمجتهد أن يفتي مَن سأله عن مذهب رجل معين ؟
إذا سُئل المجتهد المطلق عن مذهب رجل معين في مسألة فلا يخلو من أن يكون هذا المذهب صوابًا أو غير صواب، فإن كان صوابًا جاز نقله له مطلقًا، وإن كان هذا الرأي أو المذهب غير صواب جاز نقله له بشرط أن يقول بعد ذلك مقالا يصرح به أو يلوح أن الحق خلاف ذلك، لا سيما إذا كان يعرف أن السائل سيعتقد ذلك الرأي أو المذهب المخالف للصواب؛ لأمرين:
1- أن في نقل هذا العالم لذلك المذهب المخالف للصواب، وسكونه عنه، إيهام بأنه حق، وفي هذا مفسدة عظيمة.
__________
(1) - بل يجب على المفتي أن يكون قاصدًا وجه الله والدار الآخرة، لا رياء ولا سمعة .
(2) - انظر الإحكام للآمدي جـ 4 ص 162 و 222 ، وانظر المستصفى للغزالي ص 101 - 102، وانظر روضة الناظر لابن قدامة ص 190 - 191 ، وانظر إرشاد الفحول ص 250 - 251 ، وانظر مختصر التحرير ص 74 ، وانظر المدخل في فقه الإمام أحمد ص 180 وما بعدها ، وانظر الإنصاف جـ 11 ص 184 - 197 ، وانظر أصول الفقه محمد الشنقيطي ص 46 .(1/88)
2- ولأن الله -تعالى- أخذ على العلماء البيان للناس في قوله -تعالى-: { ( - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - } - صلى الله عليه وسلم - - ( - - - - رضي الله عنه - - ( - - - ( تم بحمد الله - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - صلى الله عليه وسلم -( - - - (- رضي الله عنه - - ( - ( - - - (( مقدمة } - ( - ( - - - عليه السلام - - ( - - - ( } - } - - ( - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ( - ( - ( - - - } (1) وقال -تعالى- في وعيد الكاتمين: { } تمت ( { - رضي الله عنه -((( - { - - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( - ( - - رضي الله عنه - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنه - - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( تمهيد (- عليه السلام - - ( } - - رضي الله عنه - - ( - - - - - - رضي الله عنهم - - ( - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - ((- رضي الله عنه - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( مقدمة ( } - جل جلاله - } - - رضي الله عنه - - ( } - } - - ( - - (( ( - (- رضي الله عنه - - ( - ( - - - - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( المحتويات ( - ( { - رضي الله عنهم -(( - - رضي الله عنه - - ( - - - ( المحتويات ( - ( { - رضي الله عنهم -(( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - قرآن كريم ( - (((( - - - - ((((( } (2).
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 187.
(2) - سورة البقرة آية : 159.(1/89)
فإن كان يخشى على نفسه من بيان فساد ذلك المذهب؛ فليَدَعِ الجواب ويحيل على غيره، فإن لم يسأله عن شيء يجب عليه بيانه، فإن ألجأته الضرورة، ولم يتمكن من التصريح بالصواب، فعليه أن يصرح تصريحًا لا يبقى معه شك لمن يقف عليه أن هذا مذهب فلان أو رأي فلان، الذي سأل عنه السائل ولم يسأل عن غيره (1).
المبحث الثاني
في المجتهد المقيد
وفيه مطالب:
المطلب الأول: في تعريفه وشروطه:
القسم الثاني: المجتهد المقيد: وهو مجتهد المذهب:
تعريفه وشروطه:
هو الذي يستنبط الأحكام من أدلتها بناء على قواعد إمام مذهبه، ويستخرج الوجوه من الروايات المنصوصة عن إمامه، فلا بد له من شرطين:
الأول: معرفة قواعد الإمام، بحيث يكون مطلعًا على مأخذ المجتهد المطلق الذي يقلده.
الثاني: القوة على استخراج ما يشبه ما نص عليه من الأحكام، بحيث يكون قادرًا على التفريع على قواعد إمامه وأقواله، متمكنًا من الفرق والجمع والنظر والمناظرة في ذلك (2).
المطلب الثاني
في حكم فتوى مجتهد المذهب بقول إمامه
هل لمجتهد المذهب أن يفتي بقول الإمام ؟.
اختلف العلماء فيما إذا كان الرجل مجتهدًا في مذهب إمام، ولم يكن مستقلا بالاجتهاد: هل له أن يفتي بقول ذلك الإمام؟
على قولين، وهما وجهان لأصحاب الشافعي وأحمد:
القول الأول: يجوز له أن يفتي بقوله لما يأتي:
1- أن متَّبِعه مقلِّد للميت لا له، وإنما له مجرد النقل عن الإمام.
2- ولوقوع ذلك في الأعصار متكررًا شائعًا من غير إنكار.
القول الثاني: لا يجوز له أن يفتي بقوله لما يأتي:
__________
(1) - انظر رسالة القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد للشوكاني ص 52 .
(2) - انظر الإحكام للآمدي جـ 4 ص 236 ، وانظر الإنصاف في مسائل الخلاف للمرداوي جـ 12 ص 262 ، وانظر مجموعة الرسائل والمسائل النجدية جـ 2 رسالة الاجتهاد والتقليد للشيخ حمد بن ناصر بن معمر ص 26 ، وانظر أصول الفقه محمد الخضري ص 421 ، وانظر أصول الفقه طه الدسوقي ص 327 .(1/90)
1- أن المسائل مقلد له لا للميت، فكأن السائل يقول: أنا أقلدك فيما تفتيني به. والحال أنه لم يجتهد له.
2- ولانتفاء وصف الاجتهاد المطلق عنه.
الترجيح: والذي يترجح لي في هذه المسألة أن هذا فيه تفصيل يختلف باختلاف حال المسائل، فإنه إن كان السائل يطلب الحق ويريد حكم الله -تعالى- في المسألة فإنه يجب على المفتي أن يجتهد له، ولا يجوز له أن يفتيه بقول الإمام من غير معرفة بأنه حق أو باطل، وتكون التَّبِعة حينئذ على المفتي.
وإن كان السائل يطلب مذهب الإمام، ويقول: أريد أن أعرف قول الإمام ومذهبه في هذه الحادثة، فإنه يجوز له أن يفتيه بقول الإمام، ويكون حينئذ مخبرًا وناقلا فقط، وتكون التبعة على السائل (1).
المطلب الثالث
في حكم فتوى مجتهد المذهب بمذهب غير إمامه من المجتهدين
هل يجوز لمجتهد المذهب الفتوى بمذهب غيره من المجتهدين ؟
اختلف العلماء هل يجوز لمجتهد المذهب، الذي لم يستقل بالاجتهاد، أن يفتي بمذهب غيره من المجتهدين، على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز له الفتوى، وإلى هذا ذهب أبو الحسين البصري وجماعة من الأصوليين.
حجة هذا القول:
1- أنه إنما يسأل عمَّا عنده لا عما عند غيره.
2- ولأنه لو جازت الفتوى بطريق الحكاية عن مذهب الغير لجاز ذلك للعامي، وهذا مخالف للإجماع.
القول الثاني: أنه يجوز له الفتوى إذا ثبت ذلك عنده بنقل من يوثق بقوله.
حجة هذا القول: أنه إذا ثبت عنده مذهب غيره بالنقل الموثوق به تساوى عنده هذا المذهب بمذهبه؛ وبما أنه يجوز له أن يفتي بمذهبه، فكذلك يجوز له الإفتاء بمذهب غيره المساوي له.
الترجيح: والذي يترجح لي أنه إذا وجدت فيه شروط مجتهد المذهب، وهي:
1- معرفة قواعد إمام المذهب المُفْتَى به.
2- والقدرة على التفريع على قواعد هذا الإمام.
جاز الفتوى تمييزًا له عن العامي.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 215 ، وانظر غاية الوصول شرح لب الأصول ص 151 .(1/91)
ووجه الترجيح: أنه بتحقق هذه الشروط أصبح أهلا للإفتاء بمذهب الغير، كما هو أهل للإفتاء بمذهبه (1).
المطلب الرابع
حكم تقليد الحي للميت
المطلب الرابع: في حكم تقليد الحي للميت والعمل بفتواه من غير نظر في دليله
" هل للحي أن يقلد الميت من غير نظر في الدليل " ؟.
اختلف العلماء: هل يجوز للحيّ تقليد الميت والعمل بفتواه من غير أن تستند بالدليل الموجب لصحة العمل بها على قولين، وهما قولان لأصحاب الشافعي وأحمد.
القول الأول: أنه لا يجوز للحي تقليد الميت.
مستَّنَد هذا القول: أنه لا يجوز أن يتغير اجتهاده لو كان حيًّا؛ إذ لا بد له من أن يجدد النظر عند حدوث الحادثة، إما وجوبًا، وإما استحبابًا، على الخلاف في ذلك.
القول الثاني: أنه يجوز للحي تقليد الميت.
حجة هذا القول: أن قول الميت باقٍ لم يتغيَّر.
الترجيح: والراجح: أنه يجوز له ذلك.
وجه ترجيحه: أن الأقوال لا تموت بموت قائليها، كما أن الأخبار لا تموت بموت رواتها وناقليها.
قال ابن القيم: " وعليه عمل جميع المقلدين في أقطار الأرض، وخيار ما بأيديهم من التقليد تقليد الأموات، ومن منع منهم تقليد الميت فإنما هو شيء بقوله بلسانه، وعمله في فتاويه وأحكامه بخلافه " (2) ا. هـ.
المطلب الخامس في حكم فتوى المنتسب إلى إمام بغير قول إمامه وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: " هل للمفتي أن يفتي بغير مذهب إمامه " ؟ (3).
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 236 .
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 215 - 216 ، وانظر غاية الوصول شرح لب الأصول ص 151 .
(3) - الفرق بين هذه المسألة ومسألة : هل يجوز لمجتهد المذهب الفتوى بمذهب غيره من المجتهدين ، الواردة في ص 69 أن المفتي في المسألة الثانية هنا أعم من أن يكون مجتهد مذهب ، أو لم يصل إلى درجة الاجتهاد في المذهب، لكنه عنده قدرة على الإفتاء بأن وجد فيه ما يؤهله للإفتاء .(1/92)
هل يجوز للمنتسب إلى تقليد إمام معين أن يفتي بقول غير قول إمامه، في هذه المسألة تفصيل وهو: أن السائل لا يخلو من أحد أمرين:
الأول: أن يسأله عن مذهب هذا الإمام فقط، فيقول له -مثلا-: ما هو مذهب الشافعي في هذه المسألة؟ وحينئذ على المفتي أن يخبره بمذهب ذلك الإمام، ولا يجوز له أن يخبره بغيره إلا على وجه الإضافة إليه.
الثاني: أن يسأله عن الحكم الذي أداه إليه في هذه المسألة، ولا يقصد السائل قول فقيه معين، وحينئذ يجب على المفتي أن يفتيه بما ترجح عنده أنه أقرب إلى الكتاب والسنة، سواء وافق مذهب إمامه أو خالفه.
ولا يحل له أن يفتيه بما يغلب على ظنه أنه مخالف للحق والصواب، ولو وافق مذهب إمامه، فإنه لا يسع الحاكم والمفتي الحكم والإفتاء بغير ما يعتقد أنه الصواب، فإن الله -سبحانه- سوف يسألهما عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به، ولا يسألهما عن الإمام وما قاله، كما قال الله -تعالى-: { - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - ( - - - عليه السلام - - ( - ( - قرآن كريم ( { - عليه السلام - - - ( - - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( تمهيد - رضي الله عنهم - - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه -((( - - رضي الله عنهم - - ( - ( - ( - - - (((( } (1) فلا يسأل أحد عن إمام ولا شيخ ولا متبوع غير الرسول -عليه الصلاة والسلام-؛ فليعدَّ كلٌّ للسؤال جوابًا وللجواب صوابًا (2).
المسألة الثانية: إذا ترجح عند المفتي غير مذهب إمامه فهل يفتي به ؟
هل يجوز للمفتي المنتسب إلى مذهب إمام بعينه أن يفتي بمذهب غيره إذا ترجح عنده ؟ في المسألة تفصيل لا بد من بيانه لتحرير محل النزاع:
__________
(1) - سورة القصص آية : 65.
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 236 .(1/93)
وذلك أن المفتي المنتسب إلى مذهب لا يخلو من أحد أمرين:
أحدهما: أن يكون مجتهدًا متبعًا للإمام حقيقة، بأن يكون سالكًا سبيل إمامه في الاجتهاد وطلب الدليل، فهذا له أن يفتي بما ترجح عنده وإن خالف مذهب إمامه من غير خلاف.
الثاني: وهو محل النزاع: أن يكون مجتهدًا متقيدًا بأقوال إمامه، لا يتعداها إلى غيرها، فهذا مختلف فيه:
1- فقيل: ليس له أن يفتي بقول لم يقله إمامه، فإن أراد الإفتاء بغير قوله، حكاه عن قائله حكاية محضة.
حجته: أنه متقيد بأقوال إمامه، فلا يجوز له الخروج عن مذهبه.
2- وقيل: له أن يفتي بما لم يقله إمامه.
حجته: أنه عنده قدرة على الاجتهاد، فجاز له الخروج عن مذهبه.
الترجيح: والراجح أنه يجوز له الإفتاء بقولٍ ترجح عنده بالدليل المرجح، ولو خالف قول الإمام وخرج عن قواعده، وإن لم يترجَّح عنده بالدليل، فلا يجوز له الإفتاء بما يخالف قول الإمام (1).
قال القفال من علماء الشافعية: لو أدَّى اجتهادي إلى مذهب أبي حنيفة، قلت مذهب الشافعي كذا، لكني أقول بمذهب أبي حنيفة؛ لأن السائل إنما يسألني عن مذهب - الشافعي فلا بد أن أعرِّفه أن الذي أفتيه به غير مذهبه ا. هـ (2).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: أكثر المستفتين لا يخطر بقلبه مذهب معين عند الواقعة التي سأل عنها، وإنما سؤاله: عن حكمها، وما يعمل به فيها، فلا يسع المفتي أن يفتيه بما يعتقد الصواب في خلافه ا. هـ (3).
وقال في الاختيارات: من كان متبعًا لإمام فخالفه في بعض المسائل؛ لقوة الدليل، أو لكون أحدهما أعلم وأتقى، فقد أحسن ا. هـ.
وقال في موضع آخر: بل يجب عليه، وإنَّ أحمد نصَّ عليه، ولم يقدح ذلك في عدالته بلا نزاع ا. هـ (4).
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 237 - 238 .
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 238 .
(3) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 238 .
(4) - انظر مجموعة الرسائل والمسائل النجدية جـ 2 رسالة الاجتهاد والتقليد للشيخ حمد بن ناصر بن معمر ص 10 .(1/94)
وهذا هو الراجح في نظري، فإنه يجب على المفتي الذي يُؤَمِّل ثواب الله، ويخاف وقوفه بين يديه -سبحانه- أن يفتي من سأله بما يعتقد أنه الصواب وإن كان خلاف مذهبه، وليحذرْ كلَّ الحذر أن تَحْمله الرياسة على أن يقتحم الفتوى، فيفتيه بمذهبه الذي يقلده، وهو يغلب على ظنه أن الصواب في خلافه، فيكون خائنًا لله ولرسوله وللسائل، وقد قال الله -تعالى-: { } تمت - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - { - - - - صدق الله العظيم - ( - ( - - عليه السلام - - - رضي الله عنهم - - ( - - - - رضي الله عنه -((( - (( - - - - ( - - - (((( } (1).
وقد غش السائل حينئذ والغاشّ متوعَّد بوعيد شديد، فقد ورد في الحديث: - أن الله حرم الجنة على من لقيه وهو غاشٌّ للإسلام وأهله - .
والغش مضادٌّ للدين كمضادة الكذب للصدق، وكمضادة الباطل للحق، وفي الحديث: - الدين النصيحة - (2) ومن النصيحة إفتاء السائل بما يترجح أنه الصواب عند المفتي (3).
المطلب السادس
في حكم فتوى المنتسب إلى إمام بالقول الذي رجع عنه إمامه
" هل للمفتي أن يفتي بالقول الذي رجع عنه إمامه ؟ ".
يجوز للمفتي المنتسب إلى مذهب أن يفتي بالقول الذي صرح إمامه بالرجوع عنه إذا ترجح عنده؛ وذلك لأن القول الذي قال به الإمام أولا ثم رجع عنه بمنزلة ما لم يقله، ولا يخرجه ذلك عن التمذهب بمذهبه، فإن أتباع الأئمة كثيرًا ما يفتون بأقوالهم القديمة التي رجعوا عنها، ومن أمثلة ذلك:
1- الأحناف يفتون بلزوم المنذورات التي مخرجها مخرج اليمين كالحج والصوم والصدقة، مع أنهم حكوا عن أبي حنيفة أنه رجع قبل موته بثلاثة أيام إلى التكفير.
2- الحنابلة يفتي كثير منهم بوقوع طلاق السكران، مع أن الإمام أحمد صرح بالرجوع عنه إلى عدم الوقوع.
__________
(1) - سورة يوسف آية : 52.
(2) - رواه مسلم .
(3) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 177 .(1/95)
2- الشافعية يفتون بالمذهب القديم بعدم استحباب قراءة السورة في الركعتين الأخيرتين.
وهذا كله يبين أن أهل العلم لا يتقيدون بالتقليد المحض، الذي يتركون من أجله قول كل من خالف من قلدوه، وهي طريقة مذمومة، مخالفة للصواب، حادثة في الإسلام، مستلزمة لأنواع من الخطأ، وهي ناشئة عن التعصب لمذهب معين وإمام معين (1).
المطلب السابع
في حكم فتوى المجتهد في نوع من العلم أو في مسألة منه
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: هل للمجتهد في نوع من العلم أن يفتي به ؟
هذه المسألة مبنيَّة على مسألة أخرى، وهي: هل الاجتهاد يتجزأ ؟
وبعبارة أخرى: هل الاجتهاد حالة تقبل التجزؤ والانقسام، فيكون الرجل مجتهدًا في نوع من العلم أو في باب من أبوابه مقلدًا في غيره، وهل له أن يفتي في النوع أو في الباب الذي اجتهد فيه.
ومثال ذلك: من استفرغ وِسْعه في علم الفرائض وأدلتها، واستنباطها من الكتاب والسنة دون غيره من العلوم، أو استفرغ وِسْعه في باب الجهاد، أو في باب الحج مثلا.
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: الجواز مطلقًا.
مستَّنَد هذا المذهب: أنه قد عرف الحق بدليله في هذا النوع أو الباب من العلم، وقد بذل جهده في معرفة الصواب، فحكمه في ذلك حكم المجتهد المطلق في سائر الأنواع، فيكفيه أن يكون عارفًا بما يتعلق بتلك المسألة مما لا بد فيه منها، ولا يضره بعد ذلك جهله بما لا تَعَلُّق له بها مما يتعلق بباقي المسائل الفقهية، كما أن المجتهد المطلق قد يكون مجتهدًا في المسائل الخارجية عنها، فليس من شرط المفتي أن يكون عالمًا بجميع أحكام المسائل ومداركها (2)؛ لأنه مما لا يدخل تحت طاقة البشر.
المذهب الثاني: المنع مطلقًا:
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 239 .
(2) - أي أدلتها .(1/96)
مستند هذا المذهب: أن أبواب الشرع وأحكامه وأدلة الأحكام الشرعية يتعلق بعضها ببعض، ويأخذ بعضها بحُجُز بعض، ويفسر بعضها بعضًا، ويقيد بعضها بعضًا، فالجهل ببعضها مظنَّة للتقصير في الباب أو النوع الذي عرفه، ولا يخفى على الناظر الارتباط بين كتاب الجهاد وما يتعلق به وكتاب الحدود والأقضية والأحكام، وكذلك سائر أبواب الفقه.
المذهب الثالث: الفرق بين الفرائض وغيرها، فيتجزأ الاجتهاد في علم الفرائض، وله أن يفتي فيه دون غيره من العلوم.
مستند هذا المذهب:
1- أن أحكام قسمة المواريث ومعرفة مستحقيها مستقلة عن غيرها من أبواب الفقه، وليست متعلقة به، فلا صلة لها بكتاب البيوع والإجارات والرهن والنضال (1) وسائر أبواب الفقه.
2- أن عامة أحكام المواريث قطعية، منصوص عليها في الكتاب والسنة، بخلاف غيرها.
الترجيح: بعد ذكر المذاهب في المسألة، ومستند كل مذهب يتبيَّن لي أن الراجح من ذلك هو المذهب الأول، وهو أن الاجتهاد يتجزأ مطلقًا، وأن للمجتهد أن يفتي في النوع من العلم الذي اجتهد فيه.
وجه ترجيحه:
1- أن الصحابة، والأئمة بعدهم، قد كانوا يتوقَّفون في مسائل كثيرة، ولم يخرجهم ذلك عن الاجتهاد، ولم يمنعهم ذلك عن الإفتاء بما علموه.
وكم توقف الشافعي في مسألة، وسُئل مالك عن أربعين مسألة فقال في ستة وثلاثين لا أدري، فلو كان العالم لا يكون مجتهدًا إلا بمعرفة حكم الله في كل جزئية لما كان مالك مجتهدًا؛ لتوقفه عن ستة وثلاثين مسألة وإجابته عن أربعة من أربعين، ولكنه مجتهد متفق عليه، فدلَّ على أنه لا يشترط التعميم.
__________
(1) - أي الجهاد .(1/97)
2- أن المجتهد في نوع من العلم قد غلب على ظنه أنه قد أحاط بجميع ما يتعلق بالنوع أو الباب الذي اجتهد فيه من الأدلة، وعرف كل ما يتصل بهذه الأدلة مما له صلة في الدلالة، وقد بذل جهده في البحث، فتكليفه بأن يعلم ما وراء ذلك تكليف بغير مقدور، وهو ممتنع (1).
المسألة الثانية: من بذل جهده في مسألة أو مسألتين هل له أن يفتي فيهما ؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
أحدهما: المنع. حجته: حجة المذهب الأول من المسألة الأولى.
والثاني: الجواز. حجته: حجة المذهب الثاني من المسألة الأولى.
والراجح: الجواز.
وجه ترجيحه: أن إفتاءه فيما بذل جهده فيه من التبليغ عن الله ورسوله، فيكون قد أعان على الإسلام بما يقدر عليه، فمنعه من الإفتاء لا دليل عليه، بل هو يعارض الأدلة الدالة على الأمر بالتبليغ عن الله ورسوله (2).
الفصل الثاني
فيما يتعلق بالمفتي
وفيه ثلاث مباحث:
المبحث الأول:
إذا استفتى العاميُّ عالمًا في مسألة، ثم حدثت له مثل تلك الواقعة فهل يجب على المفتي أن يجتهد لها ثانيًا، أم يعتمد على الاجتهاد الأول ؟
تحرير محل النزاع: هذا المفتي لا يخلو:
إما أن يتجدَّد له ما يوجِب تغير اجتهاده أولا، فإن ظهر له ما يوجب تغير اجتهاده، لم يجز له البقاء على القول الأول، بل يجب عليه أن يجتهد لها ثانيًا بغير نزاع، ولا يجب عليه نقض الاجتهاد الأول، ولا يكون اختلافه مع نفسه قادحًا في علمه، بل هو من كمال علمه وورعه، ومن أجل هذا وجد للأئمة في المسألة قولان فأكثر.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 216 ، وانظر الإحكام للآمدي جـ 4 ص 164 ، وانظر المستصفى للغزالي جـ 2 ص 103 ، وانظر روضة الناظر لابن قدامة ص 191 ، وانظر إرشاد الفحول للشوكاني ص 255 ، وانظر الإنصاف جـ 12 ص 265 ، وانظر أصول الفقه محمد الخضري ص 406 ، وانظر أصول الفقه طه الدسوقي ص 335 - 336 .
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 217 ، وانظر الإنصاف جـ 12 ص 265 .(1/98)
ومحل النزاع هو: ما إذا لم يظهر له ما يوجب تغيير اجتهاده.
فاختلف العلماء في ذلك على قولين، وهما وجهان لأصحاب أحمد والشافعي:
القول الأول: أنه يجب عليه الاجتهاد ثانيًا، وتجديد النظر في الواقعة الثانية.
حجة هذا القول: أنه يحتمل أن يتغير اجتهاده إذا جدد النظر في الواقعة الثانية، فيظهر له ما كان خافيًا عنه، ويطَّلع على ما لم يكن اطَّلع عليه أولا.
القول الثاني: أنه لا يجب عليه الاجتهاد ثانيًا، ولا حاجة إلى تجديد النظر في الواقعة الثانية، بل يكفي اجتهاده الأول.
حجة هذا القول: استصحاب الحال الواقع في الواقعة الثانية، وذلك أن الأصل بقاء ما كان على ما كان، فالأصل عدم اطِّلاعه على ما لم يطلع عليه أولا.
الترجيح: الراجح في هذه المسألة التفصيل، وهو أن المجتهد إما أن يكون ذاكرًا لاجتهاده الأول، بأن يذكر الواقعة ومستندها، أو يكون غير متذكر له.
فإن كان ذاكرًا له أفتى في الواقعة الثانية بما أفتى به في الواقعة الأولى، ولا حاجة إلى نظر واجتهاد آخر؛ استصحابًا لاجتهاده الأول في الواقعة الثانية.
وإن كان غير متذكر لاجتهاده الأول ومستنده، فلا بد له من النظر والاجتهاد ثانيًا؛ لأنه في حكم من لم يجتهد أصلا (1).
المبحث الثاني
هل يجوز خلو العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه ؟
تحرير محل النزاع: الاجتهاد قسمان: عام وخاص.
فالعام: بذل الجهد في تطبيق أحكام الشريعة في حياتنا العملية، وهذا يكون من المجتهد ويكون من المقلد، وقد اتفقوا على أنه لا يخلو منه زمان.
والخاص: بذل الجهد في استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة، وهذا وظيفة المجتهد المطلق، وهو محل النِّزاع، فاختلف فيه العلماء: هل يخلو العصر منه أم لا ؟ على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يجوز خلوُّ العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه، وإليه ذهب الغزالي والرازي والزركشي والرافعي وغيرهم.
__________
(1) - انظر الإحكام للآمدي جـ 4 ص 233 ، انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 232 .(1/99)
المذهب الثاني: أنه لا يجوز خلو الزمان عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه، وإليه ذهب الحنابلة وغيرهم.
الأدلة والمناقشة
استدل أهل المذهب الأول القائلون بجواز خلو العصر عن المجتهد بأدلة شرعية ودليل عقلي:
أما الأدلة الشرعية فهي:
الأول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: - بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ - (1).
ووجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الإسلام سيعود غريبًا، وهذا يدل على أنه يأتي زمان يخلو فيه عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه.
وناقش أهلُ المذهب الثاني الدليلَ: بأن الغربة لا تدل على عدم وجود من يدافع عن الحق ممن تقوم بهم الحجة، من المجتهد الذي يرجع إليه الناس في فتاويهم، بل ربما أشعرت بوجوده، بدليل قوله آخر الحديث: - فطوبى للغرباء، الذين يصلحون إذا فسد الناس، أو يصلحون ما أفسد الناس - .
الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم - - إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقَ عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتَوْا بغير علم، فضلُّوا وأضلوا - (2).
ووجه الدلالة: أن الحديث دل على أنه يكون زمان لا عالم فيه يفتِي بعلم، ولازمُ هذا أن يكون زمان لا مجتهد فيه؛ لأن العلم أعمَّ من الاجتهاد، والاجتهاد أخصّ من العلم، فإذا انتفى الأعم انتفى الأخص ضرورة.
ونوقش هذا الدليل: بأن الحديث محمول على أن ذلك يحصل بعد إرسال الريح اللينة التي يقبض عندها روح كل مؤمن ومؤمنة، جمعًا بين الأدلة.
__________
(1) - رواه الطبراني في الثلاثة ورجاله رجال الصحيح غير بكر بن سليم وهو ثقة ، انظر مجمع الزوائد جـ 7 ص 278 .
(2) - أخرجه البخاري في باب كيف يقبض العلم ، انظر صحيح البخاري جـ 1 ص 194 ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي .(1/100)
الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم - - تعلَّموا الفرائض وعلِّموها الناس، فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيُقبض وتظهر الفتن، حتى يختلف الاثنان في الفريضة، فلا يجدان من يفصل بينهما - (1).
ووجه الاستدلال: أن الحديث دل على أنه يكون زمان لا يجد الاثنان من يفصل بينهما في الفريضة، ولازم هذا خلوُّ الزمان عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه.
ونوقش هذا الدليل: بأن الحديث غير صحيح، فقد رواه أحمد من حديث أبي الأحوص عنه نحوه بتمامه، والنسائي، والحاكم، والدارمي، والدارقطني، كلهم من رواية عوف، عن سليمان بن جابر، عن ابن مسعود، وفيه انقطاع (2).
الرابع: قوله -عليه السلام-: - لتركبُنَّ سنن من كان من قبلكم شبرًا بشبرًا، وذراعًا بذراع - (3).
ووجه الدلالة: أن الحديث يدل على أن هذه الأمة تتبع سنن من كان قبلها، ويلزم من هذا خلوُّ العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه.
ونوقش هذا الدليل: بأن الحديث لا يفيد أن الأمة كلها تتبع سنن من كان قبلها، وإنما المراد: الأغلب، - ولا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة، مستقيمة عليه حتى تقوم الساعة - كما ورد في الحديث (4).
على أن من كان قبلنا قد بقيت منهم بقية على الدين الصحيح، حتى آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - كعبد الله بن سلام وغيره.
__________
(1) - رواه أبو يعلى والبزار، قال في مجمع الزوائد: وفي إسناده من لم أعرفه. انظر مجمع الزوائد جـ 4 ص 223 .
(2) - انظر تلخيص الحبير جـ 3 ص 79 .
(3) - أخرجه الشيخان بلفظ: ( لتتَّبعُنَّ سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) .
(4) - رواه الطبراني في الصغير والكبير، ورجاله رجال الصحيح، بلفظ ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ) ، انظر مجمع الزوائد جـ 7 ص 288 . ورواه البخاري بلفظ: ( ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى ) .(1/101)
الخامس: قوله - صلى الله عليه وسلم - - خير القرون قرني الذي أنا فيه، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ثم تبقى حثالة كحثالة التمر، لا يعبأ الله بهم - (1).
ووجه الاستدلال: أن النبي -عليه السلام- أخبر أنه يكون بعد القرون المفضلة، حثالة كحثالة التمر، ولازم هذا خلو العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه.
وأجيب عن هذا الدليل بجوابين:
أحدهما: أن قوله: ثم تبقى حثالة كحثالة التمر. لم تصحّ.
الثاني: على تقدير صحة هذه الجملة، فإنه يُحْمل على ما بعد الريح اللينة، وقبض أرواح المؤمنين، جمعًا بين الأدلة.
وأما الدليل العقلي: فهو: أنه لو امتنع خلو الزمان عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه لامتنع إمَّا لذاته، وإمَّا لأمر خارج عنه، وامتناعه لذاته محال، فإنه لو فرض وقوعه لم يلزم عنه لذاته محال عقلا، وأما امتناعه لأمر خارج فالأصل عدمه، وعلى مدعيه البيان.
ونوقش هذا الدليل: بأن هذا الاستدلال غير صحيح؛ لأنه استدلال على إثبات الإمكان الخارجي بمجرد الإمكان الذهني، وهو غير كافٍ في ذلك؛ لأن الإمكان الخارجي إنما يثبت بالعلم بعدم الامتناع، والإمكان الذهني عبارة عن عدم العلم بالامتناع، وعدم العلم بالامتناع لا يستلزم العلم بعدم الامتناع (2).
استدل أهل المذهب الثاني، القائلون بأنه لا يجوز خلوُّ الزمان عن مجتهد، يمكن تفويض الفتاوى إليه بثلاثة أدلة شرعية ودليلين عقليين:
أما الأدلة الشرعية فهي:
الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - - لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله - (3).
__________
(1) - رواه البخاري بلفظ: ( خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم )، انظر صحيح البخاري جـ 5 ص 3 .
(2) - انظر موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول لشيخ الإسلام ابن تيمية جـ 1 ص 15 - 16 .
(3) - سبق تخريجه قريبًا .(1/102)
ووجه الاستدلال: أن ظهور طائفة على الحق في زمان ما، يلزم منه وجود الاجتهاد فيه؛ لأن القيام بالحق لا يمكن إلا به، وقد أخبر -عليه الصلاة والسلام- أنه لا يخلو عصر من قائم على الحق، فيكون هذا إخبارًا بعدم خلو عصر عن مجتهد.
الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام-: - واشوقاه إلى إخواني، قالوا يا رسول الله، ألسنا إخوانك؟ فقال: أنتم أصحابي، وإخواني قوم يأتون بعدي، يهربون بدينهم من شاهق إلى شاهق، ويصلحون إذا فسد الناس - (1).
ووجه الدلالة: أن النبي -عليه السلام- أخبر بأنه يوجد إخوان له يصلحون عند فساد الناس، والصلاح إنما يكون بالعلم والاجتهاد، وهذا يلزم منه عدم خلو عصر من مجتهد، وإلا لصار الناس كلهم جهَّالا وفسدوا.
الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم - - وأن العلماء ورثة الأنبياء - (2).
ووجه الدلالة: أن أحقَّ الأمم بإرث العلم: هذه الأمة، وأحق الأنبياء بإرث العلم عنه: نبيُّ هذه الأمة، وهذا دليل على أنه لا يخلو عصر عن مجتهد.
وعندي: أن هذا الدليل لا يدل على المطلوب؛ إذ قد يورث العلم ولا يوجد الاجتهاد؛ لأن العلم أعم من الاجتهاد، ووراثة الأعم، وهو العلم، لا تستلزم وراثة الأخصّ وهو الاجتهاد.
وأما الدليلان العقليان:
فالأول: أن الاجتهاد والتفقه في الدين فرض كفاية، إذا تركه الكل أثموا، فلو جاز خلو العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه، لزم منه اجتماع الأمة على الخطأ والضلالة، وهذا باطل ممتنع؛ للأدلة التي تدل على عصمة الأمة فيما أجمعت عليه.
__________
(1) - أخرجه مسلم بلفظ: ( إن من أشد أمتي لي حبًّا، ناسًا يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله " .
(2) - أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي .(1/103)
الثاني: أن الاجتهاد طريق لمعرفة الأحكام الشرعية، فلو جاز خلو العصر عن مجتهد يُرجع إليه في معرفة الأحكام، لزم منه تعطيل الشريعة وذهابها واندراس الأحكام، وهذا باطل ممتنع؛ للأدلة الدالة على حفظ الشريعة وبقائها إلى قيام الساعة.
وناقش أهل المذهب الأول - القائلون بأنه يجوز خلو العصر عن المجتهد- الدليلان العقليان، فقالوا:
متى يكون الاجتهاد والتفقه في الدين فرض كفاية، ويلزم من فقده تعطيل الشريعة واندراس الأحكام، هل ذلك إذا أمكن أن يعتمد العوام في عصرهم على الأحكام المنقولة إليهم في العصر الأول عمن سبقهم من المجتهدين ؟ وهذا ممنوع.
أو إذا لم يمكنهم الاعتماد على أحكام المجتهدين السابقين لعصرهم ؟ وهذا مسلَّم، ولكننا لا نسلّم امتناع هذا وعدم إمكانه، بل هو ممكن وغير ممتنع.
وأجاب أهل المذهب الثاني على المناقشة: بأن الوقائع في الوجود لا تنحصر، فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة، فلا بد من فتح باب الاجتهاد؛ للنظر فيما يحدث من الوقائع التي لا تكون منصوصًا عليها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، فلو جاز خلو العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه للزم الوقوع - عند حدوث الوقائع المتجددة - في أحد محذورين:
أحدهما: أن يُترك الناس فيها مع أهوائهم، وهذا باطل ممتنع.
الثاني: أن ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي، وهذا اتباع للهوى أيضًا، وهو باطل ممتنع، وحينئذ لا بد من أحد أمرين:
1- التوقف لا إلى غاية، وهذا يلزم منه تعطيل التكليف.
2- أو تكليف ما لا يطاق، وهذا باطل.
فظهر أنه لا بد من الاجتهاد في كل زمن، ولا يمكن خلوُّ العصر عن مجتهد تفوَّض إليه الفتاوى؛ لأن الوقائع تتجدد، ولا تختص بزمن دون زمن.
الترجيح: بعد أن سقنا أدلة المذهبين، ومناقشة كلٌّ منهما للآخر، يبدو لي أن الراجح من المذهبين هو: المذهب الثاني، وهو القول بأنه لا يجوز خلو العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه.
وجه ترجيحه:(1/104)
1- ما سبق من مناقشة أدلة أهل المذهب الأول، وهو القول بجواز خلو العصر عن مجتهد، والإجابة عن مناقشتهم لأدلة أهل المذهب الثاني.
2- أن الله تعالى لو أخلى زمانًا من مجتهد قائم لله بالحجة لزال التكليف؛ إذ التكليف لا يثبت إلا بالحجة الظاهرة، وإذا زال التكليف بطلت الشريعة.
3- أنه لو عدم الفقهاء المجتهدون لم تقم الفرائض كلها، ولو عطّلت الفرائض كلها لحلت النقمة كما في الحديث: - لا تقوم الساعة إلا على شِرار الناس - (1).
4- ادعاء خلو العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه في الأزمنة المتأخرة، حصر لفضل الله على بعض خلقه، وقصر فهم هذه الشريعة على من تقدم عصره، وهذا -مع أنه لا دليل عليه، بل هو دعوى- فيه جرأة على الله، ثم على شريعته الموضوعة لكل عبادة، ثم على عباده الذين تعبَّدَهم الله بالكتاب والسنَّة (2).
المبحث الثالث
ما العمل إذا حدثت للمفتي حادثة ليس فيها قول لأحد العلماء
اختلف العلماء: هل يجوز للمفتي والحاكم الإفتاء والحكم بالاجتهاد في الحادثة التي ليس فيها قول لأحد العلماء؟ على ثلاثة آراء:
الأول: أنه يجوز له الإفتاء والحكم.
حجة هذا الرأي:
1- قوله - صلى الله عليه وسلم - - إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر - (3).
ووجه الدلالة: أن الحديث عامٌّ يشمل ما اجتهد فيه مما عرف فيه أقوالا لمن قبله واجتهد في الصواب منها، وما اجتهد فيه مما لم يعرف فيه قولا لمن سبقه.
__________
(1) - رواه أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه .
(2) - انظر الإحكام للآمدي جـ 4 ص 233 وما بعدها ، وانظر إرشاد الفحول ص 253 - 254 ، وانظر الموافقات للشاطبي جـ 4 ص 65 - 66 ، وانظر أصول الفقه طه الدسوقي ص 350 وما بعدها .
(3) - رواه البخاري بلفظ: ( إذا حكم الحاكم ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجره ) انظر صحيح البخاري جـ 9 ص 133 ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر ، ورواه مسلم في كتاب القضاء .(1/105)
2- أن الاجتهاد في الحادثة التي لا يوجد فيها قول لمن سبق دَرَجَ عليه السلف والخلف، وعليه تدل فتاوى الأئمة وأجوبتهم، فإنهم كانوا يُسألون عن حوادث لم تقع قبلهم فيجتهدون فيها، والواقع شاهد بذلك، فعند التأمل يوجد مسائل كثيرة واقعة وهي غير منقولة.
3- أن الحاجة داعية إلى الاجتهاد، لكثرة الوقائع واختلاف الحوادث، والمنقول عن السابقين -مهما اتسع- لا يفي بوقائع العالم جميعًا.
الرأي الثاني: لا يجوز له الإفتاء والحكم، بل يتوقف في المسألة حتى يظفر فيها بقول لمن سبق.
حجة هذا الرأي: ما قاله الإمام أحمد لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام (1).
الرأي الثالث: التفرقة بين مسائل الأصول ومسائل الفروع، فيجوز الإفتاء والحكم في مسائل الفروع دون مسائل الأصول.
حجة هذا الرأي: أن مسائل الفروع تتعلق بالعمل وتشتدّ الحاجة إليها، والخطر فيها أسهل من غيرها، بخلاف مسائل الأصول فلا تتعلق بالعمل ولا تشتدّ الحاجة إليها، والخطر فيها أشدّ من غيرها.
الترجيح: بعد ذكر الآراء في المسألة، وحجة كل رأي، يتبيَّن لي أن الراجح في المسألة: الجواز، بشرطين:
1- أن تدعو الحاجة إلى الاجتهاد.
2- أن يكون المفتي أو الحاكم أهلا للاجتهاد.
أما إذا لم تَدْعُ الحاجة إلى الاجتهاد، أو كان المفتي أو الحاكم ليس أهلا للاجتهاد، فلا يجوز (2).
الباب الثالث
في المُسْتَفْتِي
وفيه فصلان:
الفصل الأول: في أقسام المُسْتَفْتِي.
الفصل الثاني: في ما يتعلق بالمُسْتَفْتِي.
الفصل الأول: في أقسام المُسْتَفْتِي
المُسْتَفْتِي لا يخلو بالقسمة العقلية من واحد من أربعة أقسام:
القسم الأول: أن يكون عالمًا قد بلغ رتبة الاجتهاد، واجتهد في المسألة، وأداه اجتهاده إلى حكم من الأحكام.
القسم الثاني: أن يكون عالمًا قد بلغ رتبة الاجتهاد، ولم يجتهد في المسألة.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 266 .
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 265 - 266 .(1/106)
القسم الثالث: أن يكون عاميًا صِرْفًا، لم يحصل على شيء من العلوم.
القسم الرابع: أن يكون قد ترقى عن رتبة العامة بتحصيل بعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد.
حكم كل قسم من الأقسام السابقة:
القسم الأول: وهو ما إذا كان المُسْتَفْتِي عالمًا قد بلغ رتبة الاجتهاد، واجتهد في المسألة، وأداه اجتهاده إلى حكم من الأحكام، فهذا لا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين في خلاف ما أوجبه ظنه، وتَرْك ظنه في ما أداه إليه اجتهاده بلا نزاع بين العلماء (1).
أما القسم الثاني: وهو ما إذا كان المُسْتَفْتِي عالمًا قد بلغ رتبة الاجتهاد، بحيث لو بحث في المسألة أدَّاه اجتهاده إلى حكم من غير حاجة إلى تعب كثير، لكنه لم يجتهد في المسألة، فهل يجوز له استفتاء غيره وتقليده، أم يجب عليه الاجتهاد؟ وقبل الدخول والخوض في خلاف العلماء في هذه المسألة لا بد من تحرير محل النزاع.
1- اتَّفق العلماء على أن المجتهد إذا اجتهد فغلب على ظنه الحكم، لا يجوز له تقليد غير واستفتاؤه، كما سبق ذكر ذلك آنفًا في القسم الأول.
2- واتفق الجمهور على أن العامي له تقليد المجتهد، كما سبق تحقيق ذلك في الباب الأول (2).
ومحل النزاع: مجتهد عنده استطاعة، تكاسل ولم يجتهد، بل قلد غيره؛ اعتمادًا عليه، وهو أهل للاجتهاد - هل يجوز له ذلك أم لا ؟.
في المسألة سبعة مذاهب للعلماء:
__________
(1) - انظر الإحكام للآمدي جـ 4 ص 204 و 222 ، وانظر المستصفى للغزالي جـ 2 ص 121 ، وانظر روضة الناظر لابن قدامة ص 202 ، وانظر المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص 189 ، وانظر الإنصاف في مسائل الخلاف جـ 11 ص 184 ، وانظر مجموع فتاوى ابن تيمية جـ 19 ص 261 .
(2) - انظر ما سبق في الباب الأول في الكلام على القسم الثاني من أقسام التقليد .(1/107)
المذهب الأول: لا يجوز للمجتهد قبل البحث أن يقلد غيره مطلقًا، صحابيًا أو تابعيًا أو غيرهما، أعلم منه أو مساويًا أو أدنى، عند ضيق الوقت أو سعته، في عمله أو إفتائه، وهو مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما.
المذهب الثاني: يجوز للمجتهد قبل البحث أن يقلد غيره مطلقًا، صحابيًا أو تابعيًا أو غيرهما، أعلم منه أو مساويًا أو أدنى، عند ضيق الوقت أو سعته، في عمل أو إفتائه، ونسب هذا إلى الإمام أحمد، ولكن نسبته غير صحيحة (1).
المذهب الثالث: يجوز للمجتهد قبل البحث تقليد الصحابي دون من بعده.
المذهب الرابع: يجوز للمجتهد قبل البحث تقليد الصحابي أو التابعي دون من بعدهما.
المذهب الخامس: يجوز للمجتهد قبل البحث تقليد الأعلم دون المساوي والأدنى، وهو قول محمد بن الحسن.
المذهب السادس: يجوز للمجتهد قبل البحث تقليد غيره عند ضيق الوقت لا في سعته.
المذهب السابع: يجوز للمجتهد قبل البحث تقليد غيره في عمله خاصة، دون إفتائه، وهو قول بعض أهل العراق.
وسوف لا نذكر إلا حجج المذهبين الأول والثاني؛ لقوتهما دون المذاهب الأخرى:
أدلة المذهب الأول: القائلين بالمنع من تقليد المجتهد قبل البحث لغيره مطلقًا، وهي أدلة نقلية ودليل عقلي، أما الأدلة النقلية:
الأول: قوله -تعالى-: { } - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - رضي الله عنه - - (( - - - ( - ( - - - صلى الله عليه وسلم -( - ((- رضي الله عنه - - ( - ( - (( - - } - - ((( } (2).
ووجه الاستدلال: أن الله -تعالى- أمر أولي الأبصار بالاعتبار، والمجتهد -الذي لم يبحث- من أولي الأبصار فهو مأمور بالاعتبار، وتقليد العالم للعالم يلزم منه ترك الاعتبار، فيكون غير جائز.
__________
(1) - انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جـ 19 ص 261 - 262 .
(2) - سورة الحشر آية : 2.(1/108)
الدليل الثاني: قوله -تعالى-: { ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( فهرس - صلى الله عليه وسلم - - - - عليه السلام - - - فهرس - ( { ( - قرآن كريم ( - { - - - - - - فهرس - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ( تم بحمد الله - } - - ( المحتويات ( - ( { ( تم بحمد الله ( مقدمة - رضي الله عنهم - - ( - - رضي الله عنهم -( - - - رضي الله عنه -((( - { - - - (( مقدمة - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ((( - - - - - ( - - - ( المحتويات ( - ( { ( تم بحمد الله } (1).
ووجه الدلالة: أن الله أخبر أنه لو رُدَّت الأمور التي تنزل بالناس إلى أولي الأمر - وهم العلماء - لعلم حكمها من يقدر على الاستنباط، والمجتهد -الذي لم يبحث- من العلماء القادرين على الاستنباط، وتقليده لعالم آخر يلزم منه تركه للاستنباط مع قدرته عليه، وردّه الأمر إلى غيره، مع أنه مردود إليه، فيكون غير جائز.
الدليل الثالث: قوله -تعالى-: { - - - (- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - تمت - - عليه السلام -(( - ( { ( - - - } (2).
ووجه الاستدلال: أن الله -تعالى- أنكر على من لم يتدبَّر، والمجتهد الذي لم يبحث قادر على التدبر، وتقليده لعالم آخر يلزم منه ترك التدبر، فيكون غير جائز.
الدليل الرابع: قوله -تعالى-: { تمت ( - - ( ( - ((((- رضي الله عنه - - (- عليه السلام - - - - - (( - ((( - ( ( فهرس - صلى الله عليه وسلم - - - ( - - ( - فهرس - ( { ( - - - ( - قرآن كريم ( - { - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } (3).
__________
(1) - سورة النساء آية : 83.
(2) - سورة النساء آية : 82.
(3) - سورة النساء آية : 59.(1/109)
ووجه الدلالة: أن الله -تعالى- أمر برد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة، والمجتهد الذي لم يبحث قادر على الرد إليهما، وتقليده لعالم آخر يلزم منه ترك الرد إليهما، فيكون غير جائز.
الدليل الخامس: قوله -تعالى-: { - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - (((( فهرس - - رضي الله عنه - - ( - - - ( مقدمة - (( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - ((( - ( ((( مقدمة ( - ( - ( - - ( - فهرس - ( { ( - - - } (1).
ووجه الاستدلال: أن الله -تعالى- أمر بالعمل بحكمه عند الاختلاف، وتقليد المجتهد الذي لم يبحث لعالم آخر يلزم منه ترك العمل بحكم الله، فيكون غير جائز.
الدليل السادس: قوله -تعالى-: { } - قرآن كريم ((( - ( - - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - - ( - الله أكبر ( - المحتويات ( - ( - - - ( { صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( فهرس - { - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ((( - ( - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ((( مقدمة ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم -( - - عليه السلام -( - - - عليه السلام - - ( - (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - } (2).
ووجه الدلالة: أن الله أمر باتباع المنزَّل، والمجتهد الذي لم يبحث قادر على الاتباع، وتفليده لعالم آخر يلزم منه ترك اتباع المنزل، فيكون غير جائز.
الدليل السابع: قوله -تعالى-: { - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( { - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله { { ( - - - - رضي الله عنهم - - - - (( مقدمة ( - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - (( } (3).
__________
(1) - سورة الشورى آية : 10.
(2) - سورة الأعراف آية : 3.
(3) - سورة الإسراء آية : 36.(1/110)
ووجه الاستدلال: أن الله نهى المسلم عن اقتفاء ما ليس له به علم، وتقليد المجتهد الذي لم يبحث لعالم آخر اقتفاء لما ليس له به علم، فيكون منهيًا عنه.
وأما الدليل العقلي فهو: القول بجواز التقليد لمن لا تثبت عصمته، ولا تعلم إصابته حكمًا شرعيًا لا يثبت إلا بدليل من نص أو قياس، والأصل عدم ذلك الدليل، فلا نصَّ ولا قياس إلا في حق العامي مع المجتهد، ولا يلزم من جواز ذلك في حق العامي العاجز عن التوصل إلى تحصيل مطلوبه من الحكم جواز ذلك في حق القادر على الاجتهاد والاستنباط، لما بينهما من الفرق، فإن العامي عاجز عن تحصيل العلم والظن بنفسه، والمجتهد قادر، فلا يتفقان في الحكم.
أدلة المذهب الثاني: القائلين بجواز تقليد المجتهد قبل البحث لغيره مطلقًا، وهي من النقل، والعقل، والأثر.
أدلتهم النقلية:
الأول: قوله -تعالى-: { } - ( قرآن كريم ( - - رضي الله عنه -(( - - ( - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - (- صلى الله عليه وسلم - - - - - تمت ( { ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - جل جلاله -( - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - - - (( - - (((( } (1).
ووجه الدلالة: أن الله أمر من لا يعلم بسؤال أهل الذكر، وأدنى درجات الأمر جواز اتباع المسئول، والمجتهد الذي لم يبحث لم يكن من أهل العلم في هذه المسألة فواجبه السؤال، ويلزم منه جواز التقليد.
وأجاب أهل المذهب الأول عن هذا الدليل بجوابين:
__________
(1) - سورة النحل آية : 43.(1/111)
أحدهما: أن المراد بأهل الذكر أهل العلم، والمخاطب بالأمر بالسؤال العوام، فالآية تأمر العامة بسؤال العلماء؛ إذ ينبغي أن يتميز السائل عن المسئول، والمجتهد الذي لم يبحث من أهل العلم، فهو مسئول وليس بسائل، ولا يخرج عن العلماء بكون المسألة غير حاضرة في ذهنه، إذ المراد بالعالم المتمكن من تحصيل العلم بأهليته فيما يسأل عنه، لا من هو عالم بالمسألة المسئول عنها بالفعل، فإن أهل الشيء تطلق في اللغة على من هو متأهّل لذلك الشيء لا من حصل له ذلك الشيء، والأصل تنزيل اللفظ على ما هو حقيقة فيه، فتختص الآية بسؤال من ليس من أهل العلم كالعامي لمن هو أهل له.
الثاني: يحتمل أن يكون معنى الآية: اسألوا، أيها المجتهدون؛ لتعلموا، أي سلوا عن الدليل ليحصل العلم، لا عن الحكم ليحصل التقليد، ونظيره قولهم: كل لتشبع واشرب لتَرْوَ، أي كل ليحصل الشبع، واشرب ليحصل الري.
الدليل الثاني: قوله -تعالى-: { - { - - - - صلى الله عليه وسلم - - ((- رضي الله عنه - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - ( قرآن كريم (- جل جلاله -- رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( } - قرآن كريم (( - ((- صلى الله عليه وسلم - - { - - - } - قرآن كريم (( - ((- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - - قرآن كريم ( - { - - - - - ( - - - صلى الله عليه وسلم -( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - - } - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - ( تم بحمد الله } (1).
ووجه الاستدلال: أن الله -تعالى- أمر بطاعة أولي الأمر - وهم العلماء - والمجتهد الذي لم يبحث في المسألة غير عالم فيها، فيكون مأمورًا بطاعة العالم فيها، وأدنى درجات الطاعة جواز اتباعه وتقليده.
وأجاب أهل المذهب الأول عن هذا الدليل بجوابين:
__________
(1) - سورة النساء آية : 59.(1/112)
أحدهما بالمنع: فليس المراد بأولي الأمر العلماء، بل المراد بهم الولاة والحكام؛ لوجوب طاعتهم على الرعية، لا العلماء؛ إذ لا يجب على المجتهد طاعة المجتهد الثاني بالتسليم: سلمنا أن المراد بأولي الأمر العلماء، فالطاعة واجبة على العوام، والمجتهد الذي لم يبحث من العلماء، وليس من العوام، فلا تجب عليه الطاعة.
وأما استدلالهم العقلي:
فقالوا: إن المجتهد قبل البحث لا يقدر باجتهاده على غير الظن، واتباعه لغيره فيما ذهب إليه مفيد للظن، وظن غيره كظنه، والظن معمول به في الشرعيات، فكان تقليده لعالم آخر جائزًا.
وناقش أهل المذهب الأول هذا الدليل: بأننا نسلّم أن المجتهد لا يقدر على غير الظن، لكن مع كونه لا يقدر على غير الظن، فإنه إذا اجتهد وحصل ظنه لم يجز له اتباع ظن غيره، وتقليده في خلاف ما أدى إليه اجتهاده إجماعًا؛ لأن ظنه أصل، وظن غيره بدل، ولو جاز له التقليد مع قدرته على البحث والاجتهاد لكان ذلك بدلا من اجتهاده.
والأصل أنه لا يجوز العدول إلى البدل مع إمكان تحصيل المبدل، وإذا لم يجز العدول إلى البدل -وهو ظن غيره من المجتهدين- مع وجود المبدل -وهو ظنه باجتهاده- لم يجز له التقليد مع القدرة على الاجتهاد، كسائر الأبدال والمبدلات، إلا أن يَرِدَ نص بالتخيير فترتفع البدلية، أو يرد نص بأنه بدل عند العدم لا عند الوجود، كما في بنت المخاض وابن اللبون في زكاة خمس وعشرين من الإبل، فإن وجود بنت مخاض يمنع من أداء ابن لبون، ولا يمنع ذلك عند عدمها، لكن الأصل عدم ذلك النص.
وأما استدلالهم بالأثر:
فقالوا: لم ينقل عن طلحة والزبير ونظرائهما من الصحابة، كسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، وهم أهل الشورى، نظر في الأحكام مع ظهور الخلاف، وهذا يدل على أنهم أخذوا بقول غيرهم، فدل على جواز تقليد المجتهد الذي لم يبحث لمن بحث وعلم.(1/113)
وناقش أهل المذهب الأول هذا الدليل: بأن هؤلاء الصحابة الذين ذكرتم كانوا لا يفتون اكتفاء بغيرهم من الصحابة، وأما علمهم لأنفسهم فلم يكن إلا بما عرفوه من الكتاب، وبما سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن وقعت واقعة أشكلت عليهم ولم يعرفوا دليلها، شاروا غيرهم لتعرف الدليل، لا التقليد.
الترجيح: بعد ذكر المذاهب وسياق الأدلة من الجانبين يتبين لي أن الراجح هو المذهب الأول، وهو القول بأنه لا يجوز تقليد المجتهد قبل البحث لغيره مطلقًا.
ووجه ترجيحه: ما سبق من مناقشة أدلة القائلين بجواز تقليد المجتهد قبل البحث لغيره مطلقٌا (1).
وأما القسم الثالث: وهو أن يكون المستفتِي عاميًا صرفًا لم يحصل على شيء من العلوم، فهذا لا يجوز له تقليد المجتهد بل يجب عليه، كما هو رأي جمهور العلماء، كما سبق بيان ذلك في الباب الأول (2).
وأما القسم الرابع: وهو أن يكون المستفتِي قد ترقى عن رتبة العامة بتحصيل بعض العلوم المعتبرة في رتبة الاجتهاد، فهو متمكن من الاجتهاد في بعض المسائل، ولا يقدر على الاجتهاد في البعض الآخر إلا بتحصيل علم على سبيل الابتداء، كالنحو في مسألة نحوية، وعلم صفات الرجال في مسألة خبرية، فهو يشبه العامي ويشبه المجتهد، فهذا القسم الأرجح فيه أنه كالعامي فيما لم يحصل عليه فيقلد فيه، وكالمجتهد فيما وصل إليه بالاجتهاد، فلا يقلد فيه (3).
__________
(1) - انظر الإحكام للآمدي جـ 4 ص 204 وما بعدها ، وانظر المستصفى للغزالي جـ 2 ص 121 وما بعدها ، وانظر روضة الناظر لابن قدامة ص 202 وما بعدها ، وانظر المدخل إلى مذهب أحمد ص 189 ، وانظر شرح عضد الدين لمختصر ابن الحاجب جـ 2 ص 300 - 301 .
(2) - انظر ما سبق في الباب الأول ص 17 وما بعدها - التقليد الواجب .
(3) - انظر ما سبق في الباب الأول في الكلام على القسم الثاني من أقسام التقليد، وانظر مسألة: هل للمجتهد في نوع من العلم أن يفتي به ، في الباب الثاني ص 73 وما بعدها .(1/114)
الفصل الثاني
في ما يتعلق بالمستفتِي
وفيه اثنا عشر مبحثًا:
المبحث الأول: في اختيار المستفتِي للمفتي وبما يعرف أنه أهل للفُتْيَا، وحكم استفتاء مجهول الحال
قبل الدخول في الخلاف في هذه المسألة، نحرّر محل النزاع، ونذكر العلامات التي بها يَعرف المستفتِي أهلية من يريد استفتاءه للفتوى، ثم نبين محل النزاع، فنقول:
القائلون بموجب الاستفتاء على العامي - وهم الجمهور - اتفقوا على أمور:
1- اتفقوا على جواز استفتاء العامي لمن عُرف بالعلم والفضل وأهلية الاجتهاد والعدالة.
2- اتفقوا على منع استفتاء العامي وتقليده لمن عرف بالجهل أو الفسق أو بهما معًا؛ لأن سؤاله تضييع لأحكام الشريعة.
و يَعرف المستفتي أهلية من يستفتيه للفتوى بإحدى العلامات التالية:
(أ) أن يراه منتصبًا للفتوى بمشهد من أعيان العلماء.
(ب) أن يرى إجماع الناس على سؤاله وأخذهم عنه.
(جـ) أن يتواتر بين الناس أو يستفيض كونه أهلا للفتوى.
(د) أن يبدو منه ويظهر عليه سمات الدين والخير والستر.
(هـ) أن يخبره عدل أو عدلان بأنه أهل للفتوى.
ومحل النزاع في هذه المسألة: من جهل حالَه المستفتي دينًا وعلمًا، فهل يستفتيه أم لا ؟.
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز تقليده واستفتاؤه.
حجة هذا القول ما يأتي:
1- أنه لا يؤمن أن يكون حال المسئول كحال السائل في العامية المانعة من قبول قوله، وكيف يقلد من يجوز أن يكون أجهل من السائل ؟ واحتمال صفة العامية أرجح من احتمال صفة العلم والاجتهاد؛ لأن الأصل في الناس أنهم أميون إلا الآحاد، فالغالب إنما هم العوام، واندراج مجهول الحال تحت الأغلب أغلب على الظن من اندراجه تحت الأقل.
2- أن كل من وجب عليه قبول قول غيره وجب عليه معرفة حاله دينًا وعلمًا، ويتضح ذلك ببيان أربعة أشياء:
(أ) أنه يجب على الأمة معرفة حال الرسول بالنظر في معجزاته، ولا يصدّق كل مجهول يدعي أنه رسول الله.(1/115)
(ب) أنه يجب على الحاكم معرفة حال الشاهد في العدالة.
(جـ) أنه يجب على العالم بالخبر معرفة حال رواته.
(د) أنه يجب على الرعية معرفة حال الإمام والحاكم.
القول الثاني: أنه يجوز تقليد مجهول الحال واستفتاؤه:
حجة هذا القول ما يأتي:
1- العادة والعرف، وذلك أن العادة جرت بأن من دخل بلدة يريد أن يسأل عن مسألة لا يبحث عن عدالة من يستفتيه ولا عن علمه.
2- سلَّمنا أنه يسأل عن علمه لكنه لا يسأله عن عدالته، وإذا لم يلزمه السؤال عن عدالته فإنه لا يلزمه السؤال عن علمه لعدم الفرق بينهما.
وناقش أهل المذهب الأول المانعين من استفتاء مجهول الحال هذين الدليلين:
أما الأول: فبالمنع من جريان العادة من المستفتي عند إرادة الاستفتاء أنه لا يبحث عن عدالة من يستفتيه، بل لا بد من السؤال عن العدالة بما يغلب على الظن من قول عدل أو عدلين.
وأما الثاني: فمنع التسليم بأنه لا يحتاج إلى البحث عن عدالته، فلا نسلّم عدم الفرق بين العدالة والعلم، بل إن هنالك فرقًا بينهما، وذلك أن الغالب من حال المُسْلم العالم - المستور - العدالة، لا سيما إذا اشتهر بالفُتْيَا والاجتهاد، حتى يُثبت الجارح.
فالأصل في العلماء أنهم عدول إلا الآحاد، فلا يسأل عن عدالتهم، وهذا يكفي في إفادة الظن، وليس كذلك في العلم، فليس الأصل في الخلق نيل درجة الاجتهاد، وليس الأصل في كل إنسان أن يكون عالمًا مجتهدًا، ولا الغالب ذلك؛ لغلبة الجهل، وكون الناس عوامًا إلا الأفراد، فحصل فرق بين العلم والعدالة.
الترجيح: بعد أن ذكرنا الخلاف في هذه المسألة، وأدلة كل من الرأيين يبدو لي أن الراجح في المسألة هو الرأي الأول، وهو القول بالمنع من تقليد مجهول الحال.(1/116)
ووجه ترجيحه: ما سبق من مناقشة أدلة المجيزين لاستفتاء مجهول الحال وتقليده (1).
المبحث الثاني
في ما إذا تعدد من يصلح للإفتاء فأيَّ واحد يسأل
قبل ذكر خلاف الأصوليين في هذه المسألة نحرر محل النزاع، فنقول:
1- اتفقوا على أنه إذا حدثت للعامي حادثة وأراد الاستفتاء عن حكمها، ولم يكن في البلد إلا مفتٍ واحد، أنه يجب على العامي سؤاله، والرجوع إليه، والأخذ بقوله.
2- واتفقوا على أنه إذا تعدّد من يصلح للإفتاء، واستووا في الفضل والعلم، أن العامي يخير في سؤال واحد منهم.
ومحل النزاع هو: ما إذا تعدد من يصلح للإفتاء، واستووا في الفضل والعلم، فهل يخيَّر في سؤال واحد منهم، أو يلزمه أن يجتهد في أعيان المفتين على قولين:
القول الأول: أن العامي مخيَّر في سؤال من شاء من العلماء، سواء تساووا في الفضل والعلم أو تفاضلوا.
حجة هذا القول: إجماع الصحابة على جواز سؤال العامة للفاضل والمفضول، فكانوا يقرون العامي في سؤاله للمفضول، ويقرون المفضول في إفتائه للعامي، ولم يمنعوا العامة من سؤال غير أبي بكر وعمر، أو سؤال غير الخلفاء الراشدين.
القول الثاني: أن العامي يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين من الأروع والأدين والأعلم، فيسأله دون غيره.
حجة هذا القول ما يأتي:
1- أن في اجتهاده في الأعلم والأروع والأدين احتياطًا لدينه، قياسًا على ما لو مرض إنسان وعنده طبيبان، فإنه يذهب إلى أحذقهما؛ حفظًا لصحته، واحتياطًا لها، فالاحتياط للدين أولى.
2- أن طريق معرفة الأحكام إنما هو الظن، والظن في تقليد الأعلم الأدين أقوى، فوجب الرجوع إليه.
__________
(1) - انظر الإحكام للآمدي جـ 4 ص 232 ، وانظر المستصفى للغزالي جـ 2 ص 125 ، وانظر روضة الناظر ص 206 - 207 ، وانظر مسودة ابن تيمية ص 464 ، و 472 ، وانظر المدخل إلى مذهب أحمد ص 194 ، وانظر أصول الفقه محمد الخضري ص 420 .(1/117)
وناقش أهل المذهب الأول هذين الدليلين: بأن الاحتياط للدين وقوة الظن لا يقاوم إجماع الصحابة على إقرارهم للعامي في سؤاله للفاضل والمفضول؛ إذ لم ينقل عن أحد منهم تكليف العوام بالاجتهاد في أعيان المفتين، ولم يحجر الفاضل على المفضول الفتوى، ومحل الاحتياط للدين وإفادة قوة الظن في معرفة الحكم إذا لم يعارضه دليل شرعي، وقد عارضه هنا إجماع الصحابة، فلا محل له.
الترجيح: بعد استعراض خلاف العلماء في هذه المسألة وأدلة كلٍّ، يظهر لي أن الراجح هو القول بتخيير العامي في سؤال من شاء من العلماء.
وجه ترجيحه: قوة دليل هذا القول، وهو إجماع الصحابة على ذلك، وعدم مقاومة ما استدل به الفريق الآخر، من الاحتياط وقوة الظن، للإجماع، فإنه دليل شرعي قطعي (1).
المبحث الثالث
في ما إذا سأل العامي اثنين
وتناقضت الفتوى واختلفا في الفضل بأي القولين يأخذ (2)
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه يلزمه الأخذ بقول الأعلم والأورع والأدْيَن، بعد الاجتهاد في أعيان المفتين، وهو مذهب أحمد بن حنبل وابن سريج والقفال، من أصحاب الشافعي، وجماعة من الفقهاء والأصوليين، واحتجّوا على ما ذهبوا إليه بما يأتي:
1- أن في الأخذ بقول الأفضل احتياطًا لدينه؛ قياسًا على ما لو مرض إنسان وعنده طبيبان، واختلفا في وصف الدواء والعلاج، فإنه يأخذ بقول أحذقهما؛ حفظًا لصحته واحتياطًا لها، فالاحتياط لدينه أولى.
2- ولأن طريق معرفة الأحكام الظن، والظن في تقليد الأعلم الأدْيَن أقوى، فوجب الأخذ به.
__________
(1) - انظر الإحكام للآمدي جـ 4 ص 237 ، وانظر المستصفى للغزالي جـ 2 ص 125 ، وانظر روضة الناظر لابن قدامة ص 207 ، وانظر أصول الفقه لمحمد الخضري ص 421 .
(2) - الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة لها ، أن هذه المسألة بعد وقوع السؤال وبعد وقوع الفتوى ، وتلك قبل السؤال والاستفتاء .(1/118)
3- ولأن إحدى الفُتياوين خطأ، وقد تعارضتا عنده فلزمه الأخذ بأرجحهما.
4- أن قول المفتيين في حق العامي بمنزلة الدليلين المتعارضين في حق المجتهد، فكما يجب على المجتهد الترجيح بين الدليلين، فكذلك يجب على العامي الترجيح بين المفتيين.
5- ولأن من اعتقد أن الصواب في أحد القولين، لا ينبغي له أن يأخذ بالتشهّي، ويختار من المذاهب أيسرها على نفسه ويأخذ بالرخص.
القول الثاني: أنه يتخيَّر في الأخذ بقول من شاء منهما، وإلى هذا ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من الأصوليين، واحتجوا على ما ذهبوا إليه بما يأتي:
1- الإجماع من الصحابة؛ إذ كان فيهم الفاضل والمفضول، وكان العامي يأخذ بقول كل منهما من دون نكير.
ونوقش هذا الدليل: بأن الإجماع محمول على ما إذا لم يسألهما فإنه حينئذ مخيَّر في سؤال من شاء منهما؛ إذ لم ينقل إلا ذلك، أما إذا سألهما واختلفا في الفتوى، فإنه يجب عليه الاجتهاد والأخذ بقول الأعلم والأدين.
2- قوله -عليه الصلاة والسلام-: - أصحابي كالنجوم بأيهم أقتديتم اهتديتم - (1).
ووجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأن من اقتدى بواحد من الصحابة فهو مهتد، وهم مختلفون في العلم والورع، وهذا يدل على أن العامي يتخيَّر في الأخذ بقول من شاء من المفتيين عند اختلافهما في الفتوى.
ونوقش هذا الدليل بما يأتي:
(أ) أن الحديث لم يصحّ، فقد رواه عبد بن حميد في مسنده من طريق حمزة النصيبي، عن نافع عن ابن عمر، وحمزة ضعيف، ورواه الدارقطني في غرائب مالك، وفي سنده جميل بن زيد وهو غير معروف، ورواه البزار وفي سنده عبد الرحيم بن زيد العمي وهو كذاب، وروي من طرق أخرى لم يصح منها شيء، وقال فيه ابن حزم هذا خبر موضوع باطل (2).
__________
(1) - أخرجه رزين ، انظر جامع الأصول من أحاديث الرسول لابن الأثير الجرزي جـ 9 ص 410 .
(2) - انظر تلخيص الحبير ، باب أدب القضاء جـ 4 ص 190 - 191 .(1/119)
(ب) أنه لو صح فهو معمول به فيما إذا ذهب المقلد فاستفتى صحابيًا أو غيره فقلده فيما أفتاه به فيما له أو عليه، ولا يدخل تحت الحديث ما إذا تعارض عند المقلد قولان لمفتيين؛ لأن كل واحد منهما متبع لدليل عنده يوجب ضد ما يقتضيه دليل صاحبه، فاتباع أحدهما بالتخيير اتباع للهوى، فلم يبق إلا الترجيح بالفضل والعلم.
3- أن العامي يحكم بالوهم ولا يعلم الأفضل حقيقة، بل يغترّ بالظواهر، وربما قدم المفضول على الفاضل، وذلك أن لمراتب الفضل أدلة غامضة لا يدركها العوام، ولو جاز للعامي أو وجب عليه الأخذ بقول الأعلم جاز له النظر في المسألة ابتداء.
ونوقش هذا الدليل بما يأتي:
(أ) أن هناك أمارات تفيد غلبة الظن يميز بها العامي الفاضل من المفضول، دون البحث عن علمه، والعامي أهل لذلك، منها:
1- الإخبار، بأن يتواتر الخبر بأنه الأعلم، أو يخبر عنه بعض العلماء بتقديمه، وهذه أمارة قولية.
2- إذعان المفضول له وتقديمه له.
3- أن يرى الناس يرجعون إليه في الاختلاف.
4- أن يرى الاستفتاءات تأتيه من بعيد، دون غيره.
وهذه الثلاث الأخيرة أمارات فعلية.
(ب) أن من مرض له طفل، وكان في البلد طبيبان وذهب إليهما فاختلفا في الدواء، فخالف الأفضل عُدَّ مقصرًا، ويعلم أفضل الطبيبين بتواتر الأخبار، وبإذعان المفضول له، وبقرائن أخرى تفيد غلبة الظن، فكذلك في حق العلماء بالنسبة للمقلد.
4- ولأن المفضول من أهل الاجتهاد، ولو انفرد لوجب على العامي الأخذ بقوله، فكذلك إذا كان معه غيره، وزيادة الفضل لا تؤثر.
ونوقش هذا الدليل بما يأتي:(1/120)
(أ) قولكم: إن المفضول إذا انفرد أخذ بقوله فكذلك إذا كان معه غيره، يجاب عنه بأن هذا قياس مع الفارق؛ إذ أنه إذا انفرد وجب على العامي الأخذ بقوله لعدم وجود ما يعارضه، أما إذا وجد معه غيره، واختلفا في الفتوى، فإنه يجب عليه الاجتهاد والترجيح، كتعارض الدليلين عند المجتهد، فكما أن المجتهد لا يجوز في حقه اتباع الدليلين معًا، ولا اتباع أحدهما من غير ترجيح ولا اجتهاد، فكذلك لا يجوز للعامي اتباع المفتيين معًا، ولا اتباع أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح.
(ب) قولكم: إن زيادة الفضل لا تؤثر يجاب عنه: بأن زيادة الفضل تفيد قوة الظن في معرفة الحكم، ولله -تعالى- سرٌّ في ردّ العباد إلى ظنونهم، حتى لا يكونوا مهملين، مسترسلين كالبهائم، متبعين للهوى، بل هم ملجمون بلجام التقوى.
الترجيح: بعد ذكر الأقوال في هذه المسألة يتبين لي أن الراجح هو القول الأول، وهو القول بأن المستفتي يلزمه الأخذ بقول الأعلم الأدين.
وجه ترجيحه:
1- ما سبق من مناقشة أدلة القائلين بأنه يتخير في الأخذ بقول من شاء منهما.
2- أن القول بالتخيير يلزم عليه محذوران:
أحدهما: أن هذا قول بجواز تعارض الدليلين في نفس الأمر؛ لأن فتوى كل واحد من المفتين مناقضة لفتوى الآخر، وقد استند كل منهما في فتواه إلى دليل.
الثاني: أن فائدة وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعبة هواه، وتخييره بين القولين المتناقضين نقض لهذا الأصل؛ إذ أننا متى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم، لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار، وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة (1).
المبحث الرابع
في ما إذا سأل العامي اثنين وتناقضت الفتوى واستويا
في الفضل فبأي القولين يأخذ للعلماء في هذه المسألة ثلاثة مذاهب
__________
(1) - انظر الإحكام للآمدي جـ 4 ص 237 ، وانظر الموافقات للشاطبي جـ 4 ص 82 - 83 ، وانظر المستصفى للغزالي جـ 2 ص 125 ، وانظر روضة الناظر لابن قدامة ص 207.(1/121)
المذهب الأول: أن العامي يتخيَّر في الأخذ بقول من شاء منهما.
حجة هذا المذهب: أن إيجاب الأخذ بقول أحدهما دون الآخر تحكّم؛ إذ ليس قول أحدهما بأولى من الآخر.
المذهب الثاني: أنه يجب على العامي الأخذ بالقول الأشدّ.
حجَّة هذا المذهب: إن الحقَّ ثقيل ومرّ، فثقله دليل على أحقيته.
المذهب الثالث: أنه يجب على العامي الأخذ بالقول الأخفّ.
حجة هذا المذهب ما يأتي:
1- قوله -تعالى-: { ( - - ( - ( - ( - - - ( المحتويات ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - ( - ( - ( - - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - ( - ( - ( المحتويات ( تمهيد ( - - عليه السلام - - ( - ((( - - - } (1).
ووجه الدلالة: أن الله أخبر أنه يريد بنا اليسر، والقول الأخف فيه يسر، فوجب الأخذ به.
2- قوله -تعالى-: { - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنهم - - ( - ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - (( (((( - - - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - مقدمة } (2).
ووجه الاستدلال: أن الله -تعالى- نفى الحرج في الدين، والقول الأخف فيه رفع للحرج فوجب الأخذ به.
3- قوله - صلى الله عليه وسلم - - بعثت بالحنفية السمحة - (3).
ووجه الاستدلال: أنه -عليه الصلاة والسلام- أخبر أنه بعث بالحنفية السمحة وهي السهلة والميسرة، والقول الأخف فيه يسر وسهولة، وهذا يدل على أحقيته ووجوب الأخذ به.
4- قوله -عليه السلام-: - لا ضرر ولا ضرار - (4).
__________
(1) - سورة البقرة آية : 185.
(2) - سورة الحج آية : 78.
(3) - قال في الجامع الصغير رواه الخطيب في التأريخ، انظر فيض القدير شرح الجامع الصغير جـ 3 ص 203 .
(4) - رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسندًا .(1/122)
ووجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى الضرر، والقول الأشد فيه ضرر، والقول الأخف فيه دفع للضرر، فوجب الأخذ به دفعًا للضرر.
5- أن الله غني كريم، والعبد محتاج فقير، وإذا وقع التعارض بين الجانبين كان الحمل على جانب الغني أولى.
الترجيح: الذي يبدو لي أن الراجح من هذه المذاهب الثلاثة هو الأول، وهو القول بتخيير العامي في الأخذ بقول من شاء منهما.
ووجه ترجيحه ما يأتي:
(أ) أن كلا من المفتيين تساويا في الفضل، فليس الأخذ بقول أحدهما بأولى من الآخر.
(ب) أن المذهبين الثاني والثالث تعارضا فتساقطا، فيبقى التخيير.
(جـ) ويجاب عن أدلة القائلين بوجوب الأخذ بالقول الأخف: بأنه يلزم من استدلالكم بها إسقاط التكليف جملة؛ إذ أن التكاليف من الأوامر والنواهي كلها فيها ثقل ومشقَّة، ومن أجل ذلك سُميت تكاليف، من الكلفة وهي المشقة، فلو لزم رفع المشقة إذا لحقت بالتكليف بهذه الأدلة، للزم رفع الطهارات والصلوات والزكوات والحج، ولا يقف ذلك عند حد؛ إذ ما من عبادة وأمر ونهي إلا وفيه نوع وقدر من المشقَّة (1).
المبحث الخامس
في حكم التزام العامي لمذهب معين في ستة مطالب
هل يجب على العاميّ التزام مذهب معين في كل واقعة ؟
المطلب الأول: إذا قلد العامي بعض المجتهدين في حكم حادثة، فهل له الرجوع في ذلك الحكم إلى غيره؟
المطلب الثاني: إذا اتبع العامي بعض المجتهدين في حكم حادثة، فهل له اتباع غيره في حكم آخر؟
المطلب الثالث: إذا عيَّن العامي مذهبًا معينًا، فهل له الرجوع إلى الأخذ بقول غيره في مسألة من المسائل؟
المطلب الرابع: هل يجوز الانتقال من مذهب إلى مذهب؟
المطلب الخامس: هل يجوز للعامي تتبع الرخص ؟
المطلب السادس: هل يجوز للعامي تقليد غير الأئمة الأربعة ؟
__________
(1) - انظر روضة الناظر جـ 2 ص 207 ، وانظر الموافقات للشاطبي جـ 4 ص 96 - 97 ، وانظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 264 .(1/123)
المطلب الأول: إذا قلد العامي بعض المجتهدين في حكم حادثة، فهل له الرجوع عنه في ذلك الحكم إلى غيره؟
فقال الآمدي: إذا تبع العامي بعض المجتهدين في حكم حادثة من الحوادث، وعمل بقوله فيها، اتفقوا على أنه ليس له الرجوع عنه في ذلك الحكم بعد ذلك إلى غيره ا. هـ (1).
وحكى الشيخ زكريا الأنصاري -في "غاية الوصول شرح لب الأصول"- الخلاف في ذلك، فقال: والأصح أنه لو أفتى مجتهدٌ عاميًا في حادثة فله الرجوع عنه فيها، إن لم يعمل بقوله فيها وثمَّ مفتٍ آخر.
وقيل يلزمه العمل به بمجرد الإفتاء فليس له الرجوع إلى غيره.
وقيل يلزمه العمل به بالشروع في العمل، بخلاف ما إذا لم يشرع.
وقيل يلزمه العمل به إن التزمه.
وقيل يلزمه العمل به إن وقع في نفسه صحته (2).
وعندي: أنه يلزمه العمل بفتوى المجتهد، ما لم يفتِه مفتٍ آخر بأن فتوى الأول تناقض نصًّا أو إجماعًا.
ووجه ذلك: أن الله تَعَبَّد العامي بسؤال المجتهد والعمل بفتواه، ما لم يتبين له خطأ اجتهاده.
المطلب الثاني: إذا اتَّبع العامي بعض المجتهدين في حكم حادثة، فهل له اتباع غيره في حكم آخر؟
فاختلف العلماء فيها على قولين:
1- فمن العلماء من منع اتباع غيره في حكم آخر.
حجته: أنه اتبعه في الحكم الأول، فيلزمه أن يقلده في الحكم الآخر.
2- ومن العلماء من أجاز له أن يقلد من شاء في أي واقعة تعْرِض له.
حجته: أنه لا ارتباط بين الحكم الأول والحكم الثاني، فكل منهما مستقل عن الآخر.
الترجيح: والذي يترجح لي القول الثاني، وهو القول بجواز تقليد العامي لمن شاء من المجتهدين في كل واقعة تعرض له.
ووجه ترجيحه ما يلي:
1- إجماع الصحابة على تسويغ استفتاء العامي لكل عالم في مسألة يريد معرفة حكمها، ولم يُنقل عن أحد منهم الحجر على العامة في ذلك، ولو كان ذلك ممتنعًا لأنكروه ولم يسكتوا عنه.
__________
(1) - انظر الإحكام للآمدي جـ 4 ص 238 .
(2) - انظر غاية الوصول شرح لب الأصول للشيخ زكريا ص 152 .(1/124)
2- أن كل مسألة لها حكم مستقل في نفسها، وكما لم يتعيَّن الأول للاتباع في المسألة الأولى إلا بعد سؤاله فكذلك في المسألة الأخرى (1).
المطلب الثالث: إذا عيَّن العامي مذهبًا معينًا - كمذهب الشافعي أو أبي حنيفة - والتزمه، فهل له الرجوع إلى الأخذ بقول غيره في مسألة من المسائل؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: أنه يجوز له الرجوع إلى الأخذ بقول غيره مطلقًا.
حجة هذا القول: أن التزامه لمذهب معين غير ملزم له، لعدم وجود دليل يوجِب ذلك.
القول الثاني: أنه لا يجوز له الرجوع إلى الأخذ بقول غيره مطلقًا.
حجة هذا القول: أن التزامه للمذهب الأول صار ملزمًا له، كما لو التزم مذهبه في حكم حادثة معينة.
القول الثالث: أنه إن كان قد عمل بالمسألة لم يجز له الانتقال إلى غيره فيها وإلا جاز له، واختاره إمام الحرمين.
حجَّة هذا القول: أنه إذا عمل بالمسألة فقد التزم بها، فانتقاله عنها بعد العمل يدل على أن ذلك لهوى في نفسه، واتباع الهوى لا يجوز، بخلاف ما إذا لم يعمل بها.
القول الرابع: أنه إذا غلب على ظنه أن مذهب غير إمامه في تلك المسألة أقوى من مذهبه جاز له الانتقال إليه فيها، وإلا لم يجز، واختاره القدوري من علماء الحنفية.
حجة هذا القول: أن الله -تعالى- تَعَبَّد العباد في كثير من العبادات، بما غلب على ظنونهم، وهذا قد غلب على ظنه أن مذهب غير إمامه في هذه المسألة أرجح من مذهبه؛ فجاز له الانتقال إليه.
القول الخامس: إن كان المذهب الذي أراد الانتقال إليه في هذه المسألة مما ينقض حكم هذه المسألة في مذهبه الذي عيَّنه والتزمه، لم يجز له الانتقال إليه، وإلا جاز، واختاره ابن عبد السلام.
حجة هذا القول: أنه إذا انتقل إليه، وهو ينقض حكم المسألة في مذهبه، يدل على أنه انتقل إليه للتشهّي والهوى، فلا يجوز، بخلاف ما إذا لم ينقضه.
__________
(1) - انظر الإحكام للآمدي جـ 4 ص 238 ، وانظر أصول الفقه طه الدسوقي ص 263 .(1/125)
القول السادس: أنه يجوز له الانتقال بشروط ثلاثة، وهي:
(أ) أن ينشرح له صدره.
(ب) ألا يكون قاصدًا للتلاعب.
(جـ) ألا يكون ناقضًا لما قد حكم عليه به.
حجة هذا القول: أنه إذا وجدت هذه الشروط دلَّ ذلك على أنه يقصد الحق بانتقاله لا الهوى والتشهي، بخلاف ما إذا لم توجد.
الترجيح: والذي يترجح لي في هذه المسألة ما اختاره الآمدي من التفصيل فيها. وهو أن كل مسألة من مذهب الأول اتصل عمل المقلد (1) بها فليس له تقليد غيره فيها، وكل مسألة لم يتصل عمله بها فلا مانع من اتباع غيره فيها.
وجه ترجيحه: أن ما اتصل عمله بها تابعٌ لمذهبه الذي عينه والتزمه، وما لم يتصل عمله بها فهو خارج عمَّا التزمه (2).
المطلب الرابع: هل يجوز للمقلد الانتقال من مذهب إلى مذهب أم يجب عليه التزام مذهب معين؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على مذاهب:
المذهب الأول: أنه يجب عليه الاستمرار على مذهبه، ويحرم عليه الانتقال إلى مذهب آخر، حتى شدَّد بعض المتأخرين، فقال: إذا صار الحنفي شافعيًا عُزِّر.
وجهة هذا المذهب: أن التزامه لهذا المذهب لا يخلو عن اعتقاد غلبة الأحقيَّة فيه، فلا يجوز تركه إلى غيره.
ونوقش هذا التوجيه بما يأتي:
1- أن دعوى: أن التزامه لمذهبه لاعتقاده أحقيته ممنوعةٌ، فإن الشخص قد يلتزم من المتساوين أحدهما لنفعه في الحال، ودفع الحرج عن نفسه.
2- إن سلَّمنا اعتقاده غلبة الأحقية فهو اعتقاد لم ينشأ عن دليل شرعي، بل هو حدس وتخمين وظنّ، ولا يجب الاستمرار على الحدس والتخمين.
المذهب الثاني: أنه لا يجب عليه الاستمرار على مذهبه، بل يجوز له الانتقال إلى مذهب آخر.
__________
(1) - أي المسألة التي يريد الأخذ بها من غير مذهبه.
(2) - انظر الإحكام للآمدي جـ 4 ص 238 ، وانظر إرشاد الفحول للشوكاني ص 272 .(1/126)
وجهة هذا المذهب: أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله -تعالى-، والله -تعالى- لم يوجب على أحد أن يلتزم مذهب رجل معيَّن، فإيجاب ذلك تشريع في الدين لم يأذن به الله.
ونوقش ذلك بأنه لا بد من تقييد جواز الانتقال بأن يعتقد أن ما انتقل إليه أقوى في غلبة الظن في إصابة الحق مما انتقل منه.
المذهب الثالث: أن ما قلد فيه لا يجوز له الرجوع فيه إلى مذهب غيره، التزم مذهبًا معينًا أم لا، وما لم يقلد فيه فله أن يقلد فيه من شاء، واختاره السبكي من علماء الشافعية.
وجهة هذا المذهب: أن ما قلد فيه فقد اعتقد غلبة احقيته، فلا يجوز له الانتقال إلى غيره، وما لم يقلد فيه لم يعتقد غلبة أحقيته، فجاز له تقلي غيره فيه.
ويجاب عن هذا التوجيه بما يأتي:
1- أن دعوى: اعتقاد غلبة الأحقية فيما قلد فيه - دعوى ممنوعة، لجواز أن يكون تقليده والتزامه له لمصلحة رآها، أو دفع حرج عنه.
2- سلَّمنا اعتقاده غلبة الأحقية فيما قلد فيه، لكنه اعتقاد لم يكن ناشئًا عن الشرع، ولا يجب عليه الاستمرار إلا على ما أوجب الشرع الاستمرار عليه.
الترجيح: والذي يترجح لي في هذه المسألة أنه يجوز له الانتقال إلى مذهب غيره، بشرط أن يعتقد أن ما انتقل إليه أقوى في غلبة ظنه في إصابة الحق مما انتقل عنه، أما إذا كان انتقاله لحصول غرض دنيوي من مال أو جاه أو نحوه، أو كان للتشهّي والهوى، فلا يجوز له الانتقال (1).
__________
(1) - انظر فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت جـ 2 ص 406 ، وانظر أصول الفقه طه الدسوقي ص 265 .(1/127)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الفتاوى المصرية: إذا كان الرجل متبعًا لأبي حنيفة أو لمالك أو الشافعي أو أحمد، ورأى في بعض المسائل أن مذهب غيره أقوى فاتبعه، كان قد أحسن في ذلك، ولم يقدح ذلك في دينه ولا عدالته بلا نزاع، بل هذا أولى بالحق، وأحب إلى الله ورسوله ممن يتعصب لواحد معيَّن غير النبي - صلى الله عليه وسلم - كمن يتعصب لأبي حنيفة أو لمالك أو الشافعي أو أحمد، ويرى أن قول هذا المعيَّن هو الصواب الذي ينبغي اتباعه دون الإمام الذي خالفه، فمَن فعل هذا كان جاهلا بل قد يكون كافرًا ا. هـ (1).
وقال أيضًا: ولا ريب أن التزام المذاهب والخروج عنها، إن كان لغير أمر ديني، مثل أن يلتزم مذهبا لحصول غرض دنيوي من مال أو جاه ونحو ذلك، فهذا مما لا يُحمد عليه، بل يذمّ عليه في نفس الأمر، ولو كان ما انتقل إليه خيرًا مما انتقل عنه، وهو بمنزلة من لا يُسْلم إلا لغرض دنيوي، أو يهاجر من مكة إلى المدينة لامرأة يتزوجها أو دنيا يصيبها ا. هـ (2).
وقال في الإنصاف في كتاب القضاء: وقال الشيخ تقي الدين: مَن أوجب تقليد إمام بعينه استتيب، فإن تاب وإلا قتل ا. هـ (3).
أقول: لكن يجب أن يُحْمل القول بالقتل على اعتقاد الإشراك مع الله في التشريع، أو أن هذا الإمام مساويًا للرسول في وجوب الاتباع، أمَّا إذا بُني القول بالوجوب في بعض المسائل على أن هذا الإمام المعيَّن أفضل من غيره من الأئمة، فلا مجال للقول بالقتل؛ لأنه لا يعتبر مرتدًّا بذلك.
المطلب الخامس: هل يجوز للعامي تتبع الرخص في المذاهب ؟
ذهب بعض المتأخرين إلى أنه يجوز تتبع رخص المذاهب، واحتجوا بما يأتي:
__________
(1) - انظر مجموعة الرسائل والمسائل النجدية جـ 4 ص 875 .
(2) - انظر مجموع فتاوى ابن تيمية جـ 20 ص 222 .
(3) - انظر مجموعة الرسائل والمسائل النجدية جـ 4 ص 876 .(1/128)
1- قوله -عليه الصلاة والسلام-: - بعثتُ بالحنفية السمحة - (1).
ووجه الاستدلال: أنه -عليه الصلاة والسلام- أخبر أنه بُعِثَ بالحنفية السمحة، وهي السهلة الميسرة، والأخذ بالرخص فيه يسر وسهولة، فدلَّ على جواز اتباع العامي لرخص المذاهب.
2- أن الأخذ بالرخص نوع من اللطف بالعبد، والشريعة لم ترد بقصد مشاقّ العباد، بل جاءت بتحصيل المصالح، فللإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان إليه سبيل.
3- وكان -عليه الصلاة والسلام- يحب ما خفف على أمته: - فما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما - ، (2) قالوا: وما نقله ابن عبد البر: "لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعًا": دعوى الإجماع ممنوعة، فقد روي عن الإمام أحمد في تفسيق متبِّع الرخص روايتان، فأين الإجماع ؟ فالمسألة تحتاج إلى دليل يمنع ذلك، ولم يوجد، غير أن الأحوط للإنسان أن يجعل هواه تبعًا لدينه، ولا يجعل دينه تبعًا لهواه.
والصحيح أن تتبّع الرخص لا يجوز؛ لما يأتي:
1- أن تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى.
2- أن تتبع الرخص مضادٌّ للأصل الذي استدلَّ به المجيزون لتتبع الرخص هو: - بُعِثْتُ بالحنفية السمحة - (3)؛ لأنه إنما أتى السماح مقيدًا بما هو جار على أصولها، وليس تتبع الرخص، ولا اختيار الأقوال بالتشهّي بثابت من أصولها.
__________
(1) - رواه الخطيب في التاريخ ، انظر الجامع الصغير مع فيض القدير جـ 3 ص 203 .
(2) - أخرجه مسلم بلفظ: ( ما خُيِّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا ) ، انظر صحيح مسلم جـ 7 ص 80 منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع بيروت .
(3) - رواه الخطيب في التاريخ ، انظر الجامع الصغير مع فيض القدير جـ 3 ص 203 .(1/129)
3- أن تتبع الرخص ينافي قول الله -تعالى-: { تمت ( - - ( ( - ((((- رضي الله عنه - - (- عليه السلام - - - - - (( - ((( - ( ( فهرس - صلى الله عليه وسلم - - - ( - - ( - فهرس - ( { ( - - - ( - قرآن كريم ( - { - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } (1) إذ أن موضوع الخلاف موضوع تنازع، فلا يصح أن يرد إلى أهواء النفوس، وإنما يرد إلى الشريعة.
مفاسد اتباع رخص المذاهب:
إن في إباحة تتبع رخص المذاهب مفاسد متعددة، منها:
(ا) الانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف.
(ب)الاستهانة بالدين؛ إذ يصير بهذا الاعتبار سيَّالا لا ينضبط.
(جـ) ترك ما هو معلوم بالدليل إلى ما ليس بمعلوم به.
(د) انخرام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى أمر معروف.
(هـ) إفضاؤه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يَخْرِقُ إجماع العلماء.
أمثلة لتتبع رخص المذاهب وتلفيقها:
المثال الأول: أن يقلد أبا حنيفة في أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، ويقلد الشافعي في أن خروج الدم لا ينقض الوضوء، ثم يصلي، فهذه الصلاة لا يقول بصحتها واحد من الإمامين.
المثال الثاني: أن يتزوج بلا ولي ولا صداق ولا شهود، فإن النكاح الخالي من هذه الثلاثة ليس بصحيح عند أحد من العلماء.
المثال الثالث: أن يأخذ بقول أهل مكة في المتعة والصرف (2) وبقول أهل المدينة في السماع (3) وإتيان النساء في أدبارهن (4) وبقول أهل الشام في الحرب والطاعة، وبقول أهل الكوفة في النبيذ (5).
حكم العلماء على من تتبع الرخص:
__________
(1) - سورة النساء آية : 59.
(2) - أي في إباحة متعة النساء، وإباحة ربا الفضل .
(3) - أي سماع الغناء .
(4) - لم يصح ذلك عنهم ، انظر تفسير القرطبي جـ 3 ص 94 - 95 .
(5) - هم يقولون بجواز تناول القدر الذي لا يسكر بقصد التداوي، إذا أخبر به طبيب مسلم حاذق عادل. انظر في ذلك كتاب الأشربة في حاشية ابن عابدين جـ 6 ص 452 وما بعدها مطبعة الحلبي .(1/130)
1- قال الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام.
2- قال الإمام أحمد: لو أن رجلا عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة كان فاسقًا.
3- حكى البيهقي عن إسماعيل القاضي، قال: دخلت على المعتضد فرفع إليَّ كتابًا لأنظر فيه، وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء، وما احتجَّ به كل واحد منهم، فقلت مُصنّف هذا زنديق، فقال: ألم تصح هذه الأحاديث على ما رويت، فقلت: ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب (1).
المطلب السادس:
هل يجوز للعامي تقليد غير الأئمة الأربعة أو يلزمه تقليد واحد منهم؟
في هذه المسألة مذهبان للعلماء:
المذهب الأول: أن يلزمه تقليد أحد الأئمة الأربعة، ولا يجوز له تقليد غيرهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وإليه ذهب ابن الصلاح وطائفة، حتى حكَى بعض المتأخرين الإجماع على ذلك.
حجتهم: أن الأئمة الأربعة قد نُقِلت أقوالهم نقلا متواترًا خلفًا عن سلف، فانضبطت مذاهبهم، وقيدت مسائلهم وخصَّ عمومها، بخلاف غيرهم فإن اتباعهم قد انقرضوا.
قالوا: ولا يجوز للعامي تقليد الصحابة، فإن أخذ الحكم من أقوالهم يحتاج إلى بحث وتنقير لا يستطيعه العامي، وإنما يجب عليه تقليد الذين سيّروا، وبوبوا، وهذَّبوا، ونقَّحوا، وجمعوا، وفرَّقوا، وعلَّلوا وفصَّلوا.
وخلاصة ذلك: أنه يجب على العوام تقليد من تصدَّى لعلم الفقه، لا تقليد أعيان الصحابة، وهذا خاص بالأئمة الأربعة.
__________
(1) - انظر فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت جـ 2 ص 406 ، وانظر إرشاد الفحول ص 272 وانظر الموافقات للشاطبي جـ 4 ص 93 - 94 - 96 ، وانظر الإنصاف في مسائل الخلاف جـ 11 ص 196 وانظر أصول الفقه لمحمد الخضري ص 422 ، وانظر أصول الفقه طه الدسوقي ص 365 .(1/131)
المذهب الثاني: أنه لا يلزمه تقليد واحد من الأئمة الأربعة، بل يجوز له تقليد من شاء من العلماء.
حجتهم: أن الله لم يوجب على أحد طاعة غير الله ورسوله، وأما غيرهم فإنما تجب طاعته تبعًا لطاعة الله ورسوله لا استقلالا.
الترجيح: والراجح هو المذهب الثاني، وهو أنه يجوز للعامي تقليد من شاء من العلماء، وهذا هو الصحيح الذي لا ينبغي العدول عنه.
وجه ترجيحه:
1- أن الله تَعَبَّد العامي بتقليد واحد من العلماء يغلب على ظنه أن الصواب معه، كما قال الله -تعالى-: { } - ( قرآن كريم ( - - رضي الله عنه -(( - - ( - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - (- صلى الله عليه وسلم - - - - - تمت ( { ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - جل جلاله -( - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - - - (( - - (((( } (1) فأوجب على من لا يعلم سؤال أهل الذكر، ولم يخصص أحد الأئمة الأربعة.
2- أن الإجماع انعقد على أن من أسلم، ولم يكن من أهل الاجتهاد، فله أن يقلد من شاء من العلماء.
3- أن الصحابة أجمعوا على أن من استفتى أحد الخلفاء الراشدين فله أن يستفتي غيرهم ويعمل بقولهم (2).
قال العراقي: انعقد الإجماع على أن مَن أسلم ولم يكن أهلا للاجتهاد، فله أن يقلد من شاء من العلماء من غير حِجر، وأجمع الصحابة على أن مَن استفتى أبا بكر وعمر فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما، ويعمل بقولهم من غير نكير، ومن ادَّعى رفع هذين الإجماعين فعليه البيان ا. هـ (3).
__________
(1) - سورة النحل آية : 43.
(2) - انظر فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت جـ 2 ص 407 ، وانظر تيسير التحرير جـ 4 ص 255 - 256 وانظر أصول الفقه لمحمد الخضري ص 423 ، وانظر أصول الفقه طه الدسوقي ص 364 .
(3) - انظر ما كتب تعليقًا على مسلم الثبوت لعبد الشكور البهاري جـ 2 ص 357 المطبعة الحسينية المصرية.(1/132)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وإذا نزلت بالمسلم نازلة فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان، ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقوله، ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معيَّن غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يوجبه ويخبر به. ا. هـ (1).
وقال ابن القيم -رحمه الله-: لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة، فيقلده دينه دون غيره، وقد انطوت القرون المفضلة فبرأه مبرأ أهلها من هذه النسبة، ثم قال: فيا لله العجب! ماتت مذاهب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومذاهب التابعين وتابعيهم، وسائر أئمة الإسلام، وبطلت جملةً إلا مذاهب أربعة أنفس فقط من بين سائر الأئمة والفقهاء.
وهل قال ذلك أحد من الأئمة أو دعا إليه، أو دلت عليه لفظة واحدة من كلامه عليه، والذي أوجبه الله -تعالى- ورسوله على الصحابة والتابعين وتابعيهم هو الذي أو جبه على من بعدهم إلى يوم القيامة. ا. هـ (2).
المبحث السادس
في حكم العامي الذي لا يجد من يفتيه
إذا نزلت بالعامي نازلة، ولم يجد من يسأله عن حكمها، فما الحكم ؟ ويتصور فقده في حالتين:
الأولى: فقد العلم به أصلا، فهو كمن لم يرد عليه تكليف ألبتة.
الثانية: فقد العلم بوصفه دون أصله، كالعالم بالطهارة أو الصلاة أو الزكاة على الجملة، لكنه لا يعلم كثيرًا من تفاصيلها وتقييداتها وأحكام العوارض فيها.
في هذه المسألة مذهبان للعلماء:
المذهب الأول: أن حكمه حكم ما قبل الشرع على الخلاف في ذلك، هل حكمه الحظر، أو الإباحة، أو الوقف.
حجة هذا المذهب: أن عدم المرشد في حق العامي بمنزلة عدم المرشد بالنسبة إلى الأمة.
__________
(1) - انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جـ 2 ص 208 - 209 .
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 262 - 263 .(1/133)
قال في الإنصاف: ومن عدم مفتيًا في بلده وغيره فحكمه حكم ما قبل الشرع على الصحيح من المذهب قدمه في الفروع. ا. هـ (1).
المذهب الثاني: أن حكمه حكم المجتهد عند تعارض الأدلة، على الخلاف في ذلك: هل يعمل بالأخف، أو بالأشد، أو يتخير؟
وجهة هذا المذهب: أن عدم وجود المفتي في حق العامي بمنزلة تعارض الأدلة بالنسبة للمجتهد.
الترجيح: والذي يترجح لي في هذه المسألة أنه يتحرى الحق بجهده، ويتقى الله ما استطاع، ويعمل بما يدل على الحق من بعض الأمارات المرجحة ولو بمنام أو إلهام، فإن لم يوجد شيء من ذلك سقط عنه التكليف.
وجه سقوط التكليف عنه عند فقد المفتي إذا لم يكن به علم ما يأتي:
1- أنه إذا كان المجتهد يسقط عنه التكليف عند تعارض الأدلة عليه - على الصحيح - فالمقلد عند فقد العلم بالعمل رأسًا أحق وأولى.
2- أن حقيقة هذه المسألة راجعة إلى العمل قبل تعلق الخطاب، والأصل في الأعمال قبل ورود الشرع سقوط التكليف؛ إذ شرط التكليف العلم بالمكلف به.
3- أنه لو كان مكلفًا بالعمل لكان تكليفًا بما لا يطاق؛ لأنه تكليف بما لا سبيل إلى الوصول إليه ولا يقدر على الامتثال، وهذا محال (2).
__________
(1) - انظر الإنصاف جـ 11 ص 190 .
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 219 ، وانظر الموافقات للشاطبي جـ 4 ص 200 .(1/134)
قال ابن القيم -رحمه الله-: والصواب أنه يجب عليه أن يتقي الله ما استطاع، ويتحرى الحق بجهده ومعرفة مثله، وقد نصب الله -تعالى- على الحق أمارات كثيرة، ولم يسوِّ الله -سبحانه وتعالى- بين ما يحبه وبين ما يسخطه من كل وجه، بحيث لا يتميز هذا من هذا، ولا بد أن تكون الفِطَر السليمة مائلة إلى الحق مؤثرة له، ولا بد أن يقوم لها عليه بعض الأمارات المرجّحة ولو بمنام أو إلهام، فإنْ قُدِّرَ إرتفاع ذلك كله، وعدمت في حقه جميع الأمارات، فهنا يسقط التكليف عنه في حكم هذه النازلة، ويصير بالنسبة إليها كمن لم تبلغه الدعوة، وإن كان مكلفًا بالنسبة إلى غيرها. ا. هـ (1).
المبحث السابع
في ما إذا تكررت الواقعة فهل يتكرر الاستفتاء
إذا استفتى العامي عالمًا عن حكم حادثة فأفتاه، وعمل بقوله، ثم وقعت له مرة ثانية، فهل له أن يعمل بالفتوى الأولى، أو يلزمه الاستفتاء مرة ثانية؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين، وهما وجهان لأصحاب الشافعي وأحمد:
القول الأول: لا يلزمه الاستفتاء مرة ثانية، بل يعمل بالفتوى الأولى.
حجة هذا القول: استصحاب الحال في الحادثة الثانية؛ إذ الأصل بقاء ما كان على ما كان، فله أن يعمل بالفتوى، ولو بعد مدة من وقت الإفتاء، وإن جاز تغير اجتهاده.
القول الثاني: أنه يلزمه الاستفتاء مرة ثانية، ولا يجوز له العمل بالفتوى الأولى.
حجة هذا القول: أن المستفتي ليس على ثقة من بقاء المفتي عل اجتهاده الأول؛ إذ يحتمل أن يخالف اجتهاده الأول ويرجع عنه باطّلاعه على ما يخالفه من دليل إن كان مجتهدًا، ونص لإمامه إن كان مقلدًا، فيكون المستفتي قد عمل بما هو خطأ عند المفتي، وبالتالي يكون آخذا بالشيء من غير دليل.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 219 - 220 .(1/135)
الترجيح: والذي يظهر لي في هذه المسألة أنه لا بد من التفصيل، فإن كان الذي افتاه ميتًا فإنه لا يلزم العامي تجديد السؤال، والمفتي على مذهب الميت يتعيَّن جوابه على مذهبه، وإن كان الذي أفتاه حيًا لزم العامي إعادة السؤال وتجديده، فإن عرف أن الجواب استند إلى نص أو إجماع فلا يلزمه إعادة السؤال.
وجه ترجيحه: أن الميت مأمون رجوعه عن الفتوى، بخلاف الحيّ فإنه قد يرجع عن فتواه، لقول ابن مسعود - رضي الله عنه - من كان منكم مستنًّا فليستنَّ بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة (1).
المبحث الثامن
في حكم عمل المستفتي بفتوى المفتي
هل يجب العمل بفتوى المفتي:
إذا استفتى العامي عالمًا فأفتاه، فهل يجب على المستفتي العمل بفتواه بحيث يكون عاصيًا إن لم يعمل بها، أو لا يجب عليه العمل.
في هذه المسألة أربعة أقوال، وهي أربعة أوجه لأصحاب أحمد.
القول الأول: لا يلزمه العمل بها إلا أن يلتزمه هو، وإن لم يشرع في العمل بها.
حجة هذا القول: أن التزامه للعمل بها دليل على اعتقاده أحقيتها.
ونوقش ذلك بما يأتي:
1- أن هذه الدعوى ممنوعة، لجواز أن يكون التزامه لمصلحة رآها أو دفع حرج عنه.
2- سلمنا اعتقاده الأحقيَّة، فهو اعتقاد لم يكن ناشئًا عن الشرع، ولا يجب الالتزام إلا على ما أوجب الشرع التزامه.
القول الثاني: يلزمه العمل بها إذا شَرَعَ في العمل، ولا يلزمه إذا لم يَشْرع.
حجة هذا القول: أنه إذا شرع في العمل بها فقد ألزم نفسه بها، وهذا يدل على اعتقاده أحقيتها.
ونوقش هذا الدليل بما نوقش به دليل القول الأول.
القول الثالث: إن وقع في قلبه صحة فتواه، وأنها حق لزمه العمل بها، وإلا فلا.
حجة هذا القول: أنه إذا وقع في قلبه صحته فقد اعتقد أحقيتها فلزمه العمل بها.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 261 ، وانظر مسودة آل تيمية ص 467 - 468 ، وانظر شرح مراقي السعود ص 241 ، وانظر غاية الوصول شرح لب الأصول ص 151 .(1/136)
ونوقش هذا الدليل بما نوقش به دليل القول الأول والثاني.
القول الرابع: التفصيل فيما إذا وجد مفتيًا غيره أو لم يجد.
فإذا لم يجد مفتيا آخر لزمه الأخذ بفتياه والعمل بها.
وجه ذلك: أن فرض العامي التقليد وتقوى الله ما استطاع، وهذا هو المستطاع في حقه، وهو غاية ما يقدر عليه.
وإن وجد مفتيًا آخر فلا يلزمه العمل بقول المفتي الأول، وإنما هو بالخيار بين الأخذ بقول الأول واستفتاء الثاني، فإن استفتى الثاني فلا يخلو: إما أن يوافق بفتواه فتوى الأول أو يخالفه.
وجه ذلك: أن موافقة الثاني للأول أبلغ في لزوم العمل، وأوجب من انفراد الأول.
وإن خالف الثاني الأول في فتواه فلا يخلو: إما أن يتبيَّن له الحق في إحدى الفُتياوين، أو لا.
فإن استبان له الصواب في إحداهما لزمه العمل بها.
وإن لم يستبن له لصواب في إحداهما فاختلف في ذلك، فقيل:
(ا) يأخذ بالأرشد؛ لأن الحق شديد وثقيل.
(ب) يأخذ بالأسهل؛ لأن الشريعة سهلة وميسرة.
(جـ) يتخير في إحداهما؛ لتساوي المفتيين في التصدر للإفتاء.
(د) يتوقف فيهما؛ لعدم تبين الصواب له منهما.
(هـ) يأخذ بالأحوط؛ ولعل هذا هو الأرجح، لبعد المحتاط عن الخطأ.
الترجيح: بعد ذكر الأقوال في هذه المسألة ومستند كل قول، يترجح في نظري القول الرابع منها.
ووجه ترجيحه:
1- ما سبق من التفصيل فيه ووجهة كل جزء منه.
2- ما سبق من مناقشة ما استند إليه كل قول من الأقوال الثلاثة الأولى في المسألة (1).
المبحث التاسع
في حكم إفتاء المقلِّد
" هل يجوز للمقلِّد أن يفتي "
في التقليد في الفتيا ثلاثة أقوال:
الأول: أنه لا تجوز الفتوى بالتقليد مطلقًا، وهذا قول أكثر أصحاب أحمد، وجمهور الشافعية، مستند هذا القول: أن التقليد ليس بعلم بلا خلاف، والمقلِّد لا يطلق عليه اسم عالم، والفتوى بغير علم حرام.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 264 .(1/137)
القول الثاني: أن التقليد يجوز فيها إذا كانت الفتوى لنفسه، فيقلِّد غيره من العلماء، ولا يجوز أن يقلد العالمَ فيما يفتي به لغيره، وهو قول ابن بطة وغيره.
مستَنَد هذا القول: أن دليل جواز التقليد خاص فيما يتعلق بنفسه، لا فيما يتعلق بغيره.
القول الثالث: أن التقليد في الفتوى يجوز عند الحاجة وعدم وجود العالم المجتهد.
مستنَد هذا القول: أن التقليد إنما يصار إليه عند الحاجة والضرورة، وذلك إنما يكون عند فقد العالم المجتهد.
الترجيح: الذي يترجح لي من هذه الأقوال الثلاثة هو القول الثالث، وهو جواز التقليد في الفتيا عند وجود العالم المجتهد.
وجه ترجيحه: أنه إذا حدثت حادثة وفُقِد العالم المجتهد، ولم يوجد إلا فتوى المقلد، فالعمل بها أولى من التوقف أو العمل بالتشهي وما تهواه النفس.
أما القول الثاني والأول: فيجب أن يقيد منع الفتوى بالتقليد فيهما بما إذا لم يوجد حاجة أو ضرورة إليهما، كما إذا عدم العالم المجتهد؛ لأن الحاجة تستدعي الترخُّص، والضرورة تقدر بقدرها (1).
المبحث العاشر
في حكم إفتاء العامي بما علم
" هل يجوز للعامي إذا علم مسألة أن يفتي فيها "
إذا عرف العاميّ حكم حادثة بدليلها، فهل يجوز له أن يفتي بها، وهل يسوغ لغيره أن يقلِّده فيها.
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال، وهي ثلاثة أوجه للشافعية:
القول الأول: أنه يجوز للعامي أن يفتي فيها مطلقًا.
مستند هذا القول: أن العامي قد أدرك العلم بتلك الحادثة ودليلها، فيجوز له الإفتاء فيها قياسًا على العالم، وإن تميَّز العالم عن العامي بما يتمكَّن به من تقرير الدليل، ودفع ما يَرِدُ عليه من اعتراض، إلا أنه قدرٌ زائد على معرفة الحق بدليله.
__________
(1) - انظر مجموعة الرسائل والمسائل النجدية جـ 2 رسالة الاجتهاد والتقليد للشيخ حمد بن ناصر بن معمر ص 5 ، وانظر إعلام الموقعين جـ 1 ص 45 - 46 .(1/138)
القول الثاني: أن العاميَّ ليس أهلا للاستدلال والعلم بشروطه، وما يعارضه، وربما توهَّم ما ليس بدليل دليلا.
القول الثالث: التفصيل، وهو أنه إن كان دليل تلك الحادثة كتابًا أو سنة جاز للعامي الإفتاء فيها، وإن كان دليلها غيرهما، كالقياس مثلا لم يجز له الإفتاء.
مستند هذا القول: أن القرآن والسنة خطاب لجميع المكلفين، وهو واضح لكل أحد، فوجب على كل مكلَّف أن يعمل به متى بَلَغَه، ويجوز له أن يرشد غيره إليه، ويدلَّ عليه.
الترجيح: الذي يظهر لي أن الراجح في المسألة هو القول الثالث، وهو التفريق بين ما إذا كان دليل المسألة كتابًا أو سنة، وبين ما إذا كان دليل المسألة غيرهما.
وجه ترجيحه: أن الدليل إذا كان من الكتاب والسنة فإنه واضح لا خفاء فيه ولا لبس في معرفته، فيستطيع العامي أن يدركه ويفهمه، بخلاف ما إذا كان الدليل قياسًا - مثلا - فإنه خفي الدلالة، فلا يتسنى للعامي معرفته وإدراكه على حقيقته؛ لعدم وضوحه وسهولة فهمه بالنسبة له.
وبهذا يتبيَّن أن القول بالجواز مطلقًا، والقول بالمنع مطلقًا قولان مرجوحان (1).
المبحث الحادي عشر
في حكم إفتاء المتفقِّه القاصر وتقليده
" هل يجوز للمقلِّد تقليد المتفقِّه القاصر عن معرفة الكتاب والسنة "
إذا تفقَّه رجل، وقرأ بعض كتب الفقه، لكنه قاصر عن معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف والاستنباط والترجيح، فهل يسوغ تقليده في الفتوى أم لا؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على أربعة أقوال:
القول الأول: المنع من تقليده مطلقًا، وجد مجتهد غيره أو لم يوجد، وسواء كان مطلعًا على مأخذ من يفتي بقوله أو لم يكن كذلك.
مستنَد هذا القول: أنَّ من لا يعرف الكتاب والسنة وآثار السلف والاستنباط والترجيح بمنزلة العامي، فلا يجوز تقليده، وإن قرأ بعض كتب الفقه.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 199 .(1/139)
القول الثاني: جواز تقليده مطلقًا، وجد مجتهد غيره أم لا، سواء كان مطلعًا على مأخذ من يفتي بقوله أو لم يكن كذلك.
مستند هذا القول: أنه قد تفقَّه، وعرف كلام الفقهاء، وما استندوا إليه، وما استدلُّوا به، وهذا يخرجه عن العامية المانعة من تقليده، وإن لم يكن قادرًا على الاستنباط والترجيح.
القول الثالث: جواز تقليده إن كان مطلعًا على مأخذ من يفتي بقوله، وعدم جوازه إن لم يكن مطلعًا على مأخذه.
مستند هذا القول: أنه إن كان مطلعًا على مأخذ إمامه يكون عالمًا بما يستند إليه من حجة، فيكون بمنزلة العالم المجتهد، فيجوز تقليده، بخلاف ما إذا لم يكن مطلعًا على مأخذه فلا يكون له علم بما استند إليه إمامه، فيكون بمنزلة العامي فلا يجوز تقليده.
القول الرابع: جواز تقليده إذا لم يوجد المجتهد، وعدم جواز تقليده مع وجود المجتهد.
مستند هذا القول: أنه عند عدم المجتهد وفقده تكون هناك حاجة إلى تقليده، بخلاف ما إذا وجد المجتهد فلا حاجة إليه.
الترجيح: والذي يترجَّح لي من هذه الأقوال هو القول الرابع، وهو: أنه إن كان السائل المقلِّد يمكنه أن يصل إلى عالم غيره يفتيه بما تيَّقن به الصواب، لم يجز له استفتاؤه، ولا يحل لهذا المتفقِّه أن يتصدر للفتوى مع وجود هذا العالم، وإن لم يمكنه أن يصل إلى عالم غيره يسأله بحيث لا يوجد، جاز له استفتاؤه وتقليده في الفتوى.
وجه ترجيحه:
1- أن الله -تعالى- قال: { } - قرآن كريم ( { } - - - - ( { - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( - (((( - (- رضي الله عنه - - ( - - - } (1) وتقليد المتفقِّه عند عدم وجود عالم مجتهد غيره هو الذي يستطيعه العامي من تقواه التي أمر بها، ولا يستطيع غير ذلك.
2- أن تقليد المتفقِّه عند عدم المجتهد أولى من أن يُقْدِم العامي على العمل بلا علم، أو البقاء في حيرة وتردد، على جهل وعمى (2).
__________
(1) - سورة التغابن آية : 16.
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 196 - 197 .(1/140)
المبحث الثاني عشر
في حكم المستفتِي عند رجوع المفتي عما أفتاه به
وفيه ثلاث مطالب:
المطلب الأول: إذا أفتى المفتي بشيء ثم رجع عنه فهل يحرم على المستفتي العمل بما أفتاه به ؟
المطلب الثاني: إذا نكح المقلِّد بفتوى مجتهد، ثم تغير اجتهاد المجتهد، فهل يجب على المقلد تسريح زوجته؟
المطلب الثالث: إذا أفتى المفتي بشيء، ثم تغير اجتهاده، فهل يلزمه إعلام المستفتي؟
المطلب الأول:
إذا أفتى المفتي بشيء ثم رجع عنه، فهل يحرم على المستفتي العمل بما أفتاه به؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: إن علم المستفتي برجوع المفتي، ولم يكن قد عمل بما افتاه به، حَرُمَ عليه العمل به.
حجَّة هذا القول: أن ما رجع عنه ليس مذهبًا له، قياسًا على ما لو تغير اجتهاد من قلَّده في جهة القبلة في أثناء الصلاة، فإنه يتحول مع إمامه.
ونوقش هذا الدليل: بأن القياس ليس نظيرًا لمسألتنا؛ إذ أنَّ تغيُّر اجتهاد من قلده في معرفة القبلة لا يبطل ما فعله المأموم بالاجتهاد؛ وأما لزوم التحوُّل معه ثانيًا فلأن المأموم مأمور بمتابعة إمامه، ونظير مسألتنا هو: إذا تغيَّر اجتهاد مقلَّده بعد الفراغ من الصلاة، فإنه لا تلزمه إعادتها، ويصلي الثانية باجتهاده الثاني.
القول الثاني: إذا كان من أفتاه يفتي على مذهب إمام معين، ورجع لكونه قد ظهر له أنه خالف في فتواه نص مذهب إمامه، فإنه يجب نقض فتواه ويحرُم على المستفتي العمل بها.
حجة هذا القول: أن نصَّ مذهب إمام مفتي المذهب في حقه كنص الشارع في حق المفتي المجتهد المستقل (المطلق).
ونوقش هذا الدليل: بأن دعوى أن نص مذهب إمام مفتي المذهب في حقه كنص الشارع بالنسبة للمفتي المستقل، ممنوعة؛ لأمرين:
أحدهما: أنه لو كان نص الإمام بمنزلة نص الشارع لحرُم على المفتي وعلى غيره مخالفته، ولو خالفه لكان فاسقًا، لكنه لا يحرم عليه ذلك، ولا يكون فاسقًا بمخالفته.(1/141)
الثاني: أنه لم يُعْرَف عن أحد من الأئمة أنه أوجب إبطال فتوى المفتي لكونه خالف قول فلان أو مذهب فلان، وإنما الذي يجب إبطاله ونقضه هو ما خالف كتابًا أو سنة أو إجماعًا للأمة.
الترجيح: والذي يترجح لي في هذه المسألة التفصيل، وأنه لا يحرم على المستفتي العمل بالفتوى الأولى بمجرد رجوعه، بل إذا علم المستفتي برجوع المفتي عن فتواه، فلا يخلو الحال من أن يكون في البلد مفت غيره أو لم يكن.
فإن لم يكن في البلد مفت غيره، فإن المستفتي يسأل المفتي عن سبب رجوعه عما أفتاه به، فإن ذكر له أنه يختار الرجوع عن الأُولى، مع تسويفه للعمل بها، لم يحرم على المستفتي العمل بالأُولى، وإن ذكر له أن سبب رجوعه خطأ ظهر له، وأن فتواه الأُولى لم تكن صوابًا لمخالفتها لدليل شرعي حرم على المستفتي العمل بها، وإن ذكر له أن سبب رجوعه عن الأُولى أنه تبيَّن له أن فتواه الأولى تخالف مذهبه فقط، لم يحرم على المستفتي العمل بما أفتاه به أولا؛ لأن مخالفة المذهب ليس مخالفة لنص أو إجماع، وإن ذكر له أن المسألة إجماعية حرُم عليه العمل بفتواه الأولى.
وإن كان في البلد مفتٍ غيره فإنه يتوقف حتى يستفتي مفتٍ آخر، وحينئذ فلا يخلو من أن يفتيه الثاني بما يوافق الفتوى الأولى من الأول، أو بما يوافق الفتوى الثانية، فإن أفتاه الثاني بما يوافق الفتوى الأولى من الأول استمر على العمل بها، وإن أفتاه بما يوافق الفتوى الثانية من الأول، ولم يفته أحد بخلا ف فتواهما، حرُم عليه العمل بالفتوى الأولى، ووجب عليه العمل بالفتوى الثانية , وإن أفتاه أحد غيرهم بخلاف فتواهما جاز له أن يستمر على العمل بالفتوى الأولى.
وجه ترجيحه:
1- التفصيل فيه وبيان وجهة كل جزء فيه.
2- ما سبق من مناقشة أدلة القولين الأول والثاني (1).
المطلب الثاني:
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 222 - 224 .(1/142)
إذا تزوج المقلِّد بفتوى مجتهد، ثم تغيَّر اجتهاد المفتي ورجع عن فتواه، فهل يجب على المقلِّد تسريح زوجته، أو يجوز له إمساكها بناء على اجتهاده الأول:
في هذه المسألة مذهبان للعلماء:
المذهب الأول: أنه يجوز له إمساكها بناء على اجتهاده الأول، ولا يجب عليه تسريحها.
حجة هذا المذهب: أن عمل المستفتى بفُتْيَا المفتى الأول جرى مجرى حكم الحاكم فلا يُنْقض , كم لا ينقض حكم الحاكم. ونوقش هذا الدليل بأنه لا بد من تقييد ذلك بما إذا لم يخالف المفتى بفتواه الأولى نصًّا أو إجماعًا، فإن خالف أحدهما، وجب عليه تسريح زوجته.
المذهب الثاني: أنه يجب عليه تسريحها ومفارقتها، ولا يجوز له إمساكها بالفتوى الأولى.
حجَّة هذا المذهب: أن حكم المقلِّد حكم مقلَّده وهو تابع له، وما رجع عنه مقلده ليس مذهبًا له، كما لو تغيَّر اجتهاد مقلَّده عن القبلة في أثناء الصلاة، فإنه يتحوَّل معه إلى الجهة الأخرى.
ونوقش هذا الدليل بما نوقش به دليل القول الأول، من مسألة الطلب الأول (1).
الترجيح: الذي يترجَّح لي في هذا المسألة التفصيل، وهو أنه إن كان رجوع المفتي عن فتواه لمخالفتها لنص أو إجماع، فإنه يجب على المقلِّد تسريح زوجته ومفارقتها.
أما إذا كان رجوعه عن فتواه لكونها مخالفة لمذهب إمامه، فلا يجب على المقلد مفارقة زوجته وتسريحها.
وجه ترجيحه ما يلي:
1- ما سبق من مناقشة أدلة المذهبين الأول والثاني.
2- أن عمل المقلد بفُتْيا المفتي يجري مجرى حكم الحاكم، فلا ينقض إلا إذا خالف نصًّا أو إجماعًا.
3- أن المستفتي قد دخل بامرأته دخولا صحيحًا سائغًا، ولم يفهم ما يوجب مفارقته لها من نص أو إجماع، لا سيما إذا كان قد وافق فتواه الأولى مذهبًا آخر غير مذهبه.
__________
(1) - انظر مناقشة القول الأول في مسألة المطلب الأول ص 113 .(1/143)
4- أن مفارقة المقلِّد لزوجته يترتب عليه مضارٌّ كثيرة، من تخريب بيته، وتشتيت شمله وشمل أولاده، فكيف يوجب على الزوج ارتكاب هذه المضار لمجرد كون المفتي رجع؛ لمخالفة فتواه نص إمامه دون مخالفتها لنص أو إجماع؟ لا سيما إذا كان النص مع من خالف مذهبه (1).
المطلب الثالث:
" إذا أفتى المفتي بشيء ثم تغير اجتهاده، فهل يلزمه إعلام المستفتي ".
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاث أقوال:
القول الأول: أنه لا يلزمه إعلام المستفتي.
حجة هذا القول: أن المستفتي عمل أولا بما يسوغ له العمل به، فإذا لم يعلم بطلان ما أفتاه به لم يكن آثمًا، فهو في حلٍّ وسعة من استمراره على العمل به.
ونوقش هذا الدليل: بأنه لا بد من تقييد ذلك بما إذا لم تخالف فتواه نصًّا أو إجماعًا، فإنه حينئذ ليس في حل وسعة من استمراره على العمل بما خالف نصًّا أو إجماعًا.
القول الثاني: أنه يلزمه إعلام المستفتي.
حجة هذا القول ما يأتي:
1- أن ما رجع عنه قد اعتقد بطلانه، وقد تبيَّن له أن ما أفتاه به ليس من الدين؛ فوجب عليه إعلامه بذلك.
ونوقش: بأنه لا بد من تقييد الوجوب بما إذا خالف نصًّا أو إجماعًا، فإن خالف اجتهادًا أو مذهبًا معينًا فلا يتعيَّن عليه إعلامه.
2- ما روي من الآثار في ذلك:
(أ) فقد رُوِيَ عن عبد الله بن مسعود أنه أفتى رجلا بحلِّ أمِّ أمرأته التي طلقها قبل الدخول بها، ثم سافر إلى المدينة وراجع بعض الصحابة في ذلك، فتبين له أن الصواب خلاف هذا القول، فرجع إلى الكوفة وبحث عن الرجل الذي أفتاه، وفرق بينه وبين أهله.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 223 ، 224، وانظر المستصفى للغزالي جـ 2 ص 120 ، وانظر روضة الناظر ص 205 .(1/144)
(ب) ما روي عن الحسن بن زياد اللؤلؤي، أنه استفتي في مسألة فأفتاه، فتبين له خطأ تلك الفتوى، ولم يعرف الذي استفتاه، فأستأجر مناديًا ينادي أن الحسن بن زياد اسْتُفْتِيَ في يوم كذا وكذا في مسألة فأخطأ فيها، فمن كان أفتاه الحسن بن زياد بشيء فليُرْجِهِ إليه، ثم مكث أيامًا لا يفتي حتى جاء صاحب الفتوى، فأعلمه أن الصواب خلاف ما أفتاه.
وأجيب عن هذين الأثرين بما يأتي:
1- أما الأثر المرويُّ عن ابن مسعود فإنه محمول على أن فتواه الأولى مخالِفة للنص، فإنه لما ناظَرَ الصحابة في تلك المسألة، بيَّنوا له أن صريح الكتاب يحرم أمَّ الزوجة، ولو فارق ابنتها قبل الدخول بها؛ لكون الله -تعالى- أبهمها، فقال: { ( تمهيد (- رضي الله عنهم - - } تم بحمد الله ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - (( - - - - ( - } (1).
وظنَّ عبد الله - رضي الله عنه - أن قوله: { (( - ( { - - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - - - صدق الله العظيم ( - ( - } (2) راجع إلى الأمهات والربائب، فبيَّن له الصحابة أنه راجع إلى الربائب خاصة، فعرف أنه الحق، فرجع إليه وفرَّق بين الزوجين، لا لأنه خالف قول فلان أو علان.
2- وأما الأثر المرويُّ عن الحسن بن زياد فإنه محمول أيضًا على أن فتواه مخالفة لنص أو إجماع، بدليل قوله: "فأخطأ فيها".
القول الثالث: أنه إن كان المستفتي قد عمل بفتواه لم يلزمه إعلام المستفتي برجوعه، وإن لم يعمل بها المستفتي لزم المفتي إعلامه برجوعه.
حجة هذا القول: أن المستفتي إذا عمل بالفتوى فإن عمله يكون بمثابة حكم الحاكم، فلا ينقض، بخلاف ما إذا لم يعمل بها.
وأجيب عنه: بأن حكم الحاكم لا ينقض إلا إذا خالف نصًّا أو إجماعًا، ولا ينقض إذا خالف اجتهادًا أو مذهبًا معينًا.
__________
(1) - سورة النساء آية : 23.
(2) - سورة النساء آية : 23.(1/145)
الترجيح: والذي يترجح لي في هذه المسألة أن المفتي إن كان قد رجع عن فتواه لظهور نص من كتاب أو سنة يخالفها، أو لأنها تخالف إجماع الأمة، فإنه يجب عليه إعلام المستفتي، وإن كان قد رجع عنها لمخالفتها لمذهبه أو نص إمامه، أو لأن نظره واجتهاده قد تغير، فإنه لا يجب عليه إعلام المستفتي.
وجه ترجيحه:
1- ما سبق من مناقشة أدلة الأقوال الثلاثة السابقة.
2- أنه إذا خالف النص أو الإجماع بفتواه فإنه يجب إعلام المستفتي، ويحرم عليه الاستمرار عليها لوجوب العمل بالكتاب والسنة على من بَلَغَهُ ذلك، وعدم الاستمرار على ما يخالفها (1).
الباب الرابع
فيما فيه الاستفتاء
وفيه فصلان:
الفصل الأول: في الاستفتاء في القضايا العلمية.
الفصل الثاني: في الاستفتاء في القضايا الظنية الاجتهادية.
الفصل الأول "في الاستفتاء في القضايا العلمية "
اختلف العلماء في المسائل الأصولية والأحكام الاعتقادية التي تتعلق باعتقاد المكلَّف في وجود الله -تعالى-، وما يجوز عليه، وما لا يجوز عليه، وما يجب، وما يستحيل عليه، والتي تتعلق باعتقاده في رسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر، وأركان الإسلام الخمسة ونحوها مما اشتُهِر ونُقِل متواترًا، هل يجوز التقليد فيها أو يجب أو يحرم؟
اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أنه لا يجوز التقليد فيها، بل يحرم، ويجب عليه البحث والنظر والاستدلال، وهذا مذهب جمهور العلماء.
المذهب الثاني: أنه يجوز التقليد فيها، والبحث والنظر جائز لا واجب، وإلى هذا ذهب العنبري وبعض الشافعية.
المذهب الثالث: أنه يجب التقليد فيها، والبحث والنظر حرام، وإلى هذا ذهب بعض أهل الحديث وأهل الظاهر.
الأدلة والمناقشة والترجيح:
أدلة الجمهور القائلين بتحريم التقليد ووجوب البحث والنظر.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 224 .(1/146)
الدليل الأول: الإجماع، فقد انعقد الإجماع على وجوب العلم بالله -تعالى-، ومعرفة صفاته ورسالة رسله، ولا يحصل العلم بالتقليد؛ لأن العلم هو التصديق الجازم المطابق الذي لا يقبل الشك، وهذا لا يحصل بالتقليد لما يأتي:
(أ) احتمال كذب المخبِر؛ لأنه غير معصوم؛ إذ ليس مع المقلِّد إلا الأخذ بقول من يقلِّده، وهو لا يدري أصواب هو أم خطأ، ومن ليس بمعصوم فلا يكون خبره واجب الصدق، ومن لا يجب صدق خبره فخبره لا يفيد العلم.
(ب) لو كان التقليد يفيد العلم للزم منه اجتماع النقيضين فيما لو قلَّد رجلان اثنين، أحدهما يقول بقدم العالم، والآخر يقول بحدوث العالم، فكل منهما علم، وهذا محال.
(جـ) لو كان التقليد يفيد العلم، فإما أن يفيده بالضرورة، وإما أن يفيده بالنظر، وإفادته بالضرورة باطل لوجهين:
أحدهما: مخالفة أكثر العقلاء له.
الثاني: أنه لو تُرِك الإنسان ونفسه منذ أن نشأ لما وجد ذلك من نفسه.
وأما إفادته بالنظر، فالأصل عدم الدليل الموصل إليه، فمن ادَّعاه فعليه البيان.
الدليل الثاني: أن الله -سبحانه- أمر بالتدبُّر والتفكر والنظر ومدح أهله، والأمر للوجوب، وفي التقليد ترك للواجب، من ذلك:
(أ) قوله -تعالى-: { ( - ( - } - - صلى الله عليه وسلم -( - - ( - - (( ((( - - } - - } - - صلى الله عليه وسلم -( - (( الله أكبر - - - ( - رضي الله عنهم - - ( - - - - رضي الله عنه - تمت - - - ( { - رضي الله عنه - - ( { (- رضي الله عنه -( - رضي الله عنه -((( - { - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - ( تمهيد - - } (1).
__________
(1) - سورة الروم آية : 42.(1/147)
(ب) قوله -تعالى-: { ( بسم الله الرحمن الرحيم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - } - - صلى الله عليه وسلم -( - (( - - رضي الله عنه - - - (( ( المحتويات قرآن كريم ( - فهرس - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( المحتويات (- عليه السلام - قرآن كريم (- رضي الله عنهم - - - - - - - ((( - - } - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - - فهرس - - رضي الله عنهم - } ( - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - ((( - ( } (1).
(جـ) قوله -تعالى-: { - - - (- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - تمت - - عليه السلام -(( - ( { ( - - - } (2).
(د) ما في صحيح ابن حبان: - لمَّا نزل قوله -تعالى-: { - - ( { - (( ( - ( - - رضي الله عنهم - - ( المحتويات (- عليه السلام - قرآن كريم (- رضي الله عنهم - - - - - - - ((( - - } - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( فهرس - ( - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - { - - - ( - - { - } { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - تمهيد (- رضي الله عنه - - - عز وجل -- رضي الله عنهم - - ( - - - صلى الله عليه وسلم - الله أكبر } } ( - (- رضي الله عنه - تمهيد ( - - } - - ((((( } (3) الآيات، قال -عليه الصلاة والسلام-: ويل لمن قرأهن ولم يتدبرهن، ويلٌ ويلٌ له. -
والسُّنَّة وحي ثانٍ، فما أمر به الرسول فقد أمر به اللهُ.
الدليل الثالث: أن التقليد مذموم شرعًا، والذمُّ يفيد التحريم، من ذلك:
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 185.
(2) - سورة النساء آية : 82.
(3) - سورة آل عمران آية : 190.(1/148)
(أ) قوله -تعالى- حكاية عن الكفَّار في معرض الذم: { - ( الله أكبر ( { - - - رضي الله عنه - الله أكبر ( - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - الله أكبر - عليه السلام -( - - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( - - فهرس - - رضي الله عنه -( - { } تم بحمد الله ( - - ( الله أكبر ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - - رضي الله عنه -( المحتويات ( - ( - (- صلى الله عليه وسلم - بسم الله الرحمن الرحيم - - عليه السلام -( - - - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - - ( { - تم بحمد الله (((( } (1).
(ب) قوله -تعالى- حكاية عن الكفار: { - - ( الله أكبر ( { - - عليه السلام - - (( - (- صلى الله عليه وسلم - - - - عليه السلام - - - - - رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنه - الله أكبر - عليه السلام -( - - - عليه السلام - - - رضي الله عنهم - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم - - - (- صلى الله عليه وسلم - - - ( - - - - ( تمهيد - - - - - (((( } (2).
(جـ) قال -تعالى- إخبارًا عن أهل الكتاب على وجه الذمِّ: { } - (- صلى الله عليه وسلم -( - - - ( تم بحمد الله - - ( المحتويات ( - - عليه السلام - - - - رضي الله عنه - تمهيد ( مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات ( - - عليه السلام - - (- رضي الله عنه - تمهيد ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - - - رضي الله عنه - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - - } (3).
أدلة القائلين بجواز التقليد، والبحث والنظر غير واجب، ومناقشتها:
__________
(1) - سورة الزخرف آية : 23.
(2) - سورة الأحزاب آية : 67.
(3) - سورة التوبة آية : 31.(1/149)
الدليل الأول: لو كان النظر واجبًا لنقل عن الصحابة الخوض والنظر في المسائل الأصولية، كما نقل عنهم النظر في الفروع، بل الأصول أولى بالنظر لشدَّة الحاجة والداعي إليها؛ للزومها لكل إنسان، لكنه لم ينقل عنهم النظر فيها، فدل على أن التقليد جائز والنظر ليس بواجب فيها.
ونوقش هذا الدليل: بأن ادِّعاء عدم النظر من الصحابة، ممنوع؛ إذ يلزم منه نسبة الصحابة إلى الجهل بالله -تعالى-، وهذا باطل إجماعًا، وهو ضرورة معلوم من الدين، بل إنهم قد نظروا، فهم عالمون بذلك.
وأما كونه لم ينقل عنهم المناظرة في الأصول، فلأن النقل فرع عن الإكثار من النظر والبحث، وهم ليسوا بحاجة إليه؛ لصفاء أذهانهم، وصحة اعتقادهم، ومشاهدتهم للوحي، ومكانهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجوعهم إلى الفِطَر السليمة، والأدلة العقلية الصريحة، ونصوص الشرع الصحيحة، وبعدهم عن موارد الشُبه ومنازع الأهواء، فلم يوجد بينهم اختلاف في التوحيد ولا مناظرات في مسائله، فلم يتكلموا فيما لم تَدْعُ الضرورة إليه، ولا خاضوا فيما لا يعنيهم.
الدليل الثاني: لو كان النظر في الأصول واجبًا لأنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعون على من كان في زمانهم من العوام تركَ النظر، ولأمروهم به، لكن ذلك لم ينقل عنهم مع كثرة العوام، فدل على أن النظر ليس بواجب، وأن التقليد جائز.
ونوقش هذا الدليل: بأنهم لم ينكروا على العوام تركَ النظر، ولم يأمرهم به؛ لأن معرفة الله الواجبة كانت حاصلة لهم، وهي المعرفة بالدليل من جهة الجملة لا التفصيل، وهي حاصلة بأدنى التفات إلى الحوادث؛ إذ ليس المراد من النظر تحرير القضايا على قواعد المنطق المستحدثة، ومن أصغى إلى عامة الأسواق امتلأ سمعه من استدلالهم بالحوادث على مُوجدها، كما قال الأعرابي: "البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام تدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، أمَا يدلان على اللطيف الخبير".(1/150)
والمقلد في الإيمان لا يكاد يوجد، فإنه قل أن يوجد من لم ينتقل ذهنه من الحوادث إلى موجدها:
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
الدليل الثالث: أن أدلة الأصول فيها غموض وخفاء، وأدلة الفروع فيها سهولة ووضوح، وقد جاز التقليد في الفروع؛ دفعًا للحرج، فجوازه في الأصول دفعًا للحرج أَوْلى.
الدليل الرابع: أن كلا من الأصول والفروع قد كُلِّف بهما العباد، فإذا جاز التقليد في الفروع جاز في الأصول؛ لعدم الفرق.
وأجيب عن هذين الدليلين: بأن هناك فرقًا بين الأصول والفروع يمنع تساويهما، فإن المطلوب في الأصول اليقين والقطع، وهذا لا يحصل بالتقليد؛ إذ ليس طريقًا لتحصيله، بخلاف الفروع، فإن المطلوب فيها الظن، وهو يحصل بالتقليد؛ إذ هو طريق إلى تحصيله، فلا يلزم من جواز التقليد في الفروع جوازه في الأصول؛ لوجود الفرق بينهما.
أدلة القائلين بوجوب التقليد، وتحريم النظر والبحث والاستدلال، ومناقشتها:
الدليل الأول: قول الله -تعالى-: { - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( - ( - ( { - ( - ( - (( ( تمهيد (- رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( ( - - - - صدق الله العظيم ( { - رضي الله عنه -((( - { - - - } - - صلى الله عليه وسلم -( - - ( - - } (1).
ووجه الاستدلال: أن الله -تعالى- ذمَّ الجدال، وأخبر أنه من صفات الكفار، والنظر يفتح باب الجدال، فكان مذمومًا محرَّمَا، والتقليد واجب.
__________
(1) - سورة غافر آية : 4.(1/151)
ونوقش هذا الدليل: بأن المراد بالجدال في الآية، الجدال بالباطل، بدليل قوله -تعالى-: { } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنهم - - (- رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - (((- رضي الله عنه - - ( - - - ( - } - قرآن كريم ((( مقدمة ( - ( - ( - ( مقدمة ( - } - { - رضي الله عنه -( - - - } (1) وأما الجدال بالحق فإنه ممدوح ومأمور به، بدليل قوله -تعالى-: { بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - ( - (- رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( - { - - - ( - { - ( - ( صدق الله العظيم - - ( مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - } (2) وقوله: { - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ( - ( - ( { - ( تم بحمد الله - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( - (- رضي الله عنه - - ( تمهيد ( - - - - صدق الله العظيم ( { (( - { - - - ( - { - ( - ( صدق الله العظيم - - ( مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - } (3) ولو كان الجدال بالحق منهيًّا عنه لما كان مأمورًا به.
الدليل الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام-: - عليكم بالسواد الأعظم، ومن سرَّه أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، والشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد - (4).
ووجه الدلالة: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمر باتباع السواد الأعظم، والتقليد عليه أكثر الخلق والسواد الأعظم منهم، فوجب اتباعه؛ إذ هو أقرب إلى السلامة.
ونوقش هذا الاستدلال بما يأتي:
__________
(1) - سورة غافر آية : 5.
(2) - سورة النحل آية : 125.
(3) - سورة العنكبوت آية : 46.
(4) - رواه الحاكم في المستدرك بمعناه، انظر المستدرك على الصحيحين في الحديث جـ 1 ص 115 مكتبة ومطابع النصر الحديثة ، الرياض ، ورواه أيضًا أحمد والترمذي بمعناه، انظر منتقى الأخبار مع نيل الأوطار جـ 8 ص 323 .(1/152)
1- بم عرفتم صحة هذا الحديث وما أشبهه، وهي ليست متواترة تفيد العلم الضروري، ولستم أهلا للنظر؟ فلم يبق إلا أن يكون عن تقليد، وحينئذ يعارضكم مقلِّد آخر اعتقد عدم صحتها.
2- على تسليم صحة هذه الأحاديث فمتبع السواد الأعظم ليس مقلِّدًا، بل هو متبع، وقد علم وجوب اتباعهم بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
3- المراد بهذا الحديث وما اشبهه، الخروج عن موافقة الإمام، أو موافقة الإجماع.
4- ادِّعاؤكم بأن اتباع الأكثر أقرب إلى السلامة، ممنوع؛ لأن التقليد في العقائد المضِلَّة أكثر من الصحيحة، بدليل قول الله -تعالى-: { تمت ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ((((( - - عليه السلام - - - - جل جلاله -( - - صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - (( ((( - - } - - - - قرآن كريم - - ((( - صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( ( - - ( تمهيد - رضي الله عنهم - - ( - - - } (1) وقوله: { - صدق الله العظيم ( { - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( } - قرآن كريم ( - ( - - رضي الله عنه -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( تمهيد (- رضي الله عنهم - - ( - ( - ( - - - ( - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - } تم بحمد الله ( المحتويات ( - } (2) وقوله: { ( - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - رضي الله عنهم - - ( - - - رضي الله عنه - تمهيد (( ( - قرآن كريم ( - } ( - - - (((( } (3) وقوله: { - صدق الله العظيم ( - ( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - عليه السلام - - - - جل جلاله -( - - صلى الله عليه وسلم - - ( } - } - جل جلاله - - - - - صدق الله العظيم - - قرآن كريم (- جل
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 116.
(2) - سورة ص آية : 24.
(3) - سورة سبأ آية : 13.(1/153)
جلاله -( تم بحمد الله ( - ( - (((( } (1) وقوله: { ( - (- صلى الله عليه وسلم -( - - - جل جلاله -( - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - رضي الله عنهم - - ( - ( - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( - ( - - (((( } (2).
وفي الحديث: - وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة - (3).
وقد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- في أول أمره، وهو في شرزمة يسيرة، على خلاف الأكثرين.
3- أنه يلزم على حد زعمكم أن تتوقفوا عن التقليد حتى تدوروا في جميع العالم، وتعدوا المخالفين، فإن ساووهم توقفتم، وإن زادوا عليهم قلدتم، وهذا باطل؛ إذ يؤدي إلى المشقة والتعب الكثير، وهذا ممنوع في الشريعة.
الدليل الثالث: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج ذات يوم والناس يتكلمون في القدر، قال: فكأنَّما تفقَّأ في وجهه حبُّ الرُّمَّان من الغضب، قال: فقال لهم: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم - .
وفي معناه لأبي هريرة أخرجه الترمذي (4).
ووجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاهم عن الجدال والخوض في القدر، والنظر يفتح باب الجدال، فكان محرَّمًا، والتقليد واجب.
وأجيب عن هذا الدليل بأجوبة منها:
1- أنه -عليه الصلاة والسلام- نهاهم عن الجدال والخوض والكلام في القدر؛ لأنه كان قد وقفهم على الحق بالنص، فمنعهم عن المماراة في النص.
2- أو لأنهم كانوا في أول الإسلام؛ فمنعهم احترازًا عن سماع المخالف له فيعتقد أنهم لم تستقر قدمهم في الإسلام.
__________
(1) - سورة هود آية : 17.
(2) - سورة المؤمنون آية : 70.
(3) - أخرجه الترمذي بلفظ: (وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملَّة )، انظر جامع الأصول جـ 10 ص 408 .
(4) - انظر جامع الأصول من أحاديث الرسول لابن الأثير الجرزي جـ 10 ص 528 .(1/154)
3- أو منعهم لأن الخوض في القدر يشغلهم عن الجهاد، الذي هو أهم شيء لإعلاء كلمة الله.
الدليل الرابع: أن النظر مظنَّة الوقوع في الشبهات والضلال والاختلاف واضطراب الآراء، فهو طريق غير آمن، أما التقليد فهو طريق السلامة من ذلك، فهو آمن، فوجب، وحرم النظر.
وأجيب عن هذا الدليل بأجوبة منها:
1- أن هذا منقوض بالمقلَّد؛ إذ اعتقاده إما أن يكون عن تقليد للغير، وإما أن يكون عن نظر ضرورة امتناع كون اعتقاده ضروريًا.
فإن كان من تقليد للغير فالكلام فيه كالكلام في مقلِّده، وهذا تسلسل ممتنع، وإن كان اعتقاده عن نظر واستدلال، فما يلزم من المحذور في النظر والاستدلال يلزم في التقليد، ويزيد التقليد على النظر بمحذور آخر، وهو احتمال كذب مقلَّده في خبره له، بخلاف الناظر والباحث فإنه لا يكابر مع نفسه فيما وصل إليه بنظره وبحثه.
2- أن من يختار الجهل خوفًا من الوقوع في الشبه مثله كمثل من يقتل نفسه عطشًا وجوعًا خوفًا من أن يغص بلقمة لو أكل، أو يشرق بشربة لو شرب، وكالمريض يترك العلاج رأسًا خوفًا من أن يخطئ الطبيب في العلاج، وكمن يترك التجارة أو الحراثة خوفًا من نزول صاعقة عليها.
3- أنه قد كثر ضلال المقلِّدين من اليهود والنصارى، وليس هناك من فرق بين تقليد المقلدين في الأصول، وبين تقليد سائر الكفار الذين ذمهم الله.
الدليل الخامس: لو كان النظر واجبًا، فإما أن يجب على العارف، وإما أن يجب على غير العارف، وكلاهما باطل.
أما العارف: فلأنه لو وجب عليه النظر لكان تحصيل حاصل، وهو عبث محال، وأمَّا غير العارف: فلأنه لو وجب عليه النظر للزم منه أن يكون الجهل بالله -تعالى- واجبًا ضرورة، توقف النظر الواجب عليه؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.(1/155)
وأجيب عن هذا الدليل: بأن العارف قد سبق معرفته النظر والاستدلال، وأما غير العارف فلا يلزم منه وجوب الجهل بالله -تعالى-؛ لأن الجهل ليس مقدورًا للعبد؛ إذ العلم ينال ويدرك بأدنى التفاتٍ ونظرٍ إلى الحوادث، وأدلة المعرفة بالله ظاهرة في نفس كل عاقل، وإن منع العامي عيّه من التعبير عنها.
الدليل السادس: لو كان النظر واجبًا للزم منه الدور والتسلسل، وبيانه أن وجوب النظر متوقف على معرفة الله، ومعرفة الله متوقفة على النظر.
وأجيب عن هذا الدليل: بالمنع من الدور، فإن الواجب الشرعي في معرفة الله غير متوقف على النظر؛ إذ النظر متوقف على معرفة الله بوجه ما، وهي المعرفة الإجمالية كوجود الله -تعالى-، ومعرفة الله متوقفة على النظر بوجه أتم، أي بما يجب له وما يمتنع عليه، فالمعرفة التي يتوقف عليها وجوب النظر، وهي الإجمالية، غير المعرفة التي تنتج النظر، وهي التفصيلية.
الترجيح: بعد ذكر مذاهب العلماء وأدلتهم يتبيَّن لي أن الراجح من هذه المذاهب هو مذهب الجمهور، القائلين بتحريم التقليد ووجوب النظر، والمراد بوجوب النظر -كما سبق- ما يحصل بأدنى التفات إلى الحوادث، وهي ظاهرة في نفس كل أحد، لا تحرير القضايا على قواعد المنطق.
وجه ترجيحه ما يأتي:
1- ما سبق من مناقشة أدلة القائلين بوجوب التقليد والقائلين بجوازه.
2- أن العامة شاركوا العلماء في ذلك، وتساوى الناس في طريقها.
3- أن المقلد لا يخلو من أن يجَوِّز الخطأ على من يقلده أو يحيله، فإن أجاز الخطأ عليه فهو شاكٌّ في صحة مذهبه، فلا يجوز له أن يقلده، وإن أحال الخطأ عليه، واعتقد أصابته، فبم علمها ؟ هل هو بضرورة أو بنظر؟ لا يكون ضرورة؛ لأن الناس مختلفون فيها، ولا يكون بنظر؛ لأن العامي ليس من أهل النظر، فلا دليل عليها، وإن قلده في قوله عن نفسه، أن أقواله حق، فبم عرف صدقه ؟(1/156)
وإن قلد مجتهدًا آخر غيره في خبره عنه وأنه صادق، فبم عرف صدق الآخر ؟ وإن عوَّل على سكون النفس في صدقه، فما الفرق بينه وبين سكون أنفس النصارى المقلدين، واليهود المقلدين لإمامهم ؟ وما الفرق بين قول مقلده: إنه صادق، وبين قول مخالفه ؟ (1).
وبهذا تظهر أرجحية المذهب الأول، وأن التقليد في الأصول لا يجوز، بخلاف الفروع، فقد دلَّ الدليل على جواز تقليد العامي فيها كما سبق (2) وكما سيأتي قريبًا في الفصل الثاني.
الفصل الثاني
في الاستفتاء في القضايا الظنية الاجتهادية
اختلف العلماء في تقليد العامي، ومن ترقَّى عن رتبة العامة بتحصيل بعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد، بالنسبة لفروع الدين ومسائل الاجتهاد، وهي الأمور النظرية التي يشتبه أمرها، على مذاهب:
المذهب الأول: أن التقليد فيها واجب، وأن العامة يلزمهم الاستفتاء واتباع العلماء، وهذا مذهب جمهور العلماء.
المذهب الثاني: أن التقليد فيها يحرم على العامة، وأنه يلزمهم النظر والاجتهاد مطلقًا في الأصول والفروع، وإلى هذا ذهب بعض القدرية وابن حزم.
المذهب الثالث: أن التقليد واجب على العامة، ولكنه خاص بالإمام المعصوم، وهذا مذهب الإمامية.
__________
(1) - انظر الإحكام للآمدي جـ 4 ص 223 وما بعدها ، وانظر المستصفى للغزالي جـ 2 ص 123 - 124 ، وانظر روضة الناظر ص 105 - 106 ، وانظر البلبل للطوفي من علماء الحنابلة ص 183 ، وانظر شرح الكوكب المنير ص 410 - 411 ، وانظر شرح عضد الدين على مختصر ابن الحاجب جـ 2 ص 305 - 306 ، وانظر فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت جـ 2 ص 401 - 402 ، وانظر أصول الفقه محمد الخضري ص 418 - 419 ، وانظر أصول الفقه طه الدسوقي ص 359 - 360 .
(2) - انظر أدلة الجمهور في جواز تقليد العامي في الفروع في الباب الأول في الكلام على القسم الثاني من أقسام التقليد .(1/157)
الأدلة والمناقشة والترجيح: استدل الجمهور القائلون بوجوب التقليد على العامة ومن في حكمهم بثمانية أدلة، بعضها شرعي وبعضها عقلي، وقد سبق ذكرها في الباب الأول في القسم الثاني من أقسام التقليد، التقليد الواجب، وما عليها من مناقشات والإجابة عنها.
أدلة المذهب الثاني: القائلين بتحريم التقليد ووجوب النظر والاجتهاد: وهي من الكتاب والسنة والعقل، مع مناقشتها:
الدليل الأول: قول الله -تعالى-: { - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( { - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله { { ( - - - - رضي الله عنهم - - - - (( مقدمة ( - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - (( } (1).
ووجه الدلالة: أن الله نهى المسلم أن يقفو ما ليس له به علم، ومن قلَّد فقد قفا ما ليس له به علم، فكان منهيًّا عنه، والمنهيُّ عنه محرَّم.
ونوقش هذا الدليل: بأن الآية محمولة على تقليد من تجهل أهليته للأخذ بقوله، كما سبق ذلك في النوع الثاني من أنواع التقليد المحرم (2).
الدليل الثاني: قول الله -تعالى-: { تمت - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( - قرآن كريم ( { - - - فهرس - - رضي الله عنه -( ( - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - فهرس - (( - - ((((( } (3).
ووجه الدلالة: أن الآية دلَّت على تحريم القول على الله بلا علم، والتقليد قولٌ على الله بلا علم، فيكون محرمًا.
ونوقش هذا الدليل: بما نوقش به الدليل الأول (4).
الدليل الثالث:
__________
(1) - سورة الإسراء آية : 36.
(2) - انظر ما سبق في ص 16 من الباب الأول .
(3) - سورة البقرة آية : 169.
(4) - انظر ما سبق في أدلة النوع الثاني من أنواع التقليد المحرم في الباب الأول ص 16 .(1/158)
قوله -تعالى- حكاية عن الكفار: { - ( الله أكبر ( { - - - رضي الله عنه - الله أكبر ( - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - الله أكبر - عليه السلام -( - - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( - - فهرس - - رضي الله عنه -( - { } تم بحمد الله ( - - ( الله أكبر ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - - رضي الله عنه -( المحتويات ( - ( - (- صلى الله عليه وسلم - بسم الله الرحمن الرحيم - - عليه السلام -( - - - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - - ( { - تم بحمد الله (((( } (1).
ووجه الاستدلال: أن الله أنكر على المشركين تقليدهم لآبائهم وذمَّهم على ذلك، والمذموم لا يكون جائزًا، فكان التقليد غير جائز.
ونوقش هذا الدليل: بأن هذه الآية إنما هي في تحريم تقليد الآباء إعراضًا عما أنزل الله، كما سبق بيان ذلك في النوع الأول من أنواع التقليد المحرَّم (2).
الدليل الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: - طلب العلم فريضة على كل مسلم - (3).
ووجه الدلالة: أن الحديث دل على أن طلب العلم فريضة، وهذا عام في كل علم، والطلب يحتاج إلى نظر واجتهاد، وهذا يدل على وجوب النظر وتحريم التقليد.
وأجيب عن هذا الدليل بجوابين:
__________
(1) - سورة الزخرف آية : 23.
(2) - انظر ما سبق في الباب الأول في أدلة النوع الأول من أنواع التقليد المحرم ص 14 - 15 .
(3) - رواه الطبراني في الكبير والأوسط من طرق متعددة ولا يصح منها شيء انظر مجمع الزوائد جـ 1 ص 119 و 120 .(1/159)
أحدهما: أن الحديث لم يصح، فقد رواه الطبراني في الكبير والأوسط، من طريق ابن مسعود، وفيه عثمان بن عبد الرحمن القرشي، عن حماد بن أبي سليمان، وعثمان هذا قال فيه البخاري: مجهول. ولا يقبل من حديث حماد إلا ما رواه عنه القدماء: شعبة والثوري والدستوائي، ومن عدا هؤلاء رووا عنه بعد الاختلاط، ورواه عنه الطبراني في الأوسط من طريق أبي سعيد الخدري، وفي سنده يحيى بن هشام السمسار، كذَّاب، ورواه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس، وفي سنده عبد العزيز بن أبي داود، ضعيف جدًّا، ورواه الطبراني في الصغير، من طريق الحسين بن علي، وفي سنده عبد العزيز بن أبي ثابت، ضعيف جدًّا (1).
الثاني: على فرض صحة الحديث، فالمراد بطلب العلم طلبه الشرعي، وتقليد العامي للمفتي من طلب العلم الشرعي؛ إذ المراد العلم الظني، فإن العلم القطعي غير واجب عند الفريقين، والواجب عند من يمنع التقليد النظر، وهو يفيد الظن لا العلم.
الدليل الخامس: لو كان العامي مأمورًا بالتقليد لكان مأمورًا باتباع الخطأ والكذب؛ لأنه لا يأمن أن يكون من قلده مخطئًا في اجتهاده، وكاذبًا في خبره، وهذا ممتنع على الشارع.
ونوقش هذا الدليل: بأنه معارض بالمثل، فلو كان العامي مأمورًا بالاجتهاد فلا نأمن أيضًا من وقوع الخطأ منه، فالمحذور مشترك، بل هو أشد فيما لو كان مأمورًا بالاجتهاد؛ إذ العامي المأمور بالاجتهاد أقرب إلى الخطأ من العامي المأمور بالتقليد لعدم أهليته للاجتهاد والبحث والنظر.
الدليل السادس: لو كان التقليد في الفروع جائزًا لكان جائزًا في الأصول، لاشتراك كل من الأصول والفروع في تكليف العباد بها.
ونوقش هذا الدليل: بالفرق بين الأصول والفروع، وذلك أن المطلوب في الأصول القطع واليقين، وهو لا يحصل بالتقليد، والمطلوب في الفروع الظن، وهو يحصل بالتقليد.
__________
(1) - انظر مجمع الزوائد جـ 1 ص 119 - 120 .(1/160)
أدلة المذهب الثالث القائلين بوجوب تقليد الإمام المعصوم خاصة، مع مناقشتها:
الدليل الأول: أن تقليد غير الإمام المعصوم لا يؤمن معه أن يكون اتِّباعًا للخطأ والضلال، بخلاف تقليد المعصوم، فإنه اتباع للحق قطعًا.
وأجيب عنه: بأن الأدلة التي استدل بها الجمهور دالة على وجوب تقليد العامة للعلماء، وهم ليسوا معصومين من الخطأ؛ إذ ليس معصومًا من الخطأ غير الأنبياء.
الدليل الثاني: أن العامة في زمن الصحابة اتبعوا عليًّا وقلدوه، لعصمته، وإنما لم ينكر على من اتبع غيره وقلده؛ تقيةً وخوفًا من الفتنة.
وأجيب عن هذا بجوابين:
الأول: أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عن جاهل بالشريعة الإسلامية، وبحال الصحابة -رضوان الله عليهم-، ولا سيما الخلفاء الراشدون منهم، أو عن متغرِّض يقصد الطعن في الشريعة وحملتها؛ إذ لا يمكن بحال أن يسكت علي أو غيره من الصحابة عن إنكار المنكر، وهم الذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولا سيما علي - رضي الله عنه - وهو الشجاع المقدام.
الثاني: أن ادعاء أن عليًّا سكت تقية، فيه عدم ثقة بجميع ما قاله أو فعله؛ إذ يحتمل على هذا الزعم أن جميع ما قاله أو فعله خالف فيه الحق خوفًا وتقية، وهذا واضح البطلان لأدنى من له بصيرة، قرأ أو علم شيئًا من أحوال صحابة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وخصوصًا الخلفاء الراشدين منهم.
الترجيح: بعد ذكر المذاهب وأدلتها ومناقشتها يبدو لي أن الراجح من هذه المذاهب هو مذهب الجمهور، القائلين بوجوب التقليد على العامة في فروع الدين.
ووجه ترجيحه ما يأتي:
1- ما سبق من مناقشة أدلة المانعين من التقليد، والمُوجبين لتقليد الإمام المعصوم.(1/161)
2- لو كُلِّف العامي الاجتهاد في المسائل الفرعية، فماذا يصنع إذا نزلت به حادثة -إن لم يثبت لها حكم- حتى يبلغ رتبة الاجتهاد؟ فإلى متى يصير مجتهدًا ؟ قد لا يبلغ رتبة الاجتهاد، فتضيع الأحكام، ويندرس العلم، وتتعطل الحِرَف والصنائع، وإذا امتنع تكليفه بالاجتهاد لم يبق إلا سؤال العلماء وتقليدهم.
3- أن الوقائع والحوادث تتجدد في كل وقت وتكثر؛ فيعسر على العامي -بل يتعذر عليه- الاجتهاد فيها، بخلاف الأصول، فهي قليلة ومعلومة وسهلة، فلا يؤدي إلى هذا المحذور، ويكفي فيها أدنى التفات إلى الحوادث، وهي ظاهرة واضحة في نفس كل أحد (1).
الخاتمة
وتشتمل على ثلاث مباحث:
المبحث الأول: جواز الأخذ بأقوال الصحابة والتابعين وأن اتباع الصحابة ليس تقليدًا.
المبحث الثاني: فوائد وإرشادات تتعلق بالإفتاء.
المبحث الثالث: أمثلة من فتاوى إمام المفتين رسول رب العالمين.
المبحث الأول جواز الأخذ بأقوال الصحابة والتابعين
وأن اتباع الصحابة ليس من التقليد، والكلام على هذا المبحث في ضوء الفقرات التالية:
(أ) الأدلة على اتباع أقوال الصحابة.
(ب) رأي الشافعي في أقوال الصحابة.
(جـ) بيان فضل الصحابة.
(د) أقوال الصحابة في تفسير القرآن.
(هـ) منزلة قول التابعي وتفسيره.
(و) ترتيب الأخذ بفتاوى الصحابة والتابعين.
(أ) الأدلة على اتباع أقوال الصحابة
__________
(1) - انظر الإحكام للآمدي جـ 4 ص 228 وما بعدها ، وانظر المستصفى للغزالي جـ 2 ص 124 ، وانظر روضة الناظر ص 206 ، وانظر شرح الكوكب المنير ص 411 ، وانظر أصول الفقه لمحمد الخضري ص 420 ، وانظر أصول الفقه طه الدسوقي ص 361 .(1/162)
الدليل الأول: قول الله -تعالى-: { - - قرآن كريم ( { ( تمهيد ( - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - } - صلى الله عليه وسلم - - } - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - رضي الله عنه -((( - ( - (- رضي الله عنهم - - ( - ( - - - ( - - - ( الله أكبر - } - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه -((( - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ( - قرآن كريم ((- رضي الله عنه - - } - - - - صدق الله العظيم ( - - ( مقدمة ( - ( - - - (( { - ( - - - ( المحتويات ( - ( { - رضي الله عنه -( } - قرآن كريم ((- عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( مقدمة ( - - رضي الله عنه -( } (1).
ووجه الدلالة من هذه الآية من وجوه:
أحدهما: أن الله أثنى على من اتبع أصحابه، ومن أخذ بأقوالهم فهو متبع لهم، فوجب أن يكون محمودًا.
ثانيها: أن الله أخبر أن متبع الصحابة مرضي عنه، ولو كان متبع الصحابة مقلِّدًّا لم يكن مرضيًّا عنه إلا أن يكون عاميًّا؛ لأن التقليد وظيفة العامي، ولم يكن للعالم حظ من هذه الآية، مع أن رضوان الله غاية المطالب التي لا تنال إلا بأفضل الأعمال.
ثالثها: أن الآية دلت على أن اتباع الصحابة موجب للرضوان، واتباع رضوان الله واجب، ولو كان اتباعهم تقليدًا لجاز خلافه، ولم يكن واجبًا إلا في حق العامي.
__________
(1) - سورة التوبة آية : 100.(1/163)
الدليل الثاني: قول الله -تعالى- حكاية عن صاحب ياسين أنه قال لقومه: { } - قرآن كريم ((( - ( - - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - صدق الله العظيم ( - ( - ( - - رضي الله عنه -(( - - - - - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - المحتويات ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - - ( - - تم بحمد الله (((( } (1).
ووجه الدلالة: أن الله حكى هذه المقالة عن صاحب ياسين على سبيل الرضا بها، والثناء على قائلها وإقراره عليها، وكل واحد من الصحابة لم يسألنا أجرًا وهو مهتد، فوجب اتباعه في أقواله عند عدم مخالفة غيره له.
وعندي: أن هذا الوصف ليس خاصًّا بالصحابة، فقد يشاركهم غيرهم في هذا الوصف من العلماء المهتدين.
الدليل الثالث: قوله -تعالى-: { ((( - } - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - ( تمهيد - رضي الله عنهم - - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - - رضي الله عنه - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - { - فهرس - ( { } (2).
ووجه الدلالة: أن الله أمر باتباع سبيل المنيب، وكل من الصحابة منيب إلى الله، فوجب اتباع سبيله، وأقواله واعتقاداته من سبيله، فوجب اتباعه فيها.
وعندي: أنه قد يشارك الصحابة مَنْ بعدهم في وصف الإنابة إلى الله.
__________
(1) - سورة يس آية : 21.
(2) - سورة لقمان آية : 15.(1/164)
الدليل الرابع: قوله -تعالى-: { ( - ( - (( فهرس ( - (- رضي الله عنهم - - ( - ( - - ( تمهيد - رضي الله عنهم - - } - ( قرآن كريم ((( - - صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - ( { ( - - - - - فهرس - - رضي الله عنه -( - - - عليه السلام - - - ((- رضي الله عنه - - بسم الله الرحمن الرحيم - - رضي الله عنه - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنه - تمهيد } - - - } (1).
ووجه الاستدلال: أن الله أخبر أن سبيل الرسول ومن اتبعه: الدعوة إلى الله على بصيرة، فيجب اتباعهم، وكل من الصحابة يدعو إلى الله على بصيرة، فوجب اتباعهم في أقوالهم.
وأقول: إن الدعوة إلى الله على بصيرة وصف يشمل كل أتباع الرسول -عليه الصلاة والسلام- إلى يوم القيامة، ولا يختص ذلك بالصحابة.
الدليل الخامس: قول الله -تعالى-: { - ( } - - رضي الله عنهم - مقدمة - - - ( { } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - - ( - - جل جلاله -(( } - قرآن كريم ( - - - - - رضي الله عنه -((( - { - ( - } - قرآن كريم ( - - صلى الله عليه وسلم -( - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ((( - - - } (2).
وقوله -تعالى-: { - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - صلى الله عليه وسلم -( - - المحتويات ( - ((( - - - ( - ( - { - - - - رضي الله عنه - - ( - الله أكبر ( - - درهم ( - - - ( { صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - درهم ( } - - - - عليه السلام - قرآن كريم ( - } - - رضي الله عنهم - - ( - - - } (3).
__________
(1) - سورة يوسف آية : 108.
(2) - سورة محمد آية : 16.
(3) - سورة سبأ آية : 6.(1/165)
ووجه الدلالة من الآيتين: أن الله شهد للصحابة بأنهم أوتوا العلم الذي بعث به محمد -عليه الصلاة والسلام-، ومن أوتي هذا العلم كان اتباعه في أقواله واجبًا.
وعندي: أنه قد أوتي هذا العلم من بعد الصحابة من التابعين والأئمة بعدهم، فلا يكون دليلا على تخصيص الصحابة.
الدليل السادس: قول الله -تعالى-: { - { - - - - صلى الله عليه وسلم - - ((- رضي الله عنه - - - ((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( } - قرآن كريم ( { ( - - - { - - - } - قرآن كريم ( الله أكبر قرآن كريم ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنه - تم بحمد الله - ((( - ( - ( - ( - - - ((((( } (1).
ووجه الدلالة: أن الله -تعالى- أمر بلزوم الصادقين، والصحابة أئمة الصادقين، فوجب الأخذ بأقوالهم؛ لأنه من ملازمتهم.
وأقول: أن وصف الصدق يشمل الصحابة وغيرهم إلى يوم القيامة، فلا يكون دليلا على خصوص الصحابة.
الدليل السابع: قول الله -تعالى-: { - رضي الله عنهم - - ( - ( - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - ( - - جل جلاله -( - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنهم - - - { } تم بحمد الله ( - - - (- رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( الله أكبر قرآن كريم ( تمهيد - رضي الله عنه - - ( - - - عليه السلام -( - - - رضي الله عنهم - - { - (( - فهرس - - رضي الله عنه -( ( } - } - جل جلاله - - - - } (2).
ووجه الاستدلال: أن الله أخبر أنه جعل هذه الأمة خيارًا عدولا، والعدل الخيِّر يجب اتباعه، والصحابة خير الأمة وأعدلها، فوجب اتباعهم في أقوالهم.
وعندي: أن وصف الخيرية والعدالة وصف عام للأمة، فلا يكون حجة على المطلوب من تخصيص الصحابة.
__________
(1) - سورة التوبة آية : 119.
(2) - سورة البقرة آية : 143.(1/166)
الدليل الثامن: قول الله -تعالى-: { صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ((- رضي الله عنه - - ((- رضي الله عنه - - ( - - - ( - ( - - { - ( - رضي الله عنهم - - ( - ( - - - فهرس - ( { - ((- عليه السلام - - (( - - (( { - رضي الله عنه - - ( - - تم بحمد الله ((((( } (1).
ووجه الدلالة: أن الله أخبر أن المعتصم بالله مهتدٍ، والمهتدي يجب اتباعه، والصحابة معتصمون بالله فهم مهتدون، فوجب اتباعهم في أقوالهم.
وأرى: أن وصف الاعتصام بالله يشمل مَن بعد الصحابة من الأمة، فلا يكون دليلا على الخصوص.
الدليل التاسع: ما ثبت في الصحيح عن النبي -عليه الصلاة والسلام- من وجوه متعددة أنه قال: - خير القرون القرن الذي بُعِثْتُ فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - (2).
ووجه الدلالة: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أخبر أن خير القرون قرنه مطلقًا، وذلك يقتضي تقديمهم في كل أبواب الخير واتباعهم، ومن ذلك أقوالهم فإنه يجب اتباعهم فيها.
وأرى: أن الخيرية والأفضلية لا تستلزم جواز الأخذ بأقوالهم أو وجوبه.
الدليل العاشر: ما رواه الترمذي من حديث العرباض بن سارية، وفيه قوله -عليه الصلاة والسلام-: - عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي - الحديث (3).
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 101.
(2) - رواه البخاري بلفظ: ( خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ). انظر صحيح البخاري جـ 5 ص 3 باب فضائل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- .
(3) - رواه أبو داود والترمذي، وقال : حديث حسن صحيح .(1/167)
ووجه الدلالة: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمر باتباع سُّنَّته وسُّنَّة خلفائه، فَقَرَن سُّنَّة خلفائه بسنته، وبالغ في الأمر باتباعها حتى أمر بأن يُعَضَّ عليها بالنواجذ، ويدخل في سنتهم أقوالهم وفتاويهم، فوجب اتباعهم فيها امتثالا لأمر الرسول -عليه الصلاة والسلام-، لا تقليدًا لهم (1).
قد يقال: إن الامتثال يكون بالأخذ بسنتهم، والأخذ بسنتهم هو التقليد، وعلى التسليم بأنه ليس من التقليد، وأنه اتباع فهو خاص بالخلفاء الراشدين، وليس عامًّا في الصحابة.
(ب) رأي الشافعي في أقوال الصحابة
منصوص الشافعي في قوله القديم والجديد أن قول الصحابي حجة.
أما قوله القديم فأصحابه مقِرُّون به، وأما الجديد فحكى عنه كثير من أصحابه فيه، أن قول الصحابي ليس بحجة، إلا أن هذه الحكاية غير محرَّرة؛ إذ لا يحفظ عن الإمام قول في الجديد أن قول الصحابي ليس بحجة.
وغاية ما يتعلق به هؤلاء الذين نقلوا عنه عدم حجية قول الصحابي، هو قولهم: إن الشافعي -رحمه الله- يحكي أقوال الصحابة في مذهبه الجديد، ثم يخالفها، وهذا يدل على أن أقوال الصحابة ليست بحجة عنده، ولو كانت عنده حجة لم يخالفها.
ويتعلَّق بعضهم بأن الشافعي في الجديد إذا ذكر أقوال الصحابة لا يعتمد عليها وحدها، كما يعتمد على النصوص وحدها، بل نراه يعضدها بضروب من الأقيسة: فنراه تارة يذكرها ويصرح بخلافها، وتراه تارة أخرى يوافقها ولا يعتمد عليها، بل يعضدها بذكر دليل آخر.
وما تعلَّق به كل من الفريقين ضعيف جدًّا.
أما ما تعلق به الفريق الأول فيجاب عنه، بأن المجتهد إذا خالف الدليل المعين لدليل هو أقوى في نظره منه، فإنه لا يدل على أنه لا يرى الأول دليلا، وهذا من حيث الجملة.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 123 - 140 .(1/168)
وأما ما تعلق به الفريق الثاني، فيجاب عنه: بأن الشافعي -رحمه الله- إذا عضد قول الصحابي بضروب من الأقيسة، فهذا من باب تظافر الأدلة وتناصرها، وهذا من عادة أهل العلم قديمًا وحديثًا، فلا يدل سردهم للأدلة المتتابعة على أن ما ذكروه من الأدلة مقدَّمًا ليس بدليل.
ويجاب أيضًا عن ما توهمه كل من الفريقين الذين حكوا عن الشافعي في الجديد أن قول الصحابي ليس بحجة، بأن الشافعي صرَّح في الجديد من رواية الربيع عنه، بأن قول الصحابي حجة يجب المصير إليه، فقال:
المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما: ما أحدث يخالف كتابًا أو سُنَّة أو إجماعًا أو أثرًا، فهذه البدعة الضلالة ا. هـ (1) فقد جعل -رحمه الله- مخالفة الأثر الذي ليس بكتاب ولا سنة ولا إجماع، ضلالة، فكيف يقال بعد هذا إنه لا يرى قول الصحابي حجة، والربيع إنما أخذ عنه بمصر.
وقال البيهقي في كتابه: "مدخل السنن"، باب: "ذكر أقاويل الصحابة إذا تفرقوا ":
قال الشافعي: أقاويل الصحابة إذا تفرَّقوا نصير إلى ما وافق الكتاب والسنة أو الإجماع، إذا كان أصح في القياس، وإذا قال الواحد منهم القول لا يُحفظ عن غيره منهم فيه له موافقة ولا خلاف، صرت إلى اتباع قوله، إذا لم أجد كتابًا ولا سنة ولا إجماعًا ولا شيئًا في معناه يحكم له بحكمه، أو وجد معه قياس ا. هـ (2).
وقال البيهقي أيضًا: وقال في كتاب اختلافه مع مالك: ما كان الكتاب والسنة موجودين فالعذر على من سمعه مقطوع إلا بإتيانه، فإن لم يكن ذلك صرنا إلى أقاويل الصحابة أو واحد منهم (3).
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 120 - 121 .
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 120 - 121 .
(3) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 121 - 123 .(1/169)
وقال الشافعي أيضًا: والعلم طبقات: الأولى: الكتاب والسنة، الثانية: الإجماع، فيما ليس كتابًا ولا سنة، الثالثة: أن يقول صحابي فلا يعلم له مخالف من الصحابة، الرابعة: اختلاف الصحابة، الخامسة: القياس (1) هذا كله كلامه في الجديد.
وقال الشافعي في الجديد، في قتل الراهب: إنه القياس عنده، ولكن اتركه لقول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - (2).
ويوافق الشافعي على قبول قول الصحابة أئمة الإسلام، قال نعيم بن حماد: حدثنا ابن المبارك، قال: سمعت أبا حنيفة، يقول: إذا جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة نختار من قولهم، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم (3).
(جـ) بيان فضل الصحابة
لقد اختص الله الصحابة بخصائص، وميزهم بميزات لم تكن في مَن بعدهم، فقد كانوا أبرَّ الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلُّفًا، وأقربها إلى الصواب.
وقد خصَّهم الله بفصاحة اللسان، وتوقد الأذهان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك، وقلة المعارض، وحسن القصد، وتقوى الرب سبحانه، فالعربية سليقتهم وطبيعتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم، وليسوا بحاجة إلى النظر في الإسناد، وأحوال الرواة، وعلل الحديث، والجرح والتعديل، ولا إلى النظر في قواعد الأصول، بل هم مستغنون عن هذا كله، وليس أمامهم إلا كتاب الله وسنة رسوله ومعاني كل منهما.
وهم أسعد الناس بهذا من المتأخرين؛ لأن قواهم متوافرة مجتمعة عليها، إلى جانب ما خُصُّوا به من قوى الأذهان وصفائها وصحتها، وقوة إدراكها وكمالها، وكثرة المعاون، وقلة الصارف، وتلقيهم من مشكاة النبوة.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 121 - 123 .
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 121 - 123 .
(3) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 121 - 123 .(1/170)
بخلاف المتأخرين فقواهم متفرقة، وهممهم متشعِّبة، فالعربية وتوابعها قد أخذت من قوى أذهانهم شعبة، والأصول وقواعدها قد أخذت منها بشعبة، وعلم الإسناد وأحوال الرواة قد أخذ منها شعبة، وفكرهم في كلام المصنِّفين والمشايخ -على اختلافهم فيما أرادوا به- قد أخذ منها شعبة، فإذا وصلوا إلى النصوص النبوية وصلوا إليها بقلوب وأذهان قد كلَّت وضعفت، فأدركوا من النصوص ومعانيها بحسب تلك القوة، وهذا أمر محسوس مشاهد (1).
(د) أقوال الصحابة في تفسير القرآن
لا شك أن أقوال الصحابة في التفسير أصوب من أقوال مَن بعدهم، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن تفسيرهم له حكم المرفوع، منهم الإمام الحاكم في مستدركه، فقد قال فيه: " وتفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع " ا. هـ (2).
ومراده -رحمه الله-: أنه في حكم المرفوع في الاستدلال به والاحتجاج، وبيانه من وجهين (3).
أحدهما: أنه إذا قال الصحابي في الآية قولا، فلنا أن نقول: هذا القول قول رسول الله، أو نقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن تفسيرهم محمول على أنه رواية عن الرسول باللفظ.
الثاني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيَّن لهم معاني القرآن، وفسره لهم، كما وصفه الله -تعالى- بقوله: { - رضي الله عنه -(( } (- رضي الله عنه - - ( - ( - ( } - } - - ( - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - - ( - - ( الله أكبر ( المحتويات ( - ( - - - ( { } (4).
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 148 - 150 .
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 153 .
(3) - والفرق بين الوجهين أن الأول رواية عن الرسول باللفظ، والثاني رواية عن الرسول بالمعنى .
(4) - سورة النحل آية : 44.(1/171)
فبين لهم -عليه الصلاة والسلام- القرآن بيانًا شافيًا كافيًا، وكان إذا أشكل على أحدهم معنى سأله عنه فأوضحه له: - كما سأله الصحابة عن قوله -تعالى-: { - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( ( بسم الله الرحمن الرحيم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ( - ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - - عليه السلام - - (- رضي الله عنهم - - - ( { - بسم الله الرحمن الرحيم ( - ((( - } (1) فبين لهم أنه الشرك - - وكما سألته أم سلمة عن قوله -تعالى-: { - رضي الله عنه - - ( قرآن كريم - - - ( ( - - رضي الله عنهم - - - { - رضي الله عنه -( - - - - - - - ( مقدمة - - - - ( - - - ((( } (2) فبيَّن لها أنه العرض - ، وغير ذلك كثير.
فإذا نقل الصحابة لنا تفسير القرآن فتارة ينقلونه عنه -عليه الصلاة والسلام- بلفظه، وتارة بمعناه، فيكون تفسيرهم من باب الرواية بالمعنى، كما يروون السُّنَّة تارة باللفظ، وتارة بالمعنى (3).
(هـ) منزلة قول التابعي وتفسيره
كثر التابعون وانتشروا في الأرض، وجَدَّت الحوادث، وانتشرت المسائل في عصرهم، فلا يكاد يغلب على الظن عدم المخالف لما أفتى به الواحد منهم.
وإذا وجد لأحدهم قول لم يخالفه فيه صحابي ولا تابعي، فإنه يجب اتباعه فيه عند العلماء، وهو قول بعض الحنابلة والشافعية، وقد صرح الشافعي في موضع، فقال: قلته تقليدًا لعطاء. وهذا من كمال علمه وفقهه، فإنه لم يجد في المسألة غير قول عطاء، فكان قوله عنده أقوى ما وجد في المسألة.
والأكثرون من العلماء يفرِّقون بين الصحابي والتابعي.
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 82.
(2) - سورة النشقاق آية : 8.
(3) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 135 - 154 .(1/172)
وفي الاحتجاج بتفسير التابعي روايتان عن الإمام أحمد، على أن كتب الأئمة ومَن بعدهم، وكتب التفاسير مشحونة بالاحتجاج بتفسير التابعي (1).
(و) ترتيب الأخذ بفتاوى الصحابة والتابعين
إذا وجد للصحابي قول فلا يخلو أن يخالفه صحابي آخر، أو لا يخالفه: فإن لم يخالفه صحابي آخر، فإما أن يُشْتَهر قوله في الصحابة أو لا يشتهر: فإن اشْتُهر فالذي عليه جماهير الفقهاء أنه إجماع وحجة، وقالت طائفة منهم: هو حجة وليس بإجماع.
وقال شرذمة من المتكلمين والفقهاء المتأخرين: لا يكون إجماعًا ولا حجة. وإن لم يشتهر قول الصحابي، أو لم يعلم هل اشتهر أم لا؟
فالذي عليه جمهور الأمة أنه حجة، وهو قول جمهور الحنفية، وصرح به محمد بن الحسن، وذكر عن أبي حنيفة نصًّا، وهو مذهب مالك وأصحابه، وهو منصوص الشافعي في القديم والجديد، وهو منصوص الإمام أحمد في غير موضع عنه، واختيار جمهور أصحابه.
وإن خالفه صحابي آخر، فلا يخلو من أن يكون مثله في العلم، أو يكون أعلم منه: فإن كان مخالفه مماثلا له في العلم لم يكن قول أحدهما حجة على الآخر، وإن كان مخالفه أعلم منه، كأن يكون المخالف أحد الخلفاء الراشدين أو جميعهم، فللعلماء في الأخذ بقول الأعلم قولان -وهما روايتان عن الإمام أحمد- وأصح القولين أن القول الذي ذهب إليه الخلفاء الراشدين أو بعضهم أرجح وأولى أن يؤخذ به من قول الصحابي المخالف لهم.
فإن ذهب الخلفاء الأربعة إلى قول فالراجح أن الصواب معهم دون المخالف لهم، وإن ذهب بعض الخلفاء إلى قول وبعضهم إلى قول آخر فالصواب أغلب في قول الأكثر منهم، فإن انقسموا بالتساوي فذهب اثنان من الخلفاء إلى قول واثنان إلى قول آخر، فالأقرب إلى الصواب القول الذي ذهب إليه أبو بكر وعمر.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 155 - 156 .(1/173)
فإن اختلف أبو بكر وعمر، وذهب كل منهما إلى قول، فالأقرب إلى الصواب قول أبي بكر؛ إذ لا يحفظ للصدِّيق خلاف نص واحد، ولا يحفظ له فتوى ولا حكم مأخذها ضعيف أبدًا، وهذا تحقيق لكون خلافته خلافة نبوة.
ويكفي في ذلك معرفة رجحان قول الصدِّيق في الجد والإخوة، وأن الجد أب يُسْقط الإخوة، ورجحان قوله في كون الطلاق الثلاث بكلمة واحدة لا تقع إلا طلقة واحدة، فإن العالم المتَّصف إذا نظر في أدلة هذه المسائل من الجانبين تبين له أن جانب الصدِّيق أرجح من الجانب الآخر، وكذك بالنسبة لفتاوى التابعين وأقوالهم (1).
المبحث الثاني
فوائد وإرشادات تتعلق بالإفتاء
هناك فوائد وإرشادات وآداب تتعلق بالإفتاء والفتوى، والسؤال والسائلين، ينبغي للمفتي أن يكون على إلمام بها؛ ليكون على بصيرة فيما يفتي به، نذكر أهمها فيما يلي:
الفائدة الأولى: في أنواع أسئلة السائلين وموقف المفتي أمام كل نوع منها
الأسئلة الصادرة من السائلين لا تخلو من أربعة أنواع:
النوع الأول: أن يسأل عن الحكم، فيقول له السائل، ما حكم كذا وكذا؟
وموقف المفتي المسئول من هذا النوع لا يخلو من أحد أمرين:
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 119- 120 .(1/174)
أحدهما: أن يكون جاهلا بالحكم، وحينئذ يحرم عليه الإفتاء بلا علم، فإن أفتى مع جهله فعليه إثمه وإثم مستفتيه، كما قال الله -تعالى-: { } - ( قرآن كريم ( - ( - ( - - عليه السلام - - ( - ( المحتويات ( - - عليه السلام - - - - رضي الله عنهم - - (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - - - - ( تم بحمد الله - - - - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - ( { - رضي الله عنهم - - (- عليه السلام - - ( { ( - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - رضي الله عنهم - - (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - ((( - { - - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم - - ((( - ( - ( - - رضي الله عنه -(( - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - (( } (1).
فإن كان يعرف في المسألة أقوالا للعلماء من غير أن يظهر له الصواب في أحدهما، فإنه يحكي الأقوال فيها للسائل.
الأمر الثاني: أن يكون المسئول عالمًا بالحكم، وحينئذ فللسائل حالتان:
إحداهما: أن يكون محتاجًا إلى الجواب؛ لأنه قد حضره وقت العمل به، ففي هذه الحالة لا يجب على المفتي أن يجيب السائل عنها، ويؤيد ذلك فعل السلف، فإنهم إذا سُئل أحدهم عن مسألة يقول للسائل: هل كانت أو وقعت؟ فإن قال: لا. لم يجبه، وقال: دعنا في عافية.
هذا إذا كانت المسألة التي يفتي فيها لا نص فيها ولا إجماع؛ لأن الفتوى بالرأي إنما تباح عند الضرورة، كما تباح الميتة للمضطر، فإن كان في المسألة نص أو إجماع وجب على المفتي الإجابة، ولا يجوز له كتمان العلم، فقد ورد الوعيد على كاتمه، وأن: - من سُئل عن علم فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من النار - (2).
ووجوب الإجابة مشروط بأمرين:
__________
(1) - سورة النحل آية : 25.
(2) - رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير ، انظر مجمع الزوائد جـ 1 ص 163 .(1/175)
أحدهما: أن يأمن غائلة الفتوى، فإن لم يأمن الغائلة، وخاف أن يترتب على الفتوى شرٌّ أكثر منها، فإنه يمسك عنها؛ دفعًا لأعلى المفسدتين بارتكاب أدناهما، ويؤيد هذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - - فقد أمسك عن نقض الكعبة وإعادتها على قواعد إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، وعلَّل ذلك بأن قريشًا حُدَثاء عهد بالإسلام، وأن هذا الفعل ربما نفَّرهم عن الإسلام بعد الدخول فيه - .
الأمر الثاني: أن يكون عَقْل السائل يحتمل الجواب عما سأل عنه، فإن كان عقله لا يحتمل الجواب أمسك المفتي عن جوابه، وقد قال ابن عباس لرجل سأله عن تفسير آية: وما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها كفرت به - أي: جحدته وأنكرته-، ولم يرد أنك تكفر بالله ورسوله.
النوع الثاني من أنواع الأسئلة: أن يسأل عن دليل الحكم في المسألة.
النوع الثالث من أنواع الأسئلة: أن يسأل عن وجه دلالة الدليل على الحكم في المسألة.
النوع الرابع من أنواع الأسئلة: أن يسأل عن الجواب عن معارض الحكم في المسألة، ويجيبه المفتي عن هذه الأسئلة إن كان عالمًا بالجواب، وإلا أمسك عنه (1).
الفائدة الثانية
في أن المفتي له العدول عن جواب السؤال إلى ما هو أنفع للسائل
من كمال علم المفتي وفقهه ونصحه أن يعدل عن جواب سؤال المستفتي إلى ما هو أنفع له، لا سيما إذا تضمن ذلك بيان جواب سؤاله، وقد ورد في القرآن الكريم أمثلة على ذلك، منها:
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 157 - 158 .(1/176)
1- قوله -تعالى-: { - درهم - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ( - - رضي الله عنه -(( - - - - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( { (( - ( - ( - ( - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( { - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - - ( - - رضي الله عنهم - - ((((- رضي الله عنهم - - ( - (- عليه السلام - قرآن كريم ( - ( - - ( - رضي الله عنه -((( - - رضي الله عنه - - ( - - } - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنهم - - (- رضي الله عنه - - - عليه السلام - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (((( - ( - - { الله أكبر ( الله - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (((( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - ( تمهيد - - - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنهم -((( - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - - ( - - رضي الله عنهم - - } تمت ( - - ( { - - - (( مقدمة ( - ( بسم الله الرحمن الرحيم - ( - - رضي الله عنه -( ((((( } (1).
فقد سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المنفق، فجاء الجواب بذكر المصرف؛ لأنه أهمُّ مما سألوا عنه، مع أنه قد نبَّههم على جواب سؤالهم بالسياق في قوله -تعالى-: { ( - ( - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( { - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - - ( - - رضي الله عنهم - - } (2).
__________
(1) - سورة البقرة آية : 215.
(2) - سورة البقرة آية : 215.(1/177)
وفي موضع آخر في قوله -تعالى-: { - درهم - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ( - - رضي الله عنه -(( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( { (( - ( - ( - ( - - عليه السلام - قرآن كريم ((- رضي الله عنهم -(( - - - } (1) وهو ما فَضَل عن حاجتهم، وسَهُل عليهم إنفاقه، ولم يضرَّهم إخراجه.
2- قوله -تعالى-: { - - درهم - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ( - - رضي الله عنه -(( - - - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( ( - { - ( - - } - - ( - ( - { - ( - ( تمهيد - ( - (- عليه السلام - قرآن كريم - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( } - } - جل جلاله - - ( - ( - - - رضي الله عنهم - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } (2).
فقد سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سبب ظهور الهلال خفيًّا، ثم لا يزال يتزايد على التدريج، حتى يتمَّ ويكتمل، ثم يأخذ في النقصان، فجاء الجواب عن حكمه ذلك من ظهور مواقيت للناس، حيث تتمُّ بها مصالحهم في أحوالهم ومعاشهم ومواقيت أكبر عبادة وأظهرها، وهي الحج، حيث يجتمع فيه أكبر عدد يكون في عبادة واحدة (3).
الفائدة الثالثة
في جواب المفتي بأكثر من السؤال الذي ورد عليه
من كمال نصح المفتي وعلمه وإرشاده أنه يجيب السائل بأكثر مما سأله عنه، ولا يعتبر ذلك عيبًا في الجواب ولا المفتي؛ ومن عاب ذلك فلقلة علمه، وضيق عطنه، وقلَّة نصحه.
كيف وقد ترجم البخاري لذلك في صحيحه، فقال: "باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل عنه"؟ كيف وقد وردت السنة بذلك في مواضع، منها:
__________
(1) - سورة البقرة آية : 219.
(2) - سورة البقرة آية : 189.
(3) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 158 - 159 .(1/178)
1- حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: - سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يلبس المُحْرِم ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا الخِفَاف، إلا أن يجد نعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين - (1).
فسُئل -عليه الصلاة والسلام- عما يلبس المُحْرِم، فأجاب عما لا يلبس، وتضمن ذلك الجواب عما يلبس؛ لأن ما لا يلبسه المُحْرِم محصور، وما يلبسه غير محصور، فذكر للسائل النوعين.
2- - سُئل - صلى الله عليه وسلم - فقيل له: إنا نركب البحر على أرماث لنا أفنتوضأ بماء البحر؟ فأجاب - صلى الله عليه وسلم - بقوله: هو الطهور ماؤه، الحلُّ ميتته - (2).
فقد كان السؤل عن الوضوء بماء البحر، فأجابهم عنه وزادهم عليه باخبارهم بحلِّ (3) ميتته.
الفائدة الربعة
في أن المفتي ينبغي له إذا مَنَعَ من محظور أن يَدُلَّ على مباح
من علامة فقه المفتي ونصحه أنه إذا مَنَعَ مَن استفتاه عن محظور أن يدله على ما هو عِوَض عنه من المباح، فيسد عليه الطريق المحظور، ويفتح له الطريق المباح.
قال ابن القيم -رحمه الله-: وهذا لا يتأتَّى إلا من عالم ناصح مشفق، قد تاجر الله وعامله بعلمه، فمثاله في العلماء مثال الطبيب العالم الناصح في الأطباء: يحمي العليل عما يضرُّه، ويصف له ما ينفعه، فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان.
وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: - ما بعث الله من نبي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شرِّ ما يعلمه لهم - .
__________
(1) - رواه الجماعة: البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه انظر المنتقى جـ 2 ص 240 .
(2) - رواه أحمد ورجاله ثقات، انظر مجمع الزوائد ، باب في ماء البحر جـ 1 ص 215 .
(3) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 158 - 159 .(1/179)
وهذا شأن خُلُق الرسل وورثتهم من بعدهم ا. هـ (1) ولذلك أمثلة في السُّنَّة، نذكر منها ما يلي:
1- أن النبي -عليه الصلاة والسلام-، قد منع بلالا أن يشتري صاعًا من التمر الجيد بصاعين من الرديء، وبيَّن له أن هذا طريق محرَّم؛ لأنه من الربا، فقال له: - أوَّه لا تفعل عين الربا - (2) ثم دلَّه على الطريق المباح، فقال: - بِعِ الجمع بالدراهم، ثم اشترِ بالدراهم جنيبًا - (3).
2- - سأل عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث والفضل بن عباس النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستعملهما في جباية الزكاة، من أجل أن يحصلا على شيء من المال يتزوجان به، فمنعهما -عليه الصلاة والسلام- من ذلك، ثم فتح لهما الطريق المباح، فأمر محمية بن جزو - وكان على الخمس - أن يعطيهما من المال ما يَنْكِحان به - .
قال ابن القيم -رحمه الله-: وهذا اقتداء منه بربه -تبارك وتعالى-. فإنه يسأله عبده الحاجة فيمنعه إياها ويعطيه ما هو أصلح له وأنفع منها، وهذا غاية الكرم والحكمة ا. هـ (4).
الفائدة الخامسة
في أن المفتي ينبغي له أن ينبِّه السائل إلى الاحتراز عن الوهم
من كمال علم المفتي ونصحه وإرشاده أنه إذا أفتى مستفتيه بشيء أن ينبِّهه إلى الاحتراز مما قد يذهب إليه الوهم منه من خلاف الصواب، ولهذا أمثلة كثيرة في القرآن والسنة، منها:
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 159 .
(2) - متفق عليه .
(3) - الجنيب تمر جيد .
(4) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 159 - 160 .(1/180)
1- قوله -تعالى-: { - عليه السلام -( - - - - (- جل جلاله -(- رضي الله عنه - - ( - (( - } - - - - } (((( - - - - - - رضي الله عنه - فهرس - صلى الله عليه وسلم - - - - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله (( - - - - ( } - جل جلاله - - - - ( تمت ( { } (((( - - { } - - - - - - ( - صدق الله العظيم (( - (( - - صلى الله عليه وسلم - تم بحمد الله ( - ( قرآن كريم - { ( - - - ( - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنهم - - ((- عليه السلام - - - ( - ( - { - - - - (( (( مقدمة ( - ( - - - ((- رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله } (1).
نهى الله نساء نبيه عن الخضوع بالقول، وقد يذهب الوهم من النهي عن الخضوع إلى الإذن في الإغلاظ في القول، فرفع هذا التوهم بقوله -سبحانه- بعد ذلك: { - صدق الله العظيم ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( قرآن كريم - - - { (- صلى الله عليه وسلم -( - (( } تم بحمد الله (((( } (2).
2- قوله -تعالى-: { - رضي الله عنه -((( - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( ( المحتويات ( - ( - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنه - - } - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ( - ( - ( - ( - - ( - - صدق الله العظيم (- رضي الله عنهم - - - ( - ( - - - عليه السلام - - ( { { - رضي الله عنه -( - - صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات ( - ( - ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - - ( - ( - - ( - } (3).
__________
(1) - سورة الأحزاب آية : 32.
(2) - سورة الأحزاب آية : 32.
(3) - سورة الطور آية : 21.(1/181)
أخبر -سبحانه- بإلحاق الذرية بآبائهم في الدرجة التي هم فيها، مع أنه لا عمل لهم، فربما تُوهِّم أن يُحط الآباء إلى درجة الذرية، فرفع الله هذا الوهم بقوله -سبحانه- عقبه: { - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ( - ( - - جل جلاله -( - - - - صلى الله عليه وسلم - - ( صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - - عليه السلام - - - ( صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - ((( - ( } (1).
أي ما نقصنا الآباء شيئًا من أجور أعمالهم بسبب إلحاق الذرية بهم.
3- قوله -تعالى-: { - - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر ( { ( المحتويات ( - ( تم بحمد الله ( - ( تمت - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - ( تمهيد ((- صلى الله عليه وسلم - - - - عز وجل -- عليه السلام - - ( فهرس ( - (- رضي الله عنهم - - ( - - رضي الله عنه - - ( - - رضي الله عنه - - ( - - - - ( - { - - - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله { - - رضي الله عنهم - مقدمة } (2).
ذكر -سبحانه- ربوبيته البلدة الحرام، وقد يوهم الاختصاص، فرفع هذا الوهم بقوله عقبه: { (( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - ( - - ((( - ( } (3).
4- قوله -تعالى-: { صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - { - - عليه السلام - قرآن كريم - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - - فهرس - - رضي الله عنه -( ( - - - - عليه السلام - قرآن كريم ( - - ( ((( مقدمة ( - ( - - رضي الله عنهم - مقدمة } تمت ( { { - - - ((( - (- رضي الله عنه - - (( فهرس ( - ( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - } (4).
__________
(1) - سورة الطور آية : 21.
(2) - سورة النمل آية : 91.
(3) - سورة النمل آية : 91.
(4) - سورة الطلاق آية : 3.(1/182)
ذكر -سبحانه- كفايته للمتوكل عليه، وقد يوهم ذلك تعجيل الكفاية وقت التوكل، فرفع هذا الوهم بقوله: { ( - - - - - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنهم - - ( - - - (- صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - - ((( - ( - - جل جلاله - - ( - - - ((( } (1)، أي:وقتًا لا يتعدَّاه، ولا يستعجل المتوكل.
5- قوله - صلى الله عليه وسلم - - لا يُقْتل مسلم بكافر - (2).
فقد يُتَوَهَّم من هذا إهدار دماء الكفار مطلقًا وإن كانوا في عهدهم، فرفع هذا التوهم بقوله -عليه الصلاة والسلام- عقب الجملة الأولى: - ولا ذو عهد في عهده - .
6- قوله -عليه الصلاة والسلام-: - لا تجلسوا على القبور - (3).
فقد يُتَوَهَّم من نهيه -عليه الصلاة والسلام- عن الجلوس على القبور تعظيمها، فرفع هذا الوهم بالنهي عن المبالغة في تعظيمها حتى تجعل قبله، فقال: - ولا تصلوا إليها - (4).
الفائدة السادسة
في أن المفتي ينبغي له أن يذكر الحكم بدليله
من غزارة علم المفتي وفقهه أن يذكر للسائل دليل الحكم ومأخذه، ولا يلقي الفتوى إلى المستفتي ساذجة مجردة عن الدليل، فإن جمال الفتوى وروحها هو الدليل، وهو طراز الفتوى، ولا يجب قبول قول المفتي إلا إذا ذكر الدليل للمستفتي، ويبرأ حينئذ من عهدة الفتوى بلا علم، ويحرم على المستفتي حينئذ مخالفته، ومن تأمل أحكام القرآن وجد أن الله -سبحانه- يرشد فيها إلى مداركها وعللها، ومن أمثلة ذلك ما يأتي:
__________
(1) - سورة الطلاق آية : 3.
(2) - قال في الجامع الصغير: رواه أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجه، عن ابن عمر، ورمز له بالحسن، انظر الجامع الصغير، مع فيض القدير جـ 6 ص 453 .
(3) - رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، انظر الجامع الصغير، مع فيض القدير جـ 6 ص 390 .
(4) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 160 - 161 .(1/183)
1- قوله تعالى: { - درهم - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ( - - رضي الله عنه -(( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( (( - ( - - رضي الله عنهم - - ( - - - ( - ( - - عليه السلام - قرآن كريم ( - - { - - صلى الله عليه وسلم - - } - قرآن كريم ( - ( - - رضي الله عنه -- سبحانه وتعالى -(( - - - ( - عليه السلام -( - - - - ( } - جل جلاله - - - - - (( (( - ( - - رضي الله عنهم - - ( - - - } (1). فأمر الله -سبحانه- نبيه الكريم أن يذكر لهم علة الحكم قبل الحكم.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 222.(1/184)
2- قوله -تعالى-: { - - } تم بحمد الله - عليه السلام -( - - - (- صلى الله عليه وسلم - - ( - - - - - فهرس - - رضي الله عنه -( (( - ( - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - - - رضي الله عنه - - ( { ( - - - ( الله أكبر - ( ( - قرآن كريم ( - { - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - ( - ( { ( - - - - - - رضي الله عنهم - - (- رضي الله عنه - - - عليه السلام - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (((( - ( - - - رضي الله عنهم - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (((( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - ( تمهيد - - - - - ( - - - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - - بسم الله الرحمن الرحيم - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه -(((- رضي الله عنه - - (( - - - عليه السلام - - (- جل جلاله -(( - } - - ( المحتويات ( - - ( تم بحمد الله } (1). فذكر -سبحانه- علة الحكم بعد الحكم في قوله: { ( - - - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - - بسم الله الرحمن الرحيم - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه -(((- رضي الله عنه - - (( - - - عليه السلام - - (- جل جلاله -(( - } - - ( المحتويات ( - - ( تم بحمد الله } (2).
__________
(1) - سورة الحشر آية : 7.
(2) - سورة الحشر آية : 7.(1/185)
3- قوله -تعالى-: { ( - ( - - - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( { - - ( - - - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم (( - (( - - - - ( - - رضي الله عنهم - - ( - - رضي الله عنه - - ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - } (1) ثم ذكر علة الحكم، فقال: { - ( - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنهم - - ( - - - رضي الله عنه - - - - - - الله - ( - - - رضي الله عنه - الله أكبر - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( - - - } (2).
4- قوله -تعالى- في جزاء الصيد: { صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( - - - - رضي الله عنه - - - - المحتويات ( - - ( تم بحمد الله - - جل جلاله - - ( - - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنه - - - تم بحمد الله (( - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - - ( ( - ( الله ( } تم بحمد الله - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - رضي الله عنه - - - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( بسم الله الرحمن الرحيم - رضي الله عنهم -( } - - - - } (3) ثم ذكر علة الحكم، فقال: { - - - صلى الله عليه وسلم -( - - عليه السلام - - ( - - - رضي الله عنه - - - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( فهرس ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - } (4).
وكذلك من تأمل فتاوى النبي - صلى الله عليه وسلم - وجدها مشتملة على التنبيه على حكمة الحكم، ونظيره، ووجه مشروعيته، وقد كان يُسأل عن المسألة فيضرب لها الأمثال، ويشبهها بنظائرها، ومن أمثلة ذلك ما يأتي:
__________
(1) - سورة المائدة آية : 38.
(2) - سورة المائدة آية : 38.
(3) - سورة المائدة آية : 95.
(4) - سورة المائدة آية : 95.(1/186)
1- - سُئل - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الرطب بالتمر، فقال: أينقص الرُّطب إذا يبس؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذن - (1) فنبَّههم على علة التحريم وسببه.
2- - سأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قُبْلة امرأته وهو صائم، فقال: أرأيت لو تمضمضت ثم مججته، أكان يضر شيئًا ؟ قال: لا - (2) فنبَّه -عليه الصلاة والسلام- عمر إلى أن مقدِّمة المحظور لا يلزم أن تكون محظورة، بضرب المثل بوضع الماء في الفم للصائم، فإنها مقدمة شربه، وليست المقدمة محرَّمة.
3- قوله -عليه الصلاة والسلام-: - لا تُنْكَح المرأة على عمَّتها، ولا على خالتها - (3) ثم نبَّه بعد ذلك على علة هذا الحكم بقوله: - فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم - .
4- - قوله -عليه الصلاة والسلام- لأبي النعمان بن بشير، وقد خص أحد أولاده بغلام نحله إياه: أيسرُّك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: بلى. قال: فلا إذن - .
وفي رواية: - فاتقوا الله، واعدلوا في أولادكم - (4). فأرشد -عليه الصلاة والسلام- إلى علة المنع من تفضيل بعض الأولاد.
وكذلك كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سُئل أحدهم عن مسألة أفتى بالدليل من الكتاب والسنة، فيقول قال الله كذا، أو قال رسول الله كذا، أو فعل رسول الله كذا، فحينئذ يُشْفَى السائل بجوابه، ثم التابعون والأئمة بعدهم ساروا على نهجهم، فيذكر أحدهم الحكم للمستفتي، ثم يستدل عليه (5).
الفائدة السابعة
في أن من أدب المفتي أن يمهِّد للحكم المستغْرَب
__________
(1) - رواه الخمسة وصححه الترمذي .
(2) - رواه أحمد وأبو داود .
(3) - رواه أحمد ورجاله ثقات ، انظر مجمع الزوائد جـ 4 ص 263 .
(4) - رواه النسائي ، انظر سنن النسائي المجتبي جـ 6 ص 218 .
(5) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 160 - 163 .(1/187)
يجدر بالمفتي -إذا كان الحكم مستغربًا، لم تألفه النفوس- أن يذكر بين يديه مقدمات: تؤنس به، وتدل عليه، وتكون كالتوطئة له والدليل عليه، وقد تضمن القرآن الكريم شيئًا من أمثلة ذلك، نذكر مثالين منها:
المثال الأول: قصة نسخ القِبْلة، فإنها كانت شديدة على النفوس، فمهَّد الله -سبحانه- قبلها عدة تمهيدات، ووطأ عدة موطئات، منها:
1- ذكر النسخ، وأنه يأتي بخير من المنسوخ أو مثله: { - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( - - - - جل جلاله -- رضي الله عنه - الله أكبر ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - { - رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنهم - - ( - - جل جلاله -( الله أكبر ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - الله أكبر - - ( - - - ( - - - { - ( { ( } تم بحمد الله (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - - - رضي الله عنهم - - ( - ( الله ( تم بحمد الله } (1).
2- بيان أنه قادر على كل شيء ومالك السماوات والأرض، فله أن يتصرف في ملكه كيف يشاء: { ( المحتويات - - - صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات فهرس - (( - - } تمت - صلى الله عليه وسلم - - { - - - - - فهرس - - رضي الله عنه -( (- صلى الله عليه وسلم - - ( - - ((( - ( ( - - ( - - - ((((( ( المحتويات - - - صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات فهرس - (( - - - - - صلى الله عليه وسلم - - { - - - (( - - - ( - ( - ( تم بحمد الله ( المحتويات (- عليه السلام - قرآن كريم (- رضي الله عنهم - - - - - - - ((( - - } - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } (2).
__________
(1) - سورة البقرة آية : 106.
(2) - سورة البقرة آية : 106-107.(1/188)
3- تحذيرهم من الاعتراض على رسوله، كما اعترض مَن قبلهم على موسى: { ( بسم الله الرحمن الرحيم - صلى الله عليه وسلم - - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - ( - ( - تمت - صلى الله عليه وسلم - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه -(( - فهرس - ( المحتويات ( - - - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - - - رضي الله عنهم - - - - - - ((( - - (- رضي الله عنهم - - قرآن كريم ( تم بحمد الله صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - ( تمهيد - - } (1).
4- تحذيرهم من الإصغاء إلى اليهود وشِبْههم، فإنهم يَوَدُّون أن يردوهم كفارًا بعد ظهور الحق لهم: { } - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - ( - - - ((( } تم بحمد الله ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( - (- رضي الله عنه - - ( - ( - - - ( قرآن كريم - - المحتويات ( - - رضي الله عنه - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - ( - - رضي الله عنه - - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( - ((- رضي الله عنه - - ( المحتويات ( - ( - (- رضي الله عنهم - - - ( { - ( - - } (( - - - جل جلاله - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة ( صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( - - جل جلاله -(( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - (( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( - ((- رضي الله عنه - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه -( } (- رضي الله عنه - تمهيد - - ( المحتويات ( - - - - - - رضي الله عنهم - - ( - - - } (2).
__________
(1) - سورة البقرة آية : 108.
(2) - سورة البقرة آية : 109.(1/189)
5- إخباره أن دخول الجنة ليس بالتهوُّد ولا بالتنصر، وإنما بإسلام الوجه لله، وإحسان العمل: { } - قرآن كريم ( - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - صدق الله العظيم - - - - ( - ( - - رضي الله عنه - - - { } - جل جلاله -- رضي الله عنهم - - ( - - - - صدق الله العظيم ( { صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - تمت - - - - ( - قرآن كريم ( - (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - - - رضي الله عنه - - ( - (- رضي الله عنه - الله أكبر - درهم ( - ( - ( المحتويات ( - - - ( الله أكبر - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - } - قرآن كريم ( - - - رضي الله عنهم - - ( المحتويات ( تمهيد - عليه السلام - - (- رضي الله عنهم - - ( - ( - تمت ( { ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - ( - - ((( - ( - ( - ( ((((( - - فهرس - - رضي الله عنه - - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - المحتويات فهرس - ( - - صلى الله عليه وسلم - - (( مقدمة - رضي الله عنهم - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - عليه السلام - قرآن كريم ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم ( - (- رضي الله عنه -( - ((( - - - - ( (( فهرس ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - - جل جلاله -(( (( مقدمة ( فهرس - - عليه السلام - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( قرآن كريم - رضي الله عنهم - - ( المحتويات ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( الله أكبر - رضي الله عنه - - (- رضي الله عنه - - - ((((( } (1).
__________
(1) - سورة البقرة آية : 111-112.(1/190)
6- إخباره بأن له المشرق والمغرب، وأن المصلِّي حيث ولَّى وجهه فثم وجه الله: { ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - (( { الله أكبر ( الله - - ( - ( - (( { الله أكبر ( الله - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - ( } - قرآن كريم - - - عليه السلام - قرآن كريم ( - { المحتويات - - - ( ( مقدمة ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - } (1).
__________
(1) - سورة البقرة آية : 115.(1/191)
7- تحذير نبيِّه عن اتباع أهواء أهل الكتاب، وأمره باتباع ما يوحى إليه: { صدق الله العظيم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - (- رضي الله عنهم -(( - - - - رضي الله عنهم - - - جل جلاله -- رضي الله عنه -( ( - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - ( - - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنه - - ( - ( } - جل جلاله - - - - - (( - - رضي الله عنهم - مقدمة - رضي الله عنهم -(( تمهيد ( - - - ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - - ( - ( تم بحمد الله ( - ( - - - ( { - - رضي الله عنهم - - ( - ( - - - - عليه السلام - قرآن كريم ( - - - - رضي الله عنهم - - ( - ( - - - (((( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - تمهيد ((- رضي الله عنه - - } - - - المحتويات ( - - عليه السلام -( - - - عليه السلام - قرآن كريم ( - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - ((- رضي الله عنه - - - ( - { - - - - - - عليه السلام -( - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ((( - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنهم - - - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - ((- رضي الله عنه - الله أكبر ((((( } (1).
__________
(1) - سورة البقرة آية : 120.(1/192)
8- ذكر عظمة بيته الحرام، وعظمه بانيه وملته، وتسفيه من يرغب عنها: { - ( - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - - رضي الله عنه - - ( - - - - بسم الله الرحمن الرحيم (( - (- رضي الله عنه - - ( - ( { (( مقدمة - - - عليه السلام - - - تمهيد (- عليه السلام - - ( - - - ( - - صدق الله العظيم ( - - - - - - صلى الله عليه وسلم - - - ( - رضي الله عنه - - - - - - ( - الله أكبر ( { - رضي الله عنهم - - ( - (( - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم ( } - } - جل جلاله - - ( - - - جل جلاله - تم بحمد الله - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( { } (1) { ( - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( - (( - - رضي الله عنه - - ( بسم الله الرحمن الرحيم (( - (- رضي الله عنه - - ( - ( { - رضي الله عنهم - - (( - - عليه السلام - قرآن كريم - { ( - - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - ( - - - ( - - (((- رضي الله عنهم - - ( - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } (2) { صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - (( - - رضي الله عنه - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( ( - { - ( } تم بحمد الله - بسم الله الرحمن الرحيم (( - (- رضي الله عنه - - ( - ( { - صدق الله العظيم ( { صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - مقدمة ((- رضي الله عنهم - - (( مقدمة - - ((- رضي الله عنه - الله أكبر } (3).
__________
(1) - سورة البقرة آية : 124.
(2) - سورة البقرة آية : 127.
(3) - سورة البقرة آية : 130.(1/193)
المثال الثاني: قصة المسيح عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- وولادته من غير أب في سورتي آل عمران ومريم، فإن ولادة ابن من غير أب مستغرب لدى النفوس؛ إذ لا عهد لها بمثله في سُنَّة الله في تناسل بني آدم، فذكر قبلها توطئة لها وتمهيدًا ودليلا تأنس به النفوس ويزيل وحشته من القلوب، قصة زكريا -عليه الصلاة والسلام-، وإخراج الولد منه، بعد انقراض عصر الشباب، وبلوغه سن الشيخوخة الذي لا يولد فيه لمثله في العادة، فلما أنست النفوس بوجود ولد من بين شيخين كبيرين، لا يولد لهما عادة، سهل عليها التصديق بولادة ولد من غير أب (1).
الفائدة الثامنة
في أنه يجوز للمفتي أن يحلف على ثبوت الحكم
يجوز للمفتي أن يحلف على ثبوت الحكم عنده؛ ليشعر السائل أنه على ثقة ويقين مما قاله، وأنه غير شاكٍّ فيه، وقد أقسم الله -تعالى- في مواضع من كتابه، منها:
1- قوله -تعالى-: { ( تمت - - عليه السلام - - - عليه السلام - قرآن كريم - ( (( - - - عليه السلام - - - - - - - ((( - - } - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة ( الله أكبر ( { - - - رضي الله عنهم - - - - - - ( الله ( } تم بحمد الله - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( { (( - - - (((( } (2).
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 163- 164 .
(2) - سورة الذاريات آية : 23.(1/194)
2- قوله -تعالى-: { - - - ( - رضي الله عنهم - - ( فهرس - - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - - قرآن كريم (- جل جلاله -( تم بحمد الله ( - ( - - (( - - رضي الله عنهم - مقدمة - - قرآن كريم ( - ( - - - رضي الله عنهم - - ( - - - رضي الله عنهم - - - (( - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - - { ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - - جل جلاله -( - - رضي الله عنه - - } (1).
3- قوله -تعالى-: { - درهم ( فهرس - - عليه السلام - - - عليه السلام - قرآن كريم - ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - } - جل جلاله - فهرس - - رضي الله عنه -(( - - - جل جلاله - - - - رضي الله عنه -((((- عليه السلام - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - (((( } (2).
وقد أمر الله نبيَّه أن يحلف على أن ما جاء به من الشريعة حق في ثلاثة مواضع في كتابه هي:
1- قوله -تعالى-: { - - درهم - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ((( تمهيد - - - رضي الله عنه - - ( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنهم - مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - قرآن كريم ( - ( - ( - - ( { ( - ( فهرس - - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة ( الله أكبر ( { - - - رضي الله عنهم - - - - } (3).
__________
(1) - سورة النساء آية : 65.
(2) - سورة الحجر آية : 92.
(3) - سورة يونس آية : 53.(1/195)
2- قوله -تعالى-: { - رضي الله عنه - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - - صلى الله عليه وسلم -( - - ( - - - صدق الله العظيم - - - جل جلاله - - ( - ( - - - ( { - رضي الله عنه -( - - - - - - ( - ( - - - فهرس - - رضي الله عنه - - - ( فهرس - - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( تمهيد } - - رضي الله عنه - - ( - ( - - رضي الله عنه - - - - } (1).
3- قوله -تعالى-: { - المحتويات - رضي الله عنه -(- رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - (- صلى الله عليه وسلم -( - - ( - - تمت - صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم { - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنهم -(( - ( - ( - ( - - - فهرس - - رضي الله عنه - - - ( فهرس - - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( - - رضي الله عنهم -(( تمهيد ( - - - } (2).
وقد أقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواضع كثيرة كقوله -عليه الصلاة والسلام-: - إني -والله- إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها، إلا كفَّرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير - متفق عليه.
وقد حلف جماعة من الصحابة والتابعين والأئمة على الرواية والفتوى؛ تحقيقًا وتأكيدًا للخبر، لا إثباتا له باليمين، من ذلك:
1- قال علي بن أبي طالب لابن عباس في متعة النساء: إنك امرؤ تائه، فانظر ما تفتي به في متعة النساء، فوالله، وأشهد بالله، لقد نهى عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
2- وقال يزيد بن هارون: من قال القرآن مخلوق، أو شيء منه مخلوق، فهو -والله- عندي زنديق.
3- وسئل الإمام أحمد: من قال القرآن مخلوق كافر؟ فقال: إي والله (3).
الفائدة التاسعة
__________
(1) - سورة سبأ آية : 3.
(2) - سورة التغابن آية : 7.
(3) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 165 - 169 .(1/196)
في أن من أدب المفتي أن يفتي بلفظ النصوص
من فقه المفتي وورعه أن يفتي بلفظ النصوص، فإن العصمة مضمونة في ألفاظ النصوص، ومعانيها في أتمِّ بيان وأحسن تفسير، وهي عصمة وحجة، بريئة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب؛ لأنها تتضمن الحكم والدليل معًا، فهي أحكام مضمونٌ لها الصواب.
وقد كان الصحابة والتابعون، والأئمة بعدهم، يتحرَّون الإفتاء بلفظ النصوص غاية التحرِّي؛ ولذلك كانت علوم الصحابة أصحَّ من علوم مَن بعدهم، وخطؤهم في اختلافهم أقل من خطأ مَن بعدهم، وكذلك التابعون بالنسبة لمن بعدهم؛ لأنهم إذا سئلوا عن مسألة يقولون: قال الله كذا، وقال رسول الله، أو فعل رسول الله كذا، ولا يَعْدِلُون عن هذا ما وجدوا إليه سبيلا (1).
الفائدة العاشرة
في أن من أدب المفتي أن يتوجه إلى الله
ليلهمه الصواب ويكثر من الدعاء لنفسه بالتوفيق
من علامة توفيق المفتي إذا سُئل عن مسألة، أو نزلت به حادثة، أن ينبعث من قلبه الافتقار الحقيقي إلى ملهم الصواب، ومعلم الخير، وهادي القلوب، وأن يَصْدُق التوجه في الاستمداد من المعلم الأول، معلم الأنبياء والرسل، أن يلهمه الصواب، ويفتح له طريق السداد، فإنه لا يَرُدُّ من صدق في التوجه إليه لتبليغ دينه وإرشاد عبيده ونصحهم.
وعليه -بعد ذلك- أن يكثر من الدعاء لنفسه بالتوفيق، ثم يوجه وجهه إلى منبع الهدى ومعدن الصواب ومطلع الرشد، وهو النصوص من القرآن والسنة، ثم آثار الصحابة، فيستفرغ وسعه في تعرف حكم تلك النازلة منها، فإن اشتبه عليه، ولم يظفر به، بادر إلى التوبة والاستغفار وكثرة ذكر الله، وكانت هذه حال السلف من الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم، ومن أمثلة ذلك:
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 170 - 171 .(1/197)
1- قول أبي بكر في الكلالة: أي أرض تقلني؟ وأي سماء تظلني؟ وأين أذهب؟ وكيف أصنع إذا أنا قلت في كتاب الله بغير ما أراد الله بها؟ ثم قال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه برئ.
2- كان ابن المسيب لا يفتي إلا قال: اللهم سلمني وسلم مني.
3- كان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إذا أشكلت عليه المسائل يقول: يا معلِّم إبراهيم علمني، وكان يكثر الدعاء بالحديث الصحيح: - اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم - (1).
4- وكان بعض السلف يقول عند الإفتاء: { - رضي الله عنهم - - - - جل جلاله -(- رضي الله عنهم - - ( تمهيد ( - - صدق الله العظيم - المحتويات ( - (( - - - عليه السلام - - - - - صدق الله العظيم ( { - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - - جل جلاله -- رضي الله عنه - - ( - ( - - رضي الله عنه -( - رضي الله عنهم - - } الله أكبر ( { - تمهيد الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( - (( - - رضي الله عنهم -(( - - - ( بسم الله الرحمن الرحيم - ( - { - رضي الله عنه -( - - - (((( } (2).
5- وكان مكحول يقول عند الإفتاء: لا حول ولا قوة إلا بالله (3).
الفائدة الحادية عشر
في أن من أدب المفتي ألا ينسُب الحكم إلى الله إلا بنصٍّ
__________
(1) - رواه النسائي انظر سنن النسائي المجتبي جـ 3 ص 173 .
(2) - سورة البقرة آية : 32.
(3) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 165 - 167 وص 257 - 258 .(1/198)
من أدب المفتي مع الله ورسوله أن لا يشهد بأن الله أو رسوله أحلَّ شيئًا، أو حرمه، أو كرهه، أو أوجبه، إلا إذا كان عالمًا بنصٍّ فيه عن الله أو عن رسوله، ولا يجوز له أن ينسب ما وجده في كتب المذاهب إلى الله أو إلى رسوله، وهو لا علم له بذلك فيغرّ الناس، ويقول على الله أو على رسوله ما لم يقله.
ويدل على هذا ما ثبت في صحيح مسلم من حديث بريدة بن الحصيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فيه: - وإذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله ورسوله، فلا تنزلهم على حكم الله ورسوله، فإنك لا تدري: أتصيب حكم الله فيهم أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك، وحكم أصحابك - (1).
قال ابن القيم: وسمعت شيخ الإسلام يقول: حضرت مجلسًا فيه القضاة وغيرهم، فَجَرَت حكومة حكم فيها أحدهم بقول زفر، فقلت له: ما هذه الحكومة ؟ فقال: هذا حكم الله. فقلت له: صار قول زفر هو حكم الله الذي حكم به وألزم به الأمة، قل هذا حكم زفر، ولا تقل هذا حكم الله، أو نحو هذا الكلام (2).
الفائدة الثانية عشرة
في أنه لا يجوز للمفتي إلقاء المستفتي في الحيرة
مما يحْرُم على المفتي أن يروّج على السائل ويُخَيِّره، ويلقيه في الحيرة والإشكال، ومثال ذلك:
1- أن يسأل عن مسألة في الفرائض، فيقول له: يقسَّم بين الورثة على فرائض الله.
2- أن يسأله عن مسألة في الزكاة، فيجيبه بقوله: أما أهل الإيثار فيخرجون المال كله، وأما غيرهم فيخرج القدر الواجب عليه.
3- أن يسأله عن مسألة، فيقول: يجوز أو يصح أو ينعقد بشرطه.
4- أن يسأله عن مسألة، فيقول: فيها خلاف، أو فيها قولان.
5- أن يسأل عن مسألة، فيقول له: يرجع في ذلك إلى رأي الحاكم.
__________
(1) - رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي وصحَّحه .
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 175 - 176 .(1/199)
فإن مثل هذه الأجوبة ليست بعلم، ولا تفيد سوى حيرة السائل وتبلُّده، وإنما الواجب على المفتي أن يبيِّن بيانًا مزيلا للإشكال، متضمنًا لفصل الخطاب، كافيًا في حصول المقصود، لا يحتاج معه السائل إلى غيره (1).
الفائدة الثالثة عشرة
في أن المفتي لا يطلق الجواب
إذا كان في المسألة تفصيل ولا يفصِّل إلا حيث يجب التفصيل
مما ينبغي للمفتي أن ينتبه له أن لا يطلق الجواب في مسألة فيها تفصيل، إلا إذا علم أن السائل إنما يسأل عن أحد أنواعها؛ إذ كثيرًا ما يقع غلط المفتي في هذا، فَتَرِدُ إليه المسائل في قوالب متنوعة، فتارة ترد على المفتي المسألتان: صورتهما واحدة، وحكمهما مختلف، وتارة ترد عليه المسألتان: صورتهما مختلفة، وحقيقتهما واحدة، وحكمهما واحد، وتارة ترد عليه المسألة مجملة، تحتها عدة أنواع، فيذهب وهمه إلى واحد منها، ويذهل عن المسئول عنه، فيجيب بغير الصواب، ومن أمثلة ذلك:
1- إذا سئل المفتي عن رجل دفع ثوبه إلى قصَّار (2) يقصره فأنكر القصار الثوب ثم أقرّ به، هل يستحق الأُجرة على القصارة أم لا ؟.
فالجواب بالنفي إطلاقًا أو بالإثبات إطلاقًا خطأ، والصواب التفصيل، وهو أنه إن كان قصًره قبل الجحود فله أجرة القصارة؛ لأنه قصره لصاحبه، وإن كان قصره بعد جحوده فلا أجرة له؛ لأنه قصره لنفسه.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 177 - 178 .
(2) - قال في مختار الصحاح ، قصر الثوب دقه ، وبابه نصر، ومنه القصَّار ا . هـ . انظر مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر الرازي ص 537 المطبعة الأميرية 1340 هـ . قلت : والقصّار هو الفسّال الذي يفسّل الثياب .(1/200)
1- إذا سُئل المفتي عن رجل حلف لا يفعل شيئًا ففعله، هل يحنث أم لا ؟ فلا يفتيه بحنثه حتى يستفصله: هل كان ثابت العقل وقت فعله أم لا ؟ فإذا كان ثابت العقل: فهل كان مختارًا في يمينه أم لا ؟ فإذا كان مختارًا: فهل استثنى عقيب يمينه أم لا ؟ وإذا لم يستثنِ: فهل فعل المحلوف عليه عالمًا ذاكرًا مختارًا، أو كان ناسيًا أو جاهلا أو مكرهًا؟ وإذا كان عالمًا مختارًا: فهل كان المحلوف عليه داخلا في قصده ونيته، أو قصد عدم دخوله، فخصصه بنيَّته، أو لم يقصد دخوله، ولا نوى تخصيصه؟ فإن الحنث يختلف باختلاف ذلك كله.
وقد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يستفصل السائل، ويفصِّل فيه ما فيه تفصيل، ومن أمثلة ذلك:
1- لما جاء ماعز بن مالك، وأقر عنده بالزنا، استفصله -عليه الصلاة والسلام-: هل وجد منه مقدمات الزنا أو حقيقته؟ فلما أجابه عن الحقيقة استفصله: هل به جنون فيكون إقراره غير معتبر، أم هو عاقل فيكون معتبرًا؟ فلما علم عَقْله أمر باستنكاهه؛ ليعلم هل هو سكران أو صاحٍ؟ فلما علم أنه صاحٍ استفصله: هل أحصن أم لا؟ فلما علم أنه قد أحصن أقام عليه الحد (1).
وعندي: أن هذا الاستفصال منه -عليه الصلاة والسلام- لأجل إقامة الحد عليه لا لأجل إفتائه، فإن ماعزًا إنما جاء إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ليقيم عليه الحد لا ليفتيه.
2- - جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أم سليم، فسألته: هل على المرأة من غُسْل إن هي احتلمت ؟ قال: نعم، إذا هي رأت الماء - (2). فتضمَّن هذا الجواب التفصيل بوجوب الغسل عليها في حال دون حال.
__________
(1) - رواه البخاري ومسلم.
(2) - المرجع السابق جـ 1 ص 258 .(1/201)
3- وكذلك مما ينبغي للمفتي ألا يفصِّل إلا حيث يجب التفصيل، فإذا سُئل مثلا عن مسألة في الفرائض، فلا يذكر موانع الإرث، ويقول بشرط ألا يكون كافرًا ولا رقيقًا ولا قاتلا، فإن السؤال المطلق يدل على أن المراد: الوارث الذي لم يقم به مانع من الإرث، فلا حاجة إلى التفصيل في مثل ذلك (1).
الفائدة الرابعة عشر
في من تجوز له الفُتيا ومن لا تجوز
تصح فتوى الحر والعبد، والرجل والمرأة، والقريب والبعيد، والأميّ والقارئ، والأخرس المفهوم الإشارة أو الكتابة والناطق.
ويجوز للمفتي أن يفتي من لا تقبل شهادته له: كأبيه وابنه، وشريكه وصديقه، وإن كان لا يجوز له أن يشهد لهم ولا أن يقضي لهم؛ إذ الفُتيا أوسع من الحكم والشهادة، لكن لا يجوز له أن يحابي فيُفتي أباه أو ابنه أو صديقه بحكم ويفتي غيرهم بضده محاباةً، وكذلك إذا أفتى نفسه إنما يُفتيها بما يفتي غيره به، ولا يجوز له أن يفتي نفسه بالرخصة وغيره بالمنع.
ولا تصح الفُتيا من فاسق لغيره وإن كان مجتهدًا، لكن يفتي نفسه ولا يسأل غيره، وليس للمستفتي أن يستفتيه.
وقيل تصح فُتيا الفاسق، إلا أن يكون معلنًا فسقه، داعيًا إلى يد عنه فلا تصح فتياه؛ لأن حكم استفتائه حكم إمامته وشهادته.
والحق أن هذا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والقدرة والعجز.
وفي جواز استفتاء مستور الحال قولان للعلماء، أصحهما جواز استفتائه وإفتائه (2).
الفائدة الخامسة عشرة
في كلمات حفظت عن الإمام أحمد، تتضمَّن الصفات والخصال التي يجب تحقُّقها فيمن ينصِّب نفسه للفتيا
ذكر أبو عبد الله بن بطة في كتابه في الخلع عن الإمام أحمد أنه قال: لا ينبغي للرجل أن ينصِّب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
أولها: أن تكون له نية، فإن لم تكن له نيَّة لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور.
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 187 - 194 .
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 210 - 220 ، وانظر الإنصاف في مسائل الخلاف جـ 11 ص 186 - 187 .(1/202)
والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة.
الثالثة: أن يكون قويًا على ما هو فيه وعلى معرفته.
الرابعة: الكفاية، وإلا مضغه الناس.
الخامسة: معرفة الناس.
وهذا الكلام من الإمام أحمد يدل على جلالته ومحلِّه من العلم والمعرفة؛ إذ أن هذه الخمس خصال دعائم الفتوى، وإذا نقص منها شيء ظهر الخلل في المفتي بحسبه.
وقال الإمام أحمد في رواية ابنه صالح: ينبغي للرجل إذا حَمَل نفسه على الفُتيا أن يكون عالمًا بوجوه القرآن، عالمًا بالأسانيد الصحيحة عالمًا بالسنن.
وقال في رواية أبي الحارث: لا يجوز الفُتيا إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة.
وقال في رواية حنبل: ينبغي لمن أفتى أن يكون عالمًا بقول من تقدَّم، وإلا فلا يُفتي.
وقال في رواية يوسف بن موسى: أُحبُّ أن يتعلم الرجل كل ما تكلَّم فيه الناس (1).
الفائدة السادسة عشرة
في أحوال ليس للمفتي أن يفتي فيها
إذا أحس المفتي بشيء يخرجه عن حال اعتداله وكمال تثبُّته وتبيُّنه، فإنه يمسك عن الفتوى وتحْرُم عليه، وذلك كالأحوال التالية:
(أ) أن يكون في حال غضب شديد.
(ب) أن يكون في حال جوع أو عطش مُفْرِط.
(جـ) أن يكون في حال همٍّ مُقْلِق.
(د) أن يكون في حال خوف مزعج.
(هـ) أن يكون في حال نُعاس غالب.
(و) أن يكون في حال شغل قلب مُسْتَوْلٍ عليه.
(ز) أن يكون في حال مدافعة الأخبثين.
فإن أفتى في حال من هذه الأحوال وأصاب صَحَّتْ فُتياه (2).
الفائدة السابعة عشر
في أن على المفتي أن يرجع إلى العرف في بعض المسائل
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 199 - 205 .
(2) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 227 ، وانظر الإنصاف جـ 11 ص 186 .(1/203)
يجب على المفتي أن يراعي المقاصد والنيَّات، والأحوال والأشخاص، والعُرف في الكلام: كالإقرارت، والأيمان، والوصايا، وغيرها، فيعرف عُرْف أهلها، ويحملها على ما اعتادوه وعَرَفوه، وإن كان مخالفًا لحقائقها الأصلية، ومن لم يراعِ هذه الأمور فإنه يَضِلُّ ويُضِلُّ ويغر الناس، فيوجب ما لم يوجبه الله، ويحرم ما لم يحرمه، ومن أمثلة ذلك:
1- لو قال لمملوكه: أنت حر. وعُرْف أهل البلد جرى على استعمال لفظ الحرية في العفَّة دون العتق، فإنه لا يُعْتق إذا لم يخطر بباله العتق، وإن كان اللفظ صريحًا في العتق عند من أَلِفَ استعماله في العتق.
2- لو جرى عُرف أهل البلد على استعمال لفظ " السماح " في الطلاق، فقالت امرأة لزوجها: اسمح لي. فقال: سمحت لك. فإن هذا يعتبر صريحًا في الطلاق مراعاة للعُرف.
3- لو أقرَّ بعض الملوك أو الأغنياء، فقال لفلان: عليَّ مال جليل أو عظيم، ثم فسّره بدرهم، فإنه لا يقبل منه؛ مراعاة لحاله؛ إذ لا يُسمى الدرهم مالا عظيمًا بالنسبة له.
4- لو حلف لا يركب دابة، وعرف أهل هذا الموضع أن لفظ الدَّابة للفرس أو الحمار، فإنه يمينه تتقيد بالعرف (1).
الفائدة الثامنة عشرة
في أنه لا يجوز للمفتي أن يفتي بما
يخالف النصوص أو يخرجها عن ظاهرها لتوافق مذهبه
لا يجوز للمفتي أن يفتي بما يضاد ألفاظ النصوص ولو وافق ذلك مذهبه، ولا يجوز له أيضًا إذا سُئل عن تفسير آية من كتاب الله، أو حديث من سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرجه عن ظاهره بوجه من وجوه التأويلات الفاسدة؛ لأجل أن توافق ما ذهب إليه، فإن فعل ذلك استحق المنع من الإفتاء، ومن أمثلة ذلك ما يأتي:
__________
(1) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 228 - 229 .(1/204)
1- أن يسأل عن رجل أدرك من الصبح ركعة قبل طلوع الشمس ثم طلعت، هل يُتمُّ صلاته أم لا ؟ فيفتيه بأنه لا يتمها، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: - من أدرك ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس فليتمَّ صلاته - (1).
2- أن يسأل عن رجل مات وعليه صيام، هل يصوم عنه وليُّه أم لا؟ فيفتيه بأنه لا يصوم عنه وليُّه، فيخالف النصَّ الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - - من مات وعليه صوم صام عنه وليُّه - (2).
3- أن يسأل عن رجل باع متاعه ثم أفلس المشتري، فوجده بعينه، هل هو أحقُّ به أم لا؟ فيفتيه بأنه ليس أحق به، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: - من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحقُّ به - (3). وغير ذلك من الأمثلة كثير (4).
الفائدة التاسعة عشرة
في أن الفُتيا تجوز بالقول السائغ وإن خرج عن قول الأئمة الأربعة
__________
(1) - رواه الجماعة.
(2) - متفق عليه .
(3) - رواه البخاري، انظر جـ 5 ص 62 من فتح الباري .
(4) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 239 - 250 .(1/205)
من أفتى أو حكم بقول سائغ لم يقل به أحد الأئمة الأربعة، ولكنه لا يصادم نصًّا من كتاب الله، ولا من سُنَّة رسول الله، جاز له ذلك، ولا يجوز لأحد أن ينكر عليه، ولا على من قلده في ذلك، ولا يجوز منعه من الإفتاء، لا سيما إذا كان هذا القول الذي أخذ به تعضِّده الأدلة الشرعية، فإن المنكِر عليه قد خالف الأئمة الأربعة؛ لأن كل واحد منهم صحَّ عنه أنه قال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"، أو كلامًا معناه، بل إنه مخالف لإجماع المسلمين، بل إنه مخالف لله ولرسوله، حيث أمر الله بطاعته وطاعة رسوله، وأمر برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله في قوله: { - { - - - - صلى الله عليه وسلم - - ((- رضي الله عنه - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - ( قرآن كريم (- جل جلاله -- رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( } - قرآن كريم (( - ((- صلى الله عليه وسلم - - { - - - } - قرآن كريم (( - ((- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - - قرآن كريم ( - { - - - - - ( - - - صلى الله عليه وسلم -( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - - } - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - ( تم بحمد الله تمت ( - - ( ( - ((((- رضي الله عنه - - (- عليه السلام - - - - - (( - ((( - ( ( فهرس - صلى الله عليه وسلم - - - ( - - ( - فهرس - ( { ( - - - ( - قرآن كريم ( - { - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - تمت ( { ( - ((- جل جلاله -( - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( تم بحمد الله ( - ( - ( - - - ( - ( الله ( قرآن كريم - عليه السلام - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - - - رضي الله عنهم - - - } (1).
__________
(1) - سورة النساء آية : 59.(1/206)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وتجب استتابة مثل هذا وعقوبته، كما يعاقب أمثاله ا. هـ (1).
الفائدة العشرون
في أن المفتي ينبغي له أن يكون حذرًا ويشاور من يثق به
ينبغي للمفتي أن يكون حذرًا فطنًا بعيد النظر وعميقه، ولا يحسن ظنه بكل أحد، وأن يعتمد على قرائن الأحوال والعادات، ومعرفة واقع الناس، حتى لا يلتبس عليه الحق بالباطل والخطأ بالصواب.
وأن يشاور من يثق بعلمه ودينه، ويستعين على فتاويه بأهل العلم، ولا يستقل بالجواب اعتمادًا على نفسه وارتفاعًا بها، فإن هذا من الجهل، ولقد أمر الله نبيه بالمشاورة -وإن لم يكن في حاجة إليها-؛ تعليمًا للأمة، فقال -تعالى-: { ( المحتويات ( - ( - (- صلى الله عليه وسلم - - - { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - (( ( - ( - - } - - } (2).
وكان عمر بن الخطاب إذا نزلت به المسألة جمع لها مَن حضر من الصحابة وشاورهم، حتى كان يشاور ابن عباس مع حداثة سِنِّه في ذلك الوقت، وخصوصًا إذا كان في المشاورة مصلحة ظاهرة: من تمرين أصحابه، وتعليمهم، وشحذ أذهانهم، وقد ترجم البخاري في صحيحه، فقال: " باب إلقاء العالم المسألة على أصحابه " (3).
لكن ذلك مشروط بأن لا يعارض ذلك مفسدة كإفشاء سر السائل، أو تعريضه للأذى، أو حصول مفسدة لبعض الحاضرين (4).
المبحث الثالث
أمثلة من فتاوى إمام المفتين رسول رب العالمين
تقدم بين يدي هذا المبحث كلمة عن المقصود بفتوى الرسول - صلى الله عليه وسلم - والفرق بينها وبين التشريع، وبينها وبين الحكم في القضية، فنقول:
__________
(1) - انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جـ 33 ص 133 - 134 .
(2) - سورة آل عمران آية : 159.
(3) - لفظ الترجمة: " باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم ". انظر جـ 1 ص 147 من صحيح البخاري مع فتح الباري .
(4) - انظر إعلام الموقعين جـ 4 ص 256 - 257 .(1/207)
المقصود بفتوى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما أجاب به سؤال سائل عن أمر دينيّ، وأما التشريع والتبليغ فهو أوسع دائرة من الفتوى، وأعمُّ منها؛ إذ أنه يشمل كل ما تصرف فيه - صلى الله عليه وسلم - في العبادات بقوله أو فعله، أو أجاب به سؤال سائل عن أمر ديني (1).
والفرق بين التشريع والتبليغ وبين الحكم والقضاء هو: أن ما قاله أو فعله - صلى الله عليه وسلم - على سبيل التبليغ والتشريع فهو حكم عام، يلزم جميع الثقلين إلى يوم القيامة، فإن كان مأمورًا أقدم عليه كل أحد بنفسه، وإن كان منهيًّا اجتنبه كل أحد بنفسه.
وأما ما تصرَّف فيه -عليه الصلاة والسلام- بوصف القضاء فإنه لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم حاكم، وذلك كالفصل في دعاوى الأموال، أو أحكام الأبدان بالبينات، أو الأيمان والنكولات، ونحوها (2).
وأما الفرق بين الفتوى والحكم فذكر ابن القيم في إعلام الموقعين أن الفتوى والحكم يتفقان في أن كلا منهما إخبار عن الحكم، وأنهما يفترقان في ناحيتين:
الأولى: أن المفتي لا يُلْزِم بفتواه، وإنما يخبر بها من استفتاه، فإن شاء قبل قوله، وإن شاء تركه، وأما القاضي فإنه يلزِم بقوله.
الثانية: أن فتوى المفتي شريعة عامة، تتناول المستفتي وغيره، وأما الحاكم فحكمه جزئي خاص، لا يتعدى إلى غير المحكوم له وعليه.
وخلاصة ذلك: أن قضاء القاضي خاص ملزم، وفتوى المفتي عامة غير ملزمة (3).
وتكلم في هذا الموضوع القرافي، وبيَّن مراده صاحب كتاب تهذيب الفروق، - مطبوع بالهامش - فقال: الفرق الرابع والعشرون والمائتان بين قاعدة الفتوى وقاعدة الحكم، ثم ذكر أنهما يتفقان في أمور ثلاثة، هي:
__________
(1) - انظر الفروق للقرافي ، الفرق السادس والثلاثين بين قاعدة تصرفه -صلى الله عليه وسلم- بالقضاء، وبين قاعدة تصرفه بالفتوى ، وبين قاعدة تصرفه بالإمامة جـ 1 ص 207 .
(2) - انظر الفروق للقرافي جـ 1 ص 205 ، 206 ، 207 .
(3) - انظر إعلام الموقعين جـ 1 ص 36 ، 38 .(1/208)
1- أن كلا منهما خبر عن الله.
2- أن كلا منهما يجب على السامع اعتقاده.
3- أن كلا منهما يلزَم المكلَّف من حيث الجملة.
ثم ذكر أن بينهما فرقًا من جهتين:
الأولى: أن الفتوى محض إخبار عن الله -تعالى- في إلزام أو إباحة، والحكم إخبار مآله الإنشاء والإلزام، أي التنفيذ والإمضاء لما كان قبل الحكم فتوى.
الثانية: أن الفتوى أوسع دائرة من الحكم، فكل ما يتأتى فيه الحكم تتأتى فيه الفتوى، ولا عكس، وذلك أن العبادات كلها على الإطلاق لا يدخلها الحكم، بل إنما تدخلها الفُتيا فقط، وكل ما وجد فيها من الإخبارات فهو فتيا (1).
ولنبدأ في ذكر الأمثلة:
1- صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن رؤية المؤمنين ربهم -تبارك وتعالى-، فقال: - هل تضارون في رؤية الشمس صحوًا في الظهيرة، ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا. فقال: هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوًا، ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا. قال: فإنكم ترون ربكم كذلك - متفق عليه (2).
2- - وسُئل - صلى الله عليه وسلم - عن قوله -تعالى-: { - رضي الله عنه - - ( قرآن كريم - - - ( ( - - رضي الله عنهم - - - { - رضي الله عنه -( - - - - - - - ( مقدمة - - - - ( - - - ((( } (3) فقال: ذلك العرض - (4).
من فتاويه -عليه الصلاة والسلام- في مسائل من الطهارة:
1- - سُئل -عليه الصلاة والسلام- عن الوضوء من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض والنتن ولحوم الكلاب، فقال: الماء طهور، لا ينجسه شيء - (5).
__________
(1) - انظر الفروق للقرافي جـ 4 ص 48 وانظر تهذيب الفروق - مطبوع بالهامش - جـ 4 ص 89 .
(2) - رواه مسلم انظر صحيح مسلم بشرح النووي جـ 3 ص 25 .
(3) - سورة النشقاق آية : 8.
(4) - رواه البخاري في كتاب التفسير ، انظر صحيح البخاري جـ 6 ص 208 .
(5) - رواه أحمد وأبو داود والترمذي .(1/209)
2- - وسُئل - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء من لحوم الغنم، فقال: إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ - ، - وسُئل عن الوضوء من لحوم الإبل، فقال: نعم توضأ من لحوم الإبل - (1).
من فتاويه في مسائل من الصلاة:
1- - سئل - صلى الله عليه وسلم - عن أحب الأعمال إلى الله، فقال: عليك بكثرة السجود لله - عز وجل - فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحطَّ بها عنك خطيئة - رواه مسلم (2).
2- - وسئل - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة، فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد - (3).
من فتاويه في مسائل الصدقة والزكاة:
1- - سألته أم سلمة، فقالت: يارسول الله، إني ألبس أَوْضَاحًا من ذهب، أكَنْزٌ هو؟ قال: ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكِّي، فليس بكنز - (4).
2- - وسأله - صلى الله عليه وسلم - العباسُ عن تعجيل زكاته قبل أن يحول الحول، فأذن له في ذلك - أخرجه أبو داود والترمذي (5).
من فتاويه في مسائل من الصوم:
1- - سأله - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ، فقال: يا رسول الله، أكلت وشربت ناسيًا وأنا صائم. فقال: الله أطعمك وسقاك - أخرجه أبو داود (6).
2- - وسُئل - صلى الله عليه وسلم - عن الصوم في السفر، فقال: إن شئت صمت، وإن شئت أفطرت - (7).
من فتاويه في مسائل من الحج والعمرة:
__________
(1) - رواه أحمد ومسلم .
(2) - انظر صحيح مسلم بشرح النووي جـ 4 ص 205 .
(3) - رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود .
(4) - صححه الحاكم وابن القطان، انظر موطأ مالك جـ 2 ص 110 مع شرح الزرقاني ، وأخرجه مالك بمعناه .
(5) - انظر جامع الأصول لابن الأثير الجزري جـ 5 ص 342 .
(6) - وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه .
(7) - رواه الخمسة أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي .(1/210)
1- عن ابن عمر، قال: - قام رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ما يوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة. قال: يا رسول الله، فما الحاج؟ قال: الشعث التفل. وقام آخر، فقال: يا رسول الله، وما الحج؟ قال: العج والثج - .
قال وكيع: يعني بالعج: العجيج بالتلبية، والثج، نحر البدن (1).
2- عن جابر: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن العمرة: أواجبة هي؟ فقال: لا، وأن تعتمروا هو أفضل - أخرجه الترمذي (2).
من فتاويه في فضل بعض سور القرآن:
1- - سئل -عليه الصلاة والسلام- أيُّ آية في القرآن أعظم؟ فقال: { ( - - - - سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - مقدمة ( - - ( { - صدق الله العظيم ( { - عليه السلام - قرآن كريم ( - - (- رضي الله عنهم -(( - - - ( بسم الله الرحمن الرحيم قرآن كريم - - - { ( - - - } (3) - .
2- وعن أنس: - أن رجلا قال: يا رسول الله، إني أحب هذه السورة: { ( - ( - - عليه السلام - قرآن كريم ( - ( - - - ( - - رضي الله عنهم - مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ((( } (4) فقال: إن حبَّك إياها يدخلك الجنة - (5).
من فتاويه في فضل بعض الأعمال:
1- - سُئل - صلى الله عليه وسلم - أي الدعاء أسمع؟ فقال: جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات - (6).
__________
(1) - رواه ابن ماجه ، انظر سنن ابن ماجه جـ 2 ص 967 .
(2) - انظر جامع الترمذي بشرح الإمام ابن العربي جـ 3 ص 162 ، المطبعة المصرية بالأزهر .
(3) - سورة البقرة آية : 255.
(4) - سورة الإخلاص آية : 1.
(5) - رواه الترمذي ، انظر جامع الترمذي بشرح الإمام ابن العربي جـ 11 ص 27 مطبعة الصاوي بشارع درب الجماميز رقم 103 .
(6) - رواه الترمذي .(1/211)
2- - وسئل - صلى الله عليه وسلم - عن رياض الجنة، فقال: المساجد. فسُئل عن الرتع فيها، فقال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر - أخرجه الترمذي (1).
من فتاويه في الكسب والأموال:
1- - سُئل - صلى الله عليه وسلم - أيُّ الكسب أفضل؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور - (2).
2- - وسئل - صلى الله عليه وسلم - عن أجرة الحجَّام، فقال: أعلفه ناضحك، أو أطعمه رقيقك - (3).
من فتاويه في مسائل من البيوع:
1- - سأله - صلى الله عليه وسلم - بلال عن تمر رديء، باع منه صاعين بصاع جيد، فقال: أَوَّه، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري، فبِعِ التمر بيعًا آخر، ثم اشترِ بالثمن - متفق عليه (4).
2- - وسئل - صلى الله عليه وسلم - عن اشتراء التمر بالرطب، فقال: أينقص إذا يبس؟ قالوا: نعم. فنهى عن ذلك - (5).
من فتاويه في الرهن والدين:
1- - أفتى - صلى الله عليه وسلم - بأن ظهر الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة - (6).
2- - وأفتى - صلى الله عليه وسلم - بأن من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحقُّ به من غيره - (7).
__________
(1) - انظر جامع الترمذي بشرح الإمام ابن العربي جـ 13 ص 43 - 44 مطبعة الصاوي .
(2) - رواه الطبراني في الأوسط والكبير، ورجاله ثقات ، انظر مجمع الزوائد جـ 4 ص 61 .
(3) - رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن . جـ 2 ص 384 .
(4) - رواه البخاري، وفيه: ( أن بلالًا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بتمر برني، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: من أين هذا؟ قال بلال: كان عندنا تمر رديء )، الحديث انظر صحيح البخاري جـ 3 ص 133 .
(5) - رواه الخمسة وصحَّحه الترمذي .
(6) - رواه البخاري في باب الرهن مركوب ومجلوب ، انظر جـ 5 ص 143 من فتح الباري .
(7) - رواه البخاري ، انظر جـ 5 ص 62 من فتح الباري .(1/212)
من فتاويه في تصدق المرأة ذات الزوج:
1- - سألته - صلى الله عليه وسلم - امرأةٌ عن حُلِيٍّ لها تصدقت به، فقال: لا يجوز لامرأة عطيةٌ إلا بإذن زوجها - رواه أحمد والنسائي وأبو داود.
2- وفي لفظ: - لا يجوز للمرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها - رواه الخمسة إلا الترمذي.
من فتاويه في أموال اليتامى:
1- - سأله - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ، فقال: ليس لي مال ولي يتيم، فقال: كُلْ من مال يتيمك، غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا، ومن غير أن تقي مالك، أو قال: تفدي مالك بماله - (1).
من فتاويه في اللُّقَطَة:
1- - سُئل - صلى الله عليه وسلم - عن لُقَطَة الذهب والورق، فقال: اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرفها سنَة فإن لم تعرف فاسْتَنْفِقْهَا، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدِّها إليه - ، - وسُئل عن ضالَّة الأبل، فقال: ما لك ولها؟ دعها فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء وتأكل الشجر، حتى يجدها ربُّها - ، - وسُئل عن الشاة، فقال: خذها، فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب - متفق عليه.
من فتاويه في الهَديَّة:
1- - سأل - صلى الله عليه وسلم - عبادةُ بن الصامت، فقال: رجلٌ أهدى إليَّ موسًا ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن، وليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله، فقال: إن كنت تحب أن تطوق طوقًا من نار فاقبلها - .
من فتاويه في المواريث:
1- عن البراء بن عازب قال: - جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، (يَسْتَفْتُونَكَ فِي الْكَلالَةِ) ما الكلالة؟ قال: يجزيك آية الصيف - رواه أبو داود.
2- - سأله - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ، فقال: إن ابن ابني مات، فما لي من ميراثه؟ فقال: لك السدس، فلما أدبر دعاه، فقال: لك سدس آخر، فلما ولى دعاه، وقال: إن السدس الآخر طُعْمَة - رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه.
__________
(1) - رواه الخمسة إلا الترمذي بلفظ: ( كُلْ من مال يتيمك، غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل ) .(1/213)
من فتاويه في العتق:
1- عن أبي ذر قال: قلت: - يا رسول الله، أي الرقاب أفضل؟ قال: أَنْفَسُها عند أهلها، وأغلاها ثمنُا - رواه ابن ماجه (1).
2- - واستفتته - صلى الله عليه وسلم - عائشة، فقالت: إني أردت أن اشتري جارية فأعتقها، فقال أهلها: نبيعها على أن ولاءها لنا. فقال: لا يمنعك ذلك، إنما الولاء لمن أعتق - (2).
من فتاويه في الزواج:
1- - سأله - صلى الله عليه وسلم - رجل، فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: لا، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: تزوجوا الولود الودود، فإني مكاثر بكم الأمم - (3).
2- - وسُئل - صلى الله عليه وسلم - ما حقُ المرأة على الزوج؟ قال: تطعمها إذا طَعِمْت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تُقَبِّح، ولا تهجر إلا في البيت - (4).
من فتاويه في أحكام الرضاع:
1- - سألته - صلى الله عليه وسلم - عائشةُ أمُّ المؤمنين، فقالت: إنَّ أفلح -أخا أبي القعيس- استأذن عليَّ، وكانت امرأته أرضعتني، فقال: ائذني له إنه عمُّك - متفق عليه (5).
2- - وسأله - صلى الله عليه وسلم - عقبةُ بن الحارث، فقال: تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمَة سوداء، فقالت: قد أرضعتكما. قال: فأعرض عني. قال: فتنحيت، فذكرت ذلك له، فقال: وكيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما؟ - رواه البخاري (6).
من فتاويه في الطلاق:
__________
(1) - انظر سنن ابن ماجه جـ 2 ص 843 .
(2) - رواه البخاري والنسائي وأبو داود .
(3) - رواه أبو داود والنسائي .
(4) - رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه .
(5) - أخرجه البخاري كتاب النِّكاح باب 22 ، وكتاب البيوع باب 22 ، والترمذي في الرضاع باب 4 والنسائي في النكاح باب 44 ، والدارمي في النكاح باب 51 ، وأحمد في المسند 4 ، 7 ، 8 ص 28 .
(6) - رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وأحمد وابن ماجه .(1/214)
1- - سأله - صلى الله عليه وسلم - عمرُ بن الخطاب عن طلاق ابنه امرأته وهي حائض، فقال: مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أن يطلِّق بعدُ فليطلِّقْ - .
من فتاويه في الظهار واللعان:
1- - سألته - صلى الله عليه وسلم - خولة بنت مالك، فقالت: إن زوجها أوس بن الصامت ظاهر منها، وشكته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجادلها فيه بقوله: اتقي الله، فإنه ابن عمك. فما برحت حتى نزل القرآن: { ( - - - - رضي الله عنهم -(( - - رضي الله عنهم - - ( - - - - رضي الله عنه - - ( قرآن كريم - - (( - { - - - - رضي الله عنهم - - ( - ( - ( { - ( تم بحمد الله - (( - - رضي الله عنهم - - ( - (- صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنهم - - ( - ( - - رضي الله عنه - - (( فهرس - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - فهرس - ( { ( - - - } (1) الآيات، فقال: يعتق رقبة. قالت: لا يجد. قال: يصوم شهرين متتابعين. قالت، إنه شيخ كبير ما به من صيام. قال: فليطعم ستين مسكينًا. قالت: ما عنده من شيء يتصدق به. فأتى بساعته بعِرقٍ (2) من تمر، قلت: يا رسول الله، إني أعينه بعرق آخر. قال: أحسنت، اذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكينًا، وارجعي إلى ابن عمِّك - رواه أحمد وأبو داود.
2- - وسأله - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ، فقال: لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فتكلم جلدتموه، أو قَتَلَ فقتلتموه، أو سكت سكت على غيظ، فقال: اللهم افتح، وجعل يدعو، فنزلت آيات اللعان، فابتُلى به ذلك الرجل من بين الناس، فجاء هو وامرأته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلاعنا - (3).
من فتاويه في العِدد:
__________
(1) - سورة المجادلة آية : 1.
(2) - العرق وهو زنبيل منسوج من نسائج الخوص ، النهاية لابن الأثير جـ 3 ص 219 .
(3) - أخرجه الجماعة .(1/215)
1- - سألته - صلى الله عليه وسلم - سُبيعةُ الأسلمية، وقد مات زوجها، ووضعت حملها بعد موته، قالت: فأفتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدا لي - (1).
من فتاويه في نفقة المعتدة وكسوتها:
1- - عن فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- أن أبا عمر وابن حفص طلقها ألبتة وهو غائب -وفي رواية طلقها ثلاثًا- فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء. فجاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقال: ليس لك عليه نفقة، وفي لفظ: ولا سُكنى، فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك - الحديث (2).
من فتاويه في الحضانة ومستحقها:
1- - جاءته - صلى الله عليه وسلم - امرأة فقالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حِواء، وإن أباه طلقني، وأراد أن ينزعه مني، فقال لها: أنت أحقُّ به ما لم تُنكحي - أخرجه أبو داود (3).
من فتاويه في باب الدماء والجنايات:
1- - سُئل - صلى الله عليه وسلم - عن الآمر والقاتل، فقال: قُسمت النار سبعين جزءً، فللآمر تسع وستون، وللقاتل جزء، وحسبه - (4).
2- - وأفتى - صلى الله عليه وسلم - بأنه إذا أمسك الرجلُ الرجلَ وقتله الآخر، يقتل الذي قتل ويُحبس الذي أمسك - (5).
من فتاويه في الديات:
__________
(1) - رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وأحمد وابن ماجه .
(2) - رواه البخاري .
(3) - انظر جامع الأصول لابن الأثير الجرزي جـ 4 ص 351 .
(4) - رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن إسحاق، وهو ثقة ولكنه مدلِّس ، انظر مجمع الزوائد جـ 7 ص 299 .
(5) - رواه الدارقطني .(1/216)
1- - قضى - صلى الله عليه وسلم - في جنين امرأة ضربتها أخرى بغُرة، عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت، فقضى - صلى الله عليه وسلم - أن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العَقْل على عصبتها - متفق عليه (1).
وعندي أن هذا قضاء وليس بفتوى؛ لأن فيها فصلا في الخصومة.
من فتاويه في القَسَامة:
1- - قضى - صلى الله عليه وسلم - في شأن مُحيّصة بأن يقسم خمسون من أولياء القتيل على رجل من المتهمين به فيدفع برمته إليه، فأبوا، فقال: تُبْرِئُكم يهود بأيمان خمسين، فأبوا، فعَقَله النبي - صلى الله عليه وسلم - من عنده - .
وفي حديث سعد بن عبيد: - فكَرِهَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُبطل دمه، فوَدَاه بمائة من إبل الصدقة - رواه البخاري.
وعندي أن هذا أيضًا قضاء وليس بفتوى؛ لأنه فصل في خصومات.
من فتاويه في حد الزنا:
1- - سأله - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ، فقال، إن ابني كان عسيفًا على هذا، فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، وإني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم ردٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغدُ يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها - متفق عليه (2).
وعندي أن هذا فتوى وحكم بإقامة الحد على المقر بما يوجبه.
من فتاويه في الأطعمة:
1- عن ابن عمر: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن أكل الضب، فقال: لا آكله ولا أحرمه - أخرجه الترمذي (3).
__________
(1) - انظر جامع الأصول لابن الأثير جـ 5 ص 169 - 170 .
(2) - أخرجه البخاري في باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود ، انظر صحيح البخاري مع فتح الباري جـ 5 ص 301 ، المطبعة السلفية .
(3) - انظر جامع الترمذي بشرح ابن العربي جـ 7 ص 285 - 286 المطبعة المصرية بالأزهر .(1/217)
2- - وسألته - صلى الله عليه وسلم - عائشة -رضي الله عنها-، فقالت: إن قومًا يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا عليه أنتم وكُلوا - أخرجه البخاري (1).
من فتاويه في العقيقة:
1- - سُئل - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة، فقال: لا أحب العقوق. وكأنه كره الاسم، فقالوا: يا رسول الله، إنما نسألك عن أحدنا يولد له، قال: من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل، عن الغلام شاتان متكافئتان، وعن الجارية شاة - (2).
من فتاويه في الأشربة:
1- - سُئل - صلى الله عليه وسلم - عن البتع فقال كل شراب أسكر فهو حرام - متفق عليه.
2- - وسُئل - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر تتخذ خلا، قال: لا - (3).
من فتاويه في الأيمان والنذور:
1- لما قال - صلى الله عليه وسلم - - من اقتطع مال امريء مسلم بيمينه حرَّم الله عليه الجنة، وأوجب له النار، سألوه: وإن كان شيئًا يسيرًا؟ قال: وإن كان قضيبًا من أراك - (4).
2- - وسأل - صلى الله عليه وسلم - عمرُ، فقال: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال: أوف بنذرك - متفق عليه.
3- - وسُئل - صلى الله عليه وسلم - عن امرأة نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية غير مختمرة، فأمرها أن تركب وتختمر وتصوم ثلاثة أيام - (5).
من فتاويه في الجهاد وفضله:
__________
(1) - انظر صحيح البخاري جـ 7 ص 120 / مطبعة محمد علي صبيح وأولاده بالأزهر بمصر .
(2) - رواه أحمد وأبو داود والنسائي .
(3) - أخرجه مسلم، انظر صحيح مسلم بشرح النووي جـ 13 ص 152 .
(4) - رواه الطبراني في الكبير بلفظ: ( قيل: يا رسول الله، وإن شيء يسير؟ قال: وإن كان سواكًا )، مجمع الزوائد جـ 4 ص 181 .
(5) - رواه الخمسة .(1/218)
1- - سأله - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ، فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد. قال: لا أجده، ثم قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر؟ قال: ومن يستطيع ذلك؟ فقال: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله - (1).
من فتاويه في الطب:
1- عن أسامة بن شريك، قال: - جاء الأعراب من هنا وهنا، فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى؟ فقال: تداووا، فإن الله - عز وجل - لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير داء واحد الهرم - (2).
2- - وسُئل - صلى الله عليه وسلم - عن الرُقَى، فقال: اعرضوا عليَّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك - (3).
من فتاويه في الطَيْرة والفأل:
1- عن ابن عمر: - أن قومًا جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله، دخلنا هذه الدار ونحن ذو وفر فافتقرنا، وكثير عددنا فقلَّ عددنا، وحسن ذات بيننا فساء ذات بيننا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوها وهي ذميمة. فقالوا: يا رسول الله، كيف ندعها؟ قال: بيعوها أو هبوها - (4).
2- وقال - صلى الله عليه وسلم - - لا طيرة وخيرها الفأل، قيل: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة يسمعها أحدكم - (5).
من فتاويه في التوبة وفي حق الطريق:
__________
(1) - رواه البخاري جـ 4 ص 18 ، باب فضل الجهاد والسير .
(2) - أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي حسن صحيح .
(3) - رواه مسلم ، انظر صحيح مسلم بشرح النووي جـ 14 ص 178 .
(4) - رواه البزار وقال : أخطأ فيه صالح بن أبي الأخضر، والصواب أنه من مرسلات عبد الله بن شداد ، انظر مجمع الزوائد جـ 5 ص 104 .
(5) - رواه مسلم انظر صحيح مسلم بشرح النووي جـ 14 ص 218 .(1/219)
1- - سأله - صلى الله عليه وسلم - رجل، فقال: إني أصبت ذنبًا عظيمًا، فهل لي من توبة؟ فقال: هل لك من أم؟ قال: لا. قال: فهل لك من خالة؟ قال: نعم. قال: فبرَّها - (1).
2- عن سماك بن حرب، عن أبي صالح، عن أم هانئ: - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله -تعالى-: { - - قرآن كريم ( - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - (( ( المحتويات ( - - ( - - - رضي الله عنه - الله أكبر - رضي الله عنه - - - تمهيد - ( - ( - - - } (2) قال: كانوا يخذفون أهل الطريق، ويسخرون منهم - رواه الترمذي (3).
من فتاويه في طاعة الأمراء:
1- - سُئل - صلى الله عليه وسلم - عن طاعة الأمير، الذي أمر أصحابه فجمعوا حطبًا فأضرموه نارًا، وأمرهم بالدخول فيها، فقال - صلى الله عليه وسلم - لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في العرف - .
وفي لفظ: - لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق - .
وفي لفظ: - من أمركم منهم بمعصية الله فلا تطيعوه - (4).
من فتاويه في الجوار والغيبة:
1- قال - صلى الله عليه وسلم - - ما تقولون في الزنى؟ قالوا: حرام. فقال: لأَن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره، ما تقولون في السرقة ؟ قالوا: حرام. قال: لأَن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر من أن يسرق من بيت جاره - (5).
__________
(1) - أخرجه الترمذي ، انظر جامع الأصول لابن الأثير الجوزي جـ 1 ص 341 .
(2) - سورة العنكبوت آية : 29.
(3) - انظر جامع الترمذي بشرح الإمام ابن العربي جـ 12 ص 65 مطبعة الصاوي .
(4) - متفق عليه .
(5) - رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات ، انظر مجمع الزوائد جـ 8 ص 178 .(1/220)
2- وقال - صلى الله عليه وسلم - - أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته - أخرجه مسلم (1).
من فتاويه في حقوق الوالدين:
1- وعن معاوية بن جاهمة، عن أبيه، قال: - أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أستشيره في الجهاد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ألك والدان؟ قال: نعم. قال، الزمهما، فإن الجنة تحت أقدامهما - (2).
2- وعن أبي هريرة، قال: - جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: مَن أحقُّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمُّك. قال: ثم مَن؟ قال: ثم أمُّك. قال: ثم مَن؟ قال: ثم أمُّك. قال: ثم مَن؟ قال: أبوك - (3).
وفي ختام هذا البحث:
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، أن ينفع بهذا البحث وأن يجعلني أول المنتفعين به، وأن يجعل العمل خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز لديه بجنات النعيم، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا القبول وحسن الختام، إنه على كل شيء قدير، وهو خير مسئول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخيرته من خلقه، نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) - رواه مسلم ، انظر صحيح مسلم بشرح النووي جـ 14 ص 142 .
(2) - رواه الطبراني ورجاله ثقات ، انظر مجمع الزوائد جـ 8 ص 138 .
(3) - رواه مسلم ، انظر صحيح مسلم بشرح النووي جـ 16 ص 102 .(1/221)