إبطالا لدليل المستدل وفي شرح البديع للهندي وهو الأظهر لأن المعارضة إبداء دليل يوجب خلاف ما أوجبه دليل المعلل في محل استدلاله عليه ولم يوجد هذا هنا في القلب إذ الحكم الثابت بتعليل القالب لا يتعرض لحكم المعلل لا بنفي ولا إثبات وإنما يدل تعليله على فساد تعليل المعلل فكان إبطالا لا معارضة وفي الكشف لكن فخر الإسلام اعتبر صورة المعارضة من حيث إن الغالب عارض تعليل المعلل بتعليل يلزم منه بطلان تعليل المستدل ثم يلزم منه بطلان حكمه المرتب عليه ثم أقام الدليل على معنى المناقضة في الأصل في المقيس عليه بتعليل القالب فلا جرم أن قال بعضهم لا خلاف في المعنى لكن تعقب بأنه لا يلزم من عدم العلة المعينة عدم المعلول لجواز ثبوته بعلة أخرى ولو سلم أنه يلزم لا يصح أن يكون معارضا لدليل المستدل لأن دليله تعليل بأمر وجودي وهذا عدمي وقد عرف الخلاف فيه وأن الأصح عدم جوازه فلا جرم أن في الكشف ولعمري هو أقرب إلى الممانعة منه إلى المعارضة لأنه في الحقيقة يمنع نفس الدليل وصلاحيته لإثبات الحكم المتنازع فيه وقطع به سراج الدين الهندي. "والاحتراس عنه" أي عن هذا القلب حتى لا يتأتى(6/21)
ص -353-…إيراده على المعلل "جعله" أي الكلام "استدلالا" أي لا يورد الحكمان بطريق تعليل أحدهما بالآخر بل بطريق الاستدلال بثبوت أحدهما على ثبوت الآخر إذ لا امتناع في جعل المعلول دليلا على العلة بأن يقيد الثبوت بتصديقها كما يقال هذه الخشبة قد مستها النار لأنها محترقة وهذا الإنسان متعفن الأخلاط لأنه محموم "وهو" أي الاحتراس عنه بهذا الطريق إنما يتم "إذا ثبت التلازم شرعا" بين الحكمين بحيث يمكن أن يستدل بثبوت كل منهما على صاحبه ويكون كل منهما دليل الآخر ومدلوله "كالتوأمين" أي المولودين في بطن واحد "في الحرية والرق والنسب" فإنه يثبت حرية الأصل لأحدهما أيهما كان لثبوته في الآخر والرق في أيهما كان لثبوته في الآخر ونسب أحدهما أيهما كان لثبوته في الآخر مثاله قول الحنفي: الثيب الصغيرة يولى عليها في مالها فيولى عليها في نفسها كالبكر الصغيرة فلو قيل قلبا البكر الصغيرة يولى عليها في مالها لأنه يولى عليها في نفسها لا يضر لأن المثبت للولاية إنما هو العجز الموجود في المولى عليه عن التصرف بنفسه لنفسه مع حاجته إلى التصرف إذ الأصل عدم الولاية على الحر اكتفاء برأيه وإنما يقام رأي غيره مقامه إذا عدم لصغر أو جنون نظرا له ولهذا كانت تصرفات الولي له مشروطة بالغبطة فالولاية للولي ظاهرا وعليه معنى ولهذا لا يتمكن من ردها ويأثم بتقصيره في رعاية الأصلح له. والنفس والمال والثيب والبكر في العجز والحاجة سواء فأمكن الاستدلال بثبوت الولاية في إحدى الصورتين على ثبوتها في الأخرى للمساواة في العلة بخلاف تعليل الشافعي المذكور فإنه لا يصح فيه هذا المخلص بهذا الطريق لأنه لا مساواة بين الرجم والجلد لا من حيث الذات لأن الرجم نهاية العقوبة لإتيانه على النفس والجلد نائب محله ظاهر البدن ولا من حيث الشرط لأن النيابة شرط الرجم دون الجلد فجاز أن يفرقا في شرط الإسلام فلا يمكن الاستدلال بثبوت أحدهما على الآخر فيلزم الانقطاع(6/22)
صورة هذا وظاهر كلام صاحب الكشف وغيره يوهم أن المستدل يصير منقطعا بالقلب فلا يمكنه التدارك بعده قال الفاضل القاآني وفيه نظر لأنه لا يخلو إما أن صرح بأن هذا علة لذاك أو لا بأن يقول الكفار يجلد بكرهم ويرجم ثيبهم كالمسلمين كما قال فخر الإسلام وعلى التقديرين التدارك ممكن أما على الأول فبأن يقول العلة كما تطلق على المؤثر تطلق على المعرف والمراد هو الثاني فلا يضرنا القلب لأن الشيء جاز أن يكون معرفا لشيء وذلك الشيء معرفا له كالنار مع الدخان قال في المحصول يجوز أن يكون كل واحد من الحكمين علة لصاحبه بمعنى كون كل واحد منهما معرفا لصاحبه وأما على الثاني فبأن يقول غرضي الاستدلال بثبوت أحدهما على الآخر وما ذكرت من القلب لا ينافي غرضي فظهر أن المعلل لا ينقطع بالقلب وله أن يتخلص عنه بهذا الطريق "و" يقال "لجعل الظهر بطنا" والبطن ظهرا كقلب الجراب "ومنه" أي هذا النوع "جعل وصفه" أي المستدل "شاهدا" أي حجة "لك" أيها المعترض لإثبات حكم يخالف حكمه بعد أن كان شاهدا له عليك في إثبات مدعاه فوجه الوصف كان إلى المعلل أي مقبلا عليه وظهره إلى السائل أي معرضا عنه فصار وجهه إلى السائل وظهره إلى المعلل(6/23)
ص -354-…وهذا أيضا فيه معنى المناقضة من حيث إن الوصف لما شهد للمعترض بعد ما شهد عليه صار متناقضا في شهادته فبطلت شهادته. "ولا بد فيه" أي في هذا النوع "من زيادة" في الوصف الذي ذكره المعترض على الوصف الذي ذكره المستدل "تورد تفسيرا لما أبهمه المستدل" من الوصف وتقريرا له لا تغييرا فكان الحكم معلقا بعين ذلك الحكم لا بغيره ليلزم أن لا يكون قلبا بل يكون معارضة محضة غير متضمنة للإبطال وحقيقة هذا النوع من القلب أنه ربط خلاف قول المستدل على علة المستدل إلحاقا بأصل المستدل "كصوم فرض" أي كقول الشافعي في نية صوم رمضان صوم فرض "فلا يتأدى بلا تعيين" للنية "كالقضاء" أي كصوم القضاء فعلق وجوب التعيين بوصف الفرضية "فيقول" الحنفي "صوم فرض متعين" قبل الشروع فيه لانتفاء سائر الصيامات عن الوقت "فلا يحتاج إليه" أي إلى تعيين النية بعد تعينه "كالقضاء" أي كصومه "بعد الشروع فيه" فإنه بعد ما عين مرة لا يجب تعيينه ثانيا فالمستدل قال صوم فرض ولم يذكر متعينا في هذا الوقت ترويجا لمطلوبه وذكره المعترض تفسيرا له وبيانا لمحل النزاع فإن محله الصوم الفرض المتعين في وقته فيكون الأصل له صوم القضاء بعد الشروع فيه غايته أن تعيين الصوم في رمضان قبل الشروع بتعيين الله تعالى وفي القضاء بالشروع بتعيين العبد ولا ضير فإنه لا يكون تعيين الشارع أدنى من تعيين العبد. "ومنه" أي هذا النوع قول الشافعي في مسح الرأس في الوضوء المسح "ركن في الوضوء فليس تكريره كالغسل فيقول" الحنفي المسح "ركن فيه" أي الوضوء "أكمل بزيادة على الفرض" وهو استيعاب باقيه "فلا يسن تكراره كالغسل فهي" أي الزيادة التي هي أكمل بزيادة على الفرض "تفسير" لحصول محل النزاع "لأن الخلاف في تثليث المسح بعد إكماله كذلك" أي زيادة على الفرض "وهو الاستيعاب ولم يصح إيراد فخر الإسلام لهذا" المثال "في المعارضة الخالصة" بناء على أن الوصف مع تلك الزيادة ليس دليل المستدل بعينه(6/24)
لأن الزيادة تقرير في المعنى فيكون من قبيل ما جعل دليل المستدل دليلا على نقيض مدعاه فيلزم إبطاله "وإذا علمت" في أوائل هذا الفصل "أن الإيراد" أي إيراد المعترض للاعتراض إنما هو "على ظنه" أي المستدل "التأثير لا" على "حقيقته" أي التأثير في نفس الأمر "صح إيراد القلب على" العلل "المؤثرة كفساد الوضع" إذ المنافاة إنما هي بين التأثير في نفس الأمر وتمام المعارضة على القطع ولا قائل بذلك "ويخالفه" أي القلب فساد الوضع "بالزيادة" في النوع الثاني من القلب "وبكونه" أي الوصف الذي ذكره المستدل في هذا النوع من القلب "أعم من مدعاه" فلا يكون منع وروده على المؤثرة صحيحا على هذا التقدير.
هذا وقد ذكر بعض الأصوليين أن القلب مردود لأن القالب إن لم يتعرض لنقيض حكم المعلل فلا يقدح في دليله لجواز أن يكون للعلة الواحدة والأصل الواحد حكمان غير متنافيين. وإن تعرض لنقيضه فلا يمكن اعتباره بأصل المستدل ولا إثباته بعلته لاستحالة اجتماع النقيضين في محل واحد واستحالة اقتضاء العلة حكمين متنافيين لتعذر مناسبتهما لهما وأجيب عن الأول بالمنع لجواز أن يكون ما تعرض لنفيه من لوازم حكم المستدل فلا(6/25)
ص -355-…يخرج بذلك عن كونه قادحا في الدليل وعن الثاني بأن شرط القلب اشتمال الأصل على حكمين غير متنافيين في ذاتيهما قد امتنع اجتماعهما في الفرع بدليل منفصل وأن لا يكون مناسبة الوصف للحكم ونقيضه حقيقة فلم يكن اجتماعهما في أصل اجتماع النقيضين ويمكن أن تكون العلة مناسبة للحكم في نظر المستدل ولنقيضه في نظر المعترض فلا يلزم اجتماع النقيضين في الفرع ثم حيث ثبت أن القلب صحيح وهو معارضة فللمستدل أن يمنع حكم القالب في الأصل وأن يقدح في تأثير العلة فيه بالنقض وعدم التأثير وأن يقول بموجبه إذا أمكنه ببيان أن اللازم لا ينافي حكمه وأن يقلب قلبه إذا لم يكن قلب القلب مناقضا لحكمه لأن قلب القلب إذا فسد بالقلب الثاني سلم أصل القياس من القلب كذا في عامة نسخ الأصول وقيل لا يسمع القلب والنقض على القلب لأنه خرج مخرج الإفساد لكلام الخصم لا على سبيل التعليل ولا يندفع إلا ببيان أن هذا القلب لا يخرج دلالة الوصف على الحكم والأول أصح لأنه تعليل في مقابلة تعليل المعلل فيرد عليه ما يرد على الأول كذا في الكشف وغيره.(6/26)
"قالوا" أي الحنفية "ويقلب العلة من وجه فاسد كعبادة لا يجب المضي في فاسدها فلا تلزم بالشروع كالوضوء" أي كقول الشافعي في أن الشروع في نفل من صلاة أو صوم غير ملزم للشارع فيه إتمامه وقضاؤه إذا أفسد لأنه عبادة لا يجب المضي فيها إذا فسدت كالوضوء فإنه عبادة لا يمضي في فاسدها فلم يلزم بالشروع فيه بجامع أن الكل عبادة ولا يمضي في فاسدها واحترز بلا يجب المضي في فاسدها عن الحج لأنه يجب المضي فيه بالشروع لوجوب المضي في فاسدها بالإجماع وهذا ظاهر في أن عدم وجوب المضي في الفاسدة علة لعدم الوجوب بالشروع "فيقول" الحنفي ما كان عبادة لا يمضي في فاسدها "فيستوي عمل النذر والشروع فيها كالوضوء" أي كما استوى عملهما في الوضوء فإن الوضوء لما لم يلزم بالشروع لم يلزم بالنذر "فتلزم" العبادة النافلة "بالشروع لأنها تلزم بالنذر" إجماعا لأنه كما ذكر فخر الإسلام الشروع مع النذر في الإيجاب بمنزلة توأمين لا ينفصل أحدهما عن الآخر لأن الناذر عهد أن يطيع الله فلزمه الوفاء به لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] والشارع عزم على الإبقاء فلزمه الإتمام صيانة لما أدى عن البطلان لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وحيث وجبت بالنذر إجماعا وجبت بالشروع عملا بقضية الاستواء ويسمى هذا قلب التسوية "وسماه فخر الإسلام عكسا لأن حاصله عكس خصوص حكم الأصل وهو" أي حكم الأصل وهو الوضوء في هذا المثال "عدم اللزوم بالنذر ولشروع في الفرع" أي العبادة النافلة وهو لزومها بهما. "وهذا" النوع من القلب هو "المنسوب إلى الحنفية أول القياس مسمى بقياس العكس" وليس بقياس "وإنما هو اسم لاعتراض" هو رد الحكم على خلاف سنن الأصل "واختلف في قبوله فقيل نعم" يقبل وهو معزو إلى الأكثر منهم أبو إسحاق الشيرازي والإمام الرازي "إذ جعل" المعترض "وصفه" أي المستدل "شاهدا لما يستلزم نقيض مطلوبه" أي المستدل "وهو" أي الحكم المستلزم(6/27)
لنقيض مطلوب المستدل "الاستواء" لأن الاستواء(6/28)
ص -356-…الشروع والنذر لو ثبت يلزم منه كون الشروع ملزما كالنذر وهو خلاف دعوى المستدل "والمختار" كما ذهب إليه آخرون منهم القاضي أبو بكر وابن السمعاني والخبازي وصاحب البديع أنه "لا" يقبل "لأن كون الوصف يوجب شبها في شيء لا يستلزم عموم الشبه" بين المتشابهين في كل شيء "ليلزم الاستواء مطلقا" لهما فيما يتعلق بهما ثم القياس المذكور باطل لانتفاء اتحاد الأصل والفرع في الحكم لاختلاف الاستواء فيهما فإن استواء النذر والشروع في الوضوء سقوط الإلزام بمعنى أنه لا أثر للنذر والشروع في إيجاب الوضوء بالإجماع واستواؤهما في الصوم والصلاة ثبوت الإلزام بمعنى أنه إذا ثبت استواؤهما كان كل منهما ملزما والثبوت والسقوط معنيان متنافيان وكيف لا وظاهر امتناع تعدية استواء السقوط في الوضوء لإثبات الاستواء في الصوم والصلاة والقياس الصحيح لا يعارضه القياس الفاسد. "وما أورده الشافعية من" النوع "الثاني" من القلب "وهو دعوى تجويز ثبوت نقيض حكم المستدل في الفرع بوصفه" أي وصف حكم المستدل في الأصل والحاصل أنه دعوى المعترض أن وجود الجامع في الفرع يستلزم مخالفة حكمه حكم الأصل فوجود الجامع في الأصل والفرع مستلزم لحكمين متخالفين فيهما يصح إضافتهما إلى الجامع لأنهما لازمان له وإلى الأصل والفرع لحلولهما فيهما "وهو قلب" من المعترض "لتصحيح مذهبه" أي المعترض "ليبطل المستدل" أي مذهبه فيلزم منه بطلان مذهب المستدل لتنافيهما "كلبث" أي كقول الحنفي الاعتكاف يشترط فيه الصوم لأنه لبث مخصوص "ومجرده غير قربة" إلى الله تعالى "كالوقوف" بعرفة فإن مجرده غير قربة وإنما صار قربة بانضمام عبادة إليه وهي الإحرام فلا بد حينئذ من اعتبار عبادة معه في كونه قربة "فيشترط فيه" أي في الاعتكاف "الصوم" لأن من قال لا بد من انضمام عبادة إليه في كونه قربة قال هي الصوم لا غير "فيقول" الشافعي "فلا يشترط" فيه الصوم "كالوقوف" بعرفة فقد تعرض كل منهما لتصحيح(6/29)
مذهبه إلا أن المستدل أشار إلى اشتراط الصوم بطريق الإلزام والمعترض أشار إلى نفي اشتراطه صريحا "و" قلب "لإبطال" مذهب "المستدل صريحا لتصحيح مذهبه" أي المعترض "كالحنفي في الرأس" أي كقوله في مسح الرأس أنه مقدر بالربع لأنه عضو "من أعضاء الوضوء فلا يكفي أقله" أي الرأس وهو ما ينطلق عليه اسم الرأس "كبقية الأعضاء فيقول" الشافعي عضو من أعضاء الوضوء "فلا يقدر بالربع كبقيتها" أي أعضاء الوضوء "ووروده" أي هذا القلب بناء "على أن المراد اتفقنا" معاشر الحنفية والشافعية على "أن الثابت أحدهما" أي أقل الرأس أو الربع فإذا انتفى أحدهما ثبت الآخر وإلا فلا يلزم من وروده صحة مذهب المعترض إذا كان ثم قول ثالث وهو هنا الاستيعاب لجواز أن يكون هو الصحيح. "أو" لإبطال مذهب المستدل "التزاما كقوله" أي الحنفي "في بيع غير المرئي عقد معاوضة فيصح مع الجهل بالعوض كالنكاح فيقول" الشافعي عقد معاوضة "فلا يثبت فيه خيار الرؤية" كالمرأة في النكاح فالمعترض لم يتعرض لإبطال مذهب المستدل وهو القول بالصحة صريحا بل بطريق الالتزام لأن من قال بها قال بخيار الرؤية فهما متلازمان عنده فيلزم من انتفاء خيار(6/30)
ص -357-…الرؤية انتفاء الصحة ومن ثمة قال "فلا يصح" إذ يقال له لكنك قلت إذا رأى المشتري المبيع بعد البيع فله الخيار إن شاء فسخه وإن شاء استمر عليه وخيار الرؤية لازم للصحة عندك وقد انتفى اللازم فينتفي الملزوم ثم في الكشف قلت هذه أقيسة ليست بمناسبة فضلا من أن تكون مؤثرة بل بعضها طردية وبعضها شبهية فأصحاب أبي حنيفة الشارطون للتأثير المعرضون عن الطرد والشبه كيف يخطر ببالهم مثل هذه الأقيسة وكيف يعللون بها والالتفات إلى مثلها ليس ممن دأبهم وهجيراهم لكن المخالفين وضعوها من عند أنفسهم ونسبوها إلى أصحابنا وأوردوها أمثلة في كتبهم ليصح لهم أقسام القلب التي ذكروها.(6/31)
النوع "الثاني" من نوعي المعارضة "المعارضة الخالصة" من معنى المناقضة "في" حكم "الفرع" وهو أن يذكر المعترض علة أخرى توجب خلاف ما توجبه علة المستدل "بلا تغيير" ولا زيادة في الحكم الأول في ذلك المحل بعينه فيقع به محض المقابلة من غير تعرض لإبطال علة المستدل فيمتنع العمل بهما لمدافعة كل منهما ما يقابلها ما لم تترجح إحداهما على الأخرى فإذا ترجحت وجب العمل بالراجحة فلا جرم أن قال "ويستدعي أصلا آخر وعلة" أخرى "كالمسح ركن في الوضوء فيسن تكريره كالغسل" أي كقول الشافعي هذا في مسح الرأس "فيقول" الحنفي مسح الرأس "مسح فلا يكرر كمسح الخف" فهذا قسم من أقسام المعارضة الخالصة الصحيحة مثبتا حكما مخالفا للأول بعلة أخرى في ذلك المحل بعينه من غير زيادة ولا تغيير في ذلك الحكم إذ أصل الأول الغسل وعلته الركنية وأصل الثاني مسح الخف وعلته كونه مسحا "والأحسن أن يجعل أصله" أي المعترض "لتيمم" فيقال كالتيمم "فيندفع" على هذا "المتوهم من مانع فساد الخف" أي إنما لم يكرر مسح الخف لإفضائه إلى التلف وأشار إلى القسم الثاني منها بعطفه على بلا تغيير قوله "أو بتغيير ما" في الحكم المتنازع فيه كقول الحنفي في إثباته ولاية التزويج لغير الأب والجد من الأولياء كالأخ "في صغيرة بلا أب وجد صغيرة فيولى عليها في الإنكاح كذات الأب" أي كالصغيرة التي لها أب بجامع الصغر الموجب للعجز عن مراعاة مصالحه "فيقول" الشافعي "الأخ قاصر الشفقة فلا يولى عليها كالمال" فإن الأخ لا ولاية له على المال إجماعا، وهذا معارضة صحيحة خالصة صحيحة مثبتة حكما مخالفا للأول بعلة أخرى في ذلك المحل بعينه لكن مع تغيير ما في الحكم الأول إذ العلة في الأول الصغر وفي الثاني قصور الشفقة وفي الحكم تغيير من إطلاق يشمل الأخ وغيره إلى تقييد بالأخ. "وأما نظمه" أي المعترض المعارضة "صغيرة فلا يولى عليها قرابة الإخوة كالمال" كما في أصول فخر الإسلام والتنقيح وغيرهما لكن(6/32)
المذكور فيها بولاية الإخوة "فليس منه" أي هذا القسم من المعارضة الخالصة بل من القلب فالمعترض "عارض مطلق الولاية" التي أثبتها المستدل "بنفيها" أي الولاية "عن خصوص" وهو الأخ فهذا القدر معارضة فاسدة لعدم قدحه في كلام المعلل لكن لما كان "يلزمه" أي نفيها عنه "نفي" حكم "المعلل لأن قرابته" أي الأخ "أقرب" إليها "بعد الولاد" أي الأب والجد والولد "فنفيها" أي ولاية الأخ "نفي ما بعدها" من ولاية من سواه من عم وغيره "مطلقا" ظهر(6/33)
ص -358-…معنى الصحة فيه وأشار إلى القسم الثالث منها بقوله "أو إثبات" المعترض حكما "آخر" يخالف في الصورة حكما آخر غير ما ذكره المعلل مقابلا لذلك الآخر لكنه "يستلزمه" أي نفي حكم المعلل "كقول أبي حنيفة في أحقية المنعي" أي الذي نعي إلى زوجته أي أخبرت بموته فتربصت منه ثم تزوجت "بولدها" الذي ولدته "في نكاح من تزوجته بعده" أي المنعي إذا جاء من الذي تزوجها بعده المنعي "صاحب فراش صحيح" لقيام نكاحه "فهو أحق" بالولد "من" صاحب الفراش "الفاسد" وهو المتزوج بها مع قيام نكاح المنعي "كما لا يحصى" من تقديم الصحيح على الفاسد عند التعارض "فيقول" المعترض كالصاحبين الزوج "الثاني صاحب فراش فاسد فيلحقه" الولد "كالمتزوج بلا شهود" إذا ولدت المتزوج بها يثبت النسب منه. وإن كان الفراش فاسدا "فإثباته" أي الولد "من الثاني" معارضة فاسدة لأن هذا حكم آخر في غير المحل الذي أثبت المعلل فيه حكمه لأن المعلل أثبت النسب من الأول بفراش صحيح والمعترض أثبته من الثاني بفراش فاسد واتحاد المحل شرط لصحتها لكن لما كان "يلزمه" أي هذا الإثبات "نفيه" أي لولد "عن الأول للإجماع أن لا يثبت منهما" وقد وجد ما يصلح سببا لاستحقاق النسب في حق الثاني وهو الفراش الفاسد صحت واحتيج إلى الترجيح "فرجح" أبو حنيفة "الملك والصحة" الكائنين للأول لأن فراشه صحيح وملكه قائم "على الحضور والماء" أي كون الثاني حاضرا والماء له "كالزنا" قال المصنف "والوجه" أن يقال "ترجح" الأول "بالصحة على" الثاني بمجرد "الحضور" مع انتفاء الصحة لأن صحة الفراش توجب حقيقة النسب والفاسد شبهته وحقيقة الشيء أولى بالاعتبار من شبهته "أما الماء فمقدر فيهما" أي الزوج الأول والزوج الثاني لعدم القطع به من الثاني قلت فاندفع ما في التلويح وربما يقال في الحضور حقيقة النسب وحقيقة الشيء أولى لأنه ولد من مائه. "وذكر الشافعية من الأسئلة مخالفة حكم الفرع لحكم الأصل" إذ لا يصح معها قياس(6/34)
إذ من شرطه اتحاد الحكم كما عرف "كقياس البيع على النكاح وعكسه" أي النكاح على البيع "في عدم الصحة" بجامع في صورة "فيقول" المعترض الحكم مختلف حقيقة "عدمها" أي الصحة "في البيع حرمة الانتفاع" بالبيع "و" عدمها "في النكاح حرمة المباشرة والجواب البطلان" الذي هو عدم الصحة فيهما في الحقيقة "واحد عدم" ترتب "المقصود من العقد" عليه "وإن اختلفت صوره" أي محاله من كونه بيعا ونكاحا إذ اختلاف المحل لا يوجب اختلاف الحال بل اختلاف المحل شرط في القياس ضرورة فكيف يجعل شرطه مانعا منه إذ يلزم امتناعه أبدا ثم الحاصل أن جواب هذا السؤال ببيان الاتحاد عينا كالجواب المذكور أو جنسا كما في قطع الأيدي باليد كالأنفس بالنفس وأما إن اختلف الحكم جنسا ونوعا كوجوب على تحريم ونفي على إثبات وبالعكس فباطل لأن الحكم إنما شرع لإفضائه إلى المقصود واختلافه موجب للمخالفة بينهما في الإفضاء "وهذا" السؤال "وغيره" من الأسئلة "ككون الأصل معدولا" عن القياس "داخل فيما ذكر الحنفية من منع وجود الشرط" فلا حاجة إلى إفراده بالذكر. "وأما سؤال الفرق" بين الأصل والفرع "إبداء خصوصية في الأصل هي" أي الخصوصية "شرط"(6/35)
ص -359-…للوصف "مع بيان انتفائها في الفرع أو بيان مانع" بالرفع عطف على إبداء "فيه" أي في الفرع من الحكم "و" بيان "انتفائه" أي المانع "في الأصل فمجموع معارضتين في الأصل والفرع" أي فالفرق مجموعهما إذا تعرض لانتقاء الشرط في الفرع أو عدم لمانع في الأصل أما الأول فلأن إبداء الخصوصية التي هي شرط في الأصل معارضة في الأصل وبيان انتفائها في الفرع معارضة فيه وأما الثاني فكما قال "وهو" أي وكونه مجموعهما "في الثاني" أي بيان مانع في الفرع وانتفائه في الأصل بناء "على أن العلة الوصف مع عدم هذا المانع" لا الوصف نفسه فيكون بيان وجود المانع في الفرع معارضة فيه بناء على أن المانع من الشيء في قوة المقتضى لنقيضه فيكون في الفرع وصف يقتضي نقيض الحكم الذي أثبته المستدل ويستند إلى أصل لا محالة وبيان انتفائه في الأصل على هذا معارضة في الأصل حيث أبدى علة أخرى لا توجد في الفرع. "وعليه" أي المعترض "بيان كونه" أي ما أبداه من الخصوصية في الأصل شرطا "أو" ما أبداه من المانع في الفرع "مانعا على طريق إثبات المستدل علية الوصف" المعلل به من التأثير وغيره قال المصنف "والوجه أنه" أي الفرق معارضتان في الأصل والفرع "على ادعاء الشرط و" معارضة "في الفرع فقط على المانع لما تقدم" في شروط العلة "من الحق أن عدم المانع ليس جزءا من العلة الباعثة" زاد المصنف هنا "بخلاف الشرط لأنه" أي الشرط "خصوصية زائدة على الوصف" الذي علل به المعلل فهي جزء منه. "ولو لم يتعرض" المعترض "لانتفائه" أي الشرط "من الفرع لم يكن" إبداء الخصوصية التي هي شرط في الأصل "الفرق بل" هو "معارضة في الأصل المسمى مفارقة" عند الحنفية وتقدم الكلام فيها فلم يذكروه اكتفاء بذكر المعارضة في الأصل والمعارضة في الفرع غير أن من الشافعية من يقول الفرق راجع إلى المعارضة في أحدهما فلا يتم نفي كون الاقتصار على إبداء الخصوصية التي هي شرط في الأصل فرقا وإنما يتم على(6/36)
القائلين منهم برجوعه إليهما، هذا وعلى القول بجواز تعدد الأصول لو فرق المعترض بين الفرع وأصل منها كفى في القدح فيها لأنه يبطل جمعها المقصود وقيل لا يكفي لاستقلال كل منها وقيل يكفي إن قصد الإلحاق بمجموعها لأنه يبطله بخلاف ما إذا قصد بكل منها وهو حسن ولم يذكر غير واحد منهم جواب هذا السؤال ومما يجاب به منع كون المبدأ في الأصل جزءا من العلة في الفرع مانعا من الحكم وفي اقتصار المستدل على جواب أصل واحد على تقديره فرق المعترض بين الفرع وأصل من الأصول حيث جاز تعددها قولان يكفي لحصول المقصود بالدفع عن واحد ولا يكفي لأنه التزم الجميع فلزمه الدفع عنه وقد عرفت مما تقدم في بحث جواز التعدد وعدمه أنهما لم يتلاقيا ثم هذا هو التحقيق لا ما ذكر إمام الحرمين من أن الكلام في الفرق وراء المعارضة وإن خاصه وسره فقد يناقضه قصد الجميع ثم هو وابن السمعاني في طرفي نقيض في أمر هذا السؤال من القبول والرد كما يعرف من الوقوف على كلامهما والله سبحانه الموفق للصواب.
"والاتفاق على جمعها" أي الاعتراضات "من جنس" واحد إذ لا يلزم منها تناقض ولا(6/37)
ص -360-…انتقال من سؤال إلى آخر "وبعض الأصوليين" يذكر في كلامهم "النوع للجنس والجنس للنوع" عكس ما عليه اصطلاح الأصوليين بل ذكر عضد الدين أنه اصطلاح الأصوليين ووافقه التفتازاني عليه "وأصول الحنفية" وفروعهم أيضا يذكر فيهما "الجنس للنوع" كالحنطة "والنوع" والجنس أيضا "للصنف كرجل" ولا مناقشة في الاصطلاح "وذلك" أي جمعها من جنس "كالاستفسارات والمنوع والمعارضات" فإن الاستفسارات يجمعها الاستفسار والمنوع يجمعها المنع والمعارضات تجمعها المعارضة "وفي الأجناس منعه" أي جمعها "السمرقنديون للخبط" اللازم من ذلك "للانتشار" وأوجبوا الاقتصار على سؤال واحد حرصا على الضبط قالوا ولا يرد علينا إن كانت من جنس كما ألزمهم به الآمدي فإنا جوزنا تعددها وإن أدت إلى النشر لأن النشر في المختلفة أكثر منه في المتفقة والجمهور جوزوا الجمع بينها قال السبكي وهو الحق "ثم" إذا جاز الجمع "منع أكثر النظار" الاعتراضات "المرتبة طبعا" من نوع واحد "كمنع حكم الأصل ومنع أنه معلل بذلك" إذ تعليل الحكم بعد ثبوته طبعا "إذ يفيد" الأخير "تسليم الأول" فيتعين الأخير سؤالا فيجاب عنه دون الأول فيضيع الأول "والمختار" كما ذكره الآمدي وابن الحاجب "جوازه" أي جمع الاعتراضات المرتبة طبعا من نوع واحد كما ذهب إليه أبو إسحاق الإسفراييني "لأن التسليم" للمتقدم "فرضي أي لو سلم" الأول "ورد الثاني" وهو لا يستلزم التسليم في نفس الأمر. "وحينئذ" أي حين إذا كان المختار جوازه وإن أدى إلى التسليم إذ كان التسليم فرضيا "الواجب ترتيبها" أي الاعتراضات المرتبة طبعا "وإلا" لو لم يجب ترتيبها "فمنع بعد التسليم" إذا عكس الترتيب "إذ" قول المعترض "لا نسلم أن الحكم معلل بكذا يتضمن تسليمه" أي الحكم المذكور "فقوله" بعد ذلك "بمنع ثبوت الحكم رجوع" عن تسليمه "لا يسمع" لأنه إنكار بعد إقرار فيلزم أن يكون الشيء الواحد مسلما غير مسلم وحينئذ فيرد هذا إشكالا على أكثر النظار(6/38)
فإنهم لما منعوها مرتبة لما يلزم من التسليم بعد المنع يلزمهم أن لا يوجبوها غير مرتبة كما أشار إليه بقوله "فيبطل ما يلزم قول الأكثرين من وجوبها غير مرتبة" فإنه يستلزم المنع بعد التسليم وهو أقبح من التسليم بعد المنع "وإلا فالاتفاق على" جواز "التعدد من نوع ولا مخلص لهم" أي للأكثر "إلا بادعاء أن منع العلية بفرض وجود الحكم" إلا أن يجيبوا بأن تسليم حكم الأصل إنما يوجبه منع علية الوصف استلزاما ظاهرا فإذا صرح بعده بمنعه حمل على إرادته منع علية الوصف بفرض وجود الحكم كما أجبنا به فكأنه قال لا نسلم علية هذا الوصف لهذا الحكم لو كان ثابتا ونحن نمنع ثبوته وحينئذ يلزمهم مثله في منعهم المترتبة كذا أفاده المصنف. "وما قيل" أي وقول التفتازاني "كل من الخمسة والعشرين" اعتراضا الواردة على القياس الماضية "جنس يندرج تحت نوع" على ما هو مصطلح الأصول من اندراج الأجناس تحت الأنواع "غلط يبطل حكاية الإنفاق على المتعدد من جنس إذ لا يتصور التعدد مثلا من منع وجود العلة وهو" أي منع وجودها "أحدها" أي الخمسة والعشرين بل المنع نوع يندرج فيه منع حكم الأصل ومنع وجود الوصف ومنع عليته(6/39)
ص -361-…ومنع وجودها في الفرع والمعارضة نوع يندرج فيها المعارضة في الأصل وفي الفرع وغير ذلك وهذه أجناس لأن تحتها أشخاص المنوع والمعارضات إذ الفرض أن الجنس هو النوع المنطقي بهذا الاصطلاح فالنقض حينئذ جنس انحصر فيه نوعه ذكره المصنف "وكلامهم" أي الأصوليين أيضا "في المثل وذكر الأجناس خلافه" أي هذا الذي ذكره التفتازاني ثم إذا وجب الترتيب فترتب الترتيب الطبيعي ليوافق الوضعي الطبيعي. وحينئذ فالأولى كما قال الآمدي وغيره أن يبدأ بالاستفسار لأن من لا يعرف مدلول اللفظ لا يعرف ما يتجه عليه ثم بفساد الاعتبار لأنه نظر في الدليل من جهة الجملة وهو قبل النظر في تفصيله ثم بفساد الوضع قال الآمدي لكونه أخص من فساد الاعتبار يعني مطلقا وقد عرفت أنه أخص منه من وجه على قول غيره كما أشار إليه المصنف "فتقدم المتعلق بالأصل" فتقدم منع حكم الأصل لأنه نظر فيه من جهة التفصيل "ثم" المتعلق "بالعلة" لأنه نظر فيما هو متفرع عن حكم الأصل فتقدم منع وجود علة الأصل فيه ثم المطالبة بتأثير الوصف وعدم التأثير والقدح في المناسبة والتقسيم وكون الوصف غير ظاهر ولا منضبط وكون الحكم غير مفض إلى المقصود منه لكون هذه الأسئلة صفة وجود العلة ثم النقض والكسر لكونه معارضا لدليل العلة ثم المعارضة في الأصل والتعدية والتركيب لأنه معارض للعلة "ثم" المتعلق "بالفرع" لابتنائه على العلة وحكم الأصل فيذكر منع وجود العلة في الفرع ومخالفة حكمه لحكم الأصل ومخالفته للأصل في الضابط أو الحكمة والمعارضة في الفرع وسؤال القلب ثم القول بالموجب لتضمنه تسليم كل ما يتعلق بالدليل المثمر له. "وتقدم النقض على معارضة الأصل عند معتبرها" أي معارضة الأصل "إذ هي" أي معارضة الأصل "لإبطال استقلالها" أي العلة بالتأثير والنقض لإبطال أصل العلة فقدم عليها فيقال ليس بعلة لعدم الاطراد ولو سلم فليس بمستقل "ومنع وجود العلة في الأصل قبل منعها والقلب قبل المعارضة(6/40)
الخالصة لأنه معارضة بدليل المستدل" بخلاف المعارضة الخالصة فيذكر القلب أولا "ثم يقال" إذا ذكرت هي ثانيا "ولو سلم أنه" أي دليل المستدل "يفيد مطلوبه عندنا دليل آخر ينفيه" أي مطلوبه وأوجب أبو محمد البغدادي ترتيب الأسئلة فاختار فساد الوضع ثم الاعتبار ثم الاستفسار ثم المنع ثم المطالبة وهو منع العلة في الأصل ثم الفرق ثم النقض ثم القول بالموجب ثم القلب ورد التقسيم إلى الاستفسار أو الفرق وأن عدم التأثير مناقشة لفظية وعليه ما لا يخفى وقد اعترفوا بالفرق بين أسئلة الجدل وأسئلة الاسترشاد. ومن هنا وقع التخبط وإلا فالحق أن لا يبنى الجدل إلا على وجه الإرشاد والاسترشاد لا للعلية والاستدلال والواجب رد الجميع إلى ما دلت عليه الأدلة الشرعية وكيف لا والجدل مأمور به بالحق كما دل عليه القرآن وفعله الصحابة والسلف ثم كما في الواضح لولا ما يلزم من إنكار الباطل واستنقاذ الهالك بالاجتهاد في رده عن ضلالته لما حسنت المجادلة للإيحاش فيها غالبا وإذا نفرت النفوس عميت القلوب وخمدت الخواطر وانسدت أبواب الفوائد ولكن فيها أعظم المنفعة إذا قصد بها نصرة الحق والتقوي على الاجتهاد ونعوذ بالله من قصد المغالبة وبيان الفراهة فضلا(6/41)
ص -362-…عن قصد التغطية على الحق وترويج الباطل بآفة من الآفات من محاباة لأرباب المناصب تقربا إليهم أو مناضلة مردودة دوما لحصول المنزلة في قلوب العوام والتعظيم لديهم إلى غير ذلك من القصود المحرمة أو المكروهة ومن بان له سوء قصد خصمه فالذي يظهر أنه إن أدى إلى مكروه فمكروه ومحرم فمحرم لأنه إعانة على ذلك وقد قال تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وقال عز وجل: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحج:68] قال ابن الجوزي وهذا أدب حسن علمه الله تعالى عباده ليردوا به من جادل تعنتا فلا يجيبوه وقد ذكر بعض العلماء أن اجتماع جمع متجادلين في مسألة مع أن كلا منهم لا يطمع أن يرجع إذا ظهرت له الحجة ولا فيه مؤانسة ومودة وتوطئة القلوب لوعي الحق بل هو على الضد محمل ما روى أحمد وحسنه وصححه الترمذي عن أبي أمامة مرفوعا: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً} [الزخرف: 58] " وروى أحمد عن مكحول عن أبي هريرة مرفوعا: "لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك المراء". وكون مكحول لم يسمع من أبي هريرة غير قادح في هذا عند التحقيق وروى أبو داود وابن ماجه والترمذي واللفظ له عن أبي أمامة مرفوعا: "من ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة ومن تركه وهو محق بني له في وسطها ومن حسن خلقه بني له في أعلاها" قال الترمذي حديث حسن يقال مارى يماري مماراة ومراء أي جادل والمراء استخراج غضب المجادل من مريت الشاة استخرجت لبنها وفي الواضح واحذر الكلام في مجالس الخوف أو التي لا إنصاف فيها وكلام من تخافه أو تبغضه أو لا يفهم عنك واستصغار الخصم ولا ينبغي كلام من عادته ظلم خصمه والهزء والتشفي لعداوته والمترصد للمساوئ والتحريف والتزيد والبهت، وكل جدل وقع فيه ظلم الخصم اختل فينبغي(6/42)
أن يحترز منه وقدر في نفسك الصبر والحلم ولا ينقص بالحلم إلا عند جاهل ولا بالصبر على شغب السائل إلا عند غبي وترتفع في نفوس العلماء وتنبل عند أهل الجدل ومن خاض في الشغب تعوده ومن تعوده حرم الإصابة واستدرج إليه ومن عرف به سقط سقوط الدرة وفي رد الغضب الظفر ولا رأي لغضبان والغالب في السفه الأسفه كالغالب بالعلم الأعلم ومع هذا فلا أحد يسلم من الانقطاع إلا من عصمه الله. وليس حد العالم كونه حاذقا بالجدل فإنه صناعة والعلم صناعة وهو مادة الجدل يحتاج إلى العالم ولا عكس وأدب الجدل يزين صاحبه وتركه يشينه ولا ينبغي أن ينظر لما اتفق لبعض من تركه من حظوة في الدنيا فإنه وإن كان رفيعا عند الجهال فهو ساقط عند أولي الألباب قال أبو محمد البغدادي ويكره اصطلاحا تأخير الجواب عن السؤال كثيرا وعند بعض الجدليين منقطع والله سبحانه الموفق لمحاسن الآداب والهادي إلى سبيل الصواب.
[خاتمة المقالة الثانية]
"خاتمة" للكلام في هذه المقالة الثانية "الاتفاق على الأربعة" أي على كون الكتاب والسنة والإجماع والقياس أدلة شرعية للأحكام "عند مثبتي القياس" وهم الجمهور منهم الأئمة(6/43)
ص -363-…الأربعة "واختلف في أمور" أخرى أي في كونها أدلة شرعية للأحكام "الاستدلال بالعدم" والظاهر أن المراد به التعليل بالعدم فإنه الذي "نفاه الحنفية" وتقدم في المرصد الثاني من شروط العلة الكلام فيه نفيا له مطلقا عنهم إلا عدم علة متحدة كقول محمد ولد المغصوب لا يضمن لأنه لم يغصب على تحقيق للمصنف رحمه الله في أن إضافة الحكم إلى هذه العلة إنما هي إضافة إلى العدم لفظا وإلى الوجود معنى كما عرف ثمة وإثباتا له عن غيرهم على تفصيل فيه بين أن يكون عدما مطلقا ومضافا وبين أن يكون الحكم المعلل به وجوديا وعدميا وإلا فكلام المصنف ثمة يفيد أن عدم الحكم لعدم دليله صحيح عند الحنفية كما نزل عليه قول محمد المذكور ومشى عليه البيضاوي وقرره بقوله فقدان الدليل بعد الفحص البليغ يغلب ظن عدمه وعدمه يستلزم عدم الحكم لامتناع تكليف الغافل إذ الوجه أن يكون المراد فقدان الدليل بعد الفحص البليغ ما يتعلق بالفعل المخصوص من الحكم الشرعي يوجب ظن عدم الدليل على ذلك وإلا فالوقف عليه وظن عدمه يوجب ظن عدم الحكم الشرعي إذ لو ثبت فيه وليس عليه دليل لزم تكليف الغافل وهو ممتنع والعمل بالظن واجب غير أن عده إياه من الأدلة المقبولة الشرعية للأحكام الشرعية غير ظاهر فإن الظاهر أن عدم الحكم الشرعي الخاص أو مطلقا ليس بحكم شرعي فصدق أن العلة ليست من الأدلة الشرعية للأحكام الشرعية فلا جرم أن في التلويح لا قائل بأن التعليل بالنفي أحد الحجج الشرعية ا هـ وإنما هو نفي الحكم الشرعي لنفي المدرك الشرعي فليحمل كلام البيضاوي عليه والله سبحانه أعلم فهذا واحد من الأمور المذكورة.(6/44)
"والمصالح المرسلة" وهي التي لا يشهد لها أصل بالاعتبار في الشرع ولا بالإلغاء وإن كانت على سنن المصالح وتلقتها العقول بالقبول "أثبتها مالك" والشافعي في قول قديم "ومنعها الحنفية وغيرهم" منهم أكثر الشافعية ومتأخرو الحنابلة "لعدم ما يشهد" لها "بالاعتبار ولعدم أصل القياس فيها كما يعرف مما تقدم" في المرصد الأول من فصل العلة فلا حاجة إلى إعادته وأما قول القرافي المصلحة المرسلة في جميع المذاهب عند التحقيق لأنهم يقيسون ويفرقون بالمناسبات ولا يطلبون شاهدا بالاعتبار ولا يعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك ومما يؤكد العمل بالمصالح المرسلة أن الصحابة عملوا أمورا لمطلق المصلحة لا لتقديم شاهد بالاعتبار نحو كتابة المصحف ولم يتقدم فيه أمر ولا نظير وولاية العهد من أبي بكر لعمر رضي الله عنهما ولم يتقدم فيها أمر ولا نظير وكذلك ترك الخلافة شورى وتدوين الدواوين وعمل السكة للمسلمين واتخاذ السجن فعمل ذلك عمر رضي الله عنه وهذه الأوقاف التي بإزاء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والتوسعة بها في المسجد عند ضيقه فعله عثمان رضي الله عنه وتجديد أذان في الجمعة بالسوق وهو الأذان الأول فعله عثمان ثم نقله هشام إلى المسجد وذكر كثير حدا لمطلق المصلحة وإمام الحرمين قد عمل في كتابه المسمى بالغياثي أمورا وجوزها وأفتى بها والمالكية بعيدون عنها وجسر عليها وقالها للمصلحة المطلقة وكذلك الغزالي في شفاء الغليل مع أن الاثنين شديدا الإنكار علينا في المصلحة المرسلة انتهى فلا يخفى ما فيه لمن تتبع وحقق والله سبحانه أعلم وهذا ثان من الأمور المذكورة.(6/45)
ص -364-…"وتعارض الأشباه" أي بقاء الحكم الأصلي في المتنازع فيه لتعارض أصلين فيه يمكن إلحاقه بكل منهما "كقول زفر في المرافق" لا يجب غسلها في الوضوء لأنها "غاية" لغسل اليد والغاية قسمان "دخل منها" في المغيا قسم كقوله تعالى: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الاسراء: 1] "وخرج" منها عن المغيا قسم كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وإذ كانت كذلك فليس دخول المرافق في الغسل بأولى من عدم دخولها فيه "فلا يدخل بالشك" أي ولم يكن غسلها واجبا فلا يجب بالشك "ودفع" كونه دليلا "بأنه إثبات حكم شرعي بالجهل وأجيب بأن المراد" لزفر "الأصل عدمه" أي دخول المرافق في الغسل "فيبقى" عدمه مستمرا "إلى ثبوت موجبه" أي الدخول "والثابت" في الغاية بالنسبة إلى المغيا دخولا وخروجا إنما هو "التعارض" والجواب عن هذا يعرف مما تقدم في مسألة إلى من حروف الجر فليراجع وهذا ثالث من الأمور المذكورة.(6/46)
"ومنها" أي الأمور المذكورة "الاستدلال" وهو استفعال من الدلالة ومعلوم أنه في اللغة يرد لمعان منها الطلب كاستغفر الله والاتخاذ كاستعبد فلان فلانا واستأجره أي اتخذه عبدا وأجيرا فذكر القاضي عضد الدين وغيره أنه في اللغة طلب الدليل وفي العرف يطلق على إقامة الدليل مطلقا من نص أو إجماع أو غيرهما وعلى نوع خاص من الدليل وهو المقصود هنا "قيل ما ليس بأحد" الأدلة "الأربعة" الكتاب والسنة والإجماع والقياس "فيخرج قياسا الدلالة وما في معنى الأصل تنقيح المناط" وقد عرفت أن قياس الدلالة ما لا يذكر فيه العلة بل وصف ملازم لها كالنبيذ حرام كالخمر بجامع الرائحة المشتدة وإن القياس الذي في معنى الأصل ويسمى تنقيح المناط الجمع بين الأصل والفرع بإلغاء الفارق كقياس البول في إناء وصبه في الماء الدائم على البول فيه في المنع بجامع أن لا فرق بينهما في مقصود المنع الثابت في صحيح مسلم من نهيه صلى الله عليه وسلم أن يبال في الماء الراكد كما يخرج قياس العلة وهو ما صرح فيه بالعلة نحو يحرم النبيذ كالخمر للإسكار لإطلاق نفي كونه قياسا أيضا لأن منافي الأعم مناف للأخص. "وقد يقيد القياس" المنفي "بقياس العلة فيدخلانه" أي قياسا الدلالة وما في معنى الأصل في الاستدلال فيكون الأول أخص لأن القياس أعم من قياس العلة ونفي الأعم لكونه أخص يكون أخص من نفي الأخص "واختير" أي واختار ابن الحاجب "أن أنواعه" أي الاستدلال ثلاثة "شرع من قبلنا والاستصحاب والتلازم وهو" أي التلازم "المفاد بالاستثنائي والاقتراني بضروبهما" في مباحث النظر "وقدمنا زيادة ضرب في تساوي المقدم والتالي" بل ضربين ضرب حاصل منهما مع استثناء نقيض المقدم كأن كان هذا واجبا فتاركه يستحق العقاب لكنه ليس بواجب فتاركه لا يستحق العقاب وضرب حاصل منهما مع استثناء عين التالي كأن كان هذا واجبا فتاركه يستحق العقاب لكن تاركه يستحق العقاب فهو واجب فتصير ضروبه أربعة هذين والضربين(6/47)
المتفق على إنتاجهما وهما الحاصل منهما مع استثناء عين المقدم كأن كان هذا واجبا فتاركه يستحق العقاب لكنه واجب فتاركه يستحق العقاب والحاصل منهما مع استثناء نقيض التالي(6/48)
ص -365-…كأن كان هذا واجبا فتاركه يستحق العقاب لكن تاركه لا يستحق العقاب فهو ليس بواجب "وكذا" زيادة ضرب "في الاقتراني" وهو المركب من كليتين صغرى سالبة وكبرى موجبة متساوية الطرفين كلا شيء من الإنسان بصهال وكل صهال فرس فلا شيء من الإنسان بفرس وذكر العبد الضعيف غفر الله تعالى له ثمة أنه يلزم من صدق هذا زيادة ضرب آخر أيضا وهو المركب من جزئية سالبة صغرى وكلية موجبة كبرى متساوية الطرفين كليس بعض الإنسان بفرس وكل فرس صهال فليس بعض الإنسان بصهال لاتحاد الوسط المقتضي للإنتاج في هذا كما فيما قبله "إلا أنه" أي التلازم "هنا على خصوص هو إثباته أحد موجبي العلة بالآخر فتلازمهما" أي موجبيها وهما الحكمان "بلا تعيين علة" جامعة. "وإلا" لو كان إثبات أحدهما بالآخر لتلازمهما بعلة جامعة "فقياس" أي فإثباته بها قياس "ويكون" التلازم "بين ثبوتين" ولا بد فيه إما من الاطراد والانعكاس من الطرفين كما فيما يكون التالي فيه مساويا للمقدم أو طردا لا عكسا من طرف واحد فيما يكون التالي أعم من المقدم "كمن صح طلاقه صح ظهاره وهو" أي وثبوت التلازم بينهما يكون "بالاطراد" الشرعي وهو أنا تتبعنا فوجدنا كل شخص صح طلاقه صح ظهاره وكل من صح ظهاره صح طلاقه "ويقوى" ثبوته بينهما "بالانعكاس" وهو أنا تتبعنا فوجدنا كل شخص لا يصح طلاقه لا يصح ظهاره وكل شخص لا يصح ظهاره لا يصح طلاقه وحاصله التمسك بالدوران ممكن على أن العدم ليس جزءا منه بل هو شرط له وهذا بالنسبة إلى الشافعي وموافقه القائل بصحة ظهار الذمي لا الحنفي وموافقه القائل بعدم صحة ظهار الذمي فإنه لا تلازم عنده في هذا عكسا في كلا الطرفين بل في أحدهما الذي هو الظهار وسيشير المصنف إليه ثم هذا من باب الاستدلال على التعريفين له "ويقرر" ثبوت التلازم بينهما أيضا إذا كانا أثرين لمؤثر بالاستدلال "ثبوت أحد الأثرين فيلزم" أن يوجد الأثر "الآخر للزوم" وجود "المؤثر" له ضرورة أنه أثره وكون(6/49)
نسبته إلى المؤثر كنسبة الآخر إليه. "و" يقرر "بمعناه" أي معنى هذا وهو الاستدلال بثبوت أحد الأثرين على ثبوت المؤثر ثم ثبوته على ثبوت الآخر "كفرض الصحتين" للطلاق والظهار "أثر الواحد" كالأهلية لهما فإذا ثبت صحة الطلاق ثبت الأهلية لها ويلزم من ثبوت الأهلية ثبوته لصحة الظهار لما ذكرنا وهذا من باب الاستدلال على التعريف الثاني لأنه ليس من قياس العلة بل من قياس الدلالة دون التعريف الأول له لأن قياس الدلالة نوع من أنواع القياس لكن بشرط أن لا يتعرض لتعيين المؤثر "ومتى عين المؤثر خرج" عن الاستدلال "إلى قياس العلة وبين نفيين" أي ويكون التلازم بينهما "ولا بد من كونه" أي التنافي بين "الطرفين" فسقط من القلم لفظ بين "طردا وعكسا" أي إثباتا ونفيا كما هو المنفصلة الحقيقية "أو أحدهما" أي طردا فقط كما هو مانعة الجمع أو عكسا فقط كما هو مانعة الخلو مثاله "لا يصح التيمم بلا نية فلا يصح الوضوء" بلا نية "وهو" أي ثبوت التلازم بينهما "أيضا بالاطراد" أي كل تيمم لا يصح إلا بالنية وكل وضوء لا يصح إلا بالنية "ويقوى بالانعكاس" أي كل تيمم يصح بالنية وكل وضوء يصح بالنية وهذا بالنسبة إلى الشافعي وموافقه وأما بالنسبة إلى أبي حنيفة وصاحبه(6/50)
ص -366-…فيتم التلازم طردا وعكسا في أحد الطرفين فقط وهو التيمم فإن عندهم كل تيمم بالنية صحيح وبغير النية غير صحيح دون الآخر وهو الوضوء فإنه وإن كان كل وضوء بالنية صحيحا فليس عندهم كل وضوء بلا نية غير صحيح بل ذاك الوضوء الذي هو عبادة لا الوضوء الذي ليس بعبادة فلا تلازم بينهما في النفي كما سيشير إليه المصنف. وأما بالنسبة إلى زفر فلا تلازم بين هذين النفيين أصلا لعدم توقف صحة وضوء وتيمم على النية عنده "ويقرر" ثبوت التلازم بينهما إذا كانا أثرين لمؤثر "بانتفاء أحد الأثرين فالآخر" أي فيلزم انتفاء الأثر الآخر لانتفاء المؤثر لفرض ثبوتهما أثرا لواحد وليس فرض كون الثواب واشتراط النية أثرين للعبادة "يوجبه" أي التلازم بين النفيين "على الحنفي" لأنه لا يشترط في صحة كون الوضوء شرطا للصلاة كونه عبادة "وبين نفي لازم للثبوت" أي ويكون التلازم بين ثبوت ملزوم ونفي لازم له "وعكسه" أي وبين نفي ملزوم وثبوت لازم مثال الأول هذا "مباح فليس بحرام" ومثال الثاني هذا "ليس جائزا فحرام ويقرران" أي التلازمان بينهما "بإثبات التنافي بينهما" كذا ذكر ابن الحاجب وظاهره أن المراد بين الثبوت والنفي وليس كذلك فإنه لا تنافي بين المباح وعدم الحرام لجواز اجتماعهما لأن عدم الحرام أعم من المباح ولا بين غير الجائز والحرام لأن غير الجائز إما مساوي الحرام أو أعم منه فلا جرم أن قال غير واحد من الشارحين أي بين المباح والحرام لكن في الاقتصار على هذا قصور بل وبين الجائز والحرام ثم كما قال العلامة في الأول وهو في الإثبات ولهذا استلزم المباح عدم الحرام وعكسه لا في النفي ولهذا لم يستلزم عدم المباح الحرام ولا عكسه قلت إلا أن في استلزام عدم الحرام المباح كما أشار إليه بقوله وعكسه نظرا إلا أن يريد في الجملة فإن عدم الحرام لا يستلزم المباح ألبتة بل كما يستلزمه يستلزم المندوب. وقال في الثاني وهو في النفي والإثبات ولهذا يلزم من عدم(6/51)
الجواز الحرمة وعكسه ومن الجواز عدم الحرمة والعكس ويخص هذا موجها له الفاضل الأبهري فقال أي التلازم بين الثبوت ونفيه وعكسه يقرران ببيان ثبوت التنافي بين الثبوتين فإن كان التنافي بينهما في الجمع كما بين المباح والحرام استلزم كل من الثبوتين نفي الآخر فيصدق ما كان مباحا لا يكون حراما وإن كان التنافي بينهما في الخلو كما بين الجائز بمعنى ما لا يمتنع شرعا استلزم نفي كل من الثبوتين عين الآخر فيصدق ما لا يكون جائزا يكون حراما انتهى ولا يخفى أن هذه العناية لا تفيدها العبارة وقال بعضهم كالسبكي أي بين الحكمين وهو مع إبهامه راجع إلى أحد القولين الماضيين فعليه ما على أحدهما المراد منه ومن العجب إهمال عضد الدين ثم التفتازاني الكلام على هذا "أو" بإثبات التنافي بين "لوازمهما" وهو التأثيم اللازم لفعل الحرام وعدمه اللازم لفعل المباح والجائز فيلزم التنافي بين ملزومهما لأن تنافي اللوازم يدل على تنافي الملزومات "ويرد عليها" أي الأقسام الأربعة "منع اللزوم كالحنفي في الأولين" أي كمنع الحنفي التلازم بين الظهار والطلاق ونفي صحة التيمم بلا نية ونفي صحة الوضوء بلا نية كما قدمنا بيانه. "و" منع "ثبوت الملزوم وما لا يختص بالعلة" من الأسئلة الواردة على القياس(6/52)
ص -367-…لأنه لم تتعين العلة في التلازم وما لم يتعين لم يرد عليه شيء "ويختص" التلازم بسؤال لا يرد على القياس وهو منع تحقق الملازمة "في مثل تقطع الأيدي بيد" واحدة "كقتل الجماعة بواحد لملازمته" أي القصاص "لثبوت الدية على الكل في الأصل أي النفس لأنهما" أي القصاص والدية "أثران فيها" أي النفس يترتبان على الجناية "ووجد أحدهما" أي الأثرين وهو الدية "في الفرع" أي اليد "فالآخر" أي الأثر الآخر وهو "القصاص" على الكل يؤخذ فيه أيضا "لأن علتهما" أي الأثرين وهما القصاص والدية "في الأصل إن" كانت "واحدة فظاهر" وجود وجوب القصاص على الجميع في الفرع إذ لا خفاء في وجود الأثر عند وجود المؤثر "أو" كانت "متعددة فتلازمهما" أي الأثرين اللذين هما وجوب الدية والقصاص على الجميع "في الأصل" أي النفس دليل "لتلازمهما" أي العلتين فوجود أحد الأثرين وهو الدية في الفرع يستلزم وجود علته وهو يستلزم وجود علة الأثر الآخر "فيثبت" الأثر "الآخر" وهو القصاص في الفرع أيضا لثبوت علته المذكورة فيه "فيرد" الوارد المختص بهذا المثال وهو "تجويز كونه" أي ذلك الأثر الذي هو ثبوت الدية على الكل "بعلة" في الفرع أي اليد تقتضي وجوب الدية في الكل ثم "لا تقتضي قطع الأيدي" باليد "ولا" تقتضي "ملازمة مقتضيه" أي قطع الأيدي باليد. "وفي الأصل" أي النفس "بأخرى تقتضيهما" أي القصاص ووجوب الدية "أو" بعلة أخرى "لا تلازم مقتض قبل الكل ويرجح" المعترض كون ثبوته في الرفع بعلة أخرى "باتساع مدارك الأحكام" أي أدلتها التي يدرك بها فإن وجوب الدية على الجميع في الفرع بعلة أخرى يوجب التعدد في مدرك حكم الأصل والفرع "وهو" أي اتساع مدارك الأحكام "أكثر فائدة وجوابه" أي هذا السؤال "الأصل عدم" علة "أخرى" "ويرجح الاتحاد" أي اتحاد العلة في الحكم الواحد وهو الدية مثلا على تعددها "بأنها" أي العلة المتحدة "منعكسة" والمنعكسة علة باتفاق بخلاف غيرها والمتفق عليها أرجح(6/53)
"فإن دفعه" أي المعترض الجواب المذكور بأنه معارض "بأن الأصل أيضا عدم علة الأصل في الفرع قال" المستدل إذا تعارض الأصلان وتساقطا كان الترجيح معنا من وجه آخر وهو العلة "المتعدية" من النفس إلى اليد "أولى" من القاصرة على النفس للاتفاق عليها والخلاف في القاصرة ولكثرتها وقلة القاصرة فإنا إذا أثبتنا الحكم في الفرع بعلة الأصل فقد عديناها من الأصل إلى الفرع وإذا لم يثبت بهما فقد قصرنا علة الأصل على الأصل وعلة الفرع على الفرع قال "الآمدي ومنه" أي الاستدلال "وجد السبب" فيثبت الحكم لأن الدليل ما يلزمه المطلوب بتقدير تحققه قطعا أو ظاهرا وما ذكر كذلك والمطلوب وإن توقف وجوده على الدليل في آحاد الصور فوجود الدليل غير متوقف على وجوده بل تميزه في نفسه فلا دور كما في منتهى السول له أي المطلوب يتوقف على الدليل من جهة وجوده في آحاد الصور والدليل يتوقف على لزوم المطلوب من جهة حقيقته فلا دور ثم قال وليس نصا ولا إجماعا ولا قياسا لاحتمال تقرير سببية نص أو إجماع. "و" وجد "المانع وفقد الشرط" فيعدم الحكم "ونفي الحكم لانتفاء مدركه" وقد عرفت أنه المراد بالتعليل بالعدم "والحنفية وكثير على نفيه" أي الاستدلال بأحد(6/54)
ص -368-…هذه الأمور الأربعة "إذ هو دعوى الدليل" فهو بمثابة وجد دليل الحكم فيوجد فلا يسمع ما لم يعين الدليل المدعى وجوده "فالدليل وجود المعين" أي المقتضي أو المانع أو فقد الشرط "منها" أي هذه الأمور المستلزمة للحكم "وأجيب بأنه" أي المذكور "دليل" وهو مثلا هذا حكم وجد سببه وكل حكم وجد سببه فهو موجود "بعض مقدماته نظرية" وهي الصغرى فإن الكبرى بينة "والمختار" عند ابن الحاجب "إن لم يثبت ذلك" أي وجود السبب أو المانع أو فقد الشرط "بأحدها" وهو سهو والصواب بغيرها أي النص والإجماع والقياس "فاستدلال وإلا" فإن ثبت بأحدها "فبأحدها" أي فهو ثابت بأحدها من نص أو إجماع أو قياس لا بالاستدلال "وعلى هذا" التفصيل "يرد الاستدلال مطلقا إلى أحدها إذ ثبوت ذلك التلازم لا بد فيه شرعا منه" أي من أحدها "وإلا" لو لم يكن التلازم ثابتا شرعا بأحدها "فليس" ذلك الحكم الثابت به "حكما شرعيا" لأن الحكم الشرعي لا بد من أن يكون ثابتا بأحدها. "فالحق أنه" أي الاستدلال "كيفية استدلال" بأحد الأربعة التي هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس "لا" دليل "آخر غير الأربعة وتقدم شرع من قبلنا" قبل فصل التعارض بمسألتين "ويرد إلى الكتاب" بقصه له من غير إنكار "والسنة" بقصها له من غير إنكار "وقول الصحابي" وما فيه من التفصيل "ورد إلى السنة" حيث وجب العمل به في المسألة التي يليها فصل التعارض "ورد الاستصحاب إلى ما به ثبت الأصل المحكوم باستمراره" "فهو" أي الاستصحاب "الحكم" ظنا "ببقاء أمر تحقق" سابقا "ولم يظن عدمه" بعد تحققه "وهو حجة عند الشافعية وطائفة من الحنفية" السمرقنديين منهم أبو منصور الماتريدي واختاره صاحب الميزان والحنابلة "مطلقا" أي للإثبات والدفع "ونفاه" أي كونه حجة "كثير" من الحنفية وبعض الشافعية والمتكلمون "مطلقا" أي للإثبات والدفع "وأبو زيد وشمس الأئمة وفخر الإسلام" وصدر الإسلام ومتابعوهم قالوا هو حجة "للدفع" لا للإثبات(6/55)
"والوجه ليس حجة" أصلا كما قال الكثير "والدفع استمرار عدمه" أي عدم ذلك الأمر الطارئ "الأصلي" على ما تحقق وجوده "لأن موجب الوجود ليس موجب بقائه" أي الوجود وكيف لا وبقاء الشيء غير وجوده لأنه استمرار الوجود بعد الحدوث "فالحكم ببقائه" أي الوجود يكون "بلا دليل قالوا" أي القائلون بحجيته مطلقا الحكم ظنا بالبقاء المذكور الذي هو معنى الاستصحاب أمر "ضروري لتصرفات العقلاء باعتباره" أي الحكم ظنا بالبقاء المذكور "من إرسال الرسل والكتب والهدايا" من بلد إلى بلد إلى غير ذلك ولولا الحكم ظنا بالبقاء المذكور لكان ذلك سفها والاتفاق على أنه ليس كذلك وإذ ثبت الحكم ظنا بالبقاء المذكور فهو متبع كما عرف. "ومنهم" أي القائلين بحجيته مطلقا "من استبعده" أي كونه حجة بالضرورة "في محل النزاع فعدلوا إلى أنه لو لم يكن حجة لم يجزم ببقاء الشرائع مع احتمال الرفع" أي طريان الناسخ واللازم باطل للقطع ببقاء شريعة عيسى صلى الله عليه وسلم إلى بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم وبقاء شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم أبدا "و" إلى "الإجماع" أيضا "عليه" أي على الاستصحاب أي اعتباره في كثير من الفروع كما "في نحو بقاء الوضوء والحدث والزوجية والملك" إذا ثبت "مع طرو الشك" في طريان الضد "وأجيب" عن الأول "بمنع(6/56)
ص -369-…الملازمة لجوازه" أي الجزم ببقائها والقطع بعدم نسخها "بغيره" أي بدليل آخر غير الاستصحاب "كتواتر إيجاب العمل في كل شريعة بها" أي بتلك الشريعة لأهلها "إلى ظهور الناسخ" ووجود القاطع على أنه لا نسخ لشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم "وتلك الفروع" ليست مبنية على الاستصحاب بل "لأن الأسباب توجب أحكاما ممتدة" من جواز الصلاة وعدم جوازها وحل الوطء والانتفاع بحسب وضع الشارع "إلى ظهور الناقض شرعا واعلم أن مدار الخلاف" في كون الاستصحاب حجة أو لا مبني "على أن سبق الوجود مع عدم ظن الانتفاء هل هو دليل البقاء فقالوا" أي الشافعية وموافقوهم "نعم فليس الحكم به" أي بالاستصحاب حكما "بلا دليل والحنفية" قالوا "لا إذ لا بد في الدليل من جهة يستلزم بها" المطلوب "وهي" أي الجهة المستلزمة له "منتفية" في حق البقاء "فتفرعت الخلافيات" بين الحنفية والشافعية "فيرث المفقود" من مات من ورثته في غيبته "عنده" أي الشافعي عملا باستصحاب حياته المفيدة لاستحقاقه "لا عندهم" أي الحنفية لأن الإرث من باب الإثبات وحياته بالاستصحاب فلا يوجب استحقاقه. "ولا يورث لأنه" أي عدم الإرث "دفع" للاستحقاق فيثبت بالاستصحاب "وعلى ما حققنا عدمه أصلي" من أنه ليس بحجة أصلا وأن الدفع استمرار العدم الأصلي للأمر الطارئ إنما لا يورث "لعدم سببه" أي الإرث "إذ لم يثبت موته" أي المفقود كما هو الفرض "ولا صلح على إنكار" أي لا صحة له مع إنكار المدعى عليه عند الشافعي "لإثبات استصحاب براءة الذمة" للمدعى عليه التي هي الأصل فكانت حجة على المدعي "كاليمين وصح" الصلح على إنكار "عندهم" أي الحنفية لأن الاستصحاب لا يصلح حجة للإثبات فلا تكون براءة الذمة حجة على المدعي فيصح الصلح "ولم تجب البينة على الشفيع" على الملك المشفوع به لإنكار المشتري الملك المشفوع به للشفيع عند الشافعي لأنه متمسك بالأصل فإن اليد دليل الملك في الظاهر والتمسك بالأصل يصلح حجة(6/57)
للدفع والإلزام جميعا عنده "ووجبت" البينة المذكورة "عندهم" أي الحنفية لأن التمسك بالأصل لا يصلح حجة للإلزام إلى غير ذلك من الخلافيات هذا وأما السبكي فقال واعلم أن علماء الأمة أجمعوا على أنه ثم دليل شرعي غير ما تقدم واختلفوا في تشخيصه فقال قوم هو الاستصحاب وقال قوم هو الاستحسان وقال قوم هو المصالح المرسلة ونحو ذلك وقد علمت موارد استفعل في اللغة. وعندي أن المقصود منها في مصطلح الأصوليين الاتخاذ والمعنى أن هذا باب ما اتخذوه دليلا والسر في جعل هذا الباب متخذا دون الكتاب والسنة والإجماع والقياس أن تلك الأدلة قام القاطع عليها ولم يتنازع المعتبرون في شيء منها فكان منالها لم ينشأ عن صنعهم لاجتهادهم بل أمر ظاهر وأما ما عقد له هذا الباب فهو شيء آخر قاله كل إمام بمقتضى تأدية اجتهاده فكأنه اتخذه دليلا كما قال الشافعي يستدل بالاستصحاب ومالك بالمصالح المرسلة وأبو حنيفة بالاستحسان أن يتخذ كل منهم ذلك دليلا كما يقول يحتج بكذا وهذا معنى مليح في سبب تسميته بالاستدلال والله سبحانه أعلم.(6/58)
ص -370-…المقالة الثالثة
في الاجتهاد وما يتبعه من التقليد والإفتاء
"هو" أي الاجتهاد "لغة بذل الطاقة في تحصيل ذي كلفة" أي مشقة يقال اجتهد في حمل الصخرة ولا يقال اجتهد في حمل النواة والمراد ببذل الوسع استفراغ القوة بحيث يحسن العجز عن المزيد "واصطلاحا ذلك" أي بذل الطاقة "من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظني" فبذل الطاقة جنس يصلح أن يتعلق بالمقصود وغيره وفيه إشارة إلى خروج اجتهاد المقصر وهو الذي يقف عن الطلب مع تمكنه من الزيادة على ما فعل من السعي فإن هذا الاجتهاد لا يعد في اصطلاح الأصوليين اجتهادا معتبرا ومن الفقيه احتراز من بذل الطاقة من غيره في ذلك فإنه ليس باجتهاد اصطلاحي. وفي تحصيل حكم شرعي احتراز من بذلها منه في غيره من حسي أو عقلي فإنه ليس بذلك أيضا وظني قيل لأن القطعي لا اجتهاد فيه وسيأتي منعه وفيه إشارة إلى أن استغراق الأحكام في الاجتهاد ليس بشرط كما أنه ليس من شرط المجتهد أن يكون محيطا بجميع الأحكام ومداركها بالفعل لأن ذلك غير داخل تحت وسع البشر "ونفي الحاجة إلى قيد الفقيه" كما ذكر التفتازاني "للتلازم بينه" أي الفقيه "وبين الاجتهاد" فإنه لا يصير فقيها إلا بعد الاجتهاد ولهذا لم يذكره الغزالي والآمدي اللهم إلا أن يراد بالفقه التهيؤ لمعرفة الأحكام "سهو لأن المذكور" جنسا في التعريف إنما هو "بذل الطاقة لا الاجتهاد ويتصور" بذل الطاقة "من غيره" أي الفقيه "في طلب حكم" شرعي والظاهر كلام الأصوليين أنه لا يتصور فقيه غير مجتهد ولا مجتهد غير فقيه على الإطلاق وهو بالغ عاقل مسلم ذو ملكة يقتدر بها على استنتاج الأحكام من مأخذها. "وشيوع الفقيه لغيره" أي المجتهد "ممن يحفظ الفروع" إنما هو "في غير اصطلاح الأصول" والكلام إنما هو في اصطلاح الأصول "ثم هو" أي هذا التعريف ليس تعريفا للاجتهاد مطلقا بل "تعريف لنوع من الاجتهاد" وهو الاجتهاد في الأحكام الشرعية الظنية "لأن ما" أي الاجتهاد "في العقليات(6/59)
اجتهاد غير أن المصيب" في العقليات "واحد والمخطئ آثم والأحسن تعميمه" أي التعريف في الحكم الشرعي ظنيا كان أو قطعيا "بحذف ظني" فإن الاجتهاد قد يكون في القطعي من الحكم الشرعي ما بين أصلي وفرعي غايته أن الحق فيه واحد والمخالف فيه مخطئ آثم في نوع منه غير آثم في نوع آخر كما سيأتي نعم إن لزم أن يكون محل الاجتهاد لا يحكم فيه بإثم المخطئ فيه احتيج إلى قيد مخرج لما يكون المخطئ آثما فيه من ذلك والشأن في ذلك وحينئذ فقول الآمدي والرازي وموافقهما المجتهد فيه كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي في حيز المنع.
"ثم ينقسم" الاجتهاد "من حيث الحكم" المتعلق به "إلى واجب عينا على المسئول" على الفور في حق غيره "إذا خاف فوت الحادثة" على غير الوجه الشرعي وفي حق نفسه إذا(6/60)
ص -371-…نزلت الحادثة به بهذا الشرط أيضا "وكفاية" أي وإلى واجب كفاية على المسئول في حق غيره "لو لم يخف" فوات الحادثة على غير الوجه الشرعي "وثم غيره" من المجتهدين فيتوجه الوجوب على جميعهم وأخصهم بوجوبه من خص بالسؤال عن الحادثة حتى لو أمسكوا مع ظهور الجواب والصواب لهم أثموا وإن أمسكوا مع التباسه عليهم عذروا ولكن لا يسقط عنهم الطلب وكان فرض الجواب باقيا عند ظهور الصواب كما أشار إليه بقوله "فيأثمون بتركه" أي الاجتهاد حيث لا عذر لهم في تركه "ويسقط" الوجوب عن الكل "بفتوى أحدهم" لحصول المقصود بها "وعلى هذا" أي سقوط الوجوب بفتوى أحدهم لو أن مجتهدا ظن خطأ المفتي فيما أجاب به "لا يجب على من ظنه" أي الجواب "خطأ" الاجتهاد فيه لسقوط الوجوب بذلك الاجتهاد هذا وذكر السبكي أن أصح الوجهين عندهم عدم الإثم بالرد إذا كان هناك غير المسئول وأصحهما فيما إذا كان في الواقعة شهود يحصل الغرض ببعضهم وجوب الإجابة إذا طلب الأداء من البعض قال وفي الفرق غموض انتهى قيل ولعل الفرق أن الفتوى تحتاج إلى نظر وفكر والمشوشات كثيرة بخلاف الشهادة فإنه لا يحتاج فيها إلى ذلك ولا يعرى عن بحث "وكذلك حكم تردد بين قاضيين" مجتهدين مشتركين في النظر فيه يكون وجوب الاجتهاد على كل منهما بالنسبة إلى الآخر وجوب كفاية "أيهما حكم بشرطه" المعتبر فيه شرعا "سقط" الوجوب عنهما وإن تركاه بلا عذر أثما "و" إلى "مندوب" وهو ما "قبلهما" أي وجوبه عينا ووجوبه كفاية كالاجتهاد في حكم شيء بلا سؤال عنه ولا نزوله ليطلع على معرفة حكمه قبل نزوله "ومع سؤال فقط" أي وفيما يستفتى عن حكمه قبل وقوعه "و" إلى "حرام" وهو الاجتهاد "في مقابلة" دليل "قاطع" من "نص" "أو إجماع" "وشرط مطلقه" أي الاجتهاد في حق المجتهد "بعد صحة إيمانه" بمعرفة الباري تعالى وصفاته وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم بمعجزاته فيما جاء به من عند الله، وسائر ما يتوقف عليه ذلك ولو بالأدلة(6/61)
الإجمالية دون التدقيقات التفصيلية على ما هو دأب المتبحرين في الكلام وبلوغه وعقله "معرفة محال جزئيات مفاهيم الألقاب الاصطلاحية المتقدمة للمتن من شخص الكتاب والسنة في الظهور كالظاهر" والنص والمفسر والمحكم "والعام" والخاص "والخفاء كالخفي والمجمل" والمشكل والمتشابه إلى غير ذلك مما تقدم في انقسامات المفرد السابقة في فصولها مما يتعلق بالأحكام بحيث يتمكن من الرجوع إليها عند طلب الحكم كما جزم به غير واحد منهم الإمام الرازي ثم قيل: هو من الكتاب خمسمائة آية كما مشى عليه الغزالي وابن العربي قيل: وكأنهم رأوا مقاتل بن سليمان أول من أفرد آيات الأحكام بالتصنيف ذكرها خمسمائة ودفع بأنه أراد الظاهرة لا الحصر، ومن السنة خمسمائة حديث، وقيل ثلاثة آلاف، وعن أحمد ثلاثمائة ألف، وقيل: خمسمائة ألف وحمل على الاحتياط والتغليظ في الفتيا، أو أراد وصف أكمل الفقهاء، فأما ما لا بد منه فقد قال: الأصول التي يدور عليها العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تكون ألفا ومائتين لا معرفة الجميع، وهو في السنة ظاهر لتعذره لسعتها وإلا لانسد باب الاجتهاد فلا جرم أن قال الشيخ أبو بكر الرازي: ولا يشترط(6/62)
ص -372-…استحضاره جميع ما ورد في ذلك الباب إذ لا يمكن الإحاطة، ولو تصور لما حضر ذهنه عند الاجتهاد، وقد اجتهد عمر وغيره من الصحابة في مسائل كثيرة لم يستحضروا فيها النصوص حتى رويت لهم فرجعوا إليها. وأما في القرآن فقيل: مشكل؛ لأن تمييز آيات الأحكام من غيرها يتوقف على معرفة الجميع بالضرورة، وتقليد الغير في ذلك ممتنع؛ لأن المجتهدين متفاوتون في استنباط الأحكام من الآيات على أن ما يتعلق منه بالأحكام غير منحصر في العدد المذكور بل هو مختلف باختلاف القرائح والأذهان وما يفتحه الله تعالى على عباده من وجوه الاستنباط، ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام بالمطابقة لا بالتضمن والالتزام كما ذكره ابن دقيق العيد وغيره إذ غالب القرآن لا يخلو من أن يستنبط منه حكم شرعي "وهي" أي جزئيات تلك المفاهيم "أقسام اللغة متنا واستعمالا لا حفظها" أي المحال المذكورة عن ظهر قلب كما نبه عليه الغزالي وغيره، وقيل: يجب حفظ ما اختص بالأحكام من القرآن ونقل في القواطع عن كثير من أهل العلم أنه يلزم أن يكون حافظا للقرآن؛ لأن الحافظ أضبط لمعانيه من الناظر فيه ونقله القيرواني في المستوعب عن الشافعي قلت والأول أشبه نعم الحفظ أحسن كما تعليل اللزوم يفيده "وللسند من المتواتر والضعيف والعدل والمستور والجرح والتعديل" قالوا: والبحث عن أحوال الرواة في زماننا مع طول المدة وكثرة الوسائط كالمتعذر فالأولى الاكتفاء بتعديل الأئمة المعروف صحة مذهبهم في التعديل، وكذا الكلام في الجرح "وعدم القاطع" بالرفع عطف على " معرفة " "و" عدم "النسخ" ووجه اشتراط هذه الجملة غير خاف؛ لأن الاستنباط فرع معرفة المستنبط منه. وكيفية الاستنباط وفهم المراد من المستنبط منه واعتباره موقوف على كون المستنبط منه غير مخالف للقاطع ولا منسوخ ولا مجمع على خلافه، وعلى هذا يزاد ومعرفته بمواقع الإجماع كي لا يخرقه، وذلك كما ذكر الغزالي أن يعلم أنه موافق مذهب ذي(6/63)
مذهب من العلماء وأنه واقعة متجددة لا خوض فيها لأهل الإجماع ولا يلزمه حفظ جميع مواقع الإجماع والخلاف. "و" شرط "الخاص منه" أي الاجتهاد معرفة "ما يحتاج إليه من ذلك" المذكور آنفا على اختلاف أصنافه "فيما فيه" الاجتهاد "كذا لكثير" منهم صاحب البديع "بلا حكاية عدم جواز تجزي الاجتهاد" أي أن يقال شخص منصب الاجتهاد في بعض المسائل فيحصل له ما هو مناط الاجتهاد من الأدلة فيها دون غيرها "كأنهم لا يعرفونها" أي حكاية عدم جواز تجزيه "وعليه" أي جواز تجزيه "فرع" أنه يجوز "اجتهاد الفرضي في" علم "الفرائض" بأن يعلم أدلته باستقراء منه أو من مجتهد كامل وينظر فيها "دون غيره" من العلوم الشرعية إذا لم يبلغ فيها رتبة الاجتهاد "وقد حكيت" هذه المسألة في أصول ابن الحاجب وغيرها وذكر فيها جوازه، وهو قول بعض أصحابنا على ما ذكره البستي من مشايخنا ومختار الغزالي ونسبه السبكي وغيره إلى الأكثر وقال: إنه الصحيح وقال ابن دقيق العيد: وهو المختار وسيذكر المصنف أنه الحق في مسألة غير المجتهد المطلق يلزمه التقليد وظاهر كلام ابن الحاجب التوقف "واختار طائفة نفيه مطلقا؛ لأنه" أي المجتهد "وإن ظن حصول كل ما يحتاجه لها" أي للمسألة التي هو مجتهد فيها "احتمل غيبة بعضه" أي(6/64)
ص -373-…ما يحتاجه لها مما يقدح في ظن الحكم "عنه وهذا الاحتمال" المذكور ثابت "كذلك للمطلق" أي للمجتهد المطلق أيضا، وهو الذي يفتي في جميع الأحكام الشرعية فإن ظن كل منهما حصول ما يحتاج إليه في ذلك إنما هو بحسب ظنه لا بحسب الواقع "لكنه" أي هذا الاحتمال "يضعف" أو ينعدم "في حقه" أي المجتهد المطلق "لسعته" أي نظره وإحاطته بالكل بحسب ظنه فيبقى ظنه بالحكم بحاله "ويقوى في غيره" أي غير المجتهد المطلق لعدم إحاطته بالكل بحسب ظنه فلا يبقى بالحكم بحاله فلم يقدح في الحكم بالنسبة إلى المطلق وقدح فيه بالنسبة إلى غيره. "وقد يمنع التفاوت" أي تفاوتهما ما في الاحتمال المذكور "بعد كون الآخر" الذي ليس بمجتهد مطلق "قريبا" من درجة الاجتهاد المطلق محصلا في ذلك المطلوب بخصوصه ما حصله المجتهد المطلق "بل" ذلك المجتهد في المطلوب الخاص "مثله" أي المجتهد المطلق فيه "وسعته" أي المطلق "بحصول مواد أخرى لا توجبه" أي التفاوت في الاحتمال المذكور؛ لأنه لا مدخل لذلك فيه "فإذا وقع" الاجتهاد "في" مسألة "صلوية" أي متعلقة بالصلاة "وفرض" وجود "ما يحتاج إليها من الأدلة والقواعد فسعة الآخر" أي المجتهد المطلق "بحضور مواد" الأحكام "البيعيات والغصبيات" وغيرها من المعاملات مثلا "شيء آخر" لا يوجب التفاوت في الاحتمال المذكور بالنسبة إليهما وحيث لم يقدح هذا بالنسبة إلى المطلق فكذا بالنسبة إلى غيره "وأما ما قيل" من قبل المثبتين "لو شرط" عدم التجزؤ للاجتهاد "شرط في الاجتهاد العلم بكل المآخذ" أي الأدلة. "ويلزم" هذا "علم كل الأحكام" واللازم منتف؛ لأن كثيرا من المجتهدين توقفوا في مسائل بل لم يحط أحد من المجتهدين علما بجميع أحكام الله تعالى "فممنوع الملازمة" أي لا نسلم أن العلم بجميع المآخذ يوجب العلم بجميع الأحكام "للوقف بعده" أي العلم بكل المآخذ المترتب عليه العلم بالأحكام "على الاجتهاد" ثم قد يوجد الاجتهاد ولا يوجد الحكم لتعارض(6/65)
الأدلة وعدم الإطلاع على مرجح أو لتشويش فكر أو غيرهما قلت ثم قد ظهر من هذه الجملة أن ما ذكر ابن الأنباري من تقييد صحة جواز التجزؤ بوجود الإجماع على ضبط مأخذ المسألة المجتهد فيها لا موجب له. وأما قول ابن الزملكاني: الحق التفصيل فما كان من الشروط كليا كقوة الاستنباط ومعرفة مجازي الكلام، وما يقبل من الأدلة وما يرد ونحوه فلا بد من استجماعه بالنسبة إلى كل دليل ومدلول فلا تتجزأ تلك الأهلية، وما كان خاصا بمسألة أو مسائل أو باب، فإذا استجمعه الإنسان بالنسبة إلى ذلك الباب أو تلك المسألة أو المسائل مع الأهلية كان فرضه في ذلك الجزء الاجتهاد دون التقليد فحسن، ولكن ظاهره أنه قول مفصل بين المنع والجواز، وليس كذلك فإن الظاهر أن هذا قول المطلقين لتجزي الاجتهاد. غايته أنه موضح لمحل الخلاف فليتأمل.
"وأما العدالة" في المجتهد "فشرط قبول فتواه" فإنه لا يقبل قول الفاسق في الديانات لا شرط صحة الاجتهاد لجواز أن يكون للفاسق قوة الاجتهاد حتى كان له أن يجتهد لنفسه ويأخذ باجتهاد نفسه، ولا يشترط أيضا الحرية ولا الذكورة ولا علم الكلام ولا علم الفقه(6/66)
ص -374-…لإمكان حصول قوة الاجتهاد بدونها وانتفاء الموجب لاشتراطها، أما الحرية والذكورة فظاهر، وأما علم الكلام فقالوا: لجواز الاستدلال بالأدلة السمعية للجازم بالإسلام تقليدا، وأما علم الفقه فلأنه نتيجة الاجتهاد وثمرته. نعم منصب الاجتهاد في زماننا إنما يحصل بممارسته فهو طريق إليه في هذا الزمان.
مسألة: المختار عند الحنفية المتأخرين أنه عليه السلام مأمور بانتظار الوحي أولاً ما كان راجيه إلى خوف فوت الحادثة:(6/67)
"المختار عند الحنفية" المتأخرين ما عن أكثرهم "أنه عليه السلام مأمور" في حادثة لا وحي فيها "بانتظار الوحي أولا ما كان راجيه" أي الوحي "إلى خوف فوت الحادثة" بلا حكم "ثم بالاجتهاد" ثانيا إذا مضى وقت الانتظار، ولم يوح إليه؛ لأن عدم الوحي إليه فيها إذن في الاجتهاد حينئذ، ثم كون مدة الانتظار مفسرة بهذا، وهو يختلف بحسب الحوادث هو الصحيح، وقيل: هي ثلاثة أيام ولا دليل عليه "وهو" أي الاجتهاد "في حقه" صلى الله عليه وسلم "يخص القياس بخلاف غيره" من المجتهدين "ففي دلالات الألفاظ" على ما هو المراد منها لعروض خفاء واشتباه فيه يكون لغيره فيها الاجتهاد "و" في "البحث عن مخصص العام و" بيان "المراد من المشترك وباقيها" أي الأقسام التي في دلالتها على المراد خفاء من المجمل والمشكل والخفي والمتشابه على قول القائلين الراسخ في العلم بعلم تأويله غير أن الاجتهاد في بيان المراد من المجمل يكون معناه على قول مشايخنا بذل الوسع في الفحص عما جاء من بيانه من قبل المجمل ليقف على مراده منه لما علم من تصريحهم بأنه لا ينال المراد به إلا ببيان من المجمل نعم قد يكون ذلك البيان محتاجا في تحقق المراد به إلى نوع اجتهاد بخلاف المجمل على قول الشافعية، فإن بعض أفراده قد ينال المراد به من غير المجمل عندهم كما تقدم هذا كله في موضعه فيوافق الأقسام الباقية التي في دلالتها خفاء في أن معنى الاجتهاد في بيان المراد به بذل الوسع في الوقوف عليه أعم من أن يكون باتفاق من المتكلم أو بغالب الرأي فليتنبه لذلك. ثم هذا بالنسبة إلى دلالات الألفاظ عطف تفسيري لها أما النبي صلى الله عليه وسلم فكل هذا واضح لديه بلا اجتهاد "و" في "الترجيح" لأحد الدليلين "عند التعارض" بينهما "لعدم علم المتأخر" أي لهذا السبب، وأما للنبي صلى الله عليه وسلم فهذا غير متأت في حقه لانتفاء تحقق التعارض بالنسبة إليه وانتفاء عزوب تأخر المتأخر على المتقدم عن علمه على(6/68)
تقدير وجود صورة التعارض "فإن أقر" صلى الله عليه وسلم على ما أدى إليه اجتهاده عند خوف الحادثة "أوجب" إقراره عليه "القطع بصحته" أي ما أدى إليه اجتهاده لما سيأتي من أن اجتهاده لا يحتمل الخطأ أو أنه لا يقر على الخطأ "فلم يجز مخالفته" كالنص "بخلاف غيره من المجتهدين" فإنه يجوز مخالفته إلى اجتهاد مجتهد آخر لاحتمال الخطأ والقرار عليه "وهو" أي اجتهاده المقر عليه "وحي باطن" على ما عليه فخر الإسلام وموافقوه وسماه شمس الأئمة السرخسي ما يشبه الوحي في حقه صلى الله عليه وسلم وقال: فإن ما يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الطريق فهو بمنزلة الثابت بالوحي لقيام الدليل على أنه يكون صوابا لا محالة فإنه كان لا يقر على الخطأ فكان ذلك منه حجة قاطعة. "والوحي عندهم" أي الحنفية الذين هم فخر الإسلام وموافقوه "باطن(6/69)
ص -375-…هذا" الاجتهاد الذي أقر عليه "وظاهر ثلاثة" من الأقسام "ما يسمعه" النبي صلى الله عليه وسلم "من الملك شفاها" بعد علمه بأن المبلغ ملك نازل بالوحي من الله عز وجل، وهو جبريل عليه السلام المراد بروح القدس في قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102] وبالروح الأمين في قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193- 195] وبرسول كريم في قوله سبحانه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19- 21] بالعلم الضروري أنه هو وهذا أحدها "أو" ما "يشير إليه" الملك "إشارة مفهمة" للمراد من غير بيان بالكلام "وهو المراد بقوله" صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب". وهذا هو المراد بقوله "الحديث" أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام وللحديث ألفاظ أخر عند غيره منها ما عن حذيفة قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم فدعا الناس فقال: "هلموا إلي" فأقبلوا إليه فجلسوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هذا رسول رب العالمين جبريل عليه السلام نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها وإن أبطأ عليها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تأخذوه بمعصية الله فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته" رواه البزار قال الحافظ المنذري ورواته ثقات إلا قدامة بن زائدة بن قدامة فإنه لا يحضرني فيه جرح ولا تعديل ونفث بالمثلثة في روعي بضم الراء ألقى في قلبي وأجملوا في الطلب أي للرزق بمباشرة الأسباب المشروعة أو ترك المبالغة والزيادة في الحرص لئلا يؤدي إلى الوقوع في المحظور معتقدين أن الرزق من الله لا من الكسب وهذا ثانيا. "أو" ما "يلهمه، وهو" أي(6/70)
الإلهام "إلقاء معنى في القلب بلا واسطة عبارة الملك وإشارته مقرون بخلق علم ضروري أنه" أي ذلك المعنى "منه تعالى جعله وحيا ظاهرا" وهذا ثالثها، ولما كان مما يتبادر أن هذا باطن أشار إلى نفيه بتوجيه كونه ظاهرا بقوله "إذ في الملك" أي مشافهته "لا بد من خلق" العلم "الضروري أنه" أي المخاطب "هو" أي الملك فلم يخالفه إلا بعدم مشافته وإشارته، وذلك لا يمنع عده ظاهرا "ولذا" أي كون الإلهام وحيا "كان حجة قطعية" "عليه" صلى الله عليه وسلم "وعلى غيره بخلاف إلهام غيره" من المسلمين فإن فيه أقوالا أحدها حجة في حق الأحكام، وهذا في الميزان معزو إلى قوم من الصوفية بل عزي فيه إلى صنف من الرافضة لقبوا بالجعفرية أنه لا حجة سواه. ثانيها: حجة عليه لا على غيره وهذا ذكره غير واحد منهم صاحب الميزان أي يجب العمل به في حق الملهم ولا يجوز أن يدعو غيره إليه، وعزاه فيه إلى عامة العلماء ومشى عليه الإمام السهروردي واعتمده الإمام الرازي في أدلة القبلة وابن الصباغ من الشافعية قال: ومن علامته أن ينشرح له الصدر ولا يعارضه معارض من خاطر آخر "ثالثها المختار فيه" أي إلهام غيره أنه "لا حجة عليه ولا" على "غيره لعدم ما يوجب نسبته" أي الملهم به "إليه تعالى" هذا وشمس الأئمة السرخسي جعل الوحي الظاهر قسمين ما ثبت بلسان الملك، وما ثبت بإشارته وجعل الباطن ما ثبت بالإلهام قال الشيخ قوام الدين الأتقاني: وما قال شمس الأئمة أحق؛ لأن ما يثبت في القلب بالإلهام ليس بظاهر بل هو(6/71)
ص -376-…باطن، وقد يقال: المراد بالباطن ما ينال المقصود به بالتأمل في الأحكام المنصوصة وبالظاهر ما ينال المقصود به لا بالتأمل فيها وحينئذ ما قاله فخر الإسلام أوجه. قلت: ويبقى عليهما التكليم ليلة الإسراء بلا واسطة، وظاهر أنه من الوحي الظاهر ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ففي صحيح البخاري عن عائشة قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. والظاهر أنهما من الباطن ولم يتعارضا لهما والله سبحانه أعلم.(6/72)
ثم شرع في قسم المختار فقال: "والأكثر" أنه صلى الله عليه وسلم مأمور "بالاجتهاد مطلقا" وغير خاف أن تقدير مأمور هو الذي يقتضيه سوق الكلام وفي شرح البديع لسراج الدين الهندي وقيل بالجواز أي بجواز كونه متعبدا بالاجتهاد مطلقا في الأحكام الشرعية والحروب والأمور الدينية من غير تقييد بشيء منها أو من غير تقييد بانتظار الوحي، وهو مذهب عامة الأصوليين ومالك والشافعي وأحمد وعامة أهل الحديث، ومنقول عن أبي يوسف انتهى ولعل المراد بالأكثر هؤلاء إلا أن المصنف حمل الجواز على كونه مأمورا به موافقة في المعنى لمثل ما في منتهى السول للآمدي ذهب أحمد والقاضي أبو يوسف إلى أن النبي كان متعبدا بالاجتهاد فيما لا نص فيه انتهى. وبناء على أن محل النزاع إنما هو إيجابه عليه وأنه لا قائل بالجواز دون الوجوب كما سيصرح به لكن قول الآمدي بعيد ما قدمناه عنه وجوز الشافعي ذلك في رسالته من غير قطع وبه قال بعض الشافعية والقاضي عبد الجبار انتهى ظاهر في مخالفة هذا ذاك، وأن المراد بهذا مجرد الجواز العقلي كما سيذكره عن بعضهم أيضا، وفي المعتمد لأبي الحسين إن أريد باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم الاستدلال بالنصوص على مراد الله فذلك جائز قطعا، وإن أريد به الاستدلال بالأمارات الشرعية، فإن كانت أخبار آحاد فلا يتأتى منه صلى الله عليه وسلم وإن كانت أمارات مستنبطة يجمع بها بين الأصل والفرع فهو موضع الخلاف في أنه هل كان يجوز له أن يتعبد به والصحيح جوازه وذكر ابن أبي هريرة والماوردي أن في وجوب الاجتهاد عليه بعد جوازه له وجهين وصحح ابن أبي هريرة الوجوب، وقال الماوردي والأصح عندي التفصيل بين حقوق الآدميين فيجب عليه؛ لأنهم لا يصلون إلى حقوقهم إلا باجتهاد، ولا يجب في حقوق الله انتهى، وهذا صريح أيضا في أنه ثم من يقول بالجواز دون الوجوب. "وقيل" أي وقال الأشاعرة وأكثر المعتزلة والمتكلمين: "لا" يكون الاجتهاد في الأحكام الشرعية حظه صلى(6/73)
الله عليه وسلم ثم بعضهم على أنه غير جائز عليه عقلا، وهو عن الجبائي وابنه وبعضهم جائز عليه عقلا، ولكنه لم يتعبد به شرعا ذكره في الكشف وغيره وقيل كان له الاجتهاد في الأمور الدينية والحروب دون الأحكام الشرعية حكاه في شرح البديع "وقيل" كان له الاجتهاد "في الحروب فقط"، وهو محكي عن القاضي والجبائي "لقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] فعوتب على الإذن لما ظهر نفاقهم في التخلف عن غزوة تبوك ولا يكون العتاب فيما صدر عن وحي فيكون عن اجتهاد لامتناع الإذن منه تشهيا ودفعه السبكي بأن غير واحد قال: إنه صلى الله عليه وسلم كان مخيرا في الإذن وعدمه فما ارتكب إلا صوابا فإن الله تعالى يقول {فَأْذَنْ لِمَنْ(6/74)
ص -377-…شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] فلما أذن لهم أعلمه الله بما لم يطلع عليه من شرهم أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا وأنه لا حرج عليهم فيما فعل ولا خطأ قال القشيري: ومن قال العفو لا يكون إلا عن ذنب فهو غير عارف بكلام العرب وإنما معنى عفا الله عنك لم يلزمك ذنبا كما في عفا عن صدقة الخيل ولم يجب عليهم ذلك قط، ومن هنا قال الكرماني ولقائل أنه عتاب على ترك الأولى ولكن لا يعرى عن بحث "و" لقوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [لأنفال:68] فإنها نزلت في فداء أسارى بدر ففي صحيح مسلم عن ابن عباس حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر وساق الحديث إلى أن قال: قال ابن عباس فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر "ما ترون في هؤلاء الأسارى" فقال أبو بكر: هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ترى يا ابن الخطاب" قال: قلت لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكن أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكنني من فلان نسيبا لعمر فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبكي الذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة شجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم" وأنزل الله عز وجل {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [لأنفال: 67] إلى قوله {فَكُلُوا(6/75)
مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [لأنفال: 69] فأحل الله الغنيمة لهم. قال صدر الشريعة أي لولا حكم سبق في اللوح المحفوظ، وهو أنه لا يعاقب أحد بالخطأ، وكان هذا خطأ في الاجتهاد؛ لأنهم نظروا في أن استبقاءهم كان سببا لإسلامهم وتوبتهم وأن فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله وخفي عليهم أن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم وأقل لشوكتهم، وقد رد القاضي أبو زيد هذا فقال في التقويم: فإن قيل أليس الله عاتب رسوله على الفداء وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو نزل العذاب ما نجا إلا عمر" فدل أن أبا بكر كان مخطئا قلنا: هذا لا يجوز أن يعتقد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل برأي أبي بكر ولا بد أن يقع عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقر عليه صوابا والله تعالى قرره عليه فقال: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} وتأويل العتاب {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} وكان لك كرامة خصصت بها رخصة لولا كتاب من الله سبق بهذه الخصوصية لمسكم العذاب لحكم العزيمة على ما قال عمر والوجه الآخر ما كان لنبي أن يكون له أسرى قبل الإثخان، وقد أثخنت يوم بدر فكان لك الأسرى كما كان لسائر الأنبياء عليهم السلام ولكن كان الحكم في الأسرى المن أو القتل دون المفاداة فلولا الكتاب السابق في إباحة الفداء لك لمسكم العذاب. والملخص على هذا ما ذكره الكرماني بحثا، وهو أنه أيضا ترك الأولى، ولو كان حكمه فيه خطأ لكان الأمر بالنقض مع أنه ليس فيه إلزام ذنب(6/76)
ص -378-…للنبي صلى الله عليه وسلم بل فيه بيان ما خص به وفضل من بين سائر الأنبياء فكأنه قال: ما كان هذا النبي غيرك وتريدون الخطاب فيه لمن أراد منهم ذلك وليس المراد بالمريد النبي صلى الله عليه وسلم لعصمته ثم الحاصل من هذا أنه صلى الله عليه وسلم كان له العمل برأيهم عند عدم النص فبرأيه أولى؛ لأنه أقوى على أن في الكشف وغيره، وكلهم اتفقوا أن العمل يجوز له بالرأي في الحروب وأمور الدنيا "وقد قلنا به" أي بوجوب اجتهاده في الحروب مستدلين بما استدلوا به من الآيتين وبوجوب اجتهاده في الأحكام أيضا بآية مفاداة الأسارى فإن جواز مفاداتهم وفسادها من أحكام الشرع. "وثبت" اجتهاده "في الأحكام أيضا بقوله" صلى الله عليه وسلم "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي"، وهو في صحيح مسلم بلفظ "لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة" وفي صحيح البخاري بلفظ "ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت" وذلك حين أذن لمن لم يسق الهدي من أصحابه في حجتهم معه أن يجعلوها عمرة يطوفوا ثم يقصروا؛ لأن السوق مانع من التحلل حتى يبلغ الهدي محله "وسوقه" أي الهدي "متعلق حكم المندوب" فهو مندوب "وهو" أي الندب "حكم شرعي"، ولو لم يكن عن وحي؛ لأنه ليس له أن يبدله من تلقاء نفسه، ولا بالتشهي لامتناعه عليه فكان بالاجتهاد قلت: ومما هو نص صريح في المطلوب أيضا ما عن أم سلمة قالت: جاء رجلان من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي وإنما أقضي برأيي فيما لم ينزل علي فيه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة على عنقه"، وهو حديث حسن أخرجه أبو داود ورواته رواة الصحيح إلا أسامة بن زيد، وهو مدني صدوق في حفظه شيء وأخرج له مسلم استشهادا "ولأنه" أي الاجتهاد "منصب شريف" حتى قيل: إنه أفضل درجات العلم للعباد فإذن "لا يحرمه"(6/77)
أفضل الخلق "وتناله أمته ولأكثرية الثواب لأكثرية المشقة" كما يشير إليه ما أسلفناه في مسألة جواز النسخ من صحيح البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة في العمرة "فاخرجي إلى التنعيم فأهلي ثم آتينا بمكان كذا ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك" وأخرجه الدارقطني والحاكم بلفظ "إن لك من الأجر على قدر نصبك ونفقتك" فإن ظاهره كما ذكره النووي أن الثواب والفضل في العبادة يكثر بكثرة النصب والنفقة، والمراد النصب الذي لا يذمه الشرع وكذا النفقة وفي الاجتهاد من المشقة ما ليس في العمل بدلالة النص لظهوره لكن هذا متعقب بأنه ليس بمطرد مطلقا إذ قد يفضل بعض العبادات الخفيفة على غيرها مما هو أكثر عملا وأشق في صور فالإيمان أفضل الأعمال مع سهولته وخفته على اللسان. وفرض الصبح أفضل من أعداد من الركعات النافلة، ودرهم من الزكاة أفضل من دراهم من الصدقة النافلة، وفريضة في المسجد الحرام أفضل من فرائض في غيره إلى غير ذلك.
"وأما الجواب" عن هذا الدليل كما أشار إليه ابن الحاجب وقرره القاضي عضد الدين "بأن السقوط" للاجتهاد "للدرجة العليا" وهي الوحي فإن متعلقه أعلى من متعلق الاجتهاد فإن الحكم بالوحي مقطوع به بخلافه بالاجتهاد فسقوطه "لا يوجب نقصا في قدره وأجره ولا(6/78)
ص -379-…اختصاص غيره بفضيلة ليست له فقيل" كما أشار إليه التفتازاني "ذلك" أي سقوط الأدنى للأعلى ثم لا يكون فيه نقص آخر ممن لم يتصف بالأدنى ولا اختصاص المتصف به بفضيلة ليست لمن لم يتصف به إنما هو "عند المنافاة" بين الأدنى والأعلى بحيث لا يجتمعان "كالشهادة مع القضاء والتقليد مع الاجتهاد" أما عند عدم المنافاة بينهما فلا يسقط الأدنى بالأعلى، والوحي مع الاجتهاد من هذا القبيل فلا يحرمه النبي صلى الله عليه وسلم. "والحق أن ما سوى هذا" الدليل المعنوي من أدلة المثبتين "لا يفيد محل النزاع، وهو الإيجاب" للاجتهاد عليه فيما لا نص فيه "وأما هذا" الدليل ففي التحقيق أنه لا يفيده أيضا "فقد اقتضت رتبته صلى الله عليه وسلم مرة سقوط" حرمة "ما" يحرم "على غيره" من أمته "كحرمة الزيادة" من الزوجات "على الأربع ومرة لزوم ما ليس" بلازم "عليهم" كمصابرة العدو وإن زاد عددهم بخلاف الأمة فإنه إنما يلزمهم الثبات إذا لم يزد عدد الكفار على الضعف، وإنكار المنكر وتغييره مطلقا؛ لأن الله تعالى وعده بالعصمة والحفظ، وغيره إنما يلزمه عند الإمكان والسؤال على ما صحح إلى غير ذلك. وإذا كان كذلك "فالشأن في تحقيق خصوصية المقتضى في حقه في المواد وعدمه" أي تحقيق خصوصيته في حقه فيها "وغاية ما يمكن" فيما نحن فيه "أنها" أي أدلة المثبتين "لدفع المنع" لوجوب الاجتهاد عليه عند عدم النص في ذلك، وإذا اندفع منع وجوبه عليه "فيثبت الوجوب إذ لا قائل بالجواز دونه" أي الوجوب ولكن قد عرفت ما على هذا من التعقب واحتج "المانع" لتعبده صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد بقوله تعالى: "{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ}" أي ما ينطق به " {إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [لنجم: 4]" إذ هو ظاهر في العموم أي كل ما ينطق به فهو عن وحي فينتفي الاجتهاد "أجيب بتخصيصه" أي هذا النص "بسببه" فإنه نزل "لنفي دعواهم" أي الكفار "افتراءه" القرآن وحينئذ فالمراد بقوله: إن هو(6/79)
القرآن فينتفي العموم "سلمنا عمومه" في القرآن وغيره بناء على أن خصوص السبب لا يوجب خصوص الحكم وأنه ليس هنا ما يقتضي التخصيص بما يبلغه عن الله تعالى من القرآن فلا نسلم أن عموم قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} ينافي جواز اجتهاده "فالقول عن الاجتهاد ليس عن الهوى بل عن الأمر به" أي بالاجتهاد وحيا فيكون الاجتهاد وما يستند إليه وحيا. "وهذا وإن كان خلاف الظاهر، وهو" أي الظاهر "أن ما ينطق به نفس ما يوحى إليه" والحكم الثابت بالاجتهاد على هذا إنما هو بالوحي لا وحي "يجب المصير إليه للدليل المذكور" أي الدال على وقوع الاجتهاد من نحو {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة: 43] و {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [لأنفال: 67] الآيتين "ولا يحتاجه" أي الدليل المذكور في الحمل المذكور "الحنفية إذ هو" أي اجتهاده "وحي باطن" إذ أقر عليه عند فخر الإسلام وموافقيه وبمنزلة الوحي عند شمس الأئمة.
"قالوا" أي مانعو تعبده بالاجتهاد ثانيا: "لو جاز" له الاجتهاد "جازت مخالفته" أي اجتهاده للمجتهدين؛ لأن جواز المخالفة من أحكام الاجتهاد إذ يجوز للمجتهد مخالفة المجتهد؛ لأنه لا قطع بأن الحكم الصادر من الاجتهاد حكم الله لاحتمال الإصابة، والخطأ، والجواب منع لزوم أحكام الاجتهاد له مطلقا بل إذا لم يقترن به ما يمنع مخالفته من قطع به، ومن ثمة لم تجز(6/80)
ص -380-…مخالفة اجتهاد صار سندا للإجماع وهذا اقترن به ما يمنع مخالفته كما أشار إليه بقوله "وتقدم" في أوائل المسألة "ما يدفعه" يعني قوله: فإن أقر وجب القطع بصحته فلم يجز مخالفته ويأتي أيضا.
"قالوا" أي المانعون المذكورون ثالثا "لو أمر" النبي صلى الله عليه وسلم "به" أي بالاجتهاد "لم يؤخر جوابا" عن سؤال بل يجتهد ويجيب لوجوبه عليه "وكثيرا ما أخر" جواب كثير من المسائل كحكم الظهار وقذف الزوجة بالزنا وما تضمنه الحديث الحسن الذي أخرجه أحمد، والطبراني وغيرهما أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي البلاد شر قال: "لا أدري حتى أسأل" فسأل جبريل عن ذلك فقال: "لا أدري حتى أسأل ربي." فانطلق فلبث ما شاء الله ثم جاء فقال: "إني سألت ربي عن ذلك فقال: شر البلاد الأسواق" "الجواب جاز" التأخير "لاشتراط الانتظار" للوحي ما كان راجيه إلى خوف الحادثة "كالحنفية أو لاستدعائه" أي الاجتهاد "زمانا" فإن استفراغ الوسع يستدعي زمانا أو لكون المسئول عنه مما لا مساغ للاجتهاد فيه.(6/81)
"قالوا" أي المانعون المذكورون: رابعا هو قادر على اليقين في الحكم بالوحي، والحكم بالاجتهاد لا يفيد إلا ظنا ومعلوم أنه "لا يجوز الظن مع القدرة على اليقين" إجماعا، ومن ثمة حرم على معاين القبلة الاجتهاد فيها فلا يجوز له الحكم بالاجتهاد "أجيب بالمنع" أي منع كونه قادرا على اليقين قال المصنف: "فإن" كان هذا المنع "بمعنى أنه" أي اليقين، وهو الوحي هنا "غير مقدور له فصحيح" إذ لا قدرة له على وصول الوحي إليه "لكنه"، والوجه الظاهر، وهو أي هذا المنع بهذا المعنى "لا يوجب النفي" لتعبده بالاجتهاد "بل" إنما يوجب "أن لا يجتهد إلى اليأس من الوحي أو" إلى "غلبة ظنه" أي اليأس من الوحي "مع خوف الفوت" للحادثة بلا حكم "وهو" أي وهذا "قول الحنفية كل من طريقي الظن، واليقين" بالحكم "ممكن فيجب تقديم الثاني" أي اليقين "بالانتظار" للوحي "فإذا غلب ظن عدمه" أي الوحي "وجد شرط الاجتهاد، وهو" أي قول الحنفية "المختار" ومما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان من شأنه الانتظار للوحي فيما يسأل عنه، ولم يكن أوحي إليه فيه شيء ما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم "إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض قيل ما بركات الأرض قال زهرة الدنيا فقال له رجل هل يأتي الخير بالشر فصمت حتى ظننت أنه سينزل عليه ثم جعل يمسح عن جبينه" وفي رواية لمسلم فأفاق يمسح عنه الرحضاء، وهو العرق وقال: "أين السائل" قال: ها أنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الخير لا يأتي إلا بالخير" الحديث وكان صلى الله عليه وسلم إذا أوحي إليه يتحدر منه مثل الجمان من العرق من شدة الوحي وثقله عليه "وإن" كان هذا المنع "بمعنى جواز تركه" أي اليقين "مع القدرة" عليه "إلى محتمل الخطأ مختارا فيمنعه" أي جواز ترك اليقين إلى محتمل الخطأ "العقل وما أوهمه" أي جوازه "سيأتي جوابه" غير أن هذا الشق لا يحتمله مع كونه قادرا على اليقين الذي هو محل الترديد اللهم(6/82)
إلا فرضا ولا داعي إليه "وقد ظهر من المختار جوازا لخطأ عليه عليه السلام" أي على اجتهاده "إلا أنه لا يقر(6/83)
ص -381-…عليه" أي على الخطأ "بخلاف غيره" من المجتهدين، وهذا قول أكثر الحنفية ونقله الآمدي عن الشافعية، والحنابلة وأصحاب الحديث واختاره هو وابن الحاجب "وقيل بامتناعه" أي جواز الخطأ على اجتهاده نقله في الكشف وغيره عن أكثر العلماء. وقال الإمام الرازي والصفي الهندي: إنه الحق وجزم به الحليمي والبيضاوي وذكر السبكي أنه الصواب وأن الشافعي نص عليه في مواضع من الأم "لأنه" أي اجتهاده "أولى بالعصمة عن الخطأ من الإجماع؛ لأن عصمته" أي الإجماع عن الخطإ "لنسبته" أي الإجماع بواسطة الأمة "إليه" أي النبي صلى الله عليه وسلم "وللزوم جواز الأمر باتباع الخطإ"؛ لأنا مأمورون باتباعه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] إلى غير ذلك "و" لزوم "الشك في قوله" صلى الله عليه وسلم أصواب هو أم خطأ "فيخل بمقصود البعثة"، وهو الوثوق بما يقول: إنه حكم الله "أجيب عن هذا" الأخير "بأن المخل ما في الرسالة" أي جواز الخطإ فيما ينقله عن الله تعالى من إرساله، وهو معلوم الانتفاء بدلالة تصديق المعجزة لا تجويز الخطإ في اجتهاده "و" أجيب "عما قبله"، وهو لزوم جواز الأمر باتباع الخطإ "بمنع بطلانه" بوجوب اتباع العوام للمجتهدين منا مع جواز تقريرهم على الخطإ فضلا عن خطئهم فيه وتعقب الفاضل الكرماني هذا النقض بأنه غير وارد؛ لأن المتابعة إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله، والعامي لا يتبع المجتهد في اجتهاده بل يقلده، والفرق بين صورة النقض وما لزم من الدليل أن المأمور باتباعه قادر على الإصابة كالمجتهد ولا كذلك العامي، وإذن لم يؤمر أحد بالخطأ، وإنما العامي مأمور بالتقليد، والخطأ واقع في طريقه. قال الفاضل الأبهري: والأول مدفوع؛ لأن الوجه المذكور في تعريف المتابعة جهة للفعل وكيفية له، والاجتهاد ليس كذلك بل هو كيفية للمجتهد، والفاعل فتعريفه المتابعة لا(6/84)
يقتضي الاتباع في الاجتهاد، وعلى تقدير الاقتضاء اتباع الاجتهاد مخصوص من الأمر بالاتباع إجماعا سواء كان الأمر باتباع الرسول عليه السلام أو باتباع غيره من المجتهدين، وقد ذكر صاحب المنهاج كونه مخصوصا في بيان حجة الإجماع، وكذا الثاني؛ لأن جميع الأمة مأمورون بمتابعة الرسول عليه السلام سواء في ذلك مجتهدهم ومقلدهم فلا فرق. وأيضا مقدور المجتهد تحصيل الظن بالحكم لا الإصابة فيه وإذا جاز كون اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم خطأ فاجتهاد غيره أولى بجواز كونه خطأ وكذا الثالث؛ لأن الأمر بالاتباع أمر باتباع الفعل كما ذكره، وإذا كان إيقاعه على الوجه الذي فعله خطأ كان العامي مأمورا بالخطأ هذا وحل الاستدلال المذكور أن الحكم الخطأ له جهتان كونه غير مطابق للواقع وكونه مجتهدا فيه فالأمر فيه للجهة الثانية لا الأولى ولا امتناع فيه فإن المجتهد مأمور بالعمل بما أدى إليه اجتهاده إجماعا، وإن كان خطأ فلا بعد في أمر غيره أيضا بالعمل به لذلك، وإلى ملخص هذا يشير قوله "على أن الأمر باتباعه" أي الاجتهاد إنما هو "من حيث هو" أي الحكم الاجتهادي "صواب في نظر العالم وإن خالف نفس الأمر"، والحاصل أنه يؤدي إلى العمل بالاجتهاد الذي هو صواب عملا كما هو مذهب المخطئة أو مطلقا كما هو مذهب المصوبة ولا بأس "و" أجيب "عن الأول"، وهو أنه أولى بالعصمة من الإجماع "بأن(6/85)
ص -382-…اختصاصه" صلى الله عليه وسلم "برتبة النبوة وإن رتبة العصمة للأمة لاتباعهم" له "لا يقتضي لزوم هذه الرتبة له كالإمام" الأعظم "ولا يلزم له رتبة القضاء" وإن كانت مستفادة منه ثم لا يعود ذلك عليه بنقص وانحطاط درجة فكذا هنا "وتقدم ما يدفعه" من أن هذا إنما هو عند المنافاة ولا منافاة بين مرتبة النبوة ودرجة الاجتهاد "وأيضا فالوقوع" للاجتهاد "يقطع الشغب" بالسكون أي النزاع في الجواز كما عليه الجمهور منهم الآمدي وابن الحاجب "ودليله" أي الوقوع قوله تعالى: "عفا الله عنك" الآية وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [لأنفال: 67] الآية "حتى قال عليه السلام "لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلا عمر" رواه الواقدي في كتاب المغازي، والطبري بلفظ "لما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ" إلا أنه يطرق الاستدلال على الوقوع بالآية الأولى ما سلف من قول إنه كان مخيرا في الإذن، والعتاب بها على ما يشوبه من بحث نعم لا يضر في الاستدلال على الوقوع بالآية الثانية ما سلف فيها عن القاضي أبي زيد فليتأمل وحينئذ ينتفي إنكار وقوعه مطلقا كما عليه بعضهم، والتوقف فيه كما اختاره القاضي والغزالي في المستصفى "وبه" أي بالوقوع "يدفع دفع الدليل القائل لو جاز" امتناع الخطأ عليه، والأحسن كما قال ابن الحاجب لو امتنع "لكان" امتناعه عليه "لمانع"؛ لأن الخطأ ممكن لذاته "والأصل عدمه" أي المانع "بأن المانع" من جوازه "علو رتبته وكمال عقله وقوة حدسه وفهمه" صلى الله عليه وسلم كما ذكر هذا الدفع العلامة، وقد أجيب أيضا بأن هذه الأوصاف لا تؤثر في المنع؛ لأن جواز الخطإ، والسهو من لوازم الطبيعة البشرية، فإذا جاز سهوه حال مناجاته مع الرب سبحانه وتعالى على ما روي أنه صلى الله عليه وسلم سها فسجد فجواز الخطإ عليه في غير حال الصلاة بالطريق الأولى. "وأما الاستدلال" لجواز الخطإ عليه "بقوله" صلى الله عليه وسلم:(6/86)
"إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار" متفق عليه "وقوله" صلى الله عليه وسلم "أنا أحكم بالظاهر" وقدمنا في فصل شرائط الراوي عن المزي، والذهبي وشيخنا أنه لا وجود له وأن ابن كثير قال: يؤخذ معناه من الحديث السابق إلى غير ذلك "فليس بشيء" مثبت له؛ لأن الخلاف إنما هو في الخطإ في استنباط الحكم الشرعي عن أمارته لا في الخطإ في ثبوت الحكم الشرعي لمعين في أنه هل يندرج تحت العموم الذي أثبت له حكم هو صواب كما إذا جزم بأن الخمر حرام، ثم زعم أن هذا المائع خمر محرم لحرمته فإن الاندراج وعدمه ليس من الأحكام الشرعية "وكذا" ليس بشيء "ما يوهمه عبارة بعضهم من ثبوت الخلاف في الإقرار على الخطإ فيه" أي الاجتهاد، وهو القاضي عضد الدين فإنه قال: أقول بناء على أن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز له الاجتهاد فهل يجوز عليه الخطأ فيه خلاف، فإذا وقع هل يقرر عليه أو ينبه على الخطإ المختار أنه لا يقرر انتهى. "بل" كما قال المصنف "نفيه" أي الإقرار عليه "اتفاق" كما صرح به العلامة ثم قد ظهر سقوط التوقف في جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم كما مال إليه الإمام الرازي وعزاه في المحصول لأكثر المحققين هذا، وقد ذكر القرافي أن محل(6/87)
ص -383-…الخلاف الفتاوى أما الأقضية فيجوز الاجتهاد فيها بالإجماع ولم أقف على هذا لغيره، والوجه غير ظاهر.
فرع قال الغزالي: وإذا اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم فقاس فرعا على أصل فيجوز القياس على هذا الفرع؛ لأنه صار أصلا بالنص، وكذا لو أجمعت الأمة عليه، وهو حسن ظاهر والله سبحانه أعلم.
مسألة: قالت طائفة: لا يجوز عقلاً اجتهاد غير النبي صلى الله عليه وسلم في عصره
"طائفة لا يجوز" عقلا "اجتهاد غيره" أي النبي صلى الله عليه وسلم "في عصره عليه السلام، والأكثر يجوز" عقلا "فقيل" يجوز "مطلقا" أي بحضرته وغيبته نقله إلكيا عن محمد بن الحسن، وهو المختار عند الأكثرين منهم القاضي والغزالي والآمدي والرازي "وقيل" يجوز "بشرط غيبته للقضاة"، والولاة دون غيرهم. "وقيل" يجوز "بإذن خاص" ثم منهم من شرط صريحه، ومنهم من نزل السكوت عن المنع منه مع العلم بوقوعه منزلة الإذن "وفي الوقوع" مذاهب "نعم" وقع "مطلقا" أي في حضوره وغيبته لكن "ظنا" واختاره الآمدي وابن الحاجب قال السبكي ولم يقل أحد: إنه وقع قطعا "ولا" أي لم يقع أصلا ", والمشهور أنه" أي هذا مذهب "للجبائي وأبي هاشم، والوقف" في الوقوع مطلقا ونسبه الآمدي إلى الجبائي "وقيل" الوقف "فيمن بحضرته" صلى الله عليه وسلم "لا من غاب"، وهو مذهب عبد الجبار ونقله الرازي عن الأكثرين ومال إلى اختياره. وقيل: وقع للغائب دون الحاضر واختاره القاضي في التقريب والغزالي في المستصفى وابن الصباغ وإليه ميل إمام الحرمين ونقله إلكيا عن أكثر الفقهاء، والمتكلمين قال: وهو أدخل في الاستقامة وأميل إلى الاقتصاد من حيث تعذر المراجعة مع تنائي الدار في كل واقعة وقال القاضي عبد الوهاب: إنه الأقوى على أصول المالكية وقال صاحب اللباب: إنه الصحيح "الوقف لا دليل" يدل على الوقوع مطلقا في المطلق وفيمن بحضرته للمقيد به وكل من الوقوع وعدمه جائز فلا يحكم بأحدهما إلا بدليل "المانع" مطلقا مجتهد وعصره(6/88)
"قادرون على العلم بالرجوع إليه فامتنع ارتكاب طريق الظن"، وهو الاجتهاد؛ لأن القدرة على العلم تمنعه "أجيب بمنع الملازمة بقول أبي بكر" رضي الله عنه في حديث أبي قتادة الأنصاري خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين فذكر قصته في قتله القتيل وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل قتيلا فله سلبه"، وقوله: فقمت فقلت من يشهد لي ثم جلست ثم قال مثل ذلك الثانية فقمت فقلت من يشهد لي ثم جلست ثم قال الثالثة مثله فقمت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لك أبا قتادة" فقصصت عليه القصة فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله وسلب ذلك القتيل عندي فأرضه عني فقال أبو بكر جوابا لهذا القائل لاها الله إذن لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه فقال عليه السلام "صدق" فإن الظاهر أن هذا من أبي بكر رضي الله عنه بالاجتهاد، وهو بحضرته، وقد صوبه صلى الله عليه وسلم بتصديقه له في ذلك، والحديث في الصحيحين هذا وقد ذكر ابن مالك وغيره في(6/89)
ص -384-…لاها الله أربع لغات: حذف ألف ها وإثباتها كلاهما مع وصل همزة الله وقطعها ثم إن المصنف أسقط إذا مع ثبوتها في الرواية إما اختصارا، وإما لما في ذلك من المقال فقد أنكر الخطابي وغيره من أهل العربية ثبوت الألف في أول إذا وقالوا: إنه تعبير من بعض الرواة وصوابه لاها الله ذا بغير ألف في أوله قالوا، ومنهم ابن الحاجب؛ لأن العرب لا تقول لاها الله إلا مع ذا. ولو سلم أنه يقال مع غير ذا كما نص عليه ابن مالك فليس هذا موضع إذن؛ لأنها تقع جوابا وجزاء وهي هنا جواب لقول من طلب السلب، وهو غير قاتل مع أنها ليست جزاء لفعله الذي هو الطلب وإلا لقال: إذن تعمد ويمكن أن يقال: هي جزاء لإقراره بأن السلب لأبي قتادة؛ لأن إقراره سبب لعدم العمد إلى إعطاء ما هو حق غيره لا لطلبه، والرواة ثقات فحمل روايتهم على التصحيف بعيد، ومن هذا قال بعض المتأخرين من النحويين: جعل لا يعمد جواب فأرضه عني ليس بصحيح وإنما هو جواب شرط مقدر يدل عليه قول الشاهد لأبي قتادة صدق فكأن أبا بكر رضي الله عنه قال: إذا صدق أنه صاحب السلب إذن لا يعمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعطيك سلبه، والجزاء على هذا صحيح؛ لأن صدقه سبب في أن لا يعمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سلبه فيعطيه من طلبه وهذا واضح لا تكلف فيه "وتقدم" في التي قبل هذه "أن ترك اليقين لطالب الصواب إلى محتمل الخطإ مختارا يأباه العقل" فلا يكون الاجتهاد مع إمكان الرجوع إليه تركا لليقين إلى محتمل الخطإ غير أن هذا لا يتم الاستدلال به على الجواز بحضرته وغيبته بناء على ما قيل بأن هذا يدل على أن أبا بكر رضي الله عنه كان مخيرا بين أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيعلم أو يجتهد فيحكم إذ لو تعين عليه العلم بالرجوع إليه صلى الله عليه وسلم لما جاز له العدول إلى الاجتهاد بل يتم على الجواز بحضرته كما أشير إليه بقوله "واجتهاد أبي بكر في هذه الحالة لا يستلزم تخييره مطلقا لعلمه"(6/90)
أي أبي بكر "أنه لكونه بحضرته" صلى الله عليه وسلم "إن خالف" الصواب في اجتهاد "رده" أي اجتهاده وهذا مفقود إذا كان في غيبته ولم يوقف عليه. "فالوجه جوازه" أي الاجتهاد في عصره "للغائب" عنه صلى الله عليه وسلم سواء كان قاضيا أو لا "ضرورة"، والظاهر أنها إنما تتحقق عند تعسر الرجوع أو تعذره عليه فيحسن تقييده بمن هو بهذه الحالة فلا يجوز لمن ليس بها لسهولة المراجعة عليه ثم قصة معاذ الشهيرة في إرساله إلى اليمن شاهدة بذلك وقصر الجواز على القضاة، والولاة لحفظ منصبهم عن استنقاص الرعية لهم إذا رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقع لهم بخلاف غيرهم مما يتعجب من تكلف كتابته بلا تعقبه بالرد "والحاضر بشرط أمن الخطإ هو" أي أمنه "بأحد أمرين حضرته" كما تقدم لأبي بكر رضي الله عنه "أو إذنه" في ذلك "كتحكيمه سعد بن معاذ في بني قريظة"، ومن ثمة لما حكم بقتل الرجال وقسم الأموال وسبي الذراري، والنساء قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله" كما في الصحيحين. وفي رواية ابن سعد في الطبقات "الذي حكم به من فوق سبع سموات" وكلاهما يرجحان كسر اللام في الرواية الأخرى في الصحيحين بحكم الملك والله سبحانه أعلم.
مسألة: العقليات ما لا يتوقف على سمع كحدوث العالم الخ
"العقليات ما لا يتوقف على سمع كحدوث العالم ووجود موجده تعالى بصفاته وبعثه(6/91)
ص -385-…الرسل، والمصيب من مجتهديها" أي العقليات "واحد اتفاقا"، وهو الذي طابق اجتهاده الواقع فأصاب الحق لعدم إمكان وقوع النقيضين في نفس الأمر "والمخطئ" منهم "إن" أخطأ "فيما ينفي ملة الإسلام" كلا أو بعضا "فكافر آثم مطلقا" أي اجتهد وعجز عن معرفة الحق أو لم يجتهد "عند المعتزلة أي بعد البلوغ وقبله" أيضا "بعد تأهله للنظر وبشرط البلوغ عند من أسلفنا" في فصل الحاكم "من الحنفية كفخر الإسلام إذا أدرك مدة التأمل" وقدرها إلى الله تعالى كما سلف ثمة "إن لم يبلغه سمع ومطلقا" أي أدرك مدة التأمل أم لا "إن بلغه" السمع "وبشرط بلوغه" أي السمع إياه "للأشعرية وقدمناه" ثمة "عن بخاري الحنفية، وهو المختار"؛ لأن حقيقة ملة الإسلام أبين من النهار لا مجال لنفيها بالاجتهاد ولا بغيره إذ الاجتهاد إنما يكون فيما فيه خفاء وغموض، والمعاند مكابر فيها "وإن" كان ما أخطأ فيه "غيرها" أي ملة الإسلام من المسائل الدينية "كخلق القرآن" أي القول بخلقه "وإرادة الشر" أي القول بعدم إرادة الله تعالى الشر فكان الأولى عدم إرادة الشر "فمبتدع آثم لا كافر وسيأتي فيه" أي في هذا النوع "زيادة" في التتمة التي تلي المسألة التي بعد هذه وما عن الشافعي من تكفير القائل بخلق القرآن فجمهور أصحابه تأولوه على كفران النعمة كما قاله النووي وغيره وإن كان من غير المسائل الدينية كوجوب تركيب الأجسام من ثمانية أجزاء ونحوه فلا المخطئ فيه آثم ولا المصيب فيه مأجور إذ يجري مثل هذا مجرى الخطإ في أن مكة أكبر من المدينة أو أصغر كذا في بحر الزركشي هذا كله في الكلامية "وأما الفقهية فمنكر الضروري" منها "كالأركان" أي فرضية الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج التي هي الأركان الأربعة للإسلام بعد الشهادتين "وحرمة الزنا، والشرب" للخمر وقتل النفس المحرمة، والربا "والسرقة كذلك" أي كافر آثم لتكذيبه الله ورسوله "لانتفاء شرط الاجتهاد"، وهو كون المجتهد فيه نظريا "فهو إنكار(6/92)
للمعلوم ابتداء عنادا أو" منكر "غيرها" أي الضرورية "الأصلية" القطعية من الفقهية "ككون الإجماع حجة، والخبر" أي خبر الواحد حجة "والقياس" حجة فهو مخطئ "آثم" وقال القرافي، وقد خالف جماعة من الأئمة في مسائل ضعيفة المدارك كالإجماع السكوتي، والإجماع على الحروب ونحوهما فلا ينبغي تأثيمه؛ لأنها ليست قطعية كما أنا في أصول الدين لا نؤثم من يقول: العرض يبقى زمانين، أو يقول بنفي الخلاء وإثبات الملاء وغير ذلك "بخلاف" إنكار "حجية القرآن"، والسنة "فإنه" أي إنكارها "كفر و" منكر "غيرها" أي الضرورية "الفرعية" الاجتهادية من الفقهية "فالقطع لا إثم، وهو" أي، والقطع بنفي الإثم "مقيد بوجود شرط حله" أي الاجتهاد "من عدم كونه في مقابلة قاطع نص، أو إجماع ولا يعبأ" أي لا يعتد "بتأثيم بشر" المريسي "والأصم" أبي بكر وابن علية، والظاهرية، والإمامية المخطئ في الاجتهاد في الأحكام الشرعية الفرعية الاجتهادية بناء على أن ما من مسألة إلا، والحق فيها متعين وعليه دليل قاطع فمن أخطأه فهو آثم غير كافر ويفسق على ما ذكر ابن برهان ولا يفسق على ما ذكر الآمدي وغيره عنهم، وإنما لا يعبأ به "لدلالة إجماع الصحابة على نفيه" أي تأثيم المخطئ فيها "إذ شاع اختلافهم" في المسائل الاجتهادية ومعلوم أن الحق ليس مع(6/93)
ص -386-…الجميع "ولم ينقل تأثيم" من بعضهم لبعض معين بأن يقول أحد الفريقين: الآخر آثم ولا مبهم بأن يقولوا: أحدنا آثم "ولو كان" أي وجد الإثم للمخطئ "لوقع" ذكره؛ لأنه أمر خطير من المهمات، ولو ذكر لنقل واشتهر ولما لم ينقل تأثيم علم قطعا عدم الإثم. "ولو استؤنس لهما" أي بشر والأصم "بقول ابن عباس ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا" ذكره في التقويم "أمكن" القدح في دعوى الإجماع على عدم التأثيم به لكن هذا إذا اتبع ابن عباس على مثله "لكنه" أي ابن عباس "لم يتبع على مثله إذ وقائع الخلاف أكثر من أن تحصى ولا تأثيم" من بعضهم لبعض فيها منقول عنهم، وقال "الجاحظ: لا إثم على مجتهد، ولو" كان الاجتهاد "في نفي الإسلام، وإن" كان نفيه اجتهادا "ممن ليس مسلما وتجري عليه" أي النافي في الدنيا "أحكام الكفار، وهو" أي نفي الإثم "مراد" عبد الله بن الحسن قاضي البصرة المعتزلي "العنبري بقوله: المجتهد في العقليات مصيب وإلا" لو لم يكن مراده هذا بل أراد وقوع معتقده في نفس الأمر "اجتمع النقيضان" في شيء واحد بتقدير اختلاف المجتهدين في القضايا العقلية كالقدم، والحدوث في اعتقاد قدم العالم وحدوثه "في نفس الأمر" فخرج عن المعقول؛ لأن النقيضين لا يكونان حقين في نفس الأمر هذا ما مشى عليه الآمدي وغيره ونفى السبكي أن يكون أراد نفي الإثم فإن ذلك مذهب الجاحظ بلا زيادة بل أراد أن ما يؤدي إليه اجتهاده فهو حكم الله في حقه سواء وافق ما في نفس الأمر أم لا ووافقه الكرماني على هذا وتعقبه التفتازاني بأن الكلام في العقليات التي لا دخل فيها الوضع الشارع ككون العالم قديما وكون الصانع ممكن الرؤية، أو ممتنعها ثم قال السبكي ثم قيل: إنه عمم في العقليات حتى يشمل أصول الديانات وإن اليهود، والنصارى، والمجوس على صواب، وهذا ما ذكر القاضي في التقريب أنه المشهور عنه، وقيل: أراد أصول الديانات التي يختلف فيها أهل(6/94)
القبلة ويرجع المخالفون فيها إلى آيات وآثار محتملة للتأويل كالرؤية وخلق الأفعال. وأما ما اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل كاليهود، والنصارى، والمجوس فإن في هذا الموضع أن الحق فيما يقوله أهل الإسلام حكاه صاحب القواطع ثم قال: وينبغي أن يكون التأويل على هذا الوجه؛ لأنا لا نظن أن أحدا من هذه الأمة لا يقطع بتضليل اليهود، والنصارى، والمجوس وأن قولهم باطل قطعا ولأن الدلائل القطعية قامت لأهل الإسلام في بطلان قول هؤلاء الفرق، والدلائل القطعية توجب الاعتقاد القطعي فلم يكن بد من القول بأنهم ضالون مخطئون قطعا، وإذا ثبت هذا فيما يخالفنا فيه أهل الملل فكذلك فيما يخالفنا فيه القدرية، والمجسمة، والجهمية، والروافض، والخوارج وسائر من يخالف أهل السنة؛ لأنا نقول: إن الدلائل القطعية قد قامت لأهل السنة على ما يوافق عقائدهم فيثبت ما اعتقدوه قطعا، وإذا ثبت ما اعتقدوه قطعا حكم ببطلان ما يخالفه قطعا، وإذا حكم ببطلان ذلك قطعا ثبت أنهم ضلال ومبتدعة انتهى. ومشى على هذا التأويل لمذهب العنبري الكرماني والتفتازاني واستشهد السبكي له بما نقله صاحب القواطع عنه أيضا أنه حكي عنه أنه كان يقول في مثبتي القدر: هؤلاء قوم عظموا الله، وفي نافيه: هؤلاء نزهوا الله ولم ينقل عنه مثل ذلك في حق اليهود، والنصارى وأمثالهم ثم(6/95)
ص -387-…قال السبكي: وعلى هذا ينبغي حمل مذهب الجاحظ أيضا ولكن صرح القاضي عنه في التقريب بخلافه فانتفى ما في حاشية الأبهري وقول من زعم أن يكون الخلاف في الكافر الذي هو من أهل القبلة لاستبعاد الخلاف من المسلم في كون اليهودي مخطئا في نفيه رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم ليس على ما ينبغي؛ لأن القول بأن اليهودي غير مخطئ في نفي رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم ليس بأبعد من القول بأن المجسمة من أهل القبلة غير مخطئة في أن الله جسم وفي جهة انتهى.(6/96)
"لنا إجماع المسلمين قبل المخالف من الصحابة وغيرهم من لدنه عليه السلام وهلم عصرا تلو عصر على قتال الكفار وأنهم في النار بلا فرق بين مجتهد ومعاند مع علمهم بأن كفرهم ليس بعد ظهور حقية الإسلام لهم" جميعهم بل لبعضهم. ولو كانوا غير آثمين لما ساغ قتالهم وأنهم من أهل النار، وهو ظاهر ثم هذا إن كان خلاف المخالف فيمن خالف ملة الإسلام جملة وكيف لا، والمخالف حينئذ خارج عن ملة الإسلام بهذه المخالفة لا يعتد بقوله لو كان قبلها مسلما فالإجماع قائم من هذه الأمة بأسرها لكن كما قال المصنف رحمه الله "والأول" أي الإجماع على قتالهم "لا يجري" دليلا على تأثيم المجتهد منهم "على" قواعد "الحنفية القائلين وجوبه" أي قتالهم "لكونهم حربا علينا لا لكفرهم، وإنما لهم" أي للحنفية في التأثيم "القطع بالعمومات" الدالة على ذلك "مثل: ويل للكافرين، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين" وهذا القطع "إما من الصيغة" الموضوعة للعموم مثل الكافرين، والخاسرين "أو" من "الإجماعات" الكائنة من الصدر الأول قبل ظهور المخالف "على عدم التفصيل" في كفرهم، فإن كان خلاف المخالف مخصوصا بما اختلف فيه المسلمون من الأصول فهو محجوج بالإجماع قبله "قالوا" أي القائلون بنفي التأثيم عن المجتهد في نفي الإسلام، وإن كان ممن ليس مسلما "تكليفهم" أي الكفار "بنقيض مجتهدهم" تكليف "بما لا يطاق؛ لأنه" أي ما يؤدي إليه الاجتهاد "كيف"؛ لأنه حكم هو إدراك أن كذا واقع، أو ليس بواقع "لا فعل" اختياري للنفس ليكون مكلفا أن يأتي به على وجه كذا بعينه فهو مدفوع إليه بعد فعله الاختياري، وهو النظر فليس مقدورا له فلا يكلف به "فالمكلف به اجتهاده، وقد فعل، والجواب منع فعله" أي لا نسلم أنه فعل ما كلف به من الاجتهاد "إذ لا شك أن على هذا المطلوب" أي الإيمان "أدلة قطعية ظاهرة لو وقع النظر في موادها لزمها" أي الأدلة القطعية المطلوب "قطعا، فإذا لم(6/97)
يثبت" المطلوب عند مكلف "علم أنه" أي عدم ثبوته عنده "لعدم الشروط" في النظر "بالتقصير" أي بواسطته "مثلا من بلغه بأقصى فارس ظهور مدعي نبوة ادعى نسخ شريعتكم لزمه السفر إلى محل ظهور دعوته لينظر أتواتر وجوده ودعواه ثم أتواتر من صفاته وأحواله ما يوجب العلم بنبوته، فإذا اجتهد جامعا للشروط قطعنا من العادة أنه" أي هذا المجتهد "يلزمه" أي اجتهاده "علمه" أي المجتهد "به" أي بهذا المدعي "لفرض وضوح الأدلة، ولو اجتهد في مكانه فلم يجزم به لا يعذر؛ لأنه" أي اجتهاده "في غير محله" أي ظهور دعوته. "والحاصل أنه كلف بالنظر الصحيح ولم يفعله" على أن القول بأن الاعتقاد غير مقدور لكونه من الصفات، والكيفات النفسانية، والمقدور إنما هو الفعل الاختياري قال الأبهري: لا يتم؛ لأنه(6/98)
ص -388-…إن أريد بالفعل التأثير فلا نسلم أن غيره ليس مقدورا إذ العلم الكسبي مقدور مع أنه ليس تأثيرا بل من الصفات، وإن أريد به ما يحصل به عقيب القدرة الحادثة ويكون أثرا لها على مذهب من يقول: القدرة الحادثة مؤثرة فالاعتقاد من هذا القبيل؛ ولهذا قالت المعتزلة: العلم الكسبي يتولد من النظر وعرفوا التوليد بأن يوجب فعله فعلا آخر لفاعله كيف، ولو لم يكن الاعتقاد مقدورا لامتنع التكليف به.
"وأما الجواب" عن حجتهم كما في الشرح العضدي "بمنع كون نقيض اعتقادهم غير مقدور" لهم "إذ ذاك" أي غير المقدور لهم الذي لا يجوز التكليف به هو "الممتنع عادة كالطيران وحمل الجبل وما ذكروا من الامتناع" لتكليفهم بنقيض مجتهدهم هو امتناع بالغير أي "بشرط وصف الموضوع هكذا معتقد ذلك الكفر يمتنع اعتقاد غيره" أي الكفر "ما دام" الكفر "معتقده، والمكلف به الإسلام، وهو" أي الإسلام "مقدور" له ومعتاد حصوله من غيره ومثله لا يكون مستحيلا وخبر الجواب "لا يزيل الشغب" غير أن الأولى إثبات الفاء فيه؛ لأنه جواب أما، وإنما لا يزيله "إذ يقال التكليف بالاجتهاد لاستعلام ذلك" أي الإيمان "فإذا لم يؤد" الاجتهاد "إليه" أي إلى ذلك "لو لزم" ذلك "كان" التكليف بالاجتهاد لاستعلام ذلك تكليفا "بما لا يطاق".
مسألة: الجبائي وابنه ونسب إلى المعتزلة: لا حكم في المسألة الاجتهادية قبل الاجتهاد سوى إيجابه بشرطه:(6/99)
"الجبائي" وابنه على ما في البديع "ونسب إلى المعتزلة لا حكم في المسألة الاجتهادية" أي التي لا قاطع فيها من نص، أو إجماع "قبل الاجتهاد سوى إيجابه" أي الاجتهاد فيها "بشرطه فما أدى" الاجتهاد "إليه" أنه حكم الله فيها "تعلق" بها وكان هو حكم الله فيها في حقه وحق مقلده ونسبه إليهم فخر الإسلام وصاحب الميزان والروياني والماوردي وزاد، وهو قول أبي الحسن الأشعري ثم قال وقالت الأشعرية بخراسان: لا يصح هذا المذهب عن أبي الحسن قال: والمشهور عنه عند أهل العراق ما ذكرناه وذكره أيضا عنه وعن القاضي والغزالي والمزني وبعض متكلمي أهل الحديث غير واحد منهم صاحب الكشف فالحق عندهم متعدد، وإنما اختلفوا في أن تلك الحقوق متساوية في الحقيقة أم لا فطائفة منهم نعم وطائفة لا بل أحد تلك الحقوق أحق من غيره "ولا يمتنع تبعيته" أي الحكم المتعلق بها "للاجتهاد" لحدوثه أي الحكم "عندهم" أي المعتزلة، وإنما الشأن فيه على قول الأشعرية؛ لأن الحكم قديم عندهم فذكر التفتازاني أن المعنى أن لله فيها خطابا لكنه إنما يتعين وجوبا، أو حرمة، أو غيرهما بحسب ظن المجتهد فالتابع لظن المجتهد هو الخطاب المتعلق لا نفس الخطاب. وذكر الأبهري أن ليس المراد بالحكم هنا خطاب الله المختلف في قدمه وحدوثه بل ما يتأدى إليه الاجتهاد ويستلزمه ويجب عليه وعلى من يقلده العمل به "والباقلاني" والأشعري على ما ذكر السبكي "وطائفة" الحكم "الثابت" للواقعة "قبله" أي الاجتهاد "تعلق ما يتعين" ذلك الحكم "به" أي بالاجتهاد "وإذ علمه" عز وجل "محيط بما سيتعين" من الحكم(6/100)
ص -389-…"أمكن كون الثابت تعلق" حكم "معين" لها "في حق كل" من المجتهدين "وهو" أي الحكم المعين "ما علم أنه يقع عليه اجتهاده وإذ وجب الاجتهاد" للواقعة على المجتهدين واختلف ما يقع عليه اجتهادهم "تعدد الحكم بتعددهم، والمختار" أن حكم الواقعة المجتهد فيها "حكم معين، أوجب طلبه فمن أصابه" فهو "المصيب ومن لا" يصيبه فهو "المخطئ ونقل" هذا "عن" الأئمة "الأربعة" أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وذكر السبكي أن هذا هو الصحيح عنهم بل نقله الكرخي عن أصحابنا جميعا ولم يذكر القرافي عن مالك غيره وذكر السبكي أنه الذي حرره أصحاب الشافعي عنه وقال ابن السمعاني: ومن قال عنه غيره فقد أخطأ عليه "ثم المختار" كما صرح به أصحابنا وفي المحصول: وهو قول كافة الفقهاء وينسب إلى أبي حنيفة والشافعي "أن المخطئ مأجور" لما تقدم في بحث الخطإ من الصحيحين إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد "وعن طائفة لا أجر ولا إثم" ذكره في الكشف وغيره قال المصنف "ولعله" أي هذا الخلاف "لا يتحقق، فإن القول بأجره ليس على خطئه بل لامتثاله أمر الاجتهاد، وثبوت ثواب ممتثل الأمر معلوم من الدين لا يتأتى نفيه وإثم خطئه موضوع اتفاقا" بين أهل هذين القولين "فهو" أي فهذا القول الثاني هو القول "الأول" قلت: وقد حكى الشافعية فيما عليه الأجر للمخطئ اختلافا فإمام الحرمين الذي ذهب إليه الأئمة أنه لا يؤجر على الخطإ بل على قصده الصواب وقيل بل على اشتداده في تقصي النظر، فإن المخطئ يشتد أولا ثم يزول قال: والأول أقرب؛ لأن المخطئ قد يحيد في الأول عن سنن الصواب والرافعي ثم الأجر علام فيه وجهان عن أبي إسحاق المروزي أحدهما، وهو ظاهر النص واختيار المزني وأبي الطيب أنه على القصد إلى الصواب لا الاجتهاد؛ لأنه أفضى به إلى الخطإ فكأنه لم يسلك الطريق المأمور به انتهى، والنص المذكور قول المزني في كتاب ذم التقليد قال الشافعي في(6/101)
الحديث: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر" لا يؤجر على الخطإ؛ لأن الخطأ في الدين لم يؤمر به أحد، وإنما يؤجر لإرادته الحق الذي أخطأه قال أبو إسحاق: ويجوز أن يؤجر على قصده، وإن كان الفعل خطأ كما لو اشترى رقبة فأعتقها تقربا إلى الله ثم وجدها حرة الأصل بعد تلف ثمنها فهو مأجور، وإن لم يصح شراؤه ولم يقع عتقه لما أتى به من القصد إلى فك الرقبة، والتقرب إلى الله وشبهه القفال برجلين رميا إلى كافر فأخطأ أحدهما يؤجر على قصده الإصابة، والثاني يؤجر على القصد، والاجتهاد جميعا لأنه بذل وسعه في طلب الحق، والوقوف عليه وربما سلك الطريق في الابتداء ولم يتيسر له الإتمام قلت: على هذا أيضا غير واحد من الحنابلة منهم ابن عقيل لكن قال ابن الرفعة: وهذا مناسب إذا سلكه في الابتداء، فإن حاد عنه في الأول تعين الوجه الأول ونص القاضي أبو الطيب على أنه الأصح؛ لأن ذلك الاجتهاد خلاف الاجتهاد الذي يصيب به الحق؛ لأنه لو وضعه في صفته ورتبه على ترتيبه لأفضى به إلى الحق فلا يؤجر عليه ولا على بعض أجزائه قلت: ولا يعرى عن نظر للمنصف هذا، وأورد عليه لو كان على القصد لوجب أن يكون له عشر أجر المصيب للحديث الصحيح من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة كاملة،(6/102)
ص -390-…فإن عملها كتبت له عشر حسنات وأجيب بالقول بالموجب لما عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء خصمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اقض بينهما" فقلت: يا رسول الله كنت أولى قال: "وإن كان قلت ما أقضي" قال: "إنك إن أصبت كان لك عشر حسنات، وإن أخطأت كان لك حسنة واحدة" أخرجه النقاش في كتاب القضاة وصححه الحاكم في المستدرك لكن تعقب بأن مداره على فرج بن فضالة ضعفه الأكثرون، ومحمد بن عبد الله النهرواني وأبوه مجهولان قلت: ويمكن التقصي عن هذا الإيراد على قاعدة الشافعية بأن حديث الصحيحين مقدم على ذا؛ لأنه خاص وذا عام، والخاص مقدم على العام عندهم، وأما على قاعدة الحنفية فغير ظاهر إلا أنه لا إشكال بهذا عليهم حيث كان الأجر على نفس الاجتهاد كما هو ظاهر كلام المصنف والله سبحانه أعلم هذا وقال ابن دقيق العيد: لله تعالى في الواقعة حكمان أحدهما مطلوب بالاجتهاد ونصب عليه الدلائل، والأمارات، فإذا أصيب حصل أجران أجر الإصابة وأجر الاجتهاد. والثاني: وجوب العمل بما أدى إليه الاجتهاد وهذا متفق عليه فمن نظر إلى هذا الثاني ولم ينظر إلى الأول قال: حكم الله على كل أحد ما أدى إليه اجتهاده، ومن نظر إلى الأول قال المصيب واحد وكلا القولين حق من وجه دون وجه أما أحدهما فبالنظر إلى وجوب المصير إلى ما أدى إليه الاجتهاد، وأما الآخر فبالنظر إلى الحكم الذي في نفس الأمر المطلوب بالنظر انتهى ثم قد أورد كيف يثاب على الإصابة وهي ليست من صنعه وأجيب؛ لأنها من آثار صنعه وقيل: يجوز أن يكون الثواب الثاني لكونه سن سنة حسنة يقتدي به فيها من يتبعه من المقلدين قيل: فعلى هذا لا يؤجر المخطئ على اتباع المقلدين له بخلاف المصيب؛ لأن مقلد المصيب قد اهتدى به؛ لأنه صادف الهدى، وهو كما قال صلى الله عليه وسلم "ولأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم" بخلاف مقلد المخطئ، فإن المخطئ لم يحصل على شيء غاية الأمر سقط الحق عنه(6/103)
باعتبار ظنه. قلت: وفيه نظر يظهر مما يذكر في آخر هذه المسألة والله سبحانه أعلم.
"وهذان" القولان بناء "على أن عليه" أي حكم الله في الحادثة "دليلا ظنيا"، وهو قول أكثر الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة وكثير من المتكلمين "وقيل" بل عليه دليل "قطعي، والمخطئ آثم"، وهو "قول بشر، والأصم" ذكره ابن الحاجب وغيره وزاد بعضهم وابن علية وبعضهم ابن أبي هريرة "وقيل: غير آثم لخفائه" أي الدليل القطعي وغموضه وعزاه في الكشف إلى الأصم وابن علية وأنه مال إليه أبو منصور الماتريدي وفي المحصول إلى الجمهور من قائلي: إن عليه دليلا قطعيا، وقيل: لا دلالة عليه ولا أمارة بل هو كدفين يعثر عليه الطالب اتفاقا فمن وجده فله أجران ومن أخطأ فله أجر وعزى هذا في المحصول وغيره إلى طائفة من الفقهاء، والمتكلمين زاد القرافي ونقل عن الشافعي "ونقل الحنفية الخلاف أنه" أي المخطئ "مخطئ ابتداء وانتهاء" في اجتهاده وفيما أدى إليه اجتهاده، وهو اختيار أبي منصور الماتريدي. "أو" مصيب في ابتداء اجتهاده مخطئ "انتهاء" فيما طلبه، وهو قول الرستغفني وعزاه بعضهم إلى الشافعي "وهو" أي وهذا الأخير "المختار" عند فخر الإسلام وموافقيه(6/104)
ص -391-…وغير خاف أن نقل الحنفية مبتدأ خبره "لا يتحقق إذ الابتداء بالاجتهاد، وهو" أي المجتهد "به" أي بالاجتهاد "مؤتمر غير مخطئ به" أي بالاجتهاد "قطعا" وكيف، وهو آت بما كلف به ممتثل لما أمر به بقدر وسعه ويشهد له أيضا ما في التقويم، وقال علماؤنا: كان مخطئا للحق عند الله مصيبا للحق في حق عمله حتى إن عمله يقع صحيحا شرعا كأنه أصاب الحق عند الله تعالى بلغنا عن أبي حنيفة أنه قال ليوسف بن خالد السمتي: وكل مجتهد مصيب، والحق عند الله واحد فبين أن الذي أخطأ ما عند الله مصيب في حق عمله، وقال محمد بن الحسن في كتاب الطلاق: إذا تلاعن الزوجان ثلاثا ثلاثا ففرق القاضي بينهما نفذ قضاؤه، وقد أخطأ السنة فجعل قضاءه في حقه صوابا مع فتواه أنه مخطئ الحق عند الله تعالى انتهى وقد ظهر من هذا أن ما نقله الماوردي وغيره عن أبي يوسف كل مجتهد مصيب، وإن كان الحق في واحد فمن أصابه فقد أصاب الحق ومن أخطأه فقد أخطأه انتهى غير مخالف في المعنى لما عن أبي حنيفة ومحمد والله سبحانه أعلم.(6/105)
"وإن حمل" كونه مخطئا ابتداء "على خطئه فيه" أي في الاجتهاد "لإخلاله ببعض شروط الصحة" للاجتهاد "فاتفاق" أي فكونه مخطئا اتفاق وقيل هو نزاع لفظي؛ لأن من قال المجتهد مخطئ انتهاء وابتداء أراد بالإصابة أن دليله لا بد وأن يكون موصولا إلى ما هو حق عند الله. ومن قال: مخطئ انتهاء لا ابتداء أراد بالإصابة ابتداء استفراغ الجهد في رعاية شروط الاجتهاد وفي الدليل الموصل إلى ما هو الحق "لنا" على المختار "لو كان الحكم" في الحادثة "ما" أدى اجتهاد المجتهد "إليه كان" المجتهد "بظنه" للحكم "يقطع بأنه" أي مظنونه "حكمه تعالى، والقطع" ثابت "بأن القطع" بأن مظنونه حكم الله تعالى "مشروط ببقاء ظنه" لذلك الحكم "والإجماع" أيضا ثابت "على جواز تغيره" أي ظنه بظن غيره. "و" على "وجوب الرجوع" عن الحكم الأول إلى ذلك الغير "وأنه" أي ذلك الحكم الأول "لم يزل عند ذلك القطع" به بل يتأكد أن حكم القطع به القطع بأن متعلقه هو الحكم في حق المجتهد ويجب عليه العمل به أيضا فيكون عالما بالشيء ما دام ظانا له ولا يقال: لا نسلم اجتماع الظن، والعلم فيه إذ الظن ينتفي بالعلم؛ لأنا نقول: انتفاء الظن ممنوع، فإنا نقطع ببقاء الظن "وإنكاره" أي بقاء الظن "بهت" أي مكابرة "فيجتمع العلم، والظن" للشيء الواحد "فيجتمع النقيضان تجويز النقيض" للحكم "وعدمه" أي تجويز نقيضه "وإلزام كونه" أي اجتماع النقيضين "مشترك الإلزام"، فإنه كما يلزم إصابة كل مجتهد يلزم إصابة واحد وخطأ الآخرين أيضا للعلم بالدليل القاطع، وهو الإجماع أن الحكم الذي أدى إليه الاجتهاد صوابا كان، أو خطأ يجب اتباعه على الوجه الذي أدى إليه من الوجوب وغيره، والعلم بوجوب متابعته مشروط ببقاء ظن المجتهد فيكون المجتهد عالما حال كونه ظانا فيلزم القطع وعدم القطع وهما نقيضان، وإذا كان مشترك الإلزام كان الدليل باطلا إذ به يعلم أن منشأ الفساد ليس خصوصية أحد المذهبين "منتف"؛ لأنه إنما يتم لو اتحد(6/106)
متعلق الظن، والعلم هنا لكنه لم يتحد هنا "لاختلاف محل الظن، وهو" أي محله "حكمه أي خطابه" تعالى المطلوب بالاجتهاد "و" محل "العلم، وهو" أي محله "حرمة(6/107)
ص -392-…مخالفته" أي الحكم المذكور؛ لأنه واجب الاتباع "بشرط بقاء ظنه" لوجوب اتباع الظن لا أن محله الحكم المطلوب بالاجتهاد "فهنا خطأ بأن الثابت في نفس الأمر، وهو المظنون وتحريم تركه" أي المظنون "ويلازمه" أي هذا المجموع "إيجاب الفتوى به" أي بذلك الحكم المظنون "وهما" أي تحريم تركه وإيجاب الفتوى به "متعلقة" أي الحكم المظنون "المعلوم" بالرفع صفة متعلقة فلم يتحد المحلان "بخلاف" قول "المصوبة، فإن الحكم في نفس الأمر ليس إلا ما تأدى إليه" الاجتهاد فيكون الخطاب متعلق العلم كما هو متعلق الظن فيتحد المحلان.(6/108)
"فإن قالوا" أي المصوبة هذا الجواب بعينه، وهو بيان تعدد متعلقي العلم، والظن يجري في دليلكم؛ لأنا "نقول متعلق الظن كونه" أي الدليل "دليلا" أي دالا على الحكم "و" متعلق "العلم ثبوت مدلوله" أي الدليل، وهو الحكم "شرعا بذلك الشرط" أي بقاء ظنه "فإذا زال" ظنه "رجع" عنه لزوال شرط ثبوته، وهو ظن الدلالة عليه؛ لأن الشيء كما ينتفي بانتفاء موجبه قد ينتفي بانتفاء شرطه "أجيب بأن كونه" أي الدليل "دليلا" أيضا "حكم شرعي، وإن كان غير عملي" أي ليس بخطاب تكليف بل هو حكم شرعي اعتقادي هو كون الدليل الذي لاح للمجتهد دليلا "فإذا ظنه" أي كون الدليل دليلا فقد "علمه" أي كون الدليل دليلا إذ لو لم يعلم كونه دليلا لجاز أن يكون الدليل عنده غيره فيجب عليه العمل بذلك الغير لا به فلا يحصل له الجزم بوجوب العمل بظنه ويكون مخطئا في اعتقاد أنه دليل فلا يكون كل مجتهد مصيبا إذ هذا مجتهد، وقد أخطأ في هذا الحكم، وهو اعتقاد أنه دليل "ويتم إلزامه" أي دليل المصوبة "اجتماع النقيضين"، وهو القطع بكون الدليل دليلا وعدم القطع به بخلاف المخطئة، فإن على مذهبهم لا يوجب ظن كون الدليل دليلا العلم به وجاز أن يكون في ظن الدليل دليلا مخطئا أيضا، ولا يلزم خلاف الفرض هذا وفي حاشية الأبهري وهنا نظر؛ لأن الشارع جعل مناط وجوب العمل بالدليل الظني ظن كونه دليلا لا نفس الدليل فيجوز أن يوجب مجرد الظن بكونه دليلا العلم بوجوب العمل به من غير أن يحصل الجزم بكونه دليلا، وتجويز كون غيره دليلا لا يوجب العمل بالغير ما لم يتعلق الظن بكون الغير دليلا فالمظنون ما دام مظنونا يجب العمل به، وإذا صار غيره مظنونا انتفى الظن المتعلق فلا يجب العمل به فلا فرق بين المذهبين في اندفاع التناقض على أن المراد بكون كل مجتهد مصيبا إصابته في الأحكام الفقهية لا في كل حكم فلا يتم الإلزام.(6/109)
وقال المصنف: "والجواب" من قبل المصوبة عن هذا الجواب "أن اللازم" من ظن الدليل "ثبوت العلم بالحكم ما لم يثبت الرجوع" عنه "وهو" أي ما يثبت الرجوع عنه "انفساخ هذا الحكم بظهور" الحكم "المرجوع" إليه "لا" ظهور "خطئه" أي الحكم الأول "وبطلانه عندهم" أي المصوبة "وتجويز انقضاء مدة الحكم" الأول "بعد هذا الوقت لا يقدح في القطع به حال هذا التجويز" لنقيض الحكم، وهو المرجوع إليه "فبطل الدليل" المذكور للمخطئة "عنهم" أي المصوبة. "وبهذا" الجواب "يندفع" عن المصوبة الدليل "القائم" من المخطئة "لو كان"(6/110)
ص -393-…ظن الحكم موجبا للعلم به على ما هو اللازم لتصويب كل مجتهد "امتنع الرجوع" عن الحكم "لاستلزامه" أي الرجوع عنه "ظن النقيض" للحكم "والعلم" به "ينفي احتماله" لظن نقيضه "فلم يكن العلم حين كان علما، أو لو كان" ظن الحكم موجبا لعلمه "جاز ظنه" أي النقيض "مع تذكر موجب العلم" بالحكم الذي نقيضه ذلك "وهو" أي موجب العلم "الظن الأول" وجواز الظن مع تذكر موجب العلم باطل، بيان الملازمة قوله: "لجواز الرجوع، أو لو كان" ظن الحكم موجبا للعلم به "امتنع ظنه" أي ظن نقيضه "مع تذكر الظن" للحكم الأول "لامتناع ظن نقيض ما علم مع تذكر الموجب" للعلم به لوجود دوام العلم بدوام ملاحظة موجبه "وإلا" لو لم يمتنع ظن نقيضه مع تذكر الموجب "لم يكن" ذلك الموجب "موجبا" هذا خلف "لكنه" أي ظن نقيض الأول "جائز بالرجوع" عن الأول إلى نقيضه ثم هذه الأوجه الثلاثة يمكن أن تجعل أدلة مستقلة من قبل المخطئة لإبطال مذهب المصوبة "وقد لا يكتفى بدعوى ضرورية البهت" لإمكان بقاء الظن "فتجعل" هذه الأوجه الثلاثة "دليل بقاء الظن عند القطع بمتعلقه" أي الظن "لا" دليلا "مستقلا وألزم على المختار"، وهو قول المخطئة "انتفاء كون الموجب موجبا في الأمارة" حيث قالوا: لا يمتنع زوال ظن الحكم إلى ظن نقيضه مع تذكر الأمارة التي عنها الظن مع أنها بمنزلة الموجب.(6/111)
"وجوابه" أي هذا الإلزام "أن بطلانه" أي كون الموجب موجبا الذي هو التالي إنما هو "في غيرها" أي الأمارة "أما هي" أي الأمارة "فإذن لا ربط عقلي" بين الظن، وما ينشأ عنه حتى يكون بمنزلة الموجب له كما في العلم الذي لا يكون إلا عن موجب "جاز انتفاء موجبها مع تذكرها" كما يزول ظن نزول المطر من الغيم الرطب الذي هو مظنة له إلى عدم نزوله مع وجوده بل ربما يحصل الظن بشيء ثم يحصل العلم بنقيضه كما إذا ظن شخص كون زيد في الدار لأمارات تدل عليه ثم رآه خارج الدار، وإذا لم يسلم للمخطئة ما تقدم دليلا لهم مع أن المطلوب حق لم يكن ذلك هو الدليل "بل الدليل إطلاق" الصحابة "الخطأ في الاجتهاد شائعا متكررا بلا نكير كعلي وزيد بن ثابت وغيرهما من مخطئة ابن عباس في ترك العول، وهو" أي ابن عباس "خطأهم" في القول به "فقال من شاء باهلته" أي لاعنته، والحقيقة التضرع في الدعاء باللعن "إن الله لم يجعل في مال واحد نصفا ونصفا وثلثا" لكن قال شيخنا الحافظ: ولم أقف على إنكار علي وزيد صريحا وقدمنا في الإجماع في مسألة إذا أفتى بعضهم تخريج تخطئة ابن عباس معنى للقائلين بنحو هذا السياق بدون من شاء باهلته "وقول أبي بكر في الكلالة: أقول فيها برأيي "فإن يكن صوابا فمن الله" إلى قوله: "وإن يكن خطأ فمني، ومن الشيطان" أراه ما خلا الولد، والوالد فلما استخلف عمر قال: إني لأستحي من الله أن أرد شيئا قاله أبو بكر رواه البيهقي وقال ورويناه عن ابن عباس وابن أبي شيبة قال أبو بكر: رأيت في الكلالة رأيا، فإن يك صوابا فمن الله وإن يك خطأ فمن قبلي والشيطان، الكلالة ما عدا الوالد، والولد. "ومثله" أي هذا القول "قول ابن مسعود في المفوضة المتوفى عنها" زوجها "أجتهد إلى قوله فإن يكن خطأ فمن ابن أم عبد" ولم أقف عليه مخرجا ويغني عنه قوله "وعنه"(6/112)
ص -394-…أي ابن مسعود "مثل" قول "أبي بكر" الماضي ففي سنن أبي داود عنه، فإن يك صوابا فمن الله، وإن يك خطأ فمني، ومن الشيطان والله ورسوله بريئان، وقد تقدم الأثر بدون هذا في الكلام في جهالة الراوي "وقول علي لعمر في المجهضة" بضم الميم وكسر الهاء وهي المرأة التي أسقطت جنينا ميتا خوفا من عمر لما استحضرها وسأل عمر من حضره عن حكم ذلك فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف إنما أنت مؤدب لا نرى عليك شيئا ثم سأل عليا: ماذا تقول فقال: "إن كانا قد اجتهدا فقد أخطآ يعني عثمان وعبد الرحمن بن عوف"، وإن لم يجتهدا فقد غشاك كذا في شرح العلامة ومشى عليه التفتازاني والذي في الشرح العضدي وعن علي في قصة المجهضة إن كان قد اجتهد فقد أخطأ، وإن لم يجتهد فقد غشك انتهى، وهو المذكور في رواية البيهقي فأخرج عن الحسن البصري أن عمر أرسل إلى امرأة من نساء الأجناد يغشاها الرجال بالليل يدعوها وكانت ترقى في درج ففزعت فألقت حملها فاستشار عمر الصحابة فيها فقال عبد الرحمن بن عوف: إنك مؤدب ولا شيء عليك قال علي: إن اجتهد فقد أخطأ، وإن لم يجتهد فقد غشك عليك الدية فقال عمر لعلي: عزمت عليك لتقسمنها على قومك قيل أراد قوم عمر وأضافهم إلى علي إكراما، وقد ظهر أن الضمير في إن كان وما بعده في العضدي لعبد الرحمن لا لعثمان كما ذكر الكرماني ثم هذا مذهب الشافعي خلافا لأصحابنا ولا حجة له في هذا على أصوله؛ لأنه منقطع، فإن الحسن ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر ثم الإجهاض إلقاء الولد قبل تمامه، والمعروف تخصيصه بالإبل قاله ابن سيده وغيره.(6/113)
"واستدل" للمختار بأوجه ضعيفة أحدها إن كان أحد قولي المجتهدين، أو كلاهما بلا دليل فباطل؛ لأن القول في الدين بلا دليل باطل، وإن كان قولهما بدليل فالجواب "إن تساوى دليلاهما تساقطا" وكان الحكم الوقف، أو التخيير فكانا في النفي، والإثبات مخطئين "وإلا" إن ترجح أحدهما "تعين الراجح" للصحة ويكون الآخر خطأ إذ لا يجوز العمل بالمرجوح "وأجيب أن ذلك" التقسيم إنما هو "بالنسبة إلى نفس الأمر لكن الأمارات ترجحها بالنسبة إلى المجتهد" إذ ليست أدلة في نفسها بل بالنسبة إلى نظر الناظر، فإنها أمور إضافية لا حقيقية "فكل" من القولين "راجح عند قائله وصواب" لرجحان أمارته عنده، ورجحانه عنده هو رجحانه في نفس الأمر؛ لأنه تابع لظن المجتهد ثانيها ما أشار إليه بقوله "وبأن المجتهد طالب" لمعرفة حكم الله في الواقعة "ويستحيل" طالب "بلا مطلوب" فإذن له مطلوب "فمن أخطأه" أي ذلك المطلوب فهو "المخطئ"، ومن وجده فهو المصيب "أجيب نعم" يستحيل طالب ولا مطلوب "فهو" أي المطلوب "غلبة ظنه" أي المجتهد "فيتعدد الصواب" لتعدد الغالب على الظنون للمجتهدين ثالثها ما أشار إليه بقوله: "وبالإجماع على شرع المناظرة" بين المجتهدين "وفائدتها ظهور الصواب" عن الخطإ وتصويب الجميع ينفي ذلك "وأجيب بمنع الحصر" أي حصر فائدة المناظرة في ذلك "لجوازها" أي فائدتها أن تكون "ترجيحا" أي بيان ترجيح إحدى الأمارتين على الأخرى فتعتمد الراجحة، أو تساويهما فيحكم بمقتضاه من وقف،(6/114)
ص -395-…أو غيره "وتمرينا" للنفس على المناظرة فتحصل ملكة الوقوف على المأخذ ورد الشبه وتشحيذ الخاطر فيكون ذلك عونا على الاجتهاد "ولا يخفى ضعفه" أي تمرينا، فإن من الظاهر أن شرع المناظرة ليس لهذا ففي ما قبله كفاية رابعها ما أشار إليه بقوله. "وبلزوم" المحال كحل الشيء وتحريمه معا في زمان واحد على تقدير التصويب مثل "حل المجتهدة كالحنفية وحرمتها لو قال بعلها المجتهد كالشافعية: أنت بائن ثم قال: راجعتك" إذ هي بالنظر إلى معتقده حل؛ لأن الكنايات عنده ليست بوائن فتجوز الرجعة وبالنظر إلى معتقدها حرام؛ لأن هذه الكناية عندها طلقة بائنة فلا تجوز الرجعة "وحلها لاثنين لو تزوجها مجتهد بلا ولي" لكونه يرى صحته "ثم مثله" أي ثم تزوجها مجتهد "به" أي بولي لكونه لا يرى صحة الأول "وأجيب" بأن هذا "مشترك الإلزام" إذ يرد على المخطئة "إذ لا خلاف في وجوب اتباع ظنه" أي المجتهد "فيجتمع النقيضان وجوب العمل بحلها له" أي المجتهد كالشافعي لكون مظنونه جواز الرجعة. "ووجوبه" أي العمل "بحرمتها عليه" لكون مظنونها عدم جواز الرجعة "وكذا وجوب العمل بحلها للأول ووجوبه" أي العمل بحلها "للثاني" في المسألة الثانية "فإن لم يكن الوجوبان متناقضين لتناقض متعلقيهما" نظرا إلى نفسيهما، فإنهما متماثلان "استلزم اجتماع متعلقيه" أي الوجوب واجتماع "المتناقضين"، فإن حلها لأحدهما يناقض حلها للآخر في زمان واحد "فإن أجبتم" أيها المخطئة بأنه "لا يمتنع" اجتماع النقيضين "بالنسبة إلى مجتهدين فكذلك المتنازع فيه"، وهو كون كل مجتهد مصيبا لا يمتنع اجتماع النقيضين فيه مثل الحل، والحرمة بالنسبة للمجتهدين "نعم يستلزم مثله مفسدة المنازعة" إذ يلزم على هذا في الأولى أن يكون للزوج طلب التمكين منها وللزوجة الامتناع منه وفي الثانية أن يكون لكل من الزوجين طلب التمكين، وهو محال. "وقد يفضي إلى التقاتل فيلزم فيه" أي في هذا حينئذ "رفعه إلى قاض يحكم برأيه(6/115)
فيلزم" حكمه "الآخر وإذن فالجواب الحق أن مثله مخصوص من تعلق الحكمين" فلا يتعلقان في مثل هذا "بل الثابت حرمتها إلى غاية الحكم؛ لأن لزوم المفسدة يمنع شرع ذلك" أي الحكمين مع إيجاب الارتفاع إلى القاضي؛ لأن تلك المفسدة قد تقع قبل الارتفاع إليه بأن أتاها أي المجوز قبل الارتفاع لشدة حاجة له إليها، أو أتاها كل منهما قبله، وذلك قريب في العادة فتقع مفسدة المنازعة، والتقاتل فوجب أن مثله، وهو ما يؤدي إلى ذلك أن يثبت فيه إذا وجد حكم واحد، وهو حرمتها إلى أن يحكم حاكم ذكره المصنف.
"وبما وضحناه" من أن مثل هذا مخصوص من تعلق الحكمين وأن الثابت حرمتها إلى غاية الحكم "اندفع ما أورد من أن القضاء لرفع النزاع إذا تنازعا في التمكين، والمنع لا لرفع تعلق الحل، والحرمة بواحد"، فإنه بعد الحكم لم يرتفع ذلك التعلق على تقدير تصويب كل مجتهد ذكره الخنجي "وقرره محقق" أي سكت عليه ولم يتعقبه التفتازاني "وهو" أي المورد "بعد اندفاعه بما ذكرنا" الآن من أنه مخصوص من تعلق الحكمين فليس الثابت إلا حرمتها إلى غاية الحكم الرافع للخلاف "غير صحيح في نفسه إذ لا مانع من رفع تعلق الحل، والحرمة بالقضاء مع كون كل منهما" أي الحل، والحرمة "صوابا؛ لأنه" أي رفعه بالقضاء "نسخ منه تعالى"(6/116)
ص -396-…لأحدهما "عند حكم القاضي" بالموافق للآخر "كالرجوع" عن أحد القولين لأحدهما "عندهم" أي المصوبة، وحول هذا حام الأبهري حيث قال: ولقائل أن يقول: بل حكم الحاكم يرفع تعلق الحل، والحرمة؛ لأن ظن المجتهد إنما يفيد تعلق الحكم به إذا لم يعارضه معارض وحكم الحاكم معارض له؛ لأن الشارع أوجب العمل به "قالوا" أي المصوبة "لو كان المصيب واحدا وجب النقيضان على المخطئ إن وجب حكم نفس الأمر عليه" أيضا؛ لأن المخطئ يجب عليه متابعة ظنه إجماعا، وهو محال "وإلا" إذا لم يجب عليه الحكم في نفس الأمر "وجب" عليه "العمل بالخطأ" الذي هو مظنونه "وحرم" عليه العمل "بالصواب" الذي هو الحكم في نفس الأمر "وهو" أي وجوب العمل بالخطأ وتحريمه بالصواب "محال أجيب باختيار الثاني" أي عدم وجوب حكم نفس الأمر ووجوب مظنونه "ومنع انتفاء التالي" أي وجوب العمل بالخطأ "للقطع به" أي بوجوب العمل بالخطأ فيما لو خفي على المجتهد "قاطع" من نص، أو إجماع فأدى اجتهاده إلى مخالفته "حيث تجب مخالفته" لوجوب اتباع الظن "والاتفاق أنه" أي خلاف القاطع "خطأ إذ الخلاف" في أن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد إنما هو "فيما لا قاطع" فيه من الأحكام الاجتهادية "أما ما فيه" دليل قاطع "فالاجتهاد على خلافه" أي القاطع "خطأ اتفاقا" ثم إن كان قد قصر في طلبه فهو آثم أيضا لتقصيره فيما كلف به من الطلب، وإن لم يكن قصر في طلبه بل إنما تعذر عليه الوصول إليه لبعد الراوي عنه، أو لإخفائه منه فلا إثم عليه.
"قالوا" ثانيا قال صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" فجعل الاقتداء بكل منهم هدى مع اختلافهم "فلا خطأ" في اجتهاده "وإلا" لو كان أحدهم مخطئا في اجتهاده "ثبت الهدى في الخطإ، وهو" أي الخطأ "ضلال" لا هدى؛ لأنه عمل بغير حكم عينه الله تعالى.(6/117)
"أجيب بأنه" أي الخطأ "هدى من وجه"، وهو كونه مما أدى إليه الاجتهاد لإيجاب الشارع العمل به سواء كان مجتهدا، أو مقلدا "فيتناوله" الاهتداء في الحديث؛ لأن المراد به فيه متابعة ما يوصل إلى الصواب، والعمل بما أدى إليه الاجتهاد كذلك لما ذكرنا على أن الحديث له طرق بألفاظ مختلفة ولم يصح منها شيء على ما قالوا، وقد أشبعنا القول فيه في مسألة ولا ينعقد بأهل البيت من مسائل الإجماع تكميل ثم وجه القائلين باستواء الحقوق أن الدليل الدال على تعددها، وهو تكليف الكل بإصابة الحق لم يوجب التفاوت بينها فترجيح بعضها ترجيح بلا مرجح، ووجه القائلين بأن واحدا منها أحق، وهو القول بالأشبه أن استواءها يقطع تكليف المجتهد ببذل المجهود في طلب الحكم في الواقع لتحقق إصابة كل مجتهد ما هو الحق بمجرد اختيار ما غلب عليه ظنه بأدنى نظر؛ لأن الكل حيث كان حقا عند الله على السواء لم يكن في إتعاب النفس وأعمال الفكر في الطلب فائدة بل يختار كل مجتهد ما غلب على ظنه من غير امتحان كالمصلي في جوف الكعبة يختار أي جهة شاء من غير بذل المجهود، وذلك باطل؛ لأن فيه إسقاط درجة العلماء، والاجتهاد، والنظر في المآخذ، والمدارك؛(6/118)
ص -397-…لأن المقصود من النظر إظهار الصواب بإقامة الدليل عليه ودعوة المخالف إليه عند ظهوره بالدليل وإذا كان الكل على السواء في الحقية لم يتجه هذا ألا ترى أنه لا مناظرة في أصناف أنواع الكفارة ولا بين المسافر، والمقيم في أعداد ركعات صلاتهما لثبوت الحقية على السواء فيلزم اللزوم المذكور، وأجيب عن هذا من قبل الأولين بأنه إنما يلزم هذا أن لو كان ما ذهب إليه كل حقا عند الله تعالى قبل الاجتهاد، وليس كذلك بل الحكم بحقية ما أدى إليه اجتهاد كل تابع لاجتهاده وقبل الاجتهاد لا يمكن إصابة الحق بمجرد الاختيار فلا يثبت له ولاية الاختيار وبعد ما اجتهد وأدى اجتهاده إلى شيء مع سلامته عن المعارض لا يجوز له الاختيار أيضا؛ لأن ذلك هو الحق في حقه دون ما أدى إليه اجتهاد غيره فلم تسقط درجة العلماء، والاجتهاد ولا النظر في المآخذ على أن المقصود من المناظرة غير منحصر فيما ذكر كما تقدم والله سبحانه أعلم.(6/119)
"تتمة من المخطئة الحنفية" فقد "قسموا الخطأ" بالمعنى المشار إليه يعني ضد الصواب "وهو" أي الخطأ بهذا المعنى "الجهل المركب" وتقدم في مباحث النظر تعريفه. والكلام فيه "إلى ثلاثة" من الأقسام والذي يظهر أولا أن الخطأ بهذا المعنى أعم من الجهل المركب كما لا يخفى، وثانيا أنهم لم يصرحوا بتخصيص هذه الأقسام الآتية بالجهل المركب ولا يظهر انطباقه على جميعها وخصوصا القسم الثالث كما سيظهر. نعم قسموا الجهل إلى هذه الأقسام ويظهر أن مرادهم به ما هو أعم من كل من البسيط، والمركب كما أشار إليه في التلويح، وقد سبق ذكره في مباحث النظر حيث قال في بحث العوارض المكتسبة فمن الأولى أي التي تكون من المكلف الجهل، وهو عدم العلم عما من شأنه، فإن قارن اعتقاد النقيض فهو مركب وهو المراد بالشعور بالشيء على خلاف ما هو به وإلا فبسيط، وهو المراد بعدم الشعور، وأقسامه فيما يتعلق بهذا المقام أربعة جهل لا يصلح عذرا ولا شبهة فهو في الغاية، وجهل هو دونه وجهل يصلح شبهة وجهل يصلح عذرا غير أن تربيع الأقسام له بناء على ما مشى عليه صدر الشريعة وغيره موافقة لفخر الإسلام، وأما تثليثها كما مشى عليه المصنف فموافقة لصاحب المنار، والأمر في ذلك قريب.(6/120)
القسم "الأول جهل لا يصلح عذرا ولا شبهة، وهو أربعة" أقسام "جهل الكافر بالذات" أي ذات واجب الوجود تعالى "والصفات" أي وبصفات كماله ونعوت جلاله من الصفات الذاتية وغيرها "لأنه" أي هذا الكافر "مكابر" أي مترفع عن الانقياد للحق واتباع الحجة إنكارا باللسان وإباء بالقلب "لوضوح دليله" أي وجود واجب الوجود بما له من صفات الكمال ونعوت الجلال "حسا من الحوادث المحيطة به" أي بالكافر أنفسا وآفاقا "وعقلا إذ لا يخلو الجسم عنها" أي عن الحوادث من الأعراض وغيرها "وما لا يخلو عنها" أي عن الحوادث "حادث بالضرورة لا بد له من موجد إذ لم يكن الوجود مقتضى ذاته ويستلزم" الحكم بوجود ذاته "الحكم بصفاته" العلى بالضرورة "كما عرف" في فن الكلام. "وكذا منكر الرسالة" من الله(6/121)
ص -398-…تعالى لأحد من رسله ولا سيما لخاتم النبيين محمد عليه من الله أفضل الصلاة، والتسليم إلى الناس أجمعين وتقدم تعريفها في شرح خطبة الكتاب "بعد ثبوت المعجزة" وهي أمر لا يقدر عليه إلا الله تعالى خارق للعادة على وفق دعوى مدعي الرسالة مقرون بها مع عدم المعارضة من المرسل إليهم أي بأن لا يظهر منهم مثل ذلك الخارق ولا سيما القرآن العظيم، فإنه المعجزة المستمرة على ممر السنين "و" ثبوت "تواتر ما يوجب النبوة" لمدعيها من أهليها بالإتيان بما يصدقه في ذلك وتقدمت الإشارة إلى تعريفها في شرح خطبة الكتاب أيضا لكونها ظاهرة محسوسة في زمانه ومنقولة بالتواتر فيما بعده حتى صارت بمنزلة المحسوس وخصوصا ذلك لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم "فلذا" أي فلكون منكرها كافرا مكابرا "لا تلزم مناظرته" لانتفاء ثمرتها حينئذ ثم لانتفاء العذر في حق المصر على الكفر وخصوصا بعد الاطلاع على محاسن الإسلام لم يبق المرتد عن الإسلام على ما صار إليه "بل إن لم يتب المرتد" بأن أصر على ما صار إليه "قتلناه" وخصوصا إن عرض الإسلام عليه ولم يرجع إليه. وفي التلويح، فإن قلت: الكافر المكابر قد يعرف الحق، وإنما ينكره تمردا واستكبارا قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] ومثل هذا لا يكون جهلا قلت: من الكفار من لا يعرف الحق ومكابرته ترك النظر في الأدلة، والتأمل في الآيات، ومنهم من يعرف الحق وينكره مكابرة وعنادا قال الله تعالى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] الآية ومعنى الجهل فيهم عدم التصديق المفسر بالإذعان، والقبول انتهى، وهذا يفيد أيضا ما ذكرنا من أن مورد التقسيم مطلق الجهل الشامل للبسيط، والمركب وأن من أقسامه ما يكون جهلا بسيطا، ومنها ما يكون جهلا مركبا "وكذا" الكافر مكابر "في حكم لا يقبل التبدل" عقلا ولا شرعا(6/122)
"كعبادة غيره تعالى" لوضوح الأدلة القطعية العقلية، والنقلية على انفراده تعالى باستحقاق العبادة فلا يكون لكفره حكم الصحة أصلا. "وأما تدينه" أي اعتقاد الكافر "في" حكم "غيره" أي غير ما لا يقبل التبدل، وهو ما يقبله كتحريم الخمر حال كونه "ذميا فالاتفاق على اعتباره" أي تدينه "دافعا للتعرض" له حتى لو باشر ما دان به لا يتعرض له "فلا يحد لشرب الخمر إجماعا" لتدينه له "ثم لم يضمن الشافعي متلفها" أي خمرة مثلها إن كان ذميا ولا قيمتها إن كان مسلما وبه قال أحمد للحديث المتفق عليه ألا إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام وما حرم بيعه لا لحرمته لم تجب قيمته كالميتة حتف أنفها ولأنها ليست بمال متقوم وإتلاف ما ليس بمتقوم لا يكون سببا للضمان وعقد الذمة خلف عن الإسلام فكل حكم يثبت به يثبت بعقدها، والحاصل أن عنده خطاب التحريم يتناول الكافر الذمي كالمسلم، وقد بلغه ذلك بإشاعة الخطاب في دار الإسلام، فإنكاره تعنت فلا يكون عذرا إلا أن الشرع أمر بأن لا يتعرض له بعقد الذمة فكل ما يرجع إلى ترك التعرض يثبت في حقه وما يرجع إلى التعرض لا يثبت في حقه "وضمنوه" أي الحنفية متلفها مثلها إن كان ذميا وقيمتها إن كان مسلما، وبه قال مالك "لا للتعدي" لديانة الكافر الذمي حلها "بل لبقاء التقوم" لها "في حقهم" أي أهل الذمة كما يشير إليه ما أخرج عبد الرزاق وأبو عبيد عن(6/123)
ص -399-…سعيد بن عفلة بلغ عمر أن عماله يأخذون الجزية من الخمر فناشدهم ثلاثا فقال له بلال: إنهم ليفعلون ذلك قال فلا تفعلوا ولوهم بيعها زاد أبو عبيد وخذوا أنتم من الثمن وأخرجه أبو يوسف في كتاب الخراج بلفظ ولوا أربابها بيعها ثم خذوا الثمن منهم ومن أتلف مالا متقوما في حق المتلف عليه وجب أن يضمن كإتلافه الشيء المتفق على ماليته وتقومه بخلاف الميتة حتف أنفها، فإن أحدا من أهل الأديان لا يدين تمولها "ولأن الدفع عن النفس، والمال بذلك" أي بالتضمين؛ لأن المتلف إذا علم أنه إذا أتلف لا يؤاخذ بالضمان أقدم على الإتلاف، والدفع واجب "فهو" أي التضمين "من ضرورته" أي الدفع ثم إذا وجب الضمان وهي من المثليات فعلى المتلف الذمي مثلها؛ لأنه غير ممنوع من تملكها وتمليكها وعلى المسلم قيمتها؛ لأنه ممنوع من تمليكها، والقيمة غيرها. "ثم قال أبو حنيفة ومنع" التدين "تناول الخطاب إياهم" في أحكام الدنيا "مكرا بهم"، وهو الأخذ على غرة "واستدراجا لهم"، وهو تقريب الله تعالى العبد إلى العقوبة بالتدريج على وجه لا شعور للعبد به كالطبيب يترك مداواة المريض ولا يمنعه من التخليط عند يأسه من البرء لا تخفيفا عليه "فيما يحتمل التبدل كخطاب لم يشتهر فلو نكح مجوسي بنته، أو أخته صح في أحكام الدنيا فلا نفرق بينهما لا إن ترافعا إلينا" لانقيادهما لحكم الإسلام حينئذ فيثبت حكم الخطاب في حقهما كما أشار إليه قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 42] "لا" إن دفع "أحدهما" صاحبه إلينا "خلافا لهما" أي لأبي يوسف ومحمد "في" نكاح "المحارم"؛ لأنهما، وإن وافقا أبا حنيفة على أن ما لإباحته أصل قبل شريعتنا يبقى عليه في حقهم لقصر الدليل عنهم فيه باعتبار ديانتهم وذلك كالخمر، والخنزير فقالا: يقومان في حقهم لإباحتهما قبل شريعتنا فيبقيان على الإباحة، والتقوم، والضمان كقول أبي حنيفة فهما يخالفانه فيما ليس لإباحته أصل قبل شريعتنا(6/124)
فقالا: لا يصح في حقهم أيضا، ونكاح المحارم من هذا القبيل "لأنه" أي جواز نكاحهن "لم يكن حكما ثابتا" قبل الإسلام "ليبقى" النكاح عليه "لقصر الدليل" عنهم بالديانة بل حين وقع وقع باطلا، وإنما تركنا التعرض لهم لتدينهم ذلك وفاء بالذمة "وفي مرافعة أحدهما" صاحبه إلينا أيضا فقالا يفرق بينهما الزوال المانع من التفريق بانقياد أحدهما لحكم الإسلام قياسا على إسلامه، ومن ثمة لا يتوارثون بهذه الأنكحة إجماعا، ولو كانت صحيحة لتوارثوا بها. ووجه قول أبي حنيفة العمل بظاهر الأمر بتركهم وما يدينون استدراجا لهم كما أشار إليه المصنف، وإذا كان الفرض أنهم يدينون نكاح المحارم فيكون صحيحا على أنه قد كان مشروعا في شريعة آدم عليه السلام ثم إذ كان صحيحا فرفع أحدهما لا يرجحه على الآخر بل يعارضه فيبقى على الصحة بخلاف إسلام أحدهما، فإنه وإن عارض الباقي لتغير اعتقاده يترجح عليه لما تقدم في السكر مخرجا موقوفا ومرفوعا: "الإسلام يعلو ولا يعلى", ولو دخل" المجوسي "بها" أي بزوجته التي هي محرم منه "ثم أسلم حد قاذفهما"، والوجه قاذفه كما كانت عليه النسخة أولا وأحسن من هذا ثم أسلما حد قاذفهما عند أبي حنيفة أيضا لإحصانهما بناء على صحة النكاح عنده ولا يحد عندهما لعدم إحصانهما بناء على بطلان النكاح عندهما، فإن قيل: إذا كانت ديانتهم معتبرة في ترك(6/125)
ص -400-…التعرض فيجب أن يتركوا على ديانتهم في الربا قلنا: ليست ديانتهم مطلقا معتبرة في ترك التعرض لهم بل الديانة الصحيحة بالنسبة إليهم وليست ديانتهم تناول الربا صحيحة كما أشار إليه بقوله: "بخلاف الربا؛ لأنهم فسقوا به" أي بالربا "لتحريمه عليهم قال تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161]". وروى القاسم بن سلام عن أبي المليح الهذلي أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل نجران وكتب لهم كتابا وساقه وفيه "ولا تأكلوا الربا فمن أكل منكم الربا فذمتي منه بريئة". "وأورد" على أبي حنيفة "أن نكاح المحارم كذلك" أي ليست ديانتهم به صحيحة فلا يكون نكاحهن صحيحا فلا يحد قاذفهما بعد إسلامهما إذا دخل بها في الكفر ولا تجب به النفقة "لأنه" أي جواز نكاحهن "نسخ بعد آدم في زمن نوح فيجب أن لا يصح كقولهما: فلا حد ولا نفقة إلا أن يقال بعد ثبوته" أي نسخ جواز نكاحهن "المراد من تدينهم ما اتفقوا عليه" أي ما كان شائعا من دينهم متفقا عليه فيما بينهم وردت به شريعتهم أم لم ترد حقا، كان أو باطلا ونكاح المحارم في زمن المجوس، وإن كان باطلا غير ثابت في كتابهم شائع فيما بينهم فلم تثبت حرمته عندهم فيكون ديانة لهم بخلاف الربا عند اليهود، فإن حرمته ثابتة في التوراة فارتكابهم إياه فسق منهم لا ديانة اعتقدوا حله وليس المراد بمعتقدهم ما يعتقده بعض منهم كما أشار إليه بقوله "بخلاف انفراد القليل بعدم حد الزنا ونحوه"، فإنه لا يكون دافعا أصلا "ولأن أقل ما يوجب الدليل ك {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]" الآية "الشبهة" لعدم الصحة في حقهم "فيدرأ الحد" بها إذا سلمنا صحة نكاح المحارم وكونها حكما أصليا "وفرق" أبو حنيفة "بين الميراث، والنفقة فلو ترك" المجوسي "بنتين إحداهما زوجته فالمال بينهما نصفان أي باعتبار الرد" مع فرضهما "لأنه" أي الميراث "صلة مبتدأة لا جزاء لدفع الهلاك بخلاف النفقة"، فإن(6/126)
وجوبها لدفع الهلاك عن المنفق عليه؛ لأن سببها عجز المنفق عليه، ومن أسباب العجز الاحتباس الدائم، فإن دوامه بلا إنفاق يؤدي إلى الهلاك عادة، والمرأة محبوسة على الدوام لحق الزوج فتكون نفقتها عليه لدفع هلاكها فتكون ديانتها محبوسة لحقه على الدوام دافعة للهلاك لا موجبة عليه شيئا "فلو وجب إرث" البنت "الزوجة" بالزوجية "بديانتها" بالزوجية "كانت" ديانتها "ملزمة على" البنت "الأخرى" زيادة الميراث "والزيادة دافعة لا متعدية، وأورد أن الأخرى دانت به" أي بجواز نكاح أختها حيث اعتقدت المجوسية فيكون استحقاق أختها الزيادة في الميراث عليها بناء على التزامها بديانتها ولا يلتفت إلى نزاعها فيها؛ لأنه بمنزلة نزاع الزوج في النفقة "فذهب بعضهم"، وهو في طريقة الدعوى معزو إلى كثير من المشايخ "إلى أنه قياس قوله" أي أبي حنيفة ينبغي "أن ترثا"، والوجه أن ترث بها أيضا أي بالزوجية، أو بهما أي بالزوجية والبنتية لصحة هذا النكاح عنده "وأن النفي" لإرثها بالزوجية "قولهما" أي أبي يوسف ومحمد "لعدم الصحة عندهما وقيل" أي وقال شيخ الإسلام خواهر زاده "بل" إنما لا ترث بالزوجية عنده "لأنه" أي نكاح المحارم "إنما تثبت صحته فيما سلف" أي في شريعة آدم عليه السلام "ولم يثبت كونه" أي نكاحهن "سببا للإرث" في دينه فلا يثبت سببا للميراث في اعتقادهم وديانتهم؛ لأنه لا عبرة(6/127)
ص -401-…لديانة الذمي في حكم إذا لم يعتمد على شرع ومشى عليه في المحيط. ومن هنا ما في التلويح المراد بالديانة المعتقد الشائع الذي يعتمد على شرع في الجملة "والقاضي أبو زيد الدبوسي" قال: لا ترث البنت الزوجة بالنكاح "لفساده" أي النكاح "في حق" البنت "الأخرى؛ لأنها" أي الأخرى "إذا نازعتها" أي البنت الزوجة "عند القاضي" في استحقاقها الإرث بالزوجية "دل أنها لم تعتقده" أي جواز النكاح، واستحقاق الإرث مبني على النكاح الصحيح ولم يوجد في حقها، وهذا بخلاف الزوج إذا نازع عند القاضي بأن لا ينفق عليها بعد النكاح، فإنه لا يصح منه لما سنذكر قال المصنف "ومقتضاه" أي المذكور لأبي زيد "أنها" أي البنت الأخرى "لو سكتت" عن منازعة أختها الزوجة في استحقاقها الإرث بالزوجية "ورثت" البنت الزوجة بالزوجية أيضا "ولا يعرف عنه" أي عن أبي حنيفة "تفصيل" في أن البنت الزوجة لا تستحق بالزوجية إرثا ثم لما كان يرد على تعليل إيجاب النفقة لها على الزوج بأنه لدفع الهلاك عنها كما تقدم أن ما يكون ثبوته بطريق الدفع لا يكون بدون الحاجة، والزوجة هنا تستحق النفقة، وإن لم تكن محتاجة إليها لكونها غنية، وقد أجيب بأن الحاجة الدائمة بدوام حبس الزوج لا يردها المال المقدم للزوجة فتتحقق الحاجة لا محالة فيكون وجوبها لدفع الهلاك ولا يخفى ما فيه واختار بعضهم طريقا غير هذا فوافقه المصنف عليه وأشار إليه بقوله: "والحق في النفقة أن الزوج أخذ بديانته الصحة" لنكاح محرمه حيث نكحها؛ لأن بذلك التزم النفقة عليها وديانته حجة عليه "فلا يسقط حق غيره"، وهو النفقة على البنت الزوجة "لمنازعته بعده" أي النكاح في ذلك، وإنما يسقط عنه بإسقاط صاحب الحق ولم يوجد "بخلاف من ليس في نكاحهما" كذا وقع في عبارة فخر الإسلام ثم صدر الشريعة، والمراد من ليس مشاركا للبنت الزوجة وأبيها الزوج في النكاح له والأظهر من ليس في نكاحه "وهو البنت الأخرى" التي ليست بمنكوحة له(6/128)
لفوات الالتزام منها في هذا بخصوصه ابتداء وانتهاء هذا وفي المحيط وكل نكاح حرم لحرمة المحل كنكاح المحارم، والجمع بين خمس نسوة وبين الأختين لا يجوز عندهما واختلفوا على قول أبي حنيفة فمشايخ العراق يقع فاسدا؛ لأن ديانتهم لا تصح إذا لم تعتمد شرعا كديانتهم اجتماع رجلين على امرأة واحدة، وديانتهم نكاح المحارم لا تعتمد شرعا؛ لأن نكاحهن لم يكن مشروعا في شريعة آدم عليه السلام إلا لضرورة إقامة النسل حال عدم الأجانب وهم يدينون جوازه في حالة كثرة الأجانب فلا يمكن الحكم بالجواز بديانتهم، ومشايخنا يقع جائزا؛ لأن نكاحهن كان مشروعا في شريعة آدم عليه السلام حال عدم الأجانب ولم يثبت النسخ حال كثرة الأجانب فكان مشروعا في غير حالة الضرورة فقد اعتمدوا ديانتهم جواز ما كان مشروعا، وقد أنكروا النسخ فلم يثبت النسخ في حقهم؛ لأنا أمرنا بأن نتركهم وما يدينون ولهذا لم يثبت حرمة الخمر في حقهم انتهى، وهذا يفيد أن ليس في المسألة نص عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ثم يظهر أن الأوجه ما عليه العراقيون، ومنهم القدوري لا القول الآخر، وإن اختاره أبو زيد. وذكر صاحب الهداية أنه الصحيح؛ لأن الظاهر أن حل نكاح المحارم في الجملة في شريعة آدم عليه السلام لم يكن(6/129)
ص -402-…حكما أصليا بل كان حكما ضروريا لتحصيل النسل وإلا لم يحصل النسل أصلا، ومن ثمة لم يحل في شرعه للرجل أخته التي في بطنه وحلت له أخته من بطن آخر، والظاهر أنه لاندفاع الضرورة بالبعدى عن القربى وإلا لحلت القربى كالبعدى ثم لما ارتفعت الضرورة بكثرة النسل نسخ حل تلك الأخوات أيضا على أن المحكي في عامة كتب أصول الحنفية أن الكفار مخاطبون بالمعاملات في أحكام الدنيا بالاتفاق ولا خفاء في أن النكاح من المعاملات فيلزم كما قال شيخنا المصنف رحمه الله: اتفاق الثلاثة على أنهم مخاطبون بأحكام النكاح غير أن حكم الخطاب إنما يثبت في حق المكلف ببلوغه إليه، والشهرة تنزل منزلته وهي متحققة في حق أهل الذمة دون أهل الحرب فمقتضى النظر التفصيل وفي البديع الكفار مخاطبون بشرائع هي حرمات عندنا هو الصحيح من الأقوال، وعلى طريق وجوب الضمان وجهان أحدهما أن الخمر، وإن لم يكن مالا متقوما في الحال فهي بعرض أن تصير مالا متقوما في الثاني بالتخلل، والتخليل، ووجوب ضمان الغصب والإتلاف يعتمد كون المحل المغصوب والمتلف مالا متقوما في الجملة ولا نقف على ذلك للحال ألا ترى أن المهر، والجحش وما لا منفعة له في الحال مضمون بالغصب والإتلاف، والثاني أن الشرع منعنا عن التعرض لهم بالمنع عن شرب الخمر وأكل الخنزير حسا لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: أمرنا أن نتركهم وما يدينون، وقد دانوا شرب الخمر وأكل الخنزير فلزمنا ترك التعرض لهم في ذلك ونفي الضمان بالغصب، والإتلاف يفضي إلى التعرض؛ لأن السفيه إذا علم أنه إذا غصب، أو أتلف لا يؤاخذ بالضمان يقدم على ذلك، وفي ذلك منعهم وتعرض لهم من حيث المعنى انتهى. وهذا أيضا يفيد فساد نكاح المحارم والله سبحانه أعلم فهذا هو الجهل الأول من القسم الأول من أقسام الجهل الثلاثة.(6/130)
"وجهل المبتدع كالمعتزلة" وموافقيهم "مانعي ثبوت الصفات" الثبوتية الحقيقية من الحياة، والقدرة، والعلم، والإرادة، والكلام وغيرها لله تعالى "زائدة" على الذات على اختلاف عباراتهم في التعبير عن ذلك فقيل هو حي عالم قادر لنفسه وقيل بنفسه إلى غير ذلك كما ذكرناه في فصل شرائط الراوي "و" ثبوت "عذاب القبر"، وإنكاره معزو في المواقف إلى ضرار بن عمر وبشر المريسي وأكثر المتأخرين من المعتزلة وفي شرح المقاصد اتفق الإسلاميون على حقية سؤال منكر ونكير في القبر وعذاب الكفار وبعض العصاة فيه ونسب خلافه إلى المعتزلة قال بعض المتأخرين منهم من حكى ذلك عن ضرار بن عمرو، وإنما نسب إلى المعتزلة وهم برآء منه لمخالطة ضرار إياهم وتبعه قوم من السفهاء المعاندين للحق. "و" ثبوت "الشفاعة" للرسل، والأخيار وخصوصا سيد ولد آدم النبي المختار في أهل الكبائر في العرصات وبعد دخول النار "و" ثبوت "خروج مرتكب الكبيرة" إذا مات بلا توبة من النار "و" ثبوت جواز "الرؤية" لله تعالى بمعنى الانكشاف التام بالبصر لمن شاء الله تعالى ذلك له فضلا عن وجوبها للمؤمنين في الدار الآخرة "و" مثل "الشبهة لمثبتيها" أي الصفات المذكورة لله تعالى زائدة على الذات لكن "على ما يفضي إلى التشبيه" بالمخلوق سبحانه(6/131)
ص -403-…وتعالى عما يصفون {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "لا يصلح عذرا لوضوح الأدلة من الكتاب، والسنة الصحيحة" على ثبوت الصفات المشار إليها على الوجه المنزه عن التشبيه وكذا ما بعدها كما هو مذكور في علم الكلام وغيره "لكن لا يكفر" المبتدع في ذلك "إذ تمسكه بالقرآن، أو الحديث، أو العقل" في الجملة كما هو مسطور في موضعه "وللنهي عن تكفير أهل القبلة" أي ولما روى بعضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب" لكن تعقب بأن عن أحمد أنه موضوع لا أصل له كيف بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك الصلاة فقد كفر" وأجيب بأن في صحته عن أحمد نظرا، فإن معناه في الصحيحين، وهو ما عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفر، وإن شاء عذبه" وروى البيهقي بسند صحيح أن جابر بن عبد الله سئل هل تسمون الذنوب كفرا، أو شركا، أو نفاقا قال معاذ الله: ولكنا نقول مؤمنين مذنبين انتهى. قلت: والأولى صحته عن أحمد بما روى أبو داود وسكت عليه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من أصل الإيمان الكف عمن قال لا إله إلا الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل"، فإنه هو وحديث "من ترك الصلاة فقد كفر" مؤول بترك جحود أو مقارنة كفر، ولو كان تركها كفرا لما أمر الشارع بقضائها بدون تجديد إيمان "وعنه عليه السلام "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فاشهدوا له بالإيمان" رواه النسائي، وهو طرف من حديث طويل أخرجه البخاري وأبو داود، والترمذي إلا أنهم قالوا بدل فاشهدوا إلخ "فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته" كما قدمناه في فصل شروط الراوي(6/132)
وعنه صلى الله عليه وسلم "إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان، فإن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18] " رواه ابن ماجه، والترمذي وفي لفظ للترمذي بعباد وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه إلا أنهما قالا "فاشهدوا عليه بالإيمان" قال ابن حبان: أي اشهدوا له وقال الحاكم: لم يختلفوا في صحة هذه الترجمة وصدق رواتها "وجمع بينه" أي هذا الحديث "وبين" حديث "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة و ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" رواه أبو داود، والترمذي وابن ماجه وللترمذي ورواية لأبي داود ملة مكان " فرقة " ولأحمد ورواية لأبي داود "ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة". وللترمذي "كلهم في النار إلا ملة واحدة" قالوا: "من هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي" وقال حديث حسن صحيح ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقد احتج مسلم بمحمد بن عمر واستدركه عليه الذهبي بأنه لم يحتج به منفردا ولكن مقرونا بغيره، وللحديث طرق كثيرة من رواية كثير من الصحابة بألفاظ متقاربة "أن التي في الجنة المتبعون في العقائد، والخصال وغيرهم يعذبون، والعاقبة الجنة وعدوهم من أهل الكبائر"، وقد ذيل القاضي عضد الدين(6/133)
ص -404-…المواقف بذكرهم على سبيل التفصيل وهذا الحديث من معجزاته صلى الله عليه وسلم حيث وقع ما أخبر به ثم قال عطفا على قوله للنهي "وللإجماع على قبول شهادتهم" أي المبتدعة "على غيرهم ولا شهادة لكافر على مسلم" لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] "وعدمه" أي قبول الشهادة "في الخطابية" من الرافضة وتقدم الكلام فيهم في فصل شرائط الراوي "ليس له" أي لكفرهم بل لتدينهم الكذب فيها لمن كان على رأيهم وحلف أنه محق "وإذ كانوا" أي المبتدعة "كذلك" أي غير كفار "وجب علينا مناظرتهم" لإزالة شبهتهم وإظهار الصواب فيما نحن عليه لهم "وأورد استباحة المعصية كفر" وكثير منهم إن لم يكن عامتهم يستبيحها فيكونون كفارا "وأجيب" بأن عد فعلها مباحا إنما يكون كفرا "إذا كان عن مكابرة وعدم دليل بخلاف ما" يكون "عن دليل شرعي"، فإنه لا يكون كفرا "والمبتدع مخطئ في تمسكه" بما ليس عند التحقيق بدليل لمطلوبه "لا مكابر" لمقتضى الدليل "والله تعالى أعلم بسرائر عباده".(6/134)
هذا والمراد بالمبتدع الذي لم يكفر ببدعته، وقد يعبر عنه بالمذنب من أهل القبلة كما أشار إليه المصنف سابقا بقوله: وللنهي عن تكفير أهل القبلة هو الموافق على ما هو من ضروريات الإسلام كحدوث العالم وحشر الأجساد من غير أن يصدر عنه شيء من موجبات الكفر قطعا من اعتقاد راجع إلى وجود إله غير الله تعالى، أو إلى حلوله في بعض أشخاص الناس، أو إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو ذمه، أو استخفافه، ونحو ذلك المخالف في أصول سواها مما لا نزاع أن الحق فيه واحد كمسألة الصفات وخلق الأعمال وعموم الإرادة وقدم الكلام ولعل إلى هذا أشار المصنف ماضيا بقوله إذ تمسكه بالقرآن، أو الحديث، أو العقل إذ لا خلاف في تكفير المخالف في ضروريات الإسلام من حدوث العالم وحشر الأجساد ونفي العلم بالجزئيات، وإن كان من أهل القبلة المواظب طول العمر على الطاعات وكذا المتلبس بشيء من موجبات الكفر ينبغي أن يكون كافرا بلا خلاف وحينئذ ينبغي تكفير الخطابية لما قدمناه عنهم في فصل شرائط الراوي، وقد ظهر من هذا أن عدم تكفير أهل القبلة بذنب ليس على عمومه إلا أن يحمل الذنب على ما ليس بكفر فيخرج المكفر به كما أشار إليه السبكي غير أن قوله: غير أني أقول إن الإنسان ما دام يعتقد الشهادتين فتكفيره صعب وما يعرض في قلبه من بدعة إن لم تكن مضادة لذلك لا يكفر، وإن كانت مضادة له، فإذا فرضت غفلته عنها واعتقاده الشهادتين مستمر فأرجو أن ذلك يكفيه في الإسلام، وأكثر الملة كذلك ويكون كمسلم ارتد ثم أسلم إلا أن يقال: ما به كفر لا بد في إسلامه من توبته عنه فهذا محل نظر. وجميع هذه العقائد التي يكفر بها أهل القبلة قد لا يعتقدها صاحبها إلا حين بحثه فيها لشبهة تعرض له، أو مجادلة، أو غير ذلك وفي أكثر الأوقات يغفل عنها، وهو ذاكر للشهادتين لا سيما عند الموت انتهى فيه ما فيه ثم عدم تكفير أهل القبلة بذنب نص عليه أبو حنيفة في الفقه الأكبر فقال: ولا نكفر أحدا بذنب(6/135)
من الذنوب، وإن كانت كبيرة إذا لم يستحلها وجعله من شعار أهل الجماعة على ما في منتقى الحاكم الشهيد عن إبراهيم بن رستم عن أبي عصمة(6/136)
ص -405-…نوح بن أبي مريم المروزي قال سألت أبا حنيفة من أهل الجماعة فقال: من فضل أبا بكر وعمر وأحب عليا وعثمان ولم يحرم نبيذ الجر ولم يكفر واحدا بذنب ورأى المسح على الخفين وآمن بالقدر خيره وشره من الله ولم ينطق في الله بشيء قالوا: ونقل عن الشافعي ما يدل عليه حيث قال: لا أرد شهادة أحد من أهل الأهواء إلا الخطابية، فإنهم يعتقدون حل الكذب، والظاهر أنه لم يثبت عنده ما يفيد كفرهم كما سلف في فصل شرائط الراوي وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام رجع الأشعري عند موته عن تكفير أهل القبلة؛ لأن الجهل بالصفات ليس جهلا بالموصوفات وقال: اختلفنا في عبارة، والمشار إليه واحد قلت بل قال في أول كتاب مقالات الإسلاميين واختلف المسلمون بعد نبيهم في أشياء ضلل بعضهم بعضا وتبرأ بعضهم عن بعض فصاروا فرقا متباينين إلا أن الإسلام يجمعهم ويعمهم انتهى فلا جرم أن قال إمام الحرمين وابن القشيري وغيرهما: أظهر مذهبي الأشعري ترك تكفير المخطئ في الأصول. وقال الإمام أيضا ومعظم الأصحاب على ترك التكفير وقالوا: إنما يكفر من جهل وجود الرب، أو علم وجوده ولكن فعل فعلا، أو قال قولا أجمعت الأمة على أنه لا يصدر ذلك إلا عن كافر ومن قال بتكفير المتأولين يلزمه أن يكفر أصحابه في نفي البقاء كما يكفر في نفي العلم وغيره من المسائل المختلف فيها وذكر غيره أن على هذا جمهور الفقهاء، والمتكلمين ويترتب على عدم التكفير أنه لا يقطع بخلوده في النار وهل يقطع بدخوله فيها حكى القاضي حسين فيه وجهين وقال المتولي: ظاهر المذهب أنه لا يقطع وعليه يدل كلام الشافعي ثم قد ظهر أنه لا إجماع على قبول شهادتهم، ومن ثمة في الاختيار ولا تقبل شهادة المجسمة؛ لأنهم كفرة ويوافقه ما في المواقف وقد كفر المجسمة مخالفوهم قال الشارحون من أصحابنا والمعتزلة وقال شيخنا المصنف رحمه الله في المسايرة، وهو أظهر، فإن إطلاق الجسم مختارا بعد علمه بما فيه من اقتضاء النقص استخفاف(6/137)
انتهى. نعم من أهل السنة، والجماعة من لم يكفرهم بناء على أن لازم المذهب ليس بمذهب لصاحبه فمن يلزمه الكفر ولم يقل به فليس بكافر، وعليه مشى الإمام الرازي والشيخ عز الدين بن عبد السلام ثم كيف يكون في قبول شهادة أهل الأهواء إجماع ومالك لا يقبلها، ولو لم يكفروا بأهوائهم بناء على أنهم فسقة وتابعه أبو حامد من الشافعية اللهم إلا أن يراد إجماع من قبله، وهو يحتاج إلى ثبت فيه والله سبحانه أعلم وهذا هو الجهل الثاني من القسم الأول من أقسام الجهل الثلاثة.
"وجهل الباغي، وهو" المسلم "الخارج على الإمام الحق" ظانا أنه على الحق، والإمام على الباطل متمسكا بذلك "بتأويل فاسد"، فإن لم يكن له تأويل فحكمه حكم اللصوص، وهو لا يصلح عذرا لمخالفته التأويل الواضح، فإن الدلائل على كون الإمام الحق على الحق مثل الخلفاء الراشدين ومن سلك طريقهم ظاهرة على وجه يعد جاحدها مكابرا معاندا قالوا: وهذان الجهلان دون الجهل الأول. وأما قول المصنف جهل الباغي "دون جهل المبتدعة" فلم أقف على تصريحهم به نعم "لم يكفره" أي الباغي "أحد إلا أن يضم" الباغي "أمرا آخر" يكفر(6/138)
ص -406-…به إلى البغي "وقال علي: رضي الله عنه إخواننا بغوا علينا" فأطلق عليهم أخوة المسلمين وظاهر ذلك لا يقال للكافر "فنناظره" أي الباغي "لكشف شبهته" لعله يرجع إلى طاعة الإمام الحق بلا قتال "بعث علي ابن عباس لذلك" كما أخرجه بطوله النسائي وغيره. "فإن رجع" الباغي إلى طاعة الإمام الحق "بالتي هي أحسن، وإلا وجب جهاده" لقوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] أي ترجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولأن البغي معصية ومنكر، والنهي عن المنكر فرض وذلك بالقتال حينئذ، وقيل: إنما تجب محاربتهم إذا تجمعوا وعزموا على القتال؛ لأنها إنما تجب بطريق الدفع ثم ظاهر هذا السوق يفيد أن هذه الدعوة لهم قبل القتال واجبة، وأن القتال إنما يجب بعدها وليس كذلك بل القتال واجب قبلها، وأن تقديمها عليه أحسن كما في المبسوط، أو مستحب كما في الاختيار؛ لأنهم علموا لماذا يقاتلون فصاروا كالمرتدين "وما لم يصر له" أي الباغي "منعة" بالتحريك، وقد يسكن أي قوة يمنع بها من قصد من الأعداء "فيجري عليه" أي الباغي "الحكم المعروف" في قصاص النفوس وغرامات الأموال وغيرها بين المسلمين لبقاء ولاية الإلزام في حقه كما في حقهم "فيقتل" الباغي "بالقتل" العمد للعدوان "ويحرم به" أي بالقتل المذكور لمورثه الإرث منه "ومعها" أي المنعة "لا" يجري عليه الحكم المعروف "لقصور الدليل عنه" أي الباغي "لسقوط إلزامه" بسبب تأويله الذي استند إليه لدفع الخطاب عنه "والعجز عن إلزامه" حسا وحقيقة فيما يحتمل السقوط، وهو حق العبد بواسطة المنعة "فوجب العمل بتأويله" الفاسد فيه بخلاف ما لا يحتمل السقوط بها، وهو الإثم، فإن الباغي يأثم، وإن كان له منعة؛ لأنها لا تظهر في حق الشارع ولا تسقط حقوقه؛ لأن الخروج على الله حرام أبدا، والجزاء واجب لله تعالى أبدا إلا أن(6/139)
يعفو "ولا نضمن ما أتلفنا من نفس ومال" وهذا ظاهر لا خلاف فيه، وقد كان الأولى فلا يضمن الباغي ما أتلف من نفس ومال في هذه الحالة بعد أخذه، أو توبته كما في الحربي بعد الإسلام تفريعا على وجوب العمل بتأويله. فإن كان المال قائما في يده ورده على صاحبه؛ لأنه لا يملكه بالأخذ كما لا يملك ماله، والتسوية بين الفئتين المتقابلتين في الدين في الأحكام أصل ثم في المبسوط عن محمد قال: أفتيهم بأن يضمنوا ما أتلفوا من النفوس، والأموال ولا ألزمهم بذلك في الحكم قال شمس الأئمة: وهذا صحيح، فإنهم كانوا معتقدين الإسلام، وقد ظهر لهم خطؤهم إلا أن ولاية الإلزام كانت منقطعة فيفتون به ولا يفتى أهل العدل بمثله؛ لأنهم محقون في قتالهم وقتلهم ممتثلون للأمر ثم الحاصل أن نفي ضمان الباغي منوط بالمنعة مع التأويل فلو تجردت عنه كقوم غلبوا على أهل بلدة فقتلوا واستهلكوا الأموال بلا تأويل ثم ظهر عليهم أخذوا بجميع ذلك، ولو انفرد التأويل عنها بأن انفرد واحد، أو اثنان فقتلوا وأخذوا المال عن تأويل ضمنوا إذا تابوا، أو قدر عليهم لإجماع الصحابة على إناطة نفي الضمان بالمنعة. والتأويل كما يفيده ما في مصنف عبد الرزاق أخبرنا معمر أخبرني الزهري أن سليمان بن هشام كتب إليه يسأله عن امرأة خرجت من عند زوجها وشهدت على قومها بالشرك ولحقت(6/140)
ص -407-…بالحرورية فتزوجت ثم إنها رجعت إلى أهلها تائبة قال فكتب إليه: أما بعد فإن الفتنة الأولى ثارت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرا كثير فاجتمع رأيهم على أن لا يقيموا على أحد حدا في فرج استحلوه بتأويل القرآن ولا قصاصا في دم استحلوه بتأويل القرآن ولا يرد مال استحلوه بتأويل القرآن إلا أن يوجد شيء بعينه فيرد على صاحبه، وإني أرى أن ترد على زوجها وأن يحد من افترى عليها وبقاء ما عدا المجمع عليه على حكمه المعروف له "ويدفف على جرحاهم" في المغرب دفف على الجريح بالدال، والذال أسرع قتله وفي كلام محمد عبارة عن إتمام القتل ويتبع موليهم، وهذا إذا كان لهم فئة أما إذا لم يكن لهم فئة فلا يذفف على جريحهم ولا يتبع موليهم كما في المبسوط وغيره وكان الواجب ذكر القيد المذكور ثم ظاهر الكتاب كغيره وجوب التدفيف، وقد صرح به فخر الإسلام لكن المذكور في المبسوط لا بأس بأن يجهز على جريحهم إذا كانت لهم فئة باقية، وقال الشافعي وأحمد: لا يجهز على جريح ولا يتبع مدبر لما روى ابن أبي شيبة عن علي أنه قال يوم الجمل: لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح وأجيب بأن القتل لدفع الشر، وإذا كان لهما فئة لم يخرج عن كونه دفعا؛ لأنهما يتحيزان إلى الفئة ويعود شرهما كما كان وأصحاب الجمل لم يكن لهم فئة أخرى سواهم "ويرث" العادل "مورثه" الباغي "إذا قتله" اتفاقا؛ لأنه مأمور بقتله فلا يحرم الميراث، وقد كان الأولى التصريح بالعادل. "وكذا عكسه" أي يرث الباغي مورثه العادل إذا قتله، وقال: كنت على الحق وأنا الآن عليه موافقة "لأبي حنيفة ومحمد" وكأنه لم يذكر هذا القيد؛ لأن الظاهر من حال إرادته، ولو قال: قتلته وأنا أعلم أني على الباطل لم يرثه عندهما وقال أبو يوسف والشافعي: لا يرثه في الوجهين؛ لأن إلحاق التأويل الفاسد بالصحيح بقول الصحابة كما في دفع الضمان، والحاجة هنا إلى إثبات الاستحقاق فإلحاقه به بلا دليل وأبو حنيفة(6/141)
ومحمد يقولان: المتحقق من الصحابة جعل تلك المنعة والاعتقاد دافعا ما لولاه لثبت لثبوت أسباب الثبوت ألا ترى أنه لولا تلك المنعة والاعتقاد لثبت الضمان لثبوت سببه من القتل العمد العدوان وإتلاف المال المعصوم فيتناول ما نحن فيه، فإن القرابة التي هي سبب استحقاق الميراث قائمة، والقتل بغير حق مانع وجد عن اعتقاد الحقية مع المنعة فمنع مقتضاه من المنع فعمل السبب عمله من إثبات الميراث "ولا يملك ماله" أي الباغي "بوحدة الدار" أي بسبب اتحاد دار العادل، والباغي؛ لأنهما في دار الإسلام إذ تملك المال بطريق الاستيلاء يتوقف على كمال اختلاف الدار، وهو منتف ثم "على هذا" أي عدم تملك مال الباغي "اتفق علي، والصحابة رضي الله عنهم" فقد أخرج ابن أبي شيبة أن عليا لما هزم طلحة وأصحابه أمر مناديه فنادى أن لا يقتل مقبل ولا مدبر ولا يفتح باب ولا يستحل فرج ولا مال وزاد في رواية ولم يأخذ من متاعهم شيئا وأخرجه عبد الرزاق وزاد فيه وكان علي لا يأخذ مالا لمقتول ويقول: من عرف شيئا فليأخذه إلى غير ذلك ولم ينقل عن غيره من الصحابة مخالفته فكان اتفاقا والله سبحانه أعلم وهذا هو الجهل الثالث من القسم الأول من أقسام الجهل الثلاثة.(6/142)
ص -408-…"وجهل من عارض مجتهده الكتاب كحل متروك التسمية عمدا و" جواز "القضاء بشاهد ويمين" من المدعي "مع {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}" الآية قال الفاضل القاآني وفيه نظر؛ لأن المخالفة إنما تتحقق بينهما أن لو لم يكن قوله تعالى: {مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] كناية عما لم يذبحه موحد، وهو ممنوع سلمنا أنه محمول على ظاهره ولكنه يحتمل أن يكون الذكر القلبي كافيا فلم قلت: إنه ليس بكاف فلا بد له من دليل انتهى وأجيب بمنع إرادة هذا الاحتمال هنا؛ لأنه تعالى قرن الذكر بكلمة على، وهو يفيد إرادته باللسان؛ لأنه يقال: ذكر عليه وسمي عليه بلسانه، ولا يقال بقلبه قلت على أنه أيضا لم يرد القائلون بأن المراد بالذكر الذكر القلبي حقيقته، وهو حضور المعنى للنفس كما هو نقيض النسيان، وهو ذهاب المعنى من النفس للزوم عدم جواز أكل ما نسي ذكر الله عليه حينئذ بل أريد به ما أقيم مقامه، وهو الملة ليدخل النسيان أيضا وأيضا النهي يقتضي تصور المنهي عنه وبحمل الذكر على الذكر القلبي ثم إقامة الملة مقامه لا يكون المنهي عنه متصورا فتعين إرادة الذكر اللساني ليكون المنهي عنه متصورا، وفي غاية البيان ولا يقال: المراد ذبيحة المشرك، والمجوسي فيتصور المنهي عنه؛ لأنا نقول: حرمة ذبائحهم لا باعتبار ترك التسمية، فإن المشرك لا تحل ذبيحته، وإن سمى الله تعالى انتهى. هذا وكون ما لم يذكر اسم الله عليه كناية عما لم يذبحه موحد سواء كان ميتة، أو ذكر غير اسم الله عليه، وقد يؤيد بقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، والفسق ما أهل لغير الله به تأويل مخالف للظاهر محوج إلى معين له، والشأن في ذلك نعم ظاهر الآية حرمة أكل ما لم يذكر اسم الله عليه من الحيوان وغيره لكن سوق الكلام وسبب النزول وإجماع من عدا عطاء دل على التخصيص باللحم، والشحم ونحوهما من أعضاء الحيوان وأجزائه ثم هو يعم(6/143)
متروك التسمية مطلقا كما ذهب إليه داود وبشر لكن خرج متروك التسمية نسيانا إما بالإجماع على ما حكاه ابن جرير وغيره على ما فيه من بحث؛ لأنه إن أريد الصدر الأول فيخدشه ما أخرج الشيخ أبو بكر الرازي أن قصابا ذبح شاة ونسي أن يذكر اسم الله عليها فأمر ابن عمر غلاما له أن يقوم عنده، فإذا جاء إنسان يشتري يقول له: إن ابن عمر يقول لك هذه شاة لم تذك فلا تشتر منها شيئا وأخرج عن علي وابن عباس وغيرهما قالوا: لا بأس بأكل ما نسي أن يسمى عليه عند الذبح وقالوا: إنما هي على الملة، وإن أريد من بعدهم فصحيح إذ لم يصح عن مالك ولا أحمد عدم الأكل في النسيان ولم يعتبر قول داود وبشر في الإجماع على مثله. وإما؛ لأن الناسي ليس بتارك لذكر اسم الله في المعنى على ما قالوا لما عن أبي هريرة سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم "الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي الله قال: اسم الله على كل مسلم" وفي لفظ "على فم كل مسلم" أخرجه الدارقطني وابن عدي لكن فيه مروان بن سالم متروك لكن يشده ما قدمناه في بحث فساد الاعتبار من مراسيل أبي داود ثم ظاهرهما أنه لا فرق بين الناسي، والعامد وبه تتضاءل التفرقة بينهما بعذر الناسي؛ لأن النسيان من قبل من له الحق فأقام الشارع الملة مقام التسمية فجعل عفوا دافعا للعجز وعدم عذر العامد؛ لأن الترك من قبله فلم يكن في معناه، فإن هذا إبطال النص بالمعنى، وهو غير جائز على أنه يرد على هذا أيضا(6/144)
ص -409-…بالنسبة إلى أصل الدليل بعد التنزل نحو هذا، فإن هذا خبر واحد، وهو لا يجوز تخصيص الكتاب به ابتداء فالأول أشبه بعد أن يكون المراد إجماع من يعتد بإجماعه بعد الصدر الأول وحينئذ لا يلحق به العامد؛ لأن الظاهر أن المعقول من حكم الإجماع بالإجزاء إنما هو دفع الحرج، وهو في الناسي لا في العامد ثم هذا في ذبيحة المسلم، وأما ذبيحة الكتابي، فإن ترك التسمية عليها عمدا ففي الدراية لم تحل ذبيحته بإجماع الفقهاء وأهل العلم. وصورة متروك التسمية عمدا أن يعلم أن التسمية شرط وتركها مع ذكرها أما لو تركها من لا يعلم اشتراطها فهو في حكم الناسي ذكره في الحقائق ومع قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] الآية قالوا: لأن الله تعالى بين المعتاد بين الناس من الشهادة، وهو شهادة رجلين ثم انتقل إلى غيره، وهو شهادة النساء مبالغة في البيان مع أن حضورهن في مجالس الحكم غير معتاد بل هو حرام بلا ضرورة؛ لأنهن أمرن بالقرار في البيوت فلو كان يمين المدعي مع شاهد حجة لانتقل إليه لكونه أيسر وجودا ولم ينتقل إلى ما هو غير معتاد إذ لم يتحقق ضرورة مبيحة لحضورهن لإمكان وصوله إلى حقه بشاهد ويمين فكان النص من هذا الوجه بطريق الإشارة دالا على أن الشاهد مع اليمين ليس بحجة، والنص وإن كان في التحمل لكن فائدة التحمل الأداء فهو يفضي إليه وأيضا أول الآية، وهو قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا} [البقرة: 282] أمر بفعل الاستشهاد، وهو مجمل فيما يرجع إلى عدد الشهود كقول القائل: كلوا، فإنه مجمل في حق تناول المأكولات فيكون ما بعده تفسيرا لذلك المجمل وبيانا لجميع ما هو المراد، وهو استشهاد رجلين {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] كقوله: كلوا الخبز، واللحم، فإن لم يوجد فالخبز، والجبن، وإذا ثبت أن المذكور في النص هو(6/145)
جميع المستشهد به فلا يكون القضاء بشاهد ويمين حجة إذ لو كان حجة لبينه الله تعالى في معرض الاستقصاء في البيان {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64] وأيضا نص الله تعالى على أن أدنى ما تنتفي به الريبة ما هو المذكور في النص حيث قال {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] وليس دون الأدنى شيء تنتفي به الريبة فلو كان الشاهد مع اليمين حجة لزم منه انتفاء كون المنصوص أدنى فيكون مخالفا للنص ضرورة.
"والسنة المشهورة" أي وجهل من عارض مجتهده السنة المشهورة "كالقضاء المذكور" أي بشاهد ويمين المدعي "مع" قوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" لفظ البيهقي ولفظ الصحيحين "واليمين على المدعى عليه" فجعل جنس الأيمان على المنكر، أو على المدعى عليه إذ لا عهد ثمة وليس وراء الجنس شيء فلا يكون بعض الأيمان في جانب المدعي وما أخرج مسلم وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين. أجيب بأنه أخرجه عن سيف عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس، وقد ذكر الترمذي أنه سأل محمدا يعني البخاري فقال عمرو لم يسمع هذا من ابن عباس عندي. وقال الطحاوي: قيس بن سعد لا يعلم أنه يحدث عن عمرو بن دينار بشيء فقد رمى الحديث بالانقطاع في موضعين وسيف عن قيس ذكره ابن عدي في كتابه الموضوع في الضعفاء، وهو(6/146)
ص -410-…الكامل وساق له هذا الحديث وعن ابن المديني أنه قال: غلط سيف في هذا الحديث، والحديث المعروف الذي رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه. وسأل عياش ابن معين عن هذا الحديث فلم يعرفه ورواه محمد بن مسلم الطائفي أيضا عن عمرو بن دينار إلا أن محمدا هذا تكلم فيه قال أحمد: ما أضعف حديثه وضعفه جدا ومع ضعفه اختلف عليه في هذا الحديث كما ذكر البيهقي في سننه وذكر في المعرفة أن الشافعي لم يحتج بهذا الحديث في هذه المسألة لذهاب بعض الحفاظ إلى كونه غلطا، وقال ابن عبد البر: هذا الحديث إرساله أشهر انتهى. وروي من وجوه لا تخلوا كلها من النظر وروى ابن أبي شيبة بإسناد على شرط مسلم عن الزهري هي بدعة وأول من قضى بها معاوية وفي مصنف عبد الرزاق أخبرنا معمر سألت الزهري عن اليمين مع الشاهد فقال: شيء أحدثه الناس لا بد من شاهدين إلى غير ذلك وأورد لم يبق لتضعيف الحديث مجال بعد ما أخرجه مسلم وأجيب بالمنع، فإن مسلما ليس بمعصوم عن الخطإ، وقد وهم في ذلك، وقد أخذ عليه بمثل ذلك غير ناقد فذكر المازري أن فيه أربعة عشر حديثا مقطوعا وقال غيره: أخذ على مسلم في سبعين موضعا رواه متصلا، وهو منقطع ويجوز أن يطلع على أكثر من ذلك على أنه غير خاف رجحان الكتاب، والسنة المشهورة على هذا الحديث مع أنه لا دلالة ظاهرة فيه على المطلوب إذ ليس فيه بيان المحكوم به، والمحكوم عليه ولا كيفية السبب في ذلك ولا المستحلف من هو حتى يصح اعتبار غيره به إذ ليس هو عموم لفظ من النبي صلى الله عليه وسلم فيعتبر فيه لفظه بل هو قضية خاصة لا يدرى ما هي أيضا وإذا كان قضية خاصة في شيء خاص فيجوز أن يكون على معنى متفق على جوازه، وهو أن يكون قبل شهادة الطبيب، أو امرأة في عيب لا يطلع عليه غير ذلك الشاهد واستحلف المشتري مع ذلك أنه ما رضي بالعيب فيكون قاضيا في رد المبيع بشاهد واحد مع(6/147)
يمين المشتري ويحتمل أيضا أن يكون معنى قوله: قضى باليمين مع الشاهد أي مع البينة، أو مع الشاهدين فأطلق اسم الشاهد وأراد به الجنس لا العدد إلى غير ذلك ومع الاحتمال يسقط الاستدلال ثم جمهور العلماء على أن القضاء بيمين المدعي وشاهد واحد في غير الأموال لا يصح، واختلفوا في الأموال فأصحابنا ومن وافقهم لا يصح أيضا والشافعي وآخرون يصح فيها والله أعلم.
"والتحليل" أي وكالقول بحل المطلقة ثلاثا لزوجها الأول إذا تزوجها الثاني ثم طلقها "بلا وطء" كما هو قول سعيد بن المسيب فقد روى سعيد بن منصور عنه أنه قال: الناس يقولون حتى يجامعها، وأما أنا فأقول: إذا تزوجها نكاحا صحيحا، فإنها تحل للأول "مع حديث العسيلة"، وهو ما روى الجماعة عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجت زوجا غيره فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها أتحل لزوجها الأول قال: "حتى يذوق الآخر من عسيلتها ما ذاق الأول"، فإن قول سعيد مخالف لهذه السنة المشهورة واستغرب منه ذلك حتى قيل لعل الحديث لم يبلغه وقال الصدر الشهيد ومن أفتى بهذا القول فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين. وفي المبسوط: ولو أفتى فقيه بذلك يعزر.(6/148)
ص -411-…"والإجماع" أي وجهل من عارض مجتهده الإجماع "كبيع أمهات الأولاد" أي جوازه كما ذهب إليه داود الظاهري "مع إجماع المتأخر من الصحابة"، والوجه من التابعين على عدم جواز بيعهن كما عليه الأئمة الأربعة لما تقدم في الإجماع من اختلاف الصحابة في جوازه وإجماع التابعين على منعه "فلا ينفذ القضاء بشيء منها" أي من حل متروك التسمية عمدا، ومن جواز القضاء بشاهد ويمين المدعي، ومن وجود التحليل بلا وطء، ومن جواز بيع أمهات الأولاد، وأما هذا فقد تقدم في الإجماع ما فيه من اختلاف وأن هذا هو الأظهر من الروايات عنهم وما نبهنا عليه من عدم نفاذ قضاء قاض من قضاة زماننا به، ولو نفذه جم غفير منهم. وأما عدم نفاذ وجود التحليل بلا وطء وعدم نفاذ القضاء بشاهد ويمين المدعي فظاهر لمخالفة كل منهما ظاهر الكتاب، والسنة المشهورة إلا أن كون القضاء بشاهد ويمين المدعي لا ينفذ بل يتوقف على إمضاء قاض آخر هو المذكور في أقضية الجامع وفي بعض المواضع ينفذ مطلقا، وأما عدم نفاذ القضاء بحل متروك التسمية عمدا فهو المذكور لكثير من غير حكاية خلاف، وفي المحيط ذكر في النوادر أنه ينفذ عند أبي حنيفة خلافا لأبي يوسف. وفي الخلاصة: وأما القضاء بحل متروك التسمية عمدا فجائز عندهما، وعند أبي يوسف لا يجوز، وهو ظاهر الهداية مع إفادة أن عليه المشايخ "وكترك العول" كما ذهب إليه ابن عباس وخرجناه في الإجماع "وربا الفضل" أي القول بحله كما صح عن ابن عباس، وقد روي رجوعه عنه فأخرج الطحاوي عن أبي سعيد الخدري قلت لابن عباس: أرأيت الذي يقول الدينارين بالدينار، والدرهم بالدرهمين أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما" فقال ابن عباس: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: نعم فقال: إني لم أسمع هذا إنما أخبرنيه أسامة بن زيد. وقال أبو سعيد ونزع عنها ابن عباس فلا ينفذ القضاء بشيء منهما(6/149)
أيضا لمخالفة الأول الإجماع، والثاني النص، والإجماع، وعلى هذا فقد كان الأولى تأخير قوله فلا ينفذ القضاء بشيء منها إلى ما بعدهما ثم كما قال المصنف رحمه الله في فتح القدير: يراد بالكتاب المجمع على مراده، أو ما يكون مدلول لفظه ولم يثبت نسخه ولا تأويله بدليل مجمع عليه فالأول مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} فلو قضى قاض بحل أم امرأته كان باطلا لا ينفذ، والثاني مثل {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فلا ينفذ الحكم بحل متروك التسمية عمدا وهذا لا ينضبط، فإن النص قد يكون مؤولا فيخرج عن ظاهره، فإذا منعناه يجاب بأنه مؤول بالمذبوح للأنصاب أيام الجاهلية فيقع الخلاف في أنه مؤول، أو ليس بمؤول فلا يكون حكم أحد المتناظرين بأنه غير مؤول قاضيا على غيره بمنع الاجتهاد فيه نعم قد يترجح أحد القولين على الآخر بثبوت دليل التأويل فيقع الاجتهاد في بعض أفراد هذا القسم أنه مما يسوغ فيه الاجتهاد، أو لا ولذا يمنع نفاذ القضاء في بعض الأشياء ويجيزونه وبالعكس ولا فرق في كونه مخالفا للإجماع بين أن يكون على الحكم، أو على تأويل السمعي.
قلت: ثم لقائل أن يقول المجتهد فيه المعارض لمدلول أحد هذه الأصول الثلاثة المحكوم بعد اعتباره حتى إن القضاء لا ينفذ إما أن يكون معارضا لما كان من الكتاب قطعي(6/150)
ص -412-…الدلالة غير منسوخ، أو ما كان من السنة كذلك متواتر الثبوت، أو ما كان من الإجماع قطعي الثبوت، والدلالة وهذا لا شك فيه لكن في صدور هذا من المجتهد بعد عظيم؛ لأن استحلال مخالفة كل من هذه كفر فلا ينبغي أن يكون المراد وإما أن يكون معارضا لما كان من الكتاب، أو السنة ظني الدلالة سواء كانت السنة قطعية الثبوت، أو لا، أو من الإجماع ما كان ظني الثبوت، أو الدلالة وهذا في عدم نفاذ الحكم بمعارضه مطلقا نظر ظاهر وفي بعض شروح الجامع للمشايخ المتقدمين جملة قضاء القضاة على ثلاثة أقسام قسم منه أن يقضى بخلاف النص، والإجماع وهذا باطل ليس لأحد أن يجيزه ولكل واحد من القضاة نقضه إذا رفع إليه، وقسم منه أن يقضي في موضع مختلف فيه وفي هذا ينفذ قضاؤه وليس لأحد نقضه، وقسم منه أن يقضي بشيء يتعين فيه الخلاف بعد القضاء أي يكون الخلاف في نفس القضاء فبعضهم يقولون نفذ قضاؤه وبعضهم يقولون بل يتوقف على إمضاء قاض آخر إن أجازه جاز ويصير كأن القاضي الثاني قضى في مختلف فيه وليس للثاني نقضه، وإن أبطله الثاني بطل، وليس لأحد يجيزه انتهى، وبعد إحاطة العلم بما ذكرناه لا يخفى ما في القسم الأول من النظر عند تحقيق النظر. ثم إذا عرف هذا فلا خفاء في أن ما عدا التحليل بلا وطء من المجتهدات الأول ليس شيء منها معارضا لنص قطعي الثبوت، والدلالة، والإجماع كذلك فلا يكون القضاء به باطلا قطعا، وإنما الشأن في أنه هل ينفذ من غير توقف على إمضاء قاض آخر، أو يتوقف نفاذه عليه والذي يظهر أن القضاء بحل متروك التسمية عمدا وبشاهد ويمين المدعي ينفذ من غير توقف على إمضاء قاض آخر ويبيع أمهات الأولاد لا ينفذ ما لم يمضه قاض آخر، وأما القضاء بالتحليل بلا وطء بحكمه من جهة عدم النفاذ أصلا، ومن جهة النفاذ مبني على أن اشتراط الوطء فيه بعد ابن المسيب ثابت بإجماع قطعي، أو ظني للعلم بانتفاء النص القطعي الدلالة عليه، فإن قيل بإجماع ظني لم ينفذ حتى(6/151)
يمضيه قاض آخر، وإن قيل بإجماع قطعي، وهو الأظهر وكيف لا، وقد صار من ضروريات الدين فهو باطل قطعا، وكذا الجواب بحل ربا الفضل وترك العول ثم حيث قلنا: ينفذ القضاء بكذا، أو يتوقف نفاذ القضاء به على إمضاء قاض آخر فهو بالنسبة إلى هذه الأزمان إذا كان ذلك من قاضي مذهب مقلده صح القضاء به على التقدير الأول، وإمضاء ذلك القضاء على التقدير الثاني لما أشرنا إليه في الإجماع من أن قضاة هذه الأزمان إنما فوض إلى كل منهم القضاء بمذهب مقلده من الأئمة الأربعة فلا ولاية له في القضاء بمذهب غير مقلده وإذن ففي هذه الأزمان لا سبيل بحال إلى نفاذ القضاء ببيع أمهات الأولاد بوجود التحليل بلا وطء ولا بحل ربا الفضل ولا بترك العول، ولو فرض وقوع قضاء قضاة الأقطار به وتنفيذهم له وما ذكر من نفاذ بعض ذلك لو وقع فهو بالنسبة إلى القاضي المجتهد المفوض إليه الحكم باجتهاده على ما في ذلك من خلاف فليتنبه له والله سبحانه أعلم وهذا هو الجهل الرابع من القسم الأول من أقسام الجهل الثلاثة.
القسم "الثاني" من أقسام الجهل الثلاثة "جهل يصلح شبهة" دراءة للحد، والكفارة وعذرا في غيرهما وكان الأولى ذكره مثال هذا "كالجهل في موضع اجتهاد صحيح بأن لم يخالف"(6/152)
ص -413-…الاجتهاد "ما ذكر" أي الكتاب، أو السنة المشهورة، أو الإجماع، وكان في مناط الحكم فيه خفاء، وقد اختلف العلماء فيه "كمن صلى الظهر بلا وضوء" ظانا أنه على وضوء "ثم صلى العصر به" أي بوضوء "ثم ذكر" أنه صلى الظهر بلا وضوء "فقضى الظهر فقط ثم صلى المغرب يظن جواز العصر" بجهله بوجوب الترتيب "جاز" أداؤه صلاة المغرب "لأنه" أي ظنه جواز العصر "في موضع الاجتهاد" الصحيح "في ترتيب الفوائت"؛ لأن في مناط الحكم بوجوبه فيها نوع خفاء ولهذا وقع فيه خلاف بين العلماء ثم خلافهم معتبر ليس فيه مخالفة لشيء مما ذكر فكان دليلا شرعيا صالحا لإفادة ظن جواز العصر، فإن كانت في الحقيقة إنما أديت قبل الظهر حتى كان عليه قضاء العصر فكان هذا الجهل عذرا في جواز المغرب لا العصر. والفرق أن فساد الظهر بترك الوضوء فساد قوي مجمع عليه فكانت متروكة بيقين فيظهر أثر الفساد فيما يؤدى بعدها ولم يعذر بالجهل وفساد العصر بترك الترتيب ضعيف مختلف فيه فلم تكن متروكة بيقين فلم يتعد حكمه إلى صلاة أخرى؛ لأن وجوب الترتيب ثبت بالسنة في متروكه بيقين علما وعملا وكان الحسن بن زياد يقول: إنما يجب مراعاة الترتيب على من يعلم فأما من لا يعلم به فليس عليه ذلك؛ لأنه ضعيف في نفسه فلا يثبت حكمه في حق من لا يعلم به وكان زفر يقول: إذا كان عنده أن ذلك يجزيه فهو في معنى الناسي للفائتة فيجزيه فرض الوقت وأجيب بأنه إن كان الرجل مجتهدا قد ظهر عنده أن مراعاة الترتيب غير واجب فهو دليل شرعي، وكذا إن كان ناسيا، فإنه حينئذ معذور غير مخاطب بأداء الثانية قبل أن يذكرها بخلاف ما إذا كان ذاكرا، وهو غير مجتهد، فإن مجرد ظنه ليس بدليل شرعي فلا يعتبر ومثال الأول ما أشار إليه بقوله: "وكقتل أحد الوليين" قاتل موليه عمدا عدوانا "بعد عفو" الولي "الآخر" جاهلا بعفوه، أو بسقوط القود بعفوه معتمدا على ظن أن القود له "لا يقتص منه"؛ لأن هذا جهل في موضع الاجتهاد "لقول بعض(6/153)
العلماء" من أهل المدينة على ما في التهذيب "بعدم سقوطه" أي القصاص الثابت للورثة "بعفو أحدهم" حتى لو عفا أحدهم كان للباقين القتل هذا إذا لم يوجد الإجماع سابقا على هذا القول، أو لاحقا إن ثبت عمن يعتد بخلافه وإلا فالظاهر أن هذا مخالف للإجماع؛ لأن الاجتهاد، وإن كان يقتضي أن لكل ولاية الاستيفاء بعد عفو أحدهما لم يقل به أحد من الفقهاء فلا يكون ذلك الاجتهاد صحيحا وحينئذ، فإنما يكون هذا الجهل شبهة في إسقاط القود؛ لأنه جهل في موضع الاشتباه أما على التقدير الأول فلأنه علم وجوب القصاص وما ثبت فالظاهر بقاؤه، والظاهر يكون شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات. وأما على التقدير الثاني فلأن الظاهر أن تصرف غيره في حقه غير نافذ عليه وسقوط القود لمعنى خفي، وهو أن القود لا يقبل التجزؤ فاشتبه عليه حكم قد يشتبه فيصير بمنزلة الظاهر في إيراث الشبهة "فصار" الجهل المذكور "شبهة تدرأ القصاص"، وقد يسقط القود باعتبار الظن كما لو رمى إلى شخص ظنه كافرا، فإذا هو مسلم، وإذا سقط القود بالشبهة لزمه الدية في ماله؛ لأن فعله عمد ويحسب له منها نصف الدية؛ لأن بعفو شريكه وجب له نصف الدية على المقتول فيصير نصف الدية قصاصا بالنصف ويؤدي ما بقي أما لو(6/154)
ص -414-…علم سقوط القود بالعفو ثم قتله عمدا يجب القود لإقدامه على القتل مع العلم بالحرمة ثم هذا كله عند علمائنا الثلاثة وقال زفر عليه القصاص لسقوط القود بالعفو علم به، أو لا اشتبه عليه حكمه، أو لا؛ لأن مجرد الظن غير مانع من وجوب القود بعد ما تقرر سببه كما لو قتل رجلا على ظن أنه قتل وليه ثم جاء وليه حيا، وقد انطوى دفعه فيما تقدم. "و" مثل "المحتجم" في نهار رمضان "إذا ظنها" أي الحجامة "فطرته" فأفطر بعدها "لا كفارة" عليه، وإنما عليه القضاء لا غير "لأن" قوله صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم، والمحجوم" رواه أصحاب السنن وصححه ابن حبان، والحاكم "أورث شبهة فيه" أي في وجوبها بالفطر بعد الحجامة "وهذه الكفارة يغلب فيها معنى العقوبة" على العبادة عند الحنفية "فتنتفي بالشبهة" كما تقدم في فصل الحاكم وهذا يشير إلى أن فطره بعد الحجامة كان اعتمادا على هذا الحديث غير عالم بتأويله ونسخه، وهو عامي، وهو قول أبي حنيفة ومحمد؛ لأن قول المفتي المعتمد في فتواه في بلده إذا كان يورث الشبهة المسقطة حتى لو أفتاه بالفساد كما هو قول أحمد فأفطر بعده لا كفارة عليه؛ لأن الحكم في حق العمل فتوى مفتيه، وإن كان مخطئا فيما أفتى به؛ لأنه لا دليل له سواه فكان معذورا ولا عقوبة على المعذور فقول الرسول صلى الله عليه وسلم أولى؛ لأنه الأصل وقال أبو يوسف: عليه الكفارة؛ لأنه ليس للعامي الأخذ بظاهر الحديث لجواز كونه مصروفا عن ظاهره، أو منسوخا بل عليه الرجوع إلى الفقهاء لعدم الاهتداء في حقه إلى معرفة صحيح الأخبار وسقيمها وناسخها ومنسوخها، فإذا اعتمده كان تاركا للواجب عليه، وترك الواجب لا يقوم به شبهة مسقطة لها بقي لو أفطر بعدها ظانا الفطر بها ولم يستفت عالما ولم يبلغه الحديث أصلا، أو بلغه ولكن علم تأويله، أو نسخه ولا إشكال في وجوب الكفارة عليه اتفاقا أما الأول فلأن الظن ما استند إلى دليل شرعي، والقياس لا يقتضي ثبوت الفطر بما(6/155)
خرج فيكون ظنه مجرد جهل، وهو لا يكون عذرا في دار الإسلام، وأما الثاني فلتعاضد علمه بكون الحديث على غير ظاهره، أو نسخه مع كون الفطر بها على خلاف القياس على وجوب الكفارة لانتفاء الشبهة حينئذ في وجوبها قالوا: وإن علم أن بعض العلماء قال بالفطر بها ولكن في هذا نظر "ومن زنى بجارية والده"، أو والدته "أو زوجته يظن حلها لا يحد" عند علمائنا الثلاثة وقال زفر: يحد للوطء الخالي عن الملك وشبهته ولا عبرة بتأويله الفاسد كما لو وطئ جارية أخيه، أو عمه على ظن الحل وهم يقولون لا يحد "للاشتباه"؛ لأن بين الإنسان وأبيه وأمه وزوجته انبساطا في الانتفاع بالمال فظنه حل الاستمتاع بأمتهم اعتماد على شبهة في ذلك فاندرأ الحد بها بخلاف الأخ، والعم، فإنه لا انبساط لكل منه، ومنهما في مال الآخر فدعوى ظنه الحل ليست معتمدة على شبهة فلا تعتبر "ولا يثبت نسب" بهذا الوطء، وإن ادعاه الواطئ "ولا عدة" أيضا على الموطوءة بهذا الوطء "لما" عرف "في موضعه" من أنه تمحض زنا إذ لا حق له في المحل، والولد للفراش وللعاهر الحجر ولا عدة من الزنا، وهذه إحدى الشبهتين الدارئتين للحد عندهم وتسمى شبهة في الفعل وشبهة اشتباه؛ لأنها إنما تؤثر في سقوط الحد على من اشتبه عليه لا على من لم يشتبه عليه كقوم سقوا خمرا على مائدة فمن علم بها(6/156)
ص -415-…وجب عليه الحد ومن لا فلا والشبهة الأخرى وتسمى الشبهة في المحل وشبهة الدليل، والشبهة الحكمية وجود الدليل النافي للحرمة في ذاته مع تخلف حكمه لمانع وهذه لا تتوقف على الظن كوطء الأب جارية ابنه، فإنه لا يحد إن قال: علمت أنها حرام علي؛ لأن المؤثر في هذه الشبهة الدليل الشرعي كقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" رواه ابن ماجه بسند صحيح، وهو قائم فيؤثر في سقوط الحد مطلقا ويثبت به النسب إذا ادعاه وتصير الجارية به أم ولد وعند أبي حنيفة شبهة أخرى دارئة للحد وهي شبهة العقد سواء علم الحرمة أم لا كوطء التي تزوجها بغير شهود، وإنما لم يتعرض المصنف لهاتين؛ لأنهما ليستا مما هو بصدده كما هو غير خاف ثم كما قال المصنف: ومعنى دعوى ظنه الحل أنه علم أن الزنا حرام لكن ظن أن وطأه ليس زنا محرما فلا يعارض ما في المحيط الآتي قريبا "وكذا حربي دخل دارنا فأسلم فشرب الخمر جاهلا بالحرمة لا يحد"؛ لأنه في موضع الشبهة يحل شربها في وقت "بخلاف ما إذا زنى" بعد دخوله دار الإسلام وإسلامه زاعما حل الزنا، فإنه لا يلتفت إلى زعمه ويحد. وإن فعله أول يوم دخوله الدار وإسلامه "لأن جهله بحرمة الزنا لا يكون شبهة" دارئة للحد عنه؛ لأن هذا الظن في غير محل الشبهة "لأن الزنا حرام في جميع الأديان" فلم يتوقف العلم بحرمته على بلوغ خطاب الشرع لتحقق حرمته قبله "فلا يكون جهله عذرا" لكونه من تقصيره في الطلب "بخلاف الخمر"، فإنها لم يكن شربها حراما في سائر الأديان "فما في المحيط وغيره شرط الحد أن لا يظن الزنا حلالا مشكل"، فإن هذه المسألة تفيد أن ليس شرط وجوب الحد على الزاني عدم ظنه حل الزنا حتى يكون ظنه حله مانعا من إقامته عليه هذا والذي في شرح الهداية للمصنف شرط وجوب الحد أن يعلم أن الزنا حرام انتهى، وهو أخص مما هنا وما في الشرح هو المذكور في محيط رضي الدين وهذا لفظه، وأما شرطه فالعلم بالتحريم حتى لو لم يعلم لم يجب الحد(6/157)
للشبهة وأصله ما روى سعيد بن المسيب أن رجلا زنى باليمن فكتب في ذلك عمر رضي الله عنه إن كان يعلم أن الله تعالى حرم الزنا فاجلدوه، وإن كان لا يعلم فعلموه، وإن عاد فاجلدوه؛ لأن الحكم في الشرعيات لا يثبت إلا بعد العلم، وإن كان الشيوع، والاستفاضة في دار الإسلام أقيم مقام العلم ولكن لا أقل من إيراث شبهة بعدم التبليغ، والإسماع بالحرمة انتهى غير أن ظاهر قول المبسوط عقب هذا الأثر فقد جعل ظن الحل في ذلك الوقت شبهة لعدم اشتهار الأحكام انتهى يشير إلى أن هذا الظن في هذا الزمان لا يكون شبهة معتبرة لاشتهار الأحكام فيه ولكن هذا إنما يكون مفيدا للعلم به بالنسبة إلى الناشئ في دار الإسلام، والمسلم المهاجر إليها المقيم بها مدة يطلع فيها على ذلك فأما المسلم المهاجر إليها الواقع منه ذلك في فور دخوله فلا، وقد قال المصنف في الشرح ونقل في اشتراط العلم بحرمة الزنا إجماع الفقهاء انتهى، وهو مفيد أن جهله يكون عذرا، وإذا لم يكن عذرا بعد الإسلام ولا قبله فمتى يتحقق كونه عذرا، وأما نفي كونه عذرا في حالة الكفر لتقصيره في الطلب لمعرفة هذا الحكم في تلك الحالة كما تقدم فمحل نظر وحينئذ فالفرع المذكور هو المشكل فليتأمل "بخلاف الذمي أسلم فشرب الخمر" بعد إسلامه،(6/158)
ص -416-…وقال: أعلم بحرمتها "يحد لظهور الحكم في دار الإسلام"، وهو مقيم فيها "فجهله" بحرمتها مع شيوعها فيه "لتقصيره" في معرفته بها فلا يكون جهله عذرا في درء الحد ولا كذلك دار الحرب، فإن حرمتها غير شائعة فيها فكان جهل الحربي بها دارئا للحد عنه في المسألة السابقة.
القسم الثالث جهل يصلح عذرا كمن أسلم في دار الحرب فترك بها صلوات جاهلا لزومها في الإسلام لا قضاء" عليه إذا علمه بعد ذلك؛ لأنه غير مقصر في طلب الدليل، وإنما جاء الجهل من قبل خفاء الدليل في نفسه لعدم اشتهاره في دار الحرب لانقطاع ولاية التبليغ عنهم فانتفى سماع الخطاب في حقه حقيقة، وهو ظاهر وتقديرا؛ لأنه بشهرته في محله ودار الحرب ليست محلها فانتفى قول زفر عليه قضاؤها؛ لأن بالإسلام يصير ملتزما أحكامه ولكن قصر عنه خطاب الأداء لجهله به وذا لا يسقط القضاء بعد تقرر السبب كالنائم إذا انتبه بعد الوقت "وكل خطاب ترك ولم ينتشر فجهله عذر" لانتفاء التقصير عن جاهله بخفائه عنه ويدل على ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] للذين شربوا" الخمر "بعد تحريمها غير عالمين" بحرمتها وهذا بناء على ما في التيسير من أن بعض الصحابة كانوا في سفر فشربوا بعد التحريم لعدم علمهم بحرمتها فنزل قوله تعالى: ليس على الذين آمنوا الآية وعن ابن كيسان لما نزل تحريم الخمر، والميسر قال أبو بكر رضي الله عنه كيف بإخواننا الذين ماتوا، وقد شربوا الخمر وأكلوا الميسر وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون بتحريمها وهم يطعمونها فأنزل الله تعالى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93] أي من الأموات، والأحياء في البلدان {جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] من الخمر، والقمار {ثُمَّ اتَّقَوْا} [المائدة: 93] ما حرم الله عليهم سواهما.(6/159)
"قلت": لكن الذي ذكره الواحدي في سبب نزول الآية ما في الصحيحين عن أنس كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة رضي الله عنه وكان خمرهم يومئذ الفضيخ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي ألا إن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة: اخرج فأهرقها فهرقتها في سكك المدينة فقال بعض القوم قد قتل فلان وفلان وفلان وهي في بطونهم فأنزل الله {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الآية وفي مسند أحمد عن أبي هريرة قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فساقه إلى أن قال فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآية فقالوا: انتهينا يا رب وقال الناس: يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على فرشهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجسا من عمل الشيطان فأنزل الله تعالى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الآية. وهذا إنما يفيد أن سبب نزولها القول المذكور نفيا للحرج عن الشاربين قبل التحريم نعم الظاهر أن هذا الحكم لا خلاف فيه "بخلافه" أي الخطاب النازل "بعد الانتشار"، فإن جهله ليس بعذر "لأنه" أي جهله(6/160)
ص -417-…إنما هو "لتقصيره" في معرفته "كمن لم يطلب الماء في العمران فتيمم وصلى لا يصح لقيام دليل الوجود"، وهو العمران؛ لأنه لا يخلو عن الماء غالبا "وتركه العمل" بالدليل، وهو طلبه فيه وهذا إذا لم يستكشف الحال، أو استكشفه فوجد الماء فيه أما لو استكشفه فلم يجده فيه فالظاهر الجواز كما صرح به في بعض الحواشي لظهور انتفاء ذلك في الظاهر، وهذا بخلاف ما لو ترك الطلب في المفازة على ظن العدم فتيمم وصلى حيث جازت صلاته؛ لأنه لم يلزمه الطلب؛ لأنها مظنة العدم لا الوجود "وكذا الجهل" للإنسان "بأنه وكيل، أو مأذون" من سيده إذا كان عبدا "عذر حتى لا ينفذ تصرفهما" الموكل، والمولى قبل بلوغ الوكالة، والإذن إليهما "ويتوقف" نفاذ تصرفهما عليهما على إجازتهما "كالفضولي" أي كتوقف نفاذ تصرفه على من تصرف له على إجازته بشرطها كما عرف في موضعه بأن في التوكيل، والإذن نوع إلزام على الوكيل، والمأذون حيث يلزمهما حقوق العقد من التسليم، والتسلم، والمطالبة وغيرها فلا يثبت حكم الوكالة، والإذن في حقهما قبل العلم دفعا للضرر عنهما، وإذا كانت أحكام الشرع مع كمال ولايته لا تثبت في حق المكلف قبل علمه فأولى أن لا يلزم حكم المكلف الذي هو قاصر الولاية على غيره بدون علمه "إلا في شراء الوكيل"، فإنه لا يتوقف نفاذ شرائه على إجازة الموكل بل "ينفذ" شراؤه "على نفسه". ولو كان ذلك الشيء بعينه كانت الوكالة به "كما عرف" من أن العقد إذا وجد نفاذا على العاقد نفذ عليه.(6/161)
"قلت": كذا ذكر كثير من المشايخ في الأصول هذا الحكم لجهلهما بالوكالة، والإذن وزاد صدر الشريعة معنى قول المصنف كالفضولي إلخ وعليهم جميعا أمران أحدهما أن في النهاية وغيرها اعلم أن الروايات اتفقت أن الوكالة إذا ثبتت قصدا لا تثبت بدون العلم أما إذا ثبتت في ضمن أمر الحاضر بالتصرف بأن قال لغيره: اشتر عبدي من فلان لنفسك، أو لعبده: انطلق إلى فلان ليعتقك، أو لامرأته: انطلقي إلى فلان ليطلقك، فاشترى من فلان، أو أعتق، أو طلق فلان بدون العلم جاز ثم قال: والحاصل أن الوكيل هل يصير وكيلا قبل العلم بالوكالة أم لا فيه روايتان في رواية الزيادات لا يصير وفي رواية وكالة الأصل يصير كذا في المحيط نعم في الخلاصة من أصحابنا من قال: تأويله إذا علم ا هـ. فإن تم هذا وإلا فينبغي أن يقيدوا بالوكالة القصدية اللهم إلا إذا اختير رواية الزيادات ثم في شرح الجامع الصغير لقاضي خان وعن أبي يوسف أن الوكالة بمنزلة الوصاية لا يشترط فيها العلم؛ لأن كلا منهما إثبات الولاية ا هـ وهذا بإطلاقه يعكر حكاية اتفاق الروايات المذكورة الثاني في الخلاصة، ولو قال لأهل السوق: بايعوا عبدي هذا صار مأذونا، وإن لم يعلم العبد به فعلى هذا لا يتم كون الجهل عذرا في صحة الإذن غير أن فيها أيضا، ولو قال لآخر: بع عبدك من ابني إن علم الابن صار مأذونا وإلا فلا ولا فرق بينهما مؤثر فيما يظهر ولا محيص في دفع المعارضة بينهما إلا بأن يكون في اشتراط العلم روايتان فيتخرج كل من هذين الفرعين على رواية، وقد أشار إليهما فيها أيضا حيث قال في كتاب المأذون: ولا يصير مأذونا إلا بالعلم فلو قال: بايعوا عبدي، فإنى أذنت له في التجارة فبايعوه، والعبد لا يعلم بذلك من أصحابنا من قال: في(6/162)
ص -418-…المسألة روايتان ا هـ بقي الشأن فيما هو الأرجح منهما، فإن تم كون الشارطة للعلم هي الراجحة فيها وإلا فينتفي التقييد بكون ذلك في رواية وعلى ما ذكره المصنف من الزيادة التي ذكر معناها صدر الشريعة أن ظاهره يفيد أن شراء الفضولي لا ينفذ عليه مطلقا وليس كذلك ففي الخلاصة وفي الفتاوى الصغرى الفضولي إذا اشترى شيئا لغيره هذا على وجوه إن قال البائع: بعت هذا من فلان وقال الفضولي: قبلت، أو اشتريت لفلان، أو لم يقل لفلان يتوقف. ولو قال: بعت منك فقال الفضولي: اشتريت، أو قبلت لفلان لا يتوقف وينفذ عليه بالاتفاق، ولو قال الفضولي: اشتريت هذا لفلان فقال البائع: بعت منك. الأصح أنه لا يتوقف بلا خلاف، ولو قال البائع: بعت منك هذا لأجل فلان وقال المشتري: اشتريت، أو قبلت، أو قال المشتري: اشتريت هذا لأجل فلان وقال البائع: بعت لا يتوقف وينفذ بالاتفاق والله سبحانه أعلم.
"و" كذا الجهل "بالعزل" للوكيل "والحجر" على المأذون عذر في حقهما لخفاء الدليل لاستقلال الموكل بالعزل، والمولى بالحجر ولزوم الضرر عليهما على تقدير ثبوتهما بدون علمهما إذ الوكيل يتصرف على أن يلزم تصرفه الموكل، والعبد يتصرف على أن يقضي دينه من كسبه، أو رقبته وبالعزل يلزم التصرف الوكيل وبالحجر يتأخر دين العبد إلى العتق ويؤدى بعده من خالص ملكه "فيصح تصرفهما" أي الوكيل، والمأذون على الموكل، والمولى قبل علمهما بالعزل، والحجر.(6/163)
"قلت" كذا ذكروا في الأصول ويتحرر من كلامهم في الفروع أن هذا في العزل من الوكالة إذا كان قصديا أما في الحكمي، وهو العزل بموت الموكل، أو جنونه جنونا مطبقا، أو لحاقه مرتدا بدار الحرب، والحكم به، أو بالحجر عليه إذا كان عبدا مأذونا، وقد وكل ببيع، أو شراء، أو نحوهما، أو بعجزه إذا كان مكاتبا، أو بتصرفه فيما وكل ببيعه تصرفا يعجز الوكيل عن بيعه فلا يتوقف على العلم أما فيما عدا الأخير فلأن الوكالة تعتمد قيام أمر الموكل، وقد بطلت هذه العوارض فبطل ما هو متفرع عليها. وأما في الأخير فلفوات المحل ولعلهم لم يقيدوا بذلك اعتمادا على ذكرهم له في الفروع ولا شك أن الأولى التقييد به فليتنبه له ثم إنما يتوقف انحجار المأذون على علمه بالحجر إذا لم يكن علم بالإذن غيره أما إذا كان الإذن مشهورا لا ينحجر إلا بشهرة حجره عند أهل سوقه، أو أكثره دفعا للضرر عنهم على تقدير نفاذه بدون علمهم؛ لأنهم يبايعونه بناء على ظن تعلق حقهم بكسبه ورقبته لما عرفوه من الإذن، والحال أن حقهم يتأخر إلى ما بعد الحرية فليتنبه لهذا أيضا.
"و" كذا "جهل المولى بجناية العبد" جناية خطأ عذر للمولى في عدم تعين لزوم الفداء مطلقا له إذا أخرجه عن ملكه قبل علمه بها "فلا يكون" المولى "بيعه" أي العبد قبل علمه بها "مختارا للفداء"، وهو الأرش الذي هو أحد الأمرين اللذين هو مخير فيهما، وهو الدفع، والفداء بل يجب عليه الأقل من القيمة، والأرش لخفاء الدليل في حقه لاستقلال العبد بالجناية "و" كذا جهل "الشفيع بالبيع" لما يشفع فيه عذر له في عدم سقوط شفعته إذا أخرج عن ملكه ما(6/164)
ص -419-…يشفع به قبل علمه بالبيع "فلو باع الدار المشفوع بها بعد بيع دار بجوارها" هو شفيعها "غير عالم" ببيع المشفوع فيها "لا يكون" بيعه المشفوع بها "تسليما للشفعة" في المشفوع فيها بل له الشفعة فيهما إذا علم بالبيع؛ لأن دليل العلم خفي لانفراد صاحب الملك ببيعه. "و" كذا جهل "الأمة المنكوحة" عذر لها في عدم سقوط خيار العتق لها "إذا جهلت عتق المولى فلم تفسخ" النكاح "أو علمته" أي عتق المولى "وجهلت ثبوت الخيار لها شرعا لا يبطل خيارها وعذرت" فيكون لها الخيار في مجلس علمها لخفاء الدليل في حقها أما في الأول فلأن المولى مستقل بالعتق ولا يمكنها الوقوف عليه قبل الإخبار، وأما في الثاني فلاشتغالها بخدمة المولى فلا تتفرغ بمعرفة أحكام الشرع في مثله فلا يقوم اشتهار الدليل في دار الإسلام مقام علمها "بخلاف الحرة زوجها غير الأب، والجد" حال كونها "صغيرة فبلغت جاهلة بثبوت حق الفسخ" أي فسخ النكاح "لها" إذا بلغت فلم تفسخه "لا تعذر" بهذا الجهل بهذا الحكم فلا يكون لها حق الفسخ به "لأن الدار دار العلم وليس للحرة ما يشغلها عن التعلم فكان جهلها" بهذا الحكم "لتقصيرها" في التعلم "بخلاف الأمة" كما ذكرنا فافترقتا، وإنما قيد بغير الأب، والجد يعني الصحيح كما هو المراد عند الإطلاق؛ لأنه لا خيار لها ببلوغ في تزويج أحدهما إياها لكمال رأيهما ووفور شفقتهما بخلاف من سواهما، وقد شمل قوله المذكور الأم، والقاضي حيث كانت لها ولاية تزويجها على ما هو الصحيح فيه لعدم كمال الرأي في الأم وعدم وفور الشفقة في القاضي والله تعالى أعلم.
مسألة: المجتهد بعد اجتهاده في حكم ممنوع من التقليد لغيره من المجتهدين فيه(6/165)
"المجتهد بعد اجتهاده في" واقعة أدى اجتهاده فيها إلى "حكم ممنوع من التقليد" لغيره من المجتهدين "فيه" أي في حكم الواقعة "اتفاقا" لوجوب اتباع اجتهاده "والخلاف" إنما هو في تقليده لغيره منهم "قبله" أي اجتهاده في تلك الواقعة "والأكثر" من العلماء على أنه "ممنوع" من تقليد غيره فيها مطلقا منهم أبو يوسف ومحمد على ما ذكر أبو بكر الرازي وأبو منصور البغدادي ومالك على ما في أصول ابن مفلح وذكر الباجي أنه قول أكثر المالكية، والأشبه بمذهب مالك والشافعي في الجديد على ما في أصول ابن مفلح وذكر الروياني أنه مذهب عامة الشافعية وظاهر نص الشافعي وأحمد وأكثر أصحابه واختاره الرازي والآمدي وابن الحاجب ويشكل على ما عن أبي يوسف ما في القنية أن أبا يوسف صلى بالناس الجمعة وتفرقوا ثم أخبر بوجود فأرة ميتة في بئر حمام اغتسل منه فقال: نأخذ بقول أصحابنا من أهل المدينة إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا انتهى "وما عن ابن سريج" ممنوع من التقليد "إلا إن تعذر عليه" الاجتهاد في الواقعة فلا يكون ممنوعا بل يتعين "ولا ينبغي أن يختلف فيه" إذ الظاهر أن المسألة مفروضة فيما إذا كان متمكنا من الاجتهاد فلا ينبغي أن يعد هذا قولا آخر كما عدوه ثم الذي حكاه الآمدي عن ابن سريج يجوز تقليد الأعلم إذا تعذر عليه وجه الاجتهاد هذا ويظهر أن خوف فوت وقت العمل بالحادثة من أسباب تعذر الاجتهاد ثم رأيت عن صاحب المعتمد نقله بخصوصه عنه ويؤيده جزم السبكي بمنعه من(6/166)
ص -420-…الاجتهاد في هذا عن ابن سريج وبطريق أولى أن يكون خوف فوت العمل بالحادثة أصلا من أسباب تعذر الاجتهاد فلا ينبغي أن يعد كل منهما قولا آخر ويستسمع خلاف الأول أيضا. "وقيل لا" يمنع من التقليد مطلقا وعليه سفيان الثوري وإسحاق وأبو حنيفة على ما ذكر الكرخي والرازي قال القرطبي، وهو الذي ظهر من تمسكات مالك في الموطأ وعزاه أبو إسحاق الشيرازي إلى أحمد قال بعض الحنابلة: ولا يعرف "وقيل" يمنع من التقليد "فيما يفتي به" غيره "لا فيما يخصه" أي يكون الغرض من الاجتهاد تحصيل رأي فيما يستقل بعلمه لا فيما يفتي به لغيره وليس المراد به اختصاص الحكم بالمجتهد بحيث لا يعم غيره من المكلفين، وهذا حكاه ابن القاص عن ابن سريج وغيره عن أهل العراق "وقيل" يمنع من التقليد "فيه" أي فيما يخصه "أيضا إلا إن خشي الفوت كأن ضاق وقت صلاة، والاجتهاد فيها" أي في صلاته "يفوتها"، فإنه يجوز له أن يقلد مجتهدا آخر ويعمل بقوله لئلا تفوت بفوات وقتها لو اشتغل بالاجتهاد فيها، وهو عن ابن سريج وهذا ما تقدم الوعد به. "وعن أبي حنيفة روايتان" إحداهما الجواز كما تقدم، والأخرى المنع "وعن محمد يقلد" مجتهدا "أعلم منه" لا أدون منه ولا مساوي له نقله عنه القاضي والروياني وإلكيا قال: وربما قال: إنهما سواء ونقله أبو بكر الرازي عن الكرخي وقال: إنه ضرب من الاجتهاد "والشافعي" في القديم "والجبائي" وابنه أيضا قالوا "يجوز" تقليد غيره "إن" كان الغير "صحابيا راجحا" في نظره على غيره ممن خالف من الصحابة "فإن استووا" أي الصحابة في الدرجة في نظره واختلفت فتواهم "تخير" فيقلد أيهم شاء ولا يجوز له تقليد من عداهم ذكره ابن الحاجب وغيره قال الصفي الهندي: وقضيته أن لا يجوز للصحابة تقليد بعضهم بعضا "وهذا" من الشافعي "رواية عنه" أي الشافعي "في تقليد الصحابي" وهذا هو المذكور في رسالته القديمة قال الأبهري، والمشهور من مذهبه عدم جواز تقليده للغير مطلقا. وقيل:(6/167)
يجوز تقليد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لا غيرهما مطلقا ونقل أبو منصور البغدادي وإمام الحرمين عن أحمد أنه يجوز تقليد الصحابة ولا يقلد أحدا بعدهم غير عمر بن عبد العزيز واستغربه بعض الحنابلة "وقيل" يجوز تقليده للغير صحابيا "وتابعيا" دون غيرهما وعزا هذا في جامع الأسرار إلى الحنفية لكن بلفظ، أو خيار التابعين وقيل: يجوز للقاضي لا غيره لحاجته في فصل الخصومات إلى إنجازه بخلاف غيره "للأكثر الجواز" للتقليد "حكم شرعي فيفتقر إلى دليل"؛ لأن القول في الدين بلا دليل باطل "ولم يثبت" الدليل، والأصل عدمه "فلا يثبت" الجواز "ودفع" هذا من قبل المجوزين "بأنه" أي الجواز "الإباحة الأصلية" وهي ليست بحكم شرعي "بخلاف تحريمكم" التقليد، فإنه حكم شرعي "فهو المفتقر" إلى الدليل، ولم يثبت فلا يثبت غير أن هذا لا يتم على بعض الحنفية القائلين بأن الإباحة الأصلية حكم شرعي كما تقدم عنهم في النسخ. "وأما" الدفع من الأكثر "بأن الاجتهاد أصل، والتقليد بدل" عنه "فيتوقف" التقليد "على عدمه" أي الاجتهاد إذ لا يجوز الأخذ بالبدل مع التمكن من المبدل كالوضوء، والتيمم "فمنع بل كل" منهما "أصل" بمعنى أن المجتهد مخير فيهما كما في مسح الخف وغسل(6/168)
ص -421-…الرجل "فإن تم إثبات البدلية" للتقليد عن الاجتهاد "بعموم" قوله تعالى: "{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]" لأنه يفيد الأمر بالاجتهاد، وهو شامل للعامي، والمجتهد إلا أن ترك العمل به بالنسبة إلى العامي لعجزه عنه فيبقى معمولا به في حق المجتهد "تم" الدفع المذكور "وإلا" إذا لم يتم إثبات البدلية بهذا "لا" يتم الدفع المذكور لتوقفه على ثبوت البدلية ولم يثبت بهذا، والأصل عدم الثبوت "واستدل" للأكثر "لا يجوز" التقليد "بعده" أي الاجتهاد "فكذا" لا يجوز التقليد "قبله" أي الاجتهاد "لوجود الجامع" في المنع بينهما "وهو" أي الجامع "كونه" أي المقلد "مجتهدا أجيب بأنه" أي الموجب "في الأصل" أي العلة بالاجتهاد بعد الاجتهاد "إعمال الأرجح، وهو ظن نفسه" بطريق الاجتهاد، فإنه أقوى من ظنه بفتوى غيره؛ لأن الغير يحتمل أن لا يكون صادقا فيما أخبر به عن اجتهاده، والمجتهد لا يكابر نفسه فيما أدى إليه اجتهاده وهذا مقصود في الفرع، وهو العمل بالاجتهاد قبل الاجتهاد لا كونه مجتهدا فلم يوجد الجامع بينهما. واحتج "الشافعي" بقوله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"، فإنه يعلم منه أن اقتداء المجتهد بهم لا يكون ممنوعا إذ لا يمنع الشخص من الاهتداء قال المصنف "ويبعد" الاحتجاج به "منه" أي الشافعي "لأنه" أي هذا "لم يثبت" عن النبي صلى الله عليه وسلم كما بسطنا القول فيه في الإجماع "ولو ثبت تقدم جوابه" في ذيل مسألة الحكم في المسألة الاجتهادية حيث قال أجيب بأنه هدي من وجه فتناوله.(6/169)
"قلت": لكن لا خفاء في أن هذا لا يفيد منع المجتهد الغير الصحابي من تقليد الصحابي بل هذا الجواب يقرر جواز تقليد غير الصحابي مطلقا أعني سواء كان غير مجتهد، أو مجتهدا قبل اجتهاده، أو بعده للصحابي مطلقا أعني سواء كان مجتهدا، أو لا كما هو ظاهر عموم "بأيهم اقتديتم اهتديتم" لكنه متروك الظاهر بالنسبة إلى المجتهد بعد الاجتهاد إذ لا تقليد له بعده وبالنسبة إلى غير المجتهد إذ لا تقليد إلا لمجتهد فيبقى على عمومه بالنسبة إلى ما عدا هذين ثم غير خاف أنه غير متعرض لمنع تقليد مجتهد غير صحابي لمجتهد غير صحابي، وهو من المطلوب فالحق أنه لو ثبت لكان مثبتا لجزء المطلوب، وهو جواز تقليد مجتهد غير صحابي قبل اجتهاده لمجتهد صحابي إذ المطلوب جواز تقليد المجتهد قبل اجتهاده لمجتهد آخر مطلقا والله سبحانه أعلم.
"المجوز" للتقليد مطلقا قال هو وموافقوه أولا أمر الله تعالى من ليس من أهل العلم بسؤال أهل العلم فيما لا يعلم فقال تعالى "{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43] أي العلم بدليل {إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]" فيفيد وجوب سؤال المجتهدين؛ لأنهم أهل العلم فيما لا يعلم وأدنى درجاته جواز اتباع المسئول فيما أجاب وإلا لما كان للسؤال فائدة ولا معنى لجواز تقليده إلا العمل بقوله وليس المراد بالسائل من لا يعلم شيئا أصلا بل من لا يعلم بحكم المسألة. "وقيل الاجتهاد لا يعلم" المجتهد المجتهد فيه فشمله طلب سؤال أهل الذكر فشمله أيضا ما يترتب عليه غايته أنه لم يتعين عليه سؤال غيره لتمكنه من العلم بحكم المسألة من(6/170)
ص -422-…اجتهاده أيضا فكان مع مجتهد غيره كمجتهدين بالنسبة إلى العامي فيسوغ له الرجوع إلى كل من اجتهاده واجتهاد غيره كما يجوز للعامي الرجوع إلى كل من اجتهادي مجتهدين "أجيب بأن الخطاب للمقلدين إذ المعنى ليسأل أهل العلم من ليس أهله بقرينة مقابلة من لا يعلم بمن هو أهل" للعلم "وأهل العلم من له الملكة" أي القدرة على تحصيل العلم بأهليته فيما يسأل عنه "لا بقيد خروج الممكن عنه" من الاقتدار "إلى الفعل"؛ لأن أهل الشيء من هو متأهل له ومستعد له استعدادا قريبا لا من حصل ذلك الشيء له فيختص بالمقلد "قالوا" ثانيا "المعتبر الظن"، فإن المجتهد باجتهاده لا يقدر على غيره "وهو" أي الظن "حاصل بفتوى غيره" فيجب العمل به. "أجيب بأن ظنه اجتهاده" بنصب الدال إما بنزع الخافض أي باجتهاده، أو على أنه بدل من ظنه "أقوى" من ظنه بفتوى غيره "فيجب الراجح، فإن قيل ثبت" في الفروع "عن أبي حنيفة في القاضي المجتهد يقضي بغير رأيه ذاكرا له" أي لرأيه "نفذ" قضاؤه "خلافا لصاحبيه فيبطل" بهذا الثابت عنه "نقل الاتفاق على المنع" من التقليد "بعده" أي الاجتهاد "إذ ليس التقليد إلا العمل، أو الفتوى بقول غيره"، وقد وجد هذا من القاضي المذكور على أنه "وإن ذكر فيها" أي في هذه المسألة "اختلاف الرواية" عن أبي حنيفة فعنه ينفذ وجعلها في الخانية أظهر الروايات؛ لأن رأيه يحتمل الخطأ، وإن كان الظاهر عنده أنه الصواب ورأي غيره يحتمل الصواب، وإن كان الظاهر عنده خطأه فليس واحد منهما خطأ بيقين فكان حاصله قضاء في محل مجتهد فيه فينفذ وبه أخذ الصدر الشهيد والإمام أبو بكر محمد بن الفضل وظهير الدين المرغيناني وعنه لا ينفذ؛ لأن قضاءه به مع اعتقاده أنه غير حق عبث فلا يعتبر كمن اشتبهت عليه القبلة فوقع تحريه إلى جهة فصلى إلى غيرها لا يصح لاعتقاده خطأ نفسه وبه أخذ شمس الأئمة الأوزجندي "فقد صحح أنه" أي نفاذ القضاء "مذهبه" أي أبي حنيفة ففي الفصول العمادية،(6/171)
وهو الصحيح من مذهبه. "قلنا: النفاذ بتقدير الفعل لا يوجب حله" أي الفعل "نعم ذكر بعضهم"، وهو صاحب المحيط "أنه ذكر الخلاف في بعض المواضع في النفاذ وفي بعضها" ذكر الخلاف "في الحل" أي حل الإقدام على القضاء بخلاف مذهبه "لكن لا يلزم أن المعول الحل بل يجب ترجيح رواية النفي" للحل لما تقدم في وجهها ولأن المجتهد مأمور بالعمل بمقتضى ظنه إجماعا وهذا خلاف مقتضى ظنه، وعمله هنا ليس إلا قضاءه فلا جرم أن نص صاحب الهداية، والمحيط على أن الفتوى على قولهما بعدم النفاذ في العمد، والنسيان، وهو مقدم على ما في الفتاوى الصغرى، والخانية من أن الفتوى على قوله: "وصرح بأن ظاهر المذهب عدم تقليد التابعي، وإن روي خلافه" كما تقدم بيانه قبيل فصل التعارض فكون عدم تقليد غيره ظاهر المذهب أولى والله سبحانه أعلم.
مسألة: إذا تكررت الواقعة قيل: المختار لا يلزمه تكرير النظر
"إذا" وقعت واقعة فاجتهد المجتهد فيها وأدى اجتهاده إلى حكم معين لها ثم "تكررت الواقعة" هل يجب عليه تكرير النظر وتجديد الاجتهاد فيها أم يكفي الاجتهاد الأول "قيل"، والقائل ابن الحاجب وابن الساعاتي "المختار لا يلزمه تكرير النظر؛ لأنه" أي إلزامه به "إيجاب(6/172)
ص -423-…بلا موجب وقيل يلزمه" تكرير النظر وبه جزم القاضي وابن عقيل وقال: وإلا يكون مقلدا لنفسه لاحتمال تغير اجتهاده وفيه ما لا يخفى، وقال: وكالقبلة يجتهد لها ثانيا وفيه أيضا بحث وقيل: "لأن الاجتهاد كثيرا ما يتغير" فيرجع صاحبه عنه إلى غيره كما رجع الشافعي عن القديم إلى الجديد "وليس" تغيره "إلا بتكريره" أي النظر "فالاحتياط ذلك" أي تكريره، فإن تغير أفتى بما أدى إليه اجتهاده ثانيا، وإن لم يتغير استمر ظنه بالاجتهاد الأول وأفتى به "أجيب فيجب تكراره" أي النظر "أبدا؛ لأنه" أي الاجتهاد "يحتمل ذلك" أي التغير "في كل وقت يمضي بعد الاجتهاد الأول"، والوجوب الأبدي له باطل اتفاقا قال المصنف: "وهذا" اللازم "ليس بلازم؛ لأن وجوب الاجتهاد لا يثبت إلا عند الحادثة بشرطه" أي وجوبه "فقد أخذ السبب حكمه" بالاجتهاد الأول عندها "واحتمال الخطإ فيه لم يقدح" فيه بعد ذلك "فلا يجب" الاجتهاد "الآخر إلا بمثله" أي الأول من وجود السبب، والشرط بقي الشأن في أن تكرارها هل هو سبب موجب للنظر ثانيا فيها مستجمع لشرط وجوبه لم يفصح المصنف به وقال الآمدي: المختار أنه إن لم يكن ذاكرا لاجتهاده الأول فيجب وإلا فلا واختاره أبو الخطاب من الحنابلة وقال السبكي: واعلم أن الأصح في مذهبنا لزوم التجديد، والمسألة مفروضة فيما إذا لم يكن ذاكرا لدليل الأول ولم يتجدد ما قد يوجب رجوعه، فإن كان ذاكرا لم يلزمه قطعا، وإن تجدد ما قد يوجب الرجوع لزمه قطعا انتهى.(6/173)
"قلت:" وسبقه إليه النووي ثم الظاهر أن المراد فإن كان ذاكرا ولم يتجدد ما قد يوجب الرجوع عما ظهر له بالاجتهاد الأول وحذفه لقرينة مقابلة، فإنه يفيد أنه إن تجدد ما قد يوجب الرجوع عنه لزمه سواء كان ذاكرا للدليل الأول، أو لا، وإن كان في لزومه مع ذكر الدليل الأول مطلقا نظر فلا جرم أن قال متأخر منهم، فإن كان الأول راجحا على ما يقتضي الرجوع عمل بالأول ولا يعد الاجتهاد وإلا أعاد بخلاف ما إذا لم يكن ذاكرا له، فإن الأخذ بالأول من غير نظر يكون أخذا بشيء من غير دليل عليه إذ لا ثقة ببقاء الظن منه في هذه الحالة على ما فيه من تأمل، ومن ثمة حكي فيه قول بالمنع بناء على أن الظن السابق قوي فيعمل به؛ لأن الأصل عدم رجحان غيره وقال شريح الروياني في روضة الحكام اجتهد لنازلة فحكم، أو لم يحكم ثم حدثت ثانيا فيه وجهان الصحيح إذا كان الزمان قريبا لا يختلف في مثله الاجتهاد لا يستأنفه، وإن تطاول استأنف، وذكر الشافعية أيضا في العامي يستفتي المجتهد في واقعة ثم تقع له ثانيا إن علم أنه أفتاه عن نص كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو كان قد يتحرى في مذهب واحد من أئمة السلف ولم يبلغ رتبة الاجتهاد فأفتاه عن نص صاحب المذهب فله أن يعمل بالفتوى الأولى، وإن علم أنه أفتاه عن اجتهاد، أو شك في ذلك فوجهان أصحهما يلزمه السؤال ثانيا لاحتمال تغير اجتهاد المجتهد قال الرافعي: وهذا عندي إذا مضت مدة من الفتوى الأولى يجوز تغير الاجتهاد فيها غالبا، فإن قربت لم يلزمه الاستفتاء ثانيا، وقال النووي: محل الخلاف ما لم يكثر وقوع هذه المسألة، فإن كثر لم يجب على العامي تجديد(6/174)
ص -424-…السؤال قطعا وخص ابن الصلاح الخلاف بما إذا قلد حيا وقطع فيما إذا كان خبرا عن ميت أنه لم يلزم العامي تجديد السؤال، وهو ظاهر الرافعي وأفاد في جمع الجوامع أنه يلزمه لاحتمال مخالفة ما ذكره أولا باطلاعه على ما يخالفه من نص الإمام وفيه نظر.
مسألة: لا يصح في مسألة لمجتهد قولان متناقضان
قال عامة العلماء: "لا يصح في مسألة لمجتهد" بل لعاقل في وقت واحد "قولان" متناقضان "للتناقض، فإن عرف المتأخر" منهما "تعين" أن يكون ذلك "رجوعا" عن الأول إليه "وإلا" لو لم يعرف المتأخر "وجب ترجيح المجتهد بعده" أي ذلك المجتهد لأحدهما "بشهادة قلبه" كما في تعارض القياسين "وعند بعض الشافعية يخير متبعه المقلد في العمل بأيهما شاء كذا في بعض كتب الحنفية المشهورة وكأن المراد بالمجتهد" المذكور المجتهد "في المذهب وإلا فترجيح" المجتهد "المطلق بشهادته" أي قلبه "فيما عن" أي ظهر "له" نفسه "والترجيح هنا" لأحدهما إنما هو "على أنه المعول" عليه "لصاحبهما" أي القولين "وقول البعض" من الشافعية "يخير المتبع في العمل" بأيهما شاء "ليس خلافا" لما قبله "بل" هو "محل آخر ذكره ذلك البعض بالنسبة إلى غير المجتهد في حق العمل لا الترجيح" لأحدهما فليتنبه له "وفي بعضها" أي كتب الحنفية "إن لم يعرف تاريخ" للقولين "فإن نقل في أحد القولين عنه" أي المجتهد "ما يقويه فهو" أي ذلك المقوى هو "الصحيح عنده" أي المجتهد "وإلا" إذا لم ينقل عنه ما يقوي أحدهما "إن كان" أي وجد "متبع بلغ الاجتهاد" في المذهب كما تقدم "رجح بما مر من المرجحات إن وجد وإلا" إذا لم يجد "يعمل بأيهما شاء بشهادة قلبه، وإن كان عاميا اتبع فتوى المفتي فيه الأتقى الأعلم بالتسامع، وإن" كان "متفقها تبع المتأخرين وعمل بما هو أصوب وأحوط عنده". وملخص ما ذكره الإمام الرازي وأتباعه أنه إن نقل عن مجتهد واحد في حكم واحد قولان متنافيان فله حالان الحالة الأولى أن يكون في موضع واحد كفي هذه(6/175)
المسألة قولان فيستحيل أن يكونا مرادين له لاستحالة اجتماع النقيضين، فإن ذكر عقب أحدهما ما يدل على تقويته كهذا أشبه، أو تفريع عليه فهو مذهبه وإلا فهو متوقف وحينئذ فلعله يريد بقولين احتمالهما لوجود دليلين متساويين، أو مذهبهم لمجتهدين. الحالة الثانية: أن يكون في موضعين بأن ينص في كتاب على إباحة شيء وفي آخر على تحريمه، فإن علم المتأخر فهو مذهبه ويكون الأول منسوخا، وإلا حكي عنه القولان من غير أن يحكم على أحدهما بالرجوع. "وإذ نقل قول الشافعي في سبع عشرة مسألة فيها قولان" كما ذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن الشيخ أبي حامد، أو في بضع عشرة ست عشرة، أو سبع عشرة كما قال القاضي أبو حامد المروزي، أو في ست عشرة كما نقله القاضي أبو الطيب عن الأصحاب، أو فيما لا يبلغ عشرا كما نقله الباقلاني في مختصر التقريب عن المحققين "حمل على أن للعلماء قولين" فيها فقال بعضهم بذا، وبعضهم بذا فيحكى قولهم وفائدته أن لا يتوهم من أراد من المجتهدين الذهاب إلى أحدهما أنه خارق للإجماع وقيل التنبيه على أن ما سواهما لا يؤخذ به فيطلب ترجيح أحدهما "أو يحتملهما" لوجود تعادل الدليلين عنده وأيا ما كان فلا ينسب إليه شيء منهما ذكره الإمام الرازي وأتباعه وقيل: يجب اعتقاد نسبة(6/176)
ص -425-…أحدهما إليه، ورجوعه عن الآخر غير معين دون نسبتهما جميعا ويمتنع العمل بهما حينئذ حتى يتبين كالنصين إذا علمنا نسخ أحدهما غير معين، وهذا قول الآمدي قال الزركشي: وهو أحسن من الذي قبله، وإن كان خلاف عمل الفقهاء "أولى فيها" قولان "على القول بالتخيير عند التعادل" بين الدليلين قاله القاضي في التقريب وتعقبه إمام الحرمين بأنه بناء على اعتقاده أن مذهب الشافعي تصويب المجتهدين لكن الصحيح من مذهبه أن المصيب واحد فلا يمكن القول منه بالتخيير وأيضا فيكون القولان بتحريم وإباحة ويستحيل التخيير بينهما "أو تقدما" أي القولان "لي" فيحكي قوليه المرتبين في الزمان المتقدم قال إمام الحرمين: وعندي أنه حيث نص على قولين في موضع واحد فليس له فيه مذهب، وإنما ذكرهما ليتروى فيهما وعدم اختياره لأحدهما ولا يكون ذلك خطأ منه بل يدل على علو رتبة الرجل وتوسعه في العلم وعلمه بطريق الأشباه، فإن قيل فلا معنى لقولكم للشافعي قولان إذ ليس له في هذه المسألة قول ولا قولان على هذا قلنا: هكذا نقول ولا نتحاشا منه، وإنما وجه الإضافة إلى الشافعي ذكره لهما واستقصاؤه وجوه الأشباه فيهما ووافقه الغزالي على هذا والله سبحانه أعلم.
"تنبيه"، وأما اختلاف الرواية عن أبي حنيفة وأحمد فليس من باب القولين للقطع فيهما بأن الشافعي نص عليهما بخلاف الروايتين وأن الاختلاف فيهما من جهة المنقول عنه لا الناقل، والاختلاف في الروايتين بالعكس وذكر الإمام أبو بكر البليغي في الغرر أن الاختلاف في الرواية عن أبي حنيفة من وجوه منها الغلط في السماع كان يجيب بحرف النفي إذا سئل عن حادثة ويقول: لا يجوز فيشتبه على الراوي فينقل ما سمع، ومنها أن يكون له قول قد رجع عنه ويعلم بعض من يختلف إليه رجوعه فيروي الثاني، والآخر لم يعلمه فيروي الأول.(6/177)
"قلت": وهذا أقرب من الأول، ومنها أن يكون قال الثاني على وجه القياس ثم قال ذلك على وجه الاستحسان فيسمع كل واحد أحد القولين فينقل كما سمع.
"قلت" وهذا لا بأس به أيضا غير أن تعيين أن يكون الثاني على وجه القياس غير ظاهر بل الظاهر أن الذي يكون على وجه القياس غالبا هو الأول غالبا لما تقرر أن القياس مقدم على الاستحسان إلا في مسائل فالقياس بمنزلة القول المرجوع عنه، والاستحسان بمنزلة القول المرجوع إليه، والمرجوع عنه قبل المرجوع إليه على أن الأولى أن يقال قال أحدهما على وجه القياس، والآخر على وجه الاستحسان فيسمع كل كلا فينقله، ثم إن هذا إنما يتأتى فيما يتأتى فيه كلاهما ولم يكن في إحداهما قياس واستحسان هي ماشية على إحداهما، ومنها أن يكون الجواب في المسألة من وجهين من جهة الحكم، ومن جهة البراءة والاحتياط فينقل كما سمع.
"قلت": ثم لا يخفى أن المراد ما فيه روايتان لا يخرج عن أحد هذه الموارد لا أن كلا(6/178)
ص -426-…مما فيه ذلك يتخرج على كل منهما وحينئذ لا بأس بعدم اطراد كل ما فيه روايتان، فإن الظاهر أن كل ما فيه روايتان صالح لأحدهما، وهو المطلوب والله سبحانه أعلم.
مسألة: لا ينقض حكم اجتهادي صحيح إذا لم يخالف الكتاب والسنة والإجماع والقياس
"لا ينقض حكم اجتهادي" أي ما كان من الأحكام الشرعية دليله ظني فخرج العقلي، واللغوي وغيرهما وما دليله قطعي "صحيح" فخرج غيره ثم يظهر أن الوجه إسقاط "إذا لم يخالف ما ذكر" أي الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس؛ لأنه لا يكون صحيحا مع مخالفته لقطعي منها وينقض إذا خالف قطعيا منها اتفاقا، ولا ينقض لمخالفته لظني منها لتساويهما في الرتبة ثم لا فرق بين أن يكون حكم نفسه بأن تغير اجتهاده، أو حكم غيره بأن خالف اجتهاده صح اجتهاده اتفاقا "وإلا" لو نقض بخلافه "نقض" ذلك "النقض" بخلافه أيضا "وتسلسل" إذ يجوز نقض الحكم الذي هو النقض، وهكذا لا إلى نهاية "فيفوت نصب الحاكم من قطع المنازعات" لاضطراب الأحكام وعدم الوثوق بها ثم كذا حكى الاتفاق المذكور ابن الحاجب والآمدي وغيرهما فلا يتم حينئذ تجويز ابن القاسم نقض ما بان أن غيره صواب "وفي أصول الشافعية لو حكم" حاكم مجتهد "بخلاف اجتهاده، وإن" كان الحاكم المجتهد "مقلدا فيه" أي في ذلك الحكم مجتهدا آخر "كان" ذلك الحكم "باطلا اتفاقا وعلل" كما في شرح العضد "بأنه يجب عليه العمل بظنه وعدم جواز تقليده" مع اجتهاده "إجماعا إنما الخلاف" في جواز تقليده لمجتهد آخر "قبله" أي قبل اجتهاده "على ما مر" فيما قيل قبلها "وأنت علمت قول أبي حنيفة بنفاذ قضائه على خلاف اجتهاده فبطل" اتفاق "عدم نفاذه وأن في التقليد" لغيره "بعد الاجتهاد" منه "روايتين" عن أبي حنيفة أيضا "ثم عدم حل التقليد" على ما قيل: إن الخلاف فيه "لا يستلزم عدم النفاذ لو ارتكب" التقليد "فكم تصرف لا يحل يبتنى عليه صحة ونفاذ الآخر" كعتق المشترى شراء فاسدا "وللشافعية" فرع لو تزوج(6/179)
"مجتهد" امرأة "بلا ولي" بناء على جوازه في اجتهاده "فتغير" اجتهاده بأن رآه غير جائز "فالمختار التحريم مطلقا" أي حكم الحاكم بالتحريم أم لا "لأنه مستديم لما يعتقده حراما"، وهو باطل. "وقيل" يحرم "بقيد أن لا يحكم به" أي بالجواز، فإن حكم به لا يحرم "وإلا" لو حرم بعد حكم حاكم بجوازه "نقض الحكم" الجواز "بالاجتهاد" المؤدي إلى التحريم، والحكم لا ينقض بالاجتهاد "ولولا ما عن أبي يوسف" ما سيأتي "لحكم بأن" هذا "الخلاف خطأ وأن القيد" أي عدم حكم الحاكم بالجواز "مراد المطلق" للتحريم "إذ لم ينقل خلاف في" المسألتين "السابقتين" في مسألة الجبائي ونسب إلى المعتزلة لا حكم في المسألة الاجتهادية إلخ يعني في لزوم حل "المجتهدة" الحنفية "زوجة المجتهد" الشافعي له وحرمتها عليه إذا قال لها: أنت بائن ثم راجعها "وحلها" أي المرأة التي تزوجها مجتهد بلا ولي ثم مجتهد بولي "للاثنين" أي المجتهدين المذكورين "ولأن القضاء يرفع حكم الخلاف لكن عنده" أي أبي يوسف "في مجتهد طلق ألبتة ونوى واحدة فقضى" عليه "بثلاث" بها "إن كان" المجتهد "مقضيا عليه لزم" أي وقع عليه الثلاث "أو" كان مقضيا "له أخذ بأشد الأمرين فلو قضى بالرجعة" له "ومعتقده(6/180)
ص -427-…البينونة يؤخذ بها" أي بالبينونة "فلم يرفع حكم رأيه بالقضاء مطلقا كقول محمد"، فإنه قال يرفع مطلقا "ولو أن المتزوج مقلد ثم علم تغير اجتهاد إمامه فالمختار كذلك" أي يحرم عليه كإمامه "ولو تغير اجتهاده في أثناء صلاته عمل في الباقي" من صلاته "به" أي باجتهاده الثاني "والأصل أن تغيره" أي الاجتهاد "كحدوث الناسخ يعمل به في المستقبل، والماضي على الصحة"، والحاصل أن حكم التغيير بالاجتهاد في العبادة، والمعاملة واحد، وهو أنه شبه الناسخ وابتنى عليه في العبادة الصحة في المستقبل وفي المعاملة فساده ذكره المصنف رحمه الله تعالى.
[مسألة التعريض](6/181)
"مسألة" تعرف بمسألة التعريض "في أصول الشافعية المختار جواز أن يقال للمجتهد: احكم بما شئت بلا اجتهاد، فإنه صواب" أي موافق لحكمي بأن يلهمه إياه ويكون حكمه إذ ذاك من المدارك الشرعية حتى يكون قوله: هذا حلال تعريفا لنا بأن الله حكم في الأزل بحله لا أنه ينشئ الحكم؛ لأن ذلك من خصائص الربوبية قال ابن الصباغ، وهو قول أكثر أهل العلم هذا والتعبير بالمجتهد موافق للآمدي وابن الحاجب، وهو أخص من التعبير بالعالم، والنبي كالبيضاوي والسبكي، فإن المجتهد، وإن عم النبي فهو أخص من العالم ثم على كل يخرج العامي، وقد ذكر الآمدي جوازه عقلا في حقه أيضا ومنعه غيره قيل للإجماع وقيل لفضل المجتهد وإكرامه ورد باستواء العامي وغيره هنا في الصواب لفرض أن ما يحكم به صواب وطريق وصوله إلى غير النبي إخبار النبي به وقيد بلا اجتهاد؛ لأنه بالاجتهاد جائز للعلماء بلا خلاف وللنبي صلى الله عليه وسلم على ما فيه من خلاف كما تقدم "وتردد الشافعي" في الجواز على ما ذكر الآمدي والرازي. قيل وهو في الرسالة واختاره الإمام وأتباعه وقيل يجوز للنبي دون غيره؛ لأن رتبته لا تبلغ أن يقال له ذلك وذكر الآمدي أنه أحد قولي الجبائي واختاره ابن السمعاني وذكر أن كلام الشافعي في الرسالة يدل عليه، وقال أكثر المعتزلة: لا يجوز وقال أبو بكر الرازي: إنه الصحيح إلا بطريق الاجتهاد، وقد عرفت أن هذا لا خلاف فيه "ثم المختار" عند المجيزين كالآمدي وابن الحاجب "عدم الوقوع واستدلوا للتردد بتأديته" أي الجواز "إلى اختيار ما لا مصلحة فيه" لجهل المفوض إليه بوجوه المصالح "فيكون باطلا"؛ لأن الشارع لا يحكم بذلك قال المصنف "وهذا" الدليل "يصلح للنفي" أي نفي الجواز "لا للتردد المفهوم منه الوقف ثم العجب منه" أي الشافعي كيف يتردد في الجواز "والفرض قول الله تعالى ما تحكم به صواب ولا مانع من العقل" إذ لا يلزم من فرض وقوعه محال "والأليق أن تردده" أي الشافعي "في الوقوع"(6/182)
مع الجزم بالجواز "كما نقل عنه" وفي بحر الزركشي، وهو الأصح نقلا "الوقوع" دليله قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93]، فإنه لا يتصور تحريم يعقوب ما حرم من الطعام على نفسه إلا بتفويض التحريم إليه وإلا كان المحرم هو الله تعالى "أجيب لا يلزم كونه" أي ما حرم إسرائيل على نفسه "عن تفويض" إليه فيه "لجوازه" أي كونه محرما عليه "عن اجتهاد في(6/183)
ص -428-…ظني" وإسناد التحريم إليه مجاز كما في نحو حرم أبو حنيفة كذا وأباحه الشافعي على أن الحاكم هو الله على كل حال، والتفويض لا يقتضي إسناد الحكم إلى العبد، وإنما يكون فعله علامة على ما ذكرنا وكلامنا في تفويض الحكم إلى المجتهد اختيارا من غير نظر في مستنداته الشرعية لا اجتهادا. "وقد يقال: لو" كان تحريم ما حرم إسرائيل على نفسه "عنه" أي عن اجتهاد ظني "لم يكن كله" أي الطعام "حلا" لبني إسرائيل "قبله" أي إنزال التوراة "لأن الدليل يظهر الحكم لا ينشئه لقدمه" أي الحكم فلا يتم الجواب المذكور "قال" القائل بالوقوع أيضا "قال عليه السلام": "إن الله حرم مكة فلا تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف" فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فقال "إلا الإذخر" لفظ البخاري أي لا يقطع نباتها الرطب ولا شجرها، والإذخر بالذال، والخاء المعجمتين وكسر الهمزة، والخاء نبت طيب الرائحة معروف "ومثله" أي هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يكون عن وحي لزيادة السرعة" في الجواب مع عدم ظهور علامات نزوله "ولا اجتهاد" لذلك أيضا "أجيب بأحد أمور: كون الإذخر ليس منه" أي من الخلا أي لا يصلح لفظ الخلا له ليتناوله الحكم، والدليل الدال على إباحته استصحاب حال الحل "واستثناء العباس منقطع"، وهو شائع سائغ، ولو مجازا. "وفائدته" أي هذا الاستثناء هنا "دفع توهم شموله" أي الإذخر "بالحكم" الذي هو المنع "وتأكيد حاله" أي الإذخر الذي هو الحل "أو" كون الإذخر "منه" أي الخلا أي يصلح لفظ الخلالة "ولم يرده" النبي صلى الله عليه وسلم من عموم لفظ خلاها بناء على تخصيصه منه وصرف اللفظ عن ظاهره حيث أريد به بعض ما هو مدلوله "وفهم" العباس "عدمها" أي عدم إرادته منه "فصرح" بالمراد الذي هو قصر اللفظ على البعض تحقيقا لما فهمه "ليقرر عليه السلام" عليه فقال صلى الله(6/184)
عليه وسلم إلا الإذخر ليقرر ما فهمه لا ليخرج من لفظ خلاها المذكور بعض ما هو داخل بحسب الدلالة غير داخل بحسب الحكم "وأورد إذا لم يرد" الإذخر من دلالة لفظ الخلا "فكيف يستثنى" إذ المستثنى يجب أن يكون مرادا بحسب دلالة اللفظ غير مراد بحسب الحكم "أجيب بأنه" أي إلا الإذخر "ليس" مستثنى "من" الخلا "المذكور بل من مثله مقدرا" فكأن العباس قال لا يختلى خلاها إلا الإذخر وقرره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: لا يختلى خلاها إلا الإذخر فالاستثناء، والتقرير من خلاها المقدر لا المذكور والذي سوغ للعباس تقدير التكرير اتحاد معنى قولهما لا يختلى خلاها بحسب اللغة سواء كان الإذخر مرادا منه، أو لم يكن قال المصنف: "وهذا السؤال بناء على ما تقدم" في بحث الاستثناء "من اختيار أن المخرج" من الصدر "مراد بالصدر بعد دخوله" أي المخرج "في دلالته" أي الصدر عليه "ثم أخرج" المخرج من الصدر "ثم أسند" الحكم إلى الصدر كما هو مختار ابن الحاجب "ونحن وجهنا قول الجمهور أنه" أي المخرج "لم يرد" بالصدر "وإلا قرينة عدم الإرادة" منه "كما هو بسائر التخصيصات فلا حاجة للسؤال وتكلف هذا الجواب وإما منه"، والأحسن، أو منه أي من الخلا أي يصلح لفظه له "وأريد" الإذخر "بالحكم" الذي هو التحريم أيضا "ثم(6/185)
ص -429-…نسخ" تحريمه "بوحي كلمح البصر خصوصا على قول الحنفية إلهامه" صلى الله عليه وسلم "وحي، وهو لاستحقاقهم معنى في القلب دفعة" بلا واسطة عبارة الملك ولا إشارته مقرون بخلق علم ضروري أنه منه تعالى كما تقدم وكأنه إنما لم يذكره اكتفاء بتقدمه، وظهور العلامات إنما يكون في الوحي المندرج لا فيما هو كلمح البصر، أو كان إلهاما "وأورد: الاستثناء يأباه" أي كونه منسوخا بوحي كلمح البصر؛ لأن الاستثناء يمنع من الدخول في الحكم، ومن شأن المنسوخ أن يكون داخلا في الحكم قبل النسخ. "أجيب بأن الاستثناء من مقدر للعباس" مثل المذكور كما ذكرنا "لا مما ذكره عليه السلام، والنسخ بعده" أي بعد ذكره صلى الله عليه وسلم "مع ذكر العباس فذكره عليه السلام بعده" أي بعد ذكر العباس "ثم لا يخفى أن استثناء العباس من مقدر" مثل المذكور "على كل تقدير؛ لأنه" أي استثناء العباس "تركيب متكلم آخر، ووحدة المتكلم معتبرة في الكلام على ما هو الحق لاشتماله" أي الكلام "على النسبة الإسنادية ولا يتصور قيامها بنفسها بمحلين، ومنه" أي وكذا الاستثناء منه "صلى الله عليه وسلم على الثاني" أي إن الإذخر من الخلا ولم يرد منه. "قالوا" أي القائلون بالوقوع أيضا "قال عليه السلام "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء" أخرجه النسائي وابن خزيمة وعلقه البخاري جزما إلى غير ذلك فأضاف الأمر إلى نفسه، وهو صريح في أن الأمر وعدمه إليه "وقال" أيضا: "لقائل أحجنا هذا لعامنا أم للأبد فقال "للأبد، ولو قلت نعم لوجب"" كذا ذكره ابن الحاجب وغير خاف أنه لا حاجة هنا إلى لفظ " فقال " ثم الحديث لم يحفظ بهذا السياق قال شيخنا الحافظ ملفق من حديثين حديث جابر بن عبد الله أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تسعا لم يحج ثم أذن في الناس بالحج، وفيه فقال سراقة بن جعشم: ألعامنا هذا يا رسول الله، أو للأبد فقال: "بل للأبد"، وهو حديث صحيح أخرجه أصحاب السنن وأخرج(6/186)
المقصود منه البخاري ومسلم، وحديث أبي هريرة خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا فقال رجل يا رسول الله أفي كل عام فسكت ثم أعاد فسكت ثم أعاد فقال "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم"، وهو حديث صحيح أخرجه مسلم، والرجل الأقرع بن حابس كما في رواية أبي داود وغيره، وهو صريح في أن قوله المجرد من غير وحي يوجب فدل على أنه كان مفوضا إليه، فإنه لا ينطق عن الهوى "ولما قتل النبي صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث بأمره عليا رضي الله عنه بذلك بالصفراء في مرجعه من بدر فقتله صبرا ثم سمع ما أنشدته أخته قتيلة. على ما ذكر ابن إسحاق وابن هشام، واليعمري. وقال السهيلي: الصحيح أنها بنت النضر كذلك قال الزبيدي ووقع في الدلائل ومشى عليه الذهبي في التجريد، ومن قبله الآمدي، والرازي وأتباعهما:
ما كان ضرك لو مننت وربما…من الفتى وهو المغيظ المحنق
"في أبيات" سابقة على هذا هي:
يا راكبا إن الأثيل مظنة…من صبح خامسة وأنت موفق(6/187)
ص -430-…أبلغ بها ميتا بأن تحية …ما إن تزال بها النجائب تخفق
مني إليه وعبرة مسفوحة…جادت بواكفها وأخرى تخنق
هل يسمعن النضر إن ناديته …أم كيف يسمع ميت لا ينطق
أمحمد يا خير ضنء كريمة…في قومها والفحل فحل معرق
ولاحقة له وهي:
أو كنت قابل فدية فلينفقن…بأعز ما يغلو به ما ينفق
فالنضر أقرب من أسرت قرابة…وأحقهم إن كان عتق يعتق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه …لله أرحام هناك تشقق
صبرا يقاد إلى المنية متعبا …رسف المقيد وهو عار موثق(6/188)
الأثيل موضع قبر أخيها بالصفراء ومعنى من صبح خامسة أي ليلة خامسة؛ لأنها كانت بمكة وبينها وبين الأثيل هذه المسافة وتخفق بضم الفاء وكسرها تضطرب، والهمزة في أمحمد للنداء، والتنوين فيه للضرورة وضنء بكسر الضاد المعجمة وفتحها مع همزة آخره الولد الذي يضن به أي يبخل به لعظم قدره وأعرق فهو معرق على البناء للمفعول فيهما أي له عرق في الكرم وعلى البناء للفاعل بمعنى أنتج، والمعنى أنت كريم الطرفين وما نافية، أو استفهامية، والمعنى أي شيء كان يضرك لو عفوت، والفتى وإن كان مغضبا مضجرا مطويا على حنق وحقد وعداوة قديمة ويعفو وفي هذا اعتراف بالذنب. "قال لو بلغني هذا الشعر قبل قتله لمننت عليه" وذكر الزبير بن بكار في كتاب النسب فرق لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دمعت عيناه، وقال لأبي بكر لو سمعت شعرها ما قتلت أباها. وهذا مما يشهد بأنها ابنته فلو لم يكن القتل وعدمه إليه لم يفرق الحال بين بلوغ شعرها إليه وعدم بلوغه. "أجيب بجواز كونه" صلى الله عليه وسلم "خير فيها" أي في هذه الصور الثلاثة "معينا" أي كأنه قيل له: أنت مخير في إيجاب السؤال وعدمه وتكرار الحج وعدمه وقتل النضر وعدمه "أو" كون القول المذكور فيها "بوحي سريع" لا من تلقاء نفسه على أن في الاستيعاب قال الزبير وسمعت بعض أهل العلم يغمز أبياتها ويذكر أنها مصنوعة وقال الإسنوي، والأحسن في الجواب أن يقال: أما قضية النضر فقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم مخيرا فيه وفي غيره من الأسارى، والتخيير ليس بممتنع اتفاقا بل هذا التخيير ثابت في حق كل إمام، وأما قوله للأقرع: لو قلت نعم لوجب فمدلوله الوجوب على تقدير قوله نعم وهذا صحيح معلوم بالضرورة، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يقول نعم إلا إذا كان الحكم كذلك ولكن من أين لنا أن الحكم كذلك فقد يكون ممتنعا وقوله لو قلت نعم لا يدل على جواز قولها؛ لأن القضية الشرطية لا تدل على جواز الشرط الذي فيها، وأما قوله "لولا(6/189)
أن أشق على أمتي" فيحتمل أن يكون البارئ تعالى أمره بأن يأمرهم عند عدم المشقة فلما وجد المشقة لم يأمرهم انتهى قال المصنف "ولا يخفى أن" الجواب "الأول رجوع عن الدعوى، وهو" أي الدعوى "أنه" أي التفويض "لم يقع واعتراف بالخطأ" في نفي الوقوع؛ لأنه من قبل نافيه "فالحق أنه" أي التفويض "وقع ولا ينافي" وقوعه "ما تقدم من(6/190)
ص -431-…أنه" صلى الله عليه وسلم "متعبد بالاجتهاد" أي مأمور بالقياس عند حضور الواقعة وعدم النص "; لأن وقوع التفويض في أمور مخصوصة لا ينافيه" أي كونه متعبدا بالاجتهاد، وإنما ينافيه وقوعه في الكل "وإذن فكونه" صلى الله عليه وسلم "كذلك" أي فوض إليه "في الإذخر" فيجاب به عن الاحتجاج به على الوقوع ولا يلزم منه ثبوت المدعى إذ لا يلزم من التفويض إليه في هذه الجزئية الخاصة بل ولا في جزئيات خاصة ثبوته كليا "أسهل مما تكلف" في أجوبته من الوحي، أو النسخ الذي كلمح البصر المقارن لقول العباس مع أن النفس الحادثة لا يرتسم فيها المعاني المتباينة دفعة بل على التعاقب "وأقرب إلى الوجود". قلت: غير أن الكلام المصنف يوهم أن القول ما قاله القائلون بالوقوع وليس كذلك، فإن الذي يظهر كون محل النزاع هو الوقوع كليا؛ لأنه المتنازع في جوازه أولا ثم في وقوعه ثانيا كما هو ظاهر جواب مانعيه وموضع المسألة لا جواز التفويض في الجملة أولا ثم وقوعه ثانيا ليترتب عليه بهذه الجزئيات صحة قول القائلين بالوقوع وعدم صحة قول مانعيه وحينئذ فالحق الأبلج أنه إنما يثبت الوقوع بثبوت سمع يفيده المكلف، أو مجتهد، أو بني على الاختلاف في ذلك، والقطع بانتفائه على التقديرين الأولين، والظاهر انتفاؤه على التقدير الثالث مع ما يشده من وجود المنافي له من تحقق كونه متعبدا بالاجتهاد ثم لا يتعين وقوعه في جزئيات خاصة عن وقوعه له كليا ولا ينبغي أن يختلف فيه هذا وقال ابن السمعاني: هذه المسألة، وإن أوردها متكلمو الأصوليين فليست بمعروفة بين الفقهاء وليس فيها كبير فائدة؛ لأن هذا في غير الأنبياء لم يوجد ولا يتوهم وجوده في المستقبل فأما في حق النبي فقد وجد انتهى، وقد عرفت ما في هذا والله سبحانه أعلم.
مسألة: يجوز خلو الزمان عن مجتهد(6/191)
"يجوز خلو الزمان عن مجتهد" كما هو المختار عند الأكثر منهم الآمدي وابن الحاجب "خلافا للحنابلة" والأستاذ أبي إسحاق والزبيدي من الشافعية في منع الخلو عنه مطلقا ولابن دقيق العيد في منعه الخلو عنه ما لم يتداع الزمان بتزلزل القواعد، فإن تداعى بأن أتت أشراط الساعة الكبرى جاز الخلو عنه "قلت": وما أظن أن أحدا يخالف في هذا، والظاهر أن إطلاق المطلقين المنع محمول على ما دون هذا "لنا لا موجب" لمنعه. "والأصل عدمه" أي عدم موجب المنع "بل دل على الخلو قوله صلى الله عليه وسلم "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء" وهذا هو المراد بقوله "إلى قوله "حتى إذا لم يبق عالم، أو حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء، أو رءوسا جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"" رواه أحمد، والستة وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل" رواه البخاري، والمراد برفع العلم قبضه.
"قالوا" أي الحنابلة أولا "قال عليه السلام: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون" أخرجه البخاري بدون لفظ على الحق وابن وهب بلفظ(6/192)
ص -432-…"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خذلهم، أو خالفهم حتى تقوم الساعة" وهذا يبين المراد بأمر الله "أو حتى يظهر الدجال" قال شيخنا الحافظ روينا معناه من حديث قرة بن إياس المزني بلفظ حتى يقاتلوا الدجال أخرجه الحافظ أبو إسماعيل في كتاب ذم الكلام وهي لفظة شاذة فقد رواه الحافظ من أصحاب شعبة عنه بلفظ حتى تقوم الساعة فصرح بعدم الخلو إلى القيامة وأشراطها؛ لأن ظهور طائفة على الحق في عصر مستلزم وجود العلم، والاجتهاد فيه؛ لأن القيام بالحق لا يمكن إلا بالعلم فيكون المجتهد موجودا في كل عصر، وهو المطلوب "أجيب لا يدل على نفي الجواز"؛ لأن القضية المطلقة أعم من الضرورية، والعام لا يستلزم الخاص. قال المصنف "ولا يخفى أن مرادهم" أي الحنابلة "لا يقع" خلو الزمان عن المجتهد "وإلا لزم كذبه" لو وقع، واللازم باطل فالملزوم مثله "والحديث يفيده" أي عدم الوقوع "إذ لا يتأتى لعاقل إحالته" أي الخلو "عقلا فالوجه الترجيح بأظهرية الدلالة" للحديث الأول الدال على الخلو "على نفي العالم الأعم من المجتهد" فيستلزم نفي المجتهد؛ لأن نفي العام يستلزم نفي الخاص "بخلاف الظهور على الحق"، فإنه لا يستلزم وجود المجتهد "لأنه" أي الظهور على الحق الأعم من الاجتهاد "يتحقق دون اجتهاد كما يتحقق بإرادة الاتباع، ولو تعارضا" أي ما يوجب الخلو، وهو الأول وما يوجب عدمه، وهو الثاني وتساقطا "بقي عدم الموجب" لوجود المجتهد فجاز على الله أن لا يوجده لعدم إخبار منه بلا معارض أنه يوجده ألبتة.(6/193)
"قالوا" ثانيا الاجتهاد "فرض كفاية فلو خلا" الزمان عن المجتهد "اجتمعوا" أي الأمة. "على الباطل"، وهو محال "أجيب إذا فرض موت العلماء لم يبق" فرضا؛ لأن شرط التكليف الإمكان، وإذا فرض الخلو بموت العلماء لم يكن ممكنا مقدورا "على أنه" أي هذا الدليل "في غير محل النزاع؛ لأن فرض الكفاية الاجتهاد بالفعل" أي تحصيل المكلف مرتبته، وهو ممكن للعوام، ومحل النزاع إنما هو حصوله بالفعل؛ لأنه المنافي لخلو الزمان بموت العلماء لا الإمكان، والقدرة هذا وقول السبكي لم يثبت وقوع خلو الزمان من المجتهد إن أراد المطلق كما هو ظاهر الإطلاق فمتعقب بقول القفال والغزالي العصر خلا عن المجتهد المستقل وبقول الرافعي الخلق كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم وبما في الخلاصة القاضي إذا قاس مسألة على مسألة في حكم فظهر رواية أن الحكم بخلافه فالخصومة للمدعى عليه يوم القيامة على القاضي وعلى المدعي؛ لأن القاضي آثم بالاجتهاد؛ لأنه ليس أحد من أهل الاجتهاد في زماننا، والمدعي آثم بأخذ المال وما قيل الظاهر أن المراد المجتهد القائم بالقضاء، فإن المحققين من العلماء كانوا يرغبون عنه ولا يلي في زمانهم غالبا إلا من هو دون ذلك وكيف يمكن القضاء على الأعصار بخلوها عن مجتهد والقفال نفسه كان يقول للسائل في مسألة الصبرة: تسأل عن مذهب الشافعي أم ما عندي وقال هو والشيخ أبو علي والقاضي حسين لسنا مقلدين للشافعي بل وافق رأينا رأيه فهذا كلام من لا يدعي رتبة الاجتهاد وقال ابن الرفعة: ولا يختلف اثنان أن ابن عبد السلام وابن دقيق العيد بلغا رتبة الاجتهاد فغير ظاهر بل كلام بعضهم ناب عنه كما رأيت(6/194)
ص -433-…ثم بعد تمشيته على ما فيه لا يلزم منه أنه لم يخل عصر من الأعصار الماضية من المجتهد المطلق ولا يجوز أن يخلو منه عصر من الأعصار الآتية، وهو المطلوب والله سبحانه أعلم.
مسألة: التقليد العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج
"التقليد العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج" الأربع الشرعية "بلا حجة منها فليس الرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع منه" أي من التقليد على هذا؛ لأن كلا منهما حجة شرعية من الحجج الأربع، وكذا ليس منه على هذا عمل العامي بقول المفتي وعمل القاضي بقول العدول؛ لأن كلا منهما، وإن لم يكن إحدى الحجج فليس العمل به بلا حجة شرعية لإيجاب النص أخذ العامي بقول المفتي وأخذ القاضي بقول العدول، وكأنه لم يتعرض لهما لظهورهما بل على هذا لا يتصور تقليد في الشرع لا في الأصول ولا في الفروع فإن حاصله اتباع من لم يقم حجة باعتباره، وهذا لا يوجد في الشرع فإن المكلف إما مجتهد فمتبع لما قام عنده بحجة شرعية، وإما مقلد فقول المجتهد حجة في حقه فإن الله - تعالى - أوجب العمل عليه به كما أوجب على المجتهد بالاجتهاد فلو جاز تسمية العامي مقلدا جاز تسمية المجتهد مقلدا، وعلى هذا مشى القاضي الباقلاني ثم ابن السمعاني وابن الحاجب وغيرهم. قال أبو حامد الإسفراييني والروياني وإمام الحرمين، وإنما صورة الأخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم صورة التقليد وليس بتقليد حقيقة بل نقل الباقلاني الإجماع عليه ومنع بقول أبي محمد الجويني إن الشافعي نص على أنه يسمى تقليدا فإنه قال فيما ذهب إليه من أنه لا يجب الأخذ بقول الصحابي ما نصه فأما أن يقلده فلم يجعل الله ذلك لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ا هـ. وكون مراد الشافعي أن صورته صورة التقليد كما ذكر الروياني خلاف الظاهر بل خطأ الماوردي من قال إنه ليس بتقليد ا هـ. نعم قال إمام الحرمين هو اختلاف في عبارة يهون موقعها عند ذوي التحقيق وقال أيضا الذي عليه معظم(6/195)
الأصوليين أن العامي مقلد للمجتهد فيما يأخذه عنه، وقال بعضهم: إنه المشهور فلا جرم أن ذكر الغزالي والآمدي وابن الحاجب وغيرهم أنه لو سمى الرجوع إلى الرسول أو إلى الإجماع والمفتي والشهود تقليدا فلا مشاحة في ذلك فإن لكل أحد أن يصطلح على ما شاء بعد رعاية المناسبة، وعلى هذا قول المصنف "بل المجتهد والعامي إلى مثله، وإلى المفتي" أي بل التقليد رجوع المجتهد إلى مثله والعامي إلى مثله، وإلى المفتي أيضا في الأحكام الشرعية كما ذكر الآمدي وغيره "هذا هو المعروف من تقليد عامة مصر الشافعي ونحوه" وقد يعبر عنه كما في جمع الجوامع بأخذ القول بغير معرفة دليله، وعليه مشى القفال وغيره فخرج أخذه مع معرفة دليله فإنه ليس بتقليد، وإن وافق قول مجتهد به فإنه في الحقيقة أخذ من الدليل لا من المجتهد بل قد قيل: إن أخذه مع معرفة دليله نتيجة الاجتهاد؛ لأن معرفة الدليل إنما يكون للمجتهد لتوقفها على معرفة سلامته من المعارض بناء على وجوب البحث عنه، وهي متوقفة على استقراء الأدلة كلها ولا يقدر على ذلك إلا المجتهد بقي أخذ المجتهد بقول العامي فجزم القاضي والغزالي والآمدي وابن الحاجب أنه لا يسمى تقليدا؛ لأنه لا بد له من نوع اجتهاد. قلت:(6/196)
ص -434-…وفيه نظر فإنه غير لازم كما في الرجوع في قيم المتلفات إلى العامي من أهل الخبرة بها نعم إن كان ذلك مجرد اصطلاح فلا مشاحة فيه ثم قيل على هذا يسمى العمل بقوله صلى الله عليه وسلم تقليدا إذا قلنا كان يقول عن قياس أيضا ولم يدر قال ذلك عن وحي أو قياس قلت وحيث كان المسوغ لتسميته تقليدا عدم العلم بأخذه من الوحي عينا وكان صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ على تقدير تعبده بالاجتهاد فيما لا نص فيه بعد مضي مدة الانتظار للوحي، وأنه وحي باطن كما تقدم هذا كله فلا يسمى تقليد التعين كونه عن الوحي هذا، والمراد بالقول الرأي فيشمل ما كان قولا أو فعلا وهذا أحسن من قول التفتازاني والمراد بالقول ما يعم الفعل والتقرير تغليبا وقول الأبهري هو أعم من اللفظي والنفسي فلا يرد عليه ما قاله بعض المتأخرين من خروج الأخذ بفعل الغير من غير حجة عنه ثم غير خاف أنه لا بد أن يكون ذلك المأخوذ به له نوع اختصاص بالمأخوذ عنه ليخرج ما علم بالضرورة فإنه لا اختصاص له بالمأخوذ عنه، وقال المصنف "وكان الوجه جعل المعرف بما ذكر التقلد؛ لأنه" أي المقلد "جعل قوله" أي من قلده "قلادة" في عنقه وهذا تقلد لا تقليد "فتصحيحه" أن يقال المراد "جعل عمله قلادة إمامه" الذي قلده فكأنه يطوقه ما فيه من تبعة إن كانت.(6/197)
"والمفتي المجتهد وهو الفقيه" أيضا اصطلاحا أصوليا كما قدمناه في أوائل الاجتهاد؛ لأن من قامت به صفة جاز أن يشتق له منها اسم فاعل فلا جرم إن قال الصيرفي موضوع هذا الاسم لمن قام للناس بأمر دينهم وعلم جمل عموم القرآن وخصوصه وناسخه ومنسوخه وكذلك في السنن والاستنباط ولم يوضع لمن علم مسألة وأدرك حقيقتها. وقال ابن السمعاني: المفتي من استكمل فيه ثلاث شرائط الاجتهاد والعدالة والكف عن الترخيص والتساهل. وللمتساهل حالتان إحداهما أن يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام ويأخذ ببادئ النظر وأوائل الفكر فهذا مقصر في حق الاجتهاد ولا يحل له أن يفتي ولا يجوز أن يستفتى. والثانية أن يتساهل في طلب الرخص وتأول السنة فهذا متجوز في دينه وهو آثم من الأول ا هـ. وفي أصول ابن مفلح قال أصحابنا وغيرهم يحرم تساهل المفتي وتقليد معروف به وفي شرح البديع للهندي ويجب أن يكون عدلا ثقة حتى يوثق به فيما يخبر به من الأحكام ا هـ. يعني فهذا من شرط قبول فتواه لا من شرط صحة اجتهاده كما تقدم في أوائل الاجتهاد وأنه لا يشترط فيه الذكورة والحرية وقال أحمد لا ينبغي أن يفتي حتى يكون له نية ووقار وسكينة قويا على ما هو فيه ومعرفته، والكفاية، وإلا مضغه الناس، ومعرفة الناس. قال ابن عقيل: هذه الخصال مستحبة فيقصد الإرشاد، وإظهار أحكام الله تعالى لا رياء ولا سمعة والتنويه باسمه، والسكينة والوقار يرغب المستفتي وهم ورثة الأنبياء فيجب أن يتخلقوا بأخلاقهم والكفاية لئلا ينسبه الناس إلى التكسب بالعلم وأخذ العوض عليه فيسقط قوله ومعرفة الناس تحتمل حال الرواة وتحتمل حال المستفتين فالفاجر لا يستحق الرخص فلا يفتيه بالخلوة بالمحارم مع علمه بأنه يسكر، والحق كما في أصول ابن مفلح أن الخصلة الأولى واجبة، وللمفتي رد الفتوى وفي البلد غيره أهل لها شرعا خلافا للحليمي، وإلا لزمه(6/198)
ص -435-…ذكره أبو الخطاب وابن عقيل وغيرهما ولا يلزمه جواب ما لم يقع وما لا يحتمله السائل ولا ينفعه بل ذكر ابن عقيل أنه يحرم إلقاء علم لا يحتمله ولعله المراد بقول ابن الجوزي لا ينبغي. وقال البخاري قال علي رضي الله عنه حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وروي معناه مرفوعا من غير طريق وسئل أحمد عن يأجوج ومأجوج أمسلمون هم فقال للسائل أحكمت العلم حتى تسأل عن ذا ويفتى أخرس بإشارة مفهومة أو كتابة، وكان السلف يهابون الفتيا ويشددون فيها ويتدافعونها وينكرون عليها حتى قال ابن أبي ليلى أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول، وما منهم من أحد يحدث بحديث أو يسأل عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه. وقال عطاء بن أبي رباح: أدركت أقواما إن كان أحدهم ليسأل عن الشيء فيتكلم وإنه ليرعد إلى غير ذلك وما أحسن قول القائل ينبغي للمفتي الموفق إذا نزلت به المسألة أن يبعث من قلبه الافتقار الحقيقي الحالي لا العلمي المجرد إلى ملهم الصواب ومعلم الخير أن يفتح له طرق السداد وأن يدله على حكمه الذي شرعه لعباده في تلك المسألة وما أجدر من فضل ربه أن لا يحرمه إياه.(6/199)
"والمستفتي من ليس إياه" أي مفتيا "ودخل" في المستفتى "المجتهد في البعض" من المسائل الاجتهادية "بالنسبة إلى" المجتهد "المطلق" نعم حيث قلنا بتجزؤ الاجتهاد فقد يكون الشخص مفتيا بالنسبة إلى أمر مستفتيا بالنسبة إلى آخر، وينبغي له حفظ الأدب مع المفتي، وإجلاله قولا وفعلا، وتركه ما لا يعنيه من السؤال واحتج الشافعي على كراهة السؤال عن الشيء قبل وقوعه بقوله - تعالى - {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] الآية وكان صلى الله عليه وسلم ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال وكثرة السؤال. وفي لفظ "إن الله كره لكم ذلك" متفق عليه وقال البيهقي: كره السلف السؤال عن المسألة قبل كونها إذا لم يكن فيها كتاب ولا سنة؛ لأن الاجتهاد إنما يباح عند الضرورة ثم روي عن معاذ أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله. وأخرج أبو داود في المراسيل عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها فإنكم إن لم تفعلوا لم ينفك المسلمون أن يكون منهم من إذا قال سدد ووفق، وإنكم إن عجلتم تشتت بكم السبل ها هنا وها هنا" ولأحمد عن ابن عمر لا تسألوا عما لم يكن فإن عمر نهى عنه وعن ابن عباس أنه قال عن الصحابة ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم وله أيضا ولأبي داود عن معاوية مرفوعا: نهى عن الغلوطات. قيل بفتح الغين المعجمة وأحدها غلوطة، وقيل بضمها وأصلها الأغلوطات قال الأوزاعي هي شداد المسائل وقال عيسى بن يونس هي ما لا يحتاج إليه من كيف وكيف قال الحافظ ابن رجب: ويروى من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون أقوام من أمتي يغلطون فقهاءهم بعضل بعض المسائل أولئك شرار أمتي". وقال الحسن شرار عباد الله الذين يتبعون شداد المسائل يغمون بها عباد الله وقال الأوزاعي: إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط فلقد رأيتهم أقل الناس علما وبالجملة فقد نهى السلف عنها قال بعض الحنابلة: ويعزر فاعله،(6/200)
والله سبحانه أعلم.(6/201)
ص -436-…"والمستفتى فيه" الأحكام "الفرعية الظنية" قال المصنف "والعقلية ولذا" أي كون المستفتى فيه قد يكون حكما عقليا "صححنا إيمان المقلد، وإن أثمناه" بترك الاجتهاد، وإلا لو كان العقلي غير جائز أن يكون مستفتى فيه لم يصحح إيمان المقلد؛ لأنه رأس العقائد وأمر القواعد المتظافر على ثبوته الدليل العقلي والنقلي القطعي نعم لا بد أن لا يكون ذلك منه مع تجويز شبهة فلا جرم إن قال صاحب الصحائف من اعتقد أركان الدين تقليدا فإن اعتقد مع ذلك جواز شبهة فهو كافر ومن لم يعتقد ذلك فقيل مؤمن، وإن كان عاصيا بترك النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة أدلة قواعد الدين وهو مذهب الأئمة الأربعة والأوزاعي والثوري وكثير من المتكلمين وقيل لا يستحق اسم المؤمن إلا بعد عرفان الأدلة وهو مذهب الأشعري. ا هـ. وإذا عرف هذا "فما يحل الاستفتاء فيه" الأحكام "الظنية لا العقلية على الصحيح" فلا يجوز التقليد فيها بل يجب تحصيلها بالنظر الصحيح كما هو قول الأكثرين، واختاره الرازي والآمدي وابن الحاجب بل حكاه الأستاذ الإسفراييني عن إجماع أهل العلم من أهل الحق وغيرهم من الطوائف ثم لا يخفى أن الأولى أن يذكر "لا قصر صحته" أي المستفتى فيه الذي يقع فيه التقليد "على" الأحكام "الظنية" بعد قوله إن أثمناه، وقوله "كوجوده تعالى" مثال لما هو من العقليات ومقابل الصحيح "وقيل يجب" التقليد في العقليات المتعلقة بالاعتقاد "ويحرم النظر" والبحث فيها وهو معزو إلى قوم من أهل الحديث والظاهر، ونقله صاحب الأحوذي عن الأئمة الأربعة ذكره الزركشي. قلت وفيه نظر فإنه لم يحفظ عنهم، وإنما توهم عنهم من نهيهم عن تعلم علم الكلام والاشتغال به ولكن من تتبع حالهم علم أن نهيهم محمول على من خيف أن يزل فيه حيث لا يكون له قدم صدق في مسالك التحقيق فيقع في شك أو ريبة لا على من له قوة تامة وقدم صدق "والعنبري" وبعض الشافعية على ما في أصول ابن مفلح وعزاه الآمدي إلى الحشوية(6/202)
والتعليمية قالوا "يجوز" التقليد فيها ولا يجب النظر "لنا الإجماع" منعقد "على وجوب العلم بالله تعالى" وصفاته على المكلف "ولا يحصل" العلم به "بالتقليد لإمكان كذبه" أي المفتي المخبر "إذ نفيه" أي الكذب عنه "بالضرورة منتف"؛ لأنه لا يجب أن يكون معصوما فيما أخبر به من الاجتهاد فلا يحصل العلم بقوله فيكون تاركا للواجب، وهو العلم اليقيني "وبالنظر لو تحقق يرفع التقليد ولأنه لو حصل" العلم بالتقليد "لزم النقيضان بتقليد اثنين" لاثنين "في حدوث العالم وقدمه" بأن يحصل لزيد العلم بحدوثه تقليدا منه للقائل به ولعمرو العلم بقدمه تقليدا للقائل به إذ العلم يستدعي المطابقة فيلزم حقيقة الحدوث والقدم.
"المجوز" للتقليد فيها النافي لوجوب النظر وموافقوه قالوا أولا "لو وجب النظر لفعله الصحابة وأمروا به"؛ لأنهم لا يتركون واجبا عليهم يتعلق بهم أو بغيرهم من غير عذر في تركه، والفرض انتفاؤه "وهو" أي المجموع من الفعل والأمر "منتف" ولا سيما بالنسبة إلى أكثر عوام العرب فإنهم لم يكونوا عالمين بالأدلة الكلامية "وإلا" لو وجد ذلك منهم "لنقل كما" نقل عنهم النظر "في الفروع" فلما لم ينقل علم أنه لم يقع "الجواب منع انتفاء التالي" أي عدم(6/203)
ص -437-…فعلهم، وإلا لزم نسبتهم إلى أنهم كانوا جاهلين بالله تعالى وبصفاته؛ لأن العلم به ليس ضروريا، وهو باطل وعدم أمرهم غيرهم به. "بل علمهم، و" علم "عامة العوام" بالله تعالى وبصفاته حاصل لهم "عن النظر إلا أنه لم يدر" النظر "بينهم" أي الصحابة "لظهوره" لهم بواسطة ما لهم من سلامة الفطرة ومشاهدة الآيات الباهرة "ونيله" لهم "بأدنى التفات إلى الحوادث" لصفاء قريحتهم ونقاء سريرتهم وكمال استعدادهم وكيف لا وهم معاينون بالليل والنهار أنوار منبع الأنوار، وهدي المرسل رحمة للعالمين في سائر الأعصار فإن ذلك مما يعد النفوس الزكية لدرك الأمور الإلهية والصفات القدسية لانهزام عساكر الأوهام الموجبة لاختلاف الآراء وضلالات الخيالات والأهواء، وكانوا يكتفون من النظر من غيرهم بما يظهر عليه من حصوله له من الانقياد والإذعان إلى الإيمان وآثار القطع به والإيقان بحيث لو سئل عن سببه لأتى به أكمل مما أجاب به الأعرابي للأصمعي عن سؤاله له بم عرفت ربك حيث قال البعرة تدل على البعير وآثار الأقدام على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا تدل على اللطيف الخبير. غايته أنهم ما كانوا يؤدون ذلك بالعبارات والترتيب المتعارف للمتكلمين "وليس المراد" من النظر الواجب "تحريره على قواعد المنطق" بل ما يوصل إلى الإيمان بطريق الاستدلال على أي طريق كان "ومن أصغى إلى عوام الأسواق امتلأ سمعه من استدلالهم بالحوادث" على محدثها. "والمقلد المفروض" في الإيمان "لا يكاد يوجد فإنه قل أن يسمع من لم ينتقل ذهنه قط من الحوادث إلى موجدها، و" الحال أنه "لم يخطر له الموجد أو خطر فشك فيه من يقول لهذه الموجودات رب أوجدها متصف بالعلم بكل شيء والقدرة إلخ" أي على كل شيء إلى آخر صفاته الذاتية "فيعتقد ذلك بمجرد تصديقه من غير انتقال" للسامع من المصنوع إلى الصانع "يفيد اللزوم بين المحدث" بفتح الدال "والموجد" بكسر الجيم وليس معنى الاستدلال إلا هذا فمن(6/204)
لم ينتقل فاعل يسمع ومن يقول مفعوله لكن إلكيا بعد أن حكى إجماعهم على أنهم مؤمنون قال: وإنما الخلاف في أنهم عارفون بالأدلة وقصرت عباراتهم عن أدائها أو غير عارفين بها؛ لأن الله تعالى لم يوجب عليهم إلا هذا القدر فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتفي من الأعراب بالتصديق مع العلم بقصورهم عن معرفة النظر والاستدلال ففي مسلم عن معاوية بن الحكم في الأمة السوداء التي أراد عتقها وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال ائتني بها فجاءت فقال "أين الله" فقالت في السماء فقال "من أنا" قالت أنت رسول الله قال "أعتقها فإنها مؤمنة" فهذا دليل على الاكتفاء بالشهادتين في صحة الإيمان، وإن لم يكن عن نظر واستدلال قال النووي: هذا هو الصحيح الذي عليه الجمهور ا هـ. فما ذكره المصنف ماش على الأول.(6/205)
ص -438-…"قالوا" أي مجوزو التقليد في العقليات الاعتقادية ونافو وجوب النظر فيها ثانيا: "وجوب النظر دور لتوقفه" أي وجوبه "على معرفة الله" الموجب له، وتوقف معرفة الله على النظر "أجيب بأنه" أي إيجاب النظر متوقف "على معرفته" أي الله سبحانه "بوجه، والموقوف على النظر ما" أي معرفة الله تعالى "بأتم" أي بوجه أتم "أي الاتصاف بما يجب له" من صفات الكمال "كالصفات الثمانية" الحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام والتكوين "وما يمتنع عليه" من النقيصة والزوال وقال "المانعون" من النظر: النظر "مظنة الوقوع في الشبه والضلال" لاختلاف الأذهان والأنظار بخلاف التقليد فإنه طريق آمن فوجب احتياطا ولوجوب الاحتراز عن مظنة الضلال إجماعا "قلنا" إنما يكون ممنوعا "إذا فعل" النظر "غير الصحيح المكلف به" ونحن نقول يلزمه النظر الصحيح المكلف به "وأيضا فيحرم" على هذا النظر "على المقلد" بفتح اللام "الناظر" أيضا؛ لأن نظره مظنة الوقوع فيهما أيضا. ثم تقليد المقلد إياه حينئذ أولى بالحرمة؛ لأن فيه ما فيه مع زيادة احتمال كذبه، وإضلاله "إذ لا بد من الانتهاء إليه" أي إلى المقلد الناظر. "وإلا" لو لم ينته إليه "لتسلسل" إلى غير النهاية ضرورة أن المقلد لا بد له من مقلد، والتسلل المذكور باطل فإن قيل ينتهي إلى المؤيد بالوحي من عند الله بحيث لا يقع فيه الخطأ فيندفع المحذور فالجواب ما أشار إليه بقوله "والانتهاء إلى المؤيد بالوحي، والأخذ عنه ليس تقليدا بل" المأخوذ عنه "علم نظري" لتوقفه على ثبوت النبوة له بالمعجزة الدالة عليه فلا يصلح أن التقليد واجب، وأن النظر حرام.
مسألة: غير المجتهد المطلق يلزمه التقليد في بعض مسائل الفقه(6/206)
"غير المجتهد المطلق يلزمه" عند الجمهور "التقليد، وإن كان مجتهدا في بعض مسائل الفقه أو بعض العلوم كالفرائض على القول بالتجزي" للاجتهاد "وهو الحق" لما تقدم أن عليه الأكثرين. ووجهه "فيما لا يقدر عليه" وهو متعلق بالتقليد "ومطلقا" أي ويلزمه التقليد فيما يقدر عليه وفيما لا يقدر عليه "على نفيه" أي نفي القول بالتجزي "وقيل" أي وقال بعض المعتزلة: إنما يلزم التقليد "في العالم بشرط تبيين صحة مستنده" أي المجتهد له "وإلا" لو لم يبينها له "لم يجز" له تقليده "لنا عموم" قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] "فيمن لا يعلم" عاميا صرفا كان أو عالما ببعض العلوم غير عالم بحكم مسألة لزمه معرفته "وفيما لا يعلم لتعلقه" أي الأمر بالسؤال "بعلة عدم العلم" فكلما تحقق عدم العلم تحقق وجوب السؤال فيلزمه العموم فيما لا يعلم، وهذا غير عالم بهذه المسألة فيجب عليه فيها السؤال والدليل على العلية أن الشرط اللغوي في السببية أغلب ويستعمل في الشرط الذي لم يبق للمسبب سواه "وأيضا لم يزل المستفتون يتبعون" المفتين "بلا إبداء مستند" لهم في ذلك، وشاع وذاع "ولا نكير" عليهم فكان إجماعا سكوتيا على جواز اتباع العالم المجتهد مطلقا. قال المصنف: "وهذا" الوجه "يتوقف" عمومه للعالم "على ثبوته في العلماء المتأهلين" للاجتهاد "كذلك" أي اتباع المفتين بلا إبداء مستند لهم.(6/207)
ص -439-…"قالوا" أي شارطو تبيين صحة المستند: القول بلزوم التقليد من غير تبيين صحة المستند "يؤدي إلى وجوب اتباع الخطأ" لجواز الخطأ عليه في الاجتهاد "قلنا وكذا لو أبدى" المفتي صحة المستند لجواز الخطأ عليه في ذلك؛ لأنه لا يوجب اليقين بل الظن "وكذا المفتي نفسه" يجب عليه اتباع اجتهاد مع جواز الخطأ عليه "فما هو جوابكم" عن هذين فهو "جوابنا" إذا لم يبد صحة المستند "والحل الوجوب لاتباع الظن أو الحكم" المظنون إنما هو "من حيث هو مظنون" ومن حيث هو اتباع الظن، وإن كان من حيث هو خطأ يحرم، ولا امتناع في ذلك "لا من حيث هو خطأ" وهذا هو الممتنع "نعم لو سأله" أي المستفتي "عن دليله" استرشادا لتذعن نفسه للقبول لا تعنتا "وجب إبداؤه في" القول "المختار إلا إن" كان دليله "غامضا" على المستفتي "مع قصوره" عنه فإن إبداءه له حينئذ تعب فيما لا يفيد فيعتذر بخفائه عليه. وفي بحر الزركشي ما ملخصه: العلم نوعان نوع يشترك في معرفته الخاصة والعامة ويعلم من الدين بالضرورة كالمتواتر فلا يجوز التقليد فيه لأحد كعدد الركعات وتعيين الصلاة وتحريم الأمهات والبنات والزنا واللواط فإن هذا مما لا يشق على العامي معرفته ولا يشغله عن أعماله، ومنه أهلية المفتي ونوع يختص بمعرفته الخاصة، والناس فيه ثلاثة أقسام: الأول العامي الصرف، والجمهور على أنه يجب عليه التقليد في فروع الشريعة جميعها ولا ينفعه ما عنده من علم لا يؤدي إلى اجتهاد وعن الأستاذ والجبائي يجوز في الاجتهادية دون ما طريقه القطع إلحاقا لقطعيات الفروع بالأصول. الثاني العالم الذي حصل بعض العلوم المعتبرة ولم يبلغ رتبة الاجتهاد فاختار ابن الحاجب وغيره أنه كالعامي الصرف لعجزه عن الاجتهاد وقيل لا يجوز له ذلك ويجب عليه معرفة الحكم بطريقه؛ لأن له صلاحية معرفة الأحكام بخلاف غيره. قال الزركشي وما أطلقوه من إلحاقه هنا بالعامي فيه نظر لا سيما في أتباع المذاهب المتبحرين، فإنهم لم(6/208)
ينصبوا أنفسهم نصبة المقلدين وقد سبق قول الشيخ أبي علي وغيره لسنا مقلدين للشافعي وكذا لا إشكال في إلحاقهم بالمجتهدين إذ لا يقلد مجتهد مجتهدا ولا يمكن أن يكون واسطة بينهما؛ لأنه ليس لنا سوى حالتين. قال ابن المنير: والمختار أنهم مجتهدون ملتزمون أن لا يحدثوا مذهبا أما كونهم مجتهدين فلأن الأوصاف قائمة بهم وأما كونهم ملتزمين أن لا يحدثوا مذهبا فلأن إحداث مذهب زائد بحيث يكون لفروعه أصول وقواعد مباينة لسائر قواعد المتقدمين فمتعذر الوجود لاستيعاب المتقدمين سائر الأساليب نعم لا يمتنع عليهم تقليد إمام في قاعدة فإذا ظهر له صحة مذهب غير إمامه في واقعة لم يجز له أن يقلد إمامه لكن وقوع ذلك مستبعد لكمال نظر من قبله. الثالث أن يبلغ المكلف رتبة الاجتهاد وهي المسألة السابقة وتقدم الكلام فيها مستوفى.
"تتميم" ثم في أصول ابن مفلح وذكر بعض أصحابنا يعني الحنابلة والمالكية والشافعية هل يلزمه التمذهب بمذهب والأخذ برخصه وعزائمه؟ فيه وجهان: أشهرهما لا كجمهور العلماء فيتخير ونقل عن بعض الحنابلة أنه قال: وفي لزوم الأخذ برخصه وعزائمه طاعة غير النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمره ونهيه، وهو خلاف الإجماع وتوقف في(6/209)
ص -440-…جوازه، وقال أيضا: إن خالفه في زيادة علم أو تقوى فقد أحسن ولم يقدح في عدالته بلا نزاع بل يجب في هذه الحال، وإنه نص أحمد، وكذا قال القدوري الحنفي ما ظنه أقوى عليه تقليده فيه ا هـ. وقد سمعت موافقة ابن المنير لهذا آنفا غير أنه استبعد وقوعه وليس ببعيد والثاني يلزمه وستقف في هذا على مزيد فيه مقنع لمن ألقى السمع وهو شهيد.
مسألة: الاتفاق على حل استفتاء من عرف من أهل العلم بالاجتهاد والعدالة
"الاتفاق على حل استفتاء من عرف من أهل العلم بالاجتهاد والعدالة أو رآه منتصبا" للإفتاء "والناس يستفتونه معظمين" له "وعلى امتناعه" أي الاستفتاء "إن ظن عدم أحدهما" أي الاجتهاد أو العدالة فضلا عن ظن عدمهما جميعا "فإن جهل اجتهاده دون عدالته فالمختار منع استفتائه" بل نقل في المحصول الاتفاق عليه وقيل لا "لنا الاجتهاد شرط" لقبول فتواه "فلا بد من ثبوته" أي الاجتهاد "عند السائل ولو" كان ثبوته "ظنا لم يثبت" كما هو الفرض "وأيضا ثبت عدمه" أي الاجتهاد بالجهل "إلحاقا" لهذا "بالأصل" أي عدم الاجتهاد "كالراوي" المجهول العدالة لا تقبل روايته إلحاقا له بالأصل وهو عدم العدالة "أو بالغالب إذ أكثر العلماء ببعض العلوم التي لها دخل في الاجتهاد غير مجتهدين" فضلا عمن لا مشاركة له والمسألة مفروضة في الأعم فالظاهر أنه منهم، والأصل والظاهر إذا تضافرا يكاد تضافرهما يفيد العلم.(6/210)
"قالوا" أي القائلون بعدم الامتناع: "لو امتنع" فيمن جهل اجتهاده دون عدالته "امتنع فيمن علم اجتهاده دون عدالته" بدليلكم بعينه بأن يقال: العدالة شرط، والأصل عدمها والأكثر الفسق فالظاهر فسقه "أجيب بالتزامه" أي التزام الامتناع في هذا أيضا "لاحتمال الكذب، ولو سلم عدم امتناعه وهو" أي عدم امتناعه "الحق، فالفرق" بينهما "أن الغالب في المجتهدين العدالة فالإلحاق به" أي بالغالب "أرجح منه" أي من إلحاقه "بالأصل" الذي هو عدم العدالة "بخلاف الاجتهاد ليس غالبا في أهل العلم في الجملة" ولا سيما في هذه الأعصار إذ لم يقل بخلوها عنه بل قيل هو أعز من الإكسير الأعظم والكبريت الأحمر ثم إذا بحث عن حاله فاشترط الإسفراييني تواتر الخبر بكونه مجتهدا ورده الغزالي بأن التواتر يفيد في المحسوسات وهذا ليس منها وتكفي الاستفاضة بين الناس كما هو الراجح في الروضة، ونقله عن الشافعية، وقال القاضي: يكفيه أن يخبره عدلان بأنه مفت، وجزم أبو إسحاق الشيرازي بأنه يكفيه خبر الواحد العدل عن فقهه وأمانته؛ لأن طريقه طريق الإخبار، وبه قال بعض الحنابلة قال النووي: وهذا محمول على من عنده معرفة يميز بها الملتبس من غيره ولا يقبل في ذلك إخبار آحاد العامة لكثرة ما يتطرق إليه من التلبس في ذلك، وذكر معناه ابن عقيل. واكتفى في المنخول بقوله إني مفت والمختار في الغياثي اعتماده بشرط أن يظهر ورعه، وفي وجيز ابن برهان قيل يقول له لتجتهد أنت فأقلدك فإن أجابه قلده وهذا أصح المذاهب ا هـ. وقيل لا يعتمد وشرط غير واحد من المحققين كالقاضي امتحانه بأن يلفق مسائل متفرقة ويراجعه فيها فإن أصاب فيها غلب على ظنه كونه مجتهدا وقلده، وإلا تركه ولم يشرطه آخرون قلت وهو أشبه بعد فرض(6/211)
ص -441-…اعتبار قوله فإنه من أين للعامي معرفة كونه مصيبا في جوابها على أنه لو كان جوابه فيها خطأ عند مجتهد لا يلزم فيه نفي كونه مجتهدا إذ يجوز أن لا يتوارد المجتهدان على جواب واحد في المسألة الاجتهادية على أن المجتهد يخطئ ويصيب، ولعل الأقرب أنه إذا اعتبر قوله أنه مجتهد إنما يعتبر إذا علمت عدالته، ولم ينف معاصروه من العلماء الذين لا مانع من قبول شهادتهم عليه ذلك عنه، وإذا لم تعرف العدالة فيكتفي في الإخبار بها قيل بعدل وقيل بعدلين وبهذا جزم في المنخول وهو أوجه، والله سبحانه أعلم.
مسألة: إفتاء غير المجتهد بمذهب مجتهد تخريجاً على أصوله الخ(6/212)
"إفتاء غير المجتهد بمذهب مجتهد تخريجا" على أصوله "لا نقل عينه" أي عين مذهب المجتهد "فإنه" أي نقله "يقبل بشرائط" قبول رواية "الراوي" من العدالة وغيرها اتفاقا، وهذا اعتراض بين موضوع المسألة وجوابها، وهو "إن كان" غير المجتهد "مطلعا على مبانيه" أي مآخذ أحكام المجتهد "أهلا" للنظر فيها قادرا على التفريع على قواعده متمكنا من الفرق والجمع والمناظرة في ذلك، والحاصل أن يكون له ملكة الاقتدار على استنباط أحكام الفروع المتجددة التي لا نقل فيها عن صاحب المذهب من الأصول التي مهدها صاحب المذهب، وهو المسمى بالمجتهد في المذهب "جاز، وإلا" لو لم يكن كذلك "لا" يجوز وفي شرح البديع للهندي وهو المختار عند كثير من المحققين من أصحابنا وغيرهم فإنه نقل عن أبي يوسف وزفر وغيرهما من أئمتنا أنهم قالوا: لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا، وعبارة بعضهم من حفظ الأقاويل ولم يعرف الحجج فلا يحل له أن يفتي فيما اختلف فيه. "وقيل" جاز "بشرط عدم مجتهد واستغرب" نقله، والمستغرب له العلامة "وقيل يجوز" إفتاء غير المجتهد بمذهب المجتهد "مطلقا" أي سواء كان مطلعا على المأخذ أم لا عدم المجتهد أم لا، وهذا مختار صاحب البديع قال شارحه وهو مذهب كثير من العلماء، وقال المصنف "وهو" أي هذا القول "خليق بالنفي" أي بنفي الصحة "وسيظهر" نفيها، وقال "أبو الحسين: لا" يجوز إفتاء غير المجتهد بمذهب المجتهد "مطلقا" بالمعنى الذي قبله، وبه قال القاضي من الحنابلة في جماعة منهم ومن غيرهم كالروياني من الشافعية. قال القاضي: ومعناه عن أحمد "لنا وقوعه" أي إفتاء المتبحر غير المجتهد بمذهب المجتهد "بلا نكير" فإن المتبحرين من مقلدي أصحاب المذاهب ما زالوا على مر الأعصار يفتون بمذاهب أصحابها مع عدم بلوغهم رتبة الاجتهاد المطلق ولم ينكر إفتاؤهم. "وينكر" الإفتاء "من غيره" أي غير المتبحر بمذهب المجتهد فكان إجماعا على جواز فتيا المتبحر وعدم جواز(6/213)
فتيا غيره "فإن قيل إذا فرض عدم المجتهدين" في حال الاتفاق وعدم الإنكار "فعدمه" أي الإنكار ووجود الاتفاق يكون من غير أهل الإجماع وكلاهما "من غير أهل الإجماع ليس حجة فالوجه كونه" أي جوازه "للضرورة إذن" أي لفقد المجتهدين "قلنا: إنما يلزم" كونه للضرورة "لو منع الاجتهاد في مسألة" أي تجزي الاجتهاد إذ المفروض أن المفتي لا بد أن يكون عالما قادرا على الاجتهاد في أصول ذلك المجتهد ومثله له قدرة الاجتهاد في مسألة "وهو" أي منع(6/214)
ص -442-…تجزي الاجتهاد "ممنوع" فالمتفقون حينئذ على جواز هذا الإفتاء مجتهدون في هذه المسألة، وإن لم يكونوا مجتهدين مطلقا "فكلاهما" أي الاستدلال بالاتفاق بلا نكير والاستدلال بالضرورة "حق". فأما إذا لم يفرض فقد المجتهد فمستند القول بجواز الإفتاء لغير المجتهد بمذهب المجتهد إنما ينهض بالإجماع على وقوعه من غير إنكار إذا تم لا بالضرورة لاندفاعها بالمجتهد الموجود "وبهذا" الجواب "بدفع دفعه" أي دفع الاعتراض المذكور "لدليل تقليد الميت، وهو" أي تقليده القول "المختار وهو" أي دليل تقليده "أنه" أي تقليده "إجماع" لوقوعه في مر الأعصار بلا إنكار "فلا يعارضه" أي هذا الدليل "قولهم" أي مانعي تقليده كالإمام الرازي "لا قول له" أي للميت "وإلا" لو كان له قول باق "لم ينعقد الإجماع على خلافه ك" ما ينعقد على خلاف قول "الحي" فإن هذا لا يعارض الإجماع المذكور على أن ما ذكروه معارض بحجية الإجماع بعد موت المجمعين، والدفع أن يقال لا عبرة بالاتفاق وبعدم إنكار تقليد الميت؛ لأن المتفقين عليه ليسوا مجتهدين فالوجه كونه للضرورة. ودفعه أن يقال إنما يلزم لو منع تجزي الاجتهاد إلى آخر ما تقدم، والتقريب ظاهر للمتأمل.(6/215)
"المجوز" مطلقا قال المفتي "ناقل" فلا فرق بين العالم وغيره كما في الحديث فإنه لا يشترط في رواية العلم فرب حامل فقه ليس بفقيه "أجيب ليس الخلاف في النقل بل في التخريج، وإذن سقط هذا القول لظهور أن مراده" أي قائله، وهو النقل "اتفاق فهي" أي الأقوال في هذه المسألة "ثلاثة" جوازه للمتبحر جوازه له عند عدم المجتهد وقد عرف وجههما، لا يجوز مطلقا لأبي الحسين ووجهه أنه قال "أبو الحسين: لو جاز" الإفتاء للمتبحر "لجاز للعامي" بجامع عدم بلوغهما رتبة الاجتهاد. قال المصنف: "وما أبعده، والفرق" بينهما في الوضوح "كالشمس"؛ لأن الإجماع جوزه للعالم دون العامي وكيف لا والعارف بالمآخذ بعيد من الخطأ لاطلاعه على مآخذ أحكام إمامه بخلاف العامي فإنه لا يبعد منه الخطأ بل يكثر منه لعدم اطلاعه على المأخذ فأنى يستويان {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]. قلت وأما الاستدلال له بأنهما في النقل سواء كما في الشرح العضدي فيفيد سقوطه أيضا؛ لأن الخلاف ليس في النقل فالأقوال فيها قولان حينئذ المختار والمستغرب. هذا وفي شرح الهداية للمصنف بعد أن حكى أنه ذكر أنه لا يفتي إلا المجتهد قال وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد فأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهدين فليس بمفت، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد كأبي حنيفة على جهة الحكاية فعرف أن ما يكون في زماننا ليس بفتوى بل هو نقل كلام المفتي؛ ليأخذ به المستفتي، وطريق نقله كذلك عن المجتهد أحد أمرين إما أن يكون له سند فيه إليه أو يأخذه من كتاب معروف تداولته الأيدي نحو كتب محمد بن الحسن ونحوها من التصانيف المشهورة للمجتهدين؛ لأنه بمنزلة الخبر المتواتر عنهم والمشهور، هكذا ذكر الرازي. فعلى هذا لو وجد بعض نسخ النوادر في زماننا لا يحل عزو ما فيها إلى محمد ولا إلى أبي يوسف؛(6/216)
لأنها لم تشتهر في عصرنا في ديارنا ولم تتداول نعم إذا وجد النقل عن النوادر مثلا في كتاب(6/217)
ص -443-…مشهور معروف كالهداية والمبسوط كان ذلك تعويلا على ذلك الكتاب فلو كان حافظا للأقاويل المختلفة للمجتهدين ولا يعرف الحجة ولا قدرة له على الاجتهاد للترجيح لا يقطع بقول منها يفتي به بل يحكيها للمستفتي فيختار المستفتي ما يقع في قلبه أنه الأصوب ذكره في بعض الجوامع، وعندي أنه لا يجب عليه حكاية كلها بل يكفيه أن يحكي قولا منها فإن المقلد له أن يقلد أي مجتهد شاء فإذا ذكر أحدها فقلده حصل المقصود نعم لو حكى الكل فالأخذ بما يقع في قلبه أنه أصوب أولى، وإلا فالعامي لا عبرة بما يقع في قلبه من صواب الحكم وخطئه ا هـ. فلا جرم إن قال ابن دقيق العيد: توقيف الفتيا على حصول المجتهد يفضي إلى حرج عظيم واسترسال الخلق في أهويتهم1 فالمختار أن الراوي عن الأئمة المتقدمين إذا كان عدلا متمكنا من فهم كلام الإمام ثم حكى للمقلد قوله فإنه يكتفي به؛ لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي أنه حكم الله عنده، وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا هذا مع العلم الضروري بأن نساء الصحابة كن يرجعن في أحكام الحيض وغيره إلى ما يخبر به أزواجهن عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك فعل علي رضي الله عنه حين أرسل المقداد في قصة المذي، وفي مسألتنا أظهر فإن مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ممكنة، ومراجعة المقلد الآن للأئمة السابقين متعذرة. وقد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة مع عدم شرائط الاجتهاد اليوم ثم قال السبكي لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد المطلق مراتب. إحداها أن يصل إلى رتبة الاجتهاد المقيد فيستقل بتقرير مذهب إمام معين ويتخذ نصوصه أصولا يستنبط منها نحو ما يفعله بنصوص الشارع وهذه صفة أصحاب الوجوه والذي أظنه قيام الإجماع على جواز فتيا هؤلاء وأنت ترى علماء المذاهب ممن وصل إلى هذه الرتبة هل منعهم أحد الفتوى أو منعوا هم أنفسهم عنها. الثانية: من لم يبلغ رتبة أصحاب الوجوه لكنه فقيه النفس حافظ للمذهب قائم بتقرير(6/218)
غير أنه لم يرتض في التخريج والاستنباط كارتياض أولئك، وقد كانوا يفتون ويخرجون كأولئك ا هـ. وقال شافعي متأخر عنه: في إفتاء صاحب هذه الرتبة أقوال، أصحها يجوز، والثاني المنع، والثالث يجوز عند عدم المجتهد الثالثة من لم يبلغ هذا المقدار ولكنه حافظ لواضحات المسائل غير أن عنده ضعفا في تقرير أدلتها فعلى هذا الإمساك فيما يغمض فهمه فيما لا نقل عنده فيه وليس هذا الذي حكينا فيه الخلاف فإنه لا اطلاع له على المأخذ، وكل هؤلاء غير عوام ا هـ. قلت: وهذا يشير إلى أن له الإفتاء فيما لا يغمض فهمه قال متأخر شافعي وينبغي أن يكون هذا راجحا لمحل الضرورة لا سيما في هذه الأزمان ا هـ. وهذا أحد الأقوال فيه. ثانيها المنع مطلقا، ثالثها الجواز عند عدم المجتهد، وعدم الجواز عند وجود المجتهد، وقيل: الصواب إن كان السائل يمكنه التوصل إلى عالم يهديه السبيل لم يحل له استفتاء مثل هذا، ولا يحل لهذا أن ينصب نفسه للفتوى مع وجود
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قوله أهويتهم هكذا في النسخ والصواب أهوائهم جمع هوى وأما أهوية فجمع هواء ممدوداً كتبه مصححه.(6/219)
ص -444-…هذا العالم، وإن لم يكن في بلده أو ناحيته غيره فلا ريب أن رجوعه إليه أولى من أن يقدم على العمل بلا علم أو يبقى مرتبكا في حيرته مترددا في عماه وجهالته بل هذا هو المستطاع من تقواه المأمور بها وهو حسن إن شاء الله تعالى. أما العامي إذا عرف حكم حادثة بدليلها فهل له أن يفتي به ويسوغ لغيره تقليده ؟ ففيه أوجه للشافعية وغيرهم، أحدها: لا مطلقا لعدم أهليته للاستدلال وعدم علمه بشروطه وما يعارضه ولعله يظن ما ليس بدليل دليلا، وهذا في بحر الزركشي الأصح. ثانيها: نعم مطلقا؛ لأنه قد حصل له العلم به كما للعالم، وتميز العالم عنه بقوة يتمكن بها من تقرير الدليل ودفع المعارض له أمر زائد على معرفة الحق بدليله ثالثها إن كان الدليل كتابا أو سنة جاز، وإلا لم يجز؛ لأنهما خطاب لجميع المكلفين فيجب على المكلف العمل بما وصل إليه منهما، وإرشاد غيره إليه. رابعها: إن كان نقليا جاز، وإلا فلا. قال السبكي وأما العامي الذي عرف من المجتهد حكم مسألة ولم يدر دليلها ولا وجه تعليلها كمن حفظ مختصرا من مختصرات الفقه فليس له أن يفتي، ورجوع العامي إليه إذا لم يكن سواه أولى من الارتباك في الحيرة، وكل هذا فيمن لم ينقل عن غيره. أما الناقل فلا يمنع فإذا ذكر العامي أن فلانا المفتي أفتاني بكذا لم يمنع من نقل هذا القدر ا هـ. لكن ليس للمذكور له العمل به على ما في بحر الزركشي لا يجوز لعامي أن يعمل بفتوى مفت لعامي مثله، والله سبحانه أعلم.
مسألة: يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل(6/220)
"يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل" في أصول ابن مفلح عند أكثر أصحابنا كالقاضي وأبي الخطاب وصاحب الروضة وقال الحنفية والمالكية، وأكثر الشافعية "وأحمد" في رواية "وطائفة كثيرة من الفقهاء" كابن سريج والقفال والمروزي وابن السمعاني "على المنع" وقيل يجوز لمن يعتقده فاضلا أو مساويا ثم الخلاف بالنسبة إلى القطر الواحد لا إلى أهل الدنيا إذ لا خلاف في أنه لا يجب عليه تقليد أفضل أهل الدنيا، وإن كان نائيا عن إقليمه ذكره الزركشي في بحره "للأول" أي مجيزي تقليد المفضول مع وجود الأفضل "القطع" في عصر الصحابة "باستفتاء كل صحابي مفضول" مع وجود الأفضل "بلا نكير على المستفتي" فكان إجماعا، ومن ثمة قال الآمدي: لولا إجماع الصحابة على الجواز لكان الأولى مذهب الخصم، ولعل مستند الإجماع أن الكل طريق إلى الله تعالى. قال المصنف: "وهو" أي كون هذا دليلا على تمام المطلوب "متوقف على كونه" أي تقليد المفضول مع وجود الأفضل في زمان الصحابة "كان عند مخالفته للكل فإنه" أي هذا "من صورها" أي مسألة جواز تقليد المفضول مع وجود الأفضل، وثبوت هذا ليس بالسهل. "واستدل" للأول بأن العامي لو كلف هذا لكان تكليفا بالمحال "بتعذر الترجيح للعامي"؛ لأن الترجيح فرع المعرفة، ومبلغ علمه إنما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه "أجيب بأنه" أي الترجيح غير مستحيل من العامي؛ لأنه يظهر له "بالتسامع" من الناس وبرجوع العلماء إليه وعدم رجوعه إليهم وكثرة المستفتين وتقديم سائر العلماء له. وقال "المانعون" من جوازه:(6/221)
ص -445-…"أقوالهم" أي المجتهدين بالنسبة إلى المقلد "كالأدلة" المتعارضة "للمجتهد" فلا يصار إلى أحدها تحكما كما لا يصار إلى بعض الأدلة تحكما بل لا بد من الترجيح "فيجب الترجيح" وما الترجيح إلا بكون قائله أفضل اتفاقا "أجيب" بأن هذا قياس "لا يقاوم ما ذكرنا" من الإجماع لتقديم الإجماع على القياس بالإجماع. "وعلمت ما فيه" من أنه إنما يتم بالنسبة إلى تمام المطلوب إذا كان ذلك عند مخالفته للكل "وتعسره" أي الترجيح "على العامي" بخلافه لبعض الأدلة بالنسبة إلى المجتهد "ولا يخفى أنه" أي الترجيح "إذا كان بالتسامع لا عسر عليه" أي العامي فيه "وكون الاجتهاد المناط" لجواز التقليد "لا يفيد" وهو أن لا يوجد أفضل منه "لنا منعه عند مخالفة المفضول الكل" فيترجح المنع على الجواز. هذا وقد ظهر على القول بتعين تقليد الأفضل أنه الأفضل في نفس الأمر بما ظهر من أماراته لا الأفضل في مجرد ظنه من غير استناد إلى أمارة على ذلك، نعم نقل الرافعي عن الغزالي لو كان يعتقد أحدهم أعلم لا يجوز أن يقلد غيره، وإن قلنا لا يجب عليه البحث عن الأعلم إذا لم يعتقد اختصاص أحدهم بزيادة علم فهذا يفيد على القول بتعين تقليد الأفضل أنه الأفضل اعتقادا، وإن لم يثبت ذلك عنده في نفس الأمر بأمارة لكن لعل هذا منه إذا لم يوجد أمارة لأفضلية أحدهم على الباقين، وإلا فلو قامت أمارة على أفضليته وكان معتقدا في غيره الأفضلية من غير أمارة عليها فتقديم ذا على ذاك ليس بمتجه بل المتجه العكس فلا جرم أن ذكر ابن الصلاح فيما لو استفتى أحدهم واستبان أنه الأعلم والأوثق لزمه بناء على تقليد الأفضل، وإن لم يستبن لم يلزمه ا هـ. وقيل: الحق أن ترجح المفضول بديانة وورع وتحر للصواب وعدم ذلك الفاضل فاستفتاء المفضول جائز إن لم يتعين، وإن استويا فاستفتاء الأعلم أولى، ولو استويا علما وتفاوتا ورعا فقيل وجب الأخذ بقول الأورع قلت والظاهر أنه أولى؛ لأن لزيادة الورع تأثيرا في(6/222)
الاحتياط، وإن ترجح أحدهما في العلم والآخر في الورع فالأرجح على ما ذكر الرازي ونص السبكي على أنه الأصح الأخذ بقول الأعلم؛ لأن لزيادة العلم تأثيرا في الاجتهاد فيكون الظن الحاصل بقوله أكثر بخلاف زيادة الورع، وقيل: يؤخذ بقول الأورع، وقيل: يحتمل التساوي؛ لأن الكل مرجحا فيتخير ولو تساويا علما وورعا ففي بحر الزركشي قدم الأسن؛ لأنه الأقرب إلى الإصابة بطول الممارسة ا هـ. قلت وإن لم يكن المراد التقديم بطريق الأولوية ففيه نظر ظاهر وأطلق جماعة من الحنابلة وغيرهم التخيير في استوائهم، وفي المحصول، وإن ظن استواءهما مطلقا فيمكن أن يقال لا يتصور وقوعه لتعارض أمارتي الحل والحرمة، ويمكن أن يقال بوقوعه، ويخير بينهما، والله سبحانه أعلم.
مسألة: لا يرجع المقلد فيما قلد
"لا يرجع المقلد فيما قلد" المجتهد "فيه أي عمل به اتفاقا" ذكره الآمدي وابن الحاجب لكن قال الزركشي: وليس كما قالا ففي كلام غيرهما ما يقتضي جريان الخلاف بعد العمل أيضا وكيف يمتنع إذا اعتقد صحته. لكن وجه ما قالاه أنه بالتزامه مذهب إمام مكلف به ما لم يظهر له غيره، والعامي لا يظهر له بخلاف المجتهد حيث ينتقل من أمارة إلى أمارة،(6/223)
ص -446-…وفصل بعضهم فقال: التقليد بعد العمل إن كان من الوجوب إلى الإباحة ليترك كالحنفي يقلد في الوتر أو من الحظر إلى الإباحة ليترك كالشافعي يقلد في أن النكاح بغير ولي جائز، والفعل والترك لا ينافي الإباحة، واعتقاد الوجوب أو التحريم خارج عن العمل، وحاصل قبله فلا معنى للقول بأن العمل فيها مانع من التقليد، وإن كان بالعكس فإن كان يعتقد الإباحة يقلد في الوجوب أو التحريم، فالقول بالمنع أبعد وليس في العامي إلا هذه الأقسام نعم المفتي على مذهب إمام إذا أفتى بكون الشيء واجبا أو مباحا أو حراما ليس له أن يقلد ويفتي بخلافه؛ لأنه حينئذ محض تشهي كذا ا هـ. قلت: والتوجيه المذكور ساقط فإن المسألة موضوعة في العامي الذي لم يلتزم مذهبا معينا كما يفصح به لفظ الآمدي ثم ذكرهما بعد ذلك ما لو التزم مذهبا معينا على أن الالتزام غير لازم على الصحيح كما ستعلم، وقد قال الإمام صلاح الدين العلائي: ثم لا بد وأن يكون ذلك مخصصا بحالة الورع والاحتياط إذ لا يمنع فقيه من الرجوع في مثل ذلك. قلت: وقد قدمنا في فصل التعارض أن مشايخنا قالوا في القياسين إذا تعارضا واحتيج إلى العمل: يجب التحري فيهما فإذا وقع في قلبه أن الصواب أحدهما يجب العمل به، وإذا عمل به ليس له أن يعمل بعده بالآخر إلا أن يظهر خطأ الأول وصواب الآخر فحينئذ يعمل بالثاني أما إذا لم يظهر خطأ الأول فلا يجوز له العمل بالثاني؛ لأنه لما تحرى ووقع تحريه على أن الصواب أحدهما وعمل به وصح العمل حكم بصحة ذلك القياس وأن الحق معه ظاهر أو ببطلان الآخر، وأن الحق ليس معه ظاهرا مما لم يرتفع ذلك بدليل سوى ما كان موجودا عند العمل به لا يكون له أن يصير إلى العمل بالآخر فعلى قياس هذا إذا تعارض قولا مجتهدين يجب التحري فيهما فإذا وقع في قلبه أن الصواب أحدهما يجب العمل به، وإذا عمل به ليس له أن يعمل بالآخر إلا إذا ظهر خطأ الأول؛ لأن تعارض أقوال المجتهدين بالنسبة إلى المقلد(6/224)
كتعارض الأقيسة بالنسبة إلى المجتهد وستسمع عنهم أيضا ما يشده، والله سبحانه أعلم.
"وهل يقلد غيره" أي غير من قلده أولا في شيء "في غيره" أي غير ذلك الشيء ؟. كأن يعمل أولا في مسألة بقول أبي حنيفة وثانيا في أخرى بقول مجتهد آخر "المختار" كما ذكر الآمدي وابن الحاجب "نعم للقطع" بالاستقراء التام "بأنهم" أي المستفتين في كل عصر من زمن الصحابة وهلم جرا "كانوا يستفتون مرة واحدا ومرة غيره غير ملتزمين مفتيا واحدا" وشاع وتكرر ولم ينكر، وهذا إذا لم يلتزم مذهبا معينا. "فلو التزم مذهبا معينا كأبي حنيفة أو الشافعي" فهل يلزمه الاستمرار عليه فلا يعدل عنه في مسألة من المسائل "فقيل يلزم"؛ لأنه بالتزامه يصير ملزما به كما لو التزم مذهبه في حكم حادثة معينة؛ ولأنه اعتقد أن المذهب الذي انتسب إليه هو الحق فعليه الوفاء بموجب اعتقاده. "وقيل لا" يلزم، وهو الأصح كما في الرافعي وغيره؛ لأن التزامه غير ملزم إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده في دينه في كل ما يأتي ويذر دون غيره على أن ابن حزم قال أجمعوا أنه لا يحل لحاكم ولا مفت تقليد رجل(6/225)
ص -447-…فلا يحكم ولا يفتي إلا بقوله ا هـ. وقد انطوت القرون الفاضلة على عدم القول بذلك بل لا يصح للعامي مذهب ولو تمذهب به؛ لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال وبصر بالمذاهب على حسبه أو لمن قرأ كتابا في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله، وأما من لم يتأهل لذلك ألبتة بل قال أنا حنفي أو شافعي أو غير ذلك لم يصر كذلك بمجرد القول كما لو قال: أنا فقيه أو نحوي أو كاتب لم يصر كذلك بمجرد قوله يوضحه أن قائله يزعم أنه متبع لذلك الإمام سالك طريقه في العلم والمعرفة والاستدلال فأما مع جهله وبعده جدا عن سيرة الإمام وعلمه بطريقه فكيف يصح له الانتساب إليه إلا بالدعوى المجردة والقول الفارغ من المعنى كذا ذكره فاضل متأخر قلت ولو شاححه مشاحح في أن قائل أنا حنفي مثلا لم يرد به أنه متبع لأبي حنيفة في جميع هذا المذكور بل متبعه في الموافقة فيما أدى إليه اجتهاده عملا واعتقادا فسيظهر جوابه مما يذكره قريبا ثم قال الإمام صلاح الدين العلائي: والذي صرح به الفقهاء في مشهور كتبهم جواز الانتقال في آحاد المسائل والعمل فيها بخلاف مذهب إمامه الذي يقلد مذهبه إذا لم يكن ذلك على وجه التتبع للرخص وشبهوا ذلك بالأعمى الذي اشتبهت عليه أواني ماء وثياب تنجس بعضها إذا قلنا ليس له أن يجتهد فيها بل يقلد بصيرا يجتهد فإنه يجوز أن يقلد في الأواني واحدا وفي الثياب آخر ولا منع من ذلك "وقيل كمن لم يلتزم إن عمل بحكم تقليدا" لمجتهد "لا يرجع عنه" أي عن ذلك الحكم "وفي غيره" أي غير ما عمل به تقليد المجتهد "له تقليد غيره" من المجتهدين. قال السبكي: وهو الأعدل، وقال المصنف "وهو الغالب على الظن لعدم ما يوجبه" أي اتباعه فيما لم يعمل به "شرعا" بل الدليل الشرعي اقتضى العمل بقول المجتهد وتقليده فيه فيما احتاج إليه، وهو قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] والسؤال إنما يتحقق عند طلب(6/226)
حكم الحادثة المعينة وحينئذ إذا ثبت عنده قول المجتهد وجب عمله به والتزامه لم يثبت من السمع اعتباره ملزما كمن التزم كذا لفلان من غير أن يكون لفلان عليه ذلك لا يحكم عليه به إنما ذلك في النذر لله تعالى ولا فرق في ذلك بين أن يلتزم بلفظه كما في النذر أو بقلبه وعزمه على أن قول القائل مثلا قلدت فلانا فيما أفتى به من المسائل تعليق التقليد أو الوعد به ذكره المصنف وقال "ويتخرج منه" أي من كونه كمن لم يلتزم "جواز اتباعه رخص المذاهب" أي أخذه من كل منها ما هو الأهون فيما يقع من المسائل "ولا يمنع منه مانع شرعي إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل بأن لم يكن عمل بآخر فيه". وقال أيضا: والغالب أن مثل هذه إلزامات منهم لكف الناس عن تتبع الرخص، وإلا أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد قوله أخف عليه وأنا لا أدري ما يمنع هذا من العقل والسمع وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد ما علمت من الشرع ذمه عليه "وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف عليهم" كما قدمنا في فصل الترجيح أن البخاري أخرجه عن عائشة بلفظ عنهم وفي لفظ ما يخفف عنهم أي أمته، وذكرنا ثمة عدة أحاديث صحيحة دالة على ذلك قلت لكن ما عن ابن عبد البر من أنه لا يجوز للعامي تتبع(6/227)
ص -448-…الرخص إجماعا إن صح احتاج إلى جواب ويمكن أن يقال لا نسلم صحة دعوى الإجماع إذ في تفسيق المتتبع للرخص عن أحمد روايتان وحمل القاضي أبو يعلى الرواية المفسقة على غير متأول ولا مقلد، وذكر بعض الحنابلة إن قوي دليل أو كان عاميا لا يفسق، وفي روضة النووي وأصلها عن حكاية الحناطي وغيره عن ابن أبي هريرة أنه لا يفسق به ثم لعله محمول على نحو ما يجتمع له من ذلك ما لم يقل بمجموعه مجتهد كما أشار إليه بقوله "وقيده" أي جواز تقليد غيره "متأخر" وهو العلامة القرافي "بأن لا يترتب عليه" أي تقليد غيره "ما يمنعانه" أي يجتمع على بطلانه كلاهما "فمن قلد الشافعي في عدم" فرضية "الدلك" للأعضاء المغسولة في الوضوء والغسل "ومالكا في عدم نقض اللمس بلا شهوة" للوضوء فتوضأ ولمس بلا شهوة "وصلى إن كان الوضوء بدلك صحت" صلاته عند مالك "وإلا" إن كان بلا دلك "بطلت عندهما" أي مالك والشافعي. وقال الروياني: يجوز تقليد المذاهب والانتقال إليها بثلاثة شروط أن لا يجمع بينهما على صورة تخالف الإجماع كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد وأن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه ولا يقلد أميا في عماية وألا يتتبع رخص المذاهب، وتعقب القرافي هذا بأنه إن أراد بالرخص ما ينقض فيه قضاء القاضي وهو أربعة ما خالف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي فهو حسن متعين فإن ما لا نقره مع تأكده بحكم الحاكم فأولى أن لا نقره قبل ذلك، وإن أراد بالرخص ما فيه سهولة على المكلف كيفما كان يلزمه أن يكون من قلد مالكا في المياه والأرواث وترك الألفاظ في العقود مخالفا لتقوى الله، وليس كذلك وتعقب الأول بأن الجمع المذكور ليس بضائر فإن مالكا مثلا لم يقل إن من قلد الشافعي في عدم الصداق أن نكاحه باطل وإلا لزم أن تكون أنكحة الشافعية عنده باطلة، ولم يقل الشافعي إن من قلد مالكا في عدم الشهود أن نكاحه باطل، وإلا لزم أن تكون(6/228)
أنكحة المالكية بلا شهود عنده باطلة. قلت: لكن في هذا التوجيه نظر غير خاف ووافق ابن دقيق العيد الروياني على اشتراط أن لا يجتمع في صورة يقع الإجماع على بطلانها، وأبدل الشرط الثالث بأن لا يكون ما قلد فيه مما ينقض فيه الحكم لو وقع واقتصر الشيخ عز الدين بن عبد السلام على اشتراط هذا وقال: وإن كان المأخذان متقاربين جاز. والشرط الثاني انشراح صدره للتقليد المذكور وعدم اعتقاده لكونه متلاعبا بالدين متساهلا فيه ودليل هذا الشرط قوله صلى الله عليه وسلم "والإثم ما حاك في الصدر" فهذا تصريح بأن ما حاك في النفس ففعله إثم ا هـ. قلت: أما عدم اعتقاد كونه متلاعبا بالدين متساهلا فيه فلا بد منه وأما انشراح صدره للتقليد فليس على إطلاقه كما أن الحديث كذلك أيضا وهو بلفظ "والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس" في صحيح مسلم وبلفظ "والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك" في مسند أحمد فقد قال الحافظ المتقن ابن رجب في الكلام على هذا الحديث مشيرا إليه باللفظ الأول أنه إشارة إلى أن الإثم ما أثر في الصدر حرجا وضيقا وقلقا واضطرابا فلم ينشرح له الصدر ومع هذا فهو عند الناس مستنكر بحيث ينكرونه عند اطلاعهم عليه وهذا أعلى(6/229)
ص -449-…مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه، وهو ما استنكره الناس فاعله وغير فاعله ومن هذا المعنى قول ابن مسعود ما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المؤمنون قبيحا فهو عند الله قبيح ومشيرا إليه باللفظ الثاني يعني ما حاك في صدر الإنسان فهو إثم، وإن أفتاه غيره بأنه ليس بإثم فهذه مرتبة ثانية وهو أن يكون الشيء مستنكرا عند فاعله دون غيره وقد جعله أيضا إثما وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح صدره بالإيمان وكان المفتي له يفتي بمجرد ظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي. فأما ما كان مع المفتى به دليل شرعي فالواجب على المستفتي الرجوع إليه، وإن لم ينشرح له صدره وهذا كالرخص الشرعية مثل الفطر في السفر والمرض وقصر الصلاة ونحو ذلك مما لا ينشرح به صدر كثير من الجهال فهذا لا عبرة به، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا يأمر أصحابه بما لا ينشرح به صدر بعضهم فيمتنعون من فعله فيغضب من ذلك. كما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فكرهه من كرهه منهم وكما أمرهم بنحر هديهم والتحلل من عمرة الحديبية فكرهوه وكرهوا مقاضاته لقريش على أن يرجع من عامه وعلى أن من أتاه منهم يرده إليهم. وفي الجملة فما ورد النص به فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] وينبغي أن يتلقى ذلك بانشراح الصدر والرضا فإن ما شرعه الله ورسوله يجب الرضا والإيمان به والتسليم له كما قال - تعالى -: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] وأما ما ليس فيه نص عن الله ورسوله ولا عمن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئن قلبه بالإيمان(6/230)
المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شيء، وحاك في صدره لشبهة موجودة ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلا من يخبر عن رأيه وهو ممن لا يوثق بعلمه وبدينه بل هو معروف باتباع الهوى فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره، وإن أفتاه هؤلاء المفتون وقد نص الإمام أحمد على مثل هذا ا هـ.
بقي هل بمجرد وقوع صحة جواب المفتى وحقيته في نفس المستفتي يلزمه العمل به ؟. فذهب ابن السمعاني إلى أن أولى الأوجه أنه يلزمه وتعقبه ابن الصلاح بأنه لم يجده لغيره قلت وما ذكره ابن السمعاني موافق لما في شرح الزاهدي على مختصر القدوري وعن أحمد العياضي العبرة بما يعتقده المستفتي فكل ما اعتقده من مذهب حل له الأخذ به ديانة، ولم يحل له خلافه ا هـ. وما في رعاية الحنابلة ولا يكفيه من لم تسكن نفسه إليه وفي أصول ابن مفلح الأشهر يلزمه بالتزامه وقيل وبظنه حقا وقيل ويعمل به، وقيل: يلزمه إن ظنه حقا، وإن لم يجد مفتيا آخر لزمه كما لو حكم به حاكم ا هـ. يعني ولا يتوقف ذلك على التزامه ولا سكون نفسه إلى صحته كما صرح به ابن الصلاح وذكر أنه الذي تقتضيه القواعد وشيخنا المصنف رحمه الله على أنه لا يشترط ذلك لا فيما إذا وجد غيره ولا فيما إذا لم يوجد كما أسلفنا ذلك عنه في ذيل مسألة إفتاء غير المجتهد حتى قال لو استفتى فقيهين أعني مجتهدين فاختلفا عليه الأولى أن يأخذ بما يميل إليه قلبه منهما، وعندي أنه لو أخذ بقول الذي لا(6/231)
ص -450-…يميل إليه جاز؛ لأن ميله وعدمه سواء، والواجب تقليد مجتهد وقد فعل أصاب ذلك المجتهد أو أخطأ ا هـ. لكن عليه أن يقال ما قدمناه من أن القياس على تعارض الأقيسة بالنسبة إلى المجتهد يقتضي وجوب التحري على المستفتي والعمل بما يقع في قلبه أنه الصواب فيحتاج العدول عنه إلى الجواز بدونه إلى جواب ثم في غير ما كتاب من الكتب المذهبية المعتبرة أن المستفتي إن أمضى قول المفتي لزمه، وإلا فلا حتى قالوا إذا لم يكن الرجل فقيها فاستفتى فقيها فأفتاه بحلال أو حرام ولم يعزم على ذلك حتى أفتاه فقيه آخر بخلافه فأخذ بقوله وأمضاه لم يجز له أن يترك ما أمضاه فيه ويرجع إلى ما أفتاه به الأول؛ لأنه لا يجوز له نقض ما أمضاه مجتهدا كان أو مقلدا؛ لأن المقلد متعبد بالتقليد كما أن المجتهد متعبد بالاجتهاد ثم كما لم يجز للمجتهد نقض ما أمضاه فكذا لا يجوز للمقلد؛ لأن اتصال الإمضاء بمنزلة اتصال القضاء واتصال القضاء يمنع النقض فكذا اتصال الإمضاء هذا وذكر الإمام العلائي أنه قد يرجح القول بالانتقال في أحد صورتين إحداهما إذا كان مذهب غير إمامه يقتضي تشديدا عليه أو أخذا بالاحتياط كما إذا حلف بالطلاق الثلاث على فعل شيء ثم فعله ناسيا أو جاهلا أنه المحلوف عليه وكان مذهب إمامه الذي يقلده يقتضي عدم الحنث بذلك فأقام مع زوجته عاملا به ثم تخرج منه لقول من أوقع الطلاق في هذه الصورة فإنه يستحب له الأخذ بالاحتياط والتزام الحنث؛ ولذلك قال أصحابنا: إن القصر في سفر جاوز ثلاثة أيام أفضل من الإتمام والإتمام فيما إذا كان أقل من ذلك فأفضل احتياطا للخلاف في ذلك. والثانية إذا رأى للقول المخالف لمذهب إمامه دليلا صحيحا من الحديث ولم يجد في مذهب إمامه جوابا قويا عنه ولا معارضا راجحا عليه إذ المكلف مأمور باتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما شرعه فلا وجه لمنعه من تقليد من قال بذلك من المجتهدين محافظة على مذهب التزم تقليده ا هـ. قلت وهذا موافق(6/232)
لما أسلفناه عن الإمام أحمد والقدوري وعليه مشى طائفة من العلماء منهم ابن الصلاح وابن حمدان، والله سبحانه أعلم.
"تكملة نقل الإمام" في البرهان "إجماع المحققين على منع العوام من تقليد أعيان الصحابة بل من بعدهم" أي بل قال: بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة "الذين سبروا ووضعوا ودونوا"؛ لأنهم أوضحوا طرق النظر وهذبوا المسائل وبينوها وجمعوها بخلاف مجتهدي الصحابة فإنهم لم يعتنوا بتهذيب مسائل الاجتهاد ولم يقرروا لأنفسهم أصولا تفي بأحكام الحوادث كلها، وإلا فهم أعظم وأجل قدرا، وقد روى أبو نعيم في الحلية أن محمد بن سيرين سئل عن مسألة فأحسن فيها الجواب فقال له السائل ما معناه ما كانت الصحابة لتحسن أكثر من هذا فقال محمد لو أردنا فقههم لما أدركته عقولنا. "وعلى هذا" أي على أن عليهم أن يقلدوا الأئمة المذكورين لهذا الوجه "ما ذكر بعض المتأخرين" وهو ابن الصلاح "منع تقليد غير" الأئمة "الأربعة" أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله "لانضباط مذاهبهم وتقييد" مطلق "مسائلهم وتخصيص عمومها" وتحرير شروطها إلى غير ذلك "ولم يدر مثله" أي هذا الشيء "في غيرهم" من المجتهدين "الآن لانقراض أتباعهم". وحاصل هذا أنه امتنع(6/233)
ص -451-…تقليد غير هؤلاء الأئمة؛ لتعذر نقل حقيقة مذهبهم؛ وعدم ثبوته حق الثبوت لا؛ لأنه لا يقلد ومن ثمة قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة بل إن تحقق ثبوت مذهب عن واحد منهم جاز تقليده وفاقا، وإلا فلا وقال أيضا إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في حكم من الأحكام لم يجز مخالفته إلا بدليل أوضح من دليله هذا وقد تعقب بعضهم أصل الوجه لهذا بأنه لا يلزم من سبر هؤلاء كما ذكر وجوب تقليدهم؛ لأن من بعدهم جمع وسبر كذلك إن لم يكن أكثر ولا يلزم وجوب اتباعهم بل الظاهر في تعليله في العوام أنهم لو كلفوا تقليد الصحابي لكان فيه من المشقة عليهم من تعطيل معايشهم وغير ذلك ما لا يخفى، وأيضا كما قال ابن المنير يتطرق إلى مذاهب الصحابة احتمالات لا يتمكن العامي معها من التقليد ثم قد يكون الإسناد إلى الصحابي لا على شروط الصحة، وقد يكون الإجماع انعقد بعد ذلك القول على قول آخر. ويمكن أن تكون واقعة العامي ليست الواقعة التي أفتى فيها الصحابي وهو ظان أنها هي؛ لأن تنزيل الوقائع على الوقائع من أدق وجوه الفقه وأكثرها غلطا وبالجملة القول بأن العامي لا يتأهل لتقليد الصحابة قريب من القول بأنه لا يتأهل للعمل بأدلة الشرع إما؛ لأن قوله حجة فهو ملحق بقول الشارع، وإما؛ لأنه في علو المرتبة يكاد يكون حجة فامتناع تقليده لعلو قدره لا لنزوله فلا جرم أن قال المصنف "وهو" أي هذا المذكور "صحيح" بهذا الاعتبار، وإلا فمعلوم أنه لا يشترط أن يكون للمجتهد مذهب مدون وأنه لا يلزم أحدا أن يتمذهب بمذهب أحد الأئمة بحيث يأخذ بأقواله كلها ويدع أقوال غيره كما قدمناه بأبلغ من هذا. ومن هنا قال القرافي انعقد الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء بغير حجر، وأجمع الصحابة رضي الله عنهم أن من استفتى أبا بكر أو عمر وقلدهما فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما ويعمل بقولهما من غير نكير فمن ادعى دفع هذين(6/234)
الإجماعين فعليه الدليل. هذا وقد تكلم أتباع المذاهب في تفضيل أئمتهم قال ابن المنير: وأحق ما يقال في ذلك ما قالت أم الكملة عن بنيها: ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها فما من واحد منهم إذا تجرد النظر إلى خصائصه إلا ويفنى الزمان لناشرها دون استيعابها، وهذا سبب هجوم المفضلين على التعيين فإنه لغلبة ذلك على المفضل لم يبق فيه فضلة لتفضيل غيره عليه، وإلى ضيق الأذهان عن استيعاب خصائص المفضلين جاءت الإشارة بقوله تعالى: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} [الزخرف: 48] يريد - والله أعلم - أن كل آية إذا جرد النظر إليها قال الناظر هي أكبر الآيات، وإلا فما يتصور في آيتين أن يكون كل منهما أكبر من الأخرى بكل اعتبار، وإلا لتناقض الأفضلية والمفضولية. والحاصل أن هؤلاء الأربعة انخرقت بهم العادة على معنى الكرامة عناية من الله تعالى بهم إذا قيست أحوالهم بأحوال أقرانهم ثم اشتهار مذاهبهم في سائر الأقطار واجتماع القلوب على الأخذ بها دون ما سواها إلا قليلا على مر الأعصار مما يشهد بصلاح طويتهم وجميل سريرتهم ومضاعفة مثوبتهم ورفعة درجتهم - تغمدهم الله تعالى برحمته وأعلى مقامهم في بحبوحة جنته وحشرنا معهم في زمرة نبينا محمد وعترته وصحابته وأدخلنا وصحبتهم دار كرامته.(6/235)
ص -452-…وقد ختم المصنف الكتاب بقوله صحيح تفاؤلا بصحته والحمد لله على ما أولى وله الحمد سبحانه في الآخرة والأولى والله المسئول في أن يؤتي نفوسنا تقواها ويزكيها إنه خير من زكاها إنه وليها ومولاها وأن يقيها شرورها وسيئات أعمالها ووخيم هواها وأن يحسن لنا في الدارين العواقب ويتفضل علينا فيهما بجميل المواهب.
وليكن هذا آخر الكلام في شرح هذا الكتاب، والملتمس من فضل ذوي الألباب الواقفين على ما عاناه العبد الضعيف من العجب العجاب في شرح مقاصده وتوضيح مصادره وموارده أن لا ينسوه من دعائهم المستجاب في وقتهم المستطاب بمضاعفة الثواب وحسن المآب، وأن يجعل ما عانيته فيه بمعونة العناية الإلهية ومساعدة التوفيق إلى سلوك سواء الطريق من التحقيق والتدقيق في غوامض يحار فيها كثير من الأفكار وخفايا يقصر عن كشف أسرارها ثواقب الأنظار مع إيضاح لمبهماته وتبيين لمشتبهاته وتنقيح لزبد معقولاته وتصحيح لأنواع منقولاته قربة لله تعالى مقبولة لدى شريف جنابه وجنة في الدارين من سخطه وعذابه وذريعة إلى رضاه والخلود في دار ثوابه إنه سبحانه ذو الفضل العظيم والكرم العميم لا إله غيره ولا يرجى إلا كرمه وخيره وأن يغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولأولادنا ولأصحابنا ولجميع المسلمين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على من لا نبي بعده وسلم آمين.(6/236)
"صورة خط المصنف في أصل أصل أصله المنقول منه ما مثاله" وقد نجز نقل هذا السفر المبارك من السواد إلى البياض على يدي مؤلفه العبد الفقير إلى الله سبحانه ذي الكرم الجزيل والوعد الوفي محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن سليمان بن عمر بن محمد المشتهر بابن أمير حاج الحلبي الحنفي عاملهم الله بلطفه الجلي والخفي وغفر لهم وللمسلمين آمين وكان انجازه في يوم الخميس خامس شهر جمادى الأولى من سنة سبع وسبعين وثمانمائة أحسن الله تقضيها في خير وعافية بالمدرسة الحلاوية النورية رحم الله واقفها بحلب المحروسة لا زالت رايات الأعادي لها منكوسة ولا برحت رباعها بالفضائل والبركات مأنوسة، والحمد لله وحده وصلى الله على من لا نبي بعده وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(6/237)