"بخلافه" أي أدائه "في الكفر" فإنه لا يقبل لقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات: 6] الآية "وهو" أي الفاسق "الكافر بعرفهم"
ـــــــــــــــــــ
1 قوله اعتبار التمييز سبع هكذا في النسخ وعبارة شرح التيسير مع المتن فيجب اعتبار السن الغالب في التمييز أي الذي يحصل فيه التمييز غالباً [سبع] عطف بيان للغالب اهـ كتبه مصححه.(4/154)
ص -309-…أي السلف "وهو" أي الكافر "منه" أي ممن صدق عليه الفاسق لأنه اسم للخارج عن طاعة الله والكافر خارج عن طاعة الله "وللتهمة" أي تهمة العداوة الدينية لأن الكلام فيما يثبت به الأحكام والكافر عدونا في الدين فربما تحمله العداوة الدينية على السعي في هدم الدين بإدخال ما ليس منه فيه تنفيرا للعقلاء عنه "والمبتدع بما هو كفر" كغلاة الروافض والخوارج "مثله" أي الكافر الأصلي "عند المكفر" وهو الأكثرون على ما قال الآمدي واختاره ابن الحاجب بجامع الفسق والكفر "والوجه خلافه" أي خلاف هذا القول وهو إن اعتقد حرمة الكذب قبلنا روايته وإلا فلا كما اختاره الإمام الرازي والبيضاوي وغيرهما "لأنه" أي ابتداعه بما هو مكفر له "بتأويل الشرع" فكيف يكون كالمنكر لدين الإسلام ثم اعتقاده حرمة الكذب يمنعه من الإقدام عليه فيغلب على الظن صدقه فوجد المقتضي للقبول والأصل عدم المعارض وقال شيخنا الحافظ العسقلاني وقيل التحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعة لأن كل طائفة تدعي أن مخالفيها مبتدعة وقد تبالغ فتكفر مخالفها فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمرا متواترا من الشرع معلوما من الدين بالضرورة وكذا من اعتقد عكسه. فأما من لم يكن بهذه الصفة وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبوله "وغيره" أي المبتدع بما هو كفر "كالبدع الجلية كفسق الخوارج" وهم سبع فرق ضالة لهم ضلالات فاضحة وأباطيل واضحة على اختلاف بينهم في أصنافها يعرف في كتب الكلام "وفيها" أي البدع الجلية مذهبان "الرد" للشهادة والرواية لقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات: 6] وهو فاسق "والأكثر القبول" لما اشتهر بين الأصوليين والفقهاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" فإن قول صاحب هذه البدعة ظاهر الصدق إذا ظن صدقه إلا أن هذا الحديث قال شيخنا الحافظ لا(4/155)
وجود له في كتب الحديث المشهورة ولا الأجزاء المشهورة وقد سئل المزي عنه فلم يعرفه والذهبي قال لا أصل له. وقال ابن كثير يؤخذ معناه من حديث أم سلمة في الصحيحين "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار" ونقل عن مغلطاي أنه رأى له في كتاب يسمى إدارة الأحكام لإسماعيل بن علي الخيزوني في قصة الحضرمي والكندي اللذين اختصما في الأرض قال فقال أحدهما قضيت لي بحقي فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إنما أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" قال شيخنا ولم أقف على هذا الكتاب ولا أدري هل ساق له إسماعيل المذكور إسنادا أو لا "ولا يعارض" هذا المروي "الآية لتأولها بالكافر أو" بأن المراد به من هو مرتكب فسقا "بلا تأويل أنه" أي الفسق "من الدين" وهذا مرتكب فسقا بتأويل أنه من الدين "بخلاف استدلالهم" أي الأكثرين "أجمعوا على قبول قتلة عثمان وهي" أي بدعة قتلته "جلية" لذوي العقول المرضية "رد بمنع إجماع القبول" لروايتهم. قال السبكي بل الإجماع قائم على رد روايتهم وهذا في غاية الوضوح فإن قتلة عثمان إن كانوا مستحلين قتله فلا ريب في(4/156)
ص -310-…كفرهم والكافر مردود بالإجماع وإن كانوا غير مستحلين فلا ريب في فسقهم بفسق ظاهر فترد روايتهم وقال شيخنا الحافظ الذي ادعى الإجماع في هذا مجازف فإنه إن كان المراد من باشر قتله فليس لأحد منهم ممن ثبت عنه ذلك رواية أصلا وإن كان المراد من حاصره أو رضي بقتله فأهل الشام قاطبة مع من كان فيهم من الصحابة وكبار التابعين إما مكفر لأولئك وإما مفسق. وأما غير أهل الشام فكانوا ثلاث فرق فرقة على هذا الرأي وفرقة ساكتة وفرقة على رأي أولئك فأين الإجماع "ولو سلم" قبول رواية قتلته "فليس" قتل عثمان "منها" أي البدع الجلية بل كان ذلك مذهبا لبعض القتلة "لأن بعضهم يراه" أي قتله حقا "اجتهاديا فلا يفسقهم ونقل" هذا "عن عمار وعدي بن حاتم" من الصحابة ذكرهما الأصفهاني وغيره "والأشتر" في جماعة وفي هذا ما فيه فالوجه الاكتفاء بالأول. "وأما غير" البدع "الجلية كنفي زيادة الصفات" الثبوتية الحقيقية من الحياة والقدرة والعلم والإرادة وغيرها لله تعالى على الذات كما عليه المعتزلة وموافقوهم على اختلاف عبارتهم في التعبير عن ذلك فقيل هو حي عالم قادر لنفسه وقيل بنفسه إلى غير ذلك "فقيل تقبل اتفاقا" قاله القاضي عضد الدين "وإن ادعى كل" من المتخالفين "القطع بخطأ الآخر لقوة شبهته عنده وإطلاق فخر الإسلام" وموافقيه "رد من دعا إلى بدعته وقبول غيره" أي غير الداعي إلى بدعته لأن ذلك منه قد يحمله على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه وعزي إلى مالك وأحمد وعزاه ابن حبان إلى المحدثين بلفظ ليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف أن الصدوق المتقن إذا كان فيه بدعة ولم يكن يدعو إليها أن الاحتجاج بأخباره جائز فإذا دعا إلى بدعته سقط الاحتجاج بأخباره وقال ابن الصلاح وغيره وهذا مذهب الكثير أو الأكثر وهو أعدل الأقوال وأولاها "يخصصه" أي إطلاق عدم قبول ذي البدعة الجلية اتفاقا "لاقتضائه" أي إطلاق فخر الإسلام "رد الداعي من نفاة الزيادة"(4/157)
للصفات على الذات إلى بدعته هذه بل قال ابن حبان الداعية إلى البدعة لا يجوز الاحتجاج به عند أئمتنا قاطبة لا أعلم بينهم فيه اختلافا. كذا ذكره الشيخ زين الدين العراقي ويوافقه قول الحاكم في علوم الحديث الداعي إلى الضلال متفق على ترك الأخذ منه فعلى هذا قول شيخنا الحافظ وأغرب ابن حبان فادعى الاتفاق على قبول الداعية من غير تفصيل سهو قال العراقي وهكذا حكى بعض أصحاب الشافعي أنه لا خلاف بين أصحابه أنه لا يقبل الداعية وأن الخلاف فيمن لم يدع إلى بدعته وقال فخر الإسلام على هذا أئمة الفقه والحديث كلهم لأن المحاجة والدعوة إلى الهوى سبب داع إلى التقول فلا يؤتمن على حديث النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه لأنه لم يثبت عنده ما عزا الخطيب إلى جماعة من أهل النقل والمتكلمين أنه يقبل أخباره مطلقا وإن كان كافرا أو فاسقا بالتأويل أو لعدم الاعتداد بهذا القول ولم يثبت عنده أيضا ما عزاه الخطيب إلى ابن أبي ليلى والثوري وأبي يوسف والشافعي من أن المبتدع إن لم يستحل الكذب في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه قبل دعا إلى بدعته أو لا؟ وإن كان ممن يستحل ذلك ولم يقبل "وتعليله" أي فخر الإسلام وكذا غيره رد الداعي إلى بدعته "بأن الدعوة داع إلى التقول" أي الكذب "يخصصه" أي الرد "برواية" الداعي(4/158)
ص -311-…ما هو على "وفق مذهبه" لأن الظاهر أنه المراد من التعليل المذكور وصرح به بعضهم أيضا لأنه الذي يتمشى فيه ومن هنا نص شيخنا الحافظ على أن المختار رد رواية المبتدع ما يقوي بدعته إذا لم يكن داعية كما إذا كان داعية قال وبه صرح الحافظ الجوزجاني في كتابه معرفة الرجال فقال ومنهم زائغ عن الحق أي السنة صادق اللهجة فليس فيه حيلة إلا أن يؤخذ من حديثه ما لا يكون منكرا إذا لم تقو به بدعته ا هـ وما قاله متجه لأن العلة التي لها رد حديث الداعية واردة فيما إذا كان ظاهر المروي يوافق مذهب المبتدع ولو لم يكن داعية "لا مطلقا" كما هو ظاهر كلام ابن حبان السالف عن أهل الحديث "وتعليله" أي فخر الإسلام "قبول شهادة أهل الأهواء" جمع هوى مقصور وهو الميل إلى الشهوات والمستلذات من غير داعية الشرع والمراد المبتدعون المائلون إلى ما يهوونه في أمر الدين "إلا الخطابية" من الرافضة المنسوبين إلى أبي الخطاب محمد بن أبي وهب وقيل ابن أبي زينب الأسدي الأجدع كان يزعم أن عليا الإله الأكبر وجعفر الصادق الإله الأصغر وفي المواقف قالوا الأئمة أنبياء وأبو الخطاب نبي ففرضوا طاعته بل زادوا على ذلك الأئمة آلهة والحسنان ابنا الله وجعفر إله لكن أبو الخطاب أفضل منه ومن علي فقبحهم الله تعالى ما أشد غباوتهم وأعظم فريتهم فلا تقبل شهادتهم ولا روايتهم ولا كرامة وكيف وقد شاع أيضا كونهم الفرقة "المتدينين بالكذب لموافقهم أو للحالف" لهم على صدقه "بأن صاحب الهوى وقع فيه" أي في الهوى "لتعمقه" في الدين "وذلك" أي تعمقه في الدين "يصده" أي يمنعه "عن الكذب أو يراه" أي الكذب "حراما يوجب قبول الخوارج كالأكثر" لعدم استثنائهم من أهل الأهواء وعدم شهرة تدينهم بالكذب لموافقهم والحالف لهم ثم حيث قبلوا في الشهادة فكذا في الرواية. وهذا في المعنى ما عزاه الخطيب إلى ابن أبي ليلى ومن معه كما ذكرناه آنفا لكن في شرح القدوري للأقطع قال محمد في الخوارج ما(4/159)
لم يخرجوا إلى قتال أهل العدل فشهادتهم جائزة لأنهم لم يظهروا من أنفسهم الفسق وإنما اعتقدوه فإذا قاتلوا فقد أظهروا الفسق فلم تقبل شهادتهم ثم إن فخر الإسلام فرق في الداعي إلى بدعته بين الشهادة والرواية بالقبول في الشهادة وعدمه في الرواية بأن المحاجة والدعوة لا تدعو إلى التزوير في حقوق الناس فلم ترد شهادة صاحبها بخلافها في روايات الأخبار كما تقدم آنفا، ثم ظاهر كون، وتعليله مبتدأ وبأن صاحب الهوى متعلق به ويوجب قبول الخوارج خبره هذا ثم الظاهر أنه لم يثبت عند المقتصر على تعليل رد شهادة الخطابية بتدينهم الكذب لموافقهم أو الحالف على صدقه ما تقدم آنفا عنهم فإن ذلك منهم يوجب كونهم كفارا بالله العظيم ولا شهادة لكافر على مسلم ولا قبول لروايته في الدين والله تعالى أعلم.
"وأما شرب النبيذ" من التمر أو الزبيب إذا طبخ أدنى طبخه وإن اشتد ما لم يسكر من غير لهو "واللعب بالشطرنج" بالشين معجمة ومهملة مفتوحة ومكسورة والفتح أشهر بلا قمار به "وأكل متروك التسمية عمدا من مجتهد ومقلده" أي المجتهد "فليس بفسق" إذ لو فسقنا بشيء من هذا لفسقنا بارتكاب عمل متفرع على رأي يجب عليه الحكم بموجبه فإن على(4/160)
ص -312-…المجتهد اتباع ظنه وعلى المقلد اتباع مقلده وإنه باطل "ومنها رجحان ضبطه على غفلته ليحصل الظن" بصدقه إذ لا يحصل بدونه والحجة هي الكلام الصدق "ويعرف" رجحان ضبطه "بالشهرة وبموافقة المشهورين به" أي بالضبط في روايتهم في اللفظ والمعنى "أو غلبتها" أي الموافقة "وإلا" إن لم يعرف رجحان ضبطه بذلك "فغفلة وأما" ضبط المروي "في نفسه" أي الراوي "فللحنفية توجهه بكليته إلى كله عند سماعه ثم حفظه بتكريره ثم الثبات" عليه "إلى أدائه" "ومنها العدالة حال الأداء وإن تحمل فاسقا إلا بفسق" تعمد "الكذب عليه عليه السلام عند أحمد وطائفة" كأبي بكر الحميدي شيخ البخاري والصيرفي فإنه عندهم يوجب منع قبول روايته أبدا وكأنه لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن كذبا علي ليس ككذب على أحد من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" وهو ثابت بالتواتر كما ذكره ابن الصلاح ولما فيه من عظم المفسدة لأنه يصير شرعا مستمرا إلى يوم القيامة حتى ذهب أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين إلى أنه يكفر ويراق دمه لكن ضعفه ولده وعده من هفواته وقال الذهبي ذهب طائفة من العلماء إلى أن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر ينقل عن الملة ثم قال ولا ريب أن تعمد الكذب على الله ورسوله في تحليل حرام أو تحريم حلال كفر محض "والوجه الجواز" لروايته وشهادته. "بعد ثبوت العدالة" لأنه كما قال النووي المختار القطع بصحة توبته من ذلك وقبول روايته بعد صحة التوبة بشروطها وقد أجمعوا على قبول رواية من كان كافرا ثم أسلم وعلى قبول شهادته ولا فرق بين الرواية والشهادة.(4/161)
"وهي" أي العدالة "ملكة" أي هيئة راسخة في النفس "تحمل على ملازمة التقوى" أي اجتناب الكبائر لأن الصغائر مكفرة باجتنابها لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] "والمروءة" بالهمز ويجوز تركه مع تشديد الواو وهي صيانة النفس عن الأدناس وما يشينها عند الناس وقيل أن لا يأتي ما يعتذر منه مما يبخسه عن مرتبته عند أهل الفضل وقيل السمت الحسن وحفظ اللسان وتجنب السخف والمجون والارتفاع عن كل خلق دنيء والسخف رقة العقل.
"والشرط" لقبول الرواية والشهادة "أدناها" أي العدالة "ترك الكبائر والإصرار على صغيرة" لأن الصغائر قل من سلم منها إلا من عصمه الله والإصرار كما قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام أن تتكرر منه الصغيرة تكرارا يشعر بقلة مبالاته بدينه إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك ا هـ ومن هنا قيل لا حاجة إلى ذكر ترك الإصرار على صغيرة لدخوله في ترك الكبائر لأن الإصرار على الصغيرة كبيرة. قلت ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم "لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار" رواه الطبراني في مسند الشاميين والقضاعي في مسند الشهاب وابن شاهين فلعل ذكره مخافة توهم عدم دخوله في ترك الكبائر أو موافقة لمن قال إنها لا تصير بالإصرار كبيرة كما أن الكبيرة لا تصير بالمواظبة كفرا ولو اجتمعت الصغائر مختلفة النوع يكون حكمها حكم الإصرار على الواحدة إذا كانت بحيث يشعر مجموعها بما يشعر به(4/162)
ص -313-…الإصرار على أصغر الصغائر قاله ابن عبد السلام "وما يخل بالمروءة" أي وترك الإصرار عليها أيضا.
"وأما الكبائر فروى ابن عمر الشرك والقتل وقذف المحصنة والزنى والفرار من الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين المسلمين والإلحاد في الحرم أي الظلم وفي بعضها" أي الطرق "اليمين الغموس" وهذه الجملة لم أقف عليها مجموعة في رواية عن ابن عمر لا مرفوعة ولا موقوفة ثم قول شيخنا الحافظ وقع له مجموع الجملة الأولى كما هي كذلك في مختصر ابن الحاجب في رواية موقوفة وفي أخرى مرفوعة لكن تصحف الربا بالزنى لم يظهر ذلك من سياق بيانه بل إنما ظهر منه وجود ذلك في روايات مختلفة الطرق فإنه أسند إلى البخاري في الأدب المفرد بسنده إلى ابن عمر موقوفا إنما هي تسع: الإشراك بالله وقتل نسمة يعني بغير حق وقذف المحصنة والفرار من الزحف وأكل الربا وأكل مال اليتيم والذي يستسحر والإلحاد في المسجد يعني الحرام وبكاء الوالدين من العقوق ثم قال حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث طيسلة بن مياس ثم ذكر أنه روي عنه مرفوعا من طريق أيوب بن عتبة عن طيسلة مثل هذا السياق لكن بتقديم وتأخير والموقوف أصح إسنادا لأن أيوب بن عتبة موصوف بسوء الحفظ. وقد اختلف عليه أيضا في عد الخصال فرواه البغوي في الجعديات عن علي بن الجعد عن أيوب كما ذكرنا ورواه حسين بن محمد عن أيوب فأسقط خصلتين ثم أسند إلى حسين عن أيوب عن طيسلة قال سألت ابن عمر عن الكبائر فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإشراك بالله وقذف المحصنة" قلت أقبل الدم؟ قال: "نعم، ورغما، وقتل النفس والفرار يوم الزحف وأكل الربا وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين" وكذا أخرجه الخطيب في الكفاية من طريق الأصم عن عباس الدوري وخالفه حسن بن موسى عن أيوب بن عتبة فذكر الزنى بدل خصلة من السبع أخرجه البرديجي وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن سعيد الجريري أن رجلا جاء إلى ابن عمر فذكر الحديث وعد الخصال كما في(4/163)
رواية حسين بن محمد لكن ذكر بدل الفرار من الزحف اليمين الفاجرة ورجال هذا رجال الصحيح لكن الجريري لم يلق ابن عمر فإن كان حمله عن ثقة فمتابعة قوية لرواية طيسلة. وإذا جمعت الخصال في هذه الطرق زادت خصلتين على التسع وهما الزنى واليمين الفاجرة وأقوى طرقه الرواية الأولى ثم قال حدثنا شيخ الإسلام أبو الفضل بن الحسين الحافظ فذكر سنده إلى عمير الليثي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أولياء الله المصلون ومن يقيم الصلوات الخمس التي كتبها الله على عباده ومن يؤتي زكاة ماله طيبة بها نفسه ومن يصوم رمضان يحتسب صومه ويجتنب الكبائر" فقال رجل من أصحابه يا رسول الله وكم الكبائر قال: "هي تسع أعظمهن الإشراك بالله وقتل المؤمن بغير حق والفرار يوم الزحف وقذف المحصنة والسحر وأكل مال اليتيم وأكل الربا وعقوق الوالدين المسلمين واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا لا يموت رجل لم يعمل بهذه الخصال ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان إلا رافق محمدا في بحبوحة(4/164)
ص -314-…جنة أبوابها مصاريع الذهب" قال شيخنا حديث حسن أخرجه أبو داود مقتصرا على ذكر الكبائر دون أول الحديث وآخره والحاكم بتمامه وقال قد احتجا برواة هذا الحديث غير عبد الحميد بن سنان ا هـ ملخصا.
"وزاد أبو هريرة أكل الربا" كذا قال ابن الحاجب وظاهره كما قال شيخنا الحافظ أنه لم يقع في حديث ابن عمر وليس كذلك لثبوته في جميع طرقه كما تقدم ثم هو أيضا في رواية أبي هريرة مرفوعا في الصحيحين "اجتنبوا السبع الموبقات" الحديث وفي رواية عنه في مسند البزار وتفسير ابن المنذر بلفظ الكبائر الشرك بالله. الحديث. فيستفاد من ذلك كما قال شيخنا الحافظ أن الكبيرة والموبقة مترادفتان فلا يتم قول السبكي الموبقة أخص من الكبيرة وليس في حديث أبي هريرة الكبائر "وعن علي إضافة السرقة وشرب الخمر" إلى الكبائر أيضا ذكره ابن الحاجب أيضا لكن قال ابن كثير لم أقف عليه وسألت المشايخ عنه فلم يحضرهم فيه شيء. وقال السبكي والسرقة لا نعرف لها إسنادا عنه كرم الله وجهه والخمر روي عنه أن مدمنه كعابد وثن ا هـ وهذا أخرجه أبو نعيم عنه مرفوعا قال: "قال لي جبريل يا محمد إن مدمن خمر كعابد وثن" ثم قال صحيح غريب والبزار وأبو نعيم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ "شارب الخمر كعابد وثن" نعم عن عمران بن الحصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم الزاني والسارق وشارب الخمر ما تقولون فيهم" قالوا الله ورسوله أعلم قال "هن فواحش وفيهن عقوبة ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فاحتفز فقال ألا وقول الزور ألا وقول الزور" قال شيخنا الحافظ حسن غريب من حديث الحسن عزيز من حديث قتادة أخرجه الطبراني في مسند الشاميين وابن أبي حاتم في التفسير والبيهقي والبخاري في الأدب المفرد وعن شعبة مولى ابن عباس قال قلت لابن عباس إن الحسن بن علي سئل عن الخمر أمن الكبائر هي قال لا فقال ابن عباس فلم قالها النبي صلى(4/165)
الله عليه وسلم "إذا شرب سكر وزنى وترك الصلاة فهي من أكبر الكبائر" قال شيخنا الحافظ كذا وقع في أصل سماعنا لكن ضبب على لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فكأن الصواب أنه موقوف وكذا أخرجه إسماعيل القاضي في أحكامه من وجه آخر "وفي" الحديث "الصحيح" المتفق عليه "قول الزور وشهادة الزور" معدودان من الكبائر ومن أكبر الكبائر أيضا وهل يتقيد المشهود به بقدر نصاب السرقة تردد فيه ابن عبد السلام وجزم القرافي بعدم التقيد به. وقال ولو لم تثبت إلا فلسا.
"ومما عد" من الكبائر أيضا نقلا عن العلماء على ما في شرح البديع للشيخ سراج الدين الهندي "القمار والسرف وسب السلف الصالح" أي الصحابة والتابعين وقوله "والطعن في الصحابة" من عطف الخاص على العام "والسعي في الأرض بالفساد في المال والدين وعدول الحاكم عن الحق". قلت وفي هذه نصوص من الكتاب والسنة تفيد تحريمها معروفة في مواضعها وأما النص الصريح السمعي على أنها كبائر فالله تعالى أعلم بذلك نعم يستفاد كونها كبائر من بعض ضوابطها كما هو ظاهر للمتأمل ويكاد أن يكون كل من آية المحاربة(4/166)
ص -315-…ومن قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] ومن قوله صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا من بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه" رواه الترمذي نصا صريحا في كون السعي في الأرض بالفساد والحكم بغير الحق والطعن في الصحابة كبيرة "والجمع بين صلاتين بلا عذر" لقوله صلى الله عليه وسلم: "من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر" رواه الترمذي ولا شك أن تركها بالكلية بلا عذر أولى بذلك أيضا "وقيل الكبيرة ما توعد عليه" أي ما توعد الشارع عليه "بخصوصه" قال الرافعي وهو أكثر ما يوجد للأصحاب وقال شيخنا الحافظ وهذا القول جاء عن جماعة من السلف وأعلاهم ابن عباس فأخرج الطبري في التفسير عنه قال كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعن أو عذاب فهو كبيرة ولعل هذا هو السبب في قول ابن عباس لما سئل عن الكبائر أسبع هي قال هي إلى السبعين أقرب أخرجه الطبري وإسماعيل وغيرهما بأسانيد مختلفة وبألفاظ مختلفة وفي بعضها أو سبعمائة وكأنها شك من الراوي أو مبالغة وقيل ما يوجب الحد. قال الرافعي وهم إلى ترجيحه أميل ا هـ وهو غير جامع لخروج عدة من الكبائر المنصوص عليها كأكل الربا وشهادة الزور والعقوق فالأول أمثل "قيل وكل ما مفسدته كأقل ما روي مفسدة فأكثر فدلالة الكفار على المسلمين للاستئصال أكثر من الفرار وإمساك المحصنة ليزنى بها أكثر من قذفها، ومن جعل المعول" أي الضابط للكبيرة "أن يدل الفعل على الاستخفاف بأمر دينه ظنه" أي هذا الضابط "غيره" أي غير ما قبله "معنى" والحال أن بينهما ملازمة وكأنه تعريض بما في شرح القاضي عضد الدين ويمكن أن يقال هو ما يدل على قلة المبالاة بالدين دلالة أدنى ما ذكر من الأمور ا هـ. أي ما يشعر بتهاون مرتكبها(4/167)
في دينه إشعار ما هو الأصغر من الكبائر المنصوص عليها وعلى هذا فالوجه أن يذكر هذا القيد كما هو مذكور للمعرض به "وما يخل بالمروءة صغائر دالة على خسة كسرقة لقمة واشتراط" أخذ الأجرة "على" سماع "الحديث" كذا في شرح البديع ولا يعرى إطلاق هذا عن نظر نعم ذهب أحمد وإسحاق وأبو حاتم الرازي إلى أنه لا تقبل رواية من أخذ على التحديث أجرا ورخص آخرون فيه كالفضل بن دكين شيخ البخاري وعلي بن عبد العزيز البغوي قال ابن الصلاح وذلك شبيه بأخذ الأجرة على تعليم القرآن ونحوه غير أن في هذا من حيث العرف خرما للمروءة والظن يساء بفاعله إلا أن يقترن ذلك بعذر ينفي ذلك عنه كما لو كان فقيرا معيلا وكان الاشتغال بالتحديث يمنعه من الاكتساب لعياله "وبعض مباحات كالأكل في السوق" ففي معجم الطبراني بإسناد لين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأكل في السوق دناءة" وفي فروع الشافعية المراد به أن ينصب مائدة ويأكل وعادة مثله خلافه فلو كان ممن عادته ذلك كالصناعين والسماسرة أو كان في الليل فلا وكالأكل في السوق والشرب من سقايات الأسواق إلا أن يكون سوقيا أو غلبه العطش. "والبول في الطريق" كذا في شرح البديع أيضا قلت وفي إباحته نظر للأمر باتقاء ذلك كما في الصحيحين وغيرهما ولما في أوسط الطبراني وغيره بسند رواته(4/168)
ص -316-…ثقات إلا محمد بن عمرو الأنصاري وثقه ابن حبان وضعفه غيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سل سخيمته في طريق من طرق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" "والإفراط في المزح المفضي إلى الاستخفاف به وصحبة الأرذال والاستخفاف بالناس وفي إباحة هذا" أي الاستخفاف بالناس "نظر". قلت وكيف لا وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة قال إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس" رواه مسلم والترمذي وغمط الناس احتقارهم وازدراؤهم كما يؤيده رواية الحاكم ولكن الكبر من بطر الحق وازدرى الناس "وتعاطى الحرف الدنيئة" بالهمز من الدناءة وهي السقاطة المباحة "كالحياكة والصياغة" والحجامة والدباغة وغيرها مما لا يليق بأرباب المروآت وأهل الديانات فعلها ولا ضرر عليهم في تركها كذا في شرح البديع وغيره وفي بعض فروع الشافعية فإن اعتادها وكانت حرفة أبيه فلا في الأصح لكن في الروضة لم يتعرض الجمهور لهذا القيد وينبغي أن لا تقيد بصنعة آبائه بل ينظر هل تليق به هو أم لا "ولبس الفقيه قباء ونحوه" كالقلنسوة التركية في بلد لم يعتادوه "ولعب الحمام" إذا لم يكن قمارا لأنه فعل مستخف به يوجب في الغالب اجتماعا مع الأرذال إلى غير ذلك مما يدل على الإقدام على الكذب وعدم الاكتراث به لأن من لا يجتنب هذه الأمور فالغالب أنه لا يجتنب الكذب فلا يوثق بقوله ولا يظن صدقه في روايته "وأما الحرية والبصر وعدم الحد في قذف و" عدم "الولاد و" عدم "العداوة" الدنيوية "فتختص بالشهادة" أي تشترط فيها لا في الرواية فلا تقبل شهادة الأعمى لأنها تحتاج إلى التمييز بالإشارة بين المشهود له وعليه وإلى الإشارة إلى المشهود به فيما يجب إحضاره مجلس الحكم والأول منتف في حقه إلا بالنغمة وفي التمييز بها شبهة يمكن التحرز عنها بحبس الشهود فلم يقع(4/169)
ضرورة إلى إهدار هذه التهمة والثاني منتف في حقه مطلقا وهذا الاحتياج بجملته منتف في الرواية فكان البصير والأعمى فيها سواء وقد ابتلي جماعة من الصحابة بكف البصر كابن عباس ولم يتخلف أحد عن قبول روايتهم من غير فحص أنها كانت قبل العمى أو بعده ولا شهادة العبد في غير هلال رمضان لأنها تتوقف على كمال ولاية الشاهد إذ هي تنفيذ القول على الغير شاء أو أبى وهذا موجود في الشهادة والولاية تعدم بالرق أصلا والرواية لا تعتمد الولاية لأن ما يلزم السامع من وجوب العمل بالمروي ليس بإلزام الراوي عليه بل بالتزامه طاعة الشارع باعتقاده أنه مفترض الطاعة فإذا ترجح صدق الراوي يلزمه العمل بروايته باعتبار اعتقاده امتثال ما يرد من الشارع كالقاضي يلزمه القضاء عند سماع الشهادة بالتزامه وتقلده هذه الأمانة لا بإلزام المدعي أو الشاهد ولأن حكم المروي يلزم الراوي أو لا لأنه مكلف ثم يتعدى إلى غيره وفي مثله لا يشترط الولاية ولهذا جعل العبد كالحر في مثله وهو الشهادة برؤية هلال رمضان بخلاف الشهادة في مجلس الحكم فإنها تلزم على الغير ابتداء فلا بد من كمال الولاية للشاهد ليمكن الإلزام بشهادته ولا شهادة المحدود في قذف وإن تاب عند أصحابنا لأن رد شهادته من تمام حده بالنص كما عرف "وعن أبي(4/170)
ص -317-…حنيفة" في رواية الحسن "نفي" قبول "روايته" لأنه محكوم بكذبه بقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13]. وعلى هذا فليس عدم الحد مختصا بالشهادة "والظاهر" من المذهب "خلافه" أي خلاف قبول روايته "لقبول" الصحابة وغيرهم رواية "أبي بكرة" من غير اشتغال أحد بطلب التاريخ في خبره أنه رواه بعد ما أقيم عليه الحد أم قبله وعلى هذا فعدم الحد مختص بالشهادة لما ذكرنا ورواية الخبر ليس في معناها ولا شهادة الولد لوالده وإن علا ولا الوالد لولده وإن سفل ولا العدو على عدوه لما روى الخصاف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تجوز شهادة الوالد لولده ولا الولد لوالده" والحاكم على شرط مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجوز شهادة ذي الظنة ولا ذي الحنة" والظنة التهمة والحنة العداوة إلى غير ذلك والرواية ليست في هذا كالشهادة كما تقدم.(4/171)
"وظهر" من ذكر اشتراط العدالة مرادا بها أدناها وتفسيرها وتفسيره "أن شرط العدالة يغني عن ذكر كثير من الحنفية شرط الإسلام بالبيان إجمالا" بأن يقول عن تصديق قلبي آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والبعث بعد الموت والقدر خيره وشره لأن في اعتباره تفصيلا حرجا "أو ما يقوم مقامه" أي مقام بيان الإسلام إجمالا "من الصلاة" في جماعة المسلمين "والزكاة وأكل ذبيحتنا" لقوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته" رواه البخاري "دون النشأة في الدار" أي دار الإسلام "بين أبوين مسلمين" من غير أن يوجد منه الإسلام فإنه لا يكتفى بهذا الإسلام الحكمي شرطا في صحة الرواية وإنما ظهر عدم الحاجة إلى ذكر اشتراط الإسلام من ذكر اشتراط العدالة مرادا بها أدناها مع تفسيرها وتفسيره لظهور انتفائها فيه وكيف لا والكفر أعظم الكبائر فالاعتذار عن ذكره مع ذكرها بأن عدم ذكره ربما أوهم قبول خبر الكافر لأنه قد يوصف بالعدالة ولهذا يسأل القاضي عن عدالة الكافر إذا شهد على مثله وطعن الخصم فيه ساقط ووصف الكافر بها في باب الشهادة مجاز عن استقامته على معتقده وحسن سيرته في معاملته والله سبحانه أعلم.(4/172)
"ثم الحنفية قالوا هذا" كله "في الرواية" للأخبار "وفي غيرها" أي غير الرواية "لا يقبل الكافر مطلقا في الديانات كنجاسة الماء وطهارته وإن وقع عنده" أي السامع "صدقه" أي الكافر لأن الكافر ليس أهلا لحكم الشرع فلا يكون له ولاية إلزام ذلك الحكم على الغير وفي قبول خبره جعله أهلا لذلك "إلا أن في النجاسة تستحب إراقته" أي الماء "للتيمم دفعا للوسوسة العادية" لأن احتمال الصدق غير منقطع عن خبره لأن الكفر لا ينافي الصدق وعلى تقديره لا تحصل الطهارة بالتوضؤ به بل تتنجس الأعضاء فكان الاحتياط في الإراقة ثم التيمم لتحصل الطهارة والاحتراز عن النجاسة بيقين "ولا تجوز" الصلاة بالتيمم "قبلها" أي إراقته لأنه واجد للماء الطاهر ظاهرا "بخلاف" "خبر الفاسق به" أي بكل من نجاسة الماء وطهارته "وبحل الطعام وحرمته يحكم" السامع "رأيه فيعمل بالنجاسة والحرمة إن وافقه" أي رأيه كلا منهما لأن(4/173)
ص -318-…أكثر الرأي فيما لا يوقف على حقيقته وبنى على الاحتياط كاليقين "والأولى إراقة الماء" لاحتمال كذبه وعلى تقديره لا يجوز له التيمم فيريقه ليصير عادما للماء "ليتيمم" أي ليجوز له التيمم بيقين "وتجوز" صلاته "به" أي بالتيمم بل تجب "إن لم يرقه" لما ذكرنا وإنما كان خبر الفاسق به بخلاف خبر الكافر به "لأن الإخبار به يتعرف منه" أي الفاسق "لا من غيره" أي الفاسق "لأنه أمر خاص" بالنسبة إلى رواية الحديث يعني ليس بأمر يقف عليه جميع الناس حتى يمكن تلقيه من العدول بل ربما لا يقف عليه إلا الفاسق لأن ذلك إنما يكون في الفيافي والأسواق والغالب فيهما الفساق فقبل مع التحري لأجل هذه الضرورة "لكنها" أي النجاسة "غير لازمة" للماء بل عارضة عليه "فضم التحري" إلى إخباره "كي لا يهدر فسقه بلا ملجئ والطهارة" تثبت "بالأصل" لأنها الأصل فيه فيعمل به عند تعارض جهتي الصدق والكذب في خبره "بخلاف الحديث لأن في عدول الرواة كثرة بهم غنية" عن الفسقة فلا تقبل رواية الفاسق أصلا وقع في قلب السامع صدقه أولا لانتفاء الضرورة "بخلافه" أي خبر الفاسق "في الهدية والوكالة وما لا إلزام فيه من المعاملات" حيث يجوز الاعتماد عليه من غير وجوب ضم التحري إليه "للزومها" أي الضرورة "للكثرة" لوجودها. "ولا دليل" متيسر "سواه" أي خبر الفاسق فإنه لا يتيسر لكل مهد أو مرسل بخبر وكالة ونحوها كلما أراد ذلك عدل يقوم به وقد جرت السنة والتوارث بإرسال الهدية على يد العبيد والجواري مسلمين كانوا أو لا ويقبل ذلك من غير التفات أصلا إلى حال الواصل بها فكان ذلك إجماعا على القبول وما ذاك إلا لما ذكرنا من الحاجة "ومثله" أي الفاسق "المستور" وهو من لم تعرف عدالته ولا فسقه "في الصحيح" فلا يكون خبره حجة حتى تظهر عدالته وهو احتراز عن رواية الحسن عن أبي حنيفة أنه كالعدل في الإخبار بنجاسة الماء وطهارته ورواية الأخبار وهي المسألة التي تلي هذا الفصل "وأما(4/174)
المعتوه والصبي في نحو النجاسة" أي الإخبار بنجاسة الماء وبطهارته وفي رواية الحديث وغيرها من الديانات "كالكافر" في عدم قبول أخباره لعدم ولايتهما على نفسهما فعلى غيرهما أولى على أن الصبي مرفوع القلم فلا يحترز عن الكذب لعدم الوازع والرادع له لكونه مأمون العقاب فلا يؤتمن على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثله المعتوه على قول الجمهور كما تقدم فلا تقبل روايتهما احتياطا "وكذا المغفل" أي الشديد الغفلة وهو الذي ظهر على طبعه الغفلة والنسيان في سائر الأحوال "والمجازف" الذي يتكلم من غير احتياط غير مبال بالسهو والغلط ولا مشتغل بالتدارك بعد العلم كالكافر في عدم قبول أخباره لأن معنى السهو والغلط في روايتهما يترجح باعتبار الغفلة وقلة المبالاة كما يترجح الكذب باعتبار الكفر والفسق.
مسألة
"مجهول الحال وهو المستور غير مقبول وعن أبي حنيفة في غير الظاهر" من الرواية عنه "قبول ما لم يرده السلف وجهها" أي هذه الرواية "ظهور العدالة بالتزامه الإسلام ولأمرت أن أحكم بالظاهر" وتقدم الكلام فيه قريبا "ودفع" وجهها "بأن الغالب أظهر وهو" أي الغالب(4/175)
ص -319-…"الفسق" في هذه الأزمان "فيرد" خبره "به" أي بهذا الغالب "ما لم تثبت العدالة بغيره" أي غير التزامه الإسلام "وقد ينفصل" القائل بهذه الرواية "بأن الغلبة" للفسق "في غير رواة الحديث" لا في الرواة الماضين له "ويدفع" هذا "بأنه" أي كون الغلبة في غير رواة الحديث إنما هو "في المعروفين" منهم "لا في المجهولين منهم" وكلامنا في المجهولين منهم "والاستدلال" للرواية المذكورة "بأن الفسق سبب التثبت فإذا انتفى" الفسق "انتفى" وجوب التثبت "وانتفاؤه" أي الفسق "بالتزكية موقوف على" صحة "هذا الدافع إذ يورد عليه" أي الدليل المذكور "منع الحصر" في التزكية "بالإسلام" أي بالتزامه فإنه يفيد الكف عن محظورات دينه كالتزكية "ويدفع" بأن الظاهر بالكثرة أظهر منه والمجهولون من النقلة لم تثبت فيهم غلبة العدالة فكانوا كغيرهم "وأما ظاهر العدالة فعدل واجب القبول وإنما سماه مستورا بعض" من الشافعية كالبغوي ثم قول البيهقي الشافعي لا يحتج بأحاديث المجهولين قال شيخنا المصنف رحمه الله لا يدخل فيه من عدالته ظاهرة بالتزامه أوامر الله ونواهيه وكون باطن أمره غير معلوم لا يصيره مردودا مجهولا على أن قول الشافعي في جواب سؤال أورده فلا يجوز أن يترك الحكم بشهادتهما إذا كانا عدلين في الظاهر صريح في قبول من كان بهذه المثابة وأنه ليس بداخل في المجهول فلا جرم أن قال الشيخ زين الدين العراقي فعلى هذا لا يقال لمن هو بهذه المثابة مستور وهذا هو المستقر عند المصنف ولذا أعطى حكم مجهول الحال عدم القبول وسماه مستورا وجعل من ظهرت عدالته مقابلا له فهو عدل غير مستور واجب القبول.
مسألة(4/176)
"عرف أن الشهرة" للراوي بالعدالة والضبط بين أهل العلم من أهل النقل وغيرهم "معرف العدالة والضبط كمالك والسفيانين" الثوري وابن عيينة "والأوزاعي والليث وابن المبارك وغيرهم" كوكيع وأحمد وابن معين وابن المديني ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر "للقطع بأن الحاصل بها" أي بالشهرة بهما "من الظن" بهما في المشهور بهما "فوق التزكية وأنكر أحمد على من سأله عن إسحاق" بن راهويه فقال مثل إسحاق يسأل عنه "وابن معين" على من سأله "عن أبي عبيد وقال أبو عبيد يسأل عن الناس، و" تثبت العدالة أيضا "بالتزكية وأرفعها" أي مراتبها على ما ذكر الحافظ الذهبي في الميزان "قول العدل نحو حجة ثقة بتكرير لفظا" كثقة ثقة حجة حجة "أو معنى" كثبت حجة ثبت حافظ ثقة ثبت ثقة متقن ونحو هذه مما كان من ألفاظ هذه المرتبة وقال شيخنا الحافظ أرفعها الوصف بما دل على المبالغة فيه وأصرح ذلك التعبير بأفعل كأوثق الناس أو أثبت الناس أو إليه المنتهى في التثبت ثم ما تأكد من الصفات الدالة على التعديل أو وصفين كثقة ثقة أو ثقة حافظ "ثم" يليها "الإفراد" كحجة أو ثقة أو متقن. وجعل الخطيب هذا أرفع العبارات "وحافظ ضابط توثيق للعدل يصيره كالأول" أي تكرير التوثيق "ثم" يليها "مأمون صدوق ولا بأس وهو" أي لا بأس "عند ابن معين وعبد الرحمن بن إبراهيم كثقة على نظر في عبارة ابن معين" على ما ذكر ابن أبي خيثمة حيث قال قلت ليحيى بن معين إنك تقول فلان ليس به بأس وفلان ضعيف قال(4/177)
ص -320-…إذا قلت لك ليس به بأس فهو ثقة وإذا قلت هو ضعيف فليس هو بثقة لا تكتب حديثه فإنه كما قال الشيخ زين الدين العراقي ولم يقل ابن معين قولي به بأس كقولي ثقة حتى يلزم منه التساوي بين اللفظين إنما قال إن من قال فيه هذا فهو ثقة وللثقة مراتب فالتعبير عنه بقولهم ثقة أرفع من التعبير عنه بأنه لا بأس به وإن اشتركا في مطلق الثقة "وخيار تعديل فقط لقول بعضهم كان من خيار الناس إلا أنه يكذب ولا يشعر ثم" يليها "صالح شيخ وهو" أي شيخ "أرفع من شيخ وسط ثم حسن الحديث وصويلح" وهذه كلها في مرتبة واحدة على ما في الميزان فإنه قال ثم محله الصدق وجيد الحديث وصالح الحديث وشيخ وسط وشيخ وحسن الحديث وصدوق إن شاء الله وصويلح ونحو ذلك ا هـ. وجعل العراقي منها متقارب الحديث بفتح الراء وكسرها وأرجو أنه ليس به بأس وقال ابن أبي حاتم من قيل فيه صالح الحديث يكتب حديثه للاعتبار وقال ابن الصلاح ما أعلم به بأسا دون قولهم لا بأس به وقال العراقي وأرجو أنه لا بأس به نظير ما أعلم به بأسا أو الأولى أرفع لأنه لا يلزم من عدم العلم حصول الرجاء بذلك.(4/178)
"والمرجع الاصطلاح وقد يختلف فيه" كما أشرنا إليه "وفي الجرح" قال شيخنا الحافظ أسوأ مراتبه الوصف بما دل على المبالغة، وأصرح ذلك التعبير بأفعل كأكذب الناس وقولهم إليه المنتهى في الوضع أو هو ركن الكذب ونحو ذلك ثم "كذاب وضاع دجال يكذب هالك" يضع الحديث أو وضع حديثا والألفاظ الأول من هذه وإن كان فيها نوع مبالغة فهي دون التي قبلها "ثم ساقط" وذكر الخطيب أن أدون العبارات كذاب ساقط "متهم بالكذب والوضع" والواو بمعنى أو "ذاهب" أو ذاهب الحديث "ومتروك" أو متروك الحديث ومتفق على تركه أو تركوه "ومنه للبخاري فيه نظر وسكتوا عنه" فإن البخاري يقول هاتين العبارتين فيمن تركوا حديثه "لا يعتبر به" لا يعتبر بحديثه "ليس بثقة" ليس بالثقة غير ثقة غير "مأمون ثم ردوا حديثه" رد حديثه مردود الحديث "ضعيف جدا، واه بمرة طرحوا حديثه مطرح" مطرح الحديث "ارم به ليس بشيء" لا شيء "لا يساوي شيئا ففي هذه" المراتب "لا حجية ولا استشهاد ولا اعتبار" بحديث من قيل فيه شيء من ذلك "ثم ضعيف منكر الحديث مضطربه واه ضعفوه" كذا ذكر الشيخ زين الدين العراقي وذكر في الميزان ضعفوه فيما قبل هذه المرتبة "لا يحتج به ثم فيه مقال" اختلف فيه فيه خلف فيه "ضعف ضعف" على صيغة الفعل المبني للمفعول. وكذا "تعرف وتنكر ليس بذاك" ليس بذاك القوي ليس "بالقوي" ليس "بحجة" ليس "بعمدة" ليس "بالمرضي" ليس بالمتين صدوق لكنه غير حجة للضعف ما هو "سيئ الحفظ لين" لين الحديث فيه لين تكلموا فيه.
"ويخرج" الحديث "في هؤلاء" المذكورين في هاتين المرتبتين "للاعتبار والمتابعات" عند المحدثين "إلا ابن معين في ضعيف" "ويثبت التعديل" للشاهد والراوي "بحكم القاضي العدل" بشهادة الشاهد "وعمل المجتهد" العدل برواية الراوي ولم يذكره للعلم به أو اكتفاء(4/179)
ص -321-…بذكره في القاضي هذا في القاضي والمجتهد "الشارطين" للعدالة في قبول الشهادة والرواية وإلا لكان الحاكم فاسقا بقبول شهادة من ليس بعدل عنده والمجتهد فاسقا بعمله برواية من ليس بعدل عنده وهو خلاف المفروض فيهما فلو لم يكن الحاكم عدلا أو كان ممن يرى الحكم بشهادة الفاسق فحكمه بشهادته لا يكون تعديلا له وعلى قياسه لو لم يكن المجتهد عدلا فعمله بروايته لا يكون تعديلا له ثم إنما يكون العمل بروايته تعديلا بشرطين أن يعلم أن لا مستند له في العمل سوى روايته وأن يعلم أن عمله ليس من الاحتياط في الدين كما يشير إليه قوله "لا إن لم يعلم" شيء "سوى كونه" أي عمل المجتهد "على وفقه" أي ما رواه الراوي المذكور وبقي هل رواية العدل الحديث عن الراوي تعديل له قيل نعم مطلقا وقيل لا مطلقا ونسبه ابن الصلاح إلى أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم وقال إنه الصحيح وقيل وهو المختار عند الآمدي وابن الحاجب وغيرهما إن علم من عادته أنه لا يروي إلا عن عدل فتعديل لأن الأصل الجري على العادة وإلا فلا لأن العادة جارية بأن الإنسان يروي الحديث عمن لو سئل عن عدالته لتوقف فيها لأن مجرد الرواية لا يوجب العمل على السامع بمقتضاها بل الغاية أن يقول سمعته يقول فعلى السامع الاستكشاف عن حال المروي عنه إذا أراد العمل بروايته وإلا فالتقصير من قبله والله سبحانه أعلم.(4/180)
"تنبيه حديث" الراوي "الضعيف للفسق لا يرتقي بتعدد الطرق إلى الحجية" لعدم تأثير موافقة غيره فيه كما ذكره النووي "ولغيره" أي وحديث الضعيف لغير الفسق كسوء الحفظ مع الصدق والديانة "يرتقي" بتعدد الطرق إلى الحجية "وهذا التفصيل أصح منه" أي من التفصيل "إلى الموضوع فلا" يرتقي بتعدد الطرق إلى الحجية "أو خلافه" أي الموضوع "فنعم" أي يرتقي بتعدد الطرق إلى الحجية "لوجوب الرد للفسق وبالتعدد" لطرقه "لا يرتفع" الموجب للرد بفسقه "بخلافه" أي الرد "لسوء الحفظ لأنه" أي رده "لوهم الغلط والتعدد يرجح أنه" أي الراوي السيئ الحفظ "أجاد فيه" أي ذلك المروي "فيرتفع المانع وأما" الطعن في الحديث "بالجهالة" لراويه بأن لم يعرف في رواية الحديث إلا بحديث أو بحديثين "فبعمل السلف" به يزول الطعن فيه لأن عملهم به إما لعلمهم بعدالة الراوي وحسن ضبطه أو لموافقته سماعهم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من سامع منه ذلك مشهور لانتفاء اتهامهم بالتقصير في أمر الدين مع ما لهم من الرتبة العالية في الورع والتقوى.
"وسكوتهم" أي السلف "عند اشتهار روايته" أي الحديث الذي راويه بالصفة المذكورة "كعملهم" به "إذ لا يسكنون عن منكر" يستطيعون إنكاره والفرض ثبوت الاستطاعة كما هو الأصل. "فإن قبله" أي الحديث "بعض" منهم "ورده آخر" منهم "فكثير" من العلماء من أهل الحديث وغيرهم "على الرد والحنفية يقبل وليس" قبوله "من تقديم التعديل على الجرح لأن ترك العمل" بالحديث "ليس جرحا" في راويه "كما سنذكر فهو" أي قبول البعض له "توثيق" للراوي "بلا معارض ومثلوه" أي الحنفية ما قبله بعضهم ورده بعضهم "بحديث معقل بن سنان(4/181)
ص -322-…أنه عليه الصلاة والسلام قضى لبروع بنت واشق بمهر مثل نسائها حين مات عنها هلال بن مرة. قبله ابن مسعود ورده علي" فقد أخرج الترمذي عن ابن مسعود أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات عنها فقال ابن مسعود لها مثل صداق نسائها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا مثل ما قضيت ففرح بها ابن مسعود وأخرجه أبو داود من طريقين بسياقين أحدهما مختصر قدمناه في مسألة بعد اشتراط الحنفية المقارنة في المخصص إلخ وثانيهما نحو هذا وفيه فقام ناس من أشجع فيهم الجراح وابن سنان فقالوا يا ابن مسعود نحن نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاها فينا في بروع بنت واشق وأن زوجها هلال بن مرة الأشجعي كما قضيت ففرح بها عبد الله بن مسعود فرحا شديدا حين وافق قضاؤه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الترمذي حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح قد روي عنه من غير وجه والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم وبه يقول الثوري وأحمد وإسحاق وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر إذا تزوج الرجل امرأة ولم يدخل بها ولم يفرض لها صداقا حتى مات قال لها الميراث ولا صداق لها وعليها العدة وهو قول الشافعي وقال لو ثبت حديث بروع بنت واشق لكان الحجة فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي عن الشافعي أنه رجع بمصر عن هذا القول وقال بحديث بروع ا هـ. لأنه كما قال البيهقي جميع روايات هذا الحديث وأسانيدها صحاح وقال ابن المنذر ثبت مثل قول ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه نقول قال المصنف "ولا يخفى أن عمله" أي ابن مسعود "كان بالرأي غير أنه سر برواية الموافق لرأيه من إلحاق الموت بالدخول بدليل إيجاب العدة(4/182)
به" أي بالموت "كالدخول وهو" أي العمل به "أعم من القبول لجواز اعتباره" أي المروي المذكور بالنسبة إلى رأيه المذكور "كالمتابعات" في باب الروايات لإفادة التقوية "إلا أن ينقل" عن ابن مسعود "أنه بعد" أي بعد هذا "استدل به" أي بالمروي المذكور من غير استناد إلى رأيه "وهذا نظر في المثال غير قادح في الأصل فإن قيل إنما ذكروه" أي الحنفية قبول ما قبله بعض السلف ورده بعضهم "في تقسيم الراوي الصحابي إلى مجتهد كالأربعة" أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم "والعبادلة" جمع عبدل لأن من العرب من يقول في زيد زيدل أو عبد وضعا كالنساء للمرأة وهم عند الفقهاء عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وعند المحدثين مقام ابن مسعود عبد الله بن الزبير "فيقدم" خبره "على القياس مطلقا" أي سواء وافقه أو خالفه "و" إلى "عدل ضابط" غير مجتهد "كأبي هريرة وأنس وسلمان وبلال فيقدم" خبره "إلا إن خالف كل الأقيسة على قول عيسى بن أبان والقاضي أبي زيد" وأكثر المتأخرين "كحديث المصراة" وهو ما روى أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر" متفق عليه، والتصرية ربط أخلاف الناقة أو الشاة وترك حلبها اليومين أو(4/183)
ص -323-…الثلاثة حتى يجتمع لها لبن فيراه مشتريها كثيرا فيزيد في ثمنها ثم إذا حلبها الحلبة أو الحلبتين عرف أن ذلك ليس بلبنها وهذا غرور للمشتري وقد اختلف العلماء في حكمها فذهب إلى القول بظاهر هذا الحديث الأئمة الثلاثة وأبو يوسف على ما في شرح الطحاوي للإسبيجابي نقلا عن أصحاب الأمالي عنه والمذكور عنه للخطابي وابن قدامة أنه يردها مع قيمة اللبن. ولم يأخذ أبو يوسف ومحمد به لأنه خبر مخالف للأصول "فإن اللبن مثلي وضمانه بالمثل" بالنص والإجماع كما يأتي "ولو" كان اللبن "قيميا فبالقيمة" أي فضمانه بها من النقدين بالإجماع أيضا "لا كمية تمر خاصة ولتقويم القليل والكثير بقدر واحد" والمضمون إنما يكون قدر ضمانه بقدر التالف منه إن قليلا فقليل وإن كثيرا فكثير "ورب شاة" تكون "بصاع" من التمر خصوصا في غلائه "فيجب ردها مع ثمنها" فيكون ربا إلى غير ذلك "وعند الكرخي والأكثر" من العلماء كما قال صدر الإسلام خبر العدل الضابط "كالأول" أي كخبر المجتهدين "ويأتي الوجه" في كونه كذلك "وتركه" أي حديث المصراة "لمخالفة الكتاب" وهو قوله تعالى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى} [البقرة: 194] و" مخالفة السنة "المشهورة" وهي ما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من أعتق شقصا أي نصيبا له من مملوك قوم عليه نصيب شريكه" إن كان موسرا كما روى معناه الجماعة "والخراج بالضمان" أخرجه أحمد وأصحاب السنن. وقال الترمذي حديث حسن والعمل على هذا عند أهل العلم وأبو عبيد وقال معناه الرجل يشتري المملوك فيستغله ثم يجد به عيبا كان عند البائع فقضي أنه يرد العبد على البائع بالعيب ويرجع بالثمن ويأخذه ويكون له الغلة طيبة وهو الخراج وإنما طابت له لأنه كان ضامنا للعبد ولو مات مات من مال المشتري لأنه في يده وهذا من جوامع الكلم. "و" مخالفة "الإجماع على التضمين بالمثل" في المثلي الذي ليس بمنقطع "أو القيمة" في القيمي الفائت عينه أو المثلي(4/184)
المنقطع لأن اللبن مثلي فضمانه بالمثل والقول في مقداره قول الضامن ولو فرض أنه ليس بمثلي فالواجب القيمة فكان إيجاب التمر مكان اللبن مطلقا مخالفا لهذه الأصول الثلاثة وللقياس أيضا على سائر المتلفات المثلية وغيرها من كل وجه مع أنه مضطرب المتن فمرة جعل الواجب صاعا من تمر ومرة صاعا من طعام غير بر ومرة مثل أو مثلي لبنها قمحا ومرة ذكر الخيار ثلاثة أيام ومرة لم يذكره وقيل هو منسوخ قال الطحاوي روي عن أبي حنيفة مجملا فقال ابن شجاع نسخه قوله صلى الله عليه وسلم "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار" فلما قطع النبي صلى الله عليه وسلم بالفرقة الخيار ثبت أنه لا خيار إلا ما استثناه في هذا الحديث قال الطحاوي وفيه ضعف لأن الخيار المجعول في المصراة خيار العيب وهو لا يقطعه الفرقة اتفاقا وتعقب بأن في إشارات الأسرار التصرية ليست بعيب عندنا ومشى عليه في المختلف ويدفع بأن الأصح أنها عيب كما ذكر الإسبيجابي ونقله الطحاوي في شرح الآثار عن أبي حنيفة ومحمد ورواه الحسن في المجرد وأخذ به أبو الليث وقال عيسى بن أبان كان ذلك في وقت ما كانت العقوبات تؤخذ بالأموال ثم نسخ الله الربا فردت الأشياء المأخوذة إلى أمثالها إن كان لها أمثال وإلى قيمتها إن كانت لا أمثال لها "وأبو هريرة فقيه" لم يعدم شيئا من أسباب الاجتهاد(4/185)
ص -324-…وقد أفتى في زمن الصحابة ولم يكن يفتي في زمنهم إلا مجتهد وروى عنه أكثر من ثمانمائة رجل ما بين صحابي وتابعي منهم ابن عباس وجابر وأنس. وهذا هو الصحيح.
"ومجهول العين والحال كوابصة" بن معبد والتمثيل به مشكل فإن المراد بالمجهول المذكور عندهم من لم يعرف ذاته إلا برواية حديث أو حديثين ولم تعرف عدالته ولا فسقه ولا طول صحبته وقد عرفت عدالة الصحابة بالنصوص واشتهر طول صحبتهم فكيف يكون داخلا فيه وهو صحابي وقد يجاب بأنه وأمثاله كسلمة بن المحبق ومعقل بن سنان وإن رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ورووا عنه لا يعدون من الصحابة عند الأصوليين لعدم معرفة صحبتهم إليه أشار شمس الأئمة ولا يعرى عن نظر كما لا يخفى علي أن أبا داود والترمذي وابن ماجه أخرجوا لوابصة قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألته عنه الحديث وأن رجلا صلى خلف الصف وحده فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد. وابن ماجه أخرج له أيضا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع سوى ظهره حتى لو صب عليه الماء لاستقر. والطبراني أخرج له ثلاثة أحاديث أخرى أحدها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تتخذوا ظهور الدواب منابر" ثانيها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل شيء حتى سألته عن الوسخ الذي يكون في الأظفار فقال: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ثالثها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: "ليبلغ الشاهد الغائب" وسلمة بن المحبق واسم المحبق صخر أخرج له الطبراني أربعة أحاديث وأحمد حديثين وابن ماجه حديثا. نعم معقل روى له أصحاب السنن حديثا والنسائي حديثا "فإن قبله السلف أو سكتوا إذا بلغهم أو اختلفوا قبل" وقدم على القياس "كحديث معقل" السابق في بروع فإن السلف اختلفوا في قبوله كما تقدم ووجه بأنه لما قبله بعض الفقهاء المشهورين صار كأنه رواه بنفسه فإذا قبله السلف أو سكتوا عن(4/186)
رده بعدما بلغهم فبطريق أولى لأنهم عدول أهل فقه لا يتهمون بالتقصير في أمر الدين بقبول ما لم يصح عندهم أنه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بالسكوت عن رد ما يجب رده في موضع الحاجة إلى البيان لأنه لا يحل إلا على وجه الرضا بالمسموع "أو ردوه" أي السلف حديث المجهول "لا يجوز" العمل به "إذا خالفه" القياس لأنهم لا يتهمون برد الحديث الصحيح فيكون اتفاقهم على الرد دليلا على أنهم اتهموه في الرواية "وسموه منكرا كحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة كما في صحيح مسلم وغيره "رده عمر" فقال لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت رواه مسلم أيضا. "وقال مروان في صحيح مسلم حين أخبر" بحديثها المذكور "لم يسمع هذا الأمر إلا امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها وهم" أي الناس يومئذ "الصحابة رضي الله عنهم فدل أنه مستنكر وإن لم يظهر" حديث المجهول "في السلف بل" ظهر "بعدهم فلم يعلم ردهم وعدمه" أي عدم رده "جاز" العمل به "إذا لم يخالف" القياس لترجح جانب الصدق في خبره باعتبار ثبوت العدالة ظاهرا لغلبتها في ذلك الزمان "ولم يجب" العمل به لأن الوجوب شرعا لا يثبت بمثل هذا الطريق ذكره شمس الأئمة "فيدفع" بالنصب على أنه جواب النفي أي(4/187)
ص -325-…ليدفع "نافي القياس" عن منع هذا الحكم "أو ينفعه" أي نافي القياس وهذا تعريض بدفع جواب السؤال القائل إذا وافقه القياس ولم يجب العمل به كان الحكم ثابتا بالقياس فما فائدة جواز العمل به بأنها جواز إضافة الحكم إليه فلا يتمكن نافي القياس من منع هذا الحكم لكونه مضافا إلى الحديث "وإنما يلزم" الدفع أو النفع "لو قبله" أي السلف الحديث فإنه حينئذ لا يتمكن من منع الحكم الثابت به وقد ينفعه حيث يضيف الحكم إليه لا إلى القياس لكن الفرض عدم العلم به حيث لم يظهر فيهم وإنما يظهر بعدهم "ورواية مثل هذا المجهول في زماننا لا تقبل" ما لم تتأيد بقبول العدول لغلبة الفساق على أهل هذا الزمان.
"قلنا" لا نسلم أن التقسيم المذكور للراوي الصحابي "بل وضعهم" أي الحنفية التقسيم المذكور فيما هو "أعم" من الصحابة وغيره "وهو قولهم والراوي إن عرف بالفقه إلخ غير أن التمثيل وقع بالصحابة منهم وليس يلزم" كون الراوي "صحابيا" من قولهم ذلك "فصار هذا حكم غير الصحابي أيضا ولا جرح" للراوي والشاهد "بترك العمل في رواية ولا شهادة" لهما "لجوازه" أي ترك العمل بروايته وشهادته "بمعارض" من رواية أو شهادة أخرى أو فقد شرط غير العدالة لا لأن كلا من الراوي والشاهد مجروح. قال السبكي فإن فرض ارتفاع الموانع بأسرها وكان مضمون الخبر وجوبا فتركه حينئذ يكون جرحا قاله القاضي في التقريب وهو واضح قلت نعم في غير الصحابي أما في الصحابي فلا وستقف على تفصيل فيه للحنفية بعد سبع مسائل.
"ولا" جرح "بحد لشهادة بالزنى مع عدم" كمال "النصاب" للشهادة به لعدم دلالته على فسق الشاهد وتقدم في ذيل الكلام في العدالة أن هذا بالنسبة إلى الرواية ظاهر المذهب وأن الحسن روى عن أبي حنيفة ردها به كرد الشهادة به بلا خلاف في المذهب.(4/188)
"ولا" جرح "بالأفعال المجتهد فيها" من المجتهد القائل بإباحتها أو مقلده كشرب النبيذ ما لم يسكر من غير لهو واللعب بالشطرنج بلا قمار وترك البسملة في الصلاة لما تقدم "وركض الدابة" أي حثها لتعدو وهو تعريض بإفراط شعبة لما قيل له لم تركت حديث فلان قال رأيته يركض على برذون إذ ما يلزم من ركضه على برذون وكيف وهو مشروع من عمل الجهاد ففي الصحيحين والموطأ واللفظ له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي ضمرت من الحيفاء وكان أمدها ثنية الوداع وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق وأن عبد الله بن عمر كان فيمن سابق بها "وكثرة المزاح غير المفرط" بعد أن يكون حقا فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح أحيانا ولا يقول إلا حقا فعن أبي هريرة قالوا إنك تداعبنا قال إني وإن داعبتكم لا أقول إلا حقا. رواه الترمذي وحسنه وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخ له صغير: "يا أبا عمير ما فعل النغير" متفق عليه وعنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله احملني فقال: "إنا حاملوك على ولد ناقة" قال: وما أصنع بولد ناقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وهل تلد الإبل إلا النوق" رواه أبو داود والترمذي وصححه إلى غير ذلك. وأما(4/189)
ص -326-…إذا كانت الخفة تستفزه فيخلط الحق بالباطل ولا يبالي بما يأتي من ذلك فحينئذ يكون جرحا "وعدم اعتياد الرواية" لأن المعتبر هو الإتقان وربما يكون إتقان من لم تصر الرواية عادة له فيما يروي أكثر من إتقان من اعتادها وقد كان في الصحابة من يمتنع من الرواية في عامة الأوقات ومنهم من يشتغل بها في عامة الأوقات ثم لم يرجح أحد رواية من اعتادها على من لم يعتدها "ولا يدخله" أي من لم يعتدها "من له راو فقط" إذ يجوز اعتيادها مع وحدة الآخذ "وهو" أي من له راو فقط "مجهول العين باصطلاح" للمحدثين "كسمعان بن مشنج والهزهاز بن ميزن1 ليس لهما" راو "إلا الشعبي وجبار الطائي في آخرين" وهم عبد الله بن أغر الهمداني والهيثم بن حنش ومالك بن أغر وسعيد بن ذي حدان وقيس بن كركم وخمر بن مالك1 "ليس لهم" راو "إلا" أبو إسحاق "السبيعي وفي" علم "الحديث" فيه أقوال. "نفيه" أي نفي قبوله "للأكثر" من أهل الحديث وغيرهم "وقبوله" مطلقا "قيل هو" أي هذا القول "لمن لم يشترط" في الراوي شرطا "غير الإسلام والتفصيل بين كون المنفرد لا يروي إلا عن عدل" كابن مهدي ويحيى بن سعيد واكتفى في التعديل بواحد "ومعلوم أن المقصود مع ضبط" فيقبل وإلا فلا "وقيل إن زكاه عدل" من أئمة الجرح والتعديل قبل وإلا فلا وهو اختيار ابن القطان في كتاب الوهم والإيهام "وقيل إن شهر" في غير العلم "بالزهد كمالك بن دينار أو النجدة كعمرو بن معد يكرب" قبل وإلا فلا وهو اختيار ابن عبد البر. قال المصنف "ومرجع التفصيل" الأول "وما بعده واحد وهو إن عرف عدم كذبه" قبل وإلا فلا "غير أن لمعرفتها" والوجه لمعرفته أي عدم كذبه "طرقا؛ التزكية ومعرفة أنه لا يروي إلا عن عدل وزهده والنجدة فإن المتصف بها" أي النجدة "عادة يرتفع عن الكذب وفيه نظر فقد تحقق خلافه" أي خلاف ثبوت الصدق مع تحقق النجدة "فيما قال المبرد عنه" أي عن معد يكرب فإنه نسب إليه الكذب "والوجه أن قول إن زكاه" عدل قبل(4/190)
وإلا فلا "مراد الأول" وهو أنه إن كان لا يروي إلا عن عدل قبل وإلا فلا "ولا" جرح أيضا "بحداثة السن بعد إتقان ما سمع" عند التحمل وتحقيق العدالة وما في شرائط الراوي عند الرواية وما تقدم من الاتفاق على قبول من تحمل من الصحابة صغيرا وأدى كبيرا دليل واضح على ذلك.
"واستكثار مسائل الفقه" لأنه لا يلزم من ذلك خلل في الحفظ كما زعمه من زعمه بل ربما كان دليل قوة الذهن فيستدل به على حسن الضبط والإتقان "وكثرة الكلام كما عن زاذان". قال شعبة قلت للحكم بن عتيبة لم لم ترو عن زاذان قال كثير الكلام إذ لا يخفى أن مجرد هذا غير قادح "وبول قائما كما عن سماك" قال جرير رأيت سماك بن حرب يبول قائما فلم أكتب عنه فإن مجرد هذا غير قادح وكيف وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم بال قائما. إذ الظاهر أنه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله الهزهاز بن ميزن وقوله بعده وخمر بن مالك كذا في الأصل ولم نعثر على الأول وأما الثاني فلعله محرف عن حميد بن مالك وهو من رجال الحديث كما في الخلاصة. فحرر كتبه مصححه.(4/191)
ص -327-…بيان للجواز كما ذهب إليه بعضهم فهو مباح غير خارم للمروءة إذا كان بحيث لا يرتد على البائل وأما ستر العورة فلا بد منه.
"واختلف في رواية العدل" عن المجهول على ثلاثة أقوال "فالتعديل" إذ الظاهر أنه لا يروي إلا عن عدل وإلا كانت تلبيسا لما فيها من الإيقاع في العمل بما لا يجوز العمل به لأن العدل إذا روى حديثا فقد أوجب على المكلفين العمل به والتلبيس خلاف مقتضى العدالة وهذا عزاه ابن الصلاح إلى بعض المحدثين وبعض الشافعية "والمنع" له إذ كثيرا ما يروي من يروي ولا يفكر عمن يروي ولا نسلم أنها لو لم تكن تعديلا له لكانت تلبيسا وإنما يلزم ذلك لو وجب بمجردها العمل على السامع وليس كذلك إذ غاية روايته عنه أن يقول سمعته يقول كذا وهو ليس بموجب العمل عليه بل يجب على السامع إذا أراد العمل الكشف عن حال المروي عنه فإن ظهرت عدالته عمل به وإلا فلا فإذا لم يكشف وعمل كان هو المقصر في حق نفسه وهذا ما عزاه ابن الصلاح إلى أكثر العلماء من المحدثين وغيرهم وذكر أنه الصحيح "والتفصيل بين من علم أنه لا يروي إلا عن عدل" فهي تعديل وإلا يلزم خلاف ما عهد عليه من العادة وهو خلاف الأصل "أو لا" يعلم ذلك من عادته فلا يكون تعديلا له لأن العادة جارية بأن الإنسان يروي عمن لو سئل عن عدالته لتوقف فيها "وهو" أي هذا التفصيل "الأعدل" كما هو ظاهر من وجهه فلا جرم أن اختاره الآمدي وابن الحاجب. "وأما التدليس" وفسره بقوله "إيهام الرواية عن المعاصر الأعلى" سواء لقيه أو لا سماعا منه بحذف المعاصر الأدنى سواء كان شيخه أو شيخ شيخه أو كليهما فصاعدا بنحو عن فلان وقال فلان "أو وصف شيخه بمتعدد" بأن يسميه أو يكنيه أو ينسبه إلى قبيلة أو بلد أو صنعة أو غيرها أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يعرف ويفعل هذا الموهم أو الواصف ذلك "لإيهام العلو" في السند أو لصغر سن المحذوف عن سن الراوي أو لتأخر وفاته ومشاركة من دونه فيه على التقدير الأول(4/192)
"والكثرة" في الشيوخ على التقدير الثاني لما فيه من إيهام أنه غيره وقد لهج بهذا غير واحد كالخطيب في تصانيفه "فغير قادح" والأول من تدليس الإسناد والثاني من تدليس الشيوخ "أما" ما كان من الأول "لإيهام الثقة" أي كون الإسناد موثوقا به "بإسقاط مختلف في ضعفه بين ثقتين يوثقه" المسقط بذلك "بأن ذكر" الثقة "الأول بما لا يشتهر به من موافق اسم من عرف أخذه عن" الثقة "الثاني وهو" أي هذا الصنيع "أحد قسمي" تدليس "التسوية فيرد" متن الحديث "عند مانعي" قبول "المرسل ويتوقف في عنعنته" أي قبول ما رواه بلفظ عن من غير بيان للتحديث والإخبار والسماع وهذا لم أقف عليه بل الظاهر أنه يرد أيضا عندهم لأن العنعنة من صيغ التدليس والفرض أن المعنعن مدلس اللهم إلا أن يكون المعنعن لا يدلس إلا عن ثقة متقن فقد قال ابن عبد البر ينظر في حال المدلس فإن كان يتسامح بأن يروي عن كل أحد لم يحتج بشيء مما رواه حتى يقول أنبأنا أو سمعت وإن كان ممن لا يروي إلا عن ثقة استغنى عن توثيقه ولم يسأل عن تدليسه وعلى هذا أكثر أئمة الحديث ونقل عن أئمة الحديث أنهم قالوا يقبل تدليس ابن عيينة لأنه إذا وقف أحال على ابن جريج ومعمر(4/193)
ص -328-…ونظرائهما ورجحه ابن حبان لكن ذكر أن هذا شيء ليس في الدنيا إلا لابن عيينة فإنه لا يكاد يوجد له خبر دلس فيه إلا. وقد تبين سماعه عن ثقة مثل ثقته وكلام البزار وأبي الفتح الأزدي يفيد عدم اختصاص ابن عيينة بذلك وهو الوجه، ثم لعل هذا أشبه من قول ابن الصلاح الصحيح التفصيل وهو أن ما رواه المدلس بلفظ محتمل لم يبين فيه السماع والاتصال حكمه حكم المرسل وأنواعه وما رواه بلفظ مبين للاتصال نحو سمعت وحدثنا وأخبرنا وأشباهها فهو مقبول يحتج به نعم. قال الحاكم الأحاديث المعنعنة التي ليس فيها تدليس متصلة بإجماع أهل النقل وزاد أبو عمر والداني اشتراط أن يكون معروفا بالرواية عنه والأوجه حذف هذا الشرط. وقال الخطيب أهل العلم مجمعون على أن قول المحدث حدثنا فلان عن فلان صحيح معمول به إذا كان لقيه وسمع منه وقال الشيخ زين الدين العراقي اختلفوا في حكم الإسناد المعنعن فالصحيح الذي عليه العمل وذهب إليه الجماهير من أئمة الحديث وغيرهم أنه من قبيل الإسناد المتصل بشرط سلامة الراوي بالعنعنة من التدليس وبشرط ثبوت ملاقاته لمن رواه عنه بالعنعنة ثم قال وما ذكرناه من اشتراط ثبوت اللقاء هو مذهب ابن المديني والبخاري وغيرهما من أئمة هذا العلم وأنكر مسلم في خطبة صحيحة اشتراط ذلك وادعى أنه قول مخترع لم يسبق قائله إليه وأن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار قديما وحديثا أنه يكفي في ذلك أن يثبت كونهما في عصر واحد وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا أو تشافها. قال ابن الصلاح وفيما قاله مسلم نظر قال وهذا الحكم لا أراه يستمر بعد المتقدمين فيما وجد من المصنفين في تصانيفهم مما ذكروه عن مشايخهم قائلين فيه ذكر فلان قال فلان ونحو ذلك "دون المجيزين" لقبول المرسل أي جمهورهم فقد حكى الخطيب أن جمهور من يحتج بالمرسل يقبل خبر المدلس وذكر غيره أن بعض من يحتج بالمرسل لا يقبل عنعنة المدلس وسيأتي أن الأكثر على قبول المرسل.(4/194)
"ولا يسقط" الراوي المدلس بالتدليس المذكور "بعد كونه إماما من أئمة الحديث" وهذا لم أقف على صريح فيه وكأن المصنف أخذه من شرطه لقبول المرسل "لاجتهاده وعدم صريح الكذب وهو" أي هذا القسم من التدليس "محمل فعل الثوري والأعمش وبقية"1 وفي الصحيحين وغيرهما من الكتب الصحيحة من هذا النوع كثير عن كثير كقتادة والسفيانين وعبد الرزاق والوليد بن مسلم. ومن ثمة قال النووي وما كان في الصحيحين وشبههما عن المدلسين "بعن" محمول على ثبوت السماع من جهة أخرى وقال الحافظ عبد الكريم الحلبي قال أكثر العلماء المعنعنات التي في الصحيحين منزلة بمنزلة السماع "ويجب" سقوط الراوي بتدليسه "في المتفق" أي بمتفق على ضعفه لأنه غرر شديد في الدين لأنه يؤدي إلى إثبات الأحكام الشرعية بما لا يجوز إثباتها به ولو لم يقصد سوى تكبير شيخه أن يروي عن الضعفاء
ـــــــــــــــــــ
1 قوله وبقية هو بالموحدة قبل القاف ابن الوليد الكلاعي كما في الخلاصة وفي القاموس أنه محدث ضعيف لا بالتاء المثناة كما وقع في النسخ التي بيدنا كتبه مصححه.(4/195)
ص -329-…كما كان الوليد بن مسلم يفعله حتى قال له الهيثم بن خارجة: أفسدت حديث الأوزاعي تروي عن الأوزاعي عن نافع وعن الأوزاعي عن الزهري وعن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد. وغيرك يدخل بين الأوزاعي وبين نافع. عبد الله بن عامر الأسلمي وبينه وبين الزهري، إبراهيم بن مرة وقرة. فقال له أنبل الأوزاعي أن يروي عن مثل هؤلاء فقال الهيثم قلت له فإذا روى عن هؤلاء وهم ضعفاء أحاديث مناكير، فأسقطتهم أنت وصيرتها من رواية الأوزاعي عن الثقات ضعف الأوزاعي فلم يلتفت إلى قولي فهذا مستلزم للضرر الديني وهذا هو القسم الثاني من قسمي تدليس التسوية. والمراد بما عن شعبة التدليس أخو الكذب والتدليس في الحديث أشد من الزنى ولأن أسقط من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أدلس ولأن أزني أحب إلي من أن أدلس وهذا من شعبة كما قال ابن الصلاح إفراط محمول على المبالغة في الزجر عنه والتنفير منه "وتحققه" أي هذا التدليس الكائن بالإسقاط يكون "بالعلم بمعاصرة الموصولين وإلا" إذا انتفى العلم بمعاصرتهما "لا تدليس" على الصحيح المشهور "ويقضي" تدليس الشيوخ "إلى تضييع" الشيخ "الموصول" أي المروي عنه "وحديثه" أي المروي أيضا بأن لا يتنبه له فيصير بعض رواته مجهولا ثم اعلم أن كون تدليس الإسناد ما تقدم هو المذكور لابن الصلاح وغيره وقال شيخنا الحافظ التدليس يختص بمن روى عمن عرف لقاؤه إياه فأما إن عاصره ولم يعرف أنه لقيه فهو المرسل الخفي ومن أدخل في تعريف التدليس المعاصرة ولو بغير لقى لزمه دخول المرسل الخفي في تعريفه والصواب التفرقة بينهما ويدل على أن اعتبار اللقاء في التدليس دون المعاصرة وحدها لا بد منه إطباق أهل العلم بالحديث على أن رواية المخضرمين كأبي عثمان النهدي وقيس بن أبي حازم عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبيل الإرسال لا من قبيل التدليس ولو كان مجرد المعاصرة يكتفي به في التدليس لكان هؤلاء مدلسين لأنهم عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم قطعا(4/196)
ولكن لم يعرف هل لقوه أم لا وممن قال باشتراط اللقاء في التدليس الإمام الشافعي وأبو بكر البزار وكلام الخطيب في الكفاية يقتضيه وهو المعتمد ويعرف عدم الملاقاة بإخباره عن نفسه بذلك أو بجزم إمام مطلع ولا يكفي أن يقع في بعض الطرق زيادة راو بينهما لاحتمال أن يكون من المزيد ولا يحكم في هذه الصورة بحكم كلي لتعارض احتمال الاتصال والانقطاع وقد صنف فيه الخطيب كتاب التفصيل لمبهم المراسيل وكتاب المزيد في متصل الأسانيد.
مسألة
قال "الأكثر" ووافقهم الرازي والآمدي "الجرح والتعديل" يثبتان "بواحد في الرواية وباثنين في الشهادة وقيل" يثبتان "باثنين فيهما" أي الرواية والشهادة وهو مختار جماعة من المحدثين وحكاه الباقلاني عن أكثر الفقهاء من. أهل المدينة وغيرهم "وقيل" يثبتان "بواحد فيهما" أي الرواية والشهادة وهو مختار القاضي أبي بكر "للأكثر لا يزيد شرط على مشروطه بالاستقراء ولا ينقص" شرط عن مشروطه والعدالة شرط لقبول الرواية والشهادة والجرح شرط لعدم قبولهما، والرواية لا يشترط فيها العدد والشهادة يشترط فيها العدد وأقله اثنان فكذا(4/197)
ص -330-…التعديل والجرح فيهما "المعدد" أي شارطه فيهما قال كل منهما "شهادة" ولذا يرد بما ترد به الشهادة "فيتعدد" أي فيشترط فيهما العدد كما في سائر الشهادات "عورض" لا نسلم أن كلا منهما شهادة بل هو "خبر" عن حال الراوي "فلا" يشترط فيه العدد بل يكتفى فيه بالواحد إذا غلب على الظن صدقه "قالوا" أي المعدون فيهما اشتراط العدد في كل منهما "أحوط" لما فيه من زيادة الثقة والبعد عن احتمال العمل بما ليس بحديث فكان القول به أولى "أجيب بالمعارضة" وهي عدم اشتراط العدد أحوط حذرا من تضييع الشرائع من الأمر والنهي فإن الاكتفاء بواحد يفيد ذلك لأن به يصير قول الراوي مقبولا فتثبت به الشرائع من غير توقف على ثان تفوت بفواته ولأنه يبعد احتمال عدم العمل بما هو حديث "المفرد فيهما" أي التعديل والجرح قال كل منهما "خبر" فلا يشترط فيه العدد "فيقال" له بل كل منهما "شهادة" فيشترط فيه العدد "فإذا قال" المفرد الإفراد "أحوط" كما ذكرنا "عورض" بأن التعدد أحوط كما ذكرنا "والأجوبة" من الطرفين "كلها جدلية" لأنها ليست بمرجحة لمذهب بل موقفة عنه "والمعارضة الأولى" وهي الإفراد أحوط "تندفع بانتفاء شرع ما لم يشرع شر من ترك ما شرع" وهو عدم العمل بالحديث الذي لم تزك رواته اثنان وهما ليسا شرطا فيه ولا يخفى أن الصواب يندفع بأن شرع ما لم يشرع إلخ كما كانت النسخة عليه حال قراءتي لهذا الموضع على المصنف رحمه الله ثم إنما كان شرع ما لم يشرع شرا من ترك ما شرع لأنه يضرب بعرق إلى المشاركة في الربوبية تعالى الله عن ذلك بخلاف ترك ما شرع "والثانية" أي والمعارضة الثانية وهي التعدد أحوط "تقتضي التعدد فيهما" أي الجرح والتعديل "وقول الأكثر لا يزيد" شرط على مشروطه بالاستقراء "منتف بشاهد الهلال" أي هلال رمضان إذا كان بالسماء علة فإنه يكتفى فيه بواحد ويفتقر تعديله إلى اثنين "ولا ينقص" شرط عن مشروطه منتف "بشهادة الزنى" فإنه يلزم كونهم أربعة ويكفي(4/198)
في تعديلهم اثنان "وما قيل لا نقص" بهذين "بل" زيادة الأصل في شهادة الزنى ونقصانه في شهادة رمضان إنما ثبت "بالنص للاحتياط في الدرء" للعقوبات "والإيجاب" للعبادة كما هو مذكور في حاشية التفتازاني فللاحتياط في الدرء يرجع إلى شهادة الزنى والإيجاب يرجع إلى شهادة الهلال "لا يخرجه" أي هذا الجواب "عنهما" أي ثبوت الزيادة وثبوت النقص للشرط مع المشروط الذي هو عين ما به النقض وإن كان ذلك لباعث مصلحة خاصة فإن كل المشروعات كذلك "وأوجهها" أي هذه الأقوال "المفرد" أي القائل بأن المفرد يكفي فيهما "فإذا قيل كونه شهادة أحوط منع محليته" أي التعديل "له" أي للاحتياط "إذ الاحتياط عند تجاذب متعارضين" لا يمكن الجمع بينهما "فيعمل بأشدهما ولا تزيد التزكية على أنها ثناء" خاص "عليه" أي الشاهد والراوي "وهو" أي ثبوته له يكون "بمجرد الخبر" الخاص من المزكي "فإثبات زيادة على الخبر" بخبر آخر يكون "بلا دليل فيمتنع" التعارض "ولا يتصور الاحتياط واختلف في اشتراط ذكورة المعدل" للشاهد في الحدود عند أصحابنا ففي كتاب الحدود من باب أبي حنيفة من المختلف والحصر يشترط الذكورة في المزكي عند أبي حنيفة خلافا لهما بناء على أن التزكية في معنى علة العلة عنده فيشترط فيها(4/199)
ص -331-…ما يشترط في العلة التي هي الشهادة وشرط محض لها عندهما فلا يشترط فيها ما يشترط فيها وظاهر الاختيار أنها شرط عند محمد خاصة والذي في الهداية ويشترط الذكورة في المزكي في الحدود قال في غاية البيان يعني بالإجماع وكذا في القصاص ذكره في المختلف في كتاب الشهادات في باب محمد ا هـ وهذا هو الأشبه فلا جرم أن قال الزيلعي قالوا يشترط الذكورة عند الشهادة في تزكية شهود الحد بالإجماع.
"ومقتضى النظر قبول تزكية كل عدل ذكرا أو امرأة فيما يشهد به حر أو عبد" لما تقدم من أن حقيقتها ثناء وإخبار خاص عن حال الشاهد أو الراوي لا الشهادة "ولو شرطت الملابسة في المرأة" لمن تزكيه "لسؤال بريرة" أي سؤال النبي صلى الله عليه وسلم بريرة مولاة عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك بإشارة علي كما ثبت ذلك في الصحيح "والعبد" أيضا "لم يبعد فينتفي ظهور مبنى النفي" قال المصنف يعني أن نفي تعديل المرأة والعبد لظهور عدم مخالطتهما الرجال والأحرار خلطة توجب معرفة باطن الحال فلو قيل بجواز تعديلهما بشرط العلم بمخالطتهما كأن تعدل من كانت زوجته والعبد من كان مولى له ثم باعه أو من عرف اتفاق أمر كان جامعا بينه وبينهما لم يبعد، ولم يبعد كناية عن قولنا حسن فيكون مذهبا مفصلا فإن الخلاف في المرأة مطلق من الجانبين فيثبت قول ثالث وهو إن عرف مخالطتها وفي العبد المعروف إطلاق الجواز فيثبت فيه قول ثان وهو إن عرف مخالطته وإلا لا ا هـ.(4/200)
قلت وهذا الذي أبداه المصنف في المرأة تفقها ظفرت به منقولا ففي المحيط ويقبل تعديل المرأة لزوجها إذا كانت برزة تخالط الناس وتعاملهم لأن لها خبرة بأمورهم ومعرفة بأحوالهم فيفيد السؤال والتعديل من أمور الدين فيستوي فيه الأنثى والذكر كرواية الأخبار ورؤية هلال رمضان خصوصا في تعديل النسوان لأن المرأة أعرف بالأحوال في بيوتهن فإن كانت مخدرة غير برزة لا يكون لها خبرة فلا تعرف أحوال الناس إلا حال زوجها وولدها فلا يكون تعديلها معتبرا فلا يفيد السؤال عنها ا هـ.
وحينئذ فلقائل أن يقول مراد المطلق هذا وإنما طوى ذكره من طواه للعلم به من أنه إنما تطلب التزكية ممن له خبرة بأحوال المزكى كما نص عليه مشايخنا وغيرهم وقد حكى مشايخنا أيضا خلافا بين أبي حنيفة وأبي يوسف وبين محمد في تزكية العبد فلم يقبلها محمد وقبلها أبو حنيفة وأبو يوسف ولا بد من حمل إطلاق قبولها منه على ما إذا كان له خبرة بأحوال المزكى كما ذكرنا فيكون في كل من تزكية المرأة والعبد قولان المنع مطلقا والقبول بشرط خبرتهما بالمزكى ثم التحرير في هذه المسألة أن التزكية إما تزكية العلانية فأصحابنا مجمعون على أنه يشترط لها سائر أهلية الشهادة وما يشترط في الشهادة سوى لفظة الشهادة لأن معنى الشهادة فيها أظهر لأنها تختص بمجلس القضاء وأما تزكية السر ففي الحدود والقصاص عرفت ما فيها غير أنهم ذكروا أن محمدا اشترط في شهود الزنى أربعة ذكور ولم أقف على تعيين عدد فيها لهما اللهم إلا ما يقتضيه إطلاق اشتراط عدد الشهادة فيها في الحد(4/201)
ص -332-…إجماعا من أن المراد به اثنان بالنسبة إليهما ومن هنا يعلم توجه التقصي على قول محمد عن النقض بشهادة الزنى لما قيل من أنه لا ينقص شرط عن مشروطه فإن على قوله فيها لم ينقص وفي غيره من الحدود والقصاص تقدم أن اشتراط الرجلين إجماع وأما غير الحدود والقصاص فذكروا أن محمدا يشترط في الحقوق التي يطلع عليها الرجال رجلين أو رجلا وامرأتين وفيما لا يطلع عليه الرجال امرأة واحدة فرتبها على مراتب الشهادة وأنه لا يقبل تزكية الفاسق والمحدود في القذف والصبي والعبد والأعمى وأطلقوا أنهما يقبلان تزكية المذكورين والوالد لولده والولد لوالده وأحد الزوجين للآخر ولم يذكروا اشتراط عدد في ذلك عنهما والظاهر عدمه عندهما وإنما الأحوط اثنان كما ذكره غير واحد ومن هذا يعلم أيضا أن تقييد المصنف تعديل المرأة زوجها والعبد سيده بما يشير إليه كلامه من كون الزوجية والسيدية غير قائمة بينهما في الحال لا حاجة إليه ثم الظاهر أن تزكية الراوي كتزكية السر عند أبي حنيفة وأبي يوسف والله سبحانه أعلم.
مسألة(4/202)
"إذا تعارض الجرح والتعديل فالمعروف مذهبان تقديم الجرح مطلقا" أي سواء كان المعدلون أقل من الجارحين أو مثلهم أو أكثر منهم نقله الخطيب عن جمهور العلماء وصححه الرازي والآمدي وابن الصلاح وغيرهم "وهو المختار والتفصيل بين تساوي المعدلين والجارحين فكذلك" أي يقدم الجرح "والتفاوت" بين المعدلين والجارحين في المقدار "فيترجح الأكثر" من الفريقين على الأقل منهما "فأما وجوب الترجيح" لأحدهما على الآخر بمرجح "مطلقا" أي سواء تساويا أو كان أحدهما أكثر من الآخر "كنقل ابن الحاجب فقد أنكر" كما أشار إليه الشيخ زين الدين العراقي "بناء على حكاية القاضي أبي بكر" الباقلاني "والخطيب" البغدادي "الإجماع على تقديم الجرح عند التساوي لولا تعقب المازري الإجماع بنقله عن مالكي يشهر بابن شعبان" أنه يطلب الترجيح في هذا كما قيل إذا كان الجارح أقل من المعدل "لكنه" أي ابن شعبان "غير مشهور ولا يعرف له تابع فلا ينفيه" أي قول ابن شعبان الإجماع ولكن لقائل أن يقول إذا كان ثمة قائل بعدم تعين العمل بالتعديل إذا كان الجارح أقل بل يطلب الترجيح فهذا قائل أيضا بطريق أولى بعدم تعين العمل بالتعديل وطلب الترجيح إذا تساوى عدد الجارحين والمعدلين كما لا يخفى فينخدش دعوى الإجماع اللهم إلا أن يكون كل من هذين ذهب إلى ما قاله بعد انعقاد الإجماع على تقديم الجرح على التعديل إذا تساوى عدداهما ويجاب بأن الأمر على هذا لكن لم يتحقق قائل بطلب الترجيح إذا كان الجارح أقل "وأما وضع شارحه" أي كلام ابن الحاجب وهو القاضي عضد الدين "مكان" وقيل "الترجيح التعديل" أي قوله وقيل بل التعديل مقدم "فلا يعرف قائل بتقديم التعديل مطلقا" وأوله الأبهري بما لا طائل تحته وقال الكرماني وفي بعض النسخ بل التجريح مقدم وهو موافق لكلام الشارحين والمصنف أيضا قلت وهذا أعجب فإنه عين الأول ولعله توهم أنه الترجيح "والخلاف عند إطلاقهما" أي الجرح والتعديل بلا تعيين سبب "أو(4/203)
تعيين(4/204)
ص -333-…الجارح سببا لم ينفه المعدل أو نفاه" المعدل "بطريق غير يقيني لنا في تقديم الجرح عدم الإهدار" لكل من الجرح والتعديل بل الجمع بينهما "فكان" تقديمه "أولى أما الجارح فظاهر" لأنا قدمناه "وأما قول المعدل فلأنه ظن العدالة لما قدمناه" من أن التزام الإسلام ظاهر في اجتناب محظورات دينه "ولما يأتي" من أن العدالة يتصنع في إظهارها فتظن وليست بثابتة "ورد ترجيح العدالة بالكثرة" للمعدلين "بأنهم وإن كثروا ليسوا مخبرين بعدم ما أخبر به الجارحون" ولو أخبروا به لكانت شهادة باطلة على نفي ذكره الخطيب قال المصنف "ومعنى هذا أنهم" أي المعدلين والجارحين "لم يتواردوا في التحقيق" على محل واحد فلا تعارض بين خبريهما "فأما إذا عين" الجارح "سبب الجرح" بأن قال قتل فلان يوم كذا "ونفاه المعدل يقينا" بأن قال رأيته حيا بعد ذلك اليوم "فالتعديل" أي تقديمه على الجرح "اتفاق وكذا" يقدم التعديل على الجرح "لو قال" المعدل "علمت ما جرحه" أي الجارح للشاهد أو الراوي "به" من القوادح "وأنه" أي المجروح "تاب عنه" أي عما جرح به هذا وفي حكاية الاتفاق على تقديم التعديل في هاتين الصورتين أو الأولى نظر فإن الذي في الصورة الأولى في أصول ابن الحاجب وشروحه وكانت النسخة عليه أولا أيضا فالترجيح وقالوا لعدم إمكان الجمع وفي شرح السبكي والأظهر أنها من مواقع الخلاف انتهى نعم رجحان التعديل في الصورتين متجه كما هو غير خاف إن شاء الله تعالى والله سبحانه أعلم.
مسألة(4/205)
"أكثر الفقهاء ومنهم الحنفية و" أكثر "المحدثين" ومنهم البخاري ومسلم "لا يقبل الجرح إلا مبينا" سببه كأن يقول الجارح فلان شارب خمر أو آكل ربا "لا التعديل وقيل بقلبه" أي لا يقبل التعديل إلا مبينا سببه كأن يقول المعدل فلان مجتنب للكبائر والإصرار على الصغائر وخوارم المروءة ويقبل الجرح بلا ذكر سببه "وقيل" يكفي الإطلاق "فيهما" أي الجرح والتعديل "وقيل لا" يكفي الإطلاق وقال "القاضي" أبو بكر قال "الجمهور من أهل العلم إذا جرح من لا يعرف الجرح يجب الكشف" عن ذلك "ولم يوجبوه" أي الكشف "على علماء الشأن قال ويقوى عندنا تركه" أي الكشف عن ذلك "إذا كان الجارح عالما كما لا يجب استفسار المعدل" عما به صار عنده المزكى عدلا "وهذا ما يخالف ما عن إمام الحرمين إن كان" كل من المعدل والجارح "عالما كفى" الإطلاق "فيهما" أي الجرح والتعديل "وإلا" لو لم يكن عالما "لا" يكفي الإطلاق فيهما كما ذكره ابن الحاجب وغيره واختاره الغزالي والرازي والخطيب "في الاكتفاء في التعديل بالإطلاق" عن شرط العلم به فإنه على قول القاضي يكتفى فيه بالإطلاق من غير شرط كون المعدل عالما وعلى قول الإمام لا يكتفى فيه بالإطلاق إلا إذا كان المعدل عالما "أو" هذا "مثله" أي ما عن الإمام من القول المذكور بناء على إرادة تقييد المعدل بالعلم "فما نسب إلى القاضي من الاكتفاء بالإطلاق" في الجرح كما وقع للإمام والغزالي في المنخول "غير ثابت" عن القاضي بل كما قال الشيخ زين الدين العراقي الظاهر أنه وهم منهما والمعروف عنه أنه لا يجب ذكر سبب واحد منهما إذ كان كل من الجارح(4/206)
ص -334-…والمعدل بصيرا كما مشى عليه الغزالي في المستصفى وحكاه عنه الرازي والآمدي ورواه الخطيب "ويبعد من عالم القول بسقوط رواية أو ثبوتها بقول من لا خبرة عنده بالقادح وغيره" بل كما قال السبكي لا يذهب محصل إلى قبول ذلك مطلقا من رجل غمر جاهل لا يعرف ما يجرح به ولا ما يعدل به وقد أشار إلى هذا القاضي "وما أوردوه من دليله" أي القاضي "إن شهد" الجارح "من غير بصيرة لم يكن عدلا" لإطلاق الكلام حينئذ بمجرد التشهي. "والكلام فيه" أي والحال أن الكلام إنما هو في العدل "فيلزم أن لا يكون" الجارح "إلا ذا بصيرة فإن سكت" الجارح عن البيان "في محل الخلاف" أي الموضع المختلف في أنه هو سبب الجرح "فمدلس" وهو قادح في عدالته وغير خاف أن ما أوردوه مبتدأ خبره "يفيد أن لا بد من بصيرة عنده" أي القاضي "بالقادح وغيره بالخلاف فيما فيه" الخلاف من أسباب الجرح والتعديل "وكذا ما أجابوا به" أي القاضي "من أنه" أي الجارح "قد يبني على اعتقاده" فيما يراه جرحا حقا "أو لا يعرف الخلاف" فلا يكون مدلسا "فرع أن له" أي للجارح "علما غير أنه قد لا يعرف الخلاف فيجرحه أو يعدله بما يعتقده وهو مخطئ فيه لكن دفع بأن كونه لا يعرف الخلاف خلاف مقتضى بصره، والحاصل أنه لا وجود لذلك القول" أي سقوط رواية أو ثبوتها بقول من لا خبرة عنده بالقادح وغيره "فيجب كون الأقوال على تقدير العلم" للمعدل والجارح فيكون "أربعة فقائل" يقول "لا يكفي" الإطلاق من العالم "فيهما" أي الجرح والتعديل "للاختلاف" بين العلماء في سببهما. "ففي التعديل جواب أحمد بن يونس في تعديل عبد الله العمري" إنما يضعفه رافضي مبغض لآبائه لو رأيت لحيته وخضابه وهيئته لعرفت أنه ثقة فاستدل على ثقته بما ليس بحجة لأن حسن الهيئة يشترك فيها المعدل والمجروح "وفي الجرح" الاختلاف في سببه "كثير كشعبة" أي كجرحه "بالركض" كما تقدم "وغيره" أي وبسماع الصوت من منزل المنهال بن عمرو للمنهال وخصوصا إن كان(4/207)
قراءة بألحان كما ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه فلو أثبت بالإطلاق لكان مع الشك به واللازم باطل "والجواب" عن هذا "بأن لا شك" في ثبوته به "مع إخبار العدل" لأن قوله يوجب الظن وأنه لو لم يعرف لم يقل "مدفوع بأن المراد" بالشك "الشك الآتي من احتمال الغلط في العدالة للتصنع" في إظهارها بالتكلف في الاتصاف بالفضائل والكمالات فيتسارع الناس إليها بناء على الظاهر وهذا هو الموعود به في التي قبل هذه بقوله ولما يأتي "واعتقاد ما ليس قادحا قادحا في الجرح، والعدالة لا تنفيه" أي الغلط المذكور "والجواب أن قصارى" أي غاية "العدل الباطن الظن القوي بعدم مباشرة الممنوع" شرعا "لتعذر العلم" بعدم المباشرة المذكورة "والجهل بمفهوم العدالة ممتنع عادة من أهل الفن ولا بد في إخباره" أي المعدل "من تطبيقه" أي مفهوم العدالة "على حال من عدله فأغنى" مجموع هذا "عن الاستفسار" منه عن سببها "ويقطع بأن جواب أحمد" بن يونس المذكور "استرواح لا تحقيق إذ لا نشك أنه لو قيل له ألحسن اللحية وخضابها دخل في العدالة؟ نفاه" أي أن يكون لها دخل في مفهومها "وقائل" يقول "يكفي" الإطلاق "فيهما" أي الجرح والتعديل "من العالم لا من غيره" وقيد به ليتبين دخول قول الإمام(4/208)
ص -335-…في هذا القسم حيث قال "وهو مختار الإمام تنزيلا لعلمه منزلة بيانه" وإلا فقد علم أنه شرط في كل الأقوال "وجوابه في الجرح ما تقدم" من أن الاختلاف في أسباب الجرح كثير بخلاف العدالة "وقائل" يقول يكفي الإطلاق "في العدالة فقط للعلم بمفهومها اتفاقا فسكوته كبيانه بخلاف الجرح" فإن أسبابه كثيرة وبعضها مختلف فيه "وهو" أي هذا القول "مذهب الجمهور وهو الأصح وقائل" يقول "قلبه" أي يكفي الإطلاق في الجرح لا في العدالة "للتصنع في العدالة والجرح يظهر وتقدم" جوابه مرتين "ويعترض على الأكثر بأن عمل الكل" من أهل الشأن "في الكتب على إبهام" سبب "التضعيف إلا قليلا فكان" الاكتفاء بإطلاق الجرح "إجماعا والجواب" من ابن الصلاح عن هذا "بأنه" أي عملهم المذكور "أوجب التوقف عن قبوله" أي الراوي المضعف لأن ذلك يوقع فيه ريبة يوجب مثلها التوقف ثم من انزاحت عنه الريبة منهم ببحث عن حاله أوجب الثقة بعدالته قبلنا حديثه ولم نتوقف كمن احتج به البخاري ومسلم وغيرهما ممن مسهم مثل هذا الجرح من غيرهم "يوجب قبول" الجرح "المبهم إذ الكلام فيمن عدل وإلا فالتوقف لجهالة حاله ثابت وإن لم يجرح بل الجواب أن أصحاب الكتب المعروفين عرف منهم صحة الرأي في الأسباب" الجارحة فأوجب جرحهم المبهم التوقف عن العمل بالمجروح "حتى لو عرف" الجارح منهم "بخلافه" أي خلاف الرأي الصحيح في الأسباب الجارحة "لا يقبل" جرحه "فلا يتوقف" في قبول ذلك المجروح حينئذ والله تعالى أعلم.
مسألة(4/209)
"الأكثر على عدالة الصحابة" فلا يبحث عنها في رواية ولا شهادة "وقيل" هم "كغيرهم" فيهم العدول وغيرهم "فيستعلم التعديل بما تقدم" من التزكية وغيرها إلا من كان مقطوعا بعدالته كالخلفاء الأربعة أو ظاهرها "وقيل" هم "عدول إلى الدخول في الفتنة" في آخر عهد عثمان كما عليه كثير وقيل من حين مقتل عثمان وقال القاضي عضد الدين ما بين علي ومعاوية قال الأبهري وإنما قال هذا وإن كان من مذهب هذا القائل أنه لا تقبل رواية الداخل في فتنة عثمان أيضا تنبيها على أن الفتنة بينهما كانت بسبب قتل عثمان "فتطلب التزكية" لهم من وقتئذ "فإن الفاسق من الداخلين غير معين ونقل بعضهم" أي القاضي عضد الدين "هذا المذهب بأنهم كغيرهم إلى ظهورها فلا يقبل الداخلون مطلقا" أي من الطرفين "لجهالة عدالة الداخل والخارجون" منها "كغيرهم" يحتمل قوله إلى ظهورها أمرين عدم قبولهم إلا بعد ثبوت عدالتهم بالبحث عنها وعدم القبول مطلقا فإن أراد الأول كما أشار إليه قوله "إن أراد أنه يبحث عنها" أي عدالتهم "بعد الدخول وهو" أي البحث عنها بعده "منقول" عن بعضهم "ففاسد التركيب" إذ حاصله: هم كغيرهم إلى ظهورها فهم كغيرهم "وحاصله المذهب الثاني وليس ثالثا" إذ معناه حينئذ أنهم كغيرهم مطلقا وإن أراد الثاني كما أشار إليه قوله "وإن أراد لا يقبل بوجه فشقه الأول" ينبغي أن يكون: فهم "عدول" إلى: ظهورها فلا يقبلون لأنهم "كغيرهم" ثم لا قائل بأنهم لا يقبلون أصلا "وقالت المعتزلة عدول إلا من قاتل(4/210)
ص -336-…عليا لنا" على المختار وهو الأول قوله تعالى: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]" الآية مدحهم تعالى فدل على فضلهم "ولا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" كما في الصحيحين وغيرهما وهذا من أبلغ الأدلة وأوضحها على عظيم فضلهم "وما تواتر عنهم من مداومة الامتثال" للأمر والنهي وبذلهم الأموال والأنفس في ذلك فإن هذه الأمور أدل دليل على العدالة "ودخولهم في الفتن بالاجتهاد" أي اجتهدوا فيها فأدى اجتهاد كل إلى ما ارتكبه وحينئذ فلا إشكال سواء كان كل مجتهد مصيبا كما هو ظاهر أو المصيب واحدا لوجوب العمل بالاجتهاد اتفاقا ولا تفسيق بواجب على أن ابن عبد البر حكى إجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أن الصحابة كلهم عدول وهذا أولى من حكاية ابن الصلاح إجماع الأمة على تعديل جميع الصحابة نعم حكايته إجماع من يعتد بهم في الإجماع على تعديل من لابس الفتن منهم حسن. وقال السبكي و القول الفصل أنا نقطع بعدالتهم من غير التفات إلى هذيان الهاذين وزيغ المبطلين وقد سلف اكتفاؤنا في العدالة بتزكية الواحد منا فكيف بمن زكاهم علام الغيوب الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء في غير آية وأفضل خلق الله الذي عصمه الله عن الخطأ في الحركات والسكنات محمد صلى الله عليه وسلم في غير حديث ونحن نسلم أمرهم فيما جرى بينهم إلى ربهم جل وعلا ونبرأ إلى الملك سبحانه ممن يطعن فيهم ونعتقد أن الطاعن على ضلال مهين وخسران مبين مع اعتقادنا أن الإمام الحق كان عثمان وأنه قتل مظلوما وحمى الله الصحابة من مباشرة قتله فالمتولي قتله كان شيطانا مريدا ثم لا نحفظ عن أحد منهم الرضا بقتله إنما المحفوظ الثابت عن كل منهم إنكار ذلك ثم كانت مسألة الأخذ بالثأر اجتهادية رأى علي كرم الله وجهه التأخير مصلحة ورأت عائشة رضي(4/211)
الله عنها البدار مصلحة وكل جرى على وفق اجتهاده وهو مأجور إن شاء الله تعالى. ثم كان الإمام الحق بعد ذي النورين عليا كرم الله وجهه وكان معاوية رضي الله عنه متأولا هو وجماعته ومنهم من قعد عن الفريقين وأحجم عن الطائفتين لما أشكل الأمر وكل عمل بما أدى إليه اجتهاده والكل عدول رضي الله عنهم فهم نقلة هذا الدين وحملته الذين بأسيافهم ظهر وبألسنتهم انتشر ولو تلونا الآي وقصصنا الأحاديث في تفضيلهم لطال الخطاب فهذه كلمات من اعتقد خلافها كان على زلل وبدعة فليضمر ذو الدين هذه الكلمات عقدا ثم ليكف عما جرى بينهم فتلك دماء طهر الله منها أيدينا فلا نلوث بها ألسنتنا انتهى. والحاصل أنهم خير الأمة وأن كلا منهم أفضل من كل من بعده وإن رقي في العلم والعمل خلافا لابن عبد البر في هذا حيث قال قد يأتي بعدهم من هو أفضل من بعضهم والله سبحانه أعلم.
"ثم الصحابي" أي من يطلق عليه هذا الاسم "عند المحدثين وبعض الأصوليين من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مسلما ومات على إسلامه" قال شيخنا الحافظ والمراد باللقاء ما هو أعم من المجالسة والمماشاة ووصول أحدهما إلى الآخر وإن لم يكلمه، ويدخل فيه رؤية أحدهما الآخر سواء كان بنفسه أو بغيره انتهى وذلك بأن يحمل صغيرا إليه صلى الله عليه وسلم لكن هل تمييز(4/212)
ص -337-…الملاقي له شرط حتى لا يدخل الأطفال الذين حنكهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلاقوه مميزين ولا من رآه وهو لا يعقل أم ليس بشرط فيدخلون. فيه تردد قال الشيخ زين الدين العراقي ويدل على اعتبار التمييز مع الرؤية ما قاله شيخنا الحافظ أبو سعيد العلائي في كتاب المراسيل في ترجمة عبد الله بن الحارث بن نوفل حنكه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له ولا صحبة له بل ولا رؤية وحديثه مرسل أيضا وفي ترجمة عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري حنكه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له ولا تعرف له رؤية بل هو تابعي وحديثه مرسل انتهى وخرج ب "مسلما" من لقيه كافرا سواء لم يسلم بعد ذلك أو أسلم بعد حياته أو لم يلقه أو بعد وفاته وبقوله ومات على إسلامه من لقيه مسلما ثم ارتد ومات على ردته كعبد الله بن خطل وهذا بناء على أن المراد تعريف من يسمى صحابيا بعد انقراض الصحابة لا مطلقا وهو كذلك وإلا لزمه أن لا يسمى الشخص صحابيا حال حياته ولا يقول بذلك أحد "أو" لقيه "قبل النبوة ومات قبلها على الحنيفية كزيد بن عمرو بن نفيل" فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم يبعث أمة وحده وذكره ابن منده في الصحابة وعلى هذا فينبغي أن يترجم في الصحابة القاسم بن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ولد ومات قبل النبوة فإن قلت إنما لم يترجموه فيهم لاشتراط تمييز الملاقي كما يدل عليه ما تقدم قلت فيشكل بترجمتهم في الصحابة لإبراهيم وعبد الله ابنيه صلى الله عليه وسلم "أو" لقيه مسلما "ثم ارتد وعاد" إلى الإسلام "في حياته" صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن أبي سرح إذ لا مانع من دخوله في الصحبة ثانيا بدخوله الثاني في الإسلام "وأما" لو لقيه مسلما ثم ارتد وعاد إلى الإسلام "بعد وفاته" صلى الله عليه وسلم "كقرة" بن هبير "والأشعث" بن قيس "ففيه نظر و الأظهر النفي" لصحبته لأن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم من أشرف الأعمال وحيث كانت الردة محبطة للعمل عند أبي حنيفة ونص(4/213)
عليه الشافعي في الأم فالظاهر أنها محبطة للصحبة المتقدمة وذهب شيخنا الحافظ إلى أن الأصح أن اسم الصحبة باق للراجع إلى الإسلام سواء رجع للإسلام في حياته أم بعده سواء لقيه ثانيا أم لا قال ويدل على رجحانه قصة الأشعث بن قيس فإنه كان ممن ارتد وأتي به إلى أبي بكر الصديق أسيرا فعاد إلى الإسلام فقبل منه ذلك وزوجه أخته ولم يتخلف أحد عن ذكره في الصحابة ولا عن تخريج أحاديثه في المسانيد وغيرها انتهى. والأول أوجه دليلا.
"و" عند "جمهور الأصوليين من طالت صحبته" للنبي صلى الله عليه وسلم "متتبعا" له "مدة يثبت معها إطلاق صاحب فلان عرفا" عليه "بلا تحديد" لمقدارها بمقدار مخصوص "في الأصح وقيل" مقدارها "ستة أشهر" فصاعدا ذكره المايمرغي والله تعالى أعلم بوجهه "وابن المسيب" مقدارها "سنة أو غزو" معه وعلل بأن لصحبة النبي صلى الله عليه وسلم شرفا عظيما فلا تنال إلا باجتماع طويل يظهر فيه الخلق المطبوع عليه الشخص كالسنة المشتملة على الفصول الأربعة التي يختلف فيها المزاج والغزو المشتمل على السفر الذي هو قطعة من العذاب ويسفر فيه أخلاق الرجل وفيه ما لا يخفى ثم لو لم يلزمه إلا أنه لا يعد من الصحابة جرير بن عبد الله البجلي ومن شاركه في انتفاء هذا الشرط مع كونهم لا خلاف في عدهم من الصحابة لكفى في ضعفه "لنا" على المختار وهو قول جمهور الأصوليين "إن المتبادر من" إطلاق "الصحابي وصاحب(4/214)
ص -338-…فلان العالم ليس إلا ذاك" أي من طالت صحبته إلى آخره "فإن قيل يوجبه" أي كون الصحابي من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ساعة "اللغة" لاشتقاقه من الصحبة وهي تصدق على كل من صحب غيره قليلا كان أو كثيرا "قلنا" إيجاب اللغة ذلك "ممنوع فيما بياء النسبة ولو سلم" إيجاب اللغة ذلك فيما بياء النسبة أيضا فقد تقرر للأئمة عرف في أنهم لا يستعملون هذه التسمية إلا فيمن كثرت صحبته واتصل لقاؤه على ما تقدم ولا يجرون ذلك على من لقي المرء ساعة ومشى معه خطى وسمع منه حديثا وإذا كان كذلك "فالعرف مقدم ولذا" أي تقدمه على اللغة "يتبادر" هذا المراد العرفي من إطلاقه "قالوا الصحبة تقبل التقييد بالقليل والكثير يقال صحبه ساعة كما يقال" صحبه "عاما فكان" وضعها "للمشترك" بينهما كالزيارة والحديث فإنهما لما احتملا القليل والكثير جعل الزائر والمحدث لمن اتصف بالقدر المشترك بينهما دفعا للمجاز والاشتراك "قلنا" هذا "غير محل النزاع قالوا لو حلف لا يصحبه حنث بلحظة قلنا" هذا "في غيره" أي غير محل النزاع أيضا "لا فيه" أي محل النزاع "وهو الصحابي بالياء" التي للنسبة "بل تحقق فيه" أي الصحابي "اللغة والعرف الكائن في نحو أصحاب الحديث وأصحاب ابن مسعود وهو" أي العرف المذكور "للملازم متتبعا" للملازم "اتفاقا ويبتنى عليه" أي الخلاف في الصحابي من هو "ثبوت عدالة غير الملازم فلا يحتاج إلى التزكية" كما هو قول المحدثين وبعض الأصوليين "أو" عدم ثبوتها وحينئذ "يحتاج" إلى التزكية كما هو قول جمهور الأصوليين "وعلى هذا المذهب جرى الحنفية كما تقدم" في مثل معقل بن سنان فجعلوا تزكيته عمل السلف بحديثه "ولولا اختصاص الصحابي بحكم" شرعي وهو عدالته "لأمكن جعل الخلاف في مجرد الاصطلاح" أي تسميته صحابيا كما ذكره ابن الحاجب "ولا مشاحة فيه" أي الاصطلاح لكن الاختصاص المذكور يفيد أنه معنوي "وأما قول إن الصحابي من عاصره" صلى الله عليه وسلم "فقط" وهو قول(4/215)
يحيى بن عثمان بن صالح المصري فإنه قال وممن دفن أي بمصر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن أدركه ولم يسمع منه أبو تميم الجيشاني واسمه عبد الله بن مالك انتهى، وإنما هاجر أبو تميم إلى المدينة في خلافة عمر باتفاق أهل السير "ونحوه" كأن كان صغيرا محكوما بإسلامه تبعا لأحد أبويه وعليه عمل ابن عبد البر في الاستيعاب وابن منده في معرفة الصحابة "فتكلف كتابته كثير" لانكشاف انتفاء الصحبة فيمن كان بهذه المثابة والله تعالى أعلم.
مسألة
"إذا قال المعاصر" للنبي صلى الله عليه وسلم "العدل أنا صحابي قبل على الظهور" لأن الظاهر أن وازع عدالته تمنعه من الكذب "لا" على "القطع لاحتمال قصد الشرف" بدعوى رتبة شريفة لنفسه "فما قيل" هو "كقول غيره" أي غير الصحابي "أنا عدل" كما في البديع "تشبيه في احتمال القصد" للشرف "لا تمثيل" في حكمه "وإلا" لو كان تمثيلا "لقبل" قوله أنا عدل فيحكم بعدالته "أو لم يقبل الأول" أي قول المعاصر العدل أنا صحابي فلا يحكم بصحابته "والفارق" بين قول الصحابي أنا صحابي وقول غيره أنا عدل في قبول الأول دون الثاني "سبق العدالة للأول على(4/216)
ص -339-…دعواه" الصحبة بخلاف الثاني فإنه لم يثبت عدالته قبل قوله أنا عدل ليقبل نعم لا بد أن يكون دعواه الصحبة لا ينافيها الظاهر، وأما لو ادعاها بعد مائة سنة من وفاته صلى الله عليه وسلم فإنها لا تقبل للحديث الصحيح "أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى أحد ممن هو على وجه الأرض" يريد انخرام القرن قاله في سنة وفاته ذكره الحافظ زين الدين العراقي وغيره.
مسألة
"إذا قال الصحابي قال عليه السلام حمل على السماع" منه صلى الله عليه وسلم بلا واسطة لأن الغالب من الصحابي أنه لا يطلق القول عنه إلا إذا سمعه منه "وقال القاضي يحتمله" أي السماع "والإرسال" لاحتمال الأمرين لفظ قال ومع هذا "فلا يضر إذ لا يرسل إلا عن صحابي" والصحابة كلهم عدول "ولا يعرف في" رواية "الأكابر عن الأصاغر روايتهم" أي الصحابة "عن تابعي إلا كعب الأحبار في الإسرائيليات" روى عنه العبادلة الأربعة وأبو هريرة ومعاوية وأنس ثم نقل هذا عن القاضي وفاقا لابن الحاجب والآمدي وتعقبه السبكي بأن الذي نص عليه القاضي في التقريب حمل قال على السماع ولم يحك فيه خلافا، قال السبكي بل ولا أحفظ عن أحد فيها خلافا "ولا إشكال في قال لنا وسمعته وحدثنا" وأخبرنا وشافهنا أنه محمول على السماع منه فهو خبر يجب قبوله بلا خلاف، "مع أنه وقع التأول في قول الحسن حدثنا أبو هريرة يعني" حدث أبو هريرة "أهل المدينة وهو" أي الحسن "بها" أي بالمدينة لكن قال ابن دقيق العيد هذا إذا لم يقم دليل قاطع على أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة لم يجز أن يصار إليه قال الشيخ زين الدين العراقي قال أبو زرعة وأبو حاتم من قال عن الحسن حدثنا أبو هريرة فقد أخطأ انتهى والذي عليه العمل أنه لم يسمع منه شيئا وهو منقول عن كثير من الحفاظ بل. قال يونس بن عبيد ما رآه قط. وقال ابن القطان حدثنا ليس بنص في أن قائلها سمع "وفي مسلم قول الذي يقتله الدجال أنت الدجال الذي حدثنا به رسول الله صلى(4/217)
الله عليه وسلم أي أمته وهو منهم" بناء على أنه لم يثبت ما في مسلم أيضا. قال أبو إسحاق يعني إبراهيم بن سفيان راوي مسلم يقال إن هذا الرجل هو الخضر وإن كان معمر ذكره في جامعه في أثر هذا الحديث أيضا ولا أن الخضر لقي النبي صلى الله عليه وسلم هذا والذي في الصحيحين "يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة فينزل بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه يومئذ رجل وهو خير الناس أو من خيار الناس فيقول أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه" "فإن قال سمعته أمر أو نهى" أوجبت هذه الزيادة نقصا في الحجة فجاء الخلاف "فالأكثر حجة" لظهوره في تحققه كذلك والعدل لا يجزم بشيء إلا إذا علمه "وقيل يحتمل أنه اعتقده" أي ما سمعه "من صيغة أو" شاهده من "فعل أمرا ونهيا وليس" ما اعتقده أمرا ونهيا "إياه" أي أمرا ونهيا "عند غيره" كما إذا اعتقد أن الأمر بالشيء نهي عن ضده فيقول نهى عن كذا والنهي عن الشيء أمر بضده أو أن الفعل يدل على الأمر فيقول أمر وغيره لا يراه نهيا ولا أمرا "ورده" أي هذا القول "بأنه احتمال بعيد صحيح" لمعرفتهم بأوضاع اللغة والفرق بين الأوامر والنواهي وما هو أدق منهما وعدالتهم المقتضية لتحرزهم في مواقع الاحتمال والاحتمالات(4/218)
ص -340-…البعيدة لا تمنع الظهور "أما أمرنا" بكذا كما في الصحيح عن أم عطية أمرنا أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور الحديث. "ونهينا" عن كذا كما في الصحيح عنها أيضا نهينا عن اتباع الجنائز. "وأوجب" علينا كذا وأبيح لنا أو رخص لنا كذا ببناء الجميع للمفعول "وحرم" علينا كذا "وجب أن يقوى الخلاف" فيه "للزيادة" للاحتمال فيه على ما تقدم "بانضمام احتمال كون الآمر بعض الأئمة أو" كون ذلك "استنباطا" من قائله فإن المجتهد إذا قاس فغلب على ظنه أنه مأمور بالحكم الذي أداه إليه قياسه يجب عليه العمل بموجبه ويقول عرفا أمرنا بكذا وكذا الباقي وقد ذهب إلى هذا الكرخي والصيرفي والإسماعيلي "ومع ذلك" أي احتماله لهذه الاحتمالات فهي "خلاف الظاهر إذ الظاهر من قول مختص بملك له الأمر ذلك" أي أن الآمر ذلك الملك فيكون ظاهرا في أن الآمر والناهي والموجب والمحرم والمبيح هو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذهب إليه الأكثر لا أنه لا خلاف فيه بين أهل النقل كما جزم به البيهقي وقيل هذا في غير الصديق أما إذا قاله الصديق فهو مرفوع بلا خلاف ثم ما عدا هذا الظاهر احتمال بعيد فلا يرفع الظهور "وقوله" أي أي الصحابي "من السنة كذا" كما في رواية ابن داسة وابن الأعرابي لسنن أبي داود أن عليا رضي الله عنه قال السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة. بل قول الراوي صحابيا كان أو غيره ذلك "ظاهر عند الأكثر في سنته عليه السلام" وقدمنا في تقسيم للحنفية الحكم إما رخصة... إلى آخره أن هذا قول أصحابنا المتقدمين وبه أخذ صاحب الميزان والشافعية وجمهور المحدثين "وتقدم للحنفية" أي لكثير منهم كالكرخي والرازي وأبي زيد وفخر الإسلام والسرخسي ومتابعيهم والصيرفي من الشافعية "أنه" أي هذا القول من الراوي صحابيا كان أو غيره "أعم منه" أي من كونه سنة النبي صلى الله عليه وسلم "ومن سنة" الخلفاء "الراشدين" وبينا ثمة بعون الله وتوفيقه الوجه من الطرفين.(4/219)
وإن الحافظ العراقي ذكر أن الأصح أنه من التابعين كما قال النووي موقوف ومن الصحابة ظاهر في مراده سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأن البيهقي والحاكم نفيا في هذا الخلاف وأن ابن عبد البر نفاه فيهما وأنه محمول على اطلاعهم على الخلاف فليتنبه له "ومثله" أي قول الصحابي من السنة، في الخلاف، في ثبوت الحجية قوله "كنا نفعل أو نرى وكانوا" يفعلون كذا فالأكثر أنه "ظاهر في الإجماع عندهم" أي الصحابة "وقيل ليس بحجة قالوا لو كان" حجة "لم تجز المخالفة لخرق الإجماع" واللازم منتف بالإجماع "والجواب" عن هذا "بأن مقتضى ما ذكر ظهوره" أي هذا القول "في نفي الإجماع أو" "لزوم نفيه" أي الإجماع "وهو" أي ظهوره في أحدهما "خلاف مدعاكم" أيها النافون للحجية لأن مدعاكم أنه ليس بحجة وهذا منكم إنما ينفي كونه إجماعا أو يلزم منه نفي كونه إجماعا ولا يلزم من كل منهما نفي الحجية ثم الجواب مبتدأ خبره "غير لازم لأن التساوي" في احتمال كونه حجة واحتمال كونه غير حجة "كاف به" أي في جواز المخالفة له لأن الحجية لا تثبت بالشك "بل هو" أي الجواب "أن ذلك" أي عدم جواز المخالفة إنما هو "في الإجماع القطعي الثبوت" أما في ظني الثبوت فلا وهذا ظني الثبوت "وأما رده" أي دليل الأكثر "بأنه لا إجماع في زمنه عليه السلام(4/220)
ص -341-…ففي غير محل النزاع إذ المدعى ظهوره" أي هذا القول "في إجماع الصحابة بعده" أي النبي صلى الله عليه وسلم "وبهذا" أي كونه ظاهرا في إجماع الصحابة بعده "ظهر أن قول الصحابي ذلك" أي كنا نفعل وكانوا يفعلون "وقف خاص" لأنه على جملة الصحابة "وجعله" أي كنا نفعل وكانوا يفعلون "رفعا" كما ذهب إليه الحاكم والإمام الرازي "ضعيف" إذ لا يلزم منه نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولا ولا عملا ولا تقريرا "حتى لم يحكه" أي القول بكونه رفعا "بعض أهل النقل فأما" قول الصحابي ذلك "بزيادة نحو: في عهده" أي النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن جابر كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم "رفع" لأن ظاهره حينئذ مشعر باطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقريرهم عليه وتقريره أحد وجوه السنن المرفوعة وقوله "لا يعرف خلافه إلا عن الإسماعيلي" فيه نظر قد ذهب أبو إسحاق الشيرازي وابن السمعاني إلى أنه إن كان لا يخفى غالبا فمرفوع وإلا فموقوف وحكى القرطبي أنه إن ذكره في معرض الاحتجاج كان مرفوعا وإلا فموقوف وقال نحوه في عهده ليشمل ما في لفظ لجابر في الصحيحين كنا نعزل والقرآن ينزل. "و" أما قول الصحابي ذلك "بنحو وهو يسمع فإجماع" كونه رفعا كقول ابن عمر كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ويسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينكره. رواه الطبراني في المعجم الكبير.
مسألة(4/221)
"إذا أخبر" مخبر خبرا "بحضرته عليه السلام فلم ينكر" صلى الله عليه وسلم ذلك عليه "كان" الخبر "ظاهرا في صدقه" أي مخبره فيه "لا قطعيا" وإلا لأنكره لو كان كاذبا لأن تقريره على الكذب الحرام ممتنع منه "لاحتمال أنه" صلى الله عليه وسلم "لم يسمعه" أي ذلك الخبر لاشتغاله عنه بما هو أهم منه "أو" سمعه لكن "لم يفهمه" لرداءة عبارة المخبر مثلا "أو كان" صلى الله عليه وسلم "بين نقيضه" أي ذلك الخبر وعلم أنه لا يفيد إنكاره "أو رأى تأخير الإنكار" لمصلحة في تأخيره "أو ما علم كذبه" لكونه دنيويا وهو صلى الله عليه وسلم قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" رواه مسلم "أو رآه" أي ذلك الخبر "صغيرة ولم يحكم بإصراره" أي المخبر عليها قالوا ولو قدر عدم جميع هذه الاحتمالات فالصغيرة غير ممتنعة على الأنبياء فجاز أن يكون من الصغائر ومع الاحتمال لا قطع بصدقه.
مسألة
"حمل الصحابي مرويه المشترك" لفظا أو معنى "ونحوه" كالمجمل والمشكل والخفي "على أحد ما يحتمله" من الاحتمالات "وهو" أي الحمل المذكور "تأويله" أي الصحابي لذلك "واجب القبول" عند الجمهور "خلافا لمشهوري الحنفية" ووجب القبول عند الجمهور "لظهور أنه" أي حمله المذكور "لموجب هو به أعلم" لأن الظاهر من حاله صلى الله عليه وسلم أنه لا ينطق باللفظ المشترك لقصد التشريع إلا ومعه قرينة حالية أو مقالية معينة مراده والصحابي الراوي الحاضر لمقاله الشاهد لأحواله أعرف بذلك من غيره "وهو" أي وجوب قبول تأويله "مثل تقليده في اللازم" يعني لازم وجوب تقليده في حكمه بالحكم ولازم وجوب الرجوع إلى تأويله واحد(4/222)
ص -342-…فالفرق بلا فارق والمراد بذلك اللازم ظهور أنه أخذه عنه صلى الله عليه وسلم وإن جاز خلافه لأن ذلك غالب أحوالهم فيحمل عليه إلا أن يترجح خلافه ذكره المصنف رحمه الله تعالى "و" حمل الصحابي مرويه "الظاهر على غيره" أي غير الظاهر حكمه ما يذكر: "فالأكثر" من العلماء منهم الشافعي والكرخي المعمول به هو "الظاهر" دون ما حمله عليه الراوي من تأويله "وقال الشافعي كيف أترك الحديث لقول من لو عاصرته لحاججته" أي الصحابي بظاهر الحديث وقيل يجب حمله على ما عينه الراوي وفي شرح البديع وهو قول بعض أصحابنا انتهى وهو اختيار المصنف وقال عبد الجبار وأبو الحسين البصري إن علم أن الصحابي إنما صار إلى تأويله المذكور لعلمه بقصد النبي صلى الله عليه وسلم له وجب العمل به وإن جهل أنه لذلك بل يجوز أن يكون لدليل ظهر له من نص أو قياس أو غيرهما وجب النظر في ذلك الدليل فإن اقتضى ما ذهب إليه صير إليه وإلا وجب العمل بظاهر الخبر لأن الحجة كلام النبي صلى الله عليه وسلم دون تأويل الصحابي واختار الآمدي أنه إن علم مأخذ الراوي في المخالفة وكان المأخذ مما يوجب حمل الخبر على ذلك المحمل وجب المصير إليه اتباعا لذلك الدليل لا لحمل الراوي عليه وعمله به لأن عمل أحد المجتهدين ليس بحجة على الباقي وإن جهل مأخذه عمل بالظاهر لأن الراوي عدل وقد جزم بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم والأصل في خبر العدل وجوب العمل به ما لم يقم دليل أقوى منه يوجب ترك العمل به ولم يثبت إذ كما يحتمل أن يكون لعلمه بأنه مراد النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون لنسيان طرأ عليه أو لدليل اجتهد فيه وهو مخطئ فلا يترك الظاهر بالشك أثم على كل تقدير لا يفسق الراوي بل تبقى روايته مقبولة في هذا الخبر وغيره لأنه عامل باجتهاده الذي يجب العمل به ولا فسق بإتيان الواجب.(4/223)
فإن قيل مخالفة الظاهر حرام فكيف يجب حمله على خلافه كما هو المختار عند المصنف "قلنا ليس يخفى عليه" أي الصحابي الراوي "تحريم ترك الظاهر إلا لما يوجبه" أي تركه "فلولا تيقنه" أي الراوي "به" أي بما يوجب تركه "لم يتركه ولو سلم" انتفاء تيقنه به "فلولا أغلبيته" أي أغلبية الظن بما يوجب تركه لم يتركه "ولو سلم" انتفاء أغلبية الظن بل إنما ظن ذلك ظنا لا غير "فشهوده" أي الراوي "ما هناك" أي لحال النبي صلى الله عليه وسلم عند مقاله "يرجح ظنه" بالمراد لقيام قرينة حالية أو مقالية عنده بذلك "فيجب الراجح وبه" أي وبشهوده ذلك "يندفع تجويز خطئه بظن ما ليس دليلا دليلا" فإنه بعيد منه ذلك مع عدالته وعلمه بالموضوعات اللغوية ومواقع استعمالها وحالة من صدر عنه ذلك بل الظاهر أن ذلك منه إنما هو الدليل في نفس الأمر أوجب ذلك وقد اطلع عليه.
"ومنه" أي ترك الظاهر لدليل "لا من العمل ببعض المحتملات تخصيص العام" من الصحابي "يجب حمله على سماع المخصص كحديث ابن عباس" مرفوعا "من بدل دينه فاقتلوه" رواه البخاري وغيره "وأسند أبو حنيفة" عن عاصم بن أبي النجود عن أبي رزين "عنه" أي ابن عباس ما معناه "لا تقتل المرتدة" إذ لفظه: "لا تقتل النساء إذا هن ارتددن عن(4/224)
ص -343-…الإسلام لكن يحبسن ويدعين إلى الإسلام ويجبرن عليه "فلزم" تخصيصه المبدل بكونه من الرجال لسماعه مخصصا له وهو إما نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء كما في الصحيحين وغيرهما وإما سماعه خصوص ذلك فقد أخرج الدارقطني عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل المرتدة إذا ارتدت" وفيه عبد الله بن عبس الجزري قال الدارقطني كذاب يضع الحديث أو ثبوت ذلك عنده بوجه غير سماعه نفسه له فقد ورد ذلك من طريق غيره من الصحابة هذا مذهب أصحابنا "خلافا للشافعي" ومالك وأحمد فقالوا يقتل عملا بالعموم الظاهر "فلو كان" المروي "مفسرا وتسميه الشافعية نصا على ما سلف" في التقسيم الثاني للمفرد باعتبار دلالته أوائل الكتاب "وتركه" أي الصحابي "بعد روايته لا إن لم يعرف تاريخ" لتركه وروايته له "تعين كون تركه لعمله بالناسخ" لأنه أجل من أن يخالف النص بغير دليل، ولا وجه لمخالفته له سوى اطلاعه على ناسخ له فيتعين. "فيجب اتباعه" في ترك العمل به خلافا للشافعي "وبه" أي كون ترك الراوي المروي المفسر وعمله بخلافه بعد روايته له إنما يكون لعلمه بالناسخ "يتبين نسخ حديث السبع من الولوغ" أي ما في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة مرفوعا "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب" "إذ صح اكتفاء" رواية "أبي هريرة بالثلاث" كما رواه الدارقطني بسند صحيح "فيقوى به" أي باكتفائه بالثلاث "حديث اغسلوه ثلاثا وممن رواه الدارقطني" ولكن لفظه عنه صلى الله عليه وسلم "في الكلب يلغ في الإناء يغسل ثلاثا أو خمسا" ثم قال تفرد به عبد الوهاب عن إسماعيل وهو متروك ثم إنما يقوى به وإن كان ضعيفا "لموافقته الدليل" كأنه يريد الدليل المشتمل على ذكر الثلاث في تطهير النجاسة "ولا خفاء في عدم اعتبار الضعف في نفس الأمر في مسماه" أي الضعيف "بل" إنما يعتبر "ظاهرا فإذا اعتضد" الضعيف بمؤيد له "ظهر أن ما ظهر غير الواقع كما يضعف ظاهر(4/225)
الصحة بعلة باطنة واحتمال ظن الصحابي ما ليس ناسخا ناسخا لا يخفى بعده فوجب نفيه" أي هذا الاحتمال لانتفاء الدليل الملجئ إلى اعتباره "قالوا النص واجب الاتباع قلنا نعم وهو الناسخ الذي لأجله ترك" المروي المفسر لا نفس المفسر "ومنه" أي ترك الصحابي مرويه بعد روايته له حتى يكون تركه نسخا لمرويه "ترك ابن عمر الرفع" لليدين فيما عدا تكبيرة الافتتاح من الصلاة "على ما صح عن مجاهد صحبت ابن عمر سنين فلم أره يرفع يديه إلا في تكبيرة الافتتاح" أخرجه ابن أبي شيبة بلفظ ما رأيت ابن عمر يرفع يديه إلا في أول ما يفتتح والطحاوي بلفظ صليت خلف ابن عمر فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى من الصلاة مع ما أخرج الستة عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه ثم كبر فإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك وإذا رفع من الركوع فعل مثل ذلك. وإن جهل تاريخ المخالفة للمروي لم يرد بها الحديث لأن الحديث حجة بيقين في الأصل ووقع الشك في سقوطه فلا يسقط بالشك وحملت على أنها كانت قبل الرواية حملا لأمره على أحسن الوجهين فإنه واجب ما أمكن وقد عرف من هذا أنه إذا كانت مخالفته قبل الرواية بيقين لا تكون مخالفته جرحا في الحديث إذ الظاهر من حال العدل أنه إذا كان الحكم(4/226)
ص -344-…المخالف للحديث مذهبا له ثم بلغه الحديث أنه يترك مذهبه ويرجع إلى العمل بالحديث.
"وكتخصيصه" أي الصحابي الراوي "العام تقييده للمطلق" فيجب حمله على سماع المقيد لإطلاقه "فإن لم يعلم عمله" أي الصحابي الراوي له "وعلم عمل الأكثر بخلافه" أي الخبر "اتبع الخبر" لأن غير الراوي جاز أن لا يكون عالما بذلك المروي ثم ليس قول الأكثر حجة فضلا عن أن يكون راجحا يترك به الخبر "ومن يرى حجية إجماع" أهل "المدينة" كمالك "يستثنيه" فيقول إلا أن يكون فيه إجماع أهل المدينة فالعمل بإجماعهم "كإجماع الكل" لأن الإجماع متقدم على خبر الواحد والحنفية لم يذكروا هذا القسم. وإنما ذكره الآمدي وموافقوه كابن الحاجب وصاحب البديع فذكره المصنف من غير حكاية خلاف للحنفية فيه حكما منه بأن ما ذكروه يوافق قول الحنفية أخذا من قولهم في الصحابي المجهول العين والحال إن قبل السلف حديثه أو سكتوا أو اختلفوا عمل بالحديث فعلم من القبول مع الاختلاف العمل به في ترك الأكثر لتحقق الاختلاف خصوصا مع الحكم بصحة الحديث وشهرة راويه ذكره المصنف رحمه الله تعالى "وترك الصحابة الاحتجاج به" أي بالحديث "عند اختلافهم مختلف في رده" أي الحديث "وهو" أي رده بتركهم الاحتجاج به عند احتياجهم إلى الاحتجاج به هو "الوجه إذا كان" الحديث "ظاهرا فيهم وأما عمل غيره" أي غير راوي الحديث "من الصحابة بخلافه" أي المروي "فالحنفية إن كان" الحديث "من جنس ما يحتمل الخفاء على التارك" للعمل به "كحديث القهقهة" المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق منها رواية أبي حنيفة عن منصور بن زاذان الواسطي عن الحسن عن معبد بن أبي معبد الخزاعي عنه صلى الله عليه وسلم قال: بينما هو في الصلاة إذ أقبل أعمى يريد الصلاة فوقع في زبية فاستضحك القوم فقهقهوا فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان منكم قهقه فليعد الوضوء والصلاة". "عن أبي موسى" الأشعري "تركه" أي العمل به "لا(4/227)
يضره" أي الحديث "إذ لا يستلزم" تركه قدحا في الحديث "مثل ترك الراوي" الصحابي مرويه المفسر بعد روايته له لجواز عدم اطلاعه عليه كما في وقوع القهقهة في الصلاة "لأنه" أي وقوعها في الصلاة "من الحوادث النادرة فجاز خفاؤه" أي الحديث "عنه" أي أبي موسى قلت لكن في تمثيلهم بهذا نظر ففي الأسرار قد اشتهر عن أبي العالية رواية هذا الحديث مرسلا ومسندا عن أبي موسى ورواه الطبراني بإسناد صحيح عنه مرفوعا فلا جرم أن قال "على أنه منع صحته" أي تركه "عنه" أي أبي موسى "بل" روى "نقيضه" أي نقيض ترك العمل به وهو العمل به عنه "أو لا" يكون الحديث "منه" أي جنس ما يحتمل الخفاء "كالتغريب" المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" رواه مسلم وغيره وهو إخراج الحاكم للمحصن الحر ذكرا كان أو أنثى إلى مسافة قصر فما فوقها وأول مدته ابتداء السفر كما هو مذكور في فروع الشافعية "تركه عمر بعد لحاق من غربه مرتدا" فأخرج عبد الرزاق عن ابن المسيب قال غرب عمر رضي الله عنه ربيعة بن أمية بن خلف في الشراب إلى خيبر فلحق بهرقل فتنصر فقال عمر لا أغرب بعده مسلما "فيقدح" ترك عمل غير الراوي له من الصحابة فيه "لاستلزامه" أي ترك العمل به حينئذ "ذلك" أي القدح فيه "أو(4/228)
ص -345-…أنه" أي التغريب "كان زيادة تعزير سياسة" شرعية إيحاشا للزاني وزيادة في تنكيله "إذ لا يخفى" كون التغريب من الحد "عنه" أي عن عمر "لابتناء الحد على الشهرة مع حاجة الإمام إلى معرفته فيفحص عنه وكفره" أي المغرب في بعض الوقائع "لا يحل تركه الحد وقد قال عمر للمؤلفة بعده عليه السلام حين فهم انتهاء حكمهم وهم أهل شوكة الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ومنعهم". فروى الطبري عنه أنه قاله لما أتاه عيينة بن حصن وأعقبه بقوله يعني ليس اليوم مؤلفة. "بقي قسم" لم يذكر في تقسيمهم وهو "محتمل لا يخفى" أي ما إذا لم يكن الحديث مما يحتمل الخفاء "وليس" الحكم الثابت به "من متعلقات" الصحابي الذي ليس براويه "التارك" للعمل به "التي تهمه" وتوجب له زيادة الفحص عنه قال المصنف "والوجه ليس" ترك عمل غير الراوي التارك له "كالراوي" أي كترك العمل به لراويه "لزيادة احتمال عدم بلوغه" أي الحديث الذي هو بهذه المثابة إلى تاركه الذي ليس براويه "وهو" أي هذا القسم بوجوب العمل بالحديث "أولى من الأكثر" أي من القسم الذي ترك الأكثر العمل "به" أي بوجوب العمل بالحديث للزيادة المذكورة وليطلب له مثال إن كان له وجود في نفس الأمر وإلا فلعلهم لم يذكروه لانتفاء مثاله في استقرائهم والله سبحانه أعلم.
مسألة(4/229)
"حذف بعض الخبر الذي لا تعلق له بالمذكور جائز" عند الأكثر "بخلاف" ما له تعلق به يخل بالمعنى حذفه مثل "الشرط" كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير". يعني الأمة غير المحصنة متفق عليه "والاستثناء" كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء" رواه مسلم "والحال" كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه شيء" رواه البخاري "والغاية" كقوله صلى الله عليه وسلم "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" متفق عليه فإنه لا يجوز حذفه لما فيه من فوات المقصود "وقيل لا" يجوز مطلقا "وقيل إن روى مرة على التمام" هو أو غيره الخبر جاز وإن لم يكن رواه على التمام هو ولا غيره لم يجز "وما قيل يمنع إن خاف تهمة الغلط" كما ذكر الخطيب حيث قال من روى حديثا على التمام وخاف إن رواه مرة أخرى على النقصان أن يتهم بأنه زاد في أول مرة ما لم يكن سمعه أو أنه نسي في الثاني باقي الحديث لقلة ضبطه وكثرة غلطه فواجب عليه أن ينفي هذه الظنة عن نفسه "فأمر آخر" لا دخل له في أصل الجواز الذي الكلام فيه "لنا إذا انقطع التعلق" بين المذكور والمحذوف "فكخبرين أو أخبار وشاع من الأئمة من غير نكير والأولى الكمال كقوله صلى الله عليه وسلم "المسلمون تتكافأ دماؤهم" أي تتساوى في القصاص والديات لا فضل لشريف على وضيع "ويسعى بذمتهم" أي بأمانهم "أدناهم" أي أقلهم "ويرد عليهم أقصاهم" أي يرد الأبعد منهم التبعة عليهم وذلك أن العسكر إذا دخل دار الحرب فاقتطع الإمام منهم سرايا وجهها للإغارة فما غنمته جعل لها ما سمى ويرد ما بقي لأهل العسكر لأن بهم قدرت السرايا على التوغل في دار الحرب وأخذ المال "وهم يد على من سواهم" أي كالعضو الواحد في اتحاد كلمتهم ونصرتهم وتعاونهم(4/230)
ص -346-…على جميع الملل المحاربة لهم رواه أبو داود وابن ماجه إلا أنه قال مكان ويرد عليهم أقصاهم ويجير عليهم أقصاهم ففسر الرد في تلك الرواية بالإجارة فالمعنى يرد الإجارة عليهم حتى يكون كلهم مجيرا يقال أجرت فلانا على فلان إذا حميته منه ومنعته.
مسألة
"المختار" كما هو مختار إمام الحرمين والغزالي والآمدي والإمام الرازي وابن الحاجب ورواية عن أحمد "أن خبر الواحد قد يفيد العلم بقرائن غير اللازمة لما تقدم" أي ما يلزم الخبر لنفسه أو للمخبر أو للمخبر عنه "ولو كان" المخبر "غير عدل لا" أنه يفيده "مجردا" عن القرائن "وقيل إن كان" المخبر "عدلا جاز" أن يفيد العلم "مع التجرد" عن القرائن لكن لا يطرد في خبر كل واحد عدل بمعنى أن كلما حصل خبر الواحد حصل العلم به بل قد يوجد خبر الواحد ولا يوجد العلم به وهو عن بعض المحدثين "وعن أحمد" في رواية أنه يفيد العلم مع التجرد عن القرائن لكن "يطرد" في خبر كل واحد عدل بمعنى أن كلما حصل خبر الواحد العدل حصل العلم به "وأول" العلم المفاد به مطردا "بعلم وجوب العمل لكن تصريح ابن الصلاح في مرويهما" أي صحيحي البخاري ومسلم "بأنه مقطوع بصحته" وسبقه إلى هذا محمد بن طاهر المقدسي وأبو نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق بن يوسف "ينفيه" أي هذا التأويل ثم ابن الصلاح ذهب إلى هذا "مستدلا بالإجماع على قبوله وإن كان" الإجماع "عن ظنون" أي ظن كل من أهل الإجماع "فظن معصوم" من الخطأ وظن من هو معصوم منه لا يخطئ والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ "والأكثر" من الفقهاء والمحدثين "لا" يفيد العلم "مطلقا" أي سواء كان بقرائن أو لا "لنا" في الأول وهو إفادة العلم بقرائن "القطع به في نحو إخبار ملك" من إضافة المصدر إلى المفعول أي فيما إذا أخبر واحد ملكا "بموت ولد" له "في النزع مع صراخ وانتهاك حرم" للملك "ونحوه" من خروج الملك وراء الجنازة على هيئة منكرة من تمزيق ثوب وحسر رأس واضطراب بال وتشويش حال إذ(4/231)
كل عاقل سمع هذا الخبر وشاهد هذه القرائن قاطع بصحة المخبر عنه وحاصل له العلم به كما يعلم صدق المتواتر "وفي الثاني" وهو عدم إفادة العلم مع عدم القرائن "لو كان" خبر الواحد مفيدا العلم بالقرائن "فبالعادة" إذ لا علية ولا ترتيب إلا بإجراء الله عادته بخلق شيء عقب آخر "فيطرد" لأن معناه الحصول دائما من غير اقتضاء عقلي وهو معنى الاطراد وانتفاء اللازم ضروري بالوجدان إذ كثيرا ما نسمع خبر العدل ولا يحصل لنا العلم القطعي "واجتمع النقيضان في الإخبار بهما" أي إخبار عدلين بنقيضين فإن إخبارهما بهما جائز بالضرورة بل واقع والمعلومان ثابتان في الواقع وإلا كان العلم جهلا وبطلان اجتماعهما ظاهر فإن استحالته بديهية وفي شرح أصول ابن الحاجب للسبكي وفيه نظر فإن القائل خبر الواحد يفيد العلم إنما يقوله إذا لم تكن قرينة الكذب موجودة لأنه يحكم على خبر العدل مجردا عن القرائن وقد يقال انضمام خبر عدل آخر إليه مناف له قرينة كذب أحدهما فلا يفيد والحالة هذه خبر واحد منهما علما "ووجب التأثيم" له بالاجتهاد لمخالفته اليقين حينئذ "وهو" أي وجوب التأثيم(4/232)
ص -347-…لمخالفه "منتف بالإجماع" هذا وقد قال المصنف التلازم في الدليل الثاني من أدلة المذهب المختار وهو عدم حصول العلم مع عدم القرائن من اقترانيين واستثنائي. بيانها: لو كان مفيدا للعلم لكان بالعادة ولو كان بالعادة لاطردت. ينتج من الاقتراني المركب من الشرطيات؛ لو كان مفيدا لاطرد؛ ثم يقال أيضا لو كان مفيدا لاطرد ولو اطرد لاجتمع النقيضان، ينتج من الاقتراني المركب من الشرطيات أيضا؛ لو أفاد لاجتمع النقيضان؛ وأما الثالث فباستثنائي فيقال لو أفاد لوجب التأثيم لكن لا فلا "الأكثر" قالوا "مفيده" أي العلم "القرائن فقد أخرجوا الخبر عن كونه جزء مفيد العلم" أي جزء علة الإفادة "ودفعه" أي هذا القول من أهل المذهب المختار "بأنه لولا الخبر لجوزنا موت" شخص "آخر" للملك غير ولده من أخيه وأبيه فلا يحصل الجزم بموت ولده بعينه "يفيد أن المقصود مجرد حصول العلم مع المجموع" من الخبر والقرائن ولكنهم لا يقدرون على إثبات الخبر جزء علة إفادة العلم "فإذا عجز عن إثباته" أي الخبر "جزء السبب" لإفادة العلم "لزم" كونه "شرطا" لإفادة العلم "وهو" أي كونه شرطا لإفادة العلم "عين مذهب الأكثر" لأن الكلام فيما مع الخبر من القرائن لا مجرد قرائن بلا خبر "فهو" أي هذا القول من أهل المختار "اعتراف به" أي بكونه شرطا "فأغناهم" أي هذا الاعتراف أهل المختار "عما نسبوه" أي الأكثر "إليهم" أي أهل المختار "من قولهم" أي الأكثر "دليلكم" أصحاب المختار "على نفيه" أي العلم عن خبر الواحد "بلا قرينة ينفيه" أي العلم عنه "بها" أي بالقرينة "وهو" أي دليلكم على نفيه "لو كان" خبر الواحد مفيدا للعلم بلا قرائن "أدى إلى النقيضين" أي تناقض المعلومين "إلى آخره" أي ولزوم الاطراد وتأثيم مخالفه "و" أغناهم عن "دفعه بأنه" أي الدليل المذكور "إنما يقتضي امتناعه" أي كون الخبر مفيدا للعلم "عنده" أي عند نفي القرينة "لا مطلقا" ليدخل فيه ما مع القرينة "لأن لزوم(4/233)
المتناقضين" إنما هو "بتقديره" أي عدم القرائن "أما الجواب بالتزام الاطراد في مثله" أي فيما فيه القرائن بأن يقال خبر كل عدل مع القرينة يوجب العلم كما ذكره القاضي عضد الدين وأشار إليه ابن الحاجب "فبعيد للقطع بأن ليس كل خبر واحد بقرائن يوجب العلم والدعوى" أي والحال أن الدعوى تفيد أن خبر الواحد "قد يوجبه" أي العلم "لا الكلية" أي لا أن كل خبر واحد يفيد العلم "لما نذكر" في جواب الواقعة المذكورة للملك من أنه لا شك أنه يجوز أن يثبت نقيضها بأن يرجعوا فيذكروا أنه لم يمت وإنما سكن وبرد فظن موته "فبإيجابه" أي الخبر العلم "يعلم أنه" أي الخبر "ذلك" الخبر الذي يفيد العلم بالقرائن يعني أن الدليل المثبت إفادة العلم للخبر المحفوف بالقرائن إني وهو الاستدلال بالأثر على المؤثر "كما في" الخبر "المتواتر يعرفه" أي كونه متواترا "أثره" أي إذا ثبت أثره وهو "العلم" ثبت أنه متواتر فكذا هنا إذا ثبت به العلم ثبت أنه ذلك الخبر المفيد للعلم بالقرائن "وحينئذ نمنع إمكان مثله" أي إخبار واحد آخر عدل "بالنقيض الآخر" لاستحالة ذلك "إلا لو وقع" الإخبار بالمتناقضين "في الأحكام الشرعية فيجوز لعدم حقيقة التعارض" فيها "للزوم اختلاف الزمان" فيها "فأحدهما منسوخ" والآخر ناسخ له "ويلتزم التأثيم" للمخالف للخبر المحفوف بالقرائن بالاجتهاد "لو وقع" الخبر المذكور "فيها" أي الأحكام الشرعية كما هو حكم سائر مفيدي العلم في الشرعيات لكنه لم يقع فيها "بخلافه"(4/234)
ص -348-…أي التأثيم "بخبر الواحد" فإنه غير ملتزم "للقطع بجواز إخبار اثنين بنقيضين بل" للقطع "بوقوعه فعلم به" أي بنفس إخبار اثنين بنقيضين "أنه" أي خبر الواحد "لا يفيده" أي العلم وإلا لم يقع منهما ذلك "وما قيل مثله" أي مثل هذا من جواز إخبار اثنين بمتناقضين "يقع فيما ذكر من إخبار الملك" بموت ابنه بأن يخبره مخبر بموته مع القرائن ثم يخبره آخر بأنه لم يمت وإنما اشتبه على المخبر والحاضرين وقامت القرائن على ذلك "يرد بأن ذاك" أي جواز إخبار اثنين بخبرين متناقضين للموت وهما موت ابنه وعدمه "عند عدم إفادته" أي الخبر الأول وهو الإخبار بموته العلم "الأول" وهو العلم به وهو إنما يكون مبنيا على مجرد الاعتقاد وهو لا يوجب التناقض لعدم استلزامه الثبوت في الواقع لأن المطابقة معتبرة في العلم فامتناع حصول العلم بنقيض ما علم ضروري "والطارد" لإفادته العلم "في مرويهما" أي الصحيحين قال "لو أفاد" مرويهما الظن لم يجمع على العمل به لكنه أجمع على العمل به فلم يفد الظن "أما الملازمة فللنهي عن اتباعه" أي الظن والنهي للتحريم "والذم عليه" أي على اتباعه قال تعالى "{وَلا تَقْفُ} [الاسراء: 36]" أي لا تتبع {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} "إن يتبعون إلا الظن" في معرض الذم فدل على حرمته "والجواب" عن هذا "الإجماع عليه" أي على العمل بخبر الواحد "للإجماع على وجوب العمل بالظن لا لإفادته" أي مرويهما "العلم بمضمونه والسمعي" أي لا تقف ما ليس لك به علم و إن يتبعون "مخصوص بالاعتقاديات" المطلوب فيها اليقين لا ما يطلب فيه العمل من أحكام الشرع وإن كان ظاهر السمعي العموم "وذلك الإجماع" القطعي على وجوب العمل بالظن "دليل وجود المخصص" في الاعتقاديات على غير قول الحنفية "أو الناسخ" للنهي عن اتباع الظن في غيرها على قواعد الحنفية "وما قيل لا إجماع" على العمل بخبر الواحد "للخلاف الآتي" في العمل به "ليس بشيء" معتبر "لاتفاق هذين(4/235)
المتناظرين على نقل إجماع الصحابة فيه" أي في العمل به.
"وقوله" أي الطارد "ظن معصوم قلنا إنما أفاده الإجماع على العمل وأين هو من كون خبر الواحد يفيد العلم فالحاصل إن ادعيت أن الإجماع على العمل" بخبر الواحد "لإفادة الخبر العلم منعناه" أي هذا المدعى "وهو" أي هذا المدعى "أول المسألة" فهو مصادرة على المطلوب "أو أنه" أي الإجماع على العمل بخبر الواحد "أفاد أن هذا الخبر المعين الذي أجمع على العمل به حق قطعا أمكن تسليمه ولا يفيد" المطلوب "إذ الأول" أي كون خبر الواحد يفيد العلم "هو المدعى لا الثاني" وهو أن هذا الخبر الذي أجمع على العمل به حق قطعا "وسواء كان" هذا المجمع على العمل به "منهما" أي الصحيحين "أو لا يكون" منهما "وقد يكون" خبر الوحد "منهما" أي الصحيحين "ولا يجمع عليه" أي العمل بمقتضاه لتكلم بعض أهل النقد فيه كالدارقطني قيل وجملة ما استدركه الدارقطني وغيره على البخاري مائة وعشرة أحاديث وافقه مسلم على إخراج اثنين وثلاثين حديثا منها أو لغير ذلك "فالضابط ما أجمع على العمل به" لا مرويهما بخصوصه "وهي" أي ما أجمع على العمل به.(4/236)
ص -349-…مسألة
"إذا أجمع على حكم يوافق خبرا قطع بصدقه" أي الخبر "عند الكرخي وأبي هاشم وأبي عبد الله البصري" في جماعة "لعملهم" أي أهل الإجماع "به" أي بالخبر الموافق لعملهم "وإلا" لو لم يقطع بصدقه "احتمل الإجماع الخطأ فلم يكن" الإجماع "قطعي الموجب" واللازم منتف لأنه لا إجماع على خطأ ولا يحتمل الخطأ "ومنعه" أي القطع بصدقه "غيرهم" وهو الجمهور فقالوا يدل على صدقه ظنا واختاره الآمدي وصاحب البديع "لاحتمال كونه" أي عملهم أو عمل بعضهم "بغيره" أي الخبر المذكور من الأدلة لا بذلك الخبر لاحتمال قيام الأدلة الكثيرة على المدلول الواحد وحينئذ لا يدل عملهم على صدقه لعدم علمهم به "ولو كان" عملهم "به" أي بذلك الخبر "لم يلزم احتمال الإجماع" للخطأ على تقدير كونه مفيدا للظن لأنه كاف في العمل به "للقطع بإصابتهم في العمل بالمظنون" كخبر الواحد والقياس ومع هذه الاحتمالات لا يقطع بصدقه وإنما يكون الغالب على الظن "وتحقيقه" كما أشار إليه الشيخ سراج الدين الهندي "أنه" أي الإجماع الموافق لحكمه "يفيد القطع بحقية الحكم ولا يستلزم القطع بصدق الخبر" بمعنى "أنه" أي الخبر بلفظه "سمعه فلان منه عليه السلام".
مسألة
"إذا أخبر" مخبر خبرا عن محسوس صرح به الآمدي "بحضرة خلق كثير وعلم علمهم بكذبه لو كذب ولم يكذبوه ولا حامل على السكوت" من خوف أو غيره فقيل لا يلزم من سكوتهم تصديقه لجواز أن يسكتوا عن تكذيبه لا لشيء والمختار أن يقال "قطعنا بصدقه بالعادة" لأن مع اختلاف أمزجتهم ودواعيهم ووجود هذين الشرطين يمتنع عادة السكوت عن تكذيبه لو كان كاذبا فانتفى قول السبكي والمختار ما ذهب إليه ابن السمعاني من اشتراط تمادي الزمن الطويل في ذلك انتهى.
مسألة(4/237)
"التعبد بخبر الواحد العدل" وهو أن يوجب الشارع العمل بمقتضاه على المكلفين "جائز عقلا خلافا لشذوذ" وهم الجبائي في جماعة من المتكلمين "لنا القطع بأنه" أي التعبد به لورود السمع به كأن يقول النبي صلى الله عليه وسلم اعملوا به إذا ظننتم صدقه وعرضناه على عقولنا علمنا قطعا أنه "لا يستلزم محالا" لذاته عقلا "فكان" التعبد به "جائزا" إذ لا معنى للجواز غير هذا وغاية ما يتصور في اتباعه من المحذور احتمال كونه كذبا أو خطأ فيلزم منه التعبد بكذب أو خطإ لكن هذا الاحتمال لا يمنع التعبد به إذ كان الصدق راجحا وإلا لامتنع التعبد به في العمل بشهادة الشاهدين وقول المفتي للعامي لتحقق هذا الاحتمال فيهما لكن هذا لا يمنع العمل بهما بالاتفاق فكذا لا يمنع من العمل بخبر الواحد "قالوا" التعبد به إن لم يكن ممتنعا لذاته فممتنع لغيره لأنه "يؤدي إلى تحريم الحلال وقلبه" أي تحليل الحرام فيما إذا روى واحد خبرا يدل على التحريم وآخر خبرا يدل على الحل وكان أحدهما راجحا وعمل به "لجواز خطئه و" يؤدي إلى "اجتماع(4/238)
ص -350-…النقيضين" إن تساويا وعمل بهما "فينتفي الحكم" وهو التعبد به "قلنا الأول" أي تأديته إلى تحريم الحلال وقلبه "منتف على إصابة كل مجتهد" إذ لا حلال ولا حرام في نفس الأمر بل هما تابعان لظن المجتهد ويختلف بالنسبة فيكون حلالا لواحد حراما لآخر "وعلى اتحاده" أي كون المصيب واحدا فقط "إنما يلزم" كون التعبد به مؤديا إلى ذلك "لو قطعنا بموجبه" أي خبر الواحد على أنه الموافق لما في نفس الأمر "لكنا" لا نقطع به بل "نظنه وهو" أي ظنه "ما" أي الذي "كلف" المجتهد به "ونجوز خلافه" أي المظنون ونقول الحق مع من وقع على ما في نفس الأمر ومخالفه على خطأ لكن الحكم المخالف لظن المجتهد ساقط عنه إجماعا للإجماع على وجوب متابعة ظن نفسه "ونجزم" في الثاني وهو كونه مؤديا إلى اجتماع النقيضين "بأن الثابت في المتعارضين أحد الحكمين فإن ظنناه" أحدهما "سقط الآخر" لأن المرجوح في مقابلة الراجح في حكم العدم فلا تناقض "وإلا" لو لم يظن أحدهما حتى انتفى الترجيح "فالتكليف بالتوقف" عن العمل بكل منهما إلى أن يظهر رجحان أحدهما فيعمل به كما هو مذهب جماعة منهم القاضي أبو بكر أو يتخير المجتهد بالعمل بأيهما شاء فإذا عمل بأحدهما سقط الآخر كما هو مذهب آخرين منهم الشافعي وكلاهما يمنع اجتماع المتناقضين "ولا يخفى أن الأول" أي قولهم التعبد به ممتنع لغيره لأنه يؤدي إلى التحريم الحلال وقلبه فإنه ممكن وذلك باطل وما يؤدي إلى الباطل لا يجوز عقلا كما ذكره هكذا القاضي عضد الدين "ليس عقليا بل مما أخذه العقل من الشرع فالمطابق الثاني" وهو لزوم اجتماع النقيضين فهو تعريض بما ذكره القاضي وقد أوضحه المصنف بحاشيته هنا فقال أي الأول لما لم يفد الامتناع العقلي واقتصر عليه بعضهم قرر على إرادة الامتناع العقلي لغيره لا لذاته باعتبار أنه يؤدي إلى خلاف الواقع وهو باطل وما يؤدي إلى الباطل باطل عقلا وليس بل ما يؤدي إلى الباطل العقلي أما الباطل الشرعي فما(4/239)
يؤدي إليه باطل شرعا والعقل إنما يحكم به أخذا من الشرع كما إذا أخذ أصلا غيره فيحكم بمقتضاه في محال تحققه فاختار المصنف إلزام اجتماع النقيضين ليصح وضع المسألة انتهى "وما عنهم" أي المخالفين "من قولهم لو جاز" التعبد به من حيث هو "جاز" التعبد به في العقائد "ونقل القرآن وادعاء النبوة بلا معجز" لأن المجوز للتعبد به ظن الصدق وهو موجود في هذه أيضا واللازم باطل بالاتفاق فكذا الملزوم "ساقط لأن الكلام في التجويز العقلي فنمنع بطلان التالي" فنقول بل يجوز التعبد به فيها أيضا عقلا "غير أن التكليف وقع بعدم الاكتفاء" بخبر الواحد "فيها" أما في العقائد فلما تقدم من النص السمعي المفيد لذلك في مسألة المختار أن خبر الواحد قد يفيد العلم وأما في نقل القرآن فلأنه من أعظم المعجزات الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فالدواعي متوفرة فحكمت العادة بكون إثباته قطعيا وأما في ادعاء النبوة فلأن العادة تحيل صدق مدعيها بغير معجزة دالة على صدقه لأنها أمر في نهاية العظمة وغاية الندرة والطباع مستبعدة لوقوعه بخلاف الفروع فإنه اكتفي فيها بالظن.(4/240)
ص -351-…مسألة
"العمل بخبر العدل واجب في العمليات، ومنعه الروافض وشذوذ" منهم أبو داود "لنا تواتر" العمل به "عن الصحابة في" آحاد "وقائع خرجت عن الإحصاء للمستقرين يفيد مجموعها" أي آحاد الوقائع "إجماعهم" أي الصحابة "قولا أو كالقول على إيجاب العمل عنها" أي أخبار الآحاد "فبطل إلزام الدور و" إلزام "مخالفة {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}" على تقدير الاستدلال به على المطلوب لأنا إنما أثبتناه بتواتر العمل بها لا بخبر واحد بالعمل بها والمتواتر ولو معنى يفيد العلم "و" إلزام "كون المستفاد" من هذه الوقائع "الجواز" أي جواز الاستدلال والعمل بأخبار الآحاد. والنزاع إنما هو في الوجوب لأن إيجابهم الأحكام بها يدل على وجوب العمل بها "على أنه لا قائل به" أي بالجواز "دون وجوب ومن مشهورها" أي أعمال الصحابة بأخبار الآحاد "عمل أبي بكر بخبر المغيرة" بن شعبة "ومحمد بن مسلمة في توريث الجدة" السدس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخرجه مالك وأحمد وأصحاب السنن وقال الترمذي حسن صحيح وصححه ابن حبان والحاكم "وعمر بخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس" وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر. كما في صحيح البخاري "وبخبر حمل" بالحاء المهملة والميم المفتوحتين "ابن مالك في إيجاب الغرة في الجنين" حيث قال كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى فقتلتها وجنينها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة عبد أو أمة وأن تقتل بها كما أخرجه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم "وبخبر الضحاك" بن سفيان "في ميراث الزوجة من دية الزوج" حيث قال كتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. أخرجه أحمد وأصحاب السنن "وقال الترمذي حسن صحيح وبخبر عمرو بن حزم في دية الأصابع" كما أفاده ما أسنده شيخنا الحافظ عن سعيد بن المسيب قال قضى عمر رضي الله عنه في الإبهام بثلاث عشرة وفي(4/241)
الخنصر بست حتى وجد كتابا عند آل عمرو بن حزم يذكرون أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه "وفيما هنالك من الأصابع عشر" ثم قال هذا حديث حسن أخرجه الشافعي والنسائي انتهى قلت فعلى هذا قول السبكي وأما رجوعه إلى كتاب عمرو بن حزم فحكاه الخطابي ولم يثبت لأنه لم يثبت عندنا أن كتاب عمرو بن حزم بلغ عمر وقد قال الشافعي لو بلغه لصار إليه وفي هذا القول دلالة على أنه لم يبلغه انتهى متعقب بهذا فليحرر ثم ممن روى كتاب عمرو بن حزم أحمد وأبو داود في المراسيل والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم. وقال يعقوب بن سفيان لا أعلم في جميع الكتب كتابا أصح من كتاب عمرو بن حزم كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرجعون إليه ويدعون آراءهم "و" عمل "عثمان وعلي بخبر فريعة" بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد الخدري "أن عدة الوفاة في منزل الزوج" كذا في شرح القاضي عضد الدين وهو كذلك بالنسبة إلى عثمان رضي الله عنه كما رواه مالك وأصحاب السنن وقال الترمذي حسن صحيح وصححه ابن حبان والحاكم وأما بالنسبة إلى علي رضي الله عنه فالله تعالى أعلم به "وما لا يحصى كثرة من الآحاد التي يلزمها العلم بإجماعهم على(4/242)
ص -352-…عملهم بها لا بغيرها ولا بخصوصيات فيها سوى حصول الظن فعلمناه" أي حصول الظن "المناط عندهم مع ثبوت إجماعهم بالاستقلال على خبر أبي بكر رضي الله عنه "الأئمة من قريش"" وقدمنا في البحث الأول من مباحث العموم أن شيخنا الحافظ قال ليس هذا اللفظ موجودا في كتب الحديث عن أبي بكر بل معناه "ونحن معاشر الأنبياء لا نورث" وقدمنا ثمة أيضا أن المحفوظ؛ إنا؛ كما رواه النسائي "والأنبياء يدفنون حيث يموتون" رواه بمعناه ابن الجوزي في الوفاء "وإنما يتوقفون عند ريبة توجب انتفاء الظن كإنكار عمر خبر فاطمة بنت قيس في نفي نفقة المبانة" كما تقدم تخريجه في مجهول العين والحال "وعائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء الحي" كما في الصحيحين "وأيضا تواتر عنه صلى الله عليه وسلم إرسال الآحاد إلى النواحي لتبليغ الأحكام" منهم معاذ فروى الجماعة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال: "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة" الحديث إلى غير ذلك مما يطول تعداده ولو لم يجب قبول خبرهم لم يكن لإرسالهم معنى "والاعتراض" على الاستدلال بهذه الأخبار "بأن النزاع إنما هو في وجوب عمل المجتهد" بخبر الواحد لا في جواز العمل به وهذه الأخبار إنما تدل على الجواز لا على الوجوب "ساقط" لأن إرسال النبي صلى الله عليه وسلم لتبليغ الأحكام "إذ أفاد وجوب عمل المبلغ بما بلغه الواحد" للعلم القطعي بتكليف المبعوث إليهم بالعمل بمقتضى ما يخبرهم به رسله "كان" إرساله "دليلا في محل النزاع" وهو وجوب عمل المجتهد بخبر الواحد وغيره وهو وجوب العمل على المبلغ الذي ليس بمجتهد لأن المبلغ قد يكون له أهلية الاجتهاد وقد لا يكون وعلى كل أن يعمل بمقتضاه ويدخل فيه ما لو أفاد اللفظ علية وصف فإن العمل به عمل بمقتضى ذلك اللفظ قاله(4/243)
المصنف ويلزم منه أن يكون خبر الواحد وإن لم يكن رسولا مفيدا لوجوب العمل على المجتهد وغيره.
"واستدل" من قبلنا للمختار "بقوله تعالى {فَلَوْلا نَفَرَ} [التوبة: 122] الآية" أي {مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} لأن الطائفة تصدق على الواحد وقد جعل منذرا ووجب الحذر بإخباره ولولا قبول خبره لما كان كذلك "واستبعد" الاستدلال بها "بأنه" أي النفر لإفتائهم بناء على أن المراد بالإنذار الفتوى بقرينة توقفه على التفقه إذا الأمر بالتفقه إنما هو لأجله والمتوقف على التفقه إنما هو الفتوى لا الخبر المخوف مطلقا "ويدفع" هذا الاستبعاد "بأنه" أي الإنذار "أعم منه" أي الإفتاء "ومن أخبارهم" ولا موجب للتخصيص المذكور ولا نسلم أن الإنذار متوقف على التفقه وبأنه يلزم منه تخصيص القوم بالمقلدين لأن المجتهد لا يقلد مجتهدا في فتواه بخلاف حمل الإنذار على ما هو أعم فإنه كما ينتفي تخصيص الإنذار ينتفي تخصيص القوم لأن الرواية ينتفع بها المجتهد في الأحكام والمقلد في الانزجار وحصول الثواب في مثلها إلى غيره "وأما {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ(4/244)
ص -353-…يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة: 174] الآية "فغير مستلزم" وجوب العمل بخبر الواحد بناء على أنه لو لم يكن له لما كان للإيعاد على الكتمان لقصد الإظهار فائدة "لجواز نهيهم عن الكتمان ليحصل التواتر بإخبارهم و {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات: 6] الآية" الاستدلال به من حيث إنه أمر بالتثبت في الفاسق فدل على أن العدل بخلافه استدلال "بمفهوم مختلف فيه" وهو مفهوم المخالفة وهو ضعيف "ولو صح كان ظاهرا ولا يثبتون به" أي بالظاهر "أصلا دينيا وإن كان" الأصل الديني "وسيلة عمل" وهذا كذلك لأن حاصله أمر اعتقادي وهو أن به تثبت الأحكام "قالوا توقف عليه السلام" لما انصرف من اثنتين في إحدى صلاتي العشي "في خبر ذي اليدين" أي الخرباق حيث قال "أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله فقال: "أصدق ذو اليدين" حتى أخبره غيره بأن قال الناس نعم فقام فصلى اثنتين أخريين" متفق عليه "قلنا" توقفه "للريبة" في خبره "إذ لم يشاركوه مع استوائهم في السبب" فإنه ظاهر في الغلط والتوقف في مثله وعدم العمل به واجب اتفاقا "ثم ليس" خبر ذي اليدين "دليلا على نفي خبر الواحد" أن يكون موجبا للعمل به "بل هو" أي خبر ذي اليدين دليل "لموجب الاثنين فيه" أي في العمل بخبر الواحد كما عن أبي علي الجبائي بناء على ما في رواية لهذا الحديث لذي اليدين نفسه رواها شيخنا الحافظ من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل ثم أقبل على أبي بكر وعمر فقال "ماذا يقول ذو اليدين" قالا صدق يا رسول الله فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاب الناس فصلى بهم ركعتين ثم سلم وسجد سجدتي السهو "وإلا فمعهما" أي خبري الاثنين "لا يخرج" الخبر الذي رواه الواحد "عن خبر الواحد وكونه"(4/245)
أي خبر ذي اليدين "ليس في محل النزاع" لأن النزاع إنما هو في تعبد1 الأمة بخبر الواحد منقولا عن الرسول وهذا ليس كذلك "لا يضر إذ يستلزمه" أي خبره محل النزاع لأن حاصله أنه خبر واحد عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم نقل إلى سيد المجتهدين فلم يعمل به غير أنه اتفق أن النبي المنقول عنه هو المجتهد الأعظم المنقول إليه وذلك لا أثر له في نفي كون توقفه دليلا على عدم العمل بخبر الواحد فليس الجواب إلا ما ذكرنا.
"قالوا قال تعالى {وَلا تَقْفُ} [الاسراء: 36]" فنهى عن اتباع الظن وأنه ينافي الوجوب ولا شك أن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن "والجواب" أن العمل ليس بالظن بل "بما ظهر من أنه" يجب العمل به "بمقتضى القاطع" وهو الإجماع على وجوب العمل بالظن "ومنهم من أثبته" أي وجوب العمل بخبر الواحد "بالعقل أيضا كأبي الحسين والقفال وأحمد وغيرهم" كابن سريج في جماعة "قال أبو الحسين العمل بالظن في تفاصيل معلوم الأصل واجب" عقلا "كإخبار واحد بمضرة طعام وسقوط حائط يوجب العقل العمل بمقتضاه للأصل المعلوم من
ـــــــــــــــــــ
1 في تعبد هكذا في الأصل ولعل المناسب في كون تعبد الخ ليستقيم قوله بعد منقولاً بالنصب وحرر كتبه مصححه.(4/246)
ص -354-…وجوب الاحتراس" عن المضار "فكذا خبر الواحد" يجب العمل به "للعلم بأن البعثة للمصالح ودفع المضار" ومضمون الخبر لا يخرج عنهما "وأجيب بأنه" أي هذا الدليل "بناء على التحسين" العقلي وقد أبطل وإنما اقتصر عليه لأن الكلام في الإيجاب "سلمناه" أي القول بالتحسين "لكنه" أي العمل بالظن في تفاصيل مقطوع الأصل "أولى عقلا" للاحتياط "لا واجب سلمناه" أي أن العمل به واجب "لكن في العقليات دون الشرعيات" ولا يجوز قياسها عليها لعدم التماثل وهو شرطه "سلمناه" أي أن العمل به واجب في الشرعيات أيضا بناء على أن كل ما هو علة للوجوب في العقليات فهو علة للوجوب في الشرعيات وصح قياس الشرعيات على العقليات "لكنه" أي هذا القياس "قياس تمثيلي يفيد الظن" والكلام إنما هو في أصل ديني لا يجوز ثبوته إلا بقطعي فلا يصح ثبوته بظني.
"قالوا" أي الباقون من مثبتيه بالعقل أيضا أولا خبر "يمكن صدقه فيجب العمل به احتياطا دفعا لمضرة قلنا لم يذكروا أصله" أي القياس "فإن كان" أصله الخبر "المتواتر فلا جامع" بينهما "لأن الوجوب فيه" أي المتواتر "للعلم" أي لإفادته العلم لا للاحتياط "وإن كان" أصله "الفتوى" من المفتي "فخاص بمقلده" أي فحكم المفتي خاص بمقلده فيها "وما نحن فيه" من حكم خبر الواحد "عام" في الأشخاص والأزمان "أو خاص بغير متعلقها" أي الفتوى فإن متعلقها المقلد وخبر الواحد خاص بالمجتهدين فهو خاص بغير متعلق الفتوى "فالمعدى غير حكم الأصل ولو سلم" عدم الفرق المؤثر وصحة القياس على الفتوى "فقياس كالأول" أي تمثيلي يفيد الظن والكلام إنما هو في أصل ديني لا يجوز ثبوته إلا بقطعي على أنه إذا كان أصله حكما شرعيا لم يكن عقليا بل شرعيا وهو خلاف مطلوبكم.(4/247)
"قالوا" ثانيا "لو لم يجب" العمل بخبر الواحد "لخلت أكثر الوقائع عن الأحكام" وهو ممتنع أما الأولى فلأن القرآن والمتواتر لا يفيان بالأحكام بالاستقراء التام المفيد للقطع وأما الثانية فظاهرة لأنه يفضي إلى خلاف مقصود البعثة "والجواب منع الملازمة بل الحكم في كل ما لم يوجد فيه من الأدلة وجوب التوقف فلم يخل" أكثر الوقائع عن الأحكام "فإن كان المنفي غيره" أي غير وجوب التوقف "منعنا بطلان التالي" أي امتناع خلو وقائع عن الحكم لأن عدم الدليل مدرك شرعي لعدم الحكم للإجماع على أن ما لا دليل فيه فهو منفي "وإذا لزم التوقف ثبتت الإباحة الأصلية فيه" أي في ذلك الشيء "على الخلاف" فيها كما عرف "ولا يخفى بعده" أي بعد عدم وجوب العمل بخبر الواحد "من حض الشارع" أي حثه كل من سمع شرعية حكم قاله "على نقل مقالته" بنحو ما سيأتي في رواية الحديث بالمعنى من قوله صلى الله عليه وسلم "نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها فحفظها فأداها كما سمعها" فلو كان حكم الخبر المنقول الوقف أدى إلى أن حضه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ من سمع الإيجاب لفائدة أن لا يعمل به وهكذا الندب والتحريم بل يتوقف وفي هذا من الفساد ما لا يخفى وحينئذ كان عدم النقل كالنقل فإن عدم العمل بحكم خاص والوقف عنه وثبوت الإباحة يحصل بعدم النقل ولا يمكن كون حضه صلى الله عليه وسلم لكل(4/248)
ص -355-…سامع ليحصل تواتر المنقول عنه "مع علمه بأن المنقول من سنته لا يصل منها إلى التواتر شيء" موافقة لمن ادعى عدم التواتر أصلا أو إلا حديث واحد أو حديثان وإلا كان أمره وحضه على ذلك لأمر لا يحصل وأنه مخطئ في ظن حصوله إلى وفاته على ذلك وهو صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ إلى وفاته كذا ذكره المصنف والظاهر أنه يشير باقتصار المتواتر على حديث إلى ما يفيده قول ابن الصلاح حديث "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" مثال لذلك إلى آخر كلامه من غير ذكر غيره من الأحاديث معه بل صرح بعزة وجوده إلا أن يدعي في هذا الحديث على ما نقله شيخنا الحافظ عنه وبقوله أو حديثان إلى هذا الحديث وحديث المسح على الخفين فإن ابن عبد البر جعله متواترا كما قدمناه في ذيل الكلام على المشهور لكن في كون المتواتر معدوما أو مقصورا على حديث أو حديثين تأمل وقد قال شيخنا الحافظ ما ادعاه ابن الصلاح من العزة ممنوع وكذا ما ادعاه غيره من العدم لأن ذلك نشأ من قلة اطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن يتواطئوا على كذب أو يحصل منهم اتفاقا ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر موجودا وجود كثرة في الأحاديث أن الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقا وغربا المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مصنفيها إذا اجتمعت على إخراج حديث وتعددت طرقه تعددا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب إلى آخر الشروط أفاد العلم اليقيني بصحة نسبته إلى قائله ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير ا هـ والله سبحانه أعلم "أو" لا يخفى "الأخيران" أي لزوم التوقف والإباحة الأصلية أي ما فيهما على تقدير عدم وجوب العمل بخبر الواحد "فإن عدم النقل يكفي في الوقف" عن الحكم بشيء خاص "و" في "ثبوت" الإباحة "الأصلية" فلا حاجة إلى ارتكاب هذا ليتحققا "بل الجواب أنه" أي الدليل المذكور "من قبيل" الدليل "النقلي الصحيح لا عقلي" على وزان ما ذكر في مسألة(4/249)
التعبد بخبر الواحد "ولمن شرط المثنى" في قبول الخبر "أنه" أي الخبر "به" أي باشتراطه "أولى من الشهادة لاقتضائه" أي الخبر "شرعا عاما بخلافها" أي الشهادة فإنها تقتضي أمرا خاصا "قلنا الفرق" بينهما في ذلك "وجود ما ليس في الرواية من الحوامل" عليها من عداوة وغيرها كما في الشهادة "أو" اشتراط المثنى في الشهادة "بخلاف القياس ولذا" أي وجود حوامل في الشهادة ليست في الرواية "اشترط لفظ أشهد مع ظهور انحطاطها" أي الرواية عن الشهادة "اتفاقا بعدم اشتراط البصر والحرية وعدم الولاء" في الرواية واشتراطها في الشهادة على خلاف في بعضها "قالوا" أي القائلون خبر الواحد لا يجب العمل به "رد عمر خبر أبي موسى في الاستئذان حتى رواه الخدري" أي في الصحيحين أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب ثلاثا فلم يؤذن له فرجع ففرغ عمر فقال ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ائذنوا له فقالوا رجع فدعاه فقال ما هذا فقال كنا نؤمر بذلك فقال لتأتيني على هذا ببينة فانطلق إلى مجلس الأنصار فسألهم فقالوا لا يشهد لك على ذلك إلا أصغرنا فانطلق أبو سعيد فشهد له فقال عمر لمن حوله خفي علي هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهاني الصفق بالأسواق "قلنا لريبة في خصوصه" أي خبر أبي موسى قال الخطيب في كتاب شرف(4/250)
ص -356-…أصحاب الحديث لم يتهم عمر أبا موسى وإنما كان يشدد في الحديث حفظا للرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا" في "عمومه" أي خبر الواحد "ولذا" أي كون توقف الصحابة عن العمل بخبر الواحد في بعض الصور لريبة لا لكونه خبر واحد "عملوا" أي الصحابة كلهم "بحديث عائشة في التقاء الختانين" كما يشير إليه حديث أبي موسى في صحيح مسلم.
مسألة
"الواحد في الحد مقبول وهو قول أبي يوسف والجصاص" خلافا للكرخي والبصري أبي عبد الله "وأكثر الحنفية" منهم شمس الأئمة وفخر الإسلام كذا في شرح المنار للكاكي وعزا الأول في شرحه لأصول فخر الإسلام إلى جمهور العلماء وأكثر أصحابنا "لنا عدل ضابط جازم في عملي فيقبل كغيره" أي كما في غير الحد من العمليات "قالوا تحقق الفرق" بينه وبين غيره من العمليات "بقوله" صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا أي ادفعوا الحدود بالشبهات" أخرجه أبو حنيفة "وفيه" أي خبر الواحد "شبهة" وهي احتمال الكذب فلا يقام الحد بخبره "قلنا المراد" بالشبهة التي يدرأ بها الحد الشبهة "في نفس السبب لا المثبت" للسبب "وإلا" لو كان المراد بها الشبهة في مثبت السبب "انتفت الشهادة وظاهر الكتاب فيه" أي في الحد لانتفاء القطع فيها إذ احتمال الكذب في الشهادة وإرادة غير ظاهر الكتاب فيه من تخصيص وإضمار ومجاز قائم لكن الحد يجب بهما اتفاقا "وإلزامه" أي هذا القول بأنه ينبغي أن يثبت "بالقياس" أيضا لأن وجوب العمل به ثابت بدلائل موجبة للعلم كخبر الواحد والشهادة "ملتزم عند غير الحنفية" وعندهم غير ملتزم "والفرق لهم" بين خبر الواحد والقياس في هذا "بأنه" أي الحد "ملزوم لكمية خاصة لا يدخلها الرأي" فامتنع إثباتها به بخلاف خبر الواحد فإنه كلام صاحب الشرع وإليه إثبات كل حكم فيجب قبوله.(4/251)
"تقسيم للحنفية" لخبر الواحد باعتبار محل وروده أي ما جعل الخبر فيه حجة "محل ورود خبر الواحد مشروعات ليست حدودا كالعبادات" من الصلاة والصوم والزكاة والحج وما هو ملحق بها مما ليس عبادة مقصودة كالأضحية أو معنى العبادة فيه تابع كالعشر أو ليس بخالص كصدقة الفطر والكفارات "والمعاملات وهو" أي خبر الواحد المشروط فيه ما تقدم من العقل والضبط والإسلام والعدالة من غير اشتراط عدد في الراوي "حجة فيها خلافا لشارطي المثنى لما تقدم من الجانبين" فيما قبل هذه المسألة التي هذا التقسيم في ذيلها لكن إن كان الخبر حديثا يشترط أن يكون غير مخالف للكتاب والسنة الثابتة ولا شاذا ولا مما تعم به البلوى كما سيأتي "وحدود وفيها ما تقدم" في هذه المسألة من الخلاف في قبول الواحد فيها بشروطه الماضية وأما ثبوت مباشرة ما يوجب الحد على المباشر فإنما يثبت بإقراره أو بالبينة عليه بذلك على ما هو معروف في كتب الفروع "فإن كان" محل ورود الخبر "حقوقا للعباد فيها إلزام محض كالبيوع والأملاك المرسلة" أي التي لم يذكر فيها سبب الملك من هبة وغيرها والأشياء المتصلة بالأموال كالآجال والديون "فشرطه" أي هذا القسم عند الإمكان(4/252)
ص -357-…الشرعي "العدد ولفظ الشهادة مع ما تقدم" من العقل والبلوغ والحرية والإسلام والضبط والعدالة والبصر وأن لا يجر بشهادته مغنما ولا يدفع عنها مغرما ومع الذكورة في واحد من العدد "احتيط لمحليته" أي الخبر بهذه الأمور "لدواع" إلى التزوير والحيل في هذا النوع "ليست فيما عن الشارع" تقليلا لوقوع ذلك منها "ومنه" أي هذا القسم "الفطر" لأن الناس ينتفعون به فيشترط في الشهادة بهلال الفطر العدد ولفظ الشهادة مع سائر شروط الشهادة إذا كان بالسماء علة وفي التلويح وإن لم يكن من إثبات الحقوق التي فيها معنى الإلزام لأن الفطر مما يخاف فيه التلبيس والتزوير دفعا للمشقة بخلاف الصوم وهذا أظهر مما ذهب إليه بعضهم من أنه من هذا القسم بناء على أن العباد ينتفعون بالفطر فهو من حقوقهم ويلزمهم الامتناع عن الصوم يوم الفطر فكان فيه معنى الإلزام إذ لا يخفى أن انتفاعهم بالصوم أكثر وإلزامهم فيه أظهر مع أنه يكفي فيه شهادة الواحد ا هـ وأورد يلزم عليه ما إذا قبل الإمام شهادة الواحد في هلال رمضان وأمر الناس بالصوم فصاموا ثلاثين ولم ير الهلال يفطرون في رواية ابن سماعة عن محمد لأن الفرض لا يكون أكثر من ثلاثين فإن هذا فطر بشهادة الواحد وأجيب بأن الفطر غير ثابت بشهادتهم بل بالحكم فإنه لما حكم القاضي برمضان كان من ضرورته انسلاخه بمضي ثلاثين يوما فشهادته أفضت له كشهادة القابلة على النسب أفضت إلى استحقاق الميراث الذي لا يثبت بشهادة القابلة ابتداء ذكره في المبسوط وقوله "إلا إن لم يكن الملزم به مسلما فلا يشترط الإسلام" استثناء مما تضمنه ما تقدم من اشتراط الإسلام فيه وقوله "إلا ما لا يطلع عليه الرجال كالبكارة والولادة والعيوب في العورة" استثناء من العدد فلذا قال "فلا عدد" وقوله "وذكورة" استطراد "وإن" كان محل الخبر حقوقا للعباد "بلا إلزام" للغير "كالإخبار بالوكالات والمضاربات والإذن في التجارة والرسالات في الهدايا والشركات"(4/253)
والودائع والأمانات "فبلا شرط" أي فيقبل في هذه خبر الواحد بلا شرط شيء فيه "سوى التمييز مع تصديق القلب" فيستوي فيه الذكر والأنثى والحر والعبد والمسلم والكافر والعدل وغيره والبالغ وغيره إذا كان مميزا حتى إذا أخبر أحدهم غيره بأن فلانا وكله أو أن مولاه أذن له ووقع في قلبه صدقه جاز أن يشتغل بالتصرف معه بناء على خبره.
ثم اشتراط التحري ذكره شمس الأئمة السرخسي وفخر الإسلام في موضع من كتابه ولم يذكره في موضع آخر منه وذكره محمد في الاستحسان من الأصل ولم يذكره في الجامع الصغير فقال الهندواني في كشف الغوامض يجوز أن يكون ما في الاستحسان تفسيرا لما في الجامع يعني أن محمدا أجمل فيه اعتمادا على تفصيله في الاستحسان فيشترط ويجوز أن يشترط استحسانا ولا يشترط رخصة ويجوز أن يكون في المسألة روايتان ثم لم يشترط سوى التمييز لأن اعتبار هذه الشروط ليترجح جانب الصدق في الخبر فيصلح ملزما والخبر هنا غير ملزم لأن التصرف غير لازم على هؤلاء وأيضا هذه حالة مسالمة وإنما احتيج إلى تلك الشروط في المنازعة المفضية إلى التزوير والاشتغال بالأباطيل دفعا لها وأيضا "للإجماع العملي" فإن الأسواق من لدن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا قائمة بعدول وفساق ذكور(4/254)
ص -358-…وإناث أحرار وغير أحرار مسلمين وغيرهم والناس يشترون من الكل ويعتمدون خبر كل مميز بذلك من غير نكير "وكان عليه السلام يقبل خبر الهدية من البر والفاجر" كما هو ظاهر إطلاق ما في البخاري عن عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها. وما روى الترمذي وابن ماجه: أنه كان يجيب دعوة العبد. وهذا وإن كان في سنده ضعف فثم ما يشهد له كقبول هدية سلمان وهو عبد كما أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم وما في الصحيحين من قبول هدية اليهودية الشاة المسمومة إلى غير ذلك وأيضا "دفعا للحرج اللازم من اشتراط العدالة في الرسول" لأن الإنسان قلما يجد المسلم البالغ الحر العدل في كل زمان ومكان ليبعثه إلى وكيله أو غلامه فتتعطل مصالحه لو شرطت في الرسول "بخلافه" أي اشتراطها "في الرواية" فإنه لا يؤدي إلى الحرج لأن في عدول المسلمين كثرة "وإن" كان محل الخبر حقوقا للعباد "فيها" إلزام للغير "لغير وجه" دون وجه "كعزل الوكيل" لأنه إلزام من حيث إن الموكل يبطل عمل الوكيل في المستقبل وليس بإلزام للوكيل من حيث إن الموكل يتصرف في حقه "وحجر المأذون" لأنه إلزام للعبد من حيث إنه يخرج تصرفات العبد من الصحة إلى الفساد بعد الحجر وليس بإلزام له من حيث إن المولى يتصرف في حقه "وفسخ الشركة والمضاربة" لأنه إلزام للشريك والمضارب من حيث إنه يلزم كلا منهما الكف عن التصرف في المستقبل وليس إلزاما لهما لأن الفاسخ يتصرف في حق نفسه إذ لكل من هؤلاء ولاية المنع من التصرف كما له ولاية الإطلاق "فالوكيل والرسول فيها" أي في هذه الحقوق ممن له ولاية التوكيل والإرسال بأن قال الموكل أو المولى أو من بمعناهما من أب أو وصي أو قاض أو الشريك أو رب المال وكلتك بأن تخبر فلانا بالعزل أو الحجر وأرسلتك إلى فلان لتبلغه عني هذا الخبر لا يشترط فيهما سوى التمييز بالاتفاق "كما قبله" أي كما في المخبر في القسم الذي قبل هذا وهو ما كان محل(4/255)
الخبر فيه حقوق العباد بلا إلزام لأن عبارة الوكيل والرسول كعبارة الموكل والمرسل إذ الوكيل في هذه الصورة كالرسول وفي المرسل والموكل لا يشترط سوى التمييز فكذا فيمن قام مقامهما "وكذا" المخبر "الفضولي" لا يشترط عدالته "عندهما" أبي يوسف ومحمد لأن هذه الأمور من المعاملات فلا تتوقف على شروط الشهادة لأن للناس في باب المعاملات عزلا وتوكيلا بحسب ما يعرض لهم من الحاجات ضرورة فلو شرطت العدالة لضاق الأمر عليهم فلم تشترط دفعا للحرج.
"وشرط" أبو حنيفة "عدالته أو العدد" أي كون المخبر الفضولي اثنين "لأنه" أي هذا الإخبار "لإلزام الضرر" فيه فإن بعد العزل ينفذ الشراء على الوكيل ولا يصح من المأذون "كالثاني" أي القسم الثاني وهو ما كان محل الخبر حقا للعبد فيه إلزام محض "ولولاية من" يتوصل الفضولي "عنه في ذلك" التصرف "كالثالث" أي القسم الثالث وهو ما كان حقا للعبد فيه إلزام من وجه "فتوسطنا" في القول في هذا بالاكتفاء بأحد شطري الشهادة وهو العدد أو العدالة إعمالا "للشبهين" لأن ما تردد بين شيئين يوفر حظه عليهما ثم اشتراط العدالة في المخبر الفضولي إذا كان واحدا عند أبي حنيفة متفق عليه بين المشايخ وعدم اشتراطها إذا(4/256)
ص -359-…كان اثنين قول بعض المشايخ وقال بعضهم يشترط فيهما أيضا لأن خبر الفاسقين كخبر فاسق في أنه لا يصلح ملزما فلا يكون لزيادة العدد فائدة قالوا والاختلاف نشأ من لفظ محمد في المبسوط حيث قال إذا حجر المولى على عبده أو أخبره بذلك من لم يرسله مولاه لم يكن حجرا في قياس قول أبي حنيفة حتى يخبره رجلان أو رجل عدل يعرفه العبد فجعل بعضهم العدالة للمجموع وبعضهم للرجل فقط وهو الأصح لأن للعدد تأثيرا في الاطمئنان بل تأثيره أقوى من العدالة فإن القاضي لو قضى بشهادة واحد لا ينفذ وبشهادة فاسقين ينفذ وإن كان على خلاف السنة ولأنه لو اشترط في الرجلين العدالة كان ذكره ضائعا ويكفي أن يقال حتى يخبره رجل عدل ولم يذكر في المبسوط اشتراط وجود سائر الشروط من الذكورية والحرية والبلوغ فلذا قال فخر الإسلام وغيره يحتمل أن يشترط سائر شروط الشهادة عنده حتى لا يقبل خبر العبد والمرأة والصبي وجزم به صدر الشريعة وقيل لو كانت هذه الثلاثة شرطا مع أحد شطري الشهادة لذكرها محمد وهو أيضا خلاف ما في مختصر الكرخي فإن فيه وقال أبو حنيفة لا يكون ذلك إخراجا حتى يخبره رجل عدل أو امرأة عدلة أو يخبره رجلان وإن كانا غير عدلين.(4/257)
"وإخبار من أسلم بدار الحرب قيل الاتفاق على اشتراط العدالة في" لزوم "القضاء" لما فاته "لأنه" أي هذا الإخبار إخبار "عن الشارع بالدين والأكثر" من المشايخ على أنه "على الخلاف" الذي في العزل والحجر "وشمس الأئمة السرخسي" قال "الأصح" عندي أنه يلزمه "القضاء" اتفاقا "لأنه" أي المخبر "رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم" بالتبليغ قال صلى الله عليه وسلم "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من لم يسمعها" وقد بينا في خبر الرسول أنه بمنزلة خبر المرسل ولا يعتبر في المرسل أن يكون عدلا ا هـ. وتعقبه المصنف بقوله "ولو صح" هذا "انتفى اشتراط العدالة في الرواة" لأنه يصدق على كل أنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتبليغ على هذا وانتفاء اشتراطها فيهم ممنوع اتفاقا "فإنما ذاك" أي الرسول الذي خبره بمنزلة خبر المرسل "الرسول الخاص بالإرسال" لا مطلقا وهذا المخبر ليس كذلك "ومسوغ الرواية التحمل وبقاؤه" أي التحمل "وهما" أي التحمل وبقاؤه "عزيمة" ورخصة "وكذا الأداء" له عزيمة ورخصة "فالعزيمة في التحمل أصل قراءة الشيخ من كتاب أو حفظ" عليك وأنت تسمع "وقراءتك أو" قراءة "غيرك كذلك" أي من كتاب أو حفظ على الشيخ "وهو يسمع" سواء كان الشيخ يحفظ ما يقرأ عليه أو لا لكن ممسك أصله هو أو ثقة غيره إن لم يكن القارئ يقرأ فيه على هذا عمل كافة الشيوخ وأهل الحديث وقال ابن الصلاح إنه المختار قال الشيخ زين الدين العراقي وهكذا إن كان ثقة من السامعين يحفظ ما يقرأ على الشيخ والحافظ له مستمع غير غافل عنه فذلك كاف أيضا "وهي" أي قراءتك أو غيرك على الشيخ من كتاب أو حفظ "العرض" سميت به لأن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرؤه كما يعرض القرآن على المقرئ فيقول أهو كما قرأت عليك "فيعترف" ولو بنعم "أو يسكت ولا مانع" من السكوت على ما عليه جمهور الفقهاء والمحدثين والنظار "خلافا لبعضهم" وهو بعض(4/258)
ص -360-…الظاهرية في جماعة من مشايخ المشرق في أن إقراره شرط والأول الصحيح "لأن العرف أنه" أي السكوت بلا مانع منه "تقرير ولأنه" أي السكوت بلا مانع منه "يوهم الصحة فكان صحيحا وإلا فغش ورجحها" أي القراءة على الشيخ "أبو حنيفة على قراءة الشيخ من كتاب خلافا للأكثر" حيث قالوا قراءة المحدث على الطالب أعلى لأن هذه طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما ذهب أبو حنيفة إلى ذلك "لزيادة عنايته" أي القارئ "بنفسه فيزداد ضبط المتن والسند" لأنه عامل لنفسه والشيخ لغيره والإنسان في أمر نفسه أحوط منه في أمر غيره وأورد القراءة على المحدث لا يؤمن فيها غفلته عن سماع القارئ أيضا وأجيب بأنها أهون من الخطأ في القراءة وحيث لم يمكن الاحتراز عنهما سقط اعتبار ما لم يمكن ووجب الاحتراز عن الأهم منهما "وعنه" أي عن أبي حنيفة أن القراءة عليه والسماع منه "يتساويان" ففي النوازل وروى نصير عن خلف عن أبي سعد الصغاني قال سمعت أبا حنيفة وسفيان يقولان القراءة على العالم والسماع منه سواء وهو محكي عن مالك وأصحابه ومعظم علماء الحجاز والكوفة والشافعي والبخاري "فلو حدث" الشيخ "من حفظه ترجح" التحديث من حفظه على قراءة القارئ عليه "بخلاف قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم" على غيره فإنها راجحة على قراءة غيره عليه "للأمن من القرار على الغلط" لو وقع وكذلك غيره "والحق أنه" أي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم "في غير محل النزاع" فإن محله أن يروي الراوي وهو الشيخ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أن يروي نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم على هذا حكاية ترجيح القراءة على الشيخ عن أبي حنيفة بلا هذا التفصيل كما وقع لغير واحد ليس على ما ينبغي وقد رواه كذلك الخطيب عن مالك والليث وشعبة ويحيى بن سعيد والقاسم بن سلام وأبي حاتم في آخرين والله سبحانه أعلم "وخلف عنه" أي الأصل وهو "الكتاب بحدثني فلان فإذا بلغك كتابي هذا فحدث به عني بهذا(4/259)
الإسناد" أي على رسم الكتب بأن يكتب في عنوانه من فلان بن فلان بن فلان الفلاني إلى فلان بن فلان بن فلان الفلاني ثم يكتب في داخله بعد التسمية والثناء على الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم من فلان إلخ ثم يقول حدثني فلان بن فلان عن فلان بن فلان إلى آخر الإسناد بكذا ثم يقول فإذا جاءك كتابي هذا أو إذا بلغك كتابي هذا فاروه عني أو فحدثه عني بهذا الإسناد ويشهد على ذلك شهودا ثم يختمه بحضرتهم فإذا ثبت الكتاب عند المكتوب إليه بالشهود قبله وروى ذلك الحديث عن الكاتب بإسناده وفي علوم الحديث لابن الصلاح من أقسام طرق الحديث وتلقيه المكاتبة وهي أن يكتب الشيخ إلى الطالب وهو غائب شيئا من حديثه بخطه أو يكتب له ذلك وهو حاضر ويلتحق بذلك ما إذا أمر غيره بأن يكتب ذلك عنه إليه "والرسالة" أن يرسل الشيخ رسولا إلى آخر ويقول للرسول "بلغه عني أنه حدثني فلان" بن فلان عن فلان بن فلان إلى أن يأتي على تمام الإسناد بكذا فإذا بلغتك رسالتي إليك "فاروه عني" أو فحدث به عني "بهذا الإسناد" فشهد الشهود عند المرسل إليه على رسالة المرسل حلت للمرسل إليه الرواية عنه قال المصنف "وهذا" أي قوله فإذا بلغك إلخ في الفصلين إنما يلزم "على اشتراط الإذن والإجازة في الرواية عنهما" أي الكتابة والرسالة "والأوجه عدمه" أي(4/260)
ص -361-…عدم اشتراط الإجازة فيهما "كالسماع" فإنه ساق سندا خاصا بمتن معين غير أنه لم يسمعه منه فإذا ثبت أن الكتاب كتابه والرسول رسوله صار كأنه سمعه وإذا كان بعد الثبوت عنه كسماعه منه جاز أن يرويه بلا إذن فإن في السماع والمشافهة لو منعه عن الرواية جاز أن يروي مع منعه فضلا عن أن يتوقف على إذنه ذكره المصنف وقد ذكر ابن الصلاح إجازة الرواية بالكتابة المجردة عن كثير من المتقدمين والمتأخرين منهم أيوب السختياني ومنصور والليث وأنها المذهب الصحيح المشهور بين أهل الحديث بل جعلها أبو المظفر السمعاني أقوى من الإجازة وصار إليه غير واحد من الأصوليين قال المصنف وهو الحق لأن الإجازة من قبيل الرخصة والكتابة، من قبيل العزيمة المسند الموصول "وهما" أي الكتابة والرسالة "كالخطاب" شرعا "لتبليغه عليه السلام بهما" أي الكتابة والرسالة فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام. متفق عليه وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وإلى كل جبار عنيد يدعوهم إلى الله تعالى وليس بالنجاشي الذي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم إلى غير ذلك وتقدم من جملة رسله بالتبليغ معاذ بل كل من الأمرين منه صلى الله عليه وسلم أشهر من أن يذكر عليه دليل "وعرفا" كما في تقليد الملوك القضاء والإمارة بهما كما بالمشافهة "ويكفي معرفة خطه" أي الكاتب في حل رواية المكتوب إليه عنه "وظن صدق الرسول" كما عليه عامة أهل الحديث "وضيق أبو حنيفة" حيث نسب إليه أنه لا يحل في كل منهما إلا "بالبينة" كما في كتاب القاضي إلى القاضي ومال المصنف إلى الأول فقال "ولا يلزم كتاب القاضي للاختلاف" بين كتاب القاضي إلى القاضي وما نحن فيه "بالداعية" إلى ترويجها بحيث لا يلزم من اشتراطها في كتاب القاضي اشتراطها فيما نحن فيه فلا جرم أن في أصول الفقه للشيخ أبي بكر الرازي وأما من كتب إليه بحديث(4/261)
فإنه إذا صح عنده أنه كتابه إما بقول ثقة أو بعلامات منه وخط يغلب معها في النفس أنه كتابه فإنه يسع المكتوب إليه الكتاب أن يقول أخبرني فلان يعني الكاتب إليه ولا يقول حدثني "ولا خفاء في" جواز "حدثنا وأخبرنا وسمعته في الأول" أي في قراءة الشيخ على الطالب "وقال" أيضا مع الجار والمجرور من لي ولنا وبدون ذلك وإنما الكلام في كونها محمولة على السماع إذا تجردت عنهما فقال ابن الصلاح هي محمولة عليه إذا علم اللقي وسلم الراوي من التدليس لا سيما من عرف من حاله أنه لا يروي إلا ما سمعه كحجاج بن محمد الأعور فروى كتب ابن جريج بلفظ. قال ابن جريج فحملها الناس عنه واحتجوا بها وخصص الخطيب ذلك بمن عرف من عادته مثل ذلك فأما من لا يعرف بذلك فلا يحمله على السماع ثم عده ابن الصلاح من أوضع العبارات في ذلك "وغلبت" لفظة قال "في المذاكرة" أي في التعبير بها مع الجار والمجرور على ما ذكره ابن الصلاح وغيره عما جرى بينهم في المذاكرات والمناظرات حتى قال ابن الصلاح إنه لائق بما سمعه منه في المذاكرة وهو به أشبه من حدثنا وأما قول ابن منده إن البخاري حيث قال قال لي فلان فهو إجازة وحيث قال قال فلان فهو تدليس. قال الحافظ العراقي فلم يقبل العلماء كلامه حتى قال ابن القطان فذلك عنه باطل "وفي الثاني"(4/262)
ص -362-…أي قراءة الطالب على الشيخ يقول "قرأت" عليه وهو يسمع إن كان هو القارئ "وقرئ عليه وأنا أسمع" إن كان القارئ غيره "وحدثنا بقراءتي" عليه "وقراءة" عليه "وأنبأنا ونبأنا كذلك" أي بقراءتي أو قراءة عليه "والإطلاق" لحدثنا وأخبرنا من غير تقييد بقراءتي أو قراءة عليه "جائز على المختار" كما هو مذهب أصحابنا والثوري وابن عيينة والزهري ومالك والبخاري ويحيى بن سعيد القطان ومعظم الكوفيين والحجازيين لا المنع مطلقا كما ذهب إليه ابن المبارك وأحمد وخلق كثير من أصحاب الحديث على ما ذكر الخطيب وقال القاضي أبو بكر إنه الصحيح "وقيل" الإطلاق جائز "في أخبرنا فقط" وهو للشافعي وأصحابه ومسلم وجمهور أهل المشرق وذكر صاحب كتاب الإنصاف أنه مذهب الأكثر من أصحاب الحديث الذي لا يحصيهم أحد وأنهم جعلوا أخبرنا علما يقوم مقام قول قائله أنا قرأته عليه لا أنه لفظ به لي وقال ابن الصلاح الفرق بينهما صار هو الشائع الغالب على أهل الحديث والاحتجاج لذلك من حيث اللغة عناء وتكلف وخير ما يقال فيه إنه اصطلاح منهم أرادوا به التمييز بين النوعين ثم خصص النوع الأول بقول حدثنا لقوة إشعاره بالنطق والمشافهة "والمنفرد" يقول "حدثني وأخبرني وجاز الجمع" أي حدثنا وأخبرنا لجوازه في كلام العرب كما أن من معه غيره يقول حدثنا وأخبرنا وجاز أن يقول حدثني وأخبرني لأن المحدث حدثه وغيره وأما ما اختاره الحاكم وذكر أنه الذي عهد عليه أكثر شيوخه وأئمة عصره وذكره غيره أيضا من أن الراوي يقول فيما يأخذه من المحدث لفظا وليس معه أحد حدثني فلان وفيما كان معه غيره حدثنا فلان وفيما قرأ على المحدث بنفسه أخبرني فلان وفيما قرئ على المحدث وهو حاضر أخبرنا فلان وقال ابن الصلاح وهو حسن رائق فليس بواجب بل مستحب كما حكاه الخطيب عن أهل العلم كافة "وفي الخلف" أي الكتابة والرسالة يقول "أخبرني" كما ذكر غير واحد من مشايخنا "وقيل" لا يجوز أن يقول فيهما أخبرني "كحدثني"(4/263)
لأن الإخبار والتحديث واحد "بل" يقول "كتب" إلي "وأرسل إلي لعدم المشافهة قلنا قد استعمل" أخبرني "للإخبار مع عدمها" أي المشافهة "كأخبرنا الله لا حدثنا" مع عدمها إذ لا يقال حدثنا الله على أن ابن الصلاح ذكر أنه ذهب غير واحد من علماء المحدثين وأكابرهم منهم الليث ومنصور إلى جواز حدثنا وأخبرنا في الرواية بالمكاتبة والمختار قول من يقول فيها كتب إلي فلان قال حدثنا فلان بكذا وقال الحاكم إنه الذي اختاره واعتمد عليه أكثر مشايخه وأئمة عصره وقال ابن الصلاح أيضا وهذا هو الصحيح اللائق بمذاهب أهل التحري والنزاهة وكذا لو قال أخبرني به مكاتبة أو كتابة أو نحو ذلك من العبارات "والرخصة" في التحمل "والإجازة مع مناولة المجاز به" للمجاز له "ودونها" أي وبدون مناولته لأنها لتأكيد الإجازة لأنها بدون الإجازة غير معتبرة والإجازة بدونها معتبرة. ثم من صور الإجازة بدون المناولة أن يقول المخبر لغيره أجزت لك أن تروي عني هذا الكتاب الذي حدثني به فلان إلى أن يأتي على سنده ومن صورها مع المناولة أن يناوله شيئا من سماعه أصلا أو فرعا مقابلا به ويقول هذا من سماعي أو روايتي عن فلان إلى آخر الإسناد فاروه عني.(4/264)
ص -363-…"ومنه" أي قسم الإجازة المجردة عن المناولة "إجازة ما صح من مسموعاتي" عندك إلا أن الشيخ أبا بكر الرازي ذكر أن نحو هذا وهو أجزت لك ما يصح عندك من حديثي ليس بشيء كما لو قال ما صح عندك من صك فيه إقراري فاشهد به علي لم يصح ولم تجز الشهادة به وسنذكر أيضا عن شمس الأئمة السرخسي ما يوافقه على وجه أبلغ منه.
ثم اختلف في جواز الرواية بالإجازة "قيل بالمنع" وهو لجماعات من المحدثين والفقهاء والأصوليين وإحدى الروايتين عن الشافعي وقطع به القاضي حسين والماوردي وقالا كما قال شعبة وغيره لو جازت الإجازة لبطلت الرحلة. وحكاه الآمدي عن أبي حنيفة والخجندي من الشافعية عن أبي طاهر الدباس وأنه قال من قال لغيره أجزت لك أن تروي عني ما لم تسمع فكأنه يقول أجزت لك أن تكذب علي "والأصح الصحة" وذكر ابن الصلاح أنه الذي استقر عليه العمل وقال به جماهير أهل العلم من أهل الحديث وغيرهم قال وفي الاحتجاج بذلك غموض ويتجه أن يقال إذا أجاز له أن يروي عنه مروياته فقد أخبره بها جملة فهو كما لو أخبره تفصيلا وإخباره بها غير متوقف على التصريح نطقا وإنما الغرض حصول الإفهام والفهم وذلك يحصل بالإجازة المفهمة وقال غير واحد "للضرورة" لأن كل محدث لا يجد من يبلغ إليه ما صح عنده ولا يرغب كل طالب إلى سماع أو قراءة ما عند شيخه فلو لم يجز بها لأدى إلى تعطيل السنن وانقطاع أسانيدها "والحنفية" قالوا "إن كان" المجاز له "يعلم ما في الكتاب" المجاز به فقال له المجيز إن فلانا حدثنا بما في هذا الكتاب بأسانيده هذه فأنا أحدثك به وأجزت لك الحديث به "جازت الرواية" بهذه الإجازة إذا كان المستجيز مأمونا بالضبط والفهم "كالشهادة على الصك" فإن الشاهد إذا وقف على جميع ما فيه أو أخبره من عليه الحق وأجاز له أن يشهد عليه بذلك كان صحيحا فكذا رواية الخبر "وإلا" لو لم يكن المجاز له عالما بما في الكتاب "فإن احتمل" الكتاب "التغيير" بزيادة أو نقصان "لم(4/265)
تصح" الإجازة ولا تحل الرواية بالاتفاق "وكذا" لا يصح عند أبي حنيفة ومحمد "إن لم يحتمل" الكتاب ذلك "خلافا لأبي يوسف ككتاب القاضي" أي قياسا على اختلافهم في كتاب القاضي إلى القاضي "إذ علم الشهود بما فيه شرط" عندهما لصحة الشهود "خلافا له" أي لأبي يوسف "وشمس الأئمة السرخسي قال الأصح" عند نفسه "عدم الصحة" لهذه الإجازة "اتفاق وتجويز أبي يوسف" الشهادة "في الكتاب" من القاضي إلى القاضي وإن لم يعلم الشهود ما فيه "لضرورة اشتماله على الأسرار" عادة "ويكره المتكاتبان الانتشار" لأسرارهما "بخلاف كتب الأخبار" لأن السنة أصل الدين ومبناها على الشهرة فلا وجه لصحة الأمانة فيها قبل العلم بها قال المصنف "وفيه نظر بل ذلك" أي جواز الشهادة على الكتاب وإن لم يعلم ما فيه للضرورة المذكورة إنما يتأتى "في كتب العامة لا" في كتاب "القاضي" إلى القاضي "بالحكم والثبوت" فينبغي أن يجوز فيما نحن فيه عنده كما في كتاب القاضي إلى القاضي عنده وفخر الإسلام تردد فيما ينبغي أن ينسب إلى أبي يوسف في هذه المسألة حيث لم يكن الخلاف عنه فيها منصوصا فقال يحتمل أن لا يجوز في هذا الباب ووجهه بما تقدم وهو متعقب بما ذكره(4/266)
ص -364-…المصنف ويحتمل الجواز بالضرورة أي أن يجوز الإجازة عنده بلا علم للمجاز بما في الكتاب المجاز به كما تجوز الشهادة على كتاب القاضي بلا علم للشاهد بما فيه بجامع الضرورة بينهما يعني كما لم يشرط أبو يوسف في صحة الشهادة على كتاب القاضي علم الشاهد بما فيه لضرورة إيصال الحقوق إلى أهلها ينبغي أن لا يكون علم الراوي بما في الكتاب المجاز به شرطا لصحة الإجازة عنده لضرورة أن المحدث محتاج إلى تبليغ ما صح عنده من الأخبار إلى الغير ليتصل الإسناد ويبقى الدين وقد ظهر تكاسل الناس في أمور الدين وربما لا يتيسر للطالب القراءة عليه والسماع منه وفي اشتراط العلم بما فيه نوع تعسير وتنفير فجوزت رخصة لهذا المعنى.(4/267)
"وهذا" التفصيل المذكور للحنفية إنما ذهبوا إليه "للاتفاق على النفي" لصحة الرواية "لو قرأ" الطالب "فلم يسمع الشيخ أو" قرأ "الشيخ" فلم يسمع الطالب "ولم يفهم" ففي الإجازة التي هي دون القراءة أولى ثم في تصحيح الإجازة بدون العلم رفع الابتلاء فإن الناس مبتلون بالتعليم والتعلم وتحمل المشاق فلو جوزت بدونه لرغب الناس عن التعلم اعتمادا على صحة الرواية بدونه وفيه فتح باب التقصير والبدعة إذ لم ينقل عن السلف مثل هذه الإجازة ولا يشكل هذا بقبول رواية من سمع في صباه بعد بلوغه فإنه كما قال "وقبول من سمع في صباه مقيد بضبطه غير أنه أقيمت مظنته" أي الضبط وهي التمييز مقامه "ولذا" أي اشتراط ضبط السامع "منعت" صحة الرواية "للمشغول عن السماع بكتابة" كما ذهب إليه الإسفراييني وإبراهيم الحربي وابن عدي وذهب إلى الصحة مطلقا الحافظ موسى بن هارون الحمال ويوافقه ظاهر ما عن أبي حاتم الحنظلي أنه كتب عند عارم وعند عمرو بن مرزوق في حالة السماع وما عن ابن المبارك أنه كتب وهو يقرأ عليه غير ما يكتب وقال الصبغي من الشافعية يقول حضرت لا حدثنا ولا أخبرنا "أو نوم أو لهو والحق أن المدار" لعدم جواز الرواية "عدم الضبط" للمروي "وأقيمت مظنته" أي عدم الضبط "نحو الكتابة" مقامه إذا كانت بحيث يمتنع معها الفهم لما يقرأ حتى يكون الواصل إلى سمع الكاتب كأنه صوت غفل أما إذا كانت بحيث لا يمتنع معها الفهم فلا "لحكاية الدارقطني" فإنه حضر في حداثته مجلس إسماعيل الصفار فجلس ينسخ جزءا كان معه وإسماعيل يملي فقال له بعض الحاضرين لا يصح سماعك وأنت تنسخ فقال: فهمي للإملاء خلاف فهمك، ثم قال تحفظ كم أملى الشيخ من حديث إلى الآن فقال الدارقطني أملى ثمانية عشر حديثا فعدت الأحاديث فوجدت كما قال ثم قال الحديث الأول منها عن فلان عن فلان ومتنه كذا والحديث الثاني عن فلان ومتنه كذا ولم يزل يذكر أسانيد الأحاديث ومتونها على ترتيبها في الإملاء حتى أتى(4/268)
على آخرها فعجب الناس منه ولعل ما تقدم عن الحنظلي وابن المبارك كان من هذا القبيل أيضا بل هو الأشبه ولا سيما من ابن المبارك فلا جرم أن قال الثوري وغيره الصحيح إن فهم المقروء صح وإلا لم يصح وقالوا لا فرق بين النسخ من السامع وبينه من المسموع ويجري هذا التفصيل فيما إذا تحدث الشيخ أو السامع أو أفرط القارئ في الإسراع أو بعد عنه والظاهر(4/269)
ص -365-…أنه يعفى عن اليسير نحو الكلمة والكلمتين وقال أحمد في الحرف يدغمه الشيخ فلا يفهم وهو معروف أرجو أن لا تضيق روايته عنه وفي الكلمة تستفهم من المستفهم إن كانت مجتمعا عليها فلا بأس وعن خلف بن سالم منع ذلك.
"وتنقسم" الإجازة "لمعين في معين" كأجزت لك أو لكم أو لفلان ويصفه بما يميزه الكتاب الفلاني أو ما اشتملت عليه فهرستي وهذا أعلى أنواع الإجازة المجردة عن المناولة وقد ذكر ابن الصلاح وغيره أنها محل الخلاف السابق لا أنها مجمع على جوازها كما زعمه الباجي "وغيره" أي لمعين في غير معين "كمروياتي" ومسموعاتي قال ابن الصلاح وغيره والخلاف في هذا أقوى وأكثر والجمهور من العلماء على تجويز الرواية بها أيضا وعلى إيجاب العمل بما روى بها بشرط انتهى، ومن المانعين لصحتها شمس الأئمة السرخسي وحكى الاتفاق عليه وقال إنه بمنزلة ما لو قال لآخر اشهد علي بكل صك تجد فيه إقراري فقد أجزت لك فإن ذلك باطل وقد نقل عن بعض أئمة التابعين أن سائلا سأله الإجازة بهذه الصفة فتعجب وقال لأصحابه هذا يطلب مني أن أجيز له أن يكذب علي "ولغير معين" عام في معين وغير معين نحو أجزت لكل أحد الكتاب الفلاني أو مروياتي "للمسلمين من أدركني" ثم هذا ينقسم إلى موجود كما ذكرنا وإلى معدوم "ومنه من يولد لفلان" ومن ثمة فصله عما قبله وقد قال بصحة الإجازة لموجود غير معين عام جماعة من العلماء ورجحها ابن الحاجب والنووي في زيادات الروضة وعمل بها خلق كثير لا يتم معه قول ابن الصلاح إنه لم يسمع عن أحد يقتدى به الرواية بها على أنه كما قال النووي الظاهر من كلام مصححها جواز الرواية بها وأي فائدة لها غير الرواية بها ومنعها بعضهم ثم قال ابن الصلاح وغيره فإن كان ذلك مقيدا بوصف حاضر أو نحوه فهو إلى الجواز أقرب انتهى ومثله القاضي عياض بأجزت لمن هو الآن من طلبة العلم ببلد كذا أو لمن قرأ علي قبل هذا وقال فما أحسبهم اختلفوا في جوازه ممن يصح عنده الإجازة(4/270)
ولا رأيت منعه لأحد لأنه محصور موصوف كقوله لأولاد فلان أو إخوة فلان وأما تخصيص المعدوم غير معطوف على موجود بالإجازة كما ذكره المصنف فالخلاف فيه أقوى وقد أبطلها أبو الطيب وابن الصباغ قال ابن الصلاح ومن تبعه هو الصحيح الذي لا ينبغي غيره لأن الإجازة في حكم الإخبار جملة بالمجاز فكما لا يصح الإخبار للمعدوم لا يصح الإجازة له انتهى ولو قلنا إنها إذن فلا يصح أيضا كما لا تصح الوكالة للمعدوم وأجازها للمعدوم مطلقا الخطيب ونقله عن أبي يعلى بن الفراء الحنبلي وأبي الفضل بن عمروس المالكي والقاضي عياض عن معظم الشيوخ المتأخرين قال وبهذا استمر عملهم شرقا وغربا انتهى ومنهم من فرعه على جواز الوقف على المعدوم كما هو قول الحنفية والمالكية والله تعالى أعلم وهذا "بخلاف" الإجازة لغير المعين "المجهول في معين" كأجزت لجماعة من الناس رواية صحيح البخاري "وغيره" أي وفي غيره معين "ك" أجزت لبعض الناس رواية "كتاب السنن" وهو يروي عدة من السنن المعروفة بذلك فإنها غير صحيحة "بخلاف" أجزت لك رواية "سنن فلان" كأبي داود فإنها صحيحة كما هو ظاهر(4/271)
ص -366-…ولو ترك لكان أحسن "ومنه" أي قبيل الإجازة في غير المعين إجازة رواية "ما سيسمعه الشيخ" وهي باطلة على الصحيح كما نص عليه عياض وابن الصلاح والنووي لأن هذا يجيز ما لا خبر عنده به ويأذن له في الحديث بما لم يحدث به بعد ويبيح ما لم يعلم هل يصح له الإذن فيه فمنعه هو الصواب "وفي التفاصيل اختلافات" ذكرنا معظمها ويراجع في الباقي منها الكتب المؤلفة في علم الحديث.
"ثم المستحب" للمجاز في أدائه "قوله أجاز لي ويجوز أخبرني وحدثني مقيدا" بقوله إجازة أو ومناولة أو إذنا "ومطلقا" عن القيد بشيء من ذلك "للمشافهة في نفس الإجازة" وعلى هذا الشيخ أبو بكر الرازي والقاضي أبو زيد وفخر الإسلام وأخوه وإمام الحرمين وحكي عن ابن جريج وجماعة من المتقدمين وذكر الوليد بن الخاقاني أنه مذهب مالك وأهل المدينة "بخلاف الكتاب والرسالة" لا يجوز أن يقول فيهما أخبرني ولا حدثني مطلقا "إذ لا خطاب أصلا" فيهما ذكره قوام الدين الكاكي وذكر قوام الدين الأتقاني أنه يجوز في المكاتبة والرسالة أن يقول حدثني بالاتفاق وإن كان المختار أخبرني لأن الكتاب والرسالة من الغائب كالخطاب من الحاضر "وقيل يمنع حدثني لاختصاصه بسماع المتن" ولم يوجد في الإجازة والمناولة ولا يمنع من أخبرني وعلى هذا شمس الأئمة السرخسي وقال ابن الصلاح والمختار الذي عليه عمل الجمهور وإياه اختار أهل التحري والورع المنع في ذلك من إطلاق حدثنا وأخبرنا ونحوهما من العبارات وتخصيص ذلك بعبارة تشعر به بأن تقيد هذه العبارات كما تقدم "والوجه في الكل اعتماد عرف تلك الطائفة" فيؤدي على ما هو عرفها في ذلك على وجه سالم من التدليس وخلاف ما في نفس الأمر "والاكتفاء الطارئ في هذه الأعصار بكون الشيخ مستورا" أي كونه مسلما بالغا عاقلا غير متظاهر بالفسق وما يخرم المروءة "ووجود سماعه" مثبتا "بخط ثقة" غير متهم وبروايته من أصل "موافق لأصل شيخه" كما ذكر ابن الصلاح وسبق إلى الإشارة إليه(4/272)
البيهقي "ليس خلافا لما تقدم" من اشتراط العدالة وغيرها في الراوي "لأنه" أي الاكتفاء المذكور "لحفظ السلسلة" أي ليصير الحديث مسلسلا بحدثنا وأخبرنا "عن الانقطاع" وتبقى هذه الكرامة التي خصت بها هذه الأمة شرفا لنبينا المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم "وذلك" أي ما تقدم من اشتراط العدالة وغيرها "لإيجاب العمل على المجتهد والعزيمة في الحفظ" حفظه عن ظهر قلب من غير واسطة الخط "ثم داومه إلى" وقت "الأداء" لأن المقصود من السماع العمل بالمسموع وتبليغه إلى غيره وهما لا بد لهما من الحفظ قال شمس الأئمة السرخسي وغيره وهذا كان مذهب أبي حنيفة في الأخبار والشهادات جميعا ولهذا قلت روايته وهو طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينه للناس ويشهد له ما أسند الحافظ المزي في تهذيب الكمال إلى يحيى بن معين أنه قال كان أبو حنيفة ثقة لا يحدث إلا بما حفظه ولا يحدث بما لا يحفظه "والرخصة" في الحفظ "تذكره" أي الراوي المروي "بعد انقطاعه" أي الحفظ "عند نظر الكتابة" سواء كانت خطه أو خط غيره معروف أو مجهول لأن المقصود به ذكر الواقعة وهو حاصل بخط المجهول أيضا فيصير كأنه حفظه(4/273)
ص -367-…من وقت السماع إلى وقت الأداء فيكون حجة وتحل له روايته لأن التذكر بمنزلة الحفظ، والنسيان الواقع قبله عفو لعدم إمكان الاحتراز عنه لأن الإنسان جبل عليه وإنما كان دوام الحفظ لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقوة نور قلبه وإن كان متصورا أيضا لقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى. إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:6- 7] وسمى السرخسي هذا عزيمة مشبهة بالرخصة "فإن لم يتذكر" الراوي المروي بنظر المكتوب "بعد علمه أنه خطه أو خط الثقة وهو في يده" بحيث لا يصل يد غيره إليه أو مختوما بخاتمه "أو في يد أمين" على هذه الصفة "حرمت الرواية والعمل عند أبي حنيفة" بذلك "ووجبا" أي الرواية والعمل به "عندهما والأكثر وعلى هذا" الخلاف "رؤية الشاهد خطه" بشهادته "في الصك" أي كتاب الشهادة "والقاضي" خطه أو خط نائبه بقضائه بشيء "في السجل" الذي بديوانه ولم يتذكر كل منهما ذلك فروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة لا يحل له أن يعتمد على الخط ما لم يتذكر ما تضمنه المكتوب لأن النظر في الكتاب لمعرفة القلب كالنظر في المرآة للرؤية بالعين والنظر في المرآة إذا لم يفده إدراكا لا يكون معتبرا فالنظر في الكتاب إذا لم يفده تذكرا يكون هدرا وهذا لأن الرواية والشهادة وتنفيذ القضاء لا يكون إلا بعلم والخط يشبه الخط شبها لا يمكن التمييز بينهما إلا بالتخمين فبصورة الخط لا يستفيدون علما من غير التذكر "وعن أبي يوسف" في رواية بشر عنه "الجواز في الرواية" أي جواز العمل بمجرد الخط في رواية الحديث إذا كان خطا معروفا لا يخاف تغييره عادة بأن يكون بيده أو بيد أمين لأن التبديل فيه غير متعارف لأنه من أمور الدين ولا يعود بتغييره نفع لأحد ودوام الحفظ والتذكر متعذر فلو اشترطنا التذكر لصحتها أدى إلى تعطيل السنن "والسجل إذا كان في يده" أي وجواز عمل القاضي بمجرد خطه أو خط معروف مفيد قضاءه بقضية في مكتوب محفوظ بيده بحيث لا تصل إليه يد(4/274)
غيره أو يكون مختوما بخاتمه أو بيد أمينه الموثوق به كذلك لأن حفظ القاضي جميع جزئيات الوقائع ذكرا متعذر غالبا لكثرة أشغاله بأمور المسلمين فلو لم يجز اعتماده على الخط عند النسيان أدى إلى تعطيل أكثر الأحكام والحرج وهو منتف ولهذا كان من آداب القضاء كتابة القاضي الوقائع وإيداعها قمطره وختمه بخاتمه ولو لم يجز له الرجوع إليها عند النسيان لم يكن للكتابة والحفظ فائدة وإنما شرط أن يكون بيده أو بيد أمينه للأمن عن التزوير فيه حينئذ بخلاف ما إذا لم يكن بيد أحدهما فإن التزوير فيه متطرق إليه لما ينبني عليه من الخصومات "لا الصك" أي ولا يجوز عنده عمل الشاهد بمجرد الخط إذا لم يكن بيده لأن مبنى الشهادة على اليقين بالمشهود به والصك إذا كان بيد الخصم لا يحصل الأمن فيه من التغيير والتبديل بخلاف ما إذا كان بيده للأمن عن ذلك كالسجل بيد القاضي "وعن محمد" في رواية ابن رستم عنه يجوز العمل للمذكورين بمجرد الخط إذا تيقنوا أنه خطهم "في الكل" أي في الرواية والشهادة والقضاء ولو كان الصك بيد الخصم "تيسيرا" على الناس لأن جريان التغيير فيه بعيد لأنه لو ثبت ثبت بالخط والخط يندر شبهه بالخط على وجه يخفى التمييز بينهما و النادر لا حكم له ولا اعتبار لتوهم التغيير لأن له أثرا يمكن الوقوف عليه فإذا لم يظهر جاز الاعتماد(4/275)
ص -368-…على الخط وقد تعرض المصنف لدليلهما مع الأكثر في المسألة الأولى بقوله "لنا عمل الصحابة بكتابه" صلى الله عليه وسلم "بلا رواية ما فيه" للعاملين "بل لمعرفة الخط وأنه منسوب إليه صلى الله عليه وسلم ككتاب عمرو بن حزم" كما يفيده ما قدمنا في مسألة العمل بخبر العدل واجب فجاز مثله لغيرهم "وهو" أي عملهم بكتابه بمجرد معرفة الخط "شاهد لما تقدم من قبول كتاب الشيخ إلى الراوي" بالتحديث عنه "بلا شرط بينة" على ذلك "وهنا" أي العمل بمقتضى المكتوب بمجرد معرفة الخط "أولى" من عمل الراوي بكتاب الشيخ إليه بلا بينة لأن احتمال التزوير فيه أبعد "وما قيل النسيان غالب فلو لزم التذكر بطل كثير من الأدلة الشرعية" كما أشرنا إليه بديا على ما قالوه "غير مستلزم لمحل النزاع وإنما يستلزمه" أي محل النزاع "غلبة عدم التذكر عند معرفة الخط وهو" أي عدم التذكر غالبا عند معرفة الخط "ممنوع والعزيمة في الأداء" أن يكون "باللفظ" نفسه "والرخصة" فيه أن يكون المؤدى "معناه بلا نقص وزيادة للعالم باللغة ومواقع الألفاظ" من المعاني الدالة عليها ومقتضيات الأحوال لها عند الجمهور من الصحابة ومن بعدهم منهم الأئمة الأربعة "وفخر الإسلام" وصاحب الميزان وأتباعهما "إلا في نحو المشترك" من الخفي والمشكل وإلا في المجمل والمتشابه فإنه لا يجوز فيه أصلا "وبخلاف العام والحقيقة المحتملين للخصوص والمجاز" فإنه يجوز "للغوي الفقيه" لا للغوي فقط "أما المحكم" أي متضح المعنى بحيث لا يشتبه معناه ولا يحتمل وجوها متعددة على ما صرح به فخر الإسلام لا ما لا يحتمل النسخ على ما هو المصطلح في أقسام الكتاب "منهما" أي العام والحقيقة "فتكفي اللغة" أي معرفتها فيه.(4/276)
"واختلف مجيزو الحنفية" الرواية بالمعنى "في الجوامع" أي جوامع الكلم ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت بجوامع الكلم" ولأحمد "أوتيت فواتح الكلام وجوامعه" ثم في صحيح البخاري وبلغني أن جوامع الكلم أن الله عز وجل يجمع الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد أو الأمرين أو نحو ذلك وقال الخطابي إيجاز الكلام في إشباع للمعاني يقول الكلمة القليلة الحروف فينتظم الكثير من المعنى ويتضمن أنواعا من الأحكام قالوا "كالخراج بالضمان" وهو حديث حسن تقدم معناه وأنه رواه أحمد وأصحاب السنن ""والعجماء جبار"" متفق عليه قال أبو داود العجماء المنفلتة التي لا يكون معها أحد وقال ابن ماجه الجبار الهدر الذي لا يغرم فقال بعضهم يجوز للعالم بطرق الاجتهاد إذا كانت الجوامع ظاهرة المعنى وذهب فخر الإسلام والسرخسي إلى المنع لإحاطة الجوامع بمعان قد تقصر عنها عقول ذوي الألباب وكل واحد مكلف بما في وسعه "والرازي منهم" أي الحنفية "وابن سيرين" وثعلب في جماعة "على المنع مطلقا" أي سواء كان من المحكم أو لا، كذا ذكره غير واحد وفيه بالنسبة إلى الرازي نظر فإن لفظه في أصول الفقه له قد حكينا عن الشعبي والحسن أنهما كانا يحدثان بالمعاني وكان غيرهما منهم ابن سيرين يحدث باللفظ والأحوط عندنا أداء اللفظ وسياقته على وجهه دون الاقتصار على المعنى سواء كان اللفظ مما يحتمل التأويل أو لا يحتمله إلا أن يكون الراوي مثل الحسن والشعبي في(4/277)
ص -369-…إتقانهما للمعاني والعبارات إلى معناها فقها غير فاضلة عنها ولا مقصرة وهذا عندنا إنما كانا يفعلانه في اللفظ الذي لا يحتمل التأويل ويكون للمعنى عبارات مختلفة فيعبران تارة بعبارة وتارة بغيرها فأما ما يحتمل التأويل من الألفاظ فإنا لا نظن بهما أنهما كان يغيرانه إلى لفظ غيره مع احتماله لمعنى غير معنى لفظ الأصل وأكثر فساد أخبار الآحاد وتناقضها واستحالتها من هذا الوجه وذلك لأنه قد كان منهم من يسمع اللفظ المحتمل للمعاني فيعبر هو بلفظ غيره ولا يحتمل إلا معنى واحدا على أنه هو المعنى عنده فيفسده انتهى "لنا" فيما عليه الجمهور "العلم بنقلهم" أي الصحابة "أحاديث بألفاظ مختلفة في وقائع متحدة" كما يحاط بها علما في دواوين السنة "ولا منكر" لوقوع ذلك منهم "وما عن ابن مسعود وغيره قال عليه السلام كذا أو نحوه أو قريبا منه" فعن عمرو بن ميمون قال كنت لا يفوتني عشية خميس لا آتي فيها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فما سمعته يقول لشيء قط قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كانت ذات عشية فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغرورقت عيناه وانتفخت أوداجه ثم قال أو مثله أو نحوه أو شبيه به قال فأنا رأيته وأزراره محلولة موقوف صحيح أخرجه أحمد وابن ماجه وغيرهما وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نحوه أو شبهه أخرجه الدارمي وهو موقوف منقطع رجاله ثقات وأخرجه الخطيب من وجه آخر موصولا والطبراني عن أبي إدريس الخولاني قال رأيت أبا الدرداء إذا فرغ من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا أو نحوه أو شكله ورجاله ثقات وعن ابن سيرين كان أنس إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرغ قال أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح أخرجه ابن ماجه "ولا منكر" على قائليه "فكان" المجموع من قولهم وعدم إنكار غيرهم "إجماعا" على جواز الرواية بالمعنى "وبعثه" أي(4/278)
رسول الله صلى الله عليه وسلم "الرسل" إلى النواحي بتبليغ الشرائع "بلا إلزام لفظ" مخصوص بل كان يطلق لهم أن يبلغوا المبعوث إليهم بلغتهم كما هو ظاهر من سياقاتها "وما روى الخطيب" في كتاب الكفاية في معرفة أصول علم الرواية عن يعقوب بن عبد الله بن سليمان الليثي عن أبيه عن جده أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا له بآبائنا وأمهاتنا إنا لنسمع منك الحديث ولا نقدر على تأديته كما سمعناه منك قال صلى الله عليه وسلم "إذا لم تحلوا حراما أو تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس" وأخرجه الطبراني في الكبير. وقال الحافظ العراقي رواه ابن منده من حديث عبد الله بن سليمان بن أكيمة الليثي قال قلت يا رسول الله الحديث وزاد في آخره فذكر ذلك للحسن فقال لولا هذا ما حدثنا وتعقبه شيخنا الحافظ برهان الدين الحلبي بأن عبد الله ليس له صحبة بل هو تابعي على الصحيح كما يفيده تجريد الذهبي والصحبة لسليمان فيكون مرسلا انتهى وستعلم أن الإرسال غير ضائر في الإسناد من الثقة بل هي منه زيادة مقبولة "وأما الاستدلال" للجمهور "بتفسيره" أي بالإجماع على جواز تفسير الحديث "بالعجمية" فإنه إذ جاز تفسيره بها فلأن يجوز بالعربية أولى لأن التفاوت بين العربية وترجمتها بها أقل مما بينها وبين العجمية "فمع الفارق" أي قياس معه "إذ لولاه" أي تفسيره بالعجمية "امتنع معرفة الأحكام للجم الغفير" لأن العجمي لا يفهم العربي إلا بالتفسير فكان فيه(4/279)
ص -370-…ضرورة ولا ضرورة في النقل بالمعنى ولهذا يجوز تفسير القرآن بجميع الألسن ولا يجوز نقله بالمعنى بالاتفاق "وأيضا" من الأدلة "على تجويزه: العلم بأن المقصود المعنى" لأن الحكم ثابت به لا باللفظ من حيث هو لأنه غير معجز ولا يتعلق به شيء من الأحكام "وهو" أي المعنى "حاصل" فلا يضر اختلاف اللفظ "وأما استثناء فخر الإسلام" السابق "لأنه" أي النقل بالمعنى للمشترك والمشكل والخفي "تأويله" أي الراوي لهذه الأقسام "وليس" تأويله "حجة على غيره كقياسه" ليس حجة على غيره "بخلاف المحكم" فإنه يكون للأمن عن الغلط "والمحتمل للخصوص محمول على سماعه المخصص كعمله" أي الراوي في المفسر "بخلاف روايته" حيث يحمل عمله بخلاف روايته "على الناسخ" أي سماعه الناسخ لمرويه "ويشكل" استثناء فخر الإسلام "بترجيح تقليده" أي الصحابي فإنه يأتي فيه الدليل المذكور لاستثنائه "فإن أجيب" بأنه إنما ترجح تقليده "بحمله" أي تقليده "على السماع فالجواب أنه" أي حمله على السماع ثابت له "مع إمكان قياسه" أي أن يكون قاله قياسا واجتهادا "فكذا في نحو المشترك" من الخفي والمشكل إذا حمله على بعض وجوهه "تقدم ترجيح اجتهاده" إذا كان أعرف بما هناك مما شاهده من الأمور الموجبة لعلمه بأن المراد ما ذكر فإن قيل ترجيح اجتهاد الصحابي على اجتهاد غيره باطل لقوله صلى الله عليه وسلم "نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها فحفظها فأداها، فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم فالجواب المنع "وإلى من هو أفقه منه قلله برب فكان الظاهر بعد الاشتراك" بين الصحابة وغيرهم "في الفقه أفقهيتهم إلا قليلا فيحمل" حالهم "على الغالب والتحقيق لا يترك اجتهاد لاجتهاد الأفقه وفي الصحابة لقرب سماع العلة أو نحوه من مشاهدة ما يفيدها" أي العلة "وعلى هذا" التوجيه "نجيزه" أي النقل بالمعنى "في المجمل ولا ينافي" هذا "قولهم" أي(4/280)
الحنفية "لا يتصور" النقل بالمعنى "في المجمل والمتشابه" لأنهم إنما نفوه لما ذكروه من قولهم "لأنه لا يوقف على معناه" فإن المجمل لا يستفاد المراد منه إلا ببيان سمعي والمتشابه لا ينال معناه في الدنيا أصلا والمصنف يقول بذلك لكنه يقول إذا رواه بمعنى على أنه المراد أصححه حملا على السماع فإنا إذا عملنا بتركه للحديث الذي رواه من المفسر لحكمنا بأنه علم أنه منسوخ إذا كان يحرم عليه ترك العمل بالحديث فكذلك إذا روى المجمل بمعنى مفسر على أنه المراد منه حكمنا بأنه سمع تفسيره إذ كان لا يحل أن يفسره برأيه فالحاصل أن الأقسام خمسة المفسر الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا فيجوز نقله بالمعنى اتفاقا بعد علمه بالفقه والحقيقة والعام المحتملان للمجاز والتخصيص فيجوز مع الفقه واللغة فلو انسد باب التخصيص كقوله سبحانه وتعالى {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] والمجاز بما يوجبه رجع الجواز إلى الاكتفاء بعلم اللغة فقط لصيرورته محكما لا يحتمل إلا وجها واحدا والمشترك والمشكل والخفي فلا يجوز بالمعنى أصلا عندهم لأن المراد لا يعرف إلا بتأويل وتأويله لا يكون حجة على غيره كقياسه وحكم المصنف بجواز ذلك لأنه دائر بين كونه تأويله أو مسموعه وكل منهما من الصحابي مقدم على غيره ومجمل ومتشابه(4/281)
ص -371-…فقالوا لا يتصور نقله بالمعنى لأنه فرع معرفة المعنى ولا يمكن فيهما والمصنف يقول كذلك ولكن نقول إذا عين معنى أنه المراد حكمنا بأنه سمعه على وزان حكمنا في تركه أنه سمع الناسخ حكما ودليلا وما هو من جوامع الكلم فاختلف المشايخ فيه كذا أفاد المصنف رحمه الله تعالى.
"قالوا" أي المانعون قال صلى الله عليه وسلم "نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع" رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم فحرض على نقل الحديث على الوجه الذي سمعه فيدل على وجوب نقله بلفظه لأن أداءه كما سمعه إنما يكون إذا كان بلفظه كما يشهد به ما في رواية عند الدارقطني والطبراني في مسند الشاميين "نضر الله من سمع قولي ثم لم يزد فيه" "قلنا" قوله "نضر الله امرأ" "حث على الأولى" في نقله وهو نقله بصورته سواء كان دعاء له أن يجعل الله وجهه نضرا أي يجمله ويزينه أو أن يكون خبرا عن أنه من أهل نضرة النعيم قال تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الانسان: 11] كما ذكرهما الرامهرمزي وقال هو بتخفيف الضاد والمحدثون يثقلونها وفي الغريبين رواه الأصمعي بالتشديد وأبو عبيد بالتخفيف. وقال الحسن بن محمد بن موسى المؤدب ليس هذا من الحسن في الوجه إنما معناه حسن الله وجهه في خلقه أي جاهه وقدره ويعارضه ما أسند شيخنا الحافظ إلى بشر بن الحارث سمعت الفضيل بن عياض يقول ما من أحد من أهل الحديث إلا وفي وجهه نضرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرأ سمع منا حديثا" وإلى الحميدي سمعت سفيان يقول ما أحد تطلب الحديث إلا وفي وجهه نضرة لهذا الحديث "فأين منع خلافه" أي خلاف الأولى وهو النقل بالمعنى "فإن قيل هو" أي المانع من خلافه "قوله: "فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" أفاد أنه" أي الراوي "قد يقصر لفظه" عن استيعاب أداء ما اشتمل عليه اللفظ النبوي من الأحكام "فتنتفي أحكام يستنبطها الفقيه" بواسطة نقله بالمعنى "قلنا(4/282)
غايته" أي قصور لفظه عن استيعاب ذلك "نقل بعض الخبر بعد كونه حكما تاما" وهو جائز كما تقدم "وقد يفرق" بين هذا وبين حذف بعض الخبر الذي لا تعلق له بالباقي تعلقا يغير المعنى "بأن لا بد" للحاذف "من نقل الباقي في عمره كي لا تنتفي الأحكام" المستفادة منه "بخلاف من قصر" لفظه عنها "فإنها" أي الأحكام التي ليست مستفادة منه "تنتفي" لعدم مفيدها حينئذ "بل" الجواب "الجواز لمن لا يخل" بشيء من مقاصده "لفقهه قالوا" أي المانعون أيضا النقل بالمعنى "يؤدي إلى الإخلال" بمقصود الحديث "بتكرر النقل كذلك" أي بالمعنى فانقطع باختلاف العلماء في معاني الألفاظ وتفاوتهم في تنبه بعضهم على ما لا يتنبه الآخر عليه فإذا قدر النقل بالمعنى مرتين وثلاثا ووقع في كل مرة أدنى تغيير حصل بالتكرار تغيير كثير واختل المقصود "أجيب بأن الجواز" للنقل بالمعنى حالة كونه "بتقدير عدمه" أي الإخلال بالمقصود كما هو محل النزاع "ينفيه" أي أداء النقل بالمعنى لأنه خلاف الفرض وقد انتفى بما تضمنته هذه الجملة قول الماوردي يجوز إن نسي اللفظ لا إن لم ينسه لفوات الفصاحة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وما قيل يجوز إن كان موجبه علما لا إن كان عملا وما عليه الخطيب البغدادي من(4/283)
ص -372-…تقييد الجواز بلفظ مرادف مع بقاء التركيب وموقع الكلام على حاله والله تعالى أعلم.
مسألة
"المرسل قول الإمام" من أئمة النقل أي من لهم أهلية الجرح والتعديل "الثقة قال عليه السلام" كذا "مع حذف من السند وتقييده" أي القائل "بالتابعي أو الكبير منهم" أي التابعين كعبيد الله بن عدي بن الخيار وقيس بن أبي حازم وسعيد بن المسيب "اصطلاح" للمحدثين وسمي الأول بالمشهور وعزي الثاني إلى بعضهم "فدخل" في التعريف الأول "المنقطع" بالاصطلاح المشهور للمحدثين وهو ما سقط من رواته قبل الصحابي راو أو اثنان فصاعدا إلا من موضع واحد "والمعضل" باصطلاحهم المشهور وهو ما سقط من إسناده اثنان فصاعدا من موضع واحد "وتسمية قول التابعي منقطعا" كما هو صنيع الحافظ البرديجي ولعله المراد بحكاية الخطيب عن بعض أهل العلم بالحديث أن المنقطع ما روي عن التابعي أو من دونه موقوفا عليه من قوله أو فعله "خلاف الاصطلاح المشهور فيه" أي المنقطع فلا جرم أن قال ابن الصلاح وهذا غريب بعيد وحكى ابن عبد البر أن قوما يسمون قول التابعي الذي لقي من الصحابة واحدا أو اثنين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم منقطعا لا مرسلا لأن أكثر روايتهم من التابعين "وهو" أي قول التابعي الموقوف عليه هو "المقطوع" كما ذكره الخطيب وغيره على أن ابن الصلاح قال وجدت التعبير بالمقطوع عن المنقطع غير الموصول في كلام الشافعي والطبراني وغيرهما. وقال الحافظ العراقي ووجدته أيضا في كلام الحميدي الدارقطني "فإن كان" المرسل صحابيا "فحكى الاتفاق على قبوله لعدم الاعتداد بقول" أبي إسحاق "الإسفراييني" لا يحتج به "وما عن الشافعي من نفيه" أي قبوله "إن علم إرساله" أي الصحابي عن غيره كما نقله عنه في المعتمد أي ولعدم الاعتداد بهذا أيضا فإن قلت في أصول فخر الإسلام بعد حكاية الإجماع على قبول مرسل الصحابي وتفسير ذلك أن من الصحابة من كان من الفتيان قلت صحبته وكان يروي عن غيره من(4/284)
الصحابة فإذا أطلق الرواية فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذلك منه مقبولا وإن احتمل الإرسال لأن من ثبتت صحبته لم يحمل حديثه إلا على سماعه بنفسه إلا أن يصرح بالرواية عن غيره انتهى فهذا موافق لما عن الشافعي قلت لا فإنه استثناء من حمل حديثه على سماعه بنفسه كما صرح به الشارحون فالمعنى إرسال الصحابي محمول على سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا صرح بالرواية عن غيره من الصحابة فحينئذ لا يحمل على سماعه بنفسه لأن الصريح يفوق الدلالة "أو" كان المرسل "غيره" أي غير صحابي "فالأكثر منهم الأئمة الثلاثة إطلاق القبول والظاهرية وأكثر" أهل "الحديث من عهد الشافعي إطلاق المنع والشافعي" قال "إن عضد بإسناد أو إرسال مع اختلاف الشيوخ" من المرسلين لا غير "أو قول صحابي أو أكثر العلماء أو عرف" المرسل "أنه لا يرسل إلا عن ثقة قبل وإلا" إذا لم يكن أحد هذه الأمور الخمسة "لا" يقبل "قيل وقيده" أي الشافعي قبوله مع كونه معضدا بما ذكرناه "بكونه" أي المرسل "من كبار التابعين" وإذا أشرك أحدا من الحفاظ في حديثه لم يخالفه "ولو خالف الحفاظ فبالنقص" أي بكون حديثه أنقص(4/285)
ص -373-…ذكره الحافظ العراقي عن نص الشافعي "وابن أبان" يقبل "في القرون الثلاثة وفيما بعدها إذا كان" المرسل "من أئمة النقل وروى الحفاظ مرسله كما رووا مسنده والحق اشتراط كونه من أئمة النقل مطلقا" أي عند الكل على وزان ما تقدم للمصنف في مسألة بيان الجرح والتعديل هل هو شرط حيث شرط العلم على مذهب الكل "لنا جزم العدل بنسبة المتن إليه عليه السلام بقوله قال يستلزم اعتقاد ثقة المسقط" لتوقفه عليه وإلا كان تلبيسا قادحا فيه والفرض انتفاؤه "وكونه من أئمة الشأن قوي الظهور في المطابقة وإلا" لو لم يعتقد ثقة المسقط "لم يكن" المرسل "عدلا" ولو لم يطابق لم يكن "إماما" فالاستثناء باعتبارين "ولذا" أي استلزام جزم العدل بذلك اعتقاد ثقة المسقط "حين سئل النخعي الإسناد إلى عبد الله" أي لما قال الأعمش لإبراهيم النخعي إذا رويت لي حديثا عن عبد الله بن مسعود فأسنده لي "قال إذا قلت حدثني فلان عن عبد الله فهو الذي رواه فإذا قلت قال عبد الله فغير واحد" أي فقد رواه غير واحد عنه "وقال الحسن متى قلت لكم حدثني فلان فهو حديثه" لا غير "ومتى قلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن سبعين" سمعته أو أكثر "فأفادوا أن إرسالهم عند اليقين أو قريب منه" أي اليقين بالمروي "فكان" المرسل "أقوى من المسند" لظهور أن العدل لم يسقط إلا من جزم بعدالته بخلاف من ذكره لظهور إحالة الأمر فيه على غيره غالبا "وهو" أي كونه أقوى منه "مقتضى الدليل" كما ذكرنا آنفا "فإن قيل تحقق من الأئمة كسفيان" الثوري "وبقية تدليس التسوية" كما سلف "وهو" أي إرسال من تحقق فيه هذا التدليس "مشمول بدليلكم" المذكور كما هو ظاهر فيلزم أن يقبلوه "قلنا نلتزمه" أي شمول الدليل له ونقول بحجيته حملا على أنه لم يرسل إلا عن ثقة "ووقف ما أوهمه" أي التدليس "إلى البيان" لإرساله عن ثقة أولا "قول النافين" لحجية المرسل "أو محله" أي الوقف "الاختلاف" أي اختلاف حال المدلس بأن علم(4/286)
أنه تارة يحذف المضعف عند الكل وتارة يحذف المضعف عند غيره "بخلاف المرسل" فإنه يجب الحكم فيه بأن المحذوف ليس مجمعا على ضعفه بل ثقة أو من يعتقد الإمام الحاذف ثقته "واستدل" للمختار "اشتهر إرسال الأئمة كالشعبي والحسن والنخعي وابن المسيب وغيرهم و" اشتهر "قبوله" أي إرسالهم "بلا نكير فكان" قبوله "إجماعا لا يقال لو كان" قبوله إجماعا "لم يجز خلافه" لكونه خرقا للإجماع واللازم منتف اتفاقا لأنا نقول لا نسلم ذلك "لأن ذلك" أي عدم جواز خلافه إنما هو "في" الإجماع "القطعي" والإجماع هنا ظني "لكن ينقض" الإجماع "بقول ابن سيرين لا نأخذ بمراسيل الحسن وأبي العالية فإنهما لا يباليان عمن أخذا الحديث وهو" أي عدم مبالاتهما عمن أخذا الحديث "وإن لم يستلزم" إرسالهما عن غير ثقة "إذ اللازم" لدليل القابل للمرسل "أن الإمام العدل لا يرسل إلا عن ثقة ولا يستلزم" أنه لا يرسل إلا عن ثقة "أن لا يأخذ إلا عنه" أي عن ثقة "ناف للإجماع" لأنه لا إجماع مع مخالفة ابن سيرين "فهو" أي نقل الإجماع على قبوله "خطأ" على هذا وإن كان منع ابن سيرين من مراسيلهما خطأ أيضا لأنه علل بما لا يصح مانعا وكيف والعدل الثقة وإن أخذ عن غير ثقة فهو ثقة يبينه إذا روى عنه ولا يرسل فيسقطه لأنه غش في الدين ذكره المصنف واحتج(4/287)
ص -374-…"الأكثر" لقبوله "بهذا" الإجماع وهو متعقب بقول ابن سيرين المذكور "وبتقدير تمامه" أي الإجماع "لا يفيدهم" أي الأكثرين "تعميما" في أئمة النقل وغيرهم فإن المذكورين من أئمة النقل فلم يجب في غيرهم "وبأن رواية الثقة" أي العدل عمن أسقطه "توثيق لمن أسقطه" لأن الظاهر من حاله ذلك فيقبل كما لو صرح بالتعديل "ودفع" هذا "بأن ظهور مطابقة ظن الجاهل ثقة الساقط منتف" يعني كون رواية العدل توثيقا لمن روى عنه لا يستلزم المطابقة في نفس الأمر فإنه لو كان عدلا غير إمام وهو المراد بقوله ظن الجاهل ثقة الساقط لا يوجب ظهور ثقته فلا يثبت بتوثيقه ثقته "ولعل التفصيل" في المرسل بين كونه عدلا إماما فيقبل وإلا فلا. "مراد الأكثر من الإطلاق" لقبول المرسل بأن يريدوا قبوله بقيد إمامة المرسل وعدالته "بشهادة اقتصار دليلهم" للقبول "على الأئمة" أي على ذكر إرسالهم "وإلا" لو لم يكن المراد هذا "فبعيد قولهم بتوثيق من لا يعول على علمه ومثله" أي هذا الصنيع من إرادة المفيد من اللفظ المطلق بما يعرف من استدلالهم وفي أثناء كلامهم "من أوائل الأئمة كثير" فلا يكون قول الأكثر مذهب غير المفصل "النافون" لقبوله.
قالوا أولا الإرسال "يستلزم جهالة الراوي" للأصل عينا وصفة "فيلزم" من قبول المرسل "القبول مع الشك" في عدالة الراوي إذ لو سئل عنه هل هو عدل لجاز أن يقول لا كما يجوز أن يقول نعم واللازم منتف بالاتفاق "قلنا ذلك" أي هذا الاستلزام بما يترتب عليه إنما هو "في غير أئمة الشأن" وأما الأئمة فالظاهر أنهم لا يخرجون إلا عمن لو سئلوا عنه لعدلوه ونحن إنما قلنا بقبول مراسيلهم لا غير.(4/288)
"قالوا" ثانيا فحيث يجوز العمل بالمرسل "فلا فائدة للإسناد" واللازم باطل لأنه حينئذ يكون اتفاقهم على ذكره إجماعا على العبث وهو محال عادة "قلنا" الملازمة ممنوعة فإن الفائدة في ذكره غير منحصرة في جواز العمل به "بل يلزم الإسناد في غير الأئمة ليقبل" المروي فإن مرسل غيرهم لا يقبل فتكون الفائدة في ذكره بالنسبة إلى غيرهم قبوله "وفي الأئمة إفادة مرتبته" أي الراوي المنقول عنه فيما عساه يترجح فيه على غيره "للترجيح" عند التعارض "ورفع الخلاف" في قبول المرسل ورده لأنه لا خلاف في قبول المسند "وفحص المجتهد بنفسه" عن حال الراوي "إن لم يكن" المرسل "مشهورا" بالإمامة والعدالة "لينال" المجتهد "ثوابه" أي الاجتهاد "ويقوى ظنه" بصحة المروي فإن الظن الحاصل بفحصه أقوى من الحاصل بفحص غيره.
"قالوا" ثالثا "لو تم" القول بالعمل بالمرسل من السلف "قبل" المرسل "في عصرنا" أيضا لتحقق العلة الموجبة للقبول من السلف في عدل كل عصر "قلنا نلتزمه" أي قبول المرسل في كل عصر "إذا كان" المرسل "من العدول وأئمة الشأن" ونمنعه إذا لم يكن كذلك لغلبة الريبة وقلة المبالاة قال "الشافعي إن لم يكن" أي يوجد ذلك "العاضد" للمرسل معه "لم يحصل الظن وهو" أي عدم حصول الظن إذا لم يوجد العاضد المذكور معه "ممنوع بل" الظن حاصل(4/289)
ص -375-…بالمرسل "دونه" أي العاضد المذكور "بما ذكرنا" من الدليل لقبوله من أئمة الشأن "وقد شوحح" الشافعي في جعله من جملة شروط قبوله أن يأتي أيضا مرسلا من وجه آخر أو مسندا "فقيل ضم غير المسند" إلى غير المسند "ضم غير مقبول إلى مثله" أي غير مقبول "فلا يفيد" لأن المانع من قبوله عند الانفراد إنما هو الجهالة بعدالة راوي الأصل وهو قائم عند الإجماع أيضا "وفي المسند" أي وفي ضم المسند إليه "العمل به" أي بالمسند "حينئذ" أي حين ضم إلى المرسل فلا يكون قبوله قبولا للمرسل "ودفع الأول" أي عدم إفادة ضم المرسل إلى المرسل "بأن الظن قد يحصل عنده" أي ضم المرسل إلى المرسل "كما يقوى" الظن "به" أي بضم المرسل إلى المرسل "لو كان" الظن "حاصلا قبله" أي قبل ضمه إليه لأنه يجوز أن يحدث عن المجموع ما لم يكن عند الانفراد "وقدمنا نحوه في تعدد طرق الضعيف" بغير الفسق مع العدالة "قيل والثاني" أي كون العمل بالمسند إذا ضم إلى المرسل "وارد" وقائله ابن الحاجب ومنع وحينئذ يقال "والجواب بأن المسند يبين صحة إسناد الأول فيحكم له" أي للمرسل "مع إرساله بالصحة" ذكره ابن الصلاح "ودفع" هذا الجواب ودافعه الشيخ سراج الدين الهندي "بأنه إنما يلزم" تبين صحة الإسناد الذي فيه الإرسال بالمسند "لو كان" الإسناد في كليهما "واحدا ليكون المذكور إظهارا للساقط ولم يقصره" أي كون اعتضاد المرسل بالمسند موجبا لقبول المرسل "عليه" أي كون الإسناد في كليهما واحدا بل أطلق فكما يتناول هذا يتناول ما إذا تعدد إسنادهما، ومعلوم أنه لا يلزم من صحة الحديث بإسناد صحته بإسناد آخر "وأجيب أيضا بأنه يعمل بالمرسل وإن لم يثبت عدالة رواة المسند أو بلا التفات إلى تعديلهم" أي رواة المسند "بخلاف ما لو كان العمل به" أي بالمسند "ابتداء" فإنه إنما يعمل به بعد ثبوت عدالة رواته.(4/290)
"واعلم أن عبارة الشافعي لم ينص على اشتراط عدالتهم" أي رواة المسند "وهي" أي عبارته "قوله" والمنقطع مختلف فمن شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التابعين فحدث حديثا منقطعا عن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر عليه بأمور منها أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث "فإن شركه الحفاظ المأمونون فأسندوه" بمثل معنى ما روى "كانت" هذه "دلالة" على صحة من قيل عنه وحفظه "وهذه الصفة لا توجب عبارته ثبوتها في سندهم" قال المصنف أي شركه الحفاظ المأمونون صفة لأهل سند المتصل العاضد لأن الضمير في شركه للمرسل وليس جميع رجال السند أرسلوا أو وصلوا بل إنما يتيسر كل منهما للمبتدئ بذكر الحديث وإسناده فهو الذي إن ذكر جميع الرجال فقد وصله وإن حذف بعضهم أرسله فلزم كون الصفة المذكورة إنما هي للمخرجين كما أن المرسل هو المخرج للحديث فبقي ساكتا عن رجال السند غير حاكم عليهم بتوثيق أو ضعف "وكان الإيراد" على العمل به إذا أتى مسندا أيضا "بناء على اشتراط الصحة" أي صحة السند في المسند "والجواب حينئذ" أي حين يشترط في سند المسند الصحة "صيرورتهما" أي المسند والمرسل "دليلين قد يفيد في المعارضة" بأن يرجح عند المعارضة دليل واحد هذا وأما قول الشافعي في مختصر المزني وإرسال سعيد بن المسيب عندي حسن ففي معناه قولان لأصحابه أحدهما أن مراسيله حجة لأنها فتشت فوجدت(4/291)
ص -376-…مسندة والثاني أنه يرجح بها لكونه من أكابر علماء التابعين لا أنه يحتج بها والترجيح بالمرسل صحيح قال الخطيب البغدادي الصحيح من القولين عندنا الثاني لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد مسندا بحال من وجه يصح وقد جعل الشافعي لمراسيل كبار التابعين مزية كما استحسن مرسل سعيد.
"واعلم أن من المحققين" وهو إمام الحرمين "من أدرج عن رجل في حكمه" أي المرسل "من القبول عند قابل المرسل" وهو ظاهر صنيع أبي داود في كتاب المراسيل "وليس" هذا مقبولا مثل المرسل "فإن تصريحه" أي الراوي "به" أي بمن روى عنه حال كونه "مجهولا ليس كتركه" أي من روى عنه من حيث إنه "يستلزم توثيقه" أي من روى عنه والذي عليه ابن القطان وغيره أنه منقطع أي في حكم المنقطع عند المحدثين ورأيت بخط شيخنا الحافظ رحمه الله أن الذي يقتضيه النظر أن القائل إن كان تابعيا كبيرا حمل على الإرسال أو صغيرا حمل على الانقطاع نظرا إلى أن غالب حالهما مختلف هذا إذا قال عن رجل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أما نحو عن رجل عن عمر أو عن رجل عن فلان فلا شك في انقطاعه انتهى والأولى أنه متصل في إسناده مجهول كما في كلام غير واحد من أهل الحديث وحكاه الرشيد العطار عن الأكثرين على ما ذكر الحافظ العراقي "نعم يلزم" حكم المرسل من باب أولى "كون" قول القائل "عن الثقة تعديلا" فيكون حدثني الثقة تعديلا فوق الإرسال عند من يقبله "بخلافه" أي قول القائل عن الثقة "عند من يرده" أي المرسل فإنه لا يعتبره "إلا إن عرفت عادته" أي القائل عن الثقة "فيه" أي قوله هذا "الثقة" أي أن يكون ثقة في نفس الأمر فإنه حينئذ يقبله من يرد المرسل "كمالك" أي كقوله حدثني "الثقة عن بكير بن عبد الله بن الأشج ظهر أن المراد" بالثقة "مخرمة بن بكير والثقة عن عمرو بن شعيب قيل" الثقة "عبد الله بن وهب وقيل الزهري" ذكره ابن عبد البر "واستقرئ مثله" أي إطلاق الثقة على من يكون ثقة في نفس الأمر "للشافعي"(4/292)
فذكر أبو الحسن الآبري السجستاني في كتاب فضائل الشافعي سمعت بعض أهل المعرفة بالحديث يقول إذا قال الشافعي في كتبه أخبرنا الثقة عن ابن أبي ذئب فابن أبي فديك وعن الليث بن سعد فيحيى بن حسان وعن الوليد بن كثير فأبو أسامة وعن الأوزاعي فعمرو بن أبي سلمة وعن ابن جريج فمسلم بن خالد وعن صالح مولى التوأمة فإبراهيم بن أبي يحيى قال المصنف "ولا يخفى أن رده" أي ما يقول القائل فيه عن الثقة إذا لم يعرف أن عادته فيه الثقة في نفس الأمر "يليق بشارط البيان في التعديل لا الجمهور" القائلين بأن بيانه ليس بشرط في حق العالم بالجرح والتعديل فإنه تعديل عار عن بيان السبب والله سبحانه أعلم.
مسألة
"إذا أكذب الأصل" أي الشيخ "الفرع" أي الراوي عنه "بأن حكم بالنفي" فقال ما رويت هذا الحديث لك أو كذبت علي "سقط ذلك الحديث" أي لم يعمل به "للعلم بكذب أحدهما(4/293)
ص -377-…ولا معين" له وهو قادح في قبول الحديث "وبهذا" التعليل "سقط اختيار السمعاني" ثم السبكي عدم سقوطه لاحتمال نسيان الأصل له بعد روايته للفرع "وقد نقل الإجماع لعدم اعتباره" أي ذلك الحديث نقله الشيخ سراج الدين الهندي والشيخ قوام الدين الكاكي لكن فيه نظر فإن السرخسي وفخر الإسلام وصاحب التقويم حكوا في إنكار الراوي روايته مطلقا اختلاف السلف "وهما" أي الأصل والفرع "على عدالتهما إذ لا يبطل الثابت" أي المتيقن من عدالتهما المفروضة "بالشك" في زوالها "وإن شك فلم يحكم بالنفي" أي بأن قال لا أعرف أني رويت هذا الحديث لك أو لا أذكره "فالأكثر" من العلماء منهم مالك والشافعي وأحمد في أصح الروايتين أن الحديث "حجة" أي يعمل به "ونسب لمحمد خلافا لأبي يوسف تخريجا من اختلافهما في قاض تقوم البينة بحكمه ولا يذكر ردها" أي البينة "أبو يوسف" فلا ينفذ حكمه "وقبلها محمد" فينفذ حكمه "ونسبة بعضهم القبول لأبي يوسف غلط" فإن المسطور في الكتب المذهبية المعتبرة هو الأول "ولم يذكر فيها" أي مسألة القاضي المنكر لحكمه "قول لأبي حنيفة فضمه مع أبي يوسف يحتاج إلى ثبت وعلى المنع الكرخي والقاضي أبو زيد وفخر الإسلام وأحمد في رواية القابل" للرواية مع إنكار الأصل قال "الفرع عدل جازم" بالرواية عن الأصل "غير مكذب" لأن الفرض أن الأصل غير مكذبه "فيقبل" لوجود المقتضي السالم عن معارضة المانع "كموت الأصل وجنونه" إذ نسيانه لا يزيد عليهما بل دونهما قطعا وفيهما تقبل روايته بالإجماع فكذا فيه "ويفرق" بينهما وبينه "بأن حجيته" أي الحديث "بالاتصال به صلى الله عليه وسلم وبنفي معرفة المروي عنه له" أي للمروي "ينتفي" الاتصال "وهو" أي انتفاء الاتصال "منتف في الموت" والجنون "والاستدلال بأن سهيلا بعد أن قيل له حدث عنك ربيعة أنه صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين. فلم يعرفه" إذ في سنن أبي داود قال سليمان فلقيت سهيلا فسألته عن هذا الحديث(4/294)
فقال ما أعرفه "صار يقول حدثني ربيعة عني" كما أخرجه أبو عوانة في صحيحه وغيره وفي السنن فقلت إن ربيعة أخبرني به عنك قال فإن كان ربيعة أخبرك عني فحدث به عن ربيعة عني وفي رواية عن عبد العزيز قال فذكرت ذلك لسهيل فقال أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة أني حدثته إياه ولا أحفظه "دفع بأنه غير مستلزم للمطلوب وهو وجوب العمل" به فإن ربيعة لم ينقل ذلك على طريق إسناد الحديث وتصحيح روايته وإنما كان يقوله على طريق حكاية الواقعة بزعمه ولا دلالة لهذا على وجوب العمل به "ولو سلم" استلزامه له "فرأي سهيل كرأي غيره" فلا يكون رأيه حجة على غيره "ولو سلم" كون رأيه حجة على غيره "فعلى الجازم فقط" لا عموم الناس "قالوا" أي النافون للعمل به "قال عمار لعمر أتذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد الماء فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمعكت وصليت فقال عليه السلام "إنما يكفيك ضربتان" فلم يقبله عمر" كما معنى هذا في صحيح البخاري وسنن أبي داود وأما لفظه بتمامه فالله تعالى أعلم به والظاهر أنه لم يقبله "إذ كان ناسيا له" إذ لا يظن بعمار الكذب ولا بعمر عدم القبول مع الذكر له ومما يشهد لذلك في السنن فقال يا عمار اتق الله فقال يا أمير المؤمنين إن شئت والله لم أذكره أبدا فقال كلا(4/295)
ص -378-…والله لنولينك من ذلك ما توليت "ورد بأنه" أي هذا المأثور عن عمار وعمر "في غير محل النزاع فإن عمارا لم يرو عن عمر" ذلك بل عن النبي صلى الله عليه وسلم "ورد" هذا الرد "بأن عدم تذكر غير المروي عنه الحادثة المشتركة" بينه وبين الراوي لها "إذا منع قبول" حكم "المبني عليها" للشك فيه حينئذ "فنسيان المروي عنه أصل روايته له أولى" أن يمنع قبول حكمه من ذلك "فالوجه رده" أي عمر "لكن لا يلزم الراوي" وهو عمار ما يلزم الناس من عدم العمل بحديثه "لدليل القبول" أي لقيام دليل قبوله في حقه حيث جزم بصحة هذه الحادثة فيلزم أن يعمل بمقتضاه وهو جواز التيمم لمن هو بمثل تلك الحالة وقد يقال لكن لا يلزم منه إذا قبل أن يجب العمل به على كافة الناس وليس ببعيد كما يشهد له ما ذكرنا آنفا من السنن "وأما" قول النافين للعمل به "لم يصدقه" أي الأصل الفرع "فلا يعمل به كشاهد الفرع عند نسيان الأصل" بجامع الفرعية والنسيان "فيدفع بأنها" أي الشهادة "أضيق" من الرواية لاختصاص الشهادة بشرائط لا تشترط في الرواية من الحرية والعدد والذكورة ولفظ الشهادة وغيرها لتعلقها بحقوق العباد المجبولين على الشح والضنة وتوفر الكذب فيها بخلاف الرواية، وأورد ينبغي أن يكون الأمر بالعكس لأنه يثبت بالرواية حكم كلي يعم المكلفين إلى يوم القيامة والشهادة قضية جزئية وأجيب بالتسليم إلا أن الرواية أبعد عن التهمة فكانت الشهادة أجدر بالاحتياط "ومتوقفة على تحميل الأصل" الفرع لها فتبطل شهادة الفرع "بإنكاره" أي الأصل الشهادة "بخلاف الرواية" فإنها مبنية على السماع دون التحميل فلا يكون إنكار الأصل مستلزما لفوات الرواية لجواز السماع مع نسيانه لكن هذا إنما يتم عند من شرط في قبول شهادة الفرع تحميل الأصل لها كالحنفية أما من لم يشرطه كالشافعية فلا وفي الأول كفاية وبالجملة لا يلزم من عدم جواز العمل بالشهادة مع نسيان الأصل عدم جواز العمل بالرواية مع نسيان(4/296)
الأصل للفرق المؤثر بينهما في ذلك والله تعالى أعلم.
"مسألة إذا انفرد الثقة" من بين ثقات رووا حديثا "بزيادة" على ذلك الحديث "وعلم اتحاد المجلس" لسماعه وسماعهم ذلك الحديث "ومن معه لا يغفل مثلهم عن مثلها" أي تلك الزيادة "عادة لم تقبل" تلك الزيادة "لأن غلطه" أي المنفرد بها "وهم" أي والحال أن من معه "كذلك" أي لا يغفل مثلهم عن مثلها عادة "أظهر الظاهرين" من غلطه وغلطهم لأن احتمال تطرق الغلط والسهو إليه أولى من احتمال تطرقه إليهم وهم بهذه المثابة ويحمل على أنه سمعها من غير المروي عنه والتبس عليه الأمر فظن أنه سمعها منه "وإلا" فإن كان مثلهم يغفل عن مثلها "فالجمهور" من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين "وهو المختار تقبل" وعن أحمد في رواية وبعض المحدثين لا تقبل "لنا" أن راويها "ثقة جازم" بروايتها "فوجب قبوله" كما لو انفرد برواية الحديث "قالوا" أي نافو قبولها راويها "ظاهر الوهم لنفي المشاركين" له في السماع والمجلس "المتوجهين لما توجه له" إياها "قلنا إن كانوا" أي نافوها "من تقدم" أي من لا يغفل مثلهم عن مثلها عادة "فمسلم" كونه ظاهر الوهم فلا يقبل ولكن ليس هذا محل النزاع "وإلا" فإن كانوا ليسوا ممن تقدم "فأظهر منه" أي من كونه ظاهر الوهم "عدمه" أي عدم ظهوره "لأن(4/297)
ص -379-…سهو الإنسان في أنه سمع ولم يسمع بعيد بخلاف ما تقدم" في الشق الأول من أنهم "إذا كانوا ممن تبعد العادة غفلتهم عنه" فإن سهوه ليس ببعيد "فقد علمت أن حقيقة الوجهين" في الشقين "ظاهران تعارضا فرجح" في الأول أحدهما وفي الثاني الآخر لموجب له "فإن تعدد المجلس أو جهل" تعدده "قبل" المزيد "اتفاقا" أما إذا تعدد فلاحتمال أن يكون المزيد في مجلس انفرد به وأما إذا جهل فلاحتمال التعدد كذلك هذا "والإسناد مع الإرسال زيادة وكذا الرفع" للحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم من ثقة "مع الوقف" له على غيره من ثقة زيادة "والوصل" له بذكر الوسائط التي بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم من ثقة "مع القطع" له بترك بعضها من ثقة زيادة فيأتي في كل منها ما يأتي في الزيادة من الحكم "خلافا لمقدم الأحفظ" سواء كان هو المرسل أو المسند أو الرافع أو الواقف أو الواصل أو القاطع كما هو قول بعضهم "أو الأكثر" كذلك أيضا كما هو قول بعض آخرين.(4/298)
"فإن قيل الإرسال والقطع كالجرح في الحديث" فينبغي أن يقدما على الإسناد والوصل كما يقدم الجرح على التعديل "أجيب بأن تقديمه" أي الجرح "لزيادة العلم" فيه "لا لذاته" أي الجرح "وذلك" أي مزيد العلم "في الإسناد فيقدم" على غيره "وهذا الإطلاق" لقبول الزيادة المراد بقوله فالجمهور وهو المختار يقبل "يوجب قبولها" أي الزيادة سواء كانت "من راو" واحد روى ناقصا ثم رواه بالزيادة "أو أكثر" من واحد بأن رواه بعضهم ناقصا وبعضهم بزيادة "وإن عارضت" الزيادة "الأصل وتعذر الجمع" بينهما أو لا "وهذا" معنى "ما قيل" أي ما نقله الخطيب من ذهاب الجمهور من الفقهاء والمحدثين إلى قبولها "غيرت الحكم" الثابت "أم لا" أوجبت نقصا من أحكام ثبتت بخبر ليست فيه تلك الزيادة أم لا كان ذلك من واحد أو كانت الزيادة من غير من رواه بدونها "ونقل فيه" أي هذا القول "إجماع" أهل "الحديث" ذكره ابن طاهر حيث قال لا خلاف نجده بين أهل الصنعة أن الزيادة من الثقة مقبولة انتهى فلم يقيده بقيد "وقيل في الكتب المشهورة المنع" أي وقال الشيخ سعد الدين في صورة ما إذا كان الراوي واحدا والزيادة معارضة وفي الكتب المشهورة أنه إن تعذر الجمع بين قبول الزيادة والأصل لم تقبل وإن لم يتعذر فإن تعدد المجلس قبلت وإن اتحد فإن كانت مرات روايته للزيادة أقل لم تقبل إلا أن يقول سهوت في تلك المرات وإن لم تكن أقل قبلت قال المصنف "وهو" أي منع قبول الزيادة المعارضة مطلقا سواء كانت من راو أو أكثر "مقتضى حكم" أهل "الحديث بعدم قبول الشاذ المخالف" لما رواه الثقات وإن كان راويه ثقة "بل أولى إذ مثلوه" أي الشاذ المخالف "برواية الثقة" وهو همام بن يحيى احتج به أهل الصحيح "عن ابن جريج أنه عليه السلام كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه" رواه أصحاب السنن "ومن سواه" أي الثقة الذي هو همام إنما روى "عنه" أي ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه كما ذكره أبو(4/299)
داود قال والوهم فيه من همام ولم يروه إلا همام وهو متعقب بأن يحيى بن المتوكل البصري رواه عن ابن جريج أيضا كما أخرجه الحاكم "مع كونه" أي مروي الثقة عن ابن جريج "لم يعارض" برواية غيره عنه فإذا حكموا بعدم قبول رواية الثقة عن ابن(4/300)
ص -380-…جريج مع مخالفة ليست معارضة فأولى أن يردوا الزيادة المعارضة لما رواه هو أو غيره "وإن لم يتعذر" الجمع "مع جهل الاتحاد" للمجلس ومع وحدة الراوي "ومرات روايتها" أي الزيادة "ليست أقل من تركها قبلت وإلا لم تقبل إلا أن يقول سهوت في مرات الحذف" ولا يخفى ما في هذا من الزيادة على ما نقله التفتازاني عن الكتب المشهورة قال المصنف "والمعروف أنه" أي هذا "مذهب في قبولها" أي الزيادة "مطلقا" أي سواء كانت مخالفة أو لا "من" الراوي "الواحد لا بقيد مخالفتها" وهو ما ذكره ابن الصباغ في العدة حيث قال: إذا روى الواحد خبرا ثم رواه بعد ذلك بزيادة فإن ذكر أنه سمع كلا من الخبرين في مجلس قبلت الزيادة وإن عزا ذلك إلى مجلس واحد وتكررت روايته بلا زيادة ثم روى الزيادة فإن قال كنت أنسيت هذه الزيادة قبل منه وإن لم يقل ذلك وجب التوقف في الزيادة قال المصنف وليس هذا قدحا صريحا في نقل هذا المذهب فإن النقل كثير "ثم موجب الدليل السابق" وهو قولنا ثقة جازم "والإطلاق" المذكور في نقل مذهب الجمهور كما نقله الخطيب وغيره "قبول" الزيادة "المعارضة" مطلقا وإن تعذر الجمع "أو يسلك الترجيح" أما كون هذا مقتضى الدليل المذكور فظاهر إذ لا شك في أنه يتناول المعارضة وغيرها وأما أنه مقتضى إطلاق نقل هذا المذهب فكذلك وقد ذكره ثم ليس يلزم من قبولها عدم العمل بما يترجح ظن خلافه لمعارضة الثقات وإنما يلزم لو التزمنا من قبولها العمل بها لكنا أنزلناها حديثا معارضا لغيره فيطلب الترجيح بخلاف ما لو رددناها فإنا حينئذ لا نطلب ترجيحا بينها وبين ما عارضته فكان الوجه القبول كما هو ظاهر إطلاق الجمهور ثم النظر في الترجيح ذكره المصنف رحمه الله "ومنه" أي المزيد المعارض الزيادة "الموجبة نقصا مثل" رواية "وتربتها طهورا" بعد قوله "وجعلت لي الأرض مسجدا" بدل قوله وطهورا وتقدم تخريج الحديث في مسألة إفراد فرد من العام بحكم العام لا يخصصه ثم لما توجه أن(4/301)
يقال فلا يرد الشاذ المخالف لما روته الثقات التزمه وقال "والشاذ الممنوع" أي المردود هو "الأول" أي ما انفرد بمزيد في مجلس متحد له ولهم والمزيد "ما لا يغفل مثلهم" أي من معه فيه "عنه" أي ذلك المزيد "وعليه" أي قبول الزيادة المعارضة "جعل الحنفية إياه" أي المزيد إذا كان هو والأصل "من اثنين خبرين كنهيه" صلى الله عليه وسلم "عن بيع الطعام قبل القبض" كما ثبت في الصحيحين وغيرهما بلفظ من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه وفي رواية حتى يستوفيه وقوله صلى الله عليه وسلم لعتاب بن أسيد لما بعثه إلى أهل مكة "انههم عن بيع ما لم يقبضوا" رواه أبو حنيفة بلفظ ما لم يقبض وفي سنده ما لم يسم "أجروا" أي الحنفية "المعارضة" بينهما "ورجحوا" قوله المذكور لعتاب لأن فيه "زيادة العموم" لتناوله الطعام وغيره غايته أن أبا حنيفة وأبا يوسف لم يعملا بها في حق العقار لكون النص معلولا بغرر الانفساخ بالهلاك وهو منتف في العقار لأن هلاكه نادر والنادر لا عبرة به ولا يبتنى الفقه باعتباره وإنما رجحوا قوله لعتاب على نهيه عن بيع الطعام قبل القبض ولم يقيدوه به "إذ لا يحملون المطلق على المقيد" في مثله كما عرف في موضعه "والوجه فيه" أي في حديث النهي عن بيع ما لم يقبض "وفي تربتها" أي وفي هذا الحديث(4/302)
ص -381-…"تعين العام" وهو النهي عن بيع ما لم يقبض والأرض لإجراء المعارضة ثم الترجيح بالعموم كما يرجح العلة بزيادة المحال لأن الزيادة صيرت كلا من قبيل إفراد فرد من العام وهو ليس تخصيصا لأن حاصله إثبات عين الحكم الذي أثبته العام لبعض أفراده ولا منافاة فلا يخرج عن العموم الذي اقتضاه المتروك فلا يعارض لترجح فإن الترجيح عند المعارضة يكون كما أشار إليه بقوله "ويلزم الشافعية مثله لأنه من قبيل إفراد فرد من العام" بحكمه "ومن الواحد" أي وجعل الحنفية الزيادة والأصل بدونها إذا كان راويهما واحدا خبرا "واحدا ولزم اعتبارها" أي وحكموا بأنها مرادة في الأصل "كابن مسعود" أي كما في رواية عن ابن مسعود سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا اختلف المتبايعان" ولم يكن لهما بينة "والسلعة قائمة" فالقول ما قال البائع أو يترادان" "وفي أخرى" عنه "لم تذكر" السلعة رواهما أبو حنيفة لكن بلفظ البيعان والحديث في السنن وغيرها وهو بمجموع طرقه حسن يحتج به لكن في لفظه اختلاف ذكره ابن عبد الهادي "فقيدوا" أي الحنفية جريان التحالف بين المتبايعين إذا اختلفا في المبيع أو الثمن "بها" أي بالزيادة التي في إحدى الروايتين وهي قيام السلعة "حملا على حذفها في الأخرى نسيانا بلا ذلك التفصيل" المتقدم وهو أنه إذا كان مرات ترك الزيادة أقل من مرات روايتها لا تقبل إلا أن يقول سهوت في مرات الحذف "وهو" أي قولهم هذا هو "الوجه" لأن عدالته وثقته تعبر عن الراوي بهذا المعنى الذي ذكره المفصل شرطا للقبول بلا حاجة إلى أن يعبر عنه بلسانه صريحا "فليس" هذا منهم "من حمل المطلق" على المقيد.
مسألة(4/303)
"خبر الواحد مما تعم به البلوى أي يحتاج إليه الكل حاجة متأكدة مع كثرة تكرره لا يثبت به وجوب دون اشتهار أو تلقي الأمة بالقبول" له أي مقابلته بالتسليم والعمل بمقتضاه ثم حيث كان هذا "عند عامة الحنفية" فلا يظهر لتنصيصه على الكرخي بقوله "منهم الكرخي" بعد شمولهم إياه فائدة بل الذي في غير موضع الاقتصار على الاشتهار ونسبة هذا إلى الكرخي من أصحابنا المتقدمين وإلى المتأخرين منهم وقد كانت النسخة على هذا أولا فغيرت إلى هذا الذي هي عليه الآن ثم الظاهر أنه لا تلازم كليا بين الاشتهار وبين تلقي الأمة له بالقبول إذ قد يوجد اشتهار للشيء بلا تلقي جميع الأمة له بالقبول وقد يتلقى الأمة الشيء بالقبول بلا روايته على سبيل الاشتهار ثم هذه الزيادة لا بأس بها لكن الشأن في كونها منقولة عنهم "كخبر مس الذكر" أي "من مس ذكره فليتوضأ" الذي روته بسرة بنت صفوان كما أخرجه أصحاب السنن وصححه أحمد وغيره فإن نواقض الوضوء يحتاج إلى معرفتها الخاص والعام وهذا السبب كثير التكرر وخبره هذا لم يشتهر ولم يتلقه الأمة بالقبول بل قال شمس الأئمة السرخسي إن بسرة انفردت بروايته فالقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم خصها بتعليم هذا الحكم مع أنها لا تحتاج إليه ولم يعلم سائر الصحابة مع شدة حاجتهم إليه شبه المحال انتهى. فإنه لم يسلم طريق غيرها من تضعيف فلا جرم أن الحنفية لم يعملوا به فإن قيل يشكل عليهم قبولهم خبر الواحد المتفق عليه المفيد لغسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء عند الشروع في(4/304)
ص -382-…الوضوء منه، وخبر الواحد المتفق عليه المفيد لرفع اليدين عند إرادة الشروع في الصلاة مع أن كلا منهما مما تعم به البلوى فالجواب لا كما أشار إليه بقوله "وليس غسل اليدين ورفعهما منه" أي العمل بخبر الواحد فيما تعم به البلوى على الوجه الذي نفيناه "إذ لا وجوب" لهما أي فإنا لم نثبت بكل منهما وجوبا بل أثبتنا به استنان ذلك فلا يضر قبولنا إياه فيه "كالتسمية في قراءة الصلاة" فإنا قبلنا خبرها فيها وكأنه يعني ما عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم في الفاتحة في الصلاة وعدها آية. أخرجه ابن خزيمة والحاكم وإن كانت مما تعم به البلوى لأنا لم نثبت به وجوبها بل ظاهر المذهب استنانها فلا يرد علينا أيضا "والأكثر" من الأصوليين والمحدثين "يقبل" خبر الواحد فيما تعم به البلوى إذا صح إسناده "دونهما" أي بلا اشتراط اشتهاره ولا تلقي الأمة له بالقبول "لنا أن العادة قاضية بتنقيب المتدينين" أي بحثهم "عن أحكام ما اشتدت حاجتهم إليه لكثرة تكرره" أي ما اشتدت حاجتهم إليه قال المصنف واشتداد الحاجة بالوجوب "وبإلقائه" أي ما اشتدت الحاجة إليه "إلى الكثير" منهم "دون تخصيص الواحد والاثنين ويلزمه" أي إلقاءه إلى الكثير "شهرة الرواية والقبول وعدم الخلاف" فيه "إذا روى فعدم أحدهما" أي الشهرة والقبول "دليل الخطأ" أي خطأ ناقله "أو النسخ" والوجه كما يشهد له أولا قوله دون اشتهار أو تلقي الأمة بالقبول وثانيا ما سيأتي من قوله فأما ما اشتهر أو تلقي أن يقول ويلزمه شهرة الرواية أو القبول فعدمهما دليل الخطأ أو النسخ "فلا يقبل" ثم لا يخفى أنه لا حاجة إلى عطف عدم الخلاف على القبول تفسيرا له لأن الظاهر أن القبول أخص من عدم الخلاف إذ قد لا يخالف الشيء ولا يقبل ثم الظاهر أن المراد به تسليمه والعمل بمقتضاه لا ما هو أعم منه ومن ترك رده فليتأمل.(4/305)
"واستدل" للمختار بمزيف وهو "العادة قاضية بنقله" أي ما تعم به البلوى نقلا "متواترا" لتوفر الدواعي على نقله كذلك ولما لم يتواتر علم كذبه "ورد" هذا "بالمنع" أي منع قضاء العادة بتواتره "إذ اللازم" لكونه تعم به البلوى إنما هو "علمه" أي الحكم للكثير "لا روايته" أي الحكم لهم "إلا عند الاستفسار" عنه "أو يكتفى برواية البعض مع تقرير الآخرين قالوا" أي الأكثرون "قبلته" أي خبر الواحد فيما تعم به البلوى "الأمة في تفاصيل الصلاة وقبلتموه في مقدماتها كالفصد" أي الوضوء منه بقوله صلى الله عليه وسلم "الوضوء من كل دم سائل" رواه الدارقطني وابن عدي "والقهقهة" أي والوضوء منها إذا كانت في صلاة مطلقة بما تقدم في مسألة حمل الصحابي مرويه المشترك من طريق أبي حنيفة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من كان منكم قهقه فليعد الوضوء والصلاة" "وقبل فيه" أي في حكم ما تعم به البلوى "القياس" أي العمل به "وهو" أي القياس "دولانه" أي خبر الواحد لما سيأتي في المسألة التالية لما بعد هذه فخبر الواحد أولى بالقبول "قلنا التفاصيل إن كانت رفع اليدين والتسمية والجهر بها ونحوه من السنن" كوضع اليمين على الشمال تحت السرة وإخفاء التأمين "فليس محل النزاع" فإنا لم نثبت بخبر الواحد وجوبها وليس النزاع إلا في إثبات الوجوب به إذ اشتداد الحاجة مع الوجوب "أو" كانت "الأركان الإجماعية" من القيام والقراءة والركوع والسجود "فبقاطع" أي فإنما أثبتناه بدليل قاطع(4/306)
ص -383-…من الكتاب والسنة والإجماع كما عرف في موضعه "أو" كانت الأركان "الخلافية كخبر الفاتحة" أي ما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" "فأما اشتهر أو تلقي" بالقبول "فقلنا بمقتضاه من الوجوب أو" كانت "ليس" كل منها "منه" أي مما تعم به البلوى "إذ هو" أي ما تعم به البلوى "فعل" يكثر تكرره سببا للوجوب عليهم فيحتاج الكل إلى معرفته حاجة شديدة كالبول والصلاة "أو حال يكثر تكرره للكل" حال كونه "سببا للوجوب" عليهم أيضا فيحتاج الكل إلى معرفته حاجة شديدة سواء كان مبنيا على اختيارهم أو غير مبني عليه كالحدث عن المس فإن سببه وهو المس يكثر بخلافه عن التقاء الختانين فإنه لا يكثر لعدم كثرة سببه "فيعلم" الوجوب عليهم "لقضاء العادة بالاستعلام أو بلزوم كثرته" أي كثرة إعلام المكلفين به "للشرع قطعا" بأن يلقيه إلى كثير تشهيرا له لشدة الحاجة إليه "كمطلق القراءة" في الصلاة "حينئذ" أي حين كان الأمر على هذا التفصيل "ظهر أن ليس منه" أي مما تعم به البلوى "نحو الفصد" فإنه لا يكثر للمتوضئين على أن الوضوء من نحوه لم يثبت وجوبه عندنا بمجرد الحديث المذكور وكيف وقد ضعف ببعض من في سنده بل بغيره من الأحاديث الثابتة والقياس الصحيح كما هو معروف في موضعه "والقهقهة" في الصلاة فإنها ليست مما يكثر "فلا يتجه إيجابهم" أي الحنفية "السورة" أي قراءتها مع الفاتحة في الصلاة "مع الخلاف" في قبول حديثها وعدم اشتهاره بل وفي صحته أيضا مع أنها مما تعم به البلوى وهو ما أخرج الترمذي وابن ماجه مرفوعا "لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة" في فريضة وغيرها "ولزوم" العمل بمقتضى "القياس" فيما تعم به البلوى للحنفية المشار إليه بقول الأكثرين وقبل فيه القياس دونه "متوقف على لزوم القطع بحكم ما تعم به" البلوى "ولا نقول به" أي بالقطع به "بل الظن وعدم قبول ما لم يشتهر" من أخبار الآحاد "أو" لم "يقبلوه"(4/307)
منها إنما هو "لانتفائه" أي الظن "بخلاف القياس" قال المصنف يعني المسألة ظنية والقياس يوجب الظن بخلاف خبر الواحد فإنه لا يوجب الظن فيما تعم به البلوى وتشتد الحاجة إليه إلا إذا اشتهر أو قبلوه فأما إذا لم يشتهر فيغلب على الظن خطؤه للوجه الذي ذكر، هذا "ويمكن منع ثبوته" أي حكم ما تعم به البلوى "بالقياس لاقتضاء الدليل" وهو قضاء العادة بالاستعلام أو كثرة إعلام الشارع به "سبق معرفته" أي حكم ما تعم به البلوى للناس "على تصوير المجتهد إياه" أي القياس فيثبت الحكم بمعرفة الناس له قبل القياس.
مسألة
"إذا انفرد" مخبر "بما شاركه بالإحساس به خلق" كثير "مما تتوفر الدواعي على نقله" دينيا كان أو غيره "يقطع بكذبه خلافا للشيعة، لنا العادة قاضية به" أي بكذبه لأن طباع الخلق مجبولة على نقله والعادة تحيل كتمانه وخصوصا إن تعلق بفعله مصالح العباد أو صلاح البلاد "قالوا" أي الشيعة "الحوامل" المقدرة "على الترك" لنقله "كثيرة" من مصلحة تتعلق بالجميع في أمر الولاية وإصلاح المعيشة أو خوف ورهبة من عدو غالب أو ملك قاهر إلى غير ذلك "ولا طريق إلى علم عدمها" أي الحوامل على الترك لعدم إمكان ضبطها "ومع(4/308)
ص -384-…احتمالها" أي الحوامل السكوت "ليس السكوت" من المشاركين له "قاطعا في كذبه" لعدم الجزم به حينئذ "ولذا" أي جواز انفراد البعض مع كتمان الباقين فيما هذا شأنه لحامل عليه "لم ينقل النصارى كلام عيسى عليه السلام في المهد" مع أنه مما تتوفر الدواعي على نقله لأنه من أعجب حادث في العالم ومن أعظم ما يحصل الداعية على إشاعته إذ ليس يظهر للكتمان سبب سوى ذلك "ونقل اشتقاق القمر وتسبيح الحصى والطعام وحنين الجذع وسعي الشجرة وتسليم الحجر والغزالة" للنبي صلى الله عليه وسلم "آحادا" مع أن كلا منها مما تتوفر الدواعي على نقله "أجيب بإحالة العادة وشمول حامل" على الكتمان "للكل" كما تحيل اتفاقهم في داع لا كل طعام واحد في وقت واحد "والظاهر عدم حضور عيسى" وقت كلامه في المهد "إلا الآحاد" من الأهل الذين أتت به تحمله إليهم "وإلا" لو حضره الجم الغفير "وجب القطع بتواتره وإن انقطع" التواتر "لحامل المبدلين على إخفاء ما تكلم به" وقتئذ وهو قوله: إني عبد الله والحامل على إخفائهم إياه ادعاؤهم أنه إله وأنه ابن فإن كلامه هذا الذي بدأ به أول ما تكلم اعترافه بالعبدية لله وهو مسجل عليهم بتكذيبهم "وهو" أي حضور الجم الغفير إياه مع عدم نقله متواترا "إن جاز" عقلا "فخلاف الظاهر" المقطوع به عادة فلا يقدح في القطع العادي "وما ذكر" مما تتوفر الدواعي على نقله من المعجزات المذكورة "حضره الآحاد ولازمه" أي حضورهم إياه "الشهرة" فإن التواتر يمتنع باعتبار أن الطبقة الأولى آحاد فبقي أن يتواتر في حال البقاء وهو الشهرة "وقد تحققت" في ذلك فأخذ كونها مما تتوفر الدواعي على نقله مقتضاه "على أنه لو فرض عدد التواتر" في شيء من ذلك "وتخلف" تواتره "فلاكتفاء البعض" من الناقلين لذلك "بأعظمها" أي المعجزات "القرآن" فإنه المعجزة المستمرة الباقية في مستقبل الأزمنة الدائرة على الألسنة في غالب الأمكنة هذا وقد يقال كل من انشقاق القمر وحنين الجذع(4/309)
متواتر أما انشقاق القمر فقد قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] الآية قال القاضي عياض فذكر الانشقاق بلفظ الماضي وأخبر أن الكفار أعرضوا عن آيته وزعموا أنها سحر قال وأجمع المفسرون وأهل السير على وقوعه ورواه من الصحابة علي وابن مسعود وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عمر وابن عباس وأنس وبين شيخنا الحافظ مخرجي أحاديثهم من الأئمة إلا حديث علي قال لم أقف عليه وقال القرطبي في المفهم رواه العدد الكثير من الصحابة ونقله عنهم الجم الغفير من التابعين فمن بعدهم وأما حنين الجذع فإن طرقه كثيرة قال البيهقي أمره ظاهر نقله الخلف عن السلف وإيراد الأحاديث فيه كالتكلف قال شيخنا الحافظ يعني لشدة شهرته وهو كما قال فقد وقع لنا من حديث عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وأنس وجابر وسهل بن سعد وأبي وأبي سعيد وبريدة وعائشة وأم سلمة وبين مخرجي أحاديثهم من الأئمة فلا جرم أن قال السبكي الصحيح عندي في الجواب التزام أن الانشقاق والحنين متواتران ا هـ ثم تسبيح الحصى بيده. أخرجه أبو نعيم والبيهقي والطبراني وغيرهم وتسبيح الطعام وهم يأكلونه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري وأحمد وابن خزيمة وغيرهم وسعي الشجرة إليه رواه الترمذي وابن ماجه(4/310)
ص -385-…وغيرهما وتسليم الحجر رواه مسلم وأخرج الدارمي والترمذي عن علي رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا معه في بعض نواحيها فمررنا بين الجبال والشجر فلم نمر بجبل ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله. وأما تسليم الغزالة فقال شيخنا الحافظ فمشتهر في الألسنة وفي المدائح النبوية ولم أقف لخصوص السلام على سند وإنما ورد الكلام في الجملة ثم ساق ذلك بسنده وأفاد أنه أخرجه الحاكم في الإكليل والبيهقي والطبراني بسند ضعيف والله سبحانه أعلم.
مسألة(4/311)
"إذا تعارض خبر الواحد والقياس بحيث لا جمع" بينهما ممكن "قدم الخبر مطلقا عند الأكثر" منهم أبو حنيفة والشافعي وأحمد "وقيل" قدم "القياس" وهو منسوب إلى مالك إلا أنه استثنى أربع أحاديث فقدمها على القياس حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب وحديث المصراة وحديث العرايا وحديث القرعة "وأبو الحسين" قال قدم القياس "إن كان ثبوت العلة بقاطع" لأن النص على العلة كالنص على حكمها فحينئذ القياس قطعي والخبر ظني والقطعي مقدم قطعا "فإن لم يقطع" بشيء "سوى بالأصل" أي بحكمه "وجب الاجتهاد في الترجيح" فيقدم ما يترجح إذ فيه تعارض ظنين: النص الدال على العلة، وخبر الواحد ويدخل في هذا ما إذا كانت العلة منصوصا عليها بظني وما إذا كانت مستنبطة "وإلا" إن انتفى كلا هذين "فالخبر" مقدم على القياس لاستوائهما في الظن وترجح الخبر على النص الدال على العلة بأنه يدل على الحكم بدون واسطة بخلاف النص الدال على العلة فإنه إنما يدل على الحكم بواسطة العلة فيشمل ما إذا كانت منصوصة بظني أو مستنبطة ولم يكن حكمها في الأصل ثابتا بقطعي هذا ولفظه في المعتمد العلة إن كانت منصوصة بقطعي فالقياس أو بظني ولم يكن حكمها في الأصل ثابتا بقطعي فالخبر وإن كان ثابتا بمقطوع فينبغي أن يكون القياس اختلفوا في هذا الموضع وإن كان الأصوليون ذكروا الخلاف فيه مطلقا ثم قال والأولى أن يرجح أحدهما على الآخر بالاجتهاد عند قوة الظن قال السبكي وأنت تراه كيف لم يجعل اختياره مذهبا مستقلا برأسه بل أشار إلى موضع الخلاف وينجر اختياره إلى اتباع أقوى الظنين وهذا أيضا لا ينازعه فيه أحد وإنما النزاع في أن أقوى الظنين ما هو فمن رجح الخبر قال الظن المستفاد منه أقوى وبالعكس، ثم تخصيص أبي الحسين الخلاف بالمحل الذي ذكره قال ابن السمعاني لا يعرف له فيه متقدم قال السبكي وإن فرض أبو الحسين صورة يكون القطع موجودا فيها فهذا ما لا ينازع إذ القاطع مرجح على الظن وكذا أرجح الظنين(4/312)
فليس في تفصيله عند التحقيق كبير أمر.
"والمختار" عند الآمدي وابن الحاجب والمصنف "إن كانت العلة" ثابتة "بنص راجح على الخبر ثبوتا" إذا استويا في الدلالة "أو دلالة" لو استويا ثبوتا "وقطع بها" أي العلة "في الفرع قدم القياس" لكن الآمدي وابن الحاجب اقتصرا على تقييد رجحان النص على الخبر(4/313)
ص -386-…بكونه في الدلالة وقال الكرماني وإنما قيد بقوله في الدلالة إذ المعتبر ذلك لا رجحانه بحسب الإسناد بأن يكون متواترا لجواز ثبوتها بخبر واحد راجح على ذلك الخبر في الدلالة وقال السبكي ولقائل أن يقول لا يلزم من ثبوت العلية براجح والقطع بوجودها أن يكون ظن الحكم المستفاد منها في الفرع أقوى من الظن المستفاد من الخبر لأن العلة عندكم لا يلزمها الاطراد بل ربما تخلف الحكم عنها لمانع فلم قلتم إنه لم يتخلف عن الفرع لمانع الخبر لا سيما إذا كانت العلة عامة تشمل فروعا كثيرة والخبر يختص بهذا الفرع المتنازع فيه فهذا ما لا يعتقد أن الظن المستفاد من الخبر فيه أضعف من القياس أبدا ا هـ قلت وهذا ذهول عن موضوع الخلاف فإنه ما إذا تساويا في العموم والخصوص كما وقع التصريح به بعد سوق الأدلة وهو لا يتأتى فيه البحث فليتأمل "وإن ظنت" العلة في الفرع "فالوقف" قال السبكي ولقائل أن يقول الوقف إنما يكون عند تساوي الأقدام فينبغي أن يقال إن كان وجودها ظنيا والظنان متساويان ونحن نمنع ذلك فإنا نعتقد أن ظن الخبر أرجح "وإلا تكن" العلة ثابتة "براجح" بأن تكون مستنبطة أو ثابتة بنص مرجوح عن الخبر أو مساو له "فالخبر" مقدم على القياس وتوقف القاضي أبو بكر في تقديم القياس على الخبر وعكسه وقال ابن أبان إن كان الراوي ضابطا غير متساهل فيما يرويه قدم خبره على القياس وإلا فهو موضوع اجتهاد وقال فخر الإسلام إن كان الراوي من المجتهدين كالخلفاء الراشدين قدم خبره على القياس وإن كان من المشهورين بالضبط والعدالة دون الفقه والاجتهاد فالأصل العمل بخبره فلا يترك ما لم توجب الضرورة تركه وهي ضرورة انسداد باب الرأي والقياس مطلقا "للأكثر ترك عمر القياس في الجنين وهو" أي القياس "عدم الوجوب" لشيء على الضارب لبطن امرأة فيه جنين فأسقطته ميتا "بخبر حمل بن مالك" وتقدم تخريجه في مسألة العمل بخبر العدل واجب "وقال لولا هذا لقضينا فيه برأينا"(4/314)
ولم أقف على هذا اللفظ عنه وأقرب لفظ إليه وقفت عليه ما أخرج الشافعي عنه في الأم فقال عمر إن كدنا أن نقضي في هذا برأينا وعند أبي داود فقال عمر الله أكبر لو لم أسمع بهذا لقضينا بغير هذا "فأفاد" عمر "أن تركه" الرأي إنما هو "للخبر وفي دية الأصابع" القياس أيضا "وهو تفاوتها" أي الدية فيها "لتفاوت منافعها وخصوصه" أي تفاوت منافعها "أمر آخر وكان رأيه في الخنصر" بكسر الخاء والصاد. وقال الفارسي اللغة الفصيحة فتح الصاد وعليه مشى في القاموس "ست" من الإبل "والتي تليها" وهي البنصر "تسع" من الإبل "وكل من الآخرين" كأنه باعتبار العضو وإلا فالوجه الظاهر الأخريان وهما الوسطى والمسبحة "عشر" من الإبل كذا ذكر غير واحد والذي في سنن البيهقي أنه كان يرى في السبابة اثني عشر وفي الوسطى عشرا وفي الإبهام ثلاثة عشر وقدمنا في المسألة المشار إليها من رواية الشافعي والنسائي قضاءه في الإبهام بذلك أيضا "لخبر عمرو بن حزم: "في كل إصبع عشر من الإبل" كما أسلفناه ثمة من رواية الشافعي والنسائي "وفي ميراث الزوجة من دية زوجها وهو" القياس "عدمه" أي ميراثها منه "إذ لم يملكها" الزوج "حيا بل" إنما يملكها الورثة "جبرا لمصيبة القرابة ويمكن حذف الأخير" أي(4/315)
ص -387-…كون ملكهم إياها جبرا لمصيبة القرابة "فلا يكون" توريثه إياهم منها دون الزوجة "من النزاع" أي تعارض خبر الواحد والقياس فإن القياس أن يرث الجميع "ولم ينكره" أي ترك عمر القياس للخبر "أحد فكان" تقديم الخبر على القياس "إجماعا وعورض بمخالفة ابن عباس خبر أبي هريرة" مرفوعا "توضئوا مما مسته النار" ولو من أثوار أقط" إذ قال له ابن عباس يا أبا هريرة أنتوضأ من الدهن؟ أنتوضأ من الحميم؟ فقال أبو هريرة يا ابن أخي إذا سمعت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له مثلا رواه الترمذي "وبمخالفته هو" أي ابن عباس "وعائشة خبره" أي أبي هريرة المتفق عليه "في المستيقظ" وهو قوله صلى الله عليه وسلم "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" "وقالا" أي ابن عباس وعائشة "كيف نصنع بالمهراس" وهو حجر منقور مستطيل عظيم كالحوض لا يقدر أحد على تحريكه ذكره أبو عبيد عن الأصمعي أي إذا كان فيه ماء ولم تدخل فيه اليد فكيف نتوضأ منه "ولم ينكر" إنكارهما "فكان" العمل بالقياس عند معارضة الخبر له "إجماعا قلنا ذلك" أي المخالفة المذكورة "للاستبعاد لخصوصه" أي المروي "لظهور خلافه" أي المروي أما في الأول فلتأديته إلى أن يكون المصحح مبطلا وأما في الثاني فلأدائه إلى ترك الوضوء مع وجود الماء على أن ما عن عائشة وابن عباس قال شيخنا الحافظ لا وجود له في شيء من كتب الحديث وإنما الذي قال هذا لأبي هريرة رجل يقال له قين الأشجعي فروى سعيد بن منصور عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا قام أحدكم من النوم فليفرغ على يديه من وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" فقال له قين الأشجعي كيف نصنع بمهراسكم فقال له أبو هريرة نعوذ بالله من شرك وقين الأشجعي ذكره ابن منده في الصحابة فقال له ذكر في حديث أبي سلمة عن أبي هريرة يعني هذا وتعقبه أبو نعيم بأنه ليس فيه ما يدل على(4/316)
صحبته قال شيخنا الحافظ بل ولا على إدراكه وكلامه هذا وقع لغيره مثله فأخرج ابن أبي شيبة من طريق الشعبي قال كان أصحاب عبد الله يعني ابن مسعود يقولون ماذا يصنع أبو هريرة بالمهراس "وليس" الخلاف للاستبعاد المذكور "من محل النزاع" أي معارضة القياس بخبر الواحد "لا" أن ذلك منه "لتركه" خبر الواحد "بالقياس" على أنه لا قياس ينافي وجوب غسل اليد قبل الإدخال في الإناء ولا قياس يقتضي غسل اليد من المهراس "ولهم" أي الأكثر "تقريره عليه السلام معاذا حين أخر القياس" كما تقدم بيانه في مسألة وليست لغوية مبدئية: الأئمة الأربعة يجوز التخصيص بالقياس "وأيضا لو قدم القياس لقدم الأضعف وبطلانه إجماع أما الملازمة فلتعدد احتمالات الخطأ بتعدد الاجتهاد" وضعف الظن بتعدد الاحتمالات "ومحاله" أي الاجتهاد "فيه" أي القياس "أكثر" من محاله في الخبر "فالظن" في القياس حينئذ "أضعف" منه في الخبر إذ محال الاجتهاد في القياس ستة "حكم الأصل" أي ثبوته "وكونه" أي حكم الأصل "معللا" بعلة ما لأنه من الأحكام التعبدية "وتعيين الوصف" الذي به التعليل "للعلية ووجوده" أي ذلك الوصف "في الفرع ونفي المعارض" للوصف من انتفاء شرط أو وجود مانع "فيهما" أي في الأصل والفرع "وفي الخبر" محل الاجتهاد فيه أمران "في العدالة"(4/317)
ص -388-…للراوي "والدلالة" للخبر على الحكم "وأما" أن هذا معارض بأن الخبر يتطرق إليه "احتمال كفر الراوي وكذبه وخطئه" لأنه غير معصوم عنها "واحتمال المتن المجاز" وما في حكمه من الإضمار والاشتراك والتخصيص بخلاف القياس فإنه لا يتطرق إليه شيء منها ولا شك أن ما يتطرق إليه أضعف مما لا يتطرق إليه فكان القياس أقوى فيقدم عليه "فمن البعد" بمحل "لا يحتاج إلى اجتهاد في نفيه ولو" احتيج في نفي الكفر وأخويه إلى اجتهاد "فلا" يحتاج إليه "على الخصوص بل ينتظمه" أي نفي ذلك "العدالة" أي الاجتهاد فيها فإذا أدى إليها حصل نفي ذلك وهو ظاهر "ولا يخفى أن احتمال الخطأ في حكم الأصل ليجتهد فيه منتف لأنه" أي حكم الأصل "مجمع عليه ولو بينهما" أي المتناظرين "في المختار عندهم وكذا نفي كونه" أي حكم الأصل "فرعا" لغيره هو المختار عندهم أيضا "فهي" أي محال الاجتهاد في القياس "أربعة لسقوطه" أي الاجتهاد "في معارض الأصل" وهو أحد المحال له "ضمنه" أي ضمن سقوط الاجتهاد في نفس الأصل "ولو سلم" أنه لا يشترط الاتفاق عليه "فإثباته ليس من ضروريات القياس" أي شرطا لازما فيه بل اللازم في القياس ثبوته فإن حاصل الأصل أنه حكم دل عليه سمعي والمجتهدون بصدد أن يأخذوا الأحكام الشرعية من السمعية للعمل بها فحين اجتهد في السمعي لإثبات ذلك الحكم لم يكن ذلك ليتوصل به إلى القياس وضعا بل وضع لاجتهاده ليعمل بعين ذلك الحكم سواء قيس عليه أو لا غير أنه إذا اتفق بعد ما ثبت لغرض العمل بعينه أن يستأنف عملا آخر يستعلم به أن محلا آخر هل فيه ذلك الحكم أو لا فهذا العمل هو القياس وهو فيه مستغن عن أن يجتهد في إثبات الحكم السابق وإنما حاجته الآن إليه نفسه وهو مفروغ منه لا إلى إثباته وهذا على أن القياس فعل المجتهد وأما على أنه المساواة فذلك العمل اجتهاد ليحصل القياس كذا أفاده المصنف "وإن الاجتهاد" أي ولا يخفى أنه "في العدالة لا يستلزم ظن الضبط فهو" أي الضبط(4/318)
"محل ثالث في الخبر وفي الدلالة إن أفضى" الاجتهاد "إلى ظن كونه" أي المدلول "حقيقة أو مجازا لا يوجب ظن عدم الناسخ" إذ لا ملازمة بينهما "فرابع" أي فمدلول الخبر محل رابع للاجتهاد في كونه غير منسوخ "ولا" يوجب ظن عدم "المعارض" له "فخامس" أي فهو محل خامس للاجتهاد في كونه غير معارض "ويندرج بحثه" أي المجتهد "عن المخصص" إذا كان المدلول عاما في بحثه عن نفي المعارض لأنه معارض صورة في بعض الأفراد "وفي الأقيسة المنصوصة العلة بغير راجح إن زاد" القياس منها على ما ليس كذلك "محلان" الدلالة والعدالة "سقط" من محال الاجتهاد فيه "محلان" كونه معللا وتعيين العلة فإن قيل بل على بحثكم خمسة قلنا لما فرض أنه مرجوح تبين بالأمرين فلا يتعدى الناظر إلى غيرهما لعدم الفائدة إذ كان برده كذا أفاده المصنف "فقصر" القياس عن الخبر في عدد محال الاجتهاد فكان الظن الذي فيه أقوى مما في الخبر.
ثم هذا نظر في هذا الدليل الخاص فلا يقدح في المطلوب كما أشار إليه بقوله "وفيما تقدم" من الأدلة على ثبوت المطلوب "كفاية" عن هذا الدليل "واستدل" للأكثر أيضا "بثبوت أصل القياس بالخبر" كخبر معاذ السابق "فلا يقدم" القياس "على أصله" أي الخبر "وقد يمنع(4/319)
ص -389-…الأمران" أي إثباته بالخبر لما سيأتي في مسألة تكليف المجتهد بطلب المناط في أواخر مباحث القياس وتقديمه على الخبر لأنه مصادرة على المطلوب "وبأنه قطعي" أي واستدل للأكثر أيضا بأن الخبر دليل قطعي "ولولا الطريق" الموصلة له إلينا لأن سماع الشيء من قائله من طرق العلم به "بخلاف القياس" فإنه ظني "ويجاب بأن المعتبر الحاصل الآن وهو" أي الحاصل الآن منه "مظنون" ثم مضى.
"هذا وأما تقديم ما ذكر من القياس" الذي علته ثابتة بنص راجح على الخبر وقطع بها في الفرع على الخبر "فلرجوعه" أي العمل بالقياس الذي هذا شأنه "إلى العمل براجح من الخبرين تعارضا إذ النص على العلة نص على الحكم في محلها" وهو الفرع "وقد قطع بها" أي بالعلة "فيه" أي محلها الذي هو الفرع "والتوقف" فيما أوجبناه فيه وهو ما إذا كانت العلة بنص راجح ووجودها في الفرع ظنيا "لتعارض الترجيحين خبر العلة بالفرض" فإن الفرض رجحانه "والآخر" أي والخبر الآخر "بقلة المقدمات" لعدم انضمام القياس إليه "وعلمت ما فيه" فإنه ظهر بالبحث أن القياس أقل محال للاجتهاد من الخبر "هذا إذا تساويا" أي القياس والخبر المتعارضان بحيث لا جمع بينهما في العموم والخصوص "فإن كانا" أي الخبر والقياس المذكوران "عاما" أحدهما "وخاصا" الآخر "فعلى الخلاف في تخصيص العام به" أي بالقياس "كيف اتفق" أي سواء خص بغيره أو لا "وعدمه" أي تخصيص العام به وتقدم الكلام فيه في مسألة مستقلة وهي الأئمة الأربعة يجوز التخصيص بالقياس فعلى الشافعية يخص الخاص مطلقا ويجري فيه وجهان الأول اعتباره بين خبر العلة والخبر المعارض لمقتضى العلة وتخرج المسألة عن كونها مما قدم فيه القياس على خبر الواحد أو قدم خبر الواحد فإن كان العام هو خبر الواحد المعارض لخبر العلة يكون العمل فيما سوى محل القياس الذي به وقع التخصيص بخبر الواحد وفي الذي أخرجه نص العلة بخبر العلة وإن كان العام خبر العلة فعلى القلب أي يكون(4/320)
العمل بما به التخصيص وهو المخرج بخبر الواحد وفي غيره بخبر العلة وعلى الحنفية يتعارضان ويرجح فيكون إما عملا بخبر الواحد في الكل وأهدر خبر العلة أو بخبر العلة في الكل وأهدر خبر الواحد والثاني اعتباره بين القياس والخبر المعارض له فيخص القياس عموم ذلك الخبر بأن يعمل به في ذلك الفرد وبالقلب هذا وفي البديع وغيره إن كان الخبر أعم من القياس خصه القياس جمعا بينهما فإنه أولى من ترك القياس وإن كان الخبر أخص من القياس فعلى جواز تخصيص العلة وعدم بطلانها به يعمل بالخبر فيما دل عليه وبالقياس فيما عدا ذلك جمعا بينهما لكونه أولى من ترك أحدهما وعلى بطلان تخصيص العلة هما متعارضان في ذلك كالحكم فيما إذا تعذر الجمع بينهما من جميع الوجوه وهو الخلاف المذكور في صدر المسألة والله تعالى أعلم.
مسألة:
"الاتفاق في أفعاله الجبلية" أي الصادرة بمقتضى طبيعته صلى الله عليه وسلم في أصل خلقته كالقيام(4/321)
ص -390-…والقعود والنوم والأكل والشرب "الإباحة لنا وله وفيما ثبت خصوصه" أي كونه من خصائصه كإباحة الزيادة على أربع في النكاح وإباحة الوصال في الصوم "اختصاصه" به ليس لأحد من الأمة مشاركته فيه "وفيما ظهر بيانا بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" متفق عليه فإنه بيان لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] "وخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه" "في أثناء حجه" أي وهو يرمي الجمرة على راحلته كما رواه مسلم وغيره فإنه بيان لقوله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] "أو" بيانا بفعل صالح للبيان "بقرينة حال كصدوره" أي الفعل "عند الحاجة" إلى بيان لفظ مجمل "بعد تقدم إجمال" له حال كون الفعل "صالحا لبيانه" يكون بيانا لا محالة وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو غير جائز وكأنه حذفه للعلم به من قوله بيانا "كالقطع من الكوع والتيمم إلى المرفقين أنه بيان لآيتيهما" أي السرقة والتيمم إذ قد تقدم للمصنف في المسائل التي تذيل بحث المجمل أن الإجمال في آية القطع بالنسبة إلى المحل وأما أنه في آية التيمم في اليد فتقدم نفيه ثمة فحينئذ التمثيل به إنما هو على قول الشرذمة القائلين بأنها مجملة أو يراد بكونه بيانا أعم من أن يكون بيانا لمجمل أو ما هو المراد من مطلق ثم قد أخرج البيهقي بإسناد حسن عن عدي هو ابن عدي تابعي ثقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق من المفصل. وعليه أن يقال إنما يكون قطعها من الكوع بيانا بفعله لو ثبت أنه باشر القطع بنفسه وهو ليس بلازم بل الظاهر أنه أمر به غيره كما فيما روى الدارقطني بسند ضعيف عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان صفوان بن أمية نائما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وثيابه تحت رأسه فأتى سارق فأخذها فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأقر السارق فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع من المفصل فيكون(4/322)
البيان بالقول لا بالفعل إلا أن يجعل فعل المأمور كفعله لما كان بأمره وفيه ما فيه وأخرج أحمد عن أبي هريرة أن ناسا من أهل البادية أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فساقه إلى أن قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بالأرض ثم ضرب بيده على الأرض لوجهه ضربة واحدة ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها على يديه إلى المرفقين. وفي إسناده المثنى بن صباح ضعيف لكن تابعه ابن لهيعة أخرجه أبو يعلى وله طريق أخرى عند الطبراني فيها إبراهيم بن يزيد ضعيف أيضا وفي كون هذا مبينا لآية التيمم كلام غير هذا الموضع به أليق "بخلافهما" أي المرفقين "في الغسل" في الوضوء فإن غسله صلى الله عليه وسلم إياهما كما في صحيح مسلم ليس بيانا لقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] "لذكر الغاية وعدم إجمال أداتها" أي الغاية بخلاف آية التيمم فإنها لم تذكر فيها "وما لم يظهر فيه ذلك" أي البيان والخصوصية "وعرف صفته" في حقه صلى الله عليه وسلم "من وجوب ونحوه" من ندب وإباحة "فالجمهور منهم الجصاص أمته مثله" فإن وجب عليه وجب عليهم وإن ندب أو أبيح له ندب أو أبيح لهم "وقيل" أي وقال أبو علي بن خلاد أمته مثله "في العبادات" فقط "والكرخي" والدقاق والأشعرية "يخصه" أي النبي صلى الله عليه وسلم الفعل بصفته من الوجوب والندب والإباحة "إلى" قيام "دليل العموم" لهم أيضا "وقيل" هو "كما لو جهل" أي لم يعلم وصفه "وليس" هذا القول(4/323)
ص -391-…"محررا إلا أن يعرف قوله" أي هذا القائل "في المجهول" وصفه "ولم يدر" أي والحال أنه لم يعلم قوله فيه ففي الحوالة عليه جهالة "أو يريد من قال في المجهول" ما قال "فله في المعلوم مثله فباطل فمن سيعلم قائلا بالإباحة في المجهول قولهم في المعلوم شمول صفته" لهم أيضا فقوله فمن سيعلم مبتدأ وقائلا حال منه وقولهم مبتدأ ثان وشمول صفته خبره والجملة خبر المبتدأ الأول وقد أجرى المصنف الاستعمالين الإفراد والجمع في من فالإفراد في قوله قائلا والجمع في قوله قولهم "لنا أن الصحابة كانوا يرجعون إلى فعله احتجاجا واقتداء كتقبيل الحجر فقال عمر لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك" كما في الصحيحين "ولم ينكر" على عمر ذلك "وتقبيل الزوجة صائما" كما في الصحيحين وغيرهما "وكثير" ولا سيما في أبواب العبادات كما يحيط به مستقرؤه من دواوين السنة "وأيضا {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} والتأسي فعل مثله" أي مثل فعل الغير "على وجهه لأجله" فاحترز بمثل فعله عما ليس كذلك بأن تختلف صورة الفعل كالقيام بالنسبة إلى القعود فإنه لا يسمى تأسيا وبعلى وجهه أي بأن يكون مشاركا له في الصفة والغرض والنية عما ليس كذلك لأن من فعل واجبا على قصد الوجوب لا يكون متأسيا بمن فعله على قصد الندب وإن توافقا في الصورة وبقوله لأجله عما ليس كذلك فإنه لو اتفق فعل جماعة في الصورة والصفة والقصد ولم يكن فعل أحدهم لأجل فعل الآخر كاتفاق جماعة في صلاة الظهر أو صوم رمضان لامتثال أمر الله لا يقال تأسى البعض بالبعض ولا يخل بالتأسي مع وجود هذه القيود اختلاف الفعلين زمانا ومكانا إلا إذا دل الدليل على اختصاص الفعل بالمكان كاختصاص الحج بعرفات أو بالزمان كاختصاص صوم رمضان به ولا كون فعل الغير متكررا أو لا ومثل التأسي في الفعل التأسي في الترك وهو ترك الشخص فعلا مثل ما تركه الآخر على وجهه لأجله "ومثله" أي(4/324)
قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] في الدلالة على المطلوب قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فإن المتابعة للغير فعل مثل فعل الغير على الوجه الذي فعله وإلا ففعله على غير الوجه الذي فعله منازعة لا متابعة "وأما" قوله تعالى {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37] "فبدلالة المفهوم المخالف" يدل "على اتحاد حكمه" صلى الله عليه وسلم "بهم" أي مع حكم الأمة لأنه سبحانه علل تزويجه صلى الله عليه وسلم بنفي الحرج الكائن في تحريم زوجات الأدعياء ومفهومه لو لم يزوجه ثبت الحرج على المؤمنين في ذلك وثبوت الحرج على ذلك التقدير إنما يكون إذا اتحد حكمهم بحكمه ولم يتحد.
"وما جهل وصفه" بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم ففيه بالنسبة إليه وإلى الأمة مذاهب "فأبو اليسر" قال "إن" كان "معاملة فالإباحة إجماع والخلاف" إنما هو "في القرب فمالك شمول الوجوب" له ولنا "كذا نقله بعضهم" منهم صاحب الكشف "متعرضا للفعل بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم كقول الكرخي مباح في حقه للتيقن" أي تيقنها في الفعل فوجب إثباتها دون غيرها إلا بدليل "وليس(4/325)
ص -392-…لنا اتباعه" إلا بدليل كما سيأتي توجيهه "وقول الجصاص وفخر الإسلام وشمس الأئمة والقاضي أبي زيد" ومتابعيهم "الإباحة في حقه ولنا اتباعه" ما لم يقم دليل على الخصوص "والقولان" أي قول الكرخي وقول الجصاص وموافقيه "يعكران نقل أبي اليسر" الإجماع بناء على أن المراد بالفعل ما هو أعم من القرب وغيرها فيتناول المعاملة ويمكن أن يدفع بناء على أن المراد بالفعل ما ليس بمعاملة بقرينة جعله قسيما لها "وخص المحققون الخلاف بالنسبة إلى الأمة فالوجوب" وهو معزو وفي المحصول إلى ابن سريج والإصطخري وابن خيران وفي القواطع إلى مالك والكرخي وطائفة من المتكلمين وبعض أصحاب الشافعي والأشبه بمذهب الشافعي وعزاه بعضهم إلى الحنابلة أيضا "والندب" وهو معزو وفي المحصول إلى الشافعي وفي القواطع إلى الأكثر من الحنفية و المعتزلة والصيرفي والقفال "وما ذكرنا" أي الإباحة وهو معزو في المحصول إلى مالك "والوقف" وهو معزو في المحصول إلى الصيرفي وأكثر المعتزلة وفي القواطع إلى أكثر الأشعرية والدقاق وابن كج وفي غيره والغزالي والقاضي أبي الطيب واختاره الإمام الرازي وأتباعه "ومختار الآمدي" وابن الحاجب "إن ظهر قصد القربة فالندب وإلا فالإباحة ويجب" أن يكون هذا القول "قيدا لقول الإباحة للأمة" وإلا لم يقل أحد بأن ما هو من القرب عمله مباح من غير ندب وهو الظاهر من تعليل الإباحة بالتيقن "الوجوب {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}" أي افعلوه ففعله مما أتى به فوجب اتباعه لأن الأمر للوجوب "أجيب بأن المراد ما أمركم" به قولا "بقرينة مقابله وما نهاكم" ليتجاوب طرفا النظم وهو اللائق بالفصاحة الواجب رعايتها في القرآن "قالوا" ثانيا قال تعالى "{فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153]" والأمر للوجوب "قلنا هو" أي الاتباع "في الفعل فرع العلم بصفته" أي الفعل في حق المتبع "لأنه" أي الاتباع في الفعل "فعله على وجه فعله" المتبع "والكلام في مجهولها" أي الصفة(4/326)
فلا يتحقق الاتباع مع عدم العلم بصفة الفعل في حقه صلى الله عليه وسلم "وقد منع اعتبار العلم بصفة الفعل في الاتباع فيه" أي الفعل بأن يقال لا نسلم أن الاتباع متوقف على العلم بصفة الفعل بل يجب الفعل وإن لم يعلم صفته في حق المتبع ورشح المصنف ذلك بقوله "وفي عبارة الإباحة ولنا اتباعه" أي سواء علمت صفة الفعل أو لا فلا يتم الجواب "بل الجواب القطع بأنه" أي الدليل وهو فاتبعوه عام "مخصوص إذ لا يجب قيام وقعود وتكرير عمامة وما لا يحصى" من الأفعال أي الاتباع فيها "ولا مخصص معين فأخص الخصوص" أي فتعين حمل الدليل على أخص الخصوص "من معلوم صفة الوجوب" أي ما كان من الأفعال معلوما صفته من الوجوب وهو المختار "قالوا" ثالثا "لقد كان إلى آخرها" قضية "شرطية مضمونها لزوم التأسي للإيمان" إذ معناه من كان يؤمن بالله فله فيه أسوة حسنة "ولازمها عكس نقيضها عدم الإيمان لعدم التأسي وعدمه" أي الإيمان "حرام فكذا" ملزومه الذي هو "عدم التأسي فنقيضه" وهو الإيمان "واجب" فكذا لازمه الذي هو التأسي وإلا ارتفع اللزوم "والجواب مثله" أي مثل ما قبله "لأن التأسي كالاتباع" وهو الفعل على الوجه الذي فعله لأجله فيتوقف إثبات الوجوب علينا على العلم بالوجوب عليه وهو خلاف المفروض "وفيه"(4/327)
ص -393-…من البحث "مثل ما قبله" وهو منع اعتبار العلم بصفة الفعل في الائتساء "ومنه" أي مما قبله من الجواب يؤخذ أيضا "الجواب المختار" وهو حمله على أخص الخصوص وهو التأسي فيما علم وجوبه "قالوا" رابعا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إذا خلع نعليه فخلعوا أي أصحابه نعالهم قال "ما حملكم على أن ألقيتم نعالكم" قالوا رأيناك ألقيت فألقينا قال "إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما أذى" أخرجه أحمد وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان "فأقرهم على استدلالهم" بفعله "وبين سبب اختصاصه به" أي بخلع نعليه وهو ما كان بها من أذى "إذ ذاك" ولولا وجوب الاتباع لأنكر عليهم ذلك "قلنا دليلهم" على الوجوب قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" "لا فعله أو فهمهم القربة" من الخلع وإلا لحرم أو كره "أو مندوبا" لا واجبا "قالوا" خامسا "أمرهم" أي النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه "بالفسخ" أي فسخ الحج إلى العمرة "فتوقفوا" عن الفسخ "لعدم فسخه فلم ينكره" أي توقفهم لعدم فسخه "وبين مانعا" من الفسخ "يخصه وهو" أي المانع "سوق الهدي كذا ذكر" ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أمر من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة أن يحل من إحرامه وأن يجعله عمرة وأنه صلى الله عليه وسلم ثبت على إحرامه وأن الناس استعظموا ذلك وأنه صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن معي الهدي لأحللت" فدل ذلك على وجوب اتباعه قال المصنف "ومن نظر السنن فعلم أنه غضب من توقفهم" فقد أخرج مسلم وأحمد وأبو داود وغيرهم عن عائشة قالت قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربع أو خمس مضين في ذي الحجة فدخل علي وهو غضبان فقلت من أغضبك يا رسول الله قال: "أشعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أحل كما أحلوا" ظهر له أنه "لم يلزم" منه أنه غضب لتوقفهم "لعدم الفعل" منه "بل" إنما غضب "لكونه" أي(4/328)
توقفهم "بعد الأمر ثم بين مانعه" من الفعل فلم يصح قولهم لم ينكره "وأحسن المخارج لهم" أي الصحابة "ظنه" أي الأمر بالفسخ "أمر إباحة رخصة ترفيها" لهم "وأظهر منه" أي من هذا في الدلالة على المطلوب على ما فيه "أمره" صلى الله عليه وسلم أصحابه "بالحلق في الحديبية" بضم الحاء المهملة ثم فتح الدال المهملة ثم الياء آخر الحروف ثم الباء الموحدة المكسورة ثم الياء آخر الحروف مخففة ومثقلة وأكثر المحدثين على التثقيل موضع معروف من جهة جدة بينها وبين مكة عشرة أميال "فلم يفعلوا حتى حلق فازدحموا" كما يفيده ما في حديث المسور بن مخرمة على ما في صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه" "قوموا فانحروا ثم احلقوا" قال فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة يا نبي الله أتحب ذلك اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضهم غما ا هـ. إذ هذا أظهر في إفادة أن توقفهم كان لعدم فعله فلما فعل فعلوا "ولا يتم الجواب" عن هذا الخامس "بأن الفهم" لوجوب المتابعة لم يستفد من فعله فقط بل "من" قوله صلى الله عليه وسلم:(4/329)
ص -394-…"خذوا عني" مناسككم وهو لم يحل فلم يحلوا كما أجابوا به "لأنه لم يكن" صلى الله عليه وسلم "قاله بعد في الصورتين" أي حين أمرهم بالفسخ وحلقه بالحديبية لأنه قاله وهو يرمي جمرة العقبة كما تقدم ومعلوم أنه كان بعد الحديبية قطعا وأما أنه كان بعد أمرهم بالفسخ فلأن أمرهم به كان في أوائل دخولهم مكة "بل" الجواب "ما ذكرنا" وهو ظنهم أن الأمر أمر إباحة فلم يفعلوا أخذا بالأحمز "أو بحلقه" صلى الله عليه وسلم "عرف حتمه" أي أنه أمر إيجاب هذا ووقع عند أحمد عن جابر عقب قوله صلى الله عليه وسلم "ولولا أني سقت الهدي لأحللت ألا فخذوا عني مناسككم" فلعله قاله مرارا وعلى هذا فيتم ذلك الجواب أيضا "قالوا" سادسا "اختلفت الصحابة في وجوب الغسل بالإيلاج" لقدر الحشفة في الفرج من غير إنزال "ثم اتفقوا عليه" أي وجوب الغسل به كما يفيده ظاهر حديث لأحمد في مسنده لكن لا "لرواية عائشة فعله" بل لقولها "إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل" وإن كان في رواية لأحمد عنها بغير هذه القصة بعد هذا اللفظ فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا "أجيب بأن فيه قولا إذا التقى" الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل رواه ابن أبي شيبة وابن وهب "وإنما يفيد" هذا الجواب "إذا روته" أي عائشة هذا أو معناه "لهم" أي للصحابة والأمر كذلك كما ذكرناه "أو هو" أي الفعل الذي روته عائشة من وجوب الغسل من التقاء الختانين "بيان" قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] والأمر للوجوب أي فلم يرجعوا إلى الفعل من حيث هو فعله بل إلى أمره تعالى بالاطهار للجنب وبالفعل ظهر أن الجنابة تثبت به كما تثبت بالإنزال فثبت به حكم الكتاب وهو إيجاب الغسل فإذن ليس هو من محل النزاع لأنه حينئذ يكون من قسم الأفعال البيانية "أو تناوله" أي وجوب الغسل من التقاء الختانين ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" "إذ هو" أي(4/330)
الغسل "شرطها" أي الصلاة وهو إنما صلى بعد الالتقاء بالغسل "أو لفهم الوجوب منها" أي عائشة حيث حكت فعله والاغتسال منه "إذ كان خلافهم فيه" أي في وجوبه أي أو لفهم الوجوب من حكايتها بقرينة وهي سؤالهم لها بعد اختلافهم في الوجوب إذ لولا إشعار الجواب به لما تطابق السؤال والجواب فيكون حينئذ مما علم صفته فلا يكون من المتنازع فيه "قالوا" سابعا الوجوب "أحوط" لما فيه من الأمن من الإثم قطعا فيجب الحمل عليه "أجيب بأنه" أي الاحتياط "فيما لا يحتمل التحريم" على الأمة "وفعله" صلى الله عليه وسلم "يحتمله" أي التحريم على الأمة "ورد" هذا "بوجوب صوم" يوم "الثلاثين" من رمضان "إذا غم الهلال" لشوال بالاحتياط وإن احتمل كونه حراما لكونه يوم العيد "بل الجواب" عن أصل الدليل "أنه" أي الاحتياط إنما شرع "فيما ثبت وجوبه كصلاة نسيت غير معينة" فيجب عليه الخمس احتياطا "أو كان" ثبوت الوجوب "الأصل كصوم" يوم "الثلاثين" من رمضان إذ الأصل بقاؤه "الندب الوجوب يستلزم التبليغ" دفعا للتكليف بما لا يطاق "وهو" أي التبليغ "منتف بالفرض" إذ الكلام فيما وجد فيه مجرد الفعل "وأسوة حسنة تنفي المباح" لأنها في معرض المدح ولا مدح على المباح "فتعين الندب أجيب بأن الأحكام" الشرعية "مطلقا" أي سواء كانت وجوبا أو ندبا أو إباحة "تستلزمه" أي التبليغ فإن وجوب التبليغ يعمها "فلو انتفى" التبليغ "انتفى الندب(4/331)
ص -395-…أيضا والمذكور في الآية حسن الائتساء ويصدق" حسنه "مع المباح" لأن المباح حسن "قالوا" أي النادبون ثانيا "هو" أي الندب "الغالب من أفعاله أجيب بالمنع الإباحة هو" أي المباح "المتيقن" لانتفاء المعصية والوجوب "فينتفي الزائد" عليها "لنفي الدليل" له "وهو" أي هذا "وجه" قول "الآمدي إذا لم تظهر القربة" أي قصدها فيه "وإلا" إذا ظهر قصدها فيه "فالندب" لظهور الرجحان فيه "ويجب كونه" أي القول بالإباحة "كذا" أي ندبا عند ظهور قصد القربة "لمن ذكرنا من الحنفية" أنهم قائلون بالإباحة "بمثله" أي هذا التوجيه "وهو" أي الندب "أنه المتيقن معها" أي القربة "إلا أن لا يترك" ذلك الفعل "مرة على أصولهم" أي الحنفية "فالوجوب" يكون حكم ذلك الفعل حينئذ "والحاصل أن عند عدم ظهور القرينة" للقربة "المتيقن الإباحة وعند ظهورها" أي القرينة للقربة "وجد دليل الزيادة" على الإباحة "والندب متيقن فينتفي الزائد" وهو الوجوب "وعدم الترك مرة دليل حامل الوجوب الكرخي جازت الخصوصية" أي أن يكون ذلك من خواصه كما جاز مشاركة الأمة له فيه لأنه ثبت اختصاصه بالبعض ومشاركة الأمة له في البعض "فاحتمل فعله التحريم" على الأمة كما احتمل الإطلاق لهم على السواء "فيمنع" فعله لهم حتى يقوم دليل يرجح أحد هذين الجائزين "الجواب أن وضع مقام النبوة للاقتداء قال تعالى لإبراهيم {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] فثبت" جواز الاقتداء فيه "ما لم يتحقق خصوص" له فيه "وهو" أي الخصوص "نادر لا يمنع احتماله" جواز الاقتداء "الواقف صفته" أي الفعل "غير معلومة" بالفرض "والمتابعة" إنما تكون "بعلمها" أي صفته كما تقدم "فالحكم بأن المجهول كذا" أي واجب أو مندوب أو مباح "بعينه في حقه كالكرخي ومن ذكرنا من الحنفية وناقل الوجوب على الوجه الأول" من وجوبه وهو {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ثم قوله فالحكم مبتدأ خبره "تحكم باطل يجب التوقف عنه ونص على(4/332)
إطلاقهم" أي الواقفية "الفعل" للأمة والناص الشيخ سعد الدين في التلويح "ولا ينافي" إطلاقهم الفعل للأمة "الوقف" في حقه صلى الله عليه وسلم وحقنا "لأنه" أي مجرد الإذن في الفعل ليس الحكم الذي هو الإباحة وإنما هو "جزء الحكم" الذي هو الإباحة إذ تمامها إطلاق الفعل وإطلاق الترك ولم يقل به لأن الدليل على مجرد إطلاق الفعل لا يدل على إطلاق الترك لجواز كون الثابت مع إطلاق الفعل حرمته أو كراهته تنزيها فإثبات شيء بعينه منهما في الترك تحكم "فلم يحكم في حقه ولا حق الأمة بحكم وهو" أي إطلاقهم الفعل في حقه وحقنا "مقتضى الدليل لمنع شرط العلم" بحال الفعل "في المتابعة" في جانب الفعل "والتحكم" أي ومنع التحكم في جانب الترك "ويجب حمل الإباحة عليه" أي إطلاق الفعل "لا" على المعنى "المصطلح" لها وهو جواز الفعل مع جواز الترك "لانتفاء التيقن فيه" أي المعنى المصطلح "ومثله" أي هذا بعينه "الندب" أي جاز فيه فهو "في القربة على مجرد ترجيح الفعل لنفي التحكم" فإن القربة ليس مقتضاها إلا أن يرجح الفعل على الترك وذلك يصدق مع الوجوب والندب المصطلح فإثبات أحدهما بعينه في الترك تحكم "وحينئذ" أي حين إذ كان الوقف ما ذكرنا انتفى دفع ما ذكرناه عنه من قولنا المنصب للاقتداء إلخ لأنه تبين أن الواقف لا يمنع(4/333)
ص -396-…الاتباع مطلقا بل يجيز الفعل وحينئذ "فدليلهم" أي الواقفية "من غيرهم" جار "على لسانهم" لا لهم "وإنما" المناسب لهم على هذا أن يقال "هو" أي دليلهم "احتمالات متساوية فلا يتحكم بشيء منها ومجرد إطلاق الفعل ثابت بما ذكرنا" فيجب القول به والله سبحانه أعلم.
مسألة
"إذا علم" النبي صلى الله عليه وسلم "بفعل وإن لم يره" أي ذلك الفعل "فسكت" عن إنكاره حال كونه "قادرا على إنكاره فإن" كان ذلك الفعل "معتقد كافر" أي مما علم أنه صلى الله عليه وسلم منكر له وترك إنكاره في الحال لعلمه صلى الله عليه وسلم بأن الكافر علم منه ذلك وبأنه لا ينتفع في الحال "فلا أثر لسكوته" ولا دلالة له على الجواز اتفاقا "وإلا" لو لم يكن معتقد كافر "فإن سبق تحريمه بعام فنسخ" لتحريمه منه عند الحنفية "أو تخصيص" له به عند الشافعية "على الخلاف" بينهم في أن مثل ذلك نسخ أو تخصيص "وإلا" لو لم يسبق تحريمه "فدليل الجواز" له "وإلا" لو لم يكن دليل الجواز له "كان تأخير البيان عن وقت الحاجة" وهو غير واقع كما سيأتي في فصل البيان "فإن استبشر" النبي صلى الله عليه وسلم "به" أي بذلك الفعل "فأوضح" في أنه دليل الجواز "إلا أن يدل دليل على أنه" أي استبشاره "عنده" أي الفعل "لأمر آخر لا به" أي الفعل "قد يختلف في ذلك" أي في الاستبشار "في الموارد ومنه" أي المختلف فيه من الموارد "إظهار البشر" أي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم السرور "عند قول" مجزز بضم الميم وفتح الجيم وزايين معجمتين الأولى مشددة مكسورة "المدلجي" بضم الميم وسكون الدال المهملة من بني مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة له صحبة وذكر ابن يونس أنه شهد فتح مصر لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أسامة بن زيد وزيد بن حارثة عليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما وبدت له أقدام زيد وأسامة إن هذه الأقدام بعضها من بعض. كما في الكتب الستة. قال أبو داود وكان أسامة أسود وكان زيد أبيض. وقال(4/334)
البيهقي قال إبراهيم بن سعد كان أسامة مثل الليل وكان زيد أبيض أحمر أشقر "فاعتبره" أي بشر النبي صلى الله عليه وسلم "الشافعي بقوله" أي المدلجي "فأثبت" الشافعي "النسب بالقيافة ونفاه" أي ثبوتها به "الحنفية وصرفوا البشر إلى ما يثبت عنده" أي البشر "من تركهم الطعن في نسبه وإلزامهم بخطئهم فيه" أي الطعن فيه "على اعتقادهم" حقية القيافة "ودفع" هذا "بأن ترك إنكاره" صلى الله عليه وسلم "الطريق" الذي هو القيافة "ظاهر في حقيتها" أي القيافة وإلا لعده من الزجر والتحمير "فلا يجوز" ترك إنكاره "إلا معه" أي كونها حقا "وإلا لذكره" أي إنكارها "ولا ينفي" ذكره الإنكار "المقصود من رجوعهم" أي الطاعنين "والجواب أن انحصار ثبوت النسب في الفراش كان ظاهرا عند أهل الشرع والطعن ليس منهم" أي من أهل الشرع "بل من المنافقين وهم" أي المنافقون "يعتقدون بطلان قولهم" أنفسهم "لقوله" أي المدلجي "فالسرور لذلك" أي لبطلان قولهم "وترك إنكار السبب" الذي هو القيافة لا يضر "لأنه كتركه" صلى الله عليه وسلم الإنكار "على تردد كافر إلى كنيسة فلا يكون" سكوته عن إنكارها "تقريرا".(4/335)
ص -397-…مسألة
"المختار أنه صلى الله عليه وسلم قبل بعثه متعبد" أي مكلف "قيل" بشرع آدم عليه السلام لأنه أول الشرائع حكاه ابن برهان وقيل "بشرع نوح" عليه السلام لأنه أول الرسل المشرعين قلت وفيه نظر ففي حديث أبي ذر الطويل الذي أخرجه ابن حبان في صحيحه وغيره قلت: يا رسول الله كم الأنبياء قال "مائة ألف وعشرون ألفا" قلت يا رسول الله كم الرسل من ذلك قال "ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا" قلت يا رسول الله من كان أولهم قال "آدم" قلت يا رسول الله أنبي مرسل قال "نعم" "وقيل" بشرع "إبراهيم" عليه السلام لأنه صاحب الملة الكبرى "وقيل" بشرع "موسى" عليه السلام لأنه صاحب الكتاب الذي نسخ ولم ينسخ أكثر أحكامه إذ عيسى موافق له في بعضها "وقيل" بشرع "عيسى" عليه السلام لأنه بعدهم ولم ينسخ إلى حين بعثه صلى الله عليه وسلم ولا يخفى ما في كل من هذه الأوجه "والمختار" عند المصنف أنه متعبد "بما ثبت أنه شرع إذ ذاك" أي في ذلك الزمان بطريقه فإنه عسر إذ ذاك لأنه بعدالة النقلة في غير التواتر فإذا ثبت بطريق يفيد الثبوت أنه شرع نبي وجب العمل به وإن كان نبيا بعده غيره لأن الأصل عدم النسخ إلا بما لا مرد له ذكره المصنف "إلا أن يثبتا" أي الشرعان أمرين "متضادين فبالأخير" أي فالحكم أن يجب عليه ما ثبت بالشرع المتأخر للعلم بثبوت نسخه "فإن لم يعلم" الشرع "الأخير لعدم معلومية طريقه" أي الأخير "فيما ركن إليه" أي فهو متعبد بما اطمأن قلبه إليه "منهما لأنهما كقياسين لعدم ما بعدهما ونفاه" أي تعبده قبل البعثة بشرع من قبله "المالكية" قال القاضي وعليه جماهير المتكلمين ثم اختلفوا فمنعته المعتزلة عقلا وقال أهل الحق يجوز ولكن لم يقع وعليه القاضي وغيره قال المصنف "والآمدي وتوقف الغزالي" ونسب السبكي التوقف إلى إمام الحرمين والغزالي والآمدي وابن الأنباري وغيرهم واختاره "لنا لم ينقطع التكليف من بعثة آدم عموما كآدم ونوح وخصوصا" كشعيب إلى أهل(4/336)
مدين وأصحاب الأيكة "ولم يتركوا" أي الناس "سدى" أي مهملين غير مأمورين ولا منهيين في زمن من الأزمان "قط فلزم" التعبد "كل من تأهل" من العباد "وبلغه" ذلك المتعبد به "وهذا" الدليل "يوجبه" أي التعبد "في غيره عليه السلام" أيضا "وهو كذلك وتخصيصه" أي النبي صلى الله عليه وسلم "اتفاقي واستدل" للمختار "بتضافر روايات صلاته وصومه وحجه" أي تعاونها واجتماعها وهو بالضاد المعجمة لا بالظاء وهذا أشهر من أن يذكر فيه شيء مخصوص وذلك "للعلم الضروري أنه" أي فعلها "لقصد الطاعة وهي" أي الطاعة "موافقة الأمر" فلا يتصور من غير شرع "والجواب أن الضروري قصد القربة وهي" أي القربة "أعم من موافقة الأمر والتنفل فلا يستلزم" القربة "معينا" منهما "ظاهرا فضلا عن ضروريته واستدل أيضا بعموم كل شريعة" جميع المكلفين فيتناوله أيضا "ومنع" عموم كل شريعة جميع المكلفين وكيف لا وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" قال "النافي لو كان" متعبدا بشريعة من قبله "قضت العادة بمخالطته أهلها ووجبت" مخالطته لهم لأخذ الشرع منهم "ولم يفعل" إذ لو فعل لنقل لتوفر الدواعي على نقله ولم ينقل(4/337)
ص -398-…"أجيب الملزم" للتعبد بما علم أنه شرع "إذ ذاك" أي قبل البعثة "التواتر" لأنه المفيد للعلم "ولا حاجة معه" أي التواتر "إليها" أي مخالطته لهم "لا" أن الملزم له "الآحاد لأنها" أي الآحاد "منهم" أي أهل الشرع "لا تفيد ظنا" لعدم الوثوق بما في أيديهم إلى غير ذلك فضلا عن العلم هذا والخلاف في هذا يجب أن يكون مخصوصا بالفروع إذ الناس في الجاهلية مكلفون بقواعد العقائد ولذا انعقد الإجماع على أن موتاهم في النار يعذبون فيها على كفرهم ولولا التكليف ما عذبوا فعموم إطلاق العلماء مخصوص بالإجماع ذكره القرافي ثم هذه المسألة. قال إمام الحرمين والمازري وغيرهما لا يظهر لها ثمرة في الأصول ولا في الفروع بل تجري مجرى التواريخ المنقولة ولا يترتب عليها حكم في الشريعة وفيه تأمل "وأما" أنه متعبد بشرع ما قبله "بعد البعث فما ثبت" أنه شرع لمن قبله فهو "شرع له ولأمته" عند جمهور الحنفية والمالكية والشافعية على ما ذكر القرافي وعن الأكثرين المنع فالمعتزلة مستحيل عقلا وغيرهم شرعا واختاره القاضي والإمام الرازي والآمدي "لنا ما اخترناه من الدليل" السابق "فيثبت" ذلك شرعا له "حتى يظهر الناسخ والإجماع" ثابت "على الاستدلال بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 45]" أي أوجبنا على بني إسرائيل "فيها" أي التوراة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} على وجوب القصاص في شرعنا ولولا أنا متعبدون به لما صح الاستدلال بوجوبه في دين بني إسرائيل على وجوبه في ديننا "وقوله عليه السلام "من نام عن صلاة" وتلا {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}" ولم أقف على هذا الحديث بهذا اللفظ وأقرب لفظ إليه وقفت عليه ما في صحيح مسلم "إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] "وهي" أي هذه الآية "مقولة لموسى عليه السلام" فاستدل بها على وجوب قضاء الصلاة عند تذكرها وإلا لم يكن لتلاوتها(4/338)
فائدة ثم لو لم يكن هو صلى الله عليه وسلم وأمته متعبدين بما كان موسى متعبدا به في دينه لما صح الاستدلال "قالوا" أي النافون أولا "لم يذكر" شرع من قبلنا "في حديث معاذ" السابق "وصوبه" أي ما في حديثه من القضاء بما في كتاب الله ثم بما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم باجتهاده ولو كان شرع من قبلنا شرعا لنا لذكره أو لم يصوبه "أجيب بأنه" إنما لم يذكره "إما لأن الكتاب يتضمنه" نحو قوله تعالى {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] فإنه أعم من الإيمان والأعمال التي كلفوا بها "أو لقلته" أي قلة وقوعه "جمعا للأدلة" دليلنا الدال على كونه وأمته متعبدين به ودليلكم الدال على نفيه "قالوا" ثانيا "الإجماع على أن شريعتنا ناسخة" لجميع الشرائع "قلنا" لكن "لما خالفها لا مطلقا للقطع بعدمه" أي النسخ "في الإيمان والكفر وغيرهما" كالقصاص وحد الزنا "قالوا" ثالثا "لو كان" صلى الله عليه وسلم متعبدا به "وجبت خلطته" لأهله كما تقدم تقريره "أجيب بما تقدم" أيضا من أن الملزم للتعبد بما علم أنه شرع من قبله هو التواتر لأن الكلام فيما علم وصح أنه من شريعة من تقدم والآحاد لا تفيده والتواتر لا يحتاجه هذا "واعلم أن الحنفية قيدوه" أي كون شرع من قبلنا شرعا لنا "بما إذا قص الله ورسوله" ذلك "ولم ينكره فجعل" هذا منهم قولا "ثالثا" قال المصنف وليس كذلك "والحق أنه" أي هذا التقييد "وصل بيان طريق ثبوته" أي شرع من قبلنا(4/339)
ص -399-…شرعا واجب الاتباع بهذا المذهب "لا يتأتى فيه خلاف إذ لا يستفاد" شرعهم "عنهم آحادا ولم يعلم متواتر" منه "لم ينسخ ولا بد من ثبوته" شرعا لهم أولا ليثبت له وجوب اتباعنا له ثانيا "فكان" ثبوته "بذلك" أي بقص الله أو رسوله من غير تعقب بإنكار بل كونه شرعا لنا حينئذ ضروري "وبيان رده إلى الكتاب أو السنة يمنع كونه" قسما "خامسا من الاستدلال كما سيأتي" هذا وغير واحد على أن قولنا متعبد بشرع من قبله بفتح الباء كما أشرنا إليه صدر المسألة ووافق القرافي على هذا إذا أريد به الأصول وما بعد النبوة أما قبلها إذا أريد به الفروع فالصواب كسر الباء ويعرف توجيهه في شرح تنقيح المحصول له ودفعه مما سلف هنا فليراجع ذاك ويتأمل ما هنا.
مسألة(4/340)
"تخصيص السنة بالسنة كالكتاب" أي كتخصيص الكتاب بالكتاب "على الخلاف" في الجواز فيه بين الجمهور وشذوذ ثم على الخلاف فيه بين الجمهور في اشتراط المقارنة في المخصص الأول بمعنى كونه موصولا بالعام كما تقدم في بحث التخصيص فأكثر الحنفية يشترط وبعضهم كالشافعية لا يشترط إلى غير ذلك مما تقدم في بحث التخصيص "قالوا" أي الجمهور "خص" قوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء" والعيون أو كان عثريا "العشر" لفظ البخاري ولمسلم نحوه "بـ "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"" متفق عليه "وهو" أي تخصيص الأول بالثاني "تام على" قول "الشافعية" وبعض الحنفية حيث لم يشرطوا المقارنة ويرى الشافعية تقديم الخاص مطلقا "لا" على قول "أبي يوسف ومحمد إذ لم تثبت مقارنته" أي الثاني للأول "ولا تأخيره ليخص" على تقدير مقارنته "وينسخ" على تقدير تأخيره "فتعارضا" أي الحديثان في الإيجاب فيما دون خمسة أوسق فقدم أبو يوسف ومحمد الثاني بما الله أعلم به فإن وجهه بالنسبة إلى الأصل المذهبي غير ظاهر "وقدم" أبو حنيفة "العام" أي الأول "احتياطا" لتقدم الموجب على المبيح وحمل غير واحد من المشايخ منهم صاحب الهداية مرويهما على زكاة التجارة جمعا بين الحديثين قالوا لأنهم كانوا يتبايعون بالأوساق وقيمة الوسق كانت يومئذ أربعين درهما ولفظ الصدقة ينبئ عنها بل نقله في الفوائد الظهيرية عن أبي حنيفة وفي مبسوط أحمد الطواويسي أخذ أبو حنيفة هذا الأصل من عمر رضي الله عنه فإنه عمل بالعام المتفق عليه حين أراد إجلاء بني النضير فاعترضوا عليه بقوله عليه السلام: "اتركوهم وما يدينون" وعمر تمسك بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" فأجلاهم.
مسألة(4/341)
"ألحق الرازي من الحنفية والبردعي و فخر الإسلام وأتباعه" والسرخسي وأبو اليسر والمتأخرون ومالك والشافعي في القديم وأحمد في إحدى روايتيه "قول الصحابي" المجتهد "فيما يمكن فيه الرأي بالسنة" لغير الصحابي "لا لمثله" أي صحابي آخر "فيجب"(4/342)
ص -400-…على غير الصحابي "تقليده" أي الصحابي "ونفاه" أي إلحاق قوله بالسنة "الكرخي وجماعة" من الحنفية منهم القاضي أبو زيد "كالشافعي" في الجديد "ولا خلاف فيما لا يجري فيه" أي قوله الذي لا يمكن فيه الرأي "بينهم" أي الحنفية أنه يجب تقليده فيه لأنه كالمرفوع لعدم إدراكه بالرأي وبه قال الشافعي أيضا في الجديد على ما حكاه السبكي عن والده "وتحريره" أي محل النزاع "قوله" أي الصحابي "فيما" يدرك بالقياس لكن "لا يلزمه الشهرة" بين الصحابة لكونه "مما لا تعم به البلوى ولم ينقل خلاف" فيه بين الصحابة ثم ظهر نقل هذا القول في التابعين "وما يلزمه" الشهرة مما يدرك بالقياس لكونه مما تعم به البلوى واشتهر بين الخواص ولم يظهر خلاف من غيره "فهو إجماع كالسكوتي حكما لشهرته" أي بسببها على الوجه الذي ذكرنا "وفي اختلافهم" أي الصحابة في ذلك "الترجيح" بزيادة قوة لأحد الأقاويل إن أمكن "فإن تعذر" الترجيح "عمل بأيهما شاء" بعد أن يقع في أكبر رأيه أنه هو الصواب ثم بعد أن يعمل بأحدهما ليس له أن يعمل بالآخر بلا دليل "لا يطلب تاريخ" بين أقوالهم ليجعل المتأخر ناسخا للمتقدم كما يفعل في النصين لأنهم لما اختلفوا ولم يتحاجوا بالسماع تعين أن تكون أقوالهم عن اجتهاد لا سماع فكانا "كالقياسين" تعارضا "بلا ترجيح" لأحدهما على الآخر حيث يكون هذا حكمهما وذلك لأن الحق لا يعدو أقوالهم حتى لا يجوز لأحد أن يقول بالرأي قولا خارجا عنها "واختلف عمل أئمتهم" أي الحنفية في هذه المسألة وهي تقليده فيما يمكن فيه الرأي فلم يستقر عنهم مذهب فيها ولا يثبت فيها عنهم رواية ظاهرة "فلم يشرطا" أي أبو يوسف ومحمد "إعلام قدر رأس مال السلم المشاهد" أي تسمية مقداره إذا كان مشارا إليه في صحة السلم "قياسا" على الإعلام بالتسمية لأن الإشارة أبلغ في التعريف من التسمية والإعلام بالتسمية يصح بالإجماع فكذا بالإشارة وقياسا على البيع المطلق به "وشرطه" أي أبو حنيفة(4/343)
إعلام قدر رأس المال المشاهد في صحته "وقال بلغنا" ذلك "عن ابن عمر" كذا في الكشف وفي غيره عن عمر وابن عمر "وضمنا" أي أبو يوسف ومحمد "الأجير المشترك" وهو من يعقد على عمله كالصباغ والقصار العين التي هي العمل إذا هلكت "فيما يمكن الاحتراز عنه كالسرقة بخلاف" ما إذا هلكت بالسبب "الغالب" وهو ما لا يمكن الاحتراز عنه كالحرق والغرق الغالبين والغارة العامة فإنه لا ضمان عليه اتفاقا وإنما ضمناه في الأول "بقول علي رضي الله عنه" رواه ابن أبي شيبة عنه من طرق وأخرج الشافعي عنه أنه كان يضمن الصباغ والصائغ ويقول لا يصلح الناس إلا ذلك "ونفاه" أي أبو حنيفة تضمين الأجير المشترك "بقياس أنه أمين كالمودع" والأجير الواحد وهو من يعقد على منافعه لأن الضمان نوعان ضمان جبر وهو يجب بالتعدي وضمان الشرط وهو يجب بالعقد ولم يوجد كلاهما لأن قطع يد المالك حصل بإذنه والحفظ لا يكون جناية فبقيت العين في يده أمانة كالوديعة فلا يضمن بالهلاك قلت وهذا إنما يتم إذا لم ينقل عن علي ولا غيره خلافه وليس كذلك فقد أخرج محمد في الآثار عن أبي حنيفة بسنده عنه أنه كان لا يضمن القصار ولا الصائغ ولا الحائك ورفعه أبو حنيفة في مسنده عنه بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضمان(4/344)
ص -401-…على قصار ولا صباغ ولا وشاء" فلا جرم أن قال الإسبيجابي الضمان كان من رأي علي ثم رجع عنه وأخرج محمد في الآثار أيضا عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم أن شريحا لم يضمن أجيرا قط قيل وكان حكم شريح بحضرة الصحابة والتابعين من غير نكير فحل محل الإجماع.
"واتفق فيما لا يدرك رأيا كتقدير أقل الحيض" بثلاثة أيام "بما عن عمر وعلي وابن مسعود وعثمان بن أبي العاص وأنس" رضي الله عنهم كذا في جامع الأسرار ولم أقف على ذلك عن عمر وعلي وأما روايته عن ابن مسعود فأخرجها الدارقطني وأما عن عثمان بن أبي العاص فلم أقف على ما يفيد ذلك عنه وأما عن أنس فأخرجها الكرخي وابن عدي قلت ولقائل أن يقول لم لا يكون القول بأن أقل الحيض ثلاث بالمرفوع في ذلك كما رواه الدارقطني والطبراني من حديث أبي أمامة وابن عدي من حديث أنس ومعاذ الدارقطني من حديث واثلة وابن الجوزي من حديث الخدري وابن حبان من حديث عائشة وإن كان في طرقها ضعف فإن تعددها يرفعها إلى درجة الحسن وهو صنيع غير واحد من المشايخ ثم في حكاية الاتفاق نظر فإن في رواية الحسن عن أبي حنيفة ثلاثة أيام والليلتان اللتان تتخللانها وعند أبي يوسف يومان وأكثر الثالث "وفساد بيع ما اشترى قبل نقد الثمن بقول عائشة" لأم ولد زيد بن أرقم لما قالت لها إني بعت من زيد غلاما بثمانمائة درهم نسيئة واشتريته بستمائة نقدا أبلغي زيدا أن قد أبطلت جهادك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن تتوب بئس ما اشتريت وبئس ما شريت رواه أحمد قال ابن عبد الهادي إسناده جيد "لما تقدم" أي لأنه لا يدرك رأيا "لأن الأجزية" على الأعمال إنما تعلم "بالسمع" فيكون لهذا حكم الرفع "للنافي" إلحاق قول الصحابي بالسنة "يمتنع تقليد" الصحابي "المجتهد" غيره "وهو" أي الصحابي "كغيره" من المجتهدين في احتمال اجتهاده الخطأ لانتفاء العصمة فيمتنع تقليده "الموجب" لتقليده "منع" المقدمة "الثانية" وهي كون الصحابي المجتهد كغيره(4/345)
من المجتهدين في احتمال اجتهاده الخطأ "بل يقوى فيه" أي في قوله "احتمال السماع" والظاهر الغالب من حاله إفتاؤه بالخبر لا بالرأي إلا عند الضرورة بعد مشاورة القرناء لاحتمال أن يكون عندهم خبر وقد ظهر من عادتهم سكوتهم عن الإسناد عند الفتوى إذا كان عندهم خبر يوافق فتواهم لأن الواجب عند السؤال بيان الحكم لا غير "ولو انتفى" السماع "فإصابته" الحق "أقرب" من غيره "لبركة الصحبة ومشاهدتهم الأحوال المستنزلة للنصوص والمحال التي لا تتغير" الأحكام "باعتبارها" ولهم زيادة جد وحرص في بذل المجهود في طلب الحق والقيام بما هو سبب قوام الدين والاحتياط في حفظ الأحاديث وضبطها والتأمل فيما لا نص عندهم فيه "بخلاف غيره" أي الصحابي قلت وللموجب أن يمنع المقدمة الأولى أيضا فقد ذكر الشيخ أبو بكر الرازي أن أبا حنيفة قال من كان من أهل الاجتهاد فله تقليد غيره من العلماء وترك رأيه لقوله وإن شاء أمضى اجتهاد نفسه ا هـ والمسألة مستوفاة في(4/346)
ص -402-…المقالة الثانية ويأتي الكلام عليها ثمة إن شاء الله تعالى "فصار" قول الصحابي "كالدليل الراجح وقد يفيده عموم" قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] مدح الصحابة وتابعيهم بإحسان وإنما استحق التابعون المدح على اتباعهم بإحسان من حيث الرجوع إلى رأيهم لا إلى الكتاب والسنة لأن في ذلك استحقاق المدح باتباع الكتاب والسنة لا باتباع الصحابة وذلك إنما يكون في قول وجد منهم ولم يظهر من بعضهم فيه خلاف فأما الذي فيه اختلاف فلا يكون موضع استحقاق المدح فإنه إن كان يستحق المدح باتباع البعض يستحق الذم بترك اتباع البعض فوقع التعارض فكان النص دليلا على وجوب تقليدهم إذا لم يوجد بينهم اختلاف ظاهر كذا في الميزان "والظاهر" من المذهب "في" التابعي "المجتهد في عصرهم" أي الصحابة "كابن المسيب" والحسن والنخعي والشعبي "المنع" من تقليده "لفوت المناط المساوي" للمناط في وجوب التقليد للصحابي وهو بركة الصحبة ومشاهدة الأمور المثيرة للنصوص والمفيدة لإطلاقها حتى ذكروا عن أبي حنيفة أنه قال إذا اجتمعت الصحابة سلمنا لهم وإذا جاء التابعون زاحمناهم وفي رواية لا أقلدهم هم رجال اجتهدوا ونحن رجال نجتهد "وفي النوادر نعم كالصحابي" واختاره الشيخ حافظ الدين النسفي "والاستدلال" لذلك "بأنهم" أي الصحابة "لما سوغوا له" أي للتابعي الاجتهاد وزاحمهم في الفتوى "صار مثلهم" فيجوز تقليده كما في الصحابي "ممنوع الملازمة لأن التسويغ" لاجتهاده "لرتبة الاجتهاد" أي لحصولها له "لا يوجب ذلك المناط" لوجوب التقليد "فبرد شريح الحسن على علي" أي فالاستدلال لهذا بما ذكر المشايخ من أن عليا رضي الله عنه تحاكم إلى شريح فخالف عليا في رد شهادة الحسن له للقرابة "وهو" أي علي "يقبل الابن" أي كان من رأيه جواز شهادة الابن لأبيه "ومخالفة مسروق ابن عباس في إيجاب(4/347)
مائة من الإبل في النذر بذبح الولد إلى شاة" قالوا ورجع ابن عباس إلى قول مسروق بعد ثبوت كل منهما "لا يفيد" المطلوب لأن خلافهما وتقريرهما لرتبة الاجتهاد ولا يستلزم الارتفاع إلى رتبة الصحابي إلا بما ذكرنا وهو يخصه "وجعل شمس الأئمة الخلاف" في قول التابعي "ليس إلا في أنه هل يعتد به في إجماع الصحابة فلا ينعقد" إجماعهم "دونه أو لا" يعتد به في إجماعهم "فعندنا نعم" يعتد به وعند الشافعي لا يعتد به فلم يعتبر رواية النوادر وقال ولا خلاف في أن قول التابعي ليس بحجة على وجه يترك به القياس والله سبحانه أعلم.
وجد في نسخة الأصل المنقولة من نسخة المؤلف ما نصه قال المصنف شارح هذا الكتاب متع الله المسلمين بطول حياته وقد يسر الله تعالى من فضله وإحسانه وجوده وامتنانه ختم تبييض هذا السفر الثاني من التقرير والتحبير شرح كتاب التحرير على يدي مؤلفه العبد الفقير إلى الله ذي الفضل العميم والوعد الوفي محمد بن محمد بن محمد المشتهر بابن أمير حاج الحلبي الحنفي عاملهم الله بلطفه الجلي والخفي بالمدرسة الحلاوية(4/348)
ص -403-…النورية بحلب المحروسة لا زالت رباعها بالبركات والفضائل مأنوسه ورايات الأعداء عنها منكوسه أصيل يوم الأحد الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول من سنة ثلاث وسبعين وثمانمائة هجرة نبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وتسهيل السبيل إلى الاطلاع على مصادره وموارده في خير من الله تعالى وعافية ونعم منه ضافية وافية على وجه يرضاه ربنا جل جلاله ويرضى به عنا إنه سبحانه ذو الفضل العظيم والكرم العميم وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والصلاة والتسليم على سيد المرسلين محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
تم الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث وأوله فصل في التعارض.(4/349)
عنوان الكتاب:
التقرير والتحبير – الجزء الثالث
تأليف:
محمد بن محمد ابن أمير الحاج الحنبلي
دراسة وتحقيق:
عبد الله محمود محمد عمر
الناشر:
دار الكتب العلمية - بيروت
الطبعة الاولى 1419هـ/1999م(5/1)
ص -3-…بسم الله الرحمن الرحيم
فصل في التعارض
وأشار إلى وجه ذكره بعد خبر الواحد بقوله "وغالبه في الآحاد" و "هو" أي التعارض لغة "التمانع" على سبيل التقابل تقول: عرض لي كذا إذا استقبلك ما يمنعك مما قصدته، ومنه سمي السحاب عارضا؛ لأنه يمنع شعاع الشمس وحرارتها من الاتصال بالأرض "وفي الاصطلاح اقتضاء كل من دليلين عدم مقتضى الآخر" وفيه المعنى اللغوي كما هو ظاهر "فعلى ما قيل" والقائل غير واحد من مشايخنا كفخر الإسلام وأتباعه "لا يتحقق" التعارض "إلا مع الوحدات" الثمان وحدة المحكوم عليه وبه والزمان والمكان والإضافة والقوة والفعل والشرط وقيل التسع والتاسعة وحدة الحقيقة والمجاز كما عرف في المنطق وردت إلى الإضافة والجميع إلى وحدتي المحكوم عليه وبه وإلى وحدة النسبة الحكمية كما عرف في المنطق أيضا فالتعارض "لا يتحقق في" الأحكام "الشرعية للتناقض" حينئذ والشارع منزه عنه لكونه أمارة العجز "ومتى تعارضا" أي الدليلان "فيرجح" أحدهما إذا وجد المرجح له "أو يجمع" بينهما بأن يحمل كل منهما على محمل بطريقة يتحقق "معناه" أي التعارض "ظاهرا" أي يكون التعارض المذكور ظاهر اقتضاء الدليلين "لجهلنا" بالمتقدم منهما "لا" حقيقته "في نفس الأمر" كما أشار إليه صاحب البديع وصدر الشريعة "وهو" أي كون المراد به هذا هو "الحق" فيفرع عليه قوله "فلا تعتبر" الوحدات المذكورة فيه؛ لأن المبوب له صورة المعارضة لا حقيقتها لاستحالتها على الشارع فلا معنى لتقييدها بتحقق الوحدات؛ لأنها حينئذ المعارضة الممتنعة والكلام في إعطاء أحكام المعارضة الواقعة في الشرع وهي ما تكون صورة فقط مع الحكم بانتفائها حقيقة.
وقوله أيضا "ولا يشترط تساويهما" أي الدليلين المتعارضين "قوة" لا كما قيل يشترط؛ لأن الأضعف بالنسبة إلى الأقوى في حكم العدم فلا تماثل بينهما؛ لأنه بناء على التعارض حقيقة.(5/2)
وقوله أيضا "ويثبت" التعارض "في" دليلين "قطعيين ويلزمه" أي التعارض في قطعيين "محملان" لهما إذا لم يعلم تأخر أحدهما عن الآخر "أو نسخ أحدهما" بمعارضة الآخر إن علم تأخر أحدهما عن الآخر "فمنعه" أي التعارض "بينهما" أي القطعيين "وإجازته في الظنين" كما ذكره ابن الحاجب وغيره وعلله العلامة الشيرازي بأنه إما أن يعمل بهما وهو جمع بين النقيضين في الإثبات أو لا يعمل بشيء منهما وهو جمع بين النقيضين في طرف النفي أو بأحدهما دون الآخر وهو ترجيح بلا مرجح "تحكم" لجريان هذا التعليل بعينه في الظنيين أيضا على أن الكلام في صورة التعارض لا في تحققه في الواقع وهي كما توجد في الظنيين توجد في القطعيين وفي القطعي والظني "والرجحان" لأحد المتعارضين القطعيين أو(5/3)
ص -4-…الظنيين إنما هو "بتابع" أي بوصف تابع لذلك الراجح كما في خبر الواحد الذي يرويه عدل فقيه مع خبر الواحد الذي يرويه عدل غير فقيه "مع التماثل" أي تساويهما في القطع والظن لا بما هو غير تابع "ومنه" أي التماثل بين الدليلين في الثبوت السنة "المشهورة مع الكتاب حكما" أي من حيث وجوب تقييد مطلقه وتخصيص عمومه وجواز نسخه بها ولا سيما على قول الجصاص وإن كانت لا تماثله من حيث إكفار جاحده على ما هو الحق كما سلف في موضعه "فلا يقال النص راجح على القياس"؛ لأن رجحان النص على القياس بوصف غير تابع فلا مماثلة بينهما أولا "بخلاف عارضه" أي القياس النص "فقدم" النص عليه فإنه يقال؛ لأن المراد صورة التعارض فلا يلزم منه تحقق المماثلة بينهما في نفس الأمر "إذ حكمه" أي التعارض صورة "النسخ إن علم المتأخر" فيكون ناسخا للمتقدم "وإلا" إذا لم يعلم المتأخر "ف" الحكم "الترجيح" لأحدهما على الآخر بطريقه إن أمكن "ثم الجمع" بينهما إن أمكن إذا لم يمكن ترجيح أحدهما على الآخر؛ لأن إعمال كليهما في الجملة حينئذ أولى من إلغاء كليهما بالكلية "وإلا" إذا لم يعلم المتقدم ولم يمكن ترجيح أحدهما ولا الجمع بينهما "تركا" أي المتعارضان "إلى ما دونهما" من الأدلة "على الترتيب إن كان" أي وجد ما دونهما بأن كان التعارض بين آيتين فإنهما يتركان إلى السنة إن كانت ولم تكن متعارضة فإن لم يوجد في ذلك سنة أو وجدت لكن متعارضة ففخر الإسلام تركها إلى القياس وأقوال الصحابة ولم يفصح بما يصار إليه أولا منهما ولفظ السرخسي يصار إلى ما بعد السنة فيما يكون حجة في حكم الحادثة وذلك الحكم قول الصحابي أو القياس الصحيح فقيل في الأول إشارة إلى تقديم القياس وفي الثاني إشارة إلى قول الصحابي؛ لأن التقديم في الذكر يدل على شدة العناية وفي التقويم وإن كان بين السنتين فالميل إلى قول الصحابي ثم إلى الراوي انتهى. وعليه مشى المصنف كما سترى.(5/4)
ثم ظاهر أن هذا كله فيما يدرك بالقياس أما فيما لا يدرك، فقول الصحابي مقدم على القياس اتفاقا ثم إنما يتساقط المتعارضان حيث لا ترجيح ولا جمع بينهما ممكن إلى ما دونهما حيث وجد لتعذر العمل بهما للتنافي بينهما وبأحدهما عينا لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح ثم لا ضرورة في العمل بأحدهما أيضا لوجود الدليل الذي يعمل به وهو ما دونهما فلا يقع العمل بما يحتمل أنه منسوخ ثم إنما يجب المصير إلى ما دونهما حينئذ؛ لأن الحادثة التحقت بما إذا لم يوجد فيها ائتزرت الدليلان ولا بد من دليل يتعرف به حكم الحادثة "وإلا" إذا لم يوجد دون المتعارضين دليل آخر يعمل به أو وجد التعارض في الجميع "قررت الأصول" أي يجب العمل بالأصل في جميع ما يتعلق بالمتعارضين "أما" في التعارض "في القياسين" إذا وقعت الحاجة إلى العمل "فبأيهما شهد قلبه" أي أدى تحري المجتهد إليه يجب العمل به عليه "إن" طلب الترجيح وظهر له أن "لا ترجيح" ولا يسقطان لأداء تساقطهما إلى العمل بلا دليل شرعي بعد القياس يرجع إليه في معرفة حكم الحادثة الذي هو مضطر إلى معرفته، والعمل بلا دليل شرعي باطل وكل من القياسين حجة في(5/5)
ص -5-…العمل به لوضع الشارع إياه للعمل به لا في إصابة الحق؛ لأنه عند الله واحد فمن حيث الأول وجب أن يثبت الخيار من غير تحر كما في الكفارات ومن حيث الثاني وجب أن يسقطا كما في النصين؛ لأن أحدهما خطأ وهو لا يدري فوجب العمل من وجه وسقط من وجه فقلنا يحكم رأيه ويعمل بشهادة قلبه؛ لأن لقلب المؤمن نورا يدرك به ما هو باطن لا دليل عليه كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" رواه الترمذي ثم إذا عمل بأحدهما بالتحري ليس له أن يعمل بالآخر لصيرورة الذي عمل به هو الحق عند الله والآخر خطأ في الظاهر فلا يجوز له أن يعمل به إلا بدليل فوق التحري كأن يتبين نص بخلافه لظهور خطئه حينئذ حيث اجتهد في المنصوص عليه وإذا لم تقع حاجة إلى العمل يتوقف فيه. وقال الشافعي يعمل بأيهما شاء من غير تحر ولهذا صار له في المسألة قولان وأقوال وأما الروايتان عن أصحابنا في مسألة واحدة فإنما كانتا في وقتين إحداهما صحيحة والأخرى لا، ولكن لم تعرف الأخيرة منهما ودفع العمل بالقياسين جميعا بأن الحق عند الله واحد كما عليه أهل السنة والجماعة، فالجمع بينهما في العمل جمع بين الحق والباطل وهو غير جائز.(5/6)
"وقول الصحابيين بعد السنة قبل القياس كالقياسين فلا يصار عنهما إلى القياس" أي قولهما إما أن يكون فيما يمكن فيه الرأي أو لا ففيما يمكن حمل تعارضهما أن يترجح أحدهما بطريقة فإن لم يكن مرجح عمل بأيهما شاء ولا يصار إلى القياس؛ لأن عملهم حينئذ عن رأي؛ لأنهم لما لم يتحاجوا بالسمع ظهر أنهم اختلفوا عن اختلاف رأي ولا رأي في الشرع إلا القياس فصار قولاهما كقياسين تعارضا ولا مرجح وفي ذلك يعمل بأيهما شاء فكذا هذا فإن قيل جاز أنا لو صرنا إلى القياس ظهر لنا قياس آخر غيرهما قلنا قدمنا أن اجتهاد الصحابي مقدم على اجتهاد غيره فهو كالدليل الراجح بالنسبة إلى المرجح فالقياس الثالث محكوم بمرجوحيته بالنسبة إلى القياسين اللذين هما قولاهما فلا يجوز أن يعمل به أصلا وأيضا يكون الحاصل أنهم أجمعوا على قولين فلا يجوز إحداث ثالث فلا فائدة في المصير إلى القياس عند تعارضهما ولا مرجح غير واقع بل الواقع الإطلاقات المشهورة في الكتب أنه لا يصار في معارضتهما إلى القياس بل يعمل بأيهما شاء ذكره المصنف. "والجمع في العامين بحمل كل على بعض" كاقتلوا المشركين لا تقتلوا المشركين ولا مرجح يحمل الأول على الحربيين والثاني على الذميين "أو" على "القيد" أي على قيد غير قيد الآخر كإذا لم يكونوا ذمة في الأول وإذا كانوا ذمة في الثاني "وكذا" الجمع "في الخاصين" يحمل كل على قيد غير قيد الآخر "أو يحمل أحدهما على المجاز" والآخر على الحقيقة "وفي العام والخاص ولا مرجح للعام" على الخاص موجود "كإخراج من تحريم، ولا الخاص" أي ولا مرجح له على العام موجود "كمن إباحة" أي إخراج منها "فبالخاص" أي فالعمل به "في محله" أي الخاص نفسه "والعام" أي والعمل به "فيما سواه" أي سوى محل الخاص "فيتحد الحاصل منه" أي من الجمع بين العام والخاص على هذا الوجه "ومن تخصيص العام به" أي بالخاص(5/7)
ص -6-…"مع اختلاف الاعتبار"؛ لأنه على الشافعية تخصيص العام بالخاص وعلى الحنفية حمل لدفع التعارض إذا تعذر الترجيح ومعرفة التأخر لينسخ الآخر ذكره المصنف أما لو وجد مرجح للعام فقط قدم على الخاص أو للخاص فقد قدم على ما يعارضه من العام.
"وقد يخال" أي يظن "تقدم الجمع" بين العام والخاص على الترجيح عند الحنفية "لقولهم الإعمال أولى من الإهمال وهو" أي الإعمال "في الجمع" بين العام والخاص كما هو غير خاف لا في ترجيح أحدهما على الآخر فإن فيه إبطال الآخر "لكن الاستقراء خلافه" أي دال على عدم اطراد تقدم الجمع على ترجيح أحدهما فقد "قدم عام "استنزهوا البول" "على" خاص "شرب العرنيين أبوال الإبل" المفصح به حديثهم وتقدم تخريج الحديثين في آخر البحث الرابع من مباحث العام "لمرجح التحريم" لشرب أبوال وهو أبو حنيفة رحمه الله تعالى "مع إمكان حمله" أي عام "استنزهوا البول" "على" ما "سوى" بول "ما يؤكل" كما ذهب إليه مبيحه مطلقا كمحمد وأحمد رحمهما الله أو للتداوي فقط كأبي يوسف رحمه الله "وعام ما سقت" أي "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر" "على خاص الأوسق" أي "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" وتقدم تخريج الحديثين في مسألة تخصيص السنة بالسنة "لمرجح الوجوب" للعشر في كل ما سقته السماء أو سقي سيحا قل أو كثر وهو أبو حنيفة "مع إمكان نحوه" أي حمل ما سقته السماء على ما كان خمسة أوسق فصاعدا كما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد وغيرهما "وكيف" يقدم الجمع مطلقا على اعتبار الراجح منهما "وفي تقديمه" أي الجمع مطلقا عليه "مخالفة ما أطبق عليه العقول من تقديم المرجوح على الراجح" وظاهر أن هذا بيان للمخالفة لا لما أطبق وإلا لكان الوجه القلب مع أنه قد كان هو الأولى "وتأويل" أخبار "الآحاد" المعارضة ظاهر الكتاب "عند تقديم الكتاب" عليها "ليس منه" أي الجمع بين المتعارضين ظاهرا "بل استحسان حكما للتقديم" للكتاب عليها "وقولهم" أي الحنفية(5/8)
"تقديم النص على الظاهر تعارضا فيما وراء الأربع" من النساء بملك النكاح للأحرار "أي" قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فإنه ظاهر في حل الأكثر من الأربع "ومثنى إلخ" أي قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] فإنه نص على قصر الحل على الأربع "فيرجح النص" على الظاهر "ويحمل الظاهر عليه" أي النص "اتفاق منهم" أي الحنفية "عليه" أي نفي الجمع بعد الترجيح وعلى تأويل المرجوح بعد تقديم الراجح بحمله على معنى الراجح وليس هذا جمعا فإن الجمع أن يحمل كل على بعض، وفيه عدم إعمال الراجح في جميع معناه وليس هذا كذلك بل أعمل الراجح وهو النص في كل معناه وهو قصر الحل على الأربع ثم حمل المرجوح وهو الظاهر على هذا بعينه.
قال المصنف "ولو خالفوا" أي الحنفية هذا الأصل "كغيرهم" وجعلوا الجمع قبل الترجيح حتى يصار إليه مع أن أحدهما راجح أو عرف تأخره "منعناه"؛ لأن هذه الأصول ليست إلا من تصرفات العقول فلكل أحد أن يبدي وجها عقليا ويعمل به ويدفع غيره إن أمكنه كما(5/9)
ص -7-…ذكرناه وقولهم الإعمال أولى إلخ إن أريد مع المرجوحية منعناه؛ لأنه نقض الأصول ومكابرة العقول وإن أريد عند عدهم الرجحان فيقدم على المصير إلى ما دونهما فنعم ذكره المصنف.
هذا والذي في الميزان المخلص من التعارض من وجهين: أحدهما ما يرجع إلى الركن بأن لم يكن بين الدليلين مماثلة كنص الكتاب وخبر المتواتر مع خبر الواحد والقياس أو خبر الواحد مع القياس؛ لأن شرط قبول خبر الواحد والقياس أن لا يكون ثمة نص من الكتاب والسنة المتواترة والإجماع بخلافه، وكذا إذا كان لأحد الخبرين من الآحاد أو لأحد القياسين رجحان على الآخر وجه من وجوه الترجيح؛ لأن العمل بالراجح واجب عند عدم المتيقن بخلافه، ولا عبرة للمرجح بمقابلة الراجح ولكن هذا إنما يستقيم بين خبري الواحد وبين القياسين؛ لأن كلا منهما ليس بدليل موجب للعلم وإنما يوجب الظن أو علم غالب الرأي وهذا يحتمل التزايد من حيث القوة بوجوه الترجيح فأما بين النصين كتابا وسنة متواترة في حق الثبوت فلا يتصور الترجيح؛ لأن العلم بثبوتها قطعي. والعلم القطعي لا يحتمل التزايد في نفسه من حيث الثبوت وإن كان يحتمله من حيث الجلاء والظهور، إلا إذا وقع التعارض في موجبيهما بأن كان أحدهما محكما والآخر فيه احتمال فالمحكم أولى وثانيهما ما يرجع إلى الشرط بأن لا يثبت التنافي بين الحكمين ويتصور الجمع بينهما لاختلاف المحل والحال والقيد والإطلاق والحقيقة والمجاز واختلاف الزمان حقيقة أو دلالة وبيانه أن النصين إذا تعارضا ولم يكن أحدهما خاصا والآخر عاما فأما أن لا يكون بينهما زمان يصلح للنسخ ففي الخاصين يحمل أحدهما على قيد أو حال أو مجاز ما أمكن وفي العامين من وجه يحمل على وجه يتحقق الجمع بينهما وفي العامين لفظا يحمل أحدهما على بعض والآخر على بعض آخر أو على القيد والإطلاق، وإما أن يكون بينهما زمان يصلح للنسخ بأن كان المكلف يتمكن من الفعل والاعتقاد أو من الاعتقاد لا غير على(5/10)
الاختلاف فيه فيمكن العمل بالطريقين بالتناسخ والتخصيص والتقييد والحمل على المجاز في العامين والخاصين فأصحاب الحديث العمل بطريق التخصيص، والبيان أولى والمعتزلة بالتناسخ أولى ومشايخنا واختيار أبي منصور الماتريدي ينظر إلى عمل الأمة في ذلك فإن حملوه على التناسخ يجب العمل به وإن حملوه على التخصيص يجب العمل به وإن لم يعرف عمل الأمة في ذلك على أحد الوجهين أو استوى عملهم فيه بأن عمل بعضهم على أحد الوجهين والبعض على الوجه الآخر فيرجع في ذلك إلى شهادة الأصول فيعمل بالوجه الذي شهدت به وإن كان أحدهما خاصا والآخر عاما فإن عرف تاريخهما وبينهما زمان يصح فيه التناسخ فإن كان الخاص سابقا والعام متأخرا نسخ الخاص به وإن كان العام سابقا والخاص متأخرا نسخ العام بقدر الخاص ويبقى الباقي وإن وردا معا وكان بينهما زمان لا يصح فيه النسخ يبنى العام على الخاص فيكون المراد من العام ما وراء المخصوص وهذا قول مشايخ العراق والقاضي أبي زيد ومن تابعه من ديارنا وقالت الشافعية يبنى العام على الخاص في الفصلين حتى إن الخاص السابق يكون مبينا للعام اللاحق فيكون المراد من العام(5/11)
ص -8-…ما وراء قدر المخصوص بطريق البيان. وعلى قول مشايخ سمرقند الجواب فيه كذلك إذا لم يكن بينهما زمان يصلح للنسخ؛ لأنه لا يندفع التناقض إلا بهذا الطريق فأما إذا كان بينهما زمان يصلح فيه التناسخ قالوا يتوقف في حق الاعتقاد ويعمل بالنص العام بعمومه ولا يبنى على الخاص، وتوجيه هذه الأقوال مذكورة فيه فليراجعه من أراد ذلك.
"ومنه" أي التعارض صورة في الكتاب والتعارض "ما" أي الذي "بين قراءتي آية الوضوء من الجر" لابن كثير وأبي عمرو وحمزة "والنصب" للباقين "في أرجلكم" من قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] "المقتضيتين مسحهما" أي الرجلين كما هو ظاهر قراءة الجر "وغسلهما" كما هو ظاهر قراءة النصب "فيتخلص" من هذا التعارض "بأنه تجوز بمسحهما" المفاد ب وامسحوا المقدر الدال عليه الواو "عن الغسل" مشاكلة كما في قول الشاعر:
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه…قلت اطبخوا لي جبة وقميصا(5/12)
فلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد "والعطف فيهما" أي القراءتين "على رءوسكم" ولعل فائدته التحذير من الإسراف المنهي عنه إذ غسلهما مظنة له لكونه يصب الماء عليهما فعطفت على الممسوح لا لتمسح بل للتنبيه على وجوب الاقتصاد فكأنه قال اغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا شبيها بالمسح وإنما قلنا تجوز بمسحهما عن غسلهما "لتواتر الغسل عنه صلى الله عليه وسلم" لهما إذ قد "أطبق من حكى وضوءه" من الصحابة "ويقربون من ثلاثين عليه" أي على غسله صلى الله عليه وسلم رجليه يزيدون على ذلك. وقد أسعف المصنف بذكر اثنين وعشرين منهم في فتح القدير عثمان رواه البخاري ومسلم وعلي رواه أصحاب السنن وعائشة رواه النسائي وغيره وابن عباس والمغيرة رواه البخاري وغيره وعبد الله بن زيد رواه الستة وأبو مالك الأشعري وأبو هريرة وأبو أمامة والبراء بن عازب رواه أحمد وأبو بكر رواه البزار ووائل بن حجر رواه الترمذي ونفيل بن مالك رواه ابن حبان وأنس رواه الدارقطني وأبو أيوب الأنصاري وأبو كاهل وعبد الله بن أنيس رواه الطبراني والمقدام بن معدي كرب وكعب بن عمرو اليامي والربيع بنت معوذ وعبد الله بن عمرو بن العاص رواه أبو داود وعبد الله بن أبي أوفى رواه أبو يعلى وممن حكاه أيضا زيادة على هؤلاء عمر رواه عبد بن حميد وابن عمر وأبي بن كعب رواه ابن ماجه ومعاوية رواه أبو داود ومعاذ بن جبل وأبو رافع وجابر بن عبد الله وتميم بن غزية الأنصاري وأبو الدرداء وأم سلمة رواه الطبراني وعمار رواه الترمذي وابن ماجه وزيد بن ثابت رواه الدارقطني فبلغت الجملة أربعة وثلاثين، وباب الزيادة مفتوح للمستقرئ. ثم المراد اتفاق الجم الغفير الذي يمنع العقل تواطؤهم على الكذب من الصحابة على نقل غسلهما عنه صلى الله عليه وسلم ثم اتفاق الجم الغفير الذين هم بهذه المثابة التابعين على نقل ذلك عن الصحابة وهلم جرا حتى إلينا وليس معنى التواتر إلا هذا "وتوارثه" أي ولتوارث غسلهما(5/13)
"من الصحابة" أي لأخذنا غسلهما عمن يلينا وهم ذلك عمن(5/14)
ص -9-…يليهم وهكذا إلى الصحابة وهم أخذوه بالضرورة عن صاحب الوحي فلا يحتاج إلى أن ينقل فيه نص معين. ثم النسخ في المسح المقدر لهما في الآية منتف اتفاقا فتعين تجوزه فيهما عن الغسل لإمكانه وإلجاء الدليل إليه "وانفصال ابن الحاجب عن المجاورة" أي عن جر الأرجل بالمجاورة لقوله {بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] "إذ ليس" الجر بها "فصيحا" أي قال لم يأت في القرآن ولا في كلام فصيح "بتقارب الفعلين" أي امسحوا واغسلوا "وفي مثله" أي تقارب الفعلين "تحذف العرب" الفعل "الثاني وتعطف متعلقه على متعلق" الفعل "الأول كأنه" أي متعلق الفعل الأول "متعلقه" أي الفعل الثاني كقولهم متقلد سيفا ورمحا وعلفتها تبنا وماء باردا إذ الأصل ومعتقلا رمحا وسقيتها ماء باردا فحذفا وعطف متعلقهما على متعلق ما قبلهما، والآية من هذا القبيل أي امسحوا رءوسكم واغسلوا أرجلكم فحذف اغسلوا وعطف متعلقه وهو أرجلكم على متعلق الأول وهو رءوسكم فبعد الإغضاء عن المناقشة في أنه لم يأت في القرآن ولا في كلام فصيح بوقوعه في نحو قوله تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26، والزخرف:65] {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة:22] في قراءة حمزة والكسائي إلى غير ذلك وفي أنه لا حذف في النظيرين المذكورين بل ضمن متقلدا معنى حاملا وعلفتها معنى أنلتها والتزم على هذا صحة علفتها ماء باردا وتبنا لما ألزم به لقول طرفة:
لها سبب ترعى به الماء والشجر(5/15)
"غلط" منه وهو خبر انفصال "إذا لا يفيد" هذا منه ما قصده من الخروج عن المجاورة في القرآن "إلا في اتحاد إعرابهما" أي إلا إذا كان إعراب المتعلقين المتعاطفين من نوع واحد كما ذكر في علفتها وسقيتها "وليست الآية منه" أي مما اتحد فيه إعراب المتعلقين المتعاطفين بل هو مختلف فيهما؛ لأنه على ما ذكر تكون الأرجل منصوبة؛ لأنها معمول اغسلوا لمحذوف فحين ترك إلى الجر الذي هو المشاكل لإعراب الرءوس "فلا يخرج" جرها "عن الجوار" بجر رءوسكم فما هرب منه وقع فيه "وما قيل" أي وما في التلويح علاوة على ما تقدم أولا "في الغسل المسح" وزيادة "إذا لا إسالة" وهي معنى الغسل "بلا إصابة" وهي معنى المسح "فينتظمه" أي الغسل المسح "غلط بأدنى تأمل"؛ لأن الغسل لا ينتظمه وإنما ينتظم المعنى الأعم المشترك بينهما وهو مطلق الإصابة وهي إنما تسمى مسحا إذا لم يحصل سيلان "ولو جعل" الغسل "فيهما" أي الرجلين بالعطف "على وجوهكم" في القراءتين وقد كان حقه النصب كما هو إحداهما لكون المعطوف عليه كذلك لكنه كما قال "والجر" لأرجلكم "للجوار" لرءوسكم "عورض بأنه" أي الجر "فيهما" بالعطف "على رءوسكم والنصب" بالعطف "على المحل" أي محل رءوسكم كما هو اختيار المحققين من النحاة فإن محله النصب "ويترجح" هذا "بأنه" أي العطف على المحل "قياس" مطرد يظهر في الفصيح وإعراب شائع مستفيض مع ما فيه من اعتبار العطف على الأقرب وعدم وقوع الفصل بالأجنبي "لا الجوار" فإنه في العطف شاذ إذ الحمل على الشائع المطرد حيث أمكن مقدم على الشاذ "و" منه ما بين "قراءتي التشديد في يطهرن" لحمزة والكسائي وعاصم في رواية ابن(5/16)
ص -10-…عباس من قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] "المانعة" من قربانهن "إلى الغسل والتخفيف" فيه للباقين المانعة من قربانهن "إلى الطهر" أي الانقطاع "فيحل" قربانهن "قبله" أي الاغتسال "بالحل الذي انتهى. ما عرضه من الحرمة فتحمل تلك" أي فيتخلص من هذا التعارض بحمل قراءة التشديد "على ما دون الأكثر" من مدة الحيض الذي هو العادة لها ليتأكد جانب الانقطاع به أو بما يقوم مقامه على تقدير عدمه لتوهم معاودة الدم فإنه ينقطع تارة ويدر أخرى والوقت صالح له "وهذه" أي قراءة التخفيف "عليه" أي على أكثر مدة الحيض؛ لأنه انقطاع بيقين، وحرمة القربان إنما كانت باعتبار قيام الحيض فلا يجوز تراخيها إلى الاغتسال لأدائها إلى جعل الطهر حيضا وإبطال التقدير الشرعي ومنع الزوج من حق القربان بدون العلة المنصوص عليها وهو الأذى والكل غير جائز فإن قيل إنما يتم هذا التخلص أن لو قرئ فإذا طهرن بالتخفيف كما قرئ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} بالتشديد ليكون التخفيف موافقا للتخفيف، والتشديد موافقا للتشديد ولم يقرأ فثبت أن المراد الجمع بين الطهر والاغتسال بالقراءتين أجيب بالمنع وليس المراد الجمع بينهما فيهما لما ذكرنا من اللازم الممنوع فيحمل {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} في {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتخفيف على طهرن بالتخفيف أيضا "وتطهرن بمعنى طهرن" غير مستنكر فإن تفعل تجيء بمعنى فعل من غير أن يدل على صنع "ك تكبر" وتعظم "في صفاته تعالى" إذ لا يراد به صفة تكون بإحداث الفعل "وتبين" بمعنى بان وظهر "محافظة على حقيقة يطهرن بالتخفيف" وأورد يلزم من هذا التعميم المشترك إن كان يطهرن حقيقة في الانقطاع كما في الاغتسال والجمع بين الحقيقة والمجاز إن كان مجازا في الانقطاع ودفع بالمنع؛ لأن إرادة الانقطاع حال اختبار التخفيف وهو في هذه الحالة ليس له معنى غيره وإرادة الاغتسال حال اختيار التشديد هو في هذه الحالة ليس له معنى غيره(5/17)
والحالتان لا يجتمعان إذ لا يقرأ بهما في حالة واحدة فلا جمع بينهما إذ من شرطه اتحاد الحالة ولم توجد "وكلاهما" أي المحملين المذكورين "خلاف الظاهر" كما رأيت "لكنه" أي حمل قراءة التخفيف على مجرد الانقطاع على الأكثر "أقرب" من حملها على الاغتسال "إذ لا يوجب" حملها على ذلك "تأخر حق الزوج" في الوطء "بعد الانقطاع بارتفاع العارض المانع" من ذلك وهو الحيض "مع قيام المبيح" وهو الحل الأصلي الثابت قبل عروض هذا المحرم بخلاف حملهما على الاغتسال فإنه يوجب ذلك، فالقول بأن ذاك الحمل متعين أحق من أنه أقرب ثم هذا جمع من قبل الحال كما سيفصح به المصنف.
"و" منه "بين آيتي اللغو" في اليمين وهي عند أصحابنا وأحمد الحلف على أمر يظن أنه كما قال وهو بخلافه وعند الشافعي وأحمد في رواية كل يمين صدرت عن غير قصد في الماضي وفي المستقبل "تقيد إحداهما" أي {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] "المؤاخذة بالغموس" وهي الحلف على أمر ماض أو حال يتعمد الكذب به "لأنها مكسوبة" أي مقصودة بالقلب "والأخرى" أي {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] "عدمه" أي أن لا يأخذ بالغموس "إذ ليست" الغموس "معقودة"؛(5/18)
ص -11-…لأن العقد قول يكون له حكم في المستقبل كالبيع ونحوه وقد قوبلت باللغو فيكون اللغو الخالية عن الفائدة واللغو بهذا المعنى ثابت قال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} [الواقعة: 25] {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان: 72] "فدخلت" الغموس في هذه الآية "في اللغو لعدم الفائدة التي تقصد اليمين لها" شرعا وهي تحقيق العمد والصدق في الغموس إذ لا يتصور فيها فلا يكون مؤاخذا بها "وخرجت" الغموس "منه" أي من اللغو "في" الآية "الأخرى" ودخلت في المكسوبة "بشمول الكسب إياها" أي الغموس فيكون مؤاخذا بها "وأفادت" هذه الآية الأخرى "ضدية" حكم "اللغو" وهو المؤاخذة "للكسب" أي؛ لأن حكم اللغو عدم المؤاخذة "فهو" أي اللغو هنا "السهو" فتعارضتا في الغموس حينئذ "والتخلص" من هذا التعارض "عند الحنفية بالجمع" بينهما "بأن المراد بالمؤاخذة" الثابتة للغموس "في" الآية "الأولى" المؤاخذة "الأخروية" وهي العقاب "وفي الثانية" أي والمراد بالمؤاخذة المنفية عن الغموس في الآية الثانية المؤاخذة "الدنيوية بالكفارة" فتغايرت المؤاخذتان فلا تعارض "أو" المراد باللغو في الآيتين الخالي عن القصد وبالمؤاخذة "فيهما" أي الآيتين المؤاخذة "الأخروية" والغموس في المكسوبة لا في المعقودة فالآية الأولى أوجبت المؤاخذة على الغموس "و" الآية "الثانية ساكتة عن الغموس وهي" أي الغموس "ثالثة" وعلى هذا مشى صدر الشريعة.(5/19)
فإن قيل قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ} تفسير للمؤاخذة والمؤاخذة التي هي الكفارة إنما هي في الدنيا والمختصة بالآخرة إنما هي المؤاخذة التي هي العقاب وجزاء الإثم أجيب بالمنع بل هو تنبيه على طريق دفع المؤاخذة في الآخرة "أي يؤاخذكم في الآخرة بما عقدتم" أي إذا جعل الإثم باليمين المنعقدة "فطريق دفعه" أي الفعل الذي هو المؤاخذة على المعقودة الحانثة فيما لا يجب فيه الحنث "وستره إطعام" عشرة مساكين إلخ، وكذا فيما يجب فيه الحنث قال المصنف ووجه المؤاخذة في هذه ما تضمنه من سوء الأدب على الشرع فإنه لما حرم تعالى الخمر فحلف ليشربنها فقد بالغ في المكابرة على قصد المخالفة فإن لم يفعل حتى سلم من إثم ارتكاب النهي بقي عليه إقدامه على اليمين على فعل ما نهي عنه فدفعه الله عنه كرما وفضلا بالكفارة فصار الحاصل من الآيتين أنه أثبت المؤاخذة على الغموس والمنعقدة في الآخرة ثم دفع المؤاخذة عن المنعقدة بشرع الكفارة فبقيت الغموس مسكوتا عنها في ذلك فلم تشرع الكفارة فيها دافعة ساترة.
"واحتج الأول" أي القائل بأن المراد بالمؤاخذة في الأولى الأخروية وفي الثانية الدنيوية فلا تكون الغموس واسطة بين اللغو والمنعقدة "بأن المفهوم من: لا يؤاخذ بكذا لكن" يؤاخذ "بكذا عدم الواسطة" أي كون الثاني مقابلا للأول من غير واسطة بينهما كما في التلويح فلو كانت المؤاخذة فيهما المؤاخذة الأخروية لزم كون المؤاخذ به في الآيتين واحدا قلت وهذا ظاهر الورود على أن المراد المؤاخذة الأخروية، أما لو أريد المؤاخذة(5/20)
ص -12-…مطلقا عقوبة كانت أو كفارة فلا؛ لأنه حينئذ لا يمكن دخول الغموس في اللغو؛ لأنها كبيرة محضة نطق الحديث الصحيح بها واليمين اللغو ليست كذلك ولا في المعقودة؛ لأنها توجب الكفارة ولا كفارة في الغموس لما أخرج أحمد بسند صرح ابن عبد الهادي بجودته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "خمس ليس لهن كفارة" وذكر منهن ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق" إلى غير ذلك وكل من قال: لا كفارة في الغموس لم يفصل بين اليمين الصابرة أي المصبورة على مال كذبا وبين غيرها وهي المفضي بها؛ لأنها مصبور عليها أي محبوس "وعند الشافعي" المراد بالمؤاخذة "فيهما" أي الآيتين المؤاخذة "الدنيوية وهي" أي الغموس عنده "داخلة في المعقودة" بناء على حمل العقد على القلب كقول الشاعر:
عقدت عن قلبي بأن يكتم الهوى(5/21)
"كما" هي داخلة "في المكسوبة فلا تعارض، ودفعه" أي دخولها في المعقودة كما أشار إليه غير واحد "بأن حقيقة العقد بغير القلب" أي بأن فيه عدولا عن الحقيقة بغير ضرورة؛ لأن العقد ربط الشيء بالشيء، وذلك حقيقة في العقد المصطلح بين الفقهاء لما فيه من ربط أحد الكلامين بالآخر وارتباط الكلام بمحل الحكم إن كان الكلام واحدا، وعزم القلب لا يرتبط بشيء؛ لأنه لا يوجب حكما فإطلاق اسم العقد عليه مجاز؛ لأنه سبب العقد فلا تكون الغموس معقودة حقيقة بل مجازا ثم دفعه مبتدأ خبره "قد يمنع" مبنيا للمفعول "بأنه" أي العقد "أعم" من أن يكون في الأعيان أو المعاني "يسند إلى الأعيان فيراد" به "الربط" لبعضها ببعض "وإلى القلب فعزمه" أي فيراد به عزم القلب "وكثر" إطلاق عزم القلب على هذا المعنى "في اللغة" وفي التلويح على أن عقد القلب واعتقاده بمعنى ربطه وجعله ثابتا عليه أشهر في اللغة من العقد المصطلح في الفقه فإنه من مخترعات الفقهاء، وأجيب بأن العقد بمعنى الربط وإن كان حقيقة في الأعيان إلا أنه في عرف الشرع صار حقيقة شرعية في قول يكون له حكم في المستقبل لارتباط بينهما كما يدل عليه قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]؛ لأن الأمر بالإيفاء لا يصلح إلا لما له حكم في المستقبل فلا يصار إلى غيره إلا عند تعذره ولم يتعذر "بل" الأولى في الجواب أن يقال "الظاهر" أن المراد بالمؤاخذة "في" الآية "الأولى" المؤاخذة "الأخروية للإضافة إلى كسب القلب" كما أشار إليه صدر الشريعة إذ لا عبرة بالقصد وعدمه في المؤاخذة الدنيوية في بعض الصور كما في حقوق العباد فلا يصار إليها عند عدم الدليل على أن الغموس كبيرة محضة لا تناسب الكفارة الدائرة بين العبادة والعقوبة فاندفع رد ذلك في حقوق الله لا سيما الحقوق الدائرة بين العبادة والعقوبة، وقال غير واحد من المحققين؛ لأنها مطلقة والمطلق ينصرف إلى الكامل والأخروية هي الكاملة؛ لأن الآخرة خلقت(5/22)
للجزاء كما يشير إليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: 17] فتجازى فيه على وفاق عملها بخلاف الدنيا فإنها دار ابتلاء قد يؤاخذ فيها المطيع بجناية تطهيرا وقد ينعم العاصي بها استدراجا على أن المؤاخذات في الدنيا شرعت بأسباب فيها نوع ضرر لتكون زواجر فيها إصلاحنا فلا(5/23)
ص -13-…تتمحض مؤاخذة لحق الله وإنما تتمحض في الآخرة فلم يكن الحكم الثابت في أحد النصين الحكم الثابت في الآخرة فبطل التدافع.
"وهذا" الجمع بين مضمون هاتين الآيتين "جمع من قبل الحكم" باختلافه فيهما. "ومنه" أي الجمع من قبل الحكم "توزيعه" أي الحكم بأن يجعل بعض أفراد الحكم ثابتا بأحد الدليلين وبعضها منفيا بالآخر "كقسمة المدعي بين المثبتين" أي مدعي كل منهما إياه كلا بحجته "وما قيل" أي قيل هذا الجمع في قراءتي التشديد والتخفيف في {حَتَّى يَطْهُرْنَ} هو "من قبل الحال" فإنه قد حمل إحداهما على حالة والأخرى على حالة كما رأيت وعبر عنه صدر الشريعة بالمحل "ويكون" الجمع بينهما "من قبل الزمان صريحا بنقل التأخر" لأحدهما عن الآخر كقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وقوله {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] فإن بينهما تعارضا في حق الحامل المتوفى عنها زوجها، وجمع الجمهور بينهما بأن {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] الآية "بعد {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} الآية كما صح عن ابن مسعود وتقدم تخريجه في البحث الخامس في التخصيص "أو" يكون من قبل الزمان "حكما كالمحرم" أي كتقديمه "على المبيح" إذا عارضه "اعتبارا له" أي للمحرم "متأخرا" عن المبيح "كي لا يتكرر النسخ" على تقدير كون المحرم مقدما على المبيح "بناء على أصالة الإباحة" فإن المحرم حينئذ يكون ناسخا للإباحة الأصلية ثم المبيح يكون ناسخا للمحرم بخلاف تقدير كون المحرم متأخرا مع القول بأصالة الإباحة فإنه لا يتكرر النسخ؛ لأن المبيح وارد لإبقائها حينئذ والمحرم ناسخ له والأصل عدم التكرار وتقدم ما في أصالة الإباحة في المسألة الثانية من مسألتي التنزل في فصل الحاكم من البحث والتحرير فليطلب ثمة "ولأنه" أي تقديم(5/24)
المحرم على المبيح "الاحتياط"؛ لأن فيه زيادة حكم وهو نيل الثواب بالانتهاء عنه واستحقاق العقاب بالإقدام عليه، وهو ينعدم في المبيح، والأخذ بالاحتياط أصل في الشرع ذكره شمس الأئمة السرخسي. وعن ابن أبان وأبي هاشم أنهما يطرحان ويرجع المجتهد إلى غيرهما من الأدلة كالغرقى إذا لم يتقدم بعضهم على بعض ثم من أمثله هذا ما ورد في تحريم الضب وإباحته إذ في سنن أبي داود "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحم الضب". وروى أحمد والطبراني وأبو يعلى والبزار برجال الصحيح عن عبد الرحمن بن حسنة قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا أرضا كثيرة الضباب فأصبنا منها فذبحنا فبينما القدور تغلي بها خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "إن أمة من بني إسرائيل فقدت وإني أخاف أن تكون هي فأكفئوها فأكفأناها وإنا لجياع" وروى الجماعة إلا الترمذي عن خالد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم إليه ضب فأهوى بيده إليه فقيل هو الضب يا رسول الله فرفع يده فقال خالد أحرم يا رسول الله؟ قال: لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه. قال خالد فاجتررته فأكلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر فلم ينهني" فتعارض المحرم والمبيح فجعلنا المحرم آخرا لما قلنا من تقليل معنى النسخ له كالطحاوي في شرح الآثار محجوج بهذا.(5/25)
ص -14-…"ولا يقدم الإثبات" لأمر عارض "على النفي" له كما ذهب إليه الكرخي والشافعية "إلا إن كان" النفي لا يعرف بالدليل بل كان "بالأصل" أي بناء على العدم الأصلي فإن الإثبات يقدم عليه حينئذ. "كحرية" مغيث "زوج بريرة؛ لأن عبديته كانت معلومة فالإخبار بها" أي بعبديته كما في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم خيرها وكان زوجها عبدا "بالأصل" أي بناء على أن رقبته لم تتغير فهذا نفي لا يدرك عيانا بل بناء على ما كان من ثبوتها والإخبار بحريته كما في الكتب الستة أنه كان حرا حين أعتقت إثباتا لأمر عارض على ما ثبت له أولا من الرقبة فيقدم عليه لاشتماله على زيادة علم ليست في النفي المذكور فلا جرم أن ذهب أصحابنا إلى ثبوت خيار العتق لها عبدا كان زوجها أو حرا خلافا لهم فيما إذا كان حرا "فإن" كان النفي "من جنس ما يعرف بدليله عارضه" أي الإثبات لتساويهما "وطلب الترجيح" لأحدهما بوجه آخر "كالإحرام في حديث ميمونة رضي الله عنها" أي ما في الكتب الستة عن ابن عباس: "تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم". زاد البخاري وبنى بها وهو حلال وماتت بسرف. وفي رواية النسائي تزوج نبي الله ميمونة وهما محرمان. فإنه "نفي لأمر" عارض وهو الإحرام على الأصل الذي هو الحل "يدل عليه هيئة محسوسة" من التجرد ورفع الصوت بالتلبية "فساوى رواية" مسلم وابن ماجه عن يزيد بن الأصم حدثتني ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال قال وكانت خالتي وخالة ابن عباس. وزاد فيه أبو يعلى: بعد أن رجعنا من مكة رواية الترمذي وابن خزيمة وابن حبان عن أبي رافع تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت الرسول بينهما. "ورجح نفي ابن عباس على" إثبات "ابن الأصم وأبي رافع" بقوة السند وخصوصا بالنسبة إلى حديث أبي رافع فقد. قال الترمذي لا نعلم أحدا أسنده غير حماد عن مطر يعني عن ربيعة عن سليمان بن يسار. قال(5/26)
ابن عبد البر وهو غلط منه؛ لأن سليمان ولد سنة أربع وثلاثين ومات أبو رافع قبل عثمان بسنتين وكان قتل عثمان في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين فلا يمكن أن يروي عنه قال شيخنا الحافظ رواه الطبراني من طريق ابن سلام بن المنذر عن مطر موصولا لكنه خالف في إسناده فقال عن عكرمة عن ابن عباس فوهم من وجهين والمحفوظ عن ابن عباس: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم". انتهى. ومطر ضعفه يحيى بن سعيد وأحمد بل قال الطحاوي لا يحتج بحديثه عندهم وبضبط الرواة وفقههم وخصوصا ابن عباس إذ ناهيك به فقاهة وضبطا واتفاقا ولذا قال عمرو بن دينار للزهري وما يدري ابن الأصم أعرابي بوال على ساقه أتجعله مثل ابن عباس. وقال الطحاوي الذين رووا أنه صلى الله عليه وسلم تزوج بها وهو محرم أهل علم وثبت من أصحاب ابن عباس مثل سعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وجابر بن زيد وهؤلاء كلهم فقهاء والذين نقلوا عنهم عمرو بن دينار وأيوب السختياني وعبد الله بن أبي نجيح وهؤلاء أئمة يقتدى برواياتهم إلى غير ذلك.
"هذا بالنسبة إلى الحل اللاحق" للإحرام "وأما على إرادة" الحل "السابق" على الإحرام "كما في بعض الروايات" أي ما في موطأ مالك عن سليمان بن يسار قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا(5/27)
ص -15-…رافع مولاه ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قبل أن يخرج وفي معرفة الصحابة للمستغفري قبل أن يحرم" فابن عباس مثبت ويزيد" بن الأصم "ناف فيترجح" حديث ابن عباس "بذات المتن" لترجيح المثبت على النافي "ولو عارضه" أي نفي يريد إثبات ابن عباس لكون نفي يزيد مما يعرف بدليله؛ لأن حالة الحل تعرف بالدليل أيضا وهو هيئة الحلال "فيما قلنا" أي فالترجيح لحديث ابن عباس قلنا من قوة السند وفقه الراوي ومزيد ضبطه فترجح قول أصحابنا بجواز عقد نكاح المحرم والمحرمة حالة الإحرام على قول الأئمة الثلاثة بعدم الجواز "وعرف" من هذا "أن النافي راوي الأصل" أي الحالة الأصلية للمروي عنه بالنسبة للمثبت كما أن المثبت هو الراوي الحالة العارضة على تلك الحالة الأصلية "فإن أمكنا" أي كون النفي بناء على الدليل وكونه بناء على العدم الأصلي "كحل الطعام وطهارة الماء" فإن كلا منهما "نفي يعرف بالدليل" بأن ذبح شاة وذكر اسم الله عليها وغسل إناء بماء السماء أو بماء جار ليس به أثر نجاسة وملأه بأحدهما ولم يغب عنه أصلا ولم يشاهد وقوع نجاسة فيه "والأصل" بأن يعتمد على أن الأصل في المذبوحة الحل ولم يعلم ثبوت حرمة فيها وفي الماء الطهارة ولم يعلم وقوع نجاسة فيه "فلا يعارض" الإخبار بهما "ما" أي الإخبار "بحرمته ونجاسته ويعمل بهما" أي بالحل في الطعام والطهارة في الماء "إن تعذر السؤال" للمخبر عن مستنده؛ لأن الاستصحاب وإن لم يصلح دليلا يصلح مرجحا فيرجح الخبر النافي به "وإلا" إذا لم يتعذر السؤال للخبر عن مستنده "سئل" المخبر "عن مبناه" أي مبنى خبره "فعمل بمقتضاه" فإن تمسك المخبر بظاهر الحال من أن الأصل في الشاة الحل وفي الماء الطهارة ولم يعلم ما ينافيهما فخبر الحرمة والنجاسة أولى؛ لأنه خبر عن دليل فلا يعارض الخبر المثبت وإن تمسك بالدليل كان مثل الإثبات فيقع التعارض ثم يجب العمل بالأصل لما(5/28)
ذكرنا.
"ومثل الحنفية تقرير الأصول" لمتعلق المتعارضين إذا لم يكن بعدهما دليل يصار إليه "بسؤر الحمار" أي البقية من الماء الذي شرب منه في الإناء "تعارض في حل لحمه وحرمته المستلزمتين لطهارته" أي سؤره "ونجاسته الآثار" ففي الصحيحين عن جابر "نهى النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر". والنهي عنها يدل على تحريمها وحرمة الشيء مع صلاحيته للغذاء إذا لم يكن للكرامة آية النجاسة ولحمها من هذا القبيل فيكون نجسا وإذا كان نجسا كان لعابه نجسا؛ لأنه يجلب من اللحم وهو يخالط الماء فيكون نجسا وفي سنن أبي داود عن غالب بن أبجر قال: "أصابتنا سنة فلم يكن في مالي شيء أطعم أهلي إلا شيء من حمر وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أصابتنا السنة ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر وإنك حرمت لحوم الحمر الأهلية فقال "أطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل جوال القرية" وهذا يدل على حلها وإذا كانت حلالا كانت طاهرة وإذا كانت طاهرة كان سؤرها طاهرا لأن اللعاب المختلط به طاهر. "فقرر حديث المتوضئ به" أي بسوره على ما كان عليه من الوجود "وطهارته" أي(5/29)
ص -16-…السؤر على ما كان عليه الماء قبل مخالطة اللعاب له قال المصنف "ولا يخفى أنه" أي تقرير الأصول "حكم عدم الترجيح لكن رجحت الحرمة" على الإباحة إذا تعارضتا كما تقدم آنفا فينبغي أن ترجح هنا أيضا الحرمة الموجبة للنجاسة وكيف لا وحديث التحريم صحيح الإسناد، والمتن لا اضطراب فيه وحديث الإباحة مضطرب الإسناد ذكره البيهقي ثم النووي ثم المزي ثم الذهبي فلم يوجد ركن المعارضة على أن في دلالته على الإباحة مطلقا نظرا فإن القصة تشير إلى اضطرارهم ومن ثمة قال البيهقي وإن صح فإنما رخص له عند الضرورة وأيضا هو مصرح بتأخره عن حديث التحريم فلو صح مفيد الإباحة مطلقا لكان ناسخا للتحريم موجبا للطهارة "والأقرب" في تقرير الأصول في هذا المثال لوجود التعارض الملجئ إلى ذلك "تعارضت الحرمة المقتضية للنجاسة والضرورة المقتضية للطهارة" فيه؛ لأن الحمار في الدور والأفنية ويشرب في الأواني المستعملة ويحتاج إليه في الركوب والحمل "ولم تترجح" الطهارة "للتردد فيها" أي الضرورة المسقطة للنجاسة "إذا ليس كالهرة" في المخالطة حتى تسقط نجاسته كما سقطت نجاسة سؤر الهرة؛ لأن الهرة تلج المضايق دونه "ولا الكلب" في المجانبة الغالبة حتى لا تسقط نجاسته لانعدام الضرورة في الكلب دونه "ولا النجاسة" لما فيه من إسقاط حكم الضرورة بالكلية وأنه خلاف النظر فتساقطتا ووجب المصير إلى الأصل فالماء كان طاهرا فلا يتنجس بما لم تتحقق نجاسته والسؤر بمقتضى حرمة اللحم نجس فلا يحكم بطهارته ولا بنجاسة الماء الواقع فيه وعلى هذا مشى شيخ الإسلام صاحب المبسوط.(5/30)
تتميم ثم إذا كان الكتاب لبيان اصطلاحي الحنفية والشافعية وما تقدم بيان اصطلاح الحنفية فلا بأس بذكر اصطلاح الشافعية تكميلا وحاصله على ما ذكره الإمام الرازي وغيره أن النصين المتعارضين قسمان أحدهما أن يكونا متساويين في القوة بأن يكونا معلومين أو مظنونين وفي العموم بأن يصدق كل على ما يصدق عليه الآخر وهذا له ثلاثة أحوال: الأول أن يعلم تأخر ورود أحدهما بعينه عن الآخر فالمتأخر ناسخ للمتقدم إذا كان مدلوله قابلا للنسخ سواء كانا معلومين أو مظنونين آيتين أو خبرين أو أحدهما آية والآخر خبرا عند من يجوز النسخ عند اختلاف الجنس وإن كان غير قابل للنسخ تساقطا، ووجب الرجوع إلى غيرهما ومن لم يجوز النسخ عند اختلاف الجنس يمنع ورود هذا القسم والخاصان حكمهما هذا الحكم، الثاني أن يجهل المتأخر منهما فإن كانا معلومين تساقطا لاحتمال كل منهما أن يكون هو المنسوخ احتمالا على السواء ووجب الرجوع إلى غيرهما وإن كانا مظنونين تعين الترجيح فيعمل بالأقوى فإن تساويا تخير المجتهد، الثالث أن تعلم مقارنتهما فإن كانا معلومين وأمكن التخيير فيهما تعين القول به؛ لأنه تعذر الجمع ولا يترجح أحدهما على الآخر بقوة الإسناد، وإنما يرجع إلى الحكم ككون أحدهما حاظرا أو مثبتا حكما شرعيا؛ لأنه يقتضي طرح المعلوم بالكلية وهو غير جائز، وإن كانا مظنونين تعين الترجيح فيعمل بالأقوى فإن تساويا قوة فالتخيير، ثانيهما أن لا يتساويا في القوة والعموم معا. وهذا له ثلاثة(5/31)
ص -17-…أحوال أيضا: الأول أن لا يتساويا في القوة بأن كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا فيترجح القطعي ويعمل به إن كانا عامين أو خاصين أو القطعي خاصا والظني عاما فإن كان القطعي عاما والظني خاصا يرجح الخاص على العام ويعمل به جمعا بينهما سواء علم تأخره عن العام أم لا؛ لأن الصحيح أن المظنون يخصص المعلوم؛ لأن فيه إعمالا للدليلين أما الخاص ففي جميع ما دل عليه وأما العام فمن وجه وهو الأفراد التي لم تخصص، ومنع التخصيص يقضي إلى إلغاء أحدهما وهو الخاص وإعمال الدليلين ولو من وجه أولى من إلغاء أحدهما وفي شرح المنهاج للإسنوي نعم إن عملنا بالعام المقطوع به ثم ورد الخاص بعد ذلك فلا نأخذ به إذا كان مظنونا؛ لأن الأخذ به في هذه الحالة نسخ لا تخصيص ونسخ المقطوع بالمظنون لا يجوز، الثاني أن يتساويا في القوة لا في العموم فإن كانا عامين وكان أحدهما أعم من الآخر مطلقا عمل بالأخص سواء كانا قطعيين أو ظنيين علم تقدم أحدهما على الآخر أم لم يعلم وإن كان أحدهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه يصار إلى الترجيح بينهما سواء كانا قطعيين أو ظنيين لكن لا يمكن الترجيح في القطعيين بقوة الإسناد بل يرجح بكون حكم أحدهما حظرا أو شرعيا أو مثبتا والآخر إباحة أو عقليا أو نافيا ونحو ذلك، وفي الظنيين يرجح بقوة الإسناد، الثالث أن لا يحصل بينهما تساو لا في العموم والخصوص ولا في القوة فإن كانا عامين وأحدهما أعم من الآخر مطلقا عمل بالقطعي إلا إذا كان القطعي هو الأعم فإنه يخص بالظني عند الأكثرين وإن كان أحدهما أعم من الآخر من وجه صير إلى الترجيح فيرجح الظن بما يتضمنه الحكم من كونه حظرا أو مثبتا أو غير ذلك سواء علم تأخر القطعي عن الظني أم تقدمه أم جهل الحال وإن كانا خاصين فالعمل بالقطعي مطلقا والله تعالى أعلم.
مسألة(5/32)
"لا شك في جري التعارض بين قولين ونفيه" أي ولا في نفي جريه "بين فعلين متضادين" لجواز كون الفعل المضاد لغيره واجبا أو مندوبا أو مباحا في وقت وليس كذلك في وقت آخر مثله من غير رفع وإبطال لذلك الحكم إذ لا عموم للفعلين ولا لأحدهما "كصوم يوم وفطر في مثله" أي مثل ذلك اليوم بأن كان الصوم في يوم السبت والفطر في سبت آخر قال المصنف وهذا نص من قول عضد الدين وفطر في يوم آخر ثم قال استثناء من نفيه "إلا إن دل على وجوبه" أي ذلك الفعل "عليه" صلى الله عليه وسلم "ونحوه" أي أو على ندبه أو إباحته "وسببية متكرر" أي ودل مع ذلك على سببية متكرر لذلك الوجوب أو الندب بأن دل أن يوم السبت جعل سببا لوجوبه أو ندبه فإنه حينئذ يثبت التعارض بواسطة هذه الدلالة فيكون فطره في يوم السبت الآخر بعد هذه الدلالة دليل رفع ما وجب من صوم كل سبب "وتقدمت الدلالة على "أن الأمة مثله" صلى الله عليه وسلم فيما عرفت فيه صفة الفعل وقد فرض أنه دل هنا على صفة الفعل في حقه، وتكرره بتكرر ثبوته في حق الأمة على تلك الصفة فحينئذ "فالنافي" وهو فطره "ناسخ عن الكل"؛ لأن فطره المتأخر مثبت بحكم تلك الدلالة المتقدمة على الأمة الفطر كما أن صومه كان(5/33)
ص -18-…مثبتا ذلك فلهذا يلزم أن فطره المتأخر ناسخ عنه وعن الأمة الصفة المتقدمة منه. "وعن الكرخي وطائفة" أن فعله الثاني ينسخ "عنه" صلى الله عليه وسلم "فقط" بناء على أن قوله لا يوجب في حق الأمة شيئا بدليل الوجوب عليه ونحوه ومن الندب والإباحة، ودليل التكرر يخصه "وأما" التعارض "بين فعل" للنبي صلى الله عليه وسلم "عرفت صفته" من وجوب أو ندب مثلا "في حقه وقول" ينفي ذلك كأن يصوم يوم السبت ثم يقول صومه حرام "فعلى المختار من أن أمته مثله وجوبا أو غيره" لا يخلو من أن يدل على سببية متكرر لوجوب ذلك الفعل ونحوه أو لا "فمع دليل سببية متكرر، والقول خاص به" كقوله صوم يوم السبت حرام علي "نسخ عنه المتأخر منهما" أي القول والفعل الآخر "ولا معارضة فيهم" أي في الأمة "فيستمر ما فيهم" أي عليهم ما كان ثبت عليهم من الاتباع على الوجه الثابت في حقه إذ الناسخ لم يتعرض سواه صلى الله عليه وسلم "فإن جهل" المتأخر منهما اختلف فيه "قيل يؤخذ بالفعل فيثبت" الفعل "على صفته على الكل" أي فيلزمه أي يستمر ما كان وعليهم "وقيل" يؤخذ "بالقول فيخصه النسخ ويثبت ما فيهم" أي يستمر عليهم مقتضى الفعل من الاتباع على الوجه الذي عرف عليه "وقيل يتوقف" في حقه "وهو المختار دفعا للتحكم" أي الترجيح بلا مرجح إذ جواز تقدم كل منهما وتأخره ثابت فالتعيين تحكم "في حقه وثبت" أي ذلك الفعل "ما فيهم" أي على الأمة على صفته لعدم المعارضة في حقهم "وإن" كان القول "خاصا بهم" أي الأمة بأن صام يوم السبت وقال لا يحل للناس صومه "فلا تعارض في حقه فما كان له" أي ثابتا في حقه من وجوب أو ندب متكررين أو إباحة فهو ثابت عليه "كما كان وفيهم" أي في الأمة "المتأخر ناسخ وإن جهل" المتأخر منهما فأقوال أحدهما يؤخذ بالفعل فيجب عليهم الصوم ثانيها يؤخذ بالوقف فلا يثبت حكم "فثالثها" وهو "المختار" يؤخذ "بالقول" فيحرم عليهم الصوم "لوضعه" أي القول "لبيان المرادات" القائمة(5/34)
بنفس المتكلم "وأدليته" أي؛ لأنه أدل من الفعل على خصوص المراد "وأعميته" أي ولأنه أعم دلالة أي فأفراد مدلولاته أكثر لذا يدل به على الموجود والمعدوم والمعقول والمحسوس "بخلاف الفعل" فإن له محامل وإنما يفهم منه ذلك في بعض الأحوال بقرينة خارجية فيقع الخطأ فيه كثيرا ويختصر بالموجود والمحسوس؛ لأن المعدوم والمعقول لا يمكن مشاهدتهما بل الفعل "إنما يدل على إطلاقه" نفسه "للفاعل" لا على وجوبه أو ندبه أو إباحته "فإن دل على الاقتداء" أي على اقتداء غير الفاعل به "فبذلك" الدال لا بالفعل "وإنما يثبت معه" أي مع الفعل بعد دلالته على مجرد إطلاقه للفاعل "احتمالات" الوجوب والندب والإباحة للفاعل وغيره ولا يتعين شيء منهما بالفعل بل "إن تعين بعضها فبغيره" أي غير الفعل "وكونه" أي الفعل "قد يقع بيانا للقول" أي لصورة مدلول القول إنما هو "عند إجماله" أي القول فيها كفعل الصلاة "وكلامنا" في الترجيح "مع عدمه" أي الإجمال "والفرق" بين ما تقدم وهو ما إذا كان خاصا به حيث اختير الوقف عند جهل المتأخر وبين ما هنا حيث اختير الوقف عند جهل المتأخر "أنا هنا" أي فيما إذا كان خاصا بنا "متعبدون بالاستعلام لتعبدنا بالعمل" المتوقف عليه "لا هناك" فإنا لسنا هناك مأمورين باستعلام حاله صلى الله عليه وسلم في جهلنا بالمتأخر "إذ لم تؤمر به في حقه(5/35)
ص -19-…وهو" صلى الله عليه وسلم "أدرى به" أي المتأخر الذي يلزمه حكمه "أو" كان القول "شاملا" له ولهم بأن فعل الصوم ثم قال حرم علي وعليكم "فالمتأخر ناسخ عن الكل" أي عنه وعن أمته فإن كان الفعل فيثبت في حق الكل وإن كان القول فيحرم على الكل "وفي الجهل" بالمتأخر قدم "بالقول" فيحرم الصوم على الكل "لوجوب الاستعلام في حقنا" فيجب البحث عنه "وباتفاق الحال بعلم حاله مقتضى للشمول" أي ثم يلزم من بحثنا العلم بحاله صلى الله عليه وسلم باتفاق الحال لا بالقصد بالبحث إلى استعلامه في حقه "لكنا لا نحكم به" عليه "لما ذكرنا" من أنا لسنا مأمورين باستعلام حاله في جهلنا بالمتأخر بل هو أدرى بالمتأخر الذي يلزمه حكمه.(5/36)
ثم شرع في قسيم قوله فمع دليل سببية متكرر فقال "وأما مع عدم دليل التكرار" أي إذا كان الفعل الصادر منه صلى الله عليه وسلم لا دليل على تكرره وعلمت صفته وجوبا أو ندبا فلا يخلو القول: إما أن يكون خاصا به أو بالأمة أو شاملا له ولهم فأشار إلى الأول بقوله "والقول الخاص به معلوم التأخر" بأن يفعل شيئا ثم يعلم أنه قال بعده لا يحل لي فعله فلا شيء عليه لعدم معارضته للفعل؛ لأنه إن كان واجبا عليه أو مندوبا "فقد أخذت صفة الفعل مقتضاها منه بذلك الفعل الواحد"؛ لأن الإيجاب لا يقتضي التكرار ولم يقم دليل عليه فإنما يجب أو يندب مرة وقد فعله مرة فلا شيء عليه "والقول شرعية مستأنفة في حقه لا ناسخ" للفعل؛ لأنه لا يقتضي التكرار وقد فعله فتم أمره "ويثبت في حقهم" أي الأمة الفعل "مرة بصفته" عليهم من وجوب أو ندب "إذ لا تعارض في حقهم" لفرض أن القول خاص به "ولا سبب تكرار أو" علم "المتقدم" للقول كأن يقول لا يحل لي كذا ثم يفعله "نسخ عنه الفعل مقتضى القول أي دل" الفعل "عليه" أي نسخ القول "ويثبت" الفعل "على الأمة على صفته مرة" بذلك الفعل الناسخ "لفرض الاتباع فيما علم وعدم التكرار وإن جهل" المتأخر "فالثلاثة" الأقوال فيه تقديم الفعل فيثبت الفعل في حقهم وتقديم القول فيحرم والوقف فلا يثبت حكم "قيل والمختار الوقف ونظر فيه" والناظر القاضي عضد الدين "بأن لا تعارض مع تأخر القول" الخاص به "فيؤخذ به" أي بالقول حكما بأن الفعل متقدم؛ لأنه لو أخذ بالفعل نسخ موجب القول عنه وهذا معنى قوله "ترجيحا لرفع مستلزم النسخ وعلمت استواء حالتي الأمة فيهما" أي تقدم القول وتأخره "من ثبوته" أي الفعل "مرة منهم" أي عليهم فلا فائدة في التوقف بالنسبة إليهم وفي هذا إشارة إلى دفع ترجيح القول على الوقف يعني أنه علم حال الأمة بالنسبة إلى محل الجهل من تقدم القول وتأخره فلم يبق التردد إلا في حالة فإنه يختلف فيهما وتقدم في مثله اختيار الوقف لعدم(5/37)
التكليف باستعلام الثابت له "وإن" كان القول "خاصا بهم" بأن فعل وقال لا يحل للناس هذا "فلا تعارض في حقه" لعدم تعلق القول به علم تقدمه أو لا "وفيهم" أي في الأمة "المتأخر" من القول أو الفعل "ناسخ للمرة" فإن الفعل بلا تكرار يوجب المرة فينسخها كما لو قال: صوموا يوم سبت فإنه يوجب مرة فإذا أفطر - والأمة مثله - أو قال لا تصوموا فيه نسخ عنهم الصوم فيه "وإن جهل" المتأخر "فالثلاثة" الأقوال فيه الوقف وتقديم الفعل وتقديم القول "والمختار القول وإن" كان "شاملا" له ولهم "فعلى ما تقدم فيه وفيهم في علم(5/38)
ص -20-…المتأخر" من القول والفعل ففي حقه إن تقدم الفعل فلا يعارض لعدم تكرر الفعل وإن تقدم القول فالفعل ناسخ له وفي حق المتأخر ناسخ "وإن جهل" المتأخر في حقه وحقنا "فالثلاثة" الأقوال الوقف وتقديم الفعل وتقديم القول "والمختار القول فينسخ عنهم المرة لكن لو قدم الفعل وجبت" المرة "فالاحتياط فيه" أي وفي وجوبه مرة "ثم تقول في الوجه الذي قدم به القول" على الفعل والوقف "حيث قدم" عليهما من أنه وضع القول لبيان المرادات إلى آخر ما سلف "نظر وإنما يفيد" الوجه المذكور "تقديمه" أي القول "ولو كان" التقديم "باعتبار مجرد ملاحظة ذات الفعل معه" أي مع القول "لكن النظر بين فعل دل على خصوص حكمه وعلى ثبوته في حق الأمة ففي الحقيقة النظر" إنما هو "في تقديم القول على مجموع أدلة منها قول وفعل والقول وإن كان بحيث يدل به على هذا المجموع فإنما عارضه ما دل به أيضا عليه" أي هذا المجموع "فاستويا" أي الفعل والقول "والأدلية ونحوه" مما تقدم من الأعمية وغيرها "طردا وحينئذ" لا أثر لها في هذا المحل "فالوجه في كل موضع من ذلك" التعارض "ملاحظة أن الاحتياط يقع فيه على تقدير" تقديم "القول أو الفعل فيقدم ذلك" الذي فيه الاحتياط "كفعل عرفت صفته وجوب أو ندب أو حكم فيه بذلك" أي بالوجوب أو الندب إذا كان التاريخ مجهولا "يقدم" الفعل المذكور "على القول المبيح وقلبه القول" فيقدم القول المبيح على فعل عرفت صفته من وجوب أو ندب أو حكم فيه بذلك "وكذا القول" حال كونه "محرما مع الفعل مطلقا" يقدم على الفعل مطلقا "وقول كراهة مع فعل إباحة" يقدم الأول على الثاني "وقس" على هذه أمثالها "فأما إذا لم تعرف صفة الفعل فعلى الوجوب عليه وعليهم" عند الجمهور "والندب والإباحة كذلك" أي له ولهم عند القائلين بالندب فيما لم يعرف صفة فعله والآخرين القائلين بالإباحة فيه "وعلى خصوص هذه" الأحكام من الوجوب والندب والإباحة "بالأمة المتأخر" من الفعل والقول "ناسخ(5/39)
عنهم فعلا" كان "أو قولا شاملا" له ولهم "أو خاصا بهم فإن جهل" المتأخر "فالمختار ما فيه الاحتياط كما ذكرنا وعلى الوقف في الكل" أي كل الأحكام "سوى إطلاق الفعل إن تأخر القول النافي له" أي إطلاق الفعل حال كونه "خاصا به" بأن صام يوم الجمعة ثم قال: لا يحل لي صوم يوم الجمعة "منعه" أي نسخ القول إطلاق الفعل "في حقه دونهم" فيستمر لهم موجب الفعل وهو حلة لهم مع الوقف عما زاد على ذلك "أو" حال كونه خاصا "بهم" كأن قال: لا يحل لأمتي صوم يوم الجمعة "ففي حقهم" أي نسخ القول إطلاق الفعل في حقهم وحكمنا بالإطلاق مع الوقف عما زاد عليه "أو" حال كونه "شاملا" له ولهم "نفي الإطلاق مطلقا" أي نسخ الحل الذي كان مقتضى الفعل عن الكل وزال الوقف مطلقا "فلو كان" القول المتأخر "موجبا أو نادبا قرره" أي الفعل "على مقتضاه" أي القول من الوجوب والندب "وإن" كان المتأخر "الفعل والقول خاص به" كأن يقول أولا لا يحل لي صوم يوم الجمعة ثم يصوم "فالوقف فيما سوى مجرد الإطلاق في حق الكل" أي ثبت الحل في حقه وحقهم بمقتضى الفعل المتأخر مع الوقف عما سوى في حق الكل "أو" كان القول خاصا "بهم" كأن يقول: لا يحل للأمة صوم يوم الجمعة ثم استمر(5/40)
ص -21-…بصومه "أو شاملا" له ولهم كلا يحل لي ولكم ثم صامه "منعوا" أي منع الحل في حقهم "دونه" فيحل له "وإن جهل" المتأخر "ففي الأول" أي إذا كان القول خاصا به "الوقف في حقه"؛ لأنه لو كان المتأخر القول حرم عليه أو الفعل حل له ولسنا مأمورين بالبحث عن ذلك فنقف عن الحكم عليه بشيء "والحل لهم" أي فيحكم بالحل في حقهم؛ لأنه ثابت لهم تقدم هذا القول أو تأخر "وفي الثاني" أي إذا كان القول خاصا بهم "منعوا" لثبوته لهم تقدم القول أو تأخر وجهل المتأخر لا يخرج عن كون الواقع أحدهما "وحل له"؛ لأن الفعل يوجبه ولم يعارضه القول "وفي الثالث" أي إذا كان شاملا له ولهم "الوقف في حقه"؛ لأنه إن كان القول الشامل متأخرا عن فعله حرم عليه أو متقدما حل ويجب أن لا يحكم في حقه بشيء فيجب فيه الوقف "ومنعوا"؛ لأنهم في التأخر والتقدم كذلك.
ثم لما كان مما يتخلص به من التعارض الترجيح أعقبه بفصل فيه فقال:
فصل(5/41)
"الشافعية" أي بعضهم "الترجيح اقتران الأمارة بما تقوى به على معارضها" وعلى هذا مشى ابن الحاجب "وهو" أي هذا المعنى "وإن كان" هو "الرجحان وسبب الترجيح"؛ لأن الترجيح جعل أحد جانبي المتعاملين راجحا بإظهار فضل فيه لا تقوم به المماثلة كترجيح إحدى كفتي الميزان على الأخرى بنحو شعيرة وذلك الفضل هو الرجحان والسبب الداعي إلى جعله زائدا على معاملة "فالترجيح" أي فهو الترجيح "اصطلاحا" لمعرفي الترجيح به فهو حقيقة عرفية خاصة فيه ومجاز لغوي من تسمية الشيء باسم سببه "والأمارة" أي وإنما ذكرها لا الدليل القطعي ولا ما هو أعم منهما "لأنه لا تعارض مع قطع" كما سلف عن ابن الحاجب وغيره "وتقدم ما فيه" في أول فصل التعارض بل التحقيق جريانه في القطعيين أيضا كما في الظنيين وإن تخصيص الظنيين به دون القطعيين تحكم ثم قيل: يتساقط الدليلان وقال القاضي أبو بكر وأبو علي وابنه: يلزم التخيير وقال الأكثرون يجب تقديم الأمارة التي ظهر رجحانها كما أشار إليه بقوله "فيجب تقديمها" أي الأمارة المقترنة بما تقوى به على معارضها "للقطع عن الصحابة ومن بعدهم به" أي بتقديمها كما يفيده تتبع الوقائع الكثيرة لهم ومن ذلك تقديمهم خبر عائشة رضي الله عنها في "الغسل بالتقاء الختانين" على خبر أبي سعيد الخدري "إنما الماء من الماء" كما يشير إليه سياق خبرها في صحيح مسلم وكلا الخبرين في صحيح مسلم للاحتياط ولكون الحال في مثله على أزواجه أبين وأكشف. "وأورد" على الأكثرين "شهادة أربعة مع" شهادة "اثنين" إذا تعارضتا فإن الظن بالأربعة أقوى منه بالاثنين ولا تقدم شهادة الأربعة على شهادة الاثنين "فالتزم" تقديم شهادة الأربعة كما هو قول لمالك والشافعي "والحق الفرق" بين الشهادة والدليل إذ كم من وجه ترجح به الأدلة ولا ترجح به الشهادات، ووجه أن الشهادة في الشرع مقدورة بعدد معلوم فكفينا الاجتهاد فيها بخلاف الرواية فإنها مبنية عليه "وللحنفية" في تعريف(5/42)
الترجيح بناء "على أنه" أي الترجيح(5/43)
ص -22-…"فعل إظهار الزيادة لأحد المتماثلين على الآخر بما لا يستقل" فخرج النص مع القياس المعارض له صورة فلا يقال: النص راجح عليه ولا العمل بالنص ترجيح لانتفاء المماثلة التي هي الاتحاد في النوع وقد عرفت فائدة التقييد بما لا يستقل من قوله في التعارض، والرجحان تابع مع التماثل وهو مصرح بها أيضا الآن وعلى أنه فعل أيضا ما في منهاج البيضاوي وغيره تقوية إحدى الإمارتين ليعمل بها "وعلى مثل ما قبله" أي وعلى أن المراد بالترجيح الرجحان قول فخر الإسلام وغيره "فضل إلخ" أي لأحد المتماثلين على الآخر وصفا فلا حاجة إلى نسبة قائله إلى المساهلة كما ذكر الشارحون إذ لا مشاحة في الاصطلاح. "وأفاد" تعريف الحنفية "نفي الترجيح بما يصلح دليلا" في نفسه مع قطع النظر عن الدليل الموافق فلا يقال لما تعارض فيه حديثان أو قياسان إذا وجد دليل آخر موافق لأحدهما على مقتضاه دون الآخر إن الموافق لموافقه راجح على معارضه ثم إذا كان معنى الترجيح عند الحنفية هذا "فبطل" الترجيح لأحد الحكمين المتعارضين "بكثرة الأدلة" له على الآخر "عندهم" لاستقلال كل بثبوت المطلوب به فلا ينضم إلى الآخر ولا يتحد به ليفيد تقويته؛ لأن الشيء إنما يتقوى بصفة توجد في ذاته لا بانضمام مثله إليه كما في المحسوسات وسيذكر المصنف هذا عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وخلافه عن الأكثر والوجه من الطرفين آخر هذا الفصل.(5/44)
ثم لما كان عن بعض مشايخنا أن النصين المتعارضين يترجح أحدهما بالقياس كما ذكر في الكشف وغيره وقد يظن أنه من الترجيح بكثرة الأدلة وليس كذلك نبه عليه بقوله "وترجيح ما" أي نص "يوافق القياس على ما" أي نص "يخالفه" أي القياس بالقياس "ليس به" أي بالترجيح بكثرة الأدلة "عند قابله" بالباء الموحدة أي من يقبل الترجيح بكثرة الأدلة ويراه مذهبا "لأنه" أي القياس الموافق للنص "غير معتبر هناك" أي في إثبات ذلك الحكم؛ لأنه غير معتبر في مقابلة النص "فليس" القياس ثمة "دليلا والاستقلال فرعه" أي كونه دليلا بل هو بمنزلة الوصف لذلك النص فترجيحه به إنما هو بهذا الاعتبار "وصح عندهم" أي الحنفية "نفيه" أي ترجيح ما يوافق القياس على ما يخالفه به وذكر في الكشف وغيره أنه الأصح "لأنه" أي القياس "دليل في نفسه مستقل" ولذا يثبت الحكم به عند عدم النص والإجماع "لكن عدم شرط اعتباره" هنا لما ذكرناه وسيذكر المصنف في أثناء ما به الترجيح أن الأحق أنه يترجح به ونذكر هناك وجهه والجواب عن وجههم إن شاء الله تعالى "والقياس على مثله" أي وترجيح القياس على قياس مثله معارض له "بكثرة الأصول" كما سيأتي تمثيله في موضعه "ليس منه" أي من الترجيح بكثرة الأدلة "لأنها" أي الأصول "لا توجب حكم الفرع" بل توجب زيادة تأكيد ولزوم للحكم بذلك الوصف ليحدث فيه قوة مرجحة "وهو" أي وجوب حكم الفرع بالقياس هو "المطلوب" من القياس "فيعتبر فيه" أي الفرع "التعارض" بين القياسين ثم يرجح القياس الذي له أصول يؤخذ فيها جنس الوصف أو نوعه على ما ليس كذلك "فهو" أي الترجيح بكثرة الأصول ترجيح "بقوة الأثر" وهو من الطرق الصحيحة في ترجيح الأقيسة كما سيعلم.(5/45)
ص -23-…ثم أخذ في بيان ما به الترجيح في المتن فقال "ففي المتن" أي ما تضمنه الكتاب والسنة من الأمر والنهي والعام والخاص ونحوها يكون "بقوة الدلالة كالمحكم في عرف الحنفية على المفسر وهو" أي المفسر عندهم "على النص" كذلك "وهو" أي النص كذلك "على الظاهر" كذلك والكل ظاهر مما تقدم في التقسيم الثاني من الفصل الثاني من المبادئ اللغوية "ولذا" أي ولترجيح الأقوى دلالة "لزم نفي التشبيه" عن الباري جل وعز "في {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ونحوه مما ظاهره يوهم المكان "ب" قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]"؛ لأنه يقتضي نفي المماثلة بينه وبين شيء ما والمكان والمتمكن فيه يتماثلان من حيث القدر إذ حقيقة المكان قدر ما يتمكن فيه المتمكن لا ما فصل عنه وقدم العمل بهذه الآية؛ لأنها محكمة لا تحمل تأويلا "ويضبط ما تقدم من الاصطلاحين" للحنفية والشافعية في ألقاب أفراد تقسيمات الدلالة للمفرد في الفصل الثاني من المقالة الأولى في المبادئ اللغوية "يجمع" أي يحكم بوجود بعض الأقسام على الاصطلاحين جميعا في بعض الموارد "ويفرق" أي ويحكم بوجود بعضها على أحد الاصطلاحين دون الآخر وينشأ لك من ذلك ترجيح البعض على البعض بحسب التفاوت بينهما في قوة الدلالة "والخفي" ترجيح "على المشكل عندهم" أي الحنفية لما عرف ثمة من أن الخفاء في المشكل أكثر منه في الخفي "وأما المجمل مع المتشابه" باصطلاح الحنفية "فلا يتصور" ترجيح أحدهما على الآخر "ولو" قصد إليه "بعد البيان" للمجمل "لأنه" أي ترجيح أحدهما على الآخر "بعد فهم معناهما"؛ لأن الحكم على الشيء فرع تصوره والمتشابه انقطع رجاء معرفته في الدنيا عندهم "والحقيقة" ترجح "على المجاز المساوي" في الاستعمال لها "شهرة" و "اتفاقا" لترجحها عليه بأنها الأصل في الكلام "وفي" ترجيح المجاز "الزائد" في الاستعمال من حيث الشهرة عليها "خلاف أبي حنيفة" فقال يرجح عليه وقال الجمهور منهم(5/46)
الصاحبان يرجح عليها وتقدم الكلام في ذلك في الفصل الخامس في الحقيقة والمجاز.
"والصريح على الكناية والعبارة على الإشارة" "وهي" أي الإشارة "على الدلالة مفهوم الموافقة" ومثل هذه مذكور في الشروح فلا نطول بذكرها "وهي" أي الدلالة "على المقتضى ولم يوجد له" أي لترجيح الدلالة عليه "مثال في الأدلة وقيل يتحقق" له مثال فيها وهو ما "إذا باعه" أي عبدا "بألف ثم قال" البائع للمشتري قبل نقد الثمن "أعتقه عني بمائة" ففعل إذ "دلالة حديث زيد بن أرقم" السابق في المسألة التي يليها فصل التعارض "تنفي صحته" أي بيع العبد المذكور الثابت للبائع اقتضاء لشرائه ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن "واقتضاء الصورة" أي قول غير مالك العبد لمالكه أعتق عبدك عني بمائة في غير هذه الواقعة "يوجبها" أي صحة البيع المقتضى "وليس" هذا مثالا لترجيح الدلالة على المقتضى "إذ ليسا" أي بيع زيد واقتضاء الصورة صحة البيع "دليلين" سمعيين كما هو ظاهر فأين تعارض الدليلين الذي الترجيح فرعه ؟، "ولأن حديث زيد إنما نسب إليه" أي إلى زيد "لأنه صاحب الواقعة في زمن عائشة الرادة عليه" به "فلا يكون غيره" أي ثبوت الحكم في واقعة زيد لغير زيد إذا وقع منه مثل ما وقع من زيد "مثله" أي مثل زيد "دلالة إذ هو" أي الحديث المردود به(5/47)
ص -24-…على زيد "نهيه عليه السلام عن شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن". فيثبت" هذا النهي "في غيره" أي غير زيد "عبارة كما" يثبت "فيه" أي في زيد عبارة أيضا غاية ما في الباب أن واقعته مثار رواية عائشة الحديث وهو منطبق على واقعة زيد وعلى غيرها مما وجد فيه مثل هذا الصنيع كهذه الصورة على تقدير ارتكاب تصحيح كلام البائع المذكور بجعلها صورة من صور الاقتضاء "وكيف" يكون هذا من تعارض الدلالة والمقتضى "ولا أولوية" لهذه الصورة بالحكم المذكور لبيع زيد على اشتراط أولوية المسكوت بالحكم في الدلالة "ولا لزوم فهم المناط" للحكم المذكور في المسكوت "في محل العبارة" ولا دلالة بدونه "والمقتضى" بفتح الضاد "للصدق" أي ضرورة صدق الكلام يرجح "عليه" أي على المقتضى "لغيره" أي غير الصدق وهو وقوعه شرعيا؛ لأن الصدق أهم من وقوعه شرعيا. "ومفهوم الموافقة على" مفهوم "المخالفة" "عند قابله" بالباء الموحدة كما فيما تقدم آنفا أي من يقبل مفهوم المخالفة؛ لأن مفهوم الموافقة أقوى ومن ثمة لم يقع فيه خلاف وألحق بالقطعيات وقال ابن الحاجب على الصحيح فانتفى قول الآمدي يمكن ترجيح مفهوم المخالفة بوجهين الأول أن فائدة التأسيس وفائدة مفهوم الموافقة التأكيد والتأسيس أصل والتأكيد فرع والثاني أن مفهوم الموافقة لا يتم إلا بتقدير فهم المقصود من الحكم في محل النطق وبيان فعل وجوده في فعل المسكوت وإن اقتضاء الحكم في محل السكوت أشد وأما مفهوم المخالفة فإنه يتم بتقدير عدم فهم المقصود من الحكم في محل النطق وبتقدير كونه غير متحقق في محل السكوت وبتقدير أن لا يكون أولى بإثبات الحكم في محل السكوت وبتقدير أن يكون له معارض في محل السكوت ولا يخفى أن ما يتم على تقديرات أربع أولى مما لا يتم إلا على تقدير واحد وأما من لم يقبل مفهوم المخالفة فهو مهدر الاعتبار عنده مع قطع النظر عن مفهوم الموافقة "والأقل احتمالا" على الأكثر احتمالا "كالمشترك(5/48)
لاثنين على ما" أي المشترك "لأكثر" لبعد الأول عن الاضطراب وقرب استعماله في المقصود بالنسبة إلى الثاني. "والمجاز الأقرب" إلى الحقيقة على ما هو أبعد منه إليها "وفي كتب الشافعية" يرجح المجاز على مجاز آخر "بأقربية المصحح" أي العلاقة إلى الحقيقة مع اتحاد الجهة "كالسبب الأقرب" في المسبب "على" السبب "الأبعد" منه في المسبب "وقربه" أي وبقرب المصحح إلى الحقيقة في ذلك المجاز "دون" المصحح "الآخر" في المجاز الآخر "كالسبب" أي كإطلاق اسم السبب "على المسبب على عكسه" أي إطلاق اسم المسبب على السبب ولما عللوا هذا بأن السبب مستلزم لمسببه ولا عكس ومعناه أن المسبب لا يستلزم سببا معينا لجواز ثبوته بسبب آخر بخلاف السبب فإن كل سبب يستلزم المسبب المعين قال المصنف "وينبغي تعارضهما" أي ما سمي باسم سببه وما سمي باسم مسببه "في" السبب "المتحد" لمسبب؛ لأن كلا منهما يستلزم الآخر بعينه ولا يترجح أحدهما إلا بغير هذا "وما" أي المجاز الذي "جامعه" أي علاقته "أشهر" يترجح على مجاز ليست علاقته كذلك "و" المجاز "الأشهر" استعمالا "مطلقا" أي في اللغة أو في الشرع أو في العرف على غيره لكونه أقرب إلى الحقيقة. "والمفهوم والاحتمال الشرعيان"(5/49)
ص -25-…يترجحان على المفهوم والاحتمال اللذين ليسا بشرعيين "بخلاف" اللفظ "المستعمل" للشارع "في" معناه "اللغوي معه" أي استعماله له "في" المعنى "الشرعي" فإنه يقدم المعنى اللغوي على الشرعي عند تعارضهما ممكنين في إطلاق "وفيه" أي هذا "نظر"؛ لأن استعماله له في معناه اللغوي لا يوجب كونه حقيقة شرعية فيه واستعماله له في غير معناه اللغوي يوجب نقله إليه وأنه حقيقة شرعية فيه فتقديم اللغوي عليه حينئذ تقديم للمجاز عنده على الحقيقة من غير قرينة صارفة عنها إليه وذلك غير جائز ولا يعرى عن بحث إذ ليس ببعيد أن يقال لم لا يكون استعمال الشارع اللفظ في معناه اللغوي حقيقة شرعية كما هو حقيقة لغوية؛ لأن الأصل عدم النقل وفي المعنى الذي ليس بلغوي مجاز شرعي؛ لأن الأصل عدم الاشتراك وحينئذ فتقديم اللغوي عليه تقديم للحقيقة على المجاز حيث لا صارف عنها إليه وهو الجادة وأيضا هو عمل بما هو من لسان الشرع مع التقرير وهو أولى من العمل بما هو من لسانه مع التغيير "كأقربية المصحح وقربه وأشهريته" أي كما أن في ترجيح كل من هذه على ما يقابله نظرا "بل وأقربية نفس المجازي" أي بل في ترجيح هذا على مجاز ليس كذلك نظر أيضا كما سيعلم "وأولوية" المجاز الذي هو من نفي "الصحة" للذات "في "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وتقدم مخرج هذا في المسألة الرابعة من المسائل التي بذيل المجمل على المجاز الذي هو من نفي الكمال فيه "لذلك" أي لأن نفي الصحة المجاز الأقرب إلى نفي الذات وأولوية مبتدأ خبره "ممنوع؛ لأن النفي على النسبة لا" على "طرفها" الأول "و" طرفها "الثاني محذوف فما قدر" أي فهو ما قدر خبرا للظرف الأول وإذا كان الأمر على هذا "كان كل الألفاظ" الملفوظ منها والمقدر في التركيب المذكور "حقائق" لاستعمالها في معانيها الوضعية "غير أن خصوصه" أي المقدر إنما يتعين "بالدليل" المعين له كما في "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" فإن قيام الدليل(5/50)
على الصحة أوجب كون المراد كونا خاصا وهو كاملة "ووجهه" أي النظر في تقديم ما اشتمل على أقربية المصحح إلخ "أن الرجحان" إنما هو "بما يزيد قوة دلالة على المراد أو" بما يزيد قوة دلالة على "الثبوت" وهذه المذكورات ليس فيها ذلك "والحقيقي لم يرد" أي والفرض أن المعنى الحقيقي لم يرد من إطلاق اللفظ "فهو" أي الحقيقي الذي ليس بمراد من اللفظ "كغيره" من المعاني التي ليست بمرادة منه "وتعين المجاز في كل" أي والحال أن تعين المعنى المجازي للفظ في كل استعمال له فيه إنما هو "بالدليل" المعين له "فاستويا" أي المجازيان "فيه" أي في اللفظ، وإيضاح هذا أنه كما قال المصنف إذا ذكر لفظ وصرف الدليل عن إرادة معناه الحقيقي إلى ما يصحح أن يتجوز به فيه فقد تعين بالدليل خصوص المراد به فإذا لزم لفظ مثله آخر فيما يضاد الأول كان حاصله إفادة الدليل ثبوت إفادة ضدين بلفظين فكون أحد المفادين من المعنى المجازي بينه وبين معناه الحقيقي بعد وقرب في ذاته أو مصححه أو شهرة مصححه لا أثر له إذ بعد العلم يكون الحقيقي لم يرد صار كغيره في سائر المعاني التي لم ترد فقرب المراد منه وبعده كقربه من بعض المعاني المغايرة له التي لم ترد، وبعده من بعض آخر لا يزيد بالقرب إليه قوة دلالته(5/51)
ص -26-…على خصوص ذلك معنى المراد ولا بالبعد منه تضعف دلالته عليه وكيف؟ ولا تثبت إرادة كل من المعنيين إلا بدليل أوجب تعين إرادته بعينه فصار كل كأنه الآخر هذا؛ لأن الفرض أنه معنى مجازي فلا بد في تعين إرادته باللفظ من دليل على ذلك وكما قام الدليل أن هذا المعنى المجازي القريب من حقيقته مراد من هذا اللفظ قام على أن ذلك المعنى المجازي البعيد من حقيقته مراد من ذلك اللفظ فلا مقتضى لضعف دلالة أحدهما على مراده دون الآخر "نعم لو احتملت دلالته دون الآخر" أي لو أن القرينة الموجبة لإرادة أحدهما في إيجابها له تردد واحتمال كان ضعف الدلالة لذلك إذا كانت قرينة الآخر في مراده ليست كذلك فيقدم ما ليس في دلالته ضعف على ما فيها ضعف "وذلك" أي تقديم الذي ليس في دلالته احتمال على ما في دلالته احتمال "شيء آخر" غير نفس القرب من الحقيقي الغير المراد وبعده منه فهو ترجيح باعتبار ثبوت الاحتمال في إرادة ذلك وعدمه في إرادة الآخر فيرجع إلى ما فيه احتمال مع ما ليس فيه احتمال وترجيح ما ليس فيه على ما فيه "وما أكدت دلالته" بأن تعددت جهاتها أو كانت مؤكدة ترجح على ما ليس كذلك؛ لأنه أغلب على الظن. "والمطابقة" تترجح على التضمن والالتزام؛ لأنها أضبط "والنكرة في" سياق "الشرط" تترجح "عليها" أي على النكرة "في" سياق "النفي وغيرها" أي على غير النكرة كالجمع المحلى والمضاف "لقوة دلالتها" أي النكرة في سياق الشرط "بإفادة التعليل" عليها إذا كانت في سياق النفي وعلى غيرها مما ذكر؛ لأن الشرط كالعلة والحكم المعلل أولى "والتقييد" للنكرة "بغير المركبة" أي المبنية على الفتح لكون " لا " فيها لنفي الجنس لكونها نصا في الاستغراق لا يحتمل الخصوص كما ذكر التفتازاني وغيره "تقدم". البحث الثاني من مباحث العام "ما ينفيه" فيستوي الحال بين أن تكون مركبة أو لا. "وكذا الجمع المحلى والموصول" يترجح كل منهما "على" اسم الجنس "المعرف" باللام لكثرة(5/52)
استعماله في المعهود فتصير دلالته على العموم ضعيفة على أن الموصول مع صلته يفيد التعليل كما تفيده النكرة في الشرط ولهذا قال، وكذا "والعام" يترجح "على الخاص في الاحتياط" أي فيما إذا كان الاحتياط في العمل بالعام كما لو كان العام محرما والخاص مبيحا؛ لأن العمل حينئذ أقرب إلى تحصيل المصلحة ودرء المفسدة "وإلا" لو لم يكن الاحتياط في العمل بالعام "جمع" بينهما بالعمل بالخاص في محله وبالعام فيما سواه "كما تقدم" في فصل التعارض "والشافعية" يترجح عندهم "الخاص دائما" على العام؛ لأنه غير مبطل للعام بخلاف العمل بالعام فإنه مبطل للخاص ولأنه أقوى دلالة على ما يتضمنه من دلالة العام عليه لإجمال تخصيصه منه إذ أكثر العمومات مخصصة وأكثر الظواهر الخاصة مقررة على حالها غير مؤولة. "وما" أي العام الذي "لزمه تخصيص" يترجح "على خاص ملزوم التأويل"؛ لأن تخصيص العام أكثر من تأويل الخاص كما ذكرنا آنفا "والتحريم" يترجح "على غيره" من الوجوب والندب والإباحة والكراهة كما مشى عليه الآمدي وابن الحاجب وعبر عنه المصنف بقوله "في المشهور احتياطا" ظنا من قائله أن ذلك الفعل إن كان حراما كان في ارتكابه ضرر وإن كان غير(5/53)
ص -27-…حرام لا ضرر في تركه، ومعلوم أن هذا بعد أن يكون المراد بالكراهة الكراهة التنزيهية لا يتم في الواجب فإن في تركه ضررا كما سنذكر وقد يقال إن التحريم لدفع مفسدة والندب والوجوب والإباحة لتحصيل مصلحة، واعتناء الشرع بدفع المفاسد آكد من اعتنائه بجلب المصالح بدليل أنه يجب دفع كل مفسدة ولا يجب جلب كل مصلحة والكراهة وإن كانت لدفع مفسدة إلا أن في العمل بها تجويزا للفعل وفيه إبطال المحرم بخلاف العكس فكان التحريم أولى، هذا والذي عليه الإمام وأتباعه كالبيضاوي تساوي المحرم والموجب فيلزم تقديم الموجب حيث كان المحرم مقدما على المبيح؛ لأن المساوي للمقدم على شيء مقدم على ذلك الشيء ثم في شرح الإسنوي والمراد بالإباحة هنا جواز الفعل والترك ليدخل فيه المكروه والمندوب والمباح المصطلح عليه، وعلل البيضاوي وغيره تقديم المحرم على المبيح بالاحتياط فإنه يقتضي الأخذ بالتحريم؛ لأن ذلك الفعل إن كان حراما كان ارتكابه ضررا وإن كان مباحا فلا ضرر في تركه ولا بأس بهذا وبقوله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال" لكن هذا متعقب بأنه لا يعرف مرفوعا كما قال الزركشي بل قال الحافظ العراقي ولم أجد له أصلا انتهى. نعم رواه عبد الرزاق والبيهقي في سننه عن جابر الجعفي وهو ضعيف عن الشعبي عن ابن مسعود موقوفا، والشعبي عن ابن مسعود منقطع ثم له معارض ففي سنن ابن ماجه الدارقطني عن ابن عمر رفعه "لا يحرم الحرام الحلال" وفي سنده إسحاق الفروي أخرج له البخاري وذكره ابن حبان في الثقات. وقال النسائي ليس بثقة ووهاه أبو داود جدا. وقال الدارقطني لا يترك وقال أيضا ضعيف قال شيخنا والمعتمد فيه ما قال أبو حاتم صدوق ولكن ذهب بصره فربما لقن وكتبه صحيحة ثم على هذا الذي ذكره البيضاوي مشى المصنف كما هو آت وقال أيضا "وإذا ثبت أنه" أي النبي صلى الله عليه وسلم "كان يحب ما خفف على أمته" وإذا هنا للماضي كما في قوله(5/54)
تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] لثبوته وعدم خفائه على المصنف ومن ثمة جزم به في آخر مسألة في هذا الكتاب وهو في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها لكن بلفظ عنهم وفي لفظ ما يخفف عنهم وفي الصحيحين عنها: "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا واختار أيسرهما ما لم يكن إثما". وفي حديث المعراج فيهما أيضا "فمررت بموسى فقال بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمسين صلاة كل يوم وليلة قال إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم وليلة وإني - والله - قد جربت الناس وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فرجعت" الحديث وفيهما أيضا عنه صلى الله عليه وسلم "إذا أم أحدكم الناس فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض وذا الحاجة" وفيهما أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة في المسجد من حصير وصلى فيها ليالي حتى اجتمع إليه ناس ثم فقدوا صوته ليلة وظنوا أنه قد نام فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم فقال "ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم حتى خشيت أن(5/55)
ص -28-…يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به" إلى غير ذلك، وإذا، قد ثبت ثبوتا مستفيضا شائعا لا مرد له حبه التخفيف عن أمته. "اتجه قلبه" أي ترجيح غير التحريم لكن قد عرفت أن غير التحريم يشمل الأقسام الأربعة الباقية ثم غير خاف أن هذا إن تم في الإباحة والندب والكرهة لا يتم في الوجوب إذ ليس في ترجيحه على التحريم تخفيف؛ لأن المحرم يتضمن استحقاق العقاب على الفعل، والموجب يتضمن استحقاق العقاب على الترك فتعذر الاحتياط فلا جرم إن جزم بالتساوي بينهما الأستاذ أبو منصور وقال لا يقدم أحدهما على الآخر بل بدليل ومشى عليه من قدمناهم على أن ابن الحاجب وإن ذكر ترجيح الإباحة على الحظر قولا فقد قال التفتازاني لم يذهب أحد إليه إلا أن الآمدي قال يمكن ترجيح الإباحة وحاصله ما أشار إليه عضد الدين بقوله لئلا تفوت مصلحة إرادة المكلف ولأنه لو قدم لكان أيضا الواضح وهو الجواز الأصلي وتعقبه الأبهري بأن الوجهين ضعيفان أما الأول فلأن تصور المكلف واعتقاده أن في الفعل مصلحة ربما لا يكون مطابقا للواقع فيكون خطأ ولما كانت شرعية الأحكام تابعة لمصالح العباد وكان الحظر بناء على مصلحة في الترك أو مفسدة في الفعل كان أولى، وأما الثاني فلأنه يلزم من تقديم الإباحة أي العمل بها كثرة التغيير من ارتفاع الإباحة الأصلية بالحظر ثم ارتفاع الحظر بالإباحة الشرعية بخلافه إذا كان العمل بالحظر والأصل عدمها انتهى. وفي هذه الجملة ما فيها فقد اختار القاضي عبد الوهاب في الملخص ترجيح المقتضي للإباحة على المقتضي للحظر وقال القاضي والإمام والغزالي وابن أبان وأبو هاشم يتساويان؛ لأنهما حكمان شرعيان صدق الراوي فيهما على وتيرة واحدة وصححه التاجي ونقله عن شيخه القاضي أبي جعفر ويؤيده ما في المعجم الكبير للطبراني عن أم معبد مولاة قرظة بن كعب قالت: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المحرم ما أحل الله كالمستحل ما حرم الله" وقال سليم إن كان(5/56)
للشيء أصل إباحة أو حظر وأحد الخبرين يوافق ذلك الآخر والآخر بخلافه كان الناقل عن ذلك الأصل أولى، وإن لم يكن له أصل من حظر ولا إباحة فوجهان: أحدهما الحظر أولى للاحتياط ثانيهما أنهما سواء؛ لأن تحريم المباح كتحليل الحرام فلم يكن لأحدهما مزية على الآخر هذا وفي كلام المصنف إشارة إلى تقديم المتضمن للتخفيف على المتضمن للتشديد، وعليه مشى البيضاوي وصاحب الحاصل وعلله بأنه أظهر تأخرا فإنه صلى الله عليه وسلم كان يغلظ أولا زجرا لهم عن العادات الجاهلية ثم مال إلى التخفيف وذهب الآمدي إلى تقديم المتضمن للتغليظ على المتضمن للتخفيف فإنه صلى الله عليه وسلم كان في ابتداء أمره يرأف بالناس ويأخذهم شيئا فشيئا ولا يتعبد بالتغليظ فاحتمال تأخير التشديد أظهر قلت وفي كلا التعليلين نظر، فإن كل المشروعات لم يكن أحدهما شأنها بل فيها وفيها كما هو معلوم للمستقرئ لها ولا سيما في باب النسخ ثم لعل الأخف أولى لما أشار المصنف إليه مع ما علم بنص القرآن من إرادة الله تعالى اليسر بنا ونفي الحرج في الدين عنا وبنص السنة الصحيحة من أن هذا الدين يسر وحينئذ لا يخفى على المتأمل أن هذا غير معارض بما قيل في تعليل تقديم(5/57)
ص -29-…الأثقل عليه من أن المصلحة فيه أكثر على ما في إطلاق هذا أيضا من نظر والله سبحانه أعلم.
"والوجوب" يرجح "على ما سوى التحريم" من الكراهة والندب والإباحة للاحتياط "والكراهة" ترجح "على الندب"؛ لأنها أحوط "والكل" من الكراهة والتحريم والوجوب والندب يرجح "على الإباحة" للاحتياط "فتقديم الأمر" على ما سوى النهي "والنهي" على ما سواه مطلقا أو النهي على الأمر كما أطلقه كثير "ليس لذاتيهما" كما يوهمه إطلاق بعضهم وإلا لما كان الوجوب مقدما على المكروه فإن الوجوب قد يكون مفيده الأمر والكراهة قد يكون مفيدها النهي بل تقديم الأمر على ما سوى النهي للاحتياط وتقديم النهي على ما سواه مطلقا إما للاحتياط أو لدفع المفسدة؛ لأن أكثر النهي لذلك "والخاص من وجه" يرجح "على العام مطلقا"؛ لأن احتمال تخصيصه أكثر من الخاص من وجه إذ لا يدخله التخصيص من تلك الجهة "و" العام "الذي لم يخص" على العام المخصوص نقله إمام الحرمين عن المحققين وعللوه بأن دخول التخصيص يضعف اللفظ والرازي بأن الذي قد دخله قد أزيل عن تمام مسماه. والحقيقة تقدم على المجاز وعضد الدين بتطرق الضعف إليه بالخلاف في حجته واختار ابن المنير والصفي الهندي والسبكي عكسه؛ لأن ما خص من العام هو الغالب والغالب أولى من غيره؛ ولأن المخصوص قلت أفراده حتى قارب النص إذ كل عام لا بد أن يكون نصا في أقل متناولاته فإذا قرب من الأقل بالتخصيص فقد قرب من التنصيص فكان أولى وذهب ابن كج إلى استوائهما؛ لأن الحادثة من هذا اللفظ كهي من اللفظ الآخر قال وقد أجمعوا كلهم على أن العموم إذا استثني بعضه صح التعلق به "وذكر من الأدلة" للأحكام التكليفية من الأمثلة لما بين دليلين منها تعارض، والحال أن "ما" أي الذي "بينهما" أي الدليلين من النسب عموم "من وجه، مثل "لا صلاة لمن لم يقرأ بالفاتحة" ولفظ الصحيحين "بفاتحة الكتاب" فإن هذا "عام في المصلين خاص في المقروء "ومن كان له إمام(5/58)
فقراءة الإمام له قراءة" أخرجه ابن منيع بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم فإن هذا "خاص بالمقتدي عام في المقروء فإن خص عموم المصلين بالمقتدي عن وجوبها" أي الفاتحة "عليه" أي المقتدي "وجب أن يخص خصوص المقروء وهو الفاتحة عموم المقروء المنفي عن المقتدي فتجب عليه الفاتحة فيتدافعان" أي الدليلان المذكوران في المقتدي حينئذ لإيجاب الأول قراءة الفاتحة عليه والثاني نفي قراءتها عليه وفيه نظر "فالوجه" والأوجه "في هذا" المثال "أن لا تعارض" بين الدليلين المذكورين في قراءة المقتدي "إذ لم ينف" الدليل الثاني "قراءتها" أي الفاتحة "على المقتدين بل أثبت أن قراءة الإمام جعلت شرعا قراءة له" أي المقتدي "بخلاف النهي عنها" أي الصلاة "في الأوقات" الثلاثة: وقت طلوع الشمس حتى ترتفع ووقت استوائها حتى تزول ووقت ميلها إلى الغروب حتى تغرب كما ثبت في صحيح مسلم وغيره "مع من نام عن صلاة" فليصلها إذا ذكرها أخرجه بمعناه مسلم كما قدمته في مسألة المختار أنه صلى الله عليه وسلم قبل بعثه متعبد فإنه لا يندفع التعارض بينهما في الفرض الفائت قال المصنف: ومن قال من(5/59)
ص -30-…الشافعية يحمل عموم الصلاة على ما سوى النوم فهو استرواح؛ لأن كلا فيه خصوص وعموم فإن خص عموم الصلاة في حديث النهي في الأوقات الثلاثة بخصوص الفائتة في حديث التذكر وجب أن يخص عموم الأوقات فيه بخصوص الثلاثة في حديث النهي عن الصلاة فيتدافعان في القضاء في الأوقات الثلاثة فحديث النهي يقتضي منعه، وحديث التذكر يقتضي حله فيه فلا بد من مرجح خارج كما أشار إليه بقوله "وفي بعض كتب الشافعية" كشرح منهاج البيضاوي للإسنوي "يطلب الترجيح فيهما" أي في هذين المتعارضين "من خارج، وكذا يجب للحنفية" طلب الترجيح فيهما من خارج؛ لأن كلا أخذ مقتضى خصوصه في عموم الآخر ثم وقع التعارض بينهما فإن أمكن ترجيح أحدهما عمل به؛ لأنه أولى من إهدارهما وقد أمكن هنا في منع القضاء في الأوقات الثلاثة كما أشار إليه بقوله "والمحرم مرجح" على غيره إذ حديث النهي محرم وحديث "من نام عن صلاة" مطلق لا يحرم فيترجح عليه "وما جرى بحضرته" صلى الله عليه وسلم "فسكت" عنه يترجح "على ما بلغه" فسكت عنه ذكره الآمدي قال المصنف "والوجه تقييده" أي ما بلغه فسكت عنه "بما إذا أظهر عدم ثبوته" أي ثبوت وقوع هذا الذي بلغه "لديه" أي النبي صلى الله عليه وسلم لجواز أن يكون سكوته عنه حينئذ لعلمه بعدم وقوعه من وحي أو غيره وإلا فحيث ظهر ثبوت وقوع ذلك لديه صلى الله عليه وسلم لا يظهر رجحان؛ لما بحضرته عليه لاستوائهما في القوة إذ كما لا يجوز عليه السكوت عن غير جائز شرعا واقع بحضرته لا يجوز عليه السكوت عن غير جائز شرعا علم وقوعه بغيبته شرعا وهذا التوجيه مما ظهر للعبد الضعيف - غفر الله تعالى له - "وما بصيغته" أي والمروي بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم يترجح "على المنفهم عنه" أي عن الذي روى معناه الراوي بعبارة نفسه قلت؛ لأنه لا يتطرق إليه احتمال الغلط بخلاف الثاني، وغير خاف أن هذا أولى مما في شرح المنهاج للإسنوي؛ لأن المحكي باللفظ مجمع على قبوله بخلاف(5/60)
المحكي بالمعنى ثم كما قال التفتازاني ويندرج فيه ما إذا كان الآخر قد فهم معنى من فعل النبي صلى الله عليه وسلم فرواه وما إذا قال أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكذا ونهى عن كذا بدون أن يروي صيغة الأمر أو النهي الصادر عنه صلى الله عليه وسلم ولعل هذا ما في المحصول، وكذا على الخبر الذي يحتمل أن يكون قد روي بالمعنى "ونافي ما يلزمه" أي والخبر المشتمل على نفي حكم شرعي يلزم المكلف "داعية" إلى معرفته لكونه مما تعم به البلوى "في" خبر "الآحاد" يترجح "على مثله" أي ذلك الحكم كخبر طلق ينفي وجوب الوضوء من مس الذكر وخبر بسرة بإثباته وتقدم وجهه في مسألة خبر الواحد فيما تعم به البلوى هذا على أصول الحنفية ونقل إمام الحرمين عن جمهور الفقهاء تقديم المثبت، وفصل هو أن الثاني إن نقل لفظا معناه النفي كلا يحل ونقل الآخر يحل فهما سواء؛ لأن كلا منهما مثبت وإن أثبت أحدهما قولا أو فعلا ونفاه الآخر كلم يفعله أو لم يقله، فالإثبات مقدم وقيل: النفي والإثبات سواء لاحتمال وقوعهما في حالين واختاره الغزالي في المستصفى بناء على أن الفعلين لا يتعارضان وعبد الجبار قال التاجي وإليه ذهب شيخنا أبو جعفر وهو الصحيح انتهى. وقال إلكيا وابن عبد السلام ما حاصله: إن كان النافي استند إلى العلم فمقدم على المثبت وقال النووي: النفي المحصور(5/61)
ص -31-…والإثبات سيان قال الزركشي فتحصل أن المثبت يقدم إلا في صور: إحداها أن ينحصر النفي فيضاف الفعل إلى مجلس لا تكرار فيه فيتعارضان، الثانية أن يكون راوي النفي لديه عناية فيقدم على الإثبات الثالثة أن يستند نفي النافي إلى علم، وغير خاف أن الصورة الثانية هي قول الحنفية المذكورة.
"ومثبت درء الحد" أي دفع إيجابه يترجح "على موجبه" أي الحد لما في الأول من اليسر وعدم الحرج الموافقين لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185] {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ولموافقة قوله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود" رواه الحاكم وصححه وفي المنتهى؛ لأن ما يعرض في الحد من المبطلات أكثر منه في الدرء وذهب المتكلمون إلى تقديم موجب الحد نظرا إلى أن فائدة العمل بالموجب التأسيس وبالدرء التأكيد، والتأسيس مقدم على التأكيد قلت وقد صرح الشافعية بأن نافي الحد مقدم على موجبه فيصير هذا صورة رابعة للصور المستثناة آنفا من تقديم المثبت على النافي وقيل: هما سواء ورجحه الغزالي؛ لأن الشبهة لا تؤثر في ثبوت شرعيته بدليل أنه يثبت بخبر الواحد مع قيام الاحتمال والحد إنما يسقط بالشبهة إذا كانت في نفس الفعل أو للاختلاف في حكمه كأن يبيحه قوم ويحظره آخرون كالوطء بلا شهود ولا يقال: الخلاف لفظي؛ لأن قول التساوي يئول إلى تقديم النافي فإنهما يتعارضان فيتساقطان ويرجع إلى غيرهما فإن كان ثمة دليل شرعي حكم به، وإلا بقي الأمر على الأصل فيلزم نفي الحد؛ لأنا نقول بل معنوي؛ لأن الأول ينفي الحد بالحكم الشرعي والآخر ينفيه استصحابا بالأصل. "وموجب الطلاق والعتاق" يترجح على نافيهما كما مشى عليه البيضاوي وغيره؛ لأنه محرم للتصرف في الزوجة والرقيق والإرث ونافيهما مبيح والحظر مقدم على الإباحة فلا جرم أن قال "ويندرج" موجبهما "في المحرم وقيل: بالعكس" أي يترجح نافيهما على موجبهما؛ لأنه على وفق(5/62)
الدليل المقتضي لصحة النكاح وإثبات ملك اليمين المترجح على النافي لهما كما أشار إليه الآمدي بحثا وفيه من النظر ما لا يخفى. "والحكم التكليفي" يترجح "على الوضعي"؛ لأن التكليفي محصل للثواب، ومقصود الشارع بالذات، والأكثر من الأحكام بخلاف الوضعي "وقيل بعكسه" أي يترجح الوضعي عليه وذكر السبكي أنه الأصح؛ لأن الوضعي لا يتوقف على أهلية المخاطب وفهمه وتمكنه من الفعل بخلاف التكليفي وفيه نظر ظاهر "وما يوافق القياس" من النصوص على نص لم يوافقه "في الأحق" من القولين؛ لأن كون القياس دليلا مستقلا في نفسه وإنما عدم شرط اعتباره مع النص كما هو وجه المانع لا يمنع جعله وصفا مقويا بالموافقة غير مستقل في إثبات حكمه وليس المراد بالترجيح إلا هذا. "وما لم ينكر الأصل" رواية الفرع فيه يترجح على ما أنكر الأصل رواية الفرع فيه لمرجوحية الثاني قال السبكي وهذا فيما إذا أنكر الأصل وصمم على إنكاره مثل إنكار أم معبد ما حدث به عمرو بن دينار من حديث ابن عباس أنه: كان يعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير. أما إذا لم يصمم وحمل شكه في نفسه على النسيان فلا تظهر مرجوحيته وقد كانوا يحدثون به بعد ذلك عمن رواه عنهم فيقول أحدهم: حدثني فلان(5/63)
ص -32-…عني كما فعل سهل في حديث القضاء باليمين مع الشاهد وسبقه أنس فقال حدثني فلان عني أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى أن يجعل فص الخاتم من غيره". انتهى وقد عرفت أن تصميم الأصل على الإنكار مسقط لذلك المروي أصلا فليس الكلام فيه إذا كان مع غيره، وإنما الكلام فيما إذا لم يصمم وقبلنا ذلك المروي وظاهر أنه مرجوح بالنسبة إلى ما ليس كذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم إذا عارض الإجماع نص أطلق ابن الحاجب تقديم الإجماع على النص وعلله غير واحد من الشارحين بعدم قبوله النسخ وقال الأبهري كأنه أراد إذا كانا قطعيين؛ لأن الإجماع متأخر عن النص فلا ينعقد على خلافه إلا إذا كان له سند ناسخ للنص من نص آخر قطعي، وعلى هذا مشى المصنف فقال "والإجماع القطعي" يترجح "على نص كذلك" أي قطعي كتابا كان أو سنة متواترة، وقال التفتازاني ينبغي أن يقيد بالظنيين وتوقف فيه المصنف حيث قال "وكون" الإجماع "الظني كذلك" أي يترجح على نص ظني "ترددنا فيه" وأما الأبهري فقال: أما إذا كان ظني المتن والسند أو كان النص ظني السند وجب تأويل القابل له انتهى. قلت وفيه نظر فإن من ما صدق هذا أنه إذا تعارض الإجماع الظني السند القطعي المتن مع النص كذلك يجب تأويل القابل التأويل منهما، وهو يشير إلى أن أحدهما قد يكون قابلا للتأويل لكن لا قابل للتأويل منهما؛ لأن المراد بالمتن جهة الدلالة كما صرح هو به والقطعي الدلالة لا يقبل التأويل المقبول لعدم احتمال اللفظ له وتبعية الإرادة للدلالة في القطع، والذي في منهاج البيضاوي إذا عارض الإجماع نص أول القابل له أي للتأويل بوجه ما، سواء كان الإجماع أو النص جمعا بين الدليلين قال وإلا تساقطا. قال الإسنوي شرحا له وإن لم يكن أحدهما قابلا للتأويل تساقطا؛ لأن العمل بهما غير ممكن والعمل بأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح وهذا كله إذا كانا ظنيين فإن كانا قطعيين أو كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا فلا تعارض كما(5/64)
ستعرفه في القياس انتهى. ولم يتعرض له فيه ويتحرر هنا أقسام ثمانية. كون الإجماع والنص قطعي السند والمتن كونهما ظنيي السند والمتن كون الإجماع قطعيهما والنص ظنيهما كون الإجماع ظنيهما والنص قطعيهما كون الإجماع قطعي السند ظني المتن والنص كذلك كون الإجماع ظني السند قطعي المتن والنص كذلك كون الإجماع قطعي السند ظني المتن والنص بالعكس كون الإجماع ظني السند قطعي المتن والنص بالعكس، ثم الذي يظهر تقديم الإجماع القطعي سندا ومتنا على النص القطعي كذلك، وعلى النص الظني كذلك إذا لم يقبل التأويل وعلى النص الظني أحدهما كذلك وتقديم الإجماع الظني سندا ومتنا على النص الظني كذلك إذا لم يقبل أحدهما التأويل وتقديم الإجماع القطعي متنا لا سندا على النص كذلك وتقديم الإجماع القطعي سندا لا متنا على النص كذلك إذا لم يقبل أحدهما التأويل. وتقديم النص القطعي سندا ومتنا على الإجماع الظني كذلك إذا لم يقبل التأويل وعلى الإجماع الظني أحدهما إذا لم يقبل التأويل وأما تقديم الإجماع القطعي سندا لا متنا على النص القطعي متنا لا سندا أو بالعكس وتقديم الإجماع القطعي متنا لا سندا على النص(5/65)
ص -33-…القطعي سندا لا متنا أو بالعكس إذا لم يقبل أحدهما التأويل ففي كليهما تأمل، والوجه في ذلك كله غير خاف على المتأمل - إن شاء الله تعالى - والله سبحانه أعلم -.
"وما عمل به" الخلفاء "الراشدون" أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم يرجح على ما ليس كذلك؛ لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمتابعتهم والاقتداء بهم كما يفيده ما قدمناه عنه صلى الله عليه وسلم في بحث العزيمة وكونهم أعرف بالتنزيل ومواقع الوحي والتأويل يفيد غلبة الظن في ذلك ولا سيما إذا كان بمحضر من الصحابة ولم يخالف فيه أحد فإنه يحل محل الإجماع بل ذهب أبو حازم إلى أن ما اتفقت الخلفاء الأربعة عليه إجماع ولكن الأكثر على خلافه كما سيأتي في باب الإجماع. "أو علل" أي الحكم الذي تعرض فيه للعلة يترجح على الحكم الذي لم يتعرض فيه لها "لإظهار الاعتناء به" أي لأن ذكر علته يدل على الاهتمام به والحث عليه للدلالة عليه من جهة اللفظ ومن جهة العلة "لا الأقبلية" أي لا؛ لأن الفهم أقبل له لسهولة فهمه بواسطة كونه معقول المعنى كما أشار إليه الآمدي، ثم عضد الدين وحينئذ فلا يقال: ربما يرجح ما لم يدل على العلة من جهة أن المشقة في قبوله أشد والثواب عليه أعظم، ثم في المحصول يقدم المتقدم فيه ذكر العلة على الحكم على عكسه؛ لأنه أدل على ارتباط الحكم بالعلة واعترضه النقشواني بأن الحكم إذا تقدم تطلب نفس السامع العلة فإذا سمعتها ركنت إليها، ولم تطلب غيرها والوصف إذا تقدم تطلب النفس الحكم فإذا سمعته قد تكتفي في علته بالوصف المتقدم إذا كان شديد المناسبة كما في {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} الآية وقد لا تكتفي به بل تطلب علة غيره كما في {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} الآية فيقال تعظيما للمعبود قلت إذا كانت العلة المفيدة لتقديم ما ذكرت فيه العلة على ما لم تذكر إظهارا للاعتناء بما ذكرت فيه فالحق أنه لا يوجب تقديمها فيه تقديمه على ما أخرت فيه(5/66)
ولا تأخيرها فيه تقديمه على ما قدمت فيه، والارتباط بالعلة موجود في كليهما والركون إليها وعدم الركون إليها مع التعرض لها في كليهما لا أثر له في الترجيح على أنه قد يوجد كل منهما في كليهما نعم الترتيب الطبيعي بين العلة والمعلول موجود في تقديم ذكر العلة على المعلول لكن معلوم أن مجرد ذلك لا يفيد ترجيحا له على ما ذكرت فيه بعد المعلول مع أنه معارض بما يخال في تقديم ذكر المعلول على العلة من الاهتمام ما ليس في عكسه والله سبحانه أعلم. "كما" يترجح ما "ذكر معه السبب" على ما لم يذكر معه أي العام الوارد على سبب خاص يترجح على العام المطلق عنه إذا تعارضا في صورة السبب للاهتمام به إذ السبب هو العلة الباعثة عليه ظاهرا فكانت دلالته فيها شديدة القوة حتى لا يجوز تخصيصها وأما فيما عدا صورة السبب فيترجح العام المطلق عنه على الوارد على سبب لكونه أقوى منه لقيام احتمال كون ذي السبب خاصا بمورده إذ الأصل مطابقته لما ورد فيه قال السبكي فمن قال إن الوارد على سبب راجح أراد في صورة السبب ومن قال إن عكسه راجح أراد فيما عداها ولا يتجه خلاف في الموضعين.
"وفي السند" أي والترجيح للمتن باعتبار حكاية طريقه "كالكتاب" أي كترجيحه "على السنة" وهذا على إطلاقه، قول بعضهم كما أشار إليه السبكي بقوله ولا يقدم الكتاب(5/67)
ص -34-…على السنة ولا السنة عليه خلافا لزاعميهما أي تقديم الكتاب عليها مستندا لحديث معاذ المشتمل على أنه يقضي بكتاب الله فإن لم يجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقره صلى الله عليه وسلم على ذلك كما رواه أبو داود وغيره وتقديم السنة عليه مستندا إلى قوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، ثم قال: الأصح تساوي المتواترين من كتاب وسنة وقيل يقدم الكتاب عليها لأنه أشرف منها وقيل تقدم السنة لما ذكرنا والذي يقتضيه أصول أصحابنا على ما قدمه المصنف في أول فصل التعارض أن القطعي الدلالة من السنة القطعية السند تترجح على الظني الدلالة من الكتاب، والقطعي الدلالة منهما إذا لم يعلم تاريخهما يجري لزوم فيهما مجملين، وإن علم فالمتأخر ناسخ للمتقدم والظني الدلالة منهما إذا لم يعلم تاريخهما لا يرجح أحدهما على الآخر بكونه كتابا أو سنة بل بما يسوغ ترجيحه به إن أمكن وإلا جمع بينهما إن أمكن وإلا تساقطا. وإن علم تاريخهما نسخ المتأخر المتقدم، وقطعي الدلالة من الكتاب يترجح على القطعي السند الظني الدلالة من السنة لقوة دلالته فلم يبق ما ينطبق عليه إلا ما كان من السنة قطعي الدلالة ظني السند مع ما كان من الكتاب ظني الدلالة لرجحان الكتاب حينئذ باعتبار السند فينبغي التقييد به ولا يقال: وهذا أيضا لا يتم؛ لأنه لا معارضة بين قطعي وظني كما صرحوا به؛ لأنا نقول: مضى أن ليس المراد بالمعارضة في الشرعيات حقيقتها لتعالي الشارع عنها بل صورتها وهي موجودة بينهما وعليه قوله "ومشهورها" أي يرجح الخبر المشهور من السنة "على الآحاد" لرجحان المشهور سندا على الآحاد "كاليمين على من أنكر" فإنه حديث مشهور وتقدم تخريجه في مفهوم المخالفة "على خبر الشاهد واليمين" أي القضاء بهما للمدعي المخرج في صحيح مسلم وغيره وهو من أخبار الآحاد التي لم تبلغ حد الشهرة على ما عرف في موضعه فلا جرم أن أصحابنا لم يأخذوا(5/68)
به مطلقا خلافا للائمة الثلاثة في بعض الموارد كما هو معروف في الفروع "وبفقه الراوي" ولعل المراد به اجتهاده كما هو عرف الصدر الأول "وضبطه" وتقدم بيانه في شرائط الراوي "وورعه" أي تقواه وهو الإتيان بالواجبات والمندوبات والاجتناب عن المحرمات والمكروهات "وشهرته بها" أي بهذه الأمور "وبالرواية وإن لم يعلم رجحانه فيه" أي في كل منها فإن شهرته به تكون غالبا لرجحانه فيه والمعنى كترجيح أحد الخبرين على الآخر بكون راويه موصوفا بهذه الصفات أو بعضها على الآخر الذي ليس راويه كذلك؛ لأن صدق الظن فيه أقوى واحتمال الغلط فيه أوهى وصرح شمس الأئمة بأن اعتياد الرواية ليس بمرجح على من لم يعتدها وهو حسن، ثم منهم من خص الترجيح بالفقه بالخبرين المرويين بالمعنى وفي المحصول والحق الإطلاق؛ لأن الفقيه يميز بين ما يجوز وما لا يجوز فإذا سمع ما لا يجوز أن يحمل على ظاهره بحث عنه وسأل عن مقدماته وسبب نزوله فيطلع على ما يزول به الإشكال بخلاف العامي وقال ابن برهان، ويكون أحدهما أفقه من الآخر، وبقوة حفظه وزيادة ضبطه وشدة اعتنائه فيرجح على ما كان أقل في ذلك حكاه إمام الحرمين عن إجماع أهل الحديث قيل وبعلمه بالعربية فإن العالم بها يمكنه التحفظ عن مواقع الزلل فيكون الوثوق بروايته أكثر قيل: ويمكن أن(5/69)
ص -35-…يقال إنه مرجوح؛ لأن العالم بها يعتمد على معرفته فلا يبالغ في الحفظ والجاهل بها يكون خائفا فيبالغ في الحفظ ولا يعرى كل منهما عن النظر قيل وبسرعة حفظ أحدهما وإبطاء نسيانه مع سرعة حفظ الآخر وسرعة نسيانه وفيه تأمل "وفي" كون "علو السند" أي قلة الوسائط بين الراوي للمجتهد وبين النبي صلى الله عليه وسلم مرجحا على ما ليس كذلك؛ لأنه كلما قلت الوسائط كان أبعد من الخطأ كما ذهب إليه الشافعية "خلاف الحنفية" كما يفيده واقعة الإمام أبي حنيفة مع الأوزاعي في رفع اليدين عند الركوع والرفع منه وهي مشهورة خرجها الحافظ ابن محمد الحارثي في تخريج مسند الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - وقد سقناها في حلبة المجلي شرح منية المصلي في شرح قوله ولا يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى "وبكونها" أي وكترجيح إحدى الروايتين المتعارضتين بكون إحداهما "عن حفظه" أي الراوي "لا نسخته" فيقدم خبر المعول على حفظه على خبر المعول على كتابه لاحتماله الزيادة والنقص قال الإمام الرازي وفيه احتمال وهو كما قال فإن كتابه المصون تحت يده هذا الاحتمال فيه بعيد بل ليس هو دون احتمال النسيان والاشتباه على الحافظ وقد عد ذلك فيه كالعدم "وخطه" أي وكترجيح رواية من يعتمد في روايته على خطه "مع تذكره" لذلك على رواية من يعتمد في روايته "على مجرد خطه وهذا" الترجيح ظاهر أنه متفرع "على غير قوله" أي أبي حنيفة أما على قوله فلا إذ لا عبرة عنده للخط بلا تذكر فلم يحصل التعارض الذي فرعه الترجيح "وبالعلم" أي وكالترجيح لأحد المرويين بالعلم "بأنه" أي راويه "عمل بما رواه على قسيميه" أي الذي لم يعلم أنه عمل به ولا أنه لم يعمل به والذي علم أنه لم يعمل به؛ لأنه أبعد من الكذب قلت وهذا في أولهما إذا لم يعلم عمله بخلافه بعد روايته له. أما إذا علم أنه عمل فيه بخلافه بعد روايته له فقد سبق أنه عند الحنفية يدل على نسخه فما رواه حينئذ ساقط الاعتبار فلا يقوم بين(5/70)
المرويين ركن التعارض الذي فرعه الترجيح "أو" كان الترجيح لأحد المرويين بالعلم بأن راويه "لا يروي إلا عن ثقة" على ما راويه ليس كذلك وهذا إنما هو بالنسبة إلى المرسلين فلذا قال "على" قول "مجيز المرسل" أما على قول من لم يجزه فظاهر أن لا تعارض لانتفاء الدليلين عنده فلا ترجيح، ثم قال "والوجه نفيه" أي نفي الترجيح بهذا على قول مجيز المرسل أيضا "لأن الغرض فيه" أي في قبول المرسل "ما يوجبه" أي نفي الترجيح بذلك وهو العلم بأنه لا يرسل إلا عن ثقة أما مطلقا أو عنده فقد تساويا في ذلك الترجيح بما به الترجيح إنما يكون بعد ذلك هذا ما ظهر للعبد أنه مراد المصنف - والله تعالى أعلم بكل مراد - "ومن أكابر الصحابة" أي كالترجيح لأحد المرويين يكون راويه من أكابر الصحابة "على أصاغرهم" أي على المروي الذي راويه من أصاغر الصحابة؛ لأن الأكبر إلى الرسول أقرب غالبا فيكون بحاله أعرف قال المصنف "ويجب لأبي حنيفة تقييده" أي ما رواه الأكبر منهم "بما إذا رجح" ما رواه "فقها" بالنظر إلى قواعد الفقه لا بفقهه "إذ قال" أبو حنيفة وأبو يوسف "برأي الأصاغر في الهدم" أي هدم الزوج الثاني ما دون الثلاث وهم ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم كما رواه محمد بن الحسن في الآثار دون الأكابر في عدم(5/71)
ص -36-…الهدم كما ذهب إليه محمد والأئمة الثلاثة وهم عمر وعلي رضي الله عنهما كما رواه البيهقي من طريق الشافعي مع أن أكابر الصحابة ولا سيما عمر وعليا فقهاء. وإن كان الأوجه نظرا إلى القواعد الفقهية ما عليه أكابر الصحابة حتى قال المصنف فيما سيق والحق عدم الهدم وفي فتح القدير القول ما قال محمد وباقي الأئمة الثلاثة ولقد صدق قول صاحب الأسرار ومسألة يخالف فيها كبار الصحابة يعوز فقهها ويصعب الخروج منها ويتفرع على ما بحثه للإمام أبي حنيفة رحمه الله أن يقال: "فلا يترجح" خبر الأكبر من حيث هو أكبر "في الرواية" على الأصغر من حيث هو أصغر إذا تعارضا "بعد فقه الأصغر وضبطه إلا بذاك" أي برجحانه بالنظر إلى قواعد الفقه "أو غيره" من المرجحات قلت ولكن إذا كانت علة تقديم رواية الأكابر على الأصاغر هي الأقربية من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلزم من عدم الأخذ بما عن الأكابر فيما يرجع إلى رأيهم فيه عدم الترجيح لما هو من مروياتهم عنه مع وجود الأقربية منه، ثم حيث تكون العلة في تقديم روايتهم على رواية الأصاغر ما ذكرنا يستغنى عنه بقوله "وبأقربيته" أي وكالترجيح لأحد المرويين بأقربية رواية عند السماع من النبي صلى الله عليه وسلم على الآخر الذي ليس له تلك الأقربية. "وبه" أي وبقرب السماع "رجح الشافعية الإفراد" بالحج على غيره "من رواية ابن عمر؛ لأنه كان تحت ناقته" فقد أخرج أبو عوانة عنه أنه قال وإني كنت عند ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها أسمعه يلبي بالحج وهم في ذلك تبع لإمامهم قال الشافعي أخذت برواية جابر لتقدم صحبته وحسن سياقه لابتداء الحديث وبرواية عائشة لفضل حفظها وبحديث ابن عمر لقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النووي هذا نصه في المزني، ثم في هذه العلة أن يقال: "ولا يخفى عدم صحة إطلاقه" أي الترجيح بالقرب "ووجوب تقييده" أي القرب المرجح على البعد "ببعد الآخر بعدا يتطرق معه الاشتباه" أي(5/72)
اشتباه الكلام على ذلك البعيد "للقطع بأن لا أثر لبعد شبر لقريبين" بإن كان أحدهما أقرب إلى المتكلم من الآخر بمقدار شبر في تفاوت سماع كلامه "ثم للحنفية" الترجيح بالقرب أيضا للقران من رواية أنس "إذ عن أنس أنه كان آخذا بزمامها حين أهل بهما" أي بالحج والعمرة ففي المبسوط عنه كنت آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقصع بجرتها، ولعابها يسيل على كتفي وهو يقول "لبيك بحجة وعمرة" أي تجر ما تجتره من العلف وتخرجه إلى الفم وتمضغه، ثم تبلعه ولفظ ابن ماجه وكذا أخرجه عنه ابن حبان في صحيحه إلا أنه قال عند المسجد بدل عند الشجرة ولم يذكر قائمة وقال "قال لبيك بحجة وعمرة معا" إني عند ثفنات ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الشجرة فلما استوت به قائمة قال "لبيك بحجة وعمرة معا" وذلك في حجة الوداع "وتعارض ما عن ابن عمر في الصحيح" إذ كما عنه في الصحيحين أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردا. فعنه أيضا فيهما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج ولم تتعارض الرواية عن أنس أنه لبى بهما جميعا والأخذ برواية من لم تضطرب روايته أولى من الأخذ برواية من اضطربت إلى غير ذلك من وجوه ترجيح كونه صلى الله عليه وسلم حج قارنا على كونه حج مفردا أو متمتعا كما هو مذكور في موضعه.(5/73)
ص -37-…"وبكونه تحمل بالغا" أي وكالترجيح لأحد المرويين بكون راويه تحمل جميع ما يرويه بالغا على الآخر الذي لم يتحمل راويه جميع ما يرويه بالغا سواء تحمل جميعه صبيا أو بعضه بالغا وبعضه صبيا أو بكون راويه تحمل بعض ما يرويه بالغا على الآخر الذي تحمل راويه جميع ما يرويه صبيا كما مشى عليه البيضاوي وغيره وهو ظاهر المحصول؛ لأن البالغ أضبط من الصبي وأقرب منه غالبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم "وينبغي مثله" أي الترجيح "فيمن تحمل مسلما" فيرجح خبره على خبر من تحمل غير مسلم "لأنه" أي غير المسلم "لا يحسن ضبطه لعدم إحسان إصغائه وبقدم الإسلام" أي ويرجح المروي الذي راويه قديم الإسلام على معارضه الذي راويه حديث الإسلام فإن خبر متقدمه أغلب على الظن لزيادة أصالته في الإسلام وتحرزه فيه ذكره الآمدي وابن الحاجب لكن كما قال الأبهري هذا إذا كان راويه متقدم الإسلام في زمان متأخر الإسلام أما إذا كانت روايته متقدمة على متأخر الإسلام فلا وهو مأخوذ من كلام الإمام الرازي كما سترى "وقد يعكس" أي يرجح خبر متأخر الإسلام على خبر متقدمه كما في المحصوليات وذكر السبكي أنه الذي ذكره جمهور الشافعية لكن شرط في المحصول أن يعلم أن سماعه وقع بعد إسلامه "للدلالة على آخرية الشرعية" هذا وذكر الإمام الرازي أن الأولى أنا إذا علمنا أن المتقدم مات قبل إسلام المتأخر أو أن روايات المتقدم أكثرها متقدم على راويات المتأخر فهنا يحكم بالرجحان؛ لأن النادر ملحق بالغالب انتهى. يعني فيقدم المتأخر وقال الأستاذ أبو منصور إن جهل تاريخهما فالغالب أن رواية متأخر الإسلام ناسخ، وإن علم في أحدهما وجهل في الآخر فإن كان المؤرخ في آخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم فهو الناسخ فينسخ قوله صلى الله عليه وسلم "إذا صلى الإمام قاعدا فصلوا قعودا" بصلاة أصحابه قياما خلفه وهو قاعد في مرضه الذي مات فيه وإن لم يعلم التاريخ فيهما واحتيج إلى نسخ أحدهما بالآخر(5/74)
فقيل: الناقل عن العادة أولى من الموافق لها وقيل: المحرم والموجب أولى من المبيح فإن كان أحدهما موجبا والآخر محرما لم يقدم أحدهما على الآخر إلا بدليل ولو أسلم الراويان كخالد وعمرو بن العاص وعلم أن أحدهما تحمل بعد الإسلام فخبره راجح على الخبر الذي لم يعلم هل تحمله الآخر في إسلامه أم في كفره قال في المحصول؛ لأنه أظهر تأخرا. "ككونه مدنيا" أي كما يترجح الخبر المدني على الخبر المكي لتأخره عنه، ثم المصطلح عليه أن المكي ما ورد قبل الهجرة في مكة أو غيرها والمدني ما ورد بعدها في المدينة أو مكة أو غيرهما لكن قال الإسنوي وهذا الاصطلاح ليس المراد هنا؛ لأنه لو كان كذلك لكان المدني ناسخا للمكي بلا نزاع ولأن تقديم الناسخ على المنسوخ ليس من باب الترجيح كما نص عليه الإمام بل المراد أن الخبر الوارد في المدينة مقدم على الوارد في مكة سواء علمنا أنه كان قد ورد في مكة قبل الهجرة أو لم يعلم الحال، والعلة فيه ما قاله الإمام أن الغالب في المكيات ورودها قبل الهجرة والوارد منها بعد الهجرة قليل والقليل ملحق بالكثير فيحصل الظن بأن هذا الوارد في مكة إنما ورد قبل الهجرة وحينئذ فيجب تقديم المدني عليه لكونه متأخرا. "وشهرة النسب" أي وكترجيح أحد المتعارضين بشهرة نسب راويه(5/75)
ص -38-…على الآخر بعدم شهرة نسب راويه قال الآمدي؛ لأن احتراز مشهور النسب عما يوجب نقص منزلته المشهورة يكون أكثر "ولا يخفى ما فيه" أي ما في الترجيح بهذا وأقرب منه ما في المحصول رواية معروف النسب راجحة على رواية مجهوله. "وصريح السماع" أي وكترجيح أحد المتعارضين بتصريح راويه بسماعه ك سمعته يقول كذا "على محتمله" أي على الآخر الراوي له بلفظ محتمل للسماع "كقال" للتيقن في الأول والاحتمال في الثاني "وصريح الوصل" أي وكترجيح أحدهما بكون سنده متصلا صريحا بأن ذكر كل من رواته تحمله عن من رواه ب حدثنا أو أخبرنا أو سمعت أو نحو ذلك "على العنعنة" أي على الآخر الذي رواه كل رواته أو بعضهم بلفظ عن من غير ذكر صريح اتصال بتحديث أو غيره لاحتمال عدم الاتصال في هذا قال المصنف "ويجب عدمه" أي عدم الترجيح بصراحة الوصل على العنعنة "لقابل المرسل بعد عدالة المعنعن وأمانته" وكونه غير مدلس تدليس التسوية؛ لأنه لا يروي إلا عن ثقة وقدمنا قبيل مسألة الجرح والتعديل عن الحاكم الأحاديث المعنعنة التي ليس فيها تدليس متصلة بإجماع أهل النقل. "وما لم تنكر روايته" أي وكترجيح أحد المرويين الذي لم ينكر الثقات روايته على رواية الآخر الذي أنكر الثقات روايته على راويه؛ لأن الظن الحاصل به أقوى "وبدوام عقله" أي وكترجيح أحدهما بكون راويه سليم العقل دائما على الآخر الذي اختل عقل راويه في بعض الأوقات كذا أطلقه الحاصل والتحصيل والمنهاج "والوجه فيما" أي الحديث الذي "علم أنه" رواه راويه الذي اختل عقله في وقت قد رواه "قبل زواله" أي عقله "نفيه" أي ترجيح ذاك عليه بهذا العارض "وذاك" الترجيح لذاك عليه بهذا العارض "إذا لم يميز" أي لم يعلم هل رواه في سلامة عقله أم في اختلاطه كما شرطه في المحصول "وصريح التزكية" أي وكترجيح أحدهما يكون راويه مزكى بلفظ صريح في التزكية "على" الآخر المزكى راويه بسبب "العمل بروايته" أو الحكم بشهادته؛ لأن العمل(5/76)
والحكم قد يبنيان على الظاهر من غير تزكية ويستندان إلى شيء آخر موافق للرواية والشهادة "وما بشهادته" أي كترجيح أحدهما بكون تزكية راويه بالحكم بشهادته "عليها" أي على رواية الآخر الذي زكي بالعمل بها؛ لأنه يحتاط في الشهادة أكثر وما زكي راويه بالخلطة والاختبار على ما زكي راويه بالأخبار كما سيشير إليه المصنف؛ لأن المعاينة أقوى من الخبر. "والمنسوب إلى كتاب عرف بالصحة" أي وكترجيح المروي في كتاب عرف بالصحة كالصحيحين "على" منسوب إلى "ما" أي كتاب "لم يلتزمها" أي الصحة "فلو أبدى" أي أظهر ما لم يلتزمها "سندا" لذلك المروي "اعتبر الأصحية" بينهما طريقا فأيهما فاز بها فقد فاز بالتقديم "وكون ما في الصحيحين" راجحا "على ما روي برجالهما في غيرهما أو" راجحا على ما "تحقق فيه شرطهما بعد إمامة المخرج" كما مشى عليه ابن الصلاح وأتباعه "تحكم" وزاد في فتح القدير لا يجوز التقليد فيه إذ الأصحية ليست إلا لاشتمال روايتهما على الشروط التي اعتبراها فإذا فرض وجود تلك الشروط في رواية حديث في غير الكتابين أفلا يكون الحكم بأصحية ما في الكتابين عين التحكم، ثم حكمهما أو أحدهما بأن الراوي المعين يجتمع فيه تلك الشروط(5/77)
ص -39-…ليس مما يقطع فيه بمطابقة الواقع فيجوز كون الواقع خلافه وقد أخرج مسلم عن كثير في كتابه ممن لم يسلم من غوائل الجرح، وكذا في البخاري جماعة تكلم فيهم فدار الأمر في الرواة على اجتهاد العلماء فيهم، وكذا في الشروط حتى أن من اعتبر شرطا وألغاه آخر يكون ما رواه الآخر مما ليس فيه ذلك الشرط عنده مكافئا لمعارضة المشتمل على ذلك الشرط، وكذا فيمن ضعف راويا ووثقه آخر نعم تسكن نفس غير المجتهد ومن لم يخبر أمر الراوي بنفسه إلى ما اجتمع عليه الأكثر أما المجتهد باعتبار الشرط وعدمه والذي خبر لراوي فلا يرجع إلا إلى رأي نفسه انتهى. فإن قلت ليست أصحيتهما لمجرد اشتمال رواتهما على الشروط التي اعتبراها بل ولتلقي الأمة بعدهما لقبول كتابيهما وهذا منتف في غيرهما قلت تلقي الأمة لجميع ما في كتابيهما ممنوع أما لرواتهما فلما ذكر المصنف وأما لمتون أحاديثهما؛ فلأنه لم يقع الإجماع على العمل بمضمونها ولا على تقديمها على معارضها، ثم مما ينبغي التنبيه له أن أصحيتهما على ما سواهما تنزلا إنما يكون بلزمانها من بعدهما لا المجتهدون المتقدمون عليهما فإن هذا مع ظهوره قد يخفى على بعضهم أو يغالط به والله سبحانه أعلم(5/78)
"ويجب" الترجيح للمروي "بالذكورة" لراويه "فيما يكون خارجا" أي في الأمور الواقعة خارج البيوت "إذ الذكر فيه أقرب" من الأنثى "وبالأنوثة" لراويه "في عمل البيوت"؛ لأنهن به أعرف "ورجح في كسوف الهداية حديث سمرة" بن جندب المفيد أنه صلى الله عليه وسلم صلى فيه ركعتين كل ركعة بركوع وسجدتين. كما أخرجه أصحاب السنن. وقال الترمذي حسن صحيح غير أن صاحب الهداية عزاه إلى راويه ابن عمر ولم توجد عنه "على" حديث "عائشة" المفيد أنه صلى الله عليه وسلم صلى فيه ركعتين كل ركعة بركوعين وسجدتين. كما أخرجه أصحاب الكتب الستة "بأن الحال أكشف لهم" أي للرجال لقربهم وإن كان إنما يتم هذا في خصوص هذا إذا لم يرو حديث الركوعين غير عائشة أحد من الرجال لكن قد رواه ابن عباس في الصحيحين وعبد الله بن عمر في صحيح مسلم، ثم هذا أحد الأقوال وعبر عنه السبكي بترجيح الذكر في غير أحكام النساء بخلاف أحكامهن؛ لأنهن أضبط فيها وما ذكره المصنف أولى وأشمل ثانيها يقدم خبر الذكر على خبر الأنثى مطلقا؛ لأنه أضبط منها في الجملة ثالثها لا يقدم خبره مطلقا من حيث الذكورة على خبرها "وكثرة المزكين" في الترجيح بها "ككثرة الرواة" وسيأتي قريبا ما في الترجيح بكثرتها من وفاق وخلاف. "وبفقههم ومداخلتهم للمزكى" أي ويترجح أحدهما بفقه مزكي راويه ومخالطتهم في الباطن له على الآخر الذي مزكو راويه ليسوا كذلك؛ لأن ظن صدقه أقوى "وبعدم الاختلاف" أي ويترجح بعدم الاختلاف "في رفعه" إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على معارضه المختلف في رفعه إليه ووقفه على راويه لما في المتفق على رفعه من قوة الظن بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس للمختلف في رفعه إليه قلت ولو قيل هذا فيما للرأي فيه مجال أما لو كان المختلف في رفعه مما ليس للرأي فيه مجال فهما سواء لكان وجيها "وتركنا" مرجحات أخرى "للضعف" أي لضعفها قال المصنف كقولهم يرجح(5/79)
ص -40-…الموافق لدليل آخر ولعمل أهل المدينة انتهى قلت وفي ضعف الترجيح بالموافق لدليل آخر مطلقا نظر وكيف؟ والأحق من القولين عند المصنف: ترجيح ما يوافق القياس على ما لا يوافقه ومنها كون الإسناد حجازيا أو كون راويه من بلد لا يرضون التدليس أو كونه صاحب كتاب يرجع إليه أو كون لفظه أفصح ولفظ الآخر فصيحا فإنه صلى الله عليه وسلم قد يتكلم بالأفصح والفصيح لا سيما إذا كان من لغتهم ذلك أو كون أحد الراويين أنحى من الآخر إلى غير ذلك "والوضوح" أي ولوضوحها قال المصنف ولقولهم بقدم الإجماع المتقدم عند تعارض إجماعين وفي تعارض تأويلين يقدم ما دليل تأويله أرجح وفي تعارض عامين ما ورد على سبب وغيره يقدم الوارد في السبب والآخر في غيره للخلاف انتهى. لكن هذا لم يترك بل أشار إليه كما أوضحناه سالفا ومنها كونه غير مشعر بنوع قدح في الصحابة على ما أشعر وكونه لم يضطرب لفظه على ما اضطرب وكونه قولا على كونه فعلا إلى غير ذلك. "وتتعارض التراجيح" فيحتاج إلى بيان المخلص كما فيما بين الأدلة "كفقه ابن عباس وضبطه" في روايته لوقوع نكاح النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم. بل وهما محرمان "بمباشرة أبي رافع" الرسالة بينهما في راويته لتزوجها وهو حلال "حيث قال كنت السفير بينهما" والذي في رواية الترمذي وغيره كما قدمناه الرسول بينهما ولا ضير في هذا فإنه معناه "وكسماع القاسم" بن محمد بن أبي بكر "مشافهة من عائشة" أن "بريرة عتقت وكان زوجها عبدا" فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه فإنها عمته فلم يكن بينه وبينها حجاب "مع إثبات الأسود عنها" أي عائشة كان زوج بريرة حرا فلما أعتقت خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري وأصحاب السنن وهو أجنبي منها فإذا سمع منهما "فإنه" أي سماعه يكون "من وراء حجاب" فتعارض الإثبات والمشافهة المشتملة على النفي "وإذا قطع" الأسود "بأنها" أي المخبرة(5/80)
من وراء حجاب "هي" أي عائشة "فلا أثر لارتفاعه" أي الحجاب فلا يصلح ارتفاعه مرجحا فيترجح الإثبات على النفي لاشتماله على زيادة علم ليست للنافي إلى غير ذلك "ولو رجح" حديث أبي رافع "بالسفارة لكان" الترجيح بها ليس إلا "لزيادة الضبط"؛ لأن السفير له زيادة ضبط "في خصوص الواقعة" التي هو سفير فيها "فإذا كان" الضبط "صفة النفس" يغلب ظن الصدق وحينئذ "اعتدلا" أي تساوى ابن عباس وأبو رافع "فيها" أي في هذه الصفة لوجودها لكل منهما "وترجح" خبر ابن عباس "بأن الإخبار به" أي بالإحرام "لا يكون إلا عن سبب علم هو" أي سبب العلم به "هيئة المحرم" بخلاف خبر أبي رافع "نعم ما عن صاحبة الواقعة" ميمونة رضي الله عنها تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان رواه أبو داود "إن صح قوى" خبر أبي رافع وفيه إشارة إلى أن خبر صاحب الواقعة يترجح على غيره إذا عارضه؛ لأنه أدرى وقد صح ويؤيده لفظ مسلم عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال. فيتعارض ترجيح إخبار ابن عباس بما اشتمل عليه خبره من كونه لا يكون إلا عن سبب علم به وترجيح خبر أبي رافع بموافقة صاحبة الواقعة له في ذلك، وقد أمكن الجمع بين إخبارها وبين إخبار ابن عباس فتعين مخلصا "فيجب" أن يكون قولها تزوجني "مجازا عن الدخول"(5/81)
ص -41-…لعلاقة السببية العادية بينهما إذا هو حقيقة في العقد مجاز في الوطء "جمعا" بين الحديثين بقدر الإمكان "ومنه" أي تعارض التراجيح "للحنفية الوصف الذاتي" وهو "ما" يعرض للشيء "باعتبار الذات أو الجزء" الغالب منها "على الحال" وهو "ما" يعرض للشيء "بخارج" أي بسبب أمر خارج عنه فإن كلا منهما بمفرده يقع به الترجيح فإذا تعارضا في محل رجح ما فيه الذاتي على الحال؛ لأن الذاتي أسبق وجودا من الحال زمانا أو رتبة فيقع به الترجيح أولا؛ لأن السبق من أسباب الترجيح فلا يتغير بما يحدث بعده كاجتهاد أمضي حكمه فإنه لا ينسخ باجتهاد بعده؛ ولأن الحال في الشيء قائم به لا بنفسه وما هو قائم بغيره فله حكم العدم في حق نفسه لعدم قيامه وبقائه في نفسه فكانت الحال موجودة من وجه دون وجه تابعة لغيرها والذات موجودة من كل وجه وأصل بنفسها فالترجيح بها أولى، ثم بعدما صار الدليل راجحا باعتبار الذات لا يجعل الآخر راجحا باعتبار الحال؛ لأنه يصير نسخا وإبطالا لما هو أصل بنفسه بما هو تبع لغيره وهو لا يصلح لذلك "كصوم" ليوم من رمضان أو ليوم معني بالنذر "لم يبيت" بأن لم ينو من الليل وإنما نوى قبل نصف النهار فإذن "بعضه منوي وبعضه لا" بالضرورة "ولا يتجزأ" أي والحال أن صوم يوم واحد لا يتجزأ صحة وفسادا بل إما أن يفسد الكل أو يصح الكل "فتعارض مفسد الكل" وهو عدم النية في البعض "ومصححه" أي الكل وهو وجود النية في البعض "فترجح الأول" وهو الإفساد للكل كما ذهب إليه الشافعي "بوصف العبادة المقتضيها" أي النية "في الكل" فإن وصف العبادة توجب الفساد وقد انتفت النية في البعض فتفسد لعدمها فيفسد الكل لتعذر فساد البعض وصحة البعض وهذا ترجيح بالحال؛ لأن وصف العبادة عروضه للإمساك لا لذات الإمساك فإن الإمساك من حيث هو ليس بعبادة بل باعتبار خارج عنه وهو النية "و" ترجيح "الثاني" وهو الصحة للكل "بكثرة الأجزاء المتصلة" بالنية أي بسبب وجودها مع كثرة(5/82)
الأجزاء "وهو" أي هذا الترجيح ترجيح "بالذاتي" فإن وجوده الخارجي باعتبار أجزاء الصوم الواقعة هي فيها أعني النية "وينقض" هذا "بالكفارة" أي بصومها، وكذا بصوم النذر المطلق فإنهم لم يجيزوهما إلا مبيتين مع إمكان الاعتبار المذكور "ويدفع بأن الغرض" مع ذلك الاعتبار "توقف الإجزاء" أي كون تلك الإمساكات محكوما بتوقفها "لما فيه" أي في الوقت من الشروع قبل النية إلى أن يظهر لحوق نيته في الأكثر أولا لا بطلانها فإن لحقت انسحب على تلك الإمساكات حكمهما وإلا زال التوقف وحكم ببطلانها "وذلك" أي التوقف "في الوجوب" إنما هو "في" لازم "معين" بالضرورة فظهر أن في معين خبر ذلك كما ذكره المصنف "بخلاف نحو" صوم "الكفارة لم يتعين يومها للواجب" أي لم يثبت الشرع فيه الوجوب قبل النية حتى جاز فطره "فلمشروع الوقت" أي فكان المشروع فيه مشروع الوقت "وهو النفل" فإذا لم يثبت كانت تلك الإمساكات السابقة على النية متوقفة لصوم النفل فلا تنسحب نية الوجوب عليها فلا تصير واجبة بل إما نفلا أو فطرا ولما كان الحكم بالتوقف يحتاج إلى ما يفيد اعتباره أشار إليه بقوله "وهو" أي النفل "الأصل" في الاعتبار "إذا كان صلى الله عليه وسلم ينويه من النهار" كما ثبت في صحيح مسلم ويصير به صائما كل اليوم وذلك إنما يكون(5/83)
ص -42-…بالتوقف "وهذا" التوجيه بناء "على أنه" صلى الله عليه وسلم "صائم كل اليوم" وهو كذلك إن شاء الله تعالى ومن ثمة قال في الهداية وعندنا يصير صائما من أول النهار؛ لأنه عبادة قهر النفس وهو إنما تتحقق بإمساك مقدر فيعتبر قران النية بأكثره انتهى. على أنه إذا حكم له بصوم البعض دل على أنه صائم من أوله ولا يمتنع الحكم بالصوم بلا نية كما لو نسي الصوم أو غفل عنه بعد نيته والله تعالى أعلم.
مسألة
قال "أبو حنيفة وأبو يوسف لا ترجيح بكثرة الأدلة والرواة ما لم يبلغ" المروي بكثرتهم "الشهرة" فحينئذ يترجح الحديث الذي بلغ بكثرتهم حد الشهرة على الحديث الذي لم يبلغ بكثرتهم حدها وتعرض للشهرة دون التواتر؛ لأنها إذا كانت مرجحة فالتواتر بطريق أولى؛ لأنه لا يبلغ حده ما لم يبلغ حدها "والأكثر" من العلماء قولهم "خلافه" أي خلاف قولهما فيرجح عندهم بكثرة الأدلة والرواة وإن لم يبلغ المروي بكثرتهم حد الشهرة "لهما تقوي الشيء" أي ترجيحه إنما يكون "بتابع" لذلك الشيء "لا بمستقل" أي لا بشيء مستقل بالتأثير إذا تقوي الشيء إنما يكون بصفة توجد في ذاته وتكون تبعا له وأما ما يستقل بنفسه فلا يحصل للغير قوة بانضمامه إليه وكل من الأدلة والرواة المتعددة في أحد الجانبين مستقل بإيجاب الحكم فلا يكون مرجحا لموافقه "بل يعارض" الدليل المنفرد في أحد الجانبين كل دليل في الجانب الآخر "كالأول" أي كما يعارض الدليل المطلوب ترجيحه منهما إذا ليس معارضته لواحد منها بأولى من معارضته للآخر "ويسقط الكل" عند عدم المرجح كما هو حكم المعارضة عند عدمه "كالشهادة" من حيث إنه لا ترجيح لإحدى الشهادتين المتعارضتين بعد استكمال نصابها فيها بزيادة لإحداهما في العدد على الأخرى وحكى غير واحد كصدر الشريعة الإجماع على هذا وقد ينظر فيه بما قدمنا من أن مالكا والشافعي في قول لهما يريان ذلك اللهم إلا أن يراد إجماع الصدر الأول إن لم يثبت فيه خلاف لأحد من(5/84)
مجتهديه "ولدلالة إجماع سوى ابن مسعود على عدم ترجيح عصوبة ابن عم هو أخ لأم" بأن تزوج عم إنسان من أبويه أو الأب أمه فولدت له ابنا فالابن ابن عمه وأخوه لأمه "على ابن عم ليس به" أي بأخ لأم في الإرث منه "ليحرم" ابن العم الذي ليس بأخ لأم مع ابن العم الذي هو أخ لأم "بل يستحق" ابن العم الذي هو أخ لأم "بكل" من كونه ابن عم وكونه أخا لأم "مستقلا" نصيبا من الإرث فيستحق السدس بكونه أخا لأم ونصف الباقي بكونه عصبة إذا لم يترك وارثا سواهما أما ابن مسعود فذهب إلى أن ابن العم الذي هو أخ لأم يحجب ابن العم الذي ليس أخا لأم أخرج ابن أبي شيبة عن النخعي في امرأة تركت بني عمها أحدهم أخوها لأمها فقضى فيها عمر وعلي وزيد رضي الله عنهم أن لأخيها لأمها السدس وهو شريكهم بعد في المال وقضى فيها عبد الله أن المال له دون بني عمه "والكل" أي ولدلالة إجماع الكل "فيه" أي في ابن عم حال كونه "زوجا" أيضا على عدم ترجيحه على ابن عم فقط في الإرث فيكون لابن العم الزوج النصف بالزوجية ويكون النصف الآخر بينه وبين ابن العم الذي ليس بزوج إذ لو كان الترجيح(5/85)
ص -43-…بكثرة الدليل ثابتا لكان بكثرة دليل الإرث ثابتا أيضا، واللازم منتف فالملزوم مثله وهذا "بخلاف كثرة" يكون "بها هيئة اجتماعية" لأجزائها "والحكم وهو الرجحان منوط بالمجموع" من حيث هو مجموع لا بكل واحد من أجزائها فإنه يرجح بها على ما ليس كذلك "لحصول زيادة القوة لواحد" فيه قوة زائدة وهي الهيئة الاجتماعية "فلذا" أي لثبوت الترجيح بالكثرة التي لها هيئة اجتماعية والحكم منوط بمجموعها من حيث هو "رجح" أحد القياسين المتعارضين "بكثرة الأصول" أي بشهادة أصلين أو أصول لوصفه المنوط به الحكم على معارضه الذي ليس كذلك "في" باب تعارض "القياس"؛ لأن كثرة الأصول توجب زيادة تأكيد ولزوم للحكم بذلك الوصف فيحدث بها في نفس الوصف قوة صالحة للترجيح كالاشتهار في السنة على ما هو المختار خلافا لبعض أصحابنا وبعض الشافعية كما سيأتي بيانه مستوفى في القياس إن شاء الله تعالى. "بخلافه" أي ما إذا كان الحكم منوطا "بكل" لا بالمجموع فإنه لا يرجح بالكثرة الحاصلة من ضم غيره إليه والحاصل أن الكثرة إن أدت إلى حصول هيئة اجتماعية هي وصف واحد قوي الأثر صلحت للترجيح؛ لأن المرجح هو القوة لا الكثرة غايته أن القوة حصلت بالكثرة وإلا فلا "وأجابوا" أي الأكثر "بالفرق" بين الشهادة والرواية أن الحكم في الشهادة منوط بأمر واحد هو هيئة اجتماعية فالأكثرية والأقلية فيها سواء؛ لأن المؤثر هو تلك الهيئة فقط بخلاف الرواية فإن الحكم فيها بكل واحد فإن كل راو بمفرده يناط به الحكم وهو وجوب العمل بروايته "وبأن الكثرة تزيد الظن بالحكم قوة"؛ لأن الظنين فصاعدا أقوى من ظن واحد، والعمل بالأقوى واجب "فيترجح" الحكم الذي لمفيده كثرة على معارضه الذي لا كثرة لمفيده وهذا دليل الأكثر أدمجه في الجواب عن حجتهما "ويدفع" هذا "بدلالة الإجماع المذكور على عدم اعتباره" أي هذا القدر من زيادة قوة الظن بالحكم مرجحا لمعارضه في أصل الظن وبه، وإلا لقدموا ابن العم الأخ(5/86)
لأم أو الزوج على ابن العم فقط، وبأن كل دليل يؤثر في إثبات المدلول كان ليس معه غيره وليس المدلول متعلقا بالجميع حتى يكون للهيئة الاجتماعية تأثير في القوة وكونه موافقا لدليل آخر وإن كان له دخل في إفادة قوة فيه لكنه معارض بمخالفته للدليل الآخر "بخلاف بلوغه" أي الخبر "الشهرة" حيث يترجح به على معارضه مما هو خبر واحد غير مشهور فإن الرجحان حينئذ هيئة اجتماعية يمنع كذبهم وقبل البلوغ إليها كل واحد يجوز كذبه "وقد يقال :" ترجيحا للترجيح بكثرة الرواة "إن لم تفد كثرة الرواة قوة الدلالة فتجويز كونه" أي خبر ما رواته أقل "بحضرة كثير لا" الخبر "الآخر" المعارض له الذي رواته أكثر "أو" بحضرة قوم "متساوين" في العدد لعدد الحاضرين للخبر الآخر المعارض له "واتفق نقل كثير" في الخبر الذي رواته أقل "دونه" أي الخبر الذي رواته أكثر "بل جاز الأكثر" أي ما رواته أكثر "بحضرة الأقل" عددا بالنسبة إلى عدد الحاضرين، لما رواته أقل فلا يلزم الرجحان بكثرة الرواة "لا ينفي قوة الثبوت" لما رواته أكثر "لأنه" أي التجويز المذكور "معارض بضده" وهو أن يكون الخبر الذي رواته أكثر بحضرة من هو أكثر ممن حضر ما رواته أقل "فيسقطان" أي التجويزان المذكوران "ويبقى مجرد كثرة تفيد قوة(5/87)
ص -44-…الثبوت" الموجبة لزيادة الظن وهو معنى الرجحان "بخلاف ثبوت جهتي العصوبة وما معها" من الأخوة لأم أو الزوجية "عن الشارع فإنهما سواء" في الثبوت قلت على أن كلا من الإجماع على عدم ترجيح ابن العم الزوج وإجماع من سوى ابن مسعود على عدم ترجيح ابن العم الأخ لأم على ابن العم فقط إنما يدل على عدم الترجيح بكثرة الأدلة أن لو كان كل من الزوجية والأخوة لأم يقتضي ابتداء إرث جميع المال إذا انفردت فتتوارد الأدلة المتحدة الموجب على مورد واحد عارضها في ذلك دليل آخر في محل آخر يقتضي مقتضاها ثمة، ثم لم يترجح مقتضي تلك في ذلك المحل على مقتضي هذا في هذا المحل كما هو المراد بعدم الترجيح بكثرة الأدلة. ومعلوم أن الأمر ليس كذلك في كلتا المسألتين فإن موجب العصوبة من حيث هي إذا انفردت استحقاق جميع المال وموجب الزوجية إذا انفردت استحقاق النصف لا غير وموجب الأخوة لأم بالإيجاب الأول إذا انفردت استحقاق السدس لا غير وقد أعطي كل من هاتين مقتضاها في هذه الحالة كما لو كانت منفردة فليتأمل، وأما وجه اندفاع ما وجه به قول ابن مسعود في المسألة المذكورة من أنهما استويا في قرابة الأب وقد ترجحت قرابة الأخ لأم بانضمام قرابة الأم؛ لأن العلة تترجح بالزيادة من جنسها إذا كانت غير مستقلة والأخوة لأم كذلك لكونها من جنس العمومة باعتبار كونها قرابة مثلها لكنها لا تستبد بالتعصيب فيكون مثل الأخ لأب وأم مع الأخ لأب بخلاف الزوجية فإنها ليست من جنس القرابة فلا تصلح للترجيح فهو منع أن الإخوة لأم من جنس العمومة بل هي أقرب ولذا يكون استحقاق ابن العم بالعصوبة بعد استحقاق الأخ فلا يكون تبعا لها فلا يكون مرجحا بخلاف الأخوة فإنها من جنس واحد تتأكد بانضمام الإخوة من الأم إليه بمنزلة وصف تابع له ألا ترى أنه لو اجتمع الإخوة لأب والإخوة لأم لم تصلح أخوة الأم سببا للاستحقاق بالفرضية فظهر أن الأصل في استحقاق العصوبة قرابة الأب وأن قرابة(5/88)
الأم وصف لقرابة الأب تابع لها ترجحت به قرابة الأب في الأخ لأبوين على الأخ لأب للاستواء في المنزلة والله سبحانه أعلم.
فصل
"يلحق السمعيين" الكتاب والسنة "البيان الإظهار لغة" كقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19] أي إظهار معانيه وشرائعه "واصطلاحا إظهار المراد" من لفظ متلو ومرادف له "بسمعي" متلو أو مروي "غير ما" أي اللفظ الذي "به" كان أداء المعنى المراد وهو اللفظ السابق عليه الذي له تعلق به في الجملة فخرجت النصوص الواردة لبيان الأحكام ابتداء وغير خاف أن البيان على هذا فعل المبين كالسلام والكلام "ويقال" البيان أيضا "لظهوره" أي المراد الذي هو أثر الدليل ومتعلقه يقال بأن الأمر والهلال إذا ظهر وانكشف ونسبه شمس الأئمة إلى بعض أصحابنا واختيار أصحاب الشافعي وعليه تعريف الدقاق وأبي عبد الله البصري بالعلم الذي يتبين به المعلوم إلا أنه مخدوش بأن أثر الدليل قد يكون ظنيا لكون الدليل ظنيا فلا يكون جامعا "و" يقال أيضا "للدال على المراد بذلك" أي بما لحقه البيان وغير(5/89)
ص -45-…خاف أن البيان على هذا اسم للدليل الذي يحصل به إدراك المراد بما لحقه البيان فعلى هذا كل مفيد من كلام الشارع وفعله وتقريره وسكوته واستبشاره وتنبيهه بالفحوى على الحكم بيان لا جميع ذلك دليل، وإذا كان بعضها يفيد العلم وبعضها غلبة الظن ظهر أن تعريفه بالدليل الموصل بصحيح النظر إلى اكتساب العلم بما هو دليل عليه غير جامع أيضا كتعريف الدقاق. ثم عزا صاحب الكشف وغيره هذا إلى أكثر الفقهاء والمتكلمين قال المصنف "و" يجب "على الحنفية زيادة أو" إظهار "انتهائه" أي المراد من لفظ سابق متلو أو مروي "أو رفع احتمال" لإرادة غيره وتخصيصه "عنه" أي عن المراد بذلك اللفظ نحو بجناحيه في قوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] فإنه يفيد نفي التجوز بالطائر عن سريع الحركة في السير كالبريد والتأكيد في قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر:30] فإنه يفيد نفي احتمال الملائكة التخصيص "لأنهم" أي الحنفية كفخر الإسلام وموافقيه إلا القاضي أبا زيد "قسموه" أي البيان "إلى خمسة" من الأقسام وهو إلى أربعة أقسام "بيان تبديل سيأتي" وهو النسخ، ومعلوم أنه ليس ببيان المراد من اللفظ بل بيان انتهاء إرادة المراد منه وهذا هو الذي أسقطه أبو زيد ووافقه على إسقاطه شمس الأئمة إلا أنه وافقهم على أنها خمسة أقسام وسنذكر ما هو الخامس عنده "و" بيان "تقرير وهو التأكيد" وهو إنما يفيد رفع احتمال غير المراد من المبين "وقسم الشيء من ما صدقاته وتحصيل الحاصل منتف" وإذا كان منتفيا ولزم كون القسم المسمى ببيان التقرير من أقسامه "فلزم ذلك" أي زيادة أو رفع احتمال عنه، وهذا يجوز مفصولا وموصولا اتفاقا؛ لأنه مقرر للظاهر وموافق له فلا يفتقر إلى التأكيد بالاتصال "و" بيان "تغيير كالشرط والاستثناء وتقدما" في بحث التخصيص "إلا أن تغيير الشرط من إيجاب المعلق في الحال" أي وقوعه فيه كما هو ظاهر إطلاقه(5/90)
بتأخيره نسبته "إلى" زمان "وجوده" أي الشرط "و" تغيير "الاستثناء" من إيجاب الحكم الثابت للمستثنى منه "إلى عدمه" أي الحكم المذكور للمستثنى أصلا وهو ظاهر وقد عرف من هذا وجه تسمية كل منهما بيان وتغيير، وملخصه أن كلا منهما من حيث إنه بين المراد من مدخولهما بيان، ومن حيث إنه غير ما كان مفهوما للسامع من إطلاق مدخولهما على تقدير عدمهما تغيير وتعقب بأن على هذا التقدير يكون جميع متعلقات الفعل من قبيل بيان التغيير لتأتي هذا الاعتبار فيها "وبه" أي بهذا الفرق بينهما "فرقوا" أي الحنفية "بين تعلقه" أي الشرط "بمضمون الجمل لمتعقبها وعدمه" أي عدم تعلق الاستثناء بمضمون الجمل لمتعقبها "في الاستثناء" بل بالأخيرة فقط "تقليلا للإبطال ما أمكن"؛ لأن الأصل عدمه وفي صرفه إلى الأخيرة قضاء لحقه فلا يتعلق بما سواها أيضا إلا لموجب ووافق شمس الأئمة فخر الإسلام على أن الاستثناء بيان تغيير وجعل التعليق بيان التبديل كأبي زيد "ويمتنع تراخيهما" أي الشرط والاستثناء. "وتقدم قول ابن عباس في الاستثناء" بجواز تراخيه على خلاف في مقداره، ووجهه ودفعه "ومنه" أي بيان التغيير "تخصيص العام وتقييد المطلق"؛ لأنه مبين أن كلا منهما غير جار على عمومه وإطلاقه ولزم منه تغيير كل عما هو المتبادر لسامعه من الشمول لسائر أفراده "وتقدما" في بحث العموم(5/91)
ص -46-…والتخصيص فيعطيان حكم بيان التغيير من امتناع التراخي وقد سلف ثمت بيانه موجها "ويجب مثله" أي امتناع التراخي "في صرف كل ظاهر" عن ظاهره دفعا للزوم اللازم الباطل وهو طلب الجهل المركب والإيقاع في خلاف الواقع بذلك الظاهر؛ لأن أدنى حال الصارف بالنسبة إلى المصروف عنه أن يكون كالمخصص بالنسبة إلى العام "وعلى الجواز" لتأخير بيان تخصيص العام عنه كما هو قول مشايخ سمرقند وعليه يتفرع جواز تأخير صرف كل ظاهر عن ظاهره أن يقال: "تأخيره عليه السلام تبليغ الحكم" الشرعي المأمور بتبليغه المكلفين "إلى" وقت "الحاجة" إليه وهو وقت تنجيز التكليف "أجوز"؛ لأنه لا يلزم في تأخير تبليغه شيء من المفاسد التي في تأخير بيان مخصص العام عنه إذ لا تكليف قبل التبليغ، وإذا جاز التأخير مع وجود التكليف فمع عدمه أولى "وعلى المنع" لتأخير بيان مخصص العام عنه "وهو" أي المنع لتأخيره "المختار للحنفية" أي لمشايخ العراق والقاضي أبي زيد ومن تبعه من المتأخرين منهم يجوز تأخيره صلى الله عليه وسلم تبليغ الحكم إلى وقت الحاجة أيضا "إذ لا يلزم" فيه "ما تقدم" من المانع المذكور في مباحث التخصيص وهو الإيقاع في خلاف الواقع ومطلوبية الجهل المركب بل هو منتف فيه. وقيل: لا يجوز لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] لأن وجوب التبليغ معلوم بالعقل ضرورة فلا فائدة للأمر به إلا الفور قلنا: لا شك في أنه صلى الله عليه وسلم بلغ ما أمر بتبليغه مما أنزل إليه، والظاهر أنه المراد كما في صحيح البخاري عن عائشة من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أنزل إليه فقد كذب ولكن لا يلزم أن يكون ذلك منه على الفور.(5/92)
"وكون أمر التبليغ" أمرا إيجابيا "فوريا ممنوع" لجواز أن تكون فائدته تقوية العقل بالنقل "ولعله" أي التبليغ "وجب لمصلحة" لم تفت بتأخيره إذا لم يأت وقتها وعلم ذلك وحيا أو اجتهادا "وأيضا" لو سلمنا أنه للوجوب والفور فنقول "ظاهره" أي ما أنزل إليك "للقرآن"؛ لأنه السابق للفهم من لفظ المنزل وهذا يفيد المنع في القرآن كما إليه ميل كلام الإمام الرازي والآمدي وقد يقال: أي فرق بين تبليغ القرآن وغيره؟ ويجاب التعبد بتلاوته ولكن على هذا أن يقال: القرآن يشتمل على آيات تتضمن الأحكام فإذا وجب تبليغه على الفور وجب تبليغ أحكامها وإذا وجب ذلك وجب تبليغ الأحكام مطلقا إذ لا قائل بالفرق وإلا شبه كما قال البيضاوي وظاهر الآية يوجب تبليغ كل ما أنزل ولعل المراد تبليغ ما يتعلق به مصالح العباد وقصد بإنزاله اطلاعهم عليه فإن من الأسرار الإلهية ما يحرم إفشاؤه، ثم هذه المسألة وقعت في أصول ابن الحاجب تفريعا على جواز تأخير بيان المجمل عنه وما سلكه المصنف من تفريعها على جواز تأخير بيان المخصص عنه الذي هو من بيان التغيير أوجه؛ لأن على التقدير الأول لا يكون جواز تأخير التبليغ أجوز من جواز تأخير بيان المجمل عنه لتساويهما في عدم المانع، والفرض دعوى الأجوزية بخلافه على التقدير الثاني فليتأمل(5/93)
ص -47-…مسألة
"والأكثر" ومنهم الإمام الرازي وابن الحاجب "يجب زيادة قوة المبين للظاهر" عليه "والحنفية تجوز المساواة" بينهما في القوة "ودفع بعدم أولوية المبين منهما بخلاف الراجح" مع المرجوح "لتقدمه" أي الراجح على المرجوح "في المعارضة ويدفع" هذا الدفع "بأن مرادهم" أي الحنفية المساواة "في الثبوت لا الدلالة ومعلوم أن الأول مبين" وعدم الأولوية في المعنى إنما هو على تقدير المساواة في الدلالة وأما قول أبي الحسين ويجوز بالأدنى أيضا فباطل؛ لأنه يلزم منه إلغاء الراجح بالمرجوح "و" بيان "تفسير وهو بيان المجمل" بالمعنى المصطلح عليه عند الشافعية وهو ما فيه خفاء فيعم باصطلاح الحنفية الخفي والمشترك والمشكل والمجمل كما صرح به صاحب الكشف وغيره "ويجوز" بيان التفسير "بأضعف" دلالة "إذ لا تعارض" بين المجمل والبيان "ليترجح" البيان عليه فيلزم إلغاء الأقوى بالأضعف "و" يجوز "تراخيه" أي بيان المجمل عن وقت الخطاب به "إلى وقت الحاجة إلى الفعل وهو وقت تعليق التكليف" بالفعل "مضيقا" عند الجمهور منهم أصحابنا والمالكية وأكثر الشافعية واختاره الإمام الرازي وابن الحاجب في غالب المتأخرين. "وعن الحنابلة والصيرفي وعبد الجبار والجبائي وابنه" وبعض الشافعية كأبي إسحاق المروزي والقاضي أبي حامد "منعه" أي منع تراخيه عن وقت الخطاب به إلا أن الإسفراييني ذكر أن الأشعري نزل ضيفا على الصيرفي فناظره في هذا فرجع إلى الجواز "لنا لا مانع عقلا" من جوازه "ووقع شرعا كآيتي الصلاة والزكاة" أي {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ", ثم بين" النبي صلى الله عليه وسلم "الأفعال" للصلاة كما في حديث المسيء صلاته في الصحيحين وغيرهما "والمقادير" للزكاة كما في كتب الصدقات ككتاب الصديق رضي الله عنه في صحيح البخاري وكتاب عمر رضي الله عنه في سنن أبي داود وابن ماجه وجامع الترمذي وكتاب عمرو بن حزم في سنن النسائي وغيرها "أما" تراخي بيان(5/94)
المجمل "عن وقت الحاجة فيجوز" عقلا "عند من يجوز تكليف ما لا يطاق" وهم الأشاعرة "لكنه" أي تراخيه عن وقت الحاجة "غير واقع" شرعا وأما من لم يجوز تكليف ما لا يطاق فلا يجوز هذا عنده؛ لأنه من أفراده. ثم قال تعليلا لقوله لا مانع عقلا "لأنه" أي المجمل "قبل البيان لا يوجب شيئا" على المكلف مما لعله أن يكون مرادا منه بل إنما يجب عليه اعتقاد حقيقة المراد منه لا غير حتى يلحقه البيان فيجب عليه حينئذ ما أظهر البيان أنه المراد منه "فلم يحكم" الشارع عليه "بوجوب ما لم يعلم" المكلف وجوبه عليه "بحيث" إذا لم يفعل المكلف ذلك "يعاقب بعدم الفعل" فانتفى وجه المانعين له بأن المقصود من الخطاب إيجاب العمل وهو يتوقف على الفهم والفهم لا يحصل بدون البيان فلو جاز تأخير البيان أدى إلى تكليف ما ليس في الوسع "وبه" أي القول بأنه لا يوجب شيئا قبل البيان "اندفع قولهم" أي المانعين له تأخير بيان المجمل "يؤدي إلى الجهل المخل بفعل الواجب في وقته" فإنه يوجب الجهل بصفة العبادة؛ لأن الفرض أن صفتها إنما تعلم بالبيان ولا بيان والجهل بصفة الشيء يخل بفعله في وقته. ووجه اندفاعه أن وقت العبادة وقت بيان صفتها فلا يخل بفعل الواجب(5/95)
ص -48-…في وقته لانتفاء التكليف بإيقاعه قبل بيانه "وقولهم" أي المانعين له أيضا: لو جاز تأخير بيان المجمل لكان الخطاب بالمجمل "كالخطاب بالمهمل" فيلزم جواز الخطاب به وجواز تأخير بيانه بجامع عدم الإفادة في الحال والإفادة عند البيان واللازم باطل فالملزوم مثله "مهمل" إذ في المجمل يعلم أن المراد أحد محتملاته أو معنى ما فيطيع أو يعصي بالعزم على فعله أو تركه إذ بين هذا من أعظم فوائد التكليف بخلاف المهمل فإنه يعرف أن ليس له معنى أصلا. "وما قيل :" أي وما في أصول ابن الحاجب "جواز تأخير إسماع المخصص" للعام المكلف الداخل تحت العموم إلى وقت الحاجة "أولى" بالجواز "من تأخير بيان المجمل" إلى وقت الحاجة "لأن عدم الإسماع" أي إسماع المكلف المخصص للعام مع وجوده في نفس الأمر "أسهل من العدم" أي عدم بيان المجمل لإمكان الاطلاع على المخصص المذكور وعدم إمكان الاطلاع على بيان المجمل قبل وجوده وهذا يصلح أن يكون وجها إلزاميا من الشافعية المجيزين لتأخير بيان المجمل إلى وقت الحاجة للحنفية القائلين به دون تراخي التخصيص فيقال: إذا جاز تأخير بيان المجمل بموافقتكم فيلزمكم جواز تأخير بيان التخصيص بأولى، ثم ما قيل: مبتدأ خبره "غير صحيح؛ لأن العام غير مجمل فلا يتعذر العمل به" قبل الاطلاع على مخصص به "فقد يعمل به" بناء على أن عمومه مراد "وهو" أي والحال أن عمومه "غير مراد بخلاف المجمل" فإنه لا يعمل به قبل البيان "فلا يستلزم تأخير بيانه محذورا" وهو العمل بما هو غير مراد به "بخلافه" أي تأخير البيان "في المخصص" فإنه يستلزمه كما بينا. "ثم تمنع الأولوية" أي كون تأخير إسماع المخصص بالجواز أولى من تأخير بيان المجمل "بل كل من العام والمجمل أريد به معين آخر ذكر داله فقبل ذكره" أي داله "هو" أي ذلك المعين "معدوم إلا في الإرادة" أي إلا في جواز كونه المراد من اللفظ "فهما" أي المجمل والعام "فيها" أي في الإرادة "سواء".
مسألة(5/96)
"ويكون" البيان "بالفعل كالقول إلا عند شذوذ لنا يفهم أنه" أي الفعل الصالح لكونه مرادا من القول هو "المراد بالقول" المجمل "بفعله" أي ذلك الفعل "عقيبه" أي ذلك القول المجمل "فصلح" الفعل "بيانا بل هو" أي الفعل "أدل" على بيانه من الإخبار عنه ومن ثمة قال النبي صلى الله عليه وسلم "ليس الخبر كالمعاينة" أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم والطبراني وزاد فيه "فإن الله تعالى أخبر موسى بن عمران عليه السلام عما صنع قومه من بعده فلم يلق الألواح فلما عاين ذلك ألقى الألواح" وقد صار هذا القول مثلا "وبه" أي بالفعل "بين" النبي صلى الله عليه وسلم "الصلاة والحج" لكثير من المكلفين كما يشهد به استقراء بعض المشاهير من دواوين السنة "قالوا" أي المانعون لم يبينهما بالفعل "بل "صلوا كما رأيتموني أصلي" "وخذوا عني مناسككم" وتقدم تخريجهما في مسألة الاتفاق في أفعاله الجبلية الإباحة لنا وله "أجيب بأنهما" أي القولين المذكورين "دليلا كونه" أي الفعل "بيانا" لا أنه هو البيان؛ لأنه لم يشتمل على تعريفهما "وهذا" الجواب "ينفي الدليل الأول" وهو اقتضاء فهم أن الفعل الموقع بعد القول(5/97)
ص -49-…المجمل هو المراد منه أي ينفي أن يكون هذا مثبتا للمدعى "إذ يفيد" هذا "أن كونه" أي الفعل "بيانا" إنما عرف "بالشرع وبه" أي بالشرع "كفاية" في إثبات كون الفعل بيانا "فالأولى أن يقال: إنه" أي كلا من: صلوا وخذوا إلى آخرهما "لزيادة البيان" فإن البيان حصل لهم بلا شك بمباشرة تلك الأفعال بحضرتهم على أنها أفعال الصلاة والحج فقوله: صلوا وخذوا تأكيد "وقولهم" أي المانعين للبيان بالفعل "الفعل أطول" من القول زمانا "فيلزم تأخيره" أي البيان به "مع إمكان تعجيله" بالقول، وأنه غير جائر "ممنوع الأطولية" إذ قد يطول البيان بالقول أكثر مما يطول بالفعل وما في ركعتين من الهيئات والأجزاء لو بين بالقول ربما استدعى زمانا أكثر مما يصليهما فيه "و" ممنوع "بطلان اللازم" أي لزوم التأخير "بعده" أي بعد إمكان تعجيله قال المصنف أي لا نسلم أنه لا يجوز تأخيره مع إمكان تعجيله فإنه إذا كان التعجيل قبل الحاجة ممكنا والفرض أن التأخير حينئذ جائز فلا يلزم تعجيله، ثم الممنوع هو التأخير المفوت عن الوقت المضيق فيه وهو ممنوع بل المفروض أن يشتغل بالبيان بالفعل في زمان بحيث يمضي منه الوقت المضيق فيه قبل معرفة البيان بإتمام ذلك الفعل المبين "فلو تعاقبا" أي القول والفعل الصالح كل منهما أن يكون بيانا "وعلم المتقدم فهو" أي المتقدم البيان قولا كان أو فعلا لحصوله به والثاني تأكيد "وإلا" إذا لم يعلم المتقدم "فأحدهما" من غير تعيين هو البيان أي يقضى بحصول البيان بواحد لم يطلع عليه وهو الأول في نفس الأمر والثاني تأكيد. وقيل: يتعين الأرجح منهما للتأخر، والمرجوح للمتقدم؛ لأن المتأخر تأكيد والمرجوح لا يكون تأكيدا للراجح لامتناع ترجيح الشيء بما دونه في الدلالة؛ لأن المؤكد يدل عليه وعلى الزيادة فلا فائدة فيه واختاره الآمدي وأجيب بأن ذلك إنما يلزم في المفردات ك جاءني القوم كلهم أما المؤكد المستقبل يعني: ما لا يتوقف في كونه بيانا على(5/98)
غيره فلا يلزم فيه ذلك؛ لأنه ليس تابعا في الدلالة للراجح حتى لو جعل تأكيدا لم يكن له فائدة ومن ثمة تذكر الجمل بعضها بعد بعض للتأكيد، وإن كانت الثانية أضعف من الأولى لو استقلت؛ لأنها بانضمامها إليها تفيدها تأكيدا وتقريرا لمضمونها في النفس زيادة تقرير، ثم هذا كله إذا اتفقا في الدلالة على حكم واحد "فإن تعارضا" قالوا كما لو طاف بعد آية الحج طوافين وأمر بطواف واحد وقد ورد كلاهما فعن علي رضي الله عنه أنه جمع بين الحج والعمرة فطاف طوافين وسعى سعيين وحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك. رواه النسائي بإسناد رواته موثقون وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعا" رواه الترمذي وقال حسن صحيح غريب "فالمختار" وفاقا للإمام الرازي وأتباعه وابن الحاجب أن البيان هو "القول"؛ لأنه يدل بنفسه والفعل لا يدل إلا بأحد أمور ثلاثة أن يعلم ذلك بالضرورة من قصده أو أن يقول هذا الفعل بيان للمجمل أو بالدليل العقلي وهو أن يذكر المجمل وقت الحاجة إلى العمل به، ثم يفعل فعلا صالحا أن يكون بيانا له ولا يفعل شيئا آخر وما هو مستقل بنفسه في الدلالة أولى مما يحتاج فيها إلى غيره.(5/99)
ص -50-…وقد أوردت على المصنف رحمه الله ينبغي على ما تقدم من أن الفعل أدل من القول أن يقدم الفعل على القول. فأجاب أن معنى أدليته أن الفعل الجزئي الموجود في الخارج لا يحتمل غيره لا أنه بهيئاته أدل على كونه المراد بالمجمل من دلالة القول على المراد به فإن الاستقراء يفيد أن كثيرا من الأفعال المبينة للمجمل تشتمل على هيئات غير مرادة من المجمل وهذا ليس في القول، ثم لا فرق بين أن يكون القول متقدما أو متأخرا أو لم يعلم شيء منهما؛ لأن فيه جمعا بين الدليلين وهو أولى من إبطال أحدهما وهو القول إن قلنا الفعل هو البيان لا القول، ثم فعله صلى الله عليه وسلم الزائد على مقتضى قوله كالطواف الثاني ندب أو واجب في حقه دون أمته كما ذكره ابن الحاجب وغيره وقال الآمدي الأشبه أنه إن تقدم القول فهو المبين وإن تأخر فالفعل المتقدم مبين في حقه حتى يجب عليه الطوافان والقول المتأخر مبين في حقنا حتى يكون الواجب علينا طوافا واحدا عملا بالدليلين.(5/100)
"وقول أبي الحسين" البيان هو "المتقدم" منهما قولا كان أو فعلا لو كان" المتقدم "الفعل" فإن كان الفعل إذا كان طوافين فقد وجبا علينا فإذا أمر بطواف واحد فقد نسخ أحد الطوافين عنا وهو باطل وإنما استلزم النسخ بلا ملزم لإمكان الجمع بأن يكون القول هو البيان بخلاف ما إذا كان المتقدم القول فإن حكم الفعل كما سبق. قلت: وقد ذهل الإسنوي فجعل هذا بعينه تفريعا على قول الإمام وموافقيه فتنبه له قيل: ولو نقص الفعل عن مقتضى القول فقياس المختار أن البيان القول ونقص الفعل عنه تخفيف في حقه صلى الله عليه وسلم تأخر الفعل أو تقدم وقياس ما تقدم لأبي الحسين أن البيان المتقدم فإن كان القول فحكم الفعل كما سبق أو الفعل فما زاده القول عليه مطلوب بالقول، هذا ولم أقف لمشايخنا على صريح في هذا المقام ولو قالوا بالمختار لاحتاجوا إلى الاعتذار عن قولهم بوجوب طوافين أو سعيين للقارن على وجه لا ينقض هذه القاعدة وذلك ممكن إن شاء الله تعالى فيقال هذه القاعدة على إطلاقها إذا لم يوجد مرجح للفعل على القول أما إذا وجد فلا وهنا قد وجد ما بين ما هو في قوة المعارض القولي وهو قول عمر رضي الله عنه لصبي ابن معبد هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم لما قال له طفت طوافا لعمرتي وسعيت سعيا لعمرتي، ثم عدت ففعلت مثل ذلك لحجي، ثم بقيت حراما ما أقمنا أصنع كما يصنع الحاج حتى قضيت آخر نسكي. رواه أبو حنيفة وما هو موافق قولي وعملي من غير واحد من أعيان الصحابة للفعل وكون الفعل أقيس بأصول الشرع؛ لأن المستقر شرعا في ضم عبادة إلى أخرى أنه يفعل أركان كل منهما كما ذكر ذلك المصنف في فتح القدير.(5/101)
"ولا يتصور فيه" في المجمل "أرجحية دلالته على دلالة المبين" بصيغة اسم الفاعل "على" المعنى "المعين" من المجمل "بل يمكن" أن تكون دلالة المجمل "على معناه الإجمالي وهو أحد الاحتمالين" أقوى من دلالة مبين أن المراد منه أحدهما بعينه لا غير "كثلاثة قروء" فإنه قوي الدلالة "على ثلاثة أقراء من الطهر أو الحيض ويتعين" أحدهما "بأضعف دلالة على(5/102)
ص -51-…المعين" بأن لا يكون قطعيا في مدلوله. "وسلف للحنفية" في بحث المجمل "ما تقصر معرفته" أي المراد بالمجمل: السمعي "على السمع فإن ورد" بيان المراد منه بيانا "قطعيا شافيا صار مفسرا أو لا فمشكل أو ظنا فمشكل وقبل الاجتهاد في استعلامه" وفيه نظر فإن الذي ذكره غير واحد منهم المصنف فيما سلف: أنه إن كان البيان شافيا بقطعي فمفسر أو بظني فمؤول أو غير شاف خرج من الإجمال إلى الإشكال "وهو" أي هذا الخلاف "لفظي مبني على الاصطلاح" في المراد بالمجمل وقد تقدم الكلام عليه في موضعه "وقالوا" أي الحنفية "إذا بين المجمل القطعي الثبوت بخبر واحد نسب" المعنى المبين "إليه" أي المجمل لكونه أقوى "فيصير" المعنى المبين "ثابتا به" أي المجمل "فيكون" ذلك المعنى "قطعيا" بناء على أنه ثابت بقطعي "ومنعه صاحب التحقيق إذ لا تظهر ملازمة" بينهما توجب ذلك، ثم أي فرق بين معرفة المراد من المشترك بالرأي الذي هو ظني وبين معرفة المراد من المجمل بخبر الواحد الذي هو ظني ومن ثمة ذكر في الميزان أن المجمل إذا لحقه البيان بخبر الواحد فهو مؤول قال المصنف "وهو" أي منعه "حق ولو انعقد عليه" أي على أن المراد من المجمل معنى بعينه "إجماع فشيء آخر".
"وإلى بيان ضرورة تقدم" في التقسيم الأول من الفصل الثاني وهذا أيضا لم يجعله القاضي أبو زيد من أقسام البيان وجعله فخر الإسلام وشمس الأئمة وموافقوهما من أقسامه وحينئذ يحتاج تعريف البيان السابق إلى زيادة توجب دخوله فيه، ثم الإضافة فيه من إضافة الشيء إلى سببه بخلاف ما تقدم وبيان التبديل أيضا فإن الإضافة فيها من إضافة العام إلى الخاص.(5/103)
وهذا أوان الشروع في بيان التبديل فنقول "وأما بيان التبديل فهو النسخ وهو" أي النسخ لغة "الإزالة" أي الإعدام حقيقة كنسخت الشمس الظل والشيب الشباب والريح آثار الدار "مجازا للنقل" أي التحويل للشيء من مكان إلى مكان أو من حالة إلى حالة مع بقائه في نفسه كنسخت النحل العسل إذا نقلته من خلية إلى خلية تسمية للملزوم باسم اللازم؛ لأن في النقل إزالة عن موضعه الأول وهذا قول أبي الحسين البصري وعزاه الصفي الهندي إلى الأكثرين ورجحه الإمام الرازي بأن النقل أخص من الزوال فإن النقل إعدام صفة وإحداث أخرى والزوال مطلق الإعدام وكون اللفظ حقيقة في العام مجازا في الخاص أولى من العكس لتكثير الفائدة "أو قلبه" أي حقيقة للنقل مجاز للإزالة تسمية للازم باسم الملزوم وهذا قول جماعة منهم القفال "أو مشترك" لفظي بين الإزالة والنقل بناء على أنه أطلق عليهما، الأصل في الإطلاق الحقيقة وهذا قول القاضي والغزالي ولا يخفى أنه يطرقه أن المجاز مقدم على الاشتراك اللفظي إذا دار الإطلاق بينهما أو معنوي بينهما فهو للقدر المشترك بينهما وهو الرفع، وبه قال ابن المنير في شرح البرهان "وتمثيل النقل ب نسخت ما في الكتاب" كما ذكره كثير "تساهل"؛ لأنه فعل مثل ما في غيره لا نقل عينه ولا إزالته ولا رفعه، ثم قالوا هذا كله نزاع لفظي لا يتعلق به غرض عملي وقيل: بل معنوي تظهر فائدته في جواز النسخ بلا بدل وتعقب بأن المدار على الحقائق العرفية لا اللغوية وأن هذا مبني على أنه كنقل الصلاة(5/104)
ص -52-…اللغوية إلى الشرعية كما ذهب إليه بعض المتكلمين لكن الأظهر أنه كنقل الدابة فنقل من الأعم إلى الأخص "واصطلاحا رفع تعلق مطلق" عن تقييد بتأقيت أو تأبيد بحكم شرعي بفعل "بحكم شرعي ابتداء" فالرفع شامل للنسخ وغيره وما عداه مخرج لغيره فينطبق عليه، ثم كما في التلويح لا يقال: ما ثبت في الماضي لا يتصور بطلانه لتحققه قطعا وما في المستقبل لم يثبت بعد فكيف يبطل وأيا ما كان فلا رفع؛ لأنا نقول ليس المراد بالرفع البطلان بل زوال ما يظن من التعلق بالمستقبل بمعنى أنه لولا الناسخ لكان في عقولنا ظن التعلق في المستقبل فبالناسخ زال ذلك التعلق المظنون، ثم نقول "فاندفع" متعلق أن يقال: "إن الحكم قديم لا يرتفع"؛ لأنه كلام الله تعالى " وما ثبت قدمه امتنع عدمه " فلا يتصور رفعه فلا يصح أن يقال: رفع الحكم الشرعي كما ذكر غير واحد وإن وقع التقصي عنه بأن المراد به ما تعلق الخطاب به تعلق تنجيز وهو بهذا المعنى إنما يحدث بعد حدوث شروط التكليف والقديم إنما يتعلق تعلقا معنويا هو ضروري للطلب، والحاصل أنا نعلم قطعا أنه إذا ثبت تحريم شيء بعد وجوبه فقد انتفى الوجوب وهذا الانتفاء هو الذي نعنيه بالرفع وإذا تصورت الحكم والرفع كذلك كان إمكان رفعه ضروريا "و" اندفع "بمطلق ما" أي التعلق المرفوع "بالغاية" نحو {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] "والشرط" نحو "صل الظهر إن زالت الشمس" "والاستثناء" نحو: اقتل المشركين إلا أهل الذمة فإن رفع الصيام عن الليل والصلاة عما قبل الزوال والقتل عن أهل الذمة لا يسمى نسخا اتفاقا قلت ولقائل أن يقول أولا الرفع يقتضي سابقة الثبوت كما سنذكر والغاية والشرط والاستثناء لم يرفع ما سبق ثبوته قبل ذكرها وثانيا سنذكر أن المراد بالتأخر التراخي وهذه لو قدر بها رفع لم تكن متراخية فلا يحتاج إلى الاحتراز عن الرفع بها فالأوجه أنه احتراز عن الحكم المؤقت بوقت خاص فإنه لا يصح نسخه(5/105)
قبل انتهائه ولا يتصور بعد انتهائه وعن الحكم المقيد بالتأبيد على ما في كليهما من خلاف سيذكر إن شاء الله تعالى واندفع بقولنا بحكم شرعي وقد كان الوجه التصريح به ما كان رفعا للإباحة الأصلية الثابتة بحكم الأصل قبل ورود الشرع عند القائل بها بحكم شرعي فإنه لا يسمى نسخا اتفاقا ومن ثمة اعترض على قول مالك رحمه الله: إن الكلام كان مباحا في الصلاة في ابتداء الإسلام على الإطلاق فيما لا يتعلق بمصلحة الصلاة بالإجماع وبقي ما سواه على أصل الإباحة بأن هذا ليس بنسخ؛ لأن إباحة الكلام إنما كانت على الأصل لا بخطاب شرعي فإن قيل: وأيضا سيأتي من أقسام النسخ ما نسخ لفظه وبقي حكمه وهو ليس برفع حكم بل لفظ فالجواب أن هذا متضمن لرفع أحكام كثيرة كالتعبد بتلاوته ومنع الجنب ومن في معناه منها ومن مسه إلى غير ذلك "و" اندفع "بالأخير" أي ابتداء "ما" أي التعلق المطلق لحكم شرعي المرفوع "بالموت والنوم" والجنون ونحوها وبانعدام المحل كذهاب اليدين والرجلين "لأنه" أي رفعه كالصلاة عن الميت والنائم والمجنون وكوجوب غسل اليدين والرجلين عن مقطوعها "لعارض" من هذه العوارض لا ابتداء بخطاب شرعي وأورد رفع تعلق الحكم الشرعي بالنوم ممنوع بل بقوله صلى الله عليه وسلم "رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ" الحديث وقدمنا تخريجه(5/106)
ص -53-…قبيل الفصل الذي اختص الحنفية بعقده في الأهلية وأجيب بأن رفع الحكم عن الميت والمجنون والنائم والغافل إنما هو في الحقيقة لعدم قابلية المحل له لطريان هذه الأمور عليه، والنصوص الواردة في ذلك ليست رافعة بل مبينة أن هذه واقعات قلت ولقائل أن يقول ثم إذا كان هذا القيد لإخراج ما يكون بهذه الأمور وما جرى مجراها لم يكن حاجة إلى ذكره؛ لأن الرفع بها خارج بحكم شرعي فإن هذه العوارض ليست بحكم شرعي، ثم قد كان الوجه أيضا إبدال شرعي بدليل شرعي؛ لأن النسخ قد يكون بلا بدل فلا ينطبق التعريف عليه ولا يكون إلا بدليل شرعي "ويعلم التأخر" أي التراخي للرفع عن ثبوت التعلق "من" ذكر "الرفع" نفسه فإنه يقتضي سبق الثبوت للمرفوع فيكون الرفع متأخرا عنه ضرورة وإنما فسرنا التأخر بالتراخي؛ لأن المتأخر قد يكون مخصصا لا ناسخا كالاستثناء والمخصص الأول وقد كان الأحسن التصريح به فيقال بحكم شرعي متراخ، ثم لقائل أن يقول هذا التعريف يصدق على المخصص الثاني إذا كان متراخيا وهلم جرا مع أن ذلك ليس بنسخ نعم لا يضر هذا المصنف بناء على اختياره اشتراط المقارنة في سائر المخصصات السمعية فالمخصص المتراخي منها ناسخ عنده كما تقدم في موضعه - والله سبحانه أعلم - "والسمعي المستقل" بنفسه "دليله" أي الرفع الذي هو النسخ "وقد يجعل" النسخ "إياه" أي الدليل "اصطلاحا في قول إمام الحرمين اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول" قال القاضي عضد الدين ومعناه أن الحكم كان دائما في علم الله دواما مشروطا بشرط لا يعلمه إلا هو وأجل الدوام أن يظهر انتفاء ذلك الشرط للمكلف فينقطع الحكم ويبطل دوامه وما ذلك إلا بتوفيقه تعالى إياه فإذا قال قولا دالا عليه فذلك هو النسخ "والغزالي" وفاقا للقاضي أبي بكر "الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب الأول على وجه لولاه كان ثابتا مع تراخيه عنه" وقال الخطاب ليعم اللفظ والفحوى والمفهوم لجواز النسخ(5/107)
بجميعها ويخرج الموت ونحوه، ومما يرفع الأحكام والخطاب المقرر للحكم وقال على ارتفاع الحكم ليتناول الأمر والنهي والخبر ويعم أنواع الحكم من الندب والكراهة والإباحة والحظر والوجوب، فإن جميع ذلك قد ينسخ وقال بالخطاب المتقدم؛ لأن إيجاب العبادات في الشرع يزيل حكم العقل من براءة الذمة ولا يسمى نسخا؛ لأنه لم يزل حكم خطاب وقال لولاه لكان ثابتا؛ لأن حقيقة النسخ الرفع وهو إنما يكون رفعا لو كان المتقدم بحيث لولا طريانه لبقي فخرج الخطاب الدال على ارتفاع الحكم المتقدم الذي له وقت محدود مثل "لا تصوموا بعد غروب الشمس" بعد {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فإنه ليس نسخا وإن كان دالا على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم لكن على وجه لولاه لكان ثابتا وقال مع تراخيه؛ لأنه لو اتصل به لكان بيانا لمدة الحكم لا نسخا له كالشرط والصفة والغاية والاستثناء "وما قيل :" وعزاه ابن الحاجب إلى الفقهاء "النص الدال على انتهاء أمد الحكم" أي غايته "مع تراخيه عن مورده" أي زمان ورود الحكم الأول وهو احتراز عن البيان المتصل بالحكم الأول سواء كان مستقلا كلا تقتلوا أهل الذمة عقب اقتلوا المشركين متصلا به أو غير متصل كالاستثناء والغاية والشرط والوصف "فإنه اعترض(5/108)
ص -54-…عليها" أي على هذه التعاريف الثلاثة "بأن جنسها" من اللفظ والخطاب والنص "دليله" أي طريق النسخ المعرف له "لا هو" أي النسخ "وأجيب بالتزامه" أي التزام كون جنسها دليلا دليل النسخ في الحقيقة لكن لا ضير فإن التعريف له غايته أن إطلاق النسخ عليه حقيقة اصطلاحية ومجاز لغوي فليس النسخ اصطلاحا إلا ذلك القول "كما أنه" أي ذلك القول هو "الحكم، وهذا" أي يكون النسخ الحكم وليس إلا ذلك القول "إنما يصح في" الكلام "النفسي والمجعول جنسا" في هذه التعاريف إنما هو "اللفظ" الذي هو الكلام اللفظي فلا يستقيم أن يكون جنسا له "ولأنه" أي الخطاب "جعل دالا لنا والنفسي مدلول" عليه به "وأيضا يدخل قول العدل نسخ" حكم كذا في التعاريف المذكورة لصدقها عليه وليس بنسخ فلا تكون مطردة "ويخرج" عنها "فعله صلى الله عليه وسلم" إذ قد يكون النسخ به فلا تكون منعكسة "وأجيب بأن المراد" بالدال في التعاريف المذكورة "الدال بالذات" أي بحسبها لا بحسب المفهوم "وهما" أي قول العدل وفعله صلى الله عليه وسلم "دليلا ذلك" أي الدال بالذات وهو قول الله تعالى الدال على انتهاء الحكم "لا هو" أي الدال بالذات "وخص الغزالي بورود استدراك على وجه إلخ" أما لولاه لكان ثابتا فلأن الرفع لا يكون إلا كذلك وأما مع تراخيه عنه فلأنه لولاه لم يتقرر الحكم الأول إذا تقرر إلا بعد تمام الكلام فكان رفعا للثبوت لا رفعا للثابت فهو حينئذ تخصيص لا نسخ "وأجيب بأنه" أي على وجه إلخ "احتراز" عن قول العدل "لأنه" أي قول العدل "ليس كذلك" أي لولاه لكان ثابتا "لأن الارتفاع بقول الشارع قاله هو" أي العدل "أو لا" أي أو لم يقله "والتراخي لإخراج المقيد بإلغائه" ونحوها من المخصصات المتصلة فأن أفعله إلى يوم كذا يوجب ارتفاع التكليف في يوم كذا بالغاية وهي غير متراخية عن التكليف به "ولا يخفى أن صحته" أي هذا الجواب "توجب اعتبار قول العدل داخلا" في تعريفه الذي هو الخطاب الدال إلخ؛(5/109)
لأنه يحترز عما ليس بداخل "فلا يندفع" إيراد قول العدل وفعله صلى الله عليه وسلم "عن الآخرين" الأول والثالث لإيجابه حمل الدال على أعم مما يكون بالذات "ولو صح ذلك" أي دفع الإيراد عنهما "بادعاء أنه" الدال بالذات هو "المتبادر من الدال لزم الاستدراك" المذكور على الغزالي وخصوصا حيث وصف به الخطاب وكان المراد به خطاب الشارع كما هو المتبادر من إطلاقه هنا والحاصل أنه دار الحال بين اندفاع قول العدل وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم عن التعاريف الثلاثة ولزوم الاستدراك للغزالي اللهم إلا أن يقال: قوله لولاه إلخ تصريح بما علم التزاما من إرادة الدال بالذات ودفع لما يتبادر إلى الفهم من إطلاق الدلالة ولا يقدح في التعريف التصريح بما علم التزاما وهذا لا بأس به لولا فهم خطاب الشارع من الخطاب هنا وبين اندفاعهما عن تعريفه من غير استدراك عليه على ما فيه كما أشرنا إليه آنفا وعدم اندفاعهما عن الآخرين إلا الثالث كما أشار إليه بقوله "ويندفع قول الراوي" نسخ كذا "عن الثالث أيضا بأنه" أي قوله "ليس بنص في المتبادر"، وكذا فعل الرسول لما فيهما من الاحتمال، والأشبه أن النص ليس بمخرج لكل منهما مطلقا بل قد وقد فإن كلا من قول الراوي وفعل الرسول قد يكون نصا كما يكون ظاهرا ومجملا هذا إن أريد بالنص ما يقابل الظاهر وإن أريد ما يقابل الإجماع(5/110)
ص -55-…والقياس وهو الكتاب والسنة فخروج قول العدل ودخول فعل الرسول ظاهر هذا والذي عليه كثير من الحنفية كفخر الإسلام وشمس الأئمة أن النسخ بالنسبة إلى الله تعالى بيان لمدة الحكم الأول لا رفع وتبديل، وبالنسبة إلينا تبديل؛ لأن الله تعالى لما كان عالما بأن الحكم الأول مؤقت ومن وقت كذا إلى وقت كذا كان النسخ بيانا محضا لمدة الحكم في حقه تعالى، ولما كان الحكم الأول مطلقا كان البقاء فيه أصلا ظاهر في حقنا لجهلنا بمدته فالنسخ يكون تبديلا له بآخر في حقنا كالقتل بيان محض للأجل في حقه تعالى؛ لأن الميت مقتول بأجله وفي حقنا تبديل للحياة بالموت؛ لأن ظاهره الحياة لولا مباشرة قتله وتعقبه صاحب الميزان بأنه غير مستقيم؛ لأنه يؤدي إلى القول بتعدد الحقوق، والحق في الشرعيات والعقليات واحد، وأجيب بأن الحق واحد لكن بالنسبة إلى ما هو واقع عند الله وأما بالنسبة في حق العمل فمتعدد حتى وجب على كل مجتهد العمل باجتهاده ولا يجوز له تقليد غيره وهذا الحق بالنسبة إلى صاحب الشرع واحد، وهو كونه بيانا محضا لا رفعا وهو كالأسباب فإنها علامات محضة بالنسبة إلى الشارع وإن كانت موجبة بالنسبة إلينا قلت: وهذا عجيب من المعترض والمجيب فإن ما نحن فيه ليس فيه حق متعدد أصلا، وإنما هو شيء واحد له اعتباران مختلفان بالنسبة إلى جهتين كما فيما ذكر من القتل والوقت ولا خفاء في أن الشيء الواحد لا يكون في الخارج باعتبارين بالنسبة إلى جهتين شيئين مختلفين وكم له من أمثال غير أن شمس الأئمة لم يجعله من أقسام البيان كما ذكرنا بناء على أن البيان إظهار حكم الحادثة عند وجودها ابتداء والنسخ رفع بعد الثبوت فكانا غيرين وإن كان النسخ بيان انتهاء مدة الحكم فإنه في حق صاحب الشرع أما في حق العباد فرفع الحكم الثابت والبيان إنما يكون بيانا بالنسبة إليهم لاحتياجهم إليه لا إلى صاحب الشرع لعلمه بالأشياء كلها وجعله فخر الإسلام وموافقوه بيانا كما سلف قال(5/111)
الشيخ سراج الدين الهندي وهو الأقرب؛ لأن النسخ فعل الشارع وحقيقته إظهار مدة الحكم للعباد وأما كونه رفعا لما هو المستمر ظاهرا في حقنا فليس حقيقته في نفس الأمر فإن الذي في نفس الأمر كونه مؤقتا في عمله تعالى فينتهي بانتهائه لا كونه مستمر المشروعية فكان اعتبار كونه بيانا أولى من اعتبار كونه رفعا، والبيان غير منحصر في إظهار حكم الحادثة عند وجودها ابتداء كالأوامر الواردة بالصلاة والزكاة وغيرهما ولا نسلم أن النسخ رفع بعد الثبوت بل هو بيان انتهاء مشروعيته، وإن كان هذا المعنى مسلما في حق الشارع ولكن هذا لا ينافي كونه حقيقة فيه، ولا نسلم أنه رفع بالنسبة إلينا بل هو بيان بالنسبة إلينا أيضا إذ نعلم به أن الحكم كان مؤقتا، وأن الاستمرار الذي توسمناه غير مطابق لما في الواقع وإذا كان العباد محتاجين إلى البيان فجعله بيانا بالنسبة إليهم هو المناسب لكن بالنسبة إليهم بمعنى الظهور وهو لا ينافي كونه بيانا بالنسبة إلى الشارع بمعنى الإظهار لهم لما يجهلونه وإظهار المجهول لمن لا علم له إنما يتحقق من العالم به وليس المراد بكونه إظهارا وبيانا بالنسبة إلى الشارع إظهار الشيء لنفسه بعد ما لم يكن ظاهرا حتى ينافي كون الأشياء معلومة له انتهى قلت: ثم هذا كما يفيد جواز تعريفه(5/112)
ص -56-…بكل من جهتي البيان والرفع يفيد ترجيح تعريفه من جهة البيان على تعريفه من جهة الرفع، وعليه مشى الإمامان الرازيان وأبو منصور الماتريدي وإمام الحرمين والإسفراييني ونسب إلى أكثر العلماء وعكس السبكي فرجح الرفع لشموله النسخ قبل التمكن وفي هذا الترجيح تأمل وعليه مشى القاضي والغزالي والآمدي وابن الحاجب، ثم ظاهر قول المصنف "وذكرهم" أي بعض الفقهاء "الانتهاء دون الرفع إن كان لظهور فساده" أي ذكر الرفع "إذ لا يرتفع القديم لم يفد؛ لأنه" أي الرفع "لازم الانتهاء" فإنه إذا انتهى ارتفع، وإذا كان القديم لا يرتفع فكذا لا ينتهي أيضا وحيث كان المراد بانتهاء تعلقه فكذا المراد برفعه رفع تعلقه فلا محذور كما سلف في صدر الكلام فيه "وإن" كان "لاتفاق اختيارهم عبارة أخرى" تفيد الرفع "فلا بأس" إذ لا حجر في ذلك يشير إلى أن الخلاف لفظي وظاهر كلام الرازي، ثم السبكي يفيد أنه معنوي بناء على ما قدمناه عنه آنفا وأفاده القاضي أيضا لكن جعل ثمرته جواز نسخ الخبر وعدم جوازه كما سنذكره عنه في مسألة نسخ الخبر. وقد يقال: لا خفاء في اتفاق القولين على أن الحكم الأول انعدم تعلقه لا ذاته وأن الخطاب الثاني هو الذي حقق زوال تعلق الأول وإنما اختلفا في أن يقال: الرافع هو الثاني حتى لو لم يجئ لبقي الأول أو أن للأول غاية لا نعلمها فلما جاء الدليل بين انتهاءها حتى لو لم يجئ كان الحكم للأول وإن لم نعلمه فيتخلص الفرق بينها إلى أنه زال به أو عنده لا به ولكن لم نعلم الزوال إلا به وغير خاف أن هذا الاختلاف لا ثمرة له في الأحكام التكليفية فلا يوجب كونه معنويا والله سبحانه وتعالى أعلم.
مسألة(5/113)
"أجمع أهل الشرائع على جوازه" أي النسخ عقلا "ووقوعه" سمعا "وخالف غير العيسوية من اليهود في جوازه ففرقة" وهم الشمعونية منهم ذهبوا إلى امتناعه "عقلا" وسمعا "وفرقة" وهم العنانية منهم ذهبوا إلى امتناعه "سمعا" أي نصا لا عقلا واعترف بجوازه عقلا وسمعا العيسوية منهم وهم أصحاب أبي عيسى الأصفهاني المعترفون ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى بني إسماعيل خاصة وهم العرب لا إلى الأمم كافة "و" خالف "أبو مسلم الأصفهاني" المعتزلي الملقب بالحافظ واسمه محمد بن بحر وقيل: ابن عمر وقيل: هو عمر بن يحيى وهو معروف بالعلم ذو تأليفات كثيرة ما بين تفسير وغيره "في وقوعه في شريعة واحدة" وفي القرآن كذا في كشف البزدوي وحكى الإمام الرازي وأتباعه إنكاره نسخ شيء من القرآن؛ لأنه تعالى وصف كتابه بأنه {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} فلو نسخ بعضه لبطل وأجاب البيضاوي وغيره بأن الضمير لمجموع القرآن وهو لا ينسخ اتفاقا. وأجاب في المحصول بأن معناه لم يتقدمه من الكتب ما يبطله ولا يأتي بعده ما يبطله وأجاب آخرون بأنا لا نسلم أن النسخ إبطال سلمنا أنه أبطال لكنا نمنع أن هذا الإبطال باطل بل هو حق من حق {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} وسيتلى عليك ما يقطع بحقيقة ويقطع دابر الإنكار وحكى الآمدي وابن الحاجب إنكاره ووقوع النسخ مطلقا وقيل: لم ينكر وقوعه وإنما سماه تخصيصا؛ لأنه قصر للحكم على بعض الأزمان فهو كالتخصيص في الأعيان ويؤيده نص غير واحد على أن(5/114)
ص -57-…الخلاف بيننا وبينه لفظي إذا لا يتصور من المسلم إنكاره لكونه من ضروريات الدين ضرورة ثبوت نسخ بعض أحكام الشرائع السابقة بالأدلة القاطعة على حقية شريعتنا ونسخ بعض أحكام شريعتنا بالأدلة القاطعة من شريعتنا، والحاصل أنه ينازع في الارتفاع ويزعم أن كل منسوخ بالإسلام أو في الإسلام هو في علم الله مغيا إلى ورود الناسخ كالمغيا في اللفظ وأنه لا فرق عنده بين أن يقول: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} إلى الليل وبين أن يقول صوموا مطلقا وعلمه محيط بأنه سينزل ولا تصوموا الليل ومن هنا نشأ تسميته تخصيصا وصح أنه لم يخالف في وقوعه أحد من المسلمين "لنا لا يلزم قطعا منه" من النسخ "محال عقلي" أي محال لذاته فإن فرض المسألة ليس فيها حسن لذاته ولا قبح لذاته لما حسن لغيره وقبح لغيره وحينئذ فنقول "إن لم تعتبر المصالح" أي رعاية جلب نفع العباد ودفع ضرهم في التكاليف "فظاهر" عدم لزومه؛ لأن المقصود من التكاليف حينئذ ليس إلا الابتلاء والله يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد من غير اعتبار مصلحة في حكمه. "وإن" اعتبرت المصالح فيها كقول المعتزلة فكذلك إذ كما قال "فلاختلافها" أي المصالح "بالأوقات" باختلافها كشرب الدواء فإنه قد يكون نافعا في وقت دون وقت "فيختلف حسن الشيء وقبحه" باختلاف الأوقات فربما كان الشيء حسنا في وقت قبيحا في آخر "والأحوال" أي وباختلاف الأحوال كشرب الدواء أيضا فإنه قد يكون نافعا في حالة دون حالة فربما كان الشيء حسنا في حالة قبيحا في أخرى والأعيان فربما قبح الشيء من إنسان وحسن من إنسان كشرب الدواء أيضا فإنه ربما نفع إنسانا وضر لإنسان وكيف لا والشرع للأديان كالطبيب للأبدان "فبطل قولهم" أي مانعي جوازه عقلا "النهي يقتضي القبح والوجوب الحسن فلو صح" كون الفعل الواحد منهيا عنه مأمورا به "حسن وقبح" وهو محال لاستحالة اجتماع الضدين ووجه بطلانه ظاهر في فرض المسألة فلا اجتماع للحسن والقبح للشيء الواحد في وقت(5/115)
واحد فلا استحالة "ولأنه" أي نسخ الله تعالى الحكم "إن" كان "لحكمة ظهرت" له تعالى "بعد عدمه" أي عدم ظهورها عند شرع ذلك الحكم "فبداء" بالمد أي ظهور بعد الخفاء وهو على الله تعالى محال لاستلزامه العلم بعد الجهل وهو نقص لا يحوم حول جنابه المقدس، وكيف والأدلة القطعية العقلية والنقلية دالة على أنه تعالى عالم بالأشياء كلها على ما هي عليه أزلا وأبدا {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [يونس: 61] "أو لا" لحكمة ظهرت له تعالى "وهو" أي ما لا يكون لحكمة "العبث" إذ هو فعل الشيء لا لغرض صحيح وهو على الله تعالى محال أيضا؛ لأنه علامة الجهل ومناف للحكمة وهو العليم الحكيم. "وإنما يكون" كل من هذين لازما "لو نسخ ما حسن" لنفسه "وقبح لنفسه كالإيمان والكفر" وقد ذكرنا أن فرض المسألة ليس في ذلك بل فيما حسن وقبح لغيره، ثم هذا عند غير الأشاعرة "أما الأشاعرة فيمنعون وجوده" أي ما حسن لنفسه وقبح لنفسه كما تقدم فإبطال هذا الاحتجاج على رأيهم أظهر "وأما الوقوع ففي التوراة أمر آدم بتزويج بناته من بنيه" كما ذكره الجم الغفير وقال التفتازاني يعني ورد في التوراة بلفظ الإطلاق، بل العموم لكن عن سبيل التوزيع من غير تخصيص بالبنات والبنين وفي زمانه(5/116)
ص -58-…ولا تقييد بوقت دون وقت، والاحتمالات التي لم تنشأ عن دليل ينفيها ظاهر الدليل لكونها منفية على أن الطبري أخرج عن ابن عباس وابن مسعود وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يولد لآدم غلام إلا ولدت معه جارية فكان يزوج توأمة هذا للآخر وتوأمة الآخر لهذا فساق القصة بطولها قال شيخنا الحافظ وقد وقعت لنا من وجه آخر موصولا إلى ابن عباس فساقه بسنده إليه قال كان آدم عليه السلام نهي أن ينكح ابنته توأمها وأن يزوج توأمة هذا الولد آخر وأن يزوجه توأمة الآخر، ثم قال وهذا أقوى ما وقفت عليه من أسانيد هذه القصة، ورجاله رجال الصحيح إلا عن عبد الله بن عثمان بن خيثم فإن مسلما أخرج له في المتابعات وعلق له البخاري شيئا ووثقه الجمهور ولينه بعضهم قليلا وقد حرم ذلك في شريعة من بعده من الأنبياء اتفاقا وهذا هو النسخ "وفي السفر الأول" من التوراة "قال تعالى لنوح" عند خروجه من الفلك "إني جعلت كل دابة حية مأكلا لك ولذريتك" وأطلقت ذلك أي أبحت ذلك كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه "ثم حرم منها" أي من الدواب على من بعده "على لسان موسى كثير" منها كما اشتمل عليه السفر الثالث من التوراة وهذا نسخ ظاهر "وأما الاستدلال" عليهم "بتحريم السبت" أي العمل الدنيوي كالاصطياد فيه في شريعة موسى عليه السلام "بعد إباحته" قبل موسى عليه السلام "ووجوب الختان عندهم" أي اليهود "يوم الولادة" وقيل: في ثامن يومها "بعد إباحته في ملة يعقوب" أو في شريعة إبراهيم عليهما السلام في أي وقت أراد المكلف في الصغر والكبر، وإباحة الجمع بين الأختين في شريعة يعقوب وتحريمه عند اليهود وكل ذلك نسخ "فيدفع بأن رفع الإباحة الأصلية ليس نسخا" وإباحة هذه الأمور كانت بأصل فلا يكون رفعها نسخا.(5/117)
"والحكم بالإباحة وإن كان حكما بتحقيق كلمته النفسية وهي" أي كلمته النفسية هي "الحكم لكن" الحكم "الشرعي أخص منه" أي من الحكم بالإباحة الأصلية "وهو" أي الحكم الشرعي "ما علق به خطاب في شريعة" على أنه كما قال الشيخ سراج الدين ويمكن أن يقال: لما تقررت تلك الإباحات في تلك الشرائع صارت بحكم تقرير أنبيائها من حكم شرائعهم فيكون رفعها رفع حكم شرعي فيكون نسخا وأيضا كما قال المصنف "وبعض الحنفية التزموه" أي رفع الإباحة الأصلية "نسخا؛ لأن الخلق لم يتركوا سدى" أي مهملين غير مأمورين ولا منهيين "في وقت" من الأوقات كما مشى عليه في كشف البزدوي وغيره بل كلامهم يفيد أنه المذهب حيث قالوا: رفع الإباحة الأصلية نسخ عندنا "فلا إباحة ولا تحريم قط إلا بشرع فما يذكر من حال الأشياء قبل الشرع فرض وأما" النسخ "في شريعة" واحدة "فوجوب التوجه إلى البيت" أي الكعبة المشرفة بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] بعد أن كان التوجه إلى بيت المقدس كما في الصحيحين وغيرهما "ونسخ الوصية للوالدين" الثانية بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180] كما في صحيح البخاري عن ابن عباس كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل(5/118)
ص -59-…حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس وإنما الكلام في الناسخ ما هو وسيأتي في مسألة نسخ السنة بالقرآن "وكثير" وستقف على كثير منه فالحق أنه "لا ينكره إلا مكابر أو جاهل بالوقائع" قال "المانعون سمعا لو نسخت شريعة موسى لبطل قوله هذه شريعة مؤبدة ما دامت السموات والأرض" قالوا والتالي باطل؛ لأنه متواتر فالمقدم مثله "أجيب بمنع أنه" أي هذا القول "قاله" بل هو مختلف فضلا عن كونه متواترا وكونه فيما بأيديهم الآن من التوراة لا ينافي كونه مختلفا؛ لأنه ليس بأول كذب انتحلوه فيها وقد ذكر غير واحد أنه قيل أول من اختلقه لليهود ابن الراوندي ليعارض به دعوى رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن صاحب هذا الاختلاق إن مات عليه فليس له في الآخرة من خلاق "وإلا" لو قاله "لقضت العادة بمحاجتهم" أي اليهود "به" أي بهذا القول للنبي صلى الله عليه وسلم لحرصهم على معارضته ودفع دعوى رسالته "وشهرته" أي ولقضت العادة بشهرة الحجاج به لو وقع الحجاج به؛ لأن الأمور الخطيرة لا يخفى وقوعها وتتوفر الدواعي على نقلها ولم ينقل محاجتهم به ولا اشتهر وقوع الحجاج به، ثم نمنع كونه متواترا عنه ولو زعموا أنه قاله من التوراة "لأنه لا تواتر في نقل التوراة الكائنة الآن لاتفاق أهل النقل على إحراق بخت نصر أسفارها و" أنه "لم يبق من يحفظها. وذكر أحبارهم أن عزيرا ألهمها فكتبها ودفعها إلى تلميذه ليقرأها عليهم" فأخذوها من التلميذ وبخبر الواحد لا يثبت التواتر وبعضهم زعم أن التلميذ زاد فيها ونقص فكيف يوثق بما هذا سبيله "ولذا لم تزل نسخها الثلاث" التي بأيدي العنانية والتي بأيدي السامرية والتي بأيدي النصارى "مختلفة في أعمار الدنيا" وأهلها ففي نسخة السامرية زيادة ألف سنة وكسر على ما في نسخة العنانية وفي التي في أيدي النصارى زيادة ألف وثلثمائة سنة وفيها الوعد بخروج المسيح وبخروج العربي صاحب الجمل وارتفاع تحريم السبت عند(5/119)
خروجهما كذا ذكره غير واحد من مشايخنا. وفي تتمة المختصر في أخبار البشر للشيخ زين الدين عمر بن الوردي ما ملخصه نسخ التوراة ثلاثة: السامرية والعبرانية وهي التي بأيدي اليهود إلى زماننا وعليها اعتمادهم وكلتاهما فاسدة لإنباء السامرية بأن من هبوط آدم عليه السلام إلى الطوفان ألفي سنة وثلثمائة وسبع سنين وكان الطوفان لستمائة خلت من عمر نوح عليه السلام وعاش آدم تسعمائة وثلاثين سنة باتفاق فيكون نوح على حكم هذه التوراة أدرك جميع آبائه إلى آدم ومن عمر آدم فوق مائتي سنة وهو باطل باتفاق ولإنباء العبرانية بأن بين هبوط آدم والطوفان ألفي سنة وخمسمائة وستا وخمسين سنة وبين الطوفان وولادة إبراهيم عليه السلام مائتي سنة واثنين وتسعين سنة وعاش نوح بعد الطوفان ثلثمائة سنة باتفاق فيكون نوح أدرك من عمر إبراهيم ثمانيا وخمسين سنة وهذا باطل باتفاق؛ لأن قوم هود أمة نجت بعد قوم نوح وأمة صالح نجت بعد أمة هود وإبراهيم وأمته بعد أمة صالح بدليل قوله تعالى: خبرا عن هود فيما يعظ به قومه وهم عاد :{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [الأعراف: 69] وقوله تعالى: خبرا عن صالح فيما يعظ به قومه وهم ثمود {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} [الأعراف: 74] والنسخة الثالثة اليونانية وذكر أنها(5/120)
ص -60-…اختارها محققو المؤرخين وأنه ليس فيها ما يقتضي الإنكار على الماضي من عمر الزمان وهي توراة نقلها اثنان وسبعون حبرا قبل ولادة المسيح بقريب ثلثمائة سنة لبطليموس اليوناني بعد الإسكندر قلت وهذه، وإن كانت بهذه المثابة فلم يثبت تواترها ولا اشتمالها على هذا وقال الطوفي والمختار في الجواب إن في التوراة نصوصا كثيرة وردت مؤبدة، ثم تبين أن المراد بها التوقيت بمدة مقدرة كقوله إذا خربت صور لا تعمر أبدا، ثم إنها عمرت بعد خمسين سنة ومنها إذا خدم العبد سبع سنين أعتق فإن لم يقبل العتق استخدم أبدا، ثم أمر بعتقه بعد مدة معينة سبعين سنة أو غيرها وإذا جاز في هذه النصوص المؤبدة أن يراد بها التوقيت فلم لا يجوز في نص موسى على تأبيد شريعته وإلا فما الفرق قلت: على أن الذي في شرح تنقيح المحصول؛ ولأن لفظ الأبد منقول في التوراة وهو على خلاف ظاهره قال في العبد يستخدم ست سنين، ثم يعتق في السابعة فإن أبى العتق فليثقب أذنه وليستخدم أبدا مع تعذر الاستخدام أبدا بل العمر أبدا فأطلق الأبد على العمر فقط انتهى، وكذا في جامع الأسرار وزاد، ثم قال في موضع آخر يستخدم خمس سنين، ثم يعتق في تلك السنة وهذا اضطراب في التوراة بالنسبة إلى خصوص هذا الفرع أيضا وهو مما يدل على تبديلهم وتحريفهم كما صرح القرآن به.(5/121)
هذا وقد عرفت أن مانعي جوازه سمعا فريقان: من لا يمنعه عقلا: ومن يمنعه عقلا أيضا فقد اجتمعا في الوجه السمعي المذكور وانفرد مانعوه سمعا وعقلا بوجوه عقلية منها ما تقدم ومنها ما أشار إليه بقوله "قالوا" أي مانعوا جوازه سمعا وعقلا وإنما لم يفصح بهم هكذا لإرشاد المقول إليهم فإنه وجه عقلي وهو الحكم "الأول إما مقيد بغاية" أي بوقت محدود معين "فالمستقبل" أي فالحكم الذي بخلاف الأول المذكور "بعده" أي بعد الحكم الأول كمن يقول: صم إلى الغد، ثم يقول في الغد لا تصم "ليس نسخا" للأول "إذ ليس رفعا" للأول قطعا بل الحكم الأول انتهى بنفسه بانتهاء وقته المعين "أو" مقيد "بتأبيد فلا رفع" أيضا فيه "للتناقض" على تقدير الرفع؛ لأنه يلزم منه الإخبار بتأبيد الحكم وبنفي تأبيده، والتناقض عليه تعالى باطل؛ لأنه أمارة العجز عن إيراد ما لا تناقض فيه ومستلزم للكذب وهو محال أيضا في كلام العالم القادر الصادق فلا نسخ "ولتأديته" أي جواز نسخه أيضا "إلى تعذر الإخبار به" أي بالتأبيد بوجه من الوجوه إذ ما من عبارة تذكر له إلا ويقبل النسخ واللازم باطل بالاتفاق؛ لأنه مقدور له غير متعذر عليه بلا نزاع وكيف لا ونحن نعلم بالضرورة أن ذلك كسائر المعاني الذهنية يمكن التعبير عنه والإخبار به "و" إلى "نفي الوثوق" بتأبيد حكم ما أيضا "فلا يجزم به" أي بالتأبيد في أحكام نطق دين الإسلام بتأبيدها أعني "في نحو الصلاة" أي فرضيتها وفرضية الصوم إلى غير ذلك بل "وشريعتكم" أي ولا نجزم بتأبيدها أيضا بل تجوز نسخها إذ لا مانع منه غير النص الصريح عندكم بتأبيدها وحيث لم يكن التأبيد مانعا من قبول النسخ جاز نسخها لكن جواز نسخها باطل عندكم "الجواب إن عني بالتأبيد إطلاقه" أي الحكم عن التوقيت والتأبيد "فلا يمتنع" جواز نسخه "إذ لا دلالة لفظية عليه" أي امتناع جواز نسخه فإن التوقيت والتأبيد والبقاء والاستمرار غير داخل في المطلق وبقاء التعلق والوجوب(5/122)
ص -61-…وعدم بقائهما غير مستفاد من الصيغة "بل إنه" أي النسخ "مشروع" فيما هذا شأنه "أو" عني بالتأبيد "صريحه" أي التأبيد "فكذلك" أي لا امتناع لنسخه "إن جعل" التأبيد "قيدا للفعل الواجب" إذ لا تناقض بين دوام الفعل وعدم دوام الحكم المتعلق به ك صم رمضان أبدا فإن التأبيد قيد للصوم الذي هو الفعل الواجب لا لإيجابه على المكلف؛ لأن الفعل إنما يعمل بمادته لا بهيئته ودلالة الأمر على الوجوب بالهيئة لا بالمادة فيكون الرمضانات كلها متعلق الوجوب من غير تقييد للوجوب بالاستمرار إلى الأبد فلم يكن رفع الوجوب وهو عدم استمراره مناقضا للوجوب في الجملة كما في صم رمضان فإن جميع الرمضانات داخلة في هذا الخطاب وإذا مات انقطع الوجوب قطعا، ولم يكن نفيا لتعلق الوجوب بشيء من الرمضانات وتناول الخطاب له "لا" إن جعل قيدا في "وجوبه" أي وجوب الفعل الواجب نفسه وهو الحكم بأن يخبر أن الوجوب ثابت أبدا، ثم ينسخ حتى يأتي زمان لا وجوب فيه على أنه كما قال "وإن لزم" صريح التأبيد "قيدا له" أي الحكم "فمختلف" في جواز نسخه فمنهم من أجازه أيضا ومنهم من منعه كما سيأتي بيانه، ثم كما قال أيضا "ولا يفيد" هذا الترديد منع جواز النسخ مطلقا "لجوازه" أي النسخ "بما تقدم" من الدليل الدال على جوازه، ثم وقوعه فالتشكيك فيه سفسطة. "وتسليم كون الحكم المقيد" بالتأبيد "صريحا لا يجوز نسخه لا يفيدهم" أي مانعي جواز النسخ مطلقا "النفي الكلي" لجواز النسخ "الذي هو مطلوبهم مع أن الحكم المقيد بالتأبيد أقل من القليل قالوا" أي مانعوا جوازه سمعا وعقلا؛ ولما ذكرنا "أيضا" آنفا "لو رفع" تعلق الحكم "فإما" أن يكون رفعه "قبل وجوده" أي الفعل "فلا ارتفاع" له؛ لأن ارتفاعه يقتضي سابقة وجوده؛ لأن العدم الأصلي لا يكون ارتفاعا والفرض أنه لم يوجد "أو" يكون رفعه "بعده" أي الفعل "أو" يكون رفعه "معه" أي الفعل "فيستحيل" رفعه أيضا لاستحالة رفع ما وجد وانقضى؛ لأن ارتفاع(5/123)
المعدوم محال ولاستحالة رفع الشيء حال وجوده للزوم اجتماع النفي والإثبات فيوجد حين لا يوجد وأنه مستحيل "ولأنه تعالى: إما عالم باستمراره" أي بدوام الحكم المنسوخ "أبدا فظاهر" أنه لا نسخ وإلا يلزم وقوع خلاف علم الله وهو محال؛ لأنه جهل والبارئ تعالى منزه عنه "أو لا" يعلم استمراره أبدا "فهو" أي الحكم المنسوخ "في علمه مؤقت فينتهي" الحكم "عنده" أي ذلك الوقت "والقول الذي ينفيه" أي ذلك الحكم بعد ذلك الوقت "ليس رفعا" لحكم ثابت فلا يكون نسخا "والجواب عن الأول" وهو "أنه" لو رفع فإما قبل وجوده إلخ "ترديد في الفعل" وليس محل النزاع "لا" في "الحكم" وهو محل النزاع إذ النسخ ارتفاع الحكم لا الفعل ولا يلزم من بطلان ارتفاع الفعل ارتفاع الحكم "ولو أجرى" الترديد "فيه" أي في الحكم "قلنا المراد" بالنسخ "انقطاع تعلقه" أي الحكم وانقطاع استمراره ومعناه إن وجد التعلق بالفعل الذي في الزمان الأول لم يوجد التعلق بالفعل الذي في الزمان الثاني فارتفع وانقطع الاستمرار الذي كان يتحقق لولا الناسخ "كما قدمناه في التعريف"، وإن كان الحكم أزليا لا يرتفع لا أن الفعل ارتفع "ونختار علمه" أي أنه تعالى على استمرار الحكم المنسوخ "مؤقت" أي إلى الوقت الذي علم أنه ينسخه فيه(5/124)
ص -62-…"ويتضمن" علمه به مؤقتا "علمه بالوقت الذي ينسخه فيه" وعلمه بارتفاعه بنسخه فيه لا يمنع النسخ بل يثبته ويحققه "فكيف ينافيه".
مسألة
"الاتفاق على جواز النسخ" للحكم المتعلق بالفعل "بعد التمكن" من الفعل بعد علمه بتكلفه به "بمضي ما يسع" الفعل "ومن الوقت المعين له" أي للفعل "شرعا إلا ما عن الكرخي" من أنه لا يجوز إلا بعد حقيقة الفعل سواء مضى من الوقت ما يسع الفعل أو لا "واختلف فيه" أي في النسخ "قبله" أي التمكن من الفعل "بكونه" أي النسخ "قبل" دخول "الوقت" المعين للفعل "أو بعده" أي بعد دخول الوقت المعين له "قبل" مضي "ما يسع" الفعل منه سواء "شرع" في الفعل "أو لا" أي أو لم يشرع فيه، وفي هذا تعريض بنفي تعيين ابن الحاجب وغيره كون الخلاف قبل وقت الفعل ولذا قال في التصوير قبل دخول عرفة، ولم يزد عليه لكن الحق ما ذكره المصنف والمثال الواضح "كصم غدا ورفع" وجوب صومه "قبله" أي الغد "أو" رفع "فيه" أي في الغد "وإن شرع" في صومه بعد أن يكون "قبل التمام" لصيامه "فالجمهور من الحنفية وغيرهم" منهم الشافعية والأشاعرة قالوا "نعم" يجوز نسخه "بعد التمكن من الاعتقاد" بالقلب لحقيته "وجمهور المعتزلة وبعض الحنابلة والكرخي" والجصاص والماتريدي والدبوسي "والصيرفي لا" يجوز وإن كان بعد التمكن من الاعتقاد فيتلخص أن محل الخلاف ما إذا مضى ما لا يسع الفعل وحصل التمكن من عقد القلب قال المصنف وقد يظهر من بعض الأدلة ما يفيد أنهم يمنعونه قبل نفس الفعل كما في ابن الحاجب إذ قال: ولنا أن كل نسخ قبل الفعل وقد اعترفتم بثبوته فليلزمكم قبل الفعل وهذا مع تهافته يفيد أنهم يمنعونه قبل حقيقة الفعل، وليس كذلك للاتفاق المحكي في أول المسألة إلا ما عن الكرخي وصرح صاحب الكشف فقال: وعندهم هو أن النسخ بيان مدة العمل بالبدن وذلك لا يتحقق إلا بعد الفعل أو التمكن منه؛ لأن الترك بعد التمكن منه تفريط من العبد فلا ينعدم به معنى بيان مدة(5/125)
العمل بالنسخ انتهى. فكل ما يفيد خلافه تساهل "لنا: لا مانع عقلي ولا شرعي" من ذلك "فجاز ونسخ خمسين" من الصلوات في اليوم والليلة بفرض خمس كذا ذكر جماعة منهم ابن بطال والشيخ سراج الدين الهندي والشيخ قوام الدين الكاكي والأظهر كما قال فخر الإسلام وغيره نسخ ما زاد على الخمس فإن ظاهر الأحاديث الصحيحة تفيد نسخ خمس وأربعين منها واستمرار خمس، ثم قوله "في" ليلة "الإسراء" إن كان المراد به المعراج إلى السماء، ثم إلى ما شاء الله تعالى فظاهر، وإن كان المراد به الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فهو بناء على أنها ليلة المعراج أيضا وأنهما كانا يقظة كما هو المشهور عند الجمهور وإلا فليس ذلك في ليلة الإسراء بل في ليلة المعراج ومن ثمة قال فخر الإسلام وغيره هي ليلة المعراج "وإنكار المعتزلة إياه" أي نسخ الخمسين أو ما زاد على الخمس في الليلة المذكورة بعد وجوبها، وكذا إنكار جمهورهم المعراج "مردود بصحة النقل" لذلك كما في الصحيحين وغيرهما مع عدم إحالة العقل له فإنكاره بدعة ضلالة وأما إنكار الإسراء من(5/126)
ص -63-…المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فكفر، ثم قولهم هذا يقتضي جواز النسخ قبل التمكن من الاعتقاد أيضا؛ لأن الأمر بخمسين صلاة كان للأمة ولو يوجد تمكنهم من الاعتقاد إذ لا يتصور قبل العلم دفع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المكلفين بها، وهو الأصل في الشريعة، والأمة تابعة له وقد علم واعتقد على أنه كما قال صدر الإسلام ظهر بالنسخ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو المقصود بالأمر بخمسين صلاة دون أمته وإن كان الأمر في الابتداء متناولا له ولهم فإن قيل ظاهر المروي أن أمته كانوا مأمورين بها أيضا فكيف يستقيم هذا أجيب بأن الله تعالى يبتلي عباده بما شاء فإذا نسخ المأمور قبل التمكن من عمله للجميع ومن الاعتقاد للأمة ظهر أن الابتلاء كان بالاعتقاد والقبول من النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه ولأمته ولا بدع في ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم يبتلى بأمته كما يبتلى لنفسه فإنه في الشفقة في حق أمته كالأب في حق ولده، والأب يبتلى بولده كما يبتلى بنفسه فلم يوجد النسخ إلا بعد التمكن من الاعتقاد والقبول، ثم الابتلاء بهما كالابتلاء بالفعل بل أولى حتى كان القبول إيمانا، والفعل خدمة ومعلوم أن الإيمان رأس الطاعات ورأس العبادات.(5/127)
"وقولهم" أي المانعين "لا فائدة" حينئذ في التكليف بالفعل؛ لأن العمل بالبدن هو المقصود من شرع الأحكام إذ به يتحقق الابتلاء، ألا ترى أن الأمر والنهي يدلان على وجوب نفس العمل لا على العزم، والعقد "منتف بأنها" أي الفائدة في التكليف حينئذ "الابتلاء للعزم" على الفعل إذا حضر وقته وتهيئة أسبابه وإظهار الطاعة من نفسه "ووجوب الاعتقاد" لحقيته ولا نسلم أن العمل وحده هو المقصود بل عقد القلب مقصود أيضا وكيف والطاعة لا تتصور بدونه حتى لو فعل المأمور به، ولم يعتقد وجوبه لا يصح فعله وعزيمة القلب قد تصير قربة بلا فعل؛ لأنه يحصل له الثواب بمجرد نية الخير كما دل عليه ما في صحيح البخاري وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم "فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة" إلى غير ذلك والإنسان إذا تمكن من التصديق القلبي فأتى به، ولم يتمكن من الإقرار اللساني كان إيمانا صحيحا بالإجماع بل الفعل باحتمال السقوط فوق العزيمة القلبية؛ لأن الفعل يسقط بعذر الإغماء وغيره والتصديق لا يحتمل السقوط أصلا فإذن اعتبار التمكن من عزيمة القلب في تحقيق معنى الابتلاء أولى من اعتبار التمكن من الفعل ويتحرر أن حكم النسخ بيان لمدة عمل القلب والبدن جميعا تارة ولمدة عمل القلب وحده تارة، وإن الشرط التمكن من الأمر الأصلي الذي لا يحتمل السقوط وهو عمل القلب الذي هو رئيس الأعضاء إذ ابتلاؤه هو المقصود الأعظم فكان لازما على كل تقدير وأما التمكن من العمل فمن الزوائد التي لا تحتمل السقوط فيحتمل أن يكون النسخ بيانا لمدته ويحتمل أن لا يكون وكون المقصود العمل لا غير إنما هو من أوامر العباد؛ لأنها لجر النفع لا للابتلاء وذا يحصل بالفعل لا بالاعتقاد.
"وأما إلحاقه" أي جواز النسخ قبل التمكن من الفعل "بالرفع" أي رفع الحكم "للموت"(5/128)
ص -64-…أي لموت المكلف قبل التمكن من فعل ما كلف به فكما أن هذا لا يعد تناقضا فكذا النسخ قبل التمكن من الفعل بجامع استوائهما في انقطاع تعلق الخطاب بهما كما أشار إليه ابن الحاجب وصاحب البديع "وما قيل: كل رفع قبل" وقت "الفعل" كما قدمناه عن ابن الحاجب وهو في البديع أيضا "فليسا بشيء لتقييد الأول" أي الرفع بالموت "عقلا" أي بالعقل إذ العقل قاض بأنه لا تكليف للميت فلم يوجد الجامع بينهما؛ لأن الرفع بالموت بالعقل لا بدليل شرعي والكلام إنما هو في الرفع بالدليل الشرعي "لا ما قيل: من منع تكليف المعلوم موته قبل التمكن" من الفعل "ليدفع بأنه إجماع" أو لزام للمعتزلة حيث قالوا بالتكليف قبل الفعل من غير التفرقة بين من علم الله أنه يموت أو لا يموت كما ذكره التفتازاني "والثاني" أي كل رفع قبل وقت الفعل "في غير النزاع؛ لأنه" أي قائله "يريد" أي بالوقت "وقت المباشرة" لا للفعل لما ذكرنا سالفا "والنزاع" ليس فيه في الجملة بل النزاع إنما هو رفع التكليف بالفعل "في وقته" أي الفعل "الذي حد له" أي للفعل شرعا قبل مضي زمن منه يسع الفعل وفيما قبل حضور الوقت المقدر للفعل شرعا "واستدل" للمختار "بقصة إبراهيم عليه السلام أمر" بذبح ولده فأفاد وجوبه عليه "ثم ترك" إبراهيم عليه السلام ذبحه "فلو" كان تركه له مع التمكن منه "بلا نسخ" لوجوبه "عصى" بتركه لكنه لم يعص إجماعا فتعين أن تركه له كان لنسخ وجوبه قبل التمكن منه "وأجيب بمنع وجوب الذبح" عن أمر له به "بل" رأى "رؤيا فظنه" أي الوجوب ثابتا له بدليل قوله: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} فنسبه إلى المنام "وما تؤمر" أي وقول ولده له {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} "يدفعه" أي منع وجوب الذبح لانصرافه ظاهرا إلى أنه مأمور به إذ لا مذكور غيره فإن قيل تؤمر مضارع فلا يعود إلى ما مضى في المنام أجيب يجب الحمل عليه ضرورة إقدامه على الذبح بتهيئة أسبابه "مع" لزوم "الإقدام على ما(5/129)
يحرم" من قصد الذبح وترويع الولد "لولاه" أي الوجوب بالأمر وإلا لكان ممتنعا شرعا وعادة على أن منام الأنبياء عليهم السلام فيما يتعلق بالأمر والنهي وحي معمول به "وعلى أصلهم" أي ويدفع هذا الجواب على أصل المعتزلة أن الأحكام ثابتة عقلا والشرع كاشف عنها ويجب عليه إنزال الكتب وإرسال الرسل وتمكين المكلفين من فهم ما أنزل إليهم لينكشف لهم أن إراءة إبراهيم عليه السلام ما يوهم أنه أمر وليس بأمر "توريط له" أي إيقاع لإبراهيم "في الجهل فيمتنع" بل لا يجوز لآحاد المكلفين فكيف لإبراهيم صلى الله عليه وسلم "وقولهم" أي المعتزلة "جاز التأخير" للذبح من غير لزوم عصيان "لأنه" أي وجوبه "موسع" فيحصل التمكن منه؛ لأنه أدرك الوقت فلا يكون نسخا قبل التمكن بل بعده "فيه" أي في قولهم هذا "المطلوب" وهو النسخ قبل التمكن من الفعل "لتعلقه" أي الوجوب حينئذ "بالمستقبل"؛ لأن الأمر باق على المكلف قطعا في الوقت الموسع إذا لم يأت بالمأمور به فإذا نسخ عنه فقد نسخ تعلق الوجوب بالمستقبل "وهو" أي تعلق الوجوب بالمستقبل هو "المانع عندهم" أي المعتزلة من النسخ لاشتراطهم في تحقيق النسخ كون المنسوخ واجبا في وقته وتعلق الوجوب في المستقبل ينافيه وستقف قريبا على ما في إطلاقه وأنه لا يتم في هذا "لكن نقل المحققون" كالحنفية "عنهم" أي المعتزلة "أنه" أي النسخ(5/130)
ص -65-…"بيان مدة العمل بالبدن فلا يتحقق" النسخ "إلا بعد التمكن" من العمل بالبدن "المقصود الأصلي" من شرع الأحكام "لا العزم" على العمل "ومعه" أي التمكن من العمل "يجوز" النسخ وإن لم يعمل "لأن الثابت" حينئذ من المكلف "تفريط المكلف" في ذلك بالترك له "وليس" تفريطه "مانعا" من النسخ "وهذا" أي التمكن من العمل "متحقق في الموسع" فيجوز فيه النسخ عندهم "ودفعه" أي جواز النسخ عندهم في الموسع "بتعلق الوجوب بالمستقبل في الموسع" فلا يتحقق شرط النسخ عندهم فيه كما ذكرنا "إنما يصدق في المضيق" قبل وقته المقدر له شرعا "وإلا فقد يثبت الوجوب" في الموسع "ولذا" أي لوجوبه "لو فعله" أي الواجب "سقط بخلاف ما" أي الفعل الذي "قبل الوجوب مطلقا" أي في المضيق والموسع لا يسقط به الواجب "ثم الجواب" عن قولهم المقصود الأصلي العمل بالبدن "أن ذلك" أي كونه مقصودا أصليا "لا يوجب الحصر" فيه كما أوضحناه قريبا "ومنعه" أي وجوب الذبح موسعا "بأنه" أي وجوب الذبح "لو كان" موسعا "لأخر" المكلف بفعله فعله "عادة في مثله" أي ذبح الولد إما رجاء أن ينسخ عنه أو يموت أحدهما فيسقط عنه لعظم الأمر "منتف؛ لأن عليه السلام يقتضي المبادرة" إلى امتثال الأمر "وإن كان ما كان" وكيف لا وهو خليل الرحمن "وقولهم" أي المانعين "فعل" أي ذبح و "لكن" كان كلما قطع شيئا "التحم" أي برأ واتصل ما تفرق عقيب القطع أي كان مأمورا ولكن بما هو مقدور له من فعله وهو إمرار السكين على الحلق والتحامل عليه وترتب عليه أثره من قطع الأوداج فحصل مطاوع الذبح لكن انعدم أثره وطرأ ضده عقبه ولهذا قيل له {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} ومدح على ذلك "دعوى مجردة" عن الثبوت "كذا" قولهم "منع" القطع "بصفيحة" من حديد أو نحاس خلقت على حلقه أي لم يترتب عليه أثر لوجود هذا المانع فلم يحصل مطاوع الذبح دعوى مجردة مع أن كلا خلاف العادة والظاهر، ولم ينقل نقلا معتبرا ولو صح لنقل واشتهر وكان من(5/131)
الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة ولا يدل عليه قد صدقت؛ لأن معناه - والله أعلم - أنك عملت في المقدمات عمل مصدق للرؤيا بقلبه قلت لكن يعكر هذا ما أخرج ابن أبي حاتم بسند رجاله موثقون عن السدي وهو إسماعيل بن عبد الرحمن تابعي صغير من رجال مسلم "لما أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه قال الغلام يا أبت اشدد علي رباطي لئلا أضطرب واكفف عني ثيابك لئلا ينضح عليك من دمي وأسرع السكين على حلقي ليكون أهون علي قال فأمر السكين على حلقه وهو يبكي فضرب الله على حلقه صفيحة من نحاس. قال فقلبه على وجهه وحز القفا فذلك قوله تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] فنودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فإذا الكبش فأخذه وذبحه وأقبل على ابنه يقبله ويقول يا بني اليوم وهبت لي" وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أمر السكين فانثنت مرة بعد أخرى فقال له الغلام اطعن بها طعنا فطعن بها فانقلبت فنودي حينئذ، ثم على هذا لا يتم قوله "مع أنه" أي الذبح على التقدير الثاني "حينئذ تكليف بما لا يطاق" لعدم قدرته حينئذ على حقيقة الذبح الذي هو قطع الحلق على وجه تبطل به الحياة والمعتزلة لا يجوزونه "ثم هو" أي هذا المنع "نسخ"(5/132)
ص -66-…للفعل الذي هو الذبح "أيضا قبل التمكن" منه وإلا أثم بتركه وهو باطل بالاتفاق أما الأول فلأنه إنما يكون تكليفا بما لا يطاق أن لو كان التكليف بحقيقة الذبح موجودا حالة قيام هذا المانع بحلقه ونحن لا نقول به بل نقول زال التكليف بحقيقة الذبح في هذه الحالة بالمانع المذكور، وأما الثاني فلأن المانع المذكور إنما يكون نسخا قبل التمكن من الفعل أن لو كان دليلا شرعيا لكنه ليس بدليل شرعي، نعم أجيب عن هذا بأن القائل بالنسخ لا يقول نسخ بالمانع المذكور بل بقوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] وإنما يذكر المانع المذكور لعدم التمكن من الذبح فيكون النسخ بالدليل المذكور قبل التمكن بالمانع لا بنفس المانع "وللحنفية" في جوابهم "منع النسخ والترك" للمأمور به "للفداء" أي لقوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] "وهو" أي الفداء "ما يقوم مقام الشيء في تلقي المكروه" المتوجه عليه ومنه فدتك نفسي أي قبلت ما يتوجه عليك من المكروه. وحاصل ما لهم كما قاله المصنف رحمه الله أن النسخ رفع الحكم، والولد ونحوه محل للفعل الذي هو متعلق الحكم فهو محل محل الحكم ومحل الحكم ليس داخلا في الحكم فضلا عن محل محله وإنما يتحقق نسخ الحكم برفعه لا بإبدال محله بل الإبدال يدل على بقاء الحكم غير أنه جعل محله فداء عوضا عن ذاك فإذن كما قال "فلو ارتفع" وجوب ذبح الولد "لم يفد" أي لم يقم غيره مقامه، ولم يسم فداء له، والتالي منتف ونظيره بقاء وجوب الصوم في حق الشيخ الفاني عند وجوب الفدية عليه وإلا لم تجب الفدية عليه فدل على أنه لم يتحقق ترك المأمور به حتى يلزم الإثم "وما قيل" من الإيراد على هذا "الأمر بذبحه" أي الفداء "بدلا هو النسخ" يعني جعل وجوب ذبح الفداء بدلا عن وجوب ذبح الولد وهذا نسخ ظاهر فجوابه هذا "موقوف على ثبوته" أي ثبوت رفع ذلك الوجوب المتعلق بذبح الولد وإثبات وجوب آخر لذبح الكبش(5/133)
"وهو" أي ثبوت هذا "منتف" ولا يلزم من مجرد إبدال المحل ذلك لا يقال إن لم يلزم ذلك من مجرد الإبدال فهو ظاهر فيه؛ لأنا نمنعه بل الإبدال كما جاز أن يكون مع إيجاب آخر جاز أن يكون مع الإيجاب الأول وإذا جاز وجب اعتباره مع الأول؛ لأنه اعتبار لا يؤدي إلى النسخ وكل اعتبار كذلك يترجح ما يؤدي إليه فتعين. ذكره المصنف وفي التلويح فإن. قيل: هب أن الخلف قام مقام الأصل لكنه استلزم حرمة الأصل أعني ذبح الولد وتحريم الشيء بعد وجوبه نسخ لا محالة فجوابه أنا لا نسلم كونه نسخا وإنما يلزم لو كان حكما شرعيا وهو ممنوع فإن حرمة ذبح الولد ثابتة في الأصل فزالت بالوجوب، ثم عادت بقيام الشاة مقام الولد فلا يكون حكمها شرعيا حتى يكون ثبوتها نسخا للوجوب انتهى. قلت وهذا على منوال ما تقدم من أن رفع الإباحة الأصلية ليس نسخا إما على أنه نسخ كما التزمه بعض الحنفية إذ لا إباحة ولا تحريم قط إلا بشرع كما تقدم أيضا يكون رفع الحرمة الأصلية نسخا، ثم إذا كان رفعها نسخا يكون ثبوتها بعد رفعها نسخا أيضا فيبقى الإيراد المذكور محتاجا إلى الجواب فليتأمل.
ثم اختلف في الذبيح قال أبو الربيع الطوفي فالمسلمون على أنه إسماعيل وأهل(5/134)
ص -67-…الكتاب على أنه إسحاق وعن أحمد فيه القولان انتهى ويعكره ما في الكشاف فعن ابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وجماعة من التابعين أنه إسماعيل وعن علي بن أبي طالب وابن مسعود والعباس وعطاء وعكرمة وجماعة من التابعين أنه إسحاق وعزى الفقيه أبو الليث الأول إلى مجاهد وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي والثاني إلى ابن عباس وعكرمة وقتادة وأبي هريرة وعبد الله بن سلام قال وهكذا قال أهل الكتابين وذكر كونه إسحاق عن الأكثرين المحب الطبري وكونه إسماعيل عنهم النووي وصحح القرافي أنه إسحاق وابن كثير أنه إسماعيل وزاد ومن قال إنه إسحاق فإنه تلقاه مما حرفه النقلة من بني إسرائيل انتهى. وذكر الفاكهي أنه أثبت والبيضاوي أنه الأظهر وهو كذلك - إن شاء الله تعالى - وعليه مشى المصنف في مسألة يجوز بأثقل، والحجج من الطرفين لها موضع غير هذا.(5/135)
"قالوا" أي المعتزلة "إن كان" أي المنسوخ "واجبا وقت الرفع اجتمع الأمران بالنقيضين في وقت" واحد وتوارد النفي والإثبات على محل واحد محال "وإلا" أي وإن لم يكن واجبا وقت الرفع "فلا نسخ" لعدم الرفع "أجيب باختيار الثاني" وهو أنه لم يكن واجبا وقت الرفع لانتهاء التكليف به وانقطاعه بالناسخ وقت وروده متصلا به؛ لأن النسخ بيان انتهاء مدة الحكم فيكون عقبها بالضرورة كما أن المكلف مكلف قبل الموت وينقطع عنه التكليف بالموت عقبه متصلا به "والمعنى رفع إيجابه" أي إيجاب المنسوخ "حكمه" الثابت له "عند حضور وقته" المقدر له شرعا "لولاه" أي الناسخ "وهو" أي رفع الناسخ حكم المنسوخ عند حضور وقت المنسوخ المقدر له "ممنوعكم" أيها المعتزلة حيث قلتم تعلق الوجوب بالمستقبل مانع من نسخه "فإن أجزتموه" أي رفع الناسخ حكم المنسوخ الواجب في الاستقبال "ولم تسموه نسخا فلفظية" أي فالمنازعة لفظية غير ظاهرة الوجه "وقد وافقتم" على جواز النسخ قبل التمكن من الفعل "وأيضا لو صح" كون تعلق الوجوب بالمستقبل مانعا من نسخه "انتفى النسخ" مطلقا ولو بعد حضور زمن من وقته يسع الفعل؛ لأنه حينئذ لم يبق لتحققه مساغ إلا بعد مباشرة الفعل أو معه وتقدم انتفاء تحققه فيهما. "ثم استبعد" هذا "عنهم" أي المعتزلة "لذلك الرفع منهم" أي قولهم في قصة إبراهيم عليه السلام جاز التأخير؛ لأنه موسع فإنه يفيد أن تعلق الوجوب بالمستقبل لا يكون مانعا من النسخ كما قررناه آنفا "وللتعارض" في الجملة بين قولهم لا يجوز النسخ قبل التمكن من الفعل وقولهم تعلق الوجوب بالمستقبل مانع من نسخه "يجب نسبة ذاك" الذي ذكره المحققون عنهم إليهم لسلامته عن التعارض حملا لكلام العقلاء على عدم المناقضة ما أمكن وإنما قلت في الجملة؛ لأنه إنما يظهر التعارض بينهما في صورة ما إذا مضى زمن من وقت الفعل المقدر له شرعا يسع مباشرة الفعل، ولم يباشره فإن مقتضى تمكنه من الفعل يجوز النسخ ومقتضى كونه(5/136)
لم يفعل ووجوب الأداء باق عليه في باقي الوقت يمنع من النسخ ومعلوم أن ليس كل نسخ بعد مضي زمن من وقت الفعل المقدر له شرعا وقبل مباشرة الفعل هذا ما ظهر للعبد الضعيف غفر الله تعالى له في شرح هذه الزيادة أعني قوله وأيضا لو صح إلخ على ما كانت النسخة عليه أولا والله سبحانه أعلم.(5/137)
ص -68-…مسألة
"الحنفية والمعتزلة لا يجوز نسخ حكم فعل لا يقبل حسنه وقبحه السقوط كوجوب الإيمان وحرمة الكفر"؛ لأنه لا يحتمل الارتفاع والعدم بحال لقيام دليله وهو العقل على كل حال فلا يحتمل النسخ "والشافعية يجوز" والإجماع على عدم الوقوع "وهي" أي هذه المسألة "فرع التحسين والتقبيح" العقليين فلما قال به الحنفية والمعتزلة قالوا يمنع جواز نسخهما ولما لم يقل به الأشاعرة من الشافعية وغيرهم قالوا يجوز نسخهما عقلا وقد تقدم استيفاء الكلام فيهما في فصل الحاكم "ولا" يجوز نسخ حكم "نحو: الصوم عليكم واجب مستمر أبدا اتفاقا" فعند غير الحنفية "للنصوصية" على تأييد الحكم بذكره قيدا للحكم لا للفعل الذي هو الصوم "وعند الحنفية لذلك" التنصيص "على رأي" في النص وهو اللفظ المسوق للمراد الظاهر منه كما هو قول متقدميهم فإن أبدا كذلك هنا "وعلى" رأي "آخر" فيه وهو اللفظ المسوق لمراد ظاهر منه ليس بمدلول وضعي له كالتفرقة بين البيع والربا في الحل والحرمة في {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} كما هو قول متأخريهم يكون عدم جواز النسخ في هذا "للتأكيد" فإن الأبد الاستمرار الدائم وهو وإن كان مسوقا له هنا فهو مدلول وضعي له وإلى هذا الاختلاف أشار بقوله "على ما سلف من تحقيق الاصطلاح" في التقسيم الثاني من الفصل الثاني في الدلالة قلت ولقائل أن يقول لا يمنع كل من النصوصية والتأكيد جواز النسخ وكيف يمنع، والنص يحتمل التخصيص والتأويل فضلا عن النسخ فكيف لا يجوز نسخه والتأكيد وإن كان قد يمنع احتمالهما فلا يمنع احتمال النسخ أيضا. وإذا لم يمنع احتماله فلا يمنع وقوعه فضلا عن جوازه نعم قد يقال في وجه منع جواز نسخ هذا أن هذا الكلام يفيد الحكم دائما، والنسخ يفيد عدم دوامه فلا يلحقه دفعا للتناقض، ثم هو في حكاية الاتفاق موافق للبديع لكن في شرحه للشيخ سراج الدين الهندي في الأحكام ما يدل على أنه اختار جواز نسخه، وكذا ذكر الخلاف(5/138)
غيره فلا يكون متفقا عليه فلا جرم أن قال الأكثر على أنه لا يجوز نسخ هذا، وقال السبكي إذا قاله إنشاء يجوز نسخه خلافا لابن الحاجب.
"واختلف في" حكم "ذي مجرد تأبيد قيدا للحكم" ك يجب عليكم أبدا صوم رمضان فإن أبدا نص في ظرفيته للوجوب لا للصوم بناء على أن المصدر لا يعمل فيما تقدم عليه "لا الفعل كصوموا أبدا" فإن أبدا ظرف للصوم المنسوب إلى المخاطبين لا لإيجاب الصوم عليهم؛ لأن الفعل إنما يعمل بمادته لا بهيئته ودلالة الأمر على الوجوب بالهيئة لا بالمادة كما ذكرنا هذا سالفا، ثم هذا يشير إلى أن هذا إما أنه متفق على جواز نسخه، وإما أنه متفق على عدم جواز نسخه وليس كذلك فقد ذكر ابن الحاجب وغيره جواز نسخه عن الجمهور "أو" في حكم ذي مجرد "تأقيت قبل مضيه كحرمته عاما" حال كون حرمته "إنشاء فالجمهور ومنهم طائفة من الحنفية" منهم صدر الإسلام "يجوز" نسخه. "وطائفة كالقاضي أبي زيد وأبي منصور وفخر الإسلام والسرخسي" وأبي بكر الجصاص "يمتنع" نسخه "للزوم الكذب" في الأول للتناقض "أو البداء" على الله تعالى في الثاني؛ لأنه إنشاء على تقدير النسخ "وهو" أي(5/139)
ص -69-…اللزوم المذكور هو "المانع" من النسخ "في المتفق" على عدم جواز نسخه من نحو مستمر أبدا فكذا يكون مانعا في هذا المختلف في جواز نسخه "قالوا" أي المجوزون للنسخ في الأول أبدا "ظاهر في عموم الأوقات" المستقبلة "فجاز تخصيصه" بوقت منها دون وقت كما هو حكم سائر الظواهر؛ لأن التخصيص في الأزمان كالتخصيص في الأعيان "قلنا نعم" يجوز تخصيصه "إذا اقترن" المخصوص "بدليله" أي التخصيص "فيحكم حينئذ" أي حين اقترانه بدليل التخصيص "بأنه" أي التأبيد في المختلف فيه "مبالغة" في إرادة الزمن الطويل مجازا إلا أن المراد حقيقته التي هي الاستمرار والدوام المفيد لاستغراق الأزمنة كلها "أما مع عدمه" أي دليل التخصيص "وهو" أي عدمه "الثابت" فيما نحن فيه "فذلك اللازم" أي فإرادة تخصيصه بالبعض يلزمه لزوم الكذب "وحاصله حينئذ" أن هذا الجواب "يرجع إلى اشتراط المقارنة في دليل التخصيص" للعام المخصوص "وتقدم" ذلك في بحث التخصيص "والحق أن لزوم الكذب" إنما هو "في الإخبار المفيد للتأبيد كماض" أي كقوله صلى الله عليه وسلم "الجهاد ماض إلى يوم القيامة" وتقدم تخريجه في التقسيم المشار إليه آنفا؛ لأن المراد بتأبيد الحكم تأبيده ما دامت دار التكليف فإلى يوم القيامة تأبيد لا تأقيت قلت غير أن لقائل أن يقول: إذا كان منع النسخ في نحو هذا الأجل لزوم الكذب على تقدير النسخ فهو إنما جاء من حيث إنه خبر مع قطع النظر عن التأبيد فيستوي فيه المقيد بالتأبيد وعدمه "فلذا" أي لزوم الكذب في الخبر على تقدير نسخه. "اتفق عليه" أي على عدم جواز نسخه "الحنفية والخلاف" إنما هو "في غيره" أي غير الخبر المقيد بحكم شرعي فرعي غير مقيد بالتأبيد إذا كان "مما يتغير معناه ككفر زيد" وإيمانه أي كالإخبار عنه بأحدهما فإنه يجوز أن يتبدل بالآخر فالمختار عند ابن الحاجب وفاقا لأكثر المتقدمين أنه لا يجوز نسخه سواء كان ماضيا أو حالا أو مستقبلا وعدا أو وعيدا قال الأصفهاني(5/140)
وهو الحق وفي شرح عضد الدين وعليه الشافعي وأبو هاشم وقال عبد الجبار وأبو الحسين وأبو عبد الله البصريان والإمام الرازي والآمدي يجوز مطلقا ونسبه ابن برهان إلى المعظم وآخرون منهم البيضاوي إن كان مستقبلا جاز لجريانه مجرى الأمر والنهي فيجوز أن يرفع وإلا فلا؛ لأنه يكون تكذيبا "بخلاف حدوث العالم" أي الإخبار بما لا يتبدل قطعا لعدم إمكان احتماله للتبديل فإن الإجماع على أنه لا يجوز نسخه كالإخبار بأن العالم حادث فإن اتصاف العالم بالحدوث لا يتبدل بضده وهو القدم قطعا هذا "ولازم تراخي المخصص من التعريض على الوقوع في غير المشروع" كما سلف بيانه في بحث التخصيص "غير لازم هنا" أي في جواز نسخ الإخبار لما يحتمل التغيير المقيد بالتأبيد "بل غايته" أي جواز نسخ هذا أنه يلزم "اعتقاد أنه" أي حكم الإخبار "لا يرفع" فيجب العمل بمقتضاه عملا باستصحاب الحال إذ الأصل في كل ثابت دوامه وما لم يظهر غيب لا يوقف عن العمل "وهو" اعتقاد أنه لا يرفع فيترتب عليه ذلك "غير ضائر" في العمل في الحال والاستقبال ولا في ترك العمل في الاستقبال إذا ظهر الرافع له لوجود المزيل حينئذ بالنسبة إلى الاستقبال "فالوجه الجواز" لنسخ الحكم الإنشائي المقيد بالتأبيد "كصم غدا ثم نسخ(5/141)
ص -70-…قبله" أي الغد "فإنه" أي جواز نسخه "اتفاق"؛ لأن في كل التزاما في زمن مستقبل، ثم نسخ قبل انقضاء ذلك الزمن ومن ثمة قال الشيخ سراج الدين الهندي، والفرق بين جواز نسخ صم غدا قبل مجيئه وبين عدم جواز نسخ صم أبدا عسر. "وما قيل" وقائله عضد الدين "لا منافاة بين إيجاب فعل مقيد بالأبد وعدم أبدية التكليف" بالفعل أي لا منافاة بين أن يكون الفعل الذي تعلق به الوجوب أبديا وبين أن لا يكون إيجابه كذلك؛ لأن إيجاب الدوام إنما يناقضه عدم إيجاب الدوام لا عدم دوام الإيجاب "بعد ما قرر" هذا القائل "في النزاع من أنه" أي النزاع "على جعله" أي التأبيد "قيدا للحكم معناه بالنسخ يظهر خلافه" أي أن التأبيد ليس قيدا للحكم "والوجه حينئذ" أي حين يكون المراد هذا "أن لا يجعل" ما التأبيد فيه قيدا للحكم "النزاع على ذلك التقدير" الذي ذكرنا أنه المراد "بل هو" أي النزاع "ما" أي التأبيد الذي "هو ظاهر في تقييد الحكم" لا الذي هو نص فيه "وإلا" لو لم يكن النزاع فيما هو ظاهر فيه بل فيما هو نص فيه "فالجواب" بأنه لا منافاة بين إيجاب فعل إلخ "على خلاف المفروض" وهو أن النزاع في الحكم المقيد بالتأبيد "وحينئذ فقد لا يختلف في الجواز" لنسخه بل وبعضهم على أنه كما يجوز نسخ مثل صوموا أبدا يجوز نسخ واجب مستمرا أبدا كما قدمناه آنفا غير أن عضد الدين القائل: لا منافاة بين إيجاب فعل إلخ لم يجعل النزاع في الحكم المقيد بالتأبيد بل في الفعل المقيد بالتأبيد فإنه قال الحكم المقيد بالتأبيد إن كان التأبيد قيدا في الفعل مثل صوموا أبدا فالجمهور على جواز نسخه وإن كان التأبيد قيدا للوجوب وبيانا لمدة بقاء الوجوب والاستمرار فإن كان نصا مثل الصوم واجب مستمر أبدا لم يقبل خلافه وإلا قبل وحمل ذلك على المجاز انتهى. نعم أورد عليه كيف يصح تقسيم الحكم المقيد بالتأبيد إلى كونه قيدا للفعل وقيدا للوجوب وأجيب بأن المراد بالحكم الإيجاب وهو غير الوجوب وإلى(5/142)
هذا أشار التفتازاني حيث قال: أي المشتمل ذكره على ما يفيد تأبيد الواجب أو الوجوب هذا وفي كشف البزدوي ولا طائل في هذا الخلاف إذ لم يوجد في الأحكام حكم مقيد بالتأبيد أو التوقيت قد نسخ شرعيته بعد ذلك في زمان الوحي ولا يتصور وجوده بعده فلا يكون فيه كبير فائدة والله سبحانه أعلم.
مسألة
قال "الجمهور لا يجري" النسخ "في الأخبار" سواء كانت ماضية أو مستقبلة "لأنه" أي النسخ فيها هو "الكذب" والشارع منزه عنه والحق أن النسخ لا يجري في واجبات العقول بل في جائزاتها وتحقق المخبر به في خبر من لا يجوز عليه الكذب والخلف من الواجبات والنسخ فيه يؤدي إلى الكذب فلا يجوز "وقيل نعم" يجري فيها مطلقا أي ماضية ومستقبلة وعدا ووعيدا وعليه الإمام الرازي والآمدي إذا كان مدلولها مما لا يتغير وعزاه في كشف البزدوي إلى بعض المعتزلة والأشعرية إذا كان مدلوله متكررا والإخبار عنه عاما كما لو قال: عمرت زيدا ألف سنة، ثم بين أنه أراد تسعمائة أو لأعذبن الزاني أبدا، ثم قال أردت ألف سنة؛ لأن الناسخ بين أن المراد بعض المدلول بخلاف ما إذا لم يكن متكررا نحو أهلك الله(5/143)
ص -71-…زيدا، ثم قال ما أهلكه؛ لأن ذلك يقع دفعة واحدة فلو أخبر عن إعدامه وبقائه جميعا كان تناقضا ومنهم كالبيضاوي من منعه في الماضي وجوزه في المستقبل لقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه:118] وقد قال تعالى: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه: 121] وكأنه نظر إلى أن الصلة مضارع فيتعلق المحور بما يقدره الله والإخبار يتبعه وأيضا الوجود المحقق في الماضي لا يمكن رفعه بخلاف المستقبل؛ لأنه يمكن منعه من الثبوت قيل؛ ولأن الكذب لا يتعلق بالمستقبل بل هو مختص بالماضي قال السبكي وهو المفهوم عن الشافعي ومن أجله قال لا يجب الوفاء بالوعد ويسمى من لا يفي بالوعد مخلفا لا كاذبا كما صرح به أبو القاسم الزجاجي ولذا قال صلى الله عليه وسلم في صفة المنافق "إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف" كما في صحيح البخاري وغيره. ولو كان الإخلاف كذبا دخل تحت "وإذا حدث كذب" والأوجه كما ذهب إليه السبكي والكرماني وغيرهما أن الخبر المتعلق بالاستقبال ك سيخرج الدجال يصح فيه التصديق والتكذيب، والوعد إنشاء لا خبر والإخلاف أيضا كذب وللاهتمام به خصصه بالذكر، وتخصيصه باسم آخر لا ينافيه مع اتحاد المسمى، ثم تقول إذا لم يدخله الكذب لا يكون خبرا فلا يكون داخلا في المسألة الملقبة بنسخ الأخبار، ثم منهم كابن السمعاني من لم يجوزه في الوعد؛ لأن الخلف في الإنعام على الله مستحيل وجوزه في الوعيد؛ لأنه لا يعد خلفا بل عفوا وكرما وعبارة الخطابي: النسخ يجري فيما أخبر الله تعالى أنه يفعله؛ لأنه يجوز تعليقه على شرط بخلاف إخباره بما لا يفعله إذ لا يجوز دخول الشرط فيه وعلى هذا تأول ابن عمر النسخ في قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] فإنه نسخها بعد ذلك برفع حديث النفس وجرى ذلك مجرى التخفيف والعفو عن(5/144)
عباده وهو كرم وفضل وليس بخلف وذكر صاحب الميزان أن الخبر إن كان في الأحكام الشرعية فهو والأمر والنهي سواء فإذا أخبر الله أو رسوله بالحل مطلقا، ثم أخبر بعده بالحرمة بنسخ الأول بالثاني وإن أخبر عنهما مؤبدا لا ينسخ وإن كان في غير الأحكام كإخباره أنه يدخل الأنبياء والمؤمنين الجنة ويدخل الكفار النار فعند عامة أهل الأصول لا يحتمل النسخ؛ لأنه يؤدي إلى الخلف في الخبر. وقال بعضهم: يجوز في الوعيد؛ لأنه كرم لا في الوعد؛ لأنه لزم، وكذا إذا أخبر الله أو رسوله بأنه يولد لفلان ولد يوم كذا فإنه لا يحتمل أن لا يكون إذ خلافه كذب فلا يجوز في وصف الله والنبي معصوم عنه وقال الشيخ أبو بكر الرازي الخبر الوارد عن الله وعن رسوله ينتظم معنيين أحدهما العبادة باعتقاد مخبره على ما أخبر به فهذا لا يجوز نسخه ولا التعبد فيه بغير الاعتقاد الأول والمعنى الآخر حفظه وتلاوته وهذا مما يجوز نسخه وإن أمرنا بالإعراض عنه وترك تلاوته حتى يندرس على مرور الأزمان فينسى كما نسخ تلاوة سائر كتبه القديمة، ثم قد عرف من هذه الجملة أن ليس محل الخلاف إذا لم يكن معناه الأمر أما إذا كان كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] جاز بلا خلاف كما ذكر ابن برهان بل الخلاف يجري فيه أيضا كما صرح به في المحصول وغيره، وجواز نسخه معزو إلى الأكثرين خلافا(5/145)
ص -72-…للدقاق ولا وجه ظاهر له قيل: إلا أن يقال لكونه على صورة الخبر وهو ساقط هذا وقال القاضي في التقريب الخلاف في المسألة مبني على أن النسخ رفع أو بيان فإن قلنا رفع لم يجز نسخ الخبر قطعا؛ لأنه إن كان الناسخ الرافع لبعض مدلوله كاذبا ضرورة أنه صادق وإلا فهو كاذب وإن قلنا بيان المراد اتجه أن يقال: الخطاب وإن دل على ثبوت الأزمنة كلها ظاهرا لكنه غير مراد من اللفظ فلم يفض نسخ الخبر حينئذ إلى الكذب وهو محل تأمل.(5/146)
"وعلى قولهم" أي المجوزين لنسخ الأخبار "يجب إسقاط شرعي من التعريف" ليشمل نسخ الأخبار عن حكم شرعي وغيره، وإلا لم يكن جامعا لكن غير خاف أن قول المجوزين لنسخ الخبر أن لفظ شرعي الذي يجب إسقاطه هو وصف المنسوخ لا الناسخ وشرعي المذكور في التعريف السابق وصف الناسخ وقد كان هذا من المصنف رحمه الله بناء على كون صدر تعريفه رفع تعلق حكم شرعي إلخ، ثم تحرر عنده ما تقدم، ولم يقع التنبه لهذا فتنبه له. "والجواب" لما نفى نسخه عن الآيتين أن معنى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ} "ينسخ بما يستصوبه" والوجه حذف الباء كما قال في الكشاف وغيره ينسخ بما يستصوب نسخه ويثبت بدله ما يقتضي حكمته إثباته أو يتركه غير منسوخ "أو" يمحو "من ديوان الحفظة" ما ليس بحسنة ولا سيئة؛ لأنهم مأمورون بكتبة كل قول وفعل ويثبت غيره "وغيره" من الأقوال كيمحو سيئات التائب ويثبت الحسنات مكانها ويمحو قرنا ويثبت آخرين إلى غير ذلك وقوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه:118] من القيد والإطلاق لا النسخ" كذا في الميزان "وأما نسخ إيجاب الأخبار" عن شيء "بالأخبار" أي بإيجاب الأخبار "عن نقيضه فمنعه المعتزلة لاستلزامه" أي النسخ الشيء "القبيح كذب أحدهما" أي الناسخ والمنسوخ "بناء على حكم العقل" بالتحسين والتقبيح "ويجب للحنفية مثله" أي منع ذلك أيضا لقولهم باعتبار حكم العقل بذلك كما تقدم "إلا إن تغير الأول" عن ذلك الوصف الذي وقع الإخبار به أولا "إليه" أي الوصف الذي كلف الإخبار عنه ثانيا لانتفاء المانع حينئذ "وكذا المعتزلة" ينبغي أن يكون قولهم على هذا التفصيل فلا جرم أن قال السبكي: فإن كان مما يتغير كما إذا قال كلفتكم بأن تخبروا بقيام زيد، ثم يقول كلفتم بأن تخبروا بأن زيدا ليس بقائم فلا خلاف في جوازه لاحتمال كونه قائما وقت الإخبار بقيامه غير قائم وقت الإخبار بعدم قيامه وإن كان مما لا يتغير ككون السماء فوق الأرض مثلا فهو(5/147)
محل الخلاف ومذهبنا الجواز انتهى. وذكر ابن الحاجب أنه مطلقا المختار وعلل بأنه إن اتبع المصلحة فيتغير بتغيرها وإلا فله الحكم كيف شاء ولا يخفى ما فيه، ثم بالجملة قد كان مقتضى التحرير تلخيص هذه والتي قبلها في مسألة واحدة هي محل النسخ كذا وفاقا وخلافا والمتلخص من ذلك أن محل النسخ عند الحنفية حكم شرعي فرعي يحتمل في نفسه الوجود والعدم، ثم عند طائفة منهم غير مقيد بتأبيد، ولا بتأقيت قبل مضيه خلافا لآخرين واختصاره ما حسنه أو قبحه محتمل للسقوط غير مؤد نسخه إلى جهل ولا كذب وهذا القيد الأخير متفق عليه وإنما وقع النزاع في لحوق النسخ لبعض للنزاع في أن لحوقه مؤد إلى ذلك فليتأمل والله سبحانه أعلم.(5/148)
ص -73-…مسألة
"قيل" وقائله بعض المعتزلة والظاهرية "لا ينسخ" الحكم "بلا بدل" عنه وعليه أن يقال "فإن أريد" بالبدل بدل "ولو" كان "بإباحة أصلية" أي بثبوتها لذلك الفعل إذا لم يستمر تعلق المنسوخ به "فاتفاق" كونه لا يجوز بلا بدل بهذا المعنى؛ لأن البارئ تعالى لم يترك عباده هملا في وقت من الأوقات، وقول الشافعي رحمه الله في الرسالة وليس ينسخ فرض أبدا إلا أثبت مكانه فرض كما نسخت قبلة بيت المقدس فأثبت مكانها الكعبة انتهى - أراد به كما نبه عليه الصيرفي في شرحها أنه ينقل من حظر إلى إباحة أو من إباحة إلى حظر أو تخيير على حسب أحوال الفروض. قال ومثل ذلك المناجاة كان يناجي النبي صلى الله عليه وسلم بلا تقديم صدقة ثم فرض الله تقديم الصدقة ثم أزال ذلك فردهم إلى ما كانوا عليه فإن شاءوا تقربوا بالصدقة إلى الله وإن شاءوا ناجوه من غير صدقة. قال فهذا معنى قول الشافعي فرض مكان فرض فتفهمه انتهى. "أو" أريد بالبدل بدل "مفاد بدليل النسخ" في المنسوخ "فالحق نفيه" أي نفي هذا المراد "لأنه" أي القول به قول "بلا موجب والواقع خلافه كنسخ حرمة المباشرة" للنساء "بعد الفطر" وهذا موافق لما في تفسير الزجاج أي حكم المنسوخ في هذا حرمة المباشرة والمذكور للآمدي وابن الحاجب ووجوب الإمساك بعد الفطر قال الأبهري أي الإفطار؛ لأنه اسمه والإمساك بظاهر إطلاقه يتناول الإمساك عن المباشرة والأكل والشرب.(5/149)
قلت والأولى أن يقال كنسخ حرمة المفطرات الثلاثة بالنوم بعد دخول الليل أو بصلاة العشاء إذ في صحيح البخاري وغيره عن البراء بن عازب قال كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما فأتى امرأته فقال هل عندك من طعام قالت لا ولكن أنطلق أطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عيناه فنام فجاءت امرأته فلما رأته قالت خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت هذه الآية {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة: 187] ففرحوا بها فرحا شديدا ونزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] وفي سنن أبي داود وغيرها عن ابن عباس وكان الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء وصاموا إلى القابلة فاختان رجل نفسه فجامع امرأته وقد صلى العشاء ولم يفطر فأراد الله تعالى أن يجعل ذلك يسرا لمن بقي ورخصة ومنفعة فقال سبحانه {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187] نعم المشهور في رواية غير البراء. والمتفق عليه في روايات البراء أن ذلك كان مقيدا بالنوم ويترجح بقوة سنده وبما أخرجه ابن مردويه بسند رجاله موثقون عن ابن عباس قال: إن الناس كانوا قبل أن ينزل في الصيام ما نزل يأكلون ويشربون ويحل لهم شأن النساء فإذا نام أحدهم لم يطعم ولم يشرب ولم يأت أهله حتى يفطر من القابلة وإن(5/150)
ص -74-…عمر رضي الله عنه بعد ما نام ووجب عليه الصيام وقع على أهله ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أشكو إلى الله وإليك الذي أصبت قال وما الذي صنعت قال إني سولت لي نفسي فوقعت على أهلي بعد ما نمت وأردت الصيام فنزلت {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] إلى قوله فالآن {بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] وبما أخرج الطبري من طريق السدي كتب على النصارى الصيام وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا ولا ينكحوا بعد النوم وكتب على المسلمين أولا مثل ذلك حتى أقبل رجل من الأنصار فذكر القصة ومن طريق إبراهيم التيمي كان المسلمون أول الإسلام يفعلون كما يفعل أهل الكتاب إذا نام أحدهم لم يطعم حتى القابلة ويؤيده ما أخرج مسلم مرفوعا "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر" ثم كما قال المصنف رحمه الله؛ لأن الإباحة وإن ثبتت عند نسخ الحرمة لكن لم يفدها نفس الناسخ أعني قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] فإن قيل بل أفاد هذا الناسخ الإباحة الشرعية وهي الحل فلا يصلح جعله مما لم يفد فيه الناسخ بدلا. قلنا الحل ليس حكما شرعيا بل بعض حكم شرعي؛ لأنه إما بعض الإباحة أو بعض الوجوب أو الندب فلا يستقل حكما بل هو جنس للأحكام الثلاثة وأما قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] فدليل آخر أفاد البدل فهو من قبيل القسم الثالث الذي يذكر بعد هذا القسم "وليس منه" أي من الناسخ لحكم ببدل مفاده بغير الناسخ "ناسخ ادخار لحوم الأضاحي" فوق ثلاث؛ لأنه مقرون بالبدل حيث قال صلى الله عليه وسلم "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم " رواه مسلم فهذه إباحة شرعية هي بدل مقرون بدليل النسخ وفي هذا تعريض ب ابن الحاجب في تمثيله لوقوع النسخ(5/151)
بلا بدل بهذا "وجاز أن لا يتعرض الدليل" الناسخ "لغير الرفع" لتعلق الحكم المنسوخ "أو" أريد بالبدل بدل هو حكم آخر يتعلق بذلك الفعل "بلا ثبوت حكم شرعي" لذلك الفعل "وإن لم يكن" ذلك الحكم "به" أي ثابتا بدليل النسخ "فكذلك" أي الحق نفيه "لذلك" أي لأنه بلا موجب له "وتكون" الصفة "الثابتة" للفعل "الإباحة الأصلية" بناء على أنها ليست بحكم شرعي وإلا فقد عرف ما عليه غير واحد من الحنفية من أنها حكم شرعي "لكن ليس منه" أي من الناسخ بلا ثبوت حكم شرعي "نسخ تقديم الصدقة" عند إرادة مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم "لثبوت الحكم الشرعي" وهو ندبية الصدقة "بالعام النادب للصدقة" كتابا وسنة "بثبوت إباحة المباشرة بباشروهن" وفي هذا تعريض بعضد الدين في تمثيله لوقوع النسخ بلا بدل بهذا "قالوا" أي مانعو النسخ بلا بدل قال الله تعالى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] ولا يتصور كون المأتي به خيرا من المنسوخ أو مثله إلا إذا كان بدلا منه على ما يشعر به تعريف المثلين وهو الشيئان اللذان يسد أحدهما مسد الآخر "أجيب بالخيرية لفظا على إرادة نسخ التلاوة لأنه" أي كون المراد الخيرية لفظا هو "الظاهر"؛ لأن الآية في الحقيقة اسم للنظم الخاص ومدلول اللفظ قد يكون لفظا ومدلول الآية من هذا؛ لأنه كلمة أو أكثر منقطع معنى مما قبله ومما بعده فيكون المعنى(5/152)
ص -75-…إن ننسخ لفظا مستعملا منقطعا مما قبله وما بعده نأت بلفظ آخر خير منه أو مثله؛ لأن مثل هذا اللفظ يكون لفظا وكذا الخير، وليس النزاع في أن اللفظ إذا نسخ جاز أن لا يكون بدله لفظ آخر أو لم يجز بل في أن الحكم إذا نسخ جاز أن لا يكون بدله حكم آخر أو لا وهذا لا دلالة للآية عليه "وأما ادعاء أن منه" أي من الإتيان بخير من المنسوخ حكما "على التنزل" إليه "ترك البدل" فيقال سلمنا أن المراد نأت بحكم خير منها لكنه عام يقبل التخصيص فلعله خصص بما نسخ لا إلى بدل جمعا بين الدليل الدال على جوازه وبين الآية كما ذكر ابن الحاجب وغيره "فليس" بذاك "إذ ليس" ترك البدل "حكما شرعيا وصرح أن الخلاف فيه" أي في الحكم الشرعي ومن العجب أن من المصرحين به الأبهري ثم قرر التنزل إلى هذا ولم يتعقبه "وتجويز التخصيص لا يوجب وقوعه" أي التخصيص قال المصنف يعني إن جاز تخصيص الإتيان بالخير بما إذا أبدل لا مطلقا لكن إنما يفيد وقوع التخصيص بدليله لا جوازه "والتنزل" كما ذكره ابن الحاجب وغيره "إلى أنها" أي الآية "لا تفيد نفي الوقوع" للنسخ بلا بدل شرعا؛ لأن عدم الجواز عقلا "والخلاف" إنما هو "في الجواز تسليم لهم" أي للنافين نفيهم الجواز سمعا "لأن الظاهر إرادتهم" أي النافين "نفيه" أي الوقوع "سمعا لا عقلا باستدلالهم" قال المصنف يعني أن قولهم لا يجوز النسخ بلا بدل ليس معناه نفي الجواز العقلي فيكون محالا عقليا وإذا لم يحيلوه عقلا كان جائزا عندهم في العقل فإذا قيل لا يجوز والفرض جوازه عقلا لا بد أن يكون معناه أنه لا يقع بدليل السمع الدال على عدم وقوعه على قوله نأت بخير منها فصار حاصل المعنى لا يجوز أن يقال يقع النسخ بلا بدل للسمعي الدال على أنه لا يقع والنظر إلى استدلالهم على نفي الجواز بنحو نأت بخير منها يفيد ما قلنا ونسبناه إليهم.
مسألة(5/153)
يجوز اتفاقا نسخ التكليف بتكليف أخف كنسخ تحريم الأكل والشرب والمباشرة بعد صلاة العشاء أو النوم من ليالي رمضان بإباحة ذلك وبتكليف مساو كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة وهل يجوز بتكليف أثقل قال "الجمهور يجوز بأثقل ونفاه" أي جوازه بأثقل "شذوذ" بعضهم عقلا وبعضهم سمعا وبه قال أبو بكر بن داود "لنا أن اعتبرت المصالح وجوبا أو تفضلا" في التكليف "فلعلها" أي المصلحة للمكلف "فيه" أي في النسخ بأثقل كما ينقله من الصحة إلى السقم ومن الشباب إلى الهرم "وإلا" إن لم يعتبر فيه "فأظهر" أي فالجواز أظهر؛ لأن له تعالى أن يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد "ويلزم" من عدم جواز الأثقل لكونه أثقل "نفي ابتداء التكليف" فإنه نقل من سعة الإباحة إلى مشقة التكليف؛ لأنهم إن فعلوا التزموا المشقة الزائدة وإن تركوا الواجب استضروا بالعقوبة عليه لكن لا قائل بعدم جواز ابتداء التكليف قال القاضي ولا جواب لهم عن ذلك وتعقبه الكرماني بأن لقائل أن يقول ما خرج بالإجماع عن القاعدة لا يرد نقضا. "ووقع" النسخ بأثقل "بتعيين الصوم" أي صوم رمضان للمكلف القادر عليه غير مسافر "بعد التخيير" للمكلف القادر عليه مطلقا "بينه" أي الصوم "وبين الفدية" عن كل صوم يوم بإطعام مسكين نصف صاع بر أو صاع تمر أو شعير عند أصحابنا ومد(5/154)
ص -76-…طعام برا كان أو غيره من أقوات البلد عند الشافعية ومد بر أو مدي تمر أو شعير عند أحمد فإن وجوب الصوم على التعيين أشق من التخيير وهذا بناء على ما في الصحيحين وغيرهما عن سلمة بن الأكوع لما نزلت {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها، وما في صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصيام ممن يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] فأمروا بالصيام لكن يعارضهما ما في صحيح البخاري أيضا عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ولبعض الرواة يطوقونه. قال ابن عباس ليست منسوخة وهي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا. قال شيخنا الحافظ والأولى الجمع وإنها كانت في حق الجميع ثم خصت بالعاجز انتهى.(5/155)
قلت وغير خاف أن هذا ليس من الجمع بشيء فإن منطوق اللفظ لا يساعد على ذلك للتباين بين مفهومي من يطيق ومن لا يطيق فلا يشمل أحدهما الآخر، بل أكثر ما يمكن أن يقال هاهنا على ما فيه أن الآية كانت مفيدة هذه الرخصة للمطيقين منطوقا ولغيرهم مفهوما ثم نسخت بالنسبة إلى المنطوق دون المفهوم وهذا قول في هذه المسألة وستقف على ما فيها وإنما قلت على ما فيه إذ لا يلزم من شرعية هذه الرخصة للمطيقين شرعيتها لغيرهم لا بطريق أولى ولا بطريق المساواة إذ من الظاهر أن ليس يلزم من تخيير المطيقين للصوم بينه وبين الفدية تخيير العاجزين عن الصوم بينه وبين الفدية ولا تعين لزوم الفدية لهم ضرورة انتفاء طاقتهم له إذ من الجائز أن لا تجب عليهم الفدية أيضا بناء على أن وجوبها على سبيل التخيير بينها وبين الصوم على المطيقين إنما كان لوجود قدرتهم على الصوم وحيث انتفت في العاجزين انتفى وجوب الفدية عليهم أيضا. ومشى شيخنا المصنف في فتح القدير على تقديم ما عن ابن عباس؛ لأنه مما لا يقال بالرأي بل من سماع؛ لأنه مخالف لظاهر القرآن؛ لأنه مثبت في نظم كتاب الله فجعله منفيا بتقدير حرف النفي لا يقدم عليه إلا لسماع ألبتة وكثيرا ما يضمر حرف لا في اللغة العربية في التنزيل الكريم {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف: 85] أي لا تفتؤ، وفيه: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]. أي لا تضلوا، {رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15]. وقال شاعر:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا …ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
أي لا أبرح وقال:
تنفك تسمع ما حييـ…ـت بهالك حتى تكونه
أي لا تنفك ورواية الأفقه أولى ولأن قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] ليس نصا في نسخ إجازة الافتداء الذي هو ظاهر اللفظ انتهى.
"قلت" وللبحث في هذا مجال أيضا فإن في الآية القراءة المشهورة وخمس قراءات عن(5/156)
ص -77-…ابن عباس كما في الكشاف وغيره القراءتان السالفتان ويتطوقونه ويطوقونه ويطيقونه، وللكل معنيان: أحدهما يقدرون عليه لا مع جهد وعسر وعبارة نجم الدين النسفي أي يقدرون على الصوم بأن لا يكونوا مرضى أو مسافرين. ثانيهما: في المجهول يكلفونه على جهد منهم ومشقة، وفي المعلوم يتكلفونه على هذا الوجه أيضا أخذا من الكلفة بمعنى المشقة وبلوغ الجهد والطاقة، فالآية على المعنى الأول منسوخة الحكم قطعا من غير احتياج إلى تقدير لا مع أنه لم ينقل تقديرها عن ابن عباس نعم ذكر النسفي في قراءة حفصة رضي الله عنها وعلى الذين لا يطيقونه فيحمل على هذا المعنى القول بالنسخ وعلى الثاني ثابتة الحكم عند الجمهور خلافا لجماعة منهم مالك رحمه الله، وعليه يحمل القول بنفي النسخ على أنه لو كان محل توارد قولي النسخ ونفيه القراءة المشهورة مع تقدير لا على قول ابن عباس لكان قول النسخ مقدما على قول نفيه؛ لأن قول النسخ مثبت وقول نافيه ناف؛ لأن الأصل عدم النسخ فيجوز أن يكون مستندا فيه وحمله على ذلك على تقدير لا لاحتياج ثبوت استمرار الحكم إليها مع كثرة إضمارها بخلاف النسخ فإنه خلاف الأصل فلا يكون إلا عن سماع وخصوصا في السياقين المذكورين لابن الأكوع وابن أبي ليلى فإن الظاهر منهما أن ذلك كان بعلم من النبي صلى الله عليه وسلم وتقرير منه لهم عليه قطعا. ومن هذا يظهر أن قوله {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] كان نصا عندهم في إفادة النسخ بقرائن اختفت إن لم يكن بنفسه على أنه قد قيل في " خير " ليس هذا للتفضيل بل معناه وفي الصوم خيرات لكم ومنافع دينا ودنيا مع أن كونه ناسخا للافتداء لا يتوقف على كونه نصا في تعيين الصوم بل الظهور فيه كاف والمثبت مقدم على النافي، وكون قول ابن عباس أولى لكونه أفقه بعد تسليم أن يكون له حكم الرفع فإنما يتم في مقابلة ابن الأكوع لا في مقابلة ابن عمر إذ في صحيح البخاري عنه فدية طعام مسكين هي(5/157)
منسوخة ولا في مقابلة من لقيهم ابن أبي ليلى من الصحابة كما يفيده قوله السابق على أن في أحكام القرآن للشيخ أبي بكر الرازي وعن عبد الله بن مسعود وابن عمر وابن عباس وسلمة بن الأكوع وعلقمة والزهري وعكرمة في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] قال من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى وأطعم كل يوم مسكينا حتى نزل {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] والله تعالى أعلم.
قال المصنف هذا "والوجه" على ما تقدم للحنفية "أنه" أي الوجوب الذي هو الحكم الأول "ليس بنسخ" أي بمنسوخ "أصلا على وزان ما تقدم في فداء إسماعيل عليه السلام" فإن الوجوب هنا لم يرتفع كما لم يرتفع ثمة. لكن الذي يظهر للعبد الضعيف - غفر الله تعالى له - أن يقول على ضد وزان ما تقدم في فداء الذبيح؛ لأن الوجوب هنا صار بحيث لا يسقط عنه ببدل متعلقه مع قدرته على متعلقه بعد أن كان بحيث يسقط بكل منهما مع قدرته عليهما وثمة صار الوجوب يسقط عنه ببدل متعلقه قطعا بحيث لا يجوز له العدول إلى متعلقه وإن كان قادرا عليه، ثم هو لا يعرى عن تأمل. نعم عدم نسخ وجوب الصوم على العاجز من شيخ وشيخة بالفدية ظاهر كما ذكرنا ثمة والله سبحانه أعلم.(5/158)
ص -78-…"ورجم الزواني" إن كن محصنات "وجلدهن" إن كن غير محصنات "بعد الحبس في البيوت" فقد أخرج الطبري وأبو عبيد عن ابن عباس في هذه الآية {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} إلى قوله {سَبِيلاً} قال كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت إلى أن نزلت {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] قال فإن كانا محصنين رجما بالسنة فهو سبيلهن الذي جعل الله ولا يضر ما فيه لتضافر الروايات الصحيحة بهذا المعنى وانعقاد الإجماع عليه والرجم أثقل من الحبس "قالوا" أي الشاذون قال الله تعالى "{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] والأثقل إلى الأثقل ليس تخفيفا فلا يريده تعالى "أجيب بأن سياقها" أي الآية يدل على إرادة التخفيف "في المآل" أي المعاد "وفيه" أي المآل "يكون" التخفيف "بالأثقل في الحال، ولو سلم" العموم في الحال والمآل "كان" العموم "مخصوصا بالوقوع" كما ذكرنا آنفا كما هو مخصوص بخروج أنواع التكاليف الثقيلة المبتدأة وأنواع الابتلاء في الأبدان والأموال مما هو واقع باتفاق ولا يعد ولا يحصى. "وهو" أي هذا الاستدلال من الشاذين "بناء على ما نفيناه" أي على وزان ما قال في المسألة السابقة من أن الظاهر أن الخلاف فيها ليس في الجواز العقلي وإنما هو فيها في الجواز الشرعي؛ لأن المخالفين لم يحيلوه عقلا حيث لم يذكروا ما يفيده كذلك بل ذكروا ما يفيده بحسب اعتقادهم فكذا هنا وحينئذ يحتاج المخالف عقلا إلى ذكر مستند له يفيد دعواه ولو ظاهرا وهو بعيد فليتنبه له. "قالوا" أي الشاذون ثانيا قال الله تعالى "{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] الآية" فيجب الأخف لأنه الخير، أو المساوي لأنه المثل، والأشق ليس بخير ولا مثل "أجيب بخيرية الأثقل عاقبة" أي بأن الأثقل خير باعتبار الثواب إذ(5/159)
لعله فيه أكثر قال تعالى: {لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ} [التوبة: 120] الآية وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة في العمرة واخرجي إلى التنعيم فأهلي ثم ائتنا بمكان كذا ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك. أخرجه البخاري وكما يقول الطبيب للمريض الجوع خير لك "أو ما تقدم" من أن المراد الخيرية لفظا.
مسألة
"يجوز نسخ القرآن به" أي القرآن "كآية عدة الحول بآية الأشهر" كما تقدم بيانه في بحث التخصيص "والمسالمة" كنسخ آيات المسالمة للكفار التي هي أكثر من مائة آية كقوله {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] "بالقتال" أي بآياته كقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] "والخبر المتواتر بمثله" أي بالخبر المتواتر "و" خبر "الآحاد بمثله" كقوله صلى الله عليه وسلم "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها وعن لحوم الأضاحي أن تمسكوا فوق ثلاثة أيام فأمسكوا ما بدا لكم" إلخ" ولم أقف على هذا السياق مخرجا وأسلفت بعض سياق مسلم وتمامه "ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأوعية ولا تشربوا مسكرا ولعل هذا هو المراد بقوله إلخ والمقصود حاصل بكل منهما "فبالمتواتر" أي فجواز نسخ الآحاد بالمتواتر "أولى" من جواز النسخ بالآحاد؛ لأنه أقوى "وأما قلبه" وهو نسخ المتواتر بالآحاد "فمنعه الجمهور كل مانعي تخصيص المتواتر بالآحاد وأكثر مجيزيه" أي تخصيص المتواتر بالآحاد(5/160)
ص -79-…"فارقين بأن التخصيص جمع لهما" أي للمتواتر والآحاد. "والنسخ إبطال أحدهما" الذي هو المتواتر بالآحاد "وأجازه" أي نسخ المتواتر بالآحاد "بعضهم" أي بعض المجيزين لتخصيص المتواتر بالآحاد "لنا" خبر الآحاد "لا يقاومه" أي المتواتر؛ لأنه قطعي وخبر الآحاد ظني "فلا يبطله" خبر الآحاد المتواتر؛ لأن الشيء لا يبطل ما هو أقوى منه "قالوا" أي المجيزون "وقع" نسخ المتواتر بخبر الآحاد "إذ ثبت التوجه" لأهل مسجد قباء "إلى البيت بعد القطعي" المفيد لتوجههم إلى بيت المقدس ما يزيد على عام على خلاف في مقداره "الآتي لأهل" مسجد "قباء" كما في الصحيحين وتقدم سياقه، وقول ابن طاهر وغيره أنه عباد بن بشر وما لشيخنا الحافظ من التعقب له في فصل شرائط الراوي "ولم ينكره صلى الله عليه وسلم"؛ لأنه لو أنكره لنقل ولم ينقل ويشهد له ما أخرج الطبراني عن تويلة بنت مسلم قالت صلينا الظهر والعصر في مسجد بني حارثة واستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين ثم جاءنا من يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام فتحولنا النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام فحدثني رجل من بنى حارثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أولئك رجال آمنوا بالغيب "وبأنه" أي النبي صلى الله عليه وسلم "كان يبعث الآحاد للتبليغ" للأحكام مطلقا أي مبتدأة كانت أو ناسخة لا يفرق بينهما والمبعوث إليهم متعبدون بتلك الأحكام وربما كان في الأحكام ما ينسخ متواترا؛ لأنهم لم ينقلوا الفرق بين ما نسخ متواترا وهذا دليل جواز نسخ المتواتر بالآحاد "{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} الآية" نسخ منها ما يفيد حله من ذي الناب "بتحريم كل ذي ناب" من السباع الثابت بخبر الواحد كما في صحيح مسلم وغيره مرفوعا "كل ذي ناب من السباع حرام" إذ الآية إنما تفيد تحريم ما استثني فيها وذو الناب لم يستثن فيها فكان مباحا(5/161)
وحيث حرم فإنما حرم بالحديث وإذا جاز نسخ القرآن بخبر الواحد فبالخبر المتواتر أجدر "أجيب بجواز اقتران خبر الواحد بما يفيد القطع" والأول كذلك؛ لأن وجود القرائن فيه ظاهر والمصير إليه لوجود المعارض القطعي واجب "وجعله" أي المقترن بهذا الخبر المفيد لقطعه "النداء" أي نداء مخبرهم بذلك "بحضرته" صلى الله عليه وسلم على رءوس الأشهاد في مثل هذه الواقعة كما ذكر عضد الدين "غلط أو تساهل" بأن يراد بحضرته وجوده في مكان قريب بحيث لا يخفى عليه ما صنع المخبر كالواقع بحضوره "وهو" أي التساهل "الثابت" لبعد لمن يراد نداؤه في مجلسه "والثاني" وهو بعثه الآحاد لتبليغ الأحكام إنما يتم "إذا ثبت إرسالهم" أي الآحاد "بنسخ" حكم "قطعي عند المرسل إليهم وليس" ذلك بثابت ومن ادعاه فعليه البيان على أنه قد أجيب على تقدير التسليم له بأن حصول العلم بتلك الآحاد بقرائن الحال ويجب الحمل عليه جمعا بينه وبين الدليل المانع "ولا أجد الآن تحريما" أي ومعنى الآية هذا؛ لأن أجد فعل مضارع للحال فتكون إباحة غير المستثنى مؤقتة بوقت الإخبار بها وهو الآن لا مؤبدة "فالثابت" فيما عداه فيها عدم تحريم الشارع بمعنى أنه لم يثبت فيه خطاب الحظر والإطلاق كما هو المراد بقوله "إباحة أصلية ورفعها" أي الإباحة الأصلية في المستقبل بالتحريم "ليس نسخا"؛ لأنه ليس رفعا لحكم شرعي والنسخ رفع لحكم شرعي لا أن الثابت(5/162)
ص -80-…إذن شرعي في الفعل والترك حتى يكون حكما شرعيا فيكون رفعه نسخا.
قلت إلا أن على هذا أن يقال هذا لا يتم على القائلين من الحنفية بأن رفع الإباحة الأصلية نسخ كما تقدم غير مرة فهم محتاجون إلى جواب غير هذا ولعله أن يقال وحيث كانت هذه الإباحة مؤقتة بوقت الإخبار بها فالتحريم المذكور ليس نسخا؛ لأن انتهاء الشيء لانتهاء وقته لا يكون نسخا والله تعالى أعلم.
مسألة
"يجوز نسخ السنة بالقرآن" عند جمهور الفقهاء والمتكلمين ومحققي الشافعية "وأصح قولي الشافعي المنع" وفي القواطع وأما نسخ السنة بالقرآن فذكر الشافعي في كتاب الرسالة القديمة والجديدة ما يدل على أن نسخ السنة بالقرآن لا يجوز ولعله صرح بذلك ولوح في موضع آخر بما يدل على جوازه فخرجه أكثر أصحابنا على قولين: أحدهما أنه لا يجوز وهو الأظهر من مذهبه، والآخر أنه يجوز وهو الأولى بالحق انتهى. فإنه قال لا ينسخ كتاب الله إلا كتاب الله كما كان المبتدئ بفرضه فهو المزيل المثبت لما شاء منه جل جلاله ولا يكون ذلك لأحد من خلقه وقال وهكذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينسخها إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أحدث الله لرسوله في أمر سن فيه غير ما سن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لسن فيما أحدث الله إليه حتى يبين أن له سنة ناسخة للتي قبلها بما يخالفها انتهى. ثم اختلف أصحابه في ذلك فقيل المراد نفي الجواز العقلي ونسبه السبكي إلى الحارث المحاسبي وعبد الله بن سعيد والقلانسي وهم من كبار أهل السنة ويروى عن أحمد أيضا وقيل نفي الجواز الشرعي وهو قول أبي حامد وأبي إسحاق الإسفراييني وأبي الطيب الصعلوكي وأبي منصور وقيل لم يمنع العقل والسمع منه ولكنه لم يقع وهو قول ابن سريج قال السبكي ونص الشافعي لا يدل على أكثر منه ثم قال السبكي مراد الشافعي أنه حيث وقع نسخ القرآن بالسنة فمعها قرآن عاضد لها يبين توافق الكتاب والسنة أو نسخ السنة بالقرآن فمعه سنة(5/163)
عاضدة له تبين توافق الكتاب والسنة واستشهد لهذا بقوله فإن قال هل تنسخ السنة بالقرآن قيل له لو نسخت السنة بالقرآن كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فيه سنة تبين بأن سنته منسوخة بسنته الآخرة حتى تقوم الحجة على الناس بأن الشيء ينسخ بمثله ا هـ إلى غير ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم. "لنا لا مانع" عقلي ولا شرعي من ذلك "ووقع" أيضا والوقوع دليل الجواز "فإن التوجه إلى القدس" أي بيت المقدس "ليس في القرآن ونسخ" التوجه إليه "به" أي بالقرآن وهو قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] "وكذا حرمة المباشرة" بل المفطرات الثلاثة بالنوم في ليالي رمضان بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] الآية كما تقدم فإن تحريمها ليس في القرآن "وتجويز كونه" أي كل من التوجه إلى بيت المقدس وحرمة المباشرة منسوخا "بغيره" أي غير القرآن "من سنة أو" تجويز كون "الأصل" أي التوجه إلى بيت المقدس وحرمة المباشرة ثابتا(5/164)
ص -81-…"بتلاوة نسخت وذلك" أي الناسخ السني على التقدير الأول والمنسوخ القرآني على التقدير الثاني "على الموافقة" أي الأول موافق لنص القرآن فيكون من نسخ السنة بالسنة والثاني موافق لنص السنة فيكون من نسخ القرآن بالقرآن؛ لأن الحكم الموافق لنص القرآن لا يجب أن يكون منه "احتمال بلا دليل" فلا يسمع "ثم لو صح لم يتعين ناسخ علم تأخره" لنسخ ما تقدمه "ما لم يقل عليه الصلاة والسلام هذا ناسخ" لكذا أو نحوه لتطرق الاحتمال المذكور إليه "وهو" أي عدم تعين المعلوم تأخره ناسخا للمتقدم ما لم يقل صلى الله عليه وسلم ذلك "خلاف الإجماع قالوا أي المانعون" أولا قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] يقتضي أن شأنه البيان للأحكام والنسخ رفع لا بيان "أجيب" بتسليم أن شأنه ذلك لكن لا نسلم أن النسخ ليس ببيان بل "والنسخ منه" أي من البيان؛ لأنه بيان انتهاء مدة الحكم "قالوا" أي المانعون ثانيا نسخ السنة بالقرآن "يوجب التنفير" للناس عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يفهم أن الله لم يرض بما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا لم ينسخه وحصول التنفير مناف لمقصود البعثة وهو التأسي به والاقتداء بقوله وفعله لاحتمال كونه غير مرضي عند الله تعالى ومناف لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ} [النساء: 64] "أجيب" بمنع حصول النفرة على ذلك التقدير فإنه "إذا آمنا بأنه مبلغ" عن الله تعالى لا غير "لم يلزم" من نسخ السنة بالقرآن وجود النفرة إذ الجميع من عند الله وما ينطق عن الهوى فلا يتأتى أن يقال أنه تعالى لم يرض بما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأما قلبه" وهو نسخ القرآن بالسنة "فمنعه" الشافعي "قولا واحدا" كما رأيت فهو كما قال إمام الحرمين قطع جوابه بأن الكتاب لا ينسخ بالسنة وعلمت تأويل السبكي "وأجازه الجمهور لما تقدم" من أنه لا(5/165)
مانع عقلي ولا شرعي من ذلك "ووقوعه" فأخرج الشافعي بسند صحيح عن مجاهد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا وصية لوارث}" وفي مسند أحمد والسنن "إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" قال الترمذي حسن صحيح فهذا لعمومه في نفي الوصية للوارث "نسخ الوصية للوالدين والأقربين" الثابتة بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180] "والاعتراض منتهض على الوقوع" أي وقوع نسخ القرآن بالسنة بهذا الحديث وأضرابه "بأنها آحاد فلو صح" نسخ القرآن بها "نسخ بها" أي بأخبار الآحاد "القرآن" وهو غير جائز اتفاقا "إلا أن يدعى فيها" أي في هذه الأحاديث "الشهرة فيجوز" النسخ بها "على" اصطلاح "الحنفية" حتى نقل الكرخي عن أبي يوسف أنه يجوز نسخ الكتاب بمثل خبر المسح على الخفين لشهرته "وهو" أي وكونها مشهورة فيجوز نسخ الكتاب بها "الحق" لأنه في قوة المتواتر إذ المتواتر نوعان: متواتر من حيث الرواية ومتواتر من حيث ظهور العمل به من غير نكير فإن ظهوره يغني الناس عن روايته وهذا بهذه المثابة فإن العمل ظهر به مع القبول من أئمة الفتوى بلا تنازع فيجوز به النسخ وقيل لا نسلم عدم تواتر هذا ونحوه للمجتهدين الحاكمين بالنسخ لقربهم من زمان النبي صلى الله عليه وسلم "وإذ قال" القاضي أبو زيد "لم يوجد" في كتاب الله ما نسخ بالسنة إلا من طريق الزيادة على النص "فالوجه" في الاستدلال للوقوع أن يقال:(5/166)
ص -82-…"الإجماع" على الحكم المتأخر "دل على الناسخ" لأن الإجماع لا يصلح أن يكون ناسخا على الصحيح كما سيأتي ثم لا بد له من مستند لا يصلح أن يكون قياسا؛ لأن النسخ بالرأي لا يجوز "ولم يوجد" الناسخ "في القرآن فهو سنة" هذا ما عليه طائفة من العلماء منهم من مشايخنا أبو منصور الماتريدي وصدر الإسلام وصاحب الميزان وأبو الليث السمرقندي وبه يظهر عدم تمام دعوى الزجاج الإجماع على أن فرض الوصية نسخته آيات المواريث نعم ذهب إليه كثير واختاره الجصاص وفخر الإسلام وصدر الشريعة ووجهه أن الله تعالى فرض الوصية إلى العباد بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180]. ثم تولى ذلك بنفسه فقال {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الآية وقصر الإيصاء على حدود معلومة من النصف والربع والثمن والثلثين والثلث والسدس لا يزاد عليها ولا ينقص عنها لعلمه تعالى بجهل العباد وعجزهم عن معرفة مقاديره وبمن هو الأنفع من هذه الورثة في الدنيا والآخرة فصار بيان المواريث هو الإيصاء؛ لأنه بيان لذلك الحق بعينه فانتهى حكم تلك الوصية لحصول المقصود بأقوى الطريقين كمن وكل غيره بإعتاق عبده ثم أعتقه بنفسه فإنه ينتهي حكم الوكالة لحصول المقصود. نعم الحديث مقرر لنسخ الوصية للوارث ومشعر بأن ارتفاع الوصية إنما هو بسبب شرعية الميراث حيث رتب صلى الله عليه وسلم قوله "فلا وصية لوارث" على قوله "إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه"؛ لأن الفاء في مثله تشعر بسببية ما قبلها لما بعدها كما في زارني فأكرمته ودفع في شرح التأويلات هذا بأن دعوى النسخ بآية المواريث لا تصح لوجهين: أحدهما أن في الآية الأولى أن الله تعالى فرض على الموصي الوصية للوالدين والأقربين وفي الآية الثانية بيان أنه أوصى الله تعالى لهم من غير أن ينفي وصية(5/167)
الموصي ولا نهاه عنها فيجب أن يجمع بينهما بقدر الإمكان حتى لا ينسخ الحكم الثابت بالكتاب من غير ضرورة؛ لأن ما لا تنصيص من الله تعالى في نسخه من نفي أو نهي فالحكم بنسخه لضرورة التناقض بين الحكمين وهاهنا إن لم يمكن الجمع بين الوصيتين في جميع المال أمكن الجمع بينهما بأن تصرف الأولى إلى ثلث المال والثانية إلى الباقي كما في الأجانب فإن الوصية بقيت مشروعة في حقهم بعد شرع المواريث في حق الأقارب بالطريق الذي قلنا. والوجه الثاني أن الله تعالى قال {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] جعل الإرث بعد الوصية مطلقة من غير فصل بين الأجانب والأقارب فدل أنه يمكن تخريج الآيتين على التوافق فلا يجب التخريج على التناسخ انتهى. قلت يعني فقد كان يجوز على الوجه الأول أن يكون فرض الوصية للوالدين والأقربين باقيا لكنه من الثلث وغايته أن يجتمع للوالدين وبعض الأقربين الوصية والميراث وليس ذلك بممتنع؛ لأنه كما قال الفقيه أبو الليث الشيء إنما يصير منسوخا بما يضاده وليس بين الوصية والميراث تضاد ألا ترى أنه يجوز أن يجتمع الدين والميراث فكذا يجوز أن تجتمع الوصية والميراث لولا هذا الخبر وعلى الوجه الثاني جواز الوصية للوالدين والأقارب والأجانب غير أن السنة نسخت جوازها للوارث منهم نعم يبقى على هذا ما في صحيح(5/168)
ص -83-…البخاري عن ابن عباس أن الذي نسخ آية الوصية آية المواريث وأجاب عنه شيخنا الحافظ بأن آية المواريث ليست صريحة في النسخ وإنما بينه الحديث المذكور انتهى. قلت ولا يخفى أنه لا يلزم من عدم كونها صريحة في النسخ أن لا يجوز أن ينسب إليها على أن النسخ خلاف الأصل فلا يكون إلا عن سماع كما تقدم.
"قالوا" أي المانعون قال تعالى "{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] الآية" أي من القرآن "ولا مثلا" للقرآن "ونأت يفيد أنه" أي الآتي بما هو خير من المنسوخ أو مثله "هو تعالى" وما يأتي به تعالى هو القرآن "أجيب بما تقدم" وهو أن المراد بالخيرية والمثلية من جهة اللفظ "وعدم تفاضله" أي اللفظ "بالخيرية أي البلاغة ممنوع" إذ في القرآن الفصيح والأفصح والبليغ والأبلغ "ولو سلم" أن المراد بالخيرية والمثلية كونهما من حيث الحكم "فالمراد بخير من حكمها" للمكلفين أو مساو لحكمها الذي كان ثابتا للمكلفين "والحكم الثابت بالسنة جاز كونه أصلح للمكلف" مما ثبت بالقرآن أو مساويا له فيه "وهو" أي الحكم الثابت بالسنة "من عنده تعالى والسنة مبلغة ووحي غير متلو باطن لا من عند نفسه" صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كما قال تعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15] فلا يصح التشبث بهذه الآية على المنع أيضا بل وفي جواز نسخ الكتاب بالسنة وعكسه إعلاء منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيم سنته من حيث إن الله تعالى فوض بيان الحكم الذي هو وحي في الأصل إليه ليبينه بعبارته وجعل لعبارته من الدرجة ما يثبت به انتهاء مدة الحكم الذي هو ثابت بوحي متلو حتى يتبين به انتساخه ومن حيث إنه جعل سنته في إثبات الحكم مثل كلامه وتولى بيان مدته بنفسه(5/169)
كما تولى بيان مدة الحكم الذي أثبته بكلامه هذا وظهر أن ما عن القاضي أبي زيد الدبوسي من أنه لم يوجد في كتاب الله ما نسخ بالسنة إلا من طريق الزيادة على النص ليس ببعيد، وكذا ما ذهب إليه السبكي من أن مراد الشافعي بقوله لا ينسخ كتاب الله إلا كتاب الله بخلاف ما ذهب إليه من أن مراده بقوله لا تنسخ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سنته ولا سيما في نسخ صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة على رد نسائهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] الآية كما ثبت في صحيح البخاري وغيره فليتأمل والله سبحانه أعلم
مسألة
نسخ جميع القرآن ممنوع بالإجماع كما قاله الإمام الرازي وغيره؛ لأنه معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم المستمرة على التأبيد ونسخ بعضه جائز وهو على ثلاثة أقسام كما أشار إليه بقوله "ينسخ القرآن تلاوة وحكما أو أحدهما" أي تلاوة لا حكما أو حكما لا تلاوة "ومنع بعض المعتزلة غير الأول" أي نسخ أحدهما كما في كشف البزدوي وغيره أما الأول فجائز عند كل من قال بجواز النسخ "لنا جواز تلاوة وحكم" ولهذا يثاب عليها وتحرم على الجنب بالإجماع إلى غير(5/170)
ص -84-…ذلك كما سيأتي "ومفاده" من الوجوب والتحريم وغيرهما حكم "آخر ولا يلزم من نسخ حكم آخر" لا تلازم بينهما يوجب ذلك وهذان الحكمان كذلك فيجوز نسخ أحدهما دون الآخر كسائر الأحكام التي ليس بينهما هذا التلازم "ووقع" نسخ أحدهما دون الآخر "روي عن عمر: "كان فيما أنزل الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله" كذا ذكره ابن الحاجب والذي وقفت عليه عن عمر رضي الله عنه ما أخرج الشافعي عنه أنه قال إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل لا نجد حدين في كتاب الله فلقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة فإنا قد قرأناها. وللترمذي نحوه، نعم أخرج النسائي وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند وصححه ابن حبان والحاكم عن أبي بن كعب قال كم تعدون سورة الأحزاب قال قلت ثنتين أو ثلاثا وسبعين آية قال كانت توازي سورة البقرة أو أكثر وكنا نقرأ فيها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله "وحكمه" أي هذا المنسوخ التلاوة "ثابت" لأن المراد بالشيخ والشيخة المحصن والمحصنة وهما إذا زنيا رجما إجماعا "ولقد استبعد" هذا "من طلاوة القرآن" بضم الطاء المهملة وفتحها أي حسنه وأورد أيضا أنه يلزم من هذا أن يثبت قرآن بالآحاد وإذا لم تثبت قرآنيته لم يثبت نسخ قرآن، وأجيب بأن التواتر إنما هو شرط في القرآن المثبت بين الدفتين أما المنسوخ فلا سلمنا لكن الشيء يثبت ضمنا بما لا يثبت به أصله كالنسب بشهادة القابلة على الولادة وقبول خبر الواحد في أن أحد المتواترين بعد الآخر على أنه يجوز أن يقع التواتر في الصدر الأول ثم ينقطع فيصير آحادا فما روي لنا بالآحاد إنما هو حكاية عما كان موجودا بشرائطه وقد يجاب أيضا بأنه وإن لم يثبت قرآنا بالنسبة إلينا لعدم التواتر ثبت قرآنا بالنسبة إلى من سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم(5/171)
كعمر وأبي إذ لا يظن بهم أنهم اخترعوه من قبل أنفسهم فيحمل على أنه كان مما يتلى ثم نسخت تلاوته بصرف الله القلوب عن حفظه إلا قلوب هؤلاء وسماعهم كاف لكونه قرآنا إذ لا يشترط التواتر في حقهم غاية ما فيه أنه يلزم كونه قرآنا في الزمان الماضي بالظن وهو ليس بقادح فيما نحن فيه؛ لأن الثبوت بطريق القطع مشروط فيما بقي بين الخلق من القرآن لا فيما نسخ.
"ومنه" أي المنسوخ التلاوة فقط عند أصحابنا "القراءة المشهورة لابن مسعود" فصيام ثلاثة أيام "متتابعات"؛ لأنه لا وجه لها أن يقال إن هذا كان يتلى في القرآن كما حفظ ابن مسعود ثم انتسخت تلاوته في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بصرف القلوب عن حفظه إلا قلب ابن مسعود فيكون الحكم باقيا بنقله فإن خبر الواحد موجب العمل به وقراءته لا تكون دون روايته فكان بقاء هذا الحكم بهذا الطريق "وابن عباس فأفطر فعدة" من أيام أخر فإنها قراءة مشهورة عنه أيضا للإجماع على أنه إنما يجب القضاء على المفطر ووجهها ما تقدم آنفا وما في الصحيحين أنه كان في القرآن لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى أن يكون له ثالث ولا يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب قال ابن عبد البر في التمهيد قيل إنه كان من سورة " ص " وما في صحيح البخاري في حديث السبعين الذين قتلهم رعل وذكوان(5/172)
ص -85-…وعصية ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت يدعو عليهم شهرا عن أنس أنهم قرءوا فيها قرآنا ألا بلغوا عنا قومنا بأنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ثم رفع بعد ذلك "وقلبه" أي نسخ الحكم لا التلاوة "آية الاعتداد حولا متلوة وارتفع مفادها" بأربعة أشهر وعشر المفاد بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] كما تقدم بيانه في بحث التخصيص "وهما" أي نسخ التلاوة والحكم "معا قول عائشة كان فيما أنزل عشر رضعات" معلومات "يحرمن" رواه مسلم "قالوا" أي مانعو نسخ أحدهما بدون الآخر أولا "التلاوة مع مفادها" من الحكم في دلالتهما عليه "كالعلم مع العالمية والمنطوق مع المفهوم" وكما لا ينفك أحدهما عن الآخر في كل من هذين لا ينفك الحكم عن التلاوة ولا التلاوة عن الحكم.(5/173)
ولما أجاب غير واحد من قبل الجمهور بأن العالمية من الأحوال يعني الصفات النفسية التي ليست بموجودة ولا معدومة قائمة بموجود وتمام هذا فرع ثبوت الحال والحق عندنا نفي الحال وإن قال بثبوته بعض منا كإمام الحرمين، ورأى المصنف أن هذا لا يفيد؛ لأن قول المعتزلة ذلك من باب ذكر المثال وإنما مرادهم أن التلاوة وهي اللفظ ملزوم لإفادة معناه فلا يثبت دونه لاستحالة ثبوت الملزوم بلا لازمه غير أنهم ضربوا ذلك مثلا فبطلانه لا يوجب بطلان الأصل المذكور أشار إلى هذا وعدل عن ذلك الجواب فقال "والمقصود أنه" أي المتلو "ملزوم" لمعناه "فلا يضره" أي هذا الاستدلال "منع ثبوت الأحوال والجواب إن قلت" المتلو "ملزوم الثبوت" أي ثبوت معناه "ابتداء سلمناه ولا يفيد"؛ لأن الكلام ليس فيه "أو" ملزوم الثبوت "بقاء معناه" إذ لا يلزم من الثبوت ابتداء الثبوت بقاء "والكلام فيه" أي في ثبوته بقاء "قالوا" أي المانعون ثانيا "بقاء التلاوة دون الحكم يوهم بقاءه" أي الحكم لكون التلاوة دليله وبقاء الدليل موهم بقاء المدلول "فيوقع" بقاؤها دون المكلف "في الجهل" لظنه بقاء الحكم وهو ليس بباق في الحال والإيقاع في الجهل قبيح فلا يقع من الله تعالى. "وأيضا فائدة إنزاله" أي القرآن "إفادته" أي الحكم الشرعي الذي دلت التلاوة عليه "وتنتفي" إفادتها الحكم "ببقائه" أي الحكم "دونها" أي التلاوة، والكلام الذي لا فائدة فيه يجب أن ينزه القرآن عنه "أجيب مبناه" أي كل من هذين "على التحسين والتقبيح" العقليين وقد نفاهما الأشاعرة "ولو سلم" القول بهما "فإنما يلزم الإيقاع" في الجهل على تقدير نسخ الحكم لا التلاوة "لو لم ينصب دليل عليه" أي عدم بقاء الحكم لكنه نصب عليه فالمجتهد يعلمه بالدليل، والمقلد بالرجوع إليه فينتفي التجهيل "ويمنع حصر فائدته" في إفادة الحكم "بل" إنزاله لفوائد لما ذكرتم وأيضا "للإعجاز ولثواب التلاوة أيضا وقد حصلتا" أي هاتان الفائدتان؛ لأن الإعجاز(5/174)
لا ينتفي بنسخ تعلق حكم اللفظ؛ لأن اللفظ لا ينعدم به والأعجاز تابع لوجوده لا لمجرد قرآنيته والثواب يحصل بتلاوته كما قبل النسخ "كالفائدة التي عينتموها" أي كما حصلت إفادة الحكم الشرعي ويستتبع بقاءه لفظا أيضا حرمة ذكره على الجنب وجواز الصلاة وحرمة مس رسمه للمحدث كالمتشابه على أنه لا يلزم من ترتب فائدة الشيء عليه بقاؤها "وإلا انتفى النسخ بعد الفعل الواجب تكرره" لعدم بقاء فائدته التي هي وجوب تكرره دائما وهو باطل.(5/175)
ص -86-…مسألة
"لا ينسخ الإجماع" القطعي أي لا يدفع الحكم الثابت به "ولا ينسخ به" غيره "أما الأول" أي أنه لا ينسخ "فلأنه لو كان" أي وجد رفع حكمه "فبنص قاطع أو إجماع" قاطع "والأول" أي رفع حكمه بنص قاطع "يستلزم خطأ قاطع الإجماع؛ لأنه" أي الإجماع حينئذ "خلاف القاطع" الذي هو النص وخلافه خطأ لتقدمه عليه قطعا وعدم انعقاد الإجماع على خلاف النص القاطع "والثاني" أي رفع حكمه بالإجماع يستلزم "بطلان أحدهما" أي الإجماعين الناسخ والمنسوخ؛ لأن الإجماع لا ينعقد على خلاف إجماع آخر فأحد الإجماعين ساقط بالضرورة ولما امتنع بطلان الإجماع القاطع كان الإجماع الآخر وهو ما فرض نسخه غير قاطع وباطل، وعلى الخطأ قال المصنف "وليس" هذا الدليل على منع نسخ الإجماع بكل من هذين "بشيء" مانع من نسخه بكل منهما "لأن النسخ لا يوجب خطأ الأول وإلا" لو كان النسخ يوجب خطأ المنسوخ "امتنع" النسخ "مطلقا" وليس كذلك، وإذا لم يلزم من القاطع المتأخر خطأ القاطع المتقدم لزم صحة الإجماع الأول إلى ظهور النص القاطع أو الإجماع القاطع فيرتفع به كقطعي الكتاب بعد مثله "بل" إنما لا ينسخ الإجماع بنص متأخر "لأنه لا يتصور؛ لأن حجيته" أي الإجماع مشروطة "بقيد بعديته عليه السلام فلا يتصور تأخر النص عنه" أي الإجماع "وثمرته" أي الخلاف في أن الإجماع لا ينسخ بغيره تظهر "فيما إذا أجمع على قولين جاز بعده" أي بعد الإجماع على القولين الإجماع "على أحدهما" بعينه "فإذا وقع" الإجماع على أحدهما عينا "ارتفع جواز الأخذ بالآخر" لتعين الأخذ بالمجمع عليه المعين وبطلان الأخذ بمخالفه "فالمجيز" لجواز نسخ الإجماع يقول ارتفاع جواز الأخذ بالآخر "نسخ" لجواز الأخذ به "والجمهور" يقولون "لا" ينسخ جواز الأخذ بكل منهما اجتهاد أو تقليد "لمنع" جواز "الإجماع على أحدهما" عينا بعد خلافهم المستقر "لأنه" أي جواز الإجماع على أحدهما عينا حينئذ "مختلف" فيه كما سيأتي في الإجماع(5/176)
"ولو سلم" جواز الإجماع على أحدهما بعد الخلاف المستقر فلا نسخ للإجماع الأول؛ لأن الإجماع الأول كما قال "فمشروط بعدم قاطع يمنعه" أي إنما ينعقد على أن المسألة اجتهادية بشرط أن لا تصير قطعية بانعقاد الإجماع الثاني فإذا انعقد الإجماع الثاني انتفى شرط كون المسألة اجتهادية فانتفى شرط الإجماع الأول لانتفاء شرطه لا لكونه منسوخا وهذا هو المراد بقوله "والإجماع على أحدهما" عينا بعد ذلك "مانع" من ذلك "وأما الثاني" أي أن الإجماع لا ينسخ به غيره "فالأكثر على منعه" أي على كونه لا ينسخ به غيره "خلافا لابن أبان وبعض المعتزلة. لنا إن" كان الإجماع "عن نص" من كتاب أو سنة "فهو" أي النص "الناسخ يعني لما بحيث ينسخ" قال المصنف وإنما قال هذا؛ لأن هذا المستدل بين فيما زعم أن الإجماع لا ينسخ بغيره في المسألة التي قبلها فلا بد من كون النص المذكور إذا اعتبر ناسخا أن ينسخ ما بحيث يجوز نسخه "وإلا" إن لم يكن الإجماع عن نص "فالأول" أي المنسوخ "إن" كان "قطعيا لزم خطأ الثاني" الذي هو الإجماع الناسخ "لأنه" أي الإجماع حينئذ "على خلاف" النص "القاطع"(5/177)
ص -87-…والإجماع على خلاف القاطع خطأ "وإلا" فإن كان الأول ظنيا "فالإجماع على خلافه" أي الأول "أظهر أنه" أي الأول "ليس دليلا"؛ لأن شرط العمل به رجحانه وقد انتفى بمعارضة قاطع له وهو الإجماع "فلا حكم" ثابت له "فلا رفع"؛ لأن الرفع فرع الثبوت "وعليه" أي ويرد على هذا "منع خطأ الثاني؛ لأنه" أي الثاني "قطعي متأخر عن" نص "قطعي" متقدم كما هو التقدير الأول والنسخ لا يوجب خطأ المنسوخ وإلا امتنع النسخ مطلقا "وإن" كان الأول "عن ظني" كما هو التقدير الثاني "فيرفعه" الثاني؛ لأن القاطع يرفع ما دونه "كالكتاب للكتاب" أي كنسخ قطعي الدلالة منه لقطعي الدلالة منه وظني الدلالة "وإذن فللخصم منع الأخير" وهو أن الإجماع أظهر أن الظني ليس دليلا "بل ينسخ" الإجماع الثاني القطعي الأول "الظني لا أنه" أي الثاني "يظهر بطلانه" أي الأول "فالوجه" في بيان دليل منع نسخ الإجماع "ما للحنفية" في ذلك وهو أنه "لا مدخل للآراء في معرفة انتهاء الحكم في علمه تعالى" بل إنما يعلم ذلك بالوحي ولا وحي بعد النبي صلى الله عليه وسلم "قالوا" أي المانعون "وقع" نسخ القرآن بالإجماع "بقول عثمان" لما قال له ابن عباس كيف تحجب الأم بالأخوين وقد قال تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] والأخوان ليسا إخوة "حجبها قومك" يا غلام قال ابن الملقن رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد وقدمته بلفظ آخر في البحث الثالث من مباحث العام فإنه صريح في إبطال حكم القرآن بالإجماع وهو النسخ "وبسقوط سهم المؤلفة" قلوبهم من الزكاة عند الحنفية وموافقيهم بإجماع الصحابة في زمن أبي بكر رضي الله عنه الدال عليه ما روى الطبري من طريق حبان بن أبي جبلة أن عمر رضي الله عنه لما أتاه عيينة بن حصن قال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] يعني اليوم ليس مؤلفة إلى غير ذلك من غير إنكار أحد من(5/178)
الصحابة ذلك "قلنا الأول" أي كون قول عثمان حجبها قومك ناسخا للقرآن "يتوقف على إفادة الآية" أي {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] "عدم حجب ما ليس إخوة قطعا" لها من الثلث إلى السدس؛ لأنها إذا لم تفد عدم حجب ما ليس إخوة لم يلزم أن يكون معنى قول عثمان حجبها قومك حجبها الإجماع لجواز أن يكون حجبهم إياها لدليل آخر على حجبها بهما "و" على "أن الأخوين ليسا إخوة قطعا"؛ لأنهما لو جاز أن يقال لهما إخوة لكان معنى قول عثمان حجبها قومك اللغة تجيز لفظ الإخوة للأخوين كما تجيزه للثلاثة "لكن الأول" أي إفادة الآية عدم حجب ما ليس إخوة ثابت "بالمفهوم" المخالف "المختلف" في صحة كونه حجة وهو وإن لم يكن له إخوة لا يكون لأمه السدس "والثاني" أي إن الأخوين ليسا إخوة قطعا "فرع إن صيغة الجمع لا تطلق على الاثنين لا" حقيقة "ولا مجازا قطعا" وليس كذلك فإن الإطلاق عليهما مجازا لا ينكر "ولو سلم" أن عثمان أراد حجبها الإجماع "وجب تقدير نص" حدث قطعا يكون النسخ به وإلا كان الإجماع على خلاف القاطع الذي هو المفهوم المفروض قطعيته وهو باطل "وسقوط المؤلفة من قبيل انتهاء الحكم لانتهاء علته المفردة" الغائبة وهي الإعزاز للإسلام؛ لأن الدفع لهم هو العلة للإعزاز إذ يفعل الدفع ليحصل الإعزاز فإنما انتهى ترتب الحكم الذي هو الإعزاز على الدفع الذي هو(5/179)
ص -88-…العلة وعن هذا قيل عدم الدفع الآن للمؤلفة تقرير لما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم لا نسخ؛ لأن الواجب الإعزاز وكان بالدفع والآن هو في عدم الدفع لكن لا يخفى أن هذا لا ينفي النسخ؛ لأن إباحة الدفع إليهم حكم شرعي كان ثابتا وقد ارتفع وغاية الأمر أنه حكم شرعي هو علة لحكم آخر شرعي فنسخ الأول لزوال علته ذكره المصنف رحمه الله "وليس" انتهاء الحكم لانتهاء علته "نسخا ولو ادعوا" أي القائلون الإجماع ينسخ به "مثله" أي كون الإجماع مبينا رفع الحكم وانتهاء مدته "نسخا فلفظي" أي فالخلاف في أن الإجماع يكون ناسخا أو لا حينئذ لفظي "مبني على الاصطلاح في استقلال دليله" أي النسخ فمن اشترطه فيه وهو الجمهور لم يجعل الإجماع ناسخا فإن الإجماع ليس مستقلا بذاته في إثبات الحكم بل اعتبار أنه لا بد له من دليل يستند إليه فالإجماع كاشف عن ذلك الدليل وإن لم ينقل إلينا لفظه ومن لم يشرطه فيه جعله ناسخا كما هو ظاهر ما عن المخالفين إذ الوجه أن يكون الكل متفقين على أن الإجماع دليل وجود الناسخ أي يعلم به النسخ بدليله وإن لم يعلم عين دليله لا أن الإجماع نفسه ناسخ، وعبارة عيسى بن أبان على ما ذكر الجصاص أنه قال إذا روي خبران متضادان والناس على أحدهما فهو الناسخ للآخر انتهى صريحه في هذا كما ترى نعم كلام شمس الأئمة السرخسي في حكاية قول المخالف تنبو عن هذا فإنه قال وأما النسخ بالإجماع فقد جوزه بعض مشايخنا بطريق أن الإجماع موجب علم اليقين كالنص فيجوز أن يثبت النسخ به، والإجماع في كونه حجة أقوى من الخبر المشهور وإذا كان يجوز النسخ بالخبر المشهور فجوازه بالإجماع أولى وأكثرهم على أنه لا يجوز ذلك؛ لأن الإجماع عبارة عن اجتماع الآراء على شيء ولا مجال للرأي في معرفة نهاية وقت الحسن والقبح في الشيء عند الله تعالى ثم أوان النسخ حال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لاتفاقنا على أنه لا نسخ بعده وفي حال حياته ما كان ينعقد الإجماع(5/180)
بدون رأيه وكان المرجوع إليه فرضا، وإذا وجد البيان منه فالموجب للعلم قطعا هو البيان المسموع منه وإنما يكون الإجماع موجبا للعلم بعده ولا نسخ بعده فعرفنا أن النسخ بدليل الإجماع لا يجوز. "وصرح فخر الإسلام بمنسوخيته" أي الإجماع "أيضا" وهذا يفيد أنه مصرح بنسخ الإجماع والنسخ به "قال والنسخ في ذلك كله" أي في الإجماع "بمثله" أي بإجماع مثله "جائز حتى إذا ثبت حكم بإجماع في عصر يجوز أن يجمع أولئك على خلافه فينسخ به الأول وكذا في عصرين" على ما فيه من تقييد وتعقب نذكرهما قريبا "ووجه" قول فخر الإسلام في كشفه "بأنه لا يمتنع ظهور انتهاء مدة الحكم" الأول "بإلهامه تعالى للمجتهدين وإن لم يكن للرأي دخل في معرفة انتهاء مدة الحكم وزمان نسخ ما ثبت بالوحي وإن انتهى بوفاته عليه السلام لامتناع نسخ الوحي بعده" صلى الله عليه وسلم "لكن زمان نسخ ما ثبت بالإجماع لم ينته به" أي بموته صلى الله عليه وسلم "لبقاء زمان انعقاده" أي الإجماع وحدوثه "فجاز أن يجمع على خلاف ما أجمع عليه أهل العصر الأول" إذ يتصور أن ينعقد إجماع لمصلحة ثم تتبدل تلك المصلحة فينعقد إجماع ناسخ له "فيظهر بالإجماع المتأخر انتهاء مدة حكم الإجماع السابق إلا أن شرطه" أي نسخ الإجماع الإجماع "المماثلة" بينهما في القوة "فلا ينسخ إجماع الصحابة إجماع" من غيرهم "بعده بخلاف ما بعده"(5/181)
ص -89-…أي بعد إجماعهم لانتفاء المماثلة قال المصنف رحمه الله "وأنت خبير بأن هذا" التوجيه "لا يتأتى إلا على القول بجواز الإجماع لا عن مستند وليس" هذا القول القول "السديد ثم ناقض" فخر الإسلام هذا "قوله في النسخ وأما الإجماع فذكر بعض المتأخرين أنه يجوز النسخ به والصحيح أن النسخ به لا يكون إلا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع ليس حجة في حياته؛ لأنه لا إجماع بدون رأيه والرجوع إليه فرض وإذا وجد منه البيان فالموجب للعلم هو البيان المسموع منه وإذا صار الإجماع واجب العمل به" بعده "لم يبق النسخ مشروعا" بعده "وجوز أن يريد" فخر الإسلام بالصحيح المذكور كما هو مسطور في الكشف وغيره أنه "لا ينسخ الكتاب والسنة بالإجماع أما نسخ الإجماع بالإجماع فيجوز" والفرق أن الإجماع لا ينعقد بخلاف الكتاب والسنة فلا يتصور أن ينسخهما ويتصور أن ينعقد إجماع بمصلحة ثم تتبدل تلك المصلحة فينعقد إجماع آخر على خلاف الإجماع الأول "وهو" أي هذا المراد إذا كان "لمجرد دفع المناقضة لا يقوى اختياره للضعيف" وهو أن النسخ يكون بالإجماع "ثم هو" أي هذا المراد "مناف لقوله النسخ لا يكون إلا في حياته إلخ" ظاهر المنافاة "وما قيل" كما هو محصل بحث في التلويح "جاز وقوع الإجماع الثاني عن نص راجح على مستند الإجماع الأول ولا يعلم تأخره" أي النص الراجح "عنه" أي عن مستند الأول "كي لا ينسب النسخ إلى النص فيقع الإجماع الثاني متأخرا" عن الأول "فيكون ناسخا" للأول "لم يزد على اشتراط تأخر الناسخ" عن المنسوخ "ثم لا يفيد" توجه نسخ الإجماع المتأخر بسبب كون مستنده أقوى "لأنه إذا فرض تحقق الإجماع عن نص امتنع مخالفته" أي ذلك الإجماع "ولو ظهر نص أرجح منه" أي من نص الإجماع المذكور "لصيرورة ذلك الحكم" المجمع عليه "قطعيا بالإجماع فلا تجوز مخالفته فلا يتصور الإجماع بخلافه".
مسألة(5/182)
"إذا رجح قياس متأخر لتأخر شرعية حكم أصله عن نص على نقيض حكمه" أي حكم الأصل "في الفرع" فلتأخر بيان وجه كونه متأخرا. و " عن نص " متعلق ب " تأخر " بيان للمتأخر عنه، و " على نقيض " متعلق بـ " نص " أي عن نص على نقيض حكم ذلك الأصل في الفرع سابق ذلك النص على حكم أصل ذلك القياس مما بحيث تقدم عليه القياس إذا عارضه مما ليس بقياس أو ساواه كما سنذكره فإن الناسخ عندنا لا يلزم رجحانه بل ينسخ المساوي لغيره المعارض له إذا تأخر عنه وجواب إذا "وجب نسخه" أي القياس "إياه" أي النص السابق "لمن يجيز تقديمه" أي القياس "على خبر الواحد بشروطه" أي النسخ "دون غيره" أي غير من يجيز تقديمه على خبر الواحد "وكذا" المعارض "المساوي" مثاله نص الشارع على عدم ربوية الذرة ثم نص بعده على ربوية القمح وهو أصل قياس ربوية الذرة على القمح فقد اقتضى القياس المتأخر لتأخر شرعية حكم أصله في الذرة الربوية والنص عدمها فيها مع علم تأخر أحد المتعارضين وهو النسخ إن كملت شروطه ذكره المصنف "وما قيل في نفيه" أي النسخ "في" القياسين "الظنيين" كما في أصول ابن الحاجب؛ لأنه "بين القياس" الثاني المظنون "زوال شرط العمل به" أي بالقياس الأول المظنون "وهو" أي شرط عمله "رجحانه" أي الأول المظنون بأن لا(5/183)
ص -90-…يظهر له معارض راجح أو مساو وإذ بمجرد المعارض المساوي تبطل ظنيته فكيف بالراجح والقياس الظني راجح؛ لأنا فرضناه ناسخا فيبطل وجوب العمل بالظني المتقدم لانتفاء شرطه فلا يكون القياس ناسخا له "ليس بشيء بعد فرض تأخره" أي القياس الثاني "والحكم بصحة الحكم السابق" بالقياس الأول "وإلا" لو لم يكن متأخرا "فلا نسخ وإنما ذاك" أي عدم النسخ "في المعارضة المحضة" بين القياسين وليس الكلام فيها "وأما نسخه" أي القياس "قياسا آخر بنسخ حكم أصله" أي الآخر "مع" وجود "علة الرفع" للحكم "الثابتة في الفرع" أي بنسخ حكم الأصل بنص مشتمل على علة متحققة في الفرع فينسخ حكم الفرع أيضا بالقياس على الأصل فيتحقق قياس ناسخ وآخر منسوخ مثاله أن تثبت حرمة الربا في الذرة بقياس على البر منصوص العلة ثم تنسخ حرمة الربا في البر تنصيصا على العلة المشتركة بينه وبين الذرة فيقاس عليه وترفع حرمة الربا فيها فيكون نسخا للقياس بالقياس "على ما قيل" وقائله التفتازاني "ففيه نظر عندنا" أي الحنفية "إذ لا نجيز القياس لعدم حكم كما سيعلم" في المرصد الثاني في شرط العلة "ولا يعلل الناسخ وما فرضه القائل" من وجود علة الرفع في الفرع "لا يكون غير بيان وجه انتهاء المصلحة" التي شرع لها الحكم "وهو" أي انتهاء المصلحة "معلوم في كل نسخ فلو اعتبر ذلك" أي انتهاؤها ناسخا "كان" الناسخ "معللا دائما" وهو خلاف الإجماع ومن ثمة قال الأبهري وأما المثال المذكور في الشرح وهو إذا نسخ حكم الأصل فيقاس عليه فمختلف فيه على ما سيجيء من أنه إذا نسخ حكم الأصل هل يبقى معه حكم الفرع أو لا؟ وعلى تقدير عدم بقائه فانتفاؤه لرفع حكم الأصل أو لأن نسخ حكم الأصل نسخ له بأن يقاس عدمه على عدم حكم الأصل فيه خلاف "وإنما يتصور" نسخ القياس بالقياس "عندنا بشرعية بدل" عن حكم الأصل "فيه" أي في الأصل "يضاد" الحكم "الأول فيستلزم" شرع ذلك "رفع حكمه" الأول وحينئذ "فقد يقال بمجرد رفع(5/184)
حكم الأصل أهدر الجامع" بين الأصل والفرع "فيرتفع حكم الفرع بالضرورة ولا أثر للقياس فيه وأغنى هذا عن مسألتها" أي هذه الجزئية التي هي جواز نسخ القياس بالقياس "وتمامه" أي هذا البحث "في" المسألة "التي تليها" أي هذه المسألة وذكر الأبهري أن مثال نسخ القياس بالقياس اتفاقا أن ينص الشارع على خلاف حكم الفرع في محل يكون قياس الفرع عليه أقوى "ولا حاجة إلى تقسيم القياس إلى قطعي وظني" كما ذكر ابن الحاجب وغيره وهو ظاهر مما تقدم "وستعلم" في ذيل الكلام في أركان القياس "أن لا قطع عن قياس ولو قطع بعلته" أي الحكم في الأصل "ووجودها في الفرع لجواز شرطية الأصل أو مانعية الفرع" منه "ولو تجوز به" أي بالقطعي "عن كونه" أي القياس "جليا ففرض غير المسألة" التي نحن بصددها "أن عنى به" أي بالجلي "مفهوم الموافقة وإلا" إذا لم يعن به ذلك "فما فرضناه" من موضوع المسألة "عام" له ولغيره وحينئذ "لا يحتاج إليه" أي إلى ذكر الجلي وتخصيصه بذلك "قالوا" أي مجيزو النسخ "تخصيص الزمان بإخراج بعضه" أي الزمان من أن يكون الحكم مشروعا فيه "فكتخصيص المراد" أي فهو كإخراج بعض ما يتناوله العام من أن يكون مرادا بالحكم المتعلق بالعام، والقياس يجوز أن يخصص به المراد فيجوز(5/185)
ص -91-…أن ينسخ به والملخص أنه يجوز النسخ بالقياس قياسا على التخصيص به بجامع كونهما تخصيصين، وكون أحدهما في الأعيان والآخر في الزمان لا يصلح فارقا إذ لا أثر له "الجواب منع الملازمة إذ لا مجال للرأي في الانتهاء" للحكم في علم الله تعالى "كما تقدم" في التي قبلها "ولو علم" الحكم "منوطا بمصلحة علم ارتفاعها فكسهم المؤلفة" أي فهو من قبيل انتهاء الحكم لانتهاء علته كسقوط سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة وليس نسخا.
مسألة(5/186)
"نسخ أحد الأمرين من فحوى منطوق" أي هل ينسخ الفحوى دون المنطوق وبالعكس "وهو" أي فحواه "الدلالة للحنفية" ومفهوم الموافقة لغيرهم فيه أقوال أحدها: نعم وعليه البيضاوي، ثانيها لا ونسب إلى الأكثرين، "ثالثها المختار للآمدي وأتباعه جواز" نسخ "المنطوق" بدون الفحوى "لا" جواز "قلبه" أي يمتنع نسخ الفحوى بدون المنطوق "لأنه" أي المنطوق كتحريم التأفيف "ملزوم" لفحواه كتحريم الضرب "فلا ينفرد" الملزوم "عن لازمه" أي فلا يوجد تحريم التأفيف مع عدم تحريم الضرب؛ لأن وجود الملزوم مع عدم اللازم محال "بخلاف نسخ التأفيف فقط" أي انتفاء الملزوم مع بقاء اللازم وهو تحريم الضرب فإنه لا يمتنع "لأنه" أي نسخ التأفيف لا غير "رفع للملزوم" ورفعه مع بقاء اللازم غير ممتنع قال "المجيزون" النسخ كل منهما بدون الآخر "مدلولان" متغايران أحدهما صريح والآخر غير صريح "فجاز رفع كل دون الآخر" ضرورة "أجيب" بجوازه "ما لم يكن أحدهما ملزوما للآخر فإذا كان" أحدهما ملزوما للآخر "فما ذكرنا" أي فإنما يجوز نسخ المنطوق بدون الفحوى لا القلب. قال "المانعون" لنسخ كل منهما بدون الآخر يمتنع نسخ "الفحوى دون الأصل" الذي هو المنطوق "لما قلتم" من لزوم الملزوم مع عدم اللازم "وقلبه" أي ويمتنع نسخ الأصل دون الفحوى "لأنه" أي الفحوى "تابع" للأصل "فلا يثبت" الفحوى "دون المتبوع" أي الأصل لوجوب ارتفاعه بارتفاع متبوعه وإلا لم يكن تابعا له "أجيب بأن التابعية" أي تابعية الفحوى للأصل إنما هي "في الدلالة" أي دلالة اللفظ على الأصل "ولا ترتفع" الدلالة إجماعا "لا" أن الفحوى تابع للأصل في "الحكم" أي حكم الأصل فإن فهمنا تحريم الضرب من فهمنا لتحريم التأفيف لا أن الضرب إنما كان حراما؛ لأن التأفيف حرام ولا أنه لولا حرمة التأفيف لما كان الضرب حراما "وهو" أي الحكم الذي هو حرمة التأفيف "المرتفع" فالمتبوع لم يرتفع والمرتفع ليس بمتبوع "واعلم أن تحقيقه أن الفحوى" إنما(5/187)
تثبت "بعلة الأصل متبادرة" إلى الفهم بمجرد فهم اللغة "حتى تسمى قياسا جليا فالتفصيل" المذكور "حتى على اشتراط الأولوية" أي أولوية المسكوت بالحكم في الفحوى كما هو قول بعضهم "لأن نسخ الأصل" يكون "برفع اعتبار قدره" أي ما يدل عليه منطوقه من المقدار الذي هو عليه الحكم فيه "وجاز بقاء المفهوم" المذكور "بقدر فوقها" أي العلة التي تضمنها الأصل فيبقى حكم المفهوم لبقاء علته "بخلاف القلب" أي نسخ الفحوى دون الأصل فإنه لا يجوز "إذ لا يتصور إهدار الأشد في التحريم" كالضرب. "واعتبار ما دونه" أي ما دون الأشد في التحريم وهو التأفيف "فيه" أي في التحريم(5/188)
ص -92-…حتى يجوز أن ينسخ حرمة الضرب ولا ينسخ حرمة التأفيف بل الأمر بالقلب فإن الحكمة الباعثة على تحريم التأفيف غاية في إيجاب التعظيم والمنع من الإيذاء حتى يستتبع تحريم الشتم والضرب وسائر أنواع الإيذاء، بخلاف حكمة تحريم الضرب فإنها ليست في تلك الغاية من التعظيم فلا يلزم من ارتفاع التعظيم الأول ارتفاع التعظيم الثاني؛ لأن من لا يجب أن يعظم غاية التعظيم قد يجب أن يعظم تعظيما ما وحاصله أن الرعاية والعناية في تحريم التأفيف فوقها في تحريم الضرب وأخص منها وانتفاء الأعلى والأخص لا يوجب انتفاء الأدنى والأعم "ونحو اقتله ولا تهنه" إنما جاز مع أن القتل أشد من الإهانة "لعرف صير الإهانة فوق القتل أذى" ونحن قائلون بأنه لا يلزم من إهدار الأدنى إهدار الأعلى "وتقدم" في التقسيم الأول من الفصل الثاني في الدلالة "أن الحنفية وكثيرا من الشافعية أن لا يشترط" في مفهوم الموافقة "سوى التبادر" أي تبادر حكم المذكور للمسكوت بمجرد فهم اللغة سواء "اتحد كمية المناط" للحكم "فيهما" أي في المنطوق والمفهوم بأن تساويا في مقداره "أو تفاوت" المناط فيهما كمية بأن كان في المسكوت أشد "فيلزمهم" أي الحنفية "التفصيل المذكور في الأولى والمنع فيهما" أي المنطوق والمفهوم "في المساواة فلو نسخ إيجاب الكفارة للجماع" أي جماع الصحيح المقيم الصائم في نهار رمضان في أحد السبيلين "لانتفى" إيجابها "للأكل" أي لأكله عمدا فيه "ومبناه" أي عدم التفصيل في المساواة "على المختار من أن نسخ حكم الأصل لا يبقى معه حكم الفرع" كما خلافه منسوب إلى الحنفية "وكونه" أي عدم بقاء حكم الفرع "يسمى نسخا أو لا" نزاع "لفظي أو سهو المخالف" إذ لا نسخ حقيقة وإنما هو من زوال الحكم لزوال علته "لنا نسخه" أي حكم الأصل "يرفع اعتبار كل علة له" أي لحكم الأصل "وبها" أي وبعلة الأصل "ثبت حكم الفرع فينتفي" بانتفائها وإلا لزم ثبوت الحكم بلا دليل، "فقول المبقين" لحكم الفرع(5/189)
"الفرع تابع للدلالة لا للحكم" أي لحكم الأصل "ولا يلزمه" أي كونه تابعا لدلالة الأصل "انتفاؤه" أي حكمه "لانتفائه" أي حكم الأصل "وقولهم" أي المبقين أيضا "هذا" أي الحكم بأن حكم الفرع لا يبقى مع نسخ حكم الأصل "حكم يرفع حكم الفرع قياسا على رفع حكم الأصل وهو" أي هذا الحكم قياس "بلا جامع" بينهما موجب للرفع "بعد عظيم" كما هو ظاهر مما تقدم، وأما نسخ الفحوى مع الأصل فيجوز اتفاقا ولم يتعرض المصنف لجواز كون الفحوى ناسخا وقد ادعى الإمام الرازي والآمدي الاتفاق عليه ونقل أبو إسحاق الشيرازي وابن السمعاني الخلاف فيه بناء على أن الفحوى قياس والقياس لا يكون ناسخا وقد عرفت ما فيه ولم يتعرض أيضا لمفهوم المخالفة ويجوز نسخه مع الأصل وبدونه، وأما نسخ الأصل بدونه فذكر الصفي الهندي أن أظهر الاحتمالين أنه لا يجوز؛ لأنها تابعة له فترتفع بارتفاعه ولا يرتفع هو بارتفاعها، وقيل يجوز وتبعيتها له من حيث دلالة اللفظ عليها معه لا من حيث ذاته وهل يجوز النسخ بمفهوم المخالفة فابن السمعاني لا لضعفها عن مقاومة النص وأبو إسحاق الشيرازي الصحيح الجواز؛ لأنها في معنى النطق والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/190)
ص -93-…مسألة
مذهب الحنفية والحنابلة ومشى عليه ابن الحاجب وغيره "لا يثبت حكم الناسخ" في حق الأمة "بعد تبليغه" أي جبريل النبي "عليه السلام قبل تبليغه هو" أي النبي صلى الله عليه وسلم الأمة وقيل يثبت قال السبكي والخلاف إذا بلغ جبريل وألقاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الأرض ولم يتمكن أحد من المكلفين من العلم به، ووراءه صور إحداها: أن لا ينزل إلى الأرض ولا يبلغ جنس البشر كما إذا أوحى الله إلى جبريل ولم ينزل. الثانية أن ينزل ولكن لم يلقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلاف في هاتين أنه لا يتعلق به حكم. الثالثة أن يبلغ جنس المكلفين من البشر ولكن في غير دار التكليف كالسماء ثم يرتفع كفرض خمسين صلاة ليلة المعراج فإنه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ثم رفع فهل يكون نسخا؟ فيه نظر يحتمل أن لا يثبت حكمه، ويحتمل أن يقال بثبوته وعليه يدل كلام ابن السمعاني ا هـ قلت؛ لأنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علمه واعتقد وجوبه فلم يقع النسخ له إلا بعد علمه واعتقاده ا هـ. وعليه مشايخنا أيضا كما تقدم في مسألة الاتفاق على جواز النسخ بعد التمكن. الرابعة أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض ولا يبلغ الأمة فإن تمكنوا من العلم به ثبت في حقهم قطعا وإلا فهو محل الخلاف، والجمهور أنه لا يثبت لا بمعنى وجوب الامتثال ولا بمعنى الثبوت في الذمة، وقال بعضهم يثبت بالمعنى الثاني كالنائم ولا نحفظ أحدا قال بثبوته بالمعنى الأول ا هـ ثم إنما كان المختار ما ذكر المصنف "لأنه" أي ثبوته "يوجب تحريم شيء ووجوبه في وقت" واحد لو كان الشيء المنسوخ واجبا قبل نسخه إذ وجوبه باق على المكلف قبل وصول الناسخ إليه "لأنه لو ترك المنسوخ قبل تمكنه من علمه" بالناسخ "أثم" بالإجماع "وهو" أي الإثم على تقدير الترك "لازم الوجوب" فكان العمل به واجبا "والفرض أنه" أي العمل به "حرم" بالناسخ فكان واجبا حراما في حالة واحدة وهو محال(5/191)
"ولأنه لو علمه" أي المكلف الثاني "غير معتقد شرعيته لعدم علمه" بكونه ناسخا للأول "أثم" بعلمه بالاتفاق "فلم يثبت حكمه" أي الناسخ وإلا لم يأثم بالعمل به؛ لأنه لا إثم بالعمل بالواجب "وأيضا لو ثبت" حكمه "قبله" أي تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم الأمة "ثبت" حكمه "قبل تبليغ جبريل" النبي صلى الله عليه وسلم "لاتحادهما" أي هذين "في وجود الناسخ" في نفس الأمر "الموجب لحكمه" أي الناسخ "مع عدم تمكن المكلف من عمله" أي الناسخ "وقد يقال" على الوجهين الأولين "الإثم" إنما هو "لقصد المخالفة" للمشروع "مع الاعتقاد" للمخالفة للمشروع "فيهما لا لنفس الفعل" في الثاني كما فيمن وطئ زوجته يظنها أجنبية فإنه لا يأثم بالوطء بل بالجراءة عليه "ولا نؤثمه" بترك العمل بالناسخ "قبل تمكن العلم" الناسخ لعدم لزوم امتثاله في حق المكلف قبل التمكن من العلم به بل "إنما يوجب" التمكن من العلم بالناسخ إذا فات مقتضى الناسخ "التدارك" لمقتضاه فيما يمكن التدارك له بذلك "كما لو لم يعلم بدخول الوقت" المعين للصلاة والصوم مثلا "وخروجه" إلا بعد خروجه لمانع من ذلك غير مسقط للقضاء فإنه يتدارك كل منهما بالقضاء ويقال على الوجه الثالث "والفرق" بين ما قبل تبليغ جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وبين ما بعد تبليغ جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يبلغ الأمة "أن ما قبل(5/192)
ص -94-…تبليغ جبريل" للنبي صلى الله عليه وسلم هي حالة للناسخ "قبل التعلق" أي تعلقه بالمكلفين "أن شرطه" أي تعلقه بهم "أن يبلغ واحدا" فصاعدا منهم ولم يوجد بخلاف ما بعد تبليغ جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يبلغ الأمة فإنه حالة للناسخ بعد تعلق ثبوته في حقهم على تفصيل في ذلك تقدم ذكره آنفا فلا تساوي بينهما، على أنه إذا علم الرسول فسائر المكلفين متمكن من العلم به لإمكان استحصاله منه بخلاف ما إذا لم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فإن الاستحصال من جبريل غير متمكن "قالوا" أي القائلون بثبوت حكم الناسخ في حق الأمة إذا بلغ النبي ولم يبلغ الأمة حكم الناسخ "حكم تجدد" أي ظهر تعلقه "فلا يعتبر العلم به" للمكلف أي لا يتوقف ثبوته في حقه على علمه به "للاتفاق على عدم اعتباره" أي العلم به "فيمن لم يعلمه" من المكلفين "بعد بلوغه واحدا" منهم في ثبوت ذلك عليه فكذا هذا يثبت في حقه إذا وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يبلغه "قلنا" قولكم علم المكلف به غير معتبر مسلم ولكن وراء عدم العلم به أمران أحدهما عدم التمكن من العلم به أيضا، وهذا الذي نمنعه لئلا يلزم تكليف الغافل وهو من ليس له صلاحية العلم لا من ليس عالما وإلا لم يكن الكفار مكلفين ومن لم يبلغ التكليف إليه ولا إلى غيره من الأمة ليس له صلاحية العلم به فيكون غافلا، والثاني التمكن من العلم به وهذا هو الصورة المتفق عليها كما ذكرتم؛ لأن "ببلوغه واحدا حصل التمكن ولذا" أي ولحصول التمكن ببلوغ واحد "شرطناه" أي بلوغ الواحد في ثبوت التعلق في حق الجميع آنفا "بخلاف ما قبله" وهو ما إذا بلغ النبي لا الأمة "فافترقا" ولكن هذا متعقب بما ذكرناه من أنه إذا علم الرسول أمكن سائر المكلفين استحصاله منه كما أشار إليه بقوله "وقد يقال النبي" صلى الله عليه وسلم "ذلك" الواحد "فيه" أي ببلوغه "يحصل التمكن" لهم من العلم به فلا يلزم منه تكليف الغافل وأورد أيضا إن أريد(5/193)
بنفي الثبوت نفي وجوب الامتثال فمسلم ولا نزاع فيه وإن أريد به نفي الثبوت في الذمة فممنوع فقد يستقر الشيء في ذمة من يعلم به ولم يتمكن منه فلا جرم إن قال المصنف "فالوجه" في الاستدلال لنفي ثبوت حكم الناسخ في حق من لم يبلغه من الأمة وإن بلغ النبي صلى الله عليه وسلم بل وبعض الأمة "السمع" وهو ما في الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع فقال رجل يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح قال "اذبح ولا حرج" فساقه إلى أن قال فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال "افعل ولا حرج" بناء "على" قول "أبي حنيفة" تقديم نسك على نسك شرعا مرتبين واجب يوجب الإخلال به الدم عملا بما روى ابن أبي شيبة والطحاوي عن ابن عباس من قدم شيئا في حجه أو أخره فليهرق دما فإن ظاهر الحديث أنه إنما سقط الدم لعدم العلم قبل الفعل بوجوب الترتيب كما يصرح به قوله لم أشعر ففعلت كذا أي لم أعلم وجوب ذلك، ثم ظهر لي بعد الفعل أنه ممنوع من ذلك ولذا قدم اعتذاره على سؤاله وإلا لم يسأل أو لم يعتذر وعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك للجهل به؛ لأن الحال كان في ابتدائه وأمرهم أن يتعلموا منه مناسكهم وأيضا واقعة أهل قباء فإنهم أتاهم الخبر بنسخ القبلة وهم في الصلاة فاستداروا ولو ثبت الحكم في حقهم قبل ذلك لأمرهم بالإعادة. هذا وقد ظهر أن الخلاف ليس بلفظي كما قال القاضي في التقريب(5/194)
ص -95-…بل معنوي كما ذكر السبكي أنه الأظهر وأن المسألة ليست قطعية كما قال إمام الحرمين في مختصر التقريب بل هي ملحقة بالمجتهدات كما ذكر غيره والله سبحانه أعلم.
مسألة
"إذا زاد في مشروع جزءا أو شرطا له متأخرا" عن المزيد عليه يصح القول بالنسخ فيه "هو" أي المزيد "فعل أو وصف كركعة في الفجر والتغريب في الحد" وهذان من أمثلة الجزء "والطهارة في الطواف ووصف الأيمان في الرقبة" وهذان من أمثلة الشرط "فهل هو" أي المزيد "نسخ" للمزيد عليه أم لا "فالشافعية والحنابلة" وجماعة من المعتزلة كالجبائي وأبي هاشم وأكثر الأشعرية على ما ذكر الماوردي "لا" يكون نسخا "وقيل إن رفعت" الزيادة حكما شرعيا كانت نسخا وإلا فلا وهذا للقاضي وأبي الحسين البصري واستحسنه الإمام الرازي واختاره إمام الحرمين والآمدي وابن الحاجب "بناء على أنها" أي الزيادة "قد" ترفع حكما شرعيا "وقد" لا ترفعه ونقل التفتازاني عن صاحب التنقيح أن هذا كلام خال عن التحصيل؛ لأن كل أحد يعلم ذلك ويعرف به، وإنما الكلام في أن أي صورة تقتضي رفع حكم شرعي وأي صورة لا تقتضيه وأوضحه السبكي فقال وأنا أقول لا حاصل لهذا التفصيل وليس هو بواقع في محل النزاع فإنه لا ريب في أن ما رفع حكما شرعيا كان نسخا؛ لأنه حقيقته ولسنا هنا في مقام أن النسخ رفع أو بيان وما لا فليس بنسخ فالقائل أنا نفرق بين ما رفع حكما شرعيا وما لم يرفع كأنه قال إن كانت الزيادة نسخا فهي نسخ وإلا فلا وهذا كما تراه وإنما حاصل النزاع بينهم في أن الزيادة هل ترفع حكما شرعيا فيكون نسخا أو لا؟ فلو وقع الاتفاق على أنها ترفع حكما شرعيا لوقع على أنها نسخ أو على أنها لا ترفع لوقع على أنها ليست بنسخ، فالنزاع في الحقيقة في أنها هل هي رفع أو لا؟ ولذا أكثر الأئمة في المسألة من تعداد الأمثلة ليعتبرها النظر ويردها إلى مقارها ويقضي عليها بالنسخ إن كانت رفعا وبعدمه إن لم تكن. قال ولي وراء هذا التقرير كلام آخر(5/195)
فأقول قولنا الزيادة هل هي نسخ ليس معناه إلا أنها هل هي نسخ المزيد عليه نفسه فلا يتجه حينئذ قول من يقول إن رفعت حكما شرعيا كانت نسخا؛ لأنه ليس كلامنا في أنها هل هي نسخ من حيث هو أم إنما كلامنا في نسخ خاص فهل هي نسخ للمزيد عليه أم لا والمزيد عليه حكم شرعي بلا نظر فهل الزيادة رافعة له فيكون منسوخا أو لا؟ هذا حرف المسألة ولكنهم توسعوا في الكلام فذكروا ما إذا رفعت المزيد عليه وما إذا رفعت غيره انتهى، ثم الذي يتلخص في بيان هذا المذهب أن الزيادة إذا ثبتت بما يصلح أن يكون ناسخا وكانت حكما شرعيا ومتأخرة عن المزيد تأخرا يصح معه النسخ وكان المرفوع حكما شرعيا كانت ناسخة وقول من قال بدليل شرعي لزيادة البيان والتأكيد؛ لأن ثبوت الحكم الشرعي ورفعه لا يكون إلا بدليل شرعي "والحنفية" قالوا "نعم" هي نسخ "لأنها ترفع حكما شرعيا" قال السبكي واختاره بعض أصحابنا وادعى أنه مذهب الشافعي "أما رفع مفهوم المخالفة كفي المعلوفة" زكاة "بعد" قولنا في "السائمة" زكاة "فنسبته" أي كونه نسخا "إلى الحنفية" كما هو ظاهر كلام ابن الحاجب ومشى عليه عضد الدين(5/196)
ص -96-…"غلط إذ ينفونه" أي مفهوم المخالفة كما تقدم بل يكون إيجاب الزكاة في المعلوفة عندهم من باب زيادة عبادة مستقلة على ما قد شرع وهو ليس بنسخ كما ستعلم، وما في التلويح وأنت خبير بأنه لا مؤاخذة في ذلك على ابن الحاجب لما علم من عادته في الاختصار بالسكوت عما هو معلوم فهو في حكم المستثنى تعقب بأنه اعتذار بعيد؛ لأنه لم يسكت بل حكم بأنه عند أبي حنيفة نسخ. قيل والاعتذار القريب أن يقال أراد به أنه لو قال بمفهوم المخالفة كان رفعه نسخا فهو حكم بذلك على أصل أبي حنيفة وإلى هذا مال الأبهري ولا يخفى أنه بعيد أيضا "وإذا لزم الرفع" لحكم شرعي "عندهم امتنع بخبر الواحد على القاطع" على ما ثبت به "فمنعوا زيادة الطهارة والأيمان والتغريب" بخبر الواحد في الأول كما تقدم في المسألة التي يليها باب السنة وفي الأخير كما تقدم في مسألة حمل الصحابي مروية المشترك إلخ وبالقياس على كفارة القتل في الثاني "على ما سلف" أي الطواف والرقبة في كفارة الظهار واليمين وحد غير المحصن في الزنا الثابتة بالنصوص القرآنية "إذ يرفع" الظن في هذه "حرمة الزيادة في الحد والإجزاء بلا طهارة" في الطواف "و" بلا "أيمان" في تحرير الرقبة في كفارتي الظهار واليمين. "وإباحته" أي كل من الطواف وتحرير الرقبة فيهما "كذلك" أي بلا طهارة في الأول وبلا أيمان في الثاني "وهو" أي كل من الحرمة والإباحة المذكورتين "حكم شرعي هو مقتضى إطلاق النص" الذي هو وليطوفوا بالبيت العتيق وتحرير رقبة "فهو" أي كل من الحرمة والإباحة المذكورتين ثابت "بدليل شرعي" قطعي هو النص المذكور في الطواف والنص المذكور في الكفارة "وعموم تحريم الأذى" كما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار" وقد ذكر أبو داود أنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها. وقال ابن الصلاح أسنده الدارقطني من وجوه ومجموعها يقوي الحديث ويحسنه وقد يقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به،. وقال الحاكم صحيح(5/197)
الإسناد على شرط مسلم في تحريم الزيادة على الحد، والقطعي لا يبطل بالظني، وقال الغزالي إن اتصلت الزيادة بالمزيد عليه اتصال اتحاد يرفع التعدد والانفصال كما لو زيد في الصبح ركعتان فهي نسخ إذ كان حكم الركعتين في الأوليين الإجزاء والصحة بدون الأخريين وقد ارتفع وإلا فلا والمراد بقوله اتصال اتحاد أن تكون الزيادة والمزيد عليه جزأين لعبادة واحترز به عن كون الزيادة شرطا كاشتراط الطهارة في الطواف قال؛ لأنه من قبيل التخصيص والنقصان من النص لا من قبيل النسخ؛ لأنه ثبت بالنص إجزاء الطواف بالطهارة وبغيرها وأخرج قوله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة" أحد القسمين وخرج أيضا زيادة عشرين جلدة على الثمانين في حد القذف فإنها ليست بنسخ؛ لأن الثمانين بقي وجوبه وإجزاؤه عن نفسه ووجبت الزيادة عليه مع بقائه وأورد على نفسه اعتراضين أن الثمانين كان حدا كاملا ورفع استحقاق حكم الكمال بالزيادة عليه فكانت نسخا وأن الزيادة عليه نسخ لوجوب الاقتصار على المزيد عليه وهو حكم شرعي. وأجاب عن الأول بأن استحقاق اسم الكمال ليس حكما شرعيا وعن الثاني بأن وجوب الاقتصار لم يثبت بالمنطوق بل بالمفهوم، والقائل بعدم جواز الزيادة على النص بالآحاد لا يقول بثبوت المفهوم وهو(5/198)
ص -97-…وإن قال بجواز الزيادة على النص بالآحاد فهو لا يقول بثبوت مفهوم العدد وهذا منه على أن القائل بثبوته إنما يتم أن تكون هذه الزيادة عنده نسخا أن لو تحقق أن المفهوم كان مرادا، ثم ارتفع بالزيادة ولا سبيل إلى معرفته بل لعله ورد بيانا لإسقاط المفهوم متصلا أو قريبا منه كما قاله الغزالي أيضا "وعبد الجبار" قال الزيادة "إن غيرته" أي المزيد عليه تغيرا شرعيا "حتى لو فعل" المزيد عليه بعد الزيادة كما كان يفعل قبلها "وجب استئنافه كزيادة ركعة في الفجر أو" كان "تخييره" أي المكلف "بين" خصال "ثلاث" كأعتق أو صم أو أطعم "بعده" أي بعد تخييره "في ثنتين" منها كأعتق أو صم كانت نسخا عنده أما الأول فظاهر والثاني "لرفع حرمة تركهما" أي الخصلتين الأوليين مع فعل الثالثة بعد أن كان تركهما محرما "بخلاف زيادة التغريب على الحد وعشرين على الثمانين" فإنها ليست نسخا عنده؛ لأن وجود المزيد عليه بدون وجودها ليس كالعدم ولا يجب فيه استئناف المزيد عليه وإنما يجب ضمها إلى المزيد عليه "وغلط فيه" أي في هذا الأخير "بعضهم" أي ابن الحاجب حيث جعل وجود المزيد عليه فيه بدونها كالعدم وأن الزيادة فيه نسخ. قال السبكي وما يقال شرط الضربات أن تكون متوالية فلو أتى بثمانين منفصلة عن عشرين لم يكف ضم العشرين إليها تكلف محض، ثم أنه قد يجلد في يوم ثمانين وفي اليوم الذي يليه عشرين وذلك يجزي قاله الأصحاب إنما الممتنع تفرقه لا يحصل بها إيلام ونكيل وزجر كما إذا ضربه في كل يوم سوطا أو سوطين وضبط إمام الحرمين التفريق فقال إن كان بحيث لا يحصل من كل دفعة ألم له وقع كسوط أو سوطين في كل يوم لم يجز وإن كان يؤلم ويؤثر بماله وقع فإن لم يتخلل زمن يزول فيه الألم الأول جاز وإن تخلل لم يكف على الأصح ولن يعدم المحاول إذا تكلف صورة من هذا يصح التمسك بها وليس من شأن ذوي التحقيق، والصواب أن هذا مثال للقسم الثاني وهو ما لا يغير المزيد عليه بل يكون على(5/199)
حياله ولا يكون نسخا عند القاضي عبد الجبار وقد مثل له الآمدي به وبزيادة التغريب على الحد انتهى. وفي القواطع وغيره عن أبي الحسن الكرخي وأبي عبد الله البصري إن غيرت الزيادة حكم المزيد عليه في المستقبل كانت نسخا كزيادة التغريب فإنها توجب تغيير الحكم الأول في المستقبل من الكل إلى البعض، وإن لم تغير حكمه في المستقبل بل كانت مقارنة له كزيادة ستر شيء من الركبة بعد وجوب ستر الفخذ فإنها لا تكون ناسخة لوجوب ستر كل الفخذ؛ لأن ستر الكل لا يتصور بدون ستر البعض بل مقررة "والأصح في زيادة صلاة" على الخمس لو وقعت "عدمه" أي النسخ كما هو قول الجمهور "وقيل نسخ" وعزي إلى بعض مشايخنا العراقيين "لوجوب المحافظة على الوسطى" بقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] والزيادة تخريجها عن كونها وسطى "والجواب" أن الزيادة "لا تبطل وجوب ما كان مسمى الوسطى صادقا عليه وإنما بطل كونها وسطى وليس" كونها وسطى "حكما شرعيا" بل هو أمر حقيقي فلا يكون رفعه نسخا وهذا ما قال السبكي إن كانت الوسطى علما على صلاة بعينها إما الصبح أو العصر أو غيرهما وليست فعلى من المتوسط بين الشيئين فهو أيضا ساقط إذ لا يلزم من(5/200)
ص -98-…زيادة صلاة ارتفاع الأمر بالمحافظة على تلك الصلاة الفاصلة لكنه قال وإن كانت الوسطى المتوسط بين الصلوات فالذي يظهر حينئذ أن الأمر يختلف بما يزاد فإن زيدت واحدة فهي ترفع الوسط بالكلية ويتجه بما ذكروه؛ لأن الوسط حينئذ وإن كان أمرا حقيقا إلا أن الشرع ورد عليه وقرره فيكون نسخا للأمر الشرعي، وإن زيدت ثنتين ونحوهما بما لا يرفع الوسط فلا نسخ وإنما خرجت الظهر مثلا عن أن تكون وسطى وكونها كانت الوسط أمر حقيقي اتفاقي لا يرد النسخ عليه والأمر بالمحافظة على الوسط شيء وراء ذلك وهو لم يزل بل هو باق "وأما نقص جزء" من المشروع كركعتين من الظهر "أو" نقص "شرط" من شروطه كاستقبال القبلة للصلاة "فنسخ اتفاقا لحكمه" أي ذلك الجزء أو الشرط "ثم قيل ونسخ لما منه" الجزء وله الشرط أيضا، ثم منهم كالصفي الهندي من جعل الخلاف في الشرط المتصل كالمثال المذكور لا المنفصل كالطهارة فإنه ليس نسخا إجماعا ومنهم من يفيد كلامه إثبات الخلاف في الكل "وعبد الجبار" قال يكون ذلك النقص نسخا للمشروع أيضا "إن" كان الناقص "جزءا" من المشروع ولا يكون نسخا للمشروع إن كان شرطا له، والمختار أنه ليس بنسخ للمشروع مطلقا "لنا لو كان" نقص ركعتين من الظهر مثلا أو بعض شرطها الذي هو الطهارة مثلا "نسخا لوجوب الركعات الباقية افتقرت" الركعات الباقية بعد النقص في وجوبها "إلى دليل آخر له" أي للوجوب والتالي باطل للإجماع على أن الباقي لا يفتقر إلى دليل ثان. بيان الملازمة أن وجوب الشرع الذي كان ثابتا قبل نقصان الجزء أو الشرط قد ارتفع بالنقصان؛ لأن الفرض أن النقصان نسخ للوجوب فوجوب المشروع بعد النقصان لا بد له من دليل آخر. "قالوا" أي القائلون نقصان الجزء أو الشرط نسخ للمشروع "حرمت" الصلاة "بلا شرطها" الذي هو الطهارة مثلا "وباقيها" أي بدون جزئها الذي هو الركعتان من الظهر مثلا "وارتفعت حرمته" أي المشروع الذي هو الصلاة مثلا المؤدى بهذا النقص قبل(5/201)
ورود النص به "بنقص الشرط" الذي هو الطهارة مثلا أي بورود النص به كما ينقص الجزء الذي هو الركعتان من الظهر مثلا فكان نقصان الشرط أو الجزء نسخا "وإذن فلا معنى لتفصيل عبد الجبار" المذكور لاستوائهما في ارتفاع تحريم المشروع بدونهما بعد أن كان محرما "أجيب بأن وجوب الباقي" بعد النقص "عين وجوبه الأول ولم يتجدد وجوب بل" إنما تجدد "إبطال وجوب ما نقص فظهر أن حكمهم" أي القائلين بأن نقص الجزء أو الشرط نسخ للمشروع "به" أي بنسخ المشروع إنما هو "لرفع حرمة لها نسبة" أي تعلق "بالباقي على تقدير الاقتصار" على ما سوى الجزء والشرط المنسوخين قبل ورود النقصان بأحدهما "وعندنا هو" أي نقصان الجزء والشرط "يرفع الوجوب" لهما "لأنه" أي رفع وجوبهما هو "الحكم الآن" أي بعد النقصان "وذاك" أي حكمهم بنسخ المشروع بواسطة النقصان المذكور "كالمضاف" إلى ما قبل ورود النقصان بأحدهما ولا شك أن الأول أولى "وقيل" أي وقال التفتازاني "الخلاف" إنما هو "في" نسخ "العبادة وهي" أي العبادة "المجموع" من الأجزاء "لا مجرد الباقي" منها فالنزاع في نسخها بمعنى ارتفاع جميع أجزائها وإلا فارتفاع الكل بارتفاع الجزء ضروري "ولا شك في ارتفاع وجوب الأربع"(5/202)
ص -99-…بارتفاع وجوب ركعتين منها. "واتجه تفصيل عبد الجبار" بين الجزء والشرط بل قال التفتازاني وينبغي أن يكون هذا مراد القاضي عبد الجبار قال المصنف "ولا شك في صدق ذلك" أي ارتفاع وجوب الأربع "بصدق كل من نسخ وجوب أحدهما" أي أحد أجزائها "أو" نسخ "وجوب كل" أي كل جزء "منها والثاني" نسخ وجوب كل جزء منها "ممنوع والأول" أي نسخ وجوب أحد أجزائها "مرادنا ففي الحقيقة إنما نسخ وجوب" جزء "واحد دون الباقي، وإن كان يصدق ذلك" أي ارتفاع وجوب الأربع "به" أي بنسخ وجوب جزء منها "فبما" أي فالاعتبار بالذي هو ثابت "في التحقيق اعتبارنا" فكان أولى "ولبعضهم هنا خبط" والله تعالى أعلم بمن هو المراد بالبعض وبما هو المراد بالخبط. ثم قد علم من هذا أن المراد نقص ما يتوقف صحة المشروع عليه داخلا كان فيه أو خارجا عنه أما نقص ما لا يتوقف صحة المشروع عليه كسنة من سننها ومثله الغزالي بالوقوف على يمين الإمام وستر الرأس فليس نسخا للعبادة بالاتفاق كما نقله قوم قال السبكي وقد يقال إن قلنا إن العبادة مركبة من السنن والفرائض كان القول بأن نقصان السنن نسخ لها كالقول في نقصان الجزء، وإن قلنا مختصة بالفرائض فلا وصنيع الفقهاء يدل على أنها مركبة من الفرائض والسنن جميعا حيث يذكرون في صفة الصلاة سننها وحيث يقولون باب فرائض الصلاة وسننها انتهى. قلت والتحقيق أن العبادة مركبة من الأجزاء الداخلة المقومة لماهيتها والسنن وما جرى مجراها من المستحبات والآداب إنما هي أوصاف خارجة عن حقيقتها موجبة مراعاتها لها صفة كمال خارجي، وذكر السنن في صفة الصلاة وإضافتها إليها لا يدل على أنها مركبة منها ومن الفرائض؛ لأن مرادهم بالصفة كيفية إيقاعها في الخارج على الوجه الأكمل لا بيان الحقيقة من حيث هي والإضافة تكون بأدنى ملابسة ولا شك في أن نسخ العبادة بنسخ سننها بعيد جدا ومن ثمة كان الاتفاق على أن نسخها لا يكون نسخا للعبادة والله سبحانه أعلم.
مسألة(5/203)
"يعرف الناسخ بنصه عليه السلام" عليه "وضبط تأخره" أي الناسخ "ومنه" أي ضبط تأخره ما قدمنا من صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها" الحديث "والإجماع على أنه ناسخ أما" تعيين الناسخ "بقول الصحابي هذا ناسخ فواجب عند الحنفية لا الشافعية" قالوا "لجواز اجتهاده" أي أن يكون تعيينه عن اجتهاده ولا يجب اتباع المجتهد له فيه "وتقدم" في مسألة حمل الصحابي مرويه المشترك ونحوه على أحد ما يحتمله "ما يفيده" أي وجوب قبوله كما هو قول الحنفية وإن هذا التحرير مرجوح فليراجع ما هناك وهذا الإطلاق مقدم أيضا على تفصيل الكرخي إن عين الناسخ بأن قال هذا ناسخ بذاك لا يقبل، وإن لم يعين بل قال منسوخ قبل؛ لأنه لولا ظهور النسخ فيه ما أطلق إطلاقا "وفي تعارض متواترين" إذا عين الصحابي أحدهما "فقال هذا ناسخ" أو الناسخ "لهم" أي الشافعية "احتمال النفي" لقبول كونه الناسخ "لرجوعه" أي قبوله "إلى نسخ المتواتر بالآحاد" أي قول الصحابي "أو" نسخ المتواتر "به" أي بالمتواتر "والآحاد دليله" أي قول الصحابي دليل كونه ناسخا فالناسخ هو المتواتر إذ لا(5/204)
ص -100-…شك أن أحدهما ناسخ للآخر، ثم غير خاف أن هذا وجه القبول لا وجه نفي القبول فالوجه إما أنه كان يقول احتمال النفي والقبول ويسقط هنا قوله "والقبول" وإما أنه كان يقول بعد قوله بالآحاد والقبول لرجوعه إلى نسخ المتواتر به والآحاد دليله وقوله "إذ ما لا يقبل ابتداء قد يقبل مآلا كشاهدي الإحصان" جواب عن سؤال مقدر وهو أنه إذا كان لا يقبل حكم الصحابي بالنسخ فكذا لا يقبل ما يستلزم حكمه به وهو تعيينه أحد المتواترين لذلك وإيضاح الجواب أن ما لا يقبل أولا قد يقبل إذا كان المآل إليه كما يقبل الشاهدان في الإحصان، وإن ترتب عليه الرجم لا في الرجم فإنه لا يترتب إلا على شهادة أربعة بالزنا وشهادة النساء في الولادة، وإن ترتب عليها النسب لا في النسب إلى غير ذلك فجاء التجويز العقلي إذ يحتمل ما نحن فيه أن يكون مما لا يقبل ابتداء ويقبل تبعا "فوجب الوقف" قال المصنف "فإن" كان وجوبه "عن الحكم بالنسخ فكالأول" أي كقوله هذا ناسخ في غير المتواترين وقد عرفت أن لا وجوب للوقف فيه بل هو ناسخ عند الحنفية غير ناسخ عند الشافعية "وإن" كان وجوبه "عن الترجيح" لأحد الاحتمالين "فليس" الترجيح "لازما" للمتعارضين "بل أحد الأمرين منه" أي الترجيح "ومن الجمع" بينهما إذا أمكن، ثم الترجيح هنا للنسخ ظاهر مما تقدم بطريق أولى فإن في غير المتواترين قد لا يلزم النسخ وهو باجتهاده حكم بالنسخ وفي المتواترين النسخ لازم والصحابي عين الناسخ هذا والذي مشى عليه البيضاوي وغيره ونص عليه القاضي في مختصر التقريب لو قال هذا الحديث سابق قبل إذ لا مدخل للاجتهاد فيه قال والضابط أن لا يكون ناقلا فيطالب بالحجاج فأما إذا كان ناقلا فيقبل، ثم هذه هي الطرق الصحيحة في معرفة الناسخ "بخلاف بعديته" أي أحد النصين عن الآخر "في المصحف" بناء على أن ذلك يفيد بعديته في النزول عليه "و" بخلاف "حداثة سن الصحابي" الراوي له "فتتأخر صحبته فمرويه" عنه أيضا "و" بخلاف(5/205)
"تأخر إسلامه" أي الصحابي الراوي بناء على أن ذلك يفيد أن ذلك يفيد تأخر مرويه أيضا "بجواز قلبه" أي كل من هذه وهو أن يكون ما بعد غيره في ترتيب المصحف قبله في النزول فإن ترتيب السور والآيات ليس على ترتيب نزولها والمعتبر في النسخ تأخر النزول لا التأخر في وضع المصحف وقد روينا في بحث التخصيص من صحيح البخاري وغيره عن ابن مسعود أنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} لكن على هذا أن يقال هذا نادر وذاك غالب والحمل على الغالب مقدم على الحمل على النادر ومروي حديث السن متقدما على كبيره اللهم إلا أن تنقطع صحبة الأول قبل صحبة الثاني فيرجع إلى ما علم تقدم تاريخه ومروي متأخر الإسلام متقدما على قديمه لجواز أن يكون قديم الإسلام سمعه بعد متأخر الإسلام إلا أن تنقطع صحبة الأول بموت ونحوه "وكذا" ليس من الطرق الصحيحة لتعين الناسخ ما قيل "موافقته" أي أحد النصين "للبراءة الأصلية تدل على تأخره" عن المخالف لها "لفائدة رفع المخالف" أي لأنه يفيد فائدة جديدة وهي رفع الحكم المخالف للبراءة الأصلية بناء على أن الأصل مخالفة الشرع لها "بخلاف القلب" أي جعل الدال على المخالفة لها(5/206)
ص -101-…متأخرا عن الدال على الموافقة فإن الدال على الموافقة لا يدل على فائدة جديدة؛ لأنها حينئذ تأكيد للأصل والتأسيس خير من التأكيد وأورد بأن هذا معارض بأنه لو تأخر لزم نسخ حكم الأصل، ثم نسخ رافعه بالموافق لحكم الأصل ولو تقدم لم يلزم إلا نسخ واحد والأصل تقليل النسخ وأجيب بأن رفع الحكم بأن رفع الحكم الأصلي ليس نسخا على ما عرف فاستويا نعم عليه أن يقال أن هذا إنما يتم على غير القائل من الحنفية بأن رفع الإباحة الأصلية نسخ كما تقدم، ثم إنما لم يكن هذا طريقا صحيحا لتعيين الناسخ "فإن حاصله نسخ اجتهادي كقول الصحابي" هذا ناسخ "اجتهادا" على أنه يمكن أن يعارض بأن تأخر الموافق يستلزم تغييرين وتقدمه لا يستلزم إلا تغييرا واحدا والأصل قلة التغيير "وما قيل" وقائله التفتازاني "مع أن العلم بكون ما علم بالأصل ثابتا عند الشرع حكما من أحكامه فائدة جديدة" ولعله سبق قلم إذ الوجه حذفه أو فهو "متوقف على تسمية الشارع رفعه" أي رفع حكم الأصل "نسخا وهو" أي وكون رفعه يسمى نسخا شرعا "منتف بل الثابت" شرعا "حينئذ رفعه" أي رفع حكم الأصل "ولا يستلزم" رفعه "ذلك" أي كونه ناسخا "كرفع الإباحة الأصلية" فإنه لا يسمى نسخا، وإن كان رفعا ويطرقه ما تقدم آنفا وسالفا من أنه نسخ عند طائفة من الحنفية "وما للحنفية في مثله" أي مثل هذا "في التعارض" بين المحرم والمبيح "ترجيح المخالف حكما" كالمحرم على المبيح "بتأخره" أي باعتباره متأخرا "كي لا يتكرر النسخ" بناء على أصالة الإباحة معناه "أي" يتكرر "الرفع أو" النسخ "على حقيقته بناء على ما سلف عن الطائفة" الحنفية القائلين بأن رفع الإباحة الأصلية نسخ في مسألة أجمع أهل الشرائع على جوازه ووقوعه "فلا يجب الوقف غير أنه مرجح لا ناسخ" ولعله يريد إلا أن كون المعارض مشتملا على ما يخالف الأصل مرجح على ما اشتمل على ما يخالف الأصل عند المعارضة لا ناسخ نقلي مثل ما قالت الحنفية وموافقوهم في(5/207)
ترجيح المخالف حكما بتأخره عن معارضه، وإن لزم منه القول بمنسوخية الآخر كما هو الشأن في كل متعارضين رجح المجتهد أحدهما كما تقدم في بحث مفهوم المخالفة وفائدة هذا الاستدراك التنبيه صريحا على نفي توهم كون المخالفة للأصل إذا لم يفد ثبوت نسخ ما اشتمل عليها للموافق للأصل أن لا يكون لها أثر بأن لها أثر وهو ترجيحها لما اشتملت عليه على ما وافق الأصل لا أن المراد لكن ما تقدم للحنفية مرجح لا ناسخ بخلاف ما نحن فيه إذ قد يظهر أن ما نحن فيه كذلك فلا يكون لتخصيص الاستدراك به وجه ظاهر هذا وقد عرف أن التراجيح قد تتعارض وهذا الترجيح يعارضه ما في تقديم الموافق على المخالف من أن التأسيس خير من التأكيد فيبقى النظر في أيهما أولى ولو ذهب ذاهب إلى تقديم ما لزم منه تقليل النسخ، وإن لزم كونه تأكيدا على ما يلزم فيه تكرر النسخ، وإن كان تأسيسا لكان أقرب من القلب إلى القلب والله سبحانه أعلم.(5/208)
ص -102-…الباب الرابع في الإجماع:
"الإجماع العزم والاتفاق لغة" يقال أجمع فلان على كذا إذا عزم عليه والقوم على كذا إذا اتفقوا عليه فيتصور الإجماع بالمعنى الأول من واحد لا بالمعنى الثاني قيل والثاني بالمعنى الاصطلاحي أنسب انتهى وهو بناء على أنه إذا لم يبق من المجتهدين إلا واحد لا يكون قوله حجة كما هو أحد القولين فيه، ثم لقائل أن يقول المعنى الأصلي له العزم، وأما الاتفاق فلازم اتفاقي ضروري للعزم من أكثر من واحد؛ لأن اتحاد متعلق عزم الجماعة يوجب اتفاقهم عليه لا أن العزم يرجع إلى الاتفاق؛ لأن من اتفق على شيء فقد عزم عليه كما ذكره القاضي فإنه ليس بمطرد ولا أنه مشترك لفظي بينهما كما ذكره الغزالي إذ لا ملجأ إليه مع أنه خلاف الأصل "واصطلاحا اتفاق مجتهدي عصر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر شرعي" فاتفاق مجتهدي عصر يفيد اتفاق جميعهم أي اشتراكهم في ذلك الأمر المجمع عليه فخرج ما اتفق عليه بعضهم كما هو قول الجمهور وإنما الشأن فيما إذا انفرد واحد في عصر هل يكون قوله إجماعا فظاهر هذا لا ولا ضير؛ لأن الأظهر أن قوله ليس إجماعا كما سيأتي ويفيد أنه لا عبرة باتفاق غيرهم قيل اتفاقا وفيه نظر بل الجمهور على أنه لا يعتبر خلاف العامي الصرف ولا وفاقه والقاضي أبو بكر الباقلاني يعتبر مطلقا وآخرون يعتبر في الإجماع العام وهو ما ليس مقصورا على العلماء وأهل النظر بل يشترك فيه الخاصة والعامة لحاجة الجميع إلى معرفته كالإجماع على أمهات الشرائع من الصلاة والزكاة والصوم والحج وعلى وجوب الغسل وتحريم الربا وشرب الخمر لا في الإجماع الخاص وهو ما يختص بالرأي والاستنباط وما يجري مجراه فيختص به الخاصة من العلماء الذين هم شهداء الله كفرائض الصدقات وما يجب من الحق في الزروع والثمار وعلى هذا مشى الجصاص وفخر الإسلام ولا ضير فإن التعريف إنما هو للخاص. هذا وقد حكي خلاف في المراد باعتبار قول العامي في الإجماع فذكر(5/209)
السبكي أن المراد في صحة إطلاق أن الأمة أجمعت وأنه صريح كلام القاضي وذكر الآمدي أن المراد في افتقار كونه حجة، ثم لا شك في بعده بل في سقوطه لأن القول بغير دليل باطل والعامي ليس من أهل الاستدلال والنظر فلا يكون من أهل الإجماع فيما يحتاج إلى النظر كالصبي والمجنون فلا يعتد فيه بخلافه ولا وفاقه، على أن على اعتبار قوله لا يتحقق الإجماع لعدم إمكان ضبط العامة والإطلاع على أقاويلهم لإتساع انتشارهم شرقا وغربا واللازم منتف فالملزوم مثله، وأما العامي غير الصرف ممن حصل علما معتبرا من فقه أو أصول فمن الظاهر أن القاضي يعتبره في الإجماع بطريق أولى، وأما غيره فمنهم من طرد عدم اعتباره أيضا نظرا إلى فقد أهلية الاجتهاد ومنهم من اعتبره بحصول قوة النظر له في الأحكام أو في الأصول ولا كذلك العامي، ومنهم من اعتبر الفقيه لا الأصولي؛ لأن الفقيه عالم بتفاصيل الأحكام التي يبنى عليها الخلاف والوفاق ومنهم من(5/210)
ص -103-…عكس لكون الأصولي أقرب إلى مقصود الاجتهاد لعلمه بمدارك الأحكام على اختلاف أقسامها وكيفية استفادتها منها، والأول هو المشهور وعليه التعريف ويفيده اختصاص الإجماع بالمسلمين؛ لأن الإسلام شرط في الاجتهاد ويلزمه خروج من يكفر ببدعته كالكافر أصالة. وأما العدالة فسينبه المصنف رحمه الله على وجوب التعرض لها في التعريف على قول مشترطها في أهل الإجماع واندفع بإضافة المجتهدين إلى عصر أي زمن طال أو قصر توهم أن لا يتحقق الإجماع إلا باتفاق أهل الحل والعقد في جميع الأعصار إلى يوم القيامة وخرج بقوله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إجماع الأمم السالفة فإنه ليس بحجة كما نقله في اللمع عن الأكثرين وهو الأصح كما هو ظاهر ما سيأتي من السنة خلافا للإسفراييني في جماعة أن إجماعهم قبل نسخ مللهم حجة وللآمدي موافقة للقاضي في اختياره الوقف وخرج بالأمر الشرعي وهو ما لا يدرك لولا خطاب الشارع سواء كان قولا أو فعلا أو اعتقادا أو تقريرا ولو بالسكوت ما ليس كذلك وهو مشكل بإجماعهم على أمر لغوي كالفاء للتعقيب فقد ذكر الإسنوي أنه لا نزاع فيه وبما سيأتي آخر الباب أنه حجة في بعض العقليات خلافا لبعض الحنفية وأن المختار أنه أيضا حجة من أهل الاجتهاد والعدالة في الأمور الدنيوية ولا محيص عن هذا، إلا أن ثم أن يقال لا يشكل التعريف المذكور بالإجماع على كل من هذه؛ لأنه إن تعلق بها عمل أو اعتقاد صدق التعريف على الإجماع على كل منها؛ لأنه حينئذ إجماع على أمر شرعي، وإن لم يتعلق بها عمل ولا اعتقاد فليس الإجماع عليها من الإجماع المتكلم فيه وهو ما كان دليلا من أدلة الشرع موجبا لاعتبار ما يتعلق به فإن الإجماع على كل من هذه يمكن أن يقال: إنه ليس كذلك ولا شك في تمام الشق الأول، وأما الشق الثاني ففي تمامه نظر بل يقال ثبوت حجية الإجماع في الأمر الشرعي يفيد ثبوتها في الأمر اللغوي والعرفي بطريق أولى والله سبحانه أعلم. هذا وقال السبكي(5/211)
وينبغي أن يزاد في غير زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإجماع لا ينعقد في زمانه كما ذكر الأكثرون منهم القاضي والإمام الرازي وابن الحاجب؛ لأن قولهم دونه لا يصح، وإن كان معهم فالحجة في قوله ولم أر أحدا ذكر هذا القيد ولا بد منه قلت وفيه نظر فإن في جواز انعقاد الإجماع في زمانه صلى الله عليه وسلم خلافا والوجه أنه ينعقد كما سأذكره من الميزان في ذيل مسألة لا إجماع إلا عن مستند وحينئذ فالوجه إسقاط هذا القيد لا أنه لا بد منه والله سبحانه أعلم.
"وعلى من شرط لحجيته" أي الإجماع "والتعريف له انقراض عصرهم" أي والحال أن التعريف لمشترط انقراض عصر أولئك المجتهدين في حجية إجماعهم أي الوقت الذي حدثت فيه المسألة وظهر الكلام فيها من مجتهديه "زيادة إلى انقراضهم" بعد أمر شرعي سواء كانت فائدة الاشتراط جواز الرجوع لا دخول من سيحدث في إجماعهم كما هو قول أحمد ومن تابعه أو إدخال من أدرك عصرهم من المجتهدين فيه كما هو قول باقي المشترطين ليخرج اتفاقهم إذا رجع بعضهم فإنه ليس بالإجماع المقصود وهو ما يكون حجة شرعا؛ لأن التعريف لما هو من الأدلة الشرعية وهو المقرون بالشرائط، ثم هذه الزيادة على قول هؤلاء ألزم والوجه(5/212)
ص -104-…ظاهر "و" على "من شرط" لحجية الإجماع "عدم سبق خلاف مستقر" وكان يرى جواز حصول الإجماع بعد الخلاف المستقر وكان التعريف له "زيادة غير مسبوق به" أي بخلاف مستقر بعد شرعي إن كان ممن لا يشترط انقراض العصر وبعد إلى انقراضهم إن كان ممن يشترطه ليخرج عن التعريف ما كان بعد خلاف مستقر بخلاف ما لو كان صاحب التعريف يرى عدم جواز حصول الإجماع بعد الخلاف المستقر فإنه لا يحتاج إلى هذه الزيادة؛ لأنه لا يدخل في الجنس فلا يحتاج إلى الإخراج أو كان يرى جواز حصوله بعد ذلك وينعقد فإنه لا يحتاج إليها أيضا؛ لأنه من أفراد المعرف فلا وجه لإخراجه، ثم مبنى هذا كله على أن الشروط المذكورة شروط لماهية الإجماع الشرعي كما ذكرنا آنفا.(5/213)
"وإذن" أي وإذ كان تعريفه يختلف بحسب اختلاف ما يتوقف حجيته عليه "فمن شرط العدالة" في المجمعين "وعدد التواتر" فيهم لحجيته كما الأول للحنفية وموافقيهم، والثاني لبعض الأصوليين منهم إمام الحرمين "مثله" أي زيادة ذلك في التعريف فيزاد إذا كان التعريف للأولين: " عدول بعد مجتهدي عصر " وللآخرين لا يتصور تواطؤهم على الكذب بعد عدول إن كانوا ممن يرون هذا الشرط وإلا فبعد مجتهدي عصر وستتضح هذه الجمل في مسائل الباب وعلى هذا المنوال يعامل هذا التعريف بمزيد أو نقصان بحسب ما هو شرط المعرف فليتأمل "وقول الغزالي" في تعريفه "اتفاق أمة محمد على أمر ديني معترض بلزوم عدم تصوره" أي وجوده؛ لأن أمته كل المسلمين من بعثته إلى يوم القيامة فقبل القيامة لا إجماع وبعدها حجية "وفساد طرده" لو أريد به تنزيلا اتفاقهم في عصر ما "إن لم يكن فيهم مجتهد" فإنه لا يكون إجماعا مع صدق التعريف عليه "وأجيب بسبق إرادة المجتهدين في عصر للمتشرعة" من اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم "كما سبق" هذا المراد "من" نحو ما عنه صلى الله عليه وسلم "لا تجتمع أمتي على ضلالة" وستقف على تخريجه من طرق، ثم كأنه اختار هذا اللفظ ليوافق الحديث الدال على حجية الإجماع وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] والاتفاق قرينة ذلك فإنه لا يمكن إلا بين الموجودين في عصر "و" بفساد "عكسه لو اتفقوا على عقلي أو عرفي" لوجود المعرف مع عدم التعريف "أجيب" بأن الاتفاق على كل منهما "لا يضر" بالتعريف "إذا كان" كل منهما "دينيا" لمنع عدم التعريف حينئذ "وغيره" أي الديني "خرج" بالديني فلا يضر عدم صدق التعريف عليه؛ لأنه لا حجية في الإجماع فيه ويطرقه ما تقدم آنفا "وادعى النظام وبعض الشيعة استحالته" أي الإجماع "عادة" كذا ذكره ابن الحاجب وغيره وذكر السبكي أن هذا قول بعض أصحاب النظام. وأما رأي النظام نفسه في بعض أصحابه فهو أنه يتصور ولكن لا(5/214)
حجة فيه كذا نقله وأبو إسحاق الشيرازي وابن السمعاني وهي طريقة الإمام الرازي وأتباعه في النقل عنه وإنما أحاله من أحاله "لأن انتشارهم" أي المجتهدين في مشارق الأرض ومغاربها وقفار الفيافي وسباسبها "يمنع من نقل الحكم إليهم" عادة "ولأن الاتفاق" على الحكم الشرعي "إن" كان "عن" دليل "قطعي أحالت(5/215)
ص -105-…العادة عدم الإطلاع عليه" لتوفر الدواعي على نقله وشدة تفحصهم عنه وحينئذ فيطلع عليه "فيغني" القطعي "عنه" أي عن الإجماع ولكنه لم ينقل فلم يطلع عليه فليس الإجماع حينئذ عن قطعي "أو" كان "عن ظني أحالت" العادة "الاتفاق عنه لاختلاف القرائح" أي القوى المفكرة "والأنظار" ومواد الاستنباط عندهم وأحالتها لهذا "كإحالتها اتفاقهم على اشتهاء طعام" قالوا "ولو تصور" ثبوته في نفسه "استحال ثبوته عنهم" أي المجمعين "لقضائها" أي العادة "بعدم معرفة أهل المشرق والمغرب" بأعيانهم "فضلا عن أقوالهم مع خفاء بعضهم لخموله" أي لكونه غير معروف بالاجتهاد مع أنه مجتهد "ونحو أسره" في دار الحرب في مطمورة أو عزلته وانقطاعه عن الناس بحيث يخفى أثره "وتجويز رجوعه" عن ذلك "قبل تقرره" أي الإجماع عليه بأن يرجع قبل قول الآخر به فلا يجتمعون على قول في عصر إذ لا يمكن السماع منهم في آن واحد بل إنما يكون في زمان متطاول وهو مظنة تغير الاجتهاد قالوا "ولو أمكن" ثبوته عنهم "استحال نقله إلى من يحتج به وهم" أي المحتجون به "من بعدهم لذلك بعينه" أي لقضاء العادة بإحالة ذلك كما سيتضح فإن طريق نقله إما التواتر أو الآحاد "و" استحال "لزوم التواتر في المبلغين" عادة لتعذر أن يشاهد أهل التواتر جميع المجتهدين شرقا وغربا ويسمعوا منهم وينقلوا عنهم إلى أهل التواتر هكذا طبقة بعد طبقة إلى أن يتصل بنا، وأما الآحاد فلا يصلح هنا "إذ لا يفيد الآحاد" العلم بوقوعه وكان الأولى حذف "والعادة تحيله" أي لزوم التواتر في المبلغين كما بينا وذكر عادة بعد المبلغين كما ذكرنا "والجواب منع الكل" أي القول بعدم ثبوته في نفسه وبعدم ثبوته عن المجمعين على تقدير ثبوته عن نفسه وبإحالة العادة نقله إلى من يحتج به بعدهم "مع ظهور الفرق بين الفتوى بحكم و" بين "اشتهاء طعام" واحد وأكله للكل فإن هذا لا إجماع لهم عليه لاختلافهم في الدواعي له طبعا ومزاجا وغيرهما بخلاف(5/216)
الحكم الشرعي فإنه تابع للدليل فلا يمتنع اجتماعهم عليه لوجود دليل قاطع أو ظاهر "وما بعد" أي وما بعد هذه الشبهة من الشبهتين الأخريين "تشكيك مع الضرورة إذ نقطع بإجماع كل عصر" من الصحابة وهلم جرا "على تقديم" الدليل "القاطع على المظنون" وما ذاك إلا بثبوته عنهم ونقله إلينا ولا عبرة بالتشكيك في الضروريات "ويحمل قول أحمد من ادعاه" أي الإجماع "كاذب على استبعاد انفراد اطلاع ناقله" عليه إذ لو لم يكن كاذبا لنقله غيره أيضا كما يشهد به لفظه في رواية ابنه عبد الله وهو من ادعى الإجماع فقد كذب لعل الناس قد اختلفوا ولكن يقول لا نعلم الناس اختلفوا إذا لم يبلغه لا إنكار لتحقق الإجماع في نفس الأمر إذ هو أجل أن يحوم حوله قلت ويؤيده ما أخرج البيهقي عنه قال أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة يعني {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] فهذا نقل للإجماع فلا جرم أن قال أصحابه إنما قال هذا على جهة الورع لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه أو قال هذا في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف؛ لأن أحمد أطلق القول بصحة الإجماع في مواضع كثيرة وذهب ابن تيمية والأصفهاني إلى أنه أراد غير إجماع الصحابة. أما إجماع الصحابة فحجة معلوم تصوره لكون(5/217)
ص -106-…المجمعين ثمة في قلة والآن في كثرة وانتشار قال الأصفهاني والمصنف يعلم أنه لا خبر له من الإجماع إلا ما يجد مكتوبا في الكتب ومن البين أنه لا يحصل الاطلاع عليه إلا بالسماع منهم أو بنقل أهل التواتر إلينا ولا سبيل إلى ذلك إلا في عصر الصحابة، وأما بعدهم فلا وقال ابن رجب إنما قاله إنكارا على فقهاء المعتزلة الذين يدعون إجماع الناس على ما يقولونه وكانوا من أقل الناس معرفة بأقوال الصحابة والتابعين، وأحمد لا يكاد يوجد في كلامه احتجاج بإجماع بعد التابعين أو بعد القرون الثلاثة انتهى. هذا وقال أبو إسحاق الإسفراييني نحن نعلم أن مسائل الإجماع أكثر من عشرين ألف مسألة ولهذا يرد قول الملاحدة أن هذا الدين كثير الاختلاف ولو كان حقا لما اختلفوا فنقول أخطأت بل مسائل الإجماع أكثر من عشرين ألف مسألة، ثم لها من الفروع التي يقع الاتفاق منها وعليها وهي صادرة عن مسائل الإجماع التي هي أصول أكثر من مائة ألف مسألة يبقى قدر ألف مسألة هي من مسائل الاجتهاد والخلاف، ثم في بعضها يحكم بخطأ المخالف على القطع من نفسه وفي بعض ينقض حكمه وفي بعضها يتسامح فلا يبلغ ما بقي من المسائل التي تبقى على الشبهة إلى مائتي مسألة.(5/218)
"وهو" أي الإجماع "حجة قطعية" عند الأمة "إلا" عند "من لم يعتد به من بعض الخوارج والشيعة؛ لأنهم" أي الخوارج والشيعة "مع فسقهم" إنما وجدوا "بعد الإجماع عن عدد التواتر من الصحابة والتابعين على حجيته" أي الإجماع "وتقديمه على القاطع" وهذا متوارث الشك فيه كالشك في الضروريات، "وقطع مثلهم" أي الصحابة والتابعين بمثله "عادة لا يكون إلا عن سمعي قاطع في ذلك" الحكم المجمع عليه؛ لأن تركهم القاطع لظني بعيد جدا "فيثبت" الإجماع على أن الإجماع حجة قطعية "به" أي بالسمعي القاطع المقتضي له وهو المطلوب. فإن قيل هذا دور؛ لأنه استدلال على حجية الإجماع بالإجماع قلنا ممنوع بل إنما استدللنا على كونه حجة قطعية بسمعي قاطع اقتضى ذلك "وذلك الاتفاق بلا اعتبار حجيته" أي الاتفاق نفسه "دليله" أي السمعي القاطع يعني الاستدلال على حجية الإجماع وقع بالإجماع بلا اعتبار حجيته بل بمجرده وأثبت المطلوب لكونه دليلا على أنه كان عن سمعي قاطع فالمثبت لحجية أن الإجماع حجة قاطعة دليل سمعي قاطع، عرفنا وجود ذلك الاتفاق الكائن من الصحابة والتابعين البالغين عدد التواتر على حجية الإجماع وتقديمه على القاطع فالمتوقف في الحقيقة غير المتوقف عليه "فلا دور" وهذا الإجماع المستدل به "بخلاف إجماع الفلاسفة على قدم العالم؛ لأنه عن" نظر "عقلي يزاحمه الوهم" فإن تعارض الشبه واشتباه الصحيح بالفاسد فيه كثير ولا كذلك الإجماع في الشرعيات فإن الفرق فيها بين القاطع والظني بين لا يشتبه على أهل المعرفة والتمييز فضلا عن المحققين المجتهدين "على أن التواريخ دلت على من يقول بحدوثه" أي العالم "منهم" أي الفلاسفة فلا إجماع لهم على ذلك ومما يدل على ذلك ما حكاه لنا المصنف رحمه الله عند قراءة هذا المحل عليه من كتابة وجدت بحجر في أساس الحائط الجيروني من جامع دمشق حسبما ذكره الإمام القفطي في كتابه أنباء الرواة على أبناء(5/219)
ص -107-…النحاة، ولا بأس بسوقه ذكر المشار إليه في ترجمة أبي العلاء المقري1 عمن ذكر أنه قرئ بحضرته يوما أن الوليد لما تقدم بعمارة دمشق أمر المتولين لعمارته أن لا يضعوا حائطا إلا على جبل فامتثلوا وتعسر عليهم وجود جبل لحائط جهة جيرون وأطالوا الحفر امتثالا لمرسومه فوجدوا رأس حائط مكين العمل كثير الأحجار يدخل في عملهم فأعلموا الوليد أمره وقالوا نجعل رأسه أسا فقال اتركوه واحفروا قدامه لتنظروا أسه وضع على حجر أم لا ففعلوا ذلك فوجدوا في الحائط بابا وعليه حجر مكتوب بقلم مجهول فأزالوا عنه التراب بالغسل ونزلوا في حفره لونا من الأصباغ فتميزت حروفه وطلبوا من يقرؤها فلم يجدوا ذلك وتطلب الوليد المترجمين من الآفاق حتى حضر منهم رجل يعرف قلم اليونانية الأولى فقرأ الكتابة الموجودة فكانت: باسم الموجد الأول أستعين لما أن كان العالم محدثا لاتصال أمارات الحدوث به وجب أن يكون له محدث لا كهؤلاء كما قال ذو السنين وذو اللحيين وأشياعهما، حينئذ أمر بعمارة هذا الهيكل من صلب ماله محب الخير على مضي ثلاثة آلاف وسبعمائة عام لأهل الأسطوان فإن رأى الداخل إليه ذكر بانيه عند ناديه بخير فعل والسلام. فأطرق أبو العلاء عند سماع ذلك وأخذ الجماعة في التعجب من أمر هذا الهيكل وأمر الأسطوان المؤرخ به وفي أي زمان كان فلما فرغوا من ذلك رفع أبو العلاء رأسه وأنشد في صورة متعجب:
سيسأل قوم ما الحجيج ومكة …كما قال قوم ما جديس وما طسم(5/220)
وأمر بتسطير الحكاية على ظهر جزء من " استغفر واستغفري " بخط ابن أبي هاشم كاتبه وأكثر من نقل الكتاب نقل الحكاية على مثل الجزء الذي هي مسطورة عليه انتهى. قلت وقد ذكرها مختصرة ياقوت الحموي في معجم البلدان لكن مع زيادة بين ذي اللحيين وبين حينئذ هي فوجبت عبادة خالق المخلوقات، وهي زيادة حسنة وبدل على مضي ثلاثة آلاف وسبعمائة عام على مضي سبعة آلاف وتسعمائة عام وأفاد من أهل الأسطوان قوم من الحكماء الأول كانوا ببعلبك حكى ذلك أحمد بن الطبيب السرخسي الفيلسوف والله تعالى أعلم.
"وإجماع اليهود على نفي نسخ شرعهم عن موسى عليه السلام و" إجماع "النصارى على صلب عيسى عليه السلام" إنما هو "لاتباع الآحاد الأصل" لاتباعهم في هذين الافتراءين لآحاد أوائلهم هم أهل الطبقة الأولى فيهما "لعدم تحقيقهم" إذ لو كانوا محققين لم يجمعوا عليهما؛ لأنهما موضوعان "بخلاف من ذكرنا" من الصحابة والتابعين فإنهم محققون غير متبعين لأحد في ذلك "لأنهم الأصول" والحاصل أنه لا يرد كل من هذه الإجماعات نقضا على أن العادة حاكمة بأن مثل الاتفاق لا يكون إلا عن قاطع لانتفاء الشرعية في الأول والتحقيق في الأخيرين فهذا دليل عقلي على أن الإجماع حجة قطعية "ومن" الأدلة "السمعية آحاد تواتر
1 قوله المقري كذا في نخسة وفي أخرى المغربي. فليحرر انتهى مصححه.(5/221)
ص -108-…منها" قدر هو "مشترك لا تجتمع أمتي على الخطأ ونحوه كثير" بإضافة " مشترك " إلى ما بعده وجر " نحوه " بالعطف على لا تجتمع وكثير على أنه صفته أي القدر المشترك بين هذا الحديث وغيره وهو عصمة الأمة عن الخطأ فأخرج الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد على ضلالة ويد الله مع الجماعة ومن شذ شذ إلى النار" وقال غريب من هذا الوجه وأبو نعيم في الحلية واللالكائي في السنة بلفظ "إن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة أبدا وإن يد الله مع الجماعة فاتبعوا السواد الأعظم فإن من شذ شذ في النار" قال شيخنا الحافظ ورجاله رجال الصحيح إلا أنه معلول، ثم بين علته وابن ماجه بلفظ "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم" والحاكم بلفظ "لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة ويد الله مع الجماعة" ورجاله رجال الصحيح إلا إبراهيم بن ميمون فإنهما لم يخرجا له وبلفظ "إن الله لا يجمع جماعة محمد على ضلالة"، ثم قال صحيح على شرط مسلم وأحمد والطبراني عن أبي هانئ الخولاني عمن أخبره عن أبي بصرة الغفاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سألت ربي أربعا فأعطاني ثلاثا ومنعني واحدة سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها" الحديث قال شيخنا الحافظ ورجاله رجال الصحيح إلا التابعي المبهم وله شاهد مرسل رجاله رجال الصحيح أيضا أخرجه الطبري في تفسير سورة الأنعام إلى غير ذلك وهذا طريق الغزالي واستحسنه ابن الحاجب، "ومنها" قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115] "وهو" أي غير سبيل المؤمنين "أعم من الكفر جمع بينه" أي بين اتباع غير سبيلهم "وبين المشاقة" للرسول صلى الله عليه وسلم "في الوعيد" الشديد(5/222)
"فيحرم" اتباع غير سبيلهم إذ لا يضم مباح إلى حرام في الوعيد؛ لأنه لا دخل للمباح فيه وإذا حرم اتباع غير سبيلهم يجب اتباع سبيلهم إذ لا مخرج بحسب الوجود عنهما؛ لأن ترك اتباع سبيلهم اتباع لسبيل غيرهم إذ معنى السبيل هنا ما يختاره الإنسان لنفسه ويعرف به من قول أو فعل والإجماع سبيلهم فيجب اتباعه وهو المطلوب.
"ويعترض" هذا الاستدلال "بأنه إثبات حجية الإجماع بما" أي بشيء "لم تثبت حجيته" أي ذلك الشيء "إلا به" أي بالإجماع "وهو" أي ذلك الشيء "الظاهر" وهو الآية الشريفة "لعدم قطعية سبيل المؤمنين في خصوص المدعى" وهو الإجماع لجواز أن يريد سبيلهم في متابعة الرسول أو في مناصرته ودفع الأعداء عنه أو في الاقتداء به أو فيما صاروا به مؤمنين وهو الإيمان وإذا قام الاحتمال كان غايته الظهور، والتمسك بالظاهر إنما يثبت بالإجماع الدال على التمسك بالظواهر المفيدة للظن إذ لولاه لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتباع الظن نحو قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الاسراء: 36]، فكان الاستدلال به إثباتا للإجماع بما لم تثبت حجيته إلا به فيصير دورا وأفادنا المصنف في الدرس بأنه يمكن الجواب عن هذا على طريقة أكثر الحنفية بأن هذا الاحتمال لا يقدح في قطعيته فإن حكم العام عندهم ثبوت الحكم فيما تناوله قطعا ويقينا فيتم التمسك به من غير احتياج إلى الإجماع الدال على جواز(5/223)
ص -109-…التمسك بالظواهر المفيدة للظن؛ لأن الواقع أنه غير مثبت للحكم فيما تناوله بطريق الظن. قلت إلا أن السبكي ذكر أن الشافعي استنبط الاستدلال بهذه الآية على حجية الإجماع وأنه لم يسبق إليه وحكى أنه تلا القرآن ثلاث مرات حتى استخرجه روى ذلك البيهقي في المدخل وساق فيه حكاية طويلة غريبة بسنده، ولم يدع أعني الشافعي القطع فيه ا هـ فإن ادعى الظن فلا إشكال لكن المطلوب القطع، وإن ادعى القطع أشكل بقوله بظنية دلالة العام اللهم إلا أن يدفع هذا بأن ظنيتها حيث لا قرينة تفيد القطع بذلك وهاهنا قد احتف بما يوجب القطع بذلك لكن الشأن في ذلك، ثم بعد ذلك لم يكن مجرد الآية وحدها دليلا مستقلا في إفادة المطلوب فليتأمل والله أعلم.(5/224)
"والاستدلال" كما ذكر إمام الحرمين على حجية الإجماع "بأنه" أي الإجماع "يدل على" وجود دليل "قاطع في الحكم" المجمع عليه "عادة" لقضائها بامتناع اجتماع مثلهم على مظنون فيكون قولهم حجة قطعية لذلك القاطع لا لقولهم وهو المطلوب "ممنوع" فإن سند الإجماع قد يكون ظنيا ولا نسلم قضاء العادة بذلك دائما بل يمتنع اتفاقهم على مظنون دق فيه النظر لا في القياس الجلي وأخبار الآحاد بعد العلم بالظواهر ولما كان هذا مظنة أن يقال فلا يتم الاستدلال بإجماع الصحابة على حجية الإجماع لغير هذا، وحينئذ لا نسلم أيضا إجماعهم على تقديمه على القاطع دفعه بقوله "بخلاف ما تقدم فإنه" أي القطع ثمة "قطع كل" من المجمعين فإنه قول بأصل ديني اعتقادي فلا بد من قطع قائله به "والقطع هنا" أي فيما سواه قد يكون "بعده" أي الإجماع وهذا من خواص المصنف رحمه الله "قالوا" أي المخالفون قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] فلا مرجع إلى غير الكتاب والسنة؛ لأن الرجوع إليهما رجوع إلى الله والرسول "الجواب لو تم" هذا "انتفى القياس ولا ينفونه" أي المخالفون "فإن رجعتموه" أي القياس "إلى أحدهما" أي الكتاب والسنة "لثبوت أصله" أي القياس وهو المقيس عليه "به" أي بأحدهما "فكذا لا إجماع إلا عن مستند" وهو أحدهما أو القياس الراجع إلى أحدهما وحيث كان ذاك ردا إلى الله والرسول فكذا هذا "أو خص" وجوب الرد "بما فيه" النزاع لكونه جوابا له "وهو" أي ما فيه النزاع "ضد المجمع عليه" هذا "إن لم يكن" وجوب الرد "خص بالصحابة" بقرينة الخطاب "ثم" لو سلم عدم الاختصاص فغايته أنه "ظاهر لا يقاوم القاطع" الذي هو أول الأدلة الدالة على حجية الإجماع "وأيضا" قالوا "نحو" قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا(5/225)
بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] إلى غير ذلك مما ورد نهيا عاما للأمة "يفيد جواز خطئكم" أي الأمة إذ الخطاب عام لهم ولولا جواز صدور كل من المنهيات عن جميعهم لما أفاد النهي إذ لا ينهى عن الممتنع "أجيب بعدم كونه" أي النهي "منعا لكل" وحينئذ لا يلزم جواز كون الكل ذا خطأ "لا الكل" أي الجميع كما قلتم به ورتبتم عليه لزوم جواز صدور كل من المنهيات عن جميعهم "يمنع استلزام النهي جواز صدور المنهي" عن المكلف "بل يكفي فيه" أي في كون النهي صحيحا "الإمكان الذاتي" لوقوع النهي "مع الامتناع بالغير" أي كونه ممتنعا(5/226)
ص -110-…بعارض من العوارض فلا يلزم جواز خطئهم. على أن الجواز عقلي بمعنى أنه لو وقع لم يلزم منه محال عقلا فلا يلزم منه الوقوع "ومفاده" أي النهي حينئذ "الثواب بالعزم" على ترك المنهي إذا خطر له فعله وهو من أعظم الفوائد، ثم هذه جرت العادة باستطرادها في الأصول فوافقهم المصنف على ذلك وإلا فهي من مسائل الفقه كما ذكر في المقدمة فكن منه على ذكر.
مسألة
"انقراض المجمعين" على حكم أي موتهم عليه "ليس شرطا" لانعقاده ولا "لحجته" أي إجماعهم "عند المحققين" منهم الحنفية ونص الشيخ أبو بكر الرازي والقاضي عبد الوهاب على أنه الصحيح وابن السمعاني على أنه أصح المذاهب لأصحاب الشافعي والإمام على أنه المختار والرافعي على أنه أصح الوجهين فيكون اتفاقهم حجة في الحال "فيمتنع رجوع أحدهم" أي المجمعين على ذلك الحكم لصيرورة قوله الأول مع قول موافقيه حجة عليه "وخلاف من حدث" من المجتهدين بعد إجماعهم فيه "وشرطه" أي انقراضهم "أحمد وابن فورك" وسليم الرازي والمعتزلة على ما نقله ابن برهان والأشعري على ما ذكره الأستاذ أبو منصور "مطلقا" أي سواء كان إجماعهم عن قطع أو ظن "إن كان سنده قياسا" لا إن كان نصا قاطعا كذا ذكره ابن الحاجب وغيره. قال السبكي وهو وهم فإمام الحرمين لا يعتبر الانقراض ألبتة بل يفرق بين المستند إلى قاطع، وإن كان في مظنة الظن فلا يشترط فيه تمادي زمان وينهض حجة على الفور والظني فيشترط تمادي الزمان حتى لو خر على المجمعين سقف عقب الاتفاق أو عمهم الهلاك بوجه من الوجوه. قال فلست أرى ذلك إجماعا، ثم هو مصرح بأن ما ذكره من الظني متعذر أو محال؛ لأن الظنون لا تستقيم على منوال واحد مع التمادي قال إلا أن يتكلف المتكلف وجها فيقول يعمهم ظهور وجه من الظن قال وللفطن أن يقول ما انتهى إلى هذا المنتهى فقد اعتزى إلى القطع "وقيل" يشترط الانقراض "في السكوتي" وهو ما كان بفتوى البعض وسكوت الباقين لضعفه لا ما إذا كان بصريح(5/227)
أقوالهم وأفعالهم أو بهما معا، وهو مذهب أبي إسحاق الإسفراييني وبعض المعتزلة واختاره الآمدي، وزعم سليم انقراض العصر في السكوتي معتبر بلا خلاف، وإنما محل الخلاف القولي وقيل ينعقد قبل الانقراض فيما لا مهلة فيه ولا يمكن استدراكه من قبل نفس واستباحة حكاه ابن السمعاني عن بعض الشافعية وقيل إن كان المجمع عليه من الأحكام التي لا يتعلق بها إتلاف واستهلاك اشترط قطعا، وإن تعلق بها ذلك فوجهان وهذا طريق الماوردي وقيل انقراض العصر شرط في إجماع الصحابة دون غيرهم وعليه مشى الطبري، ثم من المشترطين من اشترط انقراض جميع أهله ومنهم من اشترط انقراض أكثرهم فإن بقي من لا يقع العلم بصدق خبره كواحد واثنين لم يعتبر ببقائه كذا في تقريب القاضي ولفظ الغزالي في منخوله اختلف المشترطون فقيل يكتفى بموتهم تحت هدم دفعة إذ الغرض انتهاء أعمارهم عليه والمحققون لا بد من انقضاء مدة تفيد فائدة فإنهم قد يجمعون على رأي وهو معرض للتغيير، ثم القائلون بالاشتراط اختلفوا فقيل شرط في انعقاده وقيل في كونه حجة.(5/228)
ص -111-…هذا وفي الكشف وغيره واختلف في فائدة هذا الاشتراط فأحمد ومتابعوه جواز رجوع المجمعين أو بعضهم عما أجمعوا عليه قبل الانقراض لا دخول من سيحدث في إجماعهم واعتبار موافقيه للإجماع حتى لو أجمعوا وانقرضوا مصرين على ما قالوا يكون إجماعا وإن خالفهم المجتهد اللاحق في زمانهم، وقياس هذا أن لا يكون المخالف خارقا للإجماع لوقوع الخلاف قبل الحكم بانعقاد الإجماع إذ اتفاقهم ليس إجماعا بعد بل الأمر موقوف فإذا انقرضوا لم يبق ذلك الخلاف معتبرا ويكون قول المخالف إذ ذاك خرقا للإجماع وذهب الباقون إلى أنها جواز الرجوع وإدخال من أدرك عصرهم من المجتهدين في إجماعهم، ثم لا يشترط انقراض عصر المدرك المدخل في إجماعهم وإلا لم يتم انعقاد إجماع أصلا كما نقله إمام الحرمين وغيره عنهم.(5/229)
"لنا" الأدلة "السمعية توجبها" أي حجية الإجماع "بمجرده" أي الاتفاق من مجتهدي عصر من الأمة على حكم شرعي ولو في لحظة إذ الحجة إجماعهم لا انقراضهم فلا موجب لاشتراطه "قالوا" أي المشترطون "يلزم" عدم اشتراطه "منع المجتهد عن الرجوع" عن ذلك الحكم "عند ظهور موجبه" أي الرجوع "خبرا" كان الموجب "أو غيره" واللازم باطل. أما إذا كان خبرا فلاستلزامه عدم العمل بالخبر الصحيح وقد اطلع عليه، وأما إذا لم يكن خبرا بإن كان إجماعهم عن اجتهاد فلأنه لا حجر على المجتهد في الرجوع عند تغير اجتهاده بيان اللزوم أنه إذا تغير اجتهاد بعض المجمعين وقد انعقد الإجماع باجتهاده فنحكم باجتهاده الأول ولا يمكن من العمل باجتهاده الثاني لمخالفته الإجماع "أجيب" وجود الخبر مع ذهول المجمعين عليه "يعيد بعد فحصهم" عنه والإطلاع عليه بعد الذهول الكائن بعد الفحص أبعد "ولو سلم" وجوده بعد ذهولهم الكائن بعد فحصهم والإطلاع عليه "فكذا" يقال للمشترطين إجماعكم بعد الانقراض ليس بحجة لاستلزام حجته إلغاء الخبر الصحيح إذا اطلع عليه من بعدكم "فهو" أي هذا الإلزام "مشترك" بيننا وبينكم فما هو جوابكم عنه هو جوابنا وهذا جواب جدلي "والحل" وهو الجواب الجدلي "يجب ذلك" أي إلغاء الخبر الصحيح المخالف حكمه لما أجمع عليه تقديما للقاطع وهو الإجماع على ما ليس بقاطع وهو الخبر الصحيح الذي اطلع عليه بعد ذلك ولا نسلم أنه غير محجور عن الرجوع عن اجتهاده المجمع عليه والحاصل أنا لا نسلم أن اللازم باطل مطلقا بل عند عدم الإجماع، وأما معه فالمنع عن الرجوع واجب "ولذا" أي كون الرجوع عند ظهور موجبه ليس مطلقا بباطل بل فيما إذا انعقد الإجماع عليه "قال عبيدة" بفتح العين المهملة السلماني "لعلي" رضي الله عنه "حين رجع" عن عدم جواز بيع أمهات الأولاد "قبله" أي انقراض المجمعين عليه حيث قال اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن، ثم رأيت بعد أن يبعن ومقول قول عبيدة(5/230)
"رأيك" ورأي عمر "في الجماعة أحب" إلي "من رأيك وحدك" في الفرقة فضحك علي رضي الله عنه رواه عبد الرزاق وليس هذا من علي رضي الله عنه مخالفة للإجماع بل كما قال المصنف "وغاية الأمر أن عليا رضي الله عنه يرى اشتراطه" أي انقراض العصر، ثم ليس هذا الرأي منه(5/231)
ص -112-…المدلول عليه بهذه الواقعة مع مخالفة غيره من الصحابة فيه بمتعين الاعتبار حتى ينتهض حجة للمخالفين على أن الذي في رواية البيهقي عن علي رضي الله عنه أنه خطب على منبر الكوفة فقال اجتمع رأيي ورأي أمير المؤمنين عمر أن لا تباع أمهات الأولاد وأنا الآن أرى بيعهن فقال له عبيدة السلماني رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك فأطرق رأسه، ثم قال اقضوا فيه ما أنتم قاضون فأنا أكره أن أخالف أصحابي "قالوا" أي المشترطون ثانيا "لو لم تعتبر مخالفة الراجع؛ لأن الأولى كل الأمة لم تعتبر مخالفة من مات؛ لأن الباقي كل الأمة" واللازم باطل "أجيب عدم اعتبار" مخالفة "الميت مختلف" فيه فعلى عدم الاعتبار له نمنع بطلان اللازم ويلزم أن لا قول للميت "وعلى الاعتبار" له نمنع الملازمة، وحينئذ "الفرق" بينهما "تحقق الإجماع" أولا بموافقته "قبل الرجوع فامتنع" اعتبار مخالفته ثانيا "ولم يتحقق" الإجماع "قبل الموت" أي موت المخالف، ثم القول لم يمت بقول قائله؛ لأن اعتبار قول قائلة لدليله لا لذات القائل؛ لأن قول غير صاحب الشرع لا يعتبر إلا بالدليل ودليل الميت باق بعد موته فكان كبقائه مخالفا فهو قول بعض من وجد من الأمة وهو متحقق عند الإجماع فلا ينعقد مع مخالفته. هذا وكون فائدة الاشتراط جواز رجوع الجميع والبعض لا دخول من سيحدث قبل انقراضهم تحكم؛ لأنه إذا كان الفرض أنه لا يكون إجماعا حتى ينقرض العصر وقد وجد مجتهد قبل انقراضهم فلم لا يدخل ويعتبر حتى لا يتم انعقاد الإجماع مع مخالفته كما أنه يعتبر رجوع بعضهم من غير أن ينسب إليه مخالفة الإجماع أفادني معنى هذا المصنف رحمه الله، ثم لقائل أن يقول وإذا كان اللاحق صار كالسابق في اعتبار قوله فينبغي أن يشترط انقراض عصره كما في السابق وكون اعتبار انقراض عصره أيضا يؤدي إلى عدم استقرار الإجماع لا يوجب عدم اعتباره بل عدم اعتبار هذا القول المؤدى إليه فليتأمل.
مسألة(5/232)
"أكثر الحنفية والمحققون من الشافعية" كالحارث المحاسبي والإصطخري والقفال الكبير والقاضي أبي الطيب وابن الصباغ والإمام الرازي وأتباعه "وغيرهم" كالجبائي وابنه "لا يشترط لحجيته" أي الإجماع "انتفاء سبق خلاف مستقر" لغير المجمعين بأن اختلف أهل عصر في مسألة واعتقد كل حقية ما ذهب إليه ولم يكن خلافهم على طريق البحث عن المأخذ من غير أن يعتقد أحد في المسألة حقية شيء من الأقوال فيها ولم يكن في مهلة النظر حتى تبقى المسألة اجتهادية كما كانت "وخرج عن أبي حنيفة اشتراطه" أي انتفاء سبق خلاف مستقر لغيرهم كما هو مذهب الشافعي على ما قاله الغزالي في المنخول وابن برهان وذكر أبو إسحاق الشيرازي أنه قول عامة الشافعية وفي المحصول أنه قول كثير من المتكلمين وفقهاء الشافعية والحنفية ونقله سراج الهندي عن أحمد والأشعري والصيرفي وإمام الحرمين والغزالي واختاره الآمدي "ونفيه" أي نفي اشتراط سبق خلاف مستقر لغيرهم "عن محمد وعن أبي يوسف كل" من اشتراطه ونفي اشتراطه "من القضاء ببيع أمهات الأولاد المختلف" فيه جواز وعدم جواز "للصحابة" كما يفيده ما أخرج البيهقي والطبراني عن سلامة بنت معقل(5/233)
ص -113-…قالت كنت للحباب بن عمرو فمات ولي منه ولد فقالت لي امرأته الآن تباعين في دينه فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فقال من صاحب تركة الحباب بن عمرو فقالت أخوه أبو اليسر كعب بن عمرو فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا تبيعوها وأعتقوها فإذا سمعتم برقيق جاءني فأتوني أعوضكم منها ففعلوا فاختلفوا فيما بينهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم أم الولد مملوكة ولولا ذلك لم يعوضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم بل هي حرة قد أعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد إسحاق بن إبراهيم الرازي في روايته ففي ذا كان الاختلاف، "المجمع للتابعين على أحد قوليهم" أي الصحابة "من المنع" والأحسن إسقاط من على إبدال المنع من أحد قوليهم "لا ينفذ" بيعهن "عند محمد"؛ لأنه قضاء بخلاف الإجماع؛ لأن جواز البيع لم يبق اجتهاديا بالإجماع في العصر الثاني وقضاء القاضي على خلاف الإجماع لا يصح فينتقض قضاؤه "وعن أبي حنيفة ينفذ"؛ لأنه لم يخالف الإجماع على عدم جواز بيعهن؛ لأن الخلاف السابق منع انعقاد الإجماع المتأخر فلا ينقض "ولأبي يوسف مثلهما" فقد ذكره السرخسي مع أبي حنيفة وصاحب الميزان مع محمد وفي التحقيق وغيره وهو الأصح وفي كشف البزدوي وقد حكي عنه نصا أن الإجماع بعد الاختلاف ينعقد ويرتفع الخلاف كذا رأيت في بعض نسخ أصول الفقه "والأظهر" من الروايات كما في الفصول الأسروشنية وغيرها "لا ينفذ عندهم" فقد ذكر في التقويم أن محمدا روى عنهم جميعا أن القضاء ببيع أم الولد لا يجوز "وفي الجامع يتوقف على إمضاء قاض آخر" إن أمضاه نفذ وإلا بطل وكلام السرخسي يفيد أن المخرج من هذه المسألة عن محمد عدم اشتراط انتفاء سبق خلاف مستقر وعنهما اشترطه شيخه شمس الأئمة الحلواني، ثم هذا يفيد أن إجماع الصحابة لم ينعقد آخرا على عدم جواز بيعهن وإلا فليس إجماع التابعين على ذلك كما حكاه كثير مثالا لعدم اشتراط(5/234)
انتفاء سبق خلاف مستقر لأهل عصر سابق والأشبه ذلك ما قد سمعت عن علي رضي الله عنه وأخرج البيهقي بإسناد صحيح عنه قال ناظرني عمر في أمهات الأولاد فقلت يبعن وقال لا يبعن فلما أفضي الأمر إلي رأيت أن يبعن وعبد الرزاق عنه عهد في وصيته فقال إني تركت تسع عشرة سرية فأيتهن كانت ذات ولد فلتقوم في حصة ولدها، ثم تعتق. وأخرج البيهقي وابن المنذر بسند رجاله ثقات عن زيد بن وهب قال انطلقت أنا ورجل إلى ابن مسعود فسألناه عن أم الولد فقال تعتق من نصيب ولدها وعن ابن عباس قولان أحدهما على وفاق ابن مسعود أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد حسن والآخر فيه جواز البيع مطلقا أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح وأخرج البيهقي بسند صحيح عن نافع قال لقي ابن عمر رجلان بطريق المدينة فقالا تركنا هذا الرجل يعنيان ابن الزبير يبيع أمهات الأولاد. قال لكن أبا حفص عمر أتعرفانه؟ قالا نعم قال قضى في أمهات الأولاد أن لا يبعن ولا يوهبن ولا يورثن يستمتع بها صاحبها ما عاش فإذا مات فهي حرة ونقله في التقويم عن جابر وقال آخرون من مشايخنا كالكرخي والرازي والسرخسي لا يدل القول بنفاذ القضاء ببيعهن على أن الاختلاف السابق يمنع انعقاد الإجماع المتأخر قال(5/235)
ص -114-…السرخسي والأوجه عندي أن هذا إجماع عند أصحابنا جميعا للدليل الدال على أن إجماع أهل كل عصر إجماع معتبر ومشى عليه صاحب المنار وذكر القاآني أنه الصحيح عند أصحابنا وحينئذ "فالتخريج لهذا القول على عدمه" أي عدم اشتراط انتفاء الخلاف السابق لانعقاد الإجماع اللاحق "أن" الإجماع "المسبوق" بخلاف مستقر "مختلف" في كونه إجماعا فأكثر العلماء ليس بإجماع والآخرون إجماع فيه شبهة "ففيه" أي في اعتباره حينئذ "شبهة" عند من جعله إجماعا بمنزلة خبر الواحد حتى لا يكفر جاحده ولا يضلل وإذا كان في اعتبار هذا الإجماع شبهة "فكذا متعلقه" أي فكذا في اعتبار متعلق هذا الإجماع وهو الحكم المجمع عليه شبهة "فهو" أي القضاء بذلك الحكم نافذ لأنه ليس بمخالف للإجماع القطعي بل لإجماع مختلف فيه فكان "كقضاء في مجتهد" فيه أي في حكم مختلف في اعتباره فينفذ ويصير لازما ومجمعا عليه ولا يتوقف نفاذه على إمضاء قاض آخر فيه بخلاف قضاء الأول كان باطلا ولو كان نفس القضاء مختلفا فيه كأن استقضيت امرأة في الحدود فقضت فيها فرفع إلى قاض آخر فأبطله جاز؛ لأن نفس القضاء الأول مختلف فيه فكذا هذا كذا في كشف البزدوي وغيره، ولكن لقائل أن يقول كون أظهر الروايات أنه لا ينفذ ومشى عليه الخصاف حيث ذكر أن للقاضي أن ينقض القضاء ببيع أم الولد؛ لأنه مخالف لإجماع التابعين هو الأشبه، ثم الأظهر أن الخلاف في القضاء ببيع أمهات الأولاد في نفس القضاء أيضا كما في متعلقه الذي هو جواز البيع لا في نفس متعلقه فقط فيتجه ما في الجامع؛ لأن قضاء الثاني هو الذي يقع في مجتهد فيه أعني الأول فلا جرم أن في الكشف وهذا أوجه الأقاويل.(5/236)
"تنبيه"، ثم الذي عليه الأئمة الأربعة عدم جواز بيع أم الولد وحيث كان القاضي مقلدا لأحدهم كما عليه الحال الآن في سائر الأقطار بل دائما يفوض إليه القضاء ليقضي على مذهب مقلده الذي هو أحدهم نقلا أو تخريجا فلو وقع قضاء قاض من قضاة الزمان ببيع أمهات الأولاد لا ينفذ، وإن نفذه ذو عدد كثير منهم على اختلاف مذاهب مقلديهم والوجه ظاهر فليتنبه له.
"لنا" على عدم اشتراط هذا الشرط "الأدلة" المتقدمة على حجية الإجماع له "لا نفصل" بين ما سبقه خلاف أو لا فيعمل بمقتضى إطلاقها "قالوا" أي الشارطون "لا ينتفي القول بموت قائله حتى جاز تقليده" أي قائله "والعمل به" أي بقوله ولهذا يدون ويحفظ "فكان" قوله "معتبرا حال اتفاق اللاحقين فلم يكونوا" أي اللاحقون "كل الأمة" فلا إجماع "قلنا جواز ذلك" أي تقليد الميت والعمل بقوله "مطلقا ممنوع بل" جوازه "ما لم يجمع على" القول "الآخر" المقابل له أما إذا أجمع على الآخر "فينتفي اعتباره" أي ذلك القول السابق "لا وجوده كما بالناسخ" فإن الناسخ ينفي اعتبار المنسوخ لا وجوده فلا يسوغ والحالة هذه تقليده والعمل بقوله بل هذا من قبيل النسخ كما صرح به فخر الإسلام حيث قال ولكنه نسخ بالإجماع فكان ساقطا كقياس نزل بعده نص بخلافه يكون منسوخا ساقطا انتهى. وقال صاحب كشفه أي لم(5/237)
ص -115-…يبق معتبرا معمولا به بعد ما انعقد الإجماع على خلافه كنص نزل بخلاف القياس يخرج القياس عن أن يكون معمولا به، وعلى هذا فقد كان الأولى أن يقال كما هو شأن الناسخ أو غيره من النواسخ نعم قال صاحب الميزان هذا ضعيف؛ لأن بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم خرجت الأحكام عن احتمال النسخ لانقطاع الوحي الذي توقف النسخ عليه بوفاته بل الجواب الصحيح أن بإجماع التابعين تبين أن ذلك لم يكن دليلا بل كان شبهة؛ لأن الدليل لا يظهر خطؤه أيضا بل يتقرر بمضي الزمان فأما الشبهة فتزول وقد قام الدليل على البطلان فتبين أنه شبهة لكن قال في الكشف ويمكن أن يجاب عنه بأن بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تبق مشروعية النسخ بالوحي وبقيت الأحكام الثابتة في زمانه على ما كانت فأما الأحكام الثابتة بالاجتهاد أو بالإجماع بعد الرسول فيجوز أن تنسخ وهو مختار المصنف يعني فخر الإسلام بأن يوفق الله تعالى بعد ثبوت حكم بإجماع أو باجتهاد أهل عصر آخر أن يتفقوا على خلافه بناء على اجتهاد سنح لهم على خلاف اجتهاد أهل العصر المتقدم ويكون هذا بيانا لانتهاء مدة الحكم الأول كما في النصوص ولا يقال هذا غير جائز؛ لأنه لا مدخل للرأي في معرفة انتهاء مدة الحكم؛ لأنا لا ندعي أنهم يعرفون انتهاء مدة الحكم بآرائهم بل نقول لما انتهى ذلك الحكم بانتهاء المصلحة وفقهم الله للاتفاق على خلاف الفريق الأول فيتبين به أن الحكم قد تبدل بتبدل المصلحة من غير أن يعرفوا عند الاتفاق تبدل المصلحة ومدة الحكم انتهى. وقد ذكره في التلويح ملخصا وسكت عليه ويظهر أنه، وإن كان فيه ما تقدم في مسألة النسخ بالإجماع فيمكن أن يقال هو أولى مما ذكره صاحب الميزان؛ لأن ما ذكره يؤدي إلى تضليل الفرقة من الصحابة الذين وقع الإجماع على خلاف قولهم في الدليل بمعنى أنهم لم يقيموه مقرونا بشرائطه وهو بعيد منهم وقوعا ومن مناظرتهم تقريرا بخلاف هذا التوجيه فإنه ليس فيه نسبتهم إلى(5/238)
تضليل لا في الحكم ولا في الدليل والله سبحانه أعلم.
"وبه" أي بهذا الجواب "يبطل قولهم" أي الشارطين "يوجب" عدم اعتبار قول الميت المخالف "تضليل بعض الصحابة" فإنه كثير ما اتفق لهم خلاف مستقر في مسائل وحيث يصح وجود الإجماع لمن بعدهم على أحد قوليهم ولم يعتبر القول الآخر مانعا من انعقاد الإجماع على خلافه لزم أن يكون صاحب القول الآخر مخالفا للإجماع ومخالفة الإجماع توجب التضليل؛ لأنه يوجب الحقية فيما اجتمعوا عليه وقد قال تعالى {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس: 32] وبيان بطلان هذا اللازم ظاهر أما أولا فلأن كون صاحب القول الآخر مخالفا للإجماع ممنوع إذ لا وجود للإجماع في حياته والمخالفة فرع الوجود بل غايته أن رأيه كان حجة قبل حدوث الإجماع فإذا حدث انقطع كونه حجة مقتصرا على الحال، وأما ثانيا فللإجماع على عدم تضليل المجتهد المزاحم لمجتهدين اتفقوا على خلاف قوله فما ظنك بالمجتهد المتقدم. نعم غاية ما يقتضي هذا الإجماع ظهور خطأ المخالف لما حدث الإجماع عليه وهو غير ممتنع فإن المجتهد يخطئ ويصيب، ثم لا ضير فيه فإنه غير ملوم ولا مأزور بل معذور ومأجور، وإنما الممتنع تضليل كل الصحابة أو كل الأمة في عصر بالنظر إلى(5/239)
ص -116-…الحكم؛ لأن إصابة الحق لا تعدوهم "وبإجماع التابعين" المذكور "بطل ما عن الأشعري وأحمد والغزالي وشيخه" إمام الحرمين "من إحالة العادة إياه" أي الإجماع على أحد القولين السابقين "لقضائها" أي العادة "بالإصرار على المعتقدات وخصوصا من الاتباع" لأربابها فلا يمكن اتفاقهم ووجه بطلانه ظاهر فإن الوقوع دليل الجواز "على أنه" أي وجود القولين المذكورين "إنما يستلزم ذلك" أي قضاءها بإحالة وقوع الإجماع على أحدهما "من المختلفين" أنفسهم "لا" وقوعه "ممن بعدهم" والمسألة مفروضة في وقوعه ممن بعدهم على أن هذا وإن كان أيضا غير مسلم بالنسبة إلى المختلفين إذ قد يخفى الصواب للمجتهد في وقت ويظهر له في آخر، وبعيد من المتدين الإصرار على الخطأ بعد ظهور الصواب له لكن لما كان مع ذلك فيه إظهار بطلان الاستحالة بوجه آخر ذكره لذلك "وما عن المجوزين من عدم الوقوع" أي وبطل أيضا ما عن بعض المجوزين لانعقاده وحجيته لو انعقد من نفي وقوعه عادة إذ هو واقع كالإجماع لمذكور، ثم هذا يفيد أن المخبرين طائفتان طائفة قائلة بالجواز والوقوع وهم الجمهور وطائفة قائلة بالجواز لا الوقوع. "قولهم" أي القائلين بامتناع الوقوع في الوقوع "تعارض الإجماعين القطعيين" الأول "على تسويغ القول بكل" من القولين "و" الثاني "على منعه" أي منع تسويغ القول بكل منهما لحصول الإجماع على أحدهما بعينه وتعارضهما محال عادة "قلنا" تعارضهما ممنوع إذ "التسويغ" أي تسويغ القول بكل منهما "مقيد بعدم الإجماع على أحدهما وجوبا" وهو متعلق بمقيد، وإنما قيد التسويغ على سبيل الوجوب بما إذا لم يجمع على أحدهما "لأدلة الاعتبار" للإجماع المسبوق بخلاف مستقر أي حجيته كما ذكرنا "أما إجماعهم" أي المختلفين أنفسهم "بعد اختلافهم" المستقر "على أحدهما فكذلك" أي فالكلام فيه كالكلام فيما تقدم جوابا واستدلالا فمنعه الآمدي مطلقا؛ لأن استقرار الخلاف بينهم يتضمن اتفاقهم على جواز الأخذ(5/240)
بكل من شقي الخلاف باجتهاد أو تقليد فيمتنع اتفاقهم بعد على أحد الشقين، وجوزه الإمام الرازي مطلقا ونقله إمام الحرمين عن أكثر الأصوليين لأدلة الاعتبار، وتضمن استقرار خلافهم اتفاقهم على جواز الأخذ بكل من شقي الخلاف مشروط بعدم الاتفاق على أحدهما والفرض انتفاؤه وقيل إلا أن يكون مستندهم في الاختلاف قاطعا فلا يجوز حذرا من إلغاء القاطع "وكونه" أي إجماعهم "حجة" في هذه "أظهر" من كون الإجماع في الأولى "إذ لا قول لغيرهم مخالف لهم" في هذه "وقولهم" أي المخالفين منهم أولا "بعد الرجوع" عنه ثانيا إلى قول الباقين "لم يبق معتبرا" حتى لا يجوز له ولا لغيره العمل به بعد الرجوع عنه "فهو" أي القول الذي استمر بعضهم عليه ورجع الباقون إليه "اتفاق كل الأمة بخلاف ما" أي المسألة التي "قبلها" فإن القول الذي انعقد الإجماع على خلافه "يعتبر فهم" أي المجمعون على خلافه في العصر الذي بعده "كبعض الأمة" فإن قيل إن أردتم يعتبر قبل الإجماع على القول المخالف حتى جاز أن يعمل به مقلد فمسلم، وكذا قول بعض المختلفين قبل رجوعه إلى مقابله، وإن أردتم يعتبر بعد الإجماع على مقابله فممنوع بل لا يعتبر كما في هذه فلا فرق بين الإجماعين في الحجة ظهورا وأظهرية قلنا نختار الثاني(5/241)
ص -117-…ولا نسلم أن القول الذي لم يجمع عليه بعد الإجماع على مقابله في المسألة الأولى غير معتبر أصلا كما في هذه فإنه يجوز الاجتهاد في الإجماع المسبوق بخلاف مستقر من غير المجمعين بخلاف ما انعقد عليه كما سيصرح به المصنف في آخر مسألة إنكار حكم الإجماع القطعي ولا يجوز الاجتهاد في الإجماع المسبوق بخلاف مستقر من المجمعين فظهر وجه الأظهرية المفيدة لمزيد القوة فيه على ما قبله والله سبحانه وتعالى أعلم.
"تنبيه"، ثم غير خاف أن هذا كله بناء على عدم اشتراط انقراض العصر أما على اشتراطه فجائز وقوعه ويكون حجة إذ ليس فيه ما يوهم تعارض الإجماعين ولأن اختلافهم على قولين ليس بأكثر من إجماعهم على قول واحد وإذا جاز الرجوع في الواحد المتفق عليه ففي المختلف فيه أولى والشرط كما قاله ابن كج إن رجع الجميع من قبل أن ينقرض منهم أحد، وإن ماتت إحدى الطائفتين أو ارتدت والعياذ بالله فهل يعتبر قول الباقين إجماعا؟ فاختار الإمام الرازي والصفي الهندي أنه يعتبر إجماعا لا بالموت والكفر بل لكونه قول كل الأمة وصحح القاضي في التقريب أنه لا يكون إجماعا؛ لأن الميت في حكم الموجود فالباقون بعض الأمة لا كلها وجزم به أبو منصور البغدادي وذكر في المستصفى أنه الراجح وحكى الشيخ أبو بكر الرازي فيه قولا ثالثا وهو إن لم يسوغوا فيه الاختلاف صار حجة؛ لأن الطائفة المتمسكة بالحق لا يخلو منها زمان وقد شهدت ببطلان قول المنقوضة فوجب أن يكون قولها حقا، وإن سوغوا فيه الاجتهاد لم يصر إجماعا لإجماع الطائفين على تسويغ الخلاف، وهذا من قائله بناء على أن الإجماع بعد الخلاف لا يرفع الخلاف المتقدم إذا كان على طريقة اجتهاد الرأي، وأما إجماعهم قبل استقرار خلافهم فإجماع.
مسألة(5/242)
معظم العلماء كما ذكر ابن برهان على أنه "لا يشترط في حجيته" أي الإجماع "عدد التواتر؛ لأن" الدليل "السمعي" لحجيته "لا يوجبه" أي عدد التواتر بل يتناول الأقل منهم لكونهم كل الأمة "والعقلي" لحجيته "وهو أنه" أي الإجماع "لو لم يكن عن دليل قاطع لم يحصل" الإجماع؛ لأن العادة تحكم بأن الكثير من العلماء المحققين لا يجتمعون على القطع في شرعي بمجرد تواطؤ على سبيل الظن بل لا يكون قطعهم إلا عن نص قاطع بلغهم فيه يوجب ذلك الحكم "لم يصح" مثبتا لاشتراط عدد التواتر في حجيته وهذا بناء على أن قول القاضي، وأما من استدل بالعقل وهو أنه لو لم يكن إلا عن قاطع لما حصل فلا بد من القول بعدد التواتر فإن انتفاء حكم العادة في غيره ظاهر ا هـ. غير ظاهر بل هو في حيز المنع؛ لأن اشتراط عدد التواتر في انتهاض الإجماع حجة قطعية دون انتهاضه حجة ظنية "وإذن" أي وإذ لا يشترط عدد التواتر في المجمعين بحجية الإجماع "لا إشكال في تحققه" أي الإجماع "لو لم يكن" ذلك الإجماع "لا" اتفاق "اثنين" على حكم شرعي في عصر إذا انفردا فيه كأنه لوجود ما قيل من أن معناه لغة الاتفاق؛ لأنه أقل ما يقع عليه إذا كان من اثنين وقد تقدم ما فيه من(5/243)
ص -118-…البحث في صدر الباب على أن فيه خلافا أيضا ففي التحقيق ورأيت في بعض الحواشي أن أقل ما ينعقد به الإجماع ثلاثة من العلماء؛ لأن الإجماع مشتق من الجماعة وأقل الجمع الصحيح ثلاثة وإليه يشير عبارة شمس الأئمة حيث قال والأصح عندنا أنهم إذا كانوا جماعة واتفقوا قولا أو فتوى من البعض مع سكوت الباقين فإنه ينعقد الإجماع به، وإن لم يبلغوا حد التواتر "فلو اتحد" أي لم يكن في العصر إلا مجتهد واحد "فقيل" قوله "حجة" جزم به ابن سريج ونقله الصفي الهندي عن الأكثرين "لتضمن السمعي" السابق في بيان حجية الإجماع "عدم خروج الحق عن الأمة" من غير تفصيل على أن الأمة تطلق على الواحد أيضا كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] فيدخل تحت النصوص الدالة على عصمة الأمة فيكون قوله حجة "وقيل لا" يكون قوله حجة "لأن المنفي عنه الخطأ الاجتماع" المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم "سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على ضلالة" إلى غير ذلك كما تقدم "وسبيل المؤمنين" حيث كان المراد به في الآية الشريفة الإجماع "وهو" أي كل منهما "منتف" في الواحد إذ ليس له اجتماع وليس هو بالمؤمنين ونص في التحقيق وغيره على أنه الأظهر والسبكي على أنه المختار وإطلاق الأمة على إبراهيم مجاز للقطع بأن إطلاقها على الجماعة حقيقة والأصل عدم الاشتراك ولا يلزم من ارتكاب المجاز في حق إبراهيم عليه السلام لتعظيمه ارتكابه في حق غيره أو بمعنى المقتدى فهي فعلة بمعنى المفعول كالرحلة والنخبة، من أمه إذا قصده واقتدى به فإن الناس كانوا يأمونه للاستفادة ويقتدون بسيرته لقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] وكنت عرضت على المصنف التنبيه عليه فأجاب بأنه نبه عليه بذكره له آخرا مع عدم تعقبه فإن العادة في حكاية الأقوال مع دلائلها من غير تنصيص على اختيار أحدها ولا تعقب دليله أن يكون المختار هو الآخر وفي حكايتها بلا دليل أن(5/244)
يكون المختار الأول إلا أن يذكر أن غيره المختار.
مسألة
"ولا" يشترط "في حجيته" أي الإجماع "مع الأكثر" أي مع كون المجمعين أكثر مجتهدي ذلك العصر والأوضح ولا في حجيته إجماع الأكثر "عدده" أي عدد التواتر "في الأقل" الذين لم يوافقوا المجتهدين "وإلا" فإن كان الأقل يبلغون عدد التواتر "فلا" يكون إجماع الأكثر حجة أصلا أي لا يفصل هذا التفصيل من أنه إن بلغ الأقل عدد التواتر منع خلافهم انعقاد إجماع الأكثر، وإن لم يبلغوا عدد التواتر لم يمنع كما هو معزو إلى كثير من الأصوليين على ما في شرح البديع لسراج الدين الهندي قال القاضي أبو بكر وهو الذي يصح عن ابن جرير "ومطلقا" أي ولا يشترط في حجية إجماع الأكثر كون الأقل عددا مخصوصا كعدد التواتر أو غيره بل إجماع الأكثر حجة مطلقا كما عزاه في البديع وغيره "لابن جرير" وأبي بكر الرازي "وبعض المعتزلة" أي أبي الحسين الحناط أستاذ الكعبي كما في كشف البزدوي وغيره "ونقل عن أحمد" أيضا على ما في الكشف وغيره "وقال" أبو عبد الله "الجرجاني والرازي من الحنفية" على ما في الكشف أيضا "أن سوغ الأكثر اجتهاد الأقل(5/245)
ص -119-…كخلاف أبي بكر في مانعي الزكاة" أي في قتالهم "فلا" ينعقد الإجماع مع خلافه "بخلاف" من لم يسوغ الأكثر اجتهاده فإنه ينعقد الإجماع مع خلافه ولكن يكون حجة ظنية كخلاف "أبي موسى" الأشعري "في نقض النوم" حيث لا ينقض كما أخرج معناه عنه ابن أبي شيبة ونقل عن غيره من الصحابة أيضا وصح عن جماعة من التابعين منهم ابن المسيب قلت ولفظ السرخسي والأصح عندي ما أشار إليه أبو بكر الرازي أن الواحد إذا خالف الجماعة فإن سوغوا له ذلك الاجتهاد لا يثبت حكم الإجماع بدون قوله بمنزلة خلاف ابن عباس للصحابة في زوج وأبوين وامرأة وأبوين أن للأم ثلث جميع المال، وإن لم يسوغوا له الاجتهاد وأنكروا عليه قوله فإنه يثبت حكم الإجماع بدون قوله بمنزلة قول ابن عباس في حل التفاضل في أموال الربا فإن الصحابة لم يسوغوا له هذا الاجتهاد حتى روي أنه رجع إلى قولهم فكان الإجماع ثابتا بدون قوله. ولهذا قال محمد في الإملاء لو قضى القاضي بجواز بيع الدرهم بالدرهمين لم ينفذ قضاؤه؛ لأنه مخالف للإجماع ا هـ فجعل المسألة موضوعة في خلاف الواحد لا غير والذي في أصول الفقه لأبي بكر الرازي اختلف أهل العلم في مقدار من يعتبر إجماعه فقائلون جماعة يمتنع في العادة أن يخبروا عن اعتقادهم فلا يكون خبرهم مشتملا على صدق فإذا أجمعوا على قول ثم خالفهم العدد القليل الذي يجوز على مثلهم أن يظهروا خلاف ما يعتقدون ولا يعلم يقينا أن خبرهم فيما يظهرونه من اعتقادهم مشتمل على صدق لم يعتد بخلاف هؤلاء عليهم إذا أظهرت الجماعة إنكار قولهم ولم يسوغوا لهم خلافا، وإن سوغت الجماعة للنفر اليسير خلافهم ولم ينكروه لم يكن ما قالت به الجماعة إجماعا، وإن خالف هذه الجماعة جماعة مثلها في الصفة المذكورة وأنكر بعض على بعض ما قاله أو لم ينكره لم ينعقد بقول إحدى الجماعتين إجماع إذا لم يثبت ضلال أحد الفريقين عندنا وهذا لا خلاف فيه. وقال آخرون إذا خالف على الجماعة التي وصفتم(5/246)
حالها العدد اليسير، وإن كان واحدا كان خلافه عليها خلافا صحيحا ولم يثبت مع خلافه إجماع وكان أبو الحسن يذهب إلى هذا القول ولم أسمعه يحكي عن أصحابنا في ذلك شيئا وساق وجه القول الأول، ثم قال وهذا القول أظهر وأوضح دلالة مما حكيناه عن أبي الحسن في إثبات خلاف الواحد على الجماعة، ثم قال في موضع آخر من كتابه إذا اختلفت الأمة على قولين وكل فرقة من الكثرة في حد ينعقد بمثلها الإجماع لو لم يخالفها مثلها فإن من الناس من يعتبر إجماع الأكثر وهم الحشوية وقال أهل العلم لا ينعقد بذلك إجماع ووجب الرجوع إلى ما يوجبه الدليل؛ لأن الحق يجوز أن يكون مع القليل إذا كانوا على حد متى أخبروا عن اعتقادهم للحق وظهرت عدالتهم ووقع العلم باشتمال خبرهم على صدق على نحو ما ذكرنا فيما سلف فقد أثنى الله تعالى ورسوله على القليل ومدحهم وذم الكثير فقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40] {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116] {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 26] إلى غير ذلك وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود كما بدأ(5/247)
ص -120-…فطوبى للغرباء قيل ومن هم يا رسول الله قال الذين يصلحون إذا أفسد الناس" وقال: "ستفترق أمتي على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" إلى غير ذلك وقد ارتد أكثر الناس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعوا الصدقة وكان المحقون الأقل وهم الصحابة وكان أكثر الناس في زمن بني أمية على القول بإمامة معاوية ويزيد وأشباههما من ملوك بني مروان والأقل كانوا على خلاف ذلك ومعلوم أن الحق مع الأقل لا الأكثر فبطل اعتبار القلة والكثرة. فإن قيل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد" وقال: "يد الله مع الجماعة" وقال: "عليكم بالسواد الأعظم" فهذا يدل على وجوب اعتبار إجماع الأكثر قيل له فكل واحد من الفرقتين اللتين ذكرنا جماعة فلم اعتبرت الأكثر ولا دلالة في الخبر عليه وقوله عليكم بالجماعة يعني إذا اجتمعت على شيء وخالفها الواحد والاثنان فلا يعتد بخلافها ولزم اتباع الجماعة ألا يرى إلى قوله فإن الشيطان مع الواحد فأخبر أن لزوم الجماعة إنما يجب إذا لم يخالفها إلا الواحد والعدد اليسير وكذلك قوله: "عليكم بالسواد الأعظم" معناه ما اتفقت عليه الأمة في أصول اعتقاداتها فلا تنقضوه وتصيروا إلى خلافه، وكل من قال بقول باطل فقد خالف الجماعة والسواد الأعظم إما في جملة اعتقادها أو تفصيله ا هـ مع بعض تلخيص وهذا وإن كان في بعضه خلاف وتعقب كما سيعلم فهو خلاف ما نسبه صاحب البديع إليه من أنه على أن إجماع الأكثر حجة مطلقا، وصاحب الكشف وغيره إليه من أن الأكثر إن سوغ اجتهاد الأقل لم ينعقد الإجماع مع خلافه، وإن لم يسوغوه انعقد مع خلافه هذا ونقل أبو إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين والغزالي عن ابن جرير مثل ما ذكره الرازي من أنه إن خالف أكثر من اثنين اعتبر وإلا فلا ونقل سليم الرازي عنه إن خالف أكثر من ثلاثة اعتبر وإلا فلا والله سبحانه أعلم.(5/248)
"والمختار ليس" إجماع الأكثر "إجماعا" أصلا فلا يكون حجة قطعية ولا ظنية؛ لأنه ليس بكتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس بل ولا دليل من الأدلة المعتبرة من الأئمة "و" المختار "لبعضهم" وكأنه ابن الحاجب "ليس إجماعا لكن حجة؛ لأن الظاهر إصابتهم" أي الأكثر "خصوصا مع عليكم بالسواد الأعظم" كما قدمناه من رواية ابن ماجه والسواد الأعظم هو الأكثر "وأما الأول" أي أنه ليس إجماعا "فانفراد ابن عباس في العول" أي إنكاره من بين الصحابة كما أخرجه عنه ابن شيبة وغيره فلا يقدح ذهاب عطاء وابن الحنفية والباقر وداود وأصحابه إليه كما نقله ابن حزم واختاره "وأبي هريرة وابن عمر في جواز أداء الصوم" أي إنكار صحة أداء صوم رمضان "في السفر" كما ذكره أصحابنا والشافعية عن أبي هريرة وبعض أصحابنا عن ابن عمر وقال شيخنا الحافظ حكي عن عمر وابن عمر وأبي هريرة انتهى وقال ابن المنذر روينا عن ابن عمر أنه قال إن صام في السفر فكأنه أفطر في الحضر. وروي عن ابن عباس أنه قال لا يجزيه وعن عبد الرحمن بن عوف أنه قال الصائم في السفر كالمفطر في الحضر "عدوه" أي الصحابة رضي الله عنهم انفراد هؤلاء بالمنع مع ذهاب الأكثر إلى عدمه "خلافا لا إجماعا" ولو كان إجماع الأكثر إجماعا لعدوا قول الأكثر في هاتين(5/249)
ص -121-…المسألتين إجماعا "وأيضا فالأدلة إنما توجبه" أي الإجماع "في الأمة" أي حجية إجماعهم "غير معقول لزوم إصابتهم" فما دام واحد من أهل الإجماع مخالفا لهم لم ينعقد الإجماع لاحتمال أن يكون الحق معه؛ لأن المجتهد يخطئ ويصيب وما ثبت غير معقول المعنى يجب رعاية جميع أوصاف النص فيه والنص يتناول كل أهل الإجماع "أو" معقول المعنى لزم إصابتهم "إكراما لهم" والأكثر ليسوا كل الأمة "واستدلال المكتفي بالأكثر" في انعقاد الإجماع لهم ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم "يد الله مع الجماعة فمن شذ شذ في النار" مفاده منع الرجوع بعد الموافقة" إلى عدمها "من شذ البعير" وند إذا توحش بعد ما كان أهليا فالشاذ من خالف بعد الموافقة لا من لم يوافق ابتداء فلا حجة فيه على أن من لم يوافق ابتداء لا عبرة بعدم وفاقه فإذن "فالجماعة الكل، وكذا السواد الأعظم" المراد من متابعته متابعة الأكثر فيما إذا وجد الإجماع من جميع أهله، ثم خالف البعض لشبهة اعترضت؛ لأن رجوعه بعد صحة الإجماع ليس بصحيح والسواد الأعظم الكل إذ هو أعظم مما دونه توفيقا بين الأدلة السمعية كلها "وباعتماد الأمة عليه" أي واستدلال المكتفي بالأكثر باعتماد الأمة على إجماع الأكثر "في خلافة أبي بكر مع خلاف علي و" سعد "بن عبادة وسلمان فلم يعتدوهم" أي الصحابة بخلاف هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم أجمعين "مدفوع بأنه" أي عدم اعتداد الصحابة بخلاف هؤلاء في الإجماع على خلافته إنما هو "بعد رجوعهم" أي هؤلاء إلى ما اتفق عليه العامة؛ لأن برجوعهم تقرر الإجماع على خلافته "وقبله" أي رجوعهم خلافته "صحيحة بالإجماع على الاكتفاء في الانعقاد" أي انعقاد الإمامة "ببيعة الأكثر" إذ هي كافية في انعقادها بل هي بمحضر عدلين كافية "لا" أن خلافته "مجمع عليها" وقتئذ فلم يتم دعوى أن الإجماع ينعقد بالأكثر، ثم بقي ما وجه قائل إن لم يبلغ الأقل عدد التواتر يكون حجة قطعية، وإن بلغ لا يكون حجة أصلا(5/250)
ولعل وجهه ما أفادنيه المصنف إملاء وهو أن عدد التواتر مما يحصل به القطع فلو كان مخالفه إجماعا لوقع القطع بالنقيضين وهو محال وجوابه أن القطع إنما يحصل من المتواتر فيما أخبر به أهل التواتر مستندين فيه إلى الحس لا ما قالوه عن رأي واجتهاد مع مخالفة غيرهم لهم في ذلك وما نحن فيه من هذا القبيل قلت ثم لم لا يجوز أن يفيد الظن ولا يلزم منه القطع بالنقيضين والله سبحانه أعلم.
مسألة
"ولا" يشترط في حجية الإجماع "عدالة المجتهد في" القول "المختار للآمدي" وأبي إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين والغزالي في المنخول فيتوقف الإجماع على موافقة المجتهد غير العدل كما يتوقف على موافقة العدل "لأن الأدلة" المفيدة لحجية الإجماع "لا توقفه" أي الإجماع "عليها" أي على عدالته "والحنفية تشترط" عدالة المجتهد فلا يتوقف الإجماع على موافقة المجتهد غير العدل كما مشى عليه الجصاص ونص على أنه الصحيح عندنا وعزاه السرخسي إلى العراقيين وابن برهان إلى كافة الفقهاء والمتكلمين وصاحب كشف البزدوي والسبكي إلى الجمهور "لأن الدليل" الدال على حجية الإجماع "يتضمنها" أي(5/251)
ص -122-…العدالة "إذ الحجية" الثابتة لإجماع الأمة إنما هي "للتكريم" لهم ومن ليس بعدل ليس من أهل التكريم وهذا بناء على القول بثبوتها لهم بمعنى معقول "ولوجوب التوقف في إخباره" أي من ليس بعدل لقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] الآية وذلك؛ لأنه لا يتحامى الكذب غالبا وقال شمس الأئمة السرخسي والأصح عندي أنه إن كان معلنا بفسقه فلا يعتد بقوله في الإجماع، وإن كان غير مظهر له يعتد بقوله في الإجماع، وإن علم فسقه حتى ترد شهادته؛ لأنه لا يخرج بهذا عن الأهلية للشهادة أصلا ولا عن الأهلية للكرامة بسبب الدين ألا يرى أنا نقطع القول لمن يموت مؤمنا مصرا على فسقه أنه لا يخلد في النار فإذا كان أهلا للكرامة بالجنة في الآخرة فكذلك في الدنيا باعتبار قوله في الإجماع "وقيل" أي وقال إمام الحرمين وأبو إسحاق الشيرازي "يعتبر قوله" أي غير العدل "في حق نفسه فقط كإقراره" أي كما يقبل إقراره في حق نفسه بالمال والجنايات فيكون إجماع العدول حجة عليه إن وافقهم لا إذا خالفهم وعلى غيره مطلقا "ويدفع" هذا القول نظرا إلى هذا القياس "بأنه" أي إقراره معتبر منه "فيما عليه وهذا" أي واعتبار قوله هنا "له" لا عليه "إذ ينتفي" باعتبار قوله "حجيته" أي الإجماع فيحصل له شرف الاعتداد به والاعتبار بمقاله فانتفت صحة القياس على اعتبار إقراره وذهب بعض الشافعية إلى أنه إذا خالف يسأل عن مأخذه لجواز أن يحمله فسقه على الفتيا من غير دليل فإن ذكر ما يجوز أن يكون محتملا اعتبر وإلا فلا واختاره ابن السمعاني "وعليه" أي اشتراط عدالة المجتهدين "يبتنى شرط عدم البدعة" فيه أيضا "إذا لم يكفر بها" أي بالبدعة "كالخوارج" إلا الغلاة منهم فإنهم من أصحاب البدع الجلية كما تقدم في مباحث الخبر ولم يكفروا ببدعتهم "والحنفية" قالوا يشترط فيه عدم البدعة "إذا دعا إليها؛ لأنه يوجب تقصيا" وهو عدم قبول الحق عند ظهور الدليل بناء(5/252)
على ميل إلى جانب "يوجب خفة سفيه فيتهم" في أمر الدين فإن لم يدع إليها يكون قوله في غير بدعته معتبرا في انعقاد الجماع؛ لأنه من أهل الشهادة ولذا كان مقبولها في الأحكام لا في بدعته؛ لأنه إنما يضلل لمخالفته نصا موجبا للعلم وكل قول يخالفه فهو باطل، وكذا إن كفر بهواه؛ لأن اسم الأمة لا يتناوله مطلقا، ثم هذا التفصيل قول بعض مشايخنا على ما في الميزان وغيره ومشى عليه فخر الإسلام ومتابعوه. وقال شمس الأئمة السرخسي الأصح عندي أنه إن كان متهما بالهوى ولكنه غير مظهر له لا يعتبر قوله فيما يضلل فيه ويعتبر فيما سواه، وإن كان مظهرا له لا يعتد بقوله؛ لأن المعنى الذي قبلت به شهادته لا يوجد هنا فإنها لا تقبل لانتفاء تهمة الكذب على ما قال محمد قوم عظموا الذنوب حتى جعلوها كفرا لا يتهمون بالكذب في الشهادة، وهذا يدل على أنهم لا يؤتمنون في أحكام الشرع وقال الشيخ أبو بكر الرازي الصحيح عندنا أنه لا اعتبار بموافقة الضلال لأهل الحق في صحة الإجماع، وإنما الإجماع الذي هو حجة الله إجماع أهل الحق الذين لم يثبت فسقهم ولا ضلالهم ووافقه صاحب الميزان وعليه مشى المصنف فقال "والحق إطلاق منع البدعة المفسقة لهم" في اعتبار قولهم لما تقدم من أن صيرورة إجماع الأمة حجة بطريق الكرامة وصاحب البدعة ليس من أهلها، وموافقه أيضا قول أبي منصور(5/253)
ص -123-…البغدادي قال أهل السنة لا يعتبر في الإجماع وفاق القدرية والخوارج والروافض ولا اعتبار بخلاف هؤلاء المبتدعة في الفقه، وإن اعتبر في الكلام هكذا روى أشهب عن مالك والعباس بن الوليد عن الأوزاعي وأبو سليمان الجوزجاني عن محمد بن الحسن وذكر أبو ثور أنه قول أئمة الحديث وقول ابن القطان الإجماع عندنا إجماع أهل العلم فأما من كان من أهل الأهواء فلا مدخل له فيه واختاره أبو يعلى من الحنابلة واستقراه من كلام أحمد. وقد ظهر من هذه الجملة مرجوحية القول باعتبار قوله إذا كان يعتقد تحريم الكذب لا أنه الصحيح كما قاله الصفي الهندي.
"ولذا" أي كون البدعة المفسقة مانعة من اعتبار قول صاحبها "لم يعتبر خلاف الروافض في الإجماع على خلافة الشيوخ" أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم؛ لأن أدنى حال الرافضة أنهم فسقة "وقد يقال ذلك" أي عدم اعتبار خلاف الرافضة في الإجماع المذكور "لتقرره" أي الإجماع من الصحابة وغيرهم على خلافتهم "قبلهم" أي قبل وجود الرافضة "فعصوا" أي الرافضة "به" أي بخلافهم له لا أن عدم اعتبار قولهم في الإجماع المذكور بناء على فسقهم "وخلاف الخوارج في خلافة علي" رضي الله عنه "خلاف الحجة" التي هي دليل ظني "لا" خلاف "إجماع الصحابة" الذي هو دليل قطعي بناء على أنه كان في المخالفين مجتهد يعتد بخلافه كمعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص أما إذا لم يكن فيهم مجتهد كما أشار إليه بقوله "إلا إن لم يكن في المخالفين كمعاوية وابن العاص مجتهد" فإنه يكون خلاف الإجماع حينئذ "وإنما هو" أي هذا التعقيب "إبطال دليل معين" أي كون عدم اعتبار خلاف الرافضة في خلافة الشيوخ لفسقهم "والمطلوب" أي اشتراط عدم فسق المجمعين "ثابت بالأول" وهو أن الدليل الدال على حجية الإجماع يتضمن العدالة إذ الحجية للتكريم ومن ليس بعدل ليس من أهل التكريم والله سبحانه أعلم.
مسألة(5/254)
"إذ ولا" يشترط في حجية الإجماع القطعية "كونهم" أي المجمعين "الصحابة خلافا للظاهرية" فقالوا الإجماع اللازم يختص بعصر الصحابة فأما إجماع من بعدهم فليس بحجة وهو ظاهر كلام ابن حبان في صحيحه "ولأحمد قولان" أحدهما نعم كالظاهرية وأصحهما عند أصحابه لا كالجمهور "لعموم الأدلة" المفيدة لحجية الإجماع إجماع "من سواهم" أي الصحابة فلا موجب لتخصيصها بإجماعهم "قالوا" أي الظاهرية أولا انعقد "إجماع الصحابة" قبل مجيء من بعدهم "على أن ما لا قاطع فيه" من الأحكام "جاز" الاجتهاد فيه وجاز "ما أدى إليه الاجتهاد" من أحد طرفيه أي الأخذ به "فلو صح إجماع من بعدهم" أي الصحابة "على بعضها" أي الأحكام التي لا قاطع فيها "لم يجز" أي الاجتهاد "فيه" أي في ذلك البعض إجماعا ولا الأخذ بغير ما عليه الإجماع "فيتعارض الإجماعان" إجماع الصحابة على أن ما لا قاطع فيه يجوز فيه الاجتهاد وإجماع من بعدهم المفيد أن ما لا قاطع فيه لا يجوز فيه الاجتهاد.(5/255)
ص -124-…"والجواب" أن الصحابة "أجمعوا على مشروطة" عامة "أي" يجوز الاجتهاد فيما لا قاطع فيه "ما دام لا قاطع فيه" فلم يتناقض الإجماعان؛ لأن ما لا قاطع فيه قد زال منه الشرط وهو ما دام لا قاطع فيه لحصول القاطع فيه وهو الإجماع الثاني فزال الحكم المجمع عليه وهو جواز الاجتهاد "قالوا" أي الظاهرية ثانيا "لو اعتبر" إجماع غير الصحابة "اعتبر" أيضا إجماع غيرهم "مع مخالفة بعض الصحابة فيما إذا سبق خلاف" مستقر؛ لأنه إذا جاز اعتباره مع عدم قول الصحابة فليجز مع موافقة بعض الصحابة ومخالفة بعضهم ولأن مخالفة بعضهم لا تصلح معارضا لإجماع غيرهم؛ لأن الظني لا يعارض القطعي واللازم منتف لاشتراطكم عدم المخالفة. "الجواب إنما يلزم" هذا لازما لهذا القول مع بطلانه "من شرط عدم سبق الخلاف المتقرر ولو من واحد" في حجية الإجماع لفقد الإجماع في هذه الصورة عنده لكن هذا إذا سلم الملازمة وله أن يمنعها "لا" أنه لا يلزم هذا لازما باطلا "من لم يشترط" عدم سبق خلاف متقرر في حجية الإجماع "أو جعل الواحد" أي خلافه "مانعا" من انعقاد الإجماع بمن سواه بل إنما يلزمه هذا غير قائل ببطلانه إذ هو يمنع بطلان اللازم "ويعتبر التابعي المجتهد فيهم" أي في الصحابة عند انعقاد إجماعهم حتى لا ينعقد مع مخالفته كما هو مذهب الحنفية والشافعية ورواية عن أحمد وقول أكثر المتكلمين وهو الصحيح كما ذكر القاضي عبد الوهاب وغيره "وأما من بلغ" من التابعين "درجته" أي الاجتهاد "بعد انعقاد إجماعهم فاعتباره" أي ذلك فيهم "وعدمه" أي عدم اعتباره فيهم مبني "على اشتراط انقراض العصر" في حجية الإجماع "وعدمه" أي عدم اشتراطه في حجية الإجماع فمن اشترطه اعتبره ومن لم يشترطه لم يعتبره قلت إلا أن هذا إنما يتم على رأي من يقول فائدة الاشتراط جواز رجوع بعض المجمعين ودخول مجتهد يحدث قبل انقراضهم. أما من قال فائدته جواز الرجوع لا غير ينبغي أن لا يعتبره أيضا "وقيل" أي وقال(5/256)
أحمد في رواية بعض المتكلمين "لا يعتبر" التابعي في إجماع الصحابة "مطلقا" أي سواء كان مجتهدا عند انعقاد إجماعهم أو بعده "لنا" على اعتبار التابعي المجتهد فيهم "ليسوا" أي الصحابة "كل الأمة دونه" أي التابعي المجتهد؛ لأنه لم يخالفهم إلا في رواية النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لا يوجب كون الحق معهم دونه ولا خروجه من الأمة والعصمة إنما هي للكل "واستدل لهذا" المختار "بأن الصحابة سوغوا لهم" أي للتابعين الاجتهاد "مع وجودهم" فقد ملأ شريح الكوفة أقضية وعلي رضي الله عنه بها لا ينكر عليه وابن المسيب بالمدينة فتاوى وهي مشحونة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا عطاء بمكة والحسن وجابر بن زيد بالبصرة ولولا اعتبار قولهم وإن خالف قول أنفسهم لما سوغوا لهم. "قلنا إنما يتم" الاستدلال بهذا على اعتبار قولهم حتى لا ينعقد الإجماع مع مخالفتهم "لو نقل تسويغ خلافهم" أي التابعين "مع إجماعهم" أي الصحابة "ولم يثبت" تسويغ خلافهم إلا مع اختلافهم "كالمنقول من قول أبي سلمة" بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم في صحيح مسلم "تذاكرت مع ابن عباس وأبي هريرة في عدة الحامل لوفاة زوجها فقال ابن عباس بأبعد الأجلين، وقلت أنا بوضع الحمل فقال أبو هريرة أنا مع ابن أخي يعني أبا سلمة" وليس هو محل النزاع قال السبكي وفيه(5/257)
ص -125-…نظر فإن اتفاقهم لو منعهم الاجتهاد لسألوا عنه قبل إقدامهم وكانوا لا يسألون قطعا ا هـ وليس القطع بانتفاء السؤال بسهل، ثم غير خاف أن هذا لا يختص بالتابعين مع الصحابة بل يجري ذلك أيضا في تابع التابعين مع الصحابة أيضا.
"مسألة ولا" ينعقد الإجماع "بأهل البيت النبوي" وهم علي وفاطمة والحسنان رضي الله عنهم لما روى الترمذي عن عمر بن أبي سلمة أنه لما نزل {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] ألقى النبي صلى الله عليه وسلم عليهم كساء وقال "هؤلاء أهل بيتي وخاصتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا" "وحدهم" مع مخالفة غيرهم لهم أو توقفهم أو عدم سماعهم الحكم "خلافا للشيعة" واقتصر في المحصول وغيره على الزيدية والإمامية فإن إجماعهم عندهم حجة للآية فإن الخطأ رجس فيكون منفيا عنهم فيكون إجماعهم حجة وأجيب بمنع أن الخطأ رجس، وإنما الرجس العذاب أو الإثم أو كل مستقذر ومستنكر على أن المراد بأهل البيت هم مع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإن ما قبلها وهو {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] إلخ وما بعدها وهو {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 34] الآية يدل عليه وحينئذ فليس في الآية دليل على أن إجماع العترة وحدهم حجة.
مسألة(5/258)
"ولا" ينعقد "بالأربعة" الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم مع مخالفة غيرهم أو توقفهم أو عدم سماعهم الحكم "عند الأكثر خلافا لبعض الحنفية" وأحمد في رواية "حتى رد" منهم القاضي أبو خازم بالخاء المعجمة والزاي عبد الحميد بن عبد العزيز "على ذوي الأرحام أموالا" في خلافة المعتضد بالله لكون الخلفاء الأربعة على ذلك "بعد القضاء بها" أي بتلك الأموال "لبيت المال لنفاذه" أي القضاء بردها وقبل المعتضد قضاءه بذلك وكتب به إلى الآفاق وكان ثقة دينا ورعا عالما بمذهب أهل العراق والفرائض والحساب أصله من البصرة وسكن بغداد وأخذ عن هلال الراوي وأخذ عنه أبو جعفر الطحاوي وأبو طاهر الدباس وغيرهما. ولي القضاء بالشام والكوفة والكرخ من بغداد وتوفي في جمادى الأولى من سنة اثنتين وتسعين ومائة.(5/259)
ص -126-…والترمذي وحسنه وصححه وابن حبان والحاكم كما هو حجة القائلين بانعقاد الإجماع بأبي بكر وعمر مع مخالفة غيرهما؛ لأنه أمر بالاقتداء بهما فينتفي عنهما الخطأ ولما لم يجب الاقتداء بهما حال اختلافهما وجب حال اتفاقهما وقوله صلى الله عليه وسلم "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ" كما تقدم في بحث العزيمة وأنه رواه أحمد وغيره وأنهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي كما ذكره البيهقي وغيره بينا دليله ثمة كما هذا حجة القائلين بانعقاد الإجماع بهم مع مخالفة غيرهم فإنه حث على اتباعهم فينتفي عنهم الخطأ. "أجيب: يفيدان" أي هذان الحديثان "أهلية الاقتداء" أي أهلية الشيخين والأربعة لاتباع المقلدين لهم "لا منع الاجتهاد" لغيرهم من المجتهدين فيكون قولهم حجة على غيرهم من المجتهدين الذي هو محل النزاع "وعليه" أي هذا الجواب أن يقال "أن ذلك" أي الاقتداء فيهما "مع إيجابه" أي الاقتداء فكل منهما حينئذ مفيد حجية قولهما وقولهم على كل مجتهد سواهم الذي هو المطلوب "إلا أن يدفع بأنه" أي كلا منهما "آحاد" فلا يثبت به القطع بكون إجماعهما أو إجماعهم حجة قطعية؛ لأن الظني لا يفيد القطع "وبمعارضته" أي وأجيب أيضا بمعارضة كل منهما "بأصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" "وخذوا شطر دينكم عن الحميراء" أي عائشة. رضي الله عنها فإن هذين الحديثين يدلان على جواز الأخذ بقول كل صحابي وقول عائشة، وإن خالف قول الشيخين أو الأربعة "إلا أن الأول" أي "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" "لم يعرف" بناء على قول ابن حزم في رسالته الكبرى مكذوب موضوع باطل وإلا فله طرق من رواية عمر وابنه وجابر وابن عباس وأنس بألفاظ مختلفة أقربها إلى اللفظ المذكور ما أخرج ابن عدي في الكامل وابن عبد البر في كتاب بيان العلم عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل أصحابي مثل النجوم يهتدى بها فبأيهم أخذتم بقوله اهتديتم".(5/260)
وما أخرج الدارقطني وابن عبد البر عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل أصحابي في أمتي مثل النجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم" نعم لم يصح منها شيء ومن ثمة قال أحمد حديث لا يصح والبزار لا يصح هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن البيهقي قال في كتاب الاعتقاد رويناه في حديث موصول بإسناد غير قوي وفي حديث آخر منقطع والحديث الصحيح يؤدي بعض معناه وهو حديث أبي موسى المرفوع "النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعدون وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" رواه مسلم "والثاني" أي "خذوا شطر دينكم عن الحميراء" معناه "إنكم ستأخذون" فلا يعارضان الأولين والحق أنهما لا يعارضانهما، أما الأول فلما قدمناه، وأما الثاني فقد قال شيخنا الحافظ لا أعرف له إسنادا ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلا في النهاية لابن الأثير ذكره في مادة " ح م ر " ولم يذكر من خرجه ورأيته أيضا في كتاب الفردوس لكن بغير لفظه ذكره من حديث أنس بغير إسناد أيضا ولفظه "خذوا ثلث دينكم من بيت الحميراء" ونص له صاحب مسند الفردوس فلم يخرج له إسنادا وذكر الحافظ عماد الدين بن كثير أنه سأل الحافظين المزي والذهبي عنه فلم يعرفاه ا هـ. قال الشيخ سراج(5/261)
ص -127-…الدين بن الملقن وقال الحافظ جمال الدين المزي لم أقف له على سند إلى الآن،. وقال الذهبي هو من الأحاديث الواهية التي لا يعرف لها إسناد بل قال تاج الدين السبكي وكان شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي يقول كل حديث فيه لفظ الحميراء لا أصل له إلا حديثا واحدا في النسائي فلا يحتاج إلى هذا التأويل "والحق أن مقتضاه" أي دليل كل من القول بحجية إجماع الأربعة والشيخين "الحجية الظنية" أما الحجية فللطلب الجازم للاتباع لهم ولهما، وأما الظنية فلأنه خبر واحد "ورد أبي خازم" على ذوي الأرحام أموالا تركها أقرباؤهم بعد القضاء بها لبيت المال لم يوافقه عليه كافة معاصريه من الحنفية فقد "رده أبو سعيد" أحمد بن الحسين البرذعي من كبارهم وقال هذا فيه خلاف بين الصحابة لكن نقل الجصاص عن أبي خازم أنه قال في جوابه لا أعد زيدا خلافا على الخلفاء الأربعة وإذا لم أعده خلافا وقد حكمت برد هذا المال إلى ذوي الأرحام فقد نفذ قضائي به ولا يجوز لأحد أن يتعقبه بالنسخ ومن هنا قيل يحتمل أن يكون أبو خازم بناه على أن خلاف الواحد والاثنين لا يقدح في الإجماع وفي شرح البديع لسراج الدين الهندي ووافقه علماء المذهب في زمانه.
مسألة(5/262)
"ولا" ينعقد "بأهل المدينة" أي طيبة "وحدهم" عند جماهير الأمة "خلافا لمالك" على ما شاع عنه وإلا فقد أنكر كونه مذهبه ابن بكير وأبو يعقوب الرازي وأبو بكر بن منيات والطيالسي والقاضي أبو الفرج والقاضي أبو بكر، ثم على الأول "قيل مراده" أي مالك "أن روايتهم مقدمة" على رواية غيرهم ونقل ابن السمعاني وغيره أن للشافعي في القديم ما يدل على هذا "وقيل" محمول "على المنقولات المستمرة" أي المتكررة الوجود كثيرا "كالأذان والإقامة والصاع" والمد دون غيرها ولفظ القرافي وإجماع أهل المدينة عند مالك فيما طريقه التوقيف حجة "وقيل بل" هو حجة "على العموم" في المنقولات المستمرة وغيرها وهو رأي أكثر المغاربة من أصحابه وذكر ابن الحاجب أنه الصحيح قالوا وفي رسالة مالك إلى الليث بن سعد ما يدل عليه وقيل أراد به الصحابة وقيل أراد به في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم حكاه القاضي في التقريب وابن السمعاني وعليه ابن الحاجب وادعى أبو العباس بن تيمية أنه مذهب الشافعي وأحمد وقال جده محمول على إجماع المتقدمين من أهل المدينة وحكي عن يونس بن عبد الأعلى قال قال لي الشافعي إذا وجدت متقدمي أهل المدينة على شيء فلا يدخل قلبك شك أنه الحق وكلما جاءك شيء غير ذلك فلا تلتفت إليه ولا تعبأ به فقد وقعت في البحار واللجج وفي لفظ له إذا رأيت أوائل أهل المدينة على شيء فلا تشكن أنه الحق والله إني لك ناصح والله إني لك ناصح والله إني لك ناصح وقال القاضي عبد الوهاب إجماع أهل المدينة ضربان نقلي واستدلالي فالأول ثلاثة أضرب أحدها نقل شرع مبتدأ من جهة النبي صلى الله عليه وسلم من قول كنقلهم الصاع والمد والأذان والإقامة والأوقات والأخبار ونحوه. ثانيها نقل ذلك من فعل كعهدة الرقيق. ثالثها نقل ذلك من إقرار كتركهم أخذ الزكاة من الخضراوات مع أنها كانت تزرع بالمدينة وكان النبي صلى الله عليه وسلم(5/263)
ص -128-…والخلفاء بعده لا يأخذونها منها وهذا النوع حجة يلزم عندنا المصير إليه وترك الأخبار والمقاييس لا اختلاف بين أصحابنا فيه والثاني اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه أحدها ليس بإجماع ولا بمرجح وهو قول من قدمنا عنهم إنكار كونه مذهب مالك. ثانيها مرجح وبه قال بعض أصحاب الشافعي. ثالثها حجة، وإن لم يجزم خلافه وإليه ذهب قاضي القضاة أبو الحسين بن عمرو قال أبو العباس القرطبي أما الضرب الأول فينبغي أن لا يختلف فيه؛ لأنه من باب النقل المتواتر ولا فرق بين القول والفعل والإقرار إذ كل ذلك نقل محصل للعلم القطعي وإنهم عدد كثير وجم غفير تحيل العادة عليهم التواطؤ على خلاف الصدق، ولا شك أن ما هذا سبيله أولى من إخبار الآحاد الأقيسة والظواهر، وأما الضرب الثاني فالأولى فيه أنه حجة إذا انفرد ومرجح لأحد المتعارضين ودليلنا على ذلك أن المدينة مأرز الإيمان ومنزل الأحكام والصحابة هم المشافهون لأسبابها المفاهمون لمقاصدها، ثم التابعون نقلوها وضبطوها وعلى هذا فإجماع أهل المدينة ليس بحجة من حيث إجماعهم بل إما من جهة نقلهم المتواتر، وإما من جهة مشاهدتهم الأحوال الدالة على مقاصد الشرع قال وهذا النوع الاستدلالي إن عارضه خبر فالخبر أولى عند جمهور أصحابنا وصار كثير منهم إلى أنه أولى من الخبر بناء منهم على أنه إجماع وليس بصحيح؛ لأن المشهود له بالعصمة إجماع كل الأمة لا بعضها انتهى. فلا جرم أن قال بعض المتأخرين التحقيق في هذه المسألة أن منها ما هو كالمتفق عليه، ومنها ما يقول به جمهورهم، ومنها ما يقول به بعضهم، والمراتب أربع ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم كنقلهم مقدار الصاع والمد وهذا حجة بالاتفاق، والعمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان رضي الله عنه وهو حجة عند مالك أيضا ونص عليه الشافعي في رواية يونس بن عبد الأعلى كما سلف، وعملهم الموافق لأحد دليلين متعارضين كحديثين وقياسين فمالك والشافعي مرجح(5/264)
وأبو حنيفة لا، وعند الحنابلة قولان المنع وعليه أبو يعلى وابن عقيل، ومرجح وعليه أبو الخطاب ونقل عن نص أحمد والنقل المتأخر بالمدينة، والجمهور ليس بحجة شرعية وبه قالت الأئمة الثلاثة وهو قول المحققين من أصحاب مالك كما ذكر القاضي عبد الوهاب في الملخص، ثم كما نبه عليه الأنباري أنه إذا قلنا إجماعهم حجة لا ينزل منزلة إجماع جميع الأمة حتى يفسق المخالف وينقض قضاؤه بل حجة على معنى أن المستند إليه مستند إلى مأخذ من مآخذ الشريعة كالمستند إلى القياس وخبر الوحد "لنا الأدلة" المفيدة حجية الإجماع "توقفه" أي تحقق الإجماع "على غيرهم" أي غير أهل المدينة؛ لأن أهلها ليسوا كل الأمة فلا ينعقد بهم وحدهم. "واستدلالهم" أي المالكية "بأن العادة قاضية بأن مثل هذا الجمع المنحصر" في المدينة من شأنهم أنهم مع اجتهادهم "يتشاورون ويتناظرون" في الواقعة التي لا نص فيها وإذا أجمعوا على حكم فيها "لا يجمعون إلا عن راجح" فيكتفى بإجماعهم وحدهم في انعقاد الإجماع "منع قضاءها" أي العادة "به" أي بإجماعهم عن راجح دون سائر علماء الأمصار فإنه لا دليل على أنهم المختصون بهذا والموجب لانعقاده منهم وحدهم هو الاختصاص "ودفع" المنع "بأن المراد" من أن العادة(5/265)
ص -129-…قاضية بأن مثل هذا الجمع إلخ أن العادة "قاضية" في انعقاد الإجماع أنه لا ينعقد على الحكم إلا "باطلاع الأكثر" من المجتهدين على دليله "فامتنع أن لا يطلع عليه من أهل المدينة أحد بأن لا يكون في الأكثر أحد منهم" أي من أهل المدينة لما تقرر من أن شأن هذا الجمع أن لا يجمعوا على أمر إلا بعد تشاور وتناظر وذلك يقتضي اطلاعهم عليه بواسطة اطلاع ذلك الواحد عليه فإذا أجمعوا على خلافه فلا بد أن يكون أرجح منه، فإن قيل لا نسلم امتناع إجماعهم على مرجوح إذ يجوز أن لا يكون في الأكثر واحد منهم فلا يطلعون على دليل خلاف قولهم إذ رب راجح لا يطلع عليه البعض فيجاب بأن الظاهر ما ذكرنا وهذا احتمال ممكن بعيد "والاحتمال" الممكن البعيد "لا ينفي الظهور وهذا" أي لكن هذا الجواب "انحطاط إلى كونه" أي إجماع أهل المدينة "حجية ظنية لا" أنه يكون "إجماعا" قطعيا وقد صرح أكثر المغاربة به على ما نقله السبكي عنهم فقالوا وليس قطعيا بل ظني يقدم على خبر الواحد والقياس، وقد عرفت أن هذا ليس بقول جمهورهم بل قول جمهورهم تقديم الخبر أولى كما ذكرناه آنفا عن القرطبي. "فإن قيل يلزم مثله" أي انعقاد الإجماع بمثل هذا الجمع "في أهل" بلدة "أخرى" كمكة والكوفة والبصرة وحدهم "لذلك" أي لأنه لا ينعقد إلا باطلاع الأكثر على الدليل الراجح على ذلك الحكم ويمتنع أن لا يطلع واحد منهم إلى آخر ما وجهناه فالجواب أنه "التزم" هذا "وصار الحاصل أن اتفاق مثلهم حجة يحتج به عند عدم المعارض من خلاف مثله" غير أنه لم يحفظ مصرحا به عن مالك وقدمنا نحوه عن الأنباري ولا بأس به إن شاء الله تعالى والله سبحانه أعلم.
مسألة(5/266)
"إذا أفتى بعضهم" أي المجتهدين بشيء من الأمور الاجتهادية التكليفية "أو قضى" بعضهم به واشتهر بين المجتهدين من أهل عصره وسكتوا بعد علمهم بذلك ونظرهم فيه "ولم يخالف" في الفتيا ولا في القضاء وكان ذلك "قبل استقرار المذاهب" في تلك الحادثة واستمر الحال على هذا "إلى مضي مدة التأمل" وهي على ما ذكر القاضي أبو زيد حين يتبين للساكت الوجه فيه وفي الميزان وأدناه إلى آخر المجلس أي مجلس بلوغ الخبر وقيل يعذر بثلاثة أيام بعد بلوغ الخبر قيل وإليه أشار أبو بكر الرازي حيث قال فإذا استمرت الأيام عليه ولم يظهر الساكت خلافا مع العناية منهم بأمر الدين وحراسة الأحكام علمنا أنهم إنما لم يظهروا الخلاف؛ لأنهم موافقون لهم انتهى. لأنه قيد ذلك بالأيام بلفظ الجمع وأقله ثلاثة قلت وفيه نظر فإنه ذكر بعد هذا أن ترك إظهار الخلاف إنما يكون دلالة على الموافقة إذا انتشر القول وظهر ومرت عليه أوقات يعلم في مجرى العادة بأنه لو كان هناك مخالف لأظهر الخلاف ولم ينكر على غيره مقالته إذ كان قد استوعب مدة النظر والفكر انتهى. وهذا معنى ما ذكره أبو زيد وغيره وعليه الاعتماد "ولا تقية" أي خوف يمنع الساكت من المخالفة "فأكثر الحنفية" وأحمد وبعض الشافعية كأبي إسحاق الإسفراييني أن هذا "إجماع قطعي وابن أبي هريرة" من الشافعية هو في الفتيا "كذلك" أي إجماع قطعي "لا في القضاء" ذكره ابن السمعاني والآمدي وابن(5/267)
ص -130-…الحاجب وغيرهم والذي في المحصول والبحر للروياني والأوسط لابن برهان عنه إن كان القائل حاكما لم يكن إجماعا ولا حجة وإلا فنعم والفرق بين النقلين واضح إذ لا يلزم من صدوره عن الحاكم أن يكون على وجه الحكم فقد يفتي الحاكم تارة ويقضي أخرى وقال أبو إسحاق المروزي إجماع إن كان حكما، غير إجماع إن كان فتيا "وعن الشافعي ليس بحجة" فضلا عن أن يكون إجماعا "وبه قال ابن أبان والباقلاني وداود وبعض المعتزلة" والغزالي بل ذكر الإمام الرازي والآمدي أن هذا مذهب الشافعي وقال الإسنوي وقال في البرهان إنه ظاهر مذهبه والغزالي في المنخول نص عليه الشافعي في الجديد والسبكي. والأكثرون من الأصوليين نقلوا أن الشافعي يقول السكوتي ليس بإجماع واختاره القاضي وذكر أنه آخر أقواله قال الباجي وهو قول أكثر المالكية وأكثر الشافعية والقاضي عبد الوهاب هو الذي يقتضيه مذهب أصحابنا وابن برهان إليه ذهب كافة العلماء منهم الكرخي ونصره ابن السمعاني وأبو زيد الدبوسي والرافعي أنه المشهور عند الأصحاب والنووي أنه الصواب من مذهب الشافعي وهو موجود في كتب أصحابنا العراقيين في الأصول ومقدمات كتبهم المبسوطة في الفروع انتهى. وصرح به في الرسالة أيضا لكن صرح في موضع من الأم بخلافه فيحتمل أن يكون له في المسألة قولان كما ذكر ابن الحاجب وغيره وأن ينزل القولان على حالين فالنفي على ما إذا صدر من حاكم والإثبات إذا ما صدر من غيره وقال أبو إسحاق في اللمع إنه إجماع على المذهب وجمع السبكي بين القولين بأن الإجماع المنفي هو القطعي والمثبت هو الظني، وأما متقدمو الأصوليين فلا يطلقون لفظ الإجماع إلا على القطعي انتهى. قلت وأخذ هذا من قول غير واحد كالروياني وأبي حامد الإسفراييني والرافعي أنه حجة وهل هو إجماع فيه وجهان "والجبائي إجماع بشرط الانقراض" للعصر وهو رواية عن أحمد ونقله ابن فورك عن أكثر أصحاب مذهبه والأستاذ أبو طاهر عن حذاقهم واختاره ابن(5/268)
القطان والبندنيجي وقال في اللمع إنه المذهب والرافعي إنه أصح الأوجه "ومختار الآمدي" والكرخي والصيرفي وبعض المعتزلة كأبي هاشم على ما في القواطع "إجماع ظني أو حجة ظنية" وقيل إن كان الساكنون أقل كان إجماعا وإلا فلا وهو مختار الجصاص، وحكاه السرخسي عن الشافعي وقيل إن وقع في شيء يفوت استدراكه من إراقة دم أو استباحة فرج فإجماع وإلا فحجة وفي كونه إجماعا وجهان وذهب الروياني إلى هذا التفصيل فيما إذا كان في عصر الصحابة أما إذا كان في غير عصرهم فلا يكون إجماعا ولا حجة وألحق الماوردي التابعين بالصحابة في ذلك وذكر النووي أنه الصحيح، وصاحب الوافي تابعي التابعين بالتابعين، وصرح الرافعي تبعا للقاضي حسين والمتولي بأن غيرهم من أهل الأعصار كذلك وهو متجه قال "الحنفية لو شرط سماع قول كل" من المجمعين "انتفى" الإجماع "لتعذره" أي سماع قول كل "عادة" قال السرخسي إذ ليس في وسع علماء العصر السماع من الذين كانوا قبلهم بقرون فهو ساقط عنهم؛ لأن المتعذر كالممتنع، وكذا يتعذر السماع عن جميع علماء العصر والوقوف على قول كل منهم في حكم حادثة حقيقة لما فيه من الحرج(5/269)
ص -131-…البين لكن الإجماع غير منتف فالشرط المذكور منتف، فإن قيل فمن أين تعلمون السكوتي من القول حينئذ؟ فالجواب بالتتبع لكيفية وقوعه فما تتبع فلم يدر كيف وجد كان قوليا؛ لأنه الأصل وما تتبع فوجد أنه أفتى به أو قضى به بعضهم بمحضر منهم أو بغيبة منهم وبلغهم فسكتوا ولم ينكروه أو نقل ابتداء بهذه الكيفية فهو سكوتي. "وأيضا العادة في كل عصر إفتاء الأكابر وسكوت الأصاغر تسليما وللإجماع على أنه" أي السكوتي "إجماع في الأمور الاعتقادية فكذا" الأحكام "الفرعية" يكون فيها إجماعا قال "النافون" لحجيته "مطلقا" أي قطعا وظنا "السكوت يحتمل غير الموافقة من خوف أو تفكر أو عدم اجتهاد أو تعظيم" للقائل فلا يكون إجماعا ولا حجة مع قيام هذه الاحتمالات "أجاب الظني بأنه" أي السكوت "ظاهر في الموافقة" للمفتي في فتواه والقاضي في قضائه "وفي غيرها" أي والسكوت في غير الموافقة مما ذكر "احتمالات" غير ظاهرة وهي "لا تنفي الظهور و" أجاب "الحنفية انتفى الأول" وهو السكوت للخوف "بالعرض" حيث قلنا ولا تقية "و" انتفى "ما بعده" وهو السكوت للتفكر "بمضي مدة التأمل فيه عادة و" السكوت "للتعظيم بلا تقية فسق" كترك الواجب الذي هو الرد؛ لأن الفتوى أو القضاء إذا كان غير حق يكون منكرا واجب الرد فلا ينسب إلى المتدين وكيف والظاهر أن مباحث المجتهدين مأمونة العواقب لطهارة مقاصدهم؛ لأنهم متظاهرون على النصيحة بتحقيق الحق وإزاحة الباطل؛ لأنهم أئمة الدين والسادة القادة إلى اليقين فإن ادعي ثبوت ذلك عن ساكت فلا يقدح مخالفته حينئذ؛ لأن القادح قول المجتهد العدل وهذا على هذا التقدير ليس به وكيف لا ومن تسامح في الدين ولو بمسألة واحدة يخرج عن الأهلية، وإن فرض كون القاضي ظالما يبطش على من أنكر عليه في مسائل الاجتهاد ومواضع الإنكار ممن هو من أهل ذلك فهو غير أهل فلا يعتبر قوله فضلا عن أن يصير إجماعا. "وما عن ابن عباس في سكوته عن عمر في القول" من قوله(5/270)
"كان مهيبا نفوا" أي الحنفية كفخر الإسلام والقاضي أبي زيد "صحته" عنه "ولأنه" أي عمر رضي الله عنه "كان يقدمه" أي ابن عباس "على كثير من الأكابر ويستحسن قوله" فعنه كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله فقال عمر إنه من حيث علمتم فدعاني ذات يوم فأدخلني معهم فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم قال ما تقولون في قول الله {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] فقال بعضهم أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا وسكت بعضهم فلم يقل شيئا فقال لي أكذلك تقول يا ابن عباس فقلت لا قال فما تقول قلت هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] وذلك علامة أجلك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3] فقال عمر ما أعلم منها إلا ما تقول رواه البخاري وعنه قال دعا عمر الأشياخ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال لهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر "ما علمتم التمسوها في العشر الأواخر" وترا ففي أي الوتر ترونها فقال رجل برأيه إنها تاسعة سابعة خامسة ثالثة فقال يا ابن عباس تكلم قال قلت أقول برأيي قال عن رأيك أسألك قلت إني سمعت والله(5/271)
ص -132-…أكثر من ذكر السبع فذكر الحديث وفي آخره قال عمر أعجزتم أن تقولوا مثل ما قال هذا الغلام الذي لم تستوشئوا رأسه أخرجه الإسماعيلي في مسند عمر والحاكم وقال صحيح الإسناد إلى غير ذلك. "وكان" عمر رضي الله عنه "ألين للحق" وأشد انقيادا له من غيره "وعنه لا خير فيكم إن لم تقولوا ولا خير في إن لم أسمع" ذكره في التقويم وغيره "وقصته مع المرأة في نهيه عن مغالاة المهر شهيرة" رواها غير واحد منهم أبو يعلى الموصلي بسند قوي عن مسروق قال ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال أيها الناس ما إكثاركم في صدق النساء وقد كان الصدقات فيما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه أربعمائة درهم فما دون ذلك. ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو مكرمة لم تسبقوهم إليها فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم قال ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت له يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا النساء في صدقهن على أربعمائة درهم قال نعم قالت أما سمعت الله يقول {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] فقال عمر اللهم عفوا كل أحد أفقه من عمر قال، ثم رجع فركب المنبر، ثم قال يا أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب لكن في نفي صحة اعتذار ابن عباس عن ترك مراجعة عمر بالهيبة نظر فقد روى الطحاوي وإسماعيل بن إسحاق القاضي في الأحكام عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال دخلت أنا وزفر بن الحدثان على ابن عباس رضي الله عنهما بعد ما ذهب بصره فتذاكرنا فرائض المواريث فقال ابن عباس أترون من أحصى رمل عالج عددا لم يخص في مال نصفا ونصفا وثلثا إذا ذهب نصف ونصف فأين الثلث فساق الحديث ورأيه في ذلك وفي آخره فقال له زفر ما منعك أن تشير عليه بهذا الرأي قال هيبة والله قال شيخنا الحافظ موقوف حسن(5/272)
انتهى قالوا ولئن صح فهذا منه إظهار للعذر في الامتناع عن مناظرته واستقصائه في المحاجة معه بأن ذلك كان منه احتشاما وإجلالا له كما يكون مع الشبان مع ذوي الأسنان في كل عصر ولا سيما إذا ظهر له أن المخالف لا يرجع عن رأيه فإن المناظرة في ذلك قد تترك لعدم الفائدة ولا يخفى أن هذا وإن دفع أن السكوت قد يكون تقية لا يدفع أن يكون لغيرها مطلقا لا للموافقة فلا يثبت مع كونه إجماعا قطعيا، بل قصارى ما يثبت معه كونه ظنيا بناء على أن هذا وأمثاله بالنسبة إليه نادر فلا يقدح فيما هو الظاهر منه وهو الموافقة ولعله إنما تم لابن عباس السكوت إجلالا لعمر من غير أن يكون ملوما على ذلك؛ لأنه لم يكن وقتئذ في درجة الاجتهاد وغير المجتهد لا يتعين عليه إظهار المخالفة.
"وقد يقال السكوت عن" إنكار "المنكر مع القدرة" على إنكاره "فسق وقول المجتهد ليس إياه" أي منكرا "فلا يجب" على المجتهد الساكت "إظهار خلافه" أي قول المجتهد الناطق "ليكون السكوت" عن إنكاره "فسقا" لكونه حينئذ سكوتا عن إنكار المنكر مع قدرته على إنكاره "بل هو" أي المجتهد الساكت "مخير" بين السكوت واظهار خلافه وهذا "بخلاف الاعتقادي فإنه" أي المجتهد فيه "مكلف بإصابة الحق فغيره" أي الحق إذا أتي به "عن اجتهاد(5/273)
ص -133-…منكر فامتنع السكوت" فيه كي لا يكون ساكتا عن منكر فيكون فاسقا اللهم "إلا أن يقال يجب" على الساكت إظهار خلاف قول القائل في الفروع أيضا "لتجويزه" أي المجتهد الساكت "رجوع المفتي" أو القاضي "إليه" أي إلى قوله "لحقيته" على أنا سنذكر من الميزان أن العمل والاعتقادي في الجواب سواء على قول أهل السنة والقائل بأن المجتهد قد يخطئ ويصيب. "وإذن فقول معاذ في جلد الحامل" التي زنت لما هم بجلدها عمر أن جعل الله لك على ظهرها سبيلا "ما جعل الله لك على ما في بطنها سبيلا" ولفظ كشف البزدوي فلم يجعل لك على ما في بطنها سبيلا فقال لولا معاذ لهلك عمر ولم أقف على تخريجه. دليل "للوجوب" أي وجوب إظهار المخالفة في قضاء المجتهد على المجتهد المخالف له "فيبطل" به "تفصيل ابن أبي هريرة" السابق بناء على ما سنذكره من أن العادة لا تنكر الحكم؛ لأن معاذا أنكر القضاء المخالف لما عنده "لكنه" أي وجوب إظهار المخالفة على المجتهد الساكت للمجتهد القائل إذا جوز رجوعه إليه "ممنوع"؛ لأن التجويز غير ملزم وليس ما ذهب إليه القائل بمعلوم البطلان في الواقع بل صواب عند قائله وهو مأجور على كل حال ومعذور في حال الخطأ ولا نسلم أن قول معاذ دليل الوجوب بل كما قال المصنف "وقول معاذ اختيار لأحد الجائزين" من السكوت وإظهار المخالفة "أو" إظهار المخالفة واجب "في خصوص" هذه "المادة" لما فيه من صيانة نفس محترمة عن تعريضها للهلاك فلا يلزم من كون السكوت إجماعا قطعيا في الاعتقادي أن يكون كذلك في الفرعي لعدم اللازم الباطل على تقدير كونه غير إجماع قطعي في الفرعي بخلافه في الاعتقادي لكن إبطال الدليل المعين لا يبطل المدعى. "وقوله" أي ابن أبي هريرة "العادة أن لا ينكر بخلاف الفتوى" إنما هو "بعد استقرار المذاهب" لا قبله والنزاع إنما هو فيما قبله والأمر في الفتوى كذلك "وقول الجبائي الاحتمالات تضعف بعد الانقراض لا قبله" أي الانقراض "ممنوع بل الضعف"(5/274)
لها "يتحقق بعد مضي مدة التأمل في مثله عادة ومن المحققين" وهو عضد الدين "من قيد قطعيته" أي الإجماع السكوتي "بما إذا كثر وتكرر فيما تعم به البلوى" بلفظ ربما "وحينئذ" أي وحين كان الإجماع السكوتي فيما يكثر وقوعه مما تمس الحاجة إليه وقد تكرر الإفتاء والحكم فيه بشيء من بعض المجتهدين مع عدم المخالفة من آخرين "يحتمل" أن يكون مفيدا للقطع بمضمونه كما ذكر لبعد ظن المخالفة من الساكتين في مثله عادة بل كما ذكر السبكي أن تكرر الفتيا مع طول المدة وعدم المخالفة مفض إلى القطع قال ويختلف ذلك باختلاف طول الزمان وقصره وقد صرح ابن التلمساني في شرح المعالم بذلك وأنه ليس من محل الخلاف وهو مقتضى كلام إمام الحرمين أيضا فإنه جعل صورة المسألة ما إذا لم يطل الزمان مع تكرر الواقعة. قال السبكي وأما إذا تكرر مع طول الزمان فلا أنكر جريان خلاف وقد اقتضاه كلام القاضي أبي بكر ولكنه ليس الخلاف في السكوتي بل أضعف منه وقد ذكر في وضع المسألة قيودا رأينا أن نذكرها مع مزيد كلام فيها، وإن كان قد تقدم بعضها: أولها: كونه في مسائل التكليف إذ قول القائل عمار أفضل من حذيفة مثلا وبالعكس لا يدل السكوت فيه على شيء إذ لا تكليف على الناس فيه قاله(5/275)
ص -134-…ابن الصباغ وابن السمعاني وأبو الحسين وصاحب الميزان من مشايخنا كما نذكره قريبا. ثانيها: أن يعلم أنه بلغ جميع أهل العصر ولم ينكروا وإلا فلا يكون الإجماع السكوتي قاله الصيرفي وغيره ووراءه حالتان: إحداهما أن يغلب على الظن أنه بلغهم لانتشاره وشهرته فقال الأستاذ أبو إسحاق هو إجماع على مذهب الشافعي واختاره أيضا وجعله درجة دون الأول انتهى قلت وجعل مشايخنا اشتهار الفتوى من البعض والسكوت من الباقين كافيا في انعقاد الإجماع يفيد أن هذا من صور الإجماع السكوتي أيضا لكن كونه إجماعا قطعيا عندهم يقتضي اشتراط العلم ببلوغه مجتهدي العصر فإما أن يحمل الاشتهار على العلم ببلوغهم وإما أن يحمل قولهم الإجماع السكوتي قطعي على نوع منه وهو ما علم بلوغه مجتهدي العصر وسكوتهم من غير إنكار، وأما ما ظن بلوغه إياهم من غير إنكار فظني وعلى هذا يتفق هو وقول الإسفراييني المذكور. الحالة الثانية أن لا يغلب على الظن بل احتمل بلوغه وعدمه وعبر عنه ابن الحاجب بما إذا لم ينتشر وذكر أن عدم إنكاره ليس بحجة عند الأكثر؛ لأنه يجوز أن لا يكون لهم قول فيه لعدم خوضهم في ذلك أو لغيره من الموانع أو لهم قول مخالف لم ينقل وقيل حجة مطلقا، وقال الإمام الرازي وأتباعه إن كان فيما تعم به البلوى كنقض الوضوء بمس الذكر كان كالسكوتي؛ لأنه لا بد من خوض غير القائل فيه فيكون سكوته موافقة للقائل وإلا لم يكن حجة لاحتمال الذهول، ثم اشتراط بلوغ جميع أهل العصر كما ذكر ماش على ظاهر تفسير الآمدي وابن الحاجب الانتشار ببلوغ الجميع وظاهر كلام الرازي أنه أعم من أن يعلم أنه بلغ الجميع أو لا وبه صرح بعضهم. قلت ويتأتى أن يقال إن هذا متفرع على الخلاف في اشتراط اتفاق جميع المجتهدين أو إلا واحدا أو اثنين أو أكثرهم وقد عرفت المختار وغيره فيه. ثالثها كون السكوت مجردا عن الرضا والكراهة أما إذا كان معه أمارة رضا فقال الروياني والخوارزمي والقاضي عبد(5/276)
الوهاب يكون إجماعا بلا خلاف وجرى عليه الرافعي قال السبكي وقضيته أنه إن ظهرت أمارة سخط لم يكن إجماعا بلا خلاف وكلام الإمام الرازي كالصريح في جريان الخلاف، وإن ظهرت أمارة السخط. قلت والقول بأنه إجماع بعيد. رابعها مضي زمان يسع قدر مهلة النظر في تلك المسألة عادة ولا بد منه ليندفع احتمال أن الساكتين كانوا في مهلة النظر ذكره أبو زيد وغيره. خامسها أن لا يتكرر ذلك مع طول الزمان. سادسها أن يكون في محل الاجتهاد فلو أفتى واحد بخلاف الثابت قطعا فليس سكوتهم دليلا على شيء ولعلهم إنما سكتوا للعلم بأنه منكر وأن الإنكار لا يفيد وفي الميزان إن لم تكن المسألة من الاجتهاديات بل من العقليات المبنية على الدليل العقلي فإن لم يكن عليهم في معرفة حكمها تكليف عندهم كما يقال أبو هريرة أفضل أم أنس لا يكون السكوت وترك الإنكار عما اشتهر من القول بأحدهما إجماعا، وإن كان في معرفة حكمها تكليف عندهم وانتشر قول البعض وسكت الباقون كان إجماعا، وإن كانت اجتهادية بأن كانت من الفروع التي هي من باب العمل لا الاعتقاد فعلى قول أهل السنة والجماعة والقائل إن المجتهد قد يخطئ ويصيب في الفروع فالجواب فيها وفي المسألة الاعتقادية(5/277)
ص -135-…سواء وعلى قول القائل كل مجتهد مصيب فالجبائي يكون إجماعا إذا انتشر القول فيهم، ثم انقرض العصر وابنه لا يكون إجماعا ولكن يكون حجة وأبو عبد الله البصري لا يكون إجماعا ولا حجة وعن الشافعي لا أقول إنه إجماع ولكن أقول لا أعلم فيه خلافا تحرزا عن احتمال الخلاف احتياطا انتهى ملخصا. ويتلخص منه أن كون المسألة تكليفية مغن عن ذكر هذا القيد لاشتمالها عليه عند أهل السنة والجماعة والقائل: المجتهد قد يخطئ ويصيب. سابعها أن يكون قبل استقرار المذاهب ليخرج إفتاء مقلد سكت عنه المخالفون للعلم بمذهبهم ومذهبه كشافعي يفتي بنقض الوضوء بمس الذكر فلا يدل سكوت الحنفي عنه على موافقته للعلم باستقرار المذاهب والخلاف، وفائدته أن لا يكون السكوت تقية كما تقدم، ثم لا فرق في حكم المسألة بين أن يكون إجماعا في عصر الصحابة أو غيرهم كما صرح به صاحب الميزان وعليه يحمل إطلاق إمام الحرمين والآمدي والمتأخرين، ووقع للقاضي أبي بكر وأبي إسحاق الشيرازي والغزالي والقاضي عبد الوهاب تصوير المسألة بعصر الصحابة فإن لم يكن ذلك قيدا اتفاقيا وإلا فالأولى التسوية بين الجميع كما قاله السبكي بل التسوية هي الوجه والله سبحانه أعلم.(5/278)
"تنبيه" وقد عرف من هذه الجملة أنه لو قال بعض أهل الإجماع هذا مباح وأقدم الباقي على فعله أنه يكون إجماعا منهم كما قاله القاضي عبد الوهاب، وأما لو اتفقوا على عمل ولم يصدر منهم قول ففيه مذاهب: أحدها وهو ما قطع به أبو إسحاق الشيرازي وفي المنخول أن المختار أنه كفعل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن العصمة ثابتة لإجماعهم كثبوتها له. ثانيها المنع نقله إمام الحرمين عن القاضي وتعقبه الزركشي بأن الذي رآه في التقريب للقاضي التصريح بالجواز فقال كل ما أجمعت الأمة عليه يقع بوجهين إما قول أو فعل وكلاهما حجة انتهى. ثالثها قول إمام الحرمين يحمل على الإباحة ما لم تقم قرينة دالة على الندب أو الوجوب. رابعها قول ابن السمعاني كل فعل لم يخرج مخرج الحكم والبيان لا ينعقد به الإجماع كما أن ما لم يخرج من أفعال الرسول مخرج الشرع لا يثبت فيه الشرع، وأما الذي خرج مخرج الحكم والبيان يصح أن ينعقد به الإجماع؛ لأن الشرع يؤخذ من فعل الرسول كما يؤخذ من قوله ولا بد من مجيء التفصيل بين أن ينقرض العصر أو لا ومن اشتراطه في القولي فهنا أولى وقد عرفت أن اشتراطه خلاف التحقيق.
مسألة
"إذا أجمع على قولين في مسألة" في عصر من الأعصار "لم يجز إحداث" قول "ثالث" فيها "عند الأكثر" منهم الإمام الرازي في المعالم ونص عليه محمد بن الحسن في نوادر هشام والشافعي في رسالته "وخصه" أي عدم جواز إحداث ثالث "بعض الحنفية بالصحابة" أي بما إذا كان الإجماع على قولين فيها منهم فلم يجوز لمن بعدهم إحداث ثالث فيها "ومختار الآمدي" وابن الحاجب والرازي في غير المعالم وأتباعه يجوز إن لم يرفع شيئا مما(5/279)
ص -136-…أجمع عليه القولان ولا يجوز "إن رفع مجمعا عليه كرد المشتراة بكرا بعد الوطء لعيب قبل الوطء" كان بها عند البائع علمه المشتري بعد الوطء ولم يرض به "قيل لا" يردها "وقيل" يردها "مع الأرش" أي أرش البكارة "لا يقال" يردها "مجانا" أي بغير أرش البكارة؛ لأنه قول ثالث رافع لمجمع عليه كذا ذكره ابن الحاجب ونقله في المبسوط الأول عن علي وابن مسعود والثاني عن عمر وزيد بن ثابت وأنهما قالا يرد معها عشر قيمتها إن كانت بكرا ونصف عشر قيمتها إن كانت ثيبا، ثم قال فقد اتفقوا على أن الوطء لا يسلم للمشتري مجانا فمن قال يردها ولا يرد معها شيئا فقد خالف أقاويل الصحابة وكفى بإجماعهم حجة عليه وقال شيخنا الحافظ وفي هذا المثال نظر فإن الذي يروى عنهم ذلك من الصحابة لم يثبت عنهم. وأما التابعون فصحت عنهم الأقوال الثلاثة: الأول عن عمر بن عبد العزيز وروي عن الحسن البصري، والثاني عن سعيد بن المسيب وشريح ومحمد بن سيرين وعدد كثير، والثالث عن الحارث العكلي وهو من فقهاء الكوفة من أقران إبراهيم النخعي انتهى والذي نقله ابن المنذر أن شريحا والنخعي كانا يقولان إن كانت بكرا ردها ورد معها عشر قيمتها، وإن كانت ثيبا ردها ورد معها نصف عشر قيمتها، ثم نقله عن ابن أبي ليلى أيضا ونقل عن ابن المسيب أنه يرد معها عشرة دنانير وقال وروينا عن علي أنه قال يوضع عن المشتري قدر ما يضع ذلك العيب أو الداء من ثمنها وبه قال ابن سيرين والزهري والثوري وإسحاق ويعقوب والنعمان، ونقل عن مالك والشافعي إن كانت ثيبا ردها ولا يرد معها شيئا، وإن كانت بكرا ردها وما نقصها الاقتضاض من ثمنها عند مالك ولم يردها بل يرجع بما نقصها العيب من الثمن عند الشافعي وقال السبكي إن مذهب الشافعي جواز الرد وبذل الأرش والبقاء وأخذ الأرش فإن تشاحا فالصحيح يجاب من يدعو إلى الإمساك والرجوع بأرش العيب القديم. وحكى ابن قدامة عن أحمد في الثيب روايتين لا يردها كما قال(5/280)
أصحابنا ويردها بلا شيء كما قال مالك والشافعي وأنها الصحيحة.
"ومقاسمة الجد" الصحيح وهو من لا يدخل في نسبته إلى الميت أنثى "الإخوة" لأبوين أو لأب كما هي مستوفاة في علم المواريث "وحجبه الإخوة فلا يقال بحرمانه" أي الجد بهم؛ لأنه قول ثالث رافع لمجمع عليه لاتفاق القولين على أن للجد حظا من الميراث ذكره ابن الحاجب أيضا قال شيخنا الحافظ وفي هذا المثال أيضا نظر فإن الأقوال الثلاثة مشهورة عن الصحابة حجبه لهم عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وابن عباس وابن الزبير وغيرهم، ثم رجع بعضهم إلى المقاسمة وهو قول الأكثر وجاء حرمانه عن زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن غنم، ثم رجع زيد وعلي إلى المقاسمة قلت اللهم إلا أن يثبت إجماع من بعدهم على بطلان الثالث الذي هو الحرمان فالقول به بعد من بعدهم يكون ثالثا رافعا لمجمع عليه فلا يسمع بناء على أن الإجماع اللاحق يرفع الخلاف السابق "وعدة الحامل المتوفى عنها" زوجها "بالوضع" لحملها كما هو قول عامة أهل العلم من الصحابة وغيرهم "أو أبعد الأجلين" من الوضع ومضي أربعة أشهر وعشر كما روي عن علي وابن(5/281)
ص -137-…عباس ذكره ابن المنذر وغيره "لا يقال" تنقضي عدتها "بالأشهر فقط"؛ لأنه قول ثالث رافع لمجمع عليه "بخلاف الفسخ" للنكاح "بالعيوب" من الجنون والجذام والبرص والجب والعنة والقرن والرتق وعدم الفسخ بها "وزوجة وأبوين أو زوج" وأبوين "للأم ثلث الكل أو ثلث ما بقي" بعد فرض الزوجين. "يجوز التفصيل في العيوب" وكيف لا والأقوال الثلاثة فيها مشهورة عن الصحابة والذين قالوا بالتفريق اختلفوا فيما يفسخ به كما ذكر شيخنا الحافظ وقد وقع كما هو معروف في الخلافيات "وبين الزوج والزوجة" كما ستعلم فإن التفصيل في كل من هذين لم يرفع مجمعا عليه؛ لأنه وافق في كل صورة قولا "وطائفة" كالظاهرية وبعض الحنفية على ما ذكر ابن برهان وابن السمعاني قالوا "يجوز" إحداث ثالث "مطلقا" أي سواء كان المجمعون على قولين الصحابة أو غيرهم وسواء رفع الثالث مجمعا عليه أو لم يرفع، وأما مجرد نقل قولين عن أهل عصر من الأعصار من غير ظهور إجماعهم عليهما فلا يكون مانعا من إحداث ثالث كما هو الظاهر نفي بيان كل من هذه الأقوال فقال "الآمدي" إنما يجوز الإحداث إذا لم يرفع مجمعا عليه لأنه "لم يخالف مجمعا" عليه "وهو" أي خلاف المجمع عليه "المانع" من الإحداث؛ لأنه خرق للإجماع ولم يوجد "بل" الثالث حينئذ "وافق كلا" من القولين "في شيء" فيجوز لوجود المقتضي للجواز وهو الاجتهاد وارتفاع المانع منه وهو خرق الإجماع فإن قيل كون كل من الطائفتين أجمعوا على قول ولم يفصلوا إجماع على عدم التفصيل فلا يتحقق التفصيل المذكور؛ لأن المخالفة للإجماع لازمة لكل صورة من صور إحداث ثالث فالجواب المنع كما أشار إليه بقوله "وكون عدم التفصيل مجمعا" عليه "ممنوع بل هو" أي الإجماع على عدم التفصيل "القول به" أي بعدم التفصيل والفرض أنهم لم يقولوه بل سكتوا عنه "وإلا" لو كان السكوت عن التفصيل قولا بعدمه "امتنع القول فيما يحدث" من الحوادث التي لا قول لأحد فيها "إذ كان عدم القول(5/282)
قولا بالعدم" للقول واللازم باطل ومن ثم لم يقل به أحد والفرق بين القول بعدم الشيء وعدم القول بالشيء أن لا حكم في الثاني دون الأول. "ولنا" على المختار وهو الأول "لو جاز التفصيل كان مع العلم بخطئه" أي التفصيل "لأنه" أي التفصيل لا عن دليل ممتنع؛ لأن القول في الشرع بلا دليل باطل فهو "عن دليل" وحينئذ "فإن اطلعوا" أي المطلقون "عليه" أي على الدليل "وتركوه أو لم يطلعوا" عليه "حتى تقرر إجماعهم على خلافه لزم خطؤه" أي ذلك الدليل "إذ لو كان" ذلك الدليل "صوابا أخطئوا" بترك عملهم به علموه أو جهلوه "والتالي" أي خطؤهم "منتف فليس" دليل التفصيل "صوابا" ولانتفاء خطئهم لزم صواب ما أجمعوا عليه والحاصل أن لو كان التفصيل صحيحا كان المطلقون مخطئين أو جاهلين وهو منتف ولزومه هو الموجب للقطع بصواب ما أجمعوا عليه "والمانع" من القول بخلاف قولهم "لم ينحصر في المخالفة" أي في كونه مخالفة بل جاز أن يكون لذلك وأن يكون للقطع بخطئه بسبب آخر وهو العلم بأنه لو صح لزم جهل الكل أو خطؤهم "مع أنا نعلم أن المطلق" من الفريقين "ينفي التفصيل"؛ لأنه يقول الحق ما ذهبت إليه لا غير "فتضمنه" أي نفي التفصيل "وإطلاقه" أي المطلق فيكون بمنزلة التنصيص عليه فقد اجتمعوا(5/283)
ص -138-…في المعنى على أن ما هو الحق حقيقة في هذين القولين لإيجاب كل طائفة الأخذ بقولها أو قول مخالفها وتحريم الأخذ بغيرها. "وأما قولهم" أي استدلال الأكثرين بأنه لو جاز التفصيل "يلزم تخطئة كل فريق" من المطلقين لكونهم لم يفصلوا "فيلزم تخطئتهم" أي الأمة كلها وتخطئتها غير جائز للنص على أنها لا تجتمع على ضلالة فالتفصيل غير جائز "فدفع بأن المنتفي" في النص "تخطئة الكل فيما اتفقوا عليه لا تخطئة كل في غير ما خطئ فيه الآخر" ولازم التفصيل من هذا القبيل نعم قال البيضاوي وفيه نظر ولم يبينه ووجهه الإسنوي وغيره بأن الأدلة المقتضية لعصمة الأمة عن الخطأ شاملة للصورتين فالتخصيص لا دليل عليه لكن كما قال السبكي، وهذا النظر له أصل مختلف فيه وهو أنه هل يجوز انقسام الأمة إلى شطرين كل شطر مخطئ في مسألة؟ الأكثر أنه لا يجوز واختار الآمدي وابن الحاجب خلافه وهو متجه ظاهر فإن المحذور حصول الاجتماع منها على الخطأ إذ ليس كل فرد من الأمة بمعصوم فإذا انفرد كل واحد بخطأ غير خطأ صاحبه فلا إجماع على الخطأ "المجوز مطلقا اختلافهم" أي المجمعين الأولين على قولين على سبيل التوزيع من الجانبين في مسألة "دليل تسويغ ما يؤدي إليه الاجتهاد" فيها؛ لأن اختلافهم فيها دال على كونها اجتهادية فساغ فيها الاجتهاد فساغ ما يؤدي إليه الاجتهاد "فلا يكون" اختلافهم على قولين فيها "مانعا" من إحداث ثالث فيها بل مسوغا له لصدوره عن اجتهاد أيضا "أجيب" بأن اختلافهم دليل تسويغ ما يؤدي إليه الاجتهاد "بشرط عدم حدوث إجماع مانع" من الاجتهاد "كما لو اختلفوا" في حكم حادثة "ثم أجمعو هم" على قول واحد فيه وهنا وجد إجماع مانع من الاجتهاد وهو إجماعهم معنى على عدم التفصيل كما سبق تقريره.(5/284)
"قالوا" أي المجوزون مطلقا أيضا "لو لم يجز" إحداث قول ثالث مطلقا "لأنكر إذ وقع" لكنه وقع "ولم ينكر قال الصحابة للأم ثلث ما بقي" بعد فرض الزوجين "فيهما" أي في مسألة زوج وأبوين وزوجة وأبوين "وابن عباس ثلث الكل" فيهما كما رواه الجارودي عنه وعن علي أيضا "فأحدث ابن سيرين وغيره" وهو جابر بن زيد أبو الشعثاء كما ذكر الجصاص "أن" للأم "في مسألة الزوج" وأبوين "كابن عباس والزوجة" أي وللأم في مسألتها مع الأبوين "كالصحابة، وعكس تابعي آخر" وهو القاضي شريح كما نقله صاحب الكافي فقال لها في مسألة الزوج كالصحابة وفي مسألة الزوجة كابن عباس "ولم ينكر" إحداث كل من هذين القولين "وإلا" لو أنكر "نقل" ولم ينقل والوقوع دليل الجواز. "أجاب المفصل بأنه" أي هذا التفصيل من كل "من قسم الجائز" إحداثه؛ لأنه لم يرفع مجمعا عليه بل قال في كل صورة بقول من القولين "ومطلقو المنع" أي وأجاب المانعون مطلقا "بمنع" كل من "انتفاء الإنكار ولزوم النقل لو أنكر، والشهرة لو نقل" بل يجوز أن يكون أنكر ولم ينقل الإنكار على أنه لو نقل لا يلزم أن يشتهر فإن مثل هذا ليس مما تتوفر الدواعي على حكاية إنكاره ونقله ألبتة.(5/285)
ص -139-…مسألة
"الجمهور إذا أجمعوا" أي أهل عصر "على دليل" لحكم "أو تأويل جاز" لمن بعدهم "إحداث غيرهما" من غير إلغاء الأول فإن قلت ذكر القاضي عضد الدين وغيره أن هذا إذا لم ينصوا على بطلانه للاتفاق على أنه لا يجوز إحداث ما نصوا على بطلانه وقال الإمام الرازي اتفقوا على أنه لا يجوز إبطال التأويل القديم، وأما إحداث الجديد فإن لزم منه القدح في القديم لم يصح كما إذا اتفقوا على تفسير المشترك بأحد معنييه، ثم جاء من بعدهم وفسره بمعناه الثاني لم يجز؛ لأن اللفظ الواحد لا يجوز استعماله بمعنييه جميعا وصحة الجديد تقتضي فساد القديم، وأما إذا لم يلزم منه القدح جاز فلم لم يقيد ابن الحاجب والمصنف الجواز بما إذا لم ينصوا على بطلانه وبما لا يلزم منه القدح في الأول قلت كأنه للعلم بإرادته للزوم تخطئة الأمة فيما أجمعوا عليه تقديره كما لم يقيده آخرون بما إذا لم ينصوا على صحة إحداثه أيضا للعلم بجواز ما نصوا على صحته اتفاقا إذ لا تخطئة للأمة فيه فمحل الخلاف ما سكتوا فيه عن الأمرين فالأكثرون يجوز وقيل لا يجوز؛ لأنه إجماع على ذلك. وقال ابن حزم وغيره إن كان نصا جاز الاستدلال به، وإن كان غيره لا، وقال ابن برهان إن كان ظاهرا لا يجوز إحداثه، وإن كان خفيا يجوز لجواز اشتباهه على الأولين "وهو المختار وقيل لا، لنا" أن كلا من الدليل والتأويل "قول" عن اجتهاد "لم يخالف إجماعا؛ لأن عدم القول ليس قولا بالعدم" فجاز لوجود المقتضي لجوازه وعدم المانع منه "بخلاف عدم التفصيل" في قولين مختلفين مجمع عليهما "في مسألة واحدة" فإن القول المفصل فيها يخالف مجمعا عليه في المعنى "لأنه" أي أحد صاحبي القولين المطلقين "يقول لا يجوز التفصيل لبطلان دليله" أي التفصيل "بما ذكرنا" من أنه لو جاز التفصيل كان مع العلم بخطئه إلخ "وكذا" المطلق "الآخر" يقول لا يجوز التفصيل لبطلان دليله بما ذكرنا "فيلزم" من الإحداث له "خطؤهم" أي الأمة وهو باطل(5/286)
لا؛ لأن عدم القول قول بالعدم "وأيضا لو لم يجز" إحداث كل من الدليل والتأويل "لأنكر" إحداثه "حين وقع" ضرورة أنه حينئذ منكروهم لا يسكتون عنه "لكن" لم ينكر بل "كل عصر به يتمدحون" ويعدون ذلك فضلا فكان إجماعا قال مانعو جوازه أولا هو اتباع غير سبيل المؤمنين؛ لأن سبيلهم الدليل أو التأويل السابق وهذا الحادث غيره فلا يجوز بالآية. قلنا ممنوع بل كما قال "واتباع غير سبيلهم اتباع خلاف ما قالوه" متفقين عليه من نفي أو إثبات كما هو المتبادر إلى الفهم من المغايرة "لا ما لم يقولوه" وهذا ما لم يقولوه، ثم إن المحدث له لم يترك دليل الأولين ولا تأويلهم، وإنما ضم دليلا وتأويلا إلى دليلهم وتأويلهم. "قالوا" أي مانعو جوازه ثانيا قال الله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران: 110] أي بكل معروف؛ لأنه عام لتعرفه بأداة التعريف المفيدة للاستغراق "فلو كان" الدليل أو التأويل المحدث "معروفا أمروا" أي الأولون "به" ضرورة لكنهم لم يؤمروا به فلم يكن معروفا فلم يجز المصير إليه "عورض لو كان" الدليل أو التأويل المحدث "منكرا لنهوا عنه" لقوله تعالى: {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] أي عن كل منكر؛ لأنه عام لتعرفه بأداة(5/287)
ص -140-…التعريف المفيدة للاستغراق لكنهم لم ينهوا عنه فلم يكن منكرا بل معروفا، ثم في الملخص للقاضي عبد الوهاب فيما إذا أجمعوا على أنه لا دليل على كذا إلا ما استدلوا به ينظر إن كان الدليل الثاني مما تتغير دلالته صح إجماعهم على منع كونه دليلا مثل أن يتعرض للخصوص أو ينقله إلى المجاز أو النسخ ونحوه، وإن كان لم يتغير فلا يصح منهم كما لا يصح الإجماع على أن الإجماع لا يصح أن يكون دليلا، ثم هل يجري التعليل بعلة بعد أخرى مجرى الدليل في الجواز والمنع فإن قلنا بجواز تعليل الحكم بعلتين فأبو منصور البغدادي وسليم نعم هي كالدليل في جواز إحداثها إلا إذا قالوا لا علة إلا هذه أو تكون الثانية بخلاف الأولى في بعض الفروع فتكون الثانية حينئذ فاسدة، وقال القاضي عبد الوهاب إن كان لحكم عقلي فلا؛ لأنه لا يجب بعلتين، وإن قلنا يمنع التعليل بعلتين فيجب على أصله المنع؛ لأن علتهم مقطوع بصحتها وفي ذلك دليل على فساد غيرها والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/288)
ص -141-…لا يجب لا إن عدمه يجب "ثم يجوز كونه" أي المستند "قياسا خلافا للظاهرية" وابن جرير الطبري واستغرب منه بناء على أن منع الظاهرية له بناء على أصلهم في منع القياس وهو من القائلين بجوازه وذهب بعض مشايخنا إلى عكس هذا كما سيشير إليه المصنف في خاتمة المسألة. "وبعضهم" أي الأصوليين "يجوزه" أي كونه عن قياس عقلا ويقول "ولم يقع لنا مانع يقدر" في عدم كون القياس سند الإجماع "إلا الظنية" أي كونه دليلا ظنيا ظنا أن الإجماع حيث كان أصلا قطعيا من أصول الدين معصوما عن الخطأ لا يكون مستندا إلى ظني معرض للخطأ غير معصوم عنه إذ المجتهد قد يخطئ لئلا يلزم كون فرع الشيء أقوى منه "وليست" الظنية للدليل "مانعة" من صلاحيته لذلك "كالآحاد" أي كخبر الآحاد فإنه ظني قال في البديع ولا خلاف في انعقاد الإجماع عنه بل حكاه غير واحد عن عامة الكتب وفيه نظر ففي الميزان عن عامة أصحاب الظواهر والقاشاني من المعتزلة لا ينعقد إلا عن دليل قطعي لا عن خبر الواحد والقياس وفي أصول السرخسي وكان ابن جرير يقول الإجماع الموجب للعلم قطعا لا يصدر عن خبر الواحد ولا عن قياس وعلى هذا فينتفي احتجاج ابن القطان عليه بأنه وافق على وقوعه عن خبر الواحد وهم مختلفون فيه فكذلك القياس، ثم منع كون القياس الذي يستند الإجماع ظنيا؛ لأن الأمة إذا أجمعوا على ثبوت حكم القياس بإجماعهم على ذلك سبقه إجماعهم على صحة ذلك القياس فلم يكن ذلك القياس ظنيا بل قطعيا لوقوع الإجماع على صحته فيكون إسناد الإجماع إلى قطعي لا إلى ظني فلا يلزم كون الفرع أقوى من الأصل. قلت إلا أن في هذا تأملا فإنه إنما يتم على أن الإجماع إذا علم انعقاده لدليل يكون منعقدا على ذلك الدليل وهذا معزو إلى بعض الأشاعرة. والذي عليه الجمهور من الفقهاء والمتكلمين أنه يكون منعقدا على الحكم المستخرج من الدليل؛ لأن الحكم هو المطلوب الذي لأجله انعقد الإجماع فيكون منعقدا عليه لا على الدليل. قالوا(5/289)
ومما يبتنى عليه لو انعقد على موجب خبر فعند الأولين يكون إجماعهم عليه دليلا على صحة الخبر وعند الجمهور لا يكون دليلا على صحته، وإنما يدل على صحة الحكم فقط؛ لأن لصحة الحكم طريقا مخصوصا في الشرع وهو النقل فيطلب صحته وعدم صحته من ذلك الطريق لكن نقل الأول أشبه ومن هذا يعلم أيضا ضعف ما ذهب إليه بعض الشافعية من جواز انعقاده عن جلي القياس دون خفيه "و" قد "وقع قياس الإمامة" أي الإجماع على الإمامة الكبرى لأبي بكر الصديق رضي الله عنه قياسا "على إمامة الصلاة" له فإن النبي صلى الله عليه وسلم عين أبا بكر رضي الله عنه لإمامة الصلاة. كما ثبت في الصحيحين وغيرهما. وقال ابن مسعود لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار منا أمير ومنكم أمير فأتاهم عمر فقال ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر يصلي بالناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر فقالوا نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر. حديث حسن أخرجه أحمد وأخرج الدارقطني عن النزال بن سبرة قال وافقنا من علي رضي الله عنه طيب نفس فقلنا حدثنا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه فقلنا حدثنا عن أبي بكر قال ذاك رجل(5/290)
ص -142-…سماه الله الصديق على لسان جبريل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلاة رضيه لديننا فرضيناه لدنيانا.
"وفيه" أي وفي كون هذا مما مستنده القياس "نظر؛ لأنهم" أي الصحابة "أثبتوه" أي كون أبي بكر إماما في الكبرى "بأولى" كما يفيده ما تقدم وخصوصا الأخير "وهي" أي هذه الطريقة المفيدة له هي "الدلالة" عند الحنفية "ومفهوم الموافقة" عند الشافعية وليس هذا من المتنازع فيه فإنه راجع إلى النص "لكن" وقع الإجماع مستندا إلى القياس في غير هذا وهو "حد الشرب" للخمر فإنه ثمانون للحر بإجماع الصحابة قياسا "على القذف لعلي رضي الله عنه" كما يفيده في الموطأ وغيره أن عمر استشار في الخمر يشربها الرجل فقال له علي بن أبي طالب أن نجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون وفي صحيح مسلم أن عمر قال ما ترون في جلد الخمر قال عبد الرحمن بن عوف أرى أن تجعله ثمانين كأخف الحدود قال فجلد عمر ثمانين قال المصنف ولا مانع من كون كل من علي وعبد الرحمن أشار بذلك فروى الحديث مرة مقتصرا على هذا ومرة على هذا، ثم هذا متعقب بما أشار إليه المصنف بقوله "ويمنعه" أي ثبوت الحد بالقياس "بعض الحنفية" لكن الوجه إسقاط بعض فإن الحنفية على أنه لا يثبت به الحدود كما يصرح المصنف به في مسألة عقب مسألة حكم القياس ويشير إلى أن هذا المأثور عن علي لا ينتهض عليهم ونذكر ثمة ما ييسره الله تعالى في ذلك إن شاء الله تعالى. وإذا تم منع هذا "فالشيرج النجس على السمن في الإراقة" كما أشار إليه ابن الحاجب وأفصح به شارحو كلامه وغيرهم أي فالإجماع على إراقة الشيرج النجس المائع قياسا على إراقة السمن النجس المائع المستفاد مما في سنن أبي داود وصحيح ابن حبان عن أبي هريرة سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفأرة تقع في السمن فقال "إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوه، وإن كان مائعا فلا تقربوه" وقد أعل بأنه غريب(5/291)
تفرد به معمر عن الزهري وأنه كان يضطرب في إسناده كما يضطرب في متنه على أن قوله فلا تقربوه متروك الظاهر عند عامة السلف والخلف فإن جمهورهم يجوز الاستصباح به وكثير منهم يجوز بيعه فكيف يتصور الإجماع في هذا بالقياس "وصرح متأخر من الحنفية أيضا بنفي قطعية المستند في الشرعيات بل الإجماع يفيدها" أي القطعية "كأنه" أي هذا من قائله "لنفي الفائدة" للإجماع على تقدير كون السند قطعيا لثبوت الحكم به، ثم لعل هذا إشارة إلى ما في الميزان وقال بعض مشايخنا لا ينعقد الإجماع إلا عن خبر الواحد والقياس؛ لأنا اتفقنا على أن الإجماع حجة قطعا ولو لم ينعقد إلا في موضع فيه دليل قاطع والحكم به معلوم لم يكن في انعقاده حجة فائدة ولا يرد الشرع بما لا فائدة فيه للعباد إذ الشرائع ما شرعت إلا لمصلحة العباد وفائدتهم، ثم حيث ثبت بالأدلة السمعية كونه حجة دل أن المراد منه ما ينعقد على القياس وخبر الواحد؛ لأن في انعقاده فائدة وهو ثبوت الحكم قطعا؛ لأنه لا تيقن في ثبوت الحكم بهما ولأن الإجماع إنما عرف حجة كرامة لهذه الأمة لحاجتهم إلى ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء ومتى وقعت حادثة ليس(5/292)
ص -143-…فيها نص قاطع وعملوا فيها بالاجتهاد وهو محتمل للخطأ. وجاز أن يكونوا على الخطأ كان قولا بخروج الحق عن جميع الأمة وإنه لا يجوز ومس الحاجة إلى تجديد الرسالة ولا وجه إليه لإخبار الله تعالى بكون رسولنا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء فصار الإجماع حجة لهذه الحاجة ألا يرى أن إجماع الأمم السالفة ليس بحجة لما أنه لا حاجة إليه لوجود الدليل القاطع حال حياة رسلهم وبعد وفاتهم بتجديد الرسالة ولهذا لا ينعقد الإجماع في حال حياة الرسول فظهر أن الحاجة في موضع القياس وخبر الواحد دون موضع الآية المفسرة والخبر المتواتر؛ لأنه لم يثبت الحكم قطعا في أحد الموضعين وثبت في الموضع الآخر فينعقد في موضع الحاجة لا في موضع لم تمس الحاجة إليه ولعامة العلماء أن الدلائل الموجبة لكونه حجة لا تفصل بينما إذا كان الداعي دليلا قاطعا أو ظاهرا مع الشبهة فاشتراط القطعي تقييد للمطلق بلا دليل وإنه لا يجوز.(5/293)
ثم إذا كان المبني على الدليل المحتمل حجة فعلى المتيقن أولى كما يشير إليه قوله "وإذا قيل" القياس المستند إلى قطعي "يفيدها" أي القطعية "بأولى" أي بطريق أولى لما فيه من زيادة التأكيد وطمأنينة القلب "انتفى" التوجه المذكور "هذا على عدم تفاوت القطعي قوة كما أسلفناه". وأما على تفاوته فبطريق أولى، ثم إذا ثبت أن الإجماع حجة فالحاجة إلى مطلق الحجة والدليل ثابتة وفي كثرة الدلائل تيسير على الناس ليطلبوا الحق بأي دليل اتفق لهم وتيسر عليهم وهو جائز بل واقع بل ومراد لهم من الشارع كما نطق به الكتاب والسنة وفي الميزان ولأنا وجدنا في حادثة واحدة الكتاب والخبر المتواتر، وإن كانت الحاجة الماسة ترتفع بأحدهما فكذا إذا وجد الإجماع معها ولأن أكثر ما في الباب أنه لا حاجة ولكن فيه فائدة وهو ما ذكرنا من التيسير والتخفيف ورفع المؤنة عن طلب الحق بالاجتهاد لما فيه من زيادة التأكيد وطمأنينة القلب، وأما في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فيجوز أن ينعقد الإجماع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون الإجماع حجة وقول الرسول حجة فيكون حجتين وهكذا تقول في الأمم السالفة إن الإجماع حجة لما قلنا انتهى هذا، وفي التلويح واعلم أنه لا معنى للنزاع في كون السند قطعيا؛ لأنه إن أريد أنه لا يقع اتفاق مجتهدي عصر على حكم ثابت بدليل قطعي فظاهر البطلان، وكذا إن أريد أنه لا يسمى إجماعا؛ لأن الحد صادق عليه، وإن أريد أنه لا يثبت الحكم فلا يتصور النزاع فيه؛ لأن إثبات الثابت محال.
مسألة(5/294)
"لا يجوز أن لا يعلموا" أي مجتهدو عصر "دليلا راجحا" أي سالما عن المعارض المكافئ له "عملوا بخلافه واختلفوا فيما عملوا على وفقه" أي الدليل الراجح حال كونهم "مصيبين" في الحكم لكن بدليل مرجوح "فقيل كذلك" أي لا يجوز "لأن الراجح سبيلهم" أي المؤمنين "وعملوا بغيره" أي بغير الراجح؛ لأن مجرد موافقة الحكم للدليل ليس اتباعا له بل إذا أخذوه منه "والمجوز" لعملهم على وفق راجح مصيبين في الحكم لكن المرجوح يقول(5/295)
ص -144-…"ليس" عدم العلم بالراجح "بإجماع على عدمه" أي الراجح "ليكون" عملهم بالمرجوح على وفق الراجح "خطأ" فإن الخطأ من فعل المكلف وعدم العلم ليس من فعله كما لو لم يحكموا في واقعة بحكم فإنه لا يكون قولا بعدم الحكم فيها "وسبيلهم ما عملوا به لا ما" أي لا الراجح الذي "لم يخطر لهم بل هو" أي الذي لم يخطر لهم "حينئذ" أي حين لم يخطر لهم "من شأنه" أن يكون سبيلهم لا أنه سبيلهم بالفعل واختاره الآمدي وابن الحاجب، ثم الحاصل أنهم غير مكلفين بالعمل بما لم يظهر لهم ولم يبلغهم فاشتراكهم في عدم العلم به لا محذور فيه.
مسألة
"المختار امتناع ارتداد أمة عصر سمعا، وإن جاز" ارتدادهم "عقلا" إذ لا مانع منه "وقيل يجوز" شرعا كما يجوز عقلا "لنا أنه" أي ارتدادهم "إجماع على الضلالة" فإن الردة ضلالة وأي ضلالة. "والسمعية" من الأدلة المتقدمة على حجية الإجماع "تنفيه" أي إجماعهم على الضلالة "واعترض بأن الردة تخرجهم" أي الأمة "عن تناولها" أي السمعية إياهم "إذ ليسوا أمته" حينئذ "والجواب يصدق" إذا ارتدوا أنه "ارتدت أمته قطعا" أي وهو أعظم الخطإ وإيراد صدق أن الأمة ارتدت غير مسلم بطريق الحقيقة، وإنما هو مجاز باعتبار ما كان، وأجيب بأن ذلك إذا أطلق بعد وقوع الردة أما في حالها فالظاهر أنه حقيقة قال السبكي ويمكن التفات ذلك إلى أن العلة مع المعلول أو سابقه فإن الارتداد علة خروجهم عن كونهم أمة النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان سابقا على خروجهم صدق معه لفظ الأمة عليهم وإلا فلا، ثم ظاهر دليل المختار أن السمعي قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة" ونظائره كما مشى عليه الآمدي وابن الحاجب قال السبكي ولو استدل بنحو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" لكان أوضح فإنه نص في أن هذه الأمة لا تخلو عن قائم بالحق ويستحيل معه ردة الكل.
مسألة(5/296)
"ظن أن قول الشافعي دية اليهودي الثلث" من دية المسلمين "يتمسك فيه بالإجماع لقول الكل بالثلث إذا قيل به" أي بالثلث "وبالنصف والكل وليس" هذا الظن واقعا موقعه "لأن نفي الزائد" على الثلث "جزء قوله" أي الشافعي بوجوب الثلث فقط إذ هو مشتمل على حكمين وجوب الثلث "و" نفي الزائد عليه "لم يجمع عليه" أي على نفي الزائد لا بد في نفيه من دليل آخر فإن أبدى وجود مانع من الزيادة كالكفر أو انتفاء شرط لها كالإسلام أو عدم الأدلة الدالة على الزيادة فيستصحب الأصل وهو البراءة الأصلية أو غير ذلك من نص أو قياس على عدم وجوب الزيادة فليس من الإجماع في شيء بل هي أمور خارجة عنه.(5/297)
ص -145-…صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو كفر غير أن نسبة هذا إلى الحنفية ليس على العموم فيهم إذ في الميزان فأما إنكار ما هو ثابت قطعا من الشرعيات بأن علم بالإجماع والخبر المشهور فالصحيح من المذهب أنه لا يكفر انتهى. والتقويم مشير إليه أيضا إذ فيه لم نبال بخلاف الروافض إيانا في إمامة أبي بكر وبخلاف الخوارج في إمامة علي لفساد تأويلهم، وإن كنا لم نكفرهم للشبهة "وطائفة لا" تكفره وهو معزو إلى بعض المتكلمين بناء على أن الإجماع حجة ظنية؛ لأن دليل حجيته ليس بقطعي فلا يفيد العلم فإنكار حكمه ليس بكفر كإنكار الحكم الثابت بخبر الواحد والقياس وقد عرفت أن دليل حجيته قطعي في أوائل الباب فلا يتم أمر هذا البناء "ويعطي الأحكام" للآمدي "وغيره" كمختصر ابن الحاجب أن في هذه المسألة "ثلاثة" من الأقوال "هذين والتفصيل" وهو "ما" كان "من ضروريات الدين" أي دين الإسلام وهو ما يعرفه منه الخواص والعوام من غير قبول للتشكيك كوجوب اعتقاد التوحيد والرسالة ووجوب الصلوات الخمس وأخواتها من الزكاة والصيام والحج "يكفر" منكره "وإلا" إذا لم يكن من ضرورياته بأن كان لا يعرفه منه إلا الخواص كفساد الحج بالوطء قبل الوقوف بعرفة وإعطاء السدس للجدة وحرمة تزوج المرأة على عمتها وخالتها "فلا" يكفر منكره. "وهو" أي هذا المعطى "غير واقع"؛ لأنه يلزم منه أن إنكار نحو الصلاة لا يكفر متعاطيه وهو باطل قطعا "إذ لا مسلم ينفي كفر منكر نحو الصلاة" فليس في الواقع إلا قولان أحدهما التكفير مطلقا وهو الذي مشى عليه إمام الحرمين بما لفظه فشا في لسان الفقهاء أن خارق الإجماع يكفر وهو باطل قطعا فإن من ينكر أصل الإجماع لا يكفر والقول في التكفير والتبري ليس بالهين، ثم قال نعم من اعترف بالإجماع وأقر بصدق المجمعين في النقل، ثم أنكر ما أجمعوا عليه كان هذا التكذيب آيلا إلى الشارع ومن كذب الشارع كفر، والقول الضابط فيه أن من أنكر طريقا في ثبوت الشرع لم(5/298)
يكفر ومن اعترف بكون الشيء من الشرع ثم جحده كان منكرا للشرع، وإنكار جزء من الشرع كإنكار كله ثانيهما التفصيل المذكور وعليه مشى ابن السمعاني وعلل إكفار من اعتقد في شيء من المجمع عليه المشترك في معرفته الخاصة والعامة خلاف ما انعقد الإجماع عليه بأنه صار بخلافه جاحدا لما قطع به من دين الرسول صلى الله عليه وسلم فصار كالجاحد لصدق الرسول. "وإذا حمل حكم الإجماع على الخصوص" وهو ما ليس من ضروريات الدين فيما في الأحكام وما وافقه ليندفع ورود هذا اللازم الباطل لا يصح أيضا لعدم صحة تقسيمه إلى نفسه وإلى غيره إذ لا خفاء في أن الإجماع على ما ليس من ضروريات الدين "لم يتناوله" أي الإجماع على ما هو من ضرورياته بل يباينه، ثم يقال وليس كون الشيء معلوما بالضرورة من الدين له حكم الإجماع "لأن حكمه حينئذ" أي الإجماع "ما ليس" ناشئا "إلا عنه" أي عن الإجماع، والمعلوم بالضرورة الدينية إنما نشأ عن ظهور كونه من الدين ظهور اشتراك في معرفة كونه منه الخاصة والعامة ولهذا قال الشيخ صفي الدين الهندي في النهاية جاحدا الحكم المجمع عليه من حيث إنه مجمع عليه بإجماع قطعي لا يكفر عند الجماهير خلافا لبعض الفقهاء، وإنما قيدنا بالإجماع القطعي؛ لأن جاحد حكم(5/299)
ص -146-…الإجماع الظني لا يكفر وفاقا انتهى. وجعل السبكي لمنكر المجمع عليه غير المعلوم من الدين بالضرورة ثلاث مراتب: منكر إجماع ذي شهرة فيه نص كحل البيع ففي جمع الجوامع كافر في الأصح وقال في شرح مختصر ابن الحاجب ولا ريب في كفره لتكذيبه الصادق، ومنكر إجماع ذي شهرة لا نص فيه قيل لا يكفر؛ لأنه لم يصرح بتكذيب الصادق إذ الفرض أن لا نص فيه، وإنما كذب المجمعين والأصح يكفر؛ لأن تكذيبهم يتضمن تكذيب الصادق، ومنكر إجماع ليس بذي شهرة والأصح لا يكفر وعبر عنه في جمع الجوامع بأنه لا يكون جاحدا لخفي ولو منصوصا ومثل باستحقاق بنت الابن السدس مع الصلبية فإنه قضى به النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري وفي شرح المختصر وقال بعض الفقهاء لتكذيبه الأمة وجوابه أنه لم يكذب الأمة صريحا إذ الفرض أنه ليس مشهورا فهو مما يخفى على مثله انتهى. وهذا يشير إلى أنه يكفر المنكر إذا اعترف بالعلم به والله سبحانه أعلم "وفخر الإسلام بالقطعي من إجماع الصحابة نصا كعلى خلافة أبي بكر وقتال مانعي الزكاة ومع سكوت بعضهم" ولفظ فخر الإسلام فصار الإجماع كأنه من الكتاب أو حديث متواتر في وجوب العمل والعلم به فيكفر جاحده في الأصل انتهى وهذا كما ذكر الشيخ قوام الدين الأتقاني يتعلق بما ذكر من قوله في أول الباب حكمه في الأصل أن يثبت المراد به حكما شرعيا على سبيل التيقن انتهى. أي حكم الإجماع في أصل وضعه أن يثبت المراد على سبيل القطع واليقين كإجماع الصحابة على شيء نصا فإنه لا يحتمل توهم الخطأ وقيد بالأصل؛ لأن الإجماع ربما لا يكون موجبا للحكم قطعا ويقينا بسبب العارض كما إذا ثبت الإجماع بنص البعض وسكوت الآخرين وكثبوت بطلان الحكم في غير ما اختلف فيه الصحابة وكإجماع العصر الثاني بعد سبق الخلاف فكأنه قال لما كان حكم الإجماع في أصل الوضع أن يوجب العلم والعمل كان حكمه حكم الآية من الكتاب والحديث المتواتر فيكفر جاحد حكم الإجماع في(5/300)
أصل الوضع بأن يكون حكما أجمع عليه الصحابة كجاحدهما لا حكم كل إجماع ليتناول إجماعا نص البعض على حكمه وسكت عنه الباقون وإجماعا للعصر الثاني بعد سبق الخلاف ويدل على هذا أيضا قول فخر الإسلام، ثم هذا أي الإجماع على مراتب فإجماع الصحابة مثل الآية والخبر المتواتر وإجماع من بعدهم بمنزلة المشهور من الحديث وإذا صار الإجماع مجتهدا في السلف كان كالصحيح من الآحاد انتهى. ومنكر خبر الآحاد لا يكفر ويؤيده قول شمس الأئمة السرخسي ما أجمع عليه الصحابة فهو بمنزلة الثابت بالكتاب والسنة في كونه مقطوعا به حتى يكفر جاحده وهذا أقوى ما يكون من الإجماع ففي الصحابة أهل المدينة وعترة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا خلاف بين من يعتد بقولهم أن هذا الإجماع حجة موجبة للعلم قطعا فيكفر جاحده كما يكفر جاحد ما ثبت بالكتاب أو بخبر متواتر انتهى. فظهر أن كون فخر الإسلام قائلا بإكفار منكر الإجماع السكوتي من الصحابة غير ظاهر من كلامه بل الظاهر عدم إكفار منكره بل ذكر الزركشي أنه لا خلاف في أنه لا يكفر ولا يبدع منكر حجية الإجماع السكوتي أو الذي لم ينقرض أهل عصره أو(5/301)
ص -147-…الإجماعات الذي اختلف العلماء المعتبرون في انتهاضه حجة. "وأما" منكر إجماع "من بعدهم" أي الصحابة "بلا سبق خلاف فيضلل" ويخطأ من غير إكفار "كالخبر المشهور" أي كمنكره "والمسبوق به" أي بخلاف مستقر إجماع "ظني مقدم على القياس كالمنقول" أي كالإجماع المنقول "آحادا" بأن روى ثقة أن الصحابة أجمعوا على كذا فإنه بمنزلة السنة المنقولة بالآحاد فيوجب العمل لا العلم ويقدم على القياس عند أكثر العلماء "ووجه الترتيب" في هذه الإجماعات "قطعية" إجماع "الصحابي إذ لم يعتبر خلاف منكره" أي إجماعهم "وضعف الخلاف" أي خلاف منكر الإجماع "فيمن سواهم فنزل" إجماع من سواهم "عن القطعية إلى قربها" أي القطعية "من الطمأنينة ومثله" أي إجماع من سواهم في النزول عن القطعية "يجب في" الإجماع "السكوتي عن الأوجه فضلل" منكر حكمه "وقوي" الخلاف "في المسبوق" بخلاف مستقر "والمنقول آحادا فحجة ظنية تقدم على القياس فيجوز فيهما" أي في حكمي المسبوق والمنقول آحادا ولو كان في نفسه غير مسبوق بخلاف "الاجتهاد" المجتهد من غير المجمعين "بخلافه" حتى يسوغ لذلك المجتهد ولمقلده العمل بما أدى إليه اجتهاده في تلك المسألة من حكم يخالف حكمها إلى أن ينتهي تضافر الاجتهاد من أهله على ذلك الحكم إلى درجة الإجماع عليه فيصير مجمعا عليه كمخالفه. وإذ قد جاز الاجتهاد بخلافه لمجتهد من غير المجمعين "فرجوع بعضهم" أي المجمعين عنه إلى غيره اجتهادا يجوز بطريق "أولى، ثم ليس" هذا الإجماع "نسخا" للأول "بل معارض" له "رجح" عليه بمرجح من المرجحات حسبما ظهر لأهله وإذا كان كذلك "فلا يقطع بخطأ الأول ولا صوابه" في الواقع، وكذا الثاني "بل هو" أي قول كل بخطأ مخالفه وإصابة نفسه بناء "على ظن المجتهد" وهو قد يكون الثابت في نفس الأمر وقد لا "فدليل القطعية" لإجماع الصحابة مستفاد "من إجماع الصحابة على تقديمه" أي الإجماع "على القاطع في إجماعهم" إذ لا يتركون القاطع لظني.(5/302)
"ومنع الغزالي وبعض الحنفية حجية" الإجماع "الآحادي إذ ليس نصا ولا إجماعا؛ لأنه" أي الإجماع دليل "قطعي وحجية غير القاطع" إنما تكون "بقاطع كخبر الواحد ولا قاطع فيه" أي في كون الإجماع الآحادي حجة "والجواب بل فيه" أي في كون الإجماع الآحادي حجة قاطع "وهو" أي القاطع فيه "أولويته" أي الإجماع الآحادي "بها" أي بالحجية "من خبر الواحد الظني الدلالة؛ لأن الإجماع على وجوب العمل به" أي بخبر الواحد الظني الدلالة الذي تخللت واسطة بين ناقله وبين الرسول صلى الله عليه وسلم "إجماع عليه" أي على وجوب العمل "في" الإجماع "القطعي المنقول آحادا" الذي لم يتخلل بينه وبين ناقله واسطة بطريق أولى؛ لأن احتمال الضرر في مخالفة المقطوع به أكثر من احتماله في مخالفة المظنون به وإذا ثبت وجوب العمل به في هذه الصورة يثبت فيما تخلل في نقله واسطة أو وسائط لعدم القائل بالفصل. "وقد فرق" بين خبر الواحد ونقل الإجماع آحادا "بإفادة نقل الواحد الظن في الخبر دون الإجماع لبعد انفراده" أي الواحد "بالاطلاع" على الإجماع وعدم بعد انفراد الواحد بالاطلاع على الخبر "ويدفع الاستبعاد بعدالة الناقل ولا يستلزم" نقل الواحد الإجماع "الانفراد" به أيضا "بل" يفيد(5/303)
ص -148-…"مجرد عمله" أي الناقل "فجاز علم الذي لم ينقله أيضا" إلا إن عورض الإجماع الآحادي بحال يعمل بما تقتضيه قاعدة التعارض وهو ظاهر "مثاله" أي الإجماع الآحادي "قول عبيدة" السلماني "ما اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء كاجتماعهم على محافظة الأربع قبل الظهر والإسفار بالفجر وتحريم نكاح الأخت في عدة الأخت" كذا توارده المشايخ رحمهم الله والله تعالى أعلم به. نعم أخرج ابن أبي شيبة عن عمرو بن ميمون قال لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتركون أربع ركعات قبل الظهر وركعتين قبل الفجر على حال وعن إبراهيم قال ما أجمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على شيء ما أجمعوا على التنوير بالفجر، ثم في التقويم وحكى مشايخنا عن محمد بن الحسن نصا أن إجماع كل عصر حجة إلا أنه على مراتب أربعة فالأقوى إجماع الصحابة نصا؛ لأنه لا خلاف فيه بين الأمة؛ لأن العترة وأهل المدينة يكونون فيهم، ثم الذي ثبت بنص البعض وسكوت الباقين؛ لأن السكوت في الدلالة على التقرير دون النص، ثم إجماع من بعد الصحابة على حكم لم يظهر فيه قول من سبقهم؛ لأن الصحابة كانوا خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم كانوا خلفاء الصحابة فيقع بينهم وبين خلفائهم من التفاوت فوق ما يقع بينهم وبين الرسول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس رهطي الذين أنا فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشوا الكذب" فرتبهم النبي صلى الله عليه وسلم على مراتب في الخيرية فكذلك نحن نرتبهم في كونهم حجة؛ لأنها نهاية ما تنتهي إليه صفة الخيرية، ثم إجماعهم على حكم سبقهم فيه مخالف؛ لأن هذا فصل اختلف الفقهاء فيه فقال بعضهم هذا لا يكون إجماعا ا هـ وعلى هذا درج غير واحد من المشايخ والله سبحانه أعلم.
مسألة:(5/304)
"يحتج به" أي الإجماع "فيما لا يتوقف حجيته" أي الإجماع "عليه من الأمور الدينية" سواء كان ذلك "عقليا كالرؤية" لله تعالى في الدار الآخرة "لا في جهة ونفي الشريك" لله تعالى "ولبعض الحنفية" وهو صدر الشريعة "في العقلي" أي ما يدرك بالعقل "مفيده العقل لا الإجماع" لاستقلال العقل بإفادة اليقين ومشى على هذا إمام الحرمين ففي برهانه ولا أثر للإجماع في العقليات فإن المتبع فيها الأدلة القاطعة فإذا انتصبت لم يعارضها شقاق ولم يعضدها وفاق وتعقبه، ففي التلويح بأن العقلي قد يكون ظنيا فبالإجماع يصير قطعيا كما في تفضيل الصحابة وكثير من الاعتقاديات ودفع بأن العقل إن حكم به فلا يكون ظنيا فلا حاجة إلى الإجماع، وإن لم يحكم به إلا أنه حصل له ظن به لم يكن ثابتا بالعقل بل بالإجماع "أو لا" أي أو غير عقلي "كالعبادات" أي كوجوبها من الصلاة والزكاة والصوم والحج على المكلفين "وفي الدنيوية كترتيب أمور الرعية والعمارات وتدبير الجيوش قولان لعبد الجبار" من المعتزلة أحدهما وعليه جماعة وذكر في القواطع أنه الصحيح ليس بحجة فيها؛ لأنه ليس بأكثر من قول الرسول. وقد ثبت أن قوله إنما هو حجة في أحكام الشرع دون مصالح الدنيا ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "أنتم أعلم بأمور دنياكم وأنا أعلم بأمور دينكم" وكان إذا رأى رأيا في الحرب يراجعه الصحابة في ذلك وربما ترك رأيه برأيهم كما وقع في حرب بدر والخندق، ثانيهما(5/305)
ص -149-…وهو الأصح عند الإمام الرازي والآمدي وأتباعهما ومشى عليه ابن الحاجب ونص في البداية على أنه المختار كما قال المصنف "والمختار حجة إن كان اتفاق أهل الاجتهاد والعدالة"؛ لأن الأدلة السمعية على حجيته لا تفصل وقول النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الحرب وغيره إن كان عن وحي فهو الصواب، وإن كان عن رأي وكان خطأ فهو لا يقر عليه ويظهر الصواب بالوحي أو بإشارة من أصحابه فيقر عليه والإجماع بعد وجوده لا يحتمل الخطأ فلا فرق بين الأمرين وفي الميزان ثم على قول من جعله إجماعا هل يجب العمل به في العصر الثاني كما في الإجماع في أمور الدين أم لا؟ إن لم يتغير الحال يجب، وإن تغير لا يجب وتجوز المخالفة؛ لأن الدنيوية مبنية على المصالح العاجلة وهي تحتمل الزوال ساعة فساعة "بخلافه" أي الإجماع "على" حسي من الحسيات "المستقبلات من أشراط الساعة وأمور الآخرة لا يعتبر إجماعهم عليه من حيث هو إجماع" عليه؛ لأنهم لا يعلمون الغيب "بل" يعتبر "من حيث هو منقول" عمن يوقف على المغيب فرجع إلى أن يكون من قبيل الإخبارات وهو ليس من أقسام الإجماع المخصوص بأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يشترط له الاجتهاد كذا ذكره صدر الشريعة وكأن لهذا قال المصنف "كذا للحنفية" وتعقبه في التلويح بأن الاستقبال قد يكون مما لم يصرح به المخبر الصادق بل استنبطه المجتهدون من نصوصه فيفيد الإجماع قطعيته ودفع بأن الحسي الاستقبالي لا مدخل للاجتهاد فيه فإن ورد به نص فهو ثابت به ولا احتياج إلى الإجماع. وإن لم يرد به نص فلا مساغ للاجتهاد فيه ولا يتمسك بالإجماع فيما تتوقف صحة الإجماع عليه كوجود البارئ تعالى وصحة الرسالة ودلالة المعجزة على صدق الرسول للزوم الدور؛ لأن صحة الإجماع متوقفة على النص الدال على عصمة الأمة عن الخطأ الموقوف على ثبوت صدق الرسول الموقوف على دلالة المعجزة على صدقه الموقوف على وجود البارئ وإرساله فلو توقفت صحة هذه الأشياء على صحة(5/306)
الإجماع لزم الدور.
وإلى هنا انتهى تحرير أصول الكتاب والسنة والإجماع وبلغت قواعدها في سماء البيان غاية الارتفاع فبرزت خرائدها سافرة للثام في أحسن حلة وأكمل قوام سهلة الانقياد لذوي النهى والأحلام بتوفيق الملك العليم العلام بعد أن كانت محجوبة عن كثير من الأفهام شامخة الأنف أبية الزمام، ومن هنا يقع الشروع في القياس الذي هو مضمار الفحول وميزان العقول وللظفر بدقائقه ورقائقه على اختلاف حدائقه وحقائقه تشد الرحال وللاحتباء بمطارف أزهاره والاجتناء لأصناف ثماره والاعتناء ببهجة أنواره والاجتلاء لساطع أنواره تسير الرجال وفي منازلة تتمايز الأقدار بحسب ما نالته من تفاوت الأنظار والله المسئول في سلوك صراطه المستقيم والهداية إلى مقصده الأسنى من فضله العميم إنه سبحانه بيده ملكوت كل شيء وهو تعالى ذو الفضل العظيم.(5/307)
ص -150-…الباب الخامس في القياس
"القياس قيل هو لغة التقدير والمساواة والمجموع" منهما "أي يقال إذا قصد الدلالة على مجموع ثبوت المساواة عقيب التقدير؛ قست النعل بالنعل" أي قدرتها بها فساوتها وهذا ظاهر كلام القاضي عضد الدين "ولم يزد الأكثر" كفخر الإسلام وشمس الأئمة السرخسي وحافظ الدين النسفي وغيرهم "على" أن معناه لغة "التقدير واستعلام القدر" أي طلب معرفة مقداره نحو "قست الثوب بالذراع والتسوية في مقدار" نحو "قست النعل بالنعل ولو" كانت التسوية أمرا
نحو "أي فلان لا يقاس بفلان، لا يقدر أي لا يساوي" ومنه قول الشاعر:
خف يا كريم على عرض يدنسه …مقال كل سفيه لا يقاس بكا(5/308)
واستعلام القدر والتسوية: مبتدأ خبره "فردا مفهومه" أي التقدير "فهو" أي القياس "مشترك معنوي" يطلق على استعلام القدر والتسوية باعتبار شمول معناه الذي هو التقدير لهما وصدقه عليهما "لا" مشترك "لفظي" فيهما فقط أو وفي المجموع منهما "ولا" حقيقة في التقدير "مجاز في المساواة كما قيل" في البديع باعتبار أن التقدير يستدعي شيئين يضاف أحدهما إلى الآخر بالمساواة فيكون تقدير الشيء مستلزما للمساواة بينهما واستعمال لفظ الملزوم في لازمه شائع لأن التواطؤ مقدم على كل من الاشتراك اللفظي والمجاز إذا أمكن وقد أمكن. "وفي الاصطلاح" على قول المخطئة وهم الجمهور القائلون المجتهد يخطئ ويصيب "مساواة محل لآخر في علة حكم له" أي لذلك المحل الآخر "شرعي لا تدرك" تلك العلة "من نصه" أي ذلك المحل الآخر "بمجرد فهم اللغة" فخرج بتقييد الحكم بالشرعي المساواة المذكورة في علة حكم له عقلي صرف والمساواة المذكورة المخيلة في علة حكم له لغوي "فلا يقاس في اللغة" كما تقدم في أوائل المقالة الأولى في المبادئ اللغوية أنه المختار "وإطلاق حكمه" بأن لا يوصف بشرعي ولا غيره "يدخله" أي القياس في اللغة والقياس في العقلي الصرف في الحد لتناول الحكم المطلق لهما كما للشرعي فيصير الحد مدخولا "والاقتصار" في تعريفه كما في مختصر ابن الحاجب والبديع على قول المخطئة "على مساواة فرع لأصل في علة حكمه" أي الأصل "يفيد طرده بمفهوم الموافقة" لصدقه عليه مع أنه ليس بقياس لأنه من دلالة اللفظ "واسم القياس" أي إطلاقه "من بعضهم عليه" أي على مفهوم الموافقة "مجاز للزوم التقييد" لإطلاقه عليه "بالجلي" أي بالقياس الجلي "وإلا فعلى" إطلاق القياس على الذي نحن بصدده وعلى مفهوم الموافقة على سبيل "التواطؤ" حتى يكون مفهوم الموافقة قسما من القياس "بطل اشتراطهم عدم كون دليل حكم الأصل شاملا لحكم الفرع" في القياس لأن دليل حكم المنصوص عليه شامل لحكم مفهوم الموافقة فيكون هذا(5/309)
الشرط مخرجا له وقد فرض أنه منه "و" بطل "إطباقهم على تقسيم دلالة اللفظ إلى منطوق ومفهوم" لأن القياس ليس من دلالة(5/310)
ص -151-…اللفظ "ولو" كان لفظ القياس مشتركا "لفظيا" بين ما ليس بمفهوم الموافقة وبين مفهومها "فالتعريف" المذكور إنما هو "لخصوص أحد المفهومين" وهو ما ليس بمفهوم الموافقة "وأورد عليه" أي على هذا التعريف "الدور فإن تعقل الأصل والفرع فرع تعقله" أي القياس لأن الأصل هو المقيس عليه والفرع هو المقيس فمعرفتهما موقوفة على معرفته وقد توقفت معرفته على معرفتهما. "وأجيب بأن المراد" بالأصل والفرع "ما صدقا عليه وهو" أي ما صدقا عليه "محل" منصوص على حكمه وهو الأصل وغير منصوص على حكمه وهو الفرع أي الذاتان اللتان تعرضهما الفرعية والأصلية لا الذاتان مع الوصفين وعليه أن يقال "وهو" أي هذا المراد "خلاف" مقتضى "اللفظ" لأن المتبادر من إطلاق الوصف إرادة الذات مع ما قام بها من ذلك المعنى فإرادة الذات مجردة عن ذلك المعنى عناية ينبو عنها التعبير بذلك "وقلنا" المراد بكل من الأصل والفرع "ركن ويستغنى" بهذا المراد "عن الدفع" المذكور "المنظور" فيه بهذا "ثم إن عمم" كل من تعريفهم وتعريفنا "في" القياس "الفاسد" والصحيح "زيد" كل منهما "في نظر المجتهد لتبادر" المساواة "الثابتة في نفس الأمر" إلى الفهم "من المساواة" المطلقة عن التقيد بقي نظر المجتهد لا المقيد به ولا الأعم بخلاف المقيدة به فإنها أعم من الثابتة في نفس الأمر بأن يطابق ما في نفس الأمر أو لا يطابق "وعنه" أي وعن تبادر المساواة الثابتة في نفس الأمر من المساواة المطلقة "لزم المصوبة" أي القائلين بأن كل مجتهد يصيب "زيادتها" أي هذه الزيادة أيضا "لأنها" أي المساواة عندهم "لما لم تكن إلا" المساواة "في نظره" أي المجتهد "كان الإطلاق" لها "كقيد مخرج للإفراد يفيد" الإطلاق "التقييد بنفس الأمر وافق نظره" أي المجتهد "أو لا" حتى كأنه قيل مساواة في نفس الأمر ولا مساواة عندهم في نفس الأمر أصلا بل في نظره فكان قيدا مخرجا لجميع أفراد المحدود فلا يصدق الحد على شيء منها فكان(5/311)
باطلا وقد ظهر من هذا دفع ما يخطر في بادئ الرأي من أنه إذا لم تكن المساواة عندهم إلا ما في نظر المجتهد فإطلاقها منصرف إلى إرادتها في نظر المجتهد وإيضاح دفعه أنه لا مساواة عندهم في نفس الأمر وإنما توجد عندهم بعد النظر المفضي إلى الظفر بها ومن ثمة قالوا: كل ما أدى إليه نظر المجتهد صواب وإن ظهر له بعد ذلك خلافه. ولو اعترفوا بوجود مساواة في نفس الأمر لقالوا بخطأ ذلك الاجتهاد الذي ظهر خلافه لا أنه صواب منسوخ بالثاني.
واعلم أنه لما كان ظاهر كلام ابن الحاجب وشارحيه وصاحب البديع وغيرهم أن القياس ليس فعل المجتهد بل هو دليل نصبه الشارع لمعرفة الأحكام التي سوغ فيها الاجتهاد وإنما فعل المجتهد استنباطه الحكم منه فهو أمر موجود نظر فيه المجتهد أولا كالكتاب والسنة ومشى عليه المصنف غير أنه وقع من ابن الحاجب وصاحب البديع ما يفيد مناقضته وتبعهما الشارحون على ذلك أشار المصنف إليه بقوله "ومن نفى كونه" أي القياس "فعل مجتهد باختيار المساواة" في تعريفه للقياس الصحيح "فأبطل التعريف" المنقول عن بعض الأصوليين للقياس "ببذل الجهد إلخ" أي في استخراج الحق "بأنه" أي بذل الجهد "حال(5/312)
ص -152-…القائس مع أعميته" فقد ذكر غير جنس المحدود في الحد "ثم اختار في قصد التعميم" أي في تعريفه على وجه يعم الصحيح والفاسد "تشبيه" فرع بأصل على المخطئة وبزيادة في نظر المجتهد على المصوبة "ناقض" نفسه فإن التشبيه ليس فعل الشارع فيفسد تعريفه بما أفسد به تعريف أولئك "ودفعه" أي هذا التناقض "بأن المراد" بتشبيه فرع بأصل "تشبيه الشارع" وهو فعل الشارع "قد يدفع بأن شرعه تعالى" الحكم "في كل المحال" إنما هو "ابتداء" أي دفعة واحدة "لا بناء على التشبيه" أي لا أنه أثبت الحكم في بعضها ابتداء ثم أثبته في محل آخر بواسطة شبه هذا المحل بذلك المحل في العلة التي هي مناط الحكم "وإن وقع بذلك" التشريع الدفعي في الجميع "الشبه" لبعضها ببعض وإنما الفاعل لذلك على هذه الكيفية هو المجتهد لقصور نظره عن الإحاطة بجميع الحال "وأكثر عباراتهم تفيد" كون القياس "فعله" أي المجتهد وحيث لم يكن صحيحا "فما أمكن رده" منها "إلى فعله" تعالى على وجه يسوغ مثله في الاستعمال "فهو" أي الرد المذكور "مخلص" من عدم صحته وما لا فلا "وإلا لم يصح لأنه" أي القياس "دليل نصبه الشارع نظر فيه مجتهد أو لا كالنص". قلت ولقائل أن يقول لا يلزم من مجرد هذا أن لا يكون فعلا للمجتهد وكون النص كذلك أمر اتفاقي بدليل أن الإجماع دليل نصبه الشارع مع أنه فعل المجتهدين وليس ببدعي أن يجعل الشارع فعل المكلف مناطا لحكم شرعي يجب العمل به فلا جرم أن قال السبكي والذي يظهر أن القياس فعل الناس لكن لم يبين وجهه والله سبحانه أعلم.(5/313)
ثم إذا عرف هذا "فمن الثاني" أي ما لا يمكن رده إلى كونه فعل الله تعالى بالشرط المذكور تعريفه بأنه "تعدية الحكم من الأصل إلخ" أي إلى الفرع بعلة متحدة لا تدرك بمجرد اللغة "لصدر الشريعة" فإن الله تعالى لا يجوز أن يوصف بكونه معديا حكم أصل إلى فرع بالمعنى المتبادر من هذا الإطلاق "ثم فسرها" أي صدر الشريعة التعدية "بإثبات حكم مثل الأصل" في الفرع "وأورد" على هذا التعريف "ما سنذكره" قريبا في حكم القياس "فأفاد أنها" أي التعدية "فعل مجتهد وليست" التعدية "به" أي بفعل المجتهد "إذ لا فعل له" أي للمجتهد في ذلك "سوى النظر في دليل العلة ووجودها" في الفرع "ثم يلزمه" أي النظر في دليل العلة ووجودها في الفرع إذا أدى نظره إلى وجودها فيه "ظن حكم الأصل في الفرع بخلقه تعالى عادة فليست التعدية سواه" أي سوى ظن حكم الأصل في الفرع وظنه ليس بفعل اصطلاحا فإنه من مقولة الكيف لا الفعل "وهو" أي ظنه في الفرع "ثمرة القياس" في نفسه "لا نفس القياس" فلا يصدق عليه لأن الثمرة لا تصدق على ما له الثمرة "ومثله" أي تعريف صدر الشريعة من حيث إنه لا يمكن رده على وجه سائغ إلى فعله تعالى وأنه ثمرة القياس لا القياس "قول القاضي أبي بكر" واستحسنه الجمهور "حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما إلخ" أي أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما كما في مختصر ابن الحاجب والبديع. وهذا وإن لم يكن لفظ القاضي فهو معناه إذ لفظه في التعريف حمل أحد المعلومين على الآخر في إيجاب بعض الأحكام لهما أو إسقاطه عنهما بأمر جامع(5/314)
ص -153-…بينهما فيه أي أمر كان من إثبات صفة وحكم لهما أو نفي ذلك عنهما انتهى لأن الحمل فعل المجتهد وهو ثمرة القياس ولا شيء من ثمرة القياس بقياس "وفيه" أي قول القاضي في إثبات حكم لهما "زيادة إشعار بأن حكم الأصل" ثابت "بالقياس" كحكم الفرع لأن هذا ينبئ عن التشريك بينهما في إثبات حكم لهما ولا يتحقق ذلك إلا بإثبات الحكم لكل منهما بالقياس وليس كذلك فإن الحكم في الأصل بالنص أو الإجماع "وأجيب بأن المعنى كان حكم الأصل" قبل القياس هو "الظاهر فظهر" حكم الأصل "فيهما" أي في الأصل والفرع "بإظهار في القياس الفرع إياه" والظاهر بإظهار القياس في الفرع إياه أي حكم الأصل ففائدة قوله في إثبات حكم لهما بيان أن ظهور الحكم في المقيس عليه والمقيس معا إنما هو بواسطة القياس لا أن الإثبات في كل منهما به ويصدق أن الحكم فيهما جميعا يثبت بالقياس باعتبار أحد جزأيه الذي هو الحكم في الفرع إذ ظاهر أن افتقار المجموع إلى شيء لا يقتضي افتقار كل من جزأيه إليه بل يكفي فيه افتقار أحد جزأيه والحق أن في هذا الجواب عناية ظاهرة ثم لعله إنما اختار هذه العبارة لإفادة إخراج مفهوم الموافقة فإن مساواة المنطوق له في الحكم لم تظهر في أحدهما بالقياس بعد أن كانت غير ظاهرة فيه قبل ملاحظة القياس بل كانت قبلها ثابتة للعارف باللغة والله سبحانه أعلم. وقال التفتازاني وأنا أظن أن هذا الإشعار إنما يظهر إذا كان قوله بأمر جامع متعلقا بإثبات حكم. أما إذا تعلق بالحمل على ما هو الحق فلا انتهى قلت وفيه نظر بل إنما يكون فيه الإشعار المذكور على هذا التقدير لو قال في إثبات حكم أحدهما للآخر أو نفيه عنه فإن قلت ويمكن أن يكون المراد بحمل معلوم على معلوم التشريك والتسوية بينهما في حكم أحدهما مطلقا كما ذكر الآمدي أو وجوب التسوية في الحكم عند قصد إثباته فيهما كما ذكر عضد الدين والتسوية مما يصح حملها على تسوية الله تعالى قلت لا يصح لكونه مجازا لا(5/315)
دلالة عليه والحد يجتنب فيه ذلك على أن وجوب التسوية لا يصح إضافتها إلى الله تعالى إذ من المعلوم أن المراد بحمل معلوم على معلوم إلحاقه به وعبر بالمعلوم والمراد به ما هو متعلق العلم بالمعنى الشامل لليقين والظن ليتناول جميع ما يجري فيه القياس من موجود ومعدوم ممكن ومستحيل ولو قال شيء على شيء لاختص بالموجود كما هو اصطلاح الأشاعرة وقال في إثبات حكم لهما أي المعلومين أو نفيه عنهما ليتناول القياس في الحكم الوجودي نحو أن يقال في القتل بالمثقل قتل عمد عدوان فيجب القصاص كما في القتل بالمحدود وفي الحكم العدمي نحو أن يقال في القتل بالمثقل أيضا قتل تمكن فيه الشبهة فلا يجب فيه القصاص كما في القتل بالعصا الصغيرة وقال بأمر جامع بينهما فيه لأنه لا بد منه في تحقيق ماهية القياس وبه يتميز عن غيره بالحمل بلا جامع ثم السبكي مشى على أن ظاهر كلام القاضي أن هذا آخر الحد وأن أي أمر كان جرى مجرى تفسير الأمر الذي يجمع بينهما فيه فإن الجامع ينقسم إلى هذه الأقسام أي ذلك الأمر أعم من الصفة والحكم ثبوتا ونفيا وابن الحاجب على أن الجميع الحد فاعترضه بأن بجامع كاف في التمييز ولا(5/316)
ص -154-…حاجة إلى تفصيل الجامع في الحد. وأجاب القاضي عضد الدين بأن تعيين الطريق فإن زعم أن الأوجز أولى قلنا الأولوية إذا لم يحصل منه غير التمييز مقصود وها هنا يفيد تفصيل الأقسام أيضا فكان أولى إذ يفيد أن الجامع قد يكون حكما شرعيا إثباتا أو نفيا ككون القتل عدوانا أو ليس بعدوان وقد يكون وصفا عقليا إثباتا أو نفيا ككونه عمدا أو ليس بعمد وإيراد الحكم إن تناول الصفة كأن ذكرها مستدركا أولا فيجب أن يقال في إثبات حكم لهما أو صفة وأجيب بأن الثابت بالقياس لا يكون إلا حكما شرعيا على الصحيح كما سيأتي في فصل الشروط بخلاف الجامع فإنه قد يكون وصفا عقليا وأورد أيضا أنه أخذ في تعريف القياس ثبوت حكم الفرع لأنه اعتبر فيه الإثبات وهو مستلزم للثبوت تصورا وإن لم يستلزم تحققه في الواقع لجواز كون الحكم غير مطابق للواقع وثبوت حكم الفرع فرع معرفة القياس فتتوقف معرفته على معرفة القياس فيكون تعريف القياس به دورا وأجيب بأنا لا نسلم أن تصور ثبوت حكم الفرع موقوف على معرفة القياس لإمكان تصور ثبوت حكم الفرع بدون تصور ماهية القياس فلا يكون أخذه في تعريف القياس موجبا للدور واعترضه أيضا الشيخ تقي الدين السبكي بأن قوله أو نفيه حشو وقوله ليندرج الإلحاق في الثبوت والنفي ضعيف، فإن الإلحاق في النفي إنما هو في الحكم بالعدم لا في نفس العدم والحكم بالعدم ثبوتي لا عدمي كالحكم بالوجود ألا يرى أنا نقول الحكم خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين وهو ثبوتي وإن كان منه عدم التحريم وعدم الحل والعدم إنما هو في المحكوم به أو في نفس العبارة كقولنا لا يحرم ومعناه يحل فإن قلت عدم الحرمة أعم من الحل. قلت نعم ولكن عدم الحرمة الذي لا حل معه هو العدم العقلي وذلك لا يثبت بالقياس ولا يقاس عليه شرعا وعدم الحرمة المستند إلى الشرع هو الحل بعينه انتهى قال الكرماني أو نقول إثبات الحكم أعم من أن يكون إيجابا أو سلبا فهذا مما لا جواب له.(5/317)
"ومن الأول" أي ما يمكن رده إلى فعله تعالى على وجه سائغ تعريف المنازلة بقوله "تقدير الفرع بالأصل في الحكم والعلة فإنك عملت أن التقدير يقال على التسوية فرجع" هذا "إلى تسويته تعالى محلا بآخر على ما ذكر" آنفا من "أنهما" أي المحلين هما "المراد بهما" أي الفرع والأصل "ويقرب منه" أي من هذا التعريف أنه ظاهر في أن القياس فعل المجتهد ويمكن رده إلى فعله تعالى على وجه سائغ "قول أبي منصور" الماتريدي "إبانة مثل حكم أحد المذكورين بمثل علته في الآخر فتصحيحه بإبانة الشارع بخلاف قولهم" أي جمع من الحنفية أنه اختار الإبانة دون غيرها مما يصلح أن يكون جنسا "أنه" أي اختيارها "لإفادة أن القياس مظهر للحكم لا مثبت بل المثبت هو سبحانه" فإنه لا يصح حينئذ حمل الإبانة على إبانة الشارع ثم هذا التعليل غير تام "لأن" الأدلة "السمعية" من الكتاب والسنة "حينئذ" أي حين إذ كان القياس في الحقيقة مظهرا للحكم لا أنه مثبت له "كلها كذلك" أي في الحقيقة مظهرة للحكم لا مثبتة له لأنها "إنما تظهر الثابت من حكمه وهو" المعنى "النفسي ثم عليه" أي هذا التعريف أن يقال "إن إبانته" أي الشارع "الحكم ليس" ذلك "نفس الدليل" الذي هو(5/318)
ص -155-…القياس "بل" ذلك أمر "مرتب على النظر الصحيح فيه" أي في الدليل عادة وكلامنا إنما هو في تعريف نفس الدليل الذي هو القياس.
"ويجب حذف " مثل " في مثل حكم لأن حكم الفرع هو حكم الأصل غير أنه" أي الحكم "نص عليه في محل" وهو الأصل "والقياس يفيد أنه" أي الحكم "في غيره" أي غير ذلك المحل وهو الفرع "أيضا" قال المصنف يعني أن حكم كل من الأصل والفرع واحد له إضافتان إلى الأصل باعتبار تعلقه به وباعتباره يسمى حكم الأصل وإلى الفرع وباعتباره يسمى حكم الفرع فلا يتعدد في ذاته بتعدد المحل أصلا بل هو واحد له تعلق بكثيرين كما أن القدرة شيء واحد متعلق بالمقدورات وبه لا تصير القدرة أشياء متعددة. "وكذا" يجب حذف "مثل في بمثل علته" لأن العلة الباعثة على الحكم في الأصل هي بعينها العلة الباعثة على الحكم في الفرع كما ستعلم "ومبنى هذا الوهم" وهو أنه لا بد من ذكر مثل في كلا هذين على كثير "حتى قال محقق" وهو القاضي عضد الدين في توجيهه "لا بد أن يعلم علة الحكم في الأصل وثبوت مثلها في الفرع إذ ثبوت عينها" في الفرع "لا يتصور لأن المعنى الشخصي لا يقوم بمحلين وبذلك" أي وبالعلم بعلة الحكم في الأصل وثبوت مثلها في الفرع "يحصل ظن مثل الحكم في الفرع" وبيان وهمهم "أن الحكم وهو الخطاب النفسي جزئي حقيقي لأنه" أي الخطاب "وصف متحقق في الخارج قائم به تعالى فهو واحد له متعلقات كثيرة وما ذكر" من أن المعنى الشخصي لا يقوم بمحلين "إنما هو في حقيقة قيام العرض الشخصي بالمحل كالبياض الشخصي القائم بالثوب الشخصي يمتنع أن يقوم بعينه بغيره والكائن هنا مجرد إضافات متعددة لواحد شخصي وكذلك" أي تعدد الإضافات له "لا يمنعه الشخصية فالتحريم المضاف إلى الخمر" هو "بعينه له إضافة أخرى إلى النبيذ ومثله مما لا يحصى كالقدرة الواحدة بالنسبة إلى المقدورات ليست" القدرة "قائمة بها" أي بالمقدورات "بل به تعالى ولها" أي القدرة بالنسبة "إلى كل مقدور(5/319)
إضافة يعتبرها العقل" وكما قال الأشاعرة في صفات الفعل فلم يجعلوا نحو الخالق صفة حقيقية لأنها إضافة تعرض للقدرة بالنسبة إلى المقدور. "وكذا الوصف" المعدى الصالح الذي هو العلة الباعثة واحد في الأصل والفرع ولا يلزم منه قيام شخص بمحلين "إذ ليس" الوصف "المنوط به" الحكم "الوصف الجزئي بل" الوصف المنوط به الحكم هو الوصف "الكلي وهو" أي الوصف الكلي "بعينه ثابت في" كل "المحال" أصلا وفرعا "فمناط حرمة الخمر الإسكار" مطلقا لا إسكار الخمر "لأنه" أي إسكار الخمر "قاصر عليه" أي على الخمر وذكرها إما باعتبار المحل أو كما هو لغة فيها "فتمتنع التعدية" لامتناع تعدية العلة القاصرة كما سيأتي "وهذا" أي كون المناط الوصف الكلي لا أنه جزئي من جزئياته "لأنه" أي الوصف الكلي "المشتمل على المفاسد" أي باعتبار مناسبته للتحريم الذي هو الحكم لاشتماله على المفاسد التي يجب حفظ الإنسان منها "واشتماله" عليه "ليس بقيد كونه إسكار كذا بل" باعتبار أنه "إسكار" مطلق "وهو بعينه ثابت في المحال" كلها كما هو شأن وجود المطلق في الخارج بالنسبة إلى جزئياته الموجودة فيه. "وعلى هذا كلام الناس" قال(5/320)
ص -156-…رحمه الله وهذا تعريض بأن ما ابتدعه هؤلاء خلاف كلام الناس "وإنما يحصل من العلمين" أي العلم بعلة الحكم في الأصل والعلم بثبوتها في الفرع "ظن" للحكم في الفرع "لجواز كون خصوص الأصل شرطا" للحكم فيه "و" خصوص "الفرع مانعا" منه "وأورد على عكس التعريف أمران الأول قياس العكس" وهو إثبات نقيض حكم الشيء في شيء آخر بنقيض علته فإنه قياس والتعريف لا يتناوله لانتفاء المساواة فيه بين الأصل والفرع في الحكم والعلة "فإنه مثبت لنقيض حكم الأصل في الفرع كقول حنفي" لإثبات مطلوبه الذي هو وجوب الصوم في الاعتكاف الواجب كما هو الثابت فيه في ظاهر الرواية من غير خلاف أو في مطلق الاعتكاف ليشتمل الواجب والنفل كما هو رواية الحسن عن أبي حنيفة أو مالكي لإثباته هذا في الاعتكاف الواجب كما هو قول مالك أيضا، بل قول جمهور العلماء كما قال القاضي عياض لا شافعي أو حنبلي لأن جديد الشافعي وظاهر مذهب أحمد عدم اشتراطه في مطلق الاعتكاف "لما وجب الصوم شرطا للاعتكاف بنذره" أي الصوم مع الاعتكاف بأن يقول مثلا نذرت الاعتكاف صائما "وجب" الصوم للاعتكاف "بلا نذر" للصوم معه "كالصلاة لما لم تجب شرطا له" أي للاعتكاف "بالنذر" كأن يقول لله علي أن أعتكف مصليا "لم تجب" في الاعتكاف "بغير نذر ومضمون الشرط في الأصل الصلاة" وهو عدم الوجوب بالنذر. "و" في "الفرع الصوم" وهو الوجوب بالنذر "علة لمضمون الجزاء" وهو وجوب الصوم في الاعتكاف بغير نذره وعدم وجوب الصلاة في الاعتكاف بنذرها "فيهما" أي في الأصل والفرع فإذن أثبتنا وجوب الصوم في الاعتكاف المطلق بعلة وجوبه فيه بنذره وهذا هو الفرع قياسا على إثباتنا عدم وجوب الصلاة في الاعتكاف بلا نذرها بعلة عدم وجوبها فيه بنذرها وهذا هو الأصل فظهر أن هذا القياس مثبت لنقيض حكم الأصل في الفرع بنقيض علة حكم الأصل "أجيب بأن الاسم فيه" أي إطلاق اسم القياس على هذا "مجاز ولذا" أي ولكون إطلاقه عليه مجازا "لزم(5/321)
تقييده" أي إطلاق اسمه عليه بالعكس إذا أريد به "أو" الاسم فيه "حقيقة" ولا نسلم انتفاء المساواة فيه بل نقول "والمساواة" فيه "حاصلة ضمنا" وبيان ذلك من وجهين أحدهما ما أشار إليه بقوله "لأن المراد مساواة الاعتكاف بلا نذر الصوم له" أي للاعتكاف "بنذره" أي الصوم له "في حكم هو اشتراط الصوم بمعنى لا فارق" أي إما بطريق إلغاء الفارق بين الاعتكافين وهو النذر لأن وجوده وعدمه سواء كما في الصلاة فإن وجوده وعدمه سواء فتبقى العلة الاعتكاف من حيث هو وهو قد اقتضى وجوب الصوم في الصورة التي فيها نذره فكذا في الصورة التي ليس فيها نذره وهذا يسمى تنقيح المناط كما سيأتي "أو بالسبر عند قائله" بالموحدة "منهم" أي الحنفية ويأتي الكلام فيه في موضعه إن شاء الله تعالى "أي هي" أي علة وجوب الصوم للاعتكاف في صورة نذره معه. "أما الاعتكاف أو هو" أي الاعتكاف "بنذر الصوم أو غيرهما" أي غير الاعتكاف المجرد عن نذر الصوم معه والاعتكاف المقترن به "والأصل عدمه" أي عدم غيرهما "والنذر ملغي" حال كونه "فارقا" بين الاعتكافين "أو وصفا للسبر" أي لأحد أقسامه "بالصلاة" أي بنذرها فيه مع عدم وجوبها فيه "فهي" أي علة وجوب(5/322)
ص -157-…الصوم في الاعتكاف المقترن بنذره إنما هي "الاعتكاف" فقط فيتلخص أن الاعتكاف بنذر الصوم أصل وبغير نذره فرع، واشتراط الصوم فيهما حكم والاعتكاف علة وأن الصلاة لم تذكر للقياس عليها بل لبيان إلغاء الوصف الفارق للعلة وهو كونها مقترنة بالنذر أو أحد أوصاف السبر فلا تجب مساواة الصوم لها فلا يضر عدمها بينهما لأنها لا تجب إلا في المقيس والمقيس عليه وهي حاصلة إذ الاعتكاف بغير نذر الصوم مساو للاعتكاف بنذره في الحكم وهو وجوب الصوم فيهما وفي العلة وهي الاعتكاف المطلق المشترك بينهما، ثانيهما ما أشار إليه بقوله "أو الصوم" بالجر عطفا على الاعتكاف في قوله لأن المراد مساواة الاعتكاف أي أو لأن المراد مساواة الصوم "مع نذره" في الاعتكاف "بالصلاة بالنذر" أي مع نذرها فيه "في حكم هو عدم إيجاب النذر" لما تعلق به أي كما أن لا تأثير للنذر في وجوبها فيه فكذا لا تأثير للنذر في وجوب الصوم فيه فالأصل الصلاة بالنذر والفرع الصيام به والعلة كونهما عبادتين والحكم في التحقيق عدم تأثير النذر في الوجوب والمقصود إضافة وجوب الصوم إلى نفس الاعتكاف كما أشار إليه بقوله "وهو" أي قياس العكس على هذا الوجه "ملزوم المطلوب وهو" أي المطلوب "أن وجوبه" أي الصوم "بغيره" أي النذر وهو الاعتكاف "والأوجه كونه" أي قياس العكس "ملازمة" شرعية "وقياسا" لبيانها كما ذكر الإمام الرازي وغيره ففيما نحن فيه هكذا "ولو لم يشترط الصوم للاعتكاف" بلا نذر "لم يشترط" الصوم له "بالنذر كالصلاة لم تشترط" للاعتكاف بلا نذر "فلم تشرط" للاعتكاف "به" أي بالنذر. وإنما كان هذا أوجه "لعمومه" أي هذا التوجيه لهذا ولغيره أعني "قول شافعي في تزويجها" أي الحرة العاقلة البالغة "نفسها يثبت الاعتراض" للأولياء "عليها فلا يصح منها كالرجل لما صح منه" تزويج نفسه "لم يثبت" الاعتراض لهم "عليه فمضمون الجزاء في الأصل وهو الرجل علة للحكم مضمون الشرط" بالجر على البدل أو(5/323)
عطف بيان من الحكم حال كونه مضمون الشرط "قلب الأصل" أي عدم ثبوت الاعتراض على الرجل علة لثبوت الاعتراض عليها.
ولما كان هذا مذكورا في نسخ شرح القاضي عضد الدين وكان غير متجه ظاهرا لأنه لا يتأتى فيه ملازمة وقياس لبيانها نبه على التمثيل به على وجه الصحة كما أشار إليه الكرماني بقوله "والوجه قلبه" أي لما لم يثبت الاعتراض عليه صح منه "والمساواة" بين المقيس والمقيس عليه حاصلة "في هذا" القلب "على تقدير مضمون الجزاء المقيس عليه وتقديره في المثال لو صح" منها "لما ثبت الاعتراض" عليها كالرجل لما لم يثبت الاعتراض عليه صح منه "فعدم الاعتراض تساوى به الرجل على التقدير" لصحة نكاحها "والمساواة في التعريف وإن تبادر منه" أي في إطلاقها "ما في نفس الأمر كما تقدم" آنفا "هي أعم مما" أن يكون "على التقدير" أو مطلقا لكن الأبهري دفع ما ذكره الكرماني بأن " لما " تدل على الملازمة بين الشيئين مع وقوع الملزوم ولا دلالة على كون الملزوم علة للازم بل الملزوم فيها كما في سائر أدوات الشرط يجوز أن يكون علة للازم وأن يكون معلولا له وأن يكونا معلولي علة واحدة أو متضايفين وأن علة الحكم في القياس إذا كانت مستنبطة يستدل بثبوت الحكم في الأصل(5/324)
ص -158-…على وجود العلة ويستدل بوجودها في الفرع على حكمه ثم قال وليت شعري كيف يلزم بما صححه ثبوت الملازمة الأولى بالثانية فإنه لا يلزم في العلل الشرعية أن يكون عدمها مستلزما لعدم الحكم لكونها علامات أو بواعث قال المصنف فإن قلت فما جواب الحنفية عن هذه الملازمة. قلت هو أن يقال إن عنيت أن الاعتراض عليها من الأولياء في تزويجها نفسها يثبت مطلقا فهو ممنوع وهو المفيد له وإنما يثبت عندهم عليها إذا زوجت نفسها من غير كفء وحينئذ لا يفيده لأن ذاك لحق الولي في إلزامها إياه بنسبة غير كفء إليه دفعا لضرر العار عن نفسه حتى لو كانت زوجت نفسها من كفء ليس له اعتراض عليها.(5/325)
"الثاني" من الأمرين الموردين على عكس التعريف "قياس الدلالة" وهو "ما" أي القياس الذي "لم تذكر" العلة "فيه بل" ذكر فيه "ما يدل عليها" من وصف ملازم لها "كقول شافعي في المسروق يجب" على السارق "رده" حال كونه "قائما" وإن قطعت اليد فيه "فيجب ضمانه" عليه حال كونه "هالكا" وإن قطعت اليد فيه أيضا "كالمغصوب" فإن الحكم فيه بالإجماع وليس وجوب الرد عليه علة الضمان بل هي اليد العادية وفي الحقيقة قصد الشارع حفظ مال الغير وهما أعني وجوب الرد في المسروق ووجوبه في المغصوب متساويان فيه وإنما خص الشافعي بهذا القول وإن وافقه عليه الحنبلي لأن الحنفي والمالكي لا يقولان بهذا الإطلاق بل لكل منهما تفصيل يعرف في فروعه "وأجيب بأن الاسم فيه" أي قياس الدلالة "مجاز لاستلزام المذكور فيه" أي قياس الدلالة "العلة" فهو من إطلاق اللازم على الملزوم ومن ثمة لا يستعمل إلا مضافا والقياس إذا أطلق إنما يراد به القياس حقيقة وعلى هذا الجواب عول أبو الحسين "ومنهم من رده" أي قياس الدلالة "إلى مسماه" أي قياس العلة "بأنه" أي قياس الدلالة "يتضمن المساواة فيها" لاستلزام الجامع لها، فإذن قياس الدلالة داخل في قياس العلة إذ لا فرق بين وجوب المساواة صريحا أو ضمنا فلا يضر انطباق التعريف عليه "فقياس النبيذ" في وجوب الحد بشربه "على الخمر" في وجوب الحد بشربها "برائحة المشتد" فيهما "يتضمن ثبوت المساواة في الإسكار" الذي هو العلة في هذا الحكم "ولا يخفى أن القياس حينئذ" أي حين كان العلة متضمنة "غير المذكور". "وأركانه" أي أجزاء قياس العلة التي لا تحصل حقيقته إلا بحصولها "للجمهور" أربعة الوصف "الجامع" هذا هو الأول "والأصل" وهذا هو الثاني وهو إما "محل الحكم المشبه به" كما عليه الأكثر من الفقهاء والنظار "أو حكمه" أي حكم المحل المشبه به كما عليه طائفة "أو دليله" أي حكم المحل المشبه به كما عليه المتكلمون "ومبناه" أي هذا الخلاف في أن المراد(5/326)
بالأصل هنا اصطلاحا أحد هذه الأمور "على أن الأصل ما يبتني عليه غيره" ولا خفاء في أن الحكم في الفرع مبني على الحكم في الأصل والحكم في الأصل على دليله الذي أخذ منه وعلى محله فالكل مما يبتني عليه الحكم في الفرع إما ابتداء كابتنائه على الحكم في الأصل أو بواسطة كابتنائه على المأخذ والمحل إذ أصل الأصل أصل فلا بعد في تسمية أحد هذه بالأصل. أما على أن الأصل ما يكون مستغنيا عن غيره بنى عليه أو لا فيختص المحل المشبه به بكونه أصلا لاستغنائه عن الحكم وعن دليله وهو النص(5/327)
ص -159-…أو الإجماع لإمكان تحققه بدونهما وافتقارهما إليه لأن الحكم لا يمكن ثبوته بدون الفعل الموصوف به والفعل لا يمكن تحققه بدون محله والدليل أيضا لا يمكن أن يثبت الحكم بدون المحل ومن هنا قيل كون الأصل المحل أولى لكونه أتم في معنى الأصالة منها لوجود المعنيين فيه وذكر في كشف البزدوي أنه الأشبه "وعليه" أي أن الأصل ما يبتني عليه غيره "قيل" أي قال الإمام الرازي ما معناه "الجامع فرع حكم الأصل أصل حكم الفرع" إذ لا بدع في جواز كون الشيء الواحد أصلا بالنسبة إلى شيء فرعا بالنسبة إلى آخر لأن الأصالة والفرعية من الأمور الإضافية ولا خفاء في أن الوصف الجامع يستنبط من الحكم المشبه به بعد العلم بثبوت الحكم فيه بالنص أو الإجماع وفي المحل المشبه يعلم بثبوته فيه ثبوت الحكم فيه "إلا أنه" أي استنباط الجامع من الحكم "يخص" العلل "المستنبطة" لا المنصوصة وهي قد تكون منصوصة فهو بالنظر إلى الأعم الأغلب ثم في شرح القاضي عضد الدين مشيرا إلى هذا وهذا الصحيح انتهى لأن في ذلك حقيقة الابتناء وفيما عداه لا بد من تجوز وملاحظة واسطة.
"وحكم الأصل" وهذا هو الركن الثالث "والفرع" وهذا هو الركن الرابع "المحل المشبه" على القول بأن الأصل هو المشبه به كما عليه الأكثر "أو حكمه" أي الحكم المشبه على القول بأن الأصل هو حكم المحل المشبه به كما عليه آخرون واختاره الإمام الرازي قيل وكون الفرع هذا أولى لأنه هو المفتقر إلى غيره والمبني عليه لا محله لكن الفقهاء لما سموا المحل المشبه به أصلا لكونه الأولى كما تقدم سمى المحل المشبه فرعا على طريق المناسبة أو من إطلاق اسم الحال على المحل ولم يقل أحد إنه دليل الفرع وكيف ودليله القياس والقياس ليس فرعا لدليل حكم الأصل.(5/328)
ثم شرع في قسيم قول الجمهور وهو "وظاهر قول فخر الإسلام وركنه ما جعل علما على حكم النص" مما اشتمل عليه النص "وجعل الفرع نظيرا له في حكمه بوجوده فيه أنه" أي ركن القياس "العلة الثابتة في المحلين" الأصل والفرع بل هو صريح فيه بأن المراد بما جعل علما أي علامة عليه المعرف لحكم الشرع في المحل ووافق فخر الإسلام على هذا القاضي أبو زيد وشمس الأئمة السرخسي حيث قال: ركن القياس هو الوصف الذي جعل حكما على حكم النص من بين الأوصاف التي يشتمل عليها اسم النص ويكون الفرع به نظيرا للأصل في الحكم الثابت باعتباره في الفرع لأن ركن الشيء ما يقوم به ذلك الشيء وإنما يقوم القياس بهذا الوصف. انتهى وأفصح به صاحب الميزان أيضا فقال ركن القياس هو الوصف الصالح المؤثر في ثبوت الحكم في النص وساقه ثم قال هذا هو الصحيح وهو قول مشايخنا بسمرقند وقال مشايخ العراق الركن هو الوصف الذي جعل علما على ثبوت الحكم في الفرع ويتحصل من هذا أن هؤلاء كلهم على أن ركن القياس هو الوصف على الخلاف المذكور فكان الأولى نسبته إليهم إن لم ينسب إلى الحنفية لا إلى فخر الإسلام لا غير ثم(5/329)
ص -160-…إنما قال علما لأن الموجب في الحقيقة هو الله تعالى. والعلل أمارات على الأحكام لا موجبات ثم الحكم إن كان في المنصوص عليه مضافا إلى النص وفي الفرع إلى العلة كما عليه مشايخ العراق وأبو زيد والسرخسي وفخر الإسلام ومتابعوهم يكون ذلك المعني علما على وجود حكم النص في الفرع وإن كان مضافا إلى العلة في الأصل والفرع كما عليه جمهور الأصوليين ومشايخ سمرقند والشافعي يكون ذلك المعني علما على ثبوت النص فيهما وقوله مما اشتمل عليه النص يعني يشترط أن يكون ذلك المعني الذي جعل علما على حكم النص من الأوصاف التي اشتمل عليها النص إما بصيغته كاشتمال نص الربا على الكيل والجنس أو بغير صيغته كاشتمال نص النهي عن بيع الآبق على العجز عن التسليم لأن ذلك المعني لما كان مستنبطا من النص لا بد من أن يكون ثابتا به صيغة أو ضرورة والضمير في " له " و " حكمه " للنص وفي بوجوده لما والباء للسببية وفي فيه للفرع أي جعل الفرع مماثلا للمنصوص في حكمه من الجواز وغيره بسبب وجود ذلك المعني في الفرع. وقيل هذا احتراز عن العلة القاصرة.(5/330)
"والمراد" بثبوت العلة في المحلين "ثبوتها" فيهما "وهو" أي ثبوتها فيهما "المساواة الجزئية" بينهما فيها "لا" المساواة "الكلية لأنها" أي المساواة الكلية "مفهوم القياس الكلي المحدود" أي من حيث هو "والركن جزؤه" أي القياس "في الوجود وقد يخال" أي يظن أن قول فخر الإسلام هو الوجه "لظهور أن الطرفين شرط النسبة كالأصل والفرع هنا لا أركانها" أي النسبة "فهما" أي الطرفان "خارجان عن ذات النسبة المتحققة خارجا والركنية" إنما تثبت لما يتوقف عليه الشيء "بهذا الاعتبار" أي كون ذلك المتوقف جزء المتوقف في الوجود وهو منتف فيما عدا الوصف الجامع "ثم استمر تمثيلهم" أي الأصوليين "محل الحكم" يعني "الأصل بنحو البر والخمر" في قياس الذرة والنبيذ عليهما في حكمهما "تساهلا تعورف وإلا فليس في التحقيق" محل الحكم الأصل "إلا فعل المكلف" كما يذكر "لا الأعيان" المذكورة "ففي نحو النبيذ الخاص" أي المسكر "محرم كالخمر الأصل شرب الخمر والفرع شرب النبيذ والحكم الحرمة" وفي الذرة بذرة أكثر منها حرام كالبر الأصل بيع البر ببر أكثر منه والفرع بيع الذرة بذرة أكثر منها والحكم الحرمة.
"وحكمه" أي القياس "وهو الأثر الثابت به" أي بالقياس "ظن حكم الأصل في الفرع أيضا" لا مثله كما سلف تحقيقه من حكم الفرع هو حكم الأصل وإنما حصل من العلمين ظن لجواز كون خصوص الأصل شرطا والفرع مانعا "وهو" أي ظن حكم الأصل في الفرع "معنى التعدية والإثبات والحمل" المذكور في تعاريف القياس "فتسميته" أي ظن حكم الأصل في الفرع "تعدية اصطلاح فلا يبالى بإشعاره" أي لفظ التعدية "لغة بانتفائه" أي الحكم "من الأصل" كما أورده صدر الشريعة على من ذكر التعدية. وهذا ما وعد به المصنف في تعريف القياس لصدر الشريعة بقوله وأورد ما سيذكر "وما قيل" أي وما أجاب به صدر الشريعة عن(5/331)
ص -161-…هذا الإيراد من قوله "بل يشعر" لفظ التعدية "ببقائه" أي الحكم "فيه" أي في الأصل "كقولنا للفعل متعد إلى المفعول مع أنه" أي الفعل "ثابت في الفاعل" أيضا "إثبات اللغة بالاصطلاح" وهذا خبر ما قيل وهو غير جائز "مع أنه" أي بقاء المتعدي في المتعدي منه "مما لا يشعر به" لفظ التعدية "بل" إنما يشعر "بانتقاله" أي المتعدى منه "إذ تعدي الشيء إلى آخر انتقاله" أي الشيء "إليه" أي الآخر "برمته" أي جملته "لولا الاصطلاح" لأن التعدي لغة هو التجاوز عن الشيء بمعنى عدم الاقتصار عليه فإنه غير متبادر من موارد الاستعمالات اللغوية مع عدم دلالة قرينة عليه وليس الكلام إلا في المعنى الحقيقي اللغوي له "وتقسيم المحصول القياس إلى قطعي وظني لا يخالفه" أي قولنا، حكم القياس ظن حكم الأصل في الفرع "إذ قطعيته" أي القياس "بقطعية العلة و" بقطع "وجودها" أي العلة "في الفرع ولا يستلزم" كون القياس قطعيا "قطعية حكمه" أي الفرع "لما تقدم" من جواز كون خصوص الأصل شرطا وخصوص الفرع مانعا بل ويجوز أن يكون القياس قطعيا وحكمه المستفاد منه ظنيا ويكون حاصله أنا قطعنا بإلحاق فرع لأصل في حكمه المظنون "غير أن تمثيله" أي المحصول لهذا "بما هو مدلول النص أعني الفحوى" أي فحوى الخطاب كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف فإنه قياس قطعي لأنا نعلم أن العلة هي الأذى ونعلم وجودها في الضرب ولكن الحكم هنا ظني لأن دلالة الألفاظ عنده لا تفيد إلا الظن "مناقضة" لأن كونه من باب القياس كما قدمناه عن الشافعي وآخرين منهم هو في التقسيم الأول للمفرد باعتبار دلالته يقتضي أن اللفظ لم يدل عليه لأن القياس إلحاق مسكوت عنه بملفوظ وقد صرح بأن اللفظ يدل عليه بالالتزام والله سبحانه أعلم.
فصل في الشروط(5/332)
"منها لحكم الأصل أن لا يكون" حكم الأصل "معدولا" به وحذفه مع أن العدول وهو الميل عن الطريق لازم فلا يبنى منه المجهول والمفعول إلا بالباء مسامحة لكثرة استعماله أن لا يكون حكمه مائلا أو كما في التلويح لا يبعد أن يجعل من العدل وهو الضرب فيكون متعديا فلا حاجة إلى تقدير الجار والمجرور والاعتذار عن حذفه أي أن لا يكون حكمه مصروفا "عن سنن القياس" أي طريقة لأنه متى كان عادلا عنه لم يكن القياس عليه علة لعدم حصول المقصود به فإن المقصود من حكم الأصل إثبات ذلك الحكم في الفرع بالقياس على الأصل ومتى كان ثبوته على خلاف القياس كان القياس ردا لذلك الحكم ودفعا له فلم يمكن إثباته به إذ لا يمكن إثبات الشيء بما يقتضي عدم ثبوته وحكم الأصل الجاري على سنن القياس "أن يعقل معناه" أي حكم الأصل "ويوجد" معناه "في آخر فما لم يعقل" معناه "كأعداد الركعات" في الصلوات من المكتوبات والواجبات والمندوبات "والأطوفة" أي وكأعداد الأشواط وهي سبعة في أصناف الأطوفة المشروعات "ومقادير الزكاة" من ربع العشر في النقدين وغيره في غيرهما من أنواع الأموال كما هو مسطور في الكتب الفقهيات "وبعض ما خص بحكمه" أي ما يكون حكم الأصل مخصوصا به "كالأعرابي بإطعام كفارته أهله" وهو(5/333)
ص -162-…إشارة إلى ما عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: هلكت يا رسول الله قال "وما أهلكك" قال: وقعت على أهلي في رمضان فقال "هل تجد ما تعتق رقبة" قال لا قال "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين" قال لا قال "فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا" قال لا ثم جلس فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال "تصدق بهذا" فقال أعلى أفقر منا فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال "اذهب فأطعمه أهلك" رواه الستة واللفظ لمسلم وفي رواية لأبي داود "كله أنت وأهل بيتك وصم يوما واستغفر الله". لكن هذا بناء على أن هذه الكفارة لا تسقط بالعسرة المقارنة لوجوبها كما هو قول جمهور العلماء إذ لا دليل على ذلك وإن كان هو ظاهر مذهب أحمد وأحد قولي الشافعي وجزم به عيسى بن دينار من المالكية وأن تناوله وعياله من التمر المذكور كان بعد تعينه للكفارة وأنها سقطت عنه بذلك والأول ظاهر السياق ويؤيده ما في رواية منصور عند البخاري أطعم هذا عنك وابن إسحاق عند البزار "فتصدق به عن نفسك" والثاني احتمال يؤيده ما روى الدارقطني عن علي رضي الله عنه عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجل "انطلق فكله أنت وعيالك فقد كفر الله عنك" لولا أنه ضعيف وقد أسند أبو داود الجزم به إلى الزهري فقال زاد الزهري وإنما كان هذا رخصة له خاصة ولو أن رجلا فعل ذلك اليوم لم يكن له بد من التكفير قال شيخنا المصنف رحمه الله وجمهور العلماء على قول الزهري وقال الإمام المنذري قول الزهري دعوى لا دليل عليها انتهى والأظهر إن شاء الله تعالى أنه لما قال له صلى الله عليه وسلم تصدق بهذا لم يقبضه بل اعتذر بأنه أحوج إليه من غيره فأذن له حينئذ في أكله منه وإطعامه أهله فكان تمليكا مطلقا بالنسبة إليه وإلى أهله وكان أخذه له أخذا بصفة الفقر المشروحة لا أنه ملكه ملكا مشروطا بصفة هي إخراجه عنه في(5/334)
كفارته فيبتني على الخلاف المشهور في التمليك المقيد بشرط ولا أن فيه إسقاط الكفارة ولا أكل المرء ومن لزمه نفقتهم من كفارة نفسه. وعلى هذا مشى الحافظ رحمه الله ثم الرجل المذكور ذكر عبد الغني وابن بشكوال أنه سلمان أو سلمة بن صخر البياضي واستندا في ذلك إلى ما ناقشهما فيه شيخنا الحافظ وذكر أنه لم يقف على تسميته.
"أو عقل" معناه "ولم يتعد" حكمه إلى غيره وإن كان غيره أعلى رتبة منه في ذلك المعنى "كشهادة خزيمة نص على الاكتفاء بها" فروى الطبراني وابن خزيمة بسند رجاله موثقون عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى فرسا من سواء بن الحارث المحاربي فجحده فشهده له خزيمة بن ثابت فقال له "ما حملك على هذا ولم تكن حاضرا معنا" فقال صدقتك بما جئت به وعلمت أنك لا تقول إلا حقا فقال النبي صلى الله عليه وسلم "من شهد له خزيمة أو شهد عليه فحسبه" وفي تفسير سورة الأحزاب من صحيح البخاري عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه في حديث وجدتهما مع خزيمة الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين "وليس" النص على الاكتفاء بشهادته "مفيد الاختصاص" أي اختصاصه بهذه الخصوصية "بل" مفيد اختصاصه بها "المجموع منه" أي(5/335)
ص -163-…النص على الاكتفاء بشهادته "ومن دليل منع تعليله" أي النص على ذلك "وهو" أي دليل منع تعليله "تكريمه" أي خزيمة "لاختصاصه" أي خزيمة "بفهم حل الشهادة له صلى الله عليه وسلم" عن أخباره صلى الله عليه وسلم من بين الحاضرين بناء على أن إخباره بذلك في إفادة العلم بمنزلة العيان وكيف لا والشرع قد جعل التسامع في بعض الأحكام بمنزلة العيان فقول الرسول بذلك أولى "فلا يبطل" اختصاصه "بالتعليل" أي فلم يجز تعليله أصلا حتى لا يثبت هذا في شهادة غيره ممن هو مثله أو دونه أو فوقه في الفضيلة لأن التعليل يبطله "فقول فخر الإسلام" إن الله شرط العدد في عامة الشهادات وثبت بالنص قبول شهادة خزيمة وحده لكنه "ثبت كرامة" له "فلا يبطل بالتعليل" ولفظه فلم يصح إبطاله بالتعليل "في غير موضعه" قال المصنف لأن التعليل لا يبطل كونه كرامة حتى يمتنع بل يعديها إلى غيره فإنما يبطل اختصاصه بهذه الكرامة فالوجه أن يقال ثبت كرامة خص بها فلا يبطل بالتعليل ودليل اختصاصه بها كونها وقعت في مقابلة اختصاصه بالفهم. "والنسبة" أي نسبة الاختصاص "إلى المجموع" من دليل الاكتفاء بها وهو النص السابق ومن دليل منع التعليل فليلحق غيره به "لأنه" أي الاختصاص "بالإثبات" أي إثبات الاكتفاء بشهادته "وهو" أي إثباته والمراد دليل إثباته "نص الاكتفاء به" شاهدا "والنفي" أي وبنفي الاكتفاء "عن غيره وهو" أي النفي عن غيره "بمانع الإلحاق" لغيره به وهو اختصاصه بهذه الكرامة لاختصاصه بالفهم المذكور "فمجرد خروجه" أي هذا الحكم المخصوص به خزيمة وهو الاكتفاء بشهادته وحده "عن قاعدة" عامة وهي اشتراط العدد في جميع الشهادات المطلقة "لا يوجبه" أي اختصاصه به "كما ظن" وهو ظاهر كلام الآمدي وابن الحاجب إلا أنهما جعلاه من قبيل ما لا يعقل معناه وقد عرفت أنه ليس كذلك وإنما لا يوجبه "لجواز الإلحاق بالمخصص" على صيغة اسم المفعول "بجواز تعليل دليل التخصيص" وشموله لغير المخصص(5/336)
أيضا. "ومثله" أي الاكتفاء بشهادة خزيمة وحده في كونه عقل ولم يتعد إلى غيره "قصر المسافر" السفر الشرعي الرباعية من المكتوبات "امتنع تعليله" أي قصرها "بما يعديه" أي قصرها إلى غير المسافر "لأنها" أي العلة للقصر "في الحقيقة المشقة" لأنها المعنى المناسب للرخصة به وبأمثاله من الرخص الثابتة للمسافر "وامتنع اعتبارها" أي المشقة نفسها "لتفاوتها وعدم ضبط مرتبة" معينة منها "تعتبر مناطا" للقصر "فتعينت" العلة لذلك "مشقة السفر فجعلت" العلة "السفر" لكونه مظنتها "فامتنع" قصرها "في غيره" أي السفر "والسلم" أي ومثل الاكتفاء بشهادة خزيمة في كونه عقل ولم يتعد إلى غيره "بيع ما ليس في الملك" أي بيع آجل بعاجل بشرائط مخصوصة شرع "لمصلحة المفاليس" ومن ثمة سمي بيع المفاليس "ينتفعون بالثمن عاجلا ويحصلون البدل آجلا على ما تشهد به الآثار" إذا لجواز مختص بالسلم من بين سائر ما ليس في الملك إذ القاعدة الشرعية أن جواز البيع يقتضي محلا مملوكا للبائع أو ذا ولاية له عليه موجودا مقدور التسليم حال العقد حسا وشرعا، حتى لو باع مسلم ما لا يملك ولا ولاية له عليه ثم ملكه وسلمه أو الآبق لغير من هو في يده أو الخمر لا يجوز لعدم الملك والولاية في الأول وعدم القدرة على التسليم في الثاني حسا وشرعا وشرعا في(5/337)
ص -164-…الأخير. وهذه القاعدة ثابتة بالنصوص الدالة على عدم جواز بيع ما ليس في ملك الإنسان ولا ولاية له عليه لما في السنن الأربع عنه صلى الله عليه وسلم "ولا تبع ما ليس عندك" قال الترمذي حسن صحيح. وقال الحاكم صحيح على شرط جملة من أئمة المسلمين والمراد به ما ليس بمملوك ولا ولاية له عليه للإجماع على أنه لو باع ما عنده وهو غير مالك له ولا ولاية له على بيعه لا يجوز وعلى أنه لو باع ما في ملكه وليس بحضرته وماله ولاية على بيعه بوكالة أو وصاية يجوز ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن شراء العبد وهو آبق. كما رواه ابن ماجه ولقوله صلى الله عليه وسلم "إن الله حرم الخمر وثمنها" كما رواه أبو داود بإسناد حسن "وإن الله لعن الخمر وبائعها ومبتاعها" كما رواه أحمد بإسناد صحيح إلى غير ذلك. لكنه رخص في السلم كما يعلم قريبا "غير أنه اختلف في جوازه حالا فلما كان حاصله" أي السلم "تخصيصا عند الشافعي" لعموم النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان "علله" أي الشافعي "بدفع الحرج بإحضار السلعة محل البيع ونحوه" أي نحو محله لأن دليل التخصيص يعلل وهذه العلة تشمل الحال كالمؤجل فيجوز الحال كالمؤجل "ووقع للحنفية أنه" أي هذا التعليل واقع "في مقابلة النص القائل "من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" رواه الستة فقد "أوجب فيه" أي في السلم "الأجل فالتعليل لتجويزه" أي الحال "مبطل له" أي النص الموجب له والتعليل المبطل للنص باطل فقالوا هم ومالك وأحمد لا يجوز حالا "ومنه" أي كون الأصل مخصوصا بحكمه بالنص فلا يجوز إبطاله بالتعليل "على ظن الشافعية النكاح بلفظ الهبة خص به صلى الله عليه وسلم بخالصة لك فلا يقاس عليه" أي على النبي صلى الله عليه وسلم "غيره" في انعقاد نكاحه به لما فيه من إبطال الخصوصية الثابتة له كرامة. "والحنفية" على انعقاد النكاح به لكل أحد ويقولون قوله تعالى: {خَالِصَةً} "يرجع إلى نفي المهر ومن تأمل(5/338)
{أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا} لك حتى فهم الطباق" بين القسمين "فهم أحللنا لك بمهر وبلا مهر" فكان الحاصل أحللنا لك الأزواج المؤتى مهورهن والتي وهبت نفسها لك فلم تأخذ مهرا خالصة هذه الخصلة لك من دون المؤمنين أما هم فقد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم من المهر وغيره "وتعليل الاختصاص بنفي الحرج ينادي به" أي برجوعه إلى نفي المهر أيضا "إذ هو" أي الحرج "في لزوم المال لا في ترك لفظ إلى آخر بالنسبة إلى أقدر الخلق على التعبير" عن مراده صلى الله عليه وسلم لأنه أفصح العرب والعجم. "ومنه" أي ومن كون الأصل مخصوصا بحكمه بالنص فلا يجوز إبطاله بالتعليل "ما عقل" معناه "على خلاف مقتضى مقتضى شرعي كبقاء صوم" الصائم "الناسي" أو الآكل أو الشارب في النهار نسيانا بما سيأتي من النص "مع عدم الركن" وهو الكف عن المفطرات أو بقاء الصوم مع عدم ركنه "معدول عن مقتضى عدم الركن" لأن مقتضى عدم ركن الصوم عدم بقاء الصوم لأن الشيء لا يبقى مع عدم ركنه ووجود ما يضاده في محله سواء وجد المضاد ناسيا أو عامد لأن النسيان لا يعدم الفعل الموجود ولا يوجد الفعل المعدوم بدليل أن من ترك ركنا من الصلاة ناسيا فسدت صلاته كما لو تركه عامدا فثبت أن النسيان لا أثر له في إعدام الموجود. "فإن قيل لما علل دليل(5/339)
ص -165-…التخصيص" في المواقع ناسيا "لزم مجيزي تخصيص العلة من الحنفية تعليله" أي دليل التخصيص "لإلحاق" الصائم "المخطئ" أي المفطر خطأ كأن تمضمض فسبقه الماء إلى جوفه "والمكره" على الإفطار الإكراه الشرعي "والمصبوب في حلقه" ماء أو غيره وهو نائم فوصل إلى جوفه بالناسي في بقاء الصوم "بعدم قصد الجناية" على صومه فإنه يجمعهم "كالشافعي لكنهم" أي الحنفية "اتفقوا على نفيه" أي التعليل المذكور لإلحاقهم بالناسي "فالجواب أن ظنهم" أي الحنفية "أنه" أي التخصيص للناسي ثابت "بعلة منصوصة هي قطع نسبة الفعل" المفطر "عن المكلف مع النسيان وعدم المذكر" له بالصوم إذ لا هيئة له مخالفة للهيئة العادية للمكلف بنسبة ذاك "إليه تعالى بقوله: "تم على صومك فإنما أطعمك الله وسقاك" هذا لفظ الهداية وأقرب لفظ إليه وقفت عليه ما في صحيح ابن حبان وسنن الدارقطني عن أبي هريرة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني كنت صائما فأكلت وشربت ناسيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أتم صومك فإن الله أطعمك وسقاك" زاد الدارقطني "ولا قضاء عليك" "لأنه" أي قطع نسبة الفعل إلى المكلف "فائدته" أي قوله تم على صومك إلخ "وإلا فمعلوم أنه المطعم مطلقا" أي سواء طعم عمدا أو نسيانا. وكيف لا وفي صحيح مسلم "يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته" "وقطعه" أي وقطع الشارع نسبة الفعل إلى المكلف "معه" أي النسيان "وهو" أي النسيان "جبلي لا يستطاع الاحتراس عنه بلا مذكر" وهو من قبل من له الحق بلا اختيار من المكلف غالب الوجود وخبر قطعه "لا يستلزمه" أي قطعه نسبة الفعل إلى المكلف "فيما هو دونه" أي النسيان "مع مذكر كالصلاة" فإنها تخالف الهيئة العادية للمكلف "ففسدت بفعل مفسد ساهيا وما يمكن الاحتراس" أولا يستلزم قطعه نسبة الفعل إليه فيما يمكن الاحتراس عنه "كالخطأ" لأنه لا يغلب وجوده ولا يلزم من كونه عذرا فيما كثر وجوده مثله فيما لم يكثر ولأن في الوصول إلى الجوف(5/340)
مع التذكر للصوم فيه ليس إلا من تقصير في الاحتراس فيناسب الفساد إذ فيه نوع إضافة إليه "ولذا" أي كون الخطأ مما يمكن الاحتراس عنه "ثبت عدم اعتباره" في الشرع مسقطا للمجازاة بالكلية "في خطأ القتل فأوجب" الشارع به "الدية" بدل المحل "حقا للعبد مع تحقق ما عينه" الشافعي من عدم القصد إلى الجناية "فيه" أي في النسيان في القتل الخطأ أيضا. "و" أوجب "الكفارة" فيه أيضا "لتقصيره" فلم يسقط بالخطأ فيه إلا الإثم فكذا في الصوم لا يسقط بالخطأ فيه إلا الإثم ثم يجبر بالقضاء "والمكره أمكنه الالتجاء والهرب ولو عجز" عنهما "وانقطعت النسبة" لفعله عنه "صارت إلى غيره تعالى أعني المكره كفعل الصب" في حلق النائم "نسب إلى العبد لا إليه تعالى حتى أثمه" أي أثم الله تعالى الصاب "فانتفت العلة" المعلل بها دليل التخصيص في المكره والمصبوب في حلقه فلا يلحقان بالناسي في بقاء الصوم ولا يقال الوقاع ناسيا لا يفسد الصوم قياسا على الأكل ناسيا وهذا يفيد أنه لا يصح قياسه عليه لأنا نقول لم يثبت ذلك بالقياس بل بدلالة النص للعلم بتساوي الكل من الأكل والشرب والوقاع في أن ركن الصوم إنما يتحقق بالكف عنها وإن تساوي المتساويات إذا ثبت لأحدها حكم يثبت ذلك الحكم للباقي ضرورة المساواة وإلا لم تكن(5/341)
ص -166-…متساوية مع كونها متساوية فكان النص الوارد في الأكل والشرب واردا فيه وبقاء صوم الناسي في الأكل إنما كان باعتبار أنه غير جان على الصوم لا باعتبار خصوصية الأكل وهذا بعينه ثابت في الوقاع.
"ومنه" أي كون الأصل مخصوصا بحكمه بالنص فلا يجوز إبطاله بالتعليل "تقوم المنافع في الإجارة" فإنه ثبت لها في الإجارة بالنصوص على سبيل الخصوص أن تقومها "يمنعه القياس على الحشيش والصيد هكذا لم تحرز" المنافع "فلا مالية فلا تقوم كالصيد قبل الإحراز. أما الأول" أي أنها لم تحرز "فلأنها" أي المنافع "أعراض متصرمة" أي متى وجدت تلاشت واضمحلت "فلو قلنا ببقاء شخص العرض لم يكن منه" أي مما يجوز لأنها ليست من أشخاص الأعراض ولو قلنا بعدم بقاء شخص العرض لم تكن محرزة بطريق أولى "ثم المالية بالإحراز، والتقوم بالمالية فلا يلحق به" أي بتقويم المنافع في الإجارة "غصبها" أي إتلاف المنافع أو تعطيلها في الغصب "إذ لا جامع معتبر" بينهما في ذلك "لتفاوت الحاجة" التي كانت المنافع بسببها متقومة "وعدم ضبط مرتبة" معينة منها يناط التقويم بها "كمشقة السفر فنيط" أي علق التقوم "بعقد الإجارة" لأنه مظنتها كالسفر فإن قيل عدم تقومها في الغصب يفتح باب العدوان لعلم المعتدين حينئذ بعدم الضمان فالجواب لا مانع لهم ومن ذلك كما أشار إليه بقوله "والحاجة لدفع العدوان تدفع بالتعزير" ولا يقال لا نسلم أنها غير محرزة إذ هي محرزة بإحراز المحل القائمة به لأنا نقول المراد بنفي إحرازها نفي الإحراز القصدي "وإحرازها بالمحل ضمن غير مضمن كالحشيش النابت في أرضه" فإنه محرز تبعا لأرضه ولا ضمان على متلفه "ولو سلم" أن الإحراز الضمني كالحقيقي في تضمين المالية "ففحش تفاوت المالية يمنع ضمان العدوان المبني على" اشتراط "المماثلة" بقوله تعالى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}(5/342)
[الشورى: 40] لانتفائها بين المضمون والمضمون به حينئذ فإن قيل فيلزم على هذا أن يضمن ما يتسارع إليه الفساد من فاكهة أو غيرها بالنقد إذ لا مماثلة بينهما من حيث البقاء والإجماع على خلافه قلنا لا فإن الشرط في المماثلة المشروطة بين المضمون والمضمون به المساواة في المالية وقد عرفت انتفاءها بين المنافع والأعيان "بخلاف الفاكهة مع النقد" فإنها متحققة بينهما "لاتصافها بالاستقلال بالوجود والبقاء" وإنما التفاوت بينهما في قدر البقاء "والتفاوت في قدره لا يعتبر" لأن قدره غير مضبوط فإن الدراهم تبقى ما لا يبقى غيرها من الثياب وغيرها فأدير الحكم على نفس البقاء دفعا للحرج. "وسره" أي عدم اعتبار المساواة في البقاء "أن اعتبار المساواة لإيجاب البدل إنما هو حال الوجوب" للبدل "لأنه" أي حال الوجوب "حال إقامة أحدهما مقام الآخر والتساوي" بينهما "فيه" أي في حال الوجوب "إذ ذاك" أي حال الوجوب "ثابت ومنه" أي كون الأصل مخصوصا بحكمه بالنص فلا يبطل بالتعليل "حل متروك التسمية ناسيا" فإنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم "المسلم يكفيه اسمه فإن نسي أن يسمي حين يذبح فليسم وليذكر الله ثم ليأكل " رواه الدارقطني والبيهقي إلى غير ذلك "على خلاف القياس على ترك شرط الصلاة" من طهارة أو غيرها(5/343)
ص -167-…"ناسيا لا تصح" الصلاة معه "حتى وجبت" إعادتها على الوجه المشروع "إذا ذكر" ما تركه من شرطه ناسيا والتسمية في حل الذبيحة شرط بالكتاب "فلا يلحق به" أي بنسيان التسمية في الحل "العمد" في الحل أيضا "لعدم المشترك" بينهما لأن الناسي معذور غير معرض عن ذكر الله والعامد جان معرض عنه "ولأنه" لو ألحق العامد به "لم يبق تحت العام شيء" من أفراده أعني قوله تعالى: "{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] فينسخ" نص القرآن "بالقياس" وهو غير جائز "وفيه" أي هذا الدليل "نظر يأتي" في الكلام في فساد الاعتبار. "ومنها" أي الشروط بحكم الأصل "أن يكون" حكم الأصل "شرعيا فلا قياس في اللغة وتقدم" أنه المختار في المبادئ اللغوية "ولا في العقليات خلافا لأكثر المتكلمين" فإنهم جوزوه فيها إذا تحقق جامع عقلي إما بالعلة أو الحد أو الشرط أو الدليل وفي المحصول ومنه نوع يسمى إلحاق الشاهد بالغائب بجامع من الأربعة فالجمع بالعلة وهو أقوى الوجوه كقول أصحابنا العالمية في الشاهد أي المخلوقات معللة بالعلم فكذا في الغائب وإنما لم يجز في القياس عند الجمهور "لعدم إمكان إثبات المناط فلو أثبت حرارة حلو قياسا على العسل لا تثبت عليه الحلاوة" للحرارة "إلا إن استقرئ" أي تتبع كل حلو فوجد حارا "فتثبت" عليه الحلاوة للحرارة حينئذ "فيه" أي في ذلك الحلو "به" أي بالاستقراء "لا بالقياس فلا أصل ولا فرع وعنه" أي ثبوت حكم الفرع بالقياس "اشترط عدم شمول دليل حكم الأصل الفرع" خلافا لمشايخ سمرقند وموافقيهم كما يذكر المصنف في شروط الفرع.(5/344)
"وبهذا" أي اشتراط أن لا يكون دليل حكم الأصل شاملا للفرع "بطل قياسهم" أي المتكلمين "الغائب على الشاهد في أنه عالم بعلم" خلافا للمعتزلة "مع فحش العبارة" حيث أطلق الغائب عليه سبحانه وأنى لهم هذا الإطلاق والله تعالى لا يعزب عنه شيء في السموات ولا في الأرض وإنما بطل قياسهم "لأن ثبوته" أي العالم بالعلم "فيهما" أي في حق الله وحق من سواه "باللفظ لغة وهو أن العالم من قام به" العلم "وثمرته" أي كون حكم الأصل شرعيا يظهر "في قياس النفي لو كان" النفي "أصليا في الأصل امتنع" القياس عليه "لعدم مناطه" أي النفي الأصلي فهو لا يكون علة "بخلافه" أي النفي إذا كان "شرعيا يصح" القياس عليه "بوجوده" أي وجود مناطه فيه فهو قد يكون علة قال المصنف ثم قوله "وهو" أي المناط إذا كان عدما شرعيا "علامة شرعية" إشارة إلى أن علة العدم لا تكون مما نحن فيه من علل الأحكام لما سنذكر من أنها وصف ظاهر ضابط لمصلحة أو دفع مفسدة بل إنما يكون مجرد علامة وضعها الشارع على النفي وهذا على مذهب الحنفية لا يقاس لإثبات عدم لما سيأتي إن شاء الله تعالى.
"ومنها" أي من شروط حكم الأصل "أن لا يكون" حكم الأصل "منسوخا للعلم بعدم اعتبار" الوصف "الجامع" فيه للشارع لزوال الحكم مع ثبوت الوصف فيه فلا يتعدى الحكم به إذا لم يبق الاستلزام الذي كان دليلا للثبوت.(5/345)
ص -168-…"ومنها" أي من شروط حكم الأصل "أن لا يثبت" حكم الأصل "بالقياس بل" يثبت "بنص أو إجماع" كما هو معزو إلى الكرخي وجمهور الشافعية ونص في البديع على أنه المختار "وهذا" معنى "ما يقال أن لا يكون" حكم الأصل "فرعا لاستلزامه" أي كون حكم الأصل فرعا "قياسين" الأول الذي أصله فرع للقياس الثاني، والثاني "فالجامع إن اتحد فيهما" أي القياسين "كالذرة على السمسم بعلة الكيل ثم هو" أي السمسم "على البر" بعلة الكيل "فلا فائدة في الوسط" الذي هو السمسم "لإمكانه" أي قياس الذرة "على البر وإنما هي" أي هذه المناقشة "مشاححة" والوجه مشاحة "لفظية أو اختلف" الجامع فيهما "كقياس الجذام على الرتق" وهو التحام محل الجماع باللحم "في أنه" أي الرتق "يفسخ به النكاح" بأن يقال يفسخ النكاح بالجذام كما يفسخ بالرتق "بجامع أنه" أي الجامع "عيب يفسخ به البيع" فكذا النكاح كالرتق فإنه عيب يفسخ به النكاح كما يفسخ به البيع "فيمنع" الخصم "فسخ النكاح بالرتق فيعلله" أي المستدل بفسخ النكاح بالرتق "بأنه" أي الرتق "مفوت للاستمتاع كالجب" أي قطع الذكر "وهذه" العلة وهي فوات الاستمتاع "ليست في الفرع المقصود بالإثبات" وهو الجذام فإن الاستمتاع فيه غير فائت "ما نقل" في أصول ابن الحاجب والبديع وغيرهما "عن الحنابلة وأبي عبد الله البصري من تجويزه" أي القياس مع اختلاف الجامع "لتجويز أن يثبت" الحكم "في الفرع بما لم يثبت في الأصل" به "كالنص والإجماع" أي كما جاز أن يثبت في الأصل بدليل وهو النص أو الإجماع وفي الفرع بآخر وهو القياس جاز أن يثبت في الأصل بعلة وفي الفرع بأخرى "يبعد صدوره ممن عقل القياس فإن ذاك" أي ثبوت حكم الأصل بدليل غير الدليل الذي به ثبوت حكم الفرع "في أصل ليس فرع قياس" ولا محذور في ذلك والكلام هنا إنما هو في أصل هو فرع قياس وفي تجويزه فيه انتفاء القياس لامتناع التعدية بواسطة لزوم عدم المساواة في العلة له. "هذا" المذكور "إذا(5/346)
كان الأصل فرعا يوافقه المستدل لا المعترض فلو" كان "قلبه" بأن كان الأصل فرعا يخالفه المستدل ويوافقه المعترض "فلا يعلم فيه إلا عدم الجواز كشافعي" أي كقوله "في نفي قتل المسلم بالذمي" قصاصا: قتل المسلم له قتل "تمكنت فيه شبهة" وهي عدم التكافؤ في الشرف "فلا يقتل" المسلم "به" أي بالذمي "كما" لا يقتل القاتل "بالمثقل" لتمكن شبهة العمدية والشبه دارئة للحدود وإنما لم يجز "لاعترافه" أي المستدل "ببطلان دليله ببطلان مقدمته" لأن عنده يثبت القصاص بالمثقل "ولو" كان هذا "في مناظرة فأراد" المستدل الذي هو الشافعي "الإلزام" بهذا للمعترض الذي هو الحنفي إذ لو التزمه لزم المقصود وإلا لكان مناقضا في مذهبه لعلمه بالعلة في موضع دون موضع "لم يلزم" المعترض "لجواز قوله" أي المعترض "هي" أي العلة في الأصل "عندي غير ما ذكرت" أنت ولا يجب ذكري لها في عرف المناظرة "أو أعترف بخطئي في الأصل" في أحدهما لا على التعيين فلا يضر ذلك في الفرع.
"ومنها" أي شروط حكم الأصل "في كتب الشافعية أن لا يكون" حكم الأصل "ذا قياس مركب" أي ثابتا به "وهو" أي القياس المركب "أن يستغني" المستدل "عن" الدليل على "إثبات(5/347)
ص -169-…حكم الأصل" للأصل "بموافقة الخصم" للمستدل "عليه" أي على ثبوت الحكم المذكور للأصل من غير أن يكون منصوصا أو مجمعا عليه بين الأمة ثم القياس المركب قسمان أشار إلى أحدهما بقوله "مانعا عليه وصف المستدل" أي حال كون الخصم مانعا صلاحية الوصف الذي ادعاه المستدل علة مثيرة للحكم في الأصل لتثبته في محل آخر بواسطة وجود ذلك الوصف في محل آخر كذلك وحال كون الخصم أيضا "معينا" علة "أخرى" كذلك "على أنها" أي العلة التي عينها "إن لم تصح منع" الخصم "حكم الأصل وهذا" أي ممنوع العلة "مركب الأصل لأن الخلاف في علة حكم الأصل يوجب اجتماع قياسيهما" أي المستدل والمعترض "فيه" أي في الأصل لإثبات كل منهما الحكم الذي يقاس على حكم الأصل بقياس فإن وجد الجامع في كلا القياسين كان كلاهما صحيحا وإلا لم يكن ما لم يوجد الجامع فيه صحيحا فيكون معنى تركيب القياس الاجتماع كما أشار إليه بقوله "فكان مركبا وهو" أي هذا التوجيه كما ذكره عضد الدين ومن وافقه "بناء على لزوم فرعية الأصل ولذا" أي لزوم فرعيته "صح منعه" أي المعترض "حكم الأصل بتقدير عدم صحتها" أي علة حكم الأصل "فلو" كان حكم الأصل ثابتا "بنص أو إجماع عنده" أي المعترض "انتفى" منعه حكم الأصل على تقدير عدم صحة ما ادعاه وصفا منوطا به الحكم المذكور وأشار إلى ثانيهما بقوله "أو" حال كون الخصم مانعا "وجودها" أي العلة نفسها في الأصل معينا علة أخرى "وهو" أي وجودها "وصفها فمركب الوصف" لأنه خلاف في نفس الوصف الجامع هل له وجود في الأصل أو لا "أو بأدنى تمييز" أي يفرق بين مركبي الأصل والوصف بمنع العلة في الأول ومنع وجودها في الثاني ومنع وجودها هو منع وصفها بأدنى تمييز.(5/348)
"فإن قلت كيف يصح قوله" أي المعترض "إن لم تصح" العلة "منعت حكم الأصل وظهور عدم الصحة فرع الشروع في الإثبات أو المطالبة به" أي الإثبات "فيعجز" المستدل. "وفيه" أي تصحيح هذا "قلب الوضع" لأنه ينقلب المستدل معترضا والمعترض مستدلا "قلت" لا ضير "لأن الصورة المذكورة للقياس المركب من صور المعارضة في حكم الأصل وفيه" أي تصحيح هذا "ذلك" الانقلاب "فإن جوابها" أي المعارضة "منع المستدل لما عينه" المعترض عليه "فلزمه" أي المستدل "الإثبات" لعلية ما عينه نفسه عليه "وإذا صار" المعترض "مانعه" أي ما أثبته المستدل عليه "لزم المستدل إثباتها" أي بيان اعتبار علته "ووجودها" في الأصل "وينتهض" دليله على المعترض إذا أثبتها ووجودها فيه "إذ ليس ثبوته" أي حكم الأصل "إلا بها" أي بالعلة "للفرعية" للأصل كما هو الفرض "بخلاف ما إذا أثبت" المستدل "الوجود في مركب الوصف فإنه" أي المعترض "معه" أي إثبات المستدل الوجود فيه "يمنع حكم الأصل وهو" أي منعه حكم الأصل "دليل أنه" أي المعترض "مانع صحة ما عينه المستدل فيهما" أي مركبي الأصل والوصف "وإذن فقولهم" أي الأصوليين "للمستدل أن يثبت وجودها" أي العلة في الأصل "بدليله" أي الثبوت "من حس أو عقل أو شرع أو لغة فينتهض" الدليل "عليه" أي المعترض "لأنه معترف بصحة الموجب" أن يكون علة موجبة "ووجوده" أي(5/349)
ص -170-…الموجب في الأصل "إذ قد ثبت بالدليل" فلزمه القول بمقتضاه وهو ترتب الحكم عليه ويظهر أن الوجه الاقتصار على هذا أو حذف قوله لأنه معترف بصحة الموجب ووجوده لأن هذا تعليل لتسليمه واعترافه والفرض منعه حتى احتاج المستدل إلى إقامة الدليل عليه وخبر فقولهم "فيه نظر بل إذا أثبتهما" أي المستدل الوجود والاعتبار انتهض حينئذ "كالأول" أي مركب الأصل "فالأول" أي مثال مركب الأصل "قول شافعي" في كون الحر لا يقتل بعبد قتله المقتول "عبد فلا يقتل به الحر كالمكاتب المقتول عما بقي بكتابته ووارث غير سيده" لا يقتل قاتله الحر به. وإن اجتمع السيد ووارثه على طلب القصاص فيلحق العبد به هنا بجامع الرق "والحنفي يوافقه" أي الشافعي "فيه" أي في حكم الأصل وهو عدم قتل الحر بالمكاتب المذكور ويخالفه في العلة "فيقول العلة" عندي "جهالة المستحق" للقصاص "من السيد والورثة لاختلاف الصحابة في عبديته وحريته" أخرج البيهقي عن الشعبي كان زيد بن ثابت يقول المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ولا يرث ولا يورث وكان علي رضي الله عنه يقول إذا مات المكاتب وترك مالا قسم ما ترك على ما أدى وعلى ما بقي فما أصاب ما أدى فللورثة وما أصاب ما بقي فسلموا إليه وكان عبد الله يقول يؤدي إلى مواليه ما بقي من مكاتبته ولورثته ما بقي وأخرج عبد الرزاق وغيره هذا الذي عن ابن مسعود عن علي أيضا واختلافهم يوجب اشتباه الولي فانتفى القصاص لأنه ينتفي بالشبهة "فإن صحت" علتي "بطل إلحاقك" العبد بالمكاتب في حكمه لعدم المشاركة في العلة "وإلا" أي وإن لم تصح علتي بل صحت علتك وهي العبدية "منعت حكم الأصل فيقتل الحر به" أي بالمكاتب لعدم المانع منه حينئذ فلم ينفك الحنفي في هذه الصورة عن عدم العلة في الفرع على تقدير كونها الجهالة أو منع الحكم في الأصل على تقدير أنها الرق فلا يتم القياس على التقديرين "ولا يتأتى" أي ولا يصح منع حكم الأصل "إلا من مجتهد" لجواز تبدله في نظره(5/350)
"أو من علم عنه" أي المجتهد "مساواتها" أي العلة التي أبداها المعترض لحكم الأصل فينتفي الحكم لانتفائها إما مقلد لم يعلم ذلك فلا لاحتمال أن لا يكون ما عينه هو المأخذ في نظر إمامه وبتقدير أن يكون فلا يلزم من عجز المقلد عن تقريره عجز إمامه لكونه أكمل حالا منه فيجب عليه تصويب إمامه في الأصل وإن لزم تخطئته في الفرع لا بالعكس نعم يمكن أن يقال إن ثبت النقل عن إمامه بأنه لم يقل بهذا الحكم إلا بناء على هذا المدرك كان للمقلد منع الحكم على تقدير ثبوت بطلان المدرك لأن إمامه لا يتصور أن يقول بحكم بلا مدرك ولا يكون هذا تخطئة لإمامه بل تعريضا على قوله إنه لا مدرك له إلا هذا كما في شرح البديع للشيخ سراج الدين الهندي. "والثاني" أي ومثال مركب الوصف قول شافعي في الاستدلال على عدم صحة تعليق الطلاق بما هو سبب ملكه وهو النكاح "في إن تزوجت فلانة فطالق" هذا "تعليق للطلاق قبل النكاح فلا يصح" فلو تزوجها لا تطلق "كقوله" أي القائل "فلانة التي أتزوجها طالق" حيث لا تطلق إذا تزوجها "فيقول" الحنفي "كونه" أي الطلاق "تعليقا" على سبب ملكه "منتف في الأصل" أي فلانة التي أتزوجها "بل" الأصل "تنجيز" للطلاق "فإن صح" كونه تنجيزا "بطل إلحاقك" هذا الفرع بهذا(5/351)
ص -171-…الأصل "وإلا" أي وإن لم يصح كونه تنجيزا بل كان تعليقا "منعت حكم الأصل" وهو عدم الوقوع "فتطلق" فلانة في قوله فلانة التي أتزوجها إذا تزوجها لانتفاء المانع منه "وهذا ما ذكرنا من منعه" أي المعترض "الأمرين" وجود العلة ومنع علية الأصل "ولو كان اختلافهما" أي المستدل والمعترض "فيه" أي في حكم الأصل "ظاهرا من الأول وليس" حكم الأصل "مجمعا" عليه مطلقا ولا بين الخصمين "فحاول" المستدل "إثباته" أي حكم الأصل بنص "ثم" إثبات "عليته" أي ذلك الحكم بمسلك من مسالكها "قيل لا يقبل" كل من هذين الإثباتين لضم نشر الجدال "والأصح يقبل" كل منهما "لأن إثبات حكم الأصل" حينئذ مقدمة "من مقدمات دليله" أي القائس "على إثبات حكم الفرع" لأن ثبوت الحكم للفرع فرع ثبوته للأصل "فلو لم يقبل" كل من هذين الإثباتين بطريقه "لم يقبل مقدمة تقبل المنع" وإن أثبتها المستدل بالدليل بعد منع الخصم إياها لأن غايته أن ينزل منزلة ذلك بالاتفاق أن الكلام على المقدمات التي تقبل المنع بعد أن لا تخرج عن المطلوب مقبول فكذا هذا لأن إثباته لا يخرج عن المطلوب. وكيف لا ولازمه أن لا يقبل إلا البديهيات "وكونه" أي حكم الأصل "يستدعى" من الأدلة والشرائط "كالآخر" أي حكم الفرع لكونه مثله في كونه حكما شرعيا فيطول القال وينتشر الجدال بخلاف مقدمات المناظرة التي تقبل المنع فإنها قد تنتهي سريعا إلى الضروريات "لا أثر له" في الفرق بينهما وهذا تعريض يرد ما في شرح عضد الدين وربما يفرق بأن هذا حكم شرعي مثل الأول يستدعي ما يستدعيه بخلاف المقدمات الأخر "وما قيل هذه اصطلاحات لا يشاح فيها غير لازم لمن لم يلتزمه" وله أن لا يلتزمه وهو ظاهر وكيف لا وهو طريق إلى أنه ينسب إليه الانقطاع مع عدم العجز عن الإثبات وعدم خروجه عن مقتضى منصبه وفي هذا أيضا تعريض بالقاضي عضد الدين حيث قال وبالجملة فهذه اصطلاحات ولكل نظر فيما يصطلح لا يمكن المشاحة فيه انتهى قال الأبهري(5/352)
وأشار هنا بهذا إلى أنه يصطلح على ذلك نظرا إلى أنه حكم شرعي يعد البحث عنه انتقالا كما أن لكل أن يصطلح على أمر نظرا إلى ما يختص به واعتبار له ولما كان هذا جوابا جمليا يصلح في كل ما يصلح عليه قال وبالجملة وإنما قال نظرا لأن الاصطلاح بدون النظر في المناسبة المختصة في قوة الخطأ عند المحصلين "ولم يذكر الحنفية هذا" أي لم يصرحوا بأن لا يكون حكم الأصل ذا قياس مركب شرطا له "لبطلان كونه" أي حكم الأصل أن لا يكون ذا قياس مركب "شرطا لحكم الأصل بل" إنما هو شرط "للانتهاض" للمناظر "على المناظر" في المناظرة "بهذا الطريق من الجدل" فهي مسألة جدلية لا أصولية "وأفادوه" أي الحنفية نفي القول به "باختصار" فقالوا "لا يعلل بوصف مختلف" فيه اختلافا ظاهرا "كقول شافعي في إبطال الكتابة الحالة" ككاتبتك على ألف درهم ولم يذكر أجلا للكتابة "عقد يصح معه التكفير به" أي بالمكاتب "فكان" عقد الحالة "باطلا كالكتابة على الخمر" إذا كان العبد والولي مسلمين أو أحدهما مسلما. "فحكم الأصل" وهو بطلان الكتابة بالخمر في هذا "متفق" عليه "لكن علته" أي علة بطلانه "عند الحنفية كون المال" أي الخمر مالا في الجملة "غير متقوم" بل هي ليست بمال في شرعنا "لا"(5/353)
ص -172-…أن علته "ما ذكر من صحة التكفير به" أي المكاتب "وله" أي للمستدل "إثباته" أي الوصف المختلف فيه "على ما تقدم" آنفا أنه الأصح "ولبعضهم" أي صدر الشريعة هنا عبارة هي "لا يجوز التعليل بعلة اختلف في وجودها في الفرع أو" في "الأصل كقول شافعي في الأخ شخص يصح التكفير بإعتاقه فلا يعتق إذا ملكه كابن العم فإن أراد" الشافعي بقوله يصح التكفير بإعتاقه "عتقه إذا ملكه" أي إذا اشتراه بنية الكفارة "فغير موجود في ابن العم" فإنه إذا اشتراه بنية الكفارة لا يجوز عنها "أو" أراد "إعتاقه بعده" أي يصير ملكه ثم يقع عن كفارته بإعتاق قصدي بعد الملك "فممنوع في الأخ" أي لا نسلم وجود هذا الوصف فيه إذ هو يعتق بمجرد الملك "وذكر" صدر الشريعة "الصورتين" أي إن تزوجت فلانة إلى آخرها وعبد فلا يقتل به الحر إلى آخرها "ثم على ما ذكرنا" من أن الأصح أن للمستدل إثبات علية الوصف في الأصل لحكمه "له" أي للمستدل هنا "إثباتها" أي هذه العلة وهو ظاهر "وليس من الشروط" لحكم الأصل "كونه" أي حكم الأصل "قطعيا بل يكفي ظنه" أي حكم الأصل "فيما يقصد به العمل" وقيد بهذا لأن ما يقصد به الاعتقاد لا يكفي فيه النظر "وكون الظن يضعف بكثرة المقدمات لا يستلزم الاضمحلال" أي بطلان الظن فلا يبقى فائدة للقياس "بل هو" أي كثرة المقدمات المظنونة "انضمام موجب إلى موجب في الشرع" وانضمام موجب إلى موجب يوجب قوة في الموجب. "والخلاف في كونه" أي حكم الأصل "ثابتا بالعلة عند الشافعية" والحنفية السمرقندي "وبالنص عند الحنفية" العراقيين والدبوسي والبزدوي والسرخسي وأتباعهم من المتأخرين خلاف "لفظي فمراد الشافعية أنها" أي العلة "الباعثة عليه" أي شرع الحكم في الأصل "و" مراد "الحنفية أنه" أي النص "المعرف" للعلة الباعثة على شرعية الحكم في الأصل "ولا يتأكد في ذلك" أي كلا المرادين بين الفريقين ذكره الآمدي وابن الحاجب وموافقوهما "وكيف" يصح القول بأنها المثبتة لحكم(5/354)
الأصل "وقد تكون ظنية" بأن يكون دليل العلة إنما يفيد ظنها "وحكم الأصل قطعي" لثبوته بنص أو إجماع قطعي فلو كانت هي المثبتة له كان الظني يوجب القطع وهو لا يوجبه ولكن قال السبكي ونحن معاشر الشافعية لا نفسر العلة بالباعث أبدا أو شدد النكير على من يفسرها وإنما يفسرها بالمعرف وإن ادعى قائل ذلك إليه أنه يجعلها فرعا للأصل أصلا للمفرع خوفا من لزوم الدور فإنها مستنبطة من النص فلو كانت معرفة له وهي إنما عرفت به جاء الدور ونحن نقول ليس معنى كونها إلا أنها تنصب أمارة يستدل بها المجتهد على وجدان الحكم إذا لم يكن عارفا به. ويجوز أن يتخلف في حق العارف كالغيم الرطب أمارة على المطر وقد يتخلف فإذا عرف الناظر مثلا أن الإسكار علة التحريم فهو حيث وجده قضى بالتحريم غاية ما في الباب أن العالم يعرف تحريم الخمر من غير الإسكار لاطلاعه على النص ولكن هذا لا يوجب أن لا يكون الإسكار معرفا بل هو منصوب معرفا فقد يعرف بعض العوام علية الإسكار للتحريم ولا يدري هل الخمر هو المنصوص أو النبيذ أو غيرهما من المسكرات فإذا وجد الخمر قضى فيه بالتحريم مستندا إلى وجدان العلة مستفيدا ذلك منها فوضح بهذا أن العلة قد تعرف حكم الأصل بمجردها(5/355)
ص -173-…وقد تجتمع في التعريف هي والنص على رأي من يجوز اجتماع معرفين وإذا تمهد ذلك علمت أن العلة المعرف في الأصل والفرع جميعا وأن نسبتهما إلى العلة على حد سواء إلا أن بعض الناس سبق لهم معرفة حكم الأصل من غير العلة فلم تعرفهم العلة شيئا ونحن لم نقل المعرف يعرف كل أحد بل إنما يعرف من ليس بعارف لئلا يلزم تحصيل الحاصل وتخلف التعريف بالنسبة إلى العارف لا يخرج الأمارة عن كونها أمارة. وكذلك بعض الناس يعرف حكم الفرع من العلة دون بعض فإن كثيرا من الناس إنما يعرفون حكم الفرع من المفتي وإن لم يعرف العلة أصلا فكم من عامي يعرف من المفتين أن الزبيب ربوي ولا يدري العلة فلاح أن العلة المعرف في الأصل والفرع وليس الدور بلازم ثم كما أن النص عرفنا الحكم النفسي عرفنا أن العلة تعرف الحكم النفسي أيضا. والفرع والأصل جميعا بالنسبة إلى الحكم النفسي سواء وإنما أوجب لأحدهما أن يسمى أصلا وروده على لسان الشرع فإن قلت هل الخلاف لفظي قلت لا بل يترتب عليه فوائد أدناها التعليل بالقاصرة فمنعوه لأن عرفان الحكم في الأصل واقع فلا تجدي هي شيئا ونحن نجوزه ونذكر من فوائدها تعريف الحكم المنصوص أيضا ومنها أنه يشترط أن لا يكون ثبوت العلة متأخرا عن ثبوت حكم الأصل إذ لو تأخر لكان الحكم في الأصل ثابتا بلا مثبت لأن مثبته العلة أو يلزم أن يكون تعبدا ثم انقلب المعنى وهذا لا يضير فإن المعنى كان موجودا وقت ثبوت الحكم فإن صلح أن يتعلق به ثانيا فقد صلح أولا فإن قلت قد يفعل الشارع ذلك ولا حجة عليه قلت إذا فعله كان منصوصا والكلام في المستنبطة والحنفية لا يشترطون ذلك لأن حكم الأصل ثابت عندهم بالنص وهو موجود إن لم توجد العلة انتهى مع بعض اختصار وغالبه لا بأس به ومنه أن من ثمرة الخلاف جواز التعليل بالقاصرة وعدمه كما صرح به صاحب الميزان وغيره وبعضه لا يعرى عن تأمل.(5/356)
"ومن شروط الفرع لبعض المحققين" كابن الحاجب "أن يساوي" الفرع "الأصل فيما علل به حكمه" أي الأصل "من عين" للعلة "كالنبيذ" أي كمساواة النبيذ "للخمر في الشدة المطربة" التي هي عين علة التحريم في الخمر "وهي" الشدة المطربة "بعينها موجودة في النبيذ أو جنس" للعلة "كالأطراف" أي كقياسها "على القتل في القصاص بالجناية" أي بسببها "على الذات" إذ الجناية جنس لإتلاف النفس والأطراف وهما مختلفان بالحقيقة إذ جناية النفس القتل وجناية الأطراف القطع وإنما اشترط تساويهما في العلة لأن القياس لا يتحقق بدونه كما هو ظاهر من تعريفه "وفيما يقصد" أي ومن شروط الفرع أن يساوي حكم الفرع حكم الأصل فيما تقصد المساواة فيه "من عين الحكم كالقتل" أي كقياسه "بالمثقل عليه" أي على القتل بالمحدد في القصاص فإن حقيقة القتل الكائنة في الفرع بعينها هي الكائنة في الأصل "أو جنسه" أي من جنس الحكم "كالولاية" أي كقياس ثبوت الولاية "على الصغيرة في إنكاحها على" ثبوت الولاية عليها في "مالها" فإن ولاية الإنكاح من جنس ولاية المال بسبب نفاد التصرف وليس عينها لاختلاف التصرفين كذا قالوا قال المصنف "ولا معنى للتقسيم" في كل(5/357)
ص -174-…من هذين الشرطين "أما في العلة فلا نعني بالعين إلا ما علل به حكم الأصل وكونه" أي ما علل به "جنسا لشيء لا يوجب أن العلة جنس الوصف فالجناية على الذات عين ما علل به" حكم الأصل "لا جنس ما علل به وإن كان هو" أي الجناية على الذات "جنس جناية القتل. وأما الحكم فليس المعدى قط جنس حكم الأصل بل عينه" أي حكم الأصل "فالمال الأصل والنفس الفرع وحكم الأصل ثبوت الولاية فيعدى" ثبوت الولاية بعينه "إلى النفس وقوله" أي بعض المحققين لعضد الدين "وهي بعينها إلخ يناقض ما قدمه من المثل" أي من أنه لا بد أن يعلم علة الحكم في الأصل وثبوت مثلها في الفرع إذ ثبوت عينها لا يتصور لأن المعنى الشخصي لا يقوم بمحلين كما سلف ذكره ورده في الكلام في تعريف القياس فلعله "رجع إلى الصواب". "وإن لا بتغير فيه" أي ومن شروط حكم الفرع أن لا يتغير في الفرع "حكم نص أو إجماع على حكم الأصل كظهار الذمي" أي كقياسه "على" ظهار "المسلم في الحرمة فإن المعدى غير حكم الأصل" أعني ظهار المسلم "وهي" أي حكم الأصل وأنثه باعتبار الحرمة وهو "الحرمة المتناهية بالكفارة إذ لا عبادة منه" أي من الذمي مطهرة "فالحرمة في الفرع" وهو ظهار الذمي "مؤبدة" لعدم انتهائها بالكفارة لما فيها من معنى العبادة وهو ليس من أهلها فلا يصح قياسه عليه لئلا يلزم التغيير لحكمه المنصوص عليه. فإن قيل فعلى هذا ينبغي أن لا يقاس ظهار العبد على ظهار الحر في الصحة اللازمة الذي هو التعبير لحكمه المنصوص عليه فإن العبد لا يتأتى منه كل من الإعتاق والإطعام كما يتأتى من الحر لأنه فرع الملك ولا ملك له قلنا ممنوع فإن ظهار الذمي إنما لم يصح قياسا على ظهار المسلم لما ذكرنا من أنه ليس بأهل للكفارة فيلزم منه تغيير حكم الأصل المنصوص عليه "بخلاف العبد" فإنه "أهل" للكفارة لا أنه "عاجز" عن التكفير بالمال لانتفاء الملك "كالفقير" أي كالحر العاجز عن ذلك فكما صح ظهار الحر الفقير صح ظهار(5/358)
العبد المسلم حتى لو عتق وأصاب مالا كانت كفارته بالمال أيضا كالفقير الحر إذا استغنى وقوله "أو على غيره" عطف على حكم الأصل أي وأن لا يتغير في الفرع حكم نص أو إجماع على حكم غير حكم الأصل لئلا يلزم إبطال النص بالقياس "فبطل قياس تمليك الطعام على" تمليك "الكسوة" في وجوبه عينا "في الكفارة" لأنه يلزم منه ذلك "فإنه" أي التمكين من الطعام "في الفرع" وهو الطعام "أعم من الإباحة والتمليك" إذ هو جعل الغير طاعما لأنه فعل متعد بنفسه لازمه طعم وذلك يحصل بالتمكين من الطعام على أي وجه كان فجعل تمليك الطعام واجبا عينا تغيير لحكم نص الفرع وهو غير حكم الأصل "والسلم الحال" أي وبطل قياسه "بالمؤجل" في الجواز لأنه يلزم منه تغيير حكم نص على حكم غير حكم الأصل "لأن حكم الأصل وهو السلم المؤجل اشتمل على جعل الأجل خلفا عن ملك المسلم فيه" للمسلم إليه "والقدرة عليه" لأن من شرط جواز البيع كون المبيع موجودا مملوكا للبائع أو متعلق ولايته لبيعه مقدور التسليم فلما رخص الشارع في السلم بصفة الأجل المعلوم علمنا أنه أقام الأجل الذي هو سبب القدرة الحقيقية عليه مقامها وجعله خلفا عنها وفوات الشيء إلى خلف كلا فوات. "وإن" كان المسلم فيه "عنده" أي(5/359)
ص -175-…المسلم إليه وإنما قلنا هذا "بناء على كونه" أي المسلم فيه "مستحقا لحاجة أخرى" فيكون بمنزلة العدم كالماء المستحق للشرب في جواز التيمم "والإقدام" على الإسلام "دليله" أي كونه مستحقا لحاجة أخرى وإلا لباعه في الحال بأوفر ثمن ولم يبعه بجنس من الثمن إلى أجل لأن الرغبات متوفرة في حصول الاسترباح، وكون الإقدام دليله ثابت "بدليل النص على الأجل" أي ما سلف من قوله صلى الله عليه وسلم "إلى أجل معلوم" "وهو" أي جعل الأجل خلفا عن ملك المسلم فيه وعن القدرة عليه "منتف من" السلم "الحال" إذ لا أجل فيه.
بقي أن يقال هذا التقرير يعطي أنه يلزم من هذا القياس تغيير حكم الأصل المنصوص عليه فيه في الفرع لا تغيير حكم نص على غير حكم الأصل فينبغي أن يورد في القسم الأول والجواب أنه يلزم منه أيضا تغيير حكم نص على غير حكم الأصل وهو نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان. لأنه خرج منه السلم المؤجل ولم يبق تحته سوى السلم الحال فلو جاز قياسا على المؤجل لبطل هذا النص لأنه لم يبقى تحته شيء وهو غير جائز ولا يقال بل تحته غيرهما كبيع السمك في الماء والطير في الهواء لأنا نقول هذان وأمثالهما من صور السلم الحال أيضا في المعنى إذ ليس المعنى بالسلم إلا بيع غائب بثمن حاضر والسلم ينعقد بلفظ السلم والسلف والبيع على الصحيح فأورده المصنف في أمثلة هذا القسم نظرا إلى هذا التوجيه وإن كان مما يورد في أمثلة القسم الأول كما فعل غير واحد إعلاما بأنه باطل من وجه آخر غير ما اقتصروا عليه والشيء إذا كان باطلا باعتبارات مستقلة قد يورد في كل من أمثلة اعتبار من تلك الاعتبارات.(5/360)
ثم كما قال المصنف "ولا يخفى أنه" أي شرط أن لا يتغير في الفرع حكم نص إلخ إنما هو "بالذات شرط التعليل لا" شرط "حكم الفرع ويستلزم" انتفاء هذا الشرط للتعليل "التغير في الفرع" فإن قيل جوزتم دفع قيمة الواجب في الزكاة قياسا على العين وصرف الزكاة إلى صنف واحد قياسا على صرفها إلى الكل بعلة دفع حاجة المدفوع إليه. وهذا المعنى موجود في دفع القيم وفي الصرف إلى صنف واحد توجد فيه الحاجة وفي هذا التعليل تغيير لحكم النص الدال على وجوب عين الشاة والنص الدال على كون الزكاة حقا لجميع الأصناف قلنا كون التعليل المذكور مغيرا لحكمي النصين المذكورين ممنوع كما سبق في أواخر التقسيم الثاني للمفرد باعتبار ظهور دلالته كما أشار إليه بقوله "وتقدم دفع النقض بدفع القيم". وكذا تقدم دفع النقض في جواز دفع الزكاة لصنف فليراجع ثمة وأورد ثبت وجوب استعمال الماء لتطهير الثوب من النجاسة بما في الصحيحين جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إحدانا يصيب ثوبها من الحيضة كيف تصنع به فقال "تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه" ولابن أبي شيبة "اقرضيه بالماء واغسليه وصلي فيه" وقد جوزتم إزالتها عن الثوب وما في معناه بكل مائع طاهر قالع مزيل سوى الماء بالتعليل بكونه قالعا مزيلا وفيه تغيير حكم النص في الأصل وأجيب بأن ليس في تجويز إزالتها بالمائع المذكور تغيير حكم النص(5/361)
ص -176-…كما أشار إليه بقوله "وإلحاق غير الماء به" أي الماء في إزالة النجاسة الحقيقة إنما هو "للعلم بأن المقصود" للشارع من الأمر بغسل الثوب به "الإزالة" للنجاسة "لا الاستعمال" للماء من حيث هو "وإن نص" الشارع "على الماء في قوله واغسليه بالماء" وإنما قلنا للعلم بأن المقصود الإزالة "للاكتفاء" أي للإجماع على الاكتفاء عن استعماله "بقطع محلها" أي النجاسة في إسقاط هذا الواجب ولو كان استعماله واجبا لعينه لم يسقط بذلك "فيتعدى" هذا الحكم وهو طهارة الثوب النجس بغسله بالماء المطلق الطاهر "إلى كل مزيل" قالع طاهر بماء كان أو غيره وإنما نص على الماء لأنه الغالب مع ما فيه من اليسر لسهولته وكثرته. فإن قيل فينبغي أن تجوز إزالة الحدث أيضا بالمائع المذكور وإن نص على إزالته بالماء لعين هذا المعنى وليس كذلك إجماعا فالجواب لا لكون إزالته الخبث بالماء معقول المعنى "بخلاف" إزالة "الحدث" به فإنه غير معقول المعنى إذ "ليس" الحدث "أمرا محققا" على الأعضاء "يزال" بالماء "بل" هو "اعتبار" شرعي اعتبر قائما بالأعضاء ثم "وضع الماء لقطعه" بأن تعبده بغسل الأعضاء الثلاثة والمسح برأسه لذلك وإلا فالماء إنما يزيل الأجرام الحسية لا الأمور المعنوية "فاقتصر على ما علم قطع الشارع اعتباره" أي الحدث "عنده" أي استعمال الماء ولا يقال لا يقاس المائع الطاهر القالع على الماء في هذا لأن الطهارة به على خلاف القياس إذ مقتضاه أن يتنجس الماء بملاقاة النجاسة فتخلف النجاسة البلة النجسة. وكذا في المرة الثانية وهلم جرا إلا أن الشارع أسقط هذا لتحقق الإزالة الشرعية لأنا نقول كما قال المصنف "وإذ سقط التنجس بالملاقاة فيه" أي في الماء "لتحقق الإزالة سقط" التنجس بالملاقاة "في غيره" أي الماء من المائعات الطاهرة القالعة "لذلك" أي لتحقق الإزالة فإن الحكم بالتطهير لا يتصور بدونها والاشتراك في العلة يوجب الاشتراك في الحكم "وما يقال" سقط مقتضى(5/362)
القياس المذكور "في الماء للضرورة إن أريد ضرورة الإزالة فكذا" سقط مقتضاه "في غيره" أي الماء ضرورة الإزالة "أو" أريد "أنه لا يزيل سواه" أي الماء حسا "فليس" هذا المراد "واقعا" كما يقطع به الوجدان "أو" أريد أنه "لا يزيل" غير الماء "شرعا فمحل النزاع وأن لا يتقدم" حكم الفرع بالشرعية "على حكم الأصل" أي ومن شروط الفرع هذا "كالوضوء" أي كقياسه "في وجوب النية" فيه "على التيمم" بجامع أن كلا منهما تطهير حكمي لأن الوضوء بالشرعية متقدم على التيمم إذ شرعية الوضوء قبل الهجرة والتيمم بعدها فلم يجز قياس الوضوء في ذلك عليه "لثبوته" أي حكم الفرع الذي هو الوضوء حينئذ "قبل علته" أي قبل ثبوت علته لأنها مستنبطة من حكم الأصل المتأخر عن حكم الفرع فيلزم أن تكون متأخرة عن حكمه بمرتبتين وهو باطل ويلزم أيضا أن يكون حكم الفرع ثابتا قبل العلة وثبوت حكم القياس قبلها باطل لأنه حينئذ يكون ثابتا بدون العلة الجامعة فيكون الثابت بالقياس ثابتا بدونه وهو محال اللهم "إلا" أن يكون "إلزاما بمعنى لا فارق" بين الوضوء والتيمم في أن كلا منهما طهارة حكمية وقد قلتم بوجوب النية في التيمم فكذا في الوضوء فحينئذ يصح قياس الوضوء على التيمم في وجوب النية لكن الشأن في انتفاء الفارق بينهما "وأبدل متأخرو الحنفية هذا" الشرط "بأن يكون" الفرع "نظيره"(5/363)
ص -177-…أي مثل الأصل في الوصف الذي تعلق الحكم به في الأصل بأن يوجد مثل ذلك في الفرع من غير تفاوت لا في كل وصف. وإنما شرط ذلك لأنه لو لم يكن الفرع مثلا له في العلة لما صح تسويته مع الأصل فيه "وليس الوضوء نظيره" أي التيمم "لأنه" أي الوضوء "مطهر في نفسه أي منظف" وفسره به ليتضح أن ليس المراد به المعنى الذي هو محل النزاع فيكون مصادرة على المطلوب بل المعنى المتفق عليه وهو التنظيف من الأخباث والأوساخ "والتيمم ملوث اعتبر مطهرا شرعا عند قصد أداء الصلاة وهو" أي قصد أدائها "النية" الواجبة فيه "فلا يلزم فيما هو مطهر في نفسه منظف قصر طهارته شرعا على ذلك القصد" أي قصد أداء الصلاة حتى لا تستباح به إلا معها "وحاصله" أي منع صحة هذا القياس "فرق" بين المقيس والمقيس عليه "من جهة الآلة التي يقام بها الفعلان" الوضوء والتيمم وهي في الوضوء الماء المطلق الطهور وفي التيمم الصعيد الطاهر "وتجوز بالوضوء في الماء" وبالتيمم في الصعيد تسمية للشيء باسم أثره "كما يفيده" أي كونه قياسا بين الآلتين "التعليل" أي تعليلهم عدم صحة هذا القياس بقولهم الماء مطهر في نفسه والتراب مغبر ونحو ذلك. وتعقبه المصنف بقوله "وأنت تعلم أن التعدية" هنا "لحكم شرعي هو اشتراط النية لثبوت التطهير بالتراب" ثم فسر المراد بالتطهير بالتراب إيضاحا له بقوله "أي رفع المانعية الشرعية" من قربان الصلاة ونحوها القائمة بالأعضاء "لا" أن التعدية هنا "لوصف طبيعي" للمقيس عليه "والماء كالتراب في ذلك" أي رفع المانعية الشرعية المذكورة "وقد شرط الشرع في ذلك" أي رفع المانعية الشرعية "النية" في التراب "فكذا الماء وكونه" أي الماء "له وصف اختص به طبيعي هو إزالة القذر والتنظيف لا دخل له" أي لهذا الوصف "في الحكم" أي رفع المانعية الشرعية "ولا الجامع" بين المقيس والمقيس عليه وهو الطهارة الحكمية.(5/364)
ثم نبه على أن قول الحنفية اعتبر مطهرا شرعا عند قصد أداء الصلاة ليس المراد به القصر على ذلك فإنه اعتبر مطهرا شرعا عندهم عند قصد غيرها من القرب المقصودة لذاتها التي لا تصح إلا بالطهارة فقال "وقولهم عند قصد" أداء "الصلاة تجوز" بالصلاة "عن قربة مقصودة لذاتها" أي مشروعة ابتداء يعقل فيها معنى العبادة "لا تصح إلا بالطهارة" فدخل التيمم لسجدة التلاوة كما هو الصحيح وخرج التيمم لمس المصحف لأنه ليس بعبادة مقصودة لذاتها والتيمم للإسلام والسلام لأن كلا منهما وإن كان عبادة مقصودة لذاتها لكنه يصح بدون الطهارة والشأن في العلاقة المصححة لهذا التجوز "ويمكن دفعه" أي هذا البحث المفضي إلى المثلية بين الماء والتراب في اشتراط النية لاعتبار الشارع كلا منهما رافعا للمانعية الشرعية "يمنع المثلية فيه" أي في رفعها "بل جعل" الماء "مزيلا بنفسه" أي بطبعه "شرعا" للمانعية "كالخبث" أي كإزالته الحسية للخبث عملا "بإطلاق {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [لأنفال: 11]" بخلاف التراب فإنه لم يعتبر رافعا لتلك المانعية شرعا إلا بالقصد إذ طبعه ملوث ومغبر فلا مثلية "وإذن يبطل لا فارق" بينهما هذا وإطلاق منع كون حكم الأصل متأخرا عن حكم الفرع هو المذكور للآمدي وابن الحاجب وقيده الإمام الرازي والبيضاوي بما إذا لم يكن لحكم الفرع دليل سوى(5/365)
ص -178-…القياس لما تقدم أما إذا كان له دليل سواه فإنه لا يشترط تقدم حكم الأصل عليه لأن حكم الفرع قبل حكم الأصل يكون ثابتا بذلك الدليل وبعده يكون ثابتا به وبالقياس وغاية ما يلزم أن يتوارد أدلة على مدلول واحد وهو غير ممتنع كمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم المتأخرة عن المعجزة المقارنة لابتداء الدعوة. قال السبكي وهو ضعيف لأنه خارج عما نحن فيه إذ ليس الفرع حينئذ فرعا للأصل الذي فيه يتكلم وغاية قولنا أنه لا يصح تفرعه عن أصل متأخر وهذا سواء كان له دليل آخر يثبت حكمه أم لم يكن "وأن لا ينص على حكمه" أي الفرع "موافقا" لحكم الأصل أي ومن شروط الفرع هذا أيضا عند عامة أصحابنا منهم الجصاص وأبو زيد وفخر الإسلام وشمس الأئمة وبه قال الغزالي والآمدي "إذ لا حاجة" حينئذ للقياس لثبوت حكم الفرع بما هو أقوى منه "واعترض بأن وجوده" أي النص على حكم الفرع "لا ينافي صحته" أي القياس والاستدلال به. "ولذا" أي ولكون وجود النص على حكم الفرع لا ينافي صحة القياس والاستدلال به "لم يشرطه" أي هذا الشرط "مشايخ سمرقند" بل شرطوا أن لا يثبت القياس زيادة على النص في الفرع قال صاحب كشف البزدوي وغيره وهو الأشبه لأن فيه تأكيد النص على معنى أنه لولاه لكان حكم النص ثابتا بالتعليل ولا مانع في الشرع والعقل من تعاضد الأدلة وتأكد بعضها ببعض فإن الشرع بآيات كثيرة وأحاديث متعددة وقد ملأ السلف كتبهم بالتمسك بالنص والمعقول في حكم واحد ولم ينقل عن أحد في ذلك نكير فكان إجماعا على جوازه "وكثير" بل نقله الإمام الرازي عن الأكثرين ونقل في الكشف وغيره عن الشافعي جوازه سواء لم يثبت زيادة لم يتعرض لها النص وهو ظاهر كما ذكرنا أو أثبت لاحتمال النص زيادة البيان فيجوز التعليل لتحصيلها وأجيب بأن إثبات زيادة لم يتناولها النص بمنزلة النسخ فإن جميع الحكم في موضع النص كان ما أثبته النص وبعد الزيادة يصير بعضه والنسخ بالرأي غير جائز. وأما أنه لا(5/366)
ينص على حكم الفرع مخالفا لحكم الأصل فبالإجماع لأن إثبات حكم الأصل فيه نقض وإبطال للنص بالتعليل وهو باطل بالإجماع.
ومن شروط الفرع أيضا ما أشار إليه بقوله "و عدم المعارض الراجح والمساوي فيه" أي في الفرع "لعلة الأصل" وهذا هو المعارض بزنة اسم المفعول واشتمل على بيان ما به المعارضة قوله "بثبوت وصف فيه" أي في الفرع "يوجب غير ذلك الحكم فيه" أي في الفرع "إلحاقا بأصل آخر وإلا" أي وإن لم يشترط ذلك "ثبت حكم المرجوح في مقابلة الراجح" فيما إذا كان في الفرع معارض راجح يوجب فيه غير ذلك الحكم ويمتنع ثبوت حكم المرجوح مع وجود الراجح ولا فائدة للقياس إلا إثبات الحكم في الفرع "أو" ثبت "التحكم" فيما إذا كان فيه معارض مساو يوجب فيه غير ذلك الحكم وهو غير جائز أيضا وفي شرح البديع لسراج الدين الهندي أما إذا لم يكن معارض أصلا أو كان فيه معارض مرجوح أمكن إثبات الحكم في الفرع فيفيد القياس. وكذا إذا كان فيه معارض مساو لعلة الأصل لأنه حينئذ يعمل بأحدهما بشهادة قلبه أو بالتخيير "وحقيقته" أي هذا الشرط "أنه شرط إثبات الحكم بالعلة لا شرط تحققها علة لأن وجوده" أي المعارض "لا يبطل شهادتها" أي العلة إذ المناسبة لا تزول(5/367)
ص -179-…بالمعارضة بل يتوقف مقتضاها كالشهادة إذا عورضت بشهادة فإن إحداهما لا تبطل الأخرى حتى إذا ترجحت إحداهما لم يحتج إلى إعادة الأخرى. "ومنها" أي شروط الفرع "لأبي هاشم كون حكمه" أي الفرع "ثابتا بالنص جملة والقياس لتفصيله كثبوت حد الخمر" من غير تقدير بعدد معين عن النبي صلى الله عليه وسلم كما يفيده أحاديث في الصحيحين وغيرهما "فيتعين عدده" ثمانين "بالقياس على حد القذف" كما تقدم تخريجه عن علي وعبد الرحمن بن عوف في مسألة لا إجماع إلا عن مستند ويأتي الجواب عنه إن شاء الله تعالى في مسألة الحنفية لا يثبت به الحدود "ورد" اشتراط هذا "بأنهم قاسوا" قوله لزوجته "أنت علي حرام تارة على الطلاق فيقع وتارة على الظهار فالكفارة وعلى اليمين فإيلاء فيثبت حكمه" أي الإيلاء وهو الأصل في الفرع وهو أنت علي حرام "ولا نص في الفرع أصلا" لا جملة ولا تفصيلا ولا يعرى عن تأمل كما سيشير إليه ثم صرح ابن الحاجب في المختصر الكبير بأن المراد بالقائسين الأئمة والزركشي بأن المراد بهم الصحابة وكل منهما صحيح والثاني أبلغ لكن لم نقف على تصريح من أحد من الصحابة بأن مستنده فيما ذهب إليه من هذه الأقوال القياس اللهم إلا ابن عباس حيث ذكر أنه يمين كما سيذكر ذلك عنه نعم هذا هو الظاهر ولفظ ابن المنذر واختلفوا في الرجل يقول لامرأته أنت علي حرام فقالت طائفة الحرام ثلاث روي ذلك عن علي وزيد بن ثابت وابن عمر وبه قال الحسن البصري والحكم ومالك وابن أبي ليلى وقالت طائفة عليه كفارة يمين روي ذلك عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وطاوس وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير وقتادة والأوزاعي وأبو ثور وفيه قول ثالث وهو أن عليه كفارة الظهار. وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير وأبي قلابة وأحمد بن حنبل وفي هذا ما ترى من تعارض عن ابن عباس وابن جبير والحسن فلعل عن كل قولين وساق فيهما أقوالا أخر وذكر شيخنا الحافظ(5/368)
أن الأول رواه سعيد بن منصور عن علي بسند رجاله ثقات لكنه منقطع قلت وابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما وذكر أيضا أنه صح عن ابن عمر أخرجه سعيد أيضا وبه قال زيد بن ثابت على اختلاف عنه والثاني في الصحيحين عن ابن عباس بلفظ إذا حرم الرجل عليه امرأته فهي يمين يكفرها {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] قال وبقول ابن عباس هذا قال جماعة من الصحابة وأكثر التابعين. وأما من قال هي ظهار فجاء عن ابن قلابة أحد التابعين ونسبه ابن حزم إلى ابن عباس وساق بسنده إلى إسماعيل القاضي في كتاب أحكام القرآن له بسند صحيح إلى ابن عباس قال إذا قال الرجل هذا الطعام حرام علي ثم أكله فعليه عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا وتعقبه شيخنا الحافظ بأن في تسمية هذا ظهارا نظرا فإن كفارة الظهار مرتبة وهذا ظاهره التخيير سلمنا لكن يحتمل أن يكون ابن عباس فرق بين تحريم المرأة وتحريم الطعام وهو أولى من جعله كلاما مختلفا والعلم عند الله تعالى ثم لعل وجه الأول أن الطلاق الثلاث نهاية التحريم فصرف مطلقه إليها والثاني ظاهر قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلى قوله تعالى:(5/369)
ص -180-…{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وهذا ما تقدم الوعد به آنفا الثالث أنه مشابه لقوله أنت علي كظهر أمي في الحرمة وفي هذا القدر هنا كفاية "وليس منها" أي من شروط الفرع "كونه" أي الفرع "مقطوعا بوجود العلة فيه" بل ظن وجودها كاف كما أشار إليه بقوله "وكون المقدمات كلها مظنونة موجب شرعا" العمل "لا مانع" منه شرعا فلا يليق جعل انتفائه شرطا له شرعا والله سبحانه أعلم.
فصل في العلة(5/370)
هي "ما" أي وصف "شرع الحكم عنده" أي عند وجوده لا به "لحصول الحكمة جلب مصلحة" أي ما يكون لذة أو وسيلة إليها "أو تكميلها أو دفع مفسدة" أي ما يكون ألما أو وسيلة إليه "أو تقليلها" سواء كان ذلك نفسيا أو بدنيا دنيويا أو أخرويا وحاصله ما يكون مقصودا للعقلاء إذ العاقل إذا خير اختار حصول المصلحة ودفع المفسدة وما هو كذلك يصلح مقصودا قطعا "فلزم تعريفه" أي الوصف الذي شرع الحكم في المحل المنصوص عليه عنده للحكم الكائن في غير المحل المنصوص عليه لزوما عقليا بواسطة تساويهما فيه "فلزم" كونه معرفا للحكم في غير المحل المنصوص عليه "ظهوره وانضباطه" أي كونه ظاهرا منضبطا في نفسه أيضا "وإلا" إذا لم يكن كذلك بأن كان خفيا أو مضطربا "لا تعريف" أي لا يكون ذلك الوصف معرفا للحكم في غير المنصوص عليه "و" لزم "كونه" أي ذلك الوصف "مظنتها" أي الحكمة "أو" كونه "مظنة مظنة أمر تحصيل الحكمة من شرع الحكم الخاص معه" أي مع ذلك الأمر "أو" كونه "مظنة أمر لذلك" أي لأن تحصل الحكمة من شرع الحكم الخاص معه "فالسفر مظنة المشقة وشرع القصر" الذي هو الحكم مع السفر "يحصل مصلحة دفعها" أي المشقة فهذا مثال الأول "وصيغ العقود والمعاوضات مظنة الرضا بخروج مملوكيهما" أي المتعاقدين "إلى البدل" بأن صار المملوك لكل هو البدل عما كان في ملكه كالبيع "أو" بخروج مملوك "أحدهما" لا إلى بدل "وتحمل المنة من الآخر في الهبة وهو" أي الرضا المذكور "مظنة حاجتهما" أي المتعاقدين "إليه" أي إلى كل من الخروج من الطرفين أو من أحدهما والمنة من الآخر "فشرع الرضا سببا لملك البدل و" شرع "حله" أي البدل "معه" أي مع الرضا "لمصلحة دفعها" أي الحاجة المذكورة. "وهذا" أي كون ما شرع الحكم عنده لحصول الحكمة مظنة الحكمة إلخ "معنى اشتماله" أي الوصف "على حكمة مقصودة للشارع من شرع الحكم" وإلا فنفس الوصف لا يكون مشتملا على ذلك إذ الإسكار الذي هو علة لحرمة الخمر مثلا ليس(5/371)
بمشتمل على حكمة مقصودة للشارع التي هي حفظ العقول من شرع الحكم الذي هو التحريم بل على ذهاب العقل ويصح أنه مظنة أمر يحصل الحكمة من شرع الحكم الذي هو التحريم معه "فحقيقة العلة" في العقود "الرضا" لأنه مظنة أمر هو الحاجة وتحصل الحكمة التي هي دفع الحاجة من شرع الحكم الخاص وهو ملك البدل وحله معه ولكنه خفي لأنه أمر قلبي لا اطلاع للناس عليه "وإذ خفي علق الحكم" وهو ملك البدل وحله "بالصيغة فهي" أي الصيغة "العلة اصطلاحا" لا حقيقة "وهي" أي الصيغة "دليل مظنة ما تحصل الحكمة معه بالحكم" إذ هي مظنة الرضا الذي هو مظنة الحاجة التي شرع الحكم الذي(5/372)
ص -181-…هو ملك البدل وحله معها لدفع الحاجة التي هي المصلحة "فظهر أن الرضا ليس الحكمة" في التجارة "كما قيل" قاله عضد الدين وهذا مثال الثالث "والقتل العمد العدوان مظنة انتشاره" أي العدوان "إن لم يشرع القصاص فوجب" القصاص "دفعا له" أي لانتشار العدوان وهذا مثال الثاني فاللف والنشر في المثل مشوش "وكون الوصف كذلك" أي شرع الحكم عنده لحصول الحكمة لأنه مظنتها إلخ "مناسبته" أي الوصف "وهو" أي الوصف "كذلك" أي شرع الحكم عنده إلخ "المناسب فهو" أي المناسب "ما قال أبو زيد ما" أي وصف "لو عرض على العقول" كونه علة لحكم "تلقته بالقبول" لصلاحيته لذلك الحكم المترتب عليه وفيه المعنى اللغوي يقال هذا الشيء مناسب لكذا أي ملائم له "وكون الشارع قضى بالحكم عنده" أي الوصف المذكور "للحكمة اعتباره" أي الشارع لذلك الوصف "ومعرفته" أي اعتبار الشارع لذلك الوصف "مسالك العلة" أي طرقها "وشرطها" أي كون العلة شرطا للحكم في نفس الأمر "تفضل" من الله الكريم "لا وجوب" عليه كما تقوله المعتزلة تعالى عن ذلك العزيز العليم. "وهذا" القول بأنها شرط تفضلا "ما يقال الأحكام مبنية على مصالح العباد دنيوية كما ذكر" من الترخيص بالرخص للمسافر ودفع الحاجة ودفع انتشار الفساد "وأخروية للعبادات" وهو الحصول على الثواب من الله الجواد الوهاب "وهو" أي كون الأحكام مبنية على مصالح العباد "وفاق بين النافين للطرد" أي القائلين بأن العلة لا تكون علة إلا بالمناسبة "وإن اختلف اسمه" أي التعبير عن هذا إذ منهم من يعبر عنه بأن أحكام الشارع مبنية على مصالح العباد ومنهم من يعبر عنه بأن أفعال البارئ سبحانه معللة بمصالح العباد أو معللة بالأغراض وهذا معزو إلى المعتزلة قال المصنف فلو قيل النزاع لفظي جاز "ومنع أكثر المتكلمين" ذلك "لظنهم لزوم استكماله في ذاته كمالا لم يكن" حاصلا له قبل تلك الأفعال على القول به "ذهول بل ذلك" أي اللزوم المذكور وإنما يكون "لو(5/373)
رجعت" المصالح والحكم المعبر عنها بالأغراض "إليه" تعالى. "أما" إذا رجعت "إلى غيره فممنوع" قال المصنف قوله ممنوع يشير إلى أنه على تقدير رجوعها إلى العباد أيضا التزموا مثل ذلك وهو إن راجعها إلى العباد يستلزم كمالا له فأجاب بمنع ذلك "بل هو" أي رجع المصالح إلى الفقراء "أثر كماله القديم" أي المتصف به أزلا لا كمال حادث له "ولا يخفى أن اللازم في المتجدد" من مصالح العباد "بتعلق الأحكام" أي بسبب تعلقها بهم "لازم في فواضله" وإنعاماته المختلفة الأنحاء "المتجددة" الذوات والاقتضاء المستمرة "في ممر الأيام على الأنام" إذ لا شك في أنها مصالح للعباد ابتداء لا بواسطة العباد فقد أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال المصنف هذا إلزام على قولهم يلزم كمال له لم يكن فقال لو صح ما ذكرتم لزم مثله في المصالح الواصلة إلى العباد ابتداء لا بواسطة شرع الأحكام من إنزال المطر وإنبات الشجر والأقوات وإيصالات الراحات وما لا يحصى إلى من لا يحصى من العباد فكان يلزم منه تعالى أن لا يوجدها "فما هو جوابهم فيه" أي المانعين عن كون إفاضة هذا الجود من الجواد العظيم لمصالح العباد فهو "جوابنا" عن كون الأحكام مبنية على مصالح العباد أيضا ولا يمكن أن يقال إلا إرادة الإحسان إليهم وتعريفهم مظاهر فضله(5/374)
ص -182-…العظيم وكرمه العميم وبه نقول فيما نحن فيه "ولقد كثرت لوازم باطلة لكلامهم" كما يعرف في فن الكلام فلا يعول عليها ومن ثمة قال المحقق التفتازاني والحق أن تعليل بعض الأفعال سيما شرعية الأحكام بالحكم والمصالح ظاهر كإيجاب الحدود والكفارات وتحريم المسكرات وما أشبه ذلك والنصوص أيضا شاهدة بذلك كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذريات:56] {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} [المائدة: 32] الآية {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} [الأحزاب: 37] الآية ولهذا كان القياس حجة إلا عند شرذمة لا يعتد بهم. وأما تعميم ذلك بأن لا يخلو فعل من أفعاله من غرض فمحل بحث قال المصنف "الأقرب" إلى تحقيق العقلاء "أنه" أي هذا الخلاف "لفظي مبني على معنى الغرض" فمن سبق إليه أنه المنفعة العائدة إلى الفاعل قال لا تعلل بالغرض ومريد هذا بالغرض لا يخالفه على نفيه عن أفعاله تعالى وأحكامه التكليفية أحد من المسلمين فضلا عن نحارير العلماء المتبحرين ومن سبق إليه أنه الفائدة العائدة إلى العباد قال إن أفعاله وأحكامه تعلل بها ومريد هذا أن لا يظن أن أحدا من العقلاء لا يخالفه في كون الواقع كذلك ومن خالفه فقد ناقض نفسه بنفسه حيث يقول المناسبة من مسالك العلة "أو" أنه "غلط من اشتباه الحكم بالفعل فاذكر ما قدمناه" في فصل الحاكم "من أنه" عز وجل "غير مختار فيه" أي في الحكم لأنه إذا كان قديما عندنا وعند الأشاعرة كيف يكون اختياريا "بخلاف الفعل" فإنه مختار فيه تعالى فمن قال إن الفعل لا يعلل بالغرض اشتبه عليه الفعل بالحكم ومن قال الحكم بعلل اشتبه عليه الحكم بالفعل "غير أن اتصافه" أي البارئ تعالى "بأقصى ما يمكن من الكمالات موجب لموافقة حكمه للحكمة بمعنى أن لا يقع إلا كذلك" أي على الوجه الموافق للحكمة فعلى(5/375)
هذا الكل واقع للحكمة فلا أثر لهذا الاشتباه فإذن الأول أقرب والله تعالى أعلم.
"وإذ لزم فيها" أي العلة "المناسبة بطلت الطردية" أي كونها غير وصف مناسب ولا شبيه به بل هي محض كونها معرفة للحكم "لأن علية الوصف" للحكم "حكم" خبري "نظري يتعلق حكمه" تعالى "عنده" أي عند ذلك الوصف "وهي" أي الطردية إناطة الحكم بها قول "بلا دليل فبطلت وما قيل" وقائله ابن الحاجب من أن بطلان العلل الطردية "للدور لأنها" أي الطردية "حينئذ" أي حين كونها طردية "أمارة مجردة لا فائدة لها إلا تعريف الحكم" للأصل "فتوقف" الحكم عليها "وكونها مستنبطة منه" أي الحكم "يوجب توقفها عليه" أي الحكم "مدفوع بأن المعرف لحكم الأصل النص وهي" أي الطردية معرفة "أفراد الأصل فيعرف حكمها" أي أفراد الأصل "بواسطة ذلك" أي عرفان أفراد الأصل "مثلا معرف حرمة الخمر النص والإسكار" الذي هو العلة المستنبطة من حرمته "يعرف" الجزئي "المشاهد أنه منها" أي من أفراد الأصل "فيعرف حرمته" أي الأصل "فيه" أي في المشاهد "فلا دور ثم ليس" تعريفها لأفراد الأصل أمرا "كليا بل" إنما هو "فيما" أي أصل "له لازم ظاهر خاص كرائحة المشتد أن لم يشركها" أي الخمر "فيها" أي الرائحة "غيرها" أي غير الخمر "وإلا فتعريف الإسكار بنفسه لا يتحقق(5/376)
ص -183-…إلا بشرب المشاهد" لأن هذا اللازم غير ظاهر والشرب طريق معرفته فتتوقف حرمته على شربه "وهو" أي وتوقفها عليه "باطل" بالإجماع "وكونه الإسكار طردا" إنما هو "على" قول "الحنفية" لأن حرمة الخمر عندهم لعينها "وعلى" قوله "غيرهم هو" أي كون الإسكار طردا "مثال" لذلك، "والكلام في تقسيمها" أي العلة "وشروطها وطرق معرفتها" أي الطرق الدالة على أن الوصف معتبر في نظر الشارع علة "في مراصد" ثلاثة:
[تقسيم العلة](5/377)
"المرصد الأول" في تقسيمها "تنقسم" العلة "بحسب المقاصد و" بحسب "الإفضاء إليها" أي إلى المقاصد "و" بحسب "اعتبار الشارع" لها علة "فالأول" أي انقسامها بحسب المقاصد "وهو" أي هذا الانقسام "بالذات للمقاصد ويستتبعه" أي هذا الانقسام لها بحسب المقاصد انقسامها "وهي" أي المقاصد التي تدل على اعتبار الوصف "ضرورية" وهي ما انتهت الحاجة فيها إلى حد الضرورة ثم "لم تهدر في ملة" من الملل السالفة بل روعيت فيها لكونها من المهمات التي نظام العالم مرتبط بها ولا يبقى النوع مستقيم الأحوال بدونها وهي خمسة "حفظ الدين بوجوب الجهاد وعقوبة الداعي إلى البدع" وقد نبه الله تعالى على ذلك {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [التوبة: 29] الآية "وقد يوجه للحنفية أنه" أي وجوب الجهاد "لكونهم" أي الكفار "حربا علينا لا لكفرهم ولذا" أي كون العلة كونهم حربا علينا "لا تقتل المرأة والرهبان" إذا لم يزيدوا على الكفر بسلطنة أو قتال أو رأي فيه أو حث عليه بمال أو مطلقا لانتفاء الحرابة "وقبلت الجزية" من باذليها ممن هو أهل لها "ولزمت المهادنة" أي المصالحة إذا احتيج إليها لانتفاء حرابهم مع وجود كفرهم "ولا ينافيه" أي وجوب الجهاد لكونهم حربا علينا وجوبه لحفظ الدين فإن من الظاهر أن المقصود من حفظ الدين لا يتم مع حرابتهم فإنها مفضية لقتل المسلم أو لفتنته عن دين الإسلام فكونه واجبا لحفظ الدين هو معنى وجوبه لحرابتهم فلا خلاف في المعنى وإنما ينافيه لو كان وجوبه لمجرد الكفر فإن عليه يكون ما قالته الحنفية أخص ثم أوجه للإجماع على عدم قتل الذمي والمستأمن ومن لا يحارب من صبي وامرأة وغيرهما "و" حفظ "النفس بالقصاص" كما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وتضافر عليه مع الكتاب السنة والإجماع. "و" حفظ "العقل بكل من حرمة المسكر" الثابتة بالكتاب والإجماع "وحده" أي المسكر الثابت بالسنة والإجماع "و" حفظ "النسب(5/378)
بكل من حرمة الزنا" بالكتاب والسنة والإجماع "وحده" الذي هو الجلد بهذه أيضا والذي هو الرجم بالسنة والإجماع لأن المزاحمة على الأبضاع تفضي إلى اختلاط الأنساب المفضي إلى انقطاع التعهد من الآباء المفضي إلى انقطاع النسل وارتفاع النوع الإنساني من الوجود "و" حفظ "المال بعقوبة السارق والمحارب" بالكتاب والسنة والإجماع وتسمى هذه بالكليات الخمس وكل منها دون ما قبله وحصر المقاصد في هذه ثابت بالنظر إلى الواقع وعادات الملل والشرائع بالاستقراء وزاد الطوفي والسبكي حفظ العرض بحد القذف "ويلحق به" أي بالضروري "مكمله من حرمة قليل الخمر المسكر وحده" أي حد قليلها إذ قليلها لا يزيل(5/379)
ص -184-…العقل وحفظ العقل حاصل بتحريم السكر والحد عليه لكنه حرم للتتميم والتكميل "إذ كان" قليلها "يدعو إلى كثيره" أي الخمر بما يورث النفس من الطرب المطلوب زيادته بزيادة سببه وذكرها أما كما هو لغة فيها أو باعتبار المسكر "فيزيل" كثيرها "العقل فتحريم كل داعية" إلى محرم "مقتضى الدليل ثبت الشرع على وفقه" أي مقتضى الدليل "في الاعتكاف والحج" فحرمت دواعي الجماع فيهما كما حرم نفس الجماع "وعلى خلافه" أي وثبت الشرع على خلاف مقتضى الدليل "في الصوم" فلم تحرم دواعي الجماع فيه كما حرم الجماع ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل ويباشر وهو صائم. إلى غير ذلك وإنما يكره إذا لم يأمن على نفسه "ولم يثبت" الشرع على خلاف مقتضى الدليل "في الظهار فتحريم الحنفية إياها" أي الدواعي "فيه" أي في الظهار "على وفقه" أي مقتضى الدليل. "وهذا" المقصود الضروري والملحق به المكمل له هو "المناسب الحقيقي ودونها" أي الضرورية مقاصد "حاجية" وهي التي لم تنته الحاجة إليها إلى حد الضرورة "شرع" الحكم "لها" أي للحاجة إليها "نحو البيع" لملك العين بعوض مال "والإجارة" لملك المنفعة بعوض مال "والقراض" للشركة في الربح بمال من واحد وعمل فيه من آخر "والمساقاة" لدفع الشجر إلى من يعمل فيه بجزء من ثمره "فإنها" أي هذه المشروعات "لو لم تشرع لم يلزم فوات شيء من الضروريات" الخمس "إلا قليلا كالاستئجار لإرضاع من لا مرضعة له وتربيته وشراء المطعوم والملبوس للعجز عن الاستقلال بالتسبب في وجودها" أي هذه الأشياء فاحتيج "إلى دفع حاجته" أي المحتاج إليها "بها" أي بهذه العقود فهذه المستثنيات من قبيل الضروري لحفظ النفس لأن الهلاك قد يحصل بتركها فلا جرم أن عدها الآمدي منه "فالتسمية" أي إطلاق الحاجي على هذه المشروعات "باعتبار الأغلب" فإن غالب الشراءات والإجازات محتاج إليه لا ضروري فدعوى إمام الحرمين أن البيع ضروري لم يوافق عليها "ومكملها" أي(5/380)
ودون الضرورية أيضا مقصود حاجي لكن لا في نفسه بل مكمل الحاجي في نفسه "كوجوب رعاية الكفارة ومهر المثل على الولي في" تزويج موليته "الصغيرة" فإن أصل المقصود من شرع النكاح. وإن كان حاصلا بدونها لكنهما أشد إفضاء إلى دوام النكاح وإتمام الألفة والازدواج بينهما ودوامه من مكملات مقصوده فوجب رعايتهما "إلا لدلالة عند أبي حنيفة وحده على حصول المقصود دونها" أي رعايتها "كتزويج أبيها" أي الصغيرة أو جدها الصحيح إياها "من عبد وبأقل" من مهر مثلها وكل منهما غير معروف بسوء الاختيار ولا بالمجانة والفسق وهذه الدلالة قرب القرابة الخاصة وهي الداعية إلى وفور الشفعة مع كمال الرأي ظاهرا فإن من قام به هذا لا يترك كلا منهما ظاهرا إلا لمصلحة تربو على كليهما ولما كان النظر لها في ذلك باطنا وهذا دليله اعتبر دليله وعلق الحكم عليه بخلاف غيرهما من العصبات ومن الأم لقصور الشفقة في العصبات ونقصان الرأي في الأم "وهذا" أي هذا القسم المشتمل على الحاجي وتكمله "المناسب المصلحي وغير الحاجي تحسيني" أي من قبيل رعاية أحسن المناهج في محاسن العادات "كحرمة القاذورات حثا على مكارم الأخلاق والتزام المروءة" ونبينا صلى الله عليه وسلم موصوف(5/381)
ص -185-…بتشريع ذلك فقال تعالى في وصفه {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [لأعراف: 157] وقال صلى الله عليه وسلم "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" رواه أحمد والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم "وكسلب العبد" وإن كان ذا دين يغلب ظن صدقه "أهلية الولاية من الشهادة والقضاء وغيرهما" كالإمامة الكبرى لانحطاط رتبته عن الحر لكونه مستسخرا للمالك مشغولا بخدمته فلا يليق به المناصب الشريفة وإن لم يتعلق به ضرورة ولا حاجة ولا تكميل لإحداهما بل إجراء للناس على ما ألفوه من العادات المستحسنة في ذلك فإن السيد إذا كان له عبد ذو فضائل وآخر دونه فيها استحسن عرفا أن يفوض العمل إليهما بحسب فضيلتهما فيجعل الأفضل للأفضل وإن كان كل منهما يمكنه القيام بما يقوم به الآخر.(5/382)
"الثاني" انقسامها بحسب الإفضاء وأقسامه "خمسة لأن حصول المقصود" من شرع الشارع الحكم عند الوصف لجلب مصلحة للعبد أو دفع مفسدة عنه أو لكليهما تحصيلا لأصل المقصود أو تكميلا له في الدنيا أو جلبا للثواب أو دفعا للعقاب في الأخرى "أما" أن يكون "يقينا كالبيع" الصحيح "للحل" أي لثبوت الملك في البدلين حلالا للمالك فإنه يحصل منه يقينا "أو ظنا كالقصاص للانزجار" عن القتل العمد العدوان فإن المقصود من شرعيته صيانة النفوس المعصومة عن الهلاك وهذا يحصل ظنا منه "لا لأكثرية الممتنعين عنه" أي عن القتل العمد العدوان بالنسبة إلى المقدمين عليه "والاتفاق" ثابت "عليهما" أي على هذين القسمين "أو شكا أو وهما" وهذان فيهما خلاف "والمختار فيهما الاعتبار" ثم ما يساوي فيه حصوله ونفيه لا مثال له في الشرع على التحقيق بل على التقريب "كحد الخمر" فإنه شرع "للزجر" عن شربها لحفظ العقل "وقد ثبت" حدها "مع الشك فيه" أي في الانزجار عن شربها به لأن استدعاء الطباع شربها يقاوم خوف عقاب الحد وعدم الممتنع والمقدم متقاربان ولا قطع عادة لغلبة أحدهما واعترض بأن ذلك إنما هو للتسامح في إقامة الحدود. وأما مع إقامتها فلا ونحن إنما نعتبر كونه مفضيا إلى المقصود أولا على تقدير رعاية المشروع لا بمجرد التشريع وتعقب بأنا لو فرضنا رعاية المشروع لكان استيفاء حد الخمر أقل منعا للشاربين من استيفاء القصاص للقاتلين إذ لا يخفى أن الخوف من إزهاق النفس أعظم من خوف ثمانين جلدة "ورخصة السفر" شرعت "للمشقة والنكاح" شرع "للنسل" كما يشير إليه ما أخرج أحمد وابن حبان عن أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهيا شديدا ويقول "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم" وقد "جازا" أي الترخص المذكور والنكاح "مع ظن العدم" لكل من المشقة والنسل "في" سفر "ملك مرفه" يسار به على المحفة في اليوم مقدارا لا يصيبه فيه نصب ولا ظمأ ولا مخمصة بل(5/383)
يتنعم فيه أكثر مما يكون في الإقامة. "و" نكاح "آيسة فعلم أن المعتبر" في كون الوصف علة في إفضائه للحكم "الحصول في جنس الوصف لا في كل جزئي ولا" في "أكثرها" أي الجزئيات "أو" يكون "يقين العدم كإلحاق ولد مغربية بمشرقي" تزوج بها وقد "علم عدم تلاقيهما جعلا للعقد مظنة حصول النطفة في الرحم ووجوب الاستبراء" المجعول مظنة لبراءة الرحم(5/384)
ص -187-…اهتمام الشارع برعاية المصالح وابتناء الأحكام عليها فلم تهمل" المصلحة "مرجوحة على الاتفاق" أي فلم يقع الاتفاق على عدم اعتبار المصلحة إذ كانت مرجوحة بل كانت على الخلاف.
"وأما الثالث" أي انقسامها بحسب اعتبار الشارع ذلك الوصف علة "فإذا كان القصد اصطلاح المذهبين" للحنفية والشافعية "فاختلف طرق الشافعية من الغزالي وشيخه" إمام الحرمين "والرازي والآمدي اقتصرنا على" الطرق "الشهيرة المثبتة والمناسب بذلك الاعتبار" أي اعتبار الشارع الوصف علة أربعة "مؤثر وملائم وغريب ومرسل فالمؤثر ما" أي وصف "اعتبر عينه في عين الحكم بنص" من كتاب أو سنة "كالحدث بالمس" أي بمس الذكر فإن عين المس معتبرة في عين الحدث بما تقدم تخريجه في مسألة خبر الواحد فيما عم به البلوى من قوله صلى الله عليه وسلم "من مس ذكره فليتوضأ" "وعلى" قول "الحنفية سقوط نجاسة الهرة بالطوف" فإن عين الطوف معتبرة في عين سقوط نجاسة الهرة بقوله صلى الله عليه وسلم "أنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات" رواه أصحاب السنن. وقال الترمذي حسن صحيح "فتعدى" سقوط النجاسة "إلى الفأرة" بعين الوصف المذكور وهو الطوف "والأوضح" في التمثيل "السكر في الحرمة" فإن عين السكر معتبر في عين التحريم بقوله صلى الله عليه وسلم "كل مسكر حرام" رواه أبو داود والترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه ثم عطف على نص "أو إجماع كولاية المال بالصغر" فإن عين الصغر معتبر في عين الولاية بالإجماع. "وقد يقال" بدل ما اعتبر عينه في عين الحكم ما اعتبر "نوعه" في نوع الحكم كما قال صدر الشريعة "نفيا لتوهم اعتباره" أي الوصف "مضافا لمحل" كالسكر المخصوص بالخمر والحرمة المخصوصة بها فيكون للخصوصية مدخل في العلية وليس كذلك وإنما سمي هذا بالمؤثر لظهور تأثيره في الحكم بالنص أو الإجماع ثم المراد بثبوته ثبوته بالاتفاق لذكر المرسل في مقابله وهو من الدلائل المختلف فيها وقيد بالنص أو(5/385)
الإجماع لأن ما ثبت به أمر شرع من غير اختلاف منحصر في الكتاب والسنة والإجماع والقياس غير أن القياس لم يعتبر هنا لأنه قياس في الأسباب "والملائم ما" أي وصف "ثبت" عينه "معه" أي مع عين الحكم "في الأصل" بمجرد ترتيب الحكم على وفقه "مع ثبوته اعتبار عينه" أي الوصف المذكور "في جنس الحكم بنص أو إجماع أو قلبه" أي الوصف المذكور مع ثبوت جنسه في عين الحكم وسمي ملائما لكونه موافقا لما اعتبره الشرع "أو" الوصف المذكور مع ثبوت "جنسه" أي الوصف "في جنسه" أي الحكم. "فالأول" أي الوصف الثابت عينه في عين الحكم في الأصل بمجرد ترتيب الحكم على وفقه مع ثبوت اعتبار عينه في حكم الجنس "كالصغر في حمل إنكاحها على مالها في ولاية الأب" أي ككون الصغر وصفا ملائما لترتيب ثبوت ولاية الأب لإنكاح الصغيرة عليه كما يترتب ثبوت ولاية الأب على ما لها عليه "فإن عين الصغر معتبر في جنس الولاية بالإجماع لاعتباره" أي الصغر "في ولاية المال" لأن الإجماع على اعتباره في ولاية المال إجماع على اعتباره في جنس الولاية بخلاف اعتباره في غير ولاية النكاح فإنه إنما ثبت بمجرد ترتيب(5/386)
ص -188-…الحكم على وفقه حيث تثبت الولاية معه في الجملة بأن وقع الاختلاف في أنه للصغر أو للبكارة أو لهما جميعا ثم لما كان في كون هذا مثالا للملائم نظر لأنه لم يعتبر فيه أولا عين الوصف في عين الحكم بابتداء جعل عين الوصف مؤثرا في جنس الحكم فسقط الأصل منه فلا يتم كونه مثالا له بل هو مثال للمؤثر قال "وصواب المثال للحنفية الثيب الصغيرة على البكر الصغيرة في ولاية الإنكاح بالصغر" أي ثبوت ولاية إنكاح الأب الثيب الصغيرة قياسا على ثبوت ولاية إنكاحه البكر الصغيرة بجامع الصغر "وعينه" أي الصغر اعتبر "في جنسها" أي الولاية "لاعتباره" أي الصغر "إلخ" أي في جنس الولاية باعتباره في ولاية المال لثبوتها له فيه بالإجماع "لأن إثبات اعتباره" أي الوصف علة "بنص أو إجماع في الجنس" إنما هو "بإظهاره" أي اعتبار "في" محل "آخر لا في عين حكم الأصل لأن ذلك" أي اعتباره في عين حكم الأصل هو "المؤثر" لا الملائم وحينئذ فلا تعدد بينهما والواقع خلافه كما يشهد به التقسيم فإنهما قسيمان والقسيم مخالف للقسيم وهذا ظاهر فيما ذكرنا أنه الصواب في المثال فإن فيه ظهرت ثلاثة محال الأصل وهو نكاح البكر والفرع وهو نكاح الثيب ومحل الجنس وهو المال. وقد ظهر من هذا أيضا أن ليس المراد من الجنس الجنس المجرد من حيث هو بل ما ظهر في جزئي غير الجزئي الذي هو الأصل فليتأمل.(5/387)
"والثاني" أي الوصف المذكور مع ثبوت جنسه في عين الحكم ثابت "في حمل الحضر حالة المطر على السفر في الجمع بعذر المطر" أي في قياس الحضر حالة المطر على السفر في حكم هو جواز الجمع بين المكتوبتين بوصف عذر المطر "وجنسه" أي عذر المطر "الحرج" أي الضيق يؤثر "في عين رخصة الجمع" في الحضر "بالنص على اعتباره" أي الجنس الذي هو الحرج "في عين الجمع" في السفر إذ الحرج جنس يجمع الحاصل بالسفر وهو خوف الضلال والانقطاع وبالمطر وهو التأذي به ثم كان مرادهم بالنص على اعتبار جنسه ما تعطيه قوة سياق ما في الصحيحين عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا عجل به السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق. إلى غير ذلك "أما حرج السفر فبالثبوت معه فقط" أي إنما اعتبر عين حرج السفر في الحكم الذي هو الجمع بمجرد ترتب الحكم على وفقه إذ لا نص ولا إجماع على علة نفس حرج السفر ذكره الشيخ سعد الدين التفتازاني وغيره. قلت ويطرقه ما ذكرناه آنفا فليتأمل.
هذا وقد قال المصنف "والحق أن المضاف هو محل النص" أي أن المعتبر في حكم الأصل هو المضاف إلى السفر يعني حرج السفر ولذا نيط بعين السفر "فلا يتعدى" حكم الأصل إلى غيره ضرورة أن المحل جزء من المعتبر في حكمه "لا" أن محل النص هو الحرج "المطلق" عن الإضافة "وإلا تعدى" هذا الحكم الذي هو جواز الجمع "إلى ذي الصنعة الشاقة لوجود الحرج واللازم باطل ولم يحتج إلى الإناطة بالسفر" بل كان يضاف إلى الجرح مطلقا "إذ لا خفاء في" الجرح "المطلق" ولا في انضباطه أعني ما يطلق عليه حرج "كالإسكار في(5/388)
ص -189-…الخمر" والإناطة بالسفر ليس إلا لعدم انضباط ما هو العلة بالحقيقة وإذا ثبت أن حكم الأصل إنما أنيط بالحرج المضاف إلى السفر لم يتعد إلى الحضر في المطر فلا يصح أن يكون مثالا للملائم الذي اعتبر صحة جنس الوصف فيه في عين الحكم "وأيضا فذلك" أي دلالة ثبوت الجنس في العين على صحة اعتبار العين الموجودة إنما يكون "بعد ثبوت العين في المحلين" الأصل والفرع كالصغر في المثال السابق "وليس المطر" الذي هو العين هنا "في الأصل" الذي هو السفر وإنما هو في الفرع فقط وهو الحضر فلا يفيد اعتبار جنسية الحرج في عين رخصة الجمع عليه المطر لجواز الجمع. قلت على أن هذا مثال تقديري أيضا على قول من جوز الجمع بينهما بلا عذر في الحضر بشرط أن لا يتخذ عادة وممن نقل عنه هذا ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر خلافا لعامة العلماء تمسكا بما عن ابن عباس جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر قال سعيد بن جبير فقلت لابن عباس لم فعل ذلك قال أراد أن لا تحرج أمته. رواه مسلم وغيره فليتأمل "ولبعض الحنفية" كصاحب البديع وصدر الشريعة في التمثيل الثاني "كاعتبار جنس المضمضة المومأ إليها في عدم إفسادها الصوم" في حديث عمر رضي الله عنه حيث قال هششت فقبلت وأنا صائم فقلت يا رسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما فقبلت وأنا صائم ثم قال "أرأيت لو مضمضت بالماء وأنت صائم" قلت لا بأس قال "فمه" رواه أبو داود قال النووي بإسناد صحيح على شرط مسلم. وقال الحاكم على شرط الشيخين وقال شيخنا الحافظ رجاله رجال الصحيح إلا عبد الملك بن سعيد وقد وثقه بعضهم وتوقف فيه بعضهم وأشار البزار إلى أنه انفرد به واستنكره أحمد والنسائي انتهى وبالجملة هو حديث حسن كما وصفه به شيخنا الحافظ ومعنى فمه أي فما الفرق بينهما فإن الوصف الذي هو المضمضة اعتبر في عين الحكم الذي هو عدم الإفساد وهو غير منصوص ولا مجمع عليه(5/389)
بل اعتبر جنسه "وهو" أي جنسه "عدم دخول شيء إلى الجوف" في غير ذلك الحكم وتعقبه المصنف بقوله "وليس هذا مما نحن فيه وهو" أي ما نحن فيه "العلة بمعنى الباعث بل الانتفاء" للإفساد "لانتفاء ضد الركن" للصوم وهو أعني ضده دخول شيء إلى الجوف "مع أنه" أي هذا "من العين" أي اعتبار عين الوصف وهو عدم دخول شيء إلى الجوف "في العين" أي عين الحكم وهو عدم إفساد الصوم فهو من مثل المؤثر.
"والثالث" أي الوصف المذكور مع ثبوت جنسه في جنس الحكم "كالقتل بالمثقل" أي كقياسه "عليه" أي على القتل "بالمحدد" في الحكم الذي هو القتل "بالقتل العمد العدوان" أي بهذا الجامع كما عليه أبو يوسف ومحمد والشافعي وغيرهم "وجنسه" أي القتل العمد العدوان "الجناية على البنية" للإنسان وقد اعتبر "في جنس" أي جنس هذا الحكم أي "القصاص" كذا ذكر غير واحد قال المصنف "وليس" من هذا القبيل "فإنه من المؤثر" لأن الوصف الذي هو القتل العمد العدوان في حكم الأصل الذي هو القتل به ثابت بالنص والإجماع. وأما وجه التفتازاني كونه من الملائم دون المؤثر بتوجيه غير وجيه أشار المصنف(5/390)
ص -190-…إليه أولا بقوله "فقيل لا نص ولا إجماع على أن العلة" في الأصل "القتل وحده أو" القتل "مع قيد كونه بالمحدد" وإلى دفعه ثانيا بقوله "ولو صح" هذا الكلام "لزم انتفاء المؤثر لتأتيه" أي مثل هذا "في كل وصف منصوص بالنسبة إلى قيد بفرض" وهو أن الوصف المنصوص عليه هو المناط وحده أو مع ذلك القيد الذي يفرض "فإن قيل إنما قلنا" ذلك أي أن الوصف يحتمل أن يكون هو المناط وحده أو مع القيد الذي يبديه الناظر فلا يكون ذلك الوصف معتبرا بالنص في ذلك المحل "إذا قال بالقيد" الذي يفرض "مجتهد وليس" هذا بمتأت "في الكل" أي في كل أمثلة المؤثر "قلنا إن سلم" أن إبداء قيد يفرض إنما يمنع كون الوصف لا مع ذلك القيد منصوصا عليه بواسطة احتمال أن يكون المناط إياه مع ذلك القيد بشرط أن يكون قال بذلك القيد مجتهد "فمنتف" أي فهذا الشرط منتف "في المثال" المذكور "فإن أبا حنيفة لم يعتبر في العلة" أي في كون القتل علة للقصاص "سواه" أي القتل العمد العدوان "غير أنه" أي أبا حنيفة "يقول انتفت العلة" في القتل بالمثقل "بانتفاء دليل العمدية" وهو القتل بما لا يلبث مما يفرق الأجزاء لأن العمدية أمر باطن واستعمال الآلة المفرقة للأجزاء دليل ظاهر على ذلك القصد فأقيم مقام الوقوف على حقيقة القصد بخلاف استعمال غيرها مما لا يفرق الأجزاء بل يرضها فالإجماع حينئذ على أن القتل العمد العدوان علة للقصاص أيضا كالنص وإنما وقع الخلاف فيما يدل على العمدية فليتأمل "ولبعض الحنفية" أي صدر الشريعة في التمثيل للثالث "الطوف في طهارة سؤر الهرة" اعتبر جنسه "وجنسه" أي الطوف "لضرورة أي الحرج في جنسه" أي الحكم الذي هو الطهارة أي "التخفيف". قال المصنف "وهو" أي هذا إنما يتم "على تقدير عدم النص عليه" أي على عين الوصف الذي هو الطوف وليس كذلك فهو "كالذي قبله" من أنه من قبيل المؤثر كما ذكر أولا "والغريب ما" أي وصف "لم يثبت" فيه "سوى العين" أي سوى اعتبار الشارع(5/391)
عينه "مع العين" أي عين الحكم بترتيب الحكم عليه فقط "في المحل كالفعل المحرم لغرض فاسد في حرمان القاتل" الإرث من مقتوله فإن هذا الوصف أعني الفعل المحرم "ثبت" الحكم وهو حرمان القاتل "معه" أي الوصف المذكور "في الأصل" أي قتل الوارث مورثه "ولا نص ولا إجماع على اعتبار عينه" أي الوصف المذكور "في جنسه" أي الحكم "أو" على اعتبار "جنسه" أي الوصف المذكور "في أحدهما" أي عين الحكم أو جنسه "ليلحق به" أي بالفعل فعلا محرما لغرض فاسد "الفار" من توريث زوجته منه بطلاقها في مرض موته إذا مات وهي في العدة فيعامل بنقيض مطلوبه كما هناك ثم قد كان في النسخة مكان ثبت معه في الأصل ثبت معه في الجملة فقال هنا بناء على ذلك "وقولنا في الجملة لأنه" أي الوصف الذي هو الفعل المحروم "قد ثبت مع عدمه" أي عدم الحكم وهو الحرمان "فيما لم يقصد المال" أي أخذه بذلك الفعل وهو ما إذا كان القاتل أجنبيا وليس بزوج ولا زوجة فإن حرمان الإرث فرع ما إذا كان بحيث يرث منه "وبالثبوت" أي ثبوت الوصف مع عدم الحكم "بعد ما قيل" أي ما قاله غير واحد أن هذا "إنما هو مثال غريب المرسل" الذي لم(5/392)
ص -191-…يظهر إلغاؤه ولا اعتباره كما سيتضح قريبا وحيث كان ذاكرا وجه التقييد به وما يترتب عليه فإذن لا بد من إثباته.
"واعلم أنه يمكن في الأصل اعتباران القتل" في الوصف "والحرمان" في الحكم "فيكون" الوصف مناسبا "مؤثرا" في الحكم. فإن عين الوصف اعتبر في عين الحكم بنص وهو قوله صلى الله عليه وسلم "لا يرث القاتل شيئا" رواه أبو داود وغيره مرسلا "أو المحرم" في الوصف "ونقيض قصده" أي الفاعل في الحكم "ويتعين" هذا الاعتبار الثاني "في المثال وإلا" لو لم يعتبر فيه "اختلف الحكم فيهما" أي الأصل والفرع "إذ هو" أي الحكم "في الأصل عدم الميراث والفرع الميراث" فلا يكون من قياس الدلالة "فإن لم يثبت" الوصف مع الحكم "أصلا فالمرسل وينقسم" المرسل "إلى ما علم إلغاؤه" أي ذلك الوصف "كصوم الملك عن كفارته لمشقته" أي الصوم عليه "بخلاف إعتاقه" فإنه سهل عليه فإن إيجاب الصيام عليه مع قدرته على الإعتاق مخالف للنص فهذا القسم المرسل المعلوم الإلغاء "وما لم يعلم" إلغاؤه "ولم يعلم اعتبار جنسه" أي الوصف المذكور "في جنسه" أي الحكم المذكور "أو" لم يعلم اعتبار "عينه" أي الوصف المذكور "في جنسه" أي الحكم المذكور "أو" لم يعلم اعتبار "قلبه" أي جنس الوصف المذكور في عين الحكم المذكور "وهو" أي هذا القسم الثاني "الغريب المرسل وهما" أي هذان القسمان "مردودان اتفاقا وأنكر على يحيى بن يحيى" تلميذ الإمام مالك "إفتاؤه" بعض ملوك المغرب في كفارة "بالأول" أي بحكم ما علم إلغاؤه وهو الصوم "بخلاف الحنفي" أي إفتاء من أفتى من الحنفية عيسى بن ماهان ولي خراسان في كفارة يمين بالصوم "معللا" تعين الصوم عليه "بفقره لتبعاته" أي لأن ما عليه من التبعات فوق ما له من الأموال فكفارته كفارة يمين من لا يملك شيئا "وهو" أي هذا التعليل "ثاني تعليلي يحيى بن يحيى حكاهما بعض المالكية" المتأخرين وهو ابن عرفة "عنه" أي عن يحيى بن يحيى فإنه تعليل متجه ليس من قبيل(5/393)
المناسب المعلوم الإلغاء فليكن المعول عليه والأول علاوة فلا يضر بطلانه "وما علم اعتبار أحدها" أي جنسه في جنسه أو عينه في جنسه أو جنسه في عينه "وهو" أي هذا القسم الثالث "المرسل الملائم وعن الشافعي ومالك قبوله" أي هذا القسم وذكر الأبهري أنه لم يثبت عنهما والسبكي أن الذي صح عن مالك اعتبار جنس المصالح مطلقا. وأما الشافعي فإنه لا ينتهي إلى مقالة مالك ولا يستجيز التنائي والإفراط في البعد وإنما يسوغ تعليق الأحكام بمصالح يراها شبيهة بالمصالح المعتبرة وفاقا وبالمصالح المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول تارة في الشريعة وإمام الحرمين يختار نحو ذلك.
"وشرط الغزالي" في قبوله ثلاثة شروط "كون مصلحته" أي هذا القسم "ضرورية قطعية أي ظنا يقرب منه" وإنما فسره به مع أن في المستصفى وغيره الظن القريب نازل منزلة القطع لأن القطع بها في المثال الآتي ممنوع كما يعلم "كلية" كما لو تترس الكفار بأسرى المسلمين في حربهم وعلمنا أنا إن لم نرم الترس استأصلوا المسلمين المتترس بهم(5/394)
ص -192-…وغيرهم بالقتل وإن رمينا الترس سلم أكثر المسلمين فيجوز رميهم وإن كان فيهم قتل مسلم بلا ذنب لحفظ باقي الأمة لأنه أقرب إلى مقصود الشرع لأنا نقطع أن الشرع يقصد تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان ونحن إن لم نقدر في هذه الصورة على الحسم فقد قدرنا على التقليل فكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصودة بالشرع لا بدليل واحد بل بأدلة كثيرة ولكن يحصل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب لم يشهد له أصل معين فينقدح اعتبار هذه المصلحة باعتبار الأوصاف الثلاثة وهي كونها ضرورية لتعلقها بحفظ الدين والنفس قطعية أي ظنية ظنا قريبا من القطع كما هو الظاهر لجواز دفعهم عن المسلمين بغير رميهم كلية لتعلقها ببيضة الإسلام لا أنها مختصة ببعض منه وإنما وجب قبوله عند وجود هذه الشرائط لأنه لو لم يقبل يلزم الإخلال بما هو مقصود ضروري في الشرع وهو حفظ الدين والنفس عموما. ومن المعلوم قطعا أن الشرع يؤثر الكلي على الجزئي وأن حفظ أهل الإسلام أهم من حفظ دم مسلم واحد والدليل أن الترس المذكور من الملائم أنه لم يوجد اعتبار الشارع الجنس القريب لهذا الوصف في الجنس القريب لهذا الحكم إذ لم يعلم في الشرع إباحة قتل المسلم بغير حق بعلة من العلل لكنه اعتبر جنسه البعيد في جنس الحكم فإنه وجد اعتبار الضرورة في الرخصة في استباحة المحرمات واعترض بأن هذا اعتبار للجنس الأبعد من الوصف أعني الأعم من ضرورة حفظ النفس وهو مطلق الضرورة والأبعد غير كاف في الملاءمة بل يجب أن يكون البعيد هنا الوصف الذي هو أعم من ضرورة حفظ النفس فضلا عن مطلق الضرورة وأجيب بمنع أن المعتبر هنا الوصف الذي هو أعم من ضرورة حفظ النفس بل المعتبر هنا الأخص منها وهو غير ظاهر وفي التلويح فالأولى أن يقال اعتبر الشرع حصول المنع الكثير في تحمل الضرر اليسير وجميع التكاليف الشرعية مبنية على ذلك هذا وتحقيق هذه الشروط في غاية الندرة بل يمتنع(5/395)
لأن الاطلاع عليها إنما يكون بغالب الرأي لأنه أمر مغيب عنا لا باليقين فلا يجوز بناء الحكم عليه فإن الحكم إنما يدار على وصف ظاهر منضبط "فلا يرمى المتترسون بالمسلمين لفتح حصن" لأن فتحه ليس ضروريا "ولا" يرمى المتترسون بالمسلمين "لظن استئصال المسلمين" ظنا بعيدا من القطع لانتفاء القطع وما يقرب منه "ولا يرمى بعض أهل السفينة لنجاة بعض" لأنهم ليسوا كل الأمة مع ما فيه من الترجيح بلا مرجح واحتمال كون المصلحة في بقاء من أبقى "وهو" أي هذا القسم "المسمى بالمصالح المرسلة" لإرسالها أي إطلاقها عما يدل على اعتبارها أو إلغائها شرعا "والمختار" عند أكثر العلماء "رده" مطلقا "إذ لا دليل على الاعتبار" أي اعتبار الشارع إياه "وهو" أي هذا القسم إذا قيل به "دليل شرعي فوجب رده" فانتفى تخصيص رده بكونه في العبادات لأنه لا نظر فيها للمصلحة بخلاف غيرها كالبيع والحد "قالوا" أي القائلون به "فتخلو وقائع" من الحكم الشرعي على تقدير ردها وخلوها منه باطل. "قلنا نمنع الملازمة لأن العمومات والأقيسة شاملة" لتلك الوقائع "وبتقدير عدمه" أي عدم شمولها لها "فنفي كل مدرك خاص" للدليل الخاص "حكمه" أي ذلك النفي(5/396)
ص -193-…"الإباحة الأصلية فلم تخل" تلك الوقائع "عن حكم الشرع وهو" أي وخلوها هو "المبطل فظهر" مما تقدم "اشتراط لفظ الغريب والملائم بين ما ذكر من الأقسام الأول للمناسب والثواني للمرسل وسنذكر أنه يجب من الحنفية قبول القسم الأخير" أي الملائم "من المرسل فاتفاقهم" أي العلماء المحكي عنهم نفي المرسل إنما هو "في نفي الأولين" ما علم إلغاؤه والغريب المرسل.
ثم هذا كله على ما يقتضيه سوق الكلام وهو الموافق لكلام ابن الحاجب وشارحيه والذي في تنقيح المحصول للقرافي أن ما جهل حاله من الإلغاء والاعتبار هو المصلحة المرسلة التي تقول بها المالكية ويوافقه تفسير الإسنوي بالمناسب المرسل الذي اعتبره مالك كما ذكره البيضاوي بهذا ومشى عليه السبكي في جمع الجوامع ثم قال الإسنوي وفيه ثلاثة مذاهب أحدها أنه غير معتبر مطلقا قال ابن الحاجب وهو المختار وقال الآمدي إنه الحق الذي اتفق عليه الفقهاء والثاني أنه حجة مطلقا وهو مشهور عن مالك واختاره إمام الحرمين قال ابن الحاجب وقد نقل أيضا عن الشافعي. وكذا قال إمام الحرمين إلا أنه شرط أن تكون تلك المصالح شبيهة بالمصالح المعتبرة والثالث وهو رأي الغزالي واختاره البيضاوي أنه إن كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية اعتبرت وإلا فلا ا هـ فجعلا ما تقدم من أن ما جهل حاله من الاعتبار وعدمه مردود اتفاقا محل الخلاف المذكور في المرسل الملائم نعم نسبة الإسنوي ابن الحاجب إلى أنه قال فيما جهل حاله: المختار أنه غير معتبر ليست كذلك بل إنما ذكره في سبيل الملائم والله سبحانه أعلم.(5/397)
"وجعل الآمدي الخارجي" أي المحقق في الخارج "من الملائم" قسما "واحدا" وهو ما اعتبر فيه خصوص الوصف في خصوص الحكم وعمومه في عمومه "قال" "المناسب إن" كان "معتبرا بنص أو إجماع" "فالمؤثر وإلا فإن" كان معتبرا "بترتيب الحكم على وفقه فتسعة لأنه إما أن يعتبر خصوص الوصف أو عمومه أو خصوصه وعمومه" معا "في عين الحكم أو جنسه أو عينه وجنسه" جميعا "ثم غير المعتبر إما أن يظهر إلغاؤه أو لا" فهذه جملة الأقسام "والواقع منها في الشرع لا يزيد على خمسة ما اعتبر خصوص الوصف في خصوص الحكم وعمومه" أي الوصف "في عمومه" أي الحكم في محل آخر "ويسمى الملائم كقتل المثقل إلخ" أي كقياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد بجامع القتل العمد العدوان وقد ظهر تأثير عينه في عين الحكم وهو وجوب القتل في المحدد وتأثير جنسه وهو الجناية على المعصوم بالقود في جنس القتل من حيث القصاص في الأيدي فهذا هو الأول. قال الآمدي وهذا القسم متفق على قبوله بين القائسين وما عداه فمختلف فيه "وما اعتبر الخصوص" في الخصوص "فقط" لكن "لا بنص أو إجماع وهو المناسب الغريب كالإسكار في تحريم الخمر لو لم ينص" أي على تقدير عدم النص "إنما على عينه" أي الوصف "في عينه" أي الحكم "إذ لم يظهر اعتبار عينه" أي الوصف في جنس الحكم "ولا" اعتبار "جنسه" أي الوصف "في(5/398)
ص -194-…جنسه" أي الحكم "أو عينه" أي الحكم فهذا هو الثاني "وما اعتبر جنسه" أي الوصف "في جنسه" أي الحكم "فقط ولا نص ولا إجماع وهذا من جنس المناسب الغريب إلا أنه" أي هذا القسم "دون ما سبق وذلك كاعتبار جنس المشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في جنس التخفيف المتناول لإسقاط الصلاة" أصلا "و" إسقاط "الركعتين" من الرباعية فهذا هو الثالث "وما لم يثبت" اعتباره ولا إلغاؤه "كالتترس" أي تترس الكفار بالمسلمين كما هو سبق وهو المناسب المرسل فهذا هو الرابع "أو" المناسب الذي "ثبت إلغاؤه" ولم يثبت اعتباره كما في إيجاب صوم شهرين متتابعين على الملك في كفارة لفطر في رمضان فهذا هو الخامس "ثم جنس كل" من الحكم والوصف ثلاث مراتب "قريب" أي سافل وهو الذي بينه وبينه واسطة "وبعيد" أي عال وهو جنس تحته جنس ليس فوقه ما هو أعم منه من الأجناس "ومتوسط" بينهما وهو جنس من الطرفين أما على السواء أو على أنه إلى أحد الطرفين أقرب منه إلى الطرف الآخر "فالعالي" من الحكم "الحكم ثم الوجوب وأحد مقابلاته" من التحريم والندب والكراهة والإباحة "ثم العبادة" في العبادات "أو المعاملة" في المعاملات "ثم الصلاة" في العبادات "أو البيع" في المعاملات "ثم المكتوبة أو النافلة" في العبادات "أو البيع بشرطه" في المعاملات "على تساهل" في هذه الجملة "لا يخفى لأنها" أي العبادة وما بعدها "أفعال لا أحكام والوصف" أي والجنس العالي منه "كونه وصفا يناط به الأحكام ثم المناسب ثم المصلحة الضرورية ثم حفظ النفس أو مقابلاته" أي حفظ الدين وحفظ العقل وحفظ النسب وحفظ المال. وهذا جنس سافل له وما بينهما أجناس متوسطة "ومثل الوصف أيضا" في ترتب أجناسه "بعجز الصبي غير العاقل وعجز المجنون نوعان" من العجز "جنسهما العجز لعدم العقل وفوقه" أي العجز لعدم العقل "العجز لضعف القوى أعم من الظاهرة والباطنة على ما يشمل المريض" وفوقه الجنس الذي هو العجز الناشئ عن الفاعل بدون(5/399)
اختياره على ما يشتمل المحبوس وفوقه الجنس الذي هو العجز الناشئ عن الفاعل على ما يشتمل المسافر أيضا وفوقه مطلق العجز الشامل لما ينشأ عن الفاعل وعن محل الفعل وعن الخارج كذا في التلويح فهذا هو الجنس العالي بالنسبة إلى عجز الإنسان وتحته أجناس متوسطة وهي العجز الناشئ عن الفاعل والعجز الناشئ عن محل الفعل والعجز الناشئ عن الخارج وتحت كل منهما جنس مثلا تحت العجز الناشئ عن الفاعل مطلقا جنس هو العجز الناشئ عن الفاعل بدون اختياره وتحته جنس هو العجز بسبب ضعف القوى وتحته جنس أيضا هو العجز بسبب عدم العقل وتحته نوع هو عجز الصبي وعجز المجنون ويقابل كلا من ذلك حكم فيتعلق بالعجز بسبب عدم العقل حكم هو سقوط ما يحتاج إلى النية كالعبادات ويتعلق بالعجز بسبب ضعف القوى حكم هو سقوط وجوب الحج والجهاد ويتعلق بالعجز الناشئ عن الفاعل بدون اختباره حكم هو سقوط المطالبة في الحال وهو وجوب الأداء في حق الصلاة ويتعلق بالعجز الناشئ عن الفاعل مطلقا حكم هو سقوط المطالبة في الحال في العبادات البدنية والترخص بقصر الصلاة ويتعلق بمطلق العجز حكم فيه تخفيف في الجملة(5/400)
ص -195-…للنصوص الدالة على عدم الحرج والضرر "ولا يشكل أن الظن باعتبار الأقرب فالأقرب أقوى لكثرة ما به الاشتراك" في الأقرب بالنسبة إلى الأبعد مثلا ما اشتمل عليه الحساس يشتمل عليه النامي وما اشتمل عليه النامي يشتمل عليه الجسم وما اشتمل عليه الجسم يشتمل عليه الحيوان فما يشارك الإنسان في الحيوانية يشاركه في جميع هذه الأمور بخلاف مشاركه في الجسمية أو النمو والحاصل أن أقوى الأوصاف في العلية السافل وأضعفها العالي والمتوسطات مترتبة في القوة والضعف بحسب ترتبها في الصعود والنزول فما هو أقرب إلى السافل فهو أقوى مما هو أقرب إلى العالي.(5/401)
"وشرط بعضهم" أي الشافعية في وجوب العمل بالملائم "شهادة الأصول" مريدين بها بعد أن يقابل الوصف بقوانين الشرع فيطابقها "سلامته" أي الوصف "من إبطاله بنص أو إجماع أو تخلف" للحكم المنوط به "عنه" في بعض صور وجوده "أو وجود وصف يقتضي ضد موجبه" من غير تعرض لنفس الوصف "كلا زكاة في ذكور الخيل فلا" زكاة "في إناثها بشهادة الأصول بالتسوية" بين الذكور والإناث في سائر السوائم في الزكاة وجوبا وسقوطا لأن الأصول شهداء الله على أحكامه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال حياته فيكون العرض عليها وامتناعها من رده دليل عدالته كالعرض عليه في حياته وسكوته عن الرد ثم قيل لا بد من العرض على كل الأصول لأن احتمال النقض والمعارضة لا ينقطع إلا به. وقيل أدنى ما يجب العرض عليه أصلان لأن العرض على الكل متعذر أو متعسر فوجب الاقتصار على أصلين كما في الاقتصار في تزكية الشاهد على اثنين قلت ورد الأول لا شك فيه لإسقاط الشارع الحرج في المتعسر وسقوط التكليف بالمتعذر على أنه كما قال شمس الأئمة السرخسي ومن شرط العرض على كل الأصول لم يجد بدا من العمل بلا دليل لأنه وإن استقصى في العرض فالخصم يقول وراء هذا أصل آخر هو معارض أو ناقض لا يدعيه فلا يجد بدا من أن يقول لم يقم عندي دليل النقض والمعارضة ومثل هذا لا يصلح حجة لإلزام الخصم. وأما الثاني فعليه أن يقال حيث كان العرض تزكية أو كالتزكية في الشاهد فينبغي الاكتفاء بالعرض على أصل واحد كما يكتفي في تزكية الشاهد بالواحد كما هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومالك وأحمد في رواية وكأن قائل هذا إنما لم يكتف بما يعرض على أصل واحد لأنه من القائلين بأن التزكية لا بد فيها من اثنين كما هو قول محمد والشافعي ورواية عن أحمد وأجاب مشايخنا بأن عدالة الوصف إنما تثبت بالتأثير والفرض ظهوره والعرض على الأصول لا يقع به التعديل والأصول شهود للحكم كما توصف العلل بالحكم1 لا مزكون فهي كثرة نظائر(5/402)
وذكر النظائر له لا يحدث له قوة كالشاهد إذا انضم إليه أفعاله لا تظهر به عدالته والله سبحانه أعلم.
1 قوله كما توصف العلل به الحكم كذا في النسخ التي بأيدينا ولعل العبارة كالوصف المعلل به الحكم وبعد هذا فليحرر اهـ. مصححه.(5/403)
ص -196-…"واعلم أن الحنفية" قائلون "التعليل بكل من الأربعة" أي العين في العين وفي الجنس والجنس في الجنس وفي العين "مقبول فإن" كان التعليل "بما عينه أو جنسه" مؤثر "في عين الحكم فقياس اتفاقا للزوم أصل القياس" في كل من هذين ويقال لما تأثير عينه في عين الحكم إنه في معنى الأصل وهو المقطوع به الذي ربما يقر به منكر والقياس إذ لا فرق إلا بتعدد المحل "وإلا" فإن كان عينه في جنس الحكم أو جنسه في جنسه "فقد" يكون قياسا "بأن يكون" ما عينه في جنس الحكم هو من قبيل ما يكون "العين في العين أيضا" فيستدعى أصلا مقيسا عليه "فيكون مركبا". وكذا ما جنسه في جنسه قد يكون مع ذلك في عينه فيكون له أصل فيكون قياسا وقد لا فيكون من أقسام المرسل التي يجب قبولها للحنفية إذ كل من أقسام الأربعة من أقسام المؤثر حتى دخل فيه، ذكره المصنف "وشمس الأئمة" السرخسي قال الأصح عندي "الكل قياس دائما لأن مثله" أي هذا الوصف "لا بد له من أصل قياس" في الشرع لا محالة "إلا أنه قد يترك لظهوره" كما قلنا في إيداع الصبي لأنه سلطه على ذلك فإنه بهذا الوصف يكون مقيسا على أصل واضح وهو أن من أباح الصبي طعاما فتناوله لم يضمن لأنه بالإباحة سلطه على تناوله فتركنا ذكر هذا الأصل لوضوحه وربما لا يقع الاستغناء عنه فيذكر كما قال علماؤنا في طول الحرة إنه لا يمنع نكاح الأمة: إن كل نكاح يصح من العبد بإذن المولى فهو صحيح من الحر كنكاح الحرة فهذا إشارة إلى معنى مؤثر وهو أن الرق ينصف الحل الذي يبتني عليه عقد النكاح شرعا ولا يبدله بحل آخر فيكون الرقيق في النصف الباقي بمنزلة الحر في الكل لأنه ذلك الحل بعينه ولكن في هذا المعنى بعض الغموض فتقع الحاجة إلى ذكر الأصل "وعلى هذا" الذي ذهب إليه شمس الأئمة "لا بد في التعليل مطلقا من العين في العين أو الجنس فيه" أي العين "فإن أصل القياس لا يتحقق إلا بذلك" أي بتأثير العين في العين أو الجنس في العين "فلا يعلل(5/404)
بالجنس في الجنس أو العين في الجنس تعليلا بسيطا أصلا ويحتاج إلى استقراء يفيده" أي هذا المطلوب "ثم قولهم" أي الحنفية "بكل من الأربعة" المذكورة "يشمل العين في العين فقط" كما يشمل الثلاثة الأقسام الأخر: جنسه في عينه فقط وجنسه في جنسه فقط وعينه في جنسه فقط. "ومرادهم" أي الحنفية "إذا ثبت" التأثير المذكور "بنص أو إجماع وإلا لزمه" أي الوصف المعلل به "التركيب" والكلام إنما هو في البسيط "وسمى بعضهم" أي صدر الشريعة موافقة للإمام الرازي "ما يوجد من أصل القياس" أي ما يكون لحكمه أصل معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه "شهادة الأصل فشهادة الأصل أعم من كل من الاعتبارين" أي اعتبار النوع في النوع واعتبار الجنس في النوع "مطلقا أي بصدق" شهادة الأصل "عنده" أي ما يوجد من أصل القياس أي لأنه كلما وجد اعتبار نوع الوصف أو جنسه في نوع الحكم فقد وجد للحكم أصل معين من نوع يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه لكن لا يلزم أنه كلما وجد له أصل معين يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه فقد وجد اعتبار نوع الوصف أو جنسه في نوع الحكم لجواز عدم اعتبار الشارع له مع وجوده "ومن الآخرين" أي وشهادة الأصل أعم من اعتبار الجنس في الجنس واعتبار النوع(5/405)
ص -197-…في الجنس "من وجه" فتوجد شهادة الأصل بدون كل منهما ويوجد كل منهما بدون شهادة الأصل. وقد يوجدان معا ذكره صدر الشريعة ويلزم منه إثبات شهادة الأصل بدون التأثير وتعقبه في التلويح بأن فيه نظرا لأن التحقق بدون كل من الأربعة لا يستلزم جواز التحقق بدون المجموع فيجوز أن يكون أعم من الأولين باعتبار أن يوجد في الآخرين وبالعكس فبمجرد ذلك لا يلزم أن يوجد بدون التأثير وأجيب بأنه لما كان أحد نوعي الغريب وهو المردود مما لم يعلم أن الشارع اعتبره أم لا دل على عدم اعتباره في الجملة وهو يقتضي انفكاكه عن التأثير في الجملة والانفكاك عن التأثير يقتضي جواز التحقق بدون المجموع ونظر المتعقب إنما يتوجه إذا لوحظت النسبة بينها وبين الأربعة بدون ملاحظة المعنى الذي اعتبر في الغريب المردود.(5/406)
"المشهور من معنى شهادة الأصل ما ذكرنا" أولا "ثم لا يخفى أن لزوم القياس مما جنسه" أي جنس عين الوصف الثابت في الأصل بنص أو إجماع "في العين" أي عين الحكم المذكور في الأصل "ليس إلا بجعل العين" أي عين الوصف "علة" لذلك الحكم "باعتبار تضمنها" أي عين الوصف "العلة" لذلك الحكم أعني بها "جنسه" أي جنس الوصف المذكور "فيرجع إلى اعتبار العين في العين" وينتفي هذا القسم في التحقيق مثلا إذا علل عتق الأخ عند شراء أخيه إياه لأنه ملكه أخوه. ودل على اعتباره بتأثير ملك ذي الرحم المحرم في عين الحكم وهو الجنس في العين كان المؤثر في الحقيقة في العين ليس إلا ملك ذي الرحم المحرم وثبوت العتق مع ملك الأخ ليس لملك الأخ بل لملك ذي المحرمية فليس في التحقيق إلا قسمان من الدال على الاعتبار ثبوت تأثير العين في الجنس والجنس في الجنس ذكره المصنف "والبسائط أربع من العين والجنس في العين والجنس" حاصلة من ضرب العين والجنس في العين والجنس عين في عين جنس في جنس عين في جنس قلبه "هي" أي هذه الأربع هي "المؤثر وثلاثة ملائم المرسل" المتقدمة "أما الملائم" الذي هو من أقسام الأول المقابل للمرسل "فيلزمه التركيب لأنه لا بد من ثبوت عينه في عينه" أي الحكم "بترتيب الحكم معه في المحل ثم ثبوت اعتبار عينه في جنس الحكم أو" ثبوت اعتبار "قلبه" أي جنسه في عين الحكم وتقدم قريبا ما فيه من البحث "أو" ثبوت اعتبار "جنسه في جنسه" أي الحكم "فأقل ما يلزم من الملائم تركيبه من اثنين" وإلا فقد يكون من أكثر من اثنين كما سيعلم "والمركب إما من الأربعة قيل" أي ذكر في التلويح "كالسكر" فإن عين هذا الوصف مؤثر "في الحرمة" أي في عين الحكم الذي هو حرمة الشرب "وجنسه" أي السكر وهو "إيقاع العداوة والبغضاء" مؤثر "فيها" أي الحرمة لأن إيقاع العداوة كما يكون بسبب السكر يكون بغيره "ثم" السكر مؤثر "في وجوب الزاجر أعم من الأخروي كالحرق والدنيوي كالحد" وهذا جنس الحكم(5/407)
"وجنسه" أي السكر "الإيقاع" في العداوة والبغضاء مؤثر "في الحد في القذف" وهو جنس الحكم بناء على أن السكر لما كان مظنة للقذف صار المعنى المشترك بينهما وهو إيقاع العداوة والبغضاء مؤثرا في وجوب الزاجر. قال المصنف رحمه الله "ولا يخفى أن وجوب الحرق" في النار في(5/408)
ص -198-…الدار الآخرة "بعد أنه اعتزال" لجواز عدمه عند أهل السنة "غير الحكم الذي نحن فيه" وهو التكليفي "وأن تأثيره" أي السكر "في وجوب الزاجر ليس" تأثيرا "في جنس حرمة الشرب" ليكون من تأثير العين في الجنس "وإنما يصح" أن يكون من تأثير العين في الجنس "لتأثير السكر في حرمة الإيقاع" في العداوة والبغضاء أيضا كما أثر في حرمة الشرب فيكون العين قد أثر في الجنس وأثر في العين "والإيقاع" في العداوة والبغضاء أثر "في حرمة القذف كما أثر في" حرمة "الشرب" أيضا فيكون جنس الوصف وهو الإيقاع قد أثر في الجنس الذي هو الحرمة من حرمة الشرب والقذف كما أثر في العين الذي هو حرمة الشرب "للتصريح بأن المراد بجنسهما" أي الوصف والحكم "ما هو أعم من كل" منهما "فيلزم التصادق لا يقال مجيء مثله" أي هذا الكلام "في الإيقاع مع السكر" لأنا نقول لا "لأن المراد به" أي بالإيقاع "موقع العداوة وهو" أي موقعها "أعم من السكر والقذف" أي زمن الكلام الذي هو قذف فيصدق السكر موقع العداوة والكلام الذي هو قذف موقع العداوة "فيحرمهما" أي موقع العداوة السكر والقذف "وأما من ثلاثة فأربعة فما سوى العين في العين" لأن التركيب من ثلاثة بإسقاط واحد من الأربعة التي هي العين في العين وفي الجنس والجنس في الجنس وفي العين. فإن كان الساقط العين في العين كان المركب مما سواه وهو العين في الجنس والجنس في العين والجنس واحد وإن كان الساقط العين في الجنس فالمركب العين في العين والجنس في العين والجنس وهو ثان وإن كان الساقط الجنس في الجنس فالمركب حينئذ من العين في العين والجنس والجنس في العين ثالث وإن كان الساقط الجنس في العين فالمركب من العين في العين والجنس، والجنس في الجنس رابع ذكره المصنف فنقول "التيمم" أي صحته وهذا هو الحكم "عند خوف فوت صلاة العيد" وهذا عين الوصف "فالجنس" للوصف "العجز بحسب المحل" عما يحتاج إليه شرعا وهو في هذا المثال صلاة العيد(5/409)
والوصف مؤثر "في الجنس" أي جنس التيمم أي "سقوط ما يحتاج" إليه في الصلاة "و" مؤثر "في العين التيمم" لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43، والمائدة:6] إقامة لأحد العناصر مقام الآخر فإن التراب مطهر في بعض الأحوال بحيث ينشف النجاسات "والعين" للوصف "العجز عن الماء" مؤثر "في الجنس" للحكم أي "سقوط استعماله" أي عدم وجوب استعمال الماء "فإنه" أي استعماله "أعم من استعماله للحدث والخبث لكن العين" للوصف وهو "خوف الفوت لم يؤثر في العين" للحكم أي "التيمم من حيث هو تيمم بنص أو إجماع فقد جعلت" العين للوصف "مرة خوف الفوت ومرة العجز عن الماء لأنهما" أي الخوف والعجز "واحد" معنى "لأن العجز مخيف. فإن قلت خوف الفوت وهو الوصف المعلل به في المتنازع فيه وهو الفرع" أي صلاة العيد "والمراد من الوصف المنظور في أن جنسه أثر في جنس الحكم أو عينه" أي الحكم "ما في الأصل ليدل به" أي بتأثير جنسه في جنس الحكم أو عينه "على اعتباره" أي الوصف المعلل به المذكور "علة في نظر الشارع قلت ذلك" أي كون المراد بالوصف المذكور ما في الأصل إنما هو "في غير المرسل والتعليل به" أي بغير المرسل "قياس وليس(5/410)
ص -199-…هذا القسم" أي المركب من ثلاثة ليس منها العين مع العين في المحل "إلا مرسلا فلا يتصور فيه قياس ولا استدعى أصلا فلزمه" حينئذ "العين مع العين في الأصل والمرسل مأخوذ فيه عدمه" أي العين مع العين في الأصل "فالتعليل بالمرسل" تعليل "بمصالح خاصة ابتداء اعتبرت في جنس الحكم الذي يراد إثباته أو جنسها" أي المصالح "في عينه" أي الحكم "أو جنسه لكن تشترط الضرورية والكلية" فيها "على ما تقدم عند قائله" أي المرسل وهو الغزالي "فإن قلت المثال حنفي وهو" أي الحنفي "يمنع المرسل" فكيف يتم على قوله "قلنا سبق أنه يجب القول بعملهم ببعض ما يسمى مرسلا عند الشافعية ويدخل" ذلك "في المؤثر عندهم" أي الحنفية "كما سيظهر والمركب مما سوى الجنس في العين العجز عن غير ماء الشرب في التيمم" أي جوازه "وهو" أي وهذا هو "العين في العين في محل النص" أي قوله تعالى: "{فَلَمْ تَجِدُوا} [النساء: 43] الآية "وجنسه" أي عين هذا الوصف المنصوص عليه "العجز الحكمي" عن الماء مطلقا وإنما جعله حكميا لأن الفرض أن عجزه عن غير ماء الشرب فقط فهو قادر عليه لكن لما كان مستحقا بالحاجة الأصلية وهي الشرب كان كأنه غير واجد له فكان عجزه عنه حكميا لا حقيقيا ذكره المصنف مؤثر "في جنسه" أي الحكم أي "سقوط استعماله" أي ماء الشرب فإنه أعم من استعماله في الحدث والخبث "وعينه" أي الوصف "عدم وجدانه" أي ماء الشرب مؤثر "في جنسه" أي الحكم الذي هو سقوط استعماله أي "السقوط دفعا للهلاك والجنس غير مؤثر فيه" أي العين "لأن العجز المذكور" وهو العجز الحكمي مطلقا "غير مؤثر في" جواز أو وجوب "التيمم من حيث هو تيمم" بل إنما أثر في سقوط استعمال الماء مطلقا من حدث أو خبث كما ذكر آنفا. "و" المركب "من غير العين في الجنس كالحيض في حرمة القربان" أي وهذا هو "العين في العين وجنسه" أي الحيض "الأذى" مؤثر "فيه" أي في تحريم القربان "أيضا و" مؤثر "في الجنس" لحرمة القربان أي(5/411)
"حرمة الجماع مطلقا" فتدخل حرمة اللواط وغير خاف أن هذا أولى مما في التلويح أنه وجوب الاعتزال "و" المركب "من غير الجنس في الجنس كالحيض علة لحرمة الصلاة وهو" أي وهذا هو "العين في العين و" علة "جنسه" أي عين الحكم "حرمة القراءة" حال كونها "أعم مما في الصلاة" وخارجها "وجنسه" أي الحيض "الخارج من السبيلين" مؤثر "في حرمة الصلاة لا الجنس" أي لكنه غير مؤثر في جنس الحكم أي "حرمة القراءة مطلقا والمركب من اثنين العين في العين مع الجنس فيه" أي العين "الطوف" فإنه علة "في طهارة سؤر الهرة" كما تقدم في الحديث "وجنسه" أي الطوف وهو "مخالطة نجاسة يشق الاحتراز عنها" علة للطهارة كآبار الفلوات "و" المركب "من العين في العين وفي الجنس المرض" فإنه مؤثر "في الفطر و" مؤثر "في جنسه" أي المرض "التخفيف في العبادة بثبوت القعود" في المكتوبة "و" المركب "من العين في العين مع الجنس في الجنس كالجنون المطبق" فإنه مؤثر "في ولاية النكاح" فهذا من العين في العين "وجنسه" أي الجنون المطبق "العجز بعدم العقل لشموله" أي العجز "الصغر" مؤثر "في جنسها" أي ولاية الإنكاح وهو الولاية مطلقا "لثبوتها" أي الولاية "في المال و" المركب "من الجنس في العين والجنس(5/412)
ص -200-…كجنس الصغر العجز لعدم العقل" مؤثر "في ولاية المال" للحاجة إلى بقاء النفس "و" في "مطلقها" أي الولاية "فتثبت" الولاية "في كل منه" أي المال "ومن النفس و" المركب "من الجنس في العين وقلبه" أي ومن العين في الجنس "خروج النجاسة" لأنها أعم من كونها من السبيلين أو غيرهما وهو مؤثر "في وجوب الوضوء ثم خروجها من غير السبيلين" مؤثر "في وجوب إزالتها" وهو أعم من الوضوء لأنه إزالة النجاسة الحكمية وإزالة النجاسة أعم من إزالة النجاسة الحقيقية والحكمية فكان جنس الوضوء قال المصنف "وهذا لا يستقيم لانتفاء تأثير خروج النجاسة إلا في الحدث ثم بوجوب ما شرط له" إزالتها "تجب" إزالتها. "و" المركب "من العين والجنس في الجنس والجنون والصبا" فإن كلا منهما مؤثر "في سقوط العبادة" للاحتياج إلى النية "وجنسه" أي كل منهما الذي هو العجز بعدم العقل "العجز لخلل القوى" فإنه مؤثر "فيه" أي في سقوط العبادة "وظهر أن ستة" المركب "الثنائي ثلاثة قياس" وهي الأولى "وثلاثة مرسل" وهي الأخيرة "وثلاثة من أربعة" المركب "الثلاثي قياس" وهي الثلاثة الأخيرة منها "وواحد لا" أي ليس بقياس وهو الأول منها "هذا والأكثر تركيبا يقدم عند تعارضها" أي المركبات "والمركب" يقدم "على البسيط" عند تعارضهما لأن قوة الوصف إنما هي بحسب التأثير والتأثير اعتبار الشرع فكلما كثر الاعتبار قوي الآثار فيكون المركب أقوى من البسيط والمركب من أجزاء أكثر أقوى من المركب من أجزاء أقل لكن كما قال في التلويح وأنت خبير بأنه إنما يستقيم فيما سوى اعتبار النوع في النوع فإنه أقوى الكل لأنه بمنزلة النص حتى كاد يقر به منكرو القياس إذ لا فرق إلا بتعدي المحل فالمركب في غيره لا يكون أقوى منه.(5/413)
"وأما الحنفية فطائفة منهم فخر الإسلام" والسرخسي وأبو زيد "لا بد قبل التعليل في المناظرة من الدلالة على معلولية هذا الأصل" المقيس عليه بل قال السرخسي والأشبه بمذهب الشافعي أن الأصول معلولة في الأصل إلا أنه لا بد لجواز التعليل في كل أصل من دليل مميز والمذهب عند علمائنا أنه لا بد مع هذا من قيام دليل يدل على كونه معلولا في الحال انتهى إلا إذا اتفقوا على كونه معلولا مع اختلافهم في الوصف الذي هو علة لمساعدة الخصم على ذلك فلا يحتاج إلى إقامة دليل آخر عليه. "ولا يكفي" قول المعلل "الأصل" في النصوص التعليل كما عزاه في الميزان إلى عامة مثبتي القياس والشافعي وبعض أصحابنا وهو المختار "لأنه" أي الأصل "مستصحب يكفي للدفع" أي لدفع ثبوت ما لم يعلم ثبوته "لا الإثبات" على الخصم "كما سيعلم" في بحث الاستصحاب آخر هذه المقالة وهذا "بخلاف الإثبات لنفسه" فإنه لا يلزمه قبل التعليل لنفسه الدلالة على معلولية ذلك الأصل الذي هو بصدد القياس عليه "كنقض الخارج من السبيلين يستدل على معلوليته" أي كون الخارج النجس المذكور علة للنقض "بالإجماع على ثبوته" أي النقض بالخارج النجس "في مثقوب السرة" إذا خرج منها قياسا على النقض بالخارج النجس من السبيلين "فعلم" بدلالة الإجماع "تعديه" أي النقض "عن محل النص" الذي هو السيلان إلى ما سواه من البدن إذ لو كان(5/414)
ص -201-…خصوص المحل معتبرا في النقض بالخارج منه لما جاز قيام غيره مكانه بالرأي لأن الأبدال لا تنصب بالرأي "فصح تعليله" أي النقض بالخارج النجس من السبيلين "بنجاسة الخارج" وإنما قال هكذا لأن الضد هو المؤثر في رفع ضده فصفة النجاسة هي الرافعة للطهارة والعين الخارجة معروضها التي هي قائمة بها "ليثبت النقض به" أي الخارج النجس "من سائر البدن وطائفة لا" تشترط الدلالة على معلولية الأصل قبل التعليل في المناظرة "إذ لم يعرف" ذلك "في مناظرة قط للصحابة والتابعين" وكفى بهم قدرة "ولأن إقامة الدليل على علية الوصف ولا بد منه" في إلحاق الفرع بالأصل في حكمه بواسطته "يتضمنه" أي كون الأصل معلولا "فأغنى" بيان الدليل على علية الوصف عن الاستدلال على كون الأصل معلولا. "وهذا" القول "أوجه" كما هو ظاهر.(5/415)
"ثم دليل اعتباره" أي الوصف المدعى عليته بعينه في الحكم المعين "النص والإجماع وسيأتيان والتأثير" وهو "ظهور أثره" أي الوصف "شرعا ويسمونه" أي التأثير "عدالته" أي الوصف "ويستلزم" التأثير "مناسبته" أي الوصف للحكم بأن يصح إضافة الحكم إليه "ويسمونها" أي مناسبته "ملاءمته" بالهمزة أي موافقته للحكم "وتستلزم" مناسبته "كونه" أي الوصف "غير ناب" أي بعيد "عن الحكم" وهذا هو المعنى بصلاح الوصف للحكم "كتعليل" وقوع "الفرقة" بين الزوجين الكافرين إذا أسلمت وأبى "بالإباء" فإنه يناسبه "بخلافها" أي الفرقة "بإسلام الزوجة" فإنه ناب عنه لأن الإسلام عرف عاصما للحقوق والأملاك قاطعا لها وكيف لا وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى" والمحظور يصلح سببا للعقوبة وانقطاع النكاح عقوبة وإباء الإسلام رأس أسباب العقوبات فصلح أن يكون سببا له "كما سيأتي" ذكره في فساد الوضع وهذا هو المراد بقولهم صلاح الوصف كونه موافقا للعلل المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن السلف فإنهم كانوا يعللون مناسبة الأحكام غير نابية عنها فما كان موافقا لها يصلح علة وما لا فلا لأن الكلام في العلة الشرعية والمقصود إثبات حكم شرع بها فلا بد أن تكون موافقة لما نقل عمن عرفت أحكام الشرع ببيانهم "وفسر" التأثير "بأن يكون لجنسه" أي الوصف "تأثير في عين الحكم كإسقاط الصلاة الكثيرة" بأن تزيد على خمس "بالإغماء" إذ "لجنسه" أي الوصف المعلل به الذي هو الإغماء وهو العجز عن الأداء تأثير "فيه" أي في عين الحكم الذي هو إسقاط الصلاة وما يقال إنه الحرج حتى لا يجب القضاء إذا ذهب العجز فهو علة العلة "أو" لجنسه تأثير "في جنسه" أي الحكم "كالإسقاط" للصلاة عن الحائض(5/416)
"بمشقته" أي فعلها بواسطة كثرتها. "وجنسه" أي هذا الوصف "المشقة المتحققة في مشقة السفر" مؤثر "في جنسه" أي الحكم "السقوط الكائن في الركعتين" من الرباعية "وعن بعضهم نفيه" أي كون تأثير الجنس في الجنس من التأثير "ومن الحنفية من يقتصر عليه" أي على أن التأثير هو اعتبار الجنس في الجنس في موضع آخر نصا أو إجماعا(5/417)
ص -202-…كما عزاه صاحب الكشف إلى فخر الإسلام في بعض مصنفاته ولما كان ظاهر هذا يفيد سقوط الجنس في العين وقبله والعين في العين من التأثير وبعضه متجه عند المصنف دون البعض أشار إليه بقوله "والوجه سقوط الجنس في العين" من التأثير "بما قدمنا" كأنه يريد قوله ثم لا يخفى أن لزوم القياس مما جنسه في العين ليس إلا بجعل العين علة باعتبار تضمنها لعلة جنسه فيرجع إلى اعتبار العين في العين "دون" سقوط "قبله" أي العين في الجنس من التأثير "بتأمل يسير" لانتفاء اللازم المذكور فيه "أو" يكون "لعينه" أي الوصف تأثير في جنس الحكم "كالإخوة لأب وأم في التقدم" على الأخ لأب "في ولاية الإنكاح" للصغير والصغيرة وهذا هو عين الحكم المؤثر فيه عين الوصف المذكور فهو مؤثر فيه "في جنسه" أي الحكم المذكور "التقديم" الصادق على كل من التقدم "في الميراث" والإنكاح "أو" يكون لعينه تأثير "في عينه ذكره في الكشف الصغير" ثم صدر الشريعة "ويلزمه" أي هذا الكلام "كونه" أي الحكم "بالنص والإجماع كالسكر في الحرمة" إذ كل منهما عين والسكر علة للحرمة بالنص والإجماع. "وهو" أي كون الحكم بهما أو أحدهما "مخرج له" أي للحكم المذكور "عن دلالة التأثير على الاعتبار" أي كون الوصف معتبرا بالتأثير فتكون علته مستنبطة "إلى المنصوصة" أي إلى أن تكون منصوصة فلا تكون من أقسام المؤثر بل من الحكم الثابت بالنص أو الإجماع وإنما يلزم هذا الكلام هذا "إذ لم يبق مع ظهور المناسبة" بعد النص والإجماع دليل على الاعتبار "إلا الإخالة" فإن المناسبة إذا ظهرت فدليل اعتبار ما قامت به أما النص أو الإجماع أو التأثير وهو بثبوت تأثير جنس الوصف المناسب في جنس الحكم الذي يراد إثباته أو الإخالة فإذا فرض ثبوت تأثير العين في العين بنص خرج عن التأثير. "وينفون" أي الحنفية "إيجابها" أي الإخالة الحكم "مجوزي العمل قبله" أي التأثير "بها" أي الإخالة "كالقضاء بالمستورين ينفذ ولا يجب" هذا(5/418)
ويظهر أن الأولى في حسن السياق أن يقول بعد قوله في الركعتين أو لعينه في جنسه كالإخوة لأب وأم في التقدم على الأخ لأب في ولاية الإنكاح وهو مؤثر في جنسه التقدم في الميراث أو لعينه في عينه كما في كشف المنار وغيره ثم عن بعضهم نفي الجنس في الجنس من التأثير ومنهم من اقتصر على أن التأثير وهو تأثير الجنس في الجنس والوجه سقوط الجنس في العين منه بما قدمناه دون قلبه بتأمل يسير ثم يلزم الكشف كونه إلخ "وظهر أن المؤثر عندهم" أي الحنفية "أعم منه" أي المؤثر عند الشافعية وهو ما ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في عين الحكم "ومن الملائم الأول" الذي هو من أقسام المناسب بأقسامه الثلاثة وهو ما ثبت اعتبار عينه في عينه بمجرد ثبوته مع الحكم في المحل مع اعتبار عينه في جنس الحكم بنص أو إجماع أو جنسه في عينه أو في جنسه "وما من المرسل" أي وثلاثة أقسام الملائم المرسل وهي ما لم يثبت العين مع العين في المحل لكن ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عينه أو جنسه "فشمل" المؤثر عند الحنفية وهو الذي ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في عين الحكم أو جنسه أو جنسه في عين الحكم أو جنسه "سبعة أقسام في عرف الشافعية إذ لم يقيدوا" أي الحنفية "الثلاثة" التي هي تأثير الجنس في عين(5/419)
ص -203-…الحكم أو في جنسه وتأثير العين في جنس الحكم "بوجود العين مع العين في المحل أي الأصل. وكذا تصريحهم" أي الحنفية "فيما تقدم بأن التعليل بما اعتبر جنسه إلخ" أي في عين الحكم أو جنسه، وما اعتبر عينه في عين الحكم أو جنسه "مقبول وقد لا يكون" التعليل بأحدهما "قياسا بأن لم يتركب مع أحد الأمرين" أي العين أو الجنس مع العين "ولا حاجة إلى تقييده" أي المقبول "لغير ما جنسه" أي ذلك الوصف "أبعد" أي ما اعتبر الشارع جنسه الأبعد "كتضمن مطلق مصلحة" أي كونه متضمنا لمصلحة في إثبات الحكم "بخلاف" جنسه "البعيد" الذي هو أقرب من ذلك الجنس الأبعد وقد اعتبره الشرع إذا كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية فإنه يقبل "كالرمي" أي كجوازه "إلى الترس المسلم إذا غلب ظن نجاتهم" أي أهل الإسلام بالرمي إليه "إذ لا سبيل إلى القطع" بالنجاة "كالغزالي بخلاف بعضهم في السفينة" أي رمي بعض من في السفينة في البحر إذا علمت نجاة البعض الآخرين في ذلك فإنه لا يجوز لأن المصلحة غير كلية كما تقدم وإنما تقع الحاجة إلى هذا التقييد وإن كانت هذه الجملة مفادة في توضيح صدر الشريعة "إذ دليل الاعتبار بالنص أو بالإجماع لم يتحقق في مطلقها" والكلام فيما ثبت اعتباره بالنص أو الإجماع ثم اعتبار العين في العين بمجرد إبداء المناسبة وهو الإخالة ليس موجبا للعمل ولا مجوزا له عند المصنف كما سيذكره قريبا وينبه عليه.(5/420)
"والإخالة إبداء المناسبة بين" حكم "الأصل والوصف بملاحظتهما" أي الوصف والحكم سمي بها لأن المناسبة المذكورة يخال أي يظن أن الوصف علة للحكم "فينتهض" إبداء مناسبة ذلك الوصف لذلك الحكم "على الخصم المنكر للمناسبة" أي لمناسبة الحكم لا المنكر للحكم لأن مجرد المناسبة لا توجب علية الوصف عند الحنفية لما عرف من كلامهم في الإخالة "وهو" أي الوصف المناسب "ما عن القاضي أبي زيد ما لو عرض على العقول تلقته الأمة بالقبول" ولفظه في التقويم بدون ذكر الأمة كما كانت عليه النسخة أولا وتقدم أيضا في أوائل فصل في العلة ولعله إنما زادها إشارة إلى أن المراد عامة العقول كما هو ظاهر الصيغة فيتضح عليه تفريع قوله "فإن المنكر حينئذ مكابر" أي معاند فلا يقبل إنكاره. "وقيل" أي وقال غير واحد كابن الحاجب "أراد" أبو زيد بكون المناسب ما ذكره "حجيته في حق نفسه فقط" أي يكفي هذا للناظر لأنه لا يكابر عقله فهو مأخوذ بما يغلب على ظنه لا للمناظر إذ ربما يقول الخصم هذا مما لا يتلقاه عقلي بالقبول فلا يكون مناسبا بالنسبة إلي وليس الاحتجاج بقول الغير علي أولى من القلب ومن ثمة منع أبو زيد التمسك بالمناسبة في إثبات علية الوصف في مقام المناظرة بل شرط ضم العدالة إليها بإقامة الدليل على كون الوصف ملائما مؤثرا للإلزام على الخصم "وقولهم" أي الحنفية "في نفيه" أي هذا الطريق المسمى بالإخالة لأنه "لا ينفك عن المعارضة إذ يقال" أي يقول المناظر "لم يقبله عقلي" عند قول المناظر هذا مناسب لأنه لو عرض على العقول تلقته بالقبول "يفيده" أي أن مراد أبي زيد كون المناسب ذلك إنما هو في حق نفسه "وإلا" لو كانوا قائلين بأن مراد أبي زيد حجيته في حق غيره أيضا "لم يسمع" قوله لم يقبله عقلي لأنه مكابرة حينئذ فلا يصح نفيهم له بأنه لا(5/421)
ص -204-…ينفك عن المعارضة "والحق أن المراد بإبداء المناسبة تفصيلها للمخاطب كقوله الإسكار إزالة العقل وهو" أي إزالة العقل "مفسدة يناسب حرمة ما تحصل به" الإزالة "و" يناسب "الزجر عنه" أي عما تحصل به الإزالة وهذا لا تتأتى فيه المعارضة "وتلك المعارضة في الإجمالي" أي دعوة المناسبة على سبيل الإجماع "كقبله عقلي أو ناسب عندي" ولم يبين وجه ذلك فانتفى نفيهم صحة اعتبار الإخالة بأنها لا تنفك عن المعارضة "نعم ينتهض" في دفع الإخالة وكون الوصف بعد ظهور مناسبته للحكم لا تثبت عليته للحكم "أنها" أي المناسبة "ليست ملزومة لوضع الشارع عليه ما قامت به" المناسبة أي ليس يلزم من وجود مناسبة وصف لحكم أن يكون ذلك الوصف علة لشرع ذلك الحكم في الشرع "للتخلف" للحكم "في معلوم الإلغاء" أي في وصف المناسب المعلوم الإلغاء "من المرسل وغيره" كما تقدم. "فإن قيل الظن حاصل قلنا إن عني ظن المناسبة للحكم فمسلم ولا يستلزم وضع الشارع إياه" أي الوصف علة للحكم "لما ذكرنا" من التخلف في المعلوم الإلغاء "واعلم أن مقتضى هذا" الوجه الذي ذكرناه لبيان إبطال كون الإخالة طريقا معتبرا لاعتبار الوصف "وما زادوه" أي الحنفية "من أوجه الإبطال" لكونها طريقا معتبرا أيضا "عدم جواز العمل به" أي الوصف المخال "قبل ظهور الأثر" بأحد الأوجه المتقدم بيانها لأن الأوجه المذكورة اقتضت إهدار اعتبار الإخالة شرعا فلو قلنا بجواز العمل بها قبل ظهور التأثير لكان تأثيرا للحكم الشرعي أعني الجواز من غير دليل "وليس القياس" لجواز العمل بها قبل ظهور التأثير "على" جواز "القضاء بمستورين" كما قالوا "صحيحا لأنه إن فرض فيه" أي في جواز القضاء بهما "دليل على خلاف الأصل" أي القياس إذ القياس أن لا يجوز الحكم بشهادة الشاهدين ما لم تعلم عدالتهما "فهو" أي الدليل المفروض في جواز القضاء بهما "منتف في جواز العمل" بالإخالة فيبقى ما ينسب حكما إلى الإخالة على أصل القياس من عدم(5/422)
الجواز وإنما قال إن فرض فيه دليل لانتقائه فيما يظهر "وإلا" لو لم ينتف بل كان دليل جواز العمل بالوصف ثابتا "وجب على المجتهد" العمل به إذ لا يتصور انفكاك جواز العمل بالوصف عن وجوبه به "لأنه" أي جواز العمل به "يفيد اعتبار الشارع" إياه "وهو" أي اعتبار الشارع إياه "ترتيب الحكم" عليه أي واعتبار الشارع الوصف ليس إلا بكونه مثبتا للحكم حيثما وجد وحينئذ يجب على المجتهد إثبات الحكم به في محال وجوده لا أنه يجوز له أن يحكم به وأن لا يحكم به إذ عدم الحكم به بعد جعل الشرع إياه مناطا للحكم أينما كان مخالفة للشرع ذكره المصنف وهذا ما تقدم الوعد بالتنبيه عليه.
"واعلم أن" "المناسبة لو" كانت "بحفظ أحد الضروريات" الخمس "لزم" العمل بها "على" قول "الكل" من الحنفية والشافعية "وليس" هذا الطريق "إخالة بل من المجمع على اعتباره" وهو ظاهر فلا تذهل عنه.
"تتمة قسم الحنفية ما يطلق عليه لفظ العلة بالاشتراك" اللفظي "أو المجاز لا حقيقتها إذ ليست" حقيقتها "إلا الخارج" عن المعلول "المؤثر" فيه فقسموا ما يطلق عليه لفظها بأحد(5/423)
ص -205-…ذينك الاعتبارين "إلى سبعة" من الأقسام "ثلاثة" منها "بسائط" وأربعة منها مركبة فالبسائط "إلى علة اسما وهي الموضوعة لموجبها أو المضاف إليها" الحكم "بلا واسطة" وإن كانت الواسطة ثابتة في الواقع ومعنى إضافة الحكم إلى العلة ما يفهم من قولنا قتله بالرمي وعتق بالشراء وهلك بالجرح وتفسيرها اسما بما تكون موضوعة في الشرع لأجل الحكم ومشروعة له إنما يصح في العلل الشرعية لا في مثل الرمي والجرح "و" إلى علة "معنى باعتبار تأثيرها" في إثبات الحكم "و" إلى علة "حكما بأن يتصل بها" الحكم "بلا تراخ وهي" أي العلة اسما ومعنى وحكما العلة "الحقيقية وما سواه" أي هذا المجموع "مجاز أو حقيقة قاصرة" كما هو مختار فخر الإسلام "والحق أن تلك" أي العلة اسما ومعنى وحكما العلة "التامة تلازمها وما سواها" أي تلك "قد يكون" علة "حقيقية لدورانها" أي الحقيقة "مع العلة معنى فتثبت" الحقيقة "في أربعة" التامة "كالبيع" الصحيح "المطلق" عن شرط الخيار "للملك والنكاح" الصحيح "للحل والقتل" العمد العدوان "للقصاص" وفي جامع الأسرار "والإعتاق لزوال الرق" فإن كلا من هذه علة اسما لوضعه لموجبه المذكور وإضافته إليه بغير واسطة ومعنى لأنه مؤثر فيه وحكما لأن موجبه غير متراخ عنه غير أنه كما قال "ويجب كونه" أي الإعتاق لزوال الرق "على قولهما" أي أبي يوسف ومحمد بناء على أن الإعتاق لا يتجزأ عندهما "أما على قوله" أي أبي حنيفة "فلإزالة الملك" أي فالإعتاق لإزالة الملك أو زواله بناء على أن الإعتاق يتجزأ عنده كما عرف في موضعه وهذا في البين. وأما الأربعة المركبة الباقية من السبعة فنقول "وإلى العلة اسما فقط كالإيجاب المعلق" بشرط من طلاق أو غيره قبل وجود المعلق عليه أما أنه علة اسما فلوضعه لحكمه ومن ثمة يثبت به ويضاف إليه بعد وجود المعلق عليه. وأما أنه ليس بعلة معنى فلعدم تأثيره في حكمه قبل وجود المعلق عليه وأما أنه ليس بعلة حكما فلتراخي حكمه(5/424)
عنه إلى زمان وجوب المعلق عليه "قيل" أي وقال صاحب المنار "واليمين قبل الحنث للإضافة" للحكم وهو الكفارة إليها "يقال كفارة اليمين لكن لا يؤثر" اليمين "فيه" أي في هذا الحكم قبل الحكم "ولا يثبت الحكم للحال وهو" أي كون اليمين علة اسما إنما هو "على" التعريف "الثاني" للعلة وهو المضاف إليها الحكم بلا واسطة "لأنها" أي اليمين "ليست بموضوعة إلا للبر وإلى العلة اسما ومعنى فقط كالبيع بشرط الخيار" الشرعي للبائع وللمشتري أو لهما معا "و" البيع "الموقوف" كبيع الإنسان مال غيره بلا ولاية ولا وكالة ويسمى بيع الفضولي "لوضعه" أي البيع شرعا لحكمه الذي هو الملك "وتأثيره في" إثبات "الحكم" عند زوال المانع "وإنما تراخى" الحكم عنه "لمانع" وهو اقترانه بالشرع في بيع الخيار لأن المعلق بالشرط معدوم قبله وعدم إذن المالك أو من هو قائم مقامه في بيع الفضولي لأن الملك المحترم لا يزول بدون رضا المالك أو القائم مقامه "حتى يثبت" الحكم "عند زواله" أي المانع بأن تمضي مدة الخيار في بيع الخيار أو يجيز من له ولاية الإجازة في بيع الفضولي "ومن وقت الإيجاب" أي العقد "فيملك" المشتري "المبيع بولده الذي حدث قبل زواله" أي المانع. وكذا سائر زوائده المتصلة والمنفصلة "بعد الإيجاب" وهذه آية كون كل(5/425)
ص -206-…منهما علة لا سببا لأن السبب يثبت مقصودا لا مستندا إلى وقت وجود السبب نعم فرق بين البيعين بأن أصل الملك في البيع بالخيار لما تعلق بالشرط لم يوجد قبله فلا يتوقف إعتاق المشتري في هذه الحالة وفي الموقوف يثبت الملك بصفة التوقف وتوقف الشيء لا يعدم أصله فيتوقف إعتاقه عليه وأورد ما ذكرتم من تأخر الحكم في هذا وإن دل على أنه علة حكما فعندنا ما ينفيه وهو أن البيع إنما يصير مؤثرا من الأصل بالإجازة أو الإسقاط أو مضي مدة الخيار وهذه الأشياء مستندة إلى زمان العقد فيكون الحكم معه في المعنى وإن تأخر صورة لما علم من تحقيق أحكام العقد في الزوائد والعتق في الموقوف فلا تأخير للحكم عنها وأجيب بأن كون الحكم في السبب في صورة الاستناد ممنوع إذ الإجازة وغيرها متأخرة حقيقة وصورة وأحكام العقد في الزوائد والعتق في الموقوف غير متحققة قبل الإجازة ولكنه إذا ثبت يستند إلى أول السبب وإنما تحقق الأحكام قبل الإجازة بطريق التبيين والفرق بين الثابت به والثابت بالاستناد ظاهر فإن الثابت بالاستناد ما لا يكون ثابتا حقيقة وشرعا ثم يثبت ويرجع إلى أول السبب وهذا لا يوجب أن يكون الحكم معه حقيقة بل يوجب خلاف ذلك والثابت بطريق التبيين ثابت حقيقة مع السبب لكنه خفي فينظهر بعد زمان أنه كذلك ثم حكم الاستناد يظهر في القائم دون الفائت حتى لو ولدت المبيعة في أيام الخيار ومات الولد ثم سقط الخيار لا يظهر حكم الاستناد في حق الهالك حتى لا ينقص بهلاكه شيء من الثمن بخلاف التبيين وقد ظهر من هذا أن الحكم في الاستناد متأخر حقيقة وصورة ولكنه يثبت تقديرا وذلك لا يمنع من التراخي هذا وقد يقال إنما يستقيم قوله وإنما تراخى لمانع على قول مجوز تخصيص العلة كالقاضي أبي زيد. وأما على قول منكره كفخر الإسلام فلأنه يؤدي إليه فيجاب بما في التلويح الخلاف في تخصيص العلل إنما هو في الأوصاف المؤثرة في الأحكام لا في العلل التي هي أحكام شرعية(5/426)
كالعقود والفسوخ انتهى على أن الخلاف لو كان في تخصيصها مطلقا لكان حاصله أن المنكر يقول العلة الوصف المدعى علة مع خلوه عن المانع حتى يترتب الحكم عليه والوصف مع المانع جزء علة والتخلف عن العلة غير ممكن وعلى هذا فيكون معنى وإنما تراخى لمانع أي إنما تأخر لعدم تمام علته لفوات جزئها وهو عدم المانع لوجوده فإذا زال المانع تمت العلة والمجيز يقول الخلو عن المانع ليس بجزء علة بل الوصف وحده هو العلة والتخلف عن حقيقة العلة ممكن ولا يظهر بالتخلف كون الوصف غير علة بل هو علة حقيقة مع التخلف ولا إشكال على كل منهما.
"والإيجاب المضاف إلى وقت" كلله علي أن أتصدق بدرهم غدا لوضعه شرعا لحكمه وإضافة الحكم إليه وتأثيره فيه. "ولذا" أي ولكون المضاف علة اسما ومعنى لا حكما "أسقط التصدق اليوم ما أوجبه قوله: علي التصدق بدرهم غدا" لأنه إذ بعد انعقاد سببه و "لم يلزمه" التصدق "في الحال" لتراخيه عنه إلى الزمان المضاف إليه فيثبت الحكم عنه عند مجيء الوقت مقتصرا عليه لا مستندا إلى زمان الإيجاب.(5/427)
ص -207-…"ومنه" أي هذا القسم "النصاب" لوجوب الزكاة في أول الحول فإنه علته اسما لوضعه في الشرع وإضافته إليه ومعنى لتأثيره فيه لأن النماء يعقل تأثيره في وجوب الإحسان إلى الغير وهو حاصل في النصاب لا حكما لتراخيه إلى تحقق زمان النماء كما أشار إليه بقوله "إلا أن لهذا" أي النصاب "شبها بالسبب لتراخي حكمه إلى ما يشبه العلة" من جهة ترتب الحكم عليه "وهو" أي ما يشبه العلة "النماء الذي أقيم الحول الممكن منه" أي من النماء "مقامه" أي النماء بقوله صلى الله عليه وسلم "ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول" رواه أبو داود وغيره والنماء في الحقيقة فضل على الغني موجب للإحسان كأصل الغني ويثبت فيه اليسر في الواجب ويزداد وهو مقصود فيه فكان له أثر في الوجوب من هذا الوجه فكان شبيها بعلة الوجوب "لا" إلى "العلة وإلا" لو كان إلى العلة بناء على أن النماء حقيقة العلة المستقلة "تمحض" النصاب "سببا" لوجوب الزكاة لأن السبب الحقيقي هو الذي يتوسط بينه وبين الحكم علة مستقلة لكنه ليس بمتمحض سببا له لأن النماء بالنسبة إلى الزكاة ليس كذلك بل هو وصف لا يستقل بنفسه في الوجود ثم لو فرض أن النماء حقيقة العلية المستقلة لكان للنصاب حقيقة السببية كما إذا دل رجل رجلا على مال الغير فسرقه فإن الدلالة سبب حقيقي لا يشبه العلة أصلا فإذا كان للنماء شبه العلية كان للنصاب شبه السببية لأن توسط حقيقة العلية المستقلة يوجب حقيقة السببية فتوسط شبه العلية يوجب شبه السببية ثم شبه النصاب غالب على شبهه بالسبب لأن شبهه بالعلية حصل له من جهة نفسه إذ النصاب أصل لوصفه وشبهه بالسبب حصل له من جهة توقف حكمه على النماء الذي هو وصفه وتابع له. والشبه الحاصل من جهة نفسه لأصالته راجح على الشبه المتحقق له من جهة وصف التابع له إذ الحاصل بالذات لأصالتها واستقلالها راجح على الحاصل بواسطة الوصف التابع الغير المستقل وقال الشافعي النصاب قبل الحول علة تامة(5/428)
ليس فيه شبه السبب والحول بمنزلة الأجل لتأخير المطالبة تيسيرا كالسفر في حق الصوم ولهذا صح تعجيله قبله ولو كان وصف كونه حوليا من العلية لما صح التعجيل كما لو عجل قبل تمام النصاب قلنا لو كان النصاب علة تامة لوجوبها قبل الحول لوجبت باستهلاكه في الحول كما فيما بعده وإنما صح التعجيل لأن النصاب لما كان فيه ما ذكرنا من شبه الراجعة باعتبار النماء وكان هذا الوصف غير قائم بنفسه بل بالموصوف استند عند ثبوته إلى أصل النصاب فصار من أول الحول متصفا بأنه حولي واستند الحكم وهو وجوب الزكاة إلى أوله أيضا فصح التعجيل بناء على هذا لوقوعه بعد تمام العلية تقديرا وبهذا أيضا يخرج الجواب عما عن مالك من أن النصاب قبل الحول ليس له حكم العلية لأن وصف النماء كالجزء الأخير من علة ذات وصفين فلا يصح التعجيل قبل الحول كما لا يصح تعجيل الصلاة قبل الوقت نعم هذا المعجل إنما يصير زكاة إذا انقضى الحول والنصاب كامل لما ذكرنا من عدم وصف العلية أول الحول ثم استناد وصفها إلى أوله بعد انقضائه والحول ليس بمنزلة الأجل لأنه يسقط بموت المديون ويصير الدين حالا ويؤخذ من تركته ولو مات المزكي في أثناء الحول سقط الواجب ولم(5/429)
ص -208-…يؤخذ من تركته والمديون يملك إسقاط الأجل والمزكي لا يملك إسقاط الحول والله سبحانه أعلم.
"وعقد الإجارة" إذ هو علة لملك المنفعة، والأجرة اسما لأنه وضع له والحكم يضاف إليه ومعنى لأنه هو المؤثر في إثبات ملكهما "ولذا" أي ولكونه علة له اسما ومعنى "صح تعجيل الأجرة" قبل الوجوب واشتراط تعجيلها كما صح أداء الزكاة قبل الحول "وليس" عقد الإجارة "علة حكما" للمنافع "لعدم المنافع" التي توجد في مدة الإجارة وقت عقدها "و" عدم "ثبوت الملك فيها" أي المنافع "في الحال" لأن المعدوم ليس بمحل للملك. "وكذا" هو ليس بعلة حكما "في الأجرة" أي لا تملك بمجرد عقد الإجارة لأنها بدل المنفعة فلما لم يملك المنفعة في الحال فكذا هي لاستوائهما في الثبوت كالثمن والمثمن "مع أنه" أي عقد الإجارة "وضع لملكهما" أي المنافع والأجرة "و" هو "المؤثر فيهما" أي المنافع والأجرة ملكا كما ذكرنا آنفا وكان التعرض لذكر هذا أولا كما ذكرنا أولى "ويشبه" عقد الإجارة "السبب لما فيه" أي عقدها "من معنى الإضافة في حق ملك المنفعة إلى مقارنته" أي انعقادها "الاستيفاء" للمنفعة "إذ لا بقاء لها" أي للمنفعة يعني الإجارة. فإن صحت في الحال بإقامة العين مقام المنفعة إلا أنها في حق المنفعة مضافة إلى زمان وجود المنفعة كأنها تنعقد حين وجود المنفعة ليقترن الانعقاد بالاستيفاء وهذا معنى قولهم الإجارة عقود متفرقة يتجدد انعقادها بحسب ما يحدث من المنفعة.(5/430)
"ومما يشبه السبب" أي ومن العلل اسما ومعنى لا حكما الشبيهة بالسبب "مرض الموت" إذ هو "علة" اسما ومعنى "الحجر عن التبرع" بالهبة والصدقة والمحاباة ونحوها "لحق الوارث" أي لما يتعلق به حق الوارث بعد الموت أعني "ما زاد على الثلث" لأنه وضع في الشرع للتغيير من الإطلاق إلى الحجر ثم الحجر عن هذا مضاف إليه شرعا وهو مؤثر فيه أيضا كما أشار إليه حديث سعيد حيث قال أفأوصي بمالي كله قال صلى الله عليه وسلم "لا" قال فبالنصف قال "لا" قال فبالثلث قال "الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" متفق عليه "ويشبه" مرض الموت "السبب لأن الحكم" الذي هو الحجر "يثبت به إذا اتصل به الموت لأن العلة مرض مميت ولما كان" الموت "منعدما في الحال لم يثبت الحجر فصار المتبرع به ملكا" للمتبرع له "للحال" لانعدام المانع حينئذ "فلا يحتاج إلى تمليك" جديد "لو برئ" لاستمرار المانع على العدم. "وإذا مات صار كأنه تصرف بعد الحجر" لاتصاف المرض بكونه مميتا من أول وجوده لأن الموت يحدث بآلام وعوارض مزيلة لقوى الحياة من ابتداء المرض فيضاف إليه كله وإذا استند الوصف إلى أول المرض استند بحكمه "فتوقف" نفاذه "على إجازتهم" أي الورثة لتعلق حقهم به. "وكذا التزكية" أي تعديل شهود الزنا "علة وجوب الحكم بالرجم" للزاني المحصن ثم ظاهر هذا السياق أن هذا علة له اسما ومعنى لا حكما وأنه يشبه السبب وسيظهر وجه كونه علة له اسما(5/431)
ص -209-…ومعنى وشبهه بالسبب. وأما أنه ليس بعلة حكما فلا لعدم تراخيه عنه "لكن" كون التزكية علة "بمعنى علة العلية عنده" أي أبي حنيفة "فإن الشهادة لا توجب الرجم دونها" أي التزكية بل تفيد ظهوره وعلة العلة بمنزلة العلة في إضافة الحكم كما يعلم قريبا فيكون الحكم مضافا إلى التزكية من هذا الوجه "فلو رجع المزكون" وقالوا تعمدنا الكذب "ضمنوا الدية عنده" أي أبي حنيفة "غير أنه إذا كان" التزكية وذكر الراجع إليها باعتبار التعديل "صفة للشهادة أضيف الحكم إليها" أي إلى الشهادة أيضا فأي الفريقين رجع ضمن "وعندهما لا" يضمن المزكون إذا رجعوا لأنهم أثنوا على الشهود خيرا فكان بمنزلة ما لو أثنوا على المشهود عليه خيرا بأن قالوا هو محصن والضمان يضاف إلى سبب هو تعد لا إلى ما هو حسن وخير ألا ترى أن الشهود لو رجعوا مع المزكين لم يضمن المزكون شيئا والجواب أن المزكين ليسوا كشهود الإحصان فإنهم لم يجعلوا ما ليس بموجب موجبا إذ الشهادة بالزنا بدون الإحصان موجب للعقوبة والشهادة لا توجب شيئا بدون التزكية فالمزكون أعملوا سبب التلف بطريق التعدي فضمنوا. وأما إذا رجع الشهود معهم فقد انقلبت الشهادة تعديا وأمكن الإضافة إليها على المقصود لأنها تعد لم يحدث بالتزكية لاختيارهم في الأداء فلم يضف إلى علة العلة كذا في الأسرار "وكل علة علة" هي "علة شبيهة بالسبب كشراء القريب وهو" أي علة العلة الشبيهة بالسبب "السبب في معنى العلة أما علة فلأن العلة لما كانت مضافة إلى علة أخرى" هي الأولى "كان الحكم مضافا إليها" أي الأولى "بواسطة الثانية فهي" أي الأولى "كعلة توجب" الحكم "يوصف لها" قائم بتلك العلة "فيضاف" الحكم "إليها" أي الأولى "دون" المتخللة التي هي بمنزلة "الصفة" كما أن الحكم يضاف إلى العلة دون الوصف "وأما الشبه" بالسبب "فلأنها" أي الأولى "لا توجب" الحكم "إلا بواسطة" بينها وبينه وهي الثانية كما أن السبب كذلك "وحقيقة هذا نفي(5/432)
العلة" لأن العلة الحقيقية لا تتوقف على واسطة بينها وبين المعلول "مثال ذلك" أي علة العلة الشبيهة بالسبب "شراء القريب فإنما هو علة لملك العلة للعتق فهو" أي شراؤه "علة العلة" للعتق "فبين العلة اسما ومعنى لا حكما والعلة التي تشبه الأسباب عموم من وجه لصدقهما فيما قبله" أي قسم علة العلة من النصاب وما بعده "وانفراد" قسم العلة "المشبهة" بالسبب "في شراء القريب" فإنه لا يتحقق فيه التراخي ليصدق عليه أنه علة اسما ومعنى لا حكما أيضا "و" انفراد "العلة اسما ومعنى لا حكما في البيع بشرط" الخيار الشرعي لهما أو لأحدهما "والموقوف وإلى علة معنى وحكما كآخر" أجزاء العلة "المركبة" من وصفين مؤثرين مترتبين في الوجود لوجود التأثير والاتصال "لا اسما إذا لم يضف" الحكم "إليه" أي إلى هذا الجزء الأخير "فقط" بل إنما يضاف إلى المجموع وهذا قول البعض ومشى عليه فخر الإسلام وموافقوه وذهب غير واحد إلى أن ما عدا الأخير يصير بمنزلة العدم في حق ثبوت الحكم ويصير الحكم مضافا إلى الجزء الأخير كما في أثقال السفينة والقدح الأخير في السكر وعزاه في التلويح إلى المحققين. قلت وعلى هذا فيكون علة اسما أيضا. فإن قلت لا لأن الشرط في كون ما أضيف إليه الحكم علة اسما أن تكون إضافته إليه بلا واسطة والحكم إنما يضاف(5/433)
ص -210-…إلى الأخير بواسطة تحقيق ما قبله معه. قلت كون الحكم إنما يضاف إلى الجزء الأخير بعد تحقق ما قبله في نفس الأمر مسلم ولكن ليس الشرط في كونه علة اسما انتفاء الواسطة في إضافته إليه في نفس الأمر بل في إطلاق إضافته إليه كما تقدم في أول هذا التقسيم والجزء الأخير من هذا القسم كذلك كما هو ظاهر من مثالهم له وهو ملك ذي الرحم المحرم للعتق فإن كلا من القرابة المحرمة للنكاح والملك مؤثر في العتق أما القرابة المحرمة فإنها توجب الحرمة والرق يوجب المذلة وإذا صينت عن أدنى الرقين وهو النكاح احترازا عن القطع فلأن تصان عن أعلاهما أولى. وأما الملك فلقوله صلى الله عليه وسلم "من ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه" ويفوت العتق بفوات كليهما فلا جرم أنه إن تأخر الملك عن القرابة أضيف العتق إليه حتى يصير المشتري معتقا وتصح نية الكفارة عند الشراء ولو لم يكن الحكم مضافا إلى الوصف الأخير بل إلى المجموع لما كان الشراء إعتاقا ولما وقع عن الكفارة وإن تأخرت القرابة أضيف العتق إليها حتى لو ورثا عبدا مجهول النسب أو اشتريا ثم ادعى أحدهما أنه ابنه غرم لشريكه قيمة نصيبه لأن المدعي يصير معتقا بواسطة القرابة وإلا لما غرم لعدم الصنع منه كما لو ورثا قريب أحدهما نعم إذا قيل بأنه يجب فيما هو علة اسما أن يكون موضوعا للحكم على ما صرح به السرخسي وغيره صح أنه ليس بعلة اسما لأن كلا من القرابة والملك لم يوضع في الشرع للعتق وإنما الموضوع له ملك القرابة المحرمة وشراء القريب المحرم لكن في وجوبه نظرا لجعل اليمين قبل الحنث علة اسما للكفارة مع أنها غير موضوعة إلا للبر كما ذكره المصنف سالفا ثم قد أورد على إضافة الحكم إلى الجزء الأخير أنه ينبغي على هذا أن يضاف الحكم إلى الشاهد الأخير حتى يضمن كل المتلف إذا رجع وأجيب بأن الشهادة إنما تعمل بقضاء القاضي والقضاء يقع بالمجموع فيضمن الراجع أيا كان نصف المتلف ثم قيل هذا الخلاف في الحقيقة(5/434)
راجع إلى العلة إذا تركبت من وصفين أو أوصاف هل يكون المجموع علة أو صفة الاجتماع أو وصف منها غير عين وهو الذي لا يتصور بدونه الاجتماع فاختار فخر الإسلام الأول والقاضي أبو زيد والإمام السرخسي الثاني أو الثالث فسفينة لا تغرق بوضع كر فيها وتغرق إذا زيد عليه قفيز فوضعهما إنسان من مال غيره بغير إذنه فيها فغرقت وتلف ما فيها فعند الأولين يضاف التلف إليهما وعند الفريق الثاني إلى صفة الاجتماع وعند الفريق الثالث إلى قفيز منها غير عين ويستوي الجواب بين أن يلقيهما معا أو متعاقبا لأنه ما لم يوجد الكل لا يتحقق التلف. وأما في حق الحكم فإن كان الطرح من واحد فعليه ضمان الكل إن كان بغير إذن صاحبها طرحهما معا أو متعاقبا أو كان مأذونا من صاحبها بطرح الكر لا غير لأنه ما رضي بوضع متلف وإن كان الطرح من اثنين. فإن طرحا معا فعليهما أو متعاقبا فعلى الأخير منهما عندنا وعليهما عند زفر لأن التلف حقيقة حصل بالكل أو تزايد غير عين فلا فرق بين التعاقب والقران وقال أصحابنا التلف حقيقة وإن حصل كما قال فالأوصاف المتقدمة لا تنعقد علة التلف بدون الوصف الأخير فصار هو المحصل لوصف الاجتماع والمتلف هو وصف الاجتماع أو لأن بالأخير يصير الواحد منهما متلفا لأنه كان(5/435)
ص -211-…موجودا ولم يعمل في التلف فصار هو الجاعل إياه علة والحكم في الشرع يضاف إلى علة العلة كما إلى نفسها عند الانفراد ملخص في الميزان وهذا يفيد أن الإضافة إلى المجموع قول زفر وإلى الأخير قول الباقين والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وإلى علة اسما وحكما كل مظنة" للمعنى المؤثر "أقيمت مقام حقيقة المؤثر" لخفائه دفعا للحرج أو احتياطا "كالسفر والمرض للترخص" برخصهما فإن كلا منهما علة له اسما لأن الحكم الذي هو الرخص يضاف إليهما فيقال رخصة السفر ورخصة المرض وحكما لأن الرخص يثبت عند وجودها "لا معنى لأن المؤثر" في ترخصهما هو "المشقة" لا نفس السفر والمرض لكنهما أقيما مقامها لخفائها ولكونهما سببها إقامة لسبب الشيء مقام الشيء دفعا للحرج إلا أن هذا إنما يتم في السفر فإن جواز الترخص للمسافر منوط بمطلقه لعدم تنوعه فإن المسافر وإن كان في رفاهية لا يخلو عن مشقة عادة ومن ثمة قيل هو قطع مسافات وفيه مسافات لا في المرض لتنوعه إلى ما يكون سببا لزيادة المشقة وهو المناط به رخصة الإفطار وإلى ما لا يكون كذلك وهي ليست بمنوطة به "وكالنوم" مضطجعا ونحوه "للحدث إذ المعتبر" في تحقق الحدث "خروج النجس" من أحد السبيلين أو من البدن إلى موضع يلحقه حكم التطهير على الاختلاف المعروف في ذلك بين الأئمة "إلا أنه" أي النوم "علة سببه" أي خروج النجس "الاسترخاء" بالجر أي علة استرخاء المفاصل الموجب لزوال المسكة التي هي سبب الخروج لا علة نفس الخروج "فأقيم" النوم "مقامه" أي خروج النجس إقامة لعلة السبب للشيء مقام ذلك الشيء احتياطا في العبادات "فكان" النوم "علة اسما" للحدث "لإضافة الحدث" إليه فيقال حدث النوم وحكما لأنه يثبت عند النوم لا معنى لأن المؤثر في الحدث إنما هو الخروج المذكور "وإلى علة معنى فقط وهو بعض أجزاء" العلة "المركبة" من وصفين مؤثرين في حكم حال كون ذلك البعض "غير" الجزء "الأخير" منها إذ ذلك البعض مؤثر في الجملة في(5/436)
الحكم ولا يضاف الحكم إليه بل إلى المجموع ولا يترتب عليه "وليس" هذا البعض "سببا" للحكم "لو تقدم" على البعض الآخر لأنه ليس بطريق موضوع لثبوت الحكم بعينه وهذا على ما عليه فخر الإسلام وموافقوه "خلافا لأبي زيد وشمس الأئمة" السرخسي فإنه عندهما سبب إذا تقدم لأن الحكم لا يثبت ما لم تتم العلة فكان المبدأ معتبرا لتمام العلة وكالطريق إلى المقصود ولا تأثير له ما لم ينضم إليه الباقي وقد تخلل بينه وبين الحكم وجود غيره وهو غير مضاف إليه فكان سببا وإنما ذهب فخر الإسلام إلى أنه ليس بسبب بل له شبه العلية "وإن لم يجب" الحكم "عنده لفرض عقلية دخله في التأثير" في الحكم وما كان كذلك لا يكون سببا محضا فانتفى ما في التلويح وهذا يخالف ما تقرر عندهم من أنه لا تأثير لأجزاء العلة في أجزاء المعلول وإنما المؤثر تمام العلة في تمام المعلول انتهى. إذ لا مخالفة له في شيء إذ مرادهم بقولهم: المؤثر تمام العلة في تمام المعلول المؤثر التام وهذا لا ينافي أن يكون للجزء أثر ما في تمام المعلول وإلا لم يحتج إليه في العلية "ولذا" أي فرض عقلية دخله في التأثير "جعلوا" أي أصحابنا "كلا من القدر(5/437)
ص -212-…والجنس محرما للنسيئة لشبهة العلة بالجزئية" أي بسبب الجزئية لأن لربا النسيئة شبهة الفضل فإن للنقد مزية على النسيئة عرفا حتى كان الثمن في البيع نسيئة أكثر منه في البيع نقدا "فامتنع إسلام حنطة في شعير و" إسلام ثوب "قوهي في" ثوب "قوهي" وهو نسبة إلى قوهستان كورة من كور فارس لشبهة العلة "والشبهة مانعة هنا" أي في ربا النسيئة "للنهي عن الربا والريبة" أي الفضل الخالي عن العوض وشبهه إلا أن النهي عن الريبة أفاد في المغرب أنه إشارة إلى حديث: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" فإن الكذب ريبة وإن الصدق طمأنينة أي ما يشكك ويحصل فيك الريبة وهي في الأصل قلق النفس واضطرابها فهي إذن بكسر الراء ثم الياء آخر الحروف الساكنة ثم الباء الموحدة المفتوحة والحديث أخرجه غير واحد منهم الترمذي وقال حسن صحيح وأفاد أن من روى الريبة على حسبان أنها تصغير الربا فقد أخطأ لفظا ومعنى وعلى هذا ففي ثبوت المطلوب به نظر وقد يستدل له بأن حرمة النساء مبنية على الاحتياط وهو أسرع ثبوتا من حرمة الفضل للحديث الصحيح "إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد" فيجوز أن يثبت بأحد الوصفين الذي له شبهة العلة ولا يثبت به حرمة الفضل لأنها أقوى الحرمتين ولها علة معلومة في الشرع فلا يثبت بما هو دونها في الدرجة "وخرج العلة حكما فقط على الشرط" كدخول الدار "في تعليق الإيجاب" كأنت طالق "لثبوت الحكم" وهو الطلاق "عنده" أي دخول الدار "مع انتفاء الوضع" أي وضع دخول الدار لوقوع الطلاق وإضافته إليه "والتأثير" له فيه. "وكذا الجزء الأخير من السبب الداعي" أي الحكم "المقام" مقام المسبب الذي هو الحكم "إذا كان" السبب الداعي "مركبا" من جزأين فصاعدا علة حكما فقط لوجود الاتصال من غير وضع له ولا إضافة إليه ولا تأثير له فيه وإذا كان السبب الداعي لا تأثير له فيه فكيف بجزئه والمخرج للعلة حكما فقط على هذين صدر الشريعة "وما أقيم من دليل(5/438)
مقام مدلوله كالإخبار عن المحبة" في إن كنت تحبيني فأنت طالق لوجود الطلاق عند إخبارها عن حبها له مع انتفاء وضعه له وتأثيره فيه وإنما أقيم الدليل مقام المدلول للعجز عن الوقوف على حقيقته وكم له من نظير ثم في كشف البزدوي ولكنه مقتصر على المجلس حتى لو أخبرت عن المحبة خارج المجلس لا يقع الطلاق لأنه يشبه التخيير من حيث إنه جعل الأمر إلى إخبارها والتخيير مقتصر على المجلس ولو كانت كاذبة في الأخبار يقع فيما بينه وبين الله لأن حقيقة المحبة لا يوقف عليها من جهة غيرها ولا من جهتها لأن القلب لا يستقر على شيء فصار الشرط الإخبار عن المحبة وقد وجد فيثبت الحكم كذا في شرح المبسوط لفخر الإسلام ثم التنصيص على أن هذا من قبيل العلة حكما لم أقف عليه في كلام غير المصنف فلعله من تخريجه والله تعالى أعلم.
[شروط العلة]
"المرصد الثاني في شروطها" أي العلة "استلزم ما تقدم من تعريفها اشتراط الظهور والانضباط" أي كونها وصفا ظاهرا منضبطا في نفسه "ومظنية الحكمة" أي وكونها مظنة للحكمة التي شرع الحكم لأجلها "أولا أو بواسطة مظنة أخرى فلزمت المناسبة" أي كونها(5/439)
ص -213-…مناسبة للحكم الذي شرعت له "وعدم الطرد" أي مجرد وجود الحكم عند وجودها كما سلف بيانه "ومنها" أي شروط العلة "أن لا يكون عدما لوجودي لطائفة من الشافعية" منهم الآمدي "وغيرهم" كابن الحاجب وصاحب البديع وعزاه سراج الدين الهندي في شرحه إلى الجمهور "والأكثر" منهم البيضاوي مذهبهم "الجواز" أي جواز كونها عدما لوجودي كقلبه اتفاقا "قيل وجواز" تعليل "العدمي به" أي بالعدمي كعدم نفاذ التصرف بعدم العقل "اتفاق" ذكره غير واحد منهم القاضي عضد الدين قال "النافي" لتعليل الوجودي بالعدمي "العلة" هي الأمر "المناسب" لمشروعية الحكم "أو مظنته" أي المناسب إذا لم يكن ظاهرا لما علم من أن الحق أن الوصف الجامع بحسب أن يكون باعثا بأن يكون مشتملا على حكمة مقصودة للشارع وأن الباعث منحصر في المناسب ومظنته وهو ما يلازمه "والعدم المطلق ظاهر" أنه ليس بمناسب ولا مظنته بل نسبته إلى جميع المحال والأحكام سواء فلا يصلح أن يكون علة. "و" العدم "المضاف إما" مضاف "إلى ما في الشرعية" أي إلى شيء في شرعية الحكم "معه" أي مع ذلك الشيء "مصلحة" لذلك الحكم "فهو" أي العدم المضاف "مانع" من الحكم لعدم تلك المصلحة وعدم المصلحة مانع منه فلا يكون عدمه مناسبا للحكم الوجودي ولا مظنته مناسب له فإن ما يستلزم عدم مصلحة ذلك الحكم لا يكون مناسبا له "أو" مضاف إلى ما في الشرعية معه "مفسدة" لذلك الحكم "فهو" أي العدم المضاف إليه "عدمه" أي عدم المانع من الحكم وهو ليس بعلة للحكم لأن عدم المانع ليس مناسبا ولا مظنة مناسب بالاتفاق بل لا بد معه من مقتض يقال أعطاه لعلمه أو لفقره ولو قيل لعدم المانع عد سخفا لكن قد قيل على هذا لم لا يجوز أن يكون عدمه منشئا لمصلحة ودافعا لمفسدة تنشأ من وجوده فيكون مقتضيا وعدما للمانع ومثله يصح التعليل به "أو" إلى "مناف مناسب" لمشروعية الحكم "حتى جاز أن يستلزم" عدم المنافي للمناسب المناسب لمشروعية الحكم فيحصل بذلك(5/440)
لعدم الحكمة لاشتمالها عليه وحينئذ فيكون عدم المنافي للمناسب "المناسب" لمشروعية الحكم فيحصل بذلك العدم الحكمة لاشتمالها عليه وحينئذ "فيكون" عدم المنافي للمناسب "مظنته" أي المناسب "ثم لا يصلح" عدم المنافي للمناسب مظنة للمناسب "لأن ما" أي المناسب الذي "هو" أي العدم "مظنة له" أي للمناسب "إن كان" وصفا منضبطا "ظاهرا" بحيث يصلح لترتيب الحكم عليه "أغنى" بنفسه عن المظنة التي هي العدم فكان هو العلة بالحقيقة "أو" كان "خفيا فنقيضه وهو ما عدمه مظنة خفي" أيضا "لاستواء النقيضين جلاء وخفاء" والخفي لا يصلح مظنة للخفي لأن الخفي لا يعرف الخفي وقد تعقب هذا بالمنع لجواز اختلاف النقيضين جلاء وخفاء لتكرار وإلف وغيرهما من الأسباب وكيف والملكات أجلى من الإعدام. "أو" مضاف إلى "غير مناف" للمناسب "فوجوده" أي غير المنافي "وعدمه سواء" في تحصيل المصلحة "فليس عدمه بخصوصه علة بأولى من عكسه" أي بأن يكون وجوده بخصوصه علة فلا يصلح علة وقد فرضناه علة هذا خلف ثم أشار إلى إيضاحه بمثال وهو "كما لو قيل يقتل المرتد لعدم إسلامه فلو كان في قتله مع إسلامه مصلحة فاتت" فيكون عدم(5/441)
ص -214-…الإسلام مانعا من القتل وهو باطل "أو" كان في قتله مع إسلامه "مفسدة فعدم مانع" أي فيكون الإسلام مانعا من القتل فما المقتضي لقتله "أو" كان القتل مع الإسلام "ينافي مناسبا للقتل ظاهرا وهو" أي المناسب الظاهر للقتل "الكفر فهو" أي الكفر العلة فليقل يقتل لأنه كافر "أو" كان القتل مع الإسلام ينافي مناسبا للقتل "خفيا" وهو الكفر مثلا "فالإسلام كذلك" أي خفي لأنه نقيضه والنقيضان مثلان "فعدمه" أي الإسلام "كذلك" أي خفي فلا فرق ضرورة بين معرفة الكفر ومعرفة عدم الإسلام في الخفاء "أو" كان القتل مع الإسلام "لا" ينافي مناسبا إذ ليس الكفر هو المناسب، ولذا قال مالك يقتل وإن رجع إلى الإسلام "فالمناسب" شيء "آخر يجامع كلا من الإسلام وعدمه" أي الإسلام فالإسلام وعدمه سواء في تحصيل المصلحة فلا يكون عدم الإسلام خاصة مظنة الحل. "ودفع" هذا الدليل "من الأكثر باختيار أنه" أي ما أضيف إليه العدم "ينافيه" أي المناسب "وجاز كونه" أي المناسب الذي ينافيه ما أضيف إليه العدم "العدم نفسه لا" كون عدم ما أضيف إليه العدم "مظنته" أي المناسب والمستدل إنما أبطل هذا. وأما كون عدم ما أضيف إليه العدم هو عين المناسب فلم يتعرض له وإنما قلنا يجوز "لاشتماله" أي العدم "على المصلحة كعدم الإسلام" فإنه مشتمل "على مصلحة التزامه" أي الإسلام "بالقتل" أي بسبب خوفه من القتل "والحنفية يمنعون العدم مطلقا" أي المطلق والمضاف أن يكون علة لوجودي أو عدمي "فلم يصح النقل السابق" أي نقل الاتفاق على جواز تعليل العدمي بالعدمي "والدليل المذكور" للنافين للوجودي خاصة "يصلح لهم" أي للحنفية النافين له مطلقا "لأنه" أي الدليل المذكور "يبطل العدم مطلقا" أي كونه علة لوجودي أو عدمي لانتفاء المناسبة ومظنتها فيه وكيف لا وهو ليس بشيء فلا يصلح حجة لإثبات الأحكام وعدم الحكم لا يحتاج إلى علة لأنه ثابت بالعدم الأصلي فلا يصلح العدم له لا للعدم ولا للوجود(5/442)
"ويرد" عدم جواز كون العدمي علة للعدمي "نقضا من الأكثر على" دليل "الطائفة" القائلين بعدم جواز كون العدمي علة لوجودي وجواز كونه علة لعدمي "وكون العدم نفسه المناسب لم يتحقق والمناسب في المثال" المذكور "الكفر وهو" أي الكفر "اعتقاد قائم وجودي ضد الإسلام ويستلزم" الكفر "عدمه" أي الإسلام "كما هو شأن الضدين في استلزام كل عدم الآخر فالإضافة" للقتل "فيه" أي في المثال "إلى العدم" أي عدم الإسلام إنما هو "لفظا" وإلا ففي التحقيق ما هو مضافا إلا إلى الأمر الوجودي الذي هو الكفر غير أنه تجوز بالإضافة إلى لازمه "ويطرد" ما قلنا من كون إضافة الحكم إلى العدم لفظا فقط "في عدم علة ثبت اتحادها لعدم حكمها كقول محمد في ولد المغصوب لا يضمن لأنه لم يغصب" فإن الغصب سبب معين للضمان والخلاف لم يقع في مطلق الضمان بل في ضمان الغصب هل يجب في زوائد المغصوب أم لا فصح تعليل عدم وجوب الضمان في الولد بعدم الغصب إذ لا سبب للضمان هنا إلا هو فعدمه دليل عدم وجوب ضمان الغصب ضرورة "وأبي حنيفة" ومحمد أيضا "في نفس خمس العنبر لم يوجف عليه" أي لم يعمل المسلمون خيلهم وركابهم في تحصيله فإن سبب وجوب الخمس فيه واحد بالإجماع وهو الإيجاف بالخيل والركاب(5/443)
ص -215-…فصح الاستدلال بعدمه على عدم وجوب الخمس وهذا لأن الخمس إنما يجب فيما أخذ من أيدي الكفار بإيجاف الخيل والركاب والمستخرج من البحر ليس في يدهم فإن قهر الماء يمنع قهر غيره عليه فلم يكن غنيمة فلا يخمس. "والوجه" فيهما "ما قلنا" من أن الإضافة إلى العدم لفظا إذ من الظاهر "أنه" أي تعليلهما "ليس حقيقيا وإضافتهما" أي أبي حنيفة عدم الخمس ومحمد عدم الضمان "إنما هو عدم الحكم لعدم الدليل وليس" ذلك "ما نحن فيه من العلة" بمعنى الباعث "قالوا" أي الأكثرون "علل الضرب بعدم الامتثال" وهو عدمي "والضرب ثبوتي" فإنه يصح أن يقال فيما إذا أمر السيد عبده بفعل ولم يمتثل فضربه السيد إنما ضربه لأنه لم يمتثل أمره ولو لم يجز التعليل بالعدم لما صح هذا "أجيب بأنه" أي التعليل إنما هو "بالكف" أي كف العبد نفسه عن الامتثال وهو ثبوتي "قالوا" أي الأكثرون أيضا "معرفة المعجز" أي كون المعجز معجزا أمر "ثبوتي معلل بالتحدي" بالمعجزة "مع انتفاء المعارض" لها بمثلها "وهو" أي انتفاء المعارض "جزء العلة" المعرفة للمعجزة لأنها الإتيان بخارق للعادة مع التحدي وانتفاء المعارض ومعلوم أن انتفاء المعارض أمر عدمي وما جزؤه عدم فهو عدم فبطل سلبكم الكلي. "وكذا معرفة كون المدار علة" للدائر "بالدوران" وعليه المدار للدائر وجودية "وجزؤه" أي الدوران "عدم" لأن الدوران مركب من الطرد والعكس والعكس عدمي إذ هو عبارة عن الوجود مع الوجود والعدم مع العدم وما جزؤه عدم فهو عدم وقد علل به وجودي فبطل سلبكم الكلي أيضا "أجيب بكونه" أي العدم "فيهما" أي في معرفة المعجز وعليه الدوران "شرطا" لا جزءا وكون العكس معتبرا في الدوران لا يستلزم دخوله في ماهيته لجواز أن يكون أحد جزأيه وهو الطرد علة والآخر وهو العكس شرطا فيتوقف تأثير الشرط عليه حتى لا يؤثر الطرد بمجرده ويؤثر معه ولا بدع في جواز كون شرط الثبوتي عدميا "ولو سلم كون التحدي لا يستقل" علة لمعرفة(5/444)
المعجز بمعنى أن لا يكون لشيء آخر مدخل معه في التعريف "فمعرف" أي فهو معرف لها "والكلام في العلة بمعنى المشتمل على ما ذكرنا" من المناسبة الباعثة على الحكم لا بمعنى المعرف والله سبحانه وتعالى أعلم.
"ومنها" أي شروط صحة العلة "على ما لجمع من الحنفية" الكرخي من المتقدمين وأبي زيد من المتأخرين وغيرهما بل حكاه في الميزان عن مشايخ العراق وأكثر المتأخرين واختاره صاحب البديع وبعض الشافعية وأبو عبد الله البصري من المتكلمين "أن لا تكون" العلة "قاصرة" على الأصل مستنبطة وذهب جمهور الفقهاء منهم مشايخنا السمرقنديون والشافعي وأصحابه وأحمد والباقلاني وأبو الحسين البصري وعبد الجبار إلى صحة التعليل بها واختاره صاحب الميزان والمصنف فقال "لنا" في صحة التعليل بها "ظن كون الحكم لأجلها" أي القاصرة "لا يندفع" عن النظر في حكم الأصل فإنه يندفع إليه بمجرد النظر في حكم الأصل "وهو" أي هذا الظن "التعليل والاتفاق على" صحة العلة القاصرة "المنصوصة" أي الثابتة بالنص وعلى المجمع عليها أيضا وإن لم يفد كل منهما إلا الظن ولو كان معنى التعليل القطع بأن الحكم لأجلها لم يصح التعليل بها ونقل القاضي(5/445)
ص -216-…عبد الوهاب الخلاف فيهما أيضا غريب ثم مثال القاصرة "كجوهرية النقدين" أي كون الذهب والفضة جوهرين متعينين لثمنية الأشياء في تعليل حرمة الربا فيهما فإنه وصف قاصر عليهما "وأما الاستدلال" للمختار "لو توقف صحتها" أي العلة "على تعديها لزم الدور" لتوقف تعديها على صحتها بالإجماع والدور باطل "فدور معية" كتوقف كل من المتضايفين على الآخر وهو جائز والباطل إنما هو دور التقدم وهو منتف لأن العلة لا تكون إلا متعدية لا أن كونها متعدية يثبت أولا ثم تكون علة والمتعدية لا تكون إلا علة لا أنها لا تكون علة ثم علة متعدية. "قالوا" أي مانعو صحة التعليل بالقاصرة المستنبطة "لا فائدة" فيها لأن فائدة العلة منحصرة في إثبات الحكم بها وهو منتف أما في الأصل فلثبوته فيه بغيرها من نص أو إجماع. وأما في الفرع فلأن المفروض أن لا فرع وإثبات ما لا فائدة فيه لا يصح شرعا ولا عقلا "أجيب بمنع حصرها" أي الفائدة "في التعدية بل معرفة كون الشرعية" للحكم "لها" أي للعلة فائدة أخرى لها "أيضا لأنه" أي كون شرعية الحكم لها "شرح للصدر بالحكم للاطلاع" على المناسب الباعث له فإن القلوب إلى قبول الأحكام المعقولة أميل منها إلى قهر التحكم ومرارة التعبد إلى غير ذلك "ولا شك أنه" أي الخلاف "لفظي فقيل لأن التعليل هو القياس باصطلاح" للحنفية فهما متحدان وهو أعم من القياس باصطلاح الشافعية كما في كشف البزدوي وغيره فالنافي لجواز التعليل بالقاصرة يريد به القياس وهذا لا يخالف فيه أحد إذ لا يتحقق القياس عند أحد بدون وجود العلة المتعدية والمثبت لجواز التعليل بها يريد به ما لم يكن منه قياسا والظاهر أن هذا لا يخالف فيه أحد أيضا فلم يتوارد النفي والإثبات على محل واحد فلا خلاف في المعنى إلا أن هذا يشكل بأن قرينة الحال تفيد أن مورد النفي والإثبات واحد وهو التعليل الكائن في القياس كما يفيده قوله "ولأن الكلام في علة القياس لأن الكلام في شروطه" أي(5/446)
القياس "وأركانه" أي القياس التي منها العلة فينصرف إطلاق جواز التعليل بالقاصرة وعدمه إلى ما هو العلة فيه وحينئذ فلم يقع هذا التعليل موقعه لأنه لا يصلح دليلا على كون الخلاف المذكور لفظيا كما هو ظاهر السياق بل هو قرينة على أن محل الخلاف التعليل بالقاصرة. فإن قلت إنما يصلح ذلك قرينة لهذا لو كان القياس ممكنا مع القاصرة وحيث لم يمكن كان عدم إمكانه معها صارفا عن ذلك فيكون معارضا للقرينة المذكورة. قلت فحينئذ لا حاجة إلى ذكر ذلك المفيد لها بل يجب سقوطه وقوله "وإلا فلهم كثير مثله في الحج وغيره" كأنه يريد به ولو لم يكن التعليل هو القياس كما هو مصطلح الحنفية لم يستقم لهم منع التعليل بالقاصرة في الحج وغير الحج وكأنه يشير بما في الحج إلى ما في الهداية وغيرها ويرمل في الثلاث الأول من الأشواط وكأن سببه إظهار الجلد للمشركين حتى قالوا أضناهم حمى يثرب ثم بقي الحكم بعد زوال السبب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده انتهى وهو ظاهر وبما في غير الحج إلى مثل تعليل وجوب الاستبراء على الرجل فيما إذا حدث له ملك الرقبة بتعرف براءة الرحم قاصر عن الصغيرة والآيسة ووجوب العدة على المرأة في الفرقة الطارئة على النكاح بهذا أيضا فإنه قاصر عنهما أيضا "لكن ربما سموه" أي(5/447)
ص -217-…الحنفية التعليل بالقاصرة "أبدا حكمة لا تعليلا" كأنه تمييز بينه وبين التعليل بالمتعدية الذي هو القياس يعني وحمل كلام العقلاء فضلا عن العلماء النبلاء على عدم التناقض ما أمكن مقدم على حمله على التناقض وقد أمكن هنا كما ذكرنا فيتعين هذا غاية ما ظهر لي في شرح هذا الكلام ويتلخص منه أنه استدل على أن الخلاف لفظي بأن التعليل هو القياس باصطلاح وأعم منه بآخر فيحمل النفي على القول باتحادهما والإثبات على كون التعليل أعم حال كونه مرادا به ما ليس بقياس وهذا حق غير أن هذه الجملة لا تفي العبارة بالدلالة عليها وأنه ثانيا أفاد أن محل الخلاف إنما هو علة القياس ومعلوم أن الخلاف على هذا لا يكون لفظيا بل غايته أنه لا ينبغي أن يقع خلاف في عدم جواز التعليل بها فلا ينبغي أن يذكر دليلا على كونه لفظيا وأنه ثالثا لو لم يكن المراد بالتعليل عند الحنفية القياس لم يستقم لمانعيه بالقاصرة منهم التعليل بها في المواضع المذكورة وهذا لا بأس به في الجملة ثم حق التحرير أن يقال ولا شك أنه لفظي لأن التعليل هو القياس عند الحنفية وأعم عند الشافعية فالنافي يريد القياس والمجيز يريد ما ليس منه بقياس وكلاهما حق إذ لا قياس بدون المتعدية ولا مانع من إبداء الحكمة وإن لم يعم مواقع الحكم كلها والله سبحانه أعلم.(5/448)
"وجعله" أي الخلاف "حقيقيا مبني على اشتراط التأثير" في التعليل "أو الاكتفاء بالإخالة" فيه "فعلى الأول" وهو اشتراط التأثير فيه كما عليه الحنفية "تلزم التعدية" وعلى الثاني وهو الاكتفاء بالإخالة كما عليه الشافعية لا تلزم التعدية وطواه لدلالة مقابله عليه وخصه بالطي لأن الأول هو المقصود بالذكر لإفادة تعقبه والجاعل: صدر الشريعة "غلط إذ لا يلزم فيه" أي التأثير "وجود عين علة لحكم الأصل في" محل "آخر يكون فرعا للاكتفاء بجنسه" أي المدعى علة "في" محل "آخر لما صرح به من صحة التعليل بلا قياس" والحاصل كما قال المصنف أن اللازم في التأثير كون العين المعلل بها الحكم ثبت اعتبار جنسها في جنس الحكم أو عينه وهذا لا يستلزم كون العين الذي علل بها ثابتا في محل آخر بل جاز كون ذلك المعلل به الحكم غير ثابت بعينه في غيره ودل على اعتباره ثبوت اعتبار جنسه في جنس ذلك الحكم أو عينه "بذلك" أي الاكتفاء بالجنس في آخر "إنما تعدد محل الجنس" وهو لا يستلزم تعدد محل ذلك العين لجواز كون ذلك الجنس في فرد آخر غير ذلك العين فلم يتعدد محل ما جعل علة "وليس" الجنس هو "المعلل به وإلا" لو كان هو المعلل به "لكان الأخص عين الأعم وكانت العلة جنسه" أي جنس العين "لا هو" أي العين "وهو" أي وكونها جنسه "غير الفرض" لأن الفرض وجود عين المدعى علة لحكم الأصل في آخر "فلا يستلزم التأثير تعدي ما علل به" بعينه إلى آخر "وجعل ثمرته" أي هذا الخلاف "منع تعدية حكم أصل فيه" وصفان "متعد وقاصر للمجيز" للتعليل بالقاصرة "لا المانع" للتعليل بها كما ذكره صدر الشريعة "كذلك" أي غلط أيضا "بل الوجه إن ظهر استقلال" الوصف "المتعدي" في العلية "لا يمنع اتفاقا أو" ظهر "التركيب" للعلة من المتعدي والقاصر "منع اتفاقا" وفي التلويح واعلم أنه لا معنى للنزاع في التعليل بالعلة القاصرة الغير المنصوصة لأنه إن أريد عدم الجزم بذلك فلا نزاع وإن أريد عدم(5/449)
ص -218-…الظن فبعد ما غلب على رأي المجتهد عليه الوصف القاصر وترجح عنده بأمارة معتبرة في استنباط العلل لم يصح نفي الظن ذهابا إلى أنه مجرد وهم. وأما عند عدم رجحان ذلك أو عند تعارض القاصر والمتعدي فلا نزاع في أن العلة هي الوصف المتعدي وأجيب بأن مبنى الخلاف على تقدير اشتراط التأثير وعدمه فحينئذ يكون للنزاع معنى ظاهر لأن من اشترط التأثير في التعليل لا يغلب على رأي المجتهد كون القاصرة علة بخلاف من اكتفى بمجرد الإخالة فإن عنده يحصل الوقوف على العلية مع الاقتصار على مورد النص انتهى وذكر السبكي أن الشافعية اختلفوا فيما إذا اجتمعت القاصرة والمتعدية وتعارضتا فالجمهور رجح المتعدية. وقيل القاصرة وقيل بالوقف ثم أفاد إنما ترجح المتعدية على القاصرة إذا تساوتا من كل وجه إلا وجهي التصور والتعدي أما لو رجحت القاصرة بالإجماع عليها أو بغيره فهي أرجح وقد تترجح القاصرة بوجه يقابل وجه التعدي فيتعادلان فتكون الفائدة الوقف ومنع التعدية من المتعدي "وما أورد على الحنفية" القائلين بعدم صحة العلة القاصرة "من التعليل بالثمنية للزكاة" في المضروب "على ظن الخلاف" المعنوي في جواز التعليل بالقاصرة "وهو" أي التعليل بالثمنية لها وصف "قاصر منع" وروده "بتعديه" أي وصف الثمنية "إلى الحلي" فهو تعليل بوصف متعد "ولقد كان الأوجه جعل الخلاف على عكسه" أي عكس الخلاف في جواز التعليل بالقاصرة "من التعليل بعلة يثبت بها حكم محل غير منصوص" فينسب إلى الحنفية الجواز وإلى الشافعية عدمه وإنما كان هذا أوجه "لما تقدم" في المرصد الأول "من قبولهم" أي الحنفية "التعليل بلا قياس بما ثبت لجنسها إلخ" أي العلة التي ثبت لجنسها أو لعينها اعتبار في جنس الحكم. "وهو" أي التعليل بما اعتبر جنسه أو عينه في جنس الحكم تعليل "بقاصرة إذ لم توجد" تلك العلة "بعينها في محلين" وحينئذ فيقال في الجواب "فالحنفية نعم" يجوز التعليل بعلة يثبت بها حكم محل غير(5/450)
منصوص عليه "إذا ثبت الاعتبار" لها "بما ذكرنا في الأقسام الثلاثة" من تأثير جنسها في عين الحكم أو جنسه وتأثير عينها في جنس الحكم "والشافعية لا" يجوز التعليل بها "لأنه" أي ذلك الوصف الذي هذا شأنه "من المرسل" الملائم على ما ذكر ابن الحاجب وموافقوه لكن الشأن في أن هذا غير مقبول عندهم وقد تقدم ما فيه وأن الآمدي ذكر أن ما اعتبر جنسه في جنسه فقط ولا نص ولا إجماع من جنس المناسب القريب وأنه مقبول والله تعالى أعلم.
"ومنها" أي شروط صحة العلة "على" قول "من قدم قول الصحابي" على القياس "أن لا تكون" العلة "معدية" من الأصل "إلى الفرع حكما يخالف قول الصحابي فيه" أي في الفرع "بشرطه" أي تقديم قوله عليه "السابق في وجوب تقليده" المذكور في مسألة قبيل فصل في التعارض "وتجويز كونه" أي قول الصحابي في الفرع واقعا "عن" علة "مستنبطة" من أصل آخر فحينئذ لا تكون مخالفة قوله دافعة للظن بعلية ما جعل علة في الأصل الذي قصد تعدية حكمه إلى ذلك الفرع كما ذهب إليه المجوزون "وذكر عضد الدين أنه الحق" "عند هؤلاء" القائلين بتقديم قوله على القياس "احتمال مقابل لظهور كونه" أي قوله واقعا "عن نص" فيه(5/451)
ص -219-…"كما سبق" ثمة حيث قال بل يفوت فيه احتمال السماع ولو انتفى فإصابته أقرب إلخ فلا يقدح في الحجية ثم لا خفاء في أن هذا إذا كان قولا يدرك بالقياس أما ما لا يدرك به فيشترط خلوه عنه للاتفاق على تقديمه على القياس لأن له حكم الرفع.
"ومنها" أي شروط صحة العلة "عدم نقض" العلة "المستنبطة عند تخلف الحكم عنها في محل" ولو بمانع أو عدم شرط "لمشايخ ما وراء النهر من الحنفية" وأبي منصور الماتريدي وفخر الإسلام والشافعي في أظهر قوليه وأكثر أصحابه "وأبي الحسين" البصري "إلا أبا زيد" من مشايخ ما وراء النهر فإنه وأكثر العراقيين أيضا ومنهم الكرخي والرازي ومالكا وأحمد وعامة المعتزلة على أنه ليس بشرط "واختلفوا" أي الحنفية الشارطون عدم النقض في صحة المستنبطة "في المنصوصية فمانع أيضا" عندهم وبه قال الإسفراييني وعبد القاهر البغدادي. وقيل إنه منقول عن الشافعي "ومجوز" وهم أكثرهم "والأكثر ومنهم عراقيو الحنفية كالكرخي والرازي" وأبي عبد الله الجرجاني وأكثر الشافعية على ما في البديع "يجوز" التخلف في محل "بمانع أو عدم شرط فيهما" أي المستنبطة والمنصوصة فقيل يقدح مطلقا قال السبكي وهو المنسوب إلى الشافعي وأصحابه ويعده أصحابنا في جملة مرجحات مذهب الشافعي على غيره ويقولون علله سليمة عن الانتقاض جارية على مقتضاها لا يصدها صاد ثم قال وعليه القاضي أبو بكر وأبو الحسين البصري وجماهير المحققين "واختار المحققون" كابن الحاجب "الجواز" للنقض "في المستنبطة إذا تعين المانع" من العلية في محل النقض ولو عدم شرط فإنه مانع أيضا "وفي المنصوصة بنص عام" يدل بعمومه على العلية في محل النقض ويعارضه عدم الحكم فيه لدلالته على عدم العلية فيه "لكن إن لم يتعين" المانع من العلية في محل النقض "قدر" وجوده فيه مثاله أن يرد الخارج النجس ناقض ويثبت أن الفصد لا ينقض فيحمل على غير الفصد ووجب تقدير مانع إن لم يعلمه "أما" إذا كانت منصوصة "بقاطع(5/452)
في محل النقض فيلزم الثبوت فيه" أي في محل النقض لعدم جواز تخلف المدلول عن دليله القطعي "أو في غيره" أي غير محل النقض "فقط فلا تعارض" لأن النص القاطع إنما دل على عدم عليته في محل النقض. وتخلف الحكم إنما دل على عدم عليته في محل النقض ولا تعارض عند تغاير المحلين فلا نقض لأن معناه أن الدليل دل على علية الوصف فيه وتخلف الحكم دل على عدم عليته فيه وليس هذا كذلك "قيل ولا فائدة في قيد القاطع لأن الظني كذلك" كما أشار إليه التفتازاني بقوله ولا خفاء في أنه لو ثبت العلية في غير محل النقض خاصة بظني فلا تعارض أيضا انتهى لتغاير المحلين ويزداد انتفاء إن كان حكم محل النقض ثابتا بقطعي لأن الظني لا يعارض القطعي "وهذا" التفصيل "مراد الأكثر" بقولهم يجوز بمانع أو عدم شرط فيهما لأنه مقتضى الدليل ويبعد منهم مخالفته "وليس" هذا مذهبا "آخر" غيره كما هو صريح كلام ابن الحاجب. "ونقل الجواز" أي جواز النقض "فيهما" أي المستنبطة والمنصوصة "بلا مانع" وعبر عنه السبكي بلا يقدح مطلقا وعليه أكثر أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد "و" جواز النقض "كذلك" أي بلا مانع "في المستنبطة فقط" نقله ابن الحاجب(5/453)
ص -220-…وغيره "والحق نقل بعضهم" وهو الشيخ قوام الدين الكاكي "الاتفاق على المنع" من التعليل بعلة منقوضة "بلا مانع" لأن المنقوض لا يصلح علة قال المصنف "ومعنى قولهم" أي القائلين يجوز فيهما أو في المستنبطة بلا مانع "الحكم به" أي بالمانع "إن لم يتعين" المانع "لدليلهم" أي المجوزين في المستنبطة بلا مانع "القائل المستنبطة علة" بما يوجب الظن بدليل ظاهر من الطرق الدالة على العلة توجب ظنها "والتخلف مشكك" أي موجب للشك "في عدمها" أي العلية "فلا يوجب ظن عدمها" بل إنما يوجب الشك فيه "فإنه" أي التخلف "إن" كان "بلا مانع فلا علة" لاستناد التخلف حينئذ إلى عدم المقتضي "و" إن كان "معه" أي المانع فالعلة "ثابتة" لأن الظن كما هو "وجوازهما" أي الوجود والعدم "على السواء" والظن لا يرفع الشك فالتخلف لا يبطل العلية. قال المصنف ووجه دلالة دليلهم على اشتراط تقديره أن قولهم: أن بلا مانع لا علة ومع المانع العلية ثابتة فلما لم يعلم الواقع من أحد الأمرين ودليل العلية القائم أوجب ظنها لزم اعتبار عليتها فلزوم اعتبار عليتها مع تصريحهم بعدم العلية عند عدم المانع يوجب منهم تقديره مع حكمهم بقيام العلية مع التخلف بالضرورة انتهى ومثل هذا يجيء في المنصوصة "وأجيب" عن هذا الدليل أن التخلف "إن" كان "أوجب الشك في عدمها" أي العلية "أوجب في نقيضها" أي العلية لأن الشك في أحد المتقابلين يوجبه في الآخر إذ حقيقة احتمال المتقابلين سواء "فناقض قولكم" العلة "مظنونة" قولكم العلة "مشكوكة" لأن المظنون محل الظن ولا يجتمع الظن مع الشك في محل واحد لتضادهما ولا خفاء في أن قولكم مفعول ناقض و "مشكوكة" فاعله وفي الحقيقة خبر جملة مقول القول المقدر كما رأيت والكلام المتناقض لا يلتفت إليه "وقول الفقهاء لا يرفع الظن بالشك أي حكمه" أي الظن "السابق لا يرفع شرعا لطرو الشك فيه المستلزم لارتفاعه عن البقاء" لجواز أن يجعل الشرع حكم الضد الزائل باقيا(5/454)
بأن يجوز الصلاة مع زوال ظن الطهارة بالشك في الحدث لا أن معناه أن نفس الظن لا يزول بنفس الشك فإن زوال الضد عند طرو الضد ضروري فلا يلزم من كلامهم اجتماع الظن والشك في متعلق واحد "ولا يمكن مثله" أي مثل هذا المراد "هنا" أي في مظنونية العلة ومشكوكية عدمها "لأنه" أي الكلام "في ظن العلية لا حكمها" فإذا زال بالشك لئلا يلزم اجتماعهما في محل واحد حكمنا بعدم الاعتبار نعم لو ثبت من الشارع جواز القياس مع زوال ظن العلية بالشك لتابعناه وقلنا فيه مثل ما تقدم "وإذا لزم من كلامهم تقدير المانع" إذا لم يتعين "كفاهم" في الجواب "التخلف لمانع يوجب نفي ظنها" أي العلية "والدليل أوجبه" أي ظنها "وأمكن الجمع" بينهما "بتقديره" أي المانع في التخلف إذ يعمل بالدليل الموجب لظنيها في غير صورة النقض وبالموجب للإهدار في صورة النقض فوجب المصير إليه كغيره من المواضع التي يجمع فيها بين الدليلين. "قالوا" أي القائلون بالجواز في المستنبطة ثانيا "لو توقف الثبوت" للحكم "بها" أي بالعلية "في غير محل التخلف" للحكم "عليه" أي ثبوت الحكم "بها" أي بالعلية "فيه" أي في محل التخلف "انعكس" أي توقف ثبوت الحكم في محل التخلف عليه بها في غير محل التخلف "فدار أو لا" ينعكس "فتحكم" لأنه(5/455)
ص -221-…ترجيح بلا مرجح ووقع في كلام ابن الحاجب قلب هذا وهذا أوجه "أجيب" باختيار الأول ولا ضير في لزوم الدور المذكور إذ هو "دور معية" لا دور تقدم "وهذا" الجواب "صحيح إذا أريد توقف اعتبار الشارع" كونها علة "لكن الكلام" ليس فيه بل "في الدلالة عليها" أي على عليتها "أي لو توقف العلم بالثبوت بها أي بعليتها" تفسير للثبوت بها "إلخ" أي في غير محل التخلف عليه بها فيه انعكس فدار "وإذن فترتب" أي فهو دور ترتب "لأنا لا نعلمها" أي عليتها "إلا بالثبوت" أي بالعلم بثبوت الحكم بها "في الكل" أي في جميع صور وجودها إذ كاسب العلم لا يكون إلا عالما ولذا قال "فلو علم بها" أي بالعلية "الثبوت" للحكم "تقدم كل" منهما على الآخر "لأن ما به العلم" بالشيء "قبله" أي قبل العلم بالشيء فيلزم توقف العلم بعليتها على العلم بثبوت الحكم بها وثبوت الحكم بها على العلم بعليتها. ؛ "وحينئذ" أي وحين كان الأمر على هذا "الجواب منع لزوم الانعكاس والتحكم إذ ابتداء ظن العلية" إنما هو "بأحد المسالك" للعلة من مناسبة وغيرها "فإذا استقرأت المحال" للعلة "لاستعلام معارضة من التخلف لا لمانع فلم يوجد" التخلف لا لمانع في محل منهما "استمر" ظن العلية "فاستمراره" أي ظنها هو "الموقوف على الثبوت" للحكم في جميع المحال "أو" على "عدمه" أي الثبوت في بعض المحال "مع المانع والحكم بالثبوت به" أي بالوصف إنما يتوقف "على ابتداء ظنها" أي علية الوصف المذكور "في الجملة" فلا دور "واستشكل" هذا "بما إذا قارن" ظن العلية "العلم بالتخلف" إذ لا يتأتى حينئذ ذكر الاستمرار بخلاف ما إذا كان متأخرا "كما لو سأله فقيران" غير فاسق وفاسق "فأعطى أحدهما" وهو غير الفاسق "ومنع الفاسق فإن العلم بعلية الفقر" لإعطائه "يتوقف على العلم بمانعية الفسق" للإعطاء "وبالعكس" أي والعلم بمانعية الفسق يتوقف على العلم بعلية الفقر "فالصواب أن المتوقف على العلم بالعلية العلم بالمانعية(5/456)
بالفعل والمتوقف عليه العلية هو المانعية بالقوة وهو" أي المانع بالقوة "كون الشيء بحيث إذا جامع باعثا منعه" أي الباعث "مقتضاه" والفسق للإعطاء كذلك إذ الفسق كونه بحيث إذا جامع الفقر منعه مقتضاه الذي هو الإعطاء وجد الفقر أو لا لا أن المتوقف عليه العلة المانعية بالفعل وهذه الجملة من شرح القاضي عضد الدين.
قال المصنف "وهذا" الدليل مع جوابه "مشترك القولين" اللذين أحدهما يجوز في المنصوصة والمستنبطة والآخر يجوز في المستنبطة فقط "ويزيد المانع في المنصوصة باستلزامه" أي النقض فيها "بطلان النص المقتضي الثبوت في محل التخلف" لتناول النص المذكور محل التخلف "بخلاف المستنبطة" فإن دليلها ترتب الحكم عليها عند خلوها عن المانع ولا تخلف للحكم عن هذا الدليل لأن انتفاء العلية في صورة النقض مبني على انتفاء الدليل. "أجيب" عن هذا "إن" كان النص "قطعيا بالثبوت في محل التخلف لم يقبل التخصيص" كغيره من التخصيصات التي تتصور للقواطع فإن القاطع لا يقبل شيئا منها "أو" كان "ظنيا وجب قبوله وتقدير المانع جمعا" بين دليلي الاعتبار والإهدار كما تقدم آنفا "وأنت علمت ما يكفيهم" في الجواب عن هذا من أن التخلف لا لمانع يوجب نفي ظنها والدليل(5/457)
ص -222-…أوجبه وأمكن الجمع بتقديره فوجب كما في غيره فليقتصر عليه "فإنما هذا من تصرفات المولعين بنقل الخلاف دون تحرير وللعاكس" للجواز في المستنبطة لا المنصوصة وهو القائل بالجواز في المنصوصة لا المستنبطة "نحوه" أي هذا الدليل المذكور للجواز في المستنبطة وهو "لو صحت المستنبطة مع نقضها كان" كونها صحيحة "للمانع" أي لتحقق المانع في محل التخلف "فتوقفت صحتها" حال كونها "منقوضة عليه" أي المانع "وإلا" لو تخلفت بلا مانع "فلا اقتضاء وتحققه" أي المانع "فرع صحة عليتها" إذ لو لم تصح العلية لكان عدم الحكم لعدم العلة لا لوجود المانع ولا أثر لما يتصور مانعا فلا يكون مانعا فتتوقف الصحة على المانع والمانع على الصحة "فدار أجيب بأنه" أي هذا الدور دور "معية" إذ غايته امتناع انفكاك كل عن الآخر. وأما عدم الانفكاك بصفه التقدم فلا "ودفع" هذا الجواب "بأن حقية المراد" من الدليل المذكور "العلم بالصحة والمانعية" لأن المعتبر في تحقيق المقتضى والمانع هو العلم بذلك ليتأتى ترتيب الحكم "وهو" أي توقف كل منهما على الآخر "ترتب" أي دور مرتب لظهور تقدم كل على الآخر إذ لا تعلم المانعية إلا بعد العلم بالاقتضاء ولا يعلم الاقتضاء إلا بعد العلم بالمانعية "بل الجواب أنا نظن صحتها" أي العلية "أولا بموجبه" أي الظن "ثم نستقرئ إلخ" أي المحال لاستعلام معارضه من التخلف لا لمانع. فإن لم نجد استمر الظن بصحتها وإن وجدنا التخلف في بعض المحال. فإن وجدنا أمرا يصلح أن ينسب إليه ذلك حكمنا على ذلك الأمر بأنه مانع واستمر ظن الصحة وإلا زال فإذا استمرار الظن بصحتها يتوقف على وجود المانع وكونه مانعا بالفعل يتوقف على ظهور الصحة وظنها لا على استمراره فزال الدور لأن المتوقف هو استمرار الظن والمتوقف عليه نفس الظن وإيضاحه أن من أعطى فقيرا يظن أنه إنما أعطاه لفقره فإذا لم يعط آخر توقف الظن لجواز وجود المانع وعدمه. فإن تبين مانع كفسقه استمر ظن(5/458)
أنه كان للفقر وإنما لم يعط الآخر مع وجود الباعث لفسقه وإلا زال ظن كونه للفقر فظهر أنه لا يعلم أن الفسق مانع إلا بعد العلم بأن الفقر مقتض وإلا لجاز أن يكون عدم الإعطاء بناء على المقتضي ولا نعلم أن الفقر مقتض إلا بعد العلم بأن الفسق كان مانعا وإلا لكان التخلف قاطعا في عدم المقتضي "ويجري فيه" أي في هذا الجواب "إشكال المقارنة" أي ما إذا كان العلم بالتخلف مقارنا لظهور العلية إذ لا يتأتى حينئذ ذكر الاستمرار "ودفعه" أي إشكالها بأن ما يتوقف على العلم بالعلية هو العلم بالمانعية بالفعل وما يتوقف عليه العلية هو المانعية بالقوة بمعنى كون الشيء بحيث إذا جامع الباعث منع مقتضاه كما تقدم كل منهما آنفا "وجه المختار" وأن عدم النقض في كل من المنصوصة والمستنبطة ليس بشرط في صحتها "أنه" أي التخلف "تخصيص لعموم دليل حكم" وهو كون الوصف علة "فوجب قبوله كاللفظ" أي كما يجب قبول التخصيص في العموم اللفظي إذ لا فرق مؤثر بينهما. "وما قيل الخلاف" في جواز التعليل بعلة منقوضة "مبني على الخلاف في قبول المعاني العموم فالمانع" أن لها عموما "إذ" المعنى واحد "لا تعدد إلا في محاله" فلا يقبل التخصيص "مانع هنا" أي من تخصيص العلة لأنها معنى والقائل بأن لها(5/459)
ص -223-…عموما يجوز تخصيص العلة لعمومها ثم الخلاف مبتدأ خبره "غير لازم لوقوع الاتفاق حينئذ" أي حين كانت حجة المانع هذا "على تعدد محاله" أي المعنى "والكلام هنا" أي في تخصيص العلة "ليس إلا باعتبارها" أي محالها "إذ حاصله" أي تخصيص العلة "أنه" أي المعنى "يوجب الحكم في محاله إلا محل المانع" من الحكم "والمانع هو دليل التخصيص وبه" أي بهذا التقرير "اندفع قول المانعين" من تخصيص العلة "أنه" أي تخصيصها "تناقض لا تخصيص" قالوا "لأن دليل العلية يوجب قوله" أي المعلل "هذا الوصف مؤثر في الحكم كقوله جعلته" أي الوصف "أمارة عليه" أي الحكم "أينما وجد" أي الوصف وإنما اندفع قولهم لأنا لا نسلم أن دليل العلية يوجب جعله أمارة عليه أينما وجد "بل" إنما يوجب جعله أمارة عليه "في غير محل التخلف غير أنا إذا قطعنا بانتفاء الحكم في بعض محاله" أي الحكم "مع النص على العلة ولم يظهر ما يصح إضافة التخلف إليه قدرنا مانعا" من الحكم في ذلك المحل "جمعا بين الدليلين" دليل العلة في غير محل التخلف ودليل التخلف في محله. "وهو أولى من إبطال دليل العلة وما قيل" أي وما أشار إليه صدر الشريعة وقرره في التلويح من أن التخصيص من الأحكام التي لا يمكن تعديتها من الأصل أعني الدلالة اللفظية إلى الفرع أعني المعلل إذ "التخصيص ملزوم للمجاز الملزوم اللفظ" لأن المجاز من خواص اللفظ واختصاص اللازم بالشيء يوجب اختصاصه به وإلا لزم وجود الملزوم بدون اللازم وهو محال "منع بأن الملزوم للمجاز منه" أي التخصيص "تخصيص اللفظ لا" التخصيص "مطلقا بل هو" أي التخصيص مطلقا "أعم" من أن يكون ملزوما للمجاز أو لا ومعنى تعدية الحكم إثبات مثله في صورة الفرع فيثبت في العلل تخصيص بعض الموارد كتخصيص الألفاظ ببعض الأفراد ويتصف به اللفظ ضرورة استعماله في غير ما وضع له ويمتنع اتصاف العلة به إذ ليس من شأنها الاتصاف بالحقيقة والمجاز كذا في التلويح وبعد إصلاحه إلى ومعنى(5/460)
تعدية الحكم إثباته في صور الفرع لما حققه المصنف من أن الثابت في الفرع هو الحكم الذي في الأصل لا مثله كما تقدم في موضعه تعقب بأنه لا يجدي نفعا في إثبات جواز تخصيص العلة قياسا على الدلالة اللفظية إذ لا بد من بيان الجامع المفيد للاشتراك بين الأصل والفرع ولم يوجد هنا بل الفرق بينهما ثابت على ما قرر في المحصول من أن دلالة العام المخصوص على الحكم وإن كانت موقوفة على عدم المخصص إلا أن عدم المخصص إذا ضم إلى العام صار المجموع دليلا على الحكم بخلاف العلة فإن دلالتها متوقفة على عدم المخصص وذلك العدم لا يجوز ضمه إلى العلة على جميع التقديرات أما على قول من منع كون القيد العدمي جزءا من علة الحكم الوجودي فظاهر. وأما على قول المجوز فلاشتراطه أن يكون مناسبا "قالوا" أي المانعون لا نسلم وجود العلة في محل التخلف "إذ لا بد في صحتها من المانع" والوجه من عدم المانع فسقط لفظ عدم من القلم "ووجود الشرط فعدمه" أي المانع "ووجوده" أي الشرط "جزء العلة لأن المجموع" منهما ومن الوصف هو "المستلزم" للحكم وقد وجد المانع أو فقد الشرط في محل التخلف فلم يوجد تمام العلة "قلنا فرجع" الخلاف(5/461)
ص -224-…في تخصيص العلة خلافا "لفظيا مبنيا على تفسيرها أهي الباعث" على الحكم "أو" هي "جملة ما يتوقف عليه" الحكم. فإن فسرت بالباعث على الحكم فليس عدم المانع ووجود الشرط من الباعث في شيء فجاز النقض وإن فسرت بالمستلزم فوجوده وجود الحكم فحينئذ لم يجز النقض "لكن الحق خطؤكم" في دعواكم عدم جواز النقض "لتفسيركم" العلة "بالمؤثر والشرط وعدم المانع لا دخل لهما في التأثير بموافقتكم". "وأما إلزام تصويب كل مجتهد" للقول بجواز تخصيص العلة لأن صحة الاجتهاد إنما تثبت بسلامته من المناقضة وفساده وخطؤه بانتقاضه فإذا جاز تخصيص العلة أمكن لكل مجتهد إذا ورد عليه النقض في علته أن يقول امتنع حكم علتي ثمة لمانع وفي تصويب كل مجتهد قول بوجوب الأصلح على الله إذ الأصلح في كل مجتهد أن يكون مصيبا والقول بوجوب الأصلح باطل فما يؤدي إليه كذلك "فمنتف لأن ادعاءه" أي المجتهد "علية الوصف لا يقبل منه أولا إلا بدليل ومع التخلف لا يقبل منه" كون العلة هي وصف كذا لكن امتنع حكمها في محل كذا المانع "إلا أن يبين مانعا" صالحا للتخصيص ومن المعلوم أنه لا يتيسر لكل مجتهد عند ورود النقض على علته بيان مانع صالح للتخصيص، على أن للمجيزين أن يقبلوا هذا على المانعين بأن يقولوا لما كان عدم الحكم عندكم في صورة التخصيص مضافا إلى عدم العلة بتغير ما يمكن حينئذ لكل مجتهد إذا ورد عليه نقض أن يقول عدمت علتي في صورتي النقض لزيادة وصف فيها أو نقصانه عنها ويتخلص عن النقض فتبقى علته على الصحة فيكون كل مجتهد مصيبا. "وإنما ذلك" أي إلزام تصويب كل مجتهد "لازم" للقول بجواز تخصيص العلة "مع إجازته" أي النقض "بلا تعينه" أي المانع من الحكم "كما حررناه أو بلا مانع كما قيل أو دليل" والحق أنه لا بد من بيان مانع صالح للتخصيص، ثم لا نسلم أنه يلزم منه تصويب كل مجتهد لجواز إبطال علته بسائر الطرق من الممانعة والمعارضة وفساد الوضع والقلب وغيرها ولئن سلم أن(5/462)
يلزم منه ذلك لكن إنما يلزم منه التصويب في حق العمل لا في حق الحكم الثابت عند الله كما روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال كل مجتهد مصيب والحق عند الله واحد وهذا لا يؤدي إلى القول بوجوب الأصلح على الله تعالى بل غايته وقوع الأصلح والقول بوجوب الأصلح باطل لا بوقوعه منه تعالى لاتفاق الفقهاء على أن أفعال العباد وأحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد كما تنادي به تعليلاتهم في شرعية المعاملات والعقوبات "وقولهم" أي المانعين "صحة العلية تستلزم ثبوت الحكم في محل التخلف" لأن من ضرورة صحتها لزوم المعلول لعلته "ليس بشيء بعد ما ذكرنا" آنفا من أن المراد بالعلة الباعث والمؤثر لا لزوم الحكم لها مطلقا وإنما لزومه مشروط بعدم المانع ووجود الشرط وليسا من الباعث والمؤثر "وقولهم" أي المانعين أيضا "تعارض دليل الاعتبار" للعلة وهو وجود الحكم مع الوصف الذي هو علة "و" دليل "الإهدار" وهو التخلف عنه فتساقطا "فلا اعتبار" بدليل العلية وهو المطلوب "ممنوع لأن التخلف ليس دليل الإهدار إلا" إذا كان "بلا مانع" لعدم المقتضي حينئذ فبطل الاقتضاء لكن الفرض أنه لمانع والله سبحانه أعلم.(5/463)
ص -225-…هذا وقد قال صدر الإسلام تكلم الناس في تخصيص العلة قديما وحديثا إلا أنه لم يرو عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر وسائر أصحابه نص فيه وادعى قوم من أجلاء أصحابنا كالكرخي والرازي والدبوسي والقاضي خليل بن أحمد الشجري أن مذهب أبي حنيفة القول بتخصيص العلة واستشهدوا بمسائل. وذكر المحاسبي من الأشاعرة أن أبا حنيفة كان يقول ذلك وعده من مناقبه ولفظ الشيخ أبي بكر الرازي تخصيص أحكام العلل الشرعية جائز عند أصحابنا وعند مالك بن أنس، وأباه بشر بن غياث والشافعي والذي حكيناه من مذهب أصحابنا في ذلك أخذناه عمن شاهدناه من الشيوخ الذين كانوا أئمة المذهب بمدينة الإسلام يعزونه إليهم على الوجه الذي بينا، ويحكون عن شيوخهم الذين شاهدوهم ومسائل أصحابنا وما عرفنا من مقالتهم فيها يوجب ذلك وما أعلم أحدا من أصحابنا وشيوخنا أنكر أن يكون ذلك من مذهبهم إلا بعض من كان ها هنا بمدينة الإسلام في عصرنا من الشيوخ فإنه كان ينفي أن يكون القول بتخصيص العلة من مذاهبهم وله مناكير في هذا الباب في أجوبة مسائلهم انتهى وفي التحقيق ثم من أجاز تخصيص العلة من مشايخنا زعم أن ذلك مذهب علمائنا الثلاثة فإنهم قالوا بالاستحسان وليس ذلك إلا تخصيص العلة فإن معناه وجود العلة مع عدم الحكم لمانع والاستحسان بهذه الصفة فإن حكم القياس امتنع في صورة الاستحسان لمانع مع وجود العلة ونسبه في الكشف إلى الكرخي ونازعهم في ذلك فخر الإسلام وشمس الأئمة ومن تبعهما من المتأخرين وقالوا هو ليس من تخصيص العلة بل الحكم إنما انعدم فيه لعدم علته لأن القياس إذا عارضه استحسان لم يبق الوصف علة لأن دليل الاستحسان إن كان نصا فلا اعتبار لعلة القياس في مقابلته لأن من شرط صحة التعليل عدم النص، وإن كان إجماعا فكذلك لأنه مثل النص في إيجاب الحكم فكان أقوى من العلة والضعيف في مقابلة القوي معدوم حكما. وكذا إن كان ضرورة لأن اعتبارها بالإجماع أو قياسا خفيا لأنه(5/464)
أقوى من القياس الجلي والمرجوح في مقابلة الراجح بمنزلة العدم بسبب أن عدم الحكم لعدم العلة لا لمانع مع قيامها وقال الفاضل القاآني والحق عندي هو التفضيل وهو أن كل موضع استحسنا فيه بالأثر والإجماع والضرورة يصار إلى القول بالتخصيص وإلا يلزم الفساد والتناقض بين قولهم التخصيص باطل وقولهم شرط صحة التعليل أن لا يكون الأصل معدولا به عن القياس لأنه إن لم تكن العلة موجودة مع تخلف الحكم فيها كيف يكون معدولا عن القياس ولا يبقى لقوله صلى الله عليه وسلم ورخص في السلم معنى لأن الترخص إنما يتحقق عند تخلف الحكم لعذر وضرورة وكل موضع استحسنا فيه بالقياس الخفي لا يصار إلى التخصيص لانتفاء ما ذكرنا من المحذورات أما الثاني والثالث فظاهر. وأما الأول فكذلك لأن بوجه الاستحسان يظهر أن ما كان يتراءى علة لم يكن علة حقيقة حتى يحتاج إلى القول بالتخلف لمانع بل العلة كانت غيره لما قلنا في سؤر سباع الطير بوجه الاستحسان ظهر أن التبعية ليست علة لنجاسة سؤر سباع الوحش من البهائم بل الرطوبة النجسة في الآلة التي تشرب بها وتلك العلة غير موجودة في سباع الطير(5/465)
ص -226-…فلم يتنجس سؤرها لعدم علة ولهذا لا يقال إن المستحسن بالقياس الخفي معدول به عن القياس انتهى.
"تنبيه قسم المصححون" لتخصيص العلة "مع المانع من الحنفية الموانع إلى خمسة ما يمنع انعقاد العلة كبيع الحر" إذ البيع علة ثبوت الملك في المبيع للمشتري وفي الثمن للبائع لكن وجد المانع من انعقاده علة لذلك هنا كما أشار إليه بقوله "وهو" أي المانع من انعقادها فيه "انتفاء محلها" وهو المال لأن البيع مبادلة مال بمال بالتراضي والحر ليس بمال "ولا علة في غير محل" فهذا هو المانع الأول "و" ما يمنع "تمامها" أي العلة "في حق غير العاقد" أي في حق المالك "كبيع عبد الغير" بغير إذنه ولا ولاية له عليه فإن بيعه علة "تامة في حق العاقد" حتى لم يكن له ولاية إبطاله "لا" في حق "المالك" لعدم ولاية العاقد عليه ولهذا يبطل بموته ولا يتوقف على إجازة وارثه نعم أصل الانعقاد ثابت في حقه إذ لا ضرر فيه عليه "فجاز بإجازته وبطل بإبطاله" ولو لم ينعقد لم يلزم بالإجازة وهذا هو المانع الثاني "وما يمنع ابتداء الحكم كخيار الشرط للبائع يمنع الملك" في المبيع "للمشتري" وإن انعقد البيع في حقهما على التمام وهذا هو المانع الثالث "و" ما يمنع "تمامه" أي الحكم لا أصله "كخيار الرؤية لا يمنعه" أي الحكم الذي هو الملك "لكن لا يتم بالقبض معه" أي خيار الرؤية "ويتمكن من له الخيار من الفسخ بلا قضاء و" لا "رضاء" فكان غير لازم لعدم التمام وهذا هو المانع الرابع "و" ما يمنع "لزومه" أي الحكم "كخيار العيب يثبت" الحكم "معه تاما" حتى لا يكون له ولاية التصرف في المبيع "ولا يتمكن من الفسخ بعد القبض إلا بتراض أو قضاء". وهذا هو المانع الخامس وإنما اختلفت مراتب هذه الخيارات لأن خيار الشرط لما كان داخلا على الحكم كما عرف كان الحكم معلقا به فيكون معدوما قبل وجوده وفي خيار الرؤية صدر البيع مطلقا عن الشرط فأوجب الحكم وهو الملك لكن لم يتم لعدم الرضا به عند(5/466)
عدم الرؤية، وفي خيار العيب حصل السبب والحكم باتا لتمام الرضا لوجود الرؤية لكن على تقدير العيب يتضرر المشتري فقلنا بعدم اللزوم ولهذا يتمكن المشتري في خيار العيب من رد بعض المبيع بعد القبض لأنه تفريق الصفقة بعد التمام وأنه جائز ولا يتمكن منه مطلقا في خيار الرؤية لأنه تفريق قبل التمام وهو لا يجوز، وأورد بأن هذا يشير إلى الفرق بينهما بعد القبض والمدعى الفرق بينهما مطلقا وأجيب بأن الفرق بينهما كما هو ثابت بينهما بعده كما ذكرنا كذلك ثابت بينهما قبله لأن المشتري في خيار العيب لا يتمكن من الفسخ قبل القبض بدون الرضاء أو القضاء وفي خيار الرؤية ينفرد بالرد بلا قضاء ولا رضاء مطلقا ثم كون الموانع خمسة هو المذكور في أصول فخر الإسلام وشمس الأئمة وموافقيهما قالوا والحصر فيها استقرائي قيل ويجوز أن يقال ما نحن فيه إنما هو العلة وحكمها وللأول مانعان وللثاني ثلاثة وذلك لأن الرامي إذا قصد الرمي فلا يخلو إما أن يصدر السهم من قوسه رميا أو لا والثاني هو الأول وهو الذي لم ينعقد علة والأول إما أن يصل إلى المرمى أو لا والثاني هو القسم الثاني وهو الذي حال بين الرامي والمقصد حائل فالحائل مانع تمام العلة والأول(5/467)
ص -227-…ليس مما نحن فيه لأنه ثم علة وليس كلامنا في العلل بل في الموانع ثم إذا أصاب السهم المرمى فلا يخلو إما أن يجرحه أو لا والثاني هو الأول أي الذي منع ابتداء الحكم بدفعه بقوس أو غيره والأول إما أن يزول الجرح بالاندمال أو لا والأول هو القسم الثاني وهو الذي منع تمام الحكم والثاني هو الثالث الذي يمنع لزوم الحكم وهذه قسمة دائرة بين النفي والإثبات فتفيد الجزم ولا محالة. والمذكور في تقويم القاضي أبي زيد أربعة لأنه إن كان بحيث لا يحدث مع شيء من الأجزاء فهو المانع من الابتداء والانعقاد وإلا فهو المانع من التمام وكل منهما في العلة أو الحكم ووافقه الفاضل القاآني على هذا فقال ولو جعل أقسام الموانع أربعة وجعل خيار الرؤية والعيب مما يمنع لزوم الحكم لتمكن المشتري من الفسخ فيهما كما جعله القاضي الإمام أبو زيد لكان أوجه وفيه تأمل يظهر مما تقدم.(5/468)
"وخرج بعضهم" أي الحنفية "على الخلاف" في تخصيص العلة "فرعا على مذهبهم" أنفسهم وهو الصائم "النائم إذا صب في حلقه ماء فسد" صومه "عندهم لفوات ركنه" أي الصوم وهو الإمساك عن المفطر لوصول الماء إلى جوفه "فهو" أي فوات ركنه بوصول الماء إلى جوفه "علة الفساد" للصوم لأنه وصف مؤثر فيه الفساد وقد "تخلف" الفساد "عنها" أي العلة المذكورة في صوم الشارب "الناسي" لصومه لأن بشربه ناسيا لا يفسد صومه "فالمجيز" تخصيص العلة يقول تخلف الحكم "لمانع هو الحديث" وهو ما قدمنا في شرط حكم الأصل أن لا يكون معدولا عن القياس من سنن الدارقطني وصحيح ابن حبان أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني كنت صائما فأكلت وشربت ناسيا فقال صلى الله عليه وسلم "أتم صومك فإن الله أطعمك وسقاك" "مع وجود العلة" وهو فوت الركن. "والمانع" تخصيص العلة يقول تخلف الحكم "لعدمها" أي العلة فيه "حكما لأن فعل الناسي نسب إلى مستحق الصوم" وهو الله تعالى "لقوله صلى الله عليه وسلم "إنما أطعمك الله وسقاك" فكان أكله كلا أكل فبقي الركن حكما و" الصائم النائم "المصبوب في فيه" الماء "ليس في معناه" أي الصائم الناسي "إذ ليس" فعله المفوت للركن "مضافا إلى المستحق" للصوم "فلم يسقط اعتباره بخلاف الساقط في حلقه" حال كونه "نائما" ماء "مطر" لا يفسد صومه "كما هو مقتضى النظر" لأنه لا ينزل عن شرب الناسي لعدم إضافته إلى أحد من البشر وإذا كان بعض المشايخ على أنه لو دخل في حلق المستيقظ مطر أو ثلج لا يفسد صومه للضرورة فما الظن بهذا نعم آخرون على أنه يفسد في هذه وذكروا أنه الأصح لإمكان الامتناع عنه بأن يأوي إلى خيمة أو سقف فينقدح على هذا أن يقال فيما نحن فيها إن كان بحيث يمكنه أن ينام مستورا بما يمنع دخوله في حلقه أفطر وإلا فلا كما ينقدح أن يقال في المستوضح بها أنه إذا كان لا يمكنه الامتناع منه بأن كان سائرا في فلاة ولا خيمة ولا سقف أو ثم أحدهما وهو(5/469)
بحيث يمنع منه ينبغي أن لا يفسد حينئذ كقول الماضين ثم كلمتهم على أنه لو دخل حلقه غبار لا يفسد ولم يقيدوه بشيء وقالوا إنه لا يستطاع الامتناع منه ومن المعلوم أنه يمكنه الامتناع منه في بعض الصور بأن يكون إثارة الغبار من تعاطيه أو بدنوه. فإن تم إطلاق عدم الفساد فيه مع هذا تم أنه لا يفسد صوم النائم(5/470)
ص -228-…الساقط في حلقه ماء مطر مطلقا وفي شرح الجامع الصغير لقاضي خان وغيره خاض الماء فدخل أذنه لا يفسد صومه وإن صب الماء في أذنه اختلفوا فيه والصحيح هو الفساد لأنه وصل إلى الجوف بفعله فلا يعتبر فيه صلاح البدن انتهى ومعلوم أن خوض الماء قد يكون له عنه بد والله سبحانه أعلم.
"ولا خفاء أنه" أي ما يسمى علة في هذه المواضع "غير ما نحن فيه" من العلة بمعنى الباعث فإن عدم الركن ليس من ذلك "فظهر أن حقيقة المانع" من فساد صوم الناسي "الإضافة إلى المستحق" وبهذا يظهر عدم إلحاق الشارب نائما بالشارب ناسيا فإن في المنتقى يفسد صومه والله تعالى أعلم هذا وقد ذكر صاحب الكشف أن الخلاف في مسألة تخصيص العلة راجع إلى العبارة في التحقيق لأن العلة في غير موضع تخلف الحكم عنها صحيحة عند الفريقين وفي موضع التخلف الحكم معدوم بلا شبهة إلا أن العدم مضاف إلى المانع عندهم وعندنا إلى عدم العلة وذكر السبكي أنه ليس بلفظي بل يترتب عليه أولا فائدة عظيمة وهي مسألة التعليل بعلتين فيمتنع إن قدح التخلف وإلا فلا ونسب إلى السهو وفي هذا فإنه إنما يتأتى في تخلف العلة عن الحكم والكلام في عكس ذلك وثانيا الخلاف في انقطاع المستدل فإن النقض من عظائم أبواب الجدل والمراد منه انقطاع الخصم فالقائلون بجواز التخصيص يقولون يقبل قوله أردت العلية في غير ما حصل فيه التخلف أو هذه من البعض الذي لا يلزمني الاحتراز عنه بخلاف القائلين بعدم جوازه فإنهم يقولون لا نسمع هذا منك فإن كلامك مطلق وأنت بسبيل من الاحتراز فلم لا احترزت. وثالثا الخلاف في انخرام المناسبة بمفسدة تلزم راجحة أو مساوية فيحصل إن قدح التخلف على قول المانعين ولا يحصل على قول المجوزين وإنما ينتفي الحكم عندهم لوجود المانع كما عليه الإمام الرازي "وأما نقض الحكمة فقط بأن توجد الحكمة دون العلة" أي الوصف الذي هو مظنة الحكمة "في محل ولم يوجد الحكم ويسمى كسرا باصطلاح فشرط عدمه لصحة(5/471)
العلة والمختار" عند ابن الحاجب والآمدي وعزاه إلى الأكثرين "نفيه" أي شرط عدمه "فلو قال" قائل للقائل بأن علة الترخص بالقصر للمسافر كائنا من كان هي السفر "لا تصح علية السفر" للترخص المذكور "لانتقاض حكمتها المشقة بصنعة شاقة" كحمل الأثقال وضرب المعاول وما يوجب قرب النار في ظهيرة القيظ في القطر الحار "في الحضر" لوجود المشقة في المحل الذي هو الصنعة الشاقة بدون علتها التي هي السفر وتخلف الحكم وهو رخصة القصر "لم يقبل لأنها" أي الحكمة "غيرها" أي العلة "وكونها" أي الحكمة هي "المقصودة" من العلة إلا أنه لما عسر ضبطها لاختلاف مراتبها بحسب الأشخاص والأحوال وليس كل قدر منها يوجب الترخص وتعيين القدر الذي يوجبه متعذر لعدم ظهوره وانضباطه ضبطت بالعلة التي هي السفر لأنه وصف ظاهر منضبط "فيبطل ببطلانها" أي الحكمة وفاعل يبطل "ما لم يعتبر إلا لها" أي الحكمة وهو علية السفر "إنما يلزم لو اعتبر مطلقها" أي المشقة. "وهو" أي اعتبار مطلقها "منتف بالصنعة" الشاقة لأن غير السفر من الصنائع الشاقة معلوم فيها انتفاء الترخص بالقصر "فالحكمة التي هي العلة في(5/472)
ص -229-…الحقيقة مشقة السفر ولم يعلم مساواتها" العلة "المنقوضة" وهي مشقة الصنعة الشاقة في الحضر "ولو فرض العلم برجحان المنقوضة في موضع يلزم بطلان العلة" في ذلك الموضع "إلا أن شرع حكم" آخر هو "أليق بها" أي بتلك الحكمة من ذلك الحكم، والبطلان في صورة لا ينافي صحة العلية وصلاح الأصل لكونه مقيسا عليه "كالقطع بالقطع" أي كقطع اليد بقطع اليد شرع "لحكمة الزجر" للمكلف عن الإتيان بمثله "تخلف" القطع "في القتل" العمد العدوان مع أن الحكمة فيه أزيد مما لو قطع "لشرع ما هو أنسب به" أي بالقتل العمد العدوان "وهو" أي ما هو أنسب به من القطع "القتل" إذ القتل أكثر عدوانا من القطع فيليق بالزجر عنه حكم يحصل به زجر أكثر من زجر القطع وذلك الحكم أمر يحصل به ما يحصل بقطع اليد وزيادة على ذلك فشرع القتل الذي يحصل به ما يحصل بقطع اليد وسائر الأعضاء ليكون زائدا على القطع الذي لا يحصل به سوى إبطال اليد والحاصل أنه لما كان القتل أقوى افتقر إلى زجر أقوى فشرع زاجر أقوى ولم يلزم منه عدم اعتبار حكمة الزجر بل قوة اعتباره. "وأنت إذ علمت أن الحكمة المعتبرة" لعسر ضبطها وتعذر تعين القدر الذي توجبه "ضبطت شرعا" بمظنة خاصة وهو الوصف الظاهر المنضبط "لم تكد تقف على الجزم بأن التخلف" للحكم "عن مثلها أو أكبر مما لم يدخل تحت ضابطها" ولو كان عدم دخوله "بلا مانع" لا ينقض عليتها خصوصا إذا "كانت مومى إليها" أيضا مثل {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184] لأن الحكمة المعتبرة شرعا مثلا مشقة السفر بخصوصه "ألا يرى أن البكارة علية الاكتفاء في الإذن" أي في إذن الحرة البكر العاقلة البالغة لوليها أو رسوله في نكاحها "بالسكوت" في النكاح الاختياري منها "لحكمة الحياء" كما يشير إليه ما في الصحيحين واللفظ للبخاري عن عائشة قلت يا رسول الله لسنا من النساء قال "نعم" قلت إن البكر تستحي فتسكت قال "سكوتها إذنها" "ولو فرض ثيب أوفر حياء" منها "أو سبب(5/473)
اقتضاه" أي حياء أوفر من حيائها "كزنا اشتهر لم يكتف بسكوتها إجماعا" وإن ثبت قدر من الحكمة وهو الحياء في هاتين أكثر من حكمة البكارة وهو حياؤها "فتخلف" الحكم الذي هو الاكتفاء في الإذن بالسكوت فيهما مع وجود حكمة تفوق حكمة البكارة "ولم تبطل علية البكارة" للاكتفاء بالسكوت "وما ذاك" أي عدم بطلان عليتها "إلا لأن الحكمة حيث ضبطت بالبكارة كانت العلة بالحقيقة حياء البكر فلم يلزم في حياء فوقه" أي حياء البكر "ثبوت الحكم" الذي هو الاكتفاء بالسكوت في ذلك "معه" أي مع حياء فوقه "لعدم دليله" أي الحكم المذكور "بخصوصه" وهو المجعول ضابطا "فلا تنتقض العلة بنقضه لأنه غير المعتبر. وأما النقض المكسور وهو نقض بعض" العلة "المركبة على اعتبار استقلاله" أي ذلك البعض المنقوض "بالحكمة" حتى كأنه قال الحكمة المعتبرة تحصل باعتبار هذا البعض وقد وجد في المحل ولم يوجد الحكم فيه وهو نقض لما ادعاه علية باعتبار الحكمة "كما لو قال" الشافعي "في منع بيع الغائب" هو بيع "مجهول الصفة" عند العاقد حال العقد "فلا يصح بيعه" "كبيع عبد بلا تعيين" له والجامع الجهل بصفة المبيع "فنقض" المعترض "المجهولية بتزوج من لم يرها" فإنها مجهولة الصفة عند العاقد حال العقد "مع الصحة" لتزوجها إجماعا "وحذف(5/474)
ص -230-…المبيع" فاختلف في إبطاله للعلية قيل يبطلها "والمختار" عند المصنف كما عند الآمدي وابن الحاجب أنه "لا يمنع" العلية "لأنها" أي العلية "المجموع ولم ينتقض" المجموع إذ لا يلزم من عدم علية البعض عدم علية الجميع لجواز أن يكون للجميع ما ليس للجزء هذا إذا اقتصر على نقض البعض "فلو أضاف إليه" أي إلى ذلك البعض المنقوض "إلغاء" الوصف "المتروك" وأنه وصف طردي لا مدخل له في العلية بأن بين عدم تأثير كونه مبيعا "بأن قال الجهالة" للصفة عند العاقد حال العقد "مستقلة بالمباشرة ولا دخل لكونه مبيعا" في منع الصحة "صح" النقض لوروده على ما يصلح علة ولا يكون مجرد ذكر المستدل ذلك البعض الذي ألغاه المعترض رافعا للنقض لأن بمجرد ذكره لا يصير جزءا من العلة إذا قام الدليل للمعترض على أنه ليس جزءا ويتعين الباقي لصلوح العلية فيبطله بالنقض إذ النقض على العلة لا على مانعها فظهر انتفاء ما ذهب إليه سواه من أن مجرد ذكره يكون دافعا للنقض. "وحاصله" أي النقض المكسور سؤال ترديد وهو "إن عين المجموع" العلة "لم يصح" تعينه لها "لإلغاء الملغي أو" عينت "ما سواه" أي الملغي العلة "فكذا" لا يصح "للنقض" هذا وكون الكسر والنقض المكسور ما تقدم هو ما ذكره الآمدي وابن الحاجب وكان إلى هذا أشار المصنف بقوله باصطلاح وعرف الكسر البيضاوي كالإمام الرازي بعدم تأثير أحد جزأي العلة ونقض الآخر كما يقال في إثبات صلاة الخوف هي صلاة يجب قضاؤها إذا لم تفعل فيجب أداؤها كصلاة الآمن فيقول المعترض خصوص كونها صلاة ملغي لأن الحج واجب الأداء كالقضاء فلم يبق علة إلا قولك يجب قضاؤها وليس كل ما يجب قضاؤه يؤدى فإن الحائض يجب عليها قضاء الصوم دون أدائه وقال السبكي وقال الأكثرون من الأصوليين والجدليين الكسر عبارة عن إسقاط وصف من أوصاف العلة وإخراجه عن الاعتبار قال الشيخ أبو إسحاق وهو سؤال مليح والاشتغال به ينتهي إلى بيان الفقه وتصحيح العلة وقد اتفق(5/475)
أكثر أهل العلم على صحته وإفساد العلة به ويسمونه النقض من طريق المعنى والإلزام من طريق الفقه وأنكر ذلك طائفة من الخراسانيين انتهى وهذا بعينه ما تقدم أنه النقض المكسور.
"ومنها" أي شروط العلة "انعكاسها عند قوم وهو" أي انعكاسها "انتفاء الحكم لانتفائها لمنع تعدد" العلل "المستقلة فينتفي" الحكم "لانتفاء خصوص هذا الدليل وهو العلة" التي لم تنعكس "إذ لا يكون الحكم بلا باعث تفضلا" من الله تعالى كما نقوله نحن معشر أهل السنة والجماعة أو وجوبا كما يقوله المعتزلة ثم من مشترطي العكس من قال لا بد منه على العموم كما في الاطراد وقال الأستاذ أبو إسحاق يكتفى به ولو في صورة ثم حيث كان الخلاف في اشتراطه مبنيا على الخلاف في جواز تعدد العلل المستقلة كما ذكره الجمهور منهم القاضي فمن سعد بالوجه فيه سعد بما ينبني عليه اشتغل به فقال "والمختار" كما هو رأي الجمهور منهم القاضي كما نص عليه في التقريب "جواز التعدد مطلقا" أي منصوصة كانت أو مستنبطة "والوقوع فلا يشترط انعكاسها" لجواز أن يكون الحكم لوصف غير الوصف المفروض علة(5/476)
ص -231-…وقال "القاضي" كما يشير إليه برهان إمام الحرمين ونص عليه ابن الحاجب يجوز التعدد "في المنصوصة لا المستنبطة" وهو رأي ابن فورك واختاره الإمام الرازي وأتباعه "وقيل عكسه" أي يجوز التعدد في المستنبطة لا المنصوصة حكاه ابن الحاجب قال السبكي ولم أره لغيره وقال "الإمام" أي إمام الحرمين "يجوز" عقلا "ولم يقع" لا أن مذهبه المنع مطلقا كما قال الآمدي لأنه قال في البرهان نحن نقول تعليل حكم الواحد بعلتين ليس ممتنعا عقلا نظرا إلى المصالح الكلية ولكنه ممتنع شرعا. وقيل ممتنع مطلقا واختاره الآمدي "لنا" على المختار "أن البول والمذي والرعاف" أمور مختلفة الحقيقة "ثم كل" منها وحده "يوجب الحدث وهو" أي وإيجاب كل منها الحدث هو "الاستقلال وكذا القتل" العمد العدوان "والردة" كل منهما علة مستقلة "تحله" أي القتل لأن الإبطال حياة الواحد بواحد "فإن منع اتحاد الحكم بل وجوب القتل قصاصا غيره" أي غير وجوبه "بالردة ولذا" أي ولكون أحدهما غير الآخر "انتفى" قتل القصاص "بالعفو" ممن له ولاية طلب القصاص "أو الإسلام" أي انتفى قتل الردة بالعود إلى الإسلام "وبقي الآخر" أي قتل الردة على التقدير الأول وقتل القصاص عند عدم العفو على التقدير الثاني "عورض لو تعددت" الأحكام في هذه "كان" تعددها "بالإضافات" إلى أدلتها "إذ ليس ما به الاختلاف" أي اختلافها "سواه" أي إضافتها إلى أدلتها "واللازم" أي تعددها بالإضافات "باطل لأن الإضافات لا توجب تعددا في ذات المضاف" وهو الحكم كالحدث في المثال الأول "وإلا" لو أوجبته "لوجب" فيه "لكل حدث وضوء وكان يرتفع أحدها" أي الأحداث بالوضوء الواحد "ويبقى الآخر". هذا "ثم الجواب" عن هذه المعارضة "أن ذلك" أي وجوب الوضوء لكل وارتفاع أحدها به مرة دون الآخر إنما هو "إلى الشرع فجاز أن يعتبر التلازم بين مسببات في الارتفاع" كالحدث المسبب عن البول والمذي والرعاف مثلا فإذا ارتفع أحدهما لا يبقى الآخر "ولا(5/477)
يعتبر" التلازم في الارتفاع "في" مسببات "أخرى" كالقتل المسبب عن الردة وعن القتل العمد العدوان وعن الزنا إذ يرتفع أحدهما ولا يرتفع الآخر ثم الجواب مبتدأ خبره "كلام على السند" أي قوله وإلا وجب لكل حدث وضوء إلى آخره "والمطلوب" وهو المعارضة المذكورة "ثابت دونه" أي ذكر السند "للقطع بأن تعدد الإضافة لا يوجبه" أي التعدد "في ذاته" أي المضاف وإلا لزم تعدد الشخص الواحد إذا عرضت له الإضافات إلى كثير من الأبوة والبنوة والأخوة والجدودة وغيرها وهو ضروري البطلان "وثبوت ارتفاع بعضهما" أي الأحكام "دون بعض في صورة" أي القتل قصاصا وردة "إنما يكفي دليلا على التعدد" للأحكام "فيها" أي في تلك الصورة بسبب خصها "لا في غيرها كما في القتل لأن أحدهما" أي القتلين وهو القتل بالردة "حق الله تعالى" يجب على الإمام ولا يجزئ فيه العفو ولا البدل "والآخر" وهو القتل قصاصا "حق العبد" يجوز له بإذن الإمام ويجزئ فيه العفو والبدل. "وما عن أبي حنيفة حلف لا يتوضأ من الرعاف فبال ثم رعف فتوضأ حنث لا يشكل مع قوله باتحاد الحكم لا العرف في مثله" إذ العرف أن يقال لمن توضأ بعد بول ورعاف "توضأ من الرعاف وغيره" والأيمان مبنية عليه "قيل" أي قال الآمدي "والخلاف في"(5/478)
ص -232-…الحكم "الواحد بالشخص والمخالف" في جواز التعدد "يمنعه" أي الواحد بالشخص "في الصورة المذكورة" بل الحكم فيها وهو الحدث واحد بالنوع "والظاهر بعده" أي الواحد الشخصي "من الشرع وشخصية متعلقه" أي الحكم كما عز مثلا "لا توجبه" أي تشخص الحكم لأن ثبوته في ذلك الواحد ليس إلا باعتبار اندراجه في كلي كالزاني مثلا ذكره المصنف "بل" إنما يوجب شخصية الحكم "ما" يكون مخصوصا بمتعلق خاص بعينه شرعا "كشهادة خزيمة" في الاكتفاء بها وحدها من حيث هو متعلقها "ولا يتعدد في مثله" أي مثل هذا "علل". قال المصنف فالحاصل أن الواحد الشخصي بعيد والحقيقي متفق عليه فينبغي أن يكون النزاع في الواحد النوعي "وأما الاستدلال" للمختار كما ذكر ابن الحاجب "لو امتنع" تعدد العلل المستقلة "امتنع تعدد الأدلة" لأن العلل الشرعية أدلة لا مؤثرات "فقد منعت الملازمة" وأسند المنع كما ذكر عضد الدين "بأن الأدلة الباعثة أخص" من مطلق الأدلة. وقد مر أن العلل أدلة باعثة لا مجرد أمارة فيصير حاصل الملازمة لو امتنع تعدد الأدلة الباعثة لامتنع تعدد الأدلة فيلحقها المنع بأنه لا يلزم من امتناع الأول امتناع الثاني إذ لا يلزم من امتناع الأخص امتناع الأعم فلا يصح لامتنع تعدد الأدلة مطلقا "المانعون" تعدد العلل قالوا "لو تعددت" العلل المستقلة "لزم التناقض وهو" أي التناقض اللازم "الاستقلال" أي استقلالها "وعدمه" أي وعدم استقلالها "للثبوت" أي لفرض ثبوت الحكم "بكل" منها "بلا حاجة إلى غيره" من الباقية "وهو" أي ثبوت الحكم بكل واحد منها من غير حاجة إلى أخرى هو "الاستقلال وعدمه" أي والفرض عدم ثبوت الحكم بكل واحد منها "لاستقلال غيره" أي لفرض استقلال غير ما ثبت به ذلك الحكم "به" أي بثبوت الحكم "واستغناء المحل" بالجر عطف على الثبوت "في ثبوت الحكم له عن كل بالآخر وعدمه" أي ولعدم استغناء المحل في ثبوت الحكم له عن كل بالآخر "مطلقا" أي سواء ترتبت الأوصاف أو(5/479)
وجدت معا والحاصل كما قال المصنف إلزام التناقض في المحل بالنسبة إلى العلة والحكم "و" لزم "الثبوت" للحكم "بهما" أي بالعلتين تحقيقا لمعنى الاستقلال "لا بهما" لأن الثبوت بكل يمنع الثبوت بالآخر "في المعية" ومن المعلوم أن هذا تناقض ظاهر وهو لا يزيد على الأول فكان تركه أولى. "و" لزم "تحصيل الحاصل في الترتيب" أي في حصول أحدهما بعد الآخر لأنه حصل بالعلة الثانية ما كان حاصلا بالأولى وهذا لازم آخر فوق اجتماع النقيضين كما لا يخفى "والجواب الاستقلال" أي معناه فيها "كونها بحيث إذا انفردت ثبت بها أي عندها" الحكم "والحيثية" أي وهذه الحيثية ثابتة "لها" أي العلة "في المعية والترتيب" كما في الانفراد "لا" أن الاستقلال فيها "بمعنى إفادتها الوجود كالعقلية عند القائل به" أي بأن العلة العقلية تفيد الوجود وإنما قال هذا لأن الوجود عند أهل الحق لا تفيده علة أصلا بل الفاعل المختار جل وعلا وبهذا ظهر وجه تفسير بها بعندها "فانتفى الكل" أي لزوم التناقض وتحصيل الحاصل كما هو ظاهر "قالوا" أي المانعون تعدد العلل مطلقا "أيضا أجمعوا" أي الأئمة "على الترجيح في علة الربا" أهي "القدر والجنس" كما تقوله أصحابنا "أو الطعم" كما تقوله الشافعية "أو الاقتيات" كما تقوله المالكية "وهو" أي الترجيح(5/480)
ص -233-…"فرع صحة استقلال كل" منها إذ لا معنى للترجيح بين ما يصلح وما لا يصلح "و" فرع "لزوم انتفاء التعدد" أي لو جاز التعدد لقالوا به ولم يتعلقوا بالترجيح لتعيين واحدة ونفي ما سواها لأنه حينئذ يكون عبثا بل باطلا. "والجواب أنه" أي الإجماع على الترجيح "للإجماع على أنها" أي العلة "هنا" أي في الربا "إحداها" أي المذكورات "وإلا" لو انتفى الإجماع على هذا "جعلوها" أي العلة "الكل" أي جميع المذكورات الثلاثة لأن المفروض أنهم يرون صلاحية كل للعلية ولا دليل على إلغاء واحدة منها فوجب اعتبارها جميعا وذلك قول بجزئية كل للعلة ليكون لكل دخل في العلية لا سيما عند عدم ظهور وجه الترجيح وقال "القاضي" حال كونه مجوزا في المنصوصة لا المستنبطة "إذا نص على استقلال كل من متعدد" من الأوصاف بالعلية "في محل ولا مانع منه" أي التعدد "ارتفع احتمال التركيب" لمنافاته الاستقلال والفرض وقوع ذلك في المنصوصة فجاز التعدد فيها "وما لم ينص" فيه من الأوصاف المجتمعة في محل "مع الصلاحية" أي صلاحية كل منها للعلية "بأحد الأمرين" بخصوصه "من الجزئية" أي كون كل منهما جزءا من العلة "أو الاستقلال" أي كون كل منهما علة مستقلة "فتعيين إحداهما" أي الجزئية والاستقلال "تحكم" لقيام الاحتمال على السواء في نظر العقل وفرض انتفاء النص على أحدهما "فظهر أن اعتقاده" أي القاضي "جواز التعدد فيهما" أي المنصوصة والمستنبطة "غير أنه لا يقدر على الحكم به" أي التعدد "في المستنبطة للاحتمال" أي لاحتمال أن يكون كل منهما جزءا في هذه الحالة كما يحتمل أن يكون علة مستقلة ويقدر على الحكم به في المنصوصة للنص على استقلال كل وانتفاء المانع من التعدد "فإذا اجتمعت" العلل المستنبطة "يثبت الحكم على كل تقدير" من الجزئية والاستقلال لا بناء على الجزئية عينا. "والجواب منعه" أي لزوم التحكم على تقدير تعيين إحداهما لجواز استنباط الاستقلال لكل منهما بالعقل وذلك "بالعلم(5/481)
بالحكم" أي بثبوته "مع إحداهما في محل كما" يعلم ثبوته "مع" علة "أخرى في" محل "آخر فيحكم به" أي الاستقلال "لكل" منها "في محل الاجتماع وعاكسه" أي مذهب القاضي يقول "يقطع في المنصوصة بأنها الباعث" للشارع على الحكم لتعيينه إياها له "فانتفى احتمال غيرها" للعلية كلا وجزءا للمنافاة بينهما "والمستنبطة وهمية" بالمعنى اللغوي أي غير قطعية "لا ينتفي فيها ذلك" أي احتمال غيرها للعلية جزءا وكلا فيمكن أن يكون الباعث المجموع منهما وأن يكون هذا كما يمكن أن يكون ذاك على سواء وقد ترجح كل بدليله فيحصل الظن بعلية كل منهما فيجب اتباعه "والجواب منع الكل" أي القطع بالمنصوصة فإن المراد بها الملفوظة السمعية ويجوز أن تكون دلالتها ظنية أو إسنادها ظنيا وانتفاء احتمال غيرها لجواز تعدد البواعث فإن الحكم الواحد قد يكون محصلا لمصالح متعددة ودافعا لمفاسد مختلفة. وقال "الإمام لو لم يمتنع" التعدد "شرعا وقع عادة ولو" كان الوقوع "نادرا" لأن النادر لا بد أن يقع على مر الدهور ولم يقع "والثابت بأسباب الحدث متعدد كما تقدم" حتى قيل إذا نوى رفع أحد أحداثه لم يرفع الآخر "أجيب بمنع عدم الوقوف بل ما ذكر" من أسباب الحدث والقتل يفيد الوقوع "وكون الثابت بكل" من الأسباب المذكورة "غيره" أي غير(5/482)
ص -334-…بصيغ العقود وهذا ثالث الاعتراضات الأربعة "وكونه" أي الوصف "غير منضبط كالحكم" جمع حكمة وهي الأمر الباعث من المقاصد "والمصالح" أي ما يكون لذة أو وسيلة إلى لذة "كالحرج والزجر لأنها" أي الحكم والمصالح "مراتب على ما تقدم" في الكلام على العلة بحسب المقاصد وتختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فلا يمكن تعيين القدر المقصود منها "وجوابه بإبداء الضابط بنفسه" كما يقال في المشقة والمضرة إنهما منضبطان عرفا "أو" أن الوصف "نيط بمنضبط كالسفر" نيط حصول المشقة به "والحد" نيط القدر المعتبر في حصول الزجر به وهذا رابع الاعتراضات الأربعة "ولم يذكرها الحنفية لا لاختصاصها بالمناسبة لأن هذا" أي انتفاءها "اتفاق بل لأنها" أي هذه الاعتراضات "انتفاء لوازم العلة الباعثة مطلقا" أي بأي مسلك كان "كما تقدم" في فصل العلة. "ومعلوم أن بانتفاء لازمها" أي العلة الباعثة "يتجه إيراده" أي انتفائها "إذ يوجب" انتفاء لازمها "انتفاءها" لأن انتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم "فهو" أي انتفاء هذه الاعتراضات "معلوم من الشروط" لها "ومنعهم" أي الحنفية "بعضها" أي هذه الاعتراضات "وهو مرجع الثاني والرابع" من منع التأثير "لمنعهم المعارضة لعلة الأصل كما سنذكره إن شاء الله تعالى" إذا أفضت النوبة إلى الكلام فيها "وذكروا" أي الحنفية "منع الشروط" للتعليل وصح فيها لأن شرط دليل وجوب العمل سابق عليه فلا بد من إثباته ثم القاضي أبو زيد وشمس الأئمة السرخسي لم يشترطا كون الشرط متفقا عليه "وقيد فخر الإسلام محله" أي منع الشرط "بمجمع عليه" فقال وإنما يجب أن يمنع شرط منها وهو شرط بالإجماع وقد عدم في الفرع أو الأصل "فيتجه" المنع "عند عدمه" أي الشرط المذكور فيفيد منعه بطلان التعليل في المتنازع فيه وأما إذا منع شرطا مختلفا فيه فيقول المعلل ذلك ليس بشرط عندي فلا يضر عدمه فحينئذ يؤول الكلام إلى أن مانعه شرط أم لا فيخل بالمقصود إذ المقصود إثبات(5/483)
الحكم المتنازع فيه لا إثبات شرط القياس قلت ومن هنا قال الشيخ قوام الدين الأتقاني أن فخر الإسلام شرط أن يمنع الشارط وجوب شرط هو شرط باتفاق بين السائل والمجيب فأشار إلى أن ليس المراد بالإجماع الإجماع المطلق هذا وفي الكشف وغيره. ومع هذا لو منع شرطا مختلفا فيه يجوز لأنه يفيد دفع إلزام المعلل عن نفسه وإن لزم منه الانتقال إلى محل آخر ا هـ قلت ويمكن أن يؤخذ من هذا التوفيق بين كلام فخر الإسلام وكلام أبي زيد والسرخسي فإن محل وجوب المنع الشرط بالاتفاق عنده وهما لم ينفياه ومحل جواز المنع عندهما الشرط من غير تعرض لهذا القيد وهو لم ينفه وحينئذ فقول الأتقاني عدم اشتراطهما كون الشرط متفقا عليه هو الحق عندي لأن قول المجيب ليس بشرط عندي ليس بحجة على السائل فيثبت المجيب ما ادعاه على وجه يقبله السائل أو يسكت عن إنكاره يوهم أن فخر الإسلام يخالف هذا وليس كذلك فليتنبه له وقد مثله فخر الإسلام بقول الشافعي يجوز السلم الحال لأن المسلم فيه أحد عوضي البيع فيجوز حالا ومؤجلا كثمن المبيع فيقال له لا نسلم أن شروط التعليل موجودة في هذا فإن من شروطه بالاتفاق أن لا يتغير حكم النص بعد التعليل وأن لا يكون الأصل معدولا به عن القياس وقد تغير هنا لأن(5/484)
ص -335-…شرط البيع أن يكون المبيع موجودا مملوكا مقدور التسليم والشرع نقل القدرة الحقيقية في البيع إلى القدرة الاعتبارية في السلم بذكر الأجل فصار ذلك رخصة نقل إلى خلف فلو جاز السلم حالا لصار رخصة إسقاط لا إلى خلف فكان تغييرا لحكم النص والسلم معدول عن القياس لكونه بيع ما ليس عند الإنسان.
"رابعها" أي المنوع الواردة على حكم الأصل "النقض وتسميه الحنفية المناقضة وهي للجدليين منع مقدمة معينة" من الدليل سواء كان مع السند أو لا وقد سلف أن السند ما كان المنع مبنيا عليه وللسند صيغ ثلاث إحداها لا نسلم هذا لم لا يجوز أن يكون كذا ثانيتها لا نسلم لزوم ذلك وإنما يلزم أن لو كان كذا ثالثتها لا نسلم كيف هذا والحال كذا "وغير المعينة" أي ومنع المقدمة التي ليست بمعينة من الدليل "بأن يلزم الدليل ما يفسده" أي الدليل "فيفيد" لزوم ذلك له "بطلان مقدمة غير معينة" من الدليل وغير خاف أن قوله وغير المعينة مبتدأ وخبره "النقض الإجمالي وردوا" أي الأصوليون "النقض" الكائن عندهم "إلى منع مسند" وتخلف الحكم بمنزلة السند له "وإلا" لو لم يرد إليه "كان" النقض "معارضة قبل الدليل" وهي لا تكون قبله "وعلى هذا يجب" أن يكون النقض "معارضة لو" كان "بعده" أي الدليل "لأنه" أي المعترض "استدل على بطلانه" أي كون الوصف علة "بالتخلف" أي بوجوده في صورة مع عدم الحكم فيها "ويجيب الآخر" أي المستدل "بمنع وجودها" أي العلة "في محل التخلف ويستدل المعترض عليه" أي على وجودها في محل التخلف "بعده" أي منع المستدل وجودها في محل التخلف "أو ابتداء" أي قبل منع المستدل إياه "فانقلب" المعترض معللا والمعلل معترضا. "وقيل لا" يقبل من المعترض إقامة الدليل على وجود الوصف إذا منع المستدل وجوده في صورة التخلف لأنه انتقال من الاعتراض إلى الاستدلال وهذا محكي عن الأكثر منهم الإمام الرازي وأتباعه "وقيل" لا يقبل "إن كان" ذلك الوصف "حكما شرعيا" لأن الاشتغال(5/485)
بإثبات حكم شرعي هو بالحقيقة الانتقال الممنوع وإلا فنعم لظهور تتميم المعترض لدليله على نفي العلة وعلى بطلان قياس المستدل ذكره ابن الحاجب قال السبكي ولم يوجد لغيره "وقيل" يقبل "إن لم يكن له قادح أقوى" من النقض فإن كان له قادح أقوى منه لا يقبل لأن غصب المنصب والانتقال إنما ينفعان استحسانا فإذا وجد الأحسن لم يرتكبهما وإلا فالضرورات تبيح المحظورات "وليست" هذه الأقوال "بشيء" قوي "فلو كان المستدل استدل على وجودها" أي العلة "في الأصل بموجود" أي بدليل موجود "في محل النقض فنقضها" أي المعترض العلة "فمنع" المستدل "وجودها" أي العلة في صورة النقض "فقال المعترض فيلزم إما انتقاض العلة أو" انتقاض "دليلها وكيف كان" اللازم أي انتقاض العلة أو دليلها "لا تثبت" العلية أما على الأول فلما مر من أن النقض يبطل العلية وأما على الثاني فلأنه لا بد لثبوت العلية من ملك صحيح "قبل" بالاتفاق فإن عدم الانتقال فيه ظاهر إن لم يترك ذكر نقض العلة. "ولو نقض" المعترض "دليلها" أي العلية "عينا فالجدليون لا يسمع" هذا من المعترض "لسلامة العلة إذ نقضه" أي دليلها المعين "ليس نقضها" أي العلة فقد انتقل من نقضها إلى(5/486)
ص -336-…نقض دليلها "ونظر فيه" أي في عدم سماعه والناظر ابن الحاجب "بأن بطلانه" أي دليل العلية "بطلانها" أي العلة "أي عدم ثبوتها إذ لا بد لها" أي العلة "من مسلك صحيح وهو" أي بطلان العلة "مطلوبه" أي المعترض "وإلا" لو لم يكن المراد ببطلانها عدم ثبوتها "فبطلان الدليل المعين لا يوجبه" أي بطلانها "لكنه" أي بطلان الدليل المعين "يحوجه" أي المستدل "إلى الانتقال إلى" دليل "آخر لإثبات الأول" أي العلية "ويجيب" المستدل "أيضا" عوضا عن منع وجودها "بمنع انتفاء الحكم في ذلك" أي في محل النقض اتفاقا "وللمعترض الدلالة" أي إقامة الدليل "عليه" أي على انتفاء الحكم "في المختار" إذ به يحصل مطلوبه وهو إبطال دليل المستدل وقيل لا لأنه انتقال من الاعتراض إلى الاستدلال وقيل نعم إذا لم يكن له طريق أولى من النقض بالقدح وإلا سمع لمكان الضرورة "والمختار عدم وجوب الاحتراس عن النقض" على المستدل "في الاستدلال وقيل يجب" الاحتراس منه فيذكر قيدا يخرج محل النقض لئلا تنتقض العلة قال السبكي وهو الصحيح عندي. "وقيل" يجب "إلا في المستثنيات" وهي الصور التي ينتفي فيها الحكم وتوجد العلة أية كانت من العلل المعتبرة في حكم المسألة على اختلاف المذاهب فإنه لا نزاع في أن ورود النقض على سبيل الاستثناء لا يفيد العلية لأنه لما ورد على كل مذهب كان مجامعا لما هو عليه ولهذا اتفقوا على أن المستثنى لا قياس عليه ولا يناقض به "كالعرايا عند الشافعية" إذا وردت على الربويات لأنهم يفسرون العرايا بما يقتضي ورودها على كل المذاهب سواء علل الربا بالطعم أو القوت أو الكيل والوزن وهي بيع الرطب على رءوس النخيل بقدر كيله من التمر خرصا لو جف فيما دون خمسة أوسق قال المصنف أما الحنفية فليست العرية عندهم إلا العطية وليس بين المعري والمعرى بيع حقيقي فلا يتصور هذا القول عندهم "لنا أنه" أي المستدل "أتم الدليل إذ انتفاء المعارض" له "ليس منه" أي الدليل ثم هو(5/487)
غير ملتزم لنفي المعارض فلا يلزمه "ولأنه" أي الاحتراس عنه بذكر قيد يخرج محل النقض "لا يفيد" دفع الاعتراض بالنقض "إذ يقول" المعترض "القيد طرد والباقي" بعده "منتقض وهذان" أي منع وجود العلة ومنع انتفاء الحكم "دفعان" لتحقق النقض "والجواب الحقيقي بعد الورود" أي تحققه "بإبداء المانع في محل التخلف وهو" أي المانع "معارض اقتضى نقيض الحكم" الذي أثبته المستدل "فيه" أي في محل التخلف كنفي الوجوب للوجوب "أو" اقتضى "خلافه" أي الحكم الذي أثبته المستدل والمراد به هنا المغاير الوجودي غير المساوي فيتناول الضد وهذا الاقتضاء "لتحصيل مصلحة كالعرايا لو أوردت على الربويات" لعموم الحاجة إلى الرطب والتمر لهم وقد لا يكون عندهم ثمن آخر. "وكذا الدية" أي كضربها "على العاقلة" إذا أورد "على الزجر" للقاتل بسبب مشروعيتها "لمصلحة أوليائه" أي المقتول "مع عدم تحميله" أي القاتل شيئا منها ما لم يقصد به القتل "للشافعية" وإنما قيد بهم لأن عند الحنفية يؤدي القاتل كأحدهم "أو لدفع مفسدة كالاضطرار لو ورد على تعليل حرمة الميتة بالاستقذار فإنه" أي الاضطرار "اقتضى خلافه" أي التحريم "من الإباحة" فإن دفع هلاك النفس أعظم من مفسدة أكل القاذورات هذا(5/488)
ص -337-…كله إذا لم تكن العلة منصوصة بظاهر عام "فلو كانت" العلة "منصوصة ب" ظاهر "عام" لا يجب إبداء المانع بعينه بل "وجب تقدير المانع وتخصيصه" أي الظاهر العام "بغير محل النقض" جمعا بين الدليلين "وهذا" أي تخصيصه بغير محل النقض "إذا كان النص على استلزامها" أي العلة الحكم "في المحال لا على عليتها" أي العلة "فيها" أي المحال "إذ لا تنتفي عليتها بالمانع أو" كانت منصوصة "بخاص فيه" أي في محل النقض "وجب تقديره" أي المانع "فقط والحكم بعليتها فيه" أي في محل النقض "أما مانعو تخصيص العلة فبعدم وجودها" أي العلة أي يجيبون بهذا بدل إبداء المانع "إذ هي" أي العلة "الباعثة" على الحكم "مع عدمه" أي المانع "فهو" أي عدم المانع "شرط عليتها وغيرهم" أي المانعين لتخصيصها وهم الأكثرون عدم المانع "شرط ثبوت الحكم وتقدم" في المرصد الثاني في شروط العلة "ما فيه" أي هذا البحث فليراجع منه. "وبعض الحنفية" قالوا "لا يمكن دفع النقض عن الطردية" لأنه يبطلها حقيقة "إذ الاطراد لا يبقى بعد النقض" كما يفيده عبارة عامة المتأخرين كصاحب الكشف وهي أي المناقضة تلجئ أصحاب الطرد إلى القول بالأثر لأن الطرد الذي تمسك به المجيب لما انتقض بما أورده السائل من النقض لا يجد المجيب بدا من المخلص عنه إلا ببيان الفرق وعدم وروده نقضا ولا يتحقق ذلك إلا بالعدول عن ظاهر الطرد إلى بيان المعنى وهذا إن لم يجعل ذلك انقطاعا أو سامحه السائل ولم يناقشه في الشروع في بيان الفرق والتأثير فأما إذا جعل انقطاعا كما هو مذهب البعض ولم يسامحه السائل في ذلك بأن يقول احتججت علي باطراد هذا الوصف وقد انتقض ذلك بما أوردته فلم يبق حجة فلا ينفعه بيان التأثير والشروع في الفرق في هذا المجلس لأن ذلك انتقال عن حجة هي الطرد إلى حجة أخرى وهي التأثير لإثبات المطلوب الأول فلا يسمع منه فيضطر إلى التمسك بالتأثير والرجوع عن الطرد فيما بعد من المجالس "وهو" أي عدم إمكان دفع(5/489)
النقض عنها "بعد كونه على" تقدير "النقض في نفس الأمر وعرف ما فيه" حيث قال سالفا وعلى الطردية ترد مع القول بالموجب ولا وجه لتخصيصها به ودفع بأن الإيراد باعتبار ظنه العلية لإنكار ظنه لا على الشرعية في نفس الأمر إلخ "بناء على قصر الطردية على ما" يكتفى فيها "بالدوران" أي بمجرد دوران الحكم مع العلة وجودا فقط أو عدما "ولا وجه له" أي لقصرها على ما بالدوران "بل" الطردية هي "غير المؤثرة" فتعم المناسب والملائم باصطلاح الحنفية. "وعلى" تقدير "الورود" للنقض على الطردية لجوازه كما سلف "يحوج" وروده "إلى التأثير كطهارة" أي كقول الشافعي الوضوء طهارة "فيشترط لها النية كالتيمم فينقض بغسل الثوب" من النجاسة فإنه طهارة ولا يشترط فيه النية "فيفرق" بينهما "بأنها" أي الطهارة التي هي الوضوء طهارة "غير معقولة" لأنه لا يعقل في محلها نجاسة "فكانت متعبدا بها فافتقرت إلى النية" تحقيقا لمعنى التعبد إذ العبادة لا تنال بدون النية "بخلافه" أي غسل الثوب من النجاسة "لعقلية قصد الإزالة" للنجاسة به لا لتحقيق معنى التعبد "وبالاستعمال" للمائع القالع الطاهر فيه "تحصل" الإزالة "فلم يفتقر" غسله إلى النية وتقدم في شروط الفرع ما يدفع هذا عن الحنفي "وأما" العلل "المؤثرة فتقدم(5/490)
ص -338-…صحة ورود النقض عليها" بناء على دعوى المجيب كونها علة مؤثرة لا على كونها مؤثرة في نفس الأمر "وحيث ورد" النقض صورة عليها وكان من مفسداتها كما هو الحق وعليه الجمهور لأنها لما كانت مستلزمة للحكم لا يجوز تخلفه عنها إلا لمانع أو زوال شرط فقد "دفع بأربع إبداء عدم الوصف" في صورة النقض "كخارج نجس" أي كما يقال في الخارج النجس من بدن الإنسان من غير السبيلين إنه ناقض للوضوء لأنه خارج نجس "من البدن فحدث كما في السبيلين فينقض بما لم يسل" من رأس الجرح فإنه ليس بحدث مع أنه خارج نجس من البدن "فيدفع" النقض به "بعدم الخروج" في القليل من غير السبيلين "لأنه" أي الخروج "بالانتقال" من مكان باطن إلى مكان ظاهر ولم يوجد هذا في غير السائل بل ظهرت النجاسة بزوال الجلدة الساترة لها ثم هو ليس بنجس كما هو المروي عن أبي يوسف. والمختار عند كثير من المشايخ بخلاف السبيلين فإنه لا يتصور ظهور القليل إلا بالخروج فانتفى الحكم في هذه الصورة لعدم علته "وملك بدل المغصوب" للمغصوب منه "علة ملكه" أي المغصوب للغاصب لئلا يجتمع البدل والمبدل في ملك شخص واحد "فينقض بالمدبر" فإن غصبه سبب الملك بدله للمغصوب منه ومع هذا لا يملك الغاصب المبدل ولم يزل عن ملك المغصوب منه "فيمنع ملك بدله" أي المغصوب "بل" هو "بدل اليد" لأن ضمانه ليس بدلا عن العين بل عن اليد الفائتة فلم يلزم من ملك البدل زوال ملك الرقبة فكان عدم الحكم أيضا في هذه الصورة وهو ملك رقبة المدبر للغاصب لعدم علته وهي كون الغصب سبب ملك الرقبة فهذا أحد الطرق الدافعة للنقض مع التمثيل له "ويمنع وجود المعنى الذي به صار" الوصف "علة" وذلك المعنى بالنسبة إلى العلة كالثابت بدلالة النص بالنسبة إلى المنصوص بمعنى أن الوصف بواسطة معناه اللغوي يدل على معنى آخر هو المؤثر في الحكم "فينتفي" وجود المعنى المذكور معنى. "وإن وجد" المعنى "صورة كمسح" أي كما يقال في مسح الرأس مسح "فلا(5/491)
يسن تكراره كمسح الخف فينتقض بالاستنجاء" بالحجر فإنه مسح والعدد وإن لم يكن مسنونا فيه عند أصحابنا يقع تثليثه سنة بالإجماع إذا احتيج إليه "فيمنع فيه" أي في الاستنجاء "المعنى الذي شرع له" المسح في الوضوء "وهو" أي المعنى الذي شرع له "التطهير الحكمي" لأن الاستنجاء تطهير حقيقي "وله" أي ولأجل أن المسح تطهير حكمي "لم يسن" التكرار فيه "لأنه" أي التكرار "لتأكيد التطهير المعقول" المعنى وهو غسل النجاسة الحقيقية "لتحقق الإزالة" وتأكدها به "وهو" أي التطهير المعقول المعنى ثابت "في الاستنجاء" لأنه إزالة عين النجاسة "دونه" أي مسح الرأس "كما في التيمم" فإن كلا منهما تطهير غير معقول المعنى ولهذا كان الغسل في الاستنجاء أفضل بخلافه في مسح الرأس ولو أحدث بالريح لم يكن الاستنجاء سنة ثم المعنى اللغوي للمسح مما يشير إلى هذا لأنه الإصابة وهي تنبئ عن التخفيف. هذا وفي التلويح ومبنى هذا الكلام على أن يكون المراد بعدم سنية التثليث كراهته لئلا يكون حكما شرعيا فيعلل وهذا ثاني الطرق الدافعة للنقض مع مثاله "ويمنع التخلف" للحكم عن العلة في صورة النقض والقول بتحقق الحكم فيها "كما إذا نقض" المثال "الأول"(5/492)
ص -339-…لإبداء عدم الوصف "بالجرح السائل" فإن خروج النجاسة موجود فيه بدون الحدث "فيمنع كونه" أي خروج النجاسة فيه "ليس حدثا بل هو" حدث "وتأخر حكمه" الذي هو الحدث "إلى ما بعد خروج الوقت" على قول أبي حنيفة وموافقه "أو الفراغ" من المكتوبة وما يتبعها من النوافل على قول الشافعي وموافقه "ضرورة الأداء" لأنه مخاطب بأدائها فلزم أن يكون قادرا ولا قدرة إلا بسقوط حكم الحدث في هذه الحالة "ولذا" أي تأخر حكمه إلى ما بعد خروج الوقت "لم يجز مسحه" أي صاحب الجرح السائل "خفه إذا لبسه في الوقت مع السيلان" أو كان السيلان مقارنا للوضوء أو بعده قبل اللبس "بعد خروجه" أي الوقت لأن بخروج الوقت يصير محدثا بالحدث السابق إذ خروج الوقت ليس بحدث إجماعا والحكم قد يتصل بالسبب وقد يتأخر عنه لمانع كالبيع بشرط الخيار بخلاف ما إذا كان الوضوء واللبس على الانقطاع فإنه يمسح بعد الوقت إلى تمام المدة كغيره من الأصحاء لعدم صيرورته محدثا بالحدث السابق عليهما وهذا ثالث الطرق الدافعة للنقض مع مثاله. قلت وبعد العلم بمعنى هذا الطريق من الدفع فمن العجب قول فخر الإسلام في شرح التقويم أن هذا الوجه لا يسلم من القول بتخصيص العلة وقول صاحب الكشف إن هذا إنما يتأتى على قول مجوز تخصيص العلة لمانع لا على قول من لا يجوزه فإن الفرض أن الحكم لم يتخلف بل هو موجود كما أن العلة كذلك ولا تخصيص للعلة بدون وجودها وانتفاء حكمها لمانع والله الموفق.(5/493)
"وبالغرض" المطلوب بالتعليل "فيقول" المستدل "في المثال" الأول لإبداء عدم الوصف "غرضي بهذا التعليل التسوية بين الخارج من السبيل وغيره في كونهما" أي الخارج منه والخارج من غيره "حدثا وإذا لزما" أي استمرا "صار عفوا" بأن يسقط حكمهما في تلك الحالة ضرورة توجه الخطاب بأداء الصلاة حينئذ "فإن البول" الذي هو الأصل "كذلك" أي إذا دام يصير عفوا لهذا المعنى "فوجب في الفرع" أي الجرح السائل "مثله" أي إذا دام يصير عفوا لهذا المعنى وإلا لكان الفرع مخالفا للأصل وهو لا يجوز والحاصل أنه كما أن العلة موجودة في الصورتين فكذا الحكم وكما أن ظهور الحكم قد يتأخر في الفرع فكذا في الأصل فالتسوية حاصلة بكل حال وهذا رابع الطرق الدافعة للنقض مع مثاله "وحاصل الثاني الاستدلال على انتفائها" أي العلة "إذ هي" أي العلة "بمعناها لا بمجرد صورتها" والرابع كما في التلويح راجع إلى منع انتفاء الحكم لأن المناقض يدعي أمرين ثبوت العلة وانتفاء الحكم فلا يصح دفعه إلا بمنع أحدهما وإذا لم يتيسر الدفع للنقض بأحد هذه الطرق فقد بطلت. "وذكر الشافعية من الاعتراضات نقض الحكمة ويسمونه كسرا وتقدم" في المرصد الثاني في شروط العلة "الخلاف في قبوله وأن المختار" عند الآمدي وابن الحاجب "قبوله عند العلم برجحان" الحكمة "المنقوضة" في محل النقض على المذكورة في الأصل "أو مساواتها" أي المنقوضة لها إلا أن شرع حكم آخر أليق بها فيسمع حينئذ "وحققنا ثمة خلافه" أي هو المختار وهو أنه لا يسمع وإن علم رجحان المنقوضة للإجماع على عدم الاكتفاء بسكوت بكر زانية اشتهر زناها وإن كان حياؤها أكثر من حياء بكر لم تزن "ثم منع وجود(5/494)
ص -340-…العلة هنا" أي في الكسر "على تقدير سماعه" أي الكسر "أظهر منه" أي من منع وجودها "في النقض" لأن قدر الحكمة متفاوت فقد لا يحصل ما هو مناط الحكم منه في الأصل في الفرع بخلاف نفس الوصف فإنه لا يتفاوت ومنع انتفاء الحكم هنا قد يدفع بوجه آخر وهو أنه لم لا يجوز أن يثبت حكم هو أولى بالحكمة ثم حيث يسمع فالكلام فيه كالكلام في النقض من أنه يجاب بأجوبة ثلاثة مما مضى بمنع وجود المعنى في صورة النقض أولا وبمنع عدم الحكم فيها كي لا يتحقق ثانيا وبإبداء المانع فيها إذا تحقق ثالثا وحينئذ فهل للمعترض أن يدل على وجود المعنى فيه المذاهب الأربعة الماضية وعلى وجود الحكم فيه المذاهب الثلاثة السابقة وهل يجب الاحتراز عن الكسر في متن الاستدلال؟ المختار أنه لا يجب هذا وقدمنا مراد الإمام الرازي وأتباعه بالكسر وما ذكره السبكي في ذلك فليراجع.(5/495)
"خامسها" أي المنوع الموردة على حكم الأصل "فساد الوضع" وهو "أخص من فساد الاعتبار من وجه إذ قد يجتمع ثبوت اعتبارها" أي العلة "في نقيض الحكم" الذي هو فساد الوضع "مع معارضة نص أو إجماع" لذلك الذي هو فساد الاعتبار "ولا يخفى الآخران" أي انفراد ثبوت اعتبارها في نقيض الحكم عن كون القياس معارضا بالنص أو الإجماع وبالعكس وقيل فساد الاعتبار من جهة عدم اعتباره فقط وذلك لأنه لا يمكن اعتبار القياس في ترتيب الحكم عليه لا لفساد في وضعه وتركيبه وهو أن لا يكون على الهيئة الحاصلة لاعتباره في ترتيب الحكم عليه لصحته بل لمخالفته النص فقط فعلى هذا كل فاسد الوضع فاسد الاعتبار من غير عكس فيكون فاسد الوضع أخص مطلقا من فاسد الاعتبار وهو ظاهر كلام الآمدي وقيل هما واحد وعليه أبو إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين "ويفارق" فساد الوضع "النقض بتأثيره" أي الوصف في فساد الوضع "في النقيض" فإن الوصف في فساد الوضع هو الذي يثبت النقيض بخلاف النقض فإنه لا تعرض فيه لثبوته به وإنما يثبت النقيض معه سواء كان به أو بغيره "و" يفارق "القلب بكونه" أي الوصف في فساد الوضع يثبت نقيض الحكم "بأصل آخر" وفي القلب يثبت نقيض الحكم بأصل المستدل. "و" يفارق "القدح في المناسبة بمناسبته" أي الوصف في فساد الوضع "نقيضه" أي الحكم "من حيث هو كذلك" إما مناسب لنقيضه لا من حيث الإفضاء إلى المصلحة "إذا كان" التناسب "من جهته" أي التناسب للحكم فتكون مناسبته لنقيض الحكم والحكم من جهة واحدة "بخلافه" أي ما إذا كان التناسب للنقيض "من غيره" أي التناسب للحكم "إذا كان له" أي للوصف "جهتان" يناسب بإحداهما الحكم وبالأخرى نقيضه "ككونه" أي المحل "مشتهى" للنفوس "يناسب الإباحة" لنكاحه "لدفع الحاجة والتحريم لقطع الطمع" فإنه لا يقدح في المناسبة لأنه لا يلزم بطلان المناسبة حينئذ لجواز تعليل الضدين بوصف واحد بشرطين متضادين إذ عند التحقيق علة هذا غير علة ذلك وقد تلخص(5/496)
أن ثبوت النقيض مع الوصف نقض فإن زيد ثبوت النقيض بذلك الوصف ففساد الوضع وإن زيد على الفساد كونه به في أصل المستدل فقلب وأما بدون ثبوت النقيض مع الوصف في أصل فالمناسبة فإن ناسبت الحكم ونقيضه من جهة واحدة كان قدحا فيها ومن(5/497)
ص -341-…جهتين لا "مثاله" أي فساد الوضع قول القائل في التيمم "مسح فيسن تكراره كالاستنجاء فيرد" أن يقال المسح لإثبات التكرار فاسد الوضع إذ المسح "معتبر في كراهته" أي التكرار "كالخف" فإن تكرار المسح عليه يكره بالإجماع "وجوابه" أي هذا المنع "بالمانع" أي ببيان وجود المانع "فيه" أي في الخف الذي هو أصل المعترض أي بذكر "فساده" أي إنما كره التكرار في الخف لأنه يعرضه للتلف "و" مثاله "للحنفية إضافة الشافعي الفرقة" بين الزوجين الكافرين إذا أسلمت وأبى "إلى إسلام الزوجة" فإن هذه الإضافة من فساد الوضع "فإنه" أي الإسلام "اعتبر عاصما للحقوق" كما اقتضاه حديث الصحيحين السالف في بحث التأثير قلت وهذا مما اجتمع فيه فساد الوضع والاعتبار فليتأمل. "فالوجه" إضافة الفرقة بينهما "إلى إبائه" أي امتناعه من الإسلام لصلاحيته لإضافة انقطاع النكاح إليه لأنه عقوبة وهو رأس أسباب العقوبات كما تقدم ثمة أيضا "وكقوله" أي الشافعي في علة تحريم الربا في الحنطة والشعير والتمر والملح أنها الطعم إذ "المطعوم ذو خطر" أي عزة وشرف لتعلق قوام النفس وبقاء الشخص به والحرمة للشيء تشعر بتضييق طريق الوصول إليه وهو أمارة الخطر لأن ما ضاق إليه الوصول عز في الأعين إذا أصيب وإذا اتسع الوصول إليه هان في الأعين "فيزاد فيه" أي في تملكه "شرط التقابض" إظهارا للخطر كالنكاح فإنه لما كان استيلاء على محل ذي خطر لتعلق بقاء النوع به شرط لجوازه شرط زائد على غيره من العقود وهو حضور الشهود "فيرد اعتبار مساس الحاجة" إلى الشيء إنما يناسب أن يكون مؤثرا "في التوسعة" والإطلاق لا في التحريم والتضييق بدليل حل الميتة عند الاضطرار وجرت سنة الله بتسهيل طريق الوصول إلى كل ما كانت الحاجة إليه أمس كالهواء والماء والتراب بخلاف النكاح فإنه يرد على الحر والحرية تنبئ عن الخلوص والخلوص يمنع وروده عليها لأنه نوع رق فيصلح أن يكون الأصل فيه التحريم ولكن ثبت الحل(5/498)
بعارض الحاجة إلى بقاء النسل وما ثبت بالعارض يجوز توقفه على أشياء لمخالفته الأصل فظهر أن في ترتيب اشتراط التقابض في تملك المطعوم على كونه ذا خطر فساد الوضع لأنه نقيض ما يقتضيه من التوسعة والتيسير ثم هذا المنع يبطل العلة بكليتها ولا يندفع إلا بتغيير الكلام فهو فوق النقض.
"سادسها المعارضة في الأصل" وهي "أن يبدي" المعترض "فيه وصفا آخر صالحا" للعلية "يحتمل أنه" وحده "العلة" وأن يكون هو مع وصف المستدل ولعله لم يذكره اكتفاء بقسيمه أعني "أو" أنه "مع وصف المستدل" العلة "فالأول" أي إبداء الوصف الآخر الصالح للعلية المحتمل أنه العلة أو أنه مع وصف المستدل العلة "معارضة الطعم بالقوت أو الكيل" أي معارضة المعترض تعليل المستدل حرمة الربا بالطعم بأحدهما إذ يحتمل أن يكون القوت أو الكيل هو العلة وحده أو العلة مجموع الطعم والقوت أو مجموع الطعم والكيل "والثاني" أي إبداء الوصف الآخر الصالح للعلية المحتمل أن يكون مع وصف المستدل العلة "الجارح للقتل" العمد "العدوان" أي معارضة المعترض تعليل المستدل القصاص في المحدد بكونه قتلا عمدا عدوانا بكونه بالجارح "لنفي المثقل" أي القصاص بالقتل به كالحجر فإنه(5/499)
ص -342-…يجوز كون الجرح من القتل هو المعتبر علة للقصاص والجارح لا يصلح سوى أن يكون هو جزء العلة لأنه لا يصلح للاستقلال. "واختلف فيه" أي هذا المنع "في المذهبين" للحنفية والشافعية فمذهب الحنابلة "والمختار للشافعية قبوله لتحكم المستدل باستقلال وصفه" بثبوت الحكم دون الوصف المعارض المبدي "مع صلاحية المبدى له" أي للاستقلال بالعلية "وللجزئية" أي وأن يكون جزء العلة بأن يكون مع الأول علة مستقلة لذلك الحكم لتساويهما في الصلوح من غير مرجح في الوجود فإن قيل لا تحكم مع الرجحان ووصف المستدل راجح إذ في اعتباره دون وصف المعترض توسعة في الأحكام لأنه إذا اعتبر تعدى الحكم إلى الفرع ولو اعتبر وصف المعترض وهو لا يوجد في الفرع لم يتعد فالجواب أن الرجحان لوصف المستدل ممنوع "ولا يرجح" لكونه علة "بالتوسعة لأنه" أي حصول التوسعة "مرجح لما ثبتت عليته والكلام فيه" أي في ثبوت العلية لوصف المستدل هنا "ولو سلم" أنه يدل على ثبوت العلية "فمعارض بما يرجح وصف المعارضة وهو" أي المعارض1 "موافقة الأصل" وهو عدم الحكم "بالانتفاء" للحكم "في الفرع و" المختار "للحنفية نفيه" أي نفي قبوله "ويسمونها" أي المعارضة في الأصل "المفارقة فإن كان" الفرق "صحيحا فليجعل ممانعة ليقبل" من المعترض لأن المفارقة من الأسئلة الفاسدة عند الجمهور والممانعة أساس المناظرة وبها يعرف فقه الرجل "ففي إعتاق عبد الرهن" أي إعتاق الراهن العبد المرهون إذا قال الشافعي ببطلانه لأنه "تصرف لاقى حق المرتهن" بالإبطال بدون رضاه "فيبطل كبيعه" أي كما لو باعه الراهن بغير قضاء الدين ولا إذنه "لو قال" الحنفي "هي" أي العلة "في الأصل" أي البيع "كونه" أي البيع "يحتمل الرفع" بعد وقوعه فيمكن القول بانعقاده على وجه يتمكن المرتهن من فسخه بخلاف العتق فإنه لا يحتمل الفسخ بعد وقوعه فلا يظهر أثر حق المرتهن في المنع من النفاذ لكان فقها صحيحا في نفسه لكن إذا "لم يقبل" لصدوره(5/500)
ممن ليس له ولاية الفرق وهو السائل "فليقل إن ادعيت حكم الأصل" أي بيع العبد الرهن "البطلان منعناه" أي كون حكمه البطلان. "أو" ادعيت حكمه "التوقف" على إجازة المرتهن أو قضاء دينه "فغير حكمك في الفرع" بالبطلان ومن شرط صحة القياس أن يكون حكم الأصل والفرع واحدا وقد ظهر أنه لو قيل ابتداء حكم الأصل التوقف ولم يوجد في الفرع لكفى "وهذا" أي كون المختار نفي قبوله "لأنه غصب" لمنصب التعليل والسائل جاهل مسترشد في موقف الإنكار فإذا ادعي عليه شيء آخر وقف موقف الدعوى وهذا بخلاف المعارضة فإنها إنما تكون بعد تمام الدليل فالمعارض لا يبقى سائلا بل يصير معللا مدعيا ابتداء "وليس" كذلك "لأنه لا يستدل عليه بل يجوز كونه" أي المبدي وحده "العلة أو مع ما ذكر" المستدل "وحاصله" أي هذا السؤال "منع استقلاله" أي وصف المستدل بالعلية "وتسميته معارضة تجوز لقولهم" أي
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله أي المعارض عبارة التيسير [وهو] أي ما يرجح وصفها الخ وهي أحسن مما هنا فتأمل كتبه مصححه.(6/1)
ص -343-…الأصوليين "إذا أطلقت" المعارضة في باب القياس "فما في الفرع" أي فالمعنى بها المعارضة في الفرع "وهذه" أي المعارضة في الأصل تذكر "بقيد" هو في الأصل "وإذا رد النقض إلى المنع" كما صرحوا به وقد تقدم في تعريفه "فهذا" أي رد المعارضة في الأصل إلى المنع "أولى" منه في ذلك لأنه في النقض مستدل على البطلان بالتخلف وهنا يجوز المبدي تجويزا فلا جرم أن في التلويح ولا يخفى أنه نزاع جدلي يقصدون به عدم وقوع الخبط في البحث وإلا فهو ساع في إظهار الصواب. "قالوا" أي الحنفية "ولجواز علتين في الأصل تعدى بكل" منهما "إلى محلها" الذي وجدت فيه وإن لم توجد الأخرى فيه "فعدم إحداهما" بعينها "في محل لا ينفي" كون "الأخرى" علة لحكمها المنسوب إليها في محل آخر وجدت فيه "وهذا" الوجه "يقتصر" أي يفيد اقتصار نفي القبول "على ما يجب فيه استقلال كل" من العلتين بدليل موجب لذلك "دون تجويز جزئيته" أي المبدي للعلة الذي ذكرها المستدل "فالحق إن أجمع على أنها" أي العلة "في محل النزاع إحداهما" أي المذكورتين المستدل والمعترض بالاستقلال "كعلة الربا" أهي الكيل والوزن أو الطعم أو الاقتيات والادخار "قبل" هذا الاعتراض للتجويز المذكور "وإلا" لو لم يجمع على أنها في محل النزاع إحداهما بالاستقلال "لا" يقبل بتقدير الاستقلال لإحداهما أو لكل منهما لما ذكر في وجه المختار للشافعية "وقولهم" أي الشافعية الثابت "بالاستقراء مباحث الصحابة جمع" أي تعميم الحكم بين أصل وفرع بموجب وصف مشترك بينهما "وفرق" أي تخصيص ذلك الحكم بالأصل بموجب وصف مختص بالأصل والبحث والنظر إنما هو في أن علة الحكم في الأصل هي ذلك الوصف المشترك أو المختص وذلك إجماع على جواز إبداء وصف فارق غير موجود في الفرع في معارضة وصف جامع اعتبره المعلل وأنه يقبل ويترك به قياس المستدل ولا معنى لقبول المعارضة سوى هذا "لا يمسه" أي القبول على العموم "إلا إن انفلت" مباحثهم جمعا وفرقا(6/2)
"على العموم ولا يمكن" نقلها كذلك. "وعلى قبولها" أي المعارضة في الأصل هل يلزم المعترض بيان أن وصفه الذي أبداه في الأصل معارضا منتف في الفرع فيه أقوال فأحدها يلزمه لينفعه دعوى التعليل به إذ لولاه لم تنتف العلة في الفرع فيثبت الحكم فيه ويحصل مطلوب المستدل فثانيها لا يلزمه لأن غرضه عدم استقلال ما ادعى المستدل استقلاله وهذا يحصل بمجرد إبدائه "فثالثها" الذي هو "المختار لا يلزم" المعترض "بيان انتفائه" أي الوصف المبدي في الأصل معارضا "عن الفرع إلا إن ذكره" أي المعترض انتفاءه في الفرع "لأن مقصوده" أي المعترض "لم ينحصر في ضده" أي صرف المستدل "عن التعليل" بذلك "لينتفي لزومه" أي بيان انتفائه "مطلقا" أي ذكره أو لم يذكره كما هو وجه القول الأول "ولا نفى حكمه" أي ولم ينحصر في نفي حكمه "في الفرع ليلزم" بيان انتفائه "مطلقا" أي ذكره أو لم يذكره كما يشير إليه وجه القول الثاني "بل قد" يكون مقصود المعترض الأمر الأول. "وقد" يكون مقصوده الأمر الثاني "فإذا ادعاه" أي المعترض انتفاء كأن قال هذا الوصف الآخر الصالح في الأصل منتف في الفرع "لزمه" أي المعترض "إثباته" لأنه التزم أمرا فيلزمه بالتزامه وإن لم يجب عليه(6/3)
ص -344-…ابتداء ثم هل يلزم المعترض ذكر أصل يبين تأثير وصفه الذي أبداه في ذلك الوصف حتى يقبل منه قيل يلزمه لأن المناسبة بدون الاقتران لا تدل على علية الوصف فلا بد له من أصل يشهد له بالاعتبار "و" المختار "لا" يلزم المعترض "ذكره أصلا لوصفه" الذي أبداه في الأصل يبين تأثيره في ذلك الحكم "كمعارضة الاقتيات بالطعم" أي كأن يقول العلة الطعم لا القوت "كما في الملح" فإنه طعم وليس بقوت وقد أثر فيه حيث جعل من الربويات "لأنه" أي المعترض "لم يدعه" أي كون وصفه علة حتى يحتاج إلى شهادة الأصل "إنما جوز ما ذكر" من كون وصفه علة أو جزأها "ليلزم" المستدل "التحكم" على تقدير كون وصف المستدل علة دون وصفه مع تساويهما في الصلوح من غير مرجح في الوجود "وأيضا يكفيه" أي المعترض في وصفه المبدي "أصل المستدل" إذ أصل المستدل أصله إذ لا بد من وجود وصفه فيه وإلا لم يعارض "فيقول" المعترض "جاز الطعم أو الكيل أو هما" علة "كما في البر بعينه وجوابها" أي المعارضة من المستدل "على القبول بمنع وجوده" أي الوصف المعارض به في الأصل مثل أن يقول لا نسلم أنه مكيل في زمانه صلى الله عليه وسلم وهو المعتبر. "أو" منع "تأثيره" أي الوصف المعارض به "إن كان" وصف المستدل أي عليته "لم يثبته المستدل أو أثبته" المستدل "بما" أي بأي طريق "كان وتقييد سماعه" أي هذا السؤال وهو مطالبة المستدل المعترض بتأثير وصف المعترض "من المستدل بما إذا كان المستدل أثبت وصفه" أي عليته "بالمناسبة ونحوها" أي بالشبهة لأن المناسبة إنما تؤثر إذا لم تعارض بمناسبة أخرى "لا" إذا أثبت وصفه "بالسبر ونحوه" لأن الوصف يدخل في السبر بمجرد احتمال كونه مناسبا وإن لم تثبت المناسبة بالنظر إليه أو إلى الخارج على ما يعم الشبه فتتم المعارضة بمجرد إبداء وصف آخر محتمل للعلية من غير أن يثبت مناسبته كما ذكره القاضي عضد الدين "تحكم لأن ذاك" المثبت بما كان من الطريق "وصفه" أي المستدل(6/4)
"وهذا" المبدي وصف "آخر مجوز" أي جوزه المعترض وقد "دفعه" المستدل "بعدم التأثير وهو" أي عدم التأثير "عدم المناسبة عندهم" أي الشافعية "فيجب إثباته" على المعترض بما شاء "فبالمناسبة ظاهر وكذا بالسبر لأن ما أفاد العلية أفاد المناسبة إذ هي" أي المناسبة "لازم العلة بمعنى الباعث" فما أفادها أفادها "لكن لا يلزم إبداؤها" أي المناسبة "في السبر ونحوه ولذا" أي عدم لزوم إبدائها1 فيه "عورض المستبقى فيه" أي السبر "لعدمها" أي المناسبة "وقيل المعنى" للمستدل مطالبة المعترض بكون وصفه مؤثرا "إذا كان المعترض أثبته بالمناسبة" كما ذكره جماعة من شارحي مختصر ابن الحاجب "وهو خبط إذ بفرض إثباته" أي المعترض كون الوصف علة "بها" أي بالمناسبة "كيف يمنع" المستدل "التأثير وهو" أي التأثير "هي" أي المناسبة "إذ لا يمكن حمله" أي التأثير "على اصطلاحهم" أي الشافعية "فيه" أي في التأثير "وهو كون العين في العين بالنص أو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قوله أي عدم لزوم إبدائها الخ عبارة التيسير [ولذا] أي لما ذكر من الزوم المناسبة لمطلق العلة إلى أن قال فقد علم أن المشار إليه بقوله ولذا لزوم الناسبة لا عدم إبدائها كما زعم الشارح اهـ كتبه مصححه.(6/5)
ص -345-…الإجماع إذ لا يتعين" إثبات المعترض كون الوصف علة بهذا "عليه" أي المعترض "بعد إثباته" أي المعترض كون الوصف علة "بطريق صحيح هي المناسبة بالفرض نعم" يتعين على المعترض إثباته بالتأثير "لو كان المعترض حنفيا فإن المناسبة لا تستلزم الاعتبار عندهم" أي الحنفية كما تقدم "فالتأثير عندهم شرط مع المناسبة وهو" أي التأثير عندهم "إن ثبت اعتبار جنس المناسبة إلى آخر الأقسام" الماضية في بحث التأثير. "ولا يصح" ممن أثبت وصفه بالسبر مستدلا كان أو معترضا الترجيح "بترجيح السبر" على المناسبة "لتعرضه" أي لأجل تعرض السبر "لنفي غيره و" لا "بكثرة الفائدة" وإنما لا يصح "لأن ذلك" أي تعرضه لنفي غيره إنما يكون مرجحا "بعد ظهور شرطه" أي السبر وهو مناسبة المستبقى لأن شرط كل علة مناسبتها في نفس الأمر إلا أنه لا يجب إظهارها على المعلل في كل إثبات لأن بعض طرق العلة لا تتعرض لذلك كالسبر "أو عدم ظهور عدمه" أي الشرط وهو منتف هنا "أما مع ظهوره" أي عدم الشرط كما إذا قال المعترض المستبقى أيضا غير مناسب فيما إذا أبدى وصفا آخر ليبطل الحصر فقال المعلل هذا لم أدخله في سبري لعدم مناسبته "فلا" يترجح السبر "إذ لا يفيد" السبر "مع عدم الشرط" أي المناسبة "وهو" أي عدم الشرط هو "المعترض به" لأن المعترض عارض ظهور مناسبة المستبقى عنده بظهور عدم مناسبة المستبقى عنده "أو بيان خفائه" أي الوصف المعارض به فهو مجرور بالعطف على منع وجوده أو تأثيره. وكذا "أو عدم انضباطه أو منع ظهوره أو" منع "انضباطه" أو كل منها عطف على ما يليه إذ هذه الأربعة من أجوبة المعارضة لما علم في شروط العلة اشتراط الظهور والانضباط في الوصف المعلل به فلا بد في دعوى صلوح الوصف علة من بيانهما والصادر عنهما إن تبين عدمها وأن يطالب ببيان وجودهما "أو أنه" أي الوصف المعارض به ليس وصفا وجوديا بل هو "عدم معارض في الفرع" والعدم لا يكون علة ولا جزءا من العلة في الحكم(6/6)
الثبوتي على ما هو المختار "كالمكره" أي كقياس القاتل المضطر إلى القتل "على المختار" أي القاتل باختياره "في" وجوب "القصاص بجامع القتل فيعارض بأنها" أي العلة "هو" أي القتل "مع الطواعية" فإنها مناسبة لإيجاب القصاص فلا تكون العلة القتل العمد العدوان فقط بل بقيد الاختيار "فيجيب" المستدل "بأنها" أي الطواعية "عدم الإكراه لا الإكراه المناسب لنقيض الحكم" أي عدم القصاص وعدم الإكراه عدم المانع وصف طردي لا يسند الحكم إليه لأنه ليس من الباعث في شيء وهذا أيضا من أجوبة المعارضة كقوله "أو بإلغائه" أي كون الوصف المعارض به ملغى إما مطلقا في جنس الأحكام كالطول والقصر أو في الحكم المعلل به كالذكورة في العتق "باستقلال وصفه" أي بسبب استقلال وصف المستدل بالعلية "بنص أو إجماع كـ "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" وقدمنا في مباحث الاستثناء أن الشافعي أخرجه بمعناه "في معارضة الطعم" أي كجواب المستدل على أن علة الربا الطعم لمعترضه بمعارضته "بالكيل" بأن النص دل على اعتبار الطعم في صورة ما وهو هذا الحديث فإن اعتبار الحكم مرتبا على وصف يشعر بالعلية "ومن بدل دينه فاقتلوه" كما هو حديث صحيح(6/7)
ص -346-…أخرجه البخاري وغيره. "عند معارضة مطلقه" أي التبديل "بتبديل الإيمان بالكفر" أي وكجواب المستدل على قتل اليهودي إذا تنصر والنصراني إذا تهود إلا أن يسلم كالمرتد لتبديله دينه لمعترضه بمعارضته لوصفه الذي هو مطلق التبديل بأن العلة تبديل الكفر بالإيمان بأن التبديل معتبر في صورة ما للحديث المذكور "ولو قال" المستدل "عم" الحديث "في كل تبديل" سواء كان تبديل دين حق بباطل أو باطل بباطل "كان" هذا القول "شيئا آخر" أي إثباتا للحكم بالنص لا بالقياس والمقصود إثباته به بل ويكون القياس حينئذ ضائعا ومن ثمة لم يسمع منه هذا نعم لا يضره كونه عاما إذا لم يتعرض للتعميم ولم يستدل به "وليس منه" أي الإلغاء المقبول "انفراد الحكم عنه" أي الوصف المبدي للمعترض "لعدم" اشتراط "العكس" في العلة على ما هو المختار "لكن يتم استقلال وصف المستدل" لكونه لا يلزم من ثبوت الحكم بدون الوصف عدم علية الوصف وكونه لغوا "ولكونه" أي انفراد الحكم عنه "ليس إلغاء لا يفيد" المستدل في تمام إلغاء الوصف المعارض به في صورة عدمه "إبداء الخلف" أي وصف آخر يخلف الوصف المبدي أولا الذي ألغاه المستدل "من المعترض" لئلا يكون وصف المستدل مستقلا وإنما لا يفيد المستدل هذا تمام إلغائه لابتناء إلغاء الوصف المعارض به على استقلال وصف المستدل في صورة عدم الوصف المعارض به وقد بطل استقلاله بإبداء المعترض قيدا آخر ينضم إليه فيبطل ما يبتنى عليه. "وهو" أي فساد الإلغاء على هذا الوجه "تعدد الوضع" لتعدد أصلي الوصفين اللذين أوردهما المعترض وصيرورته معللا بكل منهما على وضع أي مع قيد "نحو" أن يقال في صحة أمان العبد المسلم العاقل للحربي "أمان" صادر "من مسلم عاقل فيقبل كالحر" أي كأمان الحر المسلم العاقل له "لأنهما" أي الإسلام والعقل "مظنتان للاحتياط للأمان" أي لإظهار مصلحة بدل الأمان "فيعترض باعتبار الحرية معهما" أي الإسلام والعقل "لأنها" أي الحرية "مظنة(6/8)
التفرغ" للنظر في مصلحة الأمان لعدم اشتغاله بخدمة المولى "فنظره" أي الحر "أكمل" من نظر العبد "فيلغيها" أي المستدل الحرية "بالمأذون في القتال" أي باستقلال الإسلام والعقل بالأمان في العبد الذي أذن سيده له في قتال الكفار فإن له الأمان بالاتفاق "فيقول" المعترض "الإذن" أي إذن السيد له في ذلك "خلفها" أي الحرية "لدلالته" أي إذن السيد له في ذلك "على علم السيد بصلاحه" لإظهار مصالح الأمان أو قام الإذن مقام الحرية فإنه مظنة لبذل الوسع في النظر "فالباقي" أي الإسلام والعقل "علة على وضع أي قيد الحرية" أي هما معها "وآخر" أي والباقي علة أيضا على وضع آخر وهو كون الإسلام والعقل مع "الإذن وجوابه" أي تعدد الوضع "أن يلغي" المستدل ذلك "الخلف بصورة ليس" ذلك الخلف "فيها فإن أبدى" المعترض "فيها" أي الصورة المبداة "خلفا" آخر "فكذلك" أي فجوابه إلغاؤه بإبدائه صورة أخرى لا يوجد فيها ذلك الخلف أيضا وعلى هذا "إلى أن يقف أحدهما" إما المستدل لعجزه عن الإلغاء أو المعترض لعجزه عن ثبوت عوض في هذا المقام يظهر الرجال ويتبين فرسان الجدال. "ولا يلغي" أي ولا يفيد المستدل إلغاء الوصف المعارض به في الأصل "بضعف الحكمة إن سلم" المستدل "المظنة" أي وجود(6/9)
ص -347-…المظنة المتضمنة لتلك الحكمة "كالردة علة القتل" في قياس المرتدة على المرتد في وجوب القتل "فيقال" من قبل المعترض بل "مع الرجولية لأنه" أي كون المرتد رجلا "المظنة لقتال المسلمين" إذ يعتاد ذلك من الرجال دون النساء "فيلغيه" أي المستدل كون المرتد رجلا المظنة لذلك "بمقطوع اليدين" لضعف الرجولية فيه مع أنه يقتل اتفاقا إذا ارتد فهذا "لا يقبل" من المستدل أي لا ينفعه "بعد تسليم كون الرجولية مظنة" اعتبرها الشارع فيدار الحكم عليها غير ملتفت إلى حكمتها كسفر الملك المرفه لا يمنع الرخص "ولا يفيد ترجيح المستدل وصفه" على وصف المعترض "بشيء" من وجوه الترجيح في جواب المعارضة خلافا للآمدي "لأن المفيد" في ذلك "ترجيح أولوية استقلال وصفه" أي المستدل على أولوية استقلال وصف المعارضة إذ لا تعليل بالمرجوح مع وجود الراجح "وهو" أي ترجيحها "منتف مع احتمال الجزئية" أي جزئية وصف المعارضة لوصف المستدل وهو باق إذ لا يمتنع ترجيح بعض أجزاء العلة على بعض كما في القتل العمد العدوان فإن القتل أقوى في العلية من العمد العدوان فلو قيل باستقلال وصف المستدل على وصف المعارضة كان تحكما "أو يدعي" أي إلا أن يدعي "المعترض استقلال وصفه" أي وصف نفسه فإنه حينئذ يفيد ترجيح وصف نفسه. "وأما أن" العلة "المتعدية لا ترجح" على القاصرة "لمعارضة موافقة الأصل" أي لكون القاصرة معارضة لها بأنها موافقة للأصل الذي هو عدم الأحكام كما أشار إليه عضد الدين "فلا" قال المصنف أي فلا يصح هذا التنزل منهم بعدم الترجيح لأجل معارضة الأصل بل يكون الوصف المستقل المتعدي مرجحا على المستقل القاصر.(6/10)
"واختلف في" جواز "تعدد الأصول" أي أصول المستدل المقيس عليها "فقيل لا" يجوز "لأن" الأصل "الزائد لا يحتاج إليه" لأن المقصود الظن وهو يحصل به "ويدفع" هذا "بثبوت الحاجة" إلى الزائد عليه "لزيادة القوة" في الظن فإن قوته مقصودة أيضا "والوجه الآخر" لهذا القول "وهو تأديه" أي جواز تعدد الأصول "إلى الانتشار وزيادة الخبط يدفعه" أي هذا الدفع المذكور "لأن معه" أي مع تأديه إلى هذا "يبعد الظن فضلا عن زيادته" أي الظن "فاختيار جوازه" أي التعدد "مطلقا" كما هو صنيع ابن الحاجب "ليس بذاك" القوي "بل" الوجه جوازه "في نظره لنفسه" لانتفاء الانتشار "لا" في "المناظرة" لتأديه إلى النشر "وعلى الجواز" أي جواز تعددها "اختلف في اقتصار المعارض على أحدها فالمجيز" لاقتصاره على أحدها. قال "إبطال جزء من كلامه" أي المستدل "إبطاله" أي كلامه من حيث هو مجموع "وملزم إبطال الكل" قال "إذا سلم له" أي المستدل "أصل كفاه" في مطلوبه لسلامته عن المعارض فيتم القياس المقتضي للمقصود من الحكم "ومحله" أي هذا القول "اتحاد الوصف" المعارض به في الجميع كما أوجبه بعضهم حذرا من انتشار الكلام "دون تعدده" أي الوصف المذكور فيها أي جواز المعارضة في كل واحد بغير ما عارض به في الأصل الآخر لجواز أن يساعده في الكل علة واحدة "ولا يتلاقيان" أي هذان القولان "فنظر الأول إلى أنه" أي المستدل "التزم صحة الإلحاق بكل" من الأصول المذكورة "وعجز عنه" أي عن الإلحاق بكل "فبطل" الإلحاق(6/11)
ص -348-…"والآخر" قائل "المقصود إثباته" أي الحكم "في الفرع ويكفيه" أي إثباته في الفرع "ما سلم" له من الأصول "وفي معارضة الكل" أي جميع الأصول "لو أجاب" المستدل "عن أحدها" أي دفع المعارضة عن أصل واحد "فالقولان" مجتمعان على أنه "لا بد أن يدفع" المستدل "عما التزمه" وهو الكل لأنه التزم ذلك ضمنا "يكفيه واحد" "وأما سؤال التركيب فتقدم في الشروط" لحكم الأصل حيث قال ومنها في كتب الشافعية أن لا يكون ذا قياس مركب إلخ وأن حاصله المنع أما العلية علة حكم الأصل أو لوجودها أو لحكم الأصل فهو مندرج في هذه المنوع وليس سؤالا برأسه والأمثلة مذكورة ثمة "وسؤال الترجيح بالتعدية" أي وأما سؤال التعدية كأن يقول المستدل في إجبار الأب أو الجد البكر البالغة على النكاح بكر فتجبر كالصغيرة "فيعارض البكارة المتعدية إلى البالغة" وغيرها "بالصغر المتعدي إلى الثيب" الصغيرة والبكر الصغيرة لمناسبته للإجبار "ليتساويا" في التعدية. "ومرجعه" أي هذا السؤال "إلى المعارضة في الأصل بما يساوي" العلة "الأخرى في التعدية" دفعا لترجيح الوصف الذي عينه المستدل بالتعدية "ولا ترجيح بزيادة التعدية للحنفية بخلاف أصلها" أي التعدية فإنه يكون مرجحا فلا يكون هذا السؤال سؤالا آخر بل هو من المعارضة في الأصل ثم عبارة الآمدي في تعريفه هو أن يعين المعترض في الأصل معنى ويعارض به ثم يقول للمستدل ما عللت به وإن تعدى إلى فرع مختلف فيه فكذا ما عللت به تعدى إلى فرع مختلف فيه وليس أحدهما أولى من الآخر "وإذ لم يقبلوا" أي الحنفية "المعارضة في الأصل لم يذكروا سؤال اختلاف جنس المصلحة" في الأصل والفرع بعد اتحاد الضابط فيهما "كإيلاج محرم" أي كأن يقول المستدل للحد باللواط هو إيلاج فرج محرم في فرج محرم شرعا مشتهى طبعا "فيحد به كالزنا فيقول" المعترض "المصلحة مختلفة في تحريمهما" أي اللواط والزنا "ففي الزنا اختلاط النسب المفضي إلى عدم تعهد الولد وهو" أي عدم(6/12)
تعهده "قتل معنى وفي اللواط دفع رذيلته" وقد يتفاوتان في نظر الشرع بحيث لا تقوم إحداهما مقام الأخرى فيناط الحكم بإحداهما دون الأخرى وإنما لم يذكروا هذا السؤال تفريعا على عدم قبولهم المعارضة في الأصل "لأنه" أي هذا السؤال "هي" أي المعارضة في الأصل لإبداء خصوصية في الأصل فلم يذكروه مفردا. وإنما قلنا أنه هي "إذ حاصله" أي قول المعترض "العلة" في الأصل "شيء آخر" وهو كونه موجبا لاختلاط النسب "مع ما ذكرت ولذا" أي كونه معارضة في الأصل لإبداء خصوصية في "كان جوابه جوابها بإلغاء الخصوصية" أي مع إلغائها "بطريقه" أي الإلغاء فيحتاج إلى الأمرين "مع أنه" أي هذا السؤال "يندرج في معنى الشروط" للفرع إذ من شرطه أن يساوي الأصل فيما علل به حكمه من غير، إلى آخر ما تقدم والمساواة هنا في الفرع منتفية على تقدير أن علة الأصل كونه موجبا لاختلاط النسب مع ما ذكره المعترض.
"الثالث" من مقدمات القياس المتقدم ذكرها وهو ثبوت العلة في الفرع "عليه سؤالان الأول منع وجودها" أي العلة "في الفرع كقول الحنفية في قولهم" أي الشافعية للحنفية "بيع التفاحة بثنتين بيع مطعوم بمطعوم مجازفة فلا يصح كصبرة بصبرتين" ومقول قول الحنفية(6/13)
ص -349-…"يمنع وجوده" أي الوصف "في الفرع لأن المجازفة باعتبار الكيل وهو" أي الكيل "منتف فيه" أي التفاح "ويرد" على هذا المنع "أنها" أي المجازفة "باعتبار المقدر" لذلك شرعا "كيلا ووزنا فالإلحاق" للفرع بالأصل المذكورين "باعتبار" المقدم "الأعم" من الكيل والوزن "فإنما يدفع هذا" الإيراد "بانتفائهما" أي الكيل الوزن "لأنه" أي التفاح "عددي وهو" أي كونه عدديا "موقوف على أنه" أي التفاح "كذلك" عددي "في زمنه عليه الصلاة والسلام وإلا" لو لم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم عدديا "فالعادة" أي فالعبرة بما هو العرف في بيعه من وزن أو غيره "وهي" أي العادة "مختلفة فيه" أي التفاح من كونه وزنيا وغيره "ولمحمد" أي وكما فيما لمحمد "في إيداع الصبي" غير المأذون مالا غير الرقيق حيث لا يضمن إذا أتلفه لأن مالكه "سلطه على استهلاكه" كما تقدم تقريره "فيمنعان" أي أبو حنيفة وأبو يوسف كما هو ظاهر هذه المقابلة "أنه" أي إيداعه "تسليط" له على إتلافه لكن المسطور في غير ما موضع كما مشينا عليه فيما سلف أن أبا حنيفة لا يضمنه كمحمد "وللشافعية" أي وكما فيما لهم "في" صحة "أمان العبد أمان من أهله فيعتبر كالمأذون له في القتال فيمنع أهليته" أي العبد "له" أي الأمان "وجوابه" أي هذا السؤال "ببيان وجوده" أي هذا الوصف "بعقل أو حس أو شرع" أي بما هو طريق مثله من هذه الأمور الثلاثة "ويزيد المستدل هنا" أي في هذا الفرع "بيان مراده بالأهلية وهو" أي بيان مراده بها "كونه" أي المؤمن "مظنة لرعاية مصلحته" أي الأمان الثابتة للمسلمين فيه "وهو" أي كونه مظنة لذلك "بإسلامه وبلوغه ولو زاد المعترض بيان الأهلية ليظهر انتفاؤها" في الفرع "فالمختار لا يمكن" منه "إذ هو" أي بيان المراد بها "وظيفة المتكلم به" أي بهذا اللفظ لأنه العالم بمراده فيتولى تعيين ما ادعاه "دفعا لنشر الجدال" بالانتقال والاشتغال.(6/14)
السؤال "الثاني المعارضة في الفرع بما يقتضي نقيض الحكم" أي حكم المستدل "فيه" أي في الفرع بأن يقول ما ذكرته من الوصف وإن اقتضى ثبوت الحكم في الفرع فعندي وصف آخر يقتضي نقيضه فيتوقف دليلك "وهي" أي وهذه هي "المعارضة إذا أطلقت" في باب القياس كما تقدم "ولا بد له" أي لما يقتضي نقيض الحكم فيه "من أصل" بجامع بينهما يثبت عليته "فهي" أي هذه المعارضة "معارضة قياسين ولذا" أي كونها معارضة قياسين "كانت" هي المعارضة "الحقيقة" أي حقيقة المعارضة المطلقة "وله" أي المعترض "إثبات وصفه" أي عليته "بمسلكه وللآخر" أي المستدل "اعتراضه بما يعترض به على المستدل فينقلبان" أي فيصير المعترض مستدلا والمستدل معترضا لانقلاب وظيفتهما "وهو" أي انقلابهما لانقلاب التناظر "وجه منع مانعها" أي القائل بعدم سماعها لأنه خروج مما قصداه من معرفة صحة نظر المستدل في دليله إلى أمر آخر وهو معرفة صحة نظر المعترض في دليله والمستدل لا تعلق له بمعرفة صحة نظر المعترض في دليله ولا عليه أتم نظر المعترض في دليله أم لا "ودفع بأن" الانقلاب "الممتنع أن يثبت" المعترض "مقتضى دليله" نفسه "وهذا" ليس كذلك بل قصده "لهدمه" أي دليل المستدل "بنقيضه بعد تمامه" أي نقيضه "فالمعنى تمام دليلك" أيها المستدل "موقوف على هدم هذا" أي دليلي لمعارضته لدليلك وقد يجاب عن(6/15)
ص -350-…سؤال المعارضة بوجه من الوجوه المذكورة في ترجيح القياس للعجز عن القدح فيها واختلف في قبول الترجيح "والمختار قبول الترجيح بما تقدم" في ترجيح القياس "ولا خلاف فيه" أي في قبول الترجيح فيه "عند الحنفية لأن وجوب العمل" بالدليل المعارض "بعد المعارضة موقوف عليه" أي الترجيح "وقيل لا" يقبل الترجيح "لتعذر العلم بتساوي الظنين" إذ لا ميزان يوزن به الظنون ولا معيار يعرف به مراتبها "والترجيح فرعه" أي تساويهما "وهذا" ممنوع فإنه "يبطل الترجيح مطلقا ودلالة الإجماع عليه" أي الترجيح للإجماع على وجوب العمل بالراجح "يبطله" أي إبطال الترجيح مطلقا. "وعلى المختار" من قبول الترجيح هل يجب الإيماء إلى الترجيح في متن الدليل كأن يقول أمان من مسلم عاقل موافقا للبراءة الأصلية فيه خلاف قيل يجب لأن الرجحان شرط العمل بالدليل فلا يثبت الحكم بدونه والمختار عند ابن الحاجب "لا تجب الإشارة إليه" أي الترجيح "على المستدل" قبل المعارضة "لأنه" أي الترجيح "ليس" جزءا "منه" أي الدليل للتوصل بالدليل إلى المدلول مع قطع النظر عنه نعم يوقف العمل بالدليل عليه عند حصول المعارض "وتوقف العمل عليه" أي الترجيح "عند ظهور المعارضة شرط" له "معلق على شرط" وهو ظهور المعارضة فهو من توابع ظهورها لدفعه لأنه جزء من الدليل فلا يجب ذكره في الدليل قال المصنف "والوجه لزومه" أي الإيماء إلى الترجيح في الدليل "في العمل" أي عمل المناظر "لنفسه" لأنه لا يتم دليلا موجبا للعمل إلا بشرط عدم المعارض أو مرجوحيته فيلزم الإيماء إلى الترجيح في دليله على تقدير وجود المعارض ليتحقق الشرط الموجب للعمل "لا" في "المناظرة" لعدم الاحتياج إليه قبل إبداء المعارضة. "وأما ما ذكر الشافعية من سؤال اختلاف الضابط" أي الوصف المشتمل على الحكمة المقصودة في الأصل والفرع وهو "أن يجمع بمشترك بين علتين كشهود الزور" إذا شهدوا على إنسان بقتل عمد عدوان فقتل بشهادتهم ثم ظهر(6/16)
كذبهم برجوعهم فيقال يقتلون لأنهم "تسببوا في القتل فيقتص" منهم "كالمكره" لغيره على قتل عمد عدوان "فيقال الضابط" فيهما مختلف "في الأصل الإكراه وفي الفرع الشهادة ولم يثبت اعتبار تساويهما" أي الإكراه والشهادة "مصلحة" وهي الزجر عن التسبب للقتل الظلم "شرعا ليقتل" الشاهد "بالشهادة" فقد يكون ما وجد من التسبب في ضابط الأصل راجحا على ما وجد منه في ضابط الفرع فلا يمكن تعدية الحكم إليه. "وجوابه" أي المستدل لهذا السؤال "إما بأن الضابط" بين هذين السببين الخاصين "التسبب" المطلق وهو "منضبط عرفا" وهذا الجواب "على قياس ما تقدم" في مسألة حكم القياس الثبوت في الفروع "من القياس للعلة" أي لا يعلل لإثباتها "لمن منعه" أي القياس بها "وجعل" المناط "المشترك" بين الأمر الذي ثبت عليته لحكم وبين غيره مما هو كذلك "علته" أي علة ذلك المناط المشترك إن انضبط وكان ظاهرا وحينئذ فلا قياس وما يخال أصلا وفرعا إنما هما فردا ذلك المناط المشترك "أو بأن إفضاءه" أي الضابط إلى المقصود في الفرع "مثله" أي مثل إفضاء الضابط إلى المقصود في الأصل "أو أرجح" منه فيثبت الحكم فيه بطريق المساواة على التقدير الأول وبطريق أولى على التقدير الثاني كما "فيما لو جعل أصله"(6/17)
ص -351-…أي أصل هذا الفرع "إغراء الحيوان" بأن يقول المستدل يجب القصاص على الشاهد زورا بإغرائه لأولياء المقتول على القتل بالقصاص لشهادته قياسا على إغراء الحيوان على القتل "فإن الشهادة أفضى إلى القتل منه" أي من إغراء الحيوان فإن انبعاث أولياء المقتول على قتل من شهدوا عليه بالقتل طلبا للتشفي والأخذ بثأر المقتول أرجح من انبعاث الحيوان على قتل من يغري هو عليه لسبب نفرته عن الآدمي وعدم علمه بالإغراء. "وكونهما" أي الأصل والفرع في القياس المذكور "التسبب بالشهادة على التسبب بالإغراء" كما اقتضاه كلام ابن الحاجب وصرح به عضد الدين قياس "بلا جامع بل" الوجه فيهما "الشهادة" أي قياسها "على الإكراه أو الإغراء أو الشاهد" أي قياسه "على المكره بالتسبب أو بإلغاء التفاوت" بين ضابطي الأصل والفرع في المصلحة "إذا أثبته" أي المستدل التفاوت "في خصوصه" أي ذلك المحل كما إذا قال التفاوت المذكور ملغى في القصاص لمصلحة حفظ النفس إذ لا فرق في القصاص بالموت بقطع الأنملة وبالموت بضرب الرقبة وإن كان ضرب الرقبة أشد إفضاء إلى الموت من قطع الأنملة "وإلا" لو لم يثبته في خصوصه "لم يفد" لأنه لا يلزم من إلغاء فارق معين إلغاء كل فارق "فلم تذكره" أي هذا السؤال "الحنفية لرجوعه إلى المعارضة في الأصل وسؤال القلب مندرج في المعارضة" لأنها دليل يثبت به خلاف حكم المستدل والقلب كذلك إلا أنه نوع منها مخصوص فإن الأصل والجامع فيه مشترك بين قياسي المستدل والمعارض ذكره عضد الدين شرحا لقول ابن الحاجب والحق أنه نوع معارضة اشترك فيه الأصل والجامع لكن قال الأبهري المراد بهذه المعارضة ما عليه اصطلاح الخلافيين وهي إقامة الدليل على خلافه ما أقام المستدل عليه سواء كان مغايرا لدليله أو عينه وهي أعم من المعارضة في الأصل والفرع على الوجه المذكور لاشتراط مغايرة الوصفين أعني وصفي المعلل والمعارض فيها ا هـ فعلى هذا قول عضد الدين. وفائدة ذلك أنه(6/18)
يجيء الخلاف المذكور في المعارضة في قبوله ويكون المختار قبوله إلا أنه أولى بالقبول من المعارضة المحضة لأنه أبعد من الانتقال فإن قصد هدم دليل المستدل لأدائه إلى التناقض ظاهر في القلب ولأنه مانع للمستدل من ترجيح دليله على دليل المعترض بالتوسعة والتعدية إذ الترجيح إنما يتصور بين الدليلين وهنا دليل واحد ا هـ موضحا فيه تأمل. "وكلام الحنفية المعارضة" وأسلفنا بيانها "نوعان" النوع الأول "معارضة فيها مناقضة" وهي المقابلة بالتعليل المبطل لتعليل المعلل "وهي القلب" وتحقيقها أن المعارضة إبداء دليل مبتدأ بدون التعرض لدليل المعلل والمناقضة إبطال دليل المعلل بدون إبداء دليل مبتدأ ولما كان القلب مركبا من أحد جزأي المعارضة وهو إبداء علة مبتدأة وأحد جزأي المناقضة وهو إبطال الدليل سميناه باسم آخر منبئ عنهما وهو معارضة فيها مناقضة ولم يسم مناقضة فيها معارضة لأن إبداء العلة بمقابلة دليل المعلل سابق ومقصود وتخلف الحكم في ضمن ذلك فكانت المعارضة أصلا "ويقال" القلب "لجعل الأعلى أسفل" والأسفل أعلى كقلب الإناء "ومنه" أي جعل الأعلى أسفل والأسفل أعلى "جعل المعلول علة وقلبه" أي جعل العلة معلولا(6/19)
ص -352-…فجعل المعلول علة جعل الأسفل أعلى وجعل العلة معلولا جعل الأعلى أسفل "فإن العلة أعلى للأصلية" أي لأنها أصل في إثبات الحكم والمعلول فرع وهو أسفل فتبديلهما بمنزلة جعل الإناء منكوسا. "وإنما يمكن" هذا النوع من القلب "في التعليل بحكم" أي فيما إذا جعل المستدل حكما في الأصل علة لحكم آخر فيه عداه إلى الفرع لأن كلا منهما كما استقام علة استقام حكما لا في التعليل بالوصف المحض لأنه لا يصير حكما بوجه ولا الحكم الثابت به علة له أصلا "كالكفار يجلد بكرهم" أي كقول الشافعي: الإسلام ليس بشرط الإحصان حتى لو زنى الذمي الحر العاقل البالغ الذي وطئ امرأة في القبل بنكاح صحيح يرجم لأن الكفار جنس يجلد بكرهم مائة إذا كان حرا "فيرجم ثيبهم كالمسلمين" أي كما أن المسلمين الأحرار البالغين العقلاء الواطئين لامرأة في القبل بنكاح صحيح يرجمون لأنه يجلد بكرهم مائة فجعل جلد البكر مائة علة لوجوب رجم الثيب في المسلمين وقاس الكفار عليهم بهذا الجامع وهو حكم من الأحكام والبكر والثيب يقعان على الذكر والأنثى "فيقول" الحنفي المعترض لا نسلم أن المسلمين إنما يرجم ثيبهم لأنه يجلد بكرهم بل "إنما جلد بكر المسلمين لأنه يرجم ثيبهم" فلا يلزم رجم الذمي الحر العاقل البالغ الثيب الزاني "فحيث جعل" الحنفي المعترض ما جعله الشافعي المستدل "العلة" في الأصل وهو جلد المائة "حكما" فيه وما جعله حكما فيه وهو رجم الثيب العلة فيه كان هذا القلب معارضة صورة لتعليل المستدل بتعليل يدل على خلاف الحكم الذي أوجبه المستدل وكان الحكم علة "لزمها النقض" لأنها لما صارت حكما فهي توجد ولا يوجد معها الحكم وليس النقض إلا وجود المدعي علة مع تخلف الحكم "وهو" أي وهذا "قولهم" أي الحنفية معارضة "فيها مناقضة" أي إبطال لتعليل المعلل. هذا على ما مشى عليه فخر الإسلام ولم يذكر القاضي أبو زيد وشمس الأئمة السرخسي وعامة الأصوليين معنى المعارضة في هذا القلب وجعلوه(6/20)